الأمالي

السيد المرتضى ج 4


[ 1 ]

الجزء الرابع من كتاب امالي السيد المرتضى (الشريف أبي القاسم على بن الطاهر أبي أحمد الحسين المتوفى سنة 436 رضى الله عنه) (في التفسير و الحديث والادب) (الطبعة الاولى) (سنة 1325 ه‍ و 1907 م) (على نفقة أحمد ناجي الجمالى ومحمد أمين الخانجي وأخيه) (حقوق الطبع محفوظة) صححه وضبط ألفاظه وعلق حواشيه حضرة الفاضل الشيخ احمد بن الامين الشنقيطي نزيل القاهرة حالا منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم – ايران 1403 ه‍ ق


[ 2 ]

بسم الله الرحمن الرحيم [ تأويل خبر ].. ان سأل سائل عن معنى ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهود انه وينصرانه. الجواب أما أبو عبيد القاسم بن سلام فانه قال في تأويل هذا الخبر سألت محمد بن الحسن عن تفسيره فقال كان هذا في أول الاسلام قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر المسلمون بالجهاد قال أبو عبيد كأنه يذهب الى انه لو كان يولد على الفطرة ثم مات قبل أن ينصره أبواه ويهوداه ما ورثاه وكذلك لو ماتا قبله ما ورثهما لانه مسلم وهما كافران وما كان أيضا يجوز أن يسبي فلما نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك علم انه يولد على دين أبويه. قال أبو عبيد وأما عبد الله بن المبارك فانه قال هذا بمنزلة الحديث الآخر الذي يتضمن انه عليه الصلاة والسلام سئل عن أطفال المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين يذهب الى انهم يولدون على ما يصيرون من اسلام أو كفر فمن كان في علمه انه يصير مسلما فانه يولد على الفطرة ومن كان في علمه انه يموت كافرا ولد على ذلك. قال أبو عبيد ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر انه قال يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي جميعا فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وجعلت ما أحللت لهم حراما. قال أبو عبيدة يريد بذلك النحائر والسوائب وغير ذلك لما أحله الله تعالى فجعلوه حراما. وأما ابن قتيبة فانه قال وقد حكى ما ذكرناه عن أبى عبيد لست أرى ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله ابن المبارك ومحمد بن الحسن مقنعا لمن أراد أن يعرف معني الحديث لانهما لم يزيدا على ان ردا على من قال به من أهل القدر وتفسير محمد بن الحسن يدل على ان الحديث منسوخ والمنسوخ لا يكون في الاخبار وانما يكون في الأمر والنهى قال ولا يجوز أن يراد به على تأويل ابن المبارك بعض المولودين دون بعض لان مخرجه مخرج العموم


[ 3 ]

. وقال ولا أرى معنى الحديث الا ما ذهب إليه حماد بن سلمة فانه قال فيه هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب أبائهم يريد حين مسج الله تعالى ظهر آدم فأخرج منه ذريته الى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فأراد عليه الصلاة والسلام ان كل مولود يولد في العالم على ذلك العهد وعلى ذلك الاقرار الأول وهو الفطرة. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وهذا كله خبط وتخليط وبعد عن الجواب الصحيح والصحيح في تأويله أن قوله عليه الصلاة والسلام يولد على الفطرة يحتمل أمرين. أحدهما أن تكون الفطرة ههنا الدين وتكون على بمعنى اللام فكأنه عليه الصلاة والسلام قال كل مولود يولد للدين ومن أجل الدين لان الله تعالى لم يخلق من يبلغ مبلغ المكلفين إلا ليعبده فيتنفع بعبادته ويشهد بذلك قوله تعالى (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) والدليل على ان على تقوم مقام اللام ما حكاه ابن السكيت عن أبي زيد عن العرب انهم يقولون صف على كذا وكذا حتى أعرفه بمعنى صف لى ويقولون ما أغيظك على يريدو ما أغيظك لي والعرب تقيم بعض الصفات مقام بعض فيقولون سقط الرجل لوجهه يريدون على وجهه. وقال الطرماح كان مخواها على ثفناتها * معرس خمس وقعت للجناجن (1) وقال عنتره: شربت بماء الدحرضين فأصبحت * زوراء تنفر عن حياض الديلم معناه شربت الناقة من ماء الدحرضين وهما مآن يقال لأحدهما وشيع والآخر دحرض فغلب الأشهر وهو الدحرض وانما ساغ أن يريد عليه الصلاة والسلام بالفطرة التي هو الخلقة


(1) – مخواها – تجافيها في يروكها – وثفناتها – جمع ثفنة بكسر الفاء وهي ركبتها وما مس الأرض من كركرتها وسعدانتها وأصول أفخاذها – ومعرس خمس – موضع تعريسها أي نزولها آخر الليل للاستراحة وخمس أي خمس من القطا – ووقعت – بركت – والجناجن – عظام الصدر وقيل رؤس الأضلاع وقيل أطراف الأضلاع مما يلى قص الصدر وعظم الصلب الواحد جنجن وجنجنة بكسرهما ويفتحان وقيل واحدهما جنجون

[ 4 ]

في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها وقد يجري على الشئ اسم ماله به هذا الضرب من التعلق والاختصاص وعلى هذا يتأول قوله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى) الآية أراد دين الله الذي خلق الخلق له وقوله (لا تبديل لخلق الله) المراد به ان ما خلق العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف حتي يخلق تعالى قوما للطاعة وآخرين للمعصية ويجوز أن يريد بذلك الأمر وان كان ظاهره الخبر فكأنه تعالى قال ولا تبدلوا ما خلقكم الله له من الدين والطاعة بأن تعصوا وتخالفوا. والوجه الآخر في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام الفطرة أن يكون المراد بها الخلقة وتكون لفظة على على ظاهرها لم يرد به غيرها ويكون المعنى كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانيته تعالى وعبادته والايمان به لانه عز وجل قد صور الخلق وخلقهم على وجه يقتضى النظر فيه معرفته والايمان به وان لم ينظروا ولم يعرفوا فكأنه قال كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته على عبادة الله تعالى وان عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصرانيا وهذا الوجه يحتمله أيضا قوله تعالي (فطرة الله التى فطر الناس عليها) وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة فقوله عليه الصلاة والسلام حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه يحتمل وجهين أحدهما أن من كان يهوديا أو نصرانيا ممن خلقته لعبادتي وديني فانما جعله كذلك أبواه ومن جرا مجراهما ممن يوقع له الشبهة ويقلده الضلال عن الدين وانما خص عليه الصلاة والسلام الابوين لان الاولاد في الاكثر ينشؤن على مذهب آبائهم ويألفون أديانهم ونحلهم ويكون الغرض بالكلام تنزيه الله عن ضلالة العباد وكفرهم وانه انما خلقهم للايمان فصدهم عنه آباؤهم ومن يجري مجراهم. والوجه الآخر أن يكون معنى يهودانه وينصر انه أي يلحقانه بأحكامهما لان أطفال أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم فكأنه قال عليه الصلاة والسلام لا تتوهموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم انهم خلقوا لدينهم بل لم يخلقوا الا للايمان والدين الصحيح لكن آباؤهم هم الذين أدخلوهم في أحكاهم وعبر عليه الصلاة والسلام عن ادخالهم في احكامهم بقولهم يهودانه وينصرانه وهذا واضح. فأما جواب أبي عبيد الله الذى حكاه عن محمد بن الحسن فانا إذا تمكنا من حمل الخبر على وجه نسلم


[ 5 ]

معه من النسخ لم نحتج الى غيره وانما توهم النسخ لاعتقاده ان خلقهم على الفطرة يمنع من الحاقهم بحكم آبائهم وذلك غير ممتنع. وأما الجواب الذي حكاه عن ابن المبارك ففاسد لان الله تعالي لا يجوز أن يخلق أحدا للكفر فكيف يخلقه له وهو يأمره بالايمان ويريده منه ويعاقبه ويذمه على خلافه. فأما ما روى عنه عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن أطفال المشركين فقال الله اعلم بما كانوا عاملين فانه يحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام سئل عمن لم يبلغ من أطفال المشركين كيف صورته والى أي شئ تنتهي عاقبته فقال عليه الصلاة والسلام الله أعلم بما كانوا يعملون فأراد أن ذلك مستور عنى ولو كانت المسألة عمن اخترم طفلا لم يجز أن يكون الجواب ذلك وأما ابن قتيبة فانه رد على أبى عبيد من غير وجه يقتضى الرد واعتراض جواب ابن المبارك باعتبار العموم والخصوص وكيف ينبه على فساده من هذه الجهة وقد اختار في تأويل الخبر ما يجري في الفساد والاختلال مجرى تأويل ابن المبارك. فأما النسخ في الاخبار فجائز إذا تضمنت معنى الامر والنهى ويكون ما دل على جواز النسخ في الامر دالا على جواز ذلك فيها وهذا مثل أن يقول عليه الصلاة والسلام الصلاة واجبة عليكم ثم يقول بعد زمان ليست بواجبة فيستدل بالثاني على نسخ الحكم الاول كما لو قال عليه الصلاة والسلام صلوا ثم قال لا تصلوا كان النهى الثاني ناسخا للاول. فأما الجواب الذي ذكره ابن قتيبة فقد بينا فساده فيما تقدم من الأمالي عند تأويلنا قوله تعالى (واذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم) وأفسدنا قول من اعتقد أنه مسح ظهر آدم عليه السلام واستخرج منه الذرية وأشهدها على نفوسها وأخذ اقرارها بمعرفته بوجوه من الكلام ولا طائل في اعادة ذلك (مجلس آخر 57) [ تأويل آية ]. ان سأل سائل عن قوله تعالى (فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها) الآية


[ 6 ]

الى قوله تعالى (الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) فقال ما معنى الاستثناء ههنا والمراد الدوام والتأبيد ثم ما معنى التمثيل بمدة السموات والأرض التى تفنى وتنقطع. الجواب قلنا قد ذكر في هذه الآية وجوه. أولها أن تكون الا وإن كان ظاهرها الاستثناء فالمراد بها الزيادة فكأنه تعالى قال (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) من الزيادة لهم على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لى عليك ألف دينار الا الفين الذين اقرضتكهما وقت كذا وكذا فالالفان زيادة على الالف بغير شك لان الكثير لا يستثني من القليل وهذا الجواب يختاره الفراء وغيره من المفسرين. والوجه الثاني أن يكون المعنى الا ما شاء ربك من كونهم قبل دخول الجنة والنار في الدنيا وفي البرزخ الذي هو ما بين الحياة والموت وأحوال المحاسبة والعرض وغير ذلك لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا ولم يستثن لنوهم متوهم انهم يكونون في الجنة والنار من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فصار للاستثناء وجه وفائدة معقولة. والوجه الثالث أن تكون الا بمعنى الواو والتأويل فيها ما دامت السموات والأرض وما شاء ربك من الزيادة واستشهد على ذلك بقول الشاعر وكل أخ مفارقة أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان (1)


(1) البيت من شواهد سيبويه والمغنى على أن إلأصفة لكل مع صحة جعلها اداة استثناء ونصب الفرقدين على الاستثناء كما هو الشرط في وصفية إلا. قال ابن هشام في المغنى والوصف هنا مخصص فان ما بعد الا مطابق لما قبلها لأن المعنى كل أخوين غير هذين الكوكبين متفارقان وليست الا استثنائية والا لقال الا الفرقدين بالنصب لانه بعد كلام تام موجب كما هو الظاهر مع كونه لمستغرق وهو كل أخ كما نصب الشاعر في هذا البيت وهو من أبيات مذكورة في مختار أشعار القبائل لأبي تمام صاحب الحماسة لأسعد الذهلى وهو وكل أخ مفارقة أخوه * لشحط الدار الا ابني شمام وابنا شمام جبلان وهما بفتح الشين المعجمة وكسر الميم كحذام وقيل هما جبلان في دار

[ 7 ]

معناه والفرقدان ويقول الآخر وأري لها دارا بأغدرة السيد * ان لم يدرس لها رسم إلا رمادا هامدا دفعت * عنه الرياح خوالد سحم والمراد بالا ههنا الواو والا كان الكلام متناقضا. والوجه الرابع أن يكون الاستثناء الاول متصلا بقوله تعالى (لهم فيها زفير وشهيق) وتقدير الكلام لهم في النار زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين ولا يتعلق الاستثناء بالخلود فان قيل فهبوا أن هذا أمكن في الاستثناء الاول كيف يمكن في الثاني


بنى تميم مما يلى دار عمرو بن كلاب وقيل شمام هو جبل وابناء رأساه وعند ابن الحاجب في البيت الشاهد شذوذ من ثلاثة أوجه أحدها انه اشترط في وقوع الاصفة تعذر الاستثناء وهنا يصح لو نصبه وثانيها وصف المضاف والمشهور وصف المضاف إليه وثالثها الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر وهو قليل والبيت جاء في شعرين لصحابيين أحدهما عمرو بن معد يكرب أنشده الجاحظ في البيان والتبيين له وكذا نسبه إليه المبرد في الكامل وصاحب جمهرة الاشعار وغيرهم والثانى حضرمى بن عامر الأسدى وهو القائل ألا عجبت عميرة أمس لما * رأت شيب الذؤابة قد علانى تقول أري أبي قد شاب بعدى * وأقصر عن مطالبة الغوانى الى أن قال وذي فجع عزفت النفس عنه * حذار الشامتين وقد شجاني أخي ثقة إذا ما الليل أفضى * الى بمؤيد جلى كفانى قطعت قرينتي عنه فأغنى * غناه فلن أراه ولن يرانى وكل قرينة قرنت بأخرى * ولو ضنت بها ستفر قان وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك الا الفرقدان فكان اجابتي إياه أبى * عطفت عليه خوار العنان وهذا البيت الاخير يروي لعنترة بن شداد العبسى

[ 8 ]

. قلنا يحمل الثاني على استثناء المكث في المحاسبة والموقف أو غير ذلك مما تقدم ذكره. والوجه الخامس أن يكون الإستثناء غير مؤثر في النقصان من الخلود وانما الغرض فيه انه لو شاء أن يخرجهم وأن لا يخلدهم لفعل في أن التخليد انما يكون بمشيئته وارادته كما يقول القائل لغيره والله لاضربنك إلا أن أرى غير ذلك وهو لا ينوى الا ضربه ومعنا الاستثناء ههنا أني لو شئت أن لا أضربك لفعلت وتمكنت غير أني مجمع على ضربك. والوجه السادس أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج لان الله تعالى لا يشاء الا تخليدهم علي ما حكم به ودل عليه ويجري ذلك مجري قول العرب والله لاهجرنك الا أن يشيب الغراب ويبيض القار ومعنى ذلك أنى أهجرك أبدا من حيث علق بشرط معلوم أنه لا يحصل وكذلك معني الآيتين والمراد بهما انهم خالدون أبدا لان الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم. والوجه السابع أن يكون المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل الايمان الذين ضموا الى ايمانهم وطاعتهم المعاصي فقال الله تعالي انهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من اخراجهم الى الجنة وايصال ثواب طاعاتهم إليهم. ويجوز أيضا أن يريد بأهل الشقاء ههنا جميع الداخلين الى جنهم ثم استثنى تعالى بقوله الا ما شاء ربك أهل الطاعات منهم ومن يستحق ثوابا لا بد انه يصل إليه فقال تعالي الا ما شاء ربك من اخراج بعضهم وهم أهل الثواب وأما الذين سعدوا فانما استثنى تعالى من خلودهم أيضا لما ذكرناه لان من نقل من النار الى الجنة وخلد فيها لا بد من الاخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم فكأنه تعالى قال انهم خالدون في الجنة مادامت السموات والأرض الا ما شاء ربك من الوقت الذى أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم الى الجنة والذين شقوا على هذا الجواب هم الذين سعدوا وانما أجرى عليهم كل لفظ في الحال التى تليق بهم إذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها من أهل الشقاء وإذا نقلوا الى الجنة من أهل الجنة والسعادة وقد ذهب الى هذا الوجه جماعة من المفسرين كابن عباس وقتادة والضحاك وغيرهم وروى بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال الذين شقوا ليس فيهم كافر وانما هم قوم من أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم ثم يتفضل الله تعالى عليهم فيخرجهم من النار الى الجنة فيكونون أشقياء في حال


[ 9 ]

سعداء في حال أخرى وأما تعليق الخلود بدوام السموات والأرض فقد قيل فيه إن ذلك لم يجعل شرطا في الدوام وانما علق به على سبيل التبعيد وتأكيد الدوام لان للعرب في مثل هذا عادة معروفة خاطبهم الله تعالي عليها لانهم يقولون لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة ونحو ذلك ومرادهم التأبيد والدوام ويجرى كل ما ذكرناه مجرى قولهم لا أفعل كذا أبدا لانهم يعتقدون في جميع ما ذكرناه انه لا يزول ولا يتغير وعباراتهم انما يخرجونها بحسب اعتقاداتهم لا بحسب ما عليه الشئ في نفسه ألا تري أن بعضهم لما اعتقدوا في ا لاصنام أن العبادة تحق لها سموها آلهة بحسب اعتقاداتهم وان لم تكن في الحقيقة كذلك ومما يشهد لمذهبهم الذى حكيناه قول ابي الجويرية العبدى ذهب الجود والجنيد جميعا * فعلي الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في قعر مرت * ما تغنت على الغصون الحمام وقال الأعشى ألست منتهيا عن نحت أثلتنا * ولست ضائرها ماأطت الإبل (1) وقال الآخر لا أفتأ الدهر أبكيهم بأربعة * ما اجترت النيب أو حنت الى بلد وقال زهير مبينا عن اعتقاده دوام الجبال وانها لا تفنى ولا تتغير ألا لا أرى على الحوادث باقيا * ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا


(1) – النحت – البرى – والأثل – بالفتح شجر معروف قيل هو الطرفاء وقيل السمر وأحدته أثلة وجمعه أثلاث محركة وأثول بالضم – وأطت – من أطيط الابل وهو نقيض جلودها عند الحكة والنقيض بفتح النون وكسر القاف وفي آخره ضاد معجمة وهو صوت اللسع والرحل والمفاصل والاضلاع (2 – رابع آمالى)

[ 10 ]

فهذا وجه وقيل أيضا في ذلك انه أراد تعالي به الشرط وعنى بالآية دوام السموات والارض المبدلتين لأنه تعالى قال (يوم تبدل الارض غير الارض والسموات) فأعلما تعالى انهما تبدلان وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيير أبدا بلا انقطاع وانما المنقطع ه‍ دوام السموات والارض قبل التبديل والفناء ويمكن أيضا أن يكون المراد انهم خالدو بمقدار مدة السموات والارض التي يعلم الله تعالى انقطاعها ثم يزيدها الله تعالي على ذلك ويخلدهم ويؤيد مقامهم وهذا الوجه يليق بالاجوبة التى تتضمن أن الاستثناء أريد به الزيادة على المقدار المقدم لا النقصان. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وجدت أبا القاسم الآمدي قد ظلم البحترى في تفسير بيت له مضاف إليه مع ظلمه له في أشياء كثيرة تأولها على خلاف مراد البحترى وحكى قوله كالبدر إلا أنها لا تجتلى * والشمس إلا أنها لا تغرب ثم قال وهذا فيه سؤال لانه لما قال – كالبدر الا أنها لا تجتلى – فالمعنى أن عيون الناس كلهم ترى البدر وتجتليه وهى لا تراها العيون ولا تجتلى ثم قال – والشمس الا أنها لا تغرب – وانما قال لا تجتلى لانها محجوبة فإذا كانت في حجاب فهى في غروب لان الشمس إذا غربت إنما تدخل تحت حجاب فظاهر المعنى كالبدر الا أن العيون لا تراها والشمس الا أن العيون لا تفقدها قال وهذا القول متناقض كما ترى قال وأظنه أراد انها وان كانت في حجاب فانه لا يقال لها غربت تغرب كما لا يقال للشمس وانما يقال لها إذا سافرت بعدت وغربت إذا توجهت نحو الغرب وقد يقال للرجل أغرب عنا أي ابعد ولو استعار لها اسم الغروب عن الارض التي تكون فيها إذا ظعنت عنها الي أرض أخري كان ذلك حسنا جدا لاسيما وقد جعلها شمسا كما قال ابراهيم بن العباس الصولى وزالت زوال الشمس عن مستقرها * فمن مخبري في أي أرض غروبها قال وقد يجوز أن يقول قائل انه أراد لا تغرب تحت الأرض كما تغرب الشمس وهذه معاذير ضيقة لابي عبادة فان لم يكن قد أخطأ فقد أساء. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وما المخطئ غير الآمدي ومراد البحتري بقوله أوضح من أن يذهب على متأمل


[ 11 ]

لانه أراد بقوله – والشمس الا أنها لا تغرب – أي انها لا تصير حيث يتعذر رؤيتها ويمتنع كما يتعذر رؤية الشمس على من غربت عن أفق بلده والمرأة وان احتجبت باختيارها فان ذلك ليس بغروب كغروب الشمس لانها إذا شاءت ظهرت وبرزت للعيون والشمس إذا غربت فرؤيتها غير ممكنة ولهذا لا يصح أن يقال فيمن استظل بدار أو جدار عن الشمس انها غربت عنه وان كان غير راه لها لان رؤيتها ممكنة بزوال ذلك المانع وكذلك القول في احتجاب المرأة فلا تناقض في بيت البحترى على ما ظنه الآمدي. ولبعضهم في هذا المعنى قد قلت للبدر واستعبرت حين بدا * ما فيك يا بدر لي من وجهها خلف تبدى لنا كلما شئنا محاسنها * وأنت تنقض أحيانا وتنكسف فمعنى قوله – فأنت تنقض وتنكسف – جار مجرى غروب الشمس لأنه فضلها على البدر من حيث كان بروزها لمبصرها موقوفا على اختيارها والبدر ينقض وينكسف على وجه لا تمكن رؤيته كما فضلها البحترى بأنها لا تغرب حتى تصير رؤيتها مستحيلة والشمس كذلك. وقد ظلم الآمدي البحترى في قوله لا العذل يردعه ولا التعنيف * عن كرم يصده قال الآمدي وهذا عندي من أهجى ما مدح به خليفة وأقبحه ومن ذا يعنف الخليفة على الكرم أو يصده ان هذا بالهجو أولى منه بالمدح. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وللبحتري في هذا عذر من وجهين. أحدهما أن يكون الكلام خرج مخرج التقدير فكأنه قال لو عنف وعذل لما صده ذلك عن الكرم وان كان من حق العذل والتعنيف أن يصد أو يحجز عن الشئ وهذا له نظائر في القرآن وفي كلام العرب كثير مشهور وقد مضى فيما أمليناه شئ من ذلك. والوجه الآخر أن العذل والتعنيف وان لم يتوجها إليه في نفسه فهما موجودان في الجملة على الاسراف في البذل والجود بنفائس الاموال ولم يقل البحتري إن عذله يردعه أو تعنيفه يصده وانما قال لا العذل يردعه ولا التعنيف يصده فكأنه أخبر أن ما يسمعه من عدل العذال على الكرم


[ 12 ]

وتعنيفهم علي الجود وان كان متوجها إلى غيره فهو غير صادله لقوة عزيمته وشدة بصيرته. ومما خطأ الآمدي البحتري فيه وان كان له فيه عذر صحيح لم يهتد إليه قوله ذنب كما سحب الرداء يذب عن * عرف وعرف كالقناع المسبل قال الآمدي وهذا خطأ من الوصف لان ذنب الفرس إذا مس الأرض كان عيبا فكيف إذا سحبه وانما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض ولم يمسها كما قال امرؤ القيس بضاف فويق الأرض ليس بأعزل (1) قال وقد عيب امرؤ القيس بقوله لها ذنب مثل ذيل العروس * تسد به فرجها من دبر قال وما أرى العيب يلحق امرأ القيس لان العروس وان كانت تسحب أذيالها وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيبا فليس بمنكر أن يشبه به الذنب وان لم يبلغ الى أن يمس الارض لان الشئ انما يشبه الشئ إذا قاربه أو دنا من معناه فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه ولاق به وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط وانما أراد السبوغ والكثرة والكثافة ألا ترى أنه قال – تسد به فرجها من دبر – وقد يكون الذنب طويلا يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفا ولا يسد فرج الفرس فلما قال تسد به فرجها علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة كان في الطول قريبا منه فالتشبيه صحيح وليس ذلك بموجب للعيب وانما العيب في قول البحترى * ذنب كما سحب الرداء * فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه. ومثل قول امرئ القيس قو خداش بن زهير لها ذنب مثل ذيل الهدى * الي جؤجوء أيد الزافر – والهدي – العروس التي تهدى الى زوجها – والايد – الشديد – والزافر – الصدر لانها تزفر منه


(1) وصدره * كميت إذا استقبلته سد فرجه * الخ – والا عزل – من الخيل الذى يقع ذنبه في جانب وهو عادة لا خلقة وهو عيب

[ 13 ]

قال فشبه الذنب الطويل السابغ بذيل الهدي وان لم يبلغ في الطول الى أن يمس الارض. [ قال الشريف ] رضى الله عنه وللبحتري وجه في العذر يقرب من عذر امرئ القيس في قوله مثل ذيل العروس غير أن الآمدي لم يفطن له وأول ما أقوله ان الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد فان ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه وكلام القوم مبنى على التجوز والتوسع والاشارات الخفية والايماء على المعاني تارة من بعد وتارة من قرب لانهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق وانما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم وانما أراد البحترى بقوله – ذنب كما سحب الرداء – المبالغة في وصفه بالطول والسبوغ وأنه قد قارب أن ينسحب وكاد يمس الأرض ومن شأن العرب أن تجري على الشئ الوصف الذى قد كان يستحقه وقد قرب منه القرب شديد فيقولون قتل فلانا هوي فلانة ووله عقله وزال تمييزه وأخرج نفسه وكل ذلك لم يقع وانما أراد والمبالغة وافادة المقاربة والمشارفة ولنظائر ذلك أكثر من أن تحصى ومن شأنهم أيضا إذا أرادوا المبالغة التامة أن يستعملوا مثل هذا فيشبهون الكفل بالكثيب وبالدعص وبالتل ويشبهون الخصر بوسط الزنبور وبمقدار حلقة الخاتم ويعدون هذا غاية المدح وأحسن الوصف ونحن نعلم أنا لو رأينا من خصره مقدار وسط الزنبور وكفله كالكثيب العظيم لاستبعدناه واستهبجنا صورته لنكارتها وقبحها وانما أتوا بألفاظ المبالغة صنعة وتأنقا لا لتحمل على ظواهرها تحديدا وتحقيقا بل ليفهم منها الغاية المحمودة والنهاية المستحسنة ويترك ما وراء ذلك فإنا نفهم من قولهم خصرها كخصر الزنبور انه في غاية الدقة المستحسنة في البشر ومن قولهم كفلها كالكثيب أنه في نهاية الوثارة المحمودة المطلوبة لا أنه كالتل على التحقيق فهكذا لاننكر أن يريد البحترى بقوله كما سحب الرداء أنه في غاية الطول الممدوح المحمود لا انه ينجر في الارض علي الحقيقة ووكلنا في تخليص معناه وتفصيله الى العادة الجارية لنظرائه من الشعراء في استعمال مثل اللفظ الذى استعمله. قال بعضهم في ثقل العجيزه تمشى فتثقلها روادفها * فكأنها تمشى إلى خلف


[ 14 ]

وقال المؤمل من رأى مثل حبتي * تشبه البدر إذا بدا تدخل اليوم ثم تدخل * أرادفها غدا وقال ذو الرمة ورمل كأوراك العذارى قطعته * وفد جللته المظلمات الحنادس (2) وكل هذا الكلام لو حمل على ظاهره وحقيقته لكان الموصوف به في نهاية القبح لان من يمشى الى خلف ومن يدخل كفله بعده لا يكون مستحسنا. وقال بكر بن النطاح فزعاء تسحب من قيام فزعها * وتغيب فيه وهو جثل أسحم فكأنها فيه نهار ساطع * وكأنه ليل عليها مظلم فوصف شعرها بأنه ينسحب مع قيامها ونحن نعلم ان طول الشعر وان كان مستحسنا فليس الي هذا الحد وانما أراد بقوله تسحب شعرها ما أراده البحترى بقوله كما سحب


(1) هذا البيت أورده ابن جنى في الخصائص في باب غلبة الفروع للاصول فقال هذا فصل من العربية طريف تجده في معاني العرب كما تجده في معاني الاعراب ولا تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة فمما جاء فيه ذلك للعرب قول ذى الرمة ورمل كاوراك العذارى قطعته * إذا ألبسته المظلمات الحنادس أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الاصل فرعا والفرع أصلا وذلك ان العادة والعرف في نحو هذا ان تشبه أعجاز النساء بكثبان الانقاء الى أن قال فغلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا فشبه كثبان الانقاء باعجاز النساء وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لاعجاز النساء فصار كأنه الاصل فيه حتى شبه به كثبان الانقاء الى أن قال وآخر ما جاء به شاعرنا يعنى المتلبي نحن ركب ملجن في زى ناس * فوق طير على شخوص الجمال فجعل كونهم جنا أصلا وجعل كونهم ناسا فرعا وجعل كون مطاياه طيرا أصلا وكونها جمالا فرعا فشبه الحقيقة بالمجاز في المعنى الذي منه أفاد المجاز من الحقيقة ما أفاد

[ 15 ]

الرداء من المبالغة في الوصف بالطول المحمود دون المذموم (مجلس آخر 58) [ تأويل الآية ]. ان سأل سائل عن قوله تعالى (أسمع بهم وأبصر (1) يوم يأتوننا) الآية. فقال ما تأويل هذه الآية فإن كان المراد بها التعجب من قوة أسماعهم ونفاذ أبصارهم فكيف يطابق ما خبر به عنهم في مواضع كثيرة من الكتاب بأنهم لا يبصرون ولا يسمعون وان على أسماعهم وأبصارهم غشاوة وما معنى قوله تعالى (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) أي يوم هو اليوم المشار إليه وما المراد بالضلال المذكور. الجواب قلنا أما قوله تعالي (أسمع بهم وأبصرهم) فهو على مذهب العرب في التعجب ويجرى مجري قولهم ما أسمعهم وما أبصرهم والمراد بذلك الإخبار عن قوة علومهم بالله تعالي في تلك الحال وانهم عارفون به على وجه الاعتراض للشبهة عليه وهذا يدل على أن أهل الآخرة عارفون بالله تعالى ضرورة ولا تنافى بين هذه الاية وبين الايات التى أخبر تعالى


(1) قوله اسمع بهم وأبصر أي بهم وحذف المتعجب منه هنا لدلالة بهم السابقة مع كونه فاعلا لان لزومه الجر كساه صورة الفضلة خلافا للفارسي وجماعة فانهم ذهبوا الى أنه لم يحذف ولكنه استتر في الفعل حين حذفت الباء كما في قولك زيد كفى به كاتبا ورده ابن مالك بوجهين. أحدهما لزوم ابرازه حينئذ في التثنية والجمع. والثانى ان من الضمائر ما لا يقبل الاستتار كنا من أكرم بنا فان لم يدل عليه دليل لم يجز حذفه أما في ما أفعله فلعروه إذ ذاك عن الفائدة فانك لو قلت ما أحسن أو ما أجمل لم يكن كلا مالان معناه ان شيئا صير الحسن واقعا على مجهول وهذا مما لا ينكر وجوده ولا يفيد التحدث به وأما نحو افعل به فلا يحذف منه المتعجب لغير دليل لانه فاعل وأما قول عروة بن الورد فذلك ان يلق المنية يلقها * حميدا وان يستغن يوما فاجدر فحذف المتعجب منه ولم يكن معطوفا على مثله فشاذ

[ 16 ]

عنهم فيها بانهم لا يسمعون ولا يبصرون وبأن على أبصارهم غشاوة لأن تلك الآيات تناولت أحوال التكليف وهي الأحوال التى كان الكفار فيها ضلالا عن الدين جاهلين بالله تعالى وصفاته وهذه الآية تتناول يوم القيامة وهو المعنى بقوله تعالى يوم يأتوننا و أحوال القيامة لا بد فيها من المعرفة الضرورية وتجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). فأما قوله تعالى (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) فيحتمل أن يريد تعالى بقوله اليوم الدنيا وأحوال التكليف ويكون الضلال المذكور انما هو الذهاب عن الدين والعدول عن الطريق فاراد تعالى انهم في الدنيا جاهلون وفي الآخرة عارفون بحيث لا تنفعهم المعرفة ويحتمل أن يريد تعالي باليوم يوم القيامة ويعنى تعالى بالضلال المعدول عن طريق الجنة ودار الثواب الى دار العقاب فكأنه قال أسمع بهم وابصر يوم يأتوننا غير انهم مع معرفتهم هذه وعلمهم يصيرون في هذا اليوم الي العقاب ويعدل بهم عن طريق الثواب وقد روي معنى هذا التأويل عن جماعة من المفسرين فروي عن الحسن في قوله تعالى [ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ] قال يقول تعالى هم يوم القيامة سمعاء بصراء لكن الظالمون في الدينا سمعاء وبصراء ولكنهم في ضلال عن الدين مبين. وقال قتادة وابن زيد ذلك والله يوم القيامة سمعوا حين لم ينفعهم السمع وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. وقال أبو مسلم بن بحر في تأويل هذه الآية كلاما جيدا قال معنى أسمع بهم وأبصر ما أسمعهم وأبصرهم وهذا على طريق المبالغة في الوصف يقول فهم يوم يأتوننا يوم القيامة سمعاء بصراء أي عالمون وهم اليوم في دار الدنيا في ضلال مبين أي جهل واضح قال وهذه الآية تدل على أن قوله (صم بكم عمى فهم لا يعقلون) ليس معناه الآفة في الأذن والعين والجوارح بل هو انهم لا يسمعون عن قدرة ولا يتدبرون ما يسمعون ولا يعتبرون بما يرون بل هم عن ذلك غافلون فقد نري أن الله تعالى جعل قوله تعالى (لكن الظالمون اليوم في ضلال) مقابلا لقوله تعالى أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا أي ما أسمعهم وما أبصرهم فأقام تعالى السمع والبصر مقام الهدى إذ جعله بازاء الضلال المبين. فأما أبو على بن عبد الوهاب فانه اختار في تأويل هذه الآية غير هذا الوجه


[ 17 ]

ونحن نحكى كلامه على وجهه قال وعنى بقوله اسمع بهم وابصر أي اسمعهم وابصرهم وبين لهم انهم إذا أتوا مع الناس الى موضع الجزاء سيكونون في ضلال عن الجنة وعن الثواب الذي يناله المؤمنون. والظالمون الذين ذكرهم الله تعالى هم هؤلاء توعدهم بالعذاب في ذلك اليوم. ويجوز ايضا ان يكون عنى بقوله اسمع بهم وابصر اي اسمع الناس بهؤلاء الانبياء وابصرهم بهم ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم فيؤمنوا بهم ويقتدوا باعمالهم واراد بقوله تعالى لكن الظالمون لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم و هو نى يوم القيامة في ضلال عن الجنة وعن نيل الثواب مبين وهذا الموضع من جملة المواضع التى استدركت على ابى على وينسب فيها الى الزلل لأن الكلام وان كان محتملا لما ذكره بعض الاحتمال من بعد فان الاولى والاظهر في معنى ما تقدم ذكره من المبالغة في وصفهم وقوله تعالى (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) بعد ما تقدم لا يليق الا بالمعنى الذي ذكرناه لا سيما إذا حمل اليوم على ان المراد به يوم القيامة على ان ابا على جعل قوله تعالى لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين من صلة قوله تعالي اسمعهم وابصرهم وتأوله على ان المعنى به اعلمهم وابصرهم بانهم يوم القيامة في ضلال عن الجنة والكلام يشهد بأن ذلك لا يكون من صلة الاول وأن قوله تعالى لكن استئناف لكلام ثان وما يحتاج أبو على إلى هذا بل لو قال على ما اختاره من التأويل أنه أراد تعالى أسمعهم وأبصرهم يوم يأتوننا أي ذكرهم بأهواله وأعلمهم بما فيه ثم قال مستأنفا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين لم يحتج إلى ذكره وكان هذا أشبه بالصواب.. فأما الوجه الثاني الذى ذكره فباطل لان قوله تعالى أسمع بهم وأبصر إذا تعلق بالانبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقى قوله عزوجل يوم يأتوننا بلا عامل ومحال أن يكون ظرف لا عامل له فالاقرب والاولى أن يكون على الوجه الاول مفعولا.. ووجدت بعض من اعتراض على أبى على يقول رادا عليه لو كان الامر على ما ذهب إليه أبو على لوجب أن يقول تعالى أسمعهم وأبصرهم بغير باء وهذا الرد غير صحيح لان الباء في مثل هذا الموضع غير منكر زيادتها وذلك موجود كثير في القرآن والشعر وغيره قال الله تعالى (اقرأ باسم ربك الاعلى الذى. وعينا يشرب بها عباد الله. وهزى إليك بجذع النخلة (3 – امالي رابع)


[ 18 ]

تلقون إليهم بالمودة وقال الاعشى ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وقال امرؤ القيس هصرت بغصن ذى شماريخ ميال (1) وأظن أبا على أنما شبهته بهذا الجواب لانه وجد تاليا للآية لفظ أمر وهو قوله تعالى (وأنذرهم يوم الحسرة) فحمل الاول على الثاني والكلام لا تشتبه معانيه من حيث المجاورة بل الواجب أن يوضع كل منه حيث يقتضيه معناه.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وجدت جماعة من أهل الادب يستبعدون ان يرتج على انسان في خطبة وكلام قصد له فينبعث منه في تلك الحال كلام هو أحسن مما قصد إليه وأبلغ مما أرنج عليه دونه ويقولون ان النسيان لا يكون إلا عن حيرة وضلالة فكيف تجتمع معهما البراعة الثاقبة والبلاغة المأثورة مع حاجتهما إلى اجتماع الفكرة وحضور الذكر وينسبون جميع ما يحكى من كلام مستحسن ولفظ مستعذب عمن حصر في خطبة أو في منطق إلى أنه موضوع مصنوع وليس الذى استبعدوه وأنكروه ببعيد ولا منكر لان النسيان قد يخص شيئا دون شئ ويتعلق بجهة دون جهة وهذا أمر متعارف فلا ينكر أن ينسى الانسان شيئا قصده وعزم على الكلام فيه ويكون مع ذلك ذاكرا لغيره متكلما فيه بابلغ الكلام وأحسنه بل ربما كان الحصر والذهاب عن القصد يحميان القريحة ويوقدان الفكرة فيبعثان على أحسن الكلام وأبرعه ليكون ذلك هربا من العى وانتفاء من اللكنة.. ومن أحسن ما روى من الكلام وأبرعه في حال الحصر والانقطاع عن المقصود من الكلام ما أخبرنا به أبو عبيدالله محمد المرزبانى قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال المرزبانى وأخبرنا ابن دريد مرة أخرى وقال حدثنا السكن ابن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبى قالا صعد خالد بن عبد الله القسرى * (ها مش) * (1) وصدره * فلما تنازعنا الحديث واسمحت * فمعنى – اسمحت – سهلت ولانت – وهصرت بغصن – ثنيت غصنا والباء زائدة


[ 19 ]

يوما المنبر بالبصرة فأرتج عليه فقال أيها الناس إن الكلام وقال أبو حاتم إن هذا القول يجى أحيانا ويذهب أحيانا فيتسبب عند مجيئة سببه ويعز عند عزوبه طلبه وربما كوبر فأبى وعولج فأبطى وقال ابن الكلبى ربما طلب فأبى وعولج فقسا والتأنى لمجيئه أصوب من التعاطى لابيه ثم نزل فما رؤى حصرا أبلغ منه وقال أبو حاتم والترك لابيه أفضل من التعاطى لمجيئه وتجاوزه عند تعذره أولى من طلبه عند تنكره وقد يختلج من الجرئ جنانه ويرتج على البليغ لسانه ثم نزل.. وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيدالله المرزبانى على وجه آخر قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي قال كان خالد بن عبد الله القسرى حين ولاه هشام بن عبد الملك يكثر الخطب والتباليغ فقدم واسط فصعد المنبر فحاول الخطبة فارتج عليه فقال أيها الناس إن هذا الكلام يجئ أحيانا ويعزب أحيانا فيعز عند عزوبه طلبه ويتسبب عند مجيئه سببه وربما كوبر فأبى وعوسر فقسا والتأتى لمجيئه أسهل من التعاطى لابيه وتركه عند تعذره أحمد من طلبه عند تنكره وقد يرتج على اللسن لسانه ولا ينظره القول إذا اتسع ولا يتيسر إذا امتنع ومن لم تمكن له الخطوة فخليق أن تعن له النبوة. (1) وأخبرنا المرزبانى قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثنى أبو العباس المنصوري قال صعد أبو العباس السفاح المنبر فأرتج عليه فقال أيها الناس إن اللسان بضعة من الانسان يكل إذا كل وينفسح بانفساحه إذا فسح ونحن أمراء الكلام منا تفرعت فروعه وعلينا تهدلت غصونه ألا وإنا لا نتكلم هذرا ولا نسكت إلا معتبرين ثم نزل فبلغ ذلك أبا جعفر فقال لله هو لو خطب بمثل ما اعتذر لكان من أخطب الناس وهذا الكلام يروى لداود ابن على.. وبهذا الاسناد عن محمد بن الصباح عن فثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه قال أراد أبو العباس السفاح يوما أن يتكلم بأمر من الامور بعد ما أفضت الخلافة إليه


(1) وروى ابن على القالى قال حدثنا ابو بكر رحمه الله قال اخبرنا السكن بن سعيد عن العباس بن هشام الكلبى قال صعد خالد بن عبد الله القسرى يوما المنبر بالبصرة ليخطب فارتج عليه فقال ايها الناس ان الكلام ليجئ احيانا فيتسبب سببه ويعزب احيانا فيعز مطلبه فربما طولب فابى وكوبر فعصي فالتأني لمجيئه أصوب من التعاطى لابيه

[ 20 ]

وكان فيه حياء مفرط فأرتج عليه فقال داود بن على بعد أن حمد الله وأنى عليه ايها الناس إن أمير المؤمنين الذى قلده الله سياسة رعيته عقل من لسانه عند ما تعهد من بيانه ولكل مرتق بهر حتى تنفسه العادات فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم ورغد عيشكم.. وأخبرنا أبو عبيدالله المرزبانى قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثنى عبد الله بن إسحق بن سلام قال صعد عثمان بن عفان رضى الله عنه المنبر فأرتج عليه فقال أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا وبعد عى نطقا وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال.. وروى محمد بن يزيد النحوي هذا الكلام بعينه عن يزيد بن أبى سفيان وقد خطب على بعض منابر الشام وإن عمرو بن العاص لما بلغه كلامه قال عن مخرجاتى من الشام استحسانا لكلامه.. وروى محمد بن يزيد النحوي قال بلغني أن رجلا صعد المنبر أيام يزيد وكان واليا على قوم فقال لهم أيها الناس إنى إن لم أكن فارسا طبا بهذا القرآن فإن معى من أشعار العرب ما أرجو أن يكون خلفا منه وما أساء القائل أخو البراجم حيث قال وما عاجلات الطير يذنين للفتى * رشادا ولا من ريثهن يخيب (1) ورب أمور لا تضيرك ضيرة * وللقلب من مخشاتهن وجيب ولا خير فيمن لا يوطن نفسه * على نائبات الدهر حين تنوب


(1) يقول إذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خيرا له عنه ولا إذا ابطأت خاب فعاجلها لا يأتيه بخير واجلها لا يدفع عنه انما له ما قدر له.. والعرب تزجر على السانح وتتبرك به وتكره البارح وتتشاءم به وبعضهم يعكس والسانح ما ولاك مياسره فامكنك رميه والبارح ما ولاك ميامنه فلا يمكنك رميه الا ان تنحرف له.. وعاجلات الطير هي ان يخرج الانسان من منزله إذا اراد ان يزجر الطير فما مر به في اول ما يبصر فهو عاجلات الطير وان ابطأت عنه وانتظرها فقد راثت أي ابطأت والاول عندهم محمود والثانى مذموم يقول ليس النجح بان يعجل الطائر الطيران كما يقول الذين يزجرون الطير ولا الخيبة في ابطائها وهذا رد علي مذهب الاعراب والابيات لضابئ بن الحارث

[ 21 ]

وفى الشك تفريط وفى الحزم قوة * ويخطى الفتى في حدسه ويصيب فقال رجل من كلب إن هذا المنبر لم ينصب للعشر بل ليحمد الله تعالى ويصلى على النبي وآله عليهم الصلاة والسلام وللقرآن فقال أما لو أنشدتكم شعر رجل من كلب لسركم فكتب إلى يزيد بذلك فعزله وقال قد كنت أراك جاهلا أحمق ولم أحسب أن الحمق بلغ بك إلى هذا المبلغ فقال له أحمق منى من ولانى.. وكان يزيد بن المهلب ولى ثابت قطنة بعض قرى خراسان فلما صعد المنبر حصر فنزل وهو يقول فإلا أكن فيكم خطيبا فإننى * بسيفي إذا جد الوغى لخطيب فقيل له لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس فبلغ ذلك حاجب الفيل فقال أبا العلاء لقد لاقيت معضلة * يوم العروبة من كرب وتحنيق أما القرآن فلا تهدى لمحكمه * ولم تسدد من الدنيا بتوفيق لما رمتك عيون الناس هبتهم * وكدت تشرق لما قمت بالريق تلوى اللسان إذ رمت الكلام به * كما هوى زلق من جانب النيق (1)


(1) – وكان سبب هجو حاجب الفيل والفيل لقب لقبه به ثابت قطنة واسم أبيه ذبيان المازنى وقيل معدان وقيل انه الملقب الفيل لانه كان يروض فيلا للحجاج ان حاجبا دخل على يزيد بن المهلب فلما مثل بين يديه أنشده اليك امتطيت العيس تسعين ليلة * أرجي ندا كفيك يابن المهلب وأنت امرؤ جادت سماء يمينه * على كل حى بين شرق ومغرب فجد لى بطرف أعوجى مشهر * سليم الشظي عبل القوائم سلهب سبوح طموح الطرف يستن مرجم * أمر كامرار الرشاء المشذب طوي الضمر منه البطن حتى كأنه * عقاب تدلت من شماريخ كبكب تبادر جنح الليل فرخين أقويا * من الزاد من قفر من الارض مجدب فلما رأت صيدا تدلت كأنها * دلاء تهاوى مرقبا بعد مرقب

[ 22 ]

.. وروى أن بعض خلفاء بنى العباس وأظنه الرشيد صعد المنبر ليخطب فسقطت على وجهه ذبابة فطردها فرجعت فحصر وأرتج عليه فقال أعوذ بالله السميع العليم يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآية إلى قوله ضعف الطالب والمطلوب ثم نزل فاستحسن ذلك منه.. ومما يشاكل هذه الحكاية ما حكاه عمرو بن بحر الجاحظ قال كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار لم ير الناس حاكما قط ولا زمينا ولا ركينا ولا وقورا ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذى ضبط وملك وكان يصلى الغداة في منزله وهو قريب الدار من مسجده فيأتى مجلسه فيحتبى ولا يزال منتصبا لا يتحرك له عضو ولا يلتفت ولا يحل حبوته ولا يحرك رجلا عن رجل ولا يعتمد على على أحد شقيه حتى كأنه بناء مبنى أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة الظهر ثم يعود إلى مجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة العصر ثم يرجع إلى مجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى المغرب ثم ربما عاد إلى مجلسه بل كثيرا ما يكون ذلك إذا بقى عليه من قراءة العهد والشروط والوثائق ثم يصلى العشاء وينصرف لم يقم في


فشكت سواد القلب من ذئب قفرة * طويل القري عارى العظام معصب وسابغة قد أتقن القين صنعها * وأسمر خطي طويل مجرب وأبيض من ماء الحديد كأنه * شهاب متى يلق الضريبة يقضب وقل لى إذا ما شئت في حومة الوغى * تقدم أو اركب حومة الموت اركب فانى امرؤ من عصبة مازنية * نماني أب ضخم كريم المركب فأمر له يزيد بدرع وسيف ورمح وفرس وقال له قد عرفت ما شرطت لنا علي نفسك فقال اصلح الله الامير حجتى بينة وهي قول الله عزوجل (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون) فقال ثابت قطنة ما أعجب ما وفدت به من بلدك في تسعين ليلة مدحت الامير بيتين وسألته حوائجك في عشرة أبيات وختمت شعرك في بيت تفخر عليه فيه حتى إذا أعطاك ما أردت حدت عما شرطت له على نفسك فأكذبتها حتي كأنك كنت تخدعه فقال له يزيده مه يا ثابت فانا لا نخدع ولكن فتخادع وسوغه ما اعطاء وأمر له بالفى درهم ولج حاجب يجهو ثابتا

[ 23 ]

طول تلك الولاية مرة واحدة إلى الوضوء ولا احتاج إليه ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب وكذلك كان شأنه في طوال الايام وفى قصارها وفى صيفها وشتائها وكان مع ذلك لا يحرك يدا ولا يشير برأسه وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه وفى السماطين بين يديه إذ قسط على أنفه ذباب فأطال السكوت والمكث ثم تحول إلى موق عينه فرام الصبر في سقوطه على الموق وعلى عضته ونفاذ خرطومه كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته أو يغضى وجهه أو يذب بأصبعه فلما طال ذلك من الذباب وأوجعه وأحرقه وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل عنه أطبق جفنه الاعلى على جفنة الاسفل فلم ينهض فدعاه ذلك إلى أو والى بين الاطباق والفتح فتنحى ريثما سكن ثم عاد إلى موقه ثانيا أشد من مرته الاولى فغمس خرطومه في مكان قد كان أوهاه قبل ذلك وكان احتماله له أضعف وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى فحرك أجفانه وزاد في شدة الحركة في تتابع الفتح والاطباق فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته ثم عاد إلى موضعه فما زال ملحا عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده فلم يجد بدا من أن يذب عن عينه بيده ففعل وعيون القوم إليه يرمقونه كأنهم لا يرونه فتنحى عنه بمقدار مارد يده وسكنت حركته ثم عاد إلى موضعه فألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمه ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك وعلم أن ذلك كله بعين من حضر من أمنائه وجلسائه فلما نظروا إليه قال أشهد ان الذناب ألج من الخفنساء وأزهى من الغراب وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله تعالى أن يعرفه من ضعفه من ضعفه ما كان عنه مستورا وقد علمت انى كنت عند الناس من أرصن الناس وقد غلبنى وفضحنى أضعف خلق الله ثم تلا قول الله تعالى (ضعف الطالب والمطلوب) (مجلس آخر 59) [ تأويل آية ].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (واذ نجينا كم من آل فرعون


[ 24 ]

يسومونكم سوم العذاب – الى قوله تعالى – بلاء من ربكم عظيم) فقال ما تنكرون أن يكون في هذا الاية دلالة على اضافة الافعال التي تظهر من العباد الى الله تعالى من وجهين.. أحد هما انه قال تعالى بعدما تقدم ذكره من أفعالهم ومعاصيهم وفى ذلك بلاء من ربكم عظيم فاضافها الى نفسه.. والثانى أضاف تجاتهم من آل فرعون إليه فقال تعالى واذ أنحبينا كم ومعلوم انهم هم الذين ساروا حتى نجوا فيجب ان يكون ذلك السير من فعله على الحقيقة حتى تصح الاضافة حينئذ.. الجواب قلنا أما قوله تعالى وفي ذلكم فهو اشارة الى ما تقدم ذكره من انجائه لهم من المكروه والعذاب وقد قال قوم انه معطوف على ما تقدم من قوله تعالى (يا بنى اسرائيل إذ كوا نعمتي التى) الاية والبلاء ههنا الاحسان والنعمة ولا شك في ان تخليصه لهم من ضروب المكاره التي عددها الله نعمة عليهم واحسان إليهم والبلاء عند العرب قد يكون حسنا وقد يكون سيئا قال الله تعالى (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) ويقول الناس في الرجل إذا أحسن القتال والثبات في الحرب قد أبلى فلان ولفلان بلاء والبلوى أيضا قد يستعمل في الخبر والشر الا ان أكثر ما يستعملون البلاء اتلمدود في الجميل والخير والبلوى المقصورة في السوء الشرفقال قوم اصل البلاء في كلام العرب الاختبار والامتحان ثم يستعمل في الخير والشر لان الاختبار والامتحان قد يكون في الخير والشر جميعا كما قال تعالى (وبلو ناهم بالحسنات والسيئات) يعنى اختبرناهم وكما قال تعالى (ولنبلو نكم بالخير فنتة) فالخير يسمى بلاء والشر يسمى بلاء غير ان الا كثر في الشر أن يقال بلوته أبلوه بلا وفى الخير أبلوته أبليه إبلاء وبلاء.. وقال زهير في البلاء الذى هو الخير جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فجمع بين التغتين لانه أراد أنعم الله عليهما خير النعمة التي يختبر بها عباده وكيف يجوز أن يضيف تعالى ما ذكره عن آل فرعون من ذبح الابناء وغيره الى نفسه وهو قد ذمهم عليه و وبخهم وكيف ويكون ذلك من فعله وهو قدعد تخليصهم منه نعمة عليهم وكان يجب على هذا أن يكون انما تجاهم من فعله تعالى بفعله وهذا مستحيل لا يعقل


[ 25 ]

ولا يحصل على انه يمكن ان يرد قوله ذلكم الى ما جكاه عن آل فرعون من الافعال القبيحة ويكون المعنى ان في تخليته بين هؤلاء بينكم وتركه منعهم من ايقاع هذه الافعال بكم بلاء من ربكم عظيم أي محنة واختيار لكم والوجه الاول أقوى وأولى وعليه جماعة من المفسرين.. وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن في قوله تعالى (في ذلكم بلاء من ربكم عظيم) قال نعمة عظيمة إذا أنجاكم من ذلك وقد روى مثل ذلك عن ابن عباس والسدى ومجاهد وغير هم.. فأما إضافة النجاة إليه وان كانت واقعة بسير هم وفعلهم فلو دل على ما ظنوه لوجب إذا قلنا إن الرسول عليه الصلاة والسلام أنقذنا من الشرك أخرجنا من الضلالة الى الهدى ونجانا من الكفر أن يكون فاعلا لأفعالاو كذلك قد يقول أحدنا لغيره أنا نجيتك من كذاو كذا واستنقذتك وخلصتك ولا يريد انه فعل بنفسه فعله والمعنى في ذلك ظاهر لان ما وقع بتوفيق الله تعالى ودلالته وهدايته ومعونته والطافه قد يصح اضافته إليه فعلى هذا صحت اضافة النجاة إليه تعالى.. ويمكن أيضا أن يكون مضيفا لها إليه تعالى من حيث ثبط عنهم الاعداد وشغلهم عن طلبهم وكل هذا يرجع الى المعونة فتارة تكون بأمر يرجع إليهم وتارة بأمر يرجع الى أعدائهم.. فان قيل كيف يصح أن يقول (واذ أنجينا كم من آل فرعون) فيخاطب بذلك من لم يدرك فرعون ولانجا من شره… قلنا ذلك معروف مشهور في كلام العرب وله نظائر لان العربي قد يقول مفتخرا على غير قتلنا كم يوم عكاظ وهزمنا كم وانما يريد أن قومي فعلوا ذلك بقومك… وقال الاخطل يهجو جرير بن عطية ولقد سمالكم الهذيل فناكم * بإراب حيث نقسم الانفالا في قيلق يدعوا الاراقم لم تكن * فرسانه عزلا ولا أكفالا ولم يلحق جرير الهذيل ولا أدرك اليوم الذى ذكره غير انه لما كان يوم من أيام قوم الاخطل على قوم جرير أضاف الخطاب إليه والى قومه فكذلك خطاب الله تعالى بالاية انما توجهت الى أبناء من نجى من آل فرعون وأحلافهم والمعنى واذ نجبينا آباءكم وأسلافكم والنعمة على السلف نعمة على الخلف… قال الشريف المرتضى رضى الله (4 – المالى رابع)


[ 26 ]

عنه ومن أحسن الشعر في تعود الضيافة والانس بها والاستمرار عليها قول حاتم بن عبد الله الطائى إذاما بخيل الناس هرت كلابه * وشق على الضيف الغرب عقورها فإنى جبان الكلب بيتى موطا * جواد إذ ما النفس شح ضمبرها وإن كلابي مذأ قرب وعودت * قليل على من يعتر ينا هريرها أراد بقوله – على من يعترينا هريرها – انها لا نهر جملة ولذلك نظائر كثيرة (1) ومثله قوله تعالى (فقيلا ما يؤمنون) ومثل قوله فاني جبان الكلب معنا ولفظا قول الشاعر وما يك في من عيب فإنى * جبال الكلب مهزول الفصيل وانما أراد انى أو ثرالضيف بالالبان ففصالي مها زيل… ومثل الفظ والمعنى قول أبى وجرة


(1) قوله ولذلك نظائر.. يريد ان قليلا وقليلة يردان للنفي وهما في ذلك تابعان لقال وأقل يقال قل رجل يقول ذلك الا زيد بالضم وأقل رجل يقول ذلك الازيد معناهما مارجل يقوله الا هو فالقلة فيه للنفي المحض.. وقال ابن جنى لما ضارع المتبدأ حرف النفى بقوا المبتدا بلا خبر.. وقد عقد ابن مالك فصلا في التسهيل لهذه الكلمات ولصه فصل قد يقوم ما يفعل أحد أقل ملازما للابتداء والاضافة الى نكرة موصوفة بصفة مغنية عن الخبر لازم كونها فعلا أو ظرفا وقد تجعل خبرا ولا بد مطابقة فاعلها للنكرة المصاف إليها ويساري أقل المذكور قل رافعا مثل الجرور ويتصل بقل ما كافة عن طلب الفاعل فيلزم في غير ضرورة مباشرتها الافعال وقد يراد بها حينئذ التقليل حقيقة وقد يدل على النفى بقليل وقليلة فقوله ملازما للابتداء أي فلا تقول كان أقل رجل يقول ذلك لأنه لما تاب مناب النفى كان له الصدر كالنفي وشمل قوله نكرة ما يقبل أل كرجل وما لا يقبلها نحو أقل من يقول ذلك والجلمة الواقعة بعده هذه النكرة صفة لها في موضع جر والخبر محذوف أي كائن وليست خبر لمطابقتها النكرة نحو أقل امرأة تقول ذلك.

[ 27 ]

وآل الزبير بنو حرة * مروا بالسيوف الصدور الجنافا يموتون والقتل من دابهم ويغشون يوم السيوف السيافا وأجبن ما صافر كلبهم * وإن نذفته حصاة أضافا يقول ادركوا بسيو فهم ثاراتهم فكأنهم شفوا وغر قلوبهم وأزالوا ما كان فيها من الاحقاد ومعنى مرا – استخرجوا كماتمرى الناقة إذا أردت أن تحليها الندر – والجانف – المنائل.. ثم قال وان مات بعضهم على فراشه فان اكثر هم يموت مقتولا لشجاعتهم واقدامهم فلذلك قال والقتل من دأبهم وجعل كلبهم جبانا الكثرة من يغشاهم ويطهر قهم من النزل والاضياف فقد ألفهم كلابهم وألست بهم فهي لاتنبحهم وقيل أيضا انها لاتهر عليهم لانها تصيب مما ينحر لهم وتشاركم فيه.. ومعنى وان قذفته حصاة اضافا – أي أشفق وهذا تأكيد لجبنه ويقال أضاف الرجل من الامر إذا أشفق منه… ومعنى أجبن من صافر كلبهم قد تقدم ذكره في الامالى.. ومثله في المعنى يغشون حتى ماتهر كلابهم * لا يسألون عن السواد المقبل


[ 1 ] هذا البيت من قصيدة لحسان بن ثابت رضى الله عنه يمدج بها جبلة بن الايهم الغساني وقيل عمرو بن الحارث الاعرج ولكل من الروايتين قصة وعلى انه عمرو قيل ان حسان لما قدم عليه اعتاص وصوله إليه ثم دخل عليه فوجد عنده التابعة الذبيانى وعلقمة الفحل فقال له عمرو يابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع فانى باعث اليك بصلة سنية ولا أحتاج الى الشعر فانى أخاف عليك هذين السبعين ان يفضحاك وفضيحتك فضيحتي وأنت والله لا تحسن أن تقول دقاق النعال طيب حجرتم * يحيون بالريحان يوم السباسب فلما أنشده حسان لم يزل يزحل عن موضعه سرورا وهو يقول هذا وأبيك الشعر لا ما يعلانى به منذ اليوم هذه والله والبتارة التى بترت المدائح هات له يا غلام ألف دينار مرجوحة وهى التى في كل دينار منها عشرة دنانير ثم قال لك على في كل سنة مثلها… المطلع القصيدة

[ 28 ]

وقال المرار بن المنقذ العدوي أعرف الحق ولا أنكره * وكلابي أنس غير عقر لا ترى كلبي إلا آنسا * إن اتى خابط ليل لم يهر كثر الناس فما ينكرهم * من أسيف يبتغى الخير وحز الاسيف العبد هنها… وقال آخر إلى ماجد لا ينبح الكلب صنيفه * ولا يتأداه احتمال المغارم معنى – يتأداه – يثقله وأراد أن يقول يتأوده فقلب…. وقال ابن هرمة وإذا أتانا طارق متنور * بنحت فدلته على كلابي وفرحن إذ أيصرنه فلقينه * يضربنه بشراشر الأذناب (1) وانما تفرح به لأنها قد تعودت إذا انزلت الضيوف أن ينحر لهم فتصيب من قراهم ومثله له ومستنبح تستكشط الريح ثوبه * ليسقط عنه وهو بالثوب معصم عوى في سواد الليل بعد اعتسافه * لينبح كلب أو ليفزع نوم فجاوبه مستسمع الصوف للقرى * لينبح كلب أو ليفزع نوم فجاوبه مستسمع الصوت للقرى * له مع إتيان المهبين مطعم يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا * يكلمه من حبه وهو أعجم أراد بقوله فجاوبه مستسمع الصوت – انه جاوبه كلب – والمهبون – الموقظون له ولا هله وهم الاضياف وانما كان له معهم معطم لأنه ينحر لهم ما يصيب منه.. وأراد بقوله –


أسألت رسم الدار أم لم تسأل * بين الجوابى فالبضيع فحومل ومنها لله در عصابة ناد متهم * دهر ابجلق في الزمان الاول بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الانوف من الطراز الاول (1) شر شر الكلب إذا ضرب بذنبه حركه للا لس

[ 29 ]

يكلمه من حبه وهو أعجم بصبصته وتحريكه ذبنه…. وأما قوله – ليفزع نوم – فانما أراد ليغيث نوم يقال فزعت لفلان إذا أغثته… ومعنى – عوي في سواد الليل – ان العرب تزعم ان سائر الليل إذا أظلم عليه وأدلهم فلم يستبن محجة ولم يدر أين الحى وضع وجهه على الارض وعوى عواء الكلب ليسمع ذلك الصوت الكلاب ان كان الحى قريبا منه فتجيبه الابيات وهذا معنى قوله أيضا ومستنبح أي ينبح الكلاب… وقال الفرزق وداع بلحن الكلب يذعو ودونه * من الليل سجفا ظلمه وغيومها دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا * فتى كإبن ليلى حين غارت نجومها ابن اليلى – يعنى أباه غالبا بعثت له دهماء ليست بلقحة * تدر إذا ماهب نحسا عقمها معنى – بعثت له دهماء – أي رفعتها على أثافيها ويعنى الدهماء القدر – والقحة – الناقة وأراد أن قدره تدر إذا هب الريح عقيما لامطر فيها كأن المحال الغر مي حجراتها * عذاري بدت الما أصيب حميمها أراد أن قطع اللحم فيها لا نستتر بشئ منها كما لا نستتر العذارى اللواتى أصيب حميمهر وظهرن حواسر غضوبا كحيزوم النعامة احمشت * بأجواز خشب زال عنها هشيمها – الا جواز – الاوساط وأوسط الخشب أصلبه وأبقى نارا محضرة لا يجعل الستر دونها * إذا المرضع العوجاء جال برميها – البريم – الحقاب وانما يجول من الهزل والجهد والطوى – العوجاء – التى – قد اعوجت من الطوى… وقال الاخطل في الضيف دعاني بصوت واحد فأجابه * مناد بلاد صوت وآخر صيت ذكر ضيفا عوى بالليل والصدى من الجبل يجيبه فذلك معنى قوله – بصوت واحد –


[ 30 ]

وقوله – فأجابه مناد يعنى نارا رفعها له فرأى سناها فقصدها – والآخر الصيت – الكلب لانه أجاب دعواه… ومثله وسارى ظلام مفقعل وهبوة * دعوت بضوء ساطع فاهتدى ليا يعنى نارا رفعها ليقصده طراق الليل – والمفقعل – المنقبض من شدة البرد.. وأنشد محمد ابن يزيد ومستنبح تهوى مساقط رأسه * إلى كل شخص فهو للصوت أصور جيب إلى كلب الكرام مناخه * بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر دعته بغير اسم هلم إلى القرى * فأسرى يبوع الارض شقراء تزهر (1) معنى – أصور – مائل أراد أنه يميل رأسه إلى كل شخص يتخيل له يظنه إنسانا..


(1) الابيات من قطعة في غاية الحسن أردنا الاتيان بها مرتبة وهي ومستنبح تهوي مساقط رأسه * إلى كل شخص فهو للسمع أصور يصفقه أنف من الريح بارد * ونكباء ليل من جمادي وصرصر حبيب إلى كلب الكريم مناخه * بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر حضأت له نارى فابصر ضوءها * وما كان لولا حضأة النار يبصر دعته بغير اسم هلم الي القرى * فأسرى يبوع الارض والنار تزهر فلما أضاءت شخصه قلت مرحبا * هلم وللصالين بالنار أبشروا فجاء ومحمود القري يستفزه * إليها وداعي الليل بالصبح يصفر تأخرت حتى كدت لم تصطفى القرى * على أهله والحق لا يتأخر وقمت بنصل السيف والبرك هاجد * بهازره والموت بالسيف ينظر فأعضضته الطولي سناما وخيرها * بلاء وخير الخير ما يتخير فأوفضن عنها وهي ترغو حشاشة * بذى نفسها والسيف عريان أحمر فباتت رحاب جونة من لحامها * وفوها بما في جوفها يتغرغر

[ 31 ]

ومعنى – حبيب إلى كلب الكرام – المعنى الذى تقدم.. ومعنى – بغيض إلى الكوماء – إلى الناقة لانها تنحر له.. وقوله – دعته شقراء – بغير اسم يعنى نارا ضوءها فقصدها فكأنها دعته.. وقال ابن هرمة وقد نزل به ضيف فقلت لقيني ارفعاها وحرقا * لعل سنا نارى بآخر تهتف وفى معنى قوله بغيض إلى الكوماء.. قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبيك خيرا إن إبل محمد * عزل تناوح أن تهب شمال وإذا رأين لدى الفناء غريبة * ذرفت لهن من الدموع سجال وترى لها زمن الشتاء على الثرى * رخما وما بحيا لهن فصال أراد أبيك الخير فلما الالف واللام نصب – والعزل – التى لا سلاح معها وسلاح الابل سمنها وأولادها وإنما جعلوا ذلك كالسلاح لها من حيث كان صاحبها إذا رأى سمنها وحسن حسانها ورأى أولادها تتبعها نفس بها على الاضياف فامتنع من نحرها فلما كان ذلك صادا عن الذبح ومانعا منه جرى مجرى السلاح لها فكأنه يقول هذه الابل وإن كانت ذوات سلاح من حيث كانت سخيمة سمينة فهى كالعزل إذ كان سلاحها لا يغنى عنها شيئا ولا يمنع من عقرها.. ومعنى – تناوح – تقابل بعضها بعضا أي هن مدفآت باسنتها وأوبارها لا تبالي بهبوب الشمال ولا يدخل بعضها في بعض من البرد.. وقوله – وإذا رأين لدى الفناء غريبة – أي إذا نزل ضيف فعقل ناقته التي جاء عليها وفى الغريبة علمن أنه سينحر بعضهن لا محالة فلذلك تذرف دموعهن.. وقوله – وترى لها زمن الشتاء على الثرى رخما – فقد قيل فيه إنه أراد به أن يهب فصالهن فتبقى ألبانهن على الارض كهيئة الرخم.. وحكى عن ابن عباس أنه قال الرخم قطع العلق من الدم وعندي أن المعنى غير هذين جميعا وإنما أراد أنها تنحر وتعقر فتسقط الرخم على موضع عقرها وبقايا دمائها وأسلائها فهذا معنى قوله لا ما تقدم.. وقال آخر في معنى سلاح الابل يمدح بنى عوذ بن غالب من عبس


[ 32 ]

جزى الله منى غالبا خير ما جزى * إذا حدثان الدهر نابت نوائبه (1) إذا أخذت بزل المخاض سلاحها * تجرد فيها متلف المال كاسبه أراد أن سمنها وحسنها وتمامها لا يمنعه من عقرها للاضياف.. ومثله إذا البقل في أصلاب شول ابن مسهر * نمى لم يزده البقل إلا تكرما إذا أخذت شول البخيل رماحها * وحى برماح الشول حتى تحطما وقوله – أخذت رماحها – من المعنى المتقدم.. وقال مسكين الدارمي فقمت ولم تأخذ إلى رماحها * عشارى، ولم أرجب عراقبها عقرا – أرجب – أكبر ذلك ولم يعظم على وسمى رجب رجبا من ذلك لانه شهر معظم.. وقالت ليلى الاخيلية ولا تأخذ الكوم الجلاد سلاحها * لتوبة في قر الشتاء الصنابر ومثله لا أخون الصديق ما حفظ العهد * ولا تأخذ السلاح لقاحي وقال النمر بن تولب أزمان لم تأخذ إلى سلاحها * إبلى بجلتها ولا أبكارها أبتزها ألبانها ولحومها * فأهين ذاك لضيفها ولجارها وقال المضرس بن ربعى الاسدي وما نلعن الاضياف إن نزلوا بنا * ولا يمنع الكوماء منا نصيرها


[ 1 ].. ويروى * جزي الله خيرا علبا من عشيرة الخ وبين البيتين بيتان وهما فكم دافعوا من كربة قد تلاحت * على وموج قد علتنى غواربه إذا قلت عودوا عاد كل شمر دل * أشم من الفيتان جزل مواهبه

[ 33 ]

ومعنى – لا نلعنهم – أي لا نبعدهم واللعين البعيد – ونصيرها – ههنا ما يمنع من عقرها من حسن وتمام وولد وما جرى ذلك المجرى والنصير والسلاح في المعنى واحد (مجلس آخر 60) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله).. فقال ما تنكرون أن يكون ظاهر هذه الآية يقتضى أن يكون جميع ما نفعله يشاؤه ويريده لانه تعالى لم يخص شيئا من شئ وهذا بخلاف مذهبكم وليس لكم أن تقولوا إنه خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام خاصة وهو لا يفعل إلا ما يشاء الله تعالى لانه قد يفعل المباح بلا خلاف ويفعل الصغائر عند أكثركم فلابد من أن يكون في أفعاله تعالى ما لا يشاؤه عندكم ولانه أيضا تأديب لنا كما أنه تعليم له عليه الصلاة والسلام ولذلك يحسن منا أن نقول ذلك فيما يفعله.. الجواب قلنا تأويل هذه الآية مبنى على وجهين.. أحدهما أن يجعل حرف الشرط الذى هو إن متعلقا بما يليه وبما هو متعلق به في الظاهر من غير تقدير محذوف ويكون التقدير ولا تقولن إنك تفعل إلا ما يريد الله تعالى وهذا الجواب ذكره الفراء وما رأيته إلا له ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا مع أنه لم يكن متظاهرا بالقول بالعدل وعلى هذا الجواب لا شبهة في الآية ولا سؤال للقوم عليه وفى هذا الوجه ترجيح على غيره من حيث اتبعنا فيه الظاهر ولم نقدر محذوفا وعلى كل جواب مطابق الظاهر ولم يبن على محذوف كان أولى.. والجواب الآخر أن نجعل أن متعلقة بمحذوف ويكون التقدير ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن يشاء الله لان من عاداتهم إضمار القول في مثل هذا الموضع واختصار الكلام إذا طال وكان في الموجود منه دلالة على المفقود وعلى هذا الجواب يحتاج إلى الجواب عما سئلنا عنه فنقول هذا تأديب من الله تعالى لعباده وتعليم لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج من حد القطع ولا شبهة في أن ذلك مختص بالطاعات وأن الافعال (5 – امالي رابع)


[ 34 ]

القبيحة خارجة عنه لان أحدا من المسلمين لا يستحسن أن يقول إنى أزنى غدا إن شاء الله أو أقتل مؤمنا وكلهم يمنع من ذلك أشد المنع فعلم سقوط شبهة من ظن أن الآية عامة في جميع الافعال.. وأما أبو على محمد بن عبد الوهاب فإنه ذكر في تأويل هذه الآية ما نحن ذاكروه بعينه قال إنما عنى بذلك أن من كان لم يعلم أنه يبقى إلى غد حيا فلا يجوز أن يقول إنى سأفعل غدا وكذا وكذا فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدرى لعله سيموت ولا يفعل ما أخبر به لان هذا الخبر إذا لم يوجد مخبره على ما أخبر به فهو كذب وإذا كان المخبر لا يأمن أن لا يوجد مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز أو بعض الامراض أو لا يوجد ذلك بأن يبدو له في ذلك فلا يأمن من أن يكون خبره كذبا في معلوم الله عزوجل وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به ولا يسلم خبره هذا من الكذب إلا بالاستثناء الذى ذكره الله تعالى فإذا قال إنى صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله فاستثنى في مصيره بمشيئة الله تعالى أمن أن يكون خبره في هذا كذبا لان الله تعالى إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا ألجأ إلى ذلك وكان المصير منه لا محالة وإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يكن خبره هذا كذبا وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد لانه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى.. قال وينبغى أن لا يستثنى مشيئة دون مشيئة لانه إن استثنى في ذلك مشيئة الله بمصيره إلى المسجد على وجه التعبد فهو أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا لان الانسان قد يترك كثيرا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده به ولو كان استثناء مشيئة الله لان يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا لانه قد يجوز أن لا يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثنى المشيئة العامة التى ذكرناها فإذا دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا إذا كانت هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة قال وبمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمن حلف فقال والله لاصيرن غدا إلى المسجد إن شاء الله تعالى لانه ان استثنى على سبيل ما بينا لم يجز أن يحنث في يمينه ولو خص استثناءه يمشيئة بعينها ثم كانت ولم يدخل معها إلى المسجد حنث في يمينه.. وقال غير أبى على إن المشيئة المستثناة ههنا هي مشيئة المنع والحيلولة


[ 35 ]

فكأنه قال إن شاء الله يخليني ولا يمنعنى وفى الناس من قال القصد بذلك أن يقف الكلام على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء ولا ينوى في ذلك الجاء ولا غيره وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصري.. واعلم إن للاستثناء الداخل على الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل على الايمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجرى مجراها من الاخبار فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به وإزالته عن الوجه الذى وضع له ولذلك يصير ما تكلم به كأنه لا حكم له ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثنى في الماضي فيقول قد دخلت الدار إن شاء الله ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم وإنما لم يصح دخوله في المعاصي على هذا الوجه لان فيه إظهارا للانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصح ذلك فيها وهذا الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به اللطف والتسهيل.. وهذا الوجه يخص بالطاعات ولهذا الوجه جرى قول القائل لاقضين غدا ما على من الدين ولاصلين غدا إن شاء الله مجرى أن يقول إنى أفعل ذلك إن لطف الله تعالى فيه وسهله فعلم أن المقصد واحد وأنه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا لانه إن لم يقع علمنا أنه لم يلطف له فيه لانه لا لطف له وليس لاحد أن يعترض هذا بأن يقول الطاعات لابد فيها من لطف وذلك لان فيها ما لا لطف فيه جملة فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عنه أنه لا لطف فيه وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية أنه يخص الطاعات والآية تتناول كلما لم يكن قبيحا بدلالة إجماع المسلمين على حسن الاستثناء ما تضمنه في كل فعل لم يكن قبيحا وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به التسهيل والاقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الاحوال وهذا هو المراد به إذا دخل في المباحات وهذا الوجه يمكن في الآية إلا أنه يعترضه ما ذكره أبو على مما حكيناه من كلامه وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا في الكلام وإن لم يرد به في شئ مما تقدم بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شئ من الوجوه المتقدمة وقد يكون هذا الاستثناء غير معتد به في كونه كاذبا أو صادقا لانه في الحكم كأنه قال لافعلن كذا ان وصلت إلى مرادى مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري


[ 36 ]

الحاجة إليه وهذا الوجه أيضا مما يمكن في تأويل الآية.. ومتى تؤمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التى لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم لو كان الله تعالى إنما يريد العبادات من الافعال دون المعاصي لوجب إذا قال من لغيره عليه دين طالبه به والله لاعطينك حقك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل لان الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم وإن كان لم يقع فكان يجب أن تلزمه الكفارة وأن لا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه ولا يخرجه عن كونه حانثا كما أنه لو قال والله لاعطينك حقك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا وفى إلزام هذا الحنث خروج عن إجماع المسلمين فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية وللجواب عن هذه المسألة ونظائرها من المسائل والحمد لله وحده.. [ قال الشريف المرتضي ] رضى الله عنه تأملت ما اشتملت عليه تشبيهات الشعراء فوجدا أكثر ما شبهوا فيه الشئ بالشئ الواحد أو الشيئين بالشيئين وقد تجاوزوا ذلك إلى تشبيه ثلاثة بثلاثة وأربعة بأربعة وهو قليل ولم أجد من تجاوز هذا القدر إلا قطعة مرت بى لابن المعتز فإنها تضمنت تشبيه ستة أشياء بستة أشياء.. فأما تشبيه الواحد بالواحد قول عنترة في وصف الذباب هزجا يحك ذراعه بذراعه * قدح المكب على الزناد الاجذم (1)


(1) – الهزج – تراكب الصوت ومعني – يحك ذراعه بذراعه – يمر احداهما على الاخرى – والاجذم – بالمعجمتين صفة المكب وهو المقطوع اليد شبه الذباب إذا سن احدى ذراعيه بالاخري بأجذم يقدح نارا بذراعيه وهذا من عجيب التشبيه يقال انه لم يقل احد في معناه مثله وقد عده أرباب الادب من التشبيهات العقم وهي التى لم يسبق إليها ولا يقدر أحد عليها مشتق من الريح العقيم وهي التى لا تلقح شجرة ولا تنتج ثمرة وقد شبه بعضهم من يفرك يديه ندامة بفعل الذباب وزاد اللطم فقل فعل الاديب إذا خلا بهمومه * فعل الذباب يزن عند فراغه فتراه يفرك راحتيه ندامة * منها ويتبعها بلطم دماغه وتعرض حازم في مقصورته لتشبيه عنترة بقوله

[ 37 ]

أي الاسرع.. ومثله قول عدى بن الرقاع تزجى أغن كأن إبرة روقه * قلم أصاب من الدواة مدادها ومثله قول امرئ القيس كأن عيون الوحش حول قبابنا * وأرحلنا الجزع الذى لم يثقب (1) وقوله إذا ما الثريا في السماء تعرضت * تعرض أثناه الوشاح المفصل ولذي الرمة


ألقى ذراعا فوق أخرى وحكى * تكلف الاجذم في قطع السنا كأنما النور الذي يفرعه * مقتدحا لزنده سقط ورى فقصر عنه التقصير البين وأخل بذكر الاكباب والحك (1) الرواية المعلومة خبائنا بدل قبابنا والمعنى متقارب.. قال الاصمعي الظبي والبقرة إذا كانا حيين فعيونهما كلها سود فإذا ماتا بدا بياضهما وانما شبههما بالجزع وفيه سواد وبياض بعد ما موتت والمراد كثرة الصيد يعنى مما أكلناه كثرت العيون عندنا وبه يتبين بطلان ما قيل ان المراد انها قد أطالت مسايرتهم حتى ألفت الوحوش رحالهم وأخبيتهم.. وقوله – الجزع – هو بفتح الجيم وتكسر الخرز اليماني الصينى فيه سواد وبياض تشبه به عيون الوحش لكنه اتى بقوله لم يثقب ايغالا وتحقيقا للتشبيه لان الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.. والبيت من قصيدته المشهورة التى قالها في معارضته لقصيدة علقمة الفحل ومطلعها خليلي مرابي على أم جندب * نقضى لبانات الفؤاد المعذب ومطلع قصيدة علقمة ذهبت من الهجران في غير مذهب * ولم يك حقا كل هذا التجنب وتحكيمهما لام جندب امرأة امرئ القيس وحكمها لعلقمة وطلاق امرئ القيس اياها وتزويج علقمة لها كله مشهور فلا نطيل به

[ 38 ]

وردت اعتسافا والثريا كأنها * على قمة الرأس ابن ماء محلق وهذا الباب أكثر من أن يحصى.. فأما تشبيه شيئين بشيئين فمثل قو امرئ القيس يصف عقابا كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالى (1) وقوله وكشح لطيف كالجديل مخصر * وساق كأنبوب السقى المذلل ولبشار كأن مثار النقع فوق رؤسنا * وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (2)


(1) البيت من شواهد التلخيص والشاهد فيه التشبيه المكفوف وهو أن يؤتي على طريق العطف أو غيره بالمشبهات أو لاثم بالمشبه بها فهنا شبه الرطب الطري من قلوب الطير بالعناب واليابس العتيق منها بالحشف البالى إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتد بها ويقصد تشبيهها ولذا قال الشيخ عبدالقاهر انه انما يتضمن الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه لا إن للجمع فائدة في عين التشبيه.. والبيت من قصيدته المشهورة التي مطلعها الأعم صباحا أيها الطلل البالى * وهل يعمن من كان في العصر الخالى (2) – النقع – الغبار.. ومعنى – تهاوى كواكبه – يتساقط بعضها في أثر بعض والاصل تتهاوى فحذفت احدي التاءين والبيت من شواهد البيان والشاهد فيه المركب الحسى في التشبيه الذي طرفاه مركبان الحاصل من الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة مستطيعة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شئ مظلم فوجه التشبيه مركب كما ترى وكذا طرفاه كما في أسرار البلاغة يروى انه قيل لبشار وقد أنشد هذا البيت ما قيل أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شئ منها فقال ان عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الاشياء فيتوفر حسه وتذكو قرعيته وأنشدهم قوله

[ 39 ]

ولآخر كأن سمو النقع والبيض حوله * سماوة ليل أسفرت عن كواكب وقول أبى نواس كأن صغرى وكبرى من فقاقعها * حصباء در على أرض من الذهب (1) ولآخر


عميت جنينا والذكاء من العمى * فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاض ضياء العين للعلم رافدا * لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا وشعر كنور الروض لاءمت بينه * بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا ويحكى أنه قال لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت واحد حيث يقول كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالى اعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين حتى قلت كأن مثار النقع البيت وهو من قصيدة يمدح بها ابن هبيرة وأولها جفاوده فازرأ ومل صاحبه * وأزري به أن لا يزال يعاتبه ومنها إذا كنت في كل الامور معاتبا * صديقك لم تلق الذى لا تعاتبه فعش واحدا أوصل أخاك فانه * مقارب ذنب مرة ومجانبه وهي طويلة فوصله ابن هبيرة بعشرة آلاف درهم وكانت أول عطية سنية أعطيها بشار بالشعر ورفعت من ذكره (1) قوله كأن صغرى وكبرى الخ.. قد قيل انه لحن لان اسم التفضيل إذا كان مجردا من أل والاضافة يجب أن يكون مفردا مذكرا دائما فتأنيثه لحن كما في البيت المذكور وقد اعتذروا عن هذا بأن أفعل العارى إذا كان مجردا عن معنى التفضيل جاز جمعه فإذا جاز جمعه جاز تأنيثه.. والفقاقيع هي النفاخات التى تعلو الماء أو الخمر وقال يس المحفوظ في البيت من فواقعها بالواو قلت وفي ديوانه فواقعها

[ 40 ]

إن الشمول هي التى * جمعت لاهل الود شملا شبهتها وحبابها * بشقائق يحملن طلا ولآخر أبصرته والكأس بين فم * منه وبين أنامل خمس فكأنها وكأن شاربها * قمر يقبل عارض الشمس ولآخر حتى إذا خليت في الكأس خلت بها * عقيقة جليت في قشر بلور تعلى إذا مزجت في كأسها حببا * كأنه عرق في خد مخمور وقال البحترى شقائق يحملن الندى فكأنه * دموع التصابى في خدود الخرائد وقال آخر فكأن الربيع يجلو عروسا * وكأنا من قطرة في نثار ولابي العباس الناشئ كأن الدموع على خدها * بقية طل علي جلنار وقال ابن الرومي وأحسن لو كنت يوم الفراق حاضرنا * وهن يطفئن غلة الوجد لم تر إلا الدموع سافحة * تسفح من مقلة على خد كأن تلك الدموع قطر ندى * يقطر من نرجس على ورد وقال جران العود أبيت كأن الليل أفنان سدرة * عليها سقيط من ندى الطل ينطف


[ 41 ]

أراقب لمحا من سهيل كأنه * إذا ما بدا في آخر الليل يطرف ولابن المعتز سقتني في ليل شبيه بثغرها * شبيهة خديها بغير رقيب فامسيت في ليلين بالشعر والدجى * وشمسين من خمر ووجه حبيب وقال المتنبي نشرت ثلاث ذوائب من شعرها * في ليلة فأرت ليالى أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها * فأرتنى القمرين في وقت معا فأما تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء.. فمثل قول مانى الموسوس نشرت غدائر شعرها لتظلني * خوف العيون من الوشاة الرمق فكأنه وكأنها وكأنني * صبحان باتا تحت ليل مطبق ولبعضهم روض وزد خلاله نرجس * غض يحفان أقحوانا نضيرا ذا يباهى لنا خدودا وذا يحكى * عيونا وذا يضاهى ثغورا ولآخر في النرجس مداهن تبر بين أوراق فضة * لها عمد مخروطة من زبرجد وللبحتري في وصف ضمر المطايا ونحو لها كالقسى المعطفات بل الاسهم * مبزية بل الاوتار


(1) البيت من شواهد التلخيص والشاهد فيه مراعاة النظير وسمى التناسب والتوافق والائتلاف والمؤاخاة وهو جمع أمر وما يناسبه من الغاء التضاد لتخرج المطابقة فهو هنا قصد المناسبة بالاسهم والاوتار لما تقدم من ذكر القسى وهذه المناسبة هنا معنوية لا لفظية (6 – امالي رابع)

[ 42 ]

ولبعض الطالبيين وأنا ابن معتلج البطاح إذا غدا * غيرى وراح على متون ظواهر يفتر عنى ركنها وحطيمها * كالجفن يفتح عن سواد الناظر كجبالها شرفي ومثل سهولها * خلقي ومثل ظبائهن مجاوري وأما تشبيه أربعة بأربعة.. فمثل قول امرئ القيس له أيطلا ظبى وساقا نعامة * وإرخاء سرحان وتقريب تتفل ولآخر كف تناول راحها بزجاجة * خضراء تقذف بالحباب وتزبد فالكف عاج والحباب لآلي * والراح تبر والاناء زبرجد ولبعضهم وقد أهدى إليه نرجس وأقحوان وشقائق وآس فكتب إلى المهدى لله ما أظرف أخلاقك * يا بدر الكرم أهديت ما ناسبتها * حسنا وظرفا وشيم فما رأينا مهديا * قبلك في كل الامم أهدى العيون والثغور * والخدود واللمم ولآخر


(1) – معتلج البطاح – بطن مكة يقول أنا من قريش البطاح إذا غدا غيري وراح على متون ظواهرها.. وقريش ثلاثة أقسام قسم ينزل بطاح مكة وهم أشرفهم منهم بنو هاشم وبنو أمية وغيرهم من سادات قريش وهم صميم قريش والقسم الثاني قريش الظواهر وهم الذين لم تسعهم الاباطح وقسم ثالث ليسوا من أهل الظواهر ولا الاباطح والكل قبائل

[ 43 ]

أفدى حبيبا له بدائع أو * صاف تعالت عن كل ما أصف كالبدر يعلو والشمس تشرق والغزال * يعطو والغصن ينعطف والمتنبي بدت قمرا ومالت خوط بان * وفاحت عنبرا ورنت غزالا ولآخر سفرن بدورا وانتقبن أهلة * ومسن غصونا والتفتن جا ذرا (1) وأما تشبيه خمسة بخمسة.. فقول الواوا الدمشقي، وهو أبو الفرج وأسبلت لؤلوء من نرجس وسقت * وردا وعضت على العناب بالبرد وأما تشبيه ستة بستة فلم أجده إلا لابن المعتز في قوله بذر وليل وغصن * وجه وشعر وقد خمر ودر ووزد * ريق وثغر وخد (مجلس آخر 61) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).. فقال كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة بالدعاء بذلك وعندكم أن النسيان من فعله تعالى فلا تكليف على الناسي في حال نسيانه وهذا يقتضى أحد أمرين إما أن يكون النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس أو تكون متعبدين بمسئلته تعالى ما نعلم أنه واقع حاصل لان مؤاخذة الناسي مأمونة منه تعالى والقول في الخطأ إذ أريد به ما وقع سهوا أو من غير عمد يجرى هذا المجرى.. الجواب قلنا قد قيل في هذه الآية المراد


(1) وقبله وملتفتات في النقاب كأنما * هززن سيوفا وانتضين خناجرا

[ 44 ]

تنسياننا تركنا قال أبو على قطرب بن المستنير معنى النسيان ههنا الترك كما قال تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى) أي ترك ولولا ذلك لم يكن فعله معصية وكقوله تعالى (نسوا الله فنسيهم) أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته وقد يقول الرجل لصاحبه لا تنسنى من عطيتك أي لا تتركني منها وأنشد ابن عرفة ولم أك عند الجود للجود قاليا * ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا أي تاركا.. ومما يمكن أن يكون على ذلك شاهدا قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) أي تتركون أنفسكم.. ويمكن في الآية وجه آخر على أن يحمل النسيان على السهو وفقد المعلوم ويكون وجه الدعاء بذلك ما قد بيناه فيما تقدم من الامالى من أنه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسئلته والاستعانة به وإن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله ويجرى مجرى قوله تعالى في تعليمنا وتأديبنا (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) ومجرى قوله تعالى (قل رب احكم بالحق. ولا تخزني يوم يبعثون) وقوله تعالى حاكيا عن الملائكة (فاغفر للذين تابوا) الآية وهذا الوجه يمكن أيضا في قوله تعالى أو أخطأنا إذا كان الخطأ ما وقع سهوا أو غير عمد فأما على ما يطابق الوجه الاول فقد يجوز أن يريد تعالى بالخطأ ما يفعل من المعاصي بالتأويل السيئ وعن الجهل بأنها معاص لان من قصد شيئا على اعتقاد أنه بصفة فوقع ما هو بخلاف معتقده يقال قد أخطأ فكأنه أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه متعمدين من غير سهو ولا تأويل ومما أقدموا عليه مخطئين متأولين.. ويمكن أيضا أن يريد بأخطأنا ههنا أذنبنا أو فعلنا قبيحا وإن كنا له متعمدين وبه عالمين لان جميع معاصينا لله تعالى قد توصف بأنها خطأ من حيث فارقت الصواب وإن كان فاعلها متعمدا فكأنه تعالى أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه من الواجبات ومما فعلوه من المقبحات ليشتمل الكلام على جهتى الذنوب والله أعلم بمراده.. أخبرنا أبو عبيدالله المرزبانى قال أخبرنا محمد بن العباس قال قال رجل يوما لابي العباس محمد ابن يزيد النحوي ما أعرف ضادية أحسن من ضادية أبى الشيص فقال له كم ضادية حسنة لا تعرفها ثم أنشده لبشار


[ 45 ]

غمض الحديد بصاحبيك فغمضا * وبقيت تطلب في الحبالة منهضا وكأن قلبى عند كل مصيبة * عظم تكرر صدعه فتهيضا وأخ سلوت له فأذكره أخ * فمضى وتذكرك الحوادث ما مضى فاشرب على تلف الاحبة إننا * جزر المنية ظاعنين وحفضا ولقد جريت مع الصبا طلق الصبا * ثم ارعويت فلم أجد لى مركضا وعلمت ما علم امرؤ في دهره * فأطعت عذالى وأعطيت الرضا وصحوت من سكر وكنت موكلا * أرعى الحمامة والغراب الابيضا – الحمامة – المرآة – والغراب الابيض – الشعر الشائب.. فيقول كنت كثيرا أتعهد نفسي بالنظر في المرآة وترجيل الشعر.. وقوله – والغراب الابيض – لان الشعر كان غريبا أسود من حيث كان شابا ثم ابيض بالشيب ما كل بارقة تجود بمائها * ولربما صدق الربيع فروضا هكذا أنشده المبرد ويحيى بن على وأنشده ابن الاعرابي ما كل بارقة تجود بمائها * وكذاك صدق الربيع لروضا قد ذقت الفته وذقت فراقه * فوجدت ذا عسلا وذا جمر الغضا يا ليت شعرى فيم كان صدوده * ءأسأت أم رعد السحاب وأومضا وغير من ذكرنا يرويه – أم أجم الخلال فأحمضا – ويلى عليه وويلتى من بينه * ما كان الا كالخضاب فقد نضا سبحان من كتب الشقاء لذى الهوى * كان الذى قد كان حكما فانقضا قال المبرد وهى طويلة.. وذكر يوسف بن على بن يحيى عن أبيه أن أبا نواس أخذ قوله


[ 46 ]

جريت مع الصبا طلق الجموح (1) من قول بشار ولقد جريت مع الصبا طلق الصبا [ قال الشريف المرتضى ].. رضى الله عنه ولابي تمام والبحتري على هذا الوزن والقافية وحركة القافية قصيدتان إن لم يزيدا على ضادية بشار التى استحسنها المبرد لم يقصرا عنها وأول قصيدة أبى تمام أهلوك أضحوا شاخصا ومقوضا * ومزمما يصف النوى ومعرضا إن يدج ليلك أنهم أموا اللوى * فبما إضاؤهم على ذات الاضا بدلت من برق الثغور وبردها * برقا إذا ظعن الاحبة أومضا يقول فيها ما أنصف الشرخ الذى بعث الهوى * فقضى عليك بلوعة ثم انقضى عندي من الايام ما لو أنه * أضحى بشارب مرقد ما غمضا


(1) هو أول أبيات وتمامه * وهان على مأثور القبيح * وبعده وجدت الذعارية الليالى * قران النغم بالوتر الفصيح ومسمعة إذا ما شئت غنت * متى كالن الخيام بذى طلوح تمتع من شباب ليس يبقى * وصل بعري الغبوق عرى الصبوح وخذها من معتقة كميت * تنزل درة الرجل الشحيح تخيرها لكسرى رائدوه * لها حظان من طعم وريح ألم ترنى أبحت الراح عرضى * وعض مراشف الظبي المليح واني عالم أن سوف تنأى * مسافة بين جثماني وروحي وقال أبو العتاهية لقد جمع بين هذين البيتين يعني قوله جريت مع الصبا الخ وقوله واني عالم الخ خلاعة ومجونا واحسانا وعظة وكان أبو العتاهية أنشدهما دون غيرهما

[ 47 ]

لا تطلبن الرزق بعد شماسه * فترومه سبعا إذا ما غيضا ما عوض الصبر امرو إلا رأى * ما فاته دون الذى قد عوضا يا أحمد بن أبى دؤاد دعوة * ذلت بذكرك لى وكانت ريضا لما انتضيتك للخطوب كفيتها * والسيف لا يرضيك حتى ينتضى قد كان صوح نبت كل قرارة * حتى تروح في نداك فروضا أوردتني العد الخسيف وقذ أرى * أتبرض الثمد البكى تبرضا وأما قصيدة البحترى فأولها ترك السواد للابسية وبيضا * ونضا من الستين عنه ما نضا وسباه أغيد في تصرف لحظة * مرض أعل به القلوب وأمرضا وكأنه وجد الصبا وجديدة * دينا دنا ميقاته أن يقتضى أسيان أثرى من جوى وصبابة * وأساف من وصل الحسان وأنفضا (1) كلف يكفكف عبرة مهراقة * أسفا على عهد الشباب وما انقضى عدد تكامل للشباب مجيئة * وإذا مضى الشئ حان فقد مضي يقول فيها قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم * ونذيره من فاضل أن ينتضى


(1) – الجوى – والحزن الصبابة والشوق – وأساف – ذهب غرامه مأخوذ من قولهم أساف الرجل ذهب ماله والاسم السواف بالضم وقال أبو عمرو انه بالفتح ولم يقع ذلك لغيره والصواب الاول لان فعال بالضم مطرد فيما يدل على الداء كالرعاف والزكام – وانفض – خلا وهذا من عطف الشئ على مرادفه.. المعنى يستوى ان كثر غرامه وأخلا منه

[ 48 ]

وكفاك من حنش الصريم تهددا * أن مد فضل لسانه أو نضنضا وفيها لا تنكرن من جار بيتك أن طوى * أطناب جانب بيته أو قوضا فالارض واسعة لنقلة راغب * عمن تنقل وده وتنقضا لا تبتهل إغضاى إما كنت قد * أغضيت مشتملا على جمر الغضا لست الذى إن عارضته ملمة * أصغى إلى حكم الزمان وفوضا لا يستقر ني الطفيف ولا أرى * تبعا لبارق خلب إن أومضا أنا من أحب تجاربا وكأنني * فيما أعاين منك ممن أبغضا أغببت سيبك كى يجم وإنما * غمد الحسام المشرفى لينتضى وسكت إلا أن أعرض قائلا * نزرا وصرح جهده من عرضا.. وأخبرنا أبو عبيدالله المرزبانى قال حدثنى يوسف بن يحيى بن على عن أبيه قال من مختار شعر بشار قوله في وصف الزمان عتبت على الزمان وأى حى * من الاحياء أعتبه الزمان وآمنة من الحدثان تزرى * على وليس من حدث أمان وليس بزائل يرمى ويرمى * معان مرة أو مستعان متى تأب الكرامة من كريم * فمالك عنده إلا الهوان وله في نحوه يا خليلي أصيبا إو ذرا * ليس كل البرق يهدى المطرا لا تكونا كامرئ صاحبته * يترك العين ويبغى الاثرا


[ 49 ]

ذهب المعروف إلا ذكره * ربما أبكى الفتى ما ذكرا وبقينا في زمان معضل * يشرب الصفو ويبقى الكدرا قال وله قد أدرك الحاجة ممنوعة * وتولع النفس بما لا تنال والهم ما امسكته في الحشا * داء وبعض الداء لا يستقال فاحتمل الهم على عاتق * إن لم تساعفك العلندى الجلال قال يحيى قوله – عاتق – يعنى الخمر وهذا مثل قوله لما رأيت الحظ حظ الجاهل * ولم أر المغبون غير العاقل رحلت عنسا من شراب بابل * فبت من عقلي على مراحل [ قال الشريف المرتضي ] رضى الله عنه هذا الذى ذكره يحتمله البيت على استكراه ويحتمل أيضا أن يريد بالعاتق العضو ويكون المعنى إن لم تجد من بحمل عنك همومك ويقوم بأثقالك ويخفف عنك فتحمل ذلك أنت بنفسك واصبر عليه فكأنه يأمر نفسه بالتجلد والتصبر على البأس وهذا البيت له نظائر كثيرة في الشعر.. وأخبرنا المرزبانى قال حدثنا على بن هارون قال حدثني أبى قال من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية قال على وما في الدنيا شئ لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء واستحسانه مثل هذه الابيات ورائحة للعين فيها مخيلة * إذا برقت لم تسق بطن صعيد من المستهلات الهموم على الفتى * خفا برقها في عصفر وعقود حسدت عليها كل شئ يمسها * وما كنت لولا حبها بحسود وأصفر مثل الزعفران شربته * على صوت صفراء الترائب رود كأن أميرا جالسا في ثيابها * تؤمل رؤياه عيون وفود


[ 50 ]

من البيض لم تسرح على أهل ثلة * سواما ولم ترفع حداج قعود تميت به ألبابنا وقلوبنا * مرارا وتحييهن بعد همود (1) إذا انطقت صحنا وصاح لنا الصدى * صياح جنود وجهت لجنود ظللنا بذاك الديدن اليوم كله * كأنا من الفردوس تحت خلود ولا بأس إلا أننا عند أهلنا * شهود وما ألبابنا بشهود قال وأنشدني أبى له في وصف مغنية لعمر أبى زوارها الصيد إنهم * لفى منظر منها وحسن سماع تصلى لها آذاننا وعيوننا * إذا ما التقينا القلوب دواعى وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش * ببؤس ولم تركب مطية راعى إذا اقلدت أطرافها زلزلت * قلوبا دعاها للوساوس داعى كأنهم في جنة قد تلاحقت * محاسنها من روضة وبقاع يروحون من تغريدها وحديثها * نشاوى وما تسقيهم بصواع لعوب بالباب الرجال وإن دنت * أطيع التقى والغي غير مطاع قال على بن هارون – الصواع – المكيال يقول إذا غنت شربوا جزافا بلا كيل ولا وزن من حسن ما يسمعون.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه هذا خطأ منه وإنما أراد أنما غناؤها لفرط حسنه وشدة إطرابه ينسيان شرة الخمر وإن لم يكن هناك شرب


(1) قوله – تميت به ألبابنا وقلوبنا – إلى آخره ظاهر القاموس ان مضارع مات مثلث وليس كذلك والضم انما هو في الواوي كقال يقول والكسر انما هو في اليائى كيبيع في باع وهي لغة مرجوحة آثرها جماعة والفتح انما هو في المكسور الماضي كعلم يعلم ونظيره من المعتل خاف يخاف خوفا

[ 51 ]

بصواع وهذا يجرى مجرى قول الشاعر ويوم ظللنا عند أم محلم * نشاوى ولم نشرب طلاء ولا خمرا وما كان عندي أن أحد يتوهم في معنى هذا البيت ما ظنه هذا الرجل.. وأما قوله في القطعة الاولى وأصفر مثل الزعفران شربته البيت فيحتمل وجوها ثلاثة أولها أن يكون أراد بصفرة ترائبها الكناية عن كثرة تطيبها وتضمخها وأن ترائبها صفر لذلك كما قال الاعشى بيضاء ضحوتها وصفراء * العشية كالعرار – والعرار – بهار البر وإنما أراد أنها تتضمخ بالعشى بالطيب فيصفرها ومثله لذى الرمة بيضاء في دعج كحلاء في برج * كأنها فضة قد مسها ذهب وقيل في بيت قيس بن الخطيم فرأيت مثل الشمس عند طلوعها * في الحسن أو كدنوها لغروب صفراء أعجلها الشباب لداتها * موسومة بالحسن غير قطوب أي انها سبقت أقرانها.. ومثله قول ابن الرقيات لم تلتفت للداتها * فمضت على غلوائها (1)


(1) – البيت من جملة أبيات يقولها في أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوج الوليد بن عبد الملك وهي أصحوت عن أم البنين وذكرها وعنائها وهجرتها هجر امرئ * لم يقل صفو صفائها من خيفة الاعداء أن * يوهوا أديم صفائها قرشية كالشمس أشرق * نورها ببهائها

[ 52 ]

وجهان.. أحدهما انه أراد انها تتطيب بالعنبر فتصفر لان الشمس تغيب صفراء الوجه.. والآخر أراد المبالغة في الحسن لان الشمس أحسن ما تكون في وقتيها هذين ومن ذلك قول قيس بن الخطيم صفراء أعجلها الشباب لداتها ومثله للاعشى إذا جردت يوما حسبت خميصة * عليها وجريال النضير الدلا مصا – الخميصة – ثوب ناعم لين ناعم شبه به نعومة جسمها – والنضير – الذهب – والجريال – كل صبغ أحمر وإنما يعنى لون الطيب عليها – والدلامص – البراق فهذا وجه.. والوجه الثاني أن يكون أراد بوصفها بالصفرة رقة لونها فعندهم أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة ضرب لونها بالعشى إلى الصفرة.. قال على بن مهدى الاصفهانى قال لى أبى قال لى الجاحظ زعموا أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة يضرب لونها بالغداة إلى البياض وبالعشي إلى الصفرة واحتج في ذلك بقول الراجز قد علمت بيضاء صفراء الاصل


زادت على البيض الحسان * بحسنها ونقائها لما أسبكرت للشبا * ب وقنعت بردائها لم تلتفت للداتها * ومضت على غلوائها لولا هوي أم البنين * وحاجتي للقائها قد قربت لى بغلة * محبوسة لنجائها ومعنى – مضت على غلوائها – أي مضت على أول شبابها يقال فعل ذلك في غلواء شبابه أي في أوله.. قال الاعشى إلا كنا شرة الذى ضيعتم * كالغصن في غلوائه المتنبت وقيل الغلواء سرعة الشباب وحقيقته من الغلو وهو الارتفاع والتحدد ويقال مضي الرجل على غلوائه إذا ركب أمره وبلغ فيه غايته

[ 53 ]

وزعم أن بيت ذى الرمة الذى أنشدناه من هذا المعنى وكذلك بيت الاعشى الذى أنشدناه والابيات محتملة للامرين فأما البيت الذى لا يحتمل إلا وجها واحدا فهو قول الشاعر وقد خنقتها عبرة فدموعها * على خدها حمر وفى نحرها صفر فأنها لا تكون صفرا في نحرها إلا لاجل الطيب.. فأما قوله – على خدها حمر – فإنما أراد أنها تنصبغ بلون خدها.. والوجه الثالث أن تكون المرأة كانت صفراء على الحقيقة فإن بشارا كثيرا ما يشبب بامرأة صفراء كقوله أصفراء لا أنسى هواك ولا ودى * ولا ما مضى بينى وبينك من عهد لقد كان ما بينى زمانا وبينها * كما كان بين المسك والعنبر الورد أي كما كان بين طيب المسك والعنبر وكقوله أصفراء كان الود منك مباحا * ليالى كان الهجر منك مزاحا وكان جواري الحى إذ كنت فيهم * قباحا فلما غبت صرن ملاحا وقد روى – ملاحا فلما غبت صرن قباحا – وقوله قباحا فلما غبت يشبه قول السيد بن محمد الحميرى وإذا حضرن مع الملاح بمجلس * أبصرتهن وما قبحن قباحا فأما قوله – من البيض لم تسرح سواما – فانه لا يكون مناقضا لقوله صفراء وإن أراد بالصفرة لونها لان البياض ههنا ليس بعبارة عن اللون وإنما هو عبارة عن نقاء العرض وسلامته من الادناس والعرب لا تكاد تستعمل البياض إلا في هذا المعنى دون اللون لان البياض عندهم البرص ويقولون في الابيض الاحمر ومنه قول الشاعر جاءت به بيضاء تحمله * من عبد شمس صلتة الخد ومثله بيض الوجوه.. فأما قول بشار في القطعة الثانية – وصفراء مثل الخيزرانة – فإنه يحتمل ما تقدم من الوجوه، وإن كان اللون الحقيقي خص بقوله كالخيزرانة لان الخيزران يضرب إلى الصفرة ويحتمل أيضا أن يريد بصفراء غير اللون الثابت ويكون قوله كالخيزرانة


[ 54 ]

أنها مثلها في التثنى والتعطف.. ولقد أحسن جران العود في قوله في المعنى الذى تقدم كأن سبيكة صفراء صبت * عليها ثم ليث بها الازار برود العارضين كأن فاها * بعيد النوم مسك مستثار (مجلس آخر 62) [ تأويل آية ].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).. فقال كيف أضاف الاستهزاء إليه تعالى وهو مما لا يجوز في الحقيقة عليه وكيف خبر بأنه يمدهم في الطغيان والعمه وذلك بخلاف مذهبكم.. الجواب قلنا في قوله تعالى (الله يستهزئ بهم) وجوه.. أولها أن يكون معنى الاستهزاء الذى أضافه تعالى إلى نفسه تجهيله لهم وتخطئنه إياهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال وسمى الله تعالى ذلك استهزاء مجازا واتساعا كما يقول القائل إن فلانا ليستهزأ به منذ اليوم إذا فعل فعلا عابه الناس به وخطؤوه فأقيم عيب الناس على ذلك الفعل وازراؤهم على فاعله مقام الاستهزاء به وإنما أقيم مقامه لتقارب ما بينهما في المعنى لان الاستهزاء الحقيقي هو ما يقصد به إلى عيب المستهزأ به والازراء عليه وإذا تضمنت التخطئة والتجهيل والتبكيت هذا المعنى جاز أن يجرى اسم الاستهزاء عليه ويشهد بذلك قوله تعالى (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) ونحن نعلم أن الآيات لا يصح عليها الاستهزاء ولا السخرية في الحقيقة وإنما المعنى إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويزري عليها والعرب قد تقيم الشئ مقام ما قاربه في معناه فتجرى عليه اسمه.. قال الشاعر كم من أناس في نعيم عمروا * في ذرى ملك تعالى فبسق سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق والسكوت والنطق على الحقيقة لا يجوزان على الدهر وإنما شبه تركه الحال على ما هي عليه بالسكوت وشبه تغييره لها بالنطق وأنشد الفراء


[ 55 ]

إن دهرا يلف شملى بجمل * لزمان يهم بالاحسان ومثل ذلك في الاستعارة لتقارب المعنى سألتنى عن أناس هلكوا * شرب الدهر عليهم وأكل وإنما أراد بالاكل والشرب الافساد لهم والتغيير لاحوالهم.. ومثله يقر بعينى أن أرى باب دارها * وإن كان باب الدار يحسبنى جلدا.. والجواب الثاني أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون ولا يشعرون.. ويروى عن ابن عباس أنه قال في معنى استدراجه إياهم إنهم كانوا كلما أحدثوا خطيئة جدد لهم نعمة وإنما سمى هذا الفعل استهزاء من حيث غيب تعالى عنهم من الاستدراج إلى الهلاك غير ما أظهر لهم من النعم كما أن المستهزئ منا المخادع لغيره يضمر أمرا ويظهر غيره.. فإن قيل على هذا الجواب فالمسألة قائمة وأى وجه لان يستدرجهم بالنعمة إلى الهلاك.. قلنا ليس الهلاك ههنا هو الكفر وما أشبهه من المعاصي التى يستحق بها العقاب وإنما استدرجهم إلى الضرر والعقاب الذى استحقوه بما تقدم من كفرهم ولله تعالى أن يعاقب المستحق بما شاء أي وقت شاء فكأنه تعالى قال كفروا وبدلوا نعمة الله وعاندوا رسله لم يغير نعمه عليهم في الدنيا بل أبقاها لتكون متى نزعها عنهم وأبدلهم بها نقما تكون الحسرة منهم أعظم والضرر عليهم أكثر.. فان قيل فهذا يؤدى إلى تجويز أن يكون بعض ما ظاهرها ظاهر النعمة على الكفار مما لا يستحق الله به الشكر عليهم.. قلنا ليس يمتنع هذا فيمن استحق العقاب وإنما المنكر أن تكون النعم المبتدأة بهذه الصفة على ما يلزم مخالفينا ألا ترى أن الحياة وما جرى مجراها من حفظ التركيب والصحة لا يعد على أهل النار نعمة وإن كان على أهل الجنة نعمة من حيث كان الغرض فيه إيصال العقاب إليهم.. والجواب الثالث أن يكون معنى استهزائه تعالى بهم أن جعل لهم بما أظهروا من موافقة أهل الايمان ظاهر أحكامهم من نظره ومناكحة ومواريثه وموافقة وغير ذلك من الاحكام وإن كان تعالى معدا لهم في الآخرة أليم العقاب لما أبطنوه من النفاق واستهزؤا به من الكفر فكأنه تعالى قال إن كنتم أيها


[ 56 ]

المفقون بما تظهرونه للمؤمنين من المتابعة والموافقة وتبطنونه من النفاق وتطلعون عليه شياطينكم إذا خلوتم بهم تظنون أنكم مستهزؤن فالله تعالى هو المستهزئ بكم من حيث جعل لكم أحكام المؤمنين ظاهرا حتى ظنلتم أن لكم ما لهم ثم ميز تعالى بينكم في الآخرة ودار الجزاء من حيث أناب المخلصين الذين يوافق ظواهرهم بواطنهم وعاقب المنافقين وهذا الجواب يقرب معناه من الجواب الثاني وإن كان بينهما خلاف من بعض الوجوه.. والجواب الرابع أن يكون معنى ذلك أن الله هو الذى يرد استهزاء كم ومكركم عليكم وأن ضرر ما فعلتموه لم يتعدكم ولم يحط بسواكم ونظير ذلك قول القائل إن فلانا أراد أن يخدعني فخدعته وقصد إلى أن يمكر بى فمكرت به والمعنى أن ضرر خداعه ومكره عائد إليه ولم يضرنى به.. والجواب الخامس أن يكون المعنى أنه يجازبهم على استهزائهم فسما الجزاء على الذنب باسم الذنب والعرب تسمى الجزاء على الفعل باسمه قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) الآية وقال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والمبتدأ ليس بعقوبة.. وقال الشاعر إلا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا (1) ومن شأن العرب أن تسمى الشئ باسم ما يقاربه ويصاحبه ويشتد اختصاصه به وتعلقه به إذا انكشف المعنى وأمن الابهام وربما غلبوا أيضا اسم أحد الشيئين على الآخر لقوة التعلق بينهما وشدة الاختصاص فيهم فمثال الاول قولهم للبعير الذى يحمل المزادة راوية وللمزادة المحمولة على البعير رواية فسموا البعير باسم ما يحمل عليه.. قال الشاعر مشى الروايا بالمزاد الاثقل أراد الروايا الابل ومن ذلك قولهم صرعته الكأس فاستلبت عقله.. قال الشاعر وما زالت الكاس تغتالنا * وتذهب بالاول فالاول والكأس هي ظرف الشراب والفعل الذى أضافوه إليها إنما هو مضاف إلى الشراب الذى يحل فيها لان العرب لا تقول الكأس إلا بما فيه من الشراب فكان الاناء الفارغ لا يسمى


(1) – البيت من معلقة عمرو بن كلثوم

[ 57 ]

كأسا وعلى هذا القول يكون إضافة اختلاس العقل والتصريع وما جرى مجرى ذلك إلى الكأس على وجه الحقيقة لان الكأس على هذا القول اسم للاناء وماحل فيه من الشراب.. ومثال الوجه الثاني ذكرناه عنهم من التغليب تغليبهم اسم القمر على الشمس قال الشاعر أخذنا بافاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع أراد لنا شمسها وقمرها فغلب.. ومنه قول الآخر فقولا لاهل المكتين تحاشدوا * وسيروا إلى آطام يثرب والنخل أراد – بمكتين – مكة والمدينة (1) وقال الآخر فبصرة الازد منا والعراق لنا * والموصلان ومنا مصر والحرم أراد – بالموصلين – الموصل والجزيرة.. وقال الآخر نحن سبينا أمكم مقربا * يوم صبحنا الحيرتين المنون أراد – الحيرة والكوفة – وقال آخر إذا اجتمع العمران عمرو بن عامر * وبدر بن عمرو خلت ذبيان جوعا (2)


(1) ويقال القريتان لمكة والطائف وفسر به قوله تعالى (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) ويقال أيضا الحرمان لمكة والمدينة والحيرتان للبصرة والكوفة (2) قوله – إذا اجتمع العمران – الخ هما عمرو بن جابر بن هلال بن عقيل بن سمى ابن مازن بن فزارة وبدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة وهما روقا فزارة.. والبيتان لفراد بن حنش الصاردى من بني الصارد بن مرة.. قلت ومن هذا النوع قولهم سيرة العمر بن لابي بكر وعمر رضى الله عنهما وقيل هما عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنهما وهذا غلط قال معاذ الهراء لقد قيل سيرة العمرين قبل خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال سيبويه أما قولهم أعطيكم سنة العمرين فانما أدخلوا الالف واللام عليهما وهما نكرة وكأنهما جعلا من أمة كل (8 – امالي رابع)

[ 58 ]

وألقوا مقاليد الامور إليهما * جميعا وكانوا كارهين وطوعا أراد – بالعمرين – رجلين يقال لاحدهما عمرو وللآخر بدر وقد فسره الشاعر في البيت.. ومثله جزاني الزهدمان جزاء سوء * وكنت المرء يجزى بالكرامة (1) أراد – بالزهدمين – رجلين يقال لاحدهما زهدم وللآخر كردم فغلب وكل الذى ذكرناه يقوى هذا الجواب من جواز تسمية الجزاء على الذنب باسمه وتغليبه عليه للمقاربة والاختصاص التام بين الذنب والجزاء عليه.. والجواب السادس ما روى عن ابن عباس أنه قال يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة فيقبلون إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم فيضحك المؤمنون منهم إذا رأوا الابواب قد أغلقت عليهم ولذلك قال تعالى (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الارائك ينظرون).. فإن قيل فأى فائدة في هذا الوجه وما وجه الحكمة فيه.. قلنا وجه الحكمة فيه ظاهر لان ذلك أغلظ في نفوسهم وأعظم في مكروهم وهو ضرب من العقاب الذى يستحقونه بأفعالهم القبيحة


واحد منهما عمر واختصا كما اختص النجم بهذا الاسم فصار بمنزلة النسرين إذا كنت تعنى النجمين وبمنزلة الغريين المشهورين بالكوفة اه‍ (1) وبعده وقد دافعت قد علمت معد * بنى قرظ وعمهما قدامه ركبت بهم طريق الحق حتى * أتيتهم بها مائة ظلامة والابيات لقيس بن زهير والزهدمان هما زهدم وكردم أبنا حزن العبسيان.. ومعنى جزائهما لقيس بن زهير انهما يوم شعب جبلة لما أنهزم حاجب بن زرارة تبعاه فجعلا يطردانه ويقولون له استأسر فيقول من أنتما فيقولان الزهدمان فيقول لا أستأسر لموليين فاستأسر لمالك ذى الرقبية فاستغاثا بقيس بن زهير فنازع ذا الرقيبة فحكموا حاجبا فقال أما من ردني عن قصدي فالزهدمان واما الذى استأسرت له فمالك فحكموني في نفسي فحكموه فقال أما مالك فله ألف ناقة وللزهدمين مائه ثم وقعت بين قيس والزهدمين مغاضبة فقال الابيات

[ 59 ]

لان من طمع في النجاة والخلاص من المكروه واشتد حرصه على ذلك ثم حيل بينه وبين الفرج ورد إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب ما لا طريق للطمع عليه.. فإن قيل فعلى هذا الجواب ما الفعل الذى هو الاستهزاء.. قلنا في ترداده لهم من باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء من حيث كان أظهار لما المراد خلافه وإن لم يكن من معنى الاستهزاء ما يقتضى قبحه من اللهو واللعب وما جرى مجرى ذلك.. والجواب السابع أن يكون ما وقع منه تعالى ليس باستهزاء على الحقيقة لكنه سماه بذلك ليزدوج اللفظ ويخف على اللسان وللعرب في ذلك عادة معروفة في كلامها والشواهد عليه مذكورة مشهورة وهذه الوجوه التى ذكرناها في الآية يمكن أن تذكر في قوله تعالى (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وفى قوله (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) فليتأمل ذلك.. وأما قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) فيحتمل وجهين.. أحدهما أن يريد أنى أملى لهم في العمر وأمهلهم ليؤمنوا ويطيعوا وهم مع ذلك مستمسكون بطغيانهم وعمههم.. والوجه الآخر أن يريد بيمدهم أن يتركهم من فوائده ومنحه التى يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم ويمنعها من الكافرين عقابا كشرحه لصدورهم وتنويره لقلوبهم وكل هذا واضح بحمدالله.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وإني لاستحسن لبعض الاعراب قوله خليلي هل يشفي من الشوق والجوى * يد وذرى الاوطان لابل يشوقها ويزداد في قرب إليها صبابة * ويبعد من فرط اشتياق طريقها وما ينفع الحران ذا اللوح أن يرى * حياض القرى مملوءة لا يذوقها ولآخر في تذكر الاوطان والحنين إليها ألا قل لدار بين أكثبة الحمى * وذات الغضا جادت عليك الهواضب أجدك لا آتيك إلا تقلبت * دموع أضاعت ما حفظت سواكب ديار تناسمت الهواء بجوها * وطاوعنى فيها الهوى والحبائب


[ 60 ]

ليالى لا الهجران محتكم بها * على وصل من أهوى ولا الظن كاذب وأنشد أبو نصر صاحب الاصمعي لاعرابي ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * باكناف نجد وهى خضر متونها وهل أشربن الدهر من ماء مزنة * بحرة ليلى حيث فاض معينها بلاد بها كنا نحل فأصبحت * خلاء وترعاها مع الادم عينها تفيأت فيها بالشباب وبالصبي * تميل بما أهوى على غصونها وأنشد الاصمعي لصدقة بن نافع الغنوى ألا ليت شعرى هل تحنن ناقتي * ببيضاء نجد حيث كان مسيرها فتلك بلاد حبب الله أهلها * إلي وإن لم يعط نصفا أميرها بلاد بها أنصبت راحلة الصبى * ولانت لنا أيامها وشهورها فقدنا بها الهم المكدر شربه * ودار علينا بالنعيم سرورها وأنشد أبو محلم لسوار بن المضرب سقى الله اليمامة من بلاد * نوافحها كأزواح الغوانى وجو زاهر للريح فيه * نسيم لا يروع الترب واني بها سقت الشباب إلى مشيب * يقبح عندنا حسن الزمان وأنشد إبراهيم بن إسحق الموصلي إلا ياحبذا جنات سلمى * وجاد رياضها جون السحاب خلعت بها العذار ونلت فيها * مناى بطاعة أو باغتصاب أسوم بباطلى طلبات لهوى * ويعذرني بها عصر الشباب


[ 61 ]

فكل هؤلاء على ما ترى قد أفصحوا بأن سبب حنينهم إلى الاوطان ما لبسوه فيها من ثياب الشباب واستظلوه من ظله وأنضوه من رواحله وأنه كان يعذرهم ويحسن قبائحهم فعلى أي شئ يغلوا الناس في قول ابن الرومي وحبب أوطان الرجال إليهم * مآرب قضاها الشباب هنا لكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم * عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا ويزعمون أنه سبق إلى ما لم يسبق إليه وكشف عن هذا المعنى مستورا ووسم غفلا وقوله وإن كان جيد المعنى سليم اللفظ فلم يزد فيه على من تقدم ولا أبدع بل اتبع ولكن الجيد إذا ورد ممن يعهد منه الردئ كثر استحسانه وزاد استطرافه.. ولقد أحسن البحترى في قوله في هذا المعنى فسقى الغضى والنازلية وإن هم * شبوه بين جوانح وقلوب (1) وقصار أيام به سرقت لنا * حسناتها من كاشح ورقيب خضر تساقطها الصبا فكأنها * ورق يساقطه إهتزاز قضيب كانت فنون بطالة فتقطعت * عن هجر غايته ووصل مشيب وأحسن في قوله سقى الله أخلافا من الدهر رطبة * سقتنا الجوى إذ أبرق الحزن أبرق ليال سرقناها من الدهر بعد ما * إضاء باصباح من الشيب مفرق


(1) – الغضا – شجر معروف واحدته غضاة وأرض غضيانة كثيرته.. وفي البيت استخدام فانه أراد بأحد الضميرين الراجعين إلى الغضا وهو المجرور في الساكنيه المكان وهو أرض لبنى كلاب وواد بنجد وبالآخر وهو المنصوب في شبوه النار أي أوقدوا في جوانحه نار الغضا يعنى نار الهوى التى تشبه نار الغضا وخص الغضا دون غيره لان جمره بطئ الانطفاء وفى بعض الروايات وضلوعي بدل وقلوب وهي غلط

[ 62 ]

تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى * بماء الربي من بات بالريق يشرق ولابي تمام في هذا المعنى ما لا يقصر عن إحسان وهو سلام ترجف الاحشاء منه * على الحسن ابن وهب والعراق على البلد الحبيب إلى غورا * ونجدا والاخ العذب المذاق ليالى نحن في وسنات عيش * كأن الدهر عنا في وثاق وأيام له ولنا لدان * غفينا من حواشيها الرفاق (1) كأن العهد عن عفر لدينا * وإن كان التلاقي عن تلاق (مجلس آخر 63) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) الآية.. فقال كيف خاطب آدم وحواء عليهما السلام بخطاب الجمع وهما اثنان وكيف نسب بينهما العداوة وأى عداوة كانت بينهما.. الجواب قلنا قد ذكر في هذه الآية وجوه.. أولها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء وذريتهما لان الوالدين يدلان على الذرية ويتعلق بهما ويقوى ذلك قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك).. وثانيها أن يكون الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام ولابليس اللعين وأن يكون الجميع مشتركين في الامر بالهبوط وليس لاحد أن يستبعد هذا الجواب من حيث لم يتقدم لابليس ذكر في قوله تعالى (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) لانه وإن لم يخاطب بذلك فقد جرى ذكره في قوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) فجائز أن يعود


(1) وفي نسخة غنينا في حواشيها الرقاق وفي ديوانه عربنا من حواشيها الرقاق

[ 63 ]

الخطاب على الجميع.. وثالثها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام والحية التى كانت معهما على ما روى عن كثير من المفسرين ففى هذا الوجه بعد من قبل أن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن فلابد من أن يكون قبيحا اللهم إلا أن يقال إنه لم يكن هناك قول في الحقيقة ولا خطاب وإنما كنى تعالى عن إهباطه لهم بالقول كما يقول أحدنا قلت فلقيت الامير وقلت فضربت زيدا وإنما يخبر عن الفعل دون القول وهذا خلاف الظاهر وإن كان مستعملا وفى هذا الوجه بعد من وجه آخر وهو أن لم يتقدم للحية ذكر في نص القرآن والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس ولا يسبق وهم إلى تعلق الكناية بغير مكنى عنه حتى يكون ذكره كترك ذكره في البيان عن المعنى المقصود مثل قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب.. وكل من عليها فان) ومثل قول الشاعر أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (1) فأما بحيث لا يكون الحال على هذا فالكناية عن غير مذكور قبيحة.. ورابعها أن يكون الخطاب يخص آدم وحواء عليهما السلام وخاطب الاثنين بالجمع على عادة العرب في ذلك


(1) – قوله – إذا حشرجت – الخ فاعل حشرجت ضمير يعود على النفس ولم يتقدم ذكرها وذلك جائز لعلم المعنى من السياق ومثله قوله تعالى (كلا إذا بلغت التراقي) فان النفس لم يتقدم لها ذكر ولكن المعنى واضح.. والبيت من قصيدة لحاتم الطائي يخاطب إمرأته ماوية ومطلعها أماوي قد طال التجنب والهجر * وقد عذرتني في طلابكم الهجر أماوى ان المال غاد ورائح * ويبقى من المال الاحاديث والذكر ومنها أماوى إن يصبح صداي بقفرة * من الارض لا ماء لدي ولا خمر ترى ان ما أنفقت لم يك ضائري * وان يدي مما بخلت به صفر أماوى انى رب واحد أمه * أخذت فلا قتل عليه ولا أسر رقد علم الاقوام لو أن حاتما * أراد ثراء المال كان له وفر

[ 64 ]

لان التثنية أول الجمع قال الله تعالى (إذا نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) أراد تعالى وكنا لحكم داود وسليما عليهما السلام وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول قوله تعالى (فإن كان له إخوة) على معنى فان كان له أخوان.. قال الراعى أخليد إن أباك ضاف وساده * همان باتا جنبة ودخيلا أي داخلا في القلب طرقا فتلك هما همى أقريهما * قلصا لواقح كالقسى وحولا فعبر بالهماهم وهى بمعنى الهموم وهما اثنان.. فإن قيل فما معنى الهبوط الذى أمروا به.. قلنا أكثر المفسرين على أن الهبوط هو النزول من السماء إلى الارض وليس في ظاهر القرآن ما يوجب ذلك لان الهبوط كما يكون النزول من علو إلى سفل فقد يراد به الحلول في المكان والنزول به قال الله تعالى (اهبطوا مصر فان لكم ما سألتم) ويقول القائل من العرب هبطنا بلد كذا وكذا يريد حللنا.. قال زهير ما زلت أزمقهم حتى إذا هبطت * أيدى الركاب بهم من راكس فلقا فقد يجوز على هذا أن يريد تعالى بالهبوط الخروج من المكان وحلول غيره ويحتمل أيضا أن يريد بالهبوط غير معنى المسافة بل الانحطاط من منزلة إلى دونها كما يقولون قد هبط عن منزلته ونزل عن مكانه إذا كان على رتبة فانحط إلى دونها.. فإن قيل فما معنى قوله (بعضكم لبعض عدو).. قلنا أما عداوة إبليس لآدم وذريته فمعروفة مشهورة وأما عداوة آدم عليه السلام والمؤمنين من ذريته لابليس فهى واجبة لما يجب على المؤمنين من معاداة الكفار أي المارقين عن طاعة الله تعالى المستحقين لمقته وعداوته وعداوة الحية على الوجه الذى تضمن إدخالها في الخطاب لبنى آدم معروفة ولذلك يحذرهم منها ويجنبهم فأما على الوجه الذى يتضمن أن الخطاب اختص آدم وحواء دون غيرهما فيجب أن يحمل قوله تعالى (بعضكم لبعض عدو) على أن المراد به الذرية كأنه قال تعالى (اهبطوا) وقد علمت من حال ذريتكم أن بعضكم يعادى بعضا وعلق الخطاب بهما


[ 65 ]

للاختصاص بين الذرية وبين أصلها.. فإن قيل أليس ظاهر القرآن إهبطوا يقتضى الامر بالمعاداة كما أنه أمر بالهبوط وهذا يوجب أن يكون تعالى أمرا بالقبيح على وجه لان معاداة إبليس لآدم عليه السلام قبيحة ومعاداة الكفار من ذريته للمؤمنين منهم كذلك .. قلنا ليس يقتضى الظاهر ما ظننتموه وإنما يقتضى أنه أمرهم بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا فالامر مختص بالهبوط والعداوة تجرى مجرى الحال وهذا له نظائر كثيرة في كلام العرب ويجرى مجرى هذه الآية في أن المراد بها الحال قوله (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهو كافرون) وليس معنى ذلك أنه أراد كفرهم كما أراد تعذيبهم وإزهاق نفوسهم بل أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم وكذلك القول في الامر بالهبوط وهذا بين.. [ قال الشريف ] المرتضى رضي الله عنه ومن مستحسن تمدح السادات الكرام قول الشاعر ويل ام قوم غدوا عنكم لطيتهم * لا يكتنون غداة العل والنهل صدأ السرابيل لا توكى مقانبهم * عجر البطون ولا تطوى على الفضل قوله – ويل أم قوم – من الزجر المحمود الذى لا يقصد به الشر مثل قولهم قاتل الله فلانا ما أشجعه وأبرحه ما أسمحه.. وقد قيل في قول جميل رمى الله في عينى بثينة بالقذى * وفى الغر من أنيابها بالقوادح (1)


(1) قوله – رمى الله في عينى بثينة بالقذى – الخ.. قيل معناه سبحان الله ما أحسن عينيها ومن ذلك قولهم قاتل الله فلانا ما أشجعه – وأنياب القوم – ساداتهم أي رمي الله الفساد والهلاك في سادات قومها لانهم حالوا بينها وبين زيارتي واستحسن بعضهم أن يقال أراد بالعينين رقيبيها وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشرتها والمعنى أفناهم الله وأراهم المنكرات فهو في الظاهر يشتمها وفي النية يشتم من يتأذى به فيها ويقال هم أنياب الخلافة للمدافعين عنها.. وقيل أراد بلغها الله أقصى غايات العمر حتى تبطل عواملها وحواسها فالدعاء على هذا لها لا عليها.. وقوله – بالقذى – الباء زائدة والقذي كل ما وقع في العينين من (9 – امالي رابع)

[ 66 ]

إنه أراد هذا المعنى بعينه وقيل إنه دعا لها بالهرم وعلو السن لان الكبير يكثر قذى عينيه وتتهتم أسنانه.. وقيل إنه أراد بعينيها رقيبيها وبغر أنيابها سادات قومها ووجوههم والاول أشبه بطريقة القوم وإن كان القول محتملا للكل.. فأما قوله – لا يكتنون غداة العل والنهل – فاراد أنهم ليسوا برعاة يسقون الابل بل لهم من يخدمهم ويكفيهم ويرعى إبلهم وإنما يكتنى ويرتجز على الدلو السقاة والرعاة فيه وجه آخر قيل انهم يسامحون شريبهم ويؤثرونه بالسقى قبل أموالهم ولا يضنون عليه ولا يكتنون وهذا من الكرم والتفضل لا من الضعف.. وقيل أيضا بل عنى أنهم أعزاء ذوو منعة إذا وردت إبلهم ماء أفرج الناس لها عنه لانها قد عرفت فليس يحتاج أربابها إلى الاكتناء والتعريف وقال قوم في قوله يكتنون إنه اراد كنت يده تكنن إذا خشنت من العمل فيقول ليسوا أهل مهنة فتكنن أيديهم فتخشن من العمل بل لهم عبيد يكفونهم ذلك.. وقوله – صدأ


شئ يؤذيها كالتراب والعود ونحوهما.. وقوله – وفي الغر – الخ معطوف علي قوله في عينى وهو جمع أغر وغراء أراد رمي الله في أنيابها الحسان النقية البياض القوادح فالباء زائدة أيضا وانياب جمع ناب وهى السن – والقوادح – جمع قادح وهو السواد الذي يظهر في الاسنان فالاسنان تتأكل منه.. ويدفع في صدر ما تقدم ما روى ان جميلا لقى بثينة بعد تهاجر بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا فقالت له ويحك يا جميل أتزعم انك تهواني وأنت الذى تقول رمي الله في عينى بثينة بالقذى البيت فأطرق طويلا يبكي ثم قال ألا ليتنى أعمى أصم تقودني * بثينة لا يخفى على كلامها وروى أيضا ان كثيرا قال وقفت على جماعة يفيضون في وفي جميل أينا أصدق عشقا ولم يكونوا يعرفوني ففضلوا جميلا فقلت لهم ظلمتم كثيرا كيف يكون جميل أصدق منه وحين أتاه من بثينة ما يكره قال رمى الله في عينى بثينة بالقذى البيت وكثير حين أتاه من عزة ما يكره قال هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت فما انصرفوا الا على تفضيلي وهذا يدل على أن جميلا دعا عليها حقيقة اه‍

[ 67 ]

السرابيل – فإنما أراد بهم طول حملهم للسلاح ولبسهم له – والمقانب – هي الاوعية التى يكون فيها الزاد فكأنه يقول إذا سافروا لم يشدوا الاوعية على ما فيها وأطعموا أهل الرفقة وهذه كناية عن الاطعام وبذل الزاد مليحة – وعجز البطون – من صفات المناقب أراد أنها لا توكى عجر البطون ولا تطوى على فضل الزاد.. ولبعض شعراء بنى أسد وأحسن غاية الاحسان رأت صرمة لا بنى عبيد تمنعت * من الحق لم توزل بحق إفالها فقالت ألا تغذو فصالك هكذا * فقلت أبت ضيفانها وعيالها فما حلبت إلا الثلاثة والثنى * ولا قيلت إلا قريبا مقالها حدابير من كل العيال كأنها * أناضى شقر حل عنها جلالها شكى هذا الشاعر من امرأته وحكى عنها أنها رأت إبلا لجيرانها لم تعط في حمالة ولم تعقر في حق ولم تحلب لضيف ولا جار فهى سمان.. وقوله – لم توزل إفالها – فالافال الصغار وتوزل من الازل وهو الضيق في العيش والشدة فيقول فصال هؤلاء سمان لم تلق بؤسا لان ألبان أمهاتها موفورة عليها.. وحكى عن امرأته أنها تقول أغذ أنت فصالك هكذا فقال لها تأبى ذلك الحقوق وعيالها وهم الجيران والضيفان ثم أخبر أنه لم يلتفت إلى لومها وأن الابل ما حلبت بعد مقالتها إلا مرتين أو ثلاث ولا قيلت من القائلة إلا بقرب البيوت حتى نحرها ووهبها – والحدابير – المهازيل وإنما يعنى فصاله وهزالها من أجل أنها لا تسقى الالبان وتعقر أمهاتها – وأناضى – جمع نضو فشبه فصاله من هزالها بانضاء خيل شقر.. وقوله – حدابير من كل العيال – فيه معنى حسن لانه أراد أنها من بين جميع العيال مهازيل وهذا تأكيد لان سبب هزالها هو الايثار بألبانها واختصت بالهزال من بين كل العيال والعيال ههنا هم الجيران والضيفان وإنما جعلهم عيالا لان كرمه وجوده قد ألزمه مودتهم فصاروا كأخص عياله.. ومثل ذلك قول الشاعر تعيرني الحظلان أم محلم * فقلت لها لم تقذفينى بدائيا


[ 68 ]

فإنى رأيت الصامرين متاعهم * يذم ويفنى فارضخي من وعائيا (1) فلم تجديني في المعيشة عاجزا * ولا حصر ما خبا شديدا وكائيا – الحظلان – الممسكون البخلاء والحظل الامساك – وأم محلم – امرأته.. ومعنى قوله تعيرني الحظلان أي بالحظلان تقول مالك لا تكون مثل هؤلاء الذين يحفظون أموالهم – والصامرون – أيضا البخلاء فقال لها رأيت البخلاء يضنون بما عندهم وهو يفنى ويبقى الذم فارضخي من وعائي وهذا مثل أي أعطى الناس مما عندي وهو من قولك وضخ له بشئ من عطيته – والحصرم – الممسك تقول العرب حصرم قوسك أي شدد وترها.. وقوله – فلم تجديني في المعيشة عاجزا – أي أنا صاحب غارات أفيد واستفيد وأتلف وأخلف فلا تخافى الفقر.. وقال مسكين الدارمي أصبحت عاذلتي معتلة * قرما أم هي وحمى للصخب أصبحت تتفل في شحم الذرى * وتظن اللوم درا ينتهب لا تلمها إنها من نسوة * ملحها موضوعة فوق الركب يقول إنها تكثر لومى وكأنها قرمة إلى اللوم كقرم الانسان إلى اللحم وهى وحمى تشتهى الصخب – والوحم – شدة شهوة الطعام عند الحمل – وشحم الذرى – الاسنمة وأراد تتفل فيها أنها تعوذ ابلى لتزينها في عينى ولتعظم قدرها فلا أهب منها ولا أنحر ثم أخبر أن أصلها من الزنج – والملح – الشحم وشحم الزنج (2) يكون على أوراكهم.. وأكفالهم وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد


(1) قوله – فاني رأيت الصامرين – الخ الصامرون الباخلون أراد الصامرين بمناعهم.. وروى يموت بدل يذم أي يموتون وهذا من اعادة ضمير المفرد على الجمع.. وقال يعقوب الحظلان مشي الغضبان (2) قوله – وشحم الزنج – الخ هذا تفسير الاصمعي.. وقال أبو عمرو الشيباني

[ 69 ]

أيا أبنة عبد الله وابنة مالك * ويا أبنة ذى البردين والفرس النهد (1) إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له * أكيلا فإنى لست آكله وحدي قصيا كريما أو قريبا فإننى * أخاف مذمات الاحاديث من بعدى (2)


ملحها موضوعة فوق الركب * أي انها بخيلة تضع ملحها فوق ركبتيها فهي تأمرني بذلك.. وقال غيرهما من اللغويين.. قوله ملحها موضوعة فوق الركب أي انها سريعة الغضب يقال للسريع الغضب ملحه فوق ركبتيه وكذا غضبه على طرف أنفه (1) – غنى بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة وانما لقب ذا البردين لان وفود العرب اجتمعت عند المنذر بن ماء السماء فاخرج بردى محرق وقال ليقم أعز العرب قبيلة فاليلبسهما فقام عامر المذكور فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر فقال له النعمان أنت أعز العرب قبيلة قال العز والعدد في معد ثم في نزار ثم في مضر ثم في خندف ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا في العرب فلينافرني فسكت الناس فقال النعمان هذه عشيرتك فكيف أنت كما تزعم في نفسك وأهل بيتك فقال أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدى ثم وضع قدمه في الارض وقال من أزالها عن مكانها فله مائة من الابل.. وقوله – والفرس – النهد ويروي الورد والورد هو بين الكميت والاشقر.. والمراد بابنة عبد الله نفوسة بنت زيد الفوارس الضبى وكان قيس بن عاصم المنقري رضى الله عنه تزوجها فأتته في الليلة الثانية من بنائه بها بطعام فقال أين أكيلى فلم تعلم ما يقول حتي قال الابيات فارسلت جار ية لها تطلب له أكيلا – الاكيل – المؤاكل كالنديم المنادم والشريب المشارب والجليس المجالس ولا يطلق الا على من تكرر منه ذلك لا من وقع ذلك منه مرة وانما نكره ولم يقل أكيلى لانه عرف بمؤاكلته عدة فأراد واحدا منهم قاله التبريزي والمرزوقي (2) قوله – قصيا كريما – الخ روى بدلهما.. أخا طارقا أو جار بيت فلنني.. الخ.. وقوله أخا بدل من أكيلا – والمذمة – بالفتح الذم وروى بعد

[ 70 ]

وإنى لعبد الضيف ما دام نازلا * وما في صفاتي غير هاشيم العبد قال أبو العباس استثنى الكرم من القصى البعيد ولم يستثنه في القريب لان أهله جميعا عنده كرام وأراد بقوله – عبد الضيف – أنه يخدم الضيف هو بنفسه لا يرضى له بخدمة عبده.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه ويشبه ذلك قول المقنع الكندى وإنى لعبد الضيف ما دام نازلا * وما لى سواها خلة تشبه العبدا (1)


هذا البيت بيتان وهما وكيف يسيغ المرء زادا وجاره * خفيف المعابادى الخصاصة والجهد وللموت خير من زيارة باخل * يلاحظ أطراف الاكيل على عمد.. وقيل ان هذه الابيات لحاتم الطائي والصحيح انها لقيس بن عاصم كما تقدم [ 1 ] – أول القطعة التى منها هذا البيت. يعاتبني في الدين قومي وانما * ديوني في أشياء تكسبهم حمدا ألم ير قومي كيف أوسر مرة * وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا فما زادني إلاسناء ورفعة * وما زادني فضل الغنى منهم بعدا أسد به ما قد أخلوا وضيعوا * ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا وفى جفنة ما يغلق الباب دونها * مكللة لحما مدفقة ثردا وفى فرس نهد عتيق جعلته * حجبا لبيتى ثم أخدمته عبدا وان الذى بينى وبين بني أبى * وبين بني عمى لمختلف جدا أراهم إلى نصرى بظاء وإن هم * دعوني إلى نصر أتيتهم شدا إذا أكلوا لحمى وفرت لحومهم * وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا وان ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم * وان هم هووا غيبي هويت لهم رشدا وان ترجروا طيرا بنحس تمر بي * زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم * وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جل مالى ان تتابع لى غنى * وان قل مالي لا أكلفهم رفدا

[ 71 ]

وإنما اشترط في كونه عبدا للضيف في البيت الاول والثانى ثواءه ونزوله مؤثرا له ليعلم أن الخدمة لم تكن لضعة وصغر قدر بل انما يوجبه الكرم من حق الاضياف وانه يخرج عن أن يكون مخدوما بخروجه من أن يكون ضيفا ولو قال وإنى لعبد الضيف ولم يشرط لم يحصل هذا المعنى الجليل (مجلس آخر 64) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل فقال بم تدفعون من خالفكم في الاستطاعة وزعم أن المكلف يؤمر بما لا يقدر عليه ولا يستطيعه إذا تعلق بقوله تعالى (أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطعيون سبيلا) وان الظاهر من هذه الآية يوجب أنهم غير مستطيعين للامر الذى هم غير فاعلين له وأن القدرة مع الفعل وإذا تعلق بقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام (إنك لن تستطيع معى صبرا) وأنه نفى كونه قادرا على الصبر في حال هو فيها غير صابر وهذا يوجب أن القدرة مع الفعل وبقوله تعالى (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون).. الجواب يقال له أول ما نقوله ان المخالف لنا في هذا الباب في الاستطاعة لا يصح له فيه التعلق بالسمع لان مذهبه لا يسلم معه صحة السمع ولا يتمكن مع المقام عليه من معرفة السمع بأدلته وإنما قلنا ذلك لان من جوز تكليف الله تعالى الكافر الايمان وهو لا يقدر عليه لا يمكنه العلم نفى القبائح عن الله عز وجل وإذا لم يمكنه ذلك فلابد من أن يلزمه تجويز القبائح في أفعاله تعالى وأخباره ولا يأمن أن يرسل كذابا وأن يخبر وهو بالكذب تعالى عن ذلك فالسمع إن كان كلامه قدح في حجته تجويز الكذب عليه وإن كان كلام رسوله عليه السلام قدح فيه ما يلزمه من تجويز تصديق الكذاب وإنما طرق ذلك تجويز بعض القبائح عليه وليس لهم أن يقولوا إن أمره تعالى الكافر بالايمان وإن لم يقدر عليه يحسن من حيث أتى الكافر


وانى لعبد الضيف ما دام نازلا * وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

[ 72 ]

فيه من قبل نفسه لانه تشاغل بالكفر وترك الايمان وإنما كان يبطل تعلقنا بالسمع لو أضفنا ذلك إليه على وجه يقبح وذلك لانما قالوه إذا لم يؤثر في كون ما ذكرناه تكليفا لما لا يطاق لم يؤثر في نفى ما ألزمناه عنهم ولانه يلزم على ذلك أن يفعل الكذب وسائر القبائح وتكون حسنة منه بأن يفعلها من وجه لا يقبح منه وليس قولهم إنا لم نضفه إليه من وجه يقبح بشئ يعتمد بل يجرى مجرى قول من جوز عليه تعالى الكذب ويكون الكذب منه تعالى حسنا ويدعى مع ذلك صحة معرفة السمع بأن يقول إننى لم أضف إليه تعالى قبيحا فيلزمني إفساد طريقة السمع فلما كان من ذكرناه لا عذر له في هذا الكلام لم يكن للمخالف في الاستطاعة عذر بمثله.. ونعود إلى تأويل الآى أما قوله تعالى (انظر كيف ضربوا) الآية فليس فيه ذكر للشئ الذى يقدرون عليه وبيان له وإنما كان يصح ما قالوه لو بين تعالى أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى أمر معين فأما إذا لم يكن ذلك كذلك فلا متعلق لهم.. فان قيل فقد ذكر تعالى من قبل ضلالهم فيجب أن يكون المراد بقوله (فلا يستطيعون سبيلا) إلى مفارقة الضلال.. قلنا إنه تعالى كما ذكر الضلال فقد ذكر ضرب المثل فيجوز أن يريد أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من الامثال إذ ذلك غير مقدور على الحقيقة ولا مستطاع والظاهر أن هذا الوجه أولى لانه عزوجل حكى أنهم ضربوا له الامثال وجعل ضلالهم وأنهم لا يستطيعون السبيل متعلقا بما تقدم ذكره وظاهر ذلك يوجب رجوع الامرين جميعا إليه وأنهم ضلوا بضرب المثل وأنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من المثل على أنه تعالى أخبرنا بأنهم ضلوا وظاهر ذلك الاخبار عن ماضى فعلهم فان كان قوله تعالى (فلا يستطيعون سبيلا) يرجع إليه فيجب أن يدل على أنهم لا يقدرون على ترك الماضي وهذا مما لا تخالف فيه وليس فيه ما نأباه من أنهم لا يقدرون في المستقبل أو في الحال على مفارقة الضلال والخروج عنه وتعذر تركه بعد مضيه فإذا لم يكن للآية ظاهر فلم صاروا بأن يحملوا نفى الاستطاعة على أمر كلفوه باولى منا إذا حملنا ذلك على أمر لم يكلفوه أو على أنه أراد الاستثقال والخبر عن عظم المشقة عليهم ولو جرت عادة أهل اللغة بأن يقولوا لمن يستثقل شيئا إنه لا يستطيعه ولا يقدر عليه ولا يتمكن منه ألا ترى


[ 73 ]

أنهم يقولون ان فلانا لا يستطيع أن يكلم فلانا ولا ينظر إليه وما أشبه ذلك وإنما غرضهم الاستثقال وشدة الكلفة والمشقة.. فإن قيل فإذا كان الظاهر للآية يشهد بمذهب المخالف فما المراد بها عندكم.. قلنا قد ذكر أبو على أن المراد أنهم لا يستطيعون إلى بيان تكذيبه سبيلا لانهم ضربوا الامثال ظنا منهم بأن ذلك يبين كذبه فأخبر تعالى أن ذلك غير مستطاع لانه تكذيب صادق وإبطال حق مما لا يتعلق به قدرة ولا تتناوله استطاعة وقد ذكر أبو هاشم أن المراد بالآية أنهم لاجل ضلالهم بضرب الامثال وكفرهم لا يستطيعون سبيلا إلى الخير الذى هو النجاة من العقاب والوصول إلى الثواب. وليس يمكن على هذا أن يقال كيف لا يستطيعون سبيلا إلي الخير والهدى وهم عندكم قادرون على الايمان والتوبة ومتى فعلوا ذلك استحقوا الثواب لان المراد أنهم مع التمسك بالضلال والمقام على الكفر لا سبيل لهم إلى خير وهدى وإنما يكون لهم سبيل إلى ذلك بان يفارقوا ما هم عليه.. وقد يمكن أيضا في معنى الآية ما تقدم ذكره من أن المراد بنفى الاستطاعة عنهم أنهم مستثقلون للايمان وقد يخبر عمن استثقل شيئا بأنه لا يستطيعه على ما تقدم ذكره.. فأما قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام (إنك لن تستطيع معى صبرا) فظاهره يقتضى أنك لا تستطيع ذلك في المستقبل ولا يدل على أنه غير مستطيع للصبر في الحال وأن يفعله في الثاني وقد يجوز أن يخرج في المستقبل من أن يستطيع ما هو في الحال مستطيع له غير أن الآية تقتضي خلاف ذلك لانه قد صبر على المسألة أوقاتا ولم يصبر عنها في جميع الاحوال فلم ينتف الاستطاعة للصبر عنه في جميع الاوقات المستقبلة على أن المراد بذلك واضح وأنه خبر عن استثقال الصبر عن المسألة عما لا يعرف ولا يقف عليه لان مثل ذلك يصعب على النفس ولهذا يجد أحدنا إذا وجد بين يديه ما ينكره ويستبعده تنازعه نفسه إلى المسألة عنه والبحث عن حقيقة ويثقل عليه الكف عن الفحص عن أمره فلما حدث من صاحب موسى عليه السلام ما يستنكر ظاهره استثقل الصبر عن المسألة عن ذلك ويشهد بهذا الوجه قوله تعالى (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) فبين تعالى أن العلة في قلة صبره ما ذكرناه دون غيره ولو كان على ما ظنوه لوجب أن يقول وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر.. فأما قوله (10 – امالي رابع)


[ 74 ]

تعالى (ما كانوا يستطيعون السمع) فلا تعلق لهم بظاهره لان السمع ليس بمعنى فيكون مقدورا لان الادراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى ولو ثبت أنه معنى على ما يقوله أبو على لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث اختص تعالى بالقدرة عليه هذا ان أريد السمع الادراك وإن أريد به نفس الحاسة فهى أيضا غير مقدورة للعباد لان الجواهر وما تختص به الحواس من البنية والمعاني لا يصح بها الادراك فانه مما ينفرد به القديم تعالى في القدرة عليه فالظاهر لا حجة لهم فيه.. فان قالوا فلعل المراد بالسمع كونهم سامعين كأنه تعالى نفى عنهم استطاعة أن يسمعوا.. قلنا: هذا خلاف الظاهر ولو ثبت أن المراد ذلك لحملنا نفى الاستطاعة على ما تقدم ذكره من الاستثقال وشدة المشقة كما يقول القائل فلان لا يستطيع أن يرانى ولا يقدر على أن يكلمني وما أشبه ذلك وهذا بين لمن تأمله [ تأويل خبر ].. إن سأل سائل فقال ما تأويل ما رواه بشار عن معاوية بن الحكم قال قلت يا رسول الله كانت لى جارية ترعي غنما لى قبل أحد فذهب الذئب بشاة من غنمها وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون لكني غضبت فصككتها صكة قال فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله أفلا أعتقها قال ائتنى بها فأتيته بها فقال عليه الصلاة والسلام أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام أعتقها فانها مؤمنة.. الجواب أما قوله – أنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون – فمعناه أغضب كما يغضبون.. قال محمد بن الحبيب وأنشد للراعي فما لحقتني العيس حتى وجدتني * أسيفا على حاديهم المتجرد والاسف أيضا الحزن.. قال ابن الاعرابي الاسف الحزن والغضب قال كعب في كل يوم أرى فيه منيتة * تكاد يسقط منى منة أسفا وقوله – ولكني غضبت فصككتها – أراد لطمتها يقال صك جبهته إذا لطمها بيده قال الله تعالى (فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها).. وقال بشر بن أبى خازم يصف حمار وحش وأتانا فيصك محجره إذا ما سافها * وجبينه بحوافر لم تنكب


[ 75 ]

– سافها – أذا شمها.. وقولها – في السماء – فالسماء هي الارتفاع والعلو فمعنى ذلك أنه تعالى عال في قدرته وعزيز في سلطانه لا يبلغ ولا يدرك ويقال سما فلان يسموا سموا إذا ارتفع شأنه علا أمره وقال تعالى (أءمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض) الآية فأخبر تعالى بقدرته وسلطانه وعلو شأنه ونفاذ أمر… وقد قبل في قوله تعالى (أءمنتم من في السماء) غير هذا وأن المرادء أمنتم من في السماء أي أمره وآياته وقدرته ورزقه وما جرى مجرى ذلك.. وقال أمية بن أبى الصلت شاهدا لما تقدم وأشهد أن الله لا شئ فوقه * عليا وأمسى ذكره متعاليا وقال سليمان بن يزيد العدوى لك الحمد يا ذا الطول والملك والغنى * تعاليت محمودا كريما وجازيا علوت على قرب بعز وقدرة * وكنت قريبا في دنوك عاليا والسماء أيضا سقف البيت ومنه قوله تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله) الآية وقال ابن الاعرابي يقال لا على البيت سماء البيت وسماواته وسراته وصهوته والسماء إيضا المطر قال الله تعالى (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) ومنه الحديث الذى رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل عليه الصلاة والسلام يده فيها فالت أصابعه بللا فقال ما هذا يا صاحب البر قال أصابته السماء يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم أو لا جعلته فوق الطعام يراه الناس من غش فليس منا.. وقال مثقب العبدى فلما أتانى والسماء تبله * فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ويقال أيضا لظهر الفرس سماء كما يقال في لحوافره أرض.. ولبعضهم في فرس وأحمر كالدينار أما سماؤه * فخصب وأما أرضه فمحول (1) وإنما أراد أنه سمين الاعلى عريان القوائم ممشوقها وكل معاني السماء التى تتصرف وتتوع


(1) – البيت لطفيل الغنوي.. وقال الراغب كل سماء بالاضافة إلى ما دونها فسماء وبالاضافة إلى ما فوقها فارض الا السماء الدنيا فانها سماء بلا أرض

[ 76 ]

ترجع إلى معنى الارتفاع والعلو والسمو وإن اختلفت المواضع التى أجريت هذه اللفضة فيها وأولى المعاني بالخبر الذى سئلنا عنه ما تقدم من معنى العزة وعلو الشأن والسلطان وما عدا ذلك من المعاني لا يليق به تعالى وأن العلو بالمسافة لا يجوز على القديم تعالى الذى ليس بجسم ولا جوهر ولا حال فيهما ولان الخبر والآية التى تضمنت أيضا ذكر السماء خرجت مخرج المدح ولا مدح في العلو بالمسافة وانما التمدح بالعلو في الشأن والسلطان ونفاذ الامر ولهذا لا تجد أحدا من العرب مدح غيره في شعر أو نثر بمثل هذه اللفظة وأراد بها علو المسافة بل لا يريد إلا ما ذكرناه من معنى العلو في الشأن وإنما يظن في هذه المواضع خلاف هذا من لا فطنة عنده ولا بصيرة له (مجلس آخر 65) [ تأويل آية ].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) الآية.. الجواب قلنا أما التنور فقد ذكر في معناه وجوه.. أولها أنه تعالى أراد بالتنور وجه الارض وأن الماء نبع وظهر على وجه الارض وفار هذا قول عكرمة وقال بن عباس رضى الله عنهما مثله والعرب تسمى وجه الارض تنورا.. وثانيها أن يكون المراد أن الماء نبع من أعالي الارض وفار من الاماكن المرتفعة منها وهذا قول قتادة وروى عنه في قوله تعالى (وفار التنور) قال ذكر لنا أنه أرفع الارض وأشرفها.. وثالثها أن يكون المراد بفار التنور أي برز النور وظهر الضوء وتكاثف حرارة دخول النهار وتقتضي الليل وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين على رضى الله عنه.. ورابعها أن يكون المراد بالتنور الذى يختبز فيه على الحقيقة وأنه تنور كان لآدم عليه السلام أبي البشر وقال قوم إن التنور كان في دار نوح عليه السلام بعين وردة من أرض الشام.. وقال آخرون بل كان التنور في ناحية الكوفة والذى روى عنه أن التنور هو تنور الخبز الحقيقي ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم.. وخامسها أن يكون معنى ذلك اشتد غضب الله تعالى عليهم وحل وقوع نقمته بهم وذكر تعالى التنور مثلا لحضور


[ 77 ]

العذاب كما تقول العرب قد فارت قدر القوم إذا اشتد الحرب وعظم الخطب والوطيس هو التنور وتقول العرب أيضا قد حمى الوطيس إذا اشتد بالقوم حربهم.. قال الشاعر تفور علينا قدرهم فنديمها * ونفثؤها عنا إذا حميها غلا (1) أراد – بقدرهم – حربهم ومعنى – نديمها – نسكنها ومن ذلك الحديث المروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن البول في الماء الدائم يعنى الساكن ويقال قد دوم الطائر في الهواء إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم يخفق بهما – ونفثؤها – معناه نسكنها يقال فثأت غضبه عنى وفثأت الحار بالبارد إذا كسرته به.. وسادسها أن يكون التنور الباب الذى يجتمع فيه ماء السفينة فجعل فوران الماء منه والسفينة على الارض علما على ما أنذر به من اهلاك قومه وهذا القول يروي عن الحسن وأولى الاقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنور الحقيقي لانه الحقيقة وما سواه مجاز ولان الروايات الظاهرة تشهد له وأضعفها وأبعدها من شهادة الاثر قول من حمل ذلك على شدة الغضب واحتداد الامر تمثيلا وتشبيها لان حمل الكلام على الحقيقة التى تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسع مع فقد الرواية وأى المعاني أريد بالتنور فان الله تعالى جعل فوران الماء علما لنبيه عليه السلام وانه يدل على نزول العذاب بقومه لينجو بنفسه وبالمؤمنين.. فأما قوله تعالى (من كل زوجين اثنين) فقد قيل ان المراد به إحمل من كل ذكر وأثني اثنين وإنه يقال لكل واحد من الذكر والانثى زوج.. وقال آخرون الزوجان ههنا الضربان وقال آخرون الزوج اللون وإن كل ضرب يسمى زوجا واستشهدوا ببيت الاعشى في كل زوج من الديباج يلبسه * أبو قدامة محبورا بذاك معا ومعنى (من سبق عليه القول) أي من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به والله أعلم بمراده [ تأويل خبر ].. إن سأل سائل عن الخبر الذى يرويه شريك عن عمار الذهبي عن أبى صالح الحنفي عن أمير المؤمنين على رضى الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم


(1) البيت للنعابغة الجعدي أبي ليلى رضى الله عنه وبعده بطعن كتشهاق الجحاش شهيقه * وضرب له ما كان من ساعد خلا

[ 78 ]

في المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الاود واللدد.. الجواب يقال له أما – الاود – فهو الميل تقول العرب لاقيمن ميلك وحنفك وأودك وذراك وضلعك وصعرك وصدغك وظلعك بالظاء وصعوك وصدعك كل هذا المعنى واحد.. وقال ثعلب الاود إذا كان من الانسان في كلامه ورأيه فهو عوج وإذا كان في الشئ المنتصب مثل عصا وما أشبهها فهو عوج وهذا قول الناس كلهم إلا أبا عمرو الشيباني فانه قال العوج بالكسر الاسم والعوج بالفتح المصدر وقال ثعلب كأنه مصدر عوج يعوج عوجا ويقال عصا معوجة وعود معوج وليس في كلامهم معوج.. وأما – اللدد – فقيل هو الخصومات وقال ثعلب يقال رجل ألد وقوم لد إذا كانوا شديدى الخصومة ومنه قول الله تعالى (وهو ألد الخصام).. وقال الاموى اللدد الاعوجاج والالد في الخصومة الذى ليس بمستقيم أي هو أعوج الخصومة يميل فلا يقوى عليه ولا يتمكن منه ومن ذلك قولهم لد الصبى وإنما يلد في شق فيه وليس يلد مستقيما فهو يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج وقال فسر لنا الحكم بن ظهير فقال ألد الخصام أي أعوج الخصام وأنشد أبو السمح لابن مقبل لقد طال عن دهماء لدى وعذرتي * وكتمانها أكنى بأم فلان جعلت لجهال الرجال مخاضة * ولو شئت قد بينتها بلساني – اللدد – الجدال والخصومة.. وقال أبو عمرو الالد الذى لا يقبل الحق ويطلب الظلم وقوله – مخاضة – يقول إنهم يخوضون في شعرى ويطلبون معانيه فلا يقفون عليها.. وأنشد أبو السمح لا تفتر الكذب القبيح فإنه * للمرء معتبة وباب ملام واصدق بقولك حين تنطق إنه * للصدق فضل فوق كل كلام وإذا صدقت على الرجال خصمتهم * والصدق مقطعة على الظلام وإذا رماك غشوم قوم فارمه * باللد مشتغر المدى غشام


[ 79 ]

لا تعرضن على العدو وسيلة * واحذر عدوك عند كل مقام واعلم بأنه قد ليس يوما نافعا * عند الليم وسائل الارحام ما لم يخفك ويلق عندك جانبا * خشنا وتصبحه بكأس سمام وإذا حللت بمأزق فاكرم به * حتى تفرج حلبة الظلام فاصبر على كرب البلاء فإنه * ليس البلاء على الفتى بلزام واعلم بأنك ميت ومحدث * عما فعلت معاشر الاقوام معنى قوله – مشتغر المدى – أي بعيد المدى.. ومعنى قوله – لا تعرضن على العدو وسيلة – أي لا تقاربه ولا تصانعه ولا يكن بينك وبينه إلا صدق العداوة.. وأنشد أيضا شاهدا لما تقدم يا وهب أشبه باطلى وجدى * أشبهت أخلاقي فأشبه مجدي * وجد لى عند الخصوم اللد.. [ قال الشريف المرتضي ] رضي الله عنه ومن أحسن ما وصف به الثغر قول فضالة ابن وكيع البكري تبسم عن حم اللثات كأنها * حصى برد أو أقحوان كثيب إذا ارتفعت عن مرقد علمت به * من اليانع القورى فرع قضيب قضيب نجاه الركب أيام عرفوا * لها من ذرى ما للنبات خضيب يعنى من يانع الاراك.. ومعنى نجاه أي قطعه ومثله استنجاه أيضا وما للنبات – أي ناعمه وحسنه يقال عشب مال وماد سواء أي مياد ناعم.. ومعنى – أيام عرفوا – أي اجتنوه من عرفات وذكر أنه خضيب بالطيب الذى بيديها لادمانها لاستعماله.. وقال الاخطل يصف ثغرا


[ 80 ]

شتيتا يرتوى الظمآن منه * إذا الجوزاء أحجبت الضبابا (1) – الشتيت – هو المتفرق المفلج الذى ليس بمتراكب.. ومعنى قوله – إذا الجوزاء أحجبت الضبابا – فيه وجهان.. أحدهما أنه أراد سقوط الجوزاء وذلك في شدة البرد وطول الليل إذا انجحرت الضباب من البرد وتغيرت الافواه لطول ليل الشتاء يقول فثغرها حينئذ عذب غير متغير.. والوجه الثاني أنه أراد عند طلوع الجوزاء في شدة الحر إذا انجحرت الضباب من شدة الحر والقيظ فالظلمآن حينئذ أشد عطشا وأحر غلة فريقها يرويه ويبرد غلته.. وقال آخر فويل بها لمن تكون ضجيعه * إذا ما الثريا ذبذبت كل كوكب قوله – فويل بها – من الزجر المحمود مثل قولهم ويل أمه ما أشجعه فكأنه يقول نعم الضجيع هي عند السحر إذا تحادرت النجوم للمغيب كما قال ذو الرمة


(1) – وفي رواية شنيبا بدل شنيبا والروايتان متقاربتا المعنى فان الشنيب كثير الشنب وهو ماء ورقه وبرد وعذوبة في الاسنان وقيل حد فيها أو هو نقط بيض فيها أو حدة الانياب كالغرب تراها كالمنشار.. والشتيت المفلج والبيت من قصيدة يمدح بها عبد الله بن سعيد بن العاص ومطلعها ألم تعرض فتسأل آل لهو * وأروى والمدلة والربابا بأيام خوال صالحات * ولذات تذكرني الشبابا نزلت بهن فاستذكيت نارا * قليلا ثم أسرعن الذهابا وكن إذا بدون بقبل صيف * ضربن بجانب الجفر القبابا نواعم لم يقظن بجد مقل * ولم يقذفن عن حفض غرابا – الجد – البئر – ومقل – أرض – والحفض – البعير يحمل متاع القوم إذا انتقلوا.. وقوله لم يقذفن عن حفض غرابا أي لم يعالجن أنفسهن وكأنه وصفهن بالخفر والستر ومنها ونفس المرء ترصدها المنايا * وتحذر صولة حتي يصابا إذا مرت به ألقت عليه * أحد سلاحها ظفرا ونابا

[ 81 ]

وأيدي الثريا جنح في المغارب وقال الآخر نعم شعار الفتى إذا برد الليل سحيرا وقفقف الصرد (1) وإنما يعنى أنها في ذلك الوقت الذى تتغير فيه الافواه طيبة الريق عذبته.. أو أنشد أبو العباس ثعلب لام الهيثم وعارض كجانب العراق * أنبت براقا من البراق يذاق مثل العسل المذاق قال أبو العباس في هذا قولان.. أحدهما أنها وصفت ثغرا – وعارضاه – جانباه – والعراق – ما يثنى ثم يخرز كعراق القربة فأخبرت أنه ليس فيه اعوجاج ولا تراكب ولا نقص.. وقولها – أنبت براقا من البراق – أي ما تنبته الارض إذا مطرت من النور.. قال المبرد والقول الاول عندنا أصح لذكرها العسل.. وأنشد أحمد بن يحيى لتأبط شرا وشعب كشك الثوب شكس طريقة * مجامع ضوجيه نطاف مخاصر تعسفته بالليل لم يهدنى له * دليل ولم يحسن له النعت خابر (2) قال يعنى – بالشعب – فم جارية – كشك الثوب – يعنى كف الثوب إذا خاطه الخياط – والشكس – الضيق يصفها بصغر الفم وحسنه ورقة الشفتين – وضوجاه – جانباه وضوج الوادي جانبه – والمخاضر – البادرة من الخصر ويعنى – بالنطاف – الريق.. وقوله – لم يهدنى له دليل – أي لم يصل إليه غيرى كما قال جرير ألا رب يوم قد شربت بمشرب * شفا الغيم لم يشرب به أحد قبلى


(1) – وبعده.. زينها الله في الفؤاد كما زين في عين والد ولد (2) وفسر ابن سيدة هذين البيتين بما نصه.. قال فانه عنى بالشعب ههنا الفم وجعله كشك الثوب لاصطفاف نبته وتناسق بعضه في اثر بعض كالخياطة في الثوب وجعل جانبي الفم ضوجين (11 – امالي رابع)

[ 82 ]

– الغيم – والغين العطش وانما يعنى ريق جارية.. قال أبو العباس وقال آخرون بل يعنى شعبا من الشعاب مخنوقا ضيقا سلكه وحده قال أبو العباس إنما كنى بالشعب عن فم جارية ثم أخذ في وصف الشعب ليكون الامر أشد التباسا.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه والاشبه أراد أن يكون شعبا حقيقيا لان تأبط شرا لصا وصافا للاهوال التى يمضى بها ويعاينها في تلصصه وكان كثيرا ما يصف تدليه من الجبال وتخلصه من المضايق وقطعه المفاوز وأشباه ذلك والقطعة التى فيها البيتان كأنها تشهد بأن الوصف لشعب لا لفم جارية لانه يقول بعد قوله كشك الثوب لدن مطلع الشعرى قليل أنيسه * كأن الطخا في جانبيه معاجر به من نجاء الدلو بيض أقرها * خبار لصم الصخر فيه قراقر وقررن حتى كن للماء منتهى * وغادرهن السيل فيما يغادر به نطف زرق قليل ترابها * جلا الماء عن أرجائها فهو حائر.. وهذه الاوصاف كلها لا تليق إلا بالشعب دون غيره وتأول ذلك على الفم تأول بعيد وقد أحسن كثير في قوله يصف ثغرا ويوم الخيل قد سفرت وكفت * رداء العصب عن رتل براد وعن نجلاء تدمع في بياض * إذا دمعت وتنظر في سواد وعن متكاوس في العقص جثل * أثيث النبت ذى غدر جعاد (1)


(1) – العصب – ضرب من البرود اليمنية – والرتل – بالفتح حسن التنضيد مستو النبات وقيل مفلج وربما قالوا رجل رتل الاسنان مثل تعب إذا كان مفلجها – وبراد – كغراب بارد.. وقوله – عن متكاوس – المتكاوس هنا شعر رأسها أي كثيف مأخوذ من تكاوس النبت وهو التفافة وسقوط بعضه على بعض – وجثل – كثير ملتف أيضا.. والبيت من

[ 83 ]

وقال أبو تمام في هذا المعنى وعلى العيس خرد يتبسمن * عن الاشنب الشتيت البراد


قصيدة مشهورة له يتغزل بها في غاضرة جارية أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ثم رثي فيها صاحبه خندق الاسدي وخندق هذا هو الذي أدخل كثيرا في مذهب الخشبية وأول القصيدة شجا أظعان غاضرة الغوادى * بغير مثيبة غرضا فؤادى أغاضر لو شهدت غداة بنتم * حنو المرضعات على وسادى أويت لعاشق لم تشكميه * نوافذه تلذع بالزناد * ويوم الخيل.. الابيات الثلاثة وغاضرة الغداة وان نأتنا * وأصبح دونها قطر البلاد أحب ظعينة وبنات نفسي * إليها لو بللن بها صوادى ومن دون الذى أملت ودا * ولو طالبتها خرط القتاد وقال الناصحون تحل منها * ببذل قبل شميتها الجماد وقد وعدتك لو أقبلت ودا * فلج بك التدلل في تعادى فأسررت الندامة يوم نادى * برد جمال غاضرة المنادى تمادى البعد دونهم فامست * دموع العين لج بها التمادي لقد منع الرقاد فبت ليلى * تجافيني الهموم عن الوساد عدانى أن أزورك غير بغض * مقامك بين مصفحة شداد وانى قائل ان لم أزره * سقت ديم السواري والغوادي محل أخى بنى أسد قنونا * فما والى إلى برك الغماد مقيم بالمجازة من قنونا * وأهلك بالاجيفر والثماد فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادى وكل ذخيرة لابد يوما * ولو بقيت تصير الي نفاد فلو فوديت من حدث المنايا * وقيتك بالطريف وبالتلاد (*)

[ 84 ]

كان شوك السيال حسنا فأضحى * دونه للفراق شوك القتاد (1) وقال البحترى


(1) – البيتان من قصيدة يمدح بها أبا عبد الله أحمد بن أبى دؤاد ومطلعها سعدت غربة النوى بسعاد * فهى طوع الاتهام والانجاد * فارقتنا فللمدامع أنوا * ء سوار على الخدود غوادي كل يوم يسفحن دمعا طريفا * يمترى مزنه بشوق تلاد واقع بالخدود والحر منه * واقع بالقلوب والاكباد وعلى العيس البيتين.. وخمسة أبيات تقدمت ثم قال يا أبا عبد الله أوريت زندا * في يدى كان دائم الاصلاد أنت جبت الظلام عن سنن الآمال إذ ضل كل هاد وحادي فكأن المغذ فيها مقيم * وكأن السارى عليهن غادى وضياء الآمال أفتح في الطرف وفي القلب من ضياء البلاد ومنها بعد ما أصلت الوشاة سيوفا * قطعت في وهي غير حداد من أحاديث حين دوختها بالرأي * كانت ضعيفة الاسناد فنفى عنك زخرف القول سمع * لم يكن فرصة لغير السداد ضرب الحلم والوقار عليه * دون عور الكلام بالاسداد وحوان أبت عليها المعالي * ان تسمى مطية الاحقاد ولعمري ان لو أصخت لاقدمت بحتفي صينية الحساد * حمل العبء كاهل لك أمسى * لخطوب الزمان بالمرصاد عاتق معتق من الهون الا * من مقاساة مغرم أو نجاد للحمالات والحمائل فيه * كلحوب الموارد الاعداد ملينك الاحساب أي حياة * وحيا أزمة وحية وادى * لو تراخت يداك عنها فواقا * أكلتها الايام أكل الجراد

[ 85 ]

وأرتنا خدا يراح له الور * دويشتمه جنى التفاح وشنيبا يغض من لؤلؤ النظم ويزري على شتيت الاقاحى فأضاءت تحت الدجنة للشر * ب وكادت تضئ للمصباح (1)


أنت ناضلت دونها بعطايا * عائدات على العفاة بوادي * فإذا هلهل النوال أتتنا * ذات نيرين مطبقات الايادي كل شئ غث إذا عاد والمعروف غث ما كان غير معاد كادت المكرمات تنهد لولا * انها أيدت بحي إياد * عندهم فرجة اللهيف وتصديق ظنون الرواد والوراد باحاظي الجدود لا بل بوشك الجد لابل بسؤدد الاجداد وكأن الاعناق يوم الوغى أو * لى باسيافهم من الاغماد فإذا ضلت السيوف غداة الرو * ع كانت هواديا للهوادى قد بثثتم غرس المودة والشحناء في قلب كل قار وبادى أبغضوا عزكم وودوا نداكم * فقراكم من بغضة وودادي لاعدمتم غريب مجد ربقتم * في عراه نوافر الاضداد (1) والابيات من قصيدة يقولها في أبى مسلم البصري ومطلعها هين ما يقول فيك اللاحى * بعد اطفاء غلتي والتياحى كنت أشكو شكوى المصرخ فالآن ألاقى النوي بدمع صراح هل إلى ذى تجنب من سبيل * أم على ذي صبابة من جناح فسقى جانب المناظر فالقصر * هزيم المجلجل السحاح حين جاءت فوت الرياح فقلنا * أي شمس تجئ فوت الرياح هزمنا شرخ الشباب فجالت * فوق خصر كثير جول الوشاح وأرتنا خدا يراح له الور * دو يشتمه جنى التفاح * وشتيتا يغض من لؤلؤ النظم ويزري على شتيت الاقاحى

[ 86 ]

وقال أيضا سفرت كما سفر الربيع الطلق عن * ورد يرقرقه الضحى مصقول وتبسمت عن لؤلؤ في رصفه * برد يرد حشاشة المتبول وقد جمع كلما وصف به الثغر في قوله كأنما تبسم عن لؤلؤ * منضد أو برد أو أقاح


فاضاءت تحت الدجنة للشر * ب وكادت تضئ للمصباح وأشارت على الغناء بالحا * ظ مراض من التصابي صحاح فطربنا لهن قبل المثاني * وسكرنا منهن قبل الراح قد تدير الجفون من عدم الا * لباب ما لا يدور في الاقداح يا أبا مسلم تلفت الي الشر * ق وأشرف للبارق اللماح مستطيرا يقوم في جانب الليل على عرضه مقام الصباح ومنيفا يريك منبج نصا * وهي خضراء من جميع النواحي ورياضا بين العبيدي فالقصر فاعلي سمعان فالمستراح عرصات قد أبرحت حرق الشوق اليهن أيما ابراح فإذا شئت فارفع العيس ينحتن بحر الوجيف تحت القداح لتعين السحاب ثم على إسقاء * أرض غرب الفرات براح لا تتم السقيا بساحة قوم * لم يبيتوا في نائل وسماح ولعمري لئن دعيتك للجو * دلقدما لبيتنى بالنجاح خلق كالغمام ليس له بر * ق سوى بشر وجهك الوضاح ارتياحا للطالبين وبذ * لا للمعالي للباذل المرتاح أي جديك لم يفت وهو ثان * من مساعيه السن المداح وكلا جانبيك سبط الخوافى * حين تسموا أثبت ريش الجناح شرف بين مسلم مسلم الجو * د وعبد العزيز والصباح

[ 87 ]

(مجلس آخر 66) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله) الي آخر الآية.. فقال ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالة على أنه جعل الكافر كافرا لانه أخبر بانه جعل منهم من عبد الطاغوت كما جعل القردة والخنازير وليس يجعله كافرا إلا بأن يخلق كفره.. الجواب يقال له قبل أن يتكلم في تأويل الآية بما تحتمله من المعاني كيف يجوز أن يخبرنا تعالى بأنه يجعلهم كفارا وخلق كفرهم والكلام خرج مخرج الذم لهم والتوبيخ على كفرهم والمبالغة في الازراء عليهم وأى مدخل لكونه خالقا لكفرهم في باب ذمهم وأى نسبة بينه وبينهم وبين ذلك بل لا شئ أبلغ في عذرهم وبراءتهم من أن يكون خالقا لما ذمهم من أجله وهذا يقتضى أن يكون الكلام متناقضا مستحيل المعنى ونحن نعلم أن أحدا إذا أراد ذم غيره وتوبيخه وتهجينه بمثل هذا الضرب من الكلام إنما يقول ألا أخبركم بشر الناس وأحقهم بالذم واللوم من فعل كذا وصنع كذا وكان على كذا وكذا فيعدد من الاحوال والافعال قبائحها ولا بجوز أن يدخل في جملتها ما ليس بقبيح ولا ما هو من فعل الذام أو من جهته حتى يقول في جملة ذلك ومن شاغل بالصنعة الفلانية التى أسلمها إليه وحمله عليها وإن عقلا يقبل هذه الشبهة لعقل ضعيف سخيف.. فان قيل أليس قد ذمهم في الكلام بأن جعل منهم القردة والخنازير ولاصنع لهم في ذلك فكذلك يجوز أن يذمهم ويجعلهم عابدين للطاغوت وإن كان من فعله.. قلنا إنما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم فجرى ذلك مجرى أفعالهم كما ذمهم بأن لعنهم وغضب عليهم من حيث استحقو ذلك منه تعالى بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمهم بها لان ذلك مما لا يستحقونه بفعل متقدم كاللعن والمسخ.. ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول لا ظاهر للآية يقتضى ما ظنوه وأكثر ما تضمنته الاخبار بأنه جعل وخلق من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير ولا شبهة في أنه تعالى هو خالق الكافر وأنه لا خالق له سواه غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره وجعله كافرا وليس لهم أن يقولوا كما نستفيد من قوله


[ 88 ]

تعالى جعل منهم القردة والخنازير أنه جعل ما به كانوا كذلك هكذا نستفيد من قوله جعل منهم من عبد الطاغوت أنه خلق ما به كان عابدا للطاغوت وذلك إنما استفدنا ما ذكروه من الاول لان الدليل قد دل على أنما به يكون القرد قردا والخنزير خنزيرا لا يكون إلامن فعله تعالى وليس ما به يكون الكافر كافرا مقصورا على فعله تعالى بل قد دل الدليل على أنه يتعالى عن فعل ذلك وخلقه فافترق الامران.. وفى الآية وجه آخر وهو أن لا يكون قوله تعالى وعبد الطاغوت معطوفا على القردة والخنازير بل معطوفا على من لعنه الله وغضب عليه وتقدير الكلام من لعنه الله ومن غضب عليه ومن عبد الطاغوت ومن جعل الله منهم القردة والخنازير وهذا هو الواجب لان عبد فعل والفعل لا يعطف على الاسم فلو عطفناه على القردة والخنازير لكنا قد عطفنا فعلا على اسم فالاولى عطفه على ما تقدم من الافعال.. وقال قوم يجوز أن يعطف عبد الطاغوت على الهاء والميم في منهم فكأنه تعالى جعل منهم ومن عبد الطاغوت القردة والخنازير وقد يحذف من في الكلام قال الشاعر أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء (1) أراد ومن يمدحه وينصره.. فإن قيل فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح أين أنتم عن قراءة من قرأ وعبد بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت ومن قرأ عبد الطاغوت بضم العين والباء ومن قرأ وعبد الطاغوت بضم العين والتشديد


(1) قوله – فمن يهجو رسول الله منكم – الخ قيل ان فيه ثلاثة عشر مرفوعا.. فمنها قوله فمن يهجو فيها ثلاث مرفوعات المبتدأ والفعل المضارع والضمير المستكن.. ومنها المبتدأ المقدر في قوله ويمدحه والمعنى ومن يمدحه فيكون هنا على حسب المثال الاول ثلاث مرفوعات أيضا.. ومنها المرفوعان في قوله وينصره أحدهما الفعل المضارع والثانى الضمير المستكن فيه ومنها المرفوعات الاربعة في قوله سواء اثنان من حيث انه في مقام الخبرين للمبتدأين واثنان آخران من حيث ان في كل واحد ضميرا راجعا إلى المبتد والباقى المبتدأ المحذوف المعطوف على قوله من في الاول في قوله فمن يهجو أي ومن يمدحه ومن ينصره

[ 89 ]

ومن قرأ وعباد الطاغوت.. قلنا المختار من هذه القراءة عند أهل العربية كلهم القراءة بالفتح وعليها جميع القراء السبعة إلا حمزة فإنه قرأ عبد بفتح العين وضم الباء وباقى القراآت شاذة غير مأخوذ بها.. قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه في معاني القرآن عبد الطاغوت نسق على من لعنه الله قال وقد قرئت عبد الطاغوت والذى أختاره وعبد الطاغوت.. وروى عن ابن مسعود رحمه الله وعبدوا الطاغوت فهذا يقوى وعبد الطاغوت قال ومن قرأ وعبد الطاغوت بضم الباء وخض الطاغوت فإنه عند بعض أهل العربية ليس بالوجه من جهتين إحدهما أن عبد على وزن فعل وليس هذا من أمثلة الجمع لانهم فسروه بخدم الطاغوت والثانى أن يكون محمولا على وجعل منهم عبد الطاغوت ثم خرج إلى من قرأ عبد وجها فقال إن الاسم بنى على فعل كما يقال رجل حذر أي مبالغ في الحذر فتأويل عبد أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان وهذا كلام الزجاج.. وقال أبو على الحسن بن عبد الغفار الفارسى محتجا لقراءة حمزة ليس عبد لفظ جمع ألا ترى أنه ليس في أبنية الجموع شئ على هذا البناء ولكنه واحد يراد به الكثرة ألا ترى أن في الاسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الافراد ومعناه الجمع كقوله تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وكذلك قوله وعبد الطاغوت جاء على فعل فان هذا البناء يراد به الكثرة والمبالغة وذلك نحو يقظ وندس فهذا كله تقديره أنه قد ذهب في عبادة الشيطان والتذلل له كل مذهب قال وجاء على هذا لان عبد في الاصل صفة وإن كان قد استعمل استعمال الاسماء واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة ألا ترى أن الابرق والابطح وإن كانا قد استعملا استعمال الاسماء حتى كسرا أهل النحو عندهم من التكسير في قولهم في أبارق وأباطح فلم يزل عنه حكم الصفة يدلك على ذلك تركهم صرفه كتركهم صرف أحمر ولم يجعلوا ذلك كأفكل وأيدع فكذلك عبد فإن كان قد استعمل استعمال الاسماء فلم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على فعل وهذا كلام مفيد في الاحتجاج لحمزة فإذا صحت قراءة حمزة وعادلت قراءة الباقين المختارة وصح أيضا سائر ماروى من القراآت التى حكاها السائل كان الوجه الاول الذى ذكرناه في الآية يزيل الشبهة فيها.. ويمكن (12 – امالي رابع)


[ 90 ]

في الآية وجه آخر على جميع القراآت المختلفة في عبد الطاغوت وهو أن يكون المراد أن يجعل منهم عبد الطاغوت أي نسبه إليهم وشهد عليه بكونه من جملتهم ويجعل في مواضع قد تكون بمعنى الخلق والفعل كقوله (وجعل الظلمات والنور) وكقوله تعالى (وجعل لكم من الجبال أكنانا) وهى ههنا تتعدى إلى مفعول واحد وقد تكون أيضا بمعنى التسمية والشهادة كقوله تعالى (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) وكقول القائل جعلت البصرة بغداد وجعلتني كافرا وجعلت حسنى قبيحا وما أشبه ذلك فهى ههنا تتعدى إلى مفعولين ولجعل مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها فكأنه تعالى نسب عبد الطاغوت إليهم وشهد أنهم من جملتهم.. فإن قيل لو كانت جعل ههنا على ما ذكرتم لوجب أن يكون متعدية إلى مفعولين لانها إذا لم تتعد إلا إلى مفعول واحد فلا معنى لها إلا الخلق.. قلنا هذا غلط من متوهمه لان جعل ههنا متعدية إلى مفعولين وقوله تعالى منهم يقول مقام المفعول الثاني عند جميع أهل العربية لان كل جملة تقع في موضع خبر المبتدا فهى تحسن أن تقع في موضع المفعول الثاني كجعلت وظننت وما أشيههما.. وقال الشاعر أبا الاراجيز يابن اللوم توعدنى * وفى الاراجيز خلت اللؤم والخور (1)


(1) – الاراجيز – جمع أرجوزة بمعنى الرجز وهو اسم بحر من بحور الشعر ولكن أراد بها القصائد المرجزة الجارية على هذا البحر.. وقوله – توعدنى – من الايعاد لا من الوعد – واللؤم – بضم اللام وسكون الهمزة وهو أن يجتمع في الانسان الشح ومهانة النفس ودناءة الآباء فهو من أذم ما يهجى به وقد بالغ يجعل المهجو ابنا له اشارة إلى أن ذلك غريزة فيه.. وأما اللوم بفتح اللام وسكون الواو فهو العذل يقال لامه على كذا لو ما ولومة فهو ملوم.. وقوله – الخور – بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو أيضا وفي آخره راء وهو الضعف يقال رجل خوار ورمح خوار وأرض خوارة يقول انك راجز لا تحسن القصائد والتصرف في أنواع الشعر فجعل ذلك دلالة على لؤم طبعه وضعفه.. فقوله ابا الاراجيز الهمزة للتوبيخ والانكار والباء تتعلق بقوله توعدنى وقوله يابن اللؤم منادى مضاف

[ 91 ]

وقد فسر هذا على وجهين أحدهما على الغاء خلت من حيث توسطت الكلام فيكون في الاراجيز على هذا في موضع رفع بأنه خبر المبتدا. والوجه الثاني (1) على إعمال خلت


منصوب معترض بينهما وقوله اللؤم مرفوع بالابتداء والخور عطف عليه وخبره قوله في الاراجيز وقوله خلت بينهم اعتراض ولو نصبهما علي المفعولية لجاز وكان الظرف حينئذ في محل النصب مفعولا ثانيا وخلت بمعنى علمت.. والبيت للعين المنقرى واسمه منازل بن زمعة من بني منقر بن عبيد بن الحارث بن تميم يهجو به رؤبة بن العجاج كذا قال بعضهم.. وقال النحاس يهجو العجاج وقال أبو الحجاج وبيت اللعين من كلمة رويها لام وقبله اني أنا ابن جلا ان كنت تعرفني * يا رؤب والحية الصماء في الجبل ما في الدواوين في رجلى من عقل * عند الرهان ولا أكوى من العقل أبا لا راجيز يابن اللؤم توعدنى * وفى الاراجيز خلت اللؤم والفشل هكذا رواه الجاحظ في كتاب الحيوان على أن الاقواء في البيت الثالث وأثبت الابيات الثلاثة في كتاب الوحشي وليس فيها إقواء لانه روى فيها وفي الاراجيز رأس القول والفشل (1) قوله – والوجه الثاني على أعمال خلت فيكون في الاراجيز في موضع نصب – الخ لم نر هذا التوجيه لغيره ونص سيبويه في كتابه ومن قال عبد الله ضربته نصب فقال عبد الله أظنه ذاهبا وتقول أظن عمرا منطلقا وبكرا أظنه خارجا كما قلت ضربت زيدا وعمرا كلمته وان شئت رفعت على الرفع في هذا فان الغيت قلت عبد الله أظن ذاهب وهذا إخال أخوك وفيها أرى أبوك وكلما أردت الالغاء فالتأخير أقوى وكل عربي جيد قال الشاعر وهو اللعين * أبا الاراجيز يابن اللؤم الخ * أنشده يونس مرفوعا وانما كان التأخير أقوي لانه انما يجئ بالشك بعد ما يمضى كلامه على اليقين أو بعد ما يبتدئ وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك.. وقال في التوضيح فصل لهذه الافعال ثلاثة أحكام أحدها الاعمال وهو الاصل وهو واقع في الجميع والثاني الالغاء وهو ابطال العمل لفظا ومحلا لضعف العامل بتوسطه أو تأخره كزيد ظننت قائم وزيد قائم ظننت.. قال منازل بن ربيعه.. أبا الاراجيز الخ.. قال يس قوله خلت اللؤم والخور قال المصنف في الحواشي قال

[ 92 ]

فيكون في الاراجيز في موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثاني وهذا بين لمن تدبره.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه.. أنشد ثعلب ابن الاعرابي أما وأبى للصبر في كل موطن * أقر لعيني من غنى رهن ذلتي ويروى – من عنى رهن ذلتي وإنى لاختار الظما في مواطن * على بارد عذب وأعيا بغلتي وأستر ذنب الدهر حتى كأنه * صديق ولا أغتابه عند زلتى ولست كمن كان ابن أمي مقترا * فلما أفاد المال عاد ابن علة فدابرته حتى انقضى الود بيننا * ولم أتمطق من نداه ببلة وكنت له عند الملمات عدة * أسد بمالى عنده كل خلة [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه الاولى في هذه القطعة إطلاقها – الخلة – الحاجة والخلة أيضا الخصلة والخلة بالضم المودة والخلة أيضا بالضم من كان خلوا من المرعى والخلة بالكسر ما يخرج من الاسنان بالخلال والخليل الحبيب من المودة والمحبة والخليل أيضا الفقير وكلا الوجهين قد ذكر في قوله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ومنه حديث ابن مسعود تعلمو القرآن فإنه لا يدرى أحدكم متى يختل إليه.. قال أبو العباس ثعلب يكون من شيئين أحدهما من الخلة التى هي الحاجة أي متى يحتاج إليه ويكون من الخلة وهى الثبات الخلود ويكون معناه متى تشتهى ما عنده يشبهه بالابل لانها ترعى الخلة فإذا ملتها عدلوا بها إلى الحمض فإذا ملت الحمض اشتهت الخلة ومن أمثالهم جاؤا مخلين فلاقوا حمضا أي جاؤا مشتهين لقتالنا فلاقواما كرهوا والخلة أيضا بنت المخاض والذكر الخل ويقال جسم خل إذا كان مهزولا.. قال الشاعر


أبو الفتح فيما نقل عنه عبد المنعم الوجه الرفع لان الواو ليست للعطف لاختلاف الجملتين طلبا وخبرا والعطف نظير التثنية وواو الحال تطلب الابتداء فالظرف خبر واللؤم مبتدا ولا يمنع النصب على أن يقدر مبتدأ

[ 93 ]

فاسقنيها يا سواد ابن عمرو * إن جسمي بعد خالي لخل (1)


(1) – فاسقنيها – الخ البيت من قصيدة مشهورة من مختار أشعار القبائل لابي تمام قيل إنها للشنفري يرثي خاله تأبط شرا وذلك غلط لان تأبط شرا ليس خالا له ولان الشنفري مات قبله وقيل انها لابن أخت تأبط شرا يرثيه وقيل انها من أوضاع خلف الاحمر وأولها ان بالشعب الذى دون سلع * لقتيلا دمه ما يطل * * قذف العبء على وولي * أنا بالعبء له مستقل * ووراء الثار منه ابن أخت * مصع عقدته ما تحل * مطرق يرشح سما كما * أطرق أفعي ينفث السم صل خبر ما نابنا مصمئل * جل حتي دق فيه الاجل بزنى الدهر وكان غشوما * بأبي جاره ما يذل * شامس في القر حتى إذا ما * ذكت الشعرى فبرد وظل يابس الجنبين من غير بؤس * وندى الكفين شهم مدل ظاعن بالحزم حتى إذا ما * حل حل الحزم حيث يحل غيث مزن غامر حيث يجدي * وإذا يسطو فليث أبل مسبل في الحى أحوى رفل * وإذا يغزو فسمع أزل وله طعمان أري وشري * وكلا الطعمين قد زاق كل يركب الهول وحيدا ولا يصحبه * الا اليماني الافل وفتو هجروا ثم أسروا * ليلهم حتى إذا أنجاب حلوا كل ماض قد تردي بماض * كسنا البرق إذا ما يسل فادركنا الثأر منهم ولما * ينج ملحيين الا الاقل فاختسوا أنفاس ثوم فلما * هوموا رعتهم فاشمعلوا فلئن فلت هذيل شباه * لبما كان هذيلا يفل

[ 94 ]

ويقال فصيل مخلول إذا شد لسانه حتى لا يرضع ويقال خللته فهو خليل ومخلول ومثله أجررته.. قال الشاعر فلو أن قومي أنطقتني رماحهم * نطقت ولكن الرماح أجرت (1)


وبما أبركها في مناخ * جعجع ينقب فيه الاظل وبما صبحها في ذراها * منه بعد القتل نهب وشل صليت منى هذيل بخرق * لا يمل الشر حتى يملوا ينهل الصعدة حتي إذا ما * نهلت كان لها منه عل حلت الخمر وكانت حراما * وبلاي ما ألمت تحل * فاسقنيها يا سواد بن عمرو * ان جسمي بعد خالي لخل تضحك الضبع لقتلى هذيل * وتري الذئب لها يستهل وعتاق الطير تمشى بطانا * تتخطاهم فما تستقل * (1) قوله – فلو أن قومي – الخ يقول لو صبروا وطعنوا برماحهم أعدائهم لامكنني مدحهم ولكن فرارهم صيرني كالمشقوق اللسان لانى ان مدحتهم بما لم يفعلوا كذبت ورد على يقال أجررت الفصيل إذا شققت لسانه لئلا يرضع أمه.. قال أبو القاسم الزجاجي في أماليه الوسطي أخبرنا ابن شقير قال حضرت المبرد وقد سأله رجل عن معنى قول الشاعر – فلو أن قومي أنطفتنى رماحهم – البيت فقال هذا كقول الآخر وقافية قيلت فلم أستطع لها * دفاعا إذا لم تضربوا بالمناصل فادفع عن حق بحق ولم يكن * ليدفع عنكم قالة الحق باطلى قال أبو القاسم معنى هذا ان الفصيل إذا لهج بالرضاع جعلوا في أنفه خلالة محدودة فإذا جاء يرضع أمه نخسته تلك الخلالة فمنعته من الرضاع فان كف والا أجروه والاجرار أن يشق لسان الفصيل أو يقطع طرفه فيمتنع حينئذ من الرضاع ضرورة فقال قائل البيت الاول ان قومي لم يقاتلوا فانا مجر عن مدحهم كما يجر الفصيل عن الرضاع ففسره أبو العباس بالبيتين اللذين مضيا وللاجرار موضع آخر وهو أن يطعن الفارس الفارس

[ 95 ]

أي لم يعملوا في الحرب شيئا فكنت أفتخر بهم وقوله أقر لعيني من غنى رهن ذلتي يقول أختار الصيانة مع الفقر أحب إلى من الغنى مع الذل ومثله إذا كان باب الذل من جانب الغنى * سموت إلى العلياء من جانب الفقر صبرت وكان الصبر منى سجية * وحسبك أن الله أثنى على الصبر.. وقوله – وأستر ذنب الدهر حتى كأنه صديق – أراد أنى لا أشكو ما يمسني به الدهر


فيمكن الرمح فيه ثم يتركه منهزما يجر الرمح فذلك قاتل لا محالة ومنه قول الشاعر وآخر منهم أجررت رمحي * وفي البجلى معبلة وقيع وقوله ونقى بأفضل ما لنا أحسابنا * ونجر في الهيجا الرماح وندعى قوله – وندعى – أي ننتسب في الحرب كما ينتسب الشجاع في الحرب فيقول أنا فلان بن فلان.. والبيت من أبيات لعمرو بن معدى كرب الزبيدى رضى الله عنه وأولها ولما رأيت الخيل زورا كأنها * جداول زرع أرسلت فاسبطرت فجاشت إلى النفس أول مرة * فردت على مكروهها فاستقرت على م تقول الرمح يثقل عاتقي * إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت لحا الله جرما كلما ذر شارق * وجوه كلاب هارشت فاز بأرت فلم تغن جرم نهدها إذ تلاقيا * ولكن جرما في اللقاء ابذعرت ظللت كأني للرماح دريئة * أقاتل عن أبناء جرم وفرت فلو أن قومي أنطقتني رماحهم * نطقت ولكن الرماح أجرت وسبب هذه الابيات ان جرما ونهدا وهما قبيلتان من قضاعة كانتا من بني الحارث بن كعب فقتلت جرم رجلا من أشراف بني الحارث فارتحلت عنهم وتحولت في بني زبيد فخرجت بنو الحارث يطلبون بدم أخيهم فالتقوافعى عمرو جرما لنهد وتعبي هو وقومه لبنى الحارث ففرت جرم واعتلت بانها كرهت دماء نهد فهزمت يومئذ بنو زبيد فقال عمرو هذه الابيات يلومها ثم غزاهم بعد فانتصف منهم

[ 96 ]

من خصاصة بل أستر ذلك وأظهر التجمل حتى لا أسوء الصديق وأسر العدو وهذا المعنى أراد بقوله – ولا أغتابه عند زلتى – وقوله – فلما أفاد المال عاد ابن علة – والعرب تقول هم بنو أعيان إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة فإذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى قيل أولاد علات ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الانبياء أولاد علات أي أمهاتهم شتى وأبوهم واحد وكنى الشاعر بذلك عن التباعد والتقاطع والتقالى لان الاكثر من بنى العلات ما ذكرناه.. وقوله – ودابرته – أي قاطعته.. وقوله – ولم أتمطق من نداه ببلة – فالتمطق يكون بالشفتين والتلمظ يكون باللسان وكنى بذلك عن أنه لم يصب من خيره شيئا فصان نفسه عنه (مجلس آخر 67) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (الذى جعل لكم الارض فراشا) إلى قوله (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).. فقال ما الذى أثبت لهم العلم به وكيف يطابق وصفهم بالعلم ههنا لوصفهم بالجهل في قوله تعالى (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون).. الجواب قلنا هذه الآية معناها متعلق بما قبلها لانه تعالى أمرهم بعبادته والاعتراف بنعمته ثم عدد عليهم صنوف النعم التي ليست إلا من جهته ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته وإن العبادة إنما تجب لاجل النعم المخصوصة فقال جل من قائل (يا أيها الناس اعبدو ربكم الذى خلقكم) إلى آخر الآية ونبه في آخرها على وجوب توحيده والاخلاص له وأن لا يشرك به شيئا بقوله تعالى (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) ومعنى قوله تعالى (جعل لكم الارض فراشا) أي يمكن أن تستقروا عليها وتفرشوها وتتصرفوا فيها وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون وقد استدل أبو على بذلك وبقوله تعالى (وجعل لكم الارض بساطا) على بطلان ما تقوله له المنجمون من أن الارض كرية الشكل وهذا القدر لا يدرك لانه يكفى في النعمة علينا أن يكون فيها بسائط ومواضع مسطوحة يمكن التصرف عليها وليس يجب أن يكون


[ 97 ]

جميعها كذلك ومعلوم ضرورة أن جميع الارض ليس مسطوحا مبسوطا وإن كان مواضع التصرف منها بهذه الصفة والمنجمون لا يدفعون أن يكون في الارض بسائط وسطوح يتصرف عليها ويستقر فيها وإنما يذهبون إلى أن بجملتها شكل الكرة وليس له أن يقول قوله تعالى (وجعل لكم الارض فراشا) يقتضى الاشارة إلى جميع الارض وجملتها لا إلى مواضع منها لان ذلك تدفعة الضرورة من حيث أنا نعلم بالمشاهدة أن فيها ما ليس ببساط ولا فراش ولا شبهة في أن جعله تعالى السماء على ما هي عليه من الصفة مما له تعلق بمنافعنا ومصالحنا وكذلك إنزاله تعالى منها الماء الذى هو المطر الذى تظهر به الثمرات فننتفع بنيلها والاغتذاء بها.. فأما قوله تعالى (فلا تجعلوا الله أندادا) فإن الند هو المثل (1) والعدل.. قال حسان بن ثابت أتهجوا ولست له بند * فشركما لخير كما الفداء (2)


(1) قوله – فان الند هو المثل والعدل – قلت يكون الند للضد أيضا وفسر الناس قول الله عزوجل (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) علي جهتين.. قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس معناه فلا تجعلوا لله أعدالا فالاعدال جمع عدل والعدل المثل وقال أبو العباس عن الاثرم عن أبي عبيدة (فلا تجعلوا لله أندادا) أضدادا ويقال فلا ندي ونديدي نديدتى فالثلاث اللغات بمعنى واحد وانما دخلت الهاء في نديدة للمبالغة كما قالوا رجل علامة ونسابة وجاءني كريمة القوم يراد به البالغ في الكرم المشبه بالداهية ويقال في تثنية الند ندان وفى جمعه أنداد ومن العرب من لا يثنيه ولا يجمعه ولا يؤنثه فيقول الرجلان ندى والرجال ندي والمرأة ندي والنساء ندى (2) البيت من قصيدته المشهورة التى يقال انه قال بعضها في الجاهلية وبعضها في الاسلام.. ومطلعها عفت ذات الاصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بنى الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء (13 – امالي رابع)

[ 98 ]

وأما قوله تعالى (وأنتم تعلمون) فيحتمل وجوها.. أولها أن يريد أنكم تعلمون أن الانداد التى هي الاصنام وما جرى مجراها التى تعبدونها من دون الله تعالى لم تنعم عليكم بهذه النعم التى عددها ولا بأمثالها وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تعتقدون أن الاصنام خلقت السماء والارض من دون الله ولا معه تعالى فالوصف لهم ههنا بالعلم إنما هو لتأكد الحجة عليهم ويصح لزومها لهم لانهم من العلم بما ذكرناه ويكونون أضيق عذرا.. والوجه الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى (وأنتم تعلمون) أي تعقلون وتميزون وتعلمون ما تقولون وتفعلون وتأتون وتذرون لان من كان بهذه الصفة فقد استوفى شروط التكليف ولزمته الحجة وضاق عذره في التخلف عن النظر وإصابة الحق ونظير ذلك قوله تعالى (إنما يتذكر أولو الالباب.. وإنما يخشى الله من عباده العلماء).. والوجه الثالث ما قاله بعض المفسرين كمجاهد وغيره أن المراد بذلك أهل الكتابين


* لشعثاء التي قد تيمته * فليس لقلبه منها شفاء كأن سبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء * نوليها الملامة إن ألمنا * إذا ما كان مغث أو لحاء ونشر بها فتتركنا ملوكا * وأسدا ما ينهنهنا اللقاء * عدمنا خيلنا ان لم تروها * تثير النقع موعدها كداء ينازعن الاعنة مصيغات * على اكتافها الاسل الظماء فاما تعرضوا عنا ائتمرنا * وكان الفتح وانكشف الغطاء والا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء وقال الله قد يسرت جندا * هم الانصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد * سباء أو قتال أو هجاء * ونحكم بالقوافي من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغة فقد برح الخفاء بأن سيوفنا تركتك عبدا * وعبد الدار سادتها الاماء

[ 99 ]

التوارة والانجيل خاصة ومعنى تعلمون أي أنكم تعلمون أنه إله واحد في التوارة والانجيل فعلى الوجهين الاولين لا تنافى بين هذه الآية وبين قوله تعالى (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) لان علمهم تعلق بشئ وجهلهم تعلق بغيره وعلى الوجه الثالث إذا جعلت الآية التى سألنا عنها مختصة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية التى وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء ممن لم يكن ذا كتاب يجد فيه التوحيد وكل هذا واضح بحمد الله.. [ قال الشريف المرتضي ] رضى الله عنه ومما يفسر من الشعر تفاسير مختلفة والقول محتمل للكل قول امرئ القيس وقد أغتدى ومعى القانصان * وكل بمربأة مقتفر فيدركنا فغم داجن * سميع بصير طلوب نكر ألص الضروس حبى الضلوع * تبوع أريب نشيط أشر فأنشب أظفاره في النسا * فقلت هبلت ألا تنتصر فكر إليه بمبراته * كما خل ظهر اللسان المجر فظل يرنح في غيطل * كما يستدير الحمار النعر (1).. قال ابن السكيت – القانصان – الصائدان – والمربأة – الموضع المرتفع ير بأفيه – والمقتفر –


(1) وروى سميع بصير – في البيت – الثالث بدل تبوع أريب وتمام الابيات وأركب في الروع خيفانة * كا وجهها سعف منتشر لها حافر مثل قعب الوليد * ركب فيه وظيف عجر وساقان كعباهما أصمعا * ن لحم حماتيهما منبتر لها عجز كصفاة المسيل * أبرز عنها حجاف مضر لها متلتان خظاتا كما * أكب على ساعديه النمر وسالفة كسحوق اللبا * ن أضرم فيها الغوي السعر لها عذر كقرون النسا * ء ركبن في يوم ربح وصر

[ 100 ]

الذى يقتفر آثار الوحش ويتبعها.. وقال غيره – القانصان – البازى والصقر – والفغم – الكلب الحريص على الصيد يقال ما أشد فغمه أي ما أشد حرصه.. قال الاعشى يأم ديار بنى عامر * وأنت بآل عقيل فغم أي مولع والداجن – الذى يألف الصيد – والسميع – الذى إذا سمع حسا لم يفته – والبصير – الذى إذا رأى شيئا من بعد لم يكذبه بصره – والتبوع – الذى إذا تبع الصيد أدركه ولم يعجز عن لحوقه – والنكر – المنكر الحاذق بالصيد – ويروى نكر بالضم.. وقال ابن السكيت وغيره في قوله – فانشب اظفاره في النسا – أي أنشب الكلب اظفاره في نسا الثور والنسا عرق في الفخذ معروف – فقلت هبلت – أي فقلت للثور هبلت – ألا تنتصر – من الكلب قالوا وهذا تهكم منه بالثور واستهزاء به والاصل في التهكم الوقوع على الشئ يقال تهكم البيت إذا وقع بعضه على بعض.. ومعنى – فكر إليه بمبراته -.. قال ابن السكيت وغيره معناه فكر الثور إلى الكلب بمبراته أي بقرنه.. ومعنى – كما خل ظهر اللسان المجر – أي طعنه كما يجر الرجل لسان الفصيل وهو أن يقطع طرف لسانه أو يشقه حتى لا يقدر على الشرب من خلف أمه وذلك إذا كبر


لها جبهة كسراة المجن حذقه الصانع المقتدر لها منخر كوجار الضباع * فمنه تريح إذا تنبهر * لها ثنن كخوافى العقاب * سود يفين إذا تزبئر * وعين لها حدرة بدرة * شقت مآقيهما من أخر إذا أقبلت قلت دباءة * من الخضر مغموسة في الغدر وان أدبرت قلت أثفية * ململمة ليس فيها أثر * وان أعرضت قلت سرعوفة * لها ذنب خلفها مسبطر وللسوط فيها مجال كما * تنزل ذو برد منهمر * وتعدو كعدو نجاة الظباء * أخطأها الحاذف المقتدر لها وثبات كصوب السحاب * فواد خطا ؟ ؟ وواد مطر

[ 101 ]

واستغنى عن الشرب.. ومعنى – فظل يرنح في غيطل – أي ظل الكلب يرنح أي يميل ويميد كالسكران – والغيطل – الشجر الملتف ويكون أيضا الجلبة والصياح.. وقوله – كما يستدير الحمار النعر – والنعر الذى يدخل في رأسه ذباب أزرق أو أخضر (1) فيطمح برأسه وينزو فشبه الكلب في اضطرابه ونزوه بالحمار النعر.. قال ابن مقبل ترى النعرات الزرق تحت لبانه * أحاد ومثنى أصعقتها صواهله وقال أحمد بن عبيد – القانصان – الفرس وصاحبه والحجة أن الفرس تسمى قانصا.. قول عدى بن زيد يقنصك الخيل ويصطادك الطير ولا يبلغ لهو القنيص أي لا يمنع منه قال وقوله – فأنشب أظفاره في النسا – معناه فأنشب الكلب أظفاره في نساء الثور فقلت لصاحب الفرس أو لغلامي الممسك للفرس هبلت ألا تدنو إلى الثور فتطعنه فقد أمسكه عليك الكلب قال ومحال أن يكون امرؤ القيس أغرى الثور بقتل كلبه لان امرأ القيس يفخر بالصيد ويصفه في أكثر شعره بأنه مرزوق منه مظفر كقوله إذا ما خرجنا قال ولدان أهلنا * تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب وكقوله


(1) قوله – ذباب أخضر وأزرق – الخ قال ابن سيدة النعرة ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها حمار نعر وحكى سيبويه نعر إلى اخواته من اللغات التى تطرد فيما كان ثانيه حرفا من حروف الحلق تقدمت له نظائر قال أبو حنيفة هو ذباب أربد ومنه أخضر والجمع نعر قال ولا يضير هذا النعر الا الحمير فانه يأتي الحمار فيدخل في منخره فيربض ويعلك بجحفلته الارض وان سمعت الحمير بطنينه ربضت ودسسن أنوفهن في الارض حذاره وإذا اعتري الحمار قيل حمار نعر.. وقال مرة قد تعرض النعر للخيل وأنشد أبو على في تصديق ذلك لابن مقبل يصف فرسا تري النعرات الخضر تحت كبانه * أحاد ومثنى أصعقتها صواهله

[ 102 ]

مطعم للصيد ليس له * غيره كسب على كبر فمحال على هذا أن يغرى الثور بقتل كلبه.. قال وتأويل – ألا تنتصر – ألا تدنو من الثور والدليل على أن تنتصر بمعنى تدنو قول الراعى وأفرعن في وادى جلاميد بعدما * علا البيد سا في القيظة المتناصر أي المتدانى.. وقال مضرس بن ربعى بن أبى الفقعسي فإنك لا تعطى امرأ حظ غيره * ولا تملك الشق الذى الغيث ناصره أي دان منه.. ومعنى – ألص الضروس – أي بعض أسنانه تلتصق ببعض – وحبي الضلوع – أي مشرف الضلوع عاليها ويروى حنى الضلوع بالنون أي منحنيها ويقال ان الضلوع إذا تقوست كان أوسع لجوفه وأقوى له ويروى أيضا خفى الضلوع أي ضلوعه خفية داخلة في جنبه.. ومعنى – فظل يرنح في غيطل – فظل الثور يرنح في غيطل لما طعنه صاحب الفرس وقد يجوز أيضا أن يكون ترنح الثور لظفر الكلب به ولانه أنشب أظفاره فيه وكل ذلك محتمل.. ومما يحتمل أيضا على وجوه مختلفة قول امرئ القيس فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها * لما نسجتها من جنوب وشمال (1)


(1) – توضح – كثيب أبيض من كثبان حمر بالدهناء قرب اليمامة عن نصر.. وقيل توضح من قرى قرقرى باليمامة وهي زروع ليس لها نخل.. وقال العسكري سئل شيخ قديم عن مياه العرب فقيل له هل وجدت توضح التى ذكرها امرؤ القيس فقال أما والله لقد جئت في ليلة مظلمة فوقفت على فم طويها فلم توجد إلى اليوم – والمقراة – بالكسر ثم السكون وهو في اللغة شبه حوض ضخم يقرأ فيه من البئر أي يحبي إليه وجمعها المقاري والمقارى أيضا الجفان التي تقرى فيها الاضياف.. قال ياقوت والمقراة وتوضح في قول امرئ القيس قريتان من نواحي اليمامة.. وقال السكري في شرحه لبيت امرئ القيس الدخول وحومل وتوضح والمقراة مواضع بين امرة وأسود العين والبيت من معلقته المشهورة ومطلعها قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل

[ 103 ]

قال قوم معناه لم يدرس رسمها لنسج هاتين الريحين فقط بل لتتابع الرياح والامطار والدليل على ذلك قوله في البيت الاخير فهل عند رسم دارس من معول (1) وقال آخرون ومعنى لم يعف رسمها لم يدرس فالرسم على هذا القول باق غير دارس.. ومعنى قوله في البيت الاخير – رسم دارس – أي فهل عند رسم يندرس في المستقبل وإن كان الساعة موجودا غير دارس.. وقال آخرون في معنى قوله لم يعف مثل الوجه الثاني أي أنه لم يدرس أثرها لما نسجتها بل هي بواق ثوابت فنحن نحزن لها ونجزع عند رؤيتها ولو عفت وامحت لاسترحنا وهذا مثل قول ابن أحمر ألا ليت المنازل فد بلينا * فلا يبكين ذاحزن شجينا ومثل قول الآخر ليت الديار التى تبقى لتحزننا * كانت تبين إذا ما أهلها بانوا وليس قوله فهل عند رسم دارس من معول نقضا لهذا إنما هو كقولك درس كتابك


(1) قوله – فهل عند رسم دارس – الخ صدره.. وإن شفائى عبرة مهراقة.. ومعنى – من معول – من مبكي وقيل من مستغاث وقيل من محمل ومعتمد وقيل في قوله * فهل عند رسم دارس من معول * مذهبان أحدهما انه مصدر عولت عليه أن اتكلت فلما قال ان شفائي عبرة مهراقة صار كأنه قال انما راحتي في البكاء فما معنى اتكالي في شفاء غليلي في رسم دارس لا غناء عنده عنى فسبيلى أن أقبل على بكائى ولا أعول في برد غليلي على ما لاغناء عنده وأدخل الفاء في قوله فهل عند لتربط آخر الكلام بأوله فكأنه قال إذا كان شفائى انما هو في فيض دمعى فسبيلى أن لا أعول على رسم دارس في دفع حزني وينبغي أن آخذ في البكاء الذي هو سبب الشفاء وللذهب الآخر أن يكون معول مصدر عولت بمعنى أعولت أي بكيت فيكون معناه فهل عند رسم دارس من إعوال وبكاء وعلى أي الامرين حملت المعول فدخول الفاء على هل حسن جميل

[ 104 ]

أي ذهب بعضه وبقى بعض.. وقال أبو بكر العبدى معناه لم يعف رسمها من قلبى وهو دارس من الموضع فلم يتناول قوله ولم يعف رسمها ما تناوله قوله فهل عند رسم دارس من جميع وجوهه فيتناقض الكلام.. وقال آخرون أراد بقوله لم يعف أي لم يدرس ثم أكذب نفسه بقوله فهل عند رسم دارس من معول كما قال زهير قف بالديار التى لم يعفها القدم * بلى وغيرها الارواح والديم (1) وكما قال آخر فلا تبعدن يا خير عمرو بن مالك * بلى إن من زار القبور ليبعدا أراد ليبعدن فأبدل الالف من النون الخفيفة وهذا وجه ضعيف وبيت زهير لا يجب فيه ما توهم من المناقضة والتكذيب لانه يمكن أن يحمل على ما ذكرناه من أحد الوجوه المتقدمة من أنه أراد رسمها لم يعف ولم يبطل كله وإن كان قد غيرته الديم والارواح


(1) البيت مطلع قصيدة يمدح بها هرم بن سنان وهي احدى حولياته وبعده لا الدار غيرها بعدي الانيس وما * بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم دار لاسماء بالغمرين ماثلة * كالوحي ليس بها من أهلها أرم وقد أراها حديثا غير مقوية * السر منها فوادي الجفر فالهدم فلا لكان إلى وادي الغمار فلا * شرقي سلمى فلا فيد فلا رهم شطت بهم قرقرى برك بايمنهم * والعاريات وعن أيسارهم خيم عوم السفين فلما حال دونهم * فند القريات فلعتكان فالكرم كأن عينى وقد سال السليل بهم * وعبرة ما هم لو انهم أمم * غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق * في السلك خان به رباته النظم عهدي بهم يوم باب القريتين وقد * زال الهماليج بالفرسان فاللجم افستبدلت بعدنا دارا يمانية * ترعى الخريف فادنى دارها ظلم ان البخيل ملوم حيث كان ول‍ * – كن الجواد على علاته هرم القائد الخيل منكوبا دوابرها * منها الشنون ومنها الزاهق الزهم

[ 105 ]

بعضه وأثرت في بعض فأما البيت الثاني فلا حجة في حمله لانه لم يتضمن إثباتا ونفيا وإنما دعاله بان لا يبعد ثم رجع إلى قوله بلى إنه ليبعد من زار القبور وما يدعى به غير واجب عليه ولا ثابت فيكف به في البيت الثاني.. وقد يمكن في البيت وجه آخر وهو أن يكون معنى لم يعف رسمها أي لم يزد فيكثر فيظهر حتى يعرفه المترسم ويتنبه المتأمل بل هو خاف غير لائح ولا ظاهر ثم قال من بعد فهل عند رسم دارس من معول فلم يتناقض الاول لانه قد أثبت الدروس له في كلا الموضعين ولا شبهة في أن عفا من حروف الاضداد التى تستعمل تارة في الدروس وتارة في الزيادة والكثرة قال الله تعالى (حتى عفوا) أي كثروا قد عفا الشعر أي كثر وقال الشاعر ولكنا نعض السيف منها * بأسوق عافيات اللحم كوم أراد كثيرات اللحم يقال قد عفا وبر البعير إذا زاد ويقال أعفيت الشعر وعفوته إذا كثرته وزدت فيه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تحفى الشوارب وتعفى اللحي أي توفر وهذا الوجه عندي أشبه مما تقدم (مجلس آخر 68) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) الآية فقال من هارون الذى نسبت مريم عليها السلام إلى أنها أخته.. ومعلوم أنها لم تكن أختا لهارون أخى موسى عليهما السلام وما معنى (من كان في المهد صبيا) ولفظة كان تدل على ما مضى من الزمان وعيسى عليه السلام في حال قولهم ذلك كان في المهد.. الجواب قلنا أما هارون الذى نسبت إليه مريم عليها السلام فقد قيل فيه أقوال منها أن هارون المذكور في الآية كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والشر وفساد الطريقة فلما أنكروا ما جاءت به من الولد وظنوا بها ما هي مبرأة منه نسبوها إلى هذا الرجل تشبيها وتمثيلا وكان تقدير الكلام يا شبيهة هارون في فسقه وقبح فعله وهذا القول يروى عن سعيد بن جبير.. ومنها أن هارون هذا كان أخاها لابيها دون أمها (14 – امالي رابع)


[ 106 ]

وقيل إنه كان أخاها لابيها وأمها وكان رجلا معروفا بالصلاح وحسن الطريقة والعبادة والتأله.. وقيل إنه لم يكن أخاها على الحقيقة بل كان رجلا صالحا من قومها وإنه لما مات شيع جنازته أربعون ألف رجل كلهم يسمون هارون من بنى إسرائيل فلما أنكروا ما ظهر من أمرها قالوا لها يا أخت هارون أي بالشبهة بالصلاح ما كان هذا معروفا منك ولا كان والدك ممن يفعل القبيح ولا يتطرق عليه الريب.. وعلى قول من قال إنه كان أخاها يكون معنى قولهم إنك من أهل بيت الصلاح والسداد لان أباك لم يكن امرأ سوء ولا كانت أمك بغيا وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والسداد والعفة فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك ولا يعرف من مثلك.. ويقوى هذا القول ما رواه المغيرة بن شعبة.. قال لما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران قال لى أهلها أليس نبيكم يزعم أن هارون أخو موسى وقد علم الله تعالى ما كان بين موسى وعيسى من النبيين فلم أدر ما أورد عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال لى فهلا قلت إنهم كانوا يدعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.. ومنها أن يكون معنى يا أخت هارون يامن هي من نسل هارون أخى موسى كما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا بنى فلان.. وذكر مقاتل بن سليمان في قوله تعالى يا أخت هارون قال روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هارون الذى ذكروه هو هارون أخو موسى عليهما السلام.. قال مقاتل تأويل يا أخت هارون يا من هي من نسل هارون كما قال تعالى (وإلى عاد أخاهم هودا.. وإلى ثمود أخاهم صالحا) يعنى بأخيهم أنه من نسلهم وجنسهم وكل قول من هذه الاقوال قد اختاره قوم من المفسرين.. فأما قوله تعالى (من كان في المهد صبيا) فهو كلام مبنى على الشرط والجزاء مقصود به إليهما والمعنى من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه ووضع في ظاهر اللفظ الماضي موضع المستقبل لان الشارط لايشرط إلا فيما يستقبل فيقول القائل إن زرتني زرتك يريد إن تزرنى أزرك قال الله تعالى (إن شاء جعل لك خيرا) يعنى إن يشاء يجعل وقال قطرب معنى كان ههنا معنى صار فكأن المعنى وكيف نلكم من صار في المهد صبيا ويشهد بذلك قول زهير أجزت إليه حرة أرحبية * وقد كان لون الليل مثل الارندج


[ 107 ]

وقال غيره كان ههنا بمعنى خلق ووجد كما قالت العرب كان الحر وكان البرد أي وجدا وحدثا.. وقال قوم لفظة كان وإن أريد بها الماضي فقد يراد بها الحال والاستقبال كقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) أي أنتم كذلك وكذلك قوله تعالى (هل كنت إلا بشرا رسولا) وقول الله تعالى (وكان الله عليما حكيما) وإن كان قد قيل في هذه الآية الاخيرة غير هذا.. قيل إن القوم شاهدوا من آثار علمه وحكمته تعالى ما شاهدوا فاخبرهم تعالى أنه لم يزل عليما حكيما أي فلا تظنوا انه استفاد علما وحكمة لم يكن عليهما.. ومما يقوى مذهب من وضع لفظة الماضي في موضع الحال والاستقبال قوله تعالى (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم) وقوله تعالى (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) وقولهم في الدعاء غفر الله لك وأطال بقاك وما جرى مجرى ذلك ومعنى الكل يفعل الله ذلك بك الا أنه لما أمن اللبس وضع لفظ الماضي في موضع المستقبل قال الشاعر فأدركت من قد كان قبلى ولم أدع * لمن كان بعدى في الفضائل مقعدا أراد لمن يكون بعدى.. ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصلتان العبدى يرثى المغيرة بن المهلب قل للقوافل والغزاة إذا غزوا * والباكرين وللمجد الرائح (1) إن الشجاعة والسماحة ضمنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح (2)


(1) قوله – قل للقوافل – الخ القوافل جمع قافلة وهي الرفقة الراجعة من سفرها إلى وطنها – والغزاة – جمع غاز – والباكرين – جمع باكر يقال بكر بكورا من باب قعد أسرع في الذهاب من أول النهار – وأجد – في الامر اجتهد – والرائح – الراجع (2) قوله – ان الشجاعة والسماحة – الخ هذا مقول القول.. وروى أيضا ان السماحة والمروءة – والسماحة – الجود والعطاء – المروءة – آداب نفسانية تحمل مراعاتها الانسان على الوقوف عند محاسن الاخلاق وجميل العادات يقال مرؤ الانسان وهو مري كقرب فهو قريب أي ذو مروءة.. قال الجوهري وقد تشدد فيقل مروة – وضمنا –

[ 108 ]

فإذا مررت بقبره فاعقر به * كوم المطى وكل طرف سابح (1) وانضح جوانب قبره بدمائها * فلقد يكون أخادم وذبائح (2)


بالبناء للمفعول متعد لمفعولين.. أحدهما نائب الفاعل وهو ضمير التثنية.. والثانى قبرا وهو مقلوب لانه يقال ضمنت الشئ كذا أي جعلته محتويا عليه وفي القلب هنا نكتة كأنهما لكثرتهما لا يسعهما القبر فهما اشتملا على القبر وأحاطا بجوانبه – ومرو – هنا مرو الشاهجان لا مرو الروذ وكلاهما في إقليم خراسان.. قال ابن خلكان ومن سراة أولاد المهلب أبو فراس المغيرة وكان أبوه يقدمه في قتال الخوارج وله معهم وقائع مشهورة أبان فيها عن نجدة وصرامة وكان مع أبيه في خراسان واستنابه بمرو الشاهجان وتوفى في حياة أبيه سنة اثنين وثمانين في رجب وهذا البيت استشهد به النحويون على أنه أعاد الضمير إلى المؤنثين بضمير المذكرين وكان القياس أن يقول ضمنتا وعده ابن عصفور من قبيل الضرورة (1) قوله – فإذا مررت بقبره – الخ – عقر البعير بالسيف من باب ضرب إذا ضرب قوائمه به لا يطلق العقر في غير القوائم وربما قيل عقره إذا نحره كذا في المصباح – والكوم – بالضم جمع كوماء بالفتح والمد وهي الناقة السمينة للطى – ويروى – بدله ؟ ؟ الجلاد بكسر الجيم جمع جلدة بفتحها وهي أدسم الابل لبنا – والطرف – بالكسر الاصيل من الخيل – والسابح – بالموحدة من سبح الفرس إذا جرى يقال فرس سابح إذا جرى بقوة [ 2 ] قوله – وأنضح جوانب قبره – النضح بالحاء المهملة الرش القليل وبالخاء المعجمة البل يقال نضخ ثوبه إذا بله فهو أبلغ من الاول.. واختلف في سبب عقرهم الابل على القبور فقال قوم انما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الابل في حياته وينحره للاضياف واحتجوا بقول الشاعر وانضح جوانب قبره الخ.. وقال قوم انما كانوا يفعلون ذلك إعظاما للميت كما كانوا يذبحون للاصنام وقيل انما كانوا يفعلونه لان الابل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم كانوا يتأرون لهم فيها وقيل إن الابل أنفس أموالهم فكانوا يريدون بذلك انها قد هانت عليهم لعظم المصيبة.. والبيت

[ 109 ]

معناه فلقد كان


يستشهد به النحويون على أن المضارع وهو يكون مؤول بالماضي أي ولقد كان لانه في مرثية ميت وهو إخبار عن شئ وقع ومضى لا إخبار عما سيقع لانه غير ممكن.. قال ابن الشجرى في أماليه قال أبو الفتح عثمان بن جنى قال لى أبو على سألت يوما أبا بكر بن السراج عن الافعال فقال يقع بعضها موقع بعض فقال كان ينبغي للافعال كلها أن تكون مثالا واحدا لانها لمعنى واحد ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها موقع بعض.. قال أبو الفتح وهذا الكلام من أبى بكر عال سديد.. وهذه الابيات الصحيح انها لزياد الاعجم يرثى بها المغيرة بن المهلب وقيل المغيرة بن أبي صفرة أخا المهلب وهي من قصيدة أولها قل للقوافل الخ الابيات الاربعة وبعدها واظهر ببزته وعقد لوائه * واهتف بدعوة مصلتين شرامح آب الجنود معقلا أو قافلا * وأقام رهن حفيرة وضرائح وأرى المكارم يوم زيل بنعشه * زالت بفضل فواضل ومدائح رجفت لمصرعه البلاد وأصبحت * منا القلوب لذاك غير ضحائح ألآن لما كنت أكمل من مشى * وافترنا بك عن شباة القارح وتكاملت فيك المروءة كلها * وأعنت ذلك بالفعال الصالح فكفي لنا حزنا ببيت حله * إحدي المنون فليس عنه ببارح فعفت منابره وحط سروجه * عن كل طامحة وطرف طامح وإذا يناح على امرئ فتعلمي * ان المغرية فوق نوح النائح تبكى المغيرة خيلنا ورماحنا * والباكيات برنة وتصايح مات المغيرة بعد طول تعرض * للموت بين أسنة وصفائح والقتل ليس الي القتال ولا أرى * سببا يؤخر للشفيق الناصح * لله در منية فاتت به * فلقد أراه يرد غرب الجامح

[ 110 ]

[ تأويل خبر ].. إن سأل سائل فقال كيف يطابق ما روى عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة وأنه قيل له عليه الصلاة والسلام إن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الابل فقال عليه الصلاة والسلام فمن أعدى الاول لما روى عنه عليه الصلاة والسلام من قوله لا يوردن ذو عاهة على مصح وقوله


ولقد أراه مجنبا أفراسه * يغشى الاسنة فوق نهد قارح في جحفل لجب ترى أبطاله * منه تعضل بالفضاء الفاسخ يقص الحزونة والسهولة إذ غدى * بزهاء أرعن مثل ليل جانح ولقد أراه مقدما أفراسه * يدنى مراجح في الوغى لمراجح فتيان عادية لدي مرسى الوغى * سنوا بسنة معلمين جحاجح لبسوا السوابغ في الحروب كأنها * غدر تحيز في بطون أباطخ وإذا الضراب عن الطعان بدالهم * ضربوا بمرهفة الصدور جوارح لو عند ذلك قارعته منية * قرع الحواء وضم سرح السارح كنت الغياث لارضنا فتركتنا * فاليوم نصبر للزمان الكالح فانع المغيرة للمغيرة إذ غدت * شعواء مشعرة لنبح النابح صفان مختلفان حين تلاقيا * آبوا بوجه مطلق أو ناكح ومدجج كره الكماة نزاله * شاكى السلاح مسايف أو رامح قد زار كبش كتيبة بكتيبة * يؤدي لكوكبها برأس طامح غيرن دون نسائه وبناته * حامي الحقيقة للحروب مكاوح سبقت يداك له بعاجل طعنة * شهقت لمنفذها أصول جوانح والخيل تضبح بالكماة وقد جرت * فوق النحور دماؤها بسرائح يا لهفتا يا لهفتا لك كلما * خيف المغير على المدر الماسخ تشفى بحلمك لابن عمك جهله * وتذب عنه كفاح كل مكافح وإذا يصول بك ابن عمك لم يصل * بمواكل وكل غداة تجالح صل يموت سليمه قبل الرقى * ومخاتل لعدوه بتصافح

[ 111 ]

فر من الاجذم فرارك من الاسد.. وأن رجلا مجذوما أتاه ليبايعه بيغة الاسلام فأرسل إليه بالبيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن عليه الصلاة والسلام.. وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة وظواهر هذه الاخبار متناقضة متنافية فبينوا وجه الجمع بينها.. الجواب قلنا إن ابن قتيبة قد سأل نفسه عن اختلاف هذه الاخبار وأجاب عن ذلك بما نذكره على وجهه ونذكر ما عندنا فيه فإنه خلط وأتى بما ليس بمرضى.. قال إن لكل من هذه الاخبار معنى وموضعا فإذا وضع موضعه زال الاختلاف قال وللعدوي معنيان.. أحدهما عدوي الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم في الحال مجالسيه ومواكليه وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الاذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكثير إليه وكذلك من كان به سل ودق والاطباء تأمر بأن لا يجالس المسلول والمجذوم ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون بذلك تغير الرائحة وأنها قد يسقم في الحال اشتمامها والاطباء أبعد الناس من الايمان بيمن أو شؤم.. وكذلك


وإذا الامور على الرجال تشابهت * وتنوزعت بمغالق ومفاتح فتل السحيل بمبرم ذي مرة * دون الرجال بفضل عقل راجح وأرى الصعالك للمغيرة أصبحت * تبكي على طلق اليدين مسامح كان الربيع لهم إذا انتجعوا الندى * وخبت لوامع كل برق لامح كان المهلب بالمغيرة كالذى * ألقى الدلاء إلى قليب المائح فاصاب جمة ما استقى فسقى له * في حوضه بنوازع ومواتح أيام لو يحتل وسط مفارة * فاضت معاطشها بشرب سائح إن المهلب لن يزال لها فتى * يمرى قوادم كل حرب لاقح * بالمقربات لواقحا آطالها * تجتاب سهل سباسب وصحاصح متلببا تهفو الكتائب حوله * ملح المنون من النضيح الراشح ملك أغر متوج يسمو له * طرف الصديق بغض طرف الكاشح رفاع ألوية الحروب إلى العدى * بسعود طير سانح وبوارح

[ 112 ]

النقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب فإذا خالط الابل وحاكها وصل إليها بالماء الذى يسيل منه وتجرب بمائه فهذا هو المعنى الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوردن ذو عاهة على مصح قال وقد ذهب قوم إلى أنه أراد عليه الصلاة والسلام بذلك أن لا يظن أن الذى نال إبله من ذوات العاهة فيأثم قال وليس هذا عندي وجه لانا نجد الذى خبرتك به عيانا.. قال وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفا من الطاعون.. وحكى عن الاصمعي عن بعض البصريين أنه هرب من الطاعون فركب حمارا ومضي بأهله نحو سفوان فسمع حاديا يحدو خلفه فيقول لن يسبق الله على حمار * ولا على ذى ميعة مطار أو يأتي الحتف على مقدار * قد يصبح الله أمام السارى.. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالبلد الذى أنتم فيه فلا تخرجوا منه وقال عليه الصلاة والسلام أيضا إذا كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله عليه الصلاة والسلام لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم ويريد بقوله عليه الصلاة والسلام إذا كان ببلد فلا تدخلوه إن مقامكم بالموضع الذى لا طاعون فيه أسكن لانفسكم وأطيب لعيشكم قال ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم والدار فينال الرجل مكروها أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها قال فهذا هو الذى قال فيه عليه الصلاة والسلام لا عدوى.. فأما الحديث الذى رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة فإن هذا يتوهم فيه الغلط على أبى هريرة وأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فلم يعه.. وروى ابن قتيبة خبرا ورفعه إلى أبى حسان الاعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شفقا فقالت كذب والذى أنزل القرآن على أبى القاسم من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال عليه الصلاة والسلام كان أهل الجاهية يقولون إن الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم) إلآية.. وروى خبرا يرفعه إلى أنس بن مالك قال جاء


[ 113 ]

رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثر بها أموالنا ثم تحولنا منها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل عددنا فقال عليه الصلاة والسلام ذروها فهى ذميمة قال ابن قتيبة وهذا ليس ينقض الحديث الاول وإنما أمرهم بالتحول منها لانهم كانوا مقيمين فيها على استثقال ظلها واستيحاش لما نالهم فيها وأمرهم عليه الصلاة والسلام بالتحول منها وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما ينالهم السؤ فيه وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه ما وجدنا ابن قتيبة عمل شيئا أكثر من أنه لما أعجزه تأويل الاخبار التى سأل نفسه عنها والمطابقة بينها وبين قوله عليه الصلاة والسلام لا عدوى ولا طيرة ادعى الخصوص فيما ظاهره العموم وخص العدوى بشئ دون آخر وكلاهما سواء فيه وأورد تأويلا يدفعه نص قوله عليه الصلاة والسلام لانه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الابل قال عليه الصلاة والسلام فما أعدى الاول تكذيبا بعدوى هذه النقبة وتأثيرها فاطرح ابن قتيبة ذلك وزعم أن الجرب يعدى ويؤثر في المخالط والمؤاكل وعول في ذلك على قول الاطباء وترك قول الرسول عليه الصلاة والسلام.. ومن ظريف أمره أنه قال إن الاطباء ينهون عن مجالسة المسلول والمجذوم ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون تغير الرائحة وأنها تسقم من أدمن اشتمامها وهذا غلط منه لان الاطباء إنما تنهى عن ذلك خوفا من العدوى وسبب العدوي عندهم هو اشتمام الرائحة وانفصال أجزاء من السقيم إلى الصحيح وليس إذا كان غير هذا عدوي عند قوم ما يوجب أن لا يكون هذا أيضا عدوى.. ولما حكى عن غيره تأويلا صحيحا في قوله عليه الصلاة والسلام لا بوردن ذو عامة على مصح ادعى أن العيان يدفع وأى عيان معه ونحن نجد كثيرا ممن يخالط الجربي فلا يجرب ونجد إبلا صحاحا تخالط ذوات العاهات فلا يصيبها شئ من أدوائها فكأنه إنما يدعى أن العيان يدفع قول النبي صلى الله عليه وسلم فما أعدى الاول.. والوجه عندنا في قول النبي عليه الصلاة والسلام لا يوردن ذو عاهة على مصح أنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى (15 امالي رابع)


[ 114 ]

عن ذلك وإن لم يكن مؤثرا على الحقيقة لان فاعله كالمدخل الضرر على غيره لان من اعتقد أن ذلك يعدى ويؤثر فأورد على إبله فلابد من أن يلحقه لما تقدم من اعتقاده ضرر وغم ولابد من أن يذم من عامله بذلك فكأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن أذى الناس والتعرض لذمهم وقد يجوز أيضا فيه ما حكاه ابن قتيبة عن غيره مما لم يرتضه من أنهم متى ظنوا ذلك أثموا فنهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لما يؤثم.. ولو نقل ابن قتيبة ما قاله عليه الصلاة والسلام في الطاعون إذا كان ببلد فلا تدخلوه وأمره لمن شكى إليه بالتحول عنها إلى ههنا لكان قد أصاب لانه حمل ذلك على أن تجنب البلد أسكن للنفس وأطيب للعيش وكذلك الدار فهذا يمكن في قوله عليه الصلاة والسلام لا يوردن ذو عاهة على مصح بعينه.. فأما قوله عليه الصلاة والسلام فر من المجذوم فرارك من الاسد فليس فيه أن ذلك لاجل العدوى وقد يمكن أن يكون لاجل نتن ريحه واستقذاره ونفور النفس منه وأن ذلك ربما دعى إلى تعييره والازراء عليه وامتناعه عليه الصلاة والسلام من إدخال المجذوم عليه ليبايعه يجوز أن يكون الغرض فيه غير العدوى بل بعض الاسباب المانعة التى ذكرنا بعضها.. وأما حديث الطاعون والقول فيه على ما قاله وقد كان سبيله لما عول في عدوى الجذام والجرب على قول الاطباء إن يرجع أيضا إلى أقوالهم في الطاعون لانهم يزعمون أن الطاعون الذى يعرض من تغير الاهوية وما جرى مجراها يعدى كعدوى الجرب والجذام والعيان الذى ادعاه ليس هو أكثر من وجوده من يجرب أن يجذم لمخالطة من كان بهذه الصفة وهذا العيان موجود في الطاعون فإنا نرى عمومه لمن يسكن البلد الذى يكون فيه ويطرأ إليه.. فأما الخبر الذى يتضمن أن الشؤم في المرأة والدار والدابة فالذي ذكره من الرواية في معناه يزيل الشبهة به على أنه لو لم يكن ههنا رواية في تأويله جاز أن يحمل على أن الذى يتطير به المتطيرون ويدعون الشؤم فيه هو المرأة والدار والدابة ولا يكون ذلك إثباتا للطيرة والشؤم في هذه الاشياء بل على طريق الاخبار بأن الطيرة الثابتة إنما هي فيها لقوة أمرها عند أصحاب الطيرة.. وما ذكره بعد ذلك في الدار وأمره عليه الصلاة والسلام بانتقاله عنها تأويل قريب وقد كان يجب أن يهتدى إليه مما تقدم


[ 115 ]

وما التوفيق إلا من عند الله العزيز الحكيم (مجلس آخر 69) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) الآية.. فقال أو ليس ظاهر هذا الكلام يقتضى جواز الحجاب عليه تعالى وأنتم تمنعون من ذلك.. الجواب قلنا ليس في الآية أكثر من ذكر الحجاب وليس فيها أنه حجاب له تعالى ولمحل كلامه أو لمن يكلمه وإذا لم يكن في الظاهر شئ من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عزوجل مما يجوز أن يكون محجوبا فقد يجوز إن يريد تعالى بقوله أو من وراء حجاب أنه يفعل كلاما في جسم محتجب عن المتكلم غير معلوم له على سبيل التفصيل فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محله على طريق التفصيل فيقال على هذا هو متكلم من وراء حجاب.. وروى عن مجاهد في قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) قال هو داود عليه السلام أوحى في صدره فزبر الزبور أو من وراء حجاب وهو موسى عليه السلام أو ترسل رسولا وهو جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. فأما أبو على الجبائي فإنه ذكر أن المراد بالآية (وما كان لبشر أن يكلمه الله) إلا مثل ما يكلم به عباده من الامر بطاعته والنهى لهم عن معاصيه وتنبيهه إياهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام أو ما أشبه ذلك على سبيل الوحى.. قال وإنما سمي الله ذلك وحيا لانه خاطر وتنبيه وليس هو كلاما لهم على سبيل الافصاح كما يفصح الرجل منا لصاحبه إذا خاطبه والوحى في اللغة إنما هو ما جرى مجرى الايماء والتنبيه على شئ من غير أن يفصح به فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى في الآية.. قال وعنى بقوله (أو من وراء حجاب) أي يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه السلام لانه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى وحده في كلامه إياه أولا فأما كلامه إياه في المرة الثانية فإنه إنما أسمع ذلك موسى عليه السلام والسبعين الذين كانوا معه


[ 116 ]

وحجبه عن جميع الخلق سواهم فهذا هو معنى قوله عزوجل (أو من وراء حجاب) لان الكلام هو الذى كان محجوبا عن الناس.. وقد يقال أنه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الذى أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لان الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم ولا يجوز أن يكون أراد تعالى بقوله (أو من وراء حجاب) أن الله تعالى كان (من وراء حجاب) يكلم عباده لان الحجاب لا يجوز إلا على الاجسام المحدودة.. قال وعنى بقوله (أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء) إرساله ملائكة بكتبه وكلامه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ليبلغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه عليه الصلاة والسلام فهذا ضرب من الكلام الذى يكلم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته وينهاهم عن معاصيه من غير أن يكلمهم على سبيل ما كلم به موسى عليه السلام وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذى ذكره الله تعالي في أول الآية لانه قد أفصح تعالى لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه والوحى الذى ذكره تعالى في أول الآية إنما هو تنبيه وخاطر وليس إفصاح وهذا الذى ذكره أبو على أيضا سديد والكلام محتمل لما ذكره.. ويمكن في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء ونفى الظهور وقد تستعمل العرب لفظ الحجاب فيما ذكرناه يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه واستبطأ فطنته بينى وبينك حجاب وتقول للامر الذى تستبعده وتستصعب طريقه بينى وبين هذا الامر حجاب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك فيكون معنى الآية أنه تعالى لم يكلم البشر إلا وحيا بإن يخطر في قلوبهم أو بأن ينصب لهم أدلة تدلهم على ما يريده أو يكرهه منهم فيكون من حيث نصبه للدلالة على ذلك والارشاد إليه مخاطبا ومكلما للعباد بما يدل عليه وجعل تعالى هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا كما يسمع الخاطر وقول الرسول ولا ظاهرا معلوما لكل من أدركه كما أن أقوال الرسل المؤدين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة فصار الحجاب هناك كناية عن الخفاء وغيره مما يدل عليه الدلالة وليس لاحد أن يقول إن الذى يدل عليه الاجسام هو من صفاته تعالى وأحواله ومراده ولا يقال أنه تعالى متكلم لذاته وذلك أن غير ممتنع


[ 117 ]

على سبيل التجوز أن يقال انه تعالى فيما يدل عليه الدليل الذى نصبه الله تعالى ليدل على مراره ويرشد إليه إنه مكلم لنا ومخاطب ولهذا لا يمتنع المسلمون من أن يقولوا إنه تعالى خاطبنا بما دلت عليه الادلة العقلية وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا وفعل ما أراده وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الامور قد خاطبنا فلان بما فعل من كذا بكذا وكذا وقال لنا وأمرنا وزجرنا وما أشبه ذلك من الالفاظ التى يجرونها على الكلام الحقيقي وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن نورد أمثاله ونظائره [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه ومن مستحسن ما قيل في الذئب قول أسماء بن خارجة بن حصن الفزارى ولقد ألم بنا لنقريه * بادى الشقاء محارف الكسب يدعو الغنا أن نال علقته * من مطعم غبا إلى غب وطوى ثميلته وألحقها * بالصلب بعد لدونة الصلب يا ضل سعيك ما صنعت بها * جمعت من شب إلى دب لو كنت ذالب تعيش به * لفعلت فعل المرء ذى اللب وجمعت صالح ما احترفت وما * جمعت من نهب إلى نهب وأظنه شغبا تدل به * فلقد منيت بغاية الشغب أذ كان غير مناصل تعصى بها * مشحوذة وركائب الركب فاغمذ إلى أهل الوقير فما * يخشاك غير مقرمص الذرب أحسبتنا ممن تطيف به * فاختر بها للامن والخصب وبغير معرفة ولا سبب * أنى وشعبك ليس من شعبي لما رأى أن ليس نافعه * جد تهاون صادق الارب


[ 118 ]

وألح إلحاحا لحاجته * شكوى الضرير ومزجر الكلب بادى التكلح يشتكى سغبا * وأنا ابن قاتل شدة السغب فرأيت أن قد نلته بأذى * من بعد مثلبة ومن سب ورأيت حقا أن أضيفه * إذا أم سلمى واتقى حربى فوقفت معتاما أزاولها * بمهند ذى رونق عضب فعرضته في ساق أسمنها * فاحتاد بين الحاذ والكعب فتركتها لعياله جزرا * عمدا وعلق رحلها صحبى ذكر ذئبا طرقه ليلا.. وقوله – محارف الكسب – مثل ضربه أي لا يبقى له نشب إلا شئ يكتسبه.. وقوله – يدعوا الغنا أن نال علقته – أي إن وجد ما يتعلق به من مطعم – غبا إلى غب – أي من يومين فذلك عنده الغنا – والثميلة ما يبقى في البطن من طعام أو علف.. ومعنى طوى ثميلته ذهب بها وأراد أنه لم يبق في بطنه ما يمسكه – واللدونة – اللين فأراد أنه ألحق بقية طعامه بصلبه بعد أن لان ما صلب منها ثم أقبل على الذئب كالعاذل له فقال ما صنعت بما جمعت من شب إلى دب وهذان اسمان للشباب والهرم لا يفردان ولا يلفظ بهما إلا هكذا.. والمعنى فيهما هو مذ كنت شابا إلى أن دببت على العصا ثم قال له لو كنت ذالب لجمعت ما تصيبه.. ومعنى – احترفت – اكتسبت.. ومعنى – من نهب إلى نهب – أي من عدوتك على الغنم إلى العدوة الاخرى.. ثم قال إن كان تعرضك شغبا علينا فقد منيت بغاية الشغب أي اننا ننافرك ونقاتلك وليس ههنا ما تغير عليه وإنما معنا – مناصل – أي سيوف مشحوذة وركائبنا التى نمتطيها فاعمد إلى أهل الوقير – والوقير – القطيع من الغنم ولا يسمى وقيرا إلا إذا كان فيه حمار يقول فعليك بمواضع الغنم فإنما يخشاك الراعى – المقرمص – الذى يتخذ القرموصة وأصله المكان الضيق وهو ههنا حفيرة يحتفرها الراعى في الرمل في شدة الحر للشاة الكريمة الصفية حتى إذا بركت كان ضرعها في القرموصة.. ومعنى – شعبك ليس من شعبى – أي لست من جنسي ولا


[ 119 ]

شكلي – والارب – الخديعة عند الحاجة – وشكوى – الضرير الذى قد مسه الضر – ومزجر الكلب – أي هو منا قريب المكان بقدر مزجر الكلب إذا زجرته أي إذا خسأته لدى جناية – والسغب – الجوع.. وأراد بقوله – وأنا ابن قاتل شدة السغب – أي أنا ابن من كان يقرى ويطعم.. ثم رجع فقال رأيت بعد ما سببته وغضضته بالاذى والعدم أن أضيفه وأقريه لانه ضيف وإن كان دنيئا فوقفت أنظر في ركائبى وأختار أسمنها والاعتيام الاختيار وأزاولها ألابسها – والحاذان – حد الفخذين اللذين يليان الذئب وخبر أن رحل المطية الذى عقرها علقه بعض أصحابه على مطية أخرى.. وقال النجاشي يذكر ذئبا وماء كلون الغسل قد عادا آجنا * قليل به الاصوات في بلد محل (1) وجدت عليه الذئب يعوى كأنه * خليع خلا من كل مال ومن أهل (2) فقلت له يا ذئب هل لك في فتى * يواسى بلا من عليك ولا بخل (3) فقال هداك الله للرشد إنما * دعوت لما لم يأته سبع قبلى (4)


(1) قوله – وماء كلون الغسل – الخ الواو في وماء واورب والغسل بكسر الغين المعجمة ما يغسل به الرأس من سدر وخطمى ونحو ذلك.. يريد أن ذلك الماء كان متغير اللون من طول المكث مخضرا ومصفرا ونحوهما – والآجن – بالمد وكسر الجيم الماء المتغير الطعم واللون.. وقوله – قليل به الاصوات – يريد انه قفر لا حيوان فيه – والبلد – الارض والمكان – والمحل – الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الارض من الكلا (2) قوله – كأنه خليع – الخليع الذى خلعه أهله لجناياته وتبرؤا منه [ 3 ] قوله – فقلت له يا ذئب هل لك – الخ يقول هل لك في أخ يعنى نفسه يواسيك من طعامه بغير من ولا بخل [ 4 ] قوله – فقال هداك الله – أي فقال له الذئب قد دعوتي إلى شئ لم يفعله السباع قبلى من مؤاكلة بنى آدم وهذا لا يمكننى فعله ولست بأتيه ولا أستطيعه ولكن ان كان في مائك الذى معك لنسل عما تحتاج إليه فاسقني منه وهذا الكلام وضعه النجاشي على

[ 120 ]

فلست بآتيه ولا أستطيعه * ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل (1) فقلت عليك الحوض إنى تركته * وفى صغوه فضل القلوص من السجل (2) فطرب يستعوى ذئابا كثيرة * وعذت وكل من هواه على شغل وروى أن الفزدق نزل بالغرييين فعراه بأعلى ناره ذئب فأبصره مقعيا يصئ ومع الفرزدق مسلوخة فرمي إليه بيد فاكلها فرمى إليه بما بقى فأكله فلما شبع ولى عنه فقال وليلة بتنا بالغريين ضافنا * على الزاد موشى الذراعين أطلس تلمسنا حتى أتانا ولم يزل * لدن فطمته أمه يتلمس فلو أنه إذا جاءنا كان دانيا * لالبسته لو أنه كان يلبس ولكن تنحا جنبة بعد ما دنا * فكان كقاب القوس أو هو أنفس


لسان الذئب كأنه اعتقد فيه انه لو كان ممن يعقل أو يتكلم لقال هذا القول وأشار بهذا إلى تعسفه للفلوات التى لا ماء فيها فيهتدى الذئب إلى مظانه فيها لاعتياده لها (1) قوله – فلست باتيه – الخ البيت يستشهد به النحويون على أن حذف النون من لكن لالتقاء الساكنين ضرورة تشبيها بالتنوين أو بحرف المد واللين من حيث كانت ساكنة وفيهاغنة وهي فضل صوت في الحرف كما ان حرف المد واللين ساكن والمد فضل صوت وكذا أورده سيبويه في باب ضرورة الشعر من أول كتابه قال الاعلم حذف النون لالتقاء الساكنين ضرورة لاقامة الوزن وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين شبهها في الحذف بحرف المد واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها نحو يغزو والعدو ويقضي الحق ويخشى الله (2) قوله – فقلت عليك الحوض – الخ عليك اسم فعل بمعنى الزم والحوض مفعوله – والصغو – بفتح الصاد المهملة وكسرها وسكون الغين المعجمة الجانب المائل – والسجل – بفتح السين المهملة وسكون الجيم الدلو العظيمة – وطرب – في صوته بالتشديد رجعه ومده

[ 121 ]

فقاسمته نصفين بينى وبينه * بقية زادي والركائب نعس وكان ابن ليلى إذ قرى الذئب زاده * على طارق الظلماء لا يتعبس ولابن عنقاء الفزارى واسمه قيس بن نجره وقيل نجرة بالضم الابيات المشهورة في الذئب وهي وأعوج من آل الصريح كأنه * بذى الشبت سيد آخر الليل جائع بغى كسبه أطراف ليل كأنه * وليس به ضلع من الخمس ظالع فلما أتاه الرزق من كل وجهة * جنوب الملا واياسته المطامع طوى نفسه طى الحرير كأنه * حوى حية في ربوة فهو هاجع فلما أصابت متنه الشمس حكه * بأعصل في أنيابه السم ناقع وفكك لحييه فلما تعاديا * صأى ثم أقعى والبلاد بلاقع وهم بأمر ثم أزمع غيره * وإن ضاق رزق مرة فهو واسع وعارض أطراف الصبا فكأنه * رجاع غدير هزه الريح رائع ولآخر في الذئب فقلت تعلم أننى غير نائم * إلى مستقل بالحباية أنيبا بعيد المطاف لا يفيد على الغنا * ولا يأتلى ما اسطاع إلا تكسبا معنى – أنيب – غليظ الناب – لا أنام إليه – أي لا أثق به من ذلك استنمت إلى فلان أذا اطمأننت إليه.. ومعنى – لا يفيد على الغنا – أي لا يلتمس مطعما وهو شبعان.. ولحميد بن ثور في الذئب فظل يراعى الجيش حتى تغيبت * خباش وحالت دونهن الاجارع إذا ما غدا يوما رأيت غياية * من الطير ينظرن الذى هو صانع (1)


(1) قوله – رأيت غياية – الخ.. الغياية بفتح الغين المعجمة وبيائين آخر الحروف (16 – امالي رابع)

[ 122 ]

خفيف المعا إلا مصيرا يبله * دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع هو البعل الدانى من الناس كالذى * له صحبة وهو العدو المنازع ينام بإحدى مقلتيه ويتقى * بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع (1)


مخففتين وهي كل شئ أظل الانسان فوق رأسه مثل السحابة والغبرة والظلمة ونحو ذلك (1) قوله – ينام باحدى مقلتيه – الخ ينام خبر مبتدأ محذوف أي هو ينام والباء في باحدى يتعلق به.. وقوله يتقى عطف على قوله ينام وباخرى يتعلق به والمنايا مفعول يتقى ويروى ويتقى باخري الاعادي.. وقوله فهو مبتدأ وقوله يقظان خبره وهاجع خبر بعد خبر ويروى يقظان نائم لكنه يخالف أبيات القصيدة فالمعنى هو حذر أو هو هاجع بين اليقظة والهجوع.. والابيات من قصيدة أولها إذا نال من بهم النخيلة غرة * على غفلة فيما يري وهو طالع تلوم ولو كان ابنها أفرحت به * إذا هب أرواح الشتاء الزعازع فقامت تعشى ساعة ما تطيقها * من الدهر قامتها الكلاب الظوالع رأته فشكت وهو أطحل مائل * إلى الارض مثنى إليه الاكارع طوي البطن الا من مصير يبله * دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع ترى طرفيه يعسلان كلاهما * كما اهتز عود الشيحة المتتابع إذا خاف جورا من عدو رمت به * قصائبه والجانب المتواسع وان بات وحشا ليلة لم يضق بها * ذراعا ولم يصبح بها وهو خاشع ويسرى لساعات من الليل قرة * يهاب السرى فيها المخاض النوازع وان حددت أرض عليه فانه * بعزة أخرى طيب النفس قانع ينام باحدى مقنتيه ويتقى * باخرى المنايا فهو يقظان هاجع إذا قام ألقى بوعه قدر طوله * ومدد منه صلبه وهو تابع * وفكك لحيه فلما تعاديا * صأى ثم أقعي والبلاد بلاقع إذا ما غدي يوما رأيت غياية * من الطير ينظرن الذى هو صانع هكذا أورد بعض الرواة هذه القصيدة وبعضها مدرج في قصيدة ابن عنقاء الفزاوي وابن عنقاء متأخر عن حميد بن ثور رضى الله عنه

[ 123 ]

وصف ذئبا يتبع الجيش طمعا في أن يتخلف رجل يثب عليه لانه من بين السباع لا يرغب في القتلى ولا يكاد يأكل الا ما فرسه – وخباش – اسم هضبة (1).. وقال بعضهم وليس بمعروف أن خباش اسم من أسماء الشمس وأخبر أن الطير تتبعه لتصيب مما يقتل – والمصير – المعا (2) – والبعل – الدهش (مجلس آخر 70) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) إلى قوله (وأنا أول المؤمنين).. وقال ما تنكرون من أن تكون هذه الآية دالة على جواز الرؤية عليه جل وعلا لانها لو لم تجز لم يسألها موسى عليه السلام كما لا يجوز أن يسأل اتخاذ الصاحبة والولد ولو كانت الرؤية أيضا مستحيلة لم يعلقها بأمر يصح إن يقع وهو استقرار الجبل وإذا علمنا صحة استقرار الجبل في موضعه فوجب أن تكون الروية أيضا صحيحة في حكم ما علقت به.. وقوله تعالى (فلما تجلى ربه للجبل) يقتضى جواز الحجاب عليه تعالى لان التجلى هو الظهور وهما لا يكونان إلا بعد الاحتجاب والاستتار.. الجواب قلنا أول ما نقوله إنه ليس في مسألة الشئ دلالة على صحة وقوعه ولا جوازه لان السائل قد يسأل عن الصحيح والمحال مع العلم وفقد العلم


(1) قوله – وخباش اسم هضبة وليس بمعروف ان خباش اسم من أسماء الشمس.. قلت لم نقف على أحد هذين التفسيرين لغيره وذكر ياقوت في المعجم ان حباشة بالحاء المهملة سوق من أسواق العرب في الجاهلية وفيه أيضا في باب الخاء المعجمة خباش تخل لبنى يشكر باليمامة (2) قوله – والمصير المعا – ووزنه فعيل والجمع مصران مثل رغيف ورغفان والمصارين جمع الجمع وميمه أصلية.. وقال بعضهم مصير انما هو مفعل من صار إليه الطعام وانما قالوا مصران كما قالوا في مسيل الماء مسلان شبهوا مفعلا بفعيل.. وقوله – ناقع – بالنون من نقع الماء العطش نقوعا أي سكنه

[ 124 ]

والاغراض مختلفة فلا دلالة في ظاهر مسألة الرؤية على جوازها ولاصحابنا عن هذه المسألة أجوبة.. منها وهو الاولى والاقوى أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه وإنما سألها لقومه فقد روى أنهم طلبوا ذلك منه والتمسوه فأجابهم بأنها لا تجوز عليه تعالى فلم يقتعوا بجوابه وآثروا أن يرد الجواب من قبل ربه تعالى فوعدهم ذلك وغلب في ظنه أن الجواب إذ ورد من جهته جل عزوجل كان أحسم للشبهة وأبلغ في دفعها عنهم فاختار السبعين الذين حضروا الميقات ليكون سؤاله بمحضر منهم فيعرفوا ما يرد من الجواب فسأل وأجيب بما يدل على أن الرؤية لا تجوز عليه تعالى ويقوى هذا الجوا ب أشياء.. منها قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) الآية.. ومنها قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) الآية.. ومنها قوله تعالى (فلما أخذتهم الرجفة قال رب) الآية لان إضافة ذلك إلى السفهاء تدل على أنه كان بسببهم ومن أجلهم ولانهم سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.. ومنها ذكر الجهرة في الرؤية وهى لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم وهذا يقوى أن الطلب لم يكن للعلم الضرورى على ما سنذكره في الجواب الثاني.. ومنها قوله (أنظر إليك) لانا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه أمكن إن يحمل قوله (أنظر إليك) على حقيقته وإذا حملت الآية على طلب العلم الضرورى احتيج إلى حذف في الكلام ويصير تقديره أرنى أنظر إلى الآيات التى عندها أعرفك ضرورة.. ويمكن في هذا الوجه الاخير خاصة أن يقال إذا كان المذهب الصحيح عندكم هو أن النظر في الحقيقة غير الرؤية فكيف يكون قوله تعالى أنظر إليك حقيقة في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه.. فإن قلتم لا يمتنع أن يكونوا التمسوا الرؤية التى يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة فسأل عليه الصلاة والسلام على حسب ما طلبوا.. قيل لكم هذا ينقض فرقكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية وبين سؤال جيمع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد وما يقتضى الجسمية بأن تقولوا الشك في الرؤية لا يمنع من معرفة السمع والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك لان الشك الذى لا يمنع من معرفة صحة السمع إنما هو في الرؤية التى لا يكون معها نظر فلا يقتضى التشبيه.. فان قلتم الذى يمنع من معرفة السمع انما يحمل ذكر النظر


[ 125 ]

فيه على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز لان من عادة العرب أن يسموا الشئ باسم الطريق إليه وما قاربه وداناه.. قلنا فكأنكم عدلتم من مجاز إلى مجاز فلا قوة في هذا الوجه والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى وليس لاحد أن يقول لو كان عليه الصلاة والسلام إنما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول أرنى أنظر إليك ولا كان الجواب مختصا به وهو قوله تعالى (لن تراني) وذلك لانه غير ممتنع وقوع الاضافة على هذا الوجه مع أن المسألة كانت من أجل الغير إذ كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس وتزيل الشبهة.. فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه أسئلك أن تفعل بى كذا وكذا وتجيبنى إلى كذا وكذا ويحسن أن يقول المشفوع إليه قد أجبتك وشفعتك وما جرى مجرى ذلك وإنما حسن هذا لان للسائل في المسألة اغراضا وإن رجعت إلى الغير فتحققه بها وتكلفه كتكلفه إذا اختصه ولم يبعده.. فإن قيل كيف يجوز منه عليه الصلاة والسلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه ولئن جاز ذلك ليجوزن أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه تعالى من كونه جسما وما أشبهه متى شكوا فيه.. قلنا إنما صح ما ذكرناه في الرؤية ولم يصح فيما سألت عنه لان مع الشك في جواز الرؤية التى لا يقتضى كونه جسما يمكن معرفة السمع وأنه تعالى حكيم صادق في أخباره فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته وجوازه ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم.. وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية قد كان جائزا أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته عليه وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في الدين وإن ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الادلة وإصابة الحق منها غير أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين في مسألة علمه باستحالة ما سأل عنه وأن غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفا.. والجواب الثاني في الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التى تضطره إلى المعرفة فتزول عنه الدواعى والشكوك والشبهات ويستغنى عن الاستدلال فتخف المحنة عليه بذلك كما سأل


[ 126 ]

إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى طلبا للتخفيف عليه بذلك وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الادراك بالبصر وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد به فقال له جل وعز (لن تراني) أي لن تعلمني على هذا الوجه الذى التمسته منى ثم أكد تعالى ذلك بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دل به على أن إظهار ما تقوم به المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز وأن الحكمة تمنع منه.. والوجه الاول أولى لما ذكرناه من الوجوه ولانه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكا في أن المعرفة ضرورية لا تصح حصولها في الدنيا إو عالما بذلك فإن كان شاكا فهذا مما لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم لان الشك فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم سلام الله عليهم لاسيما وقد يجوز أن يعلم ذلك على الحقيقة بعض أمتهم فيزيد عليهم في المعرفة وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شئ يمنع منه فيهم وإن كان عالما فلا وجه لسؤاله إلا أن يقال إنه سال لقومه فيعود إلى معنى الجواب الاول.. والجواب الثالث في الآية ما حكى عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال يجوز أن يكون موسى عليه السلام في وقت مسئلته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية على الله تعالى فسأل ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا قال وليس شكه في ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته بل يجرى مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الاعراض في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى.. قال ولا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لاجل ذلك وهذا الجواب يبعد من قبل أن الشك في جواز الرؤية التى لا تقتضي تشبيها وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن الشك في ذلك لا يجوز على الانبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على الحقيقة فيكون النبي صلى الله عليه وسلم شاكا فيه وغيره عارفا به مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه وهذا أقوى في التنفير وأزيد على كل ما وجب أن يجنبه الانبياء عليهم السلام.. فإن قيل فعن أي شئ كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين.. قلنا أما من ذهب إلى أن


[ 127 ]

المسألة كانت لقومه فإنه يقول إنما تاب لانه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه وليس للانبياء ذلك لانه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه فيكون ترك إجابتهم إليه منفرا عنهم ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول إنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف وعلى جميع الاحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق عليه العقاب ولا الذم والاولى أن يقال في توبته عليه الصلاة والسلام انه ليس في الآية ما يقتضى أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها وقد يجوز أن يكون ذلك منه إما لذنب صغير تقدم تلك الحال أو تقدم النبوة فلا يرجع إلى سؤال الله تعالى الرؤيا أو ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى وإظهار الانقطاع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب صغير وقد يجوز أيضا أن يكون الغرض في ذلك مضافا إلى إلى ما قلناه تعليما وتوقيفا على ما نستعمله وندعوه به عند الشدائد ونزول الاهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى فإن الانبياء عليهم السلام وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم ويحتاج من رفع ذلك عنه إلى التوبة من الاستقالة.. فأما قوله تعالى (فلما تجلى ربه للجبل) فإن التجلى ههنا هو التعريف والاعلام والاظهار لما يقتضى المعرفة كقولهم هذا كلام جلى أي واضح ظاهر وكقول الشاعر تجلى لنا بالمشرفية والقنا * وقد كان عن وقع الاسنة نائيا أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر له وإن كان نائيا وقع الاسنة فأقام ما أظهره من دلالة فعله على مقام مشاهدته وعبر عنه بأنه تجلى منه.. وفى قوله تعالى للجبل وجهان.. أحدهما أن يكون المراد لاهل الجبل ومن كان عند الجبل فحذف كما قال تعالى (واسأل القرية.. وما بكت عليهم السماء والارض) وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دل من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة.. والوجه الآخر أن يكون المعنى للجبل أي بالجبل فأقام اللام مقام الباء كما قال تعالى (آمنتم له قبل أن آذن لكم) أي به وكما يقول أخذتك لجرمك أي بجرمك ولما كانت الآية الدالة على منع ما سئل فيه إنما حلت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلى إليه وقد استدل


[ 128 ]

بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنه تعالى لا يرى بالابصار من حيث نفي الرؤية نفيا عاما بقوله تعالى (لن تراني) ثم أكد ذلك بأن علق الرؤية باستقرار الجبل الذى علمنا أنه لم يستقر وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشئ لانهم يعلقونه بما يعلم أنه لا يكون كقولهم لا كلمتك ما أضاء الفجر وطلعت الشمس وكقول الشاعر إذا شاب الغراب رجوت أهلى * وصار القير كاللبن الحليب.. ومما يجرى هذا المجرى قوله تعالى (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) وليس لاحد أن يقول إذا علق الرؤية باستقرار الجبل وكان ذلك في مقدوره تعالى فيجب أن تكون الرؤية معلقة به أيضا في مقدوره تعالى بأنه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلقه بأمر يستحيل كما علق دخولهم الجنة بأمر يستحيل من ولوج الجمل في سم الخياط وذلك أن تشبيه الشئ بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه ولما علق وقوع الرؤية باستقرار الجبل وقد علم أنه لا يستقر علم نفى الرؤية وما عدا ذلك من كون الرؤية مستحيلة وغير مقدورة واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض في التشبيه على أنه إنما علق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التى جعله فيها دكا وذلك محال لما فيه من اجتماع الضدين فجرى مجرى جواز الرؤية في الاستحالة وليس يجب في كل ما علق بغيره أن يجرى مجراه في سائر وجوهه حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه مستحيلا كان الآخر بمثابته مستحيلا لان تعليق دخول الكفار الجنة إنما علق بولوج الجمل في سم الخياط ودخول الكفار الجنة لم يكن مستحيلا بل معلوم أن الاول في المقدور وإن كان لا يحسن والثانى ليس فيه المقدور وهذه الجملة كافية في تأويل هذه الآية وبيان ما فيها والحمد لله وحده [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه وإنى لاستجيد قول أبى العاص بن خزام ابن عبد الله بن قتادة المازنى وكم من صاحب قد بان عنى * رميت بفقده وهو الحبيب فلم أبد الذى تحنو ضلوعي * عليه وإنني لانا الكثيب


[ 129 ]

مخافة أن يرانى مستكينا * عدو أو يشابهه قريب فيشمت كاشح ويظن أنى * جزوع عند نائبة تنوب فبعدك شدت الاعداء طرفا * إلى ورابنى دهر مريب معنى – شدت الاعداء طرفا – أي نظرت إلى نظرا شديدا فظهر الغضب من عيونها وأنكرت الزمان وكل أهلى * وهرتنى لغيبتك الكليب يقال كلب وكليب مثل عبد وعبيد وكنت تقطع الابصار دوني * وإن وغرت من الغيظ القلوب ويمنعنى من الاعداء أنى * وإن رغموا لمخشى مهيب فلم أر مثل يومك كان يوما * بدت فيه النجوم فما تغيب وليل ما أنام به طويل * كأنى للنجوم به رقيب وما يك جائيا لابد منه * إليك فسوف تجلبه الجلوب (مجلس آخر 71) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) إلى قوله (تعقلون) فقال كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكر البقرة والامر بذبحها وقد كان ينبغى أن يتقدمه لانه إنما أمر الله تعالى بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل فكيف أخر تعالى ذكر السبب عن المسبب وبنى الكلام بناء يقتضى أنه كان بعده ولم قال تعالى (وإذ قتلتم نفسا) والرواية وردت بأن القاتل كان واحدا فكيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل بينها واحد وإلى أي شئ وقعت الاشارة بقوله تعالى (كذلك يحيى الله الموتى).. الجواب قيل له أما قوله تعالى (وإذ قتلتم نفسا) ففيه وجهان.. أولهما أن تكون هذه الآية وإن تأخرت فهى مقدمة في المعنى على الآية التى ذكرت فيها البقرة ويكون التأويل وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى عليه السلام فقال لكم إن الله (17 – امالي رابع)


[ 130 ]

يأمركم أن تذبحوا بقرة فأخر المقدم وقدم المؤخر.. ومثل هذا في القرآن وكلام العرب كثير.. ومثله (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما).. وقال الشاعر إن الفرزدق صخرة عادية * طالت فليس تنالها الاوعالا (1) أراد طالت الاوعال فليس تنالها.. ومثله طاف الخيال وأين منك لما ما * فارجع لزورك بالسلام سلاما أراد طاف الخيال لماما وأينه هو منك.. والوجه الثاني أن يكون وجه تأخير قوله تعالى (وإذ قتلتم نفسا) أنه معلق بما هو متأخر في الحقيقة وواقع بعد ذبح البقرة وهو قوله


(1) قوله – طالت فليس تنالها الاوعالا – أي طالت الاوعال بمعني فاقتها في الطول يقال طال فلان فهو طويل وفعله على وزن فعل بضم العين لمجيئ الوصف منه على فعيل وهو لازم.. وأما قولهم إن بشرا قد طلع اليمن ورحبكم الدخول فانهما ضمنا معنى بلغ اليمن ووسعكم الدخول وأما طاله ففعل بالفتح ولا يكون بالضم لان فعل لا يتعدي كما تقدم والبيت من هذا النوع قال سيبويه انما صحت الواو في طويل لانه لم يجئ على الفعل لانك لو بنيته على الفعل قلت طائل وانما هو كفعيل يعنى به مفعول وقد جاء على الاصل فاعتل فعله نحو مخيوط فهذا أجدر.. قال وانما صحت الواو في طوال لصحتها في الواحد فطوال من طويل كحوار من حاورت والبيت لسبيح بن رياح الزنجي ويقال رباح بن سبيح قاله حين غضب لما قال جرير في الفرزدق لا تطلبن خؤولة من تغلب * فالزنج أكرم منهم أخوالا فقال سبيح أو رياح الزنج لولا قيتهم في صفهم * لاقيت ثم جحاجحا أبطالا ما بال كلب بنى كليب سبنا * أن لم يوازن حاجبا وعقالا * ان الفرزدق صخرة عادية الخ * وبعض الرواة ينسبه للاخطل ويدخله في قصيدته التى يهجو بها جريرا ومطلعها كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا وذلك غلط

[ 131 ]

البقرة إنما هو بعد الذبح فكأنه تعالى قال (فذبحوها وما كادوا يفعلون) لانكم (قتلتم نفسا فادارأتم فيها) فأمرناكم بأن تضربوه ببعضها لينكشف أمره فأما إخراج الخطاب تعالى (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) لان الامر بضرب المقتول ببعض مخرج ما يتوجه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الابناء بخطاب الآباء والاجداد وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها فيقول أحدهم فعلت بنو تميم كذا وقتل بنو فلان فلانا وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة ومنه قراءة من قرأ (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) بتقديم المفعولين على الفاعلين وهو اختيار الكسائي وأبى العباس ثعلب فيقتل بعضهم ويقتلون وهو أبلغ في وصفهم وأمدح لهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن يقتل بعضهم كان ذلك أدل على شجاعتهم وقلة جزعهم وحسن صبرهم.. وقد قيل إنه كان القاتلان اثنين قتلا ابن عم لهما فإن الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع كما قال تعالى (وكنا لحكمهم شاهدين يريد داود وسليمان عليهما السلام والوجه الاول أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له ولان أكثر أهل العلم أجمعوا على أن القاتل كان واحدا.. ومعنى (فادارأتم) فتدارأتم أي تدافعتم وألقى بعضكم القتل على بعض يقال دارأت فلانا إذا دافعته وداريته إذا لا ينته ودريته ختلته ويقال ادرأ القوم إذا تدافعوا والهاء في قوله فادارأتم فيها تعود إلى النفس.. وقيل إنها تعود على القتلة أي اختلفتم في القتلة لان قتلتم تدل على المصدر والقتلة من المصادر تدل عليها الافعال ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر.. فأما قوله تعالى (كذلك يحيى الله الموتى) فالاشارة وقعت به إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة لانه روى أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما فقال قتلني فلان ونبه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الاموات لانهم قالوا إذا كنا عظاما ورفاتا الآية فأخبرهم الله تعالى بان الذى أنكروه واستبعدوه هين عليه غير متعذر في اتساع قدرته وكان مما ضرب تعالى لهم من الامثال ونبههم عليه من الادلة ذكر المقتول الذى ضرب ببعض البقرة فقام حيا وأراد تعالى أننى إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه عن الحياة ويأس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم ورددته حيا مخاطبا


[ 132 ]

باسم قاتله فكذلك فاعلموا أن إحياء جميع الاموات عند البعث لا يعجزنى ولا يتعذر على وهذا بين لمن تأمله.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه ومن الشعر المشهور بالجودة في ذم الدنيا والتذكير بمصائبها قول نهشل بن جرى يرثى أخاه مالكا ذكرت أخى المخول بعد يأس * فهاج على ذكراه اشتياقي فلا أنسى أخى مادمت حيا * وإخوانى بأقربة العتاق يجرون الفصال على الندامى * بروق الحزن من كنفى إباق ويغلون السباء إذا أتوه * بضمر الخيل والشول الخقاق إذا اتصلوا وقالوا يا آل غوث * وراحوا في المحبرة الرقاق أجابك كل أزوع شمرى * رخى البال منطلق الخناق أناس صالحون نشأت فيهم * فآدوا بعد إلف واتساق مضوا لسبيلهم ولبثت عنهم * ولكن لا محالة من لحاق كذا الالف الذى أدلجن عنه * فجن ولا يتوق إلى متاق أرى الدنيا ونحن نعيث فيها * مولية تهيأ لانطلاق أعاذل قد بقيت بقاء قيس * وما حي على الدنيا بباقي كأن الشيب والاحداث تجرى * إلى نفس الفتى فرسا سباق فإما الشيب يذركه وإما * يلاقى حتفه فيما يلاقى فإن تك لمتى بالشيب أمست * شميط اللون واضحة المساق فقد أغدو بداجية أرائي * بها المتطلعات من الرواق إلي كأنهن ظباء قفر * برهبي أو بباعجتى فتاق (1)


(1) – رهبي – بفتح أوله وسكون ثانيه وبعد الهاء باء موحدة خبراء في الصمان في ديار بنى تميم

[ 133 ]

يرامقن الخبال بغير وصل * وليس حبال وصلى بالرماق وعهد الغانيات كعهد قين * وفت عنه الجعائل مستداق كجلب السوء يعجب من رآه * ولا يشفى الحوائم من لماق فلا يبعد مصابي في الموامى * وإشراف العلاية وانصفاق وغبراء القتام جلوت عنى * بعجلى الطرف سالمة المآق وقد طوفت في الآفاق حتى * سئمت النص بالقلص العتاق وكم قاسيت من سنة جماد * تعض اللحم ما دون العراق إذا أفنيتها بدلت أخرى * أعد شهورها عد الاواقى وأفنتنى الشهور وليس تفنى * وتعداد الاهلة والمحاق وما سبق الحوادث ليث غاب * يجر لعرسه جزر الرفاق ولا بطل تعادى الخيل منه * فرار الطير من برد يعاق وأحسن حارثه بن بدر الغدانى في قوله يا بكر ما راح من قوم ولا ابتكروا * إلا وللموت في آثارهم حادى يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت * إلا تقرب آجالا لميعاد ولابي العتاهية في هذا المعنى إذا انقطعت عنى من العيش مدتي * فإن بكاء الباكيات قليل سيعرض عن ذكرى وتنسى مودتي * ويحدث بعدى للخليل خليل أجلك قوم حين صرت إلى الغنا * وكل غنى في العيون جليل


[ 134 ]

وليس الغنا إلا غنى زين الفتى * عشية يقرى أو غداة ينيل ولم يفتقر يوما وإن كان معدا * جواد ولم يستغن قط بخيل إذا مالت الدنيا إلى المرء رغبت * إليه ومال الناس حيث يميل أرى علل الدنيا على كثيرة * وصاحبها حتى الممات عليل وإنى وإن أصبحت بالموت موقنا * فلى أمل دون اليقين طويل وقد أحسن البحترى في قوله في هذا المعنى أخى متى خاصمت نفسك فاحتشد * لها ومتى حدثت نفسك فاصدق أرى علل الاشياء شتى ولا أرى التجمع إلا علة للتفرق أرى العيش ظلا توشك نقله * فكس في ابتغاء العيش كيسك أومق أرى الدهر غولا للنفوس وإنما * يقى الله في بعض المواطن من يقى فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى * وعرج على الباقي فسائله لم بقى ولم أر كالدنيا خليلة صاحب * محب متى تحسن بعينيه تطلق تراها عنايا وهى صنعة واحد * فتحسبها صنعا لطيف وأخرق.. وقد قيل إن السبب في خروج البحترى عن بغداد في آخر أيامه كان هذه الابيات لان بعض أعدائه شنع عليه بأنه ثنوى من حيث قال – فتحسبها صنعا لطيف وأخرق – وكانت العامة حينئذ غالبة على البلد فخاف على نفسه فقال لابنه أبى الغوث قم يا بني حتى نطفي عنا هذه الثائرة بخرجة نلم فيها ببلدنا ونعود فخرج ولم يعد.. وأحسن أيضا غاية الاحسان في قوله أغشى الخطوب فإما جئن مأربتى * فيما أسير أو أحكمن تأديبي


[ 135 ]

إن تلتمس تمر أخلاف الخطوب وإن * تلبث مع الدهر تسمع بالاعاجيب (1)


(1) الابيات من قصيدة يمدح بها أحمد بن محمد الطائي ومطلعها أتاركي أنت أم مغرى بتعذيبي * ولائمي في الهوي إن كان يزرى بي عمر الغوائى لقدبين من كثب * هضيمة في محب غير محبوب إذا مددنا إلى أعراضه سببا * وقين من كرهه الشبان بالشيب أمفلت بك من زهد المهاهرب * من مرهق ببوادى الشيب مقروب يحنوبه من أعاليه على أود * حنوا الثقاف جرى فوق الانابيب أم هل مع الحب حلم لا تسفهه * صبابة أو عزاء غير مغلوب قضيت من طلبي للغانيات وقد * شأونني حاجة في نفس يعقوب لم أر كالنفر الاغفال سائمة * من الحبلق لم تحفظ من الذيب وأربد القطر يلقاك السراب به * بعد التربض مبيض الجلابيب أغشي الخطوب.. البيتان وبعدهما ومنها إلى أبى جعفر خاضت ركائبنا * خطار كل مهول الخرق مرهوب ننوط آمالنا منه على ملك * مردد في صريح المجد منسوب محتضر الباب اما آذن النقرى * أو فائت لعيون الوفد محجوب ومنها خلائق كسوار المزن موفية * على البلاد بتصبيح وتأويب ينهضن بالثقل لا يعطى النهوض به * أعناق مجفرة الهوج الهراجيب في كل أرض وقوم من سحائبه * أسكوب عارفة من بعد أسكوب كم بث في حاضر النهرين من نفل * ملقى على حاضر النهرين مصبوب يملا أفواه مداحيه من حسب على السماكين والنسرين مسحوب تلقى إليه المعالي قصد أوجهها * كالبيت يقصد أما بالمحاريب معطي من المجد مزدادا برغبته * يجرى علي سنن منه وأسلوب

[ 136 ]

وفى قوله متى تستزد فضلا من العمر تغترف * بسجليك من شهد الخطوب وصابها تشد بنا الدنيا بأخفض سعيها * وغول الافاعى لمه من لعابها يسر بعمران الديار مضلل * وعمرانها مستأنف من خرابها ولم أرتض الدنيا أو ان مجيئها * وكيف ارتضائيها أوان ذهابها أقول لمكذوب عن الدهر زاغ عن * تخير آراء الحجى وانتخابها سيزديك أو يثويك أنك محلس * إلي شقة يبكيك بعد مآبها وهل أنت في مرموسة طال أخذها * من الارض إلا حفنة من ترابها (1)


كالعين منهومة بالحسن تتبعه * والانف يتبع أعلى منتهى الطيب ما انفك منتضيا سيفى قرى ووغى * على الكواهل تدمي والعراقيب قد سرني برعجل من عداوته * بعد الذى اختبطت من سخطه الموب ساروا مع الناس حيث الناس أزفلة * في جوده بين مرؤوس ومربوب ولو تناهت بنو شيبان عنه إذا * لم يجشموا وقع ذى حدين مذروب ما زادها النفر عنه غير تعرية * وبعدها من رضاه غير تتبيب (1) الابيات من قصيدة يمدح بها صاعدا ومطلعها معاد من الايام تعذيبنا بها * وابعادها بالالف بعد اقترابها وما تملا الآفاق من فيض غبرة * وليس الهوى البادى لفيض انسكابها غوى رأى نفس لا ترى أن وجدها * بتلك الغواني شقة من عذابها وحظك من ليلي ولاحظ عندها * سوى صدها من غادة واجتنابها يفاوت من تأليف شعبى وشعبها * تناهى شبابي وابتداء شبابها هي الشمس الا ان أن شمسا تكشفت * لمبصرها وانها في ثيابها

[ 137 ]

.. وجدت الآمدي يروى هذا البيت أنك محبس بالباء.. وتفسير ذلك أن المعنى أنك موقوف إلى أن تصير إلى هذا من قولك أحبست فرسا في سبيل الله وأحبست دارى إى وقفتها والرواية المشهورة أنك محلس باللام (1).. والمعنى أنك متهي للرحيل ومتخذ حلسا يوضع تحت الرحل وهذا أشبه بالمعنى الذى قصده البحترى وأولى بأن يختاره مع دقة طبعه وسلامة ألفاظه (مجلس آخر 72) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) إلى قوله (تعالى الله عما يشركون).. فقال أليس ظاهر هذه الآية يقتضى جواز الشرك بالله على الانبياء عليهم السلام لانه لم يتقدم إلا ذكر آدم وحواء عليهما السلام فيجب أن يكون قوله تعالى (جعلا له شركاء فيما آتاهما) يرجع إليهما.. الجواب قلنا كما أن ذكر آدم وحواء عليهما السلام قد تقدم فقد تقدم أيضا ذكر غيرهما في قوله تعالى (هو الذى خلقكم) ومعلوم أن المراد بذلك جميع ولد آدم عليه السلام في قوله (فلما آتاهما صالحا) وأراد بالصلاح الاستواء في الاعضاء والمعنى فلما آتاهما ولدا صالحا والمراد بهذا الجنس دون الواحد وإن كان اللفظ لفظ وحدة والمعنى فلما آتاهما جنسا من الاولاد صالحين.. وإذا كان الامر على ما ذكرناه جاز أن يرجع قوله تعالى (جعلا له شركاء) إلى ولدهما وقد تقدم ذكرهم.. فإن قيل إنما وجب رده إلى آدم وحواء عليهما السلام لاجل التثنية في الكلام ولم يتقدم ذكر اثنين إلا ذكرهما عليهما السلام.. قلنا إن جعل هذا ترجيحا في رجوعه إليهما جاز أيضا إن يجعل قوله تعالى في آخر الآية (تعالى الله غما يشركون)


(1) – قلت والبيت في ديوان شعره سيرديك أو يثويك أنك مخلس * الي شقة يبليك بعد مآبها (18 – امالي رابع)

[ 138 ]

وجها مقربا لرجوع الكلام إلى جملة الاولاد ويجوز أيضا أن يكون أشار في التثنية إلى الذكور والاناث من ولد آدم عليه السلام وإلى جنسين منهم فحسنت التثنية لذلك على أنه إذا تقدم في الكلام أمران ثم تلاهما حكم من الاحكام وعلى بالدليل استحالة تعلقه بأحد الامرين وجب رده إلى الآخر.. وإذا علمنا أن آدم عليه السلام لا يجوز عليه الشرك لم يجز عود الكلام إليه فوجب عوده إلى المذكورين من ولد آدم عليه السلام.. وذكر أبو على الجبائى في هذا ما نحن نورده على وجهه.. قال إنما عنى بهذا أن الله تعالى خلق بنى آدم من نفس واحدة لان الاضمار في قوله تعالى خلكقم إنما عنى به بنى آدم عليه السلام والنفس الواحدة التى خلقهم منها هي آدم لانه خلق حواء من آدم ويقال إنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاعه ويقال من طينته فرجعوا جميعا إلى أنهم خلقوا من آدم عليه السلام.. وبين ذلك بقوله تعالى (وخلق منها زوجها) لانه عنى به أنه خلق من هذا النفس زوجها وزوجها هو حواء عليهما السلام.. وعنى بقوله تعالى (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا) وحملها هو حبلها منه في ابتداء الحمل لانه في ذلك الوقت خفيف عليها.. ومعنى قوله تعالى (فمرت به) أن مرورها بهذا الحمل في ذل الوقت وتصرفها به كان عليها سهلا لخفته فلما كبر الولد في بطنها ثقل ذلك عليها فهو معنى قوله تعالى (أثقلت دعوا الله) فثقل عليها عند ذلك المشئ والحركة.. وعنى بقوله تعالى (دعوا الله ربهما) أنهما دعوا عند كبر الولد في بطنها فقالا لئن آتيتنا يا رب نسلا صالحا لنكوئن من الشاكرين لنعمتك علينا لانهما أراد أن يكون لهما أولاد نؤنسهما في الموضع الذى كانا فيه لانهما كانا فردين مستوحشين إذا غاب أحدهما بقى الآخر مستوحشا بلا مؤنس فلما آتاهما نسلا صالحا معافى وهم الاولاد الذين كانوا يولدون لهما لان حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فقال إنها ولدت في خمسمائة بطن ألف ولد.. وعنى بقوله تعالى (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) أي أن هذا النسل الصالح الذى هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما آتاهما من نعمة وأضاف بعد تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله تعالى من الاصنام والاوثان ولم يعن بقوله تعالى جعلا آدم وحواء عليهما السلام لان آدم لا يجوز عليه


[ 139 ]

الشرك لانه نبى من أنبيائه ولو جاز الشرك والكفر على الانبياء لما جاز أن يثق أحدنا بما يؤديه النبي عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى عزوجل لان من جاز عليه الكفر جاز عليه الكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره فصح بهذا أن الاضمار في قوله تعالى (جعلا له شركاء) إنما يعنى به النسل وإنما ذكر ذلك على سبيل التثنية لانهم كانوا ذكروا وأنثى فلما كانوا صنفين جاز أن يجعل تعالى اخبار عنهما كالاخبار عن الاثنين إذ كانا صنفين.. وقد دل على صحة تأويلنا هذا قوله تعالى في آخر الآية (تعالى الله عما يشركون) فبين عزوجل أن الذين جعلوا لله شركاء هم جماء فلهذا جعل إضمارهم إضمار الجماعة فقال تعالى يشركون مضى كلام أبى على.. وقد قيل في قوله تعالى (فلما آتاهما صالحا) مضافا إلى الوجه المتقدم الذى هو أنه أراد بالصلاح الاستواء في الخلقة والاعتدال في الاعضاء وجه آخر وهو أنه لو أراد الصلاح في الدين لكان الكلام أيضا مستقيما لان الصالح في الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه فيكون في حال صالحا وفى آخري مشركا وهذا لا يتنافى.. وقد استشهد في جواز الانتقال من خطاب إلى غيره ومن كناية من مذكور إلى مذكور سواه ليصح ما قلناه من الانتقال من الكناية عن آدم عليه السلام وحواء عليها السلام إلى ولدهما بقوله تعالى (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله) فانصرف عن مخاطبة الرسول إلى مخاطبة المرسل إليهم ثم قال (وتعزروه وتوقروه) يعنى الرسول عليه الصلاة والسلام ثم قال (وتسبحوه) وهو يعنى مرسل الرسول فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والخطاب منتقل من واحد إلى غيره ويقول الهذلى يا لهف نفسي كان جدة خالد * وبياض وجهك للتراب الاعفر ولم يقل وبياض وجهه.. وقال كثير أسيئي بناء أو أحسنى لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت (1)


(1) قوله – أسيئ بنا أو أحسنى – أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) على تساوى الانفاقين في عدم القبول كما

[ 140 ]

فخاطب ثم ترك الخطاب.. وقال آخر فدى لك يا فتى وجيمع أهلى * وما لى إنه منه أتانى


ساوى كثير بين الاحسان والاساءة في عدم اللوم والنكتة في مثل ذلك اظهار نفى تفاوت الحال بتفاوت فعل المخاطب كأنه يأمرها بذلك لتحقيق أنه على العهد – ومقلية – بمعنى مبغضة من القلى وهو البغض.. والبيت من قصيدته المشهورة.. روي أن عبد الملك سأله عن أعجب خبر له مع عزة فقال يا أمير المؤمنين حججت سنة وحج زوج عزة معها ولم يعلم أحدنا بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن تصلح به طعاما لرفقته فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتي دخلت إلى وهي لا تعلم أنها خيمتي وكنت أبرى سهما فلما رأيتها جعلت أبري لحمى وأنظر إليها حتى بريت ذراعي وأنا لا أعلم به والدم يجرى فلما علمت ذلك دخلت الي فامسكت يدى وجعلت تمسح الدم بثوبها وكان عندي نحى سمن فحلفت لتأخذه فأخذته وجاء زوجها فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته حتي حلف عليها لتصدقنه فصدقته فضربها وحلف عليها لتشتمني في وجهى فوقفت على وقالت لى وهى تبكى يابن الزانية ومطلع القصيدة خليلي هذا ربع عزة فاعقلا * قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت ومساترابا كان قد مس جلدها * وبيتا وظلا حيث باتت وظلت ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما * ذنوبا إذا صليتما حيث صلت وما كنت أدري قبل عزة ما البكي * ولا موجعات القلب حتى تولت وقد حلفت جهدا بما نحرت له * قريش غداة المأزمين وصلت أناديك ما حج الحجيج وكبرت * بفيفا غزال رفقة وأهلت وكانت لقطع العهد بينى وبينها * كناذرة نذرا فأوفت وحلت فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت ولم يلق انسان من الحب ميعة * لغم ولا عمياء الا تجلت * كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الصم لو تمشي بها العصم زلت

[ 141 ]

ولم يقل منك أتانى.. ووجدت أبا مسلم محمد بن بحر يحمل هذه الآية على أن الخطاب في جميعها غير متعلق بحواء وآدم عليهما والسلام ويجعل الهاء في تغشاها والكناية في دعوا


صفوحا فما تلقاك الا بخيلة * فمن مل منها ذلك الوصل ملت أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها * وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت فليت قلوصي عند عزة قيدت * بحبل ضعيف غر منها فضلت وغودر في الحى المقيمين رحلها * وكان لها باغ سواي فبلت وكنت كذى رجلين رجل صحيحة * ورجل رمى فيها الزمان فشلت وكنت كذات الظلع لما تحاملت * على ظلعها بعد العثار استقلت أريد الثواء عندها وأظنها * إذا ما أطلنا عندها المكث ملت فما أنصفت أما النساء فبغضت * الينا وأما بالنوال فضنت * يكلفها الغيران شتمى وما بها * هو اني ولكن للمليك استذلت هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت ووالله ما قاربت الا تباعدت * بصرم ولا أكثرت الا أقلت فان تكن العتبي فاهلا ومرحبا * وحقت لها العتبي لدينا وقلت وان تكن الاخرى فان وراءنا * مناوح لو تسرى بها العيس كلت خليلي ان الحاجبية لمحت * قلوصيكما وناقتي قد أكلت فلا يبعدن وصل لعزة أصبحت * بعاقبة أسبابه قد تولت * أسيئ بنا أو أحسنى لا ملومة * لدينا ولا مقلية ان ثقلت * ولكن أميلى واذكري من مودة * لناخلة كانت لديك فضلت واني وان صدت لمثن وصادق * عليها بما كانت الينا أزلت فما أنا بالداعى لعزة بالجوى * ولا شامت ان نعل عزة زلت فلا يحسب الواشون ان صبابتي * بعزة كانت غمرة فتجلت فاصبحت قد أبللت من دنف بها * كما أدنفت هيماء ثم استبلت ووالله ثم الله ما حل قبلها * ولا بعدها من خلة حيث حلت

[ 142 ]

الله ربهما وآتاهما صالحا راجعتين إلى من أشرك ولم يتعلق بآدم وحواء عليهما السلام من الخطاب إلا قوله (خلقكم من نفس واحدة) لان الاشارة في قوله (خلقكم من نفس واحدة) إلى الخلق عامة.. وكذلك قوله تعالى (وجعل منها زوجها).. ثم خص منها بعضهم كما قال تعالى (هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) فخاطب الجماعة بالتسيير في البر والبحر ثم خص راكب البحر بقوله تعالى (وجرين بهم بريح طيبة) كذلك هذه الآية أخبرت عن جملة أمر البشر فأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها آدم وحواء عليهما السلام.. ثم دعى الذكر اي الذى سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ادعى الشركاء في عطيته.. وقل جائز أن يكون عنى بقوله هو الذى خلقكم من نفس واحدة المشركين خصوصا إذ كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة.. ويجوز أن يكون المعنى في قوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة) خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وهذا يجئ كثيرا في القرآن وفى كلام العرب قال الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) والمعنى فاجلدوا كل واحد ثمانين جلدة وقال (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) فلكل نفس زوج وهو منها أي من جنسها فلما تغشي كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل فمرت به أي مارت والمور التردد والمراد تردد هذا الماء في رحم هذه الحامل فلما أثقلت


وما مر من يوم على كيومها * وان عظمت أيام أخرى وجلت فاضحت بأعلى شاهق من فؤاده * فلا القلب يسلاها والا العين ملت فيا عجبا للقلب كيف اعترافه * وللنفس لما وطنت كيف ذلت واني وتهيامي بعزة بعدما * تخليت عما بيننا وتخلت * لكا لمرتجى ظل الغمامة كلما * تبوأ منها للمقيل اضمحلت كأني واياها سحابة ممحل * رجاها فلما جاوزته استهلت فان سأل الواشون فيما هجرتها * فقل نفس حر سليت فتسلت (*)

[ 143 ]

أي ثقل حملها أي بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعوا الله أي الرجل والمرأة لما استبان حمل المرأة فقالا لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما أي أعطاهما ما سألا من الولد الصالح نسبا ذلك إلى شركاء معه فتعالى الله عما يشركون.. وقال قوم معنى جعلا له شركاء أي طلبا من الله أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطلبتين وتكون الهاء في قوله تعالى له راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى ويجرى مجرى قول القائل طلبت منى درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر أي طلبت آخر مضافا إليه وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن يكون قوله تعالى جعلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام (مجلس آخر 73) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون).. فقال أليس ظاهر هذا القول يقتضى أنه خالق لا عمال العباد لان ما ههنا بمعنى الذى فكأنه قال خلقكم وخلق أعمالكم.. الجواب قلنا قد حمل أهل الحق هذه الآية على أن المراد بقوله تعالى وما تعملون أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما مما كانوا يتخذونه أصناما ويعبدونها.. قالوا وغير منكر أن يريد بقوله تعالى وما تعلمون ذلك كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله تعالى وتعبدون ما تنحتون لانه لم يرد أنكم تعبدون نحتكم الذى هو فعلكم بل أراد ما تفعلون فيه النحت وكما قال تعالى في عصى موسى عليه السلام تلقف ما يأفكون تلقف ما صنعوا وإنما أراد تعالى أن العصى تلقف الحبال التى أظهروا سحرهم فيها وهى التى حلتها صنعتهم وإفكهم فقال تعالى ما صنعوا وما يأفكون وأراد تعالى ما صنعوا فيه وما يأفكون فيه ومثله قوله تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب) وإنما أراد المعمول فيه دون العمل وهذا الاستعمال أيضا سائغ شائع لانهم يقولون هذا الباب عمل النجار وفى الخلخال هذا عمل الصائغ وإن كانت الاجسام التى أشير إليها ليست أعمالا لهم وإنما عملوا فيها فحسن إجراء هذه العبارة.. فإن قيل كل الذى ذكرتموه وإن استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع لان العمل في الحقيقة لا يجرى إلا على فعل الفاعل


[ 144 ]

دون ما يفعل فيه وإن استعير في بعض المواضع.. قلنا ليس نسلم لكم أن الاستعمال الذى ذكرناه على سبيل المجاز بل نقول هو المفهوم الذى لا يستفاد سواه لان القائل إذا قال هذا الثوب عمل فلان لم يفهم منه إلا أنه عمل فيه وما رأينا أحدا قط يقول في الثوب بدلا من قوله هذا من عمل فلان هذا مماحله عمل فلان فالاول أولى بأن يكون حقيقة وليس ينكر أن يكون الاصل في الحقيقة ما ذكروه ثم انتقل ذلك بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه وصار أخص به ومما لا يستفاد من الكلام سواه كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحد والاعتبار في المفهوم من الالفاظ إلا ما يستقر عليه استعمالها دون ما كانت عليه في الاصل فوجب أن يكون المفهوم.. والظاهر من الآية ما ذكرناه على أنا لو سلمنا أن ذلك مجاز لوجب المصير إليه من وجوه.. منها ما يشهد به ظاهر الآية ويقتضيه ولا يسوغ سواه.. ومنها ما تقتضيه الادلة القاطعة الخارجة عن الآية.. فمن ذلك أنه تعالى أخرج الكلام مخرج التهجين لهم والتوبيخ لافعالهم والازراء على مذاهبهم.. فقال (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) ومتى لم يكن قوله تعالى (وما تعملون) المراد به ما يعملون فيه ليصير تقدير الكلام أتعبدون الاصنام التى تنحتونها والله خلقكم وخلق هذه الاصنام التى تفعلون بها التخطيط والتصوير لم يكن للكلام معنى ولا مدخل في باب التوبيخ ويصير على ما يذكره المخالف كأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلكقم وخلق عبادتكم فأى وجه للتقريع وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من يكون لوما وتوبيخا إذا خلق عبادتهم للاصنام فأى وجه للمومهم عليها وتقريعهم بها على أن قوله تعالى (خلقكم وما تعملون) بعد قوله تعالى (أتعبدون ما تنحتون) انما خرج مخرج التعليل للمنع من عبادة غيره فلا أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله (أتعبدون ما تنحتون) ومؤثرا في المنع من عبادة غيره فلو أفاد غير قوله ما تعملون نفس العمل الذى هو النحت دون المعمول فيه لكان له فائدة في الكلام لان القوم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما كانوا يعبدون محل النحت ولانه كان لاحظ في الكلام للمنع من عبادة الاصنام فكذلك لو حمل قوله تعالى ما تعملون من أعمال أخر ليست نحتهم ولا هي ما عملوا فيه لكان أظهر في باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم فلم يبق إلا أنه أراد تعالى به خلقكم


[ 145 ]

وما تعملون فيه النحت فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم.. فإن قيل لهم زعمتم أنه لو كان الامر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثاني حظ في باب المنع من عبادة الاصنام وما تنكرون أن يكون لما ذكرناه وجه في المنع من ذلك وان كان ما ذكرتموه أيضا لو أريد لكان وجها وهو أن من خلقنا وخلق الافعال فينا لا يكون إلا الا له القديم الذى يحق له العبادة وغير القديم تعالى كما يستحيل أن يخلقنا يستحيل أن يخلق فينا الافعال على الوجه الذى يخلقها القديم عليه تعالى فصار لما ذكرناه تأثير.. قلنا معلوم أن الثاني إذا كان كالتعليل للاول والمؤثر في المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقون وما تعبدونه أولى من أن ينصرف إلى ما ذكرتموه مما لا يقتضى أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه فأنه لا شئ أدل على المنع من عبادة الاصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق ويشهد لما ذكرناه أيضا قوله تعالى في موضع آخر (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) فاحتج تعالى عليهم في المنع من عبادة الآلهة دونه بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولا عنهم وهذا واضح على أنه لو ساوى ما ذكروه ما ذكرناه في التعلق بالاول لم يسغ حمله على ما ادعوه لان فيه عذرا لهم في الفعل الذى عنفوا وقرعوا من أجله وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم ويذمهم مما يبرئهم على ما تقدم على أنا لا نسلم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة لان من جملة أفعالهم القبائح ومن فعل القبائح لا يكون إلها ولا تحق له العبادة فخرج ما ذكروه من أن يكون مؤثرا بانفراده في العبادة على أن إضافة العمل إليهم لقوله تعالى يبطل تأويلهم هذه الآية لانه لو كان تعالى خالقا لهما لم يكن عملا لهم لان العمل إنما يكون لمن يحدثه ويوجده فكيف يكون عملا لهم والله خلقهم وهذه مناقضة فثبت بهذا أن الظاهر شاهد لنا أيضا على أن قوله تعالى (وما تعملون) يقتضى الاستقبال وكل فعل لم يوجده فهو معدوم ومحال أن يقول تعالى إنى خالق للمعدوم.. فإن قالوا اللفظ وإن كان للاستقبال فالمراد به الماضي كأنه تعالى قال والله خلقكم وما عملتم.. قلنا هذا عدول منكم عن الظاهر الذى ادعيتم أنكم متمسكون به وليس أنتم بأن تعدلوا عنه بأولى منا بل نحن أحق لانا نعدل عنه بدلالة وأنتم تعدلون بغير حجة.. فإن قيل فأنتم (19 – امالي رابع)


[ 146 ]

أيضا تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ الماضي.. قلنا لا نحتاج نحن في تأويلنا إلى ذلك لانا إذا حملنا قوله تعالى (وما تعلمون) على الاصنام المعمول فيها.. ومعلوم أن الاصنام موجودة قبل عملهم فيها فجاز أن يقول تعالى إنى خلقتها ولا يجوز أن يقول أنى خلقت ما سيقع من العمل في المستقبل على أنه تعالى لو أراد بذلك أعمالهم لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن في الظاهر حجة على ما يريدون لان الخلق هو التقدير والتدبير وليس يمتنع في اللغة أن يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا قدره ودبره ألا ترى أنهم يقولون خلقت الاديم وإن لم الاديم فعلا لمن يقول ذلك فيه ويكون معنى خلقه لافعال العباد أنه مقدر لها ومعرف لنا مقاديرها ومراتبها وما به نستحق عليها من الجزاء وليس يمتنع أن يقال إنه خالق للاعمال على هذا المعنى إذا ارتفع الابهام وفهم المراد فهذا كله تقتضيه الآية ولو لم يكن في الآية شئ مما ذكرناه مما يوجب العدول عن حمل قوله تعالى (وما تعملون) على خلق نفس الاعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك ونحملها على ما ذكرناه بالادلة العقلية الدالة على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لاعمالنا وإن تصرفنا محدث منا ولا فاعل له سوانا وكل هذا واضح والحمد لله تعالى والمنة.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وإنى لاستحسن لبعض نساء بنى أسد قولها ألم ترنا غبنا ماؤنا * زمانا فظلنا نكد البئارا فلما عدا الماء أوطانه * وجف الثماد فصارت حرارا وضجت إلى ربها في السماء * رؤس العصاة تناجى السرارا وفتحت الارض أفواهها * عجيج الجمال وردن الجفارا لبسنا لدى عطن ليلة * على اليأس أثيابنا والخمارا وقلنا أعيروا الندى حقه * وسيروا الحفاظ وموتوا حرارا


[ 147 ]

فإن الندى لعسى مرة * يرد إلى أهله ما استعارا فبتنا نوطن أحشاءنا * أضاء لنا عارض فاستطارا وأقبل يزحف زحف الكسير * سياق الرعاء البطاء العشارا تغتى وتضحك حافاته * خلال النعام وتبكى مرارا كأنا تضى لنا حرة * تشد إزارا وتلقى إزارا فلما خشينا بأن لا نجئ * وأن لا يكون فرارا فرارا أشار إليه امروا فوقه * هلم فأم إلى ما أشارا وأنشد أبو هفان لولادة الهرمية لولا اتقاء الله قمت بمفخر * لا يبلغ الثقلان فيه مقامي بأبوة في الجاهلية سادة * بذوا العلا إمراء في الاسلام جادوا فسادوا مانعين أذاهم * لنداهم فضل على الاقوام قذ أنجبوا في السؤددين وأنجبوا * بنجابة الاخوال والاعمام قوم إذا سكتوا تكلم مجدهم * عنهم فأخرس دون كل كلام وقالت امرأة من بنى سعد بن بكر أيا أخوى الملزمى ملامة * أعند كما بالله من مثل ما بيا سألتكما بالله إلا جعلتما * مكان الاذى واللوم أن تأوياليا أيا أمتا حب الهلالي قاتلي * شطون النوى يحتل عرضا يمانيا أشم كغصن البان جعد مرجل * شغفت به لو كان شيئا مدانيا فإن لم أوسد ساعدى بعد هجعة * غلاما هلاليا فشلت بنانيا


[ 148 ]

ثكلت أبى إن كنت ذقت كريقه * سلافا ولا ماء الغمامة غاديا ألم كثيرا لمة ثم شمرت * به خلة يطلبن برقا يمانيا ولصاحبة الهلالية أيضا وإنى لاهوى القصد ثم يردنى * عن القصد ميلاة الهوى فأميل فما وجد مسجون بصنعاء موثق * بساقيه من حبس الامير كبول وما ليل مولى مسلم بجريرة * له بعد ما نام العيون عويل بأكثر منى لوعة يوم راعني * فريق حبيب ما إليه سبيل ولعمرة بنت (1) العجلان أخت عمرو ذى الكلب بن عجلان الكاهلى ترثى أخاها عمرا وقد كان في بعض غزواته نائما فوثب إليه نمران فأكلاه فوجدت قبيلة فهم سلاحه فادعت قتله هي سألت بعمر أخى صحبه * فأفظعني حين ردوا السؤالا (2) وقالوا أتيح له نائما * أعر السباع عليه أحالا (3)


(1) قوله – ولعمرة بنت العجلان الخ.. قلت نسبها غيره لاخته جنوب.. وقوله فوثب إليه نمران فاكلاه.. قال صاحب زهر الآداب قال عمر بن شبة كان عمرو هذا يغزو فهما فيصيب منهم فوضعوا له رصدا على الماء فأخذوه فقتلوه ثم مروا باخته جنوب فقالوا طلبنا أخاك فقالت لئن طلبتموه لتجدنه منيعا ولئن وصفتموه لتجدنه مريعا ولئن دعوتموه لتجدنه سريعا والله لئن سلبتموه لا تجدون ثنيته دامية ولا حجزته حامية ولرب ثدى منكم قد افترشه ونهب قد احتوشه وضب قد احترشه.. ثم قالت هذه الابيات انتهي (2) قولها – سألت بعمرو – الباء بمعنى عن وأخي عطف بيان – وصحبه – مفعول سألت وهو مضاف إلى ضمير عمرو وصحب جمع صاحب – وأفظعنى – هدني قبحه وشدته.. يقال أفظع الامر افظاعا وفظع فظاعة إذا جاوز الحد في القبح (3) قولها – أتيح له الخ – أتيح مجهول أتاح الله له بالمثناة والحاء المهملة بمعنى

[ 149 ]

أتيح له نمرا أجبل * فنالا لعمرك منه منالا (1) فأقسمت يا عمروا لو نبهاك * إذا نبها منك أمرا عضالا (2) إذا نبها ليث عريسة * مفيتا مفيدا نفوسا ومالا (2) هزبرا فروسا لاعدائه * هصورا إذا لقى القرن صالا (4) هما مع تصرف ريب المنون * من الارض ركنا ثبيتا أمالا (5)


قضى وقدر والهاء في له لعمرو – ونائما حال منها – وأعر السباع – نائب فاعل أتيح وهو من العرارة بالعين والراء المهملتين وهو سوء الخلق – وأحال – بالحاء المهملة.. قال السكري أي ركب عليه فقتله وأكله (1) قولها – أتيح له نمرا أجبل – أي قدر له ونمرا مثني نمر مضاف إلى أجبل جمع جبل وتصحفت هذه الكلمة على العينى فقال قولها نمرا جيئل – أي نمران من جيئل أي سبعان من جيئل والنمر السبع والجيئل بفتح الجيم وسكون الياء وفتح الهمزة وهو الضبع هذا كلامه وهو تحريف قطعا (2) قولها – فاقسمت يا عمرو الخ – هذا التفات من الغيبة إلى الحضور وضمير المثنى في نبهاك للنمرين.. وروى – داء عضالا – أي شديدا أعيا الاطباء (3) قولها – ليث عريسة – قال الجوهري العريس والعريسة مأوى الاسد – والمفيد – معناه معطى الفائدة كذا ورد بالمعنيين – ومفيت – بالفاء.. قال السكرى أي مهلك النفوس والمال وتصحفت هذه الكلمة على العينى فرواها بالقاف.. وقال مقيتا أي مقتدرا كالذى يعطى كل رجل قوته.. ويقال المقيت الحافظ للشئ والشاهد له والنفوس يرجع إلى المقيت والمال يرجع إلى المفيد هذا كلامه (4) وقولها – هزبرا فروسا الخ – الهزبر الاسد الضخم الشديد – الفروس – الكثير الافتراس للمصيد – وهصورا – من الهصر وهو الجذب والاخذ بقوة – والقرن – بالكسر كفؤك في الشجاعة أو عام – وصال على قرنه سطا (5) قولها – هما مع تصرف ريب المنون الخ – ريب المنون حوادث الدهر.. قال

[ 150 ]

هما يوم حم له يومه * وقال أخوفهم بطلا وقالا (1) وقالوا قتلناه في غارة * بآية ما إن ورثتا النبالا (2) فهلا ومن قبل ريب المنون * فقد كان رجلا وكنتم رجالا وقد علمت فهم يوم اللقاء * بأنهم لك كانوا نفالا كأنهم لم يحسوا به * فيخلوا النساء له والحجالا (3) ولم ينزلوا بمحول السنين * به فيكونوا عليه عيالا وقد علم الضيف والمجتدون * إذا اغبر أفق وهبت شمالا (4)


السكرى ثبيت ثابت.. وروي غيره بدله شديدا (1) قولها – هما يوم حم له يومه – الخ.. قال السكري هما تعنى النمرين – وحم – قضى وقدر – وفال – بالفاء أي أخطأ رجل فائل الرأى وفيل أي ضعيف الرأى – وفهم – قبيلة ولهذا منعه الصرف كذا قال عبد القادر.. والبيت لا يخفى أنه مكسور وهو ساقط من العيني (2) قولها – وقالوا قتلناه – روى نحن بدل قالوا.. قال السكرى تهزأ بهم – والآية – العلامة – والنبال – السهام – ورجل – قال السكرى هو الرجل يقال رجل ورجل أي بسكون الجيم وضمها.. وروى غيره فذا يدل رجلا – والفذ – بالفاء والذال المعجمة هو الفرد – والنفال – الغنائم جمع نفل بفتحتين وهي الغنيمة (3) وقولها – كأنهم لم يحسوا به – الخ من حسست بالخبر من باب تعب أي علمته وشعرت به – ويخلوا – من أخليته أي جعلته خاليا – والحجال – جمع حجلة بالتحريك وهو بيت يزين بالثياب والاسرة والستور (4) قولها – وقد علم الضيف والمجتدون – الخ المجتدون – هم الطالبون الجدا وهى العطية.. وروي المرملون بدل قولها المجتدون – المرملون – من أرمل القوم إذا نفد زادهم وفاعل هبت ضمير الريح وان لم يجر لها ذكر لفهمها من قولها إذا اغبر أفق فان

[ 151 ]

وخلت عن اولادها المرضعات * ولم تر عين لمزن بلالا (1) بأنك كنت الربيع المغيث * لمن يعتريك وكنت الثمالا (2)


اغبراره انما يكون في الشتاء لكثرة الامطار واختلاف الرياح – والشمال – بالفتح ويكسر ربح تهب من ناحية القطب وهو حال وانما خصت هذا الوقت بالذكر لانه وقت تقل فيه الارزاق وتنقطع السبل ويثقل فيه الضيف فالجود فيه غاية لا تدرك (1) قولها – وخلت عن أولادها المرضعات الخ.. قال أبو حنيفة انما خلت أولادها من الاعواز لم يجدن قوتا واغبرار الافق من الجدب وأراد هبت الربح شمالا وهي تضمر وان لم تذكر لكثرة ما تذكر انتهي – والمزن – السحاب – والبلال – بالكسر البلل (2) قولها – بأنك كنت الربيع – الخ الربيع هنا ربيع الزمان.. قال ابن قتيبة في باب ما يضعه الناس غير موضعه وهو أول كتابه أدب الكاتب ومن ذلك الربيع يذهب الناس الي أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه الورد والنور ولا يعرفون الربيع غيره والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذى تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع ثم فصل القيظ الذي بعده وهو الذى تدعوه العامة الصيف ومن العرب من يسمى الفصل الذى تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الاول.. ويسمى الفصل الذى يتلو الشتاء ويأتى فيه الكمأة والنور الربيع الثاني وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع اه‍.. قال شارحه ابن السيد مذهب العامة في الربيع هو مذهب المتقدمين لانهم كانوا يجعلون حلول الشمس برأس الحمل أول الزمان وشبابه وأما العرب فانهم جعلوا حلول الشمس برأس الميزان أول فصول السنة الاربعة وسموه الربيع.. وأما حلول الشمس برأس الحمل فكان منهم من يجعله ربيعا ثانيا فيكون في السنة على مذهبهم ربيعان وكان منهم من لا يجعله ربيعا ثانيا فيكون في السنة على مذهبهم ربيع واحد وأما الربيعان من الشهور فلا خلاف بينهم انهما اثنان ربيع الاول وربيع الآخر انتهى – والغيث – المطر والكلا ينبت بماء السماء والمراد به هذا لوصفه بالمريع وهو الخطيب بفتح

[ 152 ]

وخرق تجاوزت مجهولة * بوجناء حرف تشكى الكلالا (1) فكنت النهار به شمسه * وكنت دجى الليل فيه الهلالا وخيل سمت لك فرسانها * فولوا ولم يستقلوا قبالا وكل قبيل وإن لم تكن * أردتهم، منك باتوا وجالا (2)


الميم وضمها في القاموس مرع الوادي مثلثة الراء مراعة أكلا كأمرع – والثمال – بكسر المثلثة.. قال الدينوري هو الذخر وقال غيره هو الغياث – والمغيث – من الاغاثة – ومن يعتريك – أي من يقصدك.. وروى بانك ربيع وغيث مرئ * وأنك هناك تكون الثمالا والبيت يستشهد به النحويون في باب أن المخففة من الثقيلة وهو من الضرورة لان اسم ان المخففة شرطه أن يكون ضميرا محذوفا.. قال ابن هشام وربما ثبت وانشد البيت وهو مختص بالضرورة علي الاصح وشرط خبرها أن يكون جملة ولا يجوز افراده الا إذا ذكر الاسم فيجوز الامران وقد اجتمعا في البيت.. وقال في التصريح ان البيت ضرورة من وجهين عند ابن الحاجب كونه غير ضمير الشأن وكونه مذكورا وعند ابن مالك من وجه واحد وهو كونه مذكورا اه‍.. قلت وروى عن ابن مالك أنه قال إذا أمكن جعل الضمير المحذوف ضمير حاضر أو غائب غير الشأن فهو أولي.. وعن ابى حيان أنه قال لا يلزم أن يكون ضمير الشأن كما زعم بعض أصحابنا بل إذا أمكن تقديره بغيره قدر (1) قولها – وخرق – الواو فيه واو رب وهو بفتح الخاء المعجمة الفلاة الواسعة تنخرق فيها الرياح وهو مجرور رب المضمرة أو الواو المعوضة منها – ومجهوله – الذى لا يسلك – والوجناء – بالجيم الناقة الشديدة – والحرف – الضامرة الصلبة – وتشكى – مضارع أصله تثشكى بتاءين – والكلال – الاعياء (2) قولها – وكل قبيل وان لم تكن الخ.. روى كم بدل كل والقبيل هنا جمع قبيلة – والوجل – جمع وجل بفتح فكسر وهو الخائف من الوجل بفتحتين وهو الخوف

[ 153 ]

(مجلس آخر 74) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم) (1).. فقال أو ليس ظاهر


(1) قوله – تعالى (ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم) الآية.. في هذه الآية خلاف فمن النحويين من جعل الشرط الثاني معترضا بين الشرط الاول وجوابه المقدر ومنهم من قال ليست من هذا الباب.. قالوا وحجتنا على ذلك انا نقدر جواب الشرط الاول تاليا له مدلولا عليه بما تقدم عليه وجواب الثاني كذلك مدلولا عليه بالشرط الاول وجوابه المتقدمين عليه فيكون التقدير ان أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ان كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي.. واعلم ان الشرط إذا دخل على شرط فتارة يكون بعطف وتارة يكون بغيره فإذا كان بعطف فاطلق ابن مالك ان الجواب لاولهما لسبقه وفصل غيره فقال ان كان العطف بالواو فالجواب لهما لان الواو للجمع نحو ان تأتني وان تحسن إلى أحسن اليك وان كان العطف بأو فالجواب لاحدهما لان أو لاحد الشيئين نحو ان جاء زيد أو إن جاءت هند فأكرمه أو فاكرمها وان كان العطف بالفاء فالجواب للثاني والثاني وجوابه جواب للاول وان كان بغير عطف فالجواب لاولهما والشرط الثاني مقيد للاول كتقييده بحال واقعة موقعه كقوله ان تستغيثوا بنا ان تذعروا تجدوا * منا معا قل عز زانها كرم فتجدوا جواب بان تستغيثوا وان تذعروا بالبناء للمفعول مقيد للاول على معنى ان تستغيثوا بنا مذعورين تجدوا.. ومن فروع المسألة وهي اعتراض شرط في شرط ما إذا قال لامرأته ان أكلت إن شربت فأنت طالق فلا تطلق على الاصح الا إذا شربت ثم أكلت لان التقدير عليه ان شربت فان أكلت فأنت طالق فالثاني أول والاول ثان وعلى مقابله لا تطلق الا إذا أكلت ثم شربت لان التقدير عليه ان أكلت فان شربت فأنت طالق فالاول أول والثانى ثان.. واعلم ان تصحيح الاول هو على مذهب (20 – امالي رابع)

[ 154 ]

هذه الآية يقتضى أن نصح النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفع الكفار الذين أراد الله تعالى بهم الكفر والغواية وهذا بخلاف مذهبكم.. قلنا ليس في ظاهر الآية ما يقتضيه خلاف مذهبنا لانه تعالى انه لم يقل إنه فعل الغواية وأرادها وإنما أخبر أن نصح النبي عليه الصلاة والسلام لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم ووقوع الارادة لذلك إو جواز وقوعها لا دلالة عليه في الظاهر على أن الغواية ههنا الخيبة وحرمان الثواب ويشهد بصحة ما ذكرناه في هذه اللفظة قول الشاعر فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغى لائما (1)


لشافعية والحنفية ووجهه ابن الحاجب بانه لا يصح أن يكون الجواب للشرطين معا والا توارد معمولان على معمول واحد ولا لغيرهما والا لزم ذكر ما لا دخل له في ربط الجزاء وترك ماله دخل ولا للثاني لانه يلزم حينئذ أن يكون الثاني وجوابه جوابا للاول فتجب الفاء ولا فاء وحذفها شاذ أو ضرورة فتعين أن يكون جوابا للاول والاول وجوابه دليل جواب الثاني.. قال الدمامينى ومذهب مالك الطلاق سواء أتت بالشرطين مرتبين كما هما في اللفظ أو عكست الترتيب.. قال وبعض أصحابنا يوجه ذلك بأنه على حذف واو العطف كما في قول الشاعر كيف أصبحت كيف أمسيت مما * يغرس الود في فؤاد اللبيب.. ثم قال والا أدرى وجه اشتراط أهل المذهبين يعنى مذهبي الشافعية والمالكية في وقوع الطلاق فعلها لمجموع الامرين مع أنه يمكن أن يكون جواب الاول محذوفا لدلالة جواب الثاني ولا محذور في حذف الجواب بل هو أسهل من تقديرهم لما فيه من الحذف والفصل بين الشرط الاول وجوابه بالشرط الثاني (1) البيت – من قصيدة للمرقش الاصغر واسمه ربيعة بن سفيان والمرقش الاكبر عمه وهو عم طرفة بن العبد وهذه القصيدة يقولها في قصة جرت له مع معشوقته فاطمة بنت المنذر ووليدتها بنت العجلان ومطلعها ألا يا سلمي لا صبر لى عنك فاطما * ولا أبدا ما دام وصلك دائما

[ 155 ]

فكأنه تعالى قال إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم ويحرمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه إلا أن تطيعوا وتتوبوا وقد سمى الله تعالى العقاب غيا.. فقال تعالى (فسوف يلقون غيا) وما قبل هذه الآية يشهد


رمتك ابنة البكري عن فرع ضالة * وهن بنا خوص يخلن نعائما تراءت لنا يوم الرحيل بوارد * وعذب الثنايا لم يكن متراكما سقاه حبى المزن من متهلل * من الشمس رواه ربابا سواجما أرتك بذات الضال منها معاصما * وخذا أسيلا كالو ذيلة ناعما صحا قلبه عنها على أن ذكرة * إذا خطرت دارت به الارض قائما تبصر خليلي هل ترى من ظعائن * خرجن سراعا واقتعدن المقائما تحملن من جو الوريعة بعد ما * تعالى النهار واجتزعن الصرائما تحلين يا قوتا وشذرا وصيغة * وجزعا ظفاريا ودرا توائما سلكن القرى والجزع تحدى جمالهم * ووركن قوا واجتزعن المخارما ألا حبذا وجها ترينا بياضه * ومنسدلات كالمثاني فواحما واني لاستحيي فطيمة جائعا * خميصا وأستحي فطيمة طاعما وانى لاستحييك والخرق بيننا * مخافة أن تلقي أخالي صارما واني وان كلت قلوصي لراجم * بها وبنفسى يا فطيم المراجما ألا يا سلمى بالكوكب الطلق فاطما * وان لم يكن صرف النوى متلائما ألا يا أسلمي ثم اسملى إن حاجتى * اليك فردي من نوالك فاطما أفاطم لو أن النساء ببلدة * وأنت باخرى لاتبعتك هائما متى ما يشأذوا الود يصرم خليله * ويعبد عليه لا محالة ظالما وآلي جناب حلفة فأطعته * فنفسك ول اللوم ان كنت لائما فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ألم تر أن المرء يجذم كفه * ويجشم من لوم الصديق المجاشما أمن حلم أصبحت تنكت واجما * وقد تعتري الاحلام من كان نائما

[ 156 ]

بما ذكرناه وأن القوم استعجلوا عقاب الله تعالى (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) إلى قوله (ولا ينفعكم نصحي) فأخبر أن نصحه لا ينفع من يريد الله تعالى أن ينزل به العذاب ولا يغنى عنه شيئا.. وقال جعفر بن حرب إن الآية تتعلق بأنه كان في قوم نوح عليه السلام طائفة تقول بالجبر فنبههم الله تعالى بهذا القول على فساد مذهبهم وقال لهم على طريق الانكار والتجعب من قولهم إن كان القول كما تقولون من أن الله يفعل فيكم الكفر والفساد فما ينفعكم نصحي فلا تطلبوا منى نصحا وأنتم على ذلك لا تنتفعون به وهذا جيد.. وروى عن الحسن البصري في هذه الآية وجه صالح وهو أنه قال المعنى فيها إن الله يريد أن يعذبكم فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم وإن قبلتموه وآمنتم به لان من حكم الله تعالى أن لا يقبل الايمان عند نزول العذاب وهذا كله واضح في زوال الشبهة بالآية.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه ومن مستحسن ما قيل في صفة المصلوب قول أبى تمام في قصيدة يمدح بها المعتصم ويذكر قتل الافشين وحرقه وصلبه ما زال سر الكفر بين ضلوعه * حتى اصطلى سر الزناد الوارى نارا يساور جمسه من حرها * لهب كما عصفرت شق إزار طارت لها شعل يهدم لفحها * أزكانه هدما بغير غبار فصلن منه كل مجمع مفصل * وفعلن فاقرة بكل فقار مشبوبة رفعت لاعظم مشرك * ما كان يرفع ضوءها للساري صلى لها حيا وكان وقودها * ميتا ويدخلها مع الكفار وكذاك أهل النار في الدنيا هم * يوم القيامة جل أهل النار يا مشهدا صدرت بفرحته إلى * أمصارها القصوى بنو الامصار رمقوا أعالي جذعه فكأنما * رمقوا الهلال عشية الافطار


[ 157 ]

واستنشقوا منه قتارا نشره * من عنبر دفر ومسك دارى وتحدثوا عن هلكه كحديث من * بالبدو عن متتابع الامطار قد كان بوأه الخليفة جانبا * من قلبه حرما على الاقدار فسقاه ماء الخفض غير مصرد * وأنامه في الامن غير غرار ولقد شفى الاحشاء من ترحائها * أن صار بابك جار مازيار ثانيه في كبد السماء ولم يكن * كاثنين ثان إذ هما في الغار (1) فكأنما انتبذا لكيما يطويا * عن باطس خبرا من الاخبار سود اللباس كأنما نسجت لهم * أيدى السموم مدارعا من قار بكروا وأسروا في متون ضوامر * فبدت لهم من مربط النجار لا يبرحون ومن رآهم خالهم * أبدا علي سفر من الاسفار كادوا النبوة والهدى فتقطعت * أعناقهم في ذلك المضمار


(1) قوله – ولم يكن كاثنين ثان الخ.. قد غلط بعض الفضلاء أبا تمام في هذا التركيب قال لانه انما يقال ثانى اثنين وثالث ثلاثة ورابع أربعة ولا يقال أثنين ثان ولا ثلاثة ثالث ولا أربعة رابع.. وأجاب بعضهم بأن في الكلام تقديما وتأخيرا وتقليبا للتركيب وتغييرا وهو ان التقدير ولم يكن كإثنين إذا هما في الغار ثان والمراد انه لم يكن كهذه القضية قضية أخري.. وقال بعضهم إن ثانيه خبر ثان لصار ولكن جعل من قبعل اعط القوس باريها في ترك النصب إذ هو خبر لمبتدأ محذوف ولم يكن بمعنى لم يصر لقرينة سياق ان صار وثان اسمه وتنوينه عوض عن الضمير المضاف إليه وكاثنين خبره وفيه مضاف محذوف والمال ولم يصر ثانيه كثاني أثنين إذ هما في الغار لانهما تجاورا في العلو لا في الغور والغرض ان يصف مصلوبه بالارتفاع لكن في الصلب وهو من التهكم المليح (*)

[ 158 ]

وله يذكر صلب بابك لما قضى رمضان منه قضاءه * شالت به الايام في شوال ما زال مغلول العزيمة سادرا * حتى غدا في القيد والاغلال مستبسلا للموت طوقا من دم * لما استبان فظاظة الخلخال أهدى لمتن الجذع متنيه كذا * من عاف متن الاسمر العسال لا كعب أسفل موضعا من كعبه * مع أنه من كل كعب عال سام كأن العز يجذب ضبعه * وسموه من ذلة وسفال متفرغ أبدا وليس بفارغ * من لاسبيل له إلى الاشغال [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه.. ومن عجيب الامور أن أبا العباس أحمد بن عبد الله بن عمار ينشد هذه الابيات المفرطة في الحسن في جملة مقابح أبى تمام وما خرجه بزعمه من سقطه وغلطه ويقول في عقبها ولم نسمع في شعر وصف فيه مصلوب بأغث من هذا الوصف وأين كان عن مثل إبراهيم بن المهدى يصف صلب بابك في قصيدة يمدح بها المعتصم ما زال يعنف بالنعمى فنفرها * عنه الغموط ووافته الاراصيد حتى على حيث لا ينحط مجتمعا * كما علا أبدا ما أورق العود يا بقعة ضربت فيها علاوته * وعنقه وذوت أغصانه الميد بوركت أرضا وأوطانا مباركة * ما عنك في الارض للتقديس تعميد لو تقدر الارض حجتك البلاد فلا * يبقى على الارض إلا حج جلمود لم يبك إبليس إلا حين أبصره * في زيه وهو فوق الفيل مصفود كناقة النحر تزهى تحت زينتها * وحد شفرتها للنحر محدود


[ 159 ]

ما كان أحسن قول الناس يومئذ * أيوم بابك هذا أم هو العيد صيرت جثته جيدا لباسقة * جرداء والرأس منه ما له جيد فآض يلعب هوج العاصفات به * على الطريق صليبا طرفه عود كأنه شلو كبش والهواء له تنور شاوية والجذع سفود.. وكان لا ينبغى أن يطعن على أبيات أبى تمام من يستجيد هذه الابيات ويفرط في تقريظها وليت من جهل شيئا عدل عن الخوض فيه والكلام عليه فكان ذلك أستر عليه وأولى به وأبيات أبى تمام في نهاية القوة وجودة المعاني والالفاظ وسلامة السبك واطراد النسج.. وأبيات ابن المهدى مضطربة الالفاظ مختلفة النسج متفاوته الكلام وما فيها شئ يجوز أن يوضع اليد عليه إلا قوله حتى علا حيث لا ينحط مجتمعا * كما علا أبدا ما أورق العود وبعد البيت الاخير وإن كان بارد الالفاظ فقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله ما زال يعنف بالنعمى ويغمطها * حتى استقل به عود على عود نصبته حيث ترتاب الظنون به * ويحسد الطير فيه أضبع البيد وللبحتري في هذا المعنى من قصيدة يمدح بها أبا سعيد أولها لادمنة بلوى خبت ولا طلل * يرد قولا على ذى لوعة يسل إن عز دمعك في آى الرسوم فلم * يصب عليها فعندي أدمع بلل هل أنت يوما معيرى نظرة فترى * في رمل يبرين عيرا سيرها رمل حثوا النوى بحداة ما لها وطن * غير النوى وجمال ما لها عقل يقول فيها أمسى يرد حريق الشمس جانبه * عن بابك وهي في الباقين تشتعل


[ 160 ]

بجملة البرد من أقصى الثغور إلى * أدنى العراق سراعا بثها عجل بسر من راء منكوسا تجاذبه * أيدى الشمال فضولا كلها فضل تفاوتوا بين مرفوع ومنخفض * على مراتب ما قالوا وما فعلوا رد الهجير لحاهم بعد شعلتها * سودا فعادوا شبابا بعد ما اكتهلوا سما له حابل الآساد في لمه * من المنايا فأمسى وهو محتبل حالى الذراعين والساقين لو صدقت * له المنى لتمنى أنها عطل من تحت مطبق أرض الشام في نفر * أسرى يودون ودا أنهم قتلوا غابوا عن الارض أنأي غيبة وهم * فيها فلا فصل إلا الكتب والرسل وله في هذا المعنى ما زلت تقرع باب بابك بالقنى * وتزوره في غارة شعواء حتى أخذت بنصل سيفك عنوة * منه الذى أعيى على الامراء أخليت منه الند وهى قراره * ونصبته علما بسامراء لم يبق فيه خوف بأسك مطمعا * للطير في عود ولا إبداء فتراه مطردا على أعواده مثل اطراد كواكب الجوزاء مستشرفا للشمس منتصبا لها * في أخريات الجذع كالحرباء


[ 161 ]

(مجلس آخر 75) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (شهر رمضان الذى انزل فيه القرآن) الآية.. فقال كيف أخبر تعالى بأنه أنزل فيه القرآن وقد أنزله في غيره من الشهور على ما جاءت به الرواية.. والظاهر يقتضى أنه أنزل الجميع فيه… وما المعنى في قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهل أراد الاقامة والحضور الذين هما ضد الغيبة أو أراد المشاهدة والادراك.. الجواب أما قوله تعالى (أنزل فيه القرآن) فقد قال قوم المراد به أنه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ثم فرق انزاله على نبيه عليه الصلاة والسلام بحسب ما تدعوا الحاجة إليه.. وقال آخرون المراد بقوله تعالى (أنزل فيه القرآن) أنه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن فيكون فيه بمعنى في فرضه كما يقول القائل أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في فرضها وأنزل الله في الخمر كذا وكذا يريد في تحريمها.. وهذا الجواب إنما هرب متكلفه من شئ وظن أنه قد اعتصم بجوابه عنه وهو بعد ثابت على ما كان عليه لان قوله تعالى القرآن إذا كان يقتضى ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن ونحن نعلم أن قليلا من القرآن يخص إيجاب الصوم لشهر رمضان وأن أكثره خال من ذلك.. فإن قيل المراد بذلك أنه أنزل في فرضه شيئا من القرآن وبعضا منه.. قيل فهلا اقتصر على هذا وحمل الكلام على أنه تعالى أنزل شئ من القرآن في شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة في بمعنى في فرضه وإيجاب صومه.. والجواب الصحيح أن قوله تعالى القرآن في هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق وإنما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق فكأنه قال تعالى (شهر رمضان الذى أنزل فيه) هذا الجنس من الكلام فأى شئ نزل منه في الشهر فقد طابق الظاهر وليس لاحد أن يقول إن الالف واللام ههنا لا يكونان إلا للعموم والاستغراق لانا لو سلمنا أن الالف واللام صيغة العموم والصورة المعينة لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون ههنا بهذا الصفة لان هذه اللفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة (21 – امالي رابع)


[ 162 ]

من الكلام ولا يراد بها أكثر من الاشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم كالمناقض لغرضه والمنافي لمراده ألا ترى أن القائل إذا قال فلان يأكل اللحم ويشرب الخمر وضرب الامير اليوم اللصوص وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير خصوص ولا عموم حتى لو قيل له فلان يأكل جميع اللحم ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه إننى لم أرد عموما ولا خصوصا وإنما أريد أنه يأكل هذا الجنس من الطعام ويشرب هذا الجنس من الشراب فمن فهم من كلامي العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادى.. وأرى كثيرا من الناس يغلطون في هذا الموضع فيظنون أن الاشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة حتى يحملوا قول من قال أردت الجنس في كل موضع وهذا بعيد ممن يظنه لانه كما أن العموم والخصوص مفهومان في بعض بهذه الالفاظ فكذلك الاشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميزة وقد ذكرنا أمثلة ذلك.. فأما قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأكثر المفسرين حملوه على أن المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما في بلد غير مسافر وأبو علي حمله على أن المراد به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه ذهب في معنى شهد إلى معنى الادراك والمشاهدة.. وقد طعن قوم على تأويل أبى على وقالوا ليس يحتمل الكلام إلا الوجه الاول وليس الامر على ما ظنوه لان الكلام يحتمل الوجهين معا فان كان للقول الاول ترجيح ومزية على الثاني من حيث يحتاج في الثاني من الاضمار إلى أكثر مما يحتاج إليه في الاول لان قول الاول لا يحتاج إلى إضمار الاقامة وارتفاع السفر لان قوله تعالى شهد يقتضى الاقامة وإنما يحتاج إلى إضمار باقى الشروط من الامكان والبلوغ وغير ذلك.. وفى القول الثاني يحتاح مع كل ما أضمرناه في القول الاول إلى إضمار الاقامة ويكون التقدير فمن شهد الشهر وهو مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط فمن هذا الوجه كان الاول أقوى وليس لاحد أن يقول أن شهد بنفسه من غير محذوف لا يدل على إقامة وذلك أن الظاهر من قولهم في اللغة فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الاقامة في البلد وهو عندهم ضد الغائب


[ 163 ]

والمسافر وإن كانوا ربما أضافوا فقالوا شاهد لكذا وشهد فلان كذا ولا يريدون هذا المعنى ففى إطلاق شهد دلالة على الاقامة من غير تقدير محذوف وهذه جملة كافية بحمد الله.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه وجدت أبا العباس بن عمار يعيب على أبى تمام في قوله لما استحر الوداع المحض وانصرمت * أواخر الصبر ولي كاظما وجما رأيت أحسن مرئى وأقبحه * مستجمعين لى التوديع والعنما (1) قال أبو العباس وهذا قد ذم مثله على شاعر متقدم وهو أن جمع بين كلمتين احداهما لا تناسب الاخرى وهو قول الكميت وقد رأينا بها حورا منعمة * رودا تكامل فيها الدل والشنب


(1) الابيات من قصيدة له يمدح بها اسحاق بن ابراهيم المصعبي ومطلعها أصغى إلى البين مغترا فلا جرما * إن النوي أسأرت في عقله لمما أصمني سرهم أيام فرقتهم * هل كنت تعرف سرا يورث الصمما نأوا فظلت لو شك البين مقلته * تندي نجيعا ويندي جسمه سقما أظله البين حتي انه رجل * لو مات من شغله بالبين ما علما أما وقد كتمتهن الخدورضحي * فابعد الله دمعا بعدها أكتتما لما استحر الوداع البيتين.. ومنها لم يطغ قوم وان كانوا ذوى رحم * إلا رأى السيف أدنى منهم رحما مشت قلوب أناس في صاورهم * لما رأوك تمشى نحوهم قدما أمطرتهم عزمات لو رميت بها * يوم الكريهة ركن الدهر لانهدما إذا هم نكصوا كانت لهم عقلا * وان هم جمحوا كانت لهم لجما حتى انتهكت بحد السيف أنفسهم * جزاء ما انتهكوا من قبلك الحرما زالت جبال شرورى من كتائبهم * خوفا وما زلت اقداما ولاقدما لما محضت الامانى التى احتلبوا * عادت هموما وكانت قبلهم همما

[ 164 ]

.. فقيل له أخطأت وباعدت بقولك – الدل والشنب – ألا قلت كقول ذى الرمة بيضاء في شفتيها حوة لعس * وفى اللثات وفى أنيابها شنب (1) قال فقال الطائى * مستجمعين لى التوديع والعنما فجعل المنظر القبيح للتوديع والتوديع لا يستقبح وإنما يستقبح عاقبته وهى الفراق وجعل المنظر الحسن أصابعه عند الاشارة وشبهه بالعنم ولم يذكر الانامل المختضبة قال وانما سمع قول المجنون ويبدى الحصى منها إذا قذفت به * من البرد أطراف البنان المخضب (2)


[ 1 ] قوله – بيضاء يروي لمياء في شفتيها الخ – ولمياء فعلاء من اللمى وهو سمرة في باطن الشفة وهو مستحسن يقال امرأة لمياء وظل المى كثيف أسود.. وقوله – حوة – بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وهي أيضا حمرة في الشفتين تضرب إلى السواد.. وقوله – لعس – بفتح اللام والعين المهملة وفى آخره سين مهملة وهو أيضا سمرة في باطن الشفة يقال امرأة لعساء.. وقوله – وفى اللثات – بكسر اللام وتخفيف الثاء المثلثة جمع لثة وهي معروفة.. وقوله – شنب – بفتح الشين المعجمة والنون.. قال الاصمعي الشنب برد وعذوبة في الاسنان ويقال هو تحديد الاسنان ودقتها والبيت يستشهد به النحويون على أن لعسا بدل غلط من حوة وهو حجة على المبرد حيث يدعي أنه لا يوجد في كلام العرب بدل الغلط لا في النظم ولا في النثر وانما يقع في لفظ الغلاط.. وأجاب بعضهم عن هذا بأن قوله لعس مصدر وصفت به الحوة تقديره حوة لعساء كما يقال حكم عدل وقول فصل أي عادل وفاصل ويقال ان في البيت تقديما وتأخيرا التقدير لمياء في شفتيها حوة وفى اللثات لعس وفي أنيابها شنب.. والبيت من قصيدته المشهورة التى أولها ما بال عينك منها الماء ينسكب * كأنه من كلى مفرية سرب وقد استنشده هشام بن عبد الملك فانشده اياها فأمر بسحبه لانه كان بعينه رمص (2) قوله – ويبدى الحصي منها الخ.. وقبله

[ 165 ]

قال وهذا الاصل استعاره الناس من بعد.. قال الشاعر النشر مسك والوجوه دنا * نير وأطراف الاكف عنم (1)


ولم أر ليلى غير موقف ساعة * بخيف منى ترمي جمار المحصب وبعده.. ألا ان ما ترمين يا أم مالك * صدى أينما تذهب به الريح يذهب (1) قوله – النشر مسك الخ.. البيت من قصيدة للمرقش الاكبر وتقدمت منها أبيات.. ومنها * يهلك والد ويخلف مو * لود وكل ذى أب يتيم والوالدات يستفدن غنى * ثم على المقدار من تعقم ما ذنبنا في أن غزا ملك * من آل جفنة حازم مرغم مقابل بين العواتك والغلف * لا نكس ولا توأم حارب واستعوى قراضبة * ليس لهم مما يحاز نعم * بيض مصاليت وجوههم * ليست مياه بحارهم بعمم فانقض مثل الصقر يقدمه * جيش كغلان الشريف لهم إن يغضبوا يغضب لذاك كما * ينسل من خرشائه الارقم فنحن أخوالك عمرك والخال * له معاظم وحرم * لسنا كأقوام مطاعمهم * كسب الخنا ونهكة المحرم إن يخصبوا يغيوا بخصبهم * أو يجدبوا فهم به ألام عام ترى الطير دواخل في * بيوتهم معهم ترتم * ويخرج الدخان من خلل الستر كلون الكودن الاصحم حتى إذا ما الارض زينها النبت * وجن روضها وأكم ذاقوا ندامة فلو أكلوا الخطبان * لم يوجد له علقم لكننا قوم أهاب بنا * في قومنا عفافة وكرم أموالنا نقى النفوس بها * من كل ما يدنى إليه الذم

[ 166 ]

وقال وأغرب أبو نواس في قوله تبكى فتذرى الدر من طرفها * وتلطم الورد بعناب قال فلم يحسن هذا العلج أن يستعير شيئا من محاسن القائلين.. [ قال الشريف المرتضي ] رضى الله عنه وهذا غلط من ابن عمار وسفه على أبى تمام لان الكميت جمع بين شيئين متباعدين وهما الدل وهو الشكل والحلاوة وحسن الهيئة والشنب وهو برد الاسنان فيطلق عليه بذلك بعض العيب وأبو تمام جمع بين شيئين غير متفرقين لان التوديع إنما أشار به إلى ما أشارت إليه بأصبغها من وداعه عند الفراق وشبه مع ذلك أصابعها بالعنم والعنم نبت أغصانه غضة دقاق شبه الاصابع.. وقيل إن العنم واحدته عنمة وهى العصابة الصغيرة البيضاء وهى أشبه شئ بالاصابع البيضاء الغضة وهذا حكاه صاحب كتاب العين.. وقيل إن العنم نبت له نور أحمر تشبه به الاصابع المخضوبة فوجه حسن قوله التوديع والعنم أن التوديع كان بالاصابع التى تشبه العنم فجمع بينهما بذلك ولا حاجة به إلى ذكر الانامل المخضبة على ما ظن أبو العباس بل ذكر المشبه به أحسن وأفصح من أن يقول التوديع والانامل التى تشبه العنم.. فأما قوله إن التوديع لا يستقبح وإنما يستقبح عاقبته فخطأ ومطالبة الشاعر بما لا يطالب بمثله الشعراء لان التوديع إذا كان منذرا بالفراق وبعد الدار وغيبة المحبوب لا محالة إنه مكروه مستقبح.. وقوله مستقبح عاقبته صحيح إلا أن ما يعقبه ويثمره لما كان عند حضوره متيقنا مذكورا عاد الاكراه والاستقباح إليه ونحن نعلم أن الناس يتكرهون ويستقبحون تناول الاشياء الملذة من الاغذية وغيرها إذا علموا ما في عواقبها من المكروه فان من قدم إليه طعام مسموم وأعلم بذلك يتكرهه ويستقبح تناوله لما يتوقعه من سوء عاقبته وإن كان ملذا في الحال ولم تزل الشعراء تذكر كراهتها للوداع وهربها منه لما يتصور فيه من ألم الفرقة وغصص الوحشة وهذا


لا يبعد الله التلبب والغارات * إذ قال الخميس نعم والعدو بين المجلسين إذا * ولى العشى وقد تنادى العم يأتي الشباب الاقورين ولا * تغبط أخاك أن يقال حكم

[ 167 ]

معروف مشهور.. وقد قال فيه أبو تمام ءآلفة النحيب كم افتراق * أظل فكان داعية اجتماع وليست فرحة الاوبات إلا * لموقوف على ترح الوداع فجعل للوداع ترحا يقابل فرج الاياب وهذا صحيح.. فأما قول جرير أتنسى إذ تودعنا سليمى * بفرع بشامة سقى البشام (1) وإنه دعا للبشام وهو شجر بالسقى لانها ودعته عنده فسر بتوديعها.. وقول الشاعر من يكن يكره الوداع فإنى * أشتهيه لموضع التسليم إن فيه اعتناقة لوداع * وانتظار اعتناقة لقدوم فمن شأن الشعراء أن يتصرفوا في المعاني بحسب أغراضهم وقصودهم إذا رأى أحدهم


(1) قوله – أتنسي الخ.. هو من قصيدة طويلة يذم فيها تغلب ويهجو الاخطل.. وأولها قوله متى كان الخيام بذى طلوح * سقيت الغيث أيتها الخيام ومنها بنفسى من تجنبه عزيز * على ومن زيارته لمام ومن أمسى وأصبح لا أراه * ويطرقني إذا هجع النيام ومنها عوي الشعراء بعضهم لبعض * على فقد أصابهم انتقام كأنهم الثعالب حين تلقى * هزبرا في العرين له انتحام إذا أقلعت صاعقة عليهم * رأوا أخري تحرق فاستهاموا فمصطلم المسامع أو خصى * وآخر عظم هامته حطام إذا شاؤا مددت لهم حضارا * وتقريبا مخالطه عذام ومنها قضى لى أن أصلى خندفى * وعضب في عواقبه السمام إذا ما خندف زحرت وقيس * فان جبال عزى لا ترام هم حدبوا على ومكنوني * بأفيح لا يزال به المقام

[ 168 ]

مدح شئ قصد إلى أحسن أوصافه فذكرها وأشار بها حتى كأنه لا وصف له الا ذلك الوصف الحسن وإذا أراد ذمه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها حتى كأنه لا شئ فيه غير ذلك وكل مصيب بحسب قصده ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر ما فيه من قار وخشوع وأن العمر منه أطول وما أشبه ذلك ويقصد إلى ذمه فيصف ما فيه من الادناء إلى الاجل وأنه آخمل الالوان وأبغضها إلى النساء وما أشبه ذلك وهذه سبيلهم في كل شئ وصفوه ولمدحهم موضعه ولذمهم موضعه فمن ذم الوداع لما فيه من الانذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا كما إن من مدحه لما فيه من القرب من المحبوب والسرور بالنظر إليه وإن كان يسيرا قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا.. ومن غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون وهذا هو الاصل ثم استعاره الناس من بعد.. فقال الشاعر النشر مسك والوجوه دنا * نير وأطراف الاكف عنم وهذا الشعر للمرقش الاكبر وهو والمرقش الاصغر كانا جميعا على عهد ربيعة وشهدا حرب بكربن وائل فكيف يكون قول المرقش الاكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة (مجلس آخر 76) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان) الآية.. فقال كيف يكون ذلك والفرقان هو القرآن ولم يؤت موسى القرآن وإنما اختص به محمد عليه الصلاة والسلام.. الجواب قلنا قد ذكر في ذلك وجوه.. أولها أن يكون الفرقان بمعنى الكتاب المتقدم ذكره وهو التوراة ولا يكون اسما ههنا للقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويحسن نسقه على الكتاب لمخالفته للفظه كما قال تعالى (الكتاب والحكمة) وإن كانت الحكمة مما يتضمنها الكتاب وكتب الله تعالى كلها فرقان تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام.. ويستشهد على هذا


[ 169 ]

الوجه بقول طرفة فما لي أرانى وابن عمى مالكا * متى أدن منه ينأ عنى ويبعد فنسق يبعد على ينأ وهو بعينه وحسن ذلك اختلاف اللفظين.. وقال عدى بن زيد وقدمت الاديم لراهشيه * وألفا قولها كذبا ومينا والمين الكذب.. وثانيها أن يراد بالفرقان الفرق بين الحلال والحرام والفرق بين موسى عليه السلام واصحابه المؤمنين وبين فرعون وأصحابه الكافرين لان الله تعالي قد فرق بينهم في أمور كثيرة منها أنه نجى هؤلاء وغرق أولئك.. وثالثها أن يكون الكتاب عبارة عن التوراة والانجيل والفرقان انفراق البحر الذى أوتيه موسى عليه السلام.. ورابعها أن يكون الفرقان القرآن المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام ويكون المعنى في ذلك وآتينا موسى التوارة والتصديق والايمان بالفرقان الذى هو القرآن لان موسى عليه السلام كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ومبشرا ببعثته وساغ حذف التوراة والايمان والتصديق وما جرى مجراه وإقامة الفرقان مقامه كما ساغ في قوله تعالى (واسأل القرية) وهو يريد أهل القرية.. وخامسها أن يكون المراد الفرقان ويكون تقدير الكلام (وإذ آتينا موسى الكتاب) الذى هو التوراة وآتينا محمد صلى الله عليه وسلم الفرقان فحذف ما يقتضيه الكلام كما حذف الشاعر في قوله تراه كأن الله يجدع أنفه * وعينيه إن مولاه كان له وفر (1)


(1) قوله – تراه كأن الله يجدع أنفه الخ – يجدع أنفه – أي يقطعه – والمولى – هنا المراد به الجار أو الصاحب – وكان – يروي بدله وثاب بالمثلثة أي رجع من بعد ذهابه – والوفر – بفتح الواو وسكون الفاء وفي آخره راء مهملة وهو المال الكثير.. ويروى دثر وهو بالمعنى الاول وهذا في ذم شخص حاسد يحسد جاره إذا رجع من سفره بمال كثير فيصير من شدة حسده كأن الله يجدع أنفه ويقلع عينيه.. والبيت يستشهد به النحاة على حذف العامل المعطوف وابقاء معموله إذ التقدير ويفقأ عينيه كما في قوله تعالى (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم) أي واعتقدوا الايمان والبيت للزبرقان بن بدر (22 – امالي رابع)

[ 170 ]

أراد ويفقأ عينيه لان الجدع لا يكون بالعين واكتفى بجدع عن يفقأ.. وقال الشاعر تسمع للاحشاء منه لغطا * ولليدين حشأة وبددا أي وترى لليدين لان الحشأة والبدد لا يسمعان وإنما يريان.. وقال الآخر علفتها تبنا وماءا باردا * حتى شتت همالة عيناها (1) أراد وسقيتها ماء باردا فدل علفت على سقيت.. وقال الآخر ياليت بعلك قد غدا * متقلدا سيفا ورمحا أراد حاملا رمحا.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وجدت أبا بكر بن الانباري يقول إن الاستشهاد بهذه الابيات لا يجوز على هذا الوجه لان الابيات اكتفى فيها بذكر فعل عن ذكر فعل غيره والآية اكتفى فيها باسم دون اسم.. والامر وإن كان على ما قاله


رضى الله عنه ونسبه الجاحظ لخالد بن الصليقان وقبله ومولي كمولى الزبرقان دميته * كما دملت ساق يهاض بها كسر إذا ما أحالت والجبائر فوقها * مضى الحول لا برء مبين ولا جبر البيت.. وبعده ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه * كضب الكدى أفنى براثنه الحفر (1) قوله – علفتها تبنا الخ.. هذا الرجز يستشهد به النحاة في باب المفعول معه ويقولون ان الماء معطوف على التبن فلا يصح أن الواو في قوله وماء للمعية والمصاحبة لانعدام معنى المصاحبة ولا يشارك قوله وماء فيما قبله فتعين أن ينصب بفعل مضمر يدل عليه سياق الكلام وهو أن يقال التقدير علفتها تبنا وسقيتها ماء.. وقال ابن عصفور انهم ذهبوا إلى أن الاسم الذى بعد الواو معطوف على الاسم الذي قبلها ويكون العامل في الاسم الذى قبل الوا قد ضمن في ذلك معنى يتسلط على الاسمين فيضمن علفتها معنى أطعمتها لانه إذا علفها فقد أطعمها فكأنه قال أطعمتها تبنا وماء ويقال أطعمته ماء.. قال الله تعالى (ومن لم يطعمه فانه منى).. وروى لما حططت الرحل عنها واردا * علفتها تبنا وماء باردا ورواية الاصل أشهر ولا يعرف قائله ونسبه بعضهم لذي الرمة وليس في ديوانه

[ 171 ]

في الاسم والفعل فإن موضع الاستشهاد صحيح لان الاكتفاء في الابيات بفعل عن فعل إنما حسن من حيث دل الكلام على المحذوف والمضمر واقتضاه فحذف تعويلا على أن المراد مفهوم غير ملتبس ولا مشتبه وهذا المعنى قائم في الآية وإن كان المحذوف اسما لان اللبس قد زال والشبهة قد أمنت في المراد بها بهذا الحذف فحسن لان الفرقان إذا كان اسماء للقرآن وكان من المعلوم أن القرآن إنما أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام دون موسى عليه السلام استغنى عن أن يقال وآتينا محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن كما استغنى الشاعر أن يقول ويفقأ عينيه وترى لليدين حشأة وبددا وما شاكل ذلك.. إلا أنه يمكن أن يقال فيما استشهد به في جميع الابيات مما لا يمكن أن يقال مثله في الآية وهو أن يقال انه محذوف ولا تقدير لفعل مضمر بل الكلام في كل بيت منها محمول على المعنى ومعطوف عليه لانه لما قال – تراه كأن الله يجدع أنفه – وكان معنى الجدع هو الافساد للعضو والتشويه به عطف على المعنى فقال وعينيه فكأنه قال كأن الله يجدع أنفه أي يفسده ويشوهه ثم قال وعينيه وكذلك لما كان السامع للغط الاحشاء عالما به عطف على المعنى فقال ولليدين حشأة وبددا أي أنه يعلم هذا وذاك معا وكذلك لما كان في قوله علفت معنى غذيت عطف عليه الماء لانه مما يغتذى به وكذلك لما كان المتقلد للسيف حاملا له (1) جاز


(1) قوله – لما كان المتقلد للسيف حاملا له الخ.. عبارة بعض العلماء لان التقلد نوع من الحمل قال ولاجل هذا الذى ذكرناه من حكم العطف بالواو قلنا في قوله تعالى (وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين) في قراءة من خفض الارجل إذ الارجل تغسل والرؤس تمسح ولم يوجب عطفها على الرؤس أن تكون ممسوحة كمسح الرؤس لان العرب تستعمل المسح على معنيين أحدهما النضح والآخر الغسل حتى روى أبو زيد تمسحت للصلاة أي توضأت.. وقال الراجز * أشليت عنزي ومسحت قعبي * أراد انه غسله ليحلب فيه فلما كان المسح نوعين أوجبنا لكل عضو ما يليق به إذ كانت واو العطف كما قلنا إنما توجب الاشتراك في نوع الفعل وجنسه لا في كميته ولا في كيفيته فالنضح والمسح جميعهما جنس الطهارة كما جمع تقلد السيف وحمل الرمح جنس التأهب للحرب والتسلح

[ 172 ]

أن يعطف عليه الرمح المحمول وهذا أولى في الطعن على الاستشهاد بهذه الابيات مما ذكره ابن الانباري.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه أخبرنا أبو الحسن على بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولى قال أخبرنا يحيى بن على بن يحيى المنجم قال أخبرنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذرى عن الهيثم بن عدى قال لما دخل خالد بن صفوان الاهيمى على هشام بن عبد الملك وذلك بعد عزله خالد بن عبد الله القسرى قال فالفيته جالسا على كرسى في بركة ماؤها إلى الكعبين فدعا لي بكرسي فجلست عليه فقال يا خالد رب خالد جلس مجلسك كان الوط بقلبي وأحب إلى فقلت يا أمير المؤمنين إن حلمك لا يضيق عنه فلو صفحت عن جرمه فقال يا خالد إن خالدا أدل فأمل وأوجف فأجحف ولم يدع لراجع مرجعا ولا لعودة موضعا ثم قال ألا اخبرك عنه يابن صفوان قلت نعم قال إنه ما بدأني بسؤال حاجة مذ قدم العراق حتى أكون أنا الذى أبدأه بها قال خالد فذاك أحرى أن ترجع إليه.. فقال متمثلا إذا انصرفت نفسي عن الشئ لم تكد * إليه بوجه آخر الدهر تقبل ثم قال حاجتك يابن صفوان قلت تزيدني في عطائي عشرة دنابير فاطرق ثم قال ولم وفيم العبادة أحدثتها فنعينك عليها أم لبلاء حسن أبليته عند أمير المؤمنين أم لماذا يابن صفوان إذا يكثر السؤال ولا يحتمل ذلك بيت المال قال فقلت يا أمير المؤمنين وفقك الله وسددك أنت والله كما قال أخو خزاعة إذا المال لم يوجب عليك عطاءه * قرابة قربى أو صديق توافقه منعت وبعض المنع حزم وقوة * ولم يفتلتك المال إلا حقائقه فلما قدم خالد البصرة قيل له ما الذى حملك على تزيين الامساك له قال أحببت أن يمنع غيرى كما منعنى فيكثر من يلومه.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وكان خالد مشهورا بالبلاغة وحسن العبارة.. وبالاسناد المتقدم عن المدائني قال قال حفص ابن معاوية بن عمرو بن العلاء قلت لخالد يا أبا صفوان أنى لا كره أن تموت وأنت من أيسر أهل البصرة فلا يبكيك إلا الاماء قال فابغنى امرأة قلت صفها لي أطلبها لك قال بكرا


[ 173 ]

كثيب أو ثيبا كبكر لا ضرعا صغيرة ولا مسنة كبيرة لم تقرأ فتجبن ولم تغن فتمجن قد نشأت في نعمة وأدركتها خصاصة فأد بها الغنى وأذلها الفقر حسبى من جمالها أن تكون قمحة من بعيد مليحة من قريب وحسبي من حسنها أن تكون واسطة قومها ترضى منى بالسنة إن عشت أكرمتها وإن مت ورثتها لا ترفع رأسها إلى السماء نظرا ولا تضعه إلى إلى الارض سقوطا فقلت يا أبا صفوان إن الناس في طلب هذه مذ زمان طويل فما يقدرون عليها.. وكان يقول إن المرأة لو خف محملها وقلت مؤنتها ما ترك اللئام فيها للكرام بيتة ليلة ولكن ثقل محملها وعظمت مؤنتها فاجتباها الكرام وحاد عنها اللئام.. وكان خالد من أشح الناس وأبخلهم كان إذا أخذ جائزة أو غيرها قال للدرهم أما والله لطالما أغرت في البلاد وأنجدت والله لاطيلن ضجعتك ولاديمن صرعتك.. قال وسأله رجل من بنى تميم فأعطاه دانقا فقال يا سبحان الله أتعطي مثلى دانقا فقال له لو أعطاك كل رجل من بنى تميم مثل ما أعطيتك لرحت بمال عظيم.. وسأله رجل فأعطاه درهما فاستقله فقال يا أحمق أما علمت أن الدرهم عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر الالف والالف عشر دية المسلم.. وكان يقول والله ما تطيب نفسي بانفاق درهم إلا درهما قرعت به باب الجنة أو درهما اشتريت به موزا.. وقال لان يكون لى ابن يحب الخمر أحب إلى من أن يكون لى ابن يحب اللحم لانه متى طلب اللحم وجده والخمر يفقده أحيانا.. وكان يقول من كان ماله كفافا فليس بغنى ولا فقير لان النائبة إذا نزلت به أجحفت بكفافه ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غنى.. وكان يقول لان يكون لاحدكم جار يخاف ان ينقب عليه بيته خير من أن يكون له جار من التجار لا يشاء أن يعطيه مالا ويكتب به عليه صكا إلا فعل (مجلس آخر 77) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).. فقال كيف يخبر تعالى أنهم لا يكذبون


[ 174 ]

نبيه عليه الصلاة والسلام ومعلوم منهم إظهار التكذيب والعدول عن الاستجابة والتصديق وكيف ينفى عنهم التكذيب ثم يقول إنهم بآيات الله يجحدون وهل الجحد بآيات الله الا تكذيب نبيه عليه الصلاة والسلام.. الجواب قلنا قد ذكر في هذه الآية وجوه.. أولها أن يكون إنما نفى تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا وإن كانوا مظهرين بأفواههم التكذيب لانا نعلم أنه كان في المخالفين له عليه الصلاة والسلام من يعلم صدقه ولا ينكر بقلبه حقه وهو مع ذلك معاند فيظهر بخلاف ما يبطن.. وقال تعالى (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون).. ومما يشهد لهذه الوجه من طريق الرواية ما رواه سلام بن مسكين عن أبى يزيد المدنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له يا أبا الحكم أتصافح هذا الصابئ فقال والله إنى لاعلم أنه نبى ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف فأنزل الله الآية.. وفى خبر آخر أن الاخنس بن شريق خلا بأبى جهل فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه وسلم أصداق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيرى وغيرك يسمع كلامنا فقال له أبو جهل ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصى باللوى والحجابة والسقاية والندوة والنبوة ماذا يكون لسائر قريش.. وعلى الوجه الاول يكون معنى فإنهم لا يكذبونك أي لا يفعلون ذلك بحجة ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان وإنما يقتصرون على الدعوي الباطلة وهذا في الاستعمال معروف لان القائل يقول فلان لا يستطيع أن يكذبني ولا يدفع قولى وإنما يريد أنه لا يتمكن من إقامة دليل على كذبه ومن حجة على دفع قوله وإن كان يتمكن من التكذيب بلسانه وقلبه فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجة ولا برهان غير معتد به.. وروى عن أمير المؤمنين على عليه السلام أنه قرأ هذه الآية بالتخفيف فإنهم لا يكذبونك على أن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك.. وقال محمد بن كعب القرظى معناها لا يبطلون ما في يديك وكل ذلك يقوي هذا الوجه وسنبين أن معنى هذه اللفظة مشددة ترجع إلى معناها مخففة.. والوجه الثاني أن يكون معنى الآية أنهم لا يصدقونك ولا يلفونك متقولا كما يقولون قاتلته فما أجبنته أي لم أجده جبانا


[ 175 ]

وحادثته فما أكذبته أي لم ألفه كاذبا.. وقال الاعشى أثوى وقصر ليلة ليزودا * فمضى وأخلف من قتيلة موعدا أي صادف منها خلف المواعيد.. ومثله قولهم أصممت القوم إذا صادفتهم صما وأخليت الموضع إذا صادفته خاليا.. وقال الشاعر أبيت مع الحداث ليلى فلم أبن * فأخليت فاستجمعت عند خلائيا أي أصبت مكانا خاليا.. ومثله لهميان بن أبى قحافة ليسن أنيابا له لوامجا * أوسعن من أشداقه المضارجا يعنى – بأوسعن – أصبن منابت واسعة فنبتن فيها.. وقال عمرو بن براقة تحالف أقوام على ليسنموا * وجروا على الحرب إذ أنا سانم (1)


(1) قوله – إذ أنا سانم – الرواية المشهورة سالم بدل سانم.. والبيت من قصيدة يقولها عمرو بن براق أو براقة المذكور وكان أغار عليه رجل من مراد فأخذ خيله وابله فذهب بها فاتي عمرو سلمى وكانت بنت سيدهم وعن رأيها كانوا يصدرون فاخبرها ان حريما المرادى أغار على ابله وخيله فقالت الخفو والوميض والشفق كالاحريض والقلة والحضيض إن حريما لمنيع الحيز سيد مزيز ذو معقل حربز غير أنى أرى الجمة ستظفر منه بعثرة بطيئة الجبرة فاغر ولا تنكع فاغار عمرو واستاق كل شئ له فاتى حريم بعد ذلك يطلب إلى عمرو أن يرد عليه بعض ما أخذ منه فامتنع ورجع حريم انتهى.. وروي من غير هذا الوجه ان الذى أغار عليه حريم الهمداني وان عمرا أنى امرأة كان يتحدث إليها يقال لها سلمي فاخبرها بالقصة وانه يريد الغارة عليه فقال له ويحك لا تعرض لتلفات حريم فانى أخافه عليك فخالفها وأغار عليه وهذا القول الاخير أصوب ومطع القصيدة تقول سليمى لا تعرض لتلفة * وليلك عن ليل الصعاليك نائم وكيف ينام الليل من حل ماله * حسام كلون الملح أبيض صارم غموض إذا عض الكريهة لم يدع * لها طمعا طوع اليمين ملازم

[ 176 ]

يقال – أسمن – بنو فلان إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا.. وقال أبو النجم * يقلن للرائد أعشبت انزل أي أصبت مكانا معشبا.. وقال ذو الرمة تريك بياض لبتها ووجها * كقرن الشمس أفتق ثم زالا (1)


ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم * قليل إذا نام الخلى المسالم إذا الليل أدجى واكفهر ظلامه * وصاح من الافراط بوم جواثم ومال بأصحاب الكرى غالباته * فاني على أمر الغواية حازم كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم تحالف أقوام على ليسلموا * وجروا على الحرب إذ أنا سالم أفا اليوم أدعى للهوادة بعدما * أجيل علي الحى المذاكى الصلادم فان حريما إذ رجا أن أردها * ويذهب مالى يا بنة القيل حالم متى تجمع القلب الذكى وصارما * وأنفا حميا تجتنبك المظالم متى تطلب المل الممنع بالقنا * تعش ماجدا أو تخترمك المخارم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم * فهل أنا في ذايال همدان ظالم فلا صلح حتى تقدع الخيل بالقنا * وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم ولا أمن حتى تغشم الحرب جهرة * عبيدة يوما والحروب غواشم أمستبطئ عمرو بن نعمان غارتي * وما يشبه اليقظان من هو نائم إذا جر مولانا علينا جريرة * صبرنا لها إنا كرام دعائم * وننصر مولانا ونعلم أنه * كما الناس مجروم عليه وجارم (1) – أفتق قرن الشمس – أصاب فتقا من السحاب فبدا منه.. والبيت من قصيدة يمدح بها بلال بن أبى بردة وبعده أصاب خصاصة فبدا كليلا * كلا وأنغل جانبه انغلالا ومنها بني لك أهل بيتك يابن قيس * وأنت تزيدهم شرفا جلالا

[ 177 ]

أي وجد فتقا من السحاب وليس لاحد أن يجعل هذا الوجه مختصا بالقراءة بالتخفيف دون التشديد لان في الوجهين معا يمكن هذا الجواب لان أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع وأفعلت هو الاصل ثم شدد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار وهذا مثل أكرمت وكرمت وأعظمت وعظمت وأوصيت ووصيت وأبلغت وبلغت وهو كثير.. وقال الله تعالى (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه لان استعمال هذه اللفظة مخففة في هذا المعنى أكثر.. والوجه الثالث ما حكى الكسائي من قوله ان المراد انهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لانه كان أمينا صادقا لم يجربوا عليه كذبا وإنما كانوا يدفعون ما أتى به ويدعون أنه في نفسه كذب وفى الناس من يقوى هذا الوجه وأن القوم كانوا يكذبون ما أتى به وإن كانوا يصدقونه في نفسه بقوله تعالى (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وبقوله تعالى (وكذب به قومك وهو الحق) ولم يقل وكذبك قومك وكان الكسائي يقرأ فإنهم لا يكذبونك بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة والباقون بالتشديد ويزعم أن بين أكذبه وكذبه فرقا وأن معنى أكذب الرجل أنه جاء بكذب ومعنى كذبته أنه كذاب في حديثه وهذا غلط وليس بين فعلت وأفعلت في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر مما ذكرناه من أن التشديد يقتضى التكرار والتأكيد ومع هذا لا يجوز أن يصدقوه في نفسه ويكذبوا بما أتى به لان من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يستشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذى لا يجوز العدول عنه وكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره


مكارم ليس يحصيهن مدح * ولا كذبا أقول ولا انتحالا أبو موسى فحسبك نعم جدا * وشيخ الركب خالك نعم خالا كأن الناس حين تمر حتى * عواتق لم تكن تدع الحجالا قياما ينظرون إلى بلال * رفاق الحج أبصرت الهلالا فقد رفع الا له بكل أفق * لضوئك يا بلال سنا طوالا كضوء الشمس ليس به خفاء * وأعطيت المهابة والجمالا ومنها سمعت الناس ينتجعون غيثا * فقلت لصيدح انتجعي بلالا (23 – امالي رابع)

[ 178 ]

وان كان الذى أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به حق صحيح وإن كان الذى أتى به فاسدا فلابد من أن يكون في شئ من ذلك وهو تأويل من لا يتحقق المعاني.. والوجه الرابع أن يكون المعنى في قوله تعالى فإنهم لا يكذبونك أن تكذيبك راجع إلى وعائد على ولست المختص به لانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كذبه فهو في في الحقيقة مكذب لله تعالى وراد عليه وهذا كما يقول أحدنا لرسوله امض في كذا فمن كذبك فقد كذبني ومن دفعك فقد دفعني وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه عليه الصلاة والسلام والتعظيم والتغليظ لتكذيبه.. والوجه الخامس أن يريد فإنهم لا يكذبونك في الامر الذي يوافق فيه تكذيبهم وإن كذبوك في غيره.. ويمكن في الآية وجه سادس وهو أن يريد تعالى أن جميعهم لا يكذبونك وإن كذبك بعضهم فهم الظالمون الذين ذكروا في آخر الآية بأنهم يجحدون بآيات الله وإنما سلى نبيه عليه الصلاة والسلام بهذا القول وعزاه فلا ينكر أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام لما استوحش من تكذيبهم له وتلقيهم إياه بالرد عليه وظن أنه لا متبع له عليه الصلاة والسلام منهم ولا ناصر لدينه فيهم أخبره الله تعالى بان البعض وان كذبك فان فيهم من يصدقك ويتبعك وينتفع بارشادك وهدايتك وكل هذا واضح والمنة لله.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه من جيد الشعر قول مطرود بن كعب الخزاعى يأيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف (1) هبلتك أمك لو نزلت عليهم * ضمنوك من جوع ومن إقراف


(1) قوله – يا أيها الرجل الخ.. روى عن المطلب بن أبى وداعة عن جده قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضى الله تعالى عنه عند باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبدالدار هبلتك أمك لو تزلت برحلهم * منعوك من عدم ومن إقنار.. قال فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الي ابى بكر فقال هكذا قال الشاعر قال لا والذي بعثك بالحق لكنه قال

[ 179 ]

الآخذون العهد من آفاقها * والراحلون لرحلة الايلاف والمطعمون إذا الرياح تناوحت * ورجال مكة مسنتون عجاف والمفضلون إذا المحول ترادفت * والقائلون هلم للاضياف والخالطون غنيهم بفقيرهم * حتى يكون فقيرهم كالكافي كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمح خالصة لعبد مناف (1).. أما قوله – والراحلون لرحلة الايلاف – فكان هاشم صاحب إيلاف قريش الرحلتين وأول من سنهما فألف والرحلتين (2) في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق وفى الصيف إلى الشام.. وفى ذلك يقول ابن الزبعرى


يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف الخ كما في الاصل.. قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هكذا سمعت الرواة ينشدونه (1) وقوله – فالمح خالصة لعبد مناف – المح والمحة صفرة البيض.. قال ابن سيدة انما يريدون فص البيضة لان المح جوهر والصفرة عرض ولا يعبرون بالعرض عن الجوهر اللهم الا أن تكون العرب سمت مح البيضة صفرة قال وهذا ما لا أعرفه وان كانت العامة قد أولعت بذلك وقوله – خالصة – روي أيضا خالصها وخالصه ولا إشكال في الروايتين الاخيرتين.. قال ابن بري من قال خالصة بالتاء فهو في الاصل مصدر كالعافية (2) قوله – تألف الرحلتين – الخ كان هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل إخوة وأكبرهم عبد شمس وأصغرهم المطلب والثلاثة السابقون لاب وأم ونوفل أخوهم لابيهم وهم أول من أخذ لقريش العصم فانتشروا من الحرم أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام الروم وغسان وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الاكبر فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة واخذ لهم نوفل حبلا من الاكاسرة فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن فجبر الله بهم قريشا فسموا المجبرين واختلف في قائل هذه الابيات فقيل هي لمطرود ين كعب الخزاعى وقيل لابن الزبعرى وهذا أصح ولم نر من فرقها

[ 180 ]

عمر العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف وهو الذي سن الرحيل لقومه * رحل الشتاء ورحلة الاضياف.. فأما قوله – مسنتون – فهم الذين أصابتهم السنة المجدبة الشديدة.. وقوله – والخالطون غنيهم بفقيرهم – من أحسن الكلام وأخصره إنما أراد أنهم يفضلون على الفقير حتى يعود غنيا ذا ثروة.. ولاحمد بن يوسف أبيات على هذا الوزن يمزح بها مع ولد سعيد بن مسلم الباهلى وكان لهم صديقا أبناء سعد إنكم من معشر * لا يعرفون كرامة الاضياف قوم لباهلة بن يعصرإن هم * نسبوا حسبتهم لعبد مناف قرنوا الغداء إلى العشاء وقربوا * زادا العمر أبيك ليس بكافي وكأنني لما حططت إليهم * رحلى نزلت بأبرق العزاف


غير السيد المرتضى وسبب قول ابن الزبعرى لها فيما قيل ان الناس أصبحوا يوما بمكة وعلى باب الندوة مكتوب ألهى قصيا عن المجد الاساطير * ورشوة مثل ما ترشى السفاسير وأكلها اللحم بحتا لا خليط به * وقولها رحلت عير أتت عير فانكر الناس ذلك وقالوا ما قالها الا ابن الزبعرى وأجمع على ذلك رأيهم فمشوا الي بني سهم وكان مما تنكر قريش وتعاتب عليه أن يهجو بعضها بعضا فقالوا لبنى سهم ادفعوه الينا نحكم فيه بحكمنا قالوا وما الحكم فيه قالوا قطع لسانه قالوا فشأنكم واعلموا والله انه لا يهجونا رجل منكم الا فعلنا به مثل ذلك والزبير بن عبد المطلب يومئذ غائب نحو اليمن فانتجت بنو قصي بينهم فقالوا لا نأمن الزبير إذا بلغه ما قال ابن الزبعري أن يقول شيئا فيؤتي إليه مثل ما نأتى إلى هذا وكانوا أهل تناصف فاجمعوا على تخليته فخلوه وقيل إنهم أسلموه إليهم فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة بالحجون فاستغاث قومه فلم يغيثوه فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم فاطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه فمدحهم بهذا الشعر

[ 181 ]

بينا كذلك إذ أتى كبراؤهم * يلحون في التبذير والاسراف أراد – قرنوا الغداء إلى العشاء – من بخلهم واختصارهم في المطعم.. ويقال إن هذا الشعر حفظ وصار من أكثر ما يسبون به ويسب قومهم ولرب مزح جر جدا وعثرة الشعر لاتستقال والشعر يسير بحسب جودته.. ولقد أحسن دعبل بن على في قوله نعونى ولما ينعنى غير شامت * وغير عدو قد أصيبت مقاتله يقولون إن ذاق الردى مات شعره * وهيهات عمرالشعر طالت طوائله سأقضى ببيت يحمد الناس أمره * ويكثر من أهل الرواية حامله يموت ردى الشعر من قبل ربه * وجيده يبقى وإن مات قائله.. ولآخر في هذا المعنى (1)


(1) قوله – ولآخر في هذا المعنى.. لابيات من قصيدة لدعبل أيضا ومطلعها إذا غزونا فمغزانا بأنقرة * وأهل سلمي بسيف البحر من جرت هيهات هيهات بين المنزلين لقد * أنضيت شوقي وقد طولت ملتفتي أحببت أهلى ولم أظلم بحبهم * قالوا تعصبت جهلا قول ذي بهت لهم لساني بتقريظي وممتدحي * نعم وقلبي وما تحويه مقدرتي دعني أصل رحمى إن كنت قاطعها * لابد للرحم الدنيا من الصلة فاحفظ عشيرتك الادنين إن لهم * حقا يفرق بين الزوج والمرت قومي بنو حمير والازد إخوتهم * وآل كندة والاحياء من علت ثبت الحلوم فان سلت حفائظهم * سلوا السيوف فاردوا كل ذى عنت نفسي تنافسني في كل مكرمة * إلى المعالى ولو خالفتها أبت وكم زحمت طريق الموت معترضا * بالسيف ضيقا فاداني إلى السعة قال العواذل أودى المال قلت لهم * مابين أجر وفحرلي ومحمدة أفسدت مالك قلت المال يفسدني * إذا بخلت به والجود مصلحتي

[ 182 ]

لا تعرضن بمزح لامرئ فطن * ماراضه قلبه أجراه في الشفة فرب قافية بالمزح جارية * مشؤمة لم يرد إنماؤها نمت إنى إذا قلت بيتا مات قائله * ومن يقال له والبيت لم يمت (مجلس آخر 78) [ تأويل آية أخرى ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) الآية.. وعن قوله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولانكذب) الآية.. فقال كيف يقع من أهل الآخرة نفى الشرك عن أنفسهم والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون في ذلك مع أنهم عندكم في تلك الحال لا يقع منهم شئ من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة ولانهم ملجؤن هناك إلى ترك جميع القبائح وكيف قال من بعد (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) فشهد عليهم بالكذب ثم علقه بما لا يصح فيه معنى الكذب وهو التمنى لانهم تمنوا ولم يخبروا.. الجواب قلنا أول ما نقوله إنه ليس في ظاهر الآية ما يقتضى أن قولهم (ما كنا مشركين) إنما وقع في الآخرة دون الدنيا وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الاخبار يتناول حال الدنيا وسقطت المسألة وليس لاحد أن يتعلق في وقوع ذلك في الآخرة بقوله تعالى قبل الآية (ويوم محشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) وأنه عقب ذلك بقوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم) فيجب أن يكون الجميع مختصا بحال الآخرة لانه لايمنع أن يكون الآية تتناول ما يجرى في الآخرة ثم


لا تعرضن بمزح لامرئ طبن * ماراضه قلبه أجراه في الشفة فرب قافية بالمزح قاتلة * مشؤمة لم يرد إنماؤها نمت رد السلى مستتما بعد قطعته * كرد قافية من بعد ما مضت إني إذا قلت بيتا مات قائله * ومن يقال له والبيت لم يمت

[ 183 ]

تتلوها آية تتناول ما يجرى في الدنيا لان مطابقة كل آية لما قبلها في مثل هذا غير واجبة.. وقوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم) لاتدل أيضا على أن ذلك يكون واقعا بعد ما خبر تعالى عنه في الآية الاولى فكأنه تعالى قال على هذا الوجه إنا محشرهم في الآخرة ونقول أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم ما كان فتنتهم وسبب ضلالهم في الدنيا إلا قولهم (والله ربنا ما كنا مشركين).. وقد قيل في الآية على تسليم أن هذا القول يقع منهم في الآخرة إن المراد به أنا ما كنا عند نفوسنا وفى اعتقادنا مشركين بل كنا نعتقد أنا على الحق والهدى.. وقوله تعالى من بعد (أنظر كيف كذبوا على أنفسهم) لم يرد هذا الخبر الذى وقع منهم في الآخرة بل إنهم كذبوا على أنفسم في دار الدنيا باخبارهم أنهم مصيبون محقون غير مشركين وليس في الظاهر إلا أنهم كذبوا على أنفسهم من غير تخصيص بوقت فلم يحمل على آخرة دون دنيا ولو كان للآية ظاهر يقتضى وقوع ذلك في الآخرة لحملناه على الدنيا بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لانهم ملجؤن إلى ترك القبيح.. فأما قوله تعالى حاكيا عنهم (يا ليتنا نرد).. وقوله تعالى (فإنهم لكاذبون) فمن الناس من حمل الكلام كله على وجه لنمنى فصرف قوله تعالى وإنهم كاذبون إلى غير الامر الذى تمنوه لان الثمني لا يصح فيه معنى الصدق والكذب لانهما إنما يدخلان في الاخبار المحضة لان قول القائل ليت الله رزقني وكذا وليت فلانا أعطاني مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا وقع ما تمناه أولم يقع فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى (وإنهم لكاذبون) مصروفا إلى حال الدنيا كأنه تعالى قال وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الاضافة واعتقاد الحق أو يريد أنهم كاذبون أن خبروا عن أنفسهم أنهم متى ردوا آمنوا ولم يكذبوا وإن كان ما كان مما حكى عنهم من التمني ليس بخبر وقد يجوز أن يحمل قوله تعالى (وإنهم لكاذبون) على غير الكذب الحقيقي بل يكون المراد والمعنى انهم تمنوا ما لا سيبل إليه فكذب أملهم وتمنيهم وهذا مشهور في الكلام لانهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك كذب أملك وأكدى رجاؤك وما جرى مجرى ذلك.. وقال الشاعر كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة مادام للسيف قائم


[ 184 ]

.. وقال آخر كذبتم وبيت الله لا تنكحونها * بنى شاب قرناها تصر وتحلب ولم يرد الكذب في الاقوال بل في التمنى والامل.. وليس لاحد أن يقول كيف يجوز من أهل الآخرة مع أن معارفهم ضرورية وأنهم عارفون ان الرجوع لا سبيل إليه أن يتمنوه وذلك أنه غير ممتنع أن يتمنى المتمني ما يعلم أنه لا يحصل ولا يقع ولهذا يتعلق التمنى بما لا يكون وبما قد كان ولقوة اختصاص التمنى بما يعلم أنه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة ما علم المريد أنه لا يكون تمنيا فهذا الذى ذكرناه وجه في تأويل الآية.. وفى الناس من جعل بعض الكلام تمنيا وبعضه إخبارا وعلق تكذيبهم بالخبر دون ليتنا فكان تقدير الآية يا ليتنا نرد وهذا هوالتمنى ثم قال من بعده فإنا لانكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا بما علم الله تعالى أنهم فيه كاذبون وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك فلهذا كذبهم تعالى وكل هذا واضح بحمدالله.. أخبرنا أبو عبيدالله المرزباني قال حدثني أحمد بن عبد الله وعبد الله بن يحيى العسكريان قالا حدثنا الحسن بن عليل العنبري قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله العبدى قال حدثنا أبو مسعر رجل منا من بنى غنم بن عبد القيس قال، دمنصور بن سلمة النميري على البرامكة وهو شيخ كبير وكان مروان بن أبى حفصة صديقا لى على أنى كنت أبغضه وأمقته في الله فشكا إلى وقال دخل علينا اليوم رجل أظنه شاميا وقد تقدمته البرامكة في الذكر عند الرشيد فأذن له الرشيد فدخل فسلم وأجاد فأذن له الرشيد فجلس قال فاوجست منه خوفا فقلت يانفس أنا حجازى نجدى شافهت العرب وشافهتنى وهذا شامي أفتراه أشعر منى قال فجعلت أرقو نفسي إلى أن استنشده هارون فإذا هو والله أفصح الناس فدخلني له حسد فأنشده قصيدة تمنيت أنها لى وأن على غرما فقلت له ماهى قال أحفظ منها أبياتا وهى أمير المؤمنين إليك خضنا * غمار الموت من بلد شطير بخوص كالاهلة خافقات * حملن على السرى وعلى الهجير حملن إليك آمالا عظاما * ومثل الصبح والبدر المنير


[ 185 ]

وقد وقف المديح بمنتهاه * وغايته وصار إلى المصير إلى من لا يشير إلى سواه * إذا ذكر الندى كف المشير قال مروان فوددت أنه قد أخذ جائزتي وسكت وعجبت من تخلصه إلى تلك القوافى ثم ذكر ولد أمير المؤمنين على عليه السلام فأحسن التخلص.. ورأيت هارون يعجب بذلك فقال يدلك في رقاب بنى على * ومن ليس بالمن اليسير فإن شكروا فقد أنعمت فيهم * وإلا فالندامة للكفور (1) مننت على ابن عبد الله يحيى * وكان من الحتوف على شفير وقد سخطت لسخطتك المنايا * عليه فهى خاتمة النشور ولو كافأت ما اجترحت يداه * دلفت له بقاصمة الظهور ولكن جل حلمك فاجتباه * على الهفوات عفو من قدير فعاد كأنه لم يجن ذنبا * وقد كان اجتنى حسك الصدور وإنك حين تبلغه أذاة * وإن ظلموا لمحترق الضمير وإن الرشيد قال لما سمع هذا البيت هذا والله معنى كان في نفسي وأدخلة بيت المال وحكمه فيه.. عدنا إلى الخبر قال مروان وكان هارون يتبسم ويكاد يضحك للطف ما سمع ثم أرمأ إلى أن أنشد فأنشدته قصيدتي التى أقول فيها


(1) وزيد فيها وإن قالوا بنو بنت فحق * وردوا ما يناسب للذكور وما لبنى بنات من تراث * مع الاعمام في ورق الزبور ومنها بني حسن ورهط بنى حسين * عليكم بالسداد من الامور فقد ذقتم قراع بني أبيكم * غداة الروع بالبيض الذكور (24 – امالي رابع)

[ 186 ]

خلوا الطريق لمعشر عاداتهم * حطم المناكب كل يوم زحام (1) حتى أتيت على آخرها فوالله ماعاج ذلك الرجل يعنى النميري بشعري ولاحفل به.. ثم وأنشده منصور يومئذ إن لهارون إمام الهدى * كنزين من أجرومن بر يريش ما تبرى الليالى ولا * تريش أيديهن ما يبرى كأنما البدر على رحله * ترميك منه مقلتا صقر وأنشده أيضا ولمن أضاع لقد عهدتك حافظا * لوصية العباس بالاخوال.. قال مروان وأخلق به أن يغلبنى وأن يعلو على عنده فإنى ما رأيت أحسن من تخلصه إلى ذكر الطالبين.. وأخبرنا المرزبانى قال حدثنا أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرع قال حدثنى أبو عثمان الجاحظ قال كان منصور النميري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره ويريه أنه من وجوه شيعته وباطنه ومراده بذلك على بن أبي طالب عليه السلام لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنت منى بمنزلة هارون من موسى إذ وشى به عنده بعض أعدائه وهو العتابي فقال يا أمير المؤمنين هو الله الذى يقول متى يشفيك دمعك من همول * ويبرد ما بقلبك من غليل وأنشده أيضا شاء من الناس راتع هامل * يعللون النفوس بالباطل ومنصور يصرح في هذه القصيدة بالعجائب فوجه الرشيد برجل من فزارة وأمره أن يضرب عنق منصور حيث تقع عينه عليه فقدم الرجل ورأس عين من بعد موت منصور بأيام قلائل.. قال المرزبانى ويصدق قول الجاحظ أن النميري كان يذكر هارون في


(1).. وبعده وارضوا بما قسم الاله لكم * ودعوا وراثة كل أصيد حام أني يكون وليس ذاك بكأن * لبنى البنات وراثة الاعمام

[ 187 ]

شعره وهو يعنى به أمير المؤمنين عليا عليه السلام ما أنشدناه محمد بن الحسن بن دريد النمري آل رسول خيار الناس كلهم * وخير آل رسول الله هارون رضيت حكمك لا أبغى به بدلا * لان حكمك بالتوفيق مقرون.. وروى أن أبا عتيمة الشيعي لما أوقع بأهل ديار ربيعة أوفدت ربيعة وفدا إلى الرشيد فيهم منصور النميري فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليه منهم فاختاروا عددا بعد عدد إلى أن اختاروا رجلين أحدهما النميري ليدخلا ويسألا حوائجهما وكان النميري مؤدبا لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك ولاعرف به فلما مثل هو وصاحبه بين يدي الرشيد قال لهما قولا ما تريدان فانشد النميري ما تنقضى حسرة منى ولاجزع قال له الرشيد قل حاجتك وعد عن هذا.. فقال إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع وأنشده القصيدة حتى أتى إلى قوله ركب من النمر عاذوا بابن عمهم * من هاشم إذ ألج الازلم الجذع متوا إليك بقربي أنت تعرفها * لهم بها في سنام المجد مطلع إن المكارم والمعروف أودية * أحلك الله منها حيث تنتجع إذا رفعت امرأ فالله رافعه * ومن وضعت من الاقوام متضع نفسي فداؤك والابطال معلمة * يوم الوغى والمنايا بينهم قرع حتى أتى إلى آخرها فقال له ويحك ما حاجتك فقال يا أمير المؤمنين أخربت الديار وأخذت الاموال وهتك الحرم فقال اكتبوا له بكل ما يريد وأمر له بثلاثين ألف درهم واحتبسه عنده وشخص أصحابه بالكتب ولم يزل عنده يقول الشعر فيه حتى استأذنه في الانصراف فأذن له ثم اتصل بالرشيد قوله


[ 188 ]

شاء من الناس راتع هامل * يعللون النفوس بالباطل تقتل ذرية النبي وترجون خلود الجنان للقاتل ما الشك عندي في كفر قاتله * لكننى قد أشك في الخاذل فامتعض الرشيد وأنفذ من يقتله فوجده في بعض الروايات ميتا وفى أخرى عليلا لما به فسئل الرسول أن لا يأثم به وأن ينتظر موته ففعل ولم يبرح حتى توفي فعاد بخبر موته.. وللنميري لو كنت أخشى معادى حق خشيته * لم تسم عينى إلى الدنيا ولم تنم لكنني عن طلاب الدين محتبل * والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم يحاولون دخولي في سوادهم * لقد أطافوا بصدع غير ملتئم ما يغلبون النصارى واليهود على * حب القلوب ولا العباد للصنم (مجلس آخر 79) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وإذا الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت).. فقال كيف يصح أن يسئل من لاذنب له ولا عقل فأى فائدة في سؤالها عن ذلك وما وجه الحكمة فيه وما الموؤدة ومن أي شئ اشتقاق هذه اللفظة.. الجواب قلنا أما معنى سئلت ففيه وجهان.. أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها وسئل عن قتله لها وبأى ذنب كان على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة فالقتلة ههنا هم المسئولون على الحقيقة لا المقتولة وإنما المقتولة مسئول عنها ويجرى هذا مجرى قولهم سألت حقى أي طالبت به ومثله قوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) أي مطالبا به مسؤلا عنه.. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ له والتقريع له والتنبيه له على أنه لاحجة له في قتلها ويجرى هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام (ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون


[ 189 ]

الله) على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم.. فإن قيل على هذا الوجه كيف يخاطب ويسأل من لاعقل له ولافهم.. فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب لم يمتنع أن يقع وإن لم يكن من الموؤدة فهم له لان الخطاب وإن علق عليها وتوجه إليها فالغرض في الحقيقة به غيرها قالوا وهذا يجرى مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده فأقبل على ولده يقول له ضربت ما ذنبك وبأى شئ استحل هذا منك فغرضه تبكيت الظالم لاخطاب الطفل والاولى أن يقال في هذا إن الاطفال وإن كانوا من جهة العقول لابجب في وصولهم إلى الاغراض المستحقة أن يكونوا كاملى العقول كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب فإن الخبر متظاهرا والامة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الاحوال وإن عقولهم تكون كاملة فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموؤدة لانها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله وإن كان الغرض منه التبكيت للقائل واقامة الحجة عليه.. وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس ويحيى بن يعمر ومجاهد ومسلم بن صبيح وأبى الضحى ومروان وأبى صالح وجابربن يزيد أنهم قرؤا سئلت بفتح السين والهمزة واسكان التاء بأى ذنب قتلت. وروى باسكان اللام وضم التاء الثانية على أن الموؤدة موصوفة بالسؤال والقول بأى ذنب قتلت.. وروى القطيعي عن مسلم والاعمش عن حفص عن عاصم قتلت بكسر التاء الثانية وفى سئلت مثل قراءة الجمهور بضم السين.. وروى عن أبى جعفر المدنى قتلت بالتشديد وإسكان التاء الثانية.. وروى عن بعضهم وإذا الموؤدة سئلت بفتح الميم والواو فأما من قرأ سئلت بفتح السين فيمكن فيه الوجهان اللذان ذكرناهما من ان الله تعالى أكملها في تلك الحال وأقدرها على النطق.. والوجه الثالث أن يكون معنى سئلت أي سألها وطولب بحقها وانتصف لها من ظالمها فكأنها هي السائلة تجوزا واتساعا ومن قرأ بفتح السين وضم التاء الثانية من قتلت فعلى أنها هي المخاطبة بذلك ويجوز في هذا الوجه أيضا قتلت باسكان التاء الاخيرة كقراءة الجماعة لانه اختاره عنها كما يقال سئل زيد بأى ذنب ضرب وبأى ذنب ضربت وقال يقوى هذه


[ 190 ]

القراءة في سئلت ماروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله يجئ المقتول يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك متعلقا بقتله يقول يا رب سل هذا فيم قتلني فأما القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم في ضم التاء الاخيرة من قتلت وبضم السين سئلت فمعناها (وإذا الموؤدة سئلت) ما تبغي فقالت (بأى ذنب قتلت) فأضمر ما سئلت عنه وأضمر قولها وقد تضمر العرب مثل هذا لدلالة الخطاب عليه وارتفاع الاشكال عنه مثل قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا) أي ويقولان ربنا ونظائره في القرآن كثيرة جدا.. فاما قراءة من قرأ بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموؤدة ههنا وإن كان لفظها لفظ واحد فالمراد به الجنس واردة التكرار جائزة.. فأما من قرأ (الموؤدة بفتح الميم والواو فعلى أن المراد الرحم والقرابة وأنه يسأل عن سبب قطعها وتضييعها.. قال الله تعالى (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض) الآية.. فأما الموؤدة فهى المقتولة صغيرة وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهن أحياء وهو قوله تعالى (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب).. وقوله تعالى (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك لامرين.. أحدهما أنهم كانوا يقولون إن الاناث بنات الله فالحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا والامر الآخر أنهم كانوا يقتلونهن خشية الاملاق قال الله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الآية.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه ووجدت أباعلى الجبائى وغيره يقول إنما قيل لها موؤدة لانها ثقلت بالتراب الذى طرح عليها حتي ماتت وفى هذا بعض النظر لانهم يقولون من الموؤدة وأديئد وأدا والفاعل وائد والفاعلة وائدة ومن الثقل يقولون آدنى الشئ يؤدني إذا أثقلني أودا.. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العزل فقال ذاك الوأد الخفى وقد روى عن جماعة من الصحابة كراهية ذلك فقال قوم في الخبر الذى ذكرناه انه منسوخ بما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قيل له اليهود يقولون في العزل هو الموؤدة الصغرى فقال عليه الصلاة كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه وقد يجوز أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام ذاك الوأد الخفى على طريق التأكيد الترغيب


[ 191 ]

في طلب النسل وكراهية العزل لا على انه محظور محرم.. وصعصعة بن ناجية بن عقال جد الفرزدق بن غالب وكان ممن فدى الموؤدات في الجاهلية ونهى عن قتلهن وقيل انه أحيا ألف موؤدة وقيل دون ذلك.. وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله ومنا الذى منع الوائدات * وأحيا الوئيد فلم توءد وفي قوله ومنا الذى أحيا الوئيد وغالب * وعمرو ومنا حاجب والاقارع.. وفى ذلك يقول أيضا أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب * وفكاك أغلال الاسير المكفر – ليلى – أم غالب – وعقال – هو محمد بن سفيان بن مجاشع – وفكاك الاغلال – ناجية بن عقال – والمكفر – هو الذى كفر وكبل بالحديد وكان لنا شيخان ذوالقبر منهما * وشيخ أجار الناس من كل مقبر – ذوالقبر – غالب وكان يستجار بقبره والذى أجار الناس من القبر وأحيى الوئيدة صعصعة على حين لاتحيى البنات وإذهم * عكوف على الاصنام حول المدور أنا ابن الذى رد المنية فضله * وما حسب دافعت عنه بمعور أبى أحد الغيثين صعصعة الذى * متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر أجار بنات الوائدين ومن يجر * على القبر يعلم أنه غير مخفر وفارق ليل من نساء أتت به * يعالج ريحا ليلها غير مقمر – فارق – يعنى امرأة ماخضا شبهها بالفارق من الابل وهي الناقة التى يضربها المخاض فتقارق الابل وتمضى على وجهها حتى تضع فقالت أجر لي ما ولدت فإننى * أتيتك من هزل الحمولة مقتر رأى الارض منها راحة فرمى بها * إلى جدد منها وفى شرمحفر


[ 192 ]

فقال لها نامى فأنت بذمتي * لبنتك جار من أبيها القتور – القتور – السيئ الخلق.. قال وأخبرنا المرزبانى قال أخبرني محمد بن يحى الصولى قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابى عن العباس بن بكار الضبى عن أبى بكر الهذلى.. قال الصولي وحدثني القاسم بن إسماعيل عن أبي عثمان المازنى عن أبى عبيدة بطرف منه قال وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الاسلام وقد فدا في بعض الروايات أربعمائة موؤدة وفى أخرى ثلاثمائة فقال للنبى صلى الله عليه وسلم بأبى أنت وأمى أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدانيك فقال زدنى فقال عليه الصلاة والسلام إحفظ مابين لحييك ورجليك ثم قال عليه الصلاة والسلام ماشئ بلغني عنك فعلته فقال يارسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب غير أنى علمت أنهم ليسوا عليه فرأيتهم يئدون بناتهم فعرفت أن ربهم عزوجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم ففديت ما قدرت عليه.. وفى رواية أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرايره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) قال حسبى ما أبالى أن لا أسمع من القرآن غير هذا.. ويقال إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا فقال الفرزدق أنا ابن محيى الموتى فقال له سليمان أنت ابن محيى الموتى فقال إن جدى أحيا الموؤدة وقد قال الله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وقد أحيي جدي اثنتين وتسعين موؤدة فتبسم سليمان وقال إنك مع شعرك لفقيه [ تأويل خبر ].. إن سأل سائل عن معنى الخبر الذى يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلى الرجل وهو زناء.. الجواب قلنا الزناء هو الحاقن الذى قد ضاق ذرعا ببوله يقال أزنأ الرجل ببوله فهو يزنيه إزناء.. قال الاخطل فإذا دفعت إلى زناء قعرها * غبراء مظلمة من الاحفار (1)


(1) البيت من قصيدة يمدح بها عبد الله بن معاوية بن أبى سفيان وكان عبد الله هذا محمقا

[ 193 ]

يعنى ضيق القبر.. ويقال لا تأت فلانا فان منزله زناء فيجوز أن يكون ضيقا ويجوز أن يكون عسر المرتقي وكلاهما يؤل إلى المعنى ويقال موضع زناء إذا كان ضيقا صبعا.. ومن


وأول القصيدة صدع الخليط فشاقنى أجواري * ونأوك بعد تقارب ومزار وكأنما أنا شارب جادت له * بصرى بصافية الاديم عقار صرف تواترت الاعاجم جفنها * وحماه حائط عوسج بجدار من مسبل درجت إليه عيونه * وسقاه عازب جدول مرار حتى إذا ما أنضجته شمسه * وأنا فليس عصاره كعصار وتقصدت من غير هش عوده * بال وليس بحصرم أبكار وتجردت بعد الهجير وضرحت * صهباء تبدأ شربها بقتار وجدا برملة يوم شرق أهلها * للغور أو لشقائق المذكار وكأن ظعن الحى حائش قرية * دانى الجناية موانع الاثمار وإذا تكشفت الخدور بدالنا * بقر كوانس في ظلال مغار وإذا اطلعن من الخدور لحاجة * سدوا الخصاص بأوجه أحرار ولقد حلفت برب موسى جاهدا * والبيت ذى الحرمات والاستار وبكل مهتبل عليه مسوحه * دون السماء مسبح جار لاحبرن لابن الخليفة مدحة * ولاقذفن بها الي الامصار قرم تمهل في أمية لم يكن * فيها بذى أبن ولاخوار نبتت قناتك منهم في أسرة * بيض الوجوه مصالت أخيار جهراء للمعروف حين تراهم * حلماء غير تنابل أشرار قوم إذا بسط الاله ربيعهم * دارت رحاه بمسبل درار وإذا أريد بهم عقوبة فاجر * مطرت صواعقهم عليه بنار قوم هم نالوا التمام وأزحفت * عنه مذارع آخرين قصار وأبوك صاحب يوم أذرح إذ أبى الحكمان غير تهايب وضرار (25 – رابع امالي)

[ 194 ]

ذلك قول أبى زبيد يصف أسدا أبن عرسية عنابها أشب * ودون غايته مستورد شرع شأسي الهبوط زناء الحاميين متى * تنشع بوادرة يحدث لها فزع (1)


لما تبعثت الضغائن بينهم * أفضى وسار بجحفل جرار وأهل إذ غنظ العدو بفيلق * تحت الاشاء عريضة الآثار حتى رأوه بجنب مسكن معلما * والخيل جاذية على الاقتار ومنها تسموا العيون إلى عزيز بابه * معطي المهابة نافع ضرار وتري عليه إذ العيون شزرنه * سيما الحليم وهيبة الجبار ولقد أناجي النفس لما شفها * خوف الجنان ورهبة الاقتار بأبى سليمان الذي لولا يد * منه علقت بظهر أحدب عار وإذا دفعت إلى زناء بابها * غبراء مظلمة من الاجفار لولا فواضله غداة لقيته * بالجد شاب مسايحى وعذارى من معشر حنقين لولا أنتم * يابن الخليفة ما شددت إزارى والشافعون مغيبون وجوههم * رزموا المقالة ناكسوا الابصار (1) البيتان من قصيدته التى أولها من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا * أن الفؤاد إليهم شيق ولع حمال أثقال أهل الود آونة * أعطيهم الجهد منى بله ما أسع يروي أن سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه قال له يوما يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك فقد أنبئت انك تجيد وكان أبو زبيد الطائى هذا نصرانيا فأنشده القصيدة ووصف الاسد فقال عثمان رضى الله عنه تالله تفتؤ تذكر الاسد ما حييت والله اني لاحسبك جبانا هرابا قال كلا يا أمير المؤمنين ولكني رأيت منه منظرا وشهدت منه مشهدا لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبى ومعذور أنا غير ملوم فقال له عثمان رضي الله عنه واني كان ذلك قال خرجت في صيابة أشراف من أبناء قبائل العرب ذوى هيئة وشارة حسنة ترمى

[ 195 ]

يعنى – بزناء الحاميين – أنه ضيق جانبي الوادي.. وقوله – متى تنشع بواردة – أي يضيق بجماعة ممن يرده وإنما يحدث لها فزع من الاسد – والشاس – الغليظ يقال مكان شأس إذا كان غليظا ومن ذلك قولهم زنأ فلان في الجبل إذا كابد الصعود فيه وهو يزنأ في الجبل.. وروى أبن دريد أن قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيا له يرقصه وأم ذلك الصبى منفوسة وهى


بنا المهارى باكسائها ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام فاخروط بنا السير في حمارة القيظ حتى إذا عصبت الافواه وذبلت الشفاه وشالت المياه وأذكت الجوزاء المعزاء وذاب الصيخد وصر الجندب وأضاف العصفور الضب في وكره وجاوره في جحره قال قائل أيها الركب غوروا بنا في دوح هذا الوادي وإذا واد قد بدى لنا كثير الدغل دائم الغلل أشجاره مغنه وأطياره مرنه فحططنا رحالنا باصول دوحات كنهبلات فاصبنا من فضلات الزاد وأتبعناها الماء البارد فانا لنصف حر يومنا ومماطلته إذ صر أقصي الخيل أذنيه وفحص الارض بيديه فوالله ما لبث أن جال ثم حمحم فبال ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدا فواحدا فتضعضعت الخيل وتكعكعت الابل وتقهقهرت البغال فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فعلمنا أنا قد أتينا وانه السبع ففزع كل واحد منا إلى سيفه فاستله من جربانه ثم وقفنا زردقا أرسالا وأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار لصدره نحيط ولبلاعمه غطيط ولطرفه وميض ولارساغه نقيض كأنما يخبط هشيما أو يطأ صريما وإذا هامة كالمجن وخد كالمسن وعينان سجروان كأنهما سراجان يتقدان وقصرة ربلة ولهذمة رهلة وكتد مغبط وزور مفرط وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراثن إلى مخالب كالمحاجن فضرب بيديه فارهج وكشر فافرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة وفم أشدق كالغار الاخرق ثم تمطي فأسرع بيديه وحفز وركيه برجليه حتى صار ظله مثليه ثم اقعي فاقشعر ثم مثل فاكفهر ثم تجهم فازبأر فلاوذو بيته في السماء ما اتقيناه الاباخ لنا من فزاره كان ضخم الجزاره فوقصه ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه فجعل يلغ في دمه فذمرت أصحابي فبعد لاى ما استقدموا فهجهجنا به فكر مقشعرا بزبره كأن به

[ 196 ]

بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبى فجعل قيس يقوله له أشبه أبا أمك أو أشبه عمل * ولا تكونن كهلوف وكل تريد عملي (1) – الوكل – الجبان – والهلوف – الهرم المسن وهو أيضا الكبير اللحية وإنما أراد به ههنا الاول * وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل * فأخذته أمه وجعلت ترقصه.. وتقول أشبه أخى أو أشبهن أباكا * أما أبى فلن تنال ذاكا * تقصير عن مناله يداكا *


شمما حوليا فاختلج رجلا أعجر ذا حوايا فنفضه نفضة تزايلت منها مفاصله ثم همهم فقرقر ثم زفر فبربر ثم زأر فجرجر ثم لحظ فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله ويمينه فارعشت الايدى واصطكت الارجل وأطت الاضلاع وارتجت الاسماع وشخصت العيون وتحققت الظنون وانخزلت المتون فقال له عثمان رضى الله عنه أسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المسلمين (1) قوله – يريد عملي.. قال في اللسان وعمل اسم رجل وأنشد الرجز.. وفي نوادر أبى زيد وزعموا أن قيس بن عاصم أخذ ابنه حكيما وأمه منفوسة بنت زيد الفوارس الضبى فرقصه وقال أشبه أبا أمك أو أشبه عمل * ولا تكونن كهلوف وكل يبيت في مقعده قد انجدل * وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل أبو حاتم وأبو عثمان – عمل – وهو اسم رجل فاخذته منفوسة منه.. ثم قالت أشبه أخى أو اشبهن أباكا * أما أبي فلن تنال ذاكا * تقصر أن تناله يداكا * ويروي تقصر عن تناله كذا أنشده أبو زيد

[ 197 ]

(مجلس آخر 80) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وهديناه النجدين) الي آخر السورة.. فقال ما تأويل هذه الآية وما مغنى ما تضمنته.. الجواب قلنا أما ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم وما أزاح به علتهم في تكاليفهم وما تفضل به عليهم من الآلات التى يتوصلون بها إلى منافعهم ويدفعون بها المضار عنهم لان الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة فالحاجة إلى العينين للرؤية واللسان للنطق والشفتين لحبس الطعام والشراب وامساكهما في الفم والنطق أيضا.. فأما – النجد – في لغة العرب فهو الموضع المرتفع من الارض والغور الهابط منها وإنما سمى الموضع المرتفع من أرض العرب نجدا لارتفاعه.. واختلف أهل التأويل في المراد بالنجدين فذهب قوم إلى أن المراد بهما طريقا الخير والشر وهذا الوجه روى عن على بن أبي طالب عليه السلام وابن مسعود والحسن وجماعة من المفسرين.. وروى أنه قيل لامير المؤمنين على عليه السلام إن أناسا يقولون في قوله (وهديناه النجدين) إنهما انثديان فقال عليه السلام لا إنهما الخير والشر.. وروى عن الحسن أنه قال بلغني أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال أيها الناس إنهما نجدان نجد الخير ونجد الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير.. وروى عن قوم آخرين أن المراد بالنجدين ثديا الام.. فإن قيل كيف يكون طريق الشر مرتفعا كطريق الخير ومعلوم أنه لاشرف ولا رفعة في الشر قلنا.. قلنا يجوز أن يكون إنما سماه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلف اجتنابه ومعلوم أن الطريقتين جميعا باديان ظاهران ويجوز أيضا أن يكون سمى طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة كما يحصل مثل ذلك في سلوك طريق الخير لان الثواب الحاصل في اجتناب طريق الشر كالثواب في سلوك طريق الخير.. وقال قوم إنما أراد بالنجدين إنا بصرناه وعرفناه ماله وعليه وهديناه إلى الطريق استحقاق الثواب وثنى النجدين على طريق عادة العرب في تثنية الامرين إذا اتفقا في بعض الوجوه وأجرى لفظة أحدهما على الآخر كما قيل في الشمس والقمر والقمران.. قال الفرزدق


[ 198 ]

* لنا قمراها والنجوم الطوالع (1) ولذلك نظائر كثيرة.. فأما قوله تعالى (فلا اقتحم العقبة) ففيه وجهان.. أحدهما أن يكون فلا بمعنى الجحد وبمنزلة لم أي فلم يقتحم العقبة وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ لا كما قال سبحانه (فلاصدق ولاصلى) أي لم يصدق ولم يصل.. وكما قال الحطيئة وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * إن أنعموالا كدروها ولا كدوا (2)


(1) صدره.. أخذنا بآفاق السماء عليكم (2) البيت من قصيدة يمدح بها آل شماس بن لاي ومطلعها ألا طرقتنا بعد ما هجعت هند * وقد سرن خمسا واتلاب بنانجد ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها التأى والبعد وهند أتى من دونها ذو غوارب * يقمص بالبوصي معروف ورد وان التى نكبتها عن معاشر * على غضاب أن صددت كما صدوا أتت آل شماس بن لاى وانما * أتاهم بها الاحلام والحسب العد فان الشقى من تعادي صدورهم * وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا يسوسون أحلاما بعيدا أناتها * وان غضبوا جاء الحفيظة والجد أقلوا عليهم لا أبا لابيكم * من اللوم أو سدوالمكان الذي سدوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا * وان عاهدوا أوفوا وان عقد واشدوا فان كانت النعمى عليهم جزوا بها * وان أنعموا لا كدروها ولا كدوا وان قال مولاهم على جل حادث * من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا وان غاب عن لاى بغيض كفتهم * نواشئ لم تطرز شواربهم بعد وكيف ولم أعلمهم خذلوكم * على معظم وإن أديمكم قدوا مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجي * بنى لهم آباؤهم وبنى الجد فمن مبلغ أبناء سعد فقد سعي * إلى السورة العليا لهم حازم جلد

[ 199 ]

وقل ما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ لانهم يقولون لاجئتنى ولا زرتنى يريدون ما جئتني وان قالوا لاجئتنى صلح إلا أن في هذه الآية ما ينوب مناب التكرار ويغنى عنه وهو قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) فكأنه قال فلا اقتحم العقبة ولا آمن فمعنى التكرار حاصل.. والوجه الآخر أن يكون لا جارية مجرى الدعاء كقولك لانجا ولاسلم ونحو ذلك.. وقال قوم (فلا اقتحم العقبة أي فهلا اقتحم العقبة أو أفلا اقتحم العقبة قالوا ويدل على ذلك قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر) ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام وهذا الوجه ضعيف جدا لان قوله تعالى فلا خال من لفظ الاستفهام وقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع.. وقد عيب على عمر بن أبى ربيعة قوله ثم قالوا تحبها قلت بهرا * عدد الرمل والحصى والتراب (1)


رأي مجد أقوام أضيع فحثهم * على مجدهم لما رأى انه الجهد وتعذلني أبناء سعد عليهم * وما قلت الا بالذى علمت سعد (1) قوله – ثم قالوا تحبها – الخ.. البيت يستشهد به النحويون على حذف همز الاستفهام والاصل أتحبها وقوله – بهرا – أي عجبا وجزم به ابن مالك في شرح التسهيل وأورد البيت شاهدا على نصبه بعامل لازم الاضمار.. وقيل التقدير أحبها حبا بهرنى بهرا أي غلبنى غلبة وأورد الزبير بن بكار البيت بلفظ قلت ضعفى عدد الرمل الخ.. وقال ابن الاعرابي في نوادره المبهور المكروب وأنشد البيت وقيل معناه جهرا لا أكاتم من قولهم القمر الباهر أي الظاهر ضوؤه وقيل معناه تبا كأنه قال بتا لهم لما أنكروا عليه حبها لان قوله تحبها على الانكار.. والبيت من قصيدة له يقولها في معشوقته الثريا بنت عبد الله بن الحارث لما صرمته ومطلعها قال لى صاحبي ليعلم مابى * أتحب القتول أخت الرباب قلت وجدي بها كوجدك بالعذب * إذا ما منعت برد الشراب أزهقت أم نوفل إذ دعتها * مهجتي ما لقاتلي من مثاب حين قالت لها أجبي فقالت * من دعاني قلت أبو الخطاب

[ 200 ]

فأما الترجيح بأن الكلام لو أريد به النفى لم يتصل وقد ثبت أنه متصل مع أن المراد به النفى لان قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) معطوف على قوله فلا اقتحم العقبة ثم كان من الذين آمنوا فالمعنى أنه ما اقتحم العقبة ولا آمن على مابينا.. فأما المراد بالعقبة فاختلف فيه فقال قوم هي عقبة ملساء في جهنم واقتحامها فك رقبة.. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمامكم عقبة كؤود لا يجوزها المثقلون وأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة.. وروى عن ابن عباس أنه قال هي عقبة كؤود في جهنم وروى أيضا أنه قال العقبة هي النار نفسها فعلى الوجه الاول يكون التفسير للعقبة بقوله فك رقبة على معنى ما يؤدى إلى اقتحام هذه العقبة ويكون سببا لجوازها والنجاة منها لان فك رقبة وما أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا.. وقال آخرون بل العقبة ما ورد مفسرا لها من فك الرقبة والاطعام في يوم المسغبة وإنما سمى ذلك عقبة لصعوبته على النفوس ومشقته عليها وليس يليق بهذا الوجه الجواب الذى ذكرناه في معنى قوله (فلا اقتحم العقبة) وأنه على وجه الدعاء لان الدعاء لا يحسن إلا بالمستحق له ولايجوز أن تدعي على أحد بأن لا يقع منه ما كلف وقوعه وفك الرقبة والاطعام المذكور من الطاعات فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه فهذا الوجه يطابق أن يكون العقبة هي النار نفسها أو عقبة فيها.. وقد اختلف الناس في قوله فك رقبة فقرأ على عليه السلام ومجاهد وأهل مكة والحسن وأبو رجاء العطاردي وأبو عمرو بن العلاء والكسائي فك رقبة بفتح الكاف ونصب الرقبة وقرأوا أو أطعم على الفعل دون الاسم وقرأ أهل المدينة وأهل الشام وعاصم وحمزة ويحيى بن وثاب ويعقوب الحضرمي فك بضم الكاف وخفض رقبة واطعام على المصدر وتنوين الميم وضمها.. فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أن جواب الاسم


فأجابت عند الدعاء كما لبى * رجال يرجون حسن الثواب أبرزوها مثل المهاة تهادي * بين خمس كواعب أتراب فتبدت حتى إذا جن قلبى * حال دوني ولائد بالثياب وهي مكنونة تحير منها * في أديم الخدين ماء الشباب ومنها سلبتني مجاجة المسك عقلي * فسلوها ماذا أحل اغتصابي

[ 201 ]

بالاسم أكثر في الكلام وأحسن من جوابه بالفعل ألا تري أن المعنى ما أدراك ما اقتحام العقبة هو فك رقبة وإطعام ذلك أحسن من أن يقال هو فك رقبة أو أطعم ومال الفراء إلى القراءة بلفظ الفعل ورجحها بقوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) لانه فعل فالاولى أن يتبع فعلا وليس يمتنع أن نفس اقتحام العقبة وإن كان اسما فهو فعل يدل على الاسم مثل قول القائل ما أدراك مازيد يقول مفسرا يصنع الخير ويفعل المعروف وما أشبه ذلك فيأتى بالافعال – والسغب – الجوع وإنما أراد أنه يطعم في يوم ذى مجاعة لان الاطعام فيه أفضل وأكرم.. فأما – مقربة – فمعناه بتبما ذاقربي من قرابة النسب والرحم وهذا حض على تقديم ذى النسب والقربى المحتاجين على الاجانب في الافضال – والمسكين – الفقير الشديد الفقر – والمتربة – مفعلة من التراب أي هو لاصق بالارض من ضره وحاجته ويجرى مجرى قولهم في الفقير مدقع وهو مأخوذ من الدقع وهو الارض التى لا شئ فيها.. وقال قوم ذامتربة أي ذاعيال والمرحمة مفعلة من الرحمة وقيل إنه من الرحم وقد يمكن في مقربة أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى بل من القرب الذى هو من الخاصرة فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته ولصقت من شدة الجوع والضر وهذا أعم في المعنى من الاول وأشبه بقوله تعالى (ذامتربة) لان كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب والله أعلم بمراده.. [ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه ومن طريف المدح ومليحه قول الشاعر وكأنه من وفده عند القرا * لولا مقام المادح المتكلم وكأنه أخذ الندا بثيابه * لولا مقالته أطب للمؤدم ويقارب ذلك قول محمد بن خارجة في المعنى سهل الفناء إذا حللت ببابه * طلق اليدين مؤدب الخدام وإذا رأيت صديقه وشقيقه * لم تذر أيهما أخو الارحام (1)


(1) وقبلهما نعم الفتي فجعت به اخوانه يوم البقيع حوادث الايام والابيات نسبها أبو تمام في مختار شعر القبائل لمحمد بن بشير الخارجي (26 – رابع امالي)

[ 202 ]

ومثله لابي الهدى نزلت على آل المهلب شاتيا * غريبا عن الاوطان في زمن المحل فما زال بى إكرامهم وافتقادهم * وإنعامهم حتى حسبتهم أهلى ولاثالة بن القراعى يمدح عقبة بن سنان الحارثى ألم ترنى شكرت أبا سعيد * بنعماء وقد كفر الموالى ولم أكفر سحائبه اللواتى * مطرن على واهية العزالى فمن يك كافرا نعماه يوما * فإنى شاكر أخرى الليالى فتى لم تطلع الشعرى بافق * ولم تعرض ليمن أو شمال على ند له إن عد مجد * ومكرمة وإتلاف لمال وأصبر في الحوادث إن ألمت * وأسعي للمحامد والمعالى فتى عم البرية بالعطايا * فقد صاروا له أدنى العيال.. فأما قول جرير لم أقض من صحبة زيد أربى * فتى إذا أغضبته لم يغضب موكل العين بحفظ الغيب * أقصى الفريقين له كالاقرب فإنه لم يرد أن الضعيف السبب في المودة كالقوى السبب وإنما أراد أنه يرعى من غيب الرفيق البعيد الغائب حقه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر وأنه يستوى عنده لكرمه


[ 202 ]

ومثله لابي الهدى نزلت على آل المهلب شاتيا * غريبا عن الاوطان في زمن المحل فما زال بى إكرامهم وافتقادهم * وإنعامهم حتى حسبتهم أهلى ولاثالة بن القراعى يمدح عقبة بن سنان الحارثى ألم ترنى شكرت أبا سعيد * بنعماء وقد كفر الموالى ولم أكفر سحائبه اللواتى * مطرن على واهية العزالى فمن يك كافرا نعماه يوما * فإنى شاكر أخرى الليالى فتى لم تطلع الشعرى بافق * ولم تعرض ليمن أو شمال على ند له إن عد مجد * ومكرمة وإتلاف لمال وأصبر في الحوادث إن ألمت * وأسعي للمحامد والمعالى فتى عم البرية بالعطايا * فقد صاروا له أدنى العيال.. فأما قول جرير لم أقض من صحبة زيد أربى * فتى إذا أغضبته لم يغضب موكل العين بحفظ الغيب * أقصى الفريقين له كالاقرب فإنه لم يرد أن الضعيف السبب في المودة كالقوى السبب وإنما أراد أنه يرعى من غيب الرفيق البعيد الغائب حقه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر وأنه يستوى عنده لكرمه وحسن حفاظه من بعدت داره وقربت منازله وهذا بخلاف ما عليه أكثر الناس من مراعاة الحاضر القريب وإهمال حق البعيد.. هذا آخر مجلس أملاه الشريف المرتضى علم الهدي ذو المجدين أبو القاسم على بن الحسين الموسوي رضي الله عنه ثم تشاغل بأمور الحج (تم الكتاب والحمد لله أولا وآخرا)

اترك تعليقاً