المجازات النبوية

الشريف الرضي


[ 1 ]

المجازات النبوية تأليف الشريف الرضى 406 ه‍ – 1015 م بتحقيق وشرح فضيلة الدكتور طه محمد الزينى الاستاذ بالازهر منشورات مكتبة بصيرتي قم – شارع إرم حقوق الطبع محفوظة للناشر مقدمة الناشر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الامين. وبعد: فقد وضعت مؤسسة الحلبي نصب عينيها منفذ إنشائها العمل على نشر الكتب التى تحيا بها الشريعة الاسلامية الغراء، وكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هما الاساسان الاولان في بنائها، بل هما كل الشريعة الاسلامية، وما عداهما فهو متفرع عنهما، وخادم لهما. وقد جعلت مؤسسة الحلبي أول كتاب من كتبها تفسيرا للقرآن الكريم، وهو كتاب روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى للالوسي، وثاني كتبها تحقيقا لاحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ” زاد مسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم “. ثم بدأت تستجيب لرغبات القراء في الجمهورية العربية المتحدة والبلاد الاسلامية والعربية، وقد توالت عليها المكاتبات بإعادة طبع كتاب ” المجازات النبوية ” للشريف الرضى، وهو كتاب جمع من بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبديع قوله، وخالص نصحه، وحلو ألفاظه، جملة يشتاق كل مسلم إلى الاطلاع عليها، ويحرص كل متذوق لحلاوة اللغة العربية على اقتنائها، ويتفانى كل


[ 2 ]

مسهم في إقامة صرح البلاغة العربية في قراءتها واستخراج فنون القول، وبدائع الحديث النبوى الشريف منها. فاستجابت لهذه الرغبات الكريمة وعهدت بإخراجه في ثوب قشيب، وحلة زاهية إلى أحد علماء الازهر القادرين على توضيح معالمه، واستنباط ذخائره، واستخراج كنوزه. وها هو ذا بين يدى القارئ الكريم في ثوبه الجديد، نقدمه راجين له من عرفان حقه، والانتفاع به، والحرص على قراءته، ما هو جدير به، وما هو له أهل. ونسأل الله أن يوفقنا لخدمة الاسلام، واللغة العربية ومحبيها إنه سميع الدعاء. مؤسسة الحلبي


[ 3 ]

مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد. فإن كتاب المجازات النبوية للشريف الرضى، جمع جملة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، اشتملت على كثير من الالفاظ اللغوية الجزلة، والاساليب البلاغية العالية، وجمعت من التشبيهات والاستعارات والكنايات قدرا يرتفع بتحصيله شأن عالم البلاغة فضلا عن طالبها، ويبذ به عالم اللغة أقرانه، ويفوق بحفظها ناشئ العرب أترابه، والحق أن الشريف الرضى رحمه الله بحر محيط في اللغة، يؤلف ما يفيض منها على شواطئه قواميس ضخمة، وطود شامخ في البلاغة يصعب على مريد تسلقه ارتقاؤه، يجمع إلى السليقة العربية، والذوق الادبى، والاحساس البلاغى علو الكعب في نظم الشعر، وتنسيق النثر، والتفوق في كثير من العلوم العربية، إلى قوة الحجة والصمود في مواطن المحاجة، مع ما وهبه الله من فاضل الصفات الخلقية والشرف الرفيع العلوى، إلى غير ذلك مما يأتي في ترجمته. لذلك حرصت كل الحرص على إخراج كتابه في أبهى حلة، وتنسيقه وتبويبه أجمل تنسيق، وأحسن تبويب، حتى يكون مناسبا لما هو عليه من فضل، وما يتحلى به من غزير العلم.


[ 4 ]

وقد وجدت الكتاب مطبوعا مرتين. المرة الاولى بمطبعة الآداب ببغداد سنة 1328 ه‍، كما جاء في آخر هذه الطبعة، ويجد القارئ فيها من التحريف، والتصحيف والنقص وعدم الضبط ما يحمله على إهمالها وعدم قراءتها، وقد اطلعت منها على النسخة رقم 3897 من علم الحديث بمكتبة الازهر، ووجدت في آخرها أن جماعة من جهابذة الفضل والادب، قد بذلوا الجهد في تصحيحها، وبالغوا في مقابلتها حسب الجهد والطاقة، فجاءت بحمد الله كما يراد في غاية الصحة والسداد. فقلت في نفسي رحم الله هؤلاء الفضلاء الجهابذة، لعلهم بذلوا قصارى الجهد، وتوخوا سبيل الرشد، ولم يصلوا إلا إلى ما وصلوا إليه، فلهم العذر، وجزاؤهم الشكر، والمرة الثانية بمطبعة مصطفى البابى الحلبي وشركاه بالقاهرة، سنة 1356 ه‍ سنة 1937 م، وقد جاءت هذه الطبعة الاخيرة أفضل بكثير جدا من سابقتها، فوضع فيها لكل حديث رقم، وضبط كثير من كلمات الاحاديث وشرحها بالشكل، وشرحت بعض الالفاظ، إلا أنها مع ذلك كان فيها كثير من التحريف والتصحيف في ألفاظ الحديث النبوى، وترك لشرح كثير من الالفاظ اللغوية التى ساقها الشريف الرضى شرحا للاحاديث، وترك لبيان ما في الاحاديث من البلاغة على الطريقة الاصطلاحية، فإن الشريف رحمه الله لم يتقيد بما اصطلح عليه


[ 5 ]

علماء البلاغة، من أسماء الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز وغيرها، فهو يجعل التشبيه مجازا مرة، واستعارة مرة أخرى، ولا يبين الاستعارة التصرحية من المكنية، ولا الاصلية من التبعية، ولا يفرق بين التشبيه البليغ والتشبيه المرسل، ولا بين المجاز العقلي والمرسل، وسنبين ذلك بإسهاب عند الكلام على رأى الشريف الرضى في أنواع البلاغة. لذلك كان أهم ما عملته في هذا الكتاب هو ما يأتي: (1) تحقيق ألفاظ الحديث النبوى بعد الاطلاع عليها في كتب السنة، وكتب الخطب والرسائل العربية. (2) ضبط كثير من ألفاظ الكتاب التى لم تكن مضبوطة. (3) شرح كثير من ألفاظه التى لم تكن مشروحة. (4) بيان ما في كل حديث من أنواع البلاغة على الطريقة الاصطلاحية لعلماء البلاغة. وسيرى القارئ ذلك كله عند قراءته للكتاب. رأى الشريف الرضى في أنواع البلاغة يعقب الشريف الرضى على كل حديث يذكره بقوله: وهذا القول مجاز، أو: وهذا القول استعارة، أو: وهذا الكلام كناية، من غير أن يفرق بين أنواع الاستعارة والتشبيه، بل قد يطلق المجاز على التشبيه، ويجعل التشبيه البليغ استعارة، ويجعل


[ 6 ]

المجاز العقلي استعارة، وإليك بيان أنواع من ذلك في كتابنا هذا: ص 105 قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم ” حسان حجاز بين المؤمنين والمنافقين ” إنه مجاز، وقد بينا أنه تشبيه بليغ. ص 108 قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم ” كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع “. إنه مجاز وقد بينا أن فيه كناية. ص 111 قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم ” كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهى خداج “: وهذه استعارة عجيبة، وقد بينا أن فيه تشبيها بليغا. ص 242 قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: ” الخلق عيال الله ” إنه مجاز، وقد بينا أنه تشبيه بليغ. ص 282 قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم ” أنتم بنو آدم كلكم طف الصاع ” إنه استعارة وقال: ولو قال صلى الله عليه وسلم: ” أنتم بنو آدم كطف الصاع ” خرج الكلام عن أن يكون استعارة، فجعل التشبيه البليغ استعارة، وجعل الفرق بين الاستعارة وغيرها ذكر الكاف وتركه، وهى أداة التشبيه، والواقع أن مع ذكرها يكون في الكلام تشبيه مرسل، ومع حذفها يكون فيه تشبيه بليغ، وقد بينا ذلك في موضعه.


[ 1 ]

ص 294 قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: ” حتى يكون عمله هو الذى يطلقه أو ثقه ” إنه استعارة، وهو مجاز مرسل علاقته السببية كما بيناه في موضعه. ص قال الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: ” في فتن كأنها صياصى بقر “: وليس موضع المجاز من هذا الكلام قوله عليه الصلاة والسلام: كأنها صياصى بقر، لاننا ذكرنا فيما تقدم أن دخول كاف التشبيه في الكلام يخرجه من باب المجاز، وقد نبهنا إلى ذلك في موضعه. نماذج من التحريفات والتصحيفات التى أصلحناها 1 – في الحديث رقم 10 ص 28 من هذا الكتاب ورد تحريف في نص الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم ” هذا كتاب من محمد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره الاسلام من غيرها ” وبيان التحريف أنه ورد في الاصل هكذا ” لعمار بن كلب وأحلافهما من ظائرة الاسلام ومن غيرهم ” وقد صححناه وبينا شرحه في موضعه. 2 – ص 44 ورد قول الشريف الرضى: إذا حمل عليها الفحل لم تضبع في شأن الحرب وتشبيهها بالناقة النافرة، وقد وردت في الاصل بالياء المشددة، وقد بينا أنها بالباء وشرحنا معناها المناسب لكلام الشريف.


[ 2 ]

3 – ص 131 ورد في كلام الشريف: فيها الجماء الغفير ” والتعبير العربي الصحيح: ” جاءوا الجماء الغفير ” وقد بينا ذلك في موضعه. 4 – ص 177 ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يستباح ماؤه ولا يعقر أرعاؤه ” وكانت في الاصل مرعاؤه، وقد بينا صحتها ومعناها هناك. 5 – ص 180 ورد قول الشريف عن كتاب لابي الحسن عبد الجبار ” ما قرأته من كتابه الموسوم بالعمدة في أصول الفقه ” ” وكانت في الاصل ” العمد في أصول الفقد “، وقد نبهنا على ذلك في موضعه. 6 – ص 208 ورد قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحداء ” ما لم يكن فيه خناء ” والصحيح إخناء وقد بينا ذلك في موضعه. 7 – ص 233 ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ” ما أذن الله لشئ كأذنه لنبى يتغنى بالقرآن “، ورد في الاصل كإذنه بكسر الهمزة وسكون الذال، وقد بينا أنها بفتح الهمزة، والذال، وشرحناها في موضعها. 8 – 239 ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ” الذى تفوت عليه ابنه في ماله ” وكانت في الاصل يفوت ابنه عليه ماله، وقد شرحناها في موضعها وبينا صحتها ومعناها.


[ 3 ]

9 – ص 261 ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ” فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه “، وكانت في الاصل (يشار) بالراء، وشرحت هكذا ” المشارة أن تفعل بأخيك شرا يحوجه أن يفعل مثله معك “. وقد بينا أن ذلك سهو من الشارح، وبينا معناها الصحيح في موضعه. 10 – ص 276 ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها “، وكانت في الاصل ” لا تنحروا ” بالنون بعد التاء، وشرحت هكذا ” نحر الرجل في الصلاة انتصب ونهد صدره ” وقد بينا في موضعه أن ذلك سهو من الشارح. ص 411 – ورد قول الشريف في شرح إتعاب المؤمن لشيطانه. شبه المؤمن بالمنضى بعيره إذا أطال شقته واستفرغ قوته وحش عريكته، وكانت في الاصل (وحسن) عريكته بالسين والنون، والصحيح ما ذكرناه وقد بيناه في موضعه. ص 417 – ورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم (تلك ضراوة الاسلام وشرته، ولكل شئ ضراوة وشرة، ولكل شرة قترة) بالقاف، وكانت في الاصل بالفاء، ولم يشرح معناها، وقد بينا ذلك في موضعه.


[ 4 ]

ص 444 – ورد قول الشريف: ” وكأن المأكل والمشرب إيعاء، وكأن إفراز الغدد والتبرز تفريغ له “، وكانت في الاصل ” وكأن العد والتبرز “. وقد بينا ذلك في موضعه.


[ 5 ]

ترجمة الشريف الرضى من كتاب نهج البلاغة هو أبو الحسن محمد بن أبى أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق عليه السلام. ولد سنة تسع وخمسين وثلثمائة، كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة، في دولة بنى العباس ودولة بنى بويه، ولقب بالطاهر ذى المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الاوحد، وولى نقابة الطالبيين خمس دفعات، ومات وهو متقلدها، بعد أن حالفته الامراض، وذهب بصره، وتوفى عن سبع وتسعين سنة، فإن مولده كان في سنة أربع وثلثمائة، وتوفى سنة أربعمائة، وقد ذكر ابنه الرضى أبو الحسن مبلغ عمره في قصيدته التى رثاه بها في قوله: سبع وتسعون اهتبلن لك العدا * حتى مضوا وغبرت غير مذمم ودفن أولا في داره، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين عليه السلام، وهو الذى كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بنى بويه، والامراء من بنى حمدان وغيرهم، وكان مبارك الغرة، ميمون النقيبة مهيبا نبيلا، ما شرع في إصلاح أمر فاسد إلا وصلح على يديه، وانتظم بيمن سفارته وبركة همته، وحسن تدبيره ووساطته، ولاستعظام عضد الدولة أمره، وامتلاء صدره وعينه به، حين قدم العراق قبض عليه، وحمله إلى القلعة بفارس، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة، فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة، واستصحبه


[ 6 ]

في جملته حيث قدم إلى بغداد، وملك الحضرة. ولما توفى عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضى أبى الحسن أربع عشرة سنة، وأم الرضى فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر الاصم صاحب الديلم، وهو أبو محمد الحسن بن على بن الحسن بن على بن عمر بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب، عليهم السلام، شيخ الطالبين وعالمهم، وزاهدهم وأديبهم وشاعرهم، ملك بلاد الديلم والجبل، ويلقب الناصر للحق، وحفظ الرضى القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة. وحفظه في مدة وجيزة، وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا، وكان عالما شاعرا أديبا مفلقا، فصيح النظم ضخم الالفاظ، قادرا على القريض، متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الالفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق له فيه غبار، وإن قصد في المراثى جاء سابقا والشعراء تقطع أنفاسها على أثره، وكان مع هذا مترسلا، ذا كتابة قوية، وكان عفيفا شريف النفس عالى الهمة، ملتزما بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة، حتى إنه رد صلات أبيه. وناهيك بذلك شرف نفس وشدة ظلف، فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل، وكان يرضى بالاكرام، وصيانة الجانب، وإعزاز الاتباع والاصحاب، وكان الطائع أكثر ميلا إليه من القادر، وكان هو أشد حبا للقادر، وأكثر ولاء للطائع منه للقادر.


[ 7 ]

قرأ الشريف القرآن على أبى إسحاق الطبري الفقيه المالكى، وتوفى الرضى في شهر المحرم من سنة ست وأربعمائة، وحضر الوزير فخر الملك وجميع الاعيان والاشراف والقضاة جنازته، والصلاة عليه، ودفن في داره بمسجد الانباريين بالكرخ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليهما السلام، لانه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته، ودفنه وصلى عليه فخر الملك، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الحسينى وألزمه بالعودة إلى داره. وحدث فخار بن معد العلوى الموسوي أن المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الامامي رأى في منامه كأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت إليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين عليهما السلام صغيرين، فسلمتها إليه، وقالت له: علمهما الفقه، فانتبه متعجبا من ذلك، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التى رأى فيها الرؤيا، دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها ومن بين يديها ابناها محمد الرضى وعلى المرتضى صغيرين، فقام إليها وسلم، فقالت: أيها الشيخ. هذان ولداى قد أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه، فبكى أبو عبد الله، وقص عليها المنام، وتولى تعليمهما، وأنعم الله تعالى عليهما، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا، وهو باق ما بقى الدهر.


[ 8 ]

مؤلفات الشريف الرضى للشريف الرضى مؤلفات كثيرة نذكر منها ما يأتي: 1 – ديوان شعر مطبوع في مجلدين 2 – الحسن من شعر الحسين ثمانية أجزاء مخطوط 3 – المجازات النبوية وهو الكتاب الذى بين أيدينا 4 – مجاز القرآن 5 – مختار شعر الصابى 6 – مجموعة ما دار بينه وبين أبى إسحاق الصابى من الرسائل مؤلفات عن الشريف الرضى 1 – عبقرية الشريف الرضى للدكتور زكى مبارك 2 – الشريف الرضى لمحمد رضا آل كاشف الغطاء 3 – الشريف الرضى لعبد المسيح محفوظ 4 – الشريف الرضى لحنا نمر


[ 9 ]

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله سبحانه بمحامده التى يستحقها، واختصاص نبيه محمد وآله الطاهرين بالصلوات التى هم أهلها، فإنى عرفت ما شافهتني به من استحسانك الخبيئة (1) التى أطلعتها، والدفينة (2) التى أثرتها من كتابي الموسوم (3) ب‍ (تلخيص البيان عن مجازات القرآن)، وأنى سلكت من ذلك محجة (4) لم تسلك، وطرقت بابا لم يطرق، وما رغبت إلى فيه من سلوك مثل تلك الطريقة في عمل كتاب يشتمل على مجازات الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كان فيها كثير من الاستعارات البديعة، ولمع (5) البيان الغريبة، وأسرار اللغة اللطيفة، يعظم النفع باستنباط معادنها، واستخراج (هامش ص 9) (1) الخبيئة: فعيلة بمعنى مفعولة أي المخبأة، وأطلعتها: أظهرتها بعد أن كانت مخبأة. (2) الدفينة مثل الخبيثة أي المدفونة، وأثرتها: أظهرتها، والمراد بالدفينة والخبيثة كتابه تلخيص البيان كما سيوضحه. (3) الموسوم: المعلم: أي المسمى بتلخيص البيان، وأصل الوسم أثر الكى، والميسم: المكواة وهى الحديدة التى تحمى في النار ويكوى بها، وأطلق الوسم على الاسم لان كليهما يعلم ما هو فيه، غير أن علامة الاول حسية والثانى معنوية. (4) المحجة: الطريق. (5) اللمع جمع لمعة: وهى القطعة المضيئة من الشئ. (*)


[ 10 ]

كوامنها، وإطلاعها من أكمتها (1) وأكنانها، وتجريدها من خللها (2) وأجفانها، فيكون هذان الكتابان بإذن الله لمعتين (3) يستضاء بهما وعرنينين (4) لم أسبق إلى قرع بابهما، فأجبتك إلى ذلك مستخيرا الله سبحانه فيه على كثرة الاشغال القاطعة، والعوائق المانعة، والاوقات الضيقة، والهموم المخنقة، وعملت بتوفيق الله على تتبع ما في كلامه صلى الله عليه وعلى آله من ذلك، والاشارة منه إلى مواضع النكت ومواقع الغرض بالاعتبارات الوجيزة والايماءات الخفيفة على طريقتي في كتاب ” مجازات القرآن ” لئلا يطول الكتاب، فيجفو (5) على الناظر، ويشق على الناقل، فإن القلوب في هذا الزمان ضعيفة عن تحمل أعباء العلوم الثقيلة، والاجراء في مسافات الفضائل الطويلة، (هامش ص 10) (1) الاكمة والاكمام: أوعية الثمار التى تغلفها. قال تعالى: (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) والاكنان جمع كن وهو البيت والمراد هنا إخراج أسرار اللغة من الاحاديث النبوية الشريفة فكأن الاحاديث أبيات للاسرار. (2) قال في القاموس المحيط: (الخلة بالكسر جفن السيف المغشى بالادم أو بطانة يغشى بها جفن السيف، والسير يكون في ظهر القوس وكل جلة منقوشة والجمع خلل وخلال وجمع الجمع أخلة) والادم في كلام القاموس هو الجلد، فالخلال هي أجفان السيوف المغطاة بالجلد والمراد استخراج كوامن الاسرار من أماكنها المخبوءة فيها. (3) سبق بيان اللمعة في رقم (5) في الصفحة السابقة. (4) عرنين الشئ أوله، والمراد هنا أن الكتابين أو لان في بابتهما لم يسبق الشريف الرضى أحد في التأليف في موضوعيهما. (5) يجفو على الناظر أي يثقل عليه. (*)


[ 11 ]

لانه لم يبق من الفضل إلا الذماء (1)، ومن الفضلاء إلا الاسماء. ولله الحمد على السراء والضراء، والبؤس والنعماء. ولست شاكا في أن ما يفوتنى من الجنس الذى أقصده أكثر من الحاصل لى والواقع إلى، ولكننى أقتصر ؟ ؟ على ما تناله في هذا الوقت يدى، ويقرب من تصحفى وتأملي، وإذا ورد بمشيئة الله من هذه الآثار ما فيه موضع مجاز قد تقدم الكلام على نظير له أو ما يقوم مقامه، اقتصرت على القول الاول، طلبا للاقتصاد، ووقوفا دون الابعاد، على مثل الاصل المقرر في كتاب ” مجازات القرآن “. ولولا أن أبا على محمد بن عبد الوهاب قد سبق إلى تفسير متشابه الاخبار التى ظاهرها التشبيه والتجسيم (2)، وصريحها التجويز والتظليم (3)، واستقصى هذا المعنى في كتابه الموسوم بشرح الحديث. وتعاطى ذلك جماعة غيره من علماء أهل العدل (4) في مواضع من كتبهم، لتتبعت هذا الفن جميعا تتبعا يكشف الشبه، ويوضح المشتبه، على طريقتي في (هامش ص 11) (1) الذماء: بقية الروح، أي لم يبق من الفضل إلا شئ قليل كالذى يبقى من الروح في إنسان أوشك على الهلاك. (2) التشبيه: أي تشبيه الله تعالى بالحوادث، والتجسيم أي جعل الله تعالى جسما. (3) التجويز: أي نسبة الله تعالى إلى الجور في حكمه على عباده، والتظليم نسبته إلى ظلم عباده. (4) أهل العدل هم المعتزلة لانهم يقولون إن أفعال العباد مخلوقة لهم وليست مخلوقة لله تعالى، لانها لو كانت مخلوقة لله لما جاز أن يعاقب عباده على فعلها لانه يكون عاقبهم على ما لم يفعلوا وأهل السنة يردون عليهم بأن الله خلق أفعال العباد وإنما يعاقبهم على مباشرتها ؟ ؟ وعلى اختيار فعلها. (*)


[ 12 ]

كتابي الكبير الموسوم (بحقائق التأويل في متشابه التنزيل) إلا أننى بعون الله أورد من ذلك من ما كان داخلا في باب الاستعارات اللغوية بكلية، أو بسعة كثيرة من سعته (1)، والذى أعتمد عليه في استخراج ما يتضمن الغرض الذى أنحو نحوه، وأقصد قصده، كتب غريب الحديث المعروفة، وأخبار المغازى المشهورة، ومسانيد (2) المحدثين الصحيحة، مضيفا إلى ذلك ما يليق بهذا المعنى من جملة كلامه عليه الصلاة والسلام، الموجز الذى لم يسبق إلى لفظه، ولم يفترع من قبله، وجميع ذلك مما أتقنا بعضه رواية، وحصلنا بعضه إجازة (3)، وخرجنا بعضه تصفحا وقراءة، مستمدين في ذلك، وفي سائر الانحاء والمرامى والمطالب والمغازى، توفيق الله سبحانه، الذى يهون الشديد ويقرب البعيد، ويذلل الصعب إذا أبى، ويقوم المعوج إذا التوى. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلنا وإليه ننيب. (هامش ص 12) (1) يريد أنه يتعرض لما كان داخلا في باب الاستعارات اللغوية دخولا بينا ظاهرا، أو يحتمل احتمالا راجحا الدخول في باب الاستعارات اللغوية. (2) المسانيد: جمع مسند وهو كتاب الحديث الذى نسبت فيه الاحاديث إلى رواتها. (3) الاجازة: هي أن يجيز الاستاذ لتلميذه التحديث بعد أن يصبح قادرا على ذلك، وقد سميت بعض الشهادات التى تمنح للعلماء بالاجازة تشبيها بذلك. (*)


[ 13 ]

1 – فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” هذه مكة قد رمتكم بأفلاذ كبدها “، وفي رواية أخرى: ” قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها “، وهذه من أنصع العبارات وأوقع الاستعارات. وقال ذلك عليه الصلاة والسلام عند خروجه إلى بدر للقتال، وقد خرج قريش (2) من مكة مجلبة (34) عليه ومحلبة إليه (4)، وكان المسلمون قد ظفروا ببعض فراطهم (5)، فأتوا به النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عمن خرج في ذلك الجمع من علية (6) قريش، فقال فلان وفلان، وعدد قادتهم وذادتهم (7)، والوجوه والسادات منهم، فقال عليه (هامش ص 13) (1) الفلذ: كبد البعير، والفلذة القطعة من الكبد ومن الذهب والفضة، واللحم والجمع أفلاذ ويكثر استعمال الافلاذ في قطع الكبد كما سيذكره المؤلف بعد ذلك، والفلذ بكسر الفاء وسكون اللام. (2) ذكر المؤلف الفعل ولم يؤنثه لان الفاعل وهو قريش مؤنث مجازى يجوز في فعله التذكير والتأنيث لان المراد بقريش القبيلة، وقد ذكر وصفها مؤنثا وهو مجلبة ومحلبة. ب (3) الجبلة: اختلاط الصوت، وجلب وأجلب صاح، ومن ذلك قوله تعالى لابليس: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) سورة الاسراء 64، أي صح عليهم مغويا لهم، ومعنى مجلبة عليه، صائحة عليه تطلب النفرة لقتاله. (4) حلب القوم وأحلبوا: اجتمعوا من كل وجه، ومعنى محلبة إليه أي مجتمعة من كل وجه صائرة إليه. (5) الفراط جمع فارط: وهو السابق المتقدم يقال: ” فرط إليه رسوله بمعنى قدمه وأرسله “. (6) علية القوم سادتهم أي الاعلون منهم، وهو جمع على بوزن فعيل. (7) الذادة جمع ذائد: وهو المدافع المناضل عن الشئ. (*)


[ 14 ]

الصلاة والسلام: هذه مكة قد رمتكم بأفلاذ كبدها. ولهذا الكلام معنيان: (أحدهما) أن يكون المراد به أن هؤلاء المعدودين صميم قريش ومحضها ولبابها وسرها، كما يقول القائل منهم: فلان قلب في بنى فلان إذا كان من صرحائهم، وفي النضار من أحسابهم، فيجوز أن يكون المراد بالكبد ها هنا كالمراد بالقلب هناك لتقارب الشيئين (1) وشرف العضوين، فيكنى باسم كل واحد منهما عن العلق (2) الكريم واللباب الصميم. والافلاذ: القطع المتفرقة عن الشئ، وقل ما يستعمل ذلك إلا في الكبد خاصة. قال الشاعر: تكفيه فلذة كبدان ألم بها * من الشواء ويروى شربه الغمر (3) (والمعنى الآخر) أن يكون المراد بذلك أعيان القوم ورؤساؤهم والعرانين (4) المتقدمة منهم، فكأنه عليه الصلاة والسلام أقام مكة (هامش ص 14) (1) يريد الشريف أن يكون معنى الكبد هو القلب، وقد يطلق الكبد كثيرا على القلب في لغة العرب، ومن ذلك قول الشاعر: كأن قطاة علقت بجناحها * على كبدي من شدة الخفقان (2) العلق: النفيس، وقد وصفه المؤلف بالكريم. (3) قال في القاموس في مادة ” الغمر “: وكصرد، قدح صغير أو أصغر الاقداح. (4) سبق بيان معنى العرنين وأنه من كل شئ أوله ص 10. (*)


[ 15 ]

مقام الحشا التى تجمع هذه الاعضاء الشريفة كالقلب والنياط (1)، والكبد والفؤاد (2)، وجعل رجال قريش كشعب الكبد التى تحنو عليها الاضالع، وتشتمل عليها الجوانح، وقاية لها، ورفرفة عليها. 2 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد نظر إلى أحد منصرفه (3) من غزاة خيبر: ” هذا جبل يحبنا ونحبه “، وهذا القول محمول على المجاز، لان الجبل على الحقيقة لا يصح أن يحب ولا يحب، إذ محبة الانسان لغيره إنما هي كناية عن إرادة النفع له، أو التعظيم المختص به على ما بيناه في عدة مواضع من كتابينا المشهورين في علوم القرآن (4)، وكلا الامرين لا يصح على الجماد: لا التعظيم المختص به، ولا النفع العائد عليه، فمستحيل أن يعظم، أو يعظم، أو ينفع، (هامش ص 15) (1) النياط: الفؤاد، وهو القلب فهو من عطف المرادف. (2) الفؤاد: هو القلب فتكون هذه الكلمات الاربع راجعة إلى كلمتين ” القلب والكبد “. ما في الحديث من البلاغة: استعمال الافلاذ في الناس استعارة تصريحية، وتشبيه مكة بالشخص الذى له كبد وحذفه استعارة مكنية وإثباث الكبد إلى مكة تخييل. (3) منصرفه: اسم زمان من الفعل انصرف والمعنى وقت انصرافه من غزوة خيبر. (4) هما ” حقائق التنزيل ودقائق التأويل ” و ” تلخيص البيان عن مجازات القرآن “. ما في الحديث من البلاغة. استعمال الجبل في ساكنيه مجاز عقلي علاقته المحلية، من إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك المجاز في الحديث الآخر نهران مؤمنان ونهران كافران على التأويل الذى ارتضاه الشريف الرضى. (*)


[ 16 ]

أو ينتفع به، فالمراد إذا أن أحدا جبل يحبنا أهله، ونحب أهله، وأهله هم أهل المدينة من الانصار، أو سهم وخزرجهم، وغير خاف جهم النبي عليه الصلاة والسلام وحبه لهم، وتعظيمهم له وإعظامه لقدرهم. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل: ولو سلك الانصار شعبا، وسلك الناس شعبا، لسلكت شعب الانصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الانصار، إلى غير ذلك من الكلام الذى يطول بذكره الكتاب، وينقض قاعدتنا في الاختصار. ومثل هذا الحديث ما روى عنه عليه الصلاة والسلام في حديث آخر قال: ” نهران مؤمنان، ونهران كافران. أما المؤمنان: فالنيل والفرات. وأما الكافران: فدجلة، ونهر بلخ “. والاولى أن يكون تأويل هذا الخبر إن كان صحيحا كتأويل الخبر المتقدم، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: أهل هذين النهرين مؤمنون، وأهل هذين النهرين كافرون، وتكون هاتان الصفتان جاريتين على هذه الانهار في وقت مخصوص، أو على الاغلب من الاحوال في زمان معلوم، لان من أهل هذين النهرين المؤمن والكافر، كما أن من أهل ذينك النهرين البر والفاجر. وقد قيل في ذلك قول آخر لست أرتضيه، وهو أن يكون إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه والتمثيل لكثرة انتفاع الناس بسقياهما كالانتفاع بالمؤمنين، وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين، لقلة الانتفاع بهما كقلة الانتفاع بالكافرين.


[ 17 ]

والقول الاول أخلق بالصواب، وأشبه بالمراد. 3 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم ” (1)، فقوله عليه الصلاة والسلام: وهم يد على من سواهم استعارة ومجاز. ولذلك وجهان: (أحدهما) أن يكون شبه المسلمين في التضافر، والتوازر (2)، والاجتماع، والترافد (3) باليد الواحدة التى لا يخالف بعضها بعضا في البسط، والقبض، والرفع، والخفض، والابرام، والنقض. وقد يسمى أنصار الرجل وأعوانه يدا على طريق الاتساع، تشبيها لهم باليد التى ينتصر بها ويدافع بقوتها. قال الراجز: أعطى فأعطاني يدا ودارا * وباحة خولها عقارا (4) (هامش ص 17) (1) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجة عن ابن عمر بلفظ: ” المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم، يدر مشدهم على مضعفهم، ومسرعهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده “. (2) التوازر والتآزر: التعاون، ومن ذلك الوزير لانه يعين الملك، قال تعالى في سورة طه على لسان موسى عليه السلام: ” واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى “. (3) الترافد: التعاون من الرفد، وهو العطاء والصلة. (4) الباحة: الساحة والنخل الكثير، والمراد هنا الثاني، ومعنى خولها عقارا جعلها ملكا ثابتا كالعقار. واليد في البيت معناها القوة، وقد فسرها المؤلف بالاعوان والانصار لانهم مصدر القوة. (*)


[ 18 ]

يقول: بوأنى دارا، وأحف بى أعوانا، وأنصارا. (والوجه الآخر) أن يكون اليد هاهنا بمعنى القوة فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: وهم قوة على من سواهم، والقوة أحد المعاني التى يعبر عنها باسم اليد، وقد استقصيت ذلك في كتابي الكبير الموسوم ” بحقائق التأويل “، وذكرت أن قول القائل: لا أفعل ذلك يد الدهر، معناه عندي لا أفعل ذلك قوة الدهر، أي مادام الدهر قوى الاركان قائم البنيان. فأما الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله: ” عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط “. فليس المراد باليد فيه كالمراد باليد في الحديث الاول، بل المراد باليد ها هنا حفظ الله ورعايته كما يقول القائل: مالى في يد فلان. إذا أراد أنه حافظ له وأمينه عليه. والفسطاط هاهنا البلد، ومنه سمى فسطاط مصر، فكأنه عليه الصلاة والسلام، أمرهم بلزوم الجماعة في الامصار ونهاهم عن الانشعاب والافتراق. ولم يرد أن الخارج من المصر خارج عن قبضة الله ومملكته، لكنه خارج عن حفظه ورعايته. وإنما أمرهم بلزوم الامصار لانها في الاكثر مواضع الجماعة، وإلا فالامر على الحقيقة إنما هو بلزوم الجماعة ولو كان أهلها في أكناف الفيافي ومطارح البوادى (1). (هامش ص 18) (1) ما في الحديث من البلاغة: في قوله عليه الصلاة والسلام ” وهم يد ” تشبيه بليغ حيث حذفت أداة التشبيه = (*)


[ 19 ]

4 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الخيل: ” ظهورها حرز وبطونها كنز ” وهذا القول خارج على طريق المجاز لان بطون الخيل على الحقيقة ليست بكنز. وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن أصحابها ينتجونها من الافلاء (1) ما تنمى به أموالهم، وتحسن معه أحوالهم، فهم باستيداع بطونها نطف الفحولة (2) كمن كنز كنزا إذا أراده وجده، وإذا لجأ إليه دعم (3) ظهره كما يكون الكانز عند الرجوع إلى كنزه، والتعويل على ما تحت يده. وقوله عليه الصلاة والسلام، وظهورها حرز أوضح من أن نوضحه. والمراد أنها منجاة من المعاطب، وملجأة عند المهارب (4). (هامش ص 19) = ووجه الشبه، وكان الاصل وهم كاليد في الاتصال والترابط وعدم الخلاف، وهذا على المعنى الاول الذى ذكره المؤلف. أما على المعنى الثاني فهو استعارة تصريحية حيث استعمل اليد في القوة. (1) الفلو كبئر، والفلو كعدو، والفلو كسمو: المهر إذا فطم عن الرضاع، أو بلغ السنة وجمعه أفلاء كما هنا، وفلاوى كصحارى. والمعنى أن الخيل تلد المهارى التى تكون مالا عظيما كالكنز. (2) الفحولة: جمع فحل وهو ذكر الخيل. (3) دعمه: قواه. (4) حرز الشئ: هو الذى يصونه إذا وضع فيه، وظهور الخيل تصون راكبها من الهلاك فيهرب بها من الاخطار فينجو، ويسبق عليها عدوه فلا يحق به. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ حيث جعل ظهور الخيل حرزا في الصيانة وبطونها كنزا في النماء والانتاج ” وكان الاصل بطونها كالنز في النماء وظهورها كالحرز في الصيانة فحذغفت أداة التشبيه ووجهه. (*)


[ 20 ]

5 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” في الجنين غرة: عبد أو أمة ” (1) وفي هذا الكلام مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام إنما جعل العبد، أو الامة غرة (2) لانهما أفضل ما يملكه المالك، وأفخره، وأطهره. وأشهره. ولذلك سمى أيضا في لسانهم الفرس غرة لانه من أنفس ما يملك. ولمثل هذا المعنى أيضا ما سموا الخيل جبهة. وفي الحديث المشهور: ليس في الجبهة، ولا في النخة، ولا في الكسعة صدقة. والنخة الرقيق، ومن قال النخة بالضم قال هي البقر العوامل، والكسعة الحمير. وهذا أشهر الاقوال في معنى هذا الحديث قال ابن أحمر: إن نحن إلا أناس أهل سائمة * وما لهم دونها حرث ولا غرر أي ليس لهم زرع يعتمد، ولا خيل تقتعد. وقال الآخر: كل قتيل في كليب غرة * حتى ينال القتل آل مره يقول: كل قتيل نقتله بكليب من غير آل مرة عبد لا نقتله بواء (3)، ولا نرضى به كفاء، وكأن فحوى الكلام، أن العبد والامة والفرس من أظهر الاسماء المملوكة وأدلها على وفارة الثروة، (هامش ص 20) (1) الحديث أخرجه الشوكاني والبخاري ومسلم وأحمد. (2) الغرة بياض في الجبهة، وأول ضوء الصبح، ومن ذلك قول الشاعر: وبدا الصباح كأن غرته * وجه الخليفة حين يمتدح (3) أي كفاء وبدلا، وقد فسرها المؤلف بعد ذلك. (*)


[ 21 ]

وفخامة النعمة. لان غيرها من الاعراض (1) في الاكثر لا يشتهر اشتهارها، ولا ينتشر انتشارها. 6 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إذا أراد الله بعبد خيرا عسله. قيل له يا رسول الله: وما عسله ؟ قال: يفتح له بين يدى موته عملا صالحا يرضى حتى يرضى عنه من حوله ” (2). وفي هذا الكلام مجازان: (أحدهما) قوله عليه الصلاة والسلام عسله، وهو مأخوذ من العسل كما يقول القائل: عسلت الطعام إذا جعل فيه عسلا، وسمنته إذا جعل فيه سمنا، وزيته إذا جعل فيه زيتا. ومعنى عسله: أي جعل عمله حلوا يحمده الصالحون ويرضاه المتقون، فيكون كالشئ المعسول الذى يسوغ في اللهوات (3)، ويلذ على المذاقات. (هامش ص 21) (1) الاعراض: جمع عرض بوزن سهم، وهو مال التجارة، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس. ما في الحديث من البلاغة: في استعمال الغرة في العبد والامة استعارة تصريحية، حيث شبه العبد والامة بالغرة في الحسن وإدخال السرور على النفس. (2) الحديث أخرجه أحمد بن حنبل والطبراني في الكبير عن أبى عتبه ورواه في الفتح ؟ ؟ الكبير بلفظ غسله بالغين. (3) اللهوات: جمع لهاة وهى أول الحلق. قال في القاموس: اللهاة اللحمة المشرفة على الحلق أو ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم، والجمع لهوات ولهيات ولهى ولهى ولهاء ولهاء، ومراده بما يسوغ في اللهوات ما يحلو ويستطعم عند الاكل أو الشرب. (*)


[ 22 ]

(والمجاز الآخر) قوله عليه الصلاة والسلام: بين يدى موته. ولا يد للموت على الحقيقة. ولكنها كناية عن الشئ الواقع أمام الشئ المتوقع. وقد تكلمنا على هذا المعنى في كتاب مجازات القرآن عند قوله سبحانه في البقرة: ” فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها “. وعند قوله تعالى في سبأ: ” إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد “. وذلك كما تقول: لمن يسأل عن أحد بالعشيرة وهو سالك طريق، وسائل عن رفيق: ها هوذا بين يديك، أي قد تقدمك، ولا يقال ذلك إلا فيما إذا كنت وراءه، وهو أمامك، لافيما كنت أمامه وهو وراءك. وكل ذلك إنما يراد به في الاكثر تقريب الشئ من الانسان حتى كأنه لفاف يده (1) وقراب (2) تناوله: كما تقول: هذا الشئ أخذ يدى، أي ممكن لها، وقريب من تناولها. (هامش ص 22) (1) قال في القاموس اللفافة بالسكسر: ما يلف بها على الرجل وغيرها، والجمع لفائف، ومراد الشريف بلفاف يده أنه متصل به كاللفافة. (2) قال في القاموس: وقراب الشئ بالكسر وقرابه وقرابته بضمهما، ما قارب قدره، والمراد هنا ما وصل إلى حد تناوله حتى يكون أخذه سهلا. ما في الحديث من البلاغة: في قوله: عسله: استعارة تصريحية حيث شبه توفيق العبد إلى العمل الصالح يوضع العسل فيه واستعمل عسله بدل وفقه إلى العمل الصالح، وفي قوله: بين يدى موته استعارة بالكناية حيث شبه الموت بشخص له يدان وحذفه ورمز له بشئ من لوازمه وهو اليدان وإثبات الدين للموت تخييل، فقول الشريف: ” ولكنها كناية عن الشئ ” ليس معناه الكناية الاصطلاحية، وإنما معناه الاستعارة بالكناية. (*)


[ 23 ]

7 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ويل لاقماع القول ويل للمصرين ” (1). وفي هذا الكلام مجاز واستعارة، لانه عليه الصلاة والسلام، عنى به الذين يكثرون استماع الاقوال واختلاف الكلام. فيكون ذلك ثالما (2) في دينهم، وقادحا في يقينهم، فشبه عليه الصلاة والسلام آذانهم بالاقماع التى يفرغ فيها ضروب القول إفراغ المائعات. وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، لان الآذان هي الطرق التى يوصل منها إلى الصدور، والانقاب (3) التى يدخل منها على القلوب، فهى أبواب موصلة، وطرق مبلغة. وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على تأويل غير مشبه لفحوى اللفظ، لانه قال المراد بذلك الذين تتكرر المواعظ على أسماعهم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي، وموضعون (4) في طرق المغاوى. وهذا القول، وإن كان سائغا، فإن الاشبه بظاهرها الكلام أن يكون على ما قدمت القول فيه من ذم من يجعل سمعه (هامش ص 23) (1) بقية الحديث: ” الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، والله ما حسن الله خلق رجل وخلقه، فتطعمه النار “، وقد رواه الطبراني في الاوسط عن أبى هريرة مرفوعا. انظر كشف الخفا ج‍ 2 ص 340 (2) قال في القاموس: ” ثلم الاناء والسيف ونحوه: كضرب وفرح وثلمه فانثلم كسر حرفه فانكسر ” فيكون معنى ” ثالما في دينهم ” مشوها في دينهم وناقصا له. (3) الانقاب: جمع نقب وهو الثقب. (4) موضعون: مسرعون، ومن ذلك قوله تعالى: ” ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة “. (*)


[ 24 ]

مساغا للاقوال المختلفة، والانباء المتضادة (1) ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: المصرين، تماما لهذا المعنى المراد، ومبالغة في وصف هؤلاء بالمذمومين بكثرة استماع الاقوال، فيكون ذلك من قولهم: أصر الفرس أذنيه إذا نصبهما للتوجس، لانه يقال: أصر أذنيه، وصر بأذنيه (2). وهذا التأويل لم أعلم أحدا سبقني إليه. 8 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام حين أتاه الفضل (هامش ص 24) (1) المعنى أنهم يسمعون كل قول ولا يأبونه كما يقبل القمع كل سائل يوضع فيه ولا يأباه. (2) فيكون المعنى: ويل للمصرين آذانهم للاستماع، أي الذين ينصبونها للتوجس والتقاط الاخبار، ولكن هذا المعنى لا يتلاءم مع بقية الحديث ذكرناه وهو ” الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ” فلا معنى لنصب الاذنين على الفعل الذى فعلوه، والمناسب أن يكون يصرون مأخوذا من قولهم: ” ناقة مصرة ” وهى التى لا تدر اللبن فهى باقية على حالها لا تتغير عنه، كما أن الثابتين على فعلهم السئ الذين لا يتحولون ؟ ؟ عنه إلى فعل الخير كذلك، فيكون معنى ويل للمصرين، ويل للثابتين المقيمن على السوء، ويترتب على ذلك أن يكون النهى في الحديث على المعنى الثاني عن شيئين هما استماع كل قول، والاصرار على الفعل السئ وعدم التحول عنه، أما على المعنى الاول فيكون النهى عن شئ واحد وهو استماع كل قول والاصرار له، أي نصب الاذن له والتلهف عليه، ولذلك قال الشريف فيكون المصرين ثماما لهذا المعنى، ولا شك أن المعنى الذى ذكرناه أولى. ما في الحديث من البلاغة: في أقماع القول استعارة نصريحية سبق بيان التشبيه فيها حيث استعمل كلمة أقماع في الناس الذين يستمعون كل قول وذكر القول قرينة، وفي استعمال المصرين في الذين لا يتحولون عن فعلهم، استعارة تصريحية حيث شبه الناس بالناقة المصرة التى لا تدر، وهذا على المعنى الذى ذكرناه أما على المعنى الذى ذكره الشريف فيكون شبه شدة الحرص على السماع بنصب الفرس أذنيه واستعمال المصرين في ذلك استعارة تصريحية أيضا. (*)


[ 25 ]

ابن العباس وابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يسئلانه عن أبويهما السقاية (1) فتواكلا الكلام (2)، فقال عليه الصلاة والسلام: ” أخرجا ما تصران ” (3). وفي هذا القول استعارة لانه عليه السلام أراد أظهرا ما تكتمان في قلوبكما وصرحا بما تلجلج به ألسنتكما، فجعل القلب بمنزلة الوعاء والكتمان بمنزلة الوكاء (4)، والامر المكتوم بمنزلة الشئ الموعى (5). وكل شئ جمعته فقد صررته، ومنه قيل للاسير مصرور إذا جمعت يداه بالغل (6) وقدماه بالحجل. (هامش ص 25) (1) أي يسئلانه أن ينوب كل منهما عن أبيه في تولى سقاية الحجاج، وكانت سقاية الحجاج من مظاهر الشرف عند العرب في الجاهلية، وكانوا يعتبرونها عملا يؤهل للرياسة في الاسلام أيضا وقد رد الله عليهم يقوله ” أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ؟ لا يستوون عند الله “. (2) تواكلا الكلام: أي طلب كل منهما من صاحبه أن يتكلم نيابة عنه كأنه جعله وكيلا عنه أو توكل عليه في بيان ما يريد. (3) صر المتاع: وضعه في الصرة وهى كيس يوضع فيه الشئ ويصر أي يربط حتى يحفظ ما فيه. والمعنى الوضعي لهذا اللفظ أخرجا ما تخفيانه من شئ في الصرة. (4) الوكاء: الرباط الذى يربط به المتاع، وفي الحديث: العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ. (5) الموعى: أي الموضوع في الوعاء، اسم مفعول من أوعى بمعنى وضع الشئ في الوعاء. (6) الغل: القيد يوضع في اليد أو في العنق، والحجل القيد أيضا، ولكنه يستعمل في الرجل لانه يكون كالخلخال، والخلخال يسمى الحجل. ما في الحديث من البلاغة: استعمال تصران بدل تكتمان استعارة تصريحية حيث شبه الكتمان بصر المتاع والقرينة، أنهما تواكلا الكلام. (*)


[ 26 ]

9 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية عند كلام جرى في شأن قريش: ” فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنق يقطعها الله “، وفي هذا القول استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام شبه من تبعه منهم في المتلاحق والامتداد والجد والاجتهاد بالعنق الواحدة التى لا تختلف أجزاؤها، ولا تتباين أعضاؤها، فهو أشد لقوتها، وأوهن لصدمتها. وعلى هذا المعنى قول الشاعر، وأنشدناه شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنى النحوي رحمه الله في حال القراءة عليه: أبلغ أمير المؤمنين * أخا العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله * عنق إليك فهيت هيتا (1) ولقول الشاعر: عنق إليك معنيان: (أحدهما) أن يكون على الوجه الذى ذكرناه أولا من تشبيه الطالبين له، والقاصدين إليه، بالعنق في التلاحق إلى فنائه، والتسرع إلى لقائه. (والمعنى الآخر) أن يكون أراد: أهل العراق على توقع لوروده وتشوق إلى طلوعه، فهم كالعنق الممتدة نحوه، وذلك على المتعارف (هامش ص 26) (1) قال في القاموس: هيت به صاع ودعاه، وهيت لك مثلثة الآخر، وقد يكسر أوله أي هلم. والمعنى أن العراق وأهله متفقة على الرضا يك، كالعنق في التصاق بعضها ببعض والتفافها ممدودة إليك تريد حضورك فأقبل إليها. (*)


[ 27 ]

بيننا من قول القائل منا إذا أراد أن يعبر عن انتظاره لوارد أو توقعه لطالع أن يقول: عنقي ممتدة إلى ورود فلان. كما يقول: عينى ممدودة إلى طلوع فلان. وقول الشاعر في البيت الثاني ” فهيت هيتا ” يشهد بأن مراده الوجه الاخير من الوجهين لان في هذا القول حثاله على التعجل، وإزعاجا إلى التسرع. فأما قول الله سبحانه وتعالى: ” فظلت أعناقهم لها خاضعين “. فقد فسر أيضا على وجهين أوردناهما في مواضع من كلامنا في تأويل القرآن. (فأحد الوجهين) أن يكون سبحانه ذكر الاعناق، ثم رد الذكر على أصحاب الاعناق لان خضوع الاعناق هو خضوع أصحابها لما لم يكن خضوعهم إلا بها. (والوجه الآخر) أن يكون أراد الجماعات، لانه قد تسمى الجماعة عنقا على الوجه الذى قدمنا ذكره. يقول القائل: جاءني عنق من الناس، أي جماعة فيكون خاضعين صفة للجماعات، والمعنى في ذلك ظاهر غير محتاج إلى التأويل. وقد يجوز أن يكون الاعناق هاهنا كناية عن السادات والمتقدمين من القوم. يقال هؤلاء أعناق القوم: أي ساداتهم. كما يقال هؤلاء رؤوسهم وعرانينهم. ذكر ذلك صاحب العين (1) في كتابه. وقال لى أبو حفص (هامش ص 27) (1) العين: اسم كتاب وصاحبه هو الخليل بن أحمد الفراهيدي. (*)


[ 28 ]

عمر بن إبراهيم الكنانى صاحب ابن مجاهد، وقد قرأت عليه القرآن بروايات كثيرة: سمعت أبا بكر بن سفيان النحوي صاحب المبرد يقول: أولى الوجوه بتأويل هذه الآية أن يكون خاضعين مردودا على الضمير في أعناقهم فكأنه تعالى قال: فظلوا هم لها خاضعين. ويبعد أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر: عنق يقطعها الله، على أنه أراد به الجماعة لان قوله يقطعها الله بالعنق المعروفة التى هي العضو المخصوص أشبه، وفي موضع الكلام أحسن، وإنما جاء بالعنق هاهنا على طريق الاستعارة تشبيها للقوم الذين ذكر اتباعهم له بالعنق في الاحتشاد لطلبه والامتداد للحاق به (1). 10 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كتاب من كتبه (2): ” هذا كتاب من محمد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها ومن ظأره (3) الاسلام من غيرها “. وفي هذا الكلام استعارة، (هامش ص 28) (1) فاستعمال العنق في الناس المجتمعين المتفقين استعارة تصريحية. (2) هو كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ” بنى كلب ” وهم إحدى قبائل العرب. (3) هذه هي الرواية الصحيحة للحديث، وقد ورد في طبعة بغداد ونقله عنها الاستاذ محمود مصطفى هكذا: ” هذا كتاب من محمد رسول الله لعمار بن كلب وأحلافها من ظائرة الاسلام، ومن غيرهم ” وهى ظاهرة التحريف لانه لا يوجد أحد اسمه عمار بن كلب، وإنما المراد عمائر كلب، والعمائر جمع عمارة، وهى جماعة أصغر من القبيلة، ومن ظأره الاسلام، أي عطفه عليه، لا ظائرة الاسلام، لانها لا معنى لها. قال في القاموس: الظئر بالكسر العاطفة على ولد غيرها المرضعة له في الناس وغيرهم للذكر والانثى. فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام، ومن ظأره الاسلام، أي عطفه عليه، يقال: ” ظأرت الناقة على ولدها ” إذا عطفت عليه. (*)


[ 29 ]

لان الظأر في الحقيقة العطف، ومنه ظأر الناقة (1)، وهو أن يموت ولدها فتعطف على البو (2) الذى يجعل لها لتدر عليه لبنها، وأصله العطف على الشئ بالاخذ والحمل، لا بالاختيار والطوع. ويبين هذا المعنى الكميت الاسدي: وهم رأموها غير ظأر وأشبلوا * عليها بأطراف القنا وتحدبوا أي عطفوا عليها طائعين مختارين لا مجبرين محمولين، ثم استعمل بعد ذلك فيمن عطف طائعا كما استعمل فيمن عطف كارها، فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل الاسلام يعطف على الدخول فيه: إما طوعا ومشيئة، أو عنادا وخيفة. ومن أمثال العرب: الطعن يظأر (3)، أي يعطف على السلم والتواهب، ويحمل على البقيا والتقارب. (هامش ص 29) (1) الظأر كالمنع: مصدر ظأرت إذا اتخذت ولدا ترضعه، وقد خصص الشريف هنا الظأر بعطف الناقة التى مات ودلها على البو. (2) قال في القاموس: ” البو ولد الناقة وجلد الحوار يحشى ثماما، أو تبنا فيقرب من أم الفصيل فتعطف عليه فتدر. ولا يصح أن يراد بالبو في كلام الشريف ولد الناقة لانه قال: وهو أن يموت ولدها: فيراد به جلد الحوار، والحوار ولد الناقة والظبية والبقرة الوحشية، والثمام نبات ضعيف، وأم الفصيل الذى انفصل عنها ولدها بعد فطامه عن الرضاع فتمتنع عن الدر لعدم رؤيتها له فيقرب منها البو لتدر. (3) قال في القاموس: ” والطعن ظئار قوم أي يعطفهم على الصلح “. ما في الحديث من البلاغة: استعمال ظأره في عطفه عطفا شديدا كعطف الظئر ؟ ؟ استعارة تصريحية، والقرينة أنه لا أمومة ولا إرضاع. (*)


[ 30 ]

11 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحادي مطيه: ” يا أنجشة ؟ ؟ (1) رفقا بالقوارير ” وهذه استعارة عجيبة، لانه عليه الصلاة والسلام شبه التساء في ضعف النحائز (2) ووهن الغرائز (3) بالقوارير (4) الرقيقة التى يوهنها الخفيف، ويصدعها اللطيف، فنهى عن أن يسمعهن ذلك الحادى ما يحرك مواضع الصبوة، وينقض معاقد العفة. وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: ” قوارير من فضة قدروها تقديرا ” على أن المراد به غير الزجاج ها هنا. والقارور: فاعول من استقرار الشئ فيه، فكأنه قرار للشراب وغيره من المائعات، فيصلح أن يكون للزجاج ويكون لغير الزجاج. وأما عامة المفسرين فيذهبون إلى أن تلك الآنية الموصوفة من فضة ولكنها تشف شفيف القوارير من الزجاج (5)، فهو أعجز لتصويرها وأعجب لتقديرها، إذ كانت جامعة للرقة اللطيفة، والقوة الحصيفة. (هامش ص 30) (1) أنجشة ؟ ؟ مولى النبي صلى الله عليه وسلم أي عبده وخادمه، وحادي مطيه أي الذى يغنى للابل أثناء سيرها حتى يسهل عليها السير ويخف عنها التعب. (2) النحائز: جمع نحيزة وهى الطبيعة، أي شبه النساء في ضعف الطبائع. (3) الغريزة: الطبيعة. (4) القوارير جمع قارورة: وهى ما قر فيه الشراب ونحوه سواء كان من الزجاج أو من غيره، وقيل مخصوص بالزجاج ويجب حمله هنا على ما كان من الزجاج لانه الذى يشينه أدنى خدش، ويغشيه أرق مس. (5) وقال بعض المفسرين: إنها من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج. ما في الحديث من البلاغة: استعمال القوارير في النساء استعارة تصريحية والقرينة أنه لا شراب، = (*)


[ 31 ]

12 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد تذاكر الناس عنده أمر الطاعون وانتشاره في الامصار والارياف، فقال صلى الله عليه وآله: ” فإنى أرجو ألا يطلع إلينا نقابها ” يعنى نقاب المدينة. والنقاب: جمع نقب، وهو الطريق في الجبل. وفي هذا الكلام استعارة حسنة، لانه عليه الصلاة والسلام أقام هذا الداء المسمى بالطاعون في تغلغله إلى البلاد المنيعة، وذهابه بالاعلاق (1) الكريمة مقام الجيش المغير الذى يوفى على الانشاز (2)، ويهجم على الحصون والديار. يقال: طلع فلان الثنية (3) إذا أوفى عليها وقرع ذروتها (4). ومن أحسن التمثيل وأوقع التشبيه أن تشبه أسباب الموت وطوارق الدهر بالجيش الهاجم، والمقنب (5) الصمم الذى تخاف سطوته وتنكأ (6) (هامش ص 31) (1) ولا إناء ولا زجاج، وقد أوضح الشريف وجه الشبه. تخريج الحديث: هذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والنسائي عن أنس بلفظ ” يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير ” وأخرجه الطيالسي بلفظ ” يا أنجشة ويحك ارفق بالقوارير “. (1) الاعلاق: جمع علق وهو النفيس من كل شئ. (2) الانشاز: جمع نشز بوزن كلب وجمل: المكان المرتفع. (3) الثنية: الجبل أو الطريقة فيه. (4) ذروة كل شئ أعلاه. (5) المقنب: مخلب الاسد، والخيل من الثلاثين إلى الاربعين أو زهاء ؟ ؟ ثلاثمائة. (6) نكأ القرحة قشرها قبل أن تبرأ. والمعنى أن شوكة هذا المقنب تجرح أو تعيد الجرح داميا. (*)


[ 32 ]

شوكته، ولا يسد طريقه ولا يؤمن طروقه. وقوله عليه السلام: ألا يطلع إلينا نقابها (وهو يريد نقاب المدينة ولم يجر لها ذكر) من الفصاحة العجيبية، لانه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها. ومثل ذلك قوله سبحانه وتعالى: ” ولو دخلت عليهم من أقطارها ” والمراد المدينة، ولم يجر لها ذكر. ولذلك في القرآن نظائر. وكان شيخنا أبو الفتح النحوي – رحمه الله – يسمى هذا الجنس شجاعة الفصاحة، لان الفصيح لا يكاد يستعمله إلا وفصاحته جرية الجنان، غزيرة المواد. 13 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا ” (1)، وهذا الكلام من محاسن الاستعارات وبدائع المجازات، لانه عليه السلام جعل الاسلام غريبا في أول أمره تشبيها بالرجل الغريب الذى قل أنصاره وبعدت دياره، لان الاسلام كان عليه هذه الصفة في أول ظهوره، ثم استقرت قواعده، واشتدت معاقده، وكثر أعوانه، وضرب جرانه. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” وسيعود غريبا ” أي يعود إلى مثل الحالة الاولى في قلة (هامش ص 32) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية حيث شبه الطاعون بالجيش المغير وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو طلوع النقاب. وإثبات طلوع النقاب للطاعون تخييل. (1) الحديث أخرجه السيوطي في الفتح الكبير قال رواه مسلم عن ابن عمر، وقال صاحب كشف الخفا إنه مشهور أو متواتر. (*)


[ 33 ]

العاملين بشرائعه والقائمين بوظائفه، لا أنه والعياذ بالله تمحى سماته، وتدرس آياته (1). 14 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في ذكر الخوارج: ” يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. ” (2) الحديث بطوله إلى قوله: قد سبق الفرث والدم. وفي هذا القول مجاز، لانه عليه السلام شبه دخولهم في الدين وخروجهم منه بسرعة من غير أن يتعلقوا بعقدته، أو يعيقوا (3) بطينته، بالسهم الذى أصاب الرمية، وهى الطريدة المرمية، ثم خرج مسرعا من جسمها، ولم يعلق بشئ من فرثها ودمها، وذلك من صفات السهم الصائب، لانه لا يكون شديد السرعة إلا بعد أن يكون قوى النزعة (4). (هامش ص 33) (1) في الحديث استعارة بالكناية حيث شبه الاسلام بالانسان الذى يكون بين غير أهله وحذفة ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو كلمة غريب وإسناد الغربة إلى الاسلام تخييل، أو هو تشبيه بليغ على حد قولهم بدت قمرا، أي بدت كالقمر في الحسن، وهنا يقال بدأ الاسلام غريبا أي كالشخص الغريب في تجاهله وعدم الاعتراف به. ثم حذف وجه الشبه والاداة. (2) الحديث أخرجه أبو داود في قتال الخوارج عن أبى سعيد الخدرى وأنس ابن مالك، وأخرجه أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود، ورواه البخاري ومسلم عن أبى سعيد، وهو حديث طويل يمكن الرجوع إليه في المراجع التى ذكرناها في باب قتال الخوارج أو في باب قسم الغنائم. (3) أي لم يلصقوا به، ولم يقيموا عليه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه خروج هؤلاء الناس من الدين في سرعته بخروج السهم من مزيته، بعد إصابته وهذا يكون في غاية السرعة لانه لم يستقر فيها بل اخترق = (*)


[ 34 ]

15 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” مضر صخرة الله التى لا تنكل ” (1). وهذا القول مجاز، لانه عليه السلام جعل مضر، وهى القبيلة المعروفة بمنزلة الصخرة الراسية، والهضبة الثابتة التى لا تزحزح عن مقرها، ولا تؤخر عن مجثمها وهذا معنى قوله عليه السلام: ” لا تنكل “. وذلك مأخوذ من قولهم: نكلت عن الامر أنكل نكولا إذا تأخرت عنه. ومنه قيل للجام نكل لانه يؤخر به المركوب إذا جمح، ويحبس به إذا انطلق. ولهذا المعنى أيضا قيل للقيد نكل لانه يقصر الخطو ويمنع العدو، وإنما أضاف عليه السلام اسم الصخرة إلى الله تعالى، ليكون أفخم لها في القلوب، وأجدر لها بالرسوخ (2). 16 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” بعثت في نسم – الساعة إن كادت لتسبقني “. وفي هذا القول استعارة (3)، لانه عليه السلام كنى عن ابتداء الساعة بالنسم، والنسم والنسيم جميعا (هامش ص 34) = جسمها من مكان الاصابة إلى مكان الخروج، ويجوز أن يكون في يمرقون استعارة تبعية حيث شبه الخروج من الدين بسرعة بمروق السهم من الرمية، ثم استعمل يمرق بمعنى يسرع على طريق الاستعارة التبعية. (1) أي التى لا تزول عن مكانها فهى ثابتة في الدين ثبوت الصخرة التى لا تتزحزح من مكانها. (2) في الحديث تشبيه بليغ شبه مضر بالصخرة في الثبات والرسوخ وحذفت أداة التشبيه ووجهه، والاصل مضر كصخرة الله في الثبات. (3) هي استعارة تصريحية حيث استعمل ” نسم ” بدل ” ابتداء “.


[ 35 ]

اسم لابتداء الريح، وهى ضعيفة قبل شدتها، ومريضة قبل استكمال قوتها. والنسم أيضا: النفوس، جمع واحده نسمة، وإنما سميت بذلك لانها في الاصل ضعيفة، وإنما يشتد من جسمها بروافد ترفدها ودعائم تسندها. وقد روى هذا الخبر على وجه آخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” بعثت في نفس الساعة ” وله معنيان: (أحدهما) أن يكون: بعثت في تنفيس الساعة، أي في إمهالها وتأخرها، من قولهم: نفس فلان عن غريمه إذا أنظره، وأخر الدين بعد أن حان قضاؤه ووجب اقتضاؤه، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: بعثت وقد حان قيام الساعة إلا أن الله تعالى نفسها، أي أخرها قليلا، فبعثني في ذلك النفس. (والوجه الآخر) أن يكون جعل للساعة نفسا كنفس الانسان. وقال: بعثت في وقت أحس فيه بنفسها وقربها كما يحس الانسان بنفس الانسان إذا قرب من شخصه وسمع مجرى نفسه (1). 17 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اليد العليا خير من اليد السفلى ” وهذا القول مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام أراد باليد العالية يد المعطى، وباليد السافلة يد المستعطى، ولم يرد على (هامش ص 35) (1) يكون في الكلام على هذا المعنى الاخير استعارة بالكناية حيث شبه الساعة بإنسان له نفس وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو النفس، وإثبات النفس للساعة تخييل.


[ 36 ]

الحقيقة أن هناك عاليا وسافلا، وصاعدا ونازلا، وإنما أراد أن المعطى في الرتبة فوق الآخذ، لانه المنيل المفضل والمحسن المجمل. وليس هذا في معطى الحق، وإنما هو في معطى الرفد (1) ومسترفده، وليس المراد أنه خير في الدين، بل المراد أنه خير في النفع للسائلين، وإنما كنى عليه الصلاة والسلام عن هاتين الحالتين باليدين، لان الاغلب أن يكون بهما الاعطاء والبذل، وبهما القبض والاخذ (2). 18 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن هذه الاخلاق بيد الله، فمن شاء أن يمنحه منها خلقا حسنا فعل “، وذكر اليد هاهنا مجاز، والمراد أن الاخلاق في قبضة الله وتحت ملكة الله تعالى، فلما كان في الاكثر ما يقبضه الانسان ويملكه إنما يقبضه بيده وينقله إلى يده، خاطب عليه الصلاة والسلام بلسان العرف المتقرر عند المخاطبين وفي لغة السامعين. وقد مضى الكلام على هذا المعنى في عدة مواضع من كتبنا الموضوعة في علوم القرآن، ولا يحتمل (هامش ص 36) (1) الرفد: هو العطاء والصلاة، أي ما يحسن به الانسان إلى شخص محتاج أو يكرم به شخصا يستحق الاكرام، والمسترفد طالب الرفد. (2) ما في الحديث من البلاغة: استعمال العليا في المعطية والسفلى في الآخذة استعارة تصريحية حيث شبه اليد المعطية في فضلها، باليد العلية واليد الآخذة في مقضوليتها باليد السافلة والقرينة أن المعطى لا يرفع يده على يد الآخر حتى يكون هناك علو وسفل، بل قد تكون يد الآخذ هي العالية حسا وقت الاخذ.


[ 37 ]

كتابنا هذا أكثر من هذا المقدار (1). 19 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لابي بن كعب وقد أعطاه الطفيل بن عمرو الدوسى قوسا له جزاء على إقرائه القرآن فقال عليه الصلاة والسلام لابي: ” تقلدها شلوة من جهنم ” وفي هذا القول مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام جعل القوس إذ كانت تكسب آخذها على الوجه المكروه عذاب جهنم كأنها شلوة من نار جهنم، وإنما قال: شلوة، ولم يقل شلوا، لانه حمل على معنى القوس وهى مؤنثة. والشلو: العضو (2). ومنه حديث أمير المؤمنين عليه السلام في الاضحية: ائتنى بشلوها الايمن، وأصله في لغتهم: البقية القليلة من الشئ. ومن ذلك يقال لبقية الاكيلة إذا فرسها السبع: شلو. ويقال لبدن القتيل: شلو، على أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون مفردا من رأسه فيكون كالبقية القليلة، لان الرأس هو العضو الا رأس (3)، والعلق الانفس، ألا ترى إلى قول الشاعر: (هامش ص 37) (1) ما في الحديث من البلاغة: استعمال اليد في القدرة استعارة تصريحية، والقرينة أن الله تعالى لا يماثل الحوادث فليست له يد كيد الحوادث، وهذا على مذهب الخلف، أما على مذهب السلف فليس في الكلام مجاز بل هو على الحقيقة لانهم يقولون إن الله تعالى يدا حقيقة ولكنها لا تشبه أيدى البشر. (2) والجمع أشلاء، و ” شلوة ” حال من الهاء في تقلدها ومعناها قطعة من جهنم وهى مؤولة بالمشتق بمعنى مقطوعة. (3) أي الاعظم.


[ 38 ]

إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثرى * وغودر عند الملتقى ثم سائرى (1) (والوجه الثاني): أن يكون إنما سمى بذلك لخروج نفسه وكون الجسم بعدها، وإن كان بتمامه بمنزلة البقية التى قد ذهب أكثرها، وفقد جوهرها. (والوجه الثالث): أن يكون إنما سمى بذلك لانه بقية أبقتها مضارب السيوف تشبيها بالبقية التى أبقتها مخالب الاسود. وإنما عظم عليه الصلاة والسلام الوعيد في هذا الخبر زجرا لهم عن أن يأخذوا على تعليم القرآن أجرا، أو يتخذوه مكسبا ومطعما. 20 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ (2) من صلاة “. وفي هذا القول استعارة، لان الحاذ على الحقيقة: اسم لما وقع عليه الذنب من (هامش ص 38) (1) السائر: الباقي، وثم معناها هناك. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية حيث شبه جهنم بجسم له أعضاء وجعل القوس عضوا منها وحذف المشبه به وهو الجسم ذو الاعضاء ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الشلو وإثبات الشلو إلى جهنم تخييل. (2) الحظ: بضم الحاء جمع حظ بفتحها والحظ بالفتح هو النصيب. والمعنى ذو حظوظ من الصلاة أي كثير الصلاة يؤدى فرضها ويصلى نفلها، ومعنى أغبط الناس أكثرهم غبطة، والغبطة هي تمنى مثل ما للغير من الخير، أي أكثر الناس تمنيا لمثل ما عنده، وأكثر الناس حبا من الناس لان يكونوا مثله المؤمن خفيف الحاذ صاحب الحظوظ من الصلاة.


[ 39 ]

مؤخر الفخذين هذا قول الاصمعي. وقال غيره: بل هو لحم باطن الفخذ، وهما حاذا الفخذين. وقد جاء في كلامهم خفيف الحاذين، وقد استعملوا ذلك في الانسان أيضا قال الشاعر: سيكفيك الحمالة (1) مستميت * خفيف الحاذ من أبناء جرم وقال بعضهم: بل هو طريقة المتن (2) من الانسان، والموضوع الذى يسمى الحال من الفرس. وهو ما وقع عليه اللبد من ظهره. والقولان الاولان أعجب إلى، لانه عليه الصلاة والسلام، كنى بخفة الحاذ هاهنا عن قلة المال، أو قلة العيال. ومنه الحديث الآخر عن ابن مسعود: ” ليأتين على الناس زمان يغبطون الرجل بخفة الحاذ كما يغبطونه بكثرة المال “. لان الخفيف الحاذ إذا كان على ما ذكر أولا في الوجهين الاولين من قلة لحم باطني أو ظاهري الفخذين كان ذلك أسرع لخطوه وأخف لعدوه، لان الدنيا بمنزلة المضمار، والناس فيها بمنزلة الخيل المجراة، والغاية هي الآخرة. فكلما كان الواحد منهم أخف نهضا وامتراقا، كان أسرع بلوغا ولحاقا. ويبين ذلك قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، في كلام له: تخففوا تلحقوا. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم (بنهج (هامش ص 39) (1) الحمالة: الدية، وجرم قبيلة من قبائل العرب، والمستميت الشجاع الطالب للموت. والمعنى سيكفيك دفع الدية شجاع خفيف الحاذ من قبيلة جرم، وقد شرح الشريف الحاذ. (2) المتن: الظهر.


[ 40 ]

البلاغة) الذى أوردنا فيه مختار جميع كلامه صلى الله عليه وسلم وعلى الطاهرين من أولاده. (وأما القول الثالث) الذى ذكرناه عن بعضهم من قوله: إن الحاذ هو المتن، فقد يجوز أن يعبر به أيضا عن قلة العيال ونزارة (1) المال كما يقولون: فلان خفيف الظهر إذا أرادوا هذا المعنى، ولان قلة اللحم على الجملة في أي عضو كان من أعضاء الحيوان أعون على خفة نهوضه وسرعة تصرفه في أموره (2). 21 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر عنده شريح الحضرى: ” ذاك رجل لا يتوسد القرآن “. وهذه من الاستعارات العجيبة، والكنايات الغريبة، وهى تحتمل معنيين: أحدهما مدح، والآخر ذم. فأما المدح فهو أن يكون المراد به أنه لا ينام عن قراءة القرآن، بل يقطع ليله بالتهجد به والتصرف مع تلاوته، فيكون القائم بدرسه كالمشتمل به، والنائم كالمتوسد له (هامش ص 40) (1) النزارة: القلة، ومن ذلك قول العرب: لا يوجد من ذلك الشئ إلا النذر اليسير أي القليل، فهو من الوصف بالمفسر. (2) ما في الحديث من البلاغة: استعمال خفيف الحاذ بمعنى خفيف الظهر، أو خفيف لحم باطن الفخذين في قليل المال استعارة تصريحية: حيث شبه قليل المال بخفيف الظهر أو لحم باطن الفخذين ق السرعة، والمشبه به سريع المشى والنهوض، والمشبه سريع الوصول إلى الجنة، والقرينة أن خفيف الحاذ على الحقيقة ليس أغبط الناس والرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن الدين لا في شان الدنيا.


[ 41 ]

كأنه جعله وسدا لخده وفراشا لجنبه. ومما يقوى هذا الوجه ماروى من قوله عليه الصلاة والسلام، في حديث آخر: ” يأهل القرآن لا توسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته “. وأما المعنى الآخر الذى يحتمل الذم: فهو أن يكون المراد أنه غير حافظ للقرآن فليس بخازن من خزنته، ولا وعاء من أوعيته، فإذا نام لم يكن متوسدا له كما يتوسده من هو ظرف من ظروفه الحاوية له والمشتملة عليه. ومثل ذلك ما روى عن أبى الدرداء أنه قال لرجل سأله عن طلب العلم: ” لان تتوسد العلم خير من أن تتوسد الجهل “. أراد لان تنام ومعك العلم خير من أن تنام ومعك الجهل، فجعل العلم كالفراش الممتهد (1)، والوساد المتوسد (2). 22 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، في كلام للانصار: ” أنتم الشعار، والناس الدثار (3) “. وهذا مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام أراد أنكم أقرب الناس منى، وأشدهم اشتمالا علي، فأنتم لى كالشعار، وهو الثوب الذى يلى بدن الانسان، (هامش ص 41) (1) الممتهد: أي المتخذ مهدا، وهو الموضع الذى يهيأ للنوم، والمتوسد: المتخذ وسادة، أي مخدة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبهت ملازمة القرآن بتوسده واشتق من التوسد بمعنى الملازمة، يتوسد بمعنى يلازم على طريق الاستعارة التبعية. (3) الدثار: هو الثوب الذى يقع فوق الثوب الاول الملاصق للبدن، والثوب الاول هو الشعار كما ذكر الشريف.


[ 42 ]

والناس الدثار، لانهم أبعد منى وأنتم بينهم وبيني، ومثل ذلك قولهم: فلان من بطانة فلان، كناية عن القرب منه، والاختصاص به تشبيها ببطانة الثوب التى تلى الجسد، وتكون أقرب إلى البدن (1). 23 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” يكون قبل الدجال (2) سنون خداعة “، وهذه استعارة لانه جاء في التفسير أن المراد بذلك اتصال المحول (3) وقلة الامطار في تلك السنين. يقال: خدع المطر إذا قل، والاصل فيه قولهم: خدع الريق إذا جف. قال سويد بن أبى كاهل: أبيض اللون لذيذ طعمه * طيب الريق إذ الريق خدع وجفوف الريق وقلته من أسباب تغيره وفساده لانه كلما كثر ماع، وكلما ماع طاب. وقيل السنون الخداعة هي التى تخدع زكاء الزرع: أي تنقصه من قولهم: دينار خادع، وهو الذى ينقص من وزنه أو من ذهبه. وقال عليه الصلاة والسلام: ” سنون خداعة “. والمطر هو الخادع إلا أن خدع المطر لما كان فيها حسن إجراء الاسم (هامش ص 42) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ حيث شبه الانصار بالشعار في القرب والناس بالدثلر في البعد، فالمشبه والمشبه به موجودان، والاداة والوجه محذوفان. (2) الدجال ؟ هو المسيخ الدجال الذى يظهر آخر الزمان يفتن الناس عن دينهم. (3) المحول: جمع محل، وهو الجدب.


[ 43 ]

عليها، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن قد استقصينا ذكرها في كتاب المجازات، وقال بعضهم: بل السنون الخداعة التى يكثر فيها المطر ويقل العشب. وذلك مأخوذ من الخديعة، فكأن هذه السنين يطمع أهلها في الخصب والامراع بكثرة أمطارها، ثم تخلف المخايل (1) باتصال جدبها وإمحالها. والقول الاول أقرب إلى الصواب وأشبه بالمراد (2). 24 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تحابوا بذكر الله وروحه (3) “، وهذا القول مجاز، لانه صلى الله عليه وآله أراد (هامش ص 43) (1) المخايل: الظنون جمع مخيلة بوزن مدينة، وهى الظن. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز عقلي حيث أسند الخداع إلى السنين في قوله ” خداعة ” فخداعة صيغة مبالغة من الخداع وفيها ضمير تقديره هي يعود على السنين وهو فاعل لاسم الفاعل، والخداعة في الحقيقة. إنما هي السحب، لانها هي التى يتخيل الانسان أنها ستمطر ثم لا تمطر، فإسناد خداعة إلى السنين مجاز عقلي، الاصل سنين خداعة أمطارها، فحذفت الامطار وحول الاسناد إلى السنين، وهذا هو القول الثاني الذى ذكره الشريف وهو أولى من القول الاول عندي بالقبول لان الاستعارة لا تكاد تظهر في الحديث، لاننا إذا قلنا بها لزم أن نشبه السحب بالسنين، وهو تشبيه غير مقبول. (3) الروح يطلق على القرآن حقيقة، وعلى ذلك فلا يكون في الحديث مجاز. والمعنى تحابوا بذكر الله وبقرآنه، والذى ذكره الشريف أن الروح هو ما به حياة الانفس، وعلى ذلك يكون مجازا، أي استعارة تصريحية حيث شبه القرآن بالروح في صلاح الناس به، واستعمل اسم المشبه به في المشبه، والاولى في نظرى عدم التشبيه وإجراء الكلام على الحقيقة، لان التشبيه يلزم عليه إثبات روح لله ولو على سبيل المجاز، فيكون القرآن بالنسبة إلى الله كأنه روحه التى يصلح بها، والله تعالى صالح دائما لا يحتاج إلى شئ يقوم به.


[ 44 ]

بالروح هاهنا القرآن تشبيها له بالروح القائمة بالحيوان المصححة لانتفاع الابدان، وهذا من التشبيه الواقع والتمثيل النافع، لان انتفاع الناس بالقرآن في رشاد السبيل ومصالح الدنيا والدين كانتفاع الابدان بالارواح في تصريف حركاتها وترتيب إرادتها، وتصحيح لذاتها وشهواتها. وقد ذكرنا ذلك مشروحا في مواضع من كتابنا في علوم القرآن. 25 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” قد أناخت بكم الشرف الجون “. يعنى الفتن المتوقعة. وهذا القول مجاز لانه عليه الصلاة والسلام شبه الفتن بالنوق المسنات، لجلالة خطبها واستفحال أمرها و جعلها جونا، وهى السود ها هنا (1)، لظلام منهجها والتباس مخرجها. والشرف جمع شارف: وهى الناقة المسنة، وهم يشبهون الحرب بها، قال الكميت الاسدي يصف حربا: مبسورة شارفا مصرمة (2) * محلوبها الصاب (3) حين تحتلبه يقال بسرت الناقة وابتسرت إذا حمل عليها الفحل. ولم تضبع (4) (هامش ص 44) (1) أشار بقوله هاهنا إلى أن الجون تطلق على البيض والسود، ولكن المراد بها هنا السود. (2) المصرمة: المقطعة وهى التى قطعت أثداؤها حتى لا ترضع فتضعف بالرضاع. (3) الصاب: شجر مر، أي عصارة هذا الشجر المر إذا حلب. (4) ضبعت الناقة تضبع: من باب فرح إذا اشتهت الفحل، فمعنى قول الشريف إذا حمل عليها الفحل ولم تضبع: وهى غير طالبة له وحينئذ لا يكون للقاح فائدة لانها لا تحمل حينئذ، والمراد أن هذه الحرب كالناقة التى يأتيها فحلها وهى غير راغبة في إتيانه فتكون نافرة هائجة، وهذه الحرب نافرة هائجة، تصيب الناس بشرهامن غير رحمة ولا تبصر.


[ 45 ]

وقد يجوز أن يكون الفائدة في تشبيه الفتن بالمسنات من الابل لانها أكره مناظر، وأقل منافع، كما شبهوا الحرب بالمرأة العجوز. فقال بعضهم في أبيات: شمطاء عابسة عقيما بطنها * مكروهة للشم والتقبيل وقال بعض العلماء: الشرف هاهنا الفتن التى يستشرفها الناس لعظمها. والصحيح التأويل الاول، وقد روى هذا الحديث بلفظ آخر. رواه بعضهم: الشرق: الجون بالقاف، أي أمور عظام تأتى من قبل المشرق، وكل ما أنى من ناحية المشرق فهو شارق، فشارق وشرق كشارف وشرف، والقول الاول أصح في النقل وأشبه بطريقة القوم (1). 26 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، في يوم حنين لما رأى مجتلد (2) القوم: ” الآن حمى الوطيس “، وهذه اللفظة (هامش ص 45) (1) ما في الحديث من البلاغة: استعمال الشرف الجون في الفتن استعارة تصريحية حيث شبه الفتن بالنياق المسنة السوداء في كراهة منظرها وقلة نفعها، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وفي أناخت استعارتان مكنية وتبعية، حيث شبه الفتن بالنياق وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو الاناخة وإثبات الاناخة إلى الفتن تخييل وفي أناخت استعارة تبعية حيث شبه حلول الفتن بالناس ولصوقها بأرضهم بإناخة النياق، واشتق من الاناخة بمعنى الحلول أناخت بمعنى حلت على طريق الاستعارة التبعية. (2) المجتلد: مصدر ميمى من تجالد القوم بالسيوف أي تضاربوا بها. والمعنى لما رأى تجالد القوم.


[ 46 ]

الاغلب عليها أنها من جملة الامثال من كلامه عليه الصلاة والسلام، وقد شرطنا ألا نذكر هاهنا ما تلك حاله إلا ن لها بعض الدخول في باب الاستعارة، فلذلك رأينا الايماء إليها والتنبيه عليها، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” الآن حمى الوطيس “، وهو يعنى حمس (1) الحرب وعظم الخطب، مجاز، لان الوطيس في كلامهم حفيرة تحتفر فيوقد فيها النار للاشتواء، وتجمع على وطس، فإن احتفرت للاحتياز (2)، فهى إرة وتجمع على إرين (3)، ولا وطيس هناك على الحقيقة، وإنما المراد ما ذكرنا من حر القراع وشدة المصاغ (4)، والتفاف الابطال، واختلاط الرجال، ومن هناك قالت العرب: أو قدت نار الحرب بين آل فلان وآل فلان، وقال الله سبحانه مخرجا للكلام على مطارح لسانهم ومعارف أوضاعهم: ” كلما أو قدوا نارا للحرب أطفأها الله ” وتشبيه الحرب بالنار يكون من وجهين: (أحدهما) لحر مواقع السيوف، وكرب (5) ملابس الدروع، (هامش ص 46) (1) أي اشتدت وذكر ” حمس ” لان الحرب مؤنث مجازى. (2) الاحتياز: أي تحفر الحفيرة ليحاز فيها الماء أو غيره. (3) قال في القاموس: الارة كعدة: النار نفسها أو موضعها أو استعارها وشدتها، وقد أراد الشريف بالارة غير ذلك كله. (4) المصاع: المضاربة بالسيف هنا، ومن معانيه المضاربة بالسوط، ولكنها لا تكون في الحرب، فينتفى تخصيصها بالضرب بالسيف. (5) الكرب: تضيق القيد على المقيد، والمعنى ضيق الدروع على لا بسيها مما (؟) الحرارة في أجسادهم كالنار.


[ 47 ]

وحمى المعترك لشدة العراك وكثرة الحركات. (والوجه الآخر) أن يكون إنما شبهت بالنار لانها تأكل رجالها، وتفنى أبطالها كما تأكل النار شعلها وتحرق حطبها (1). 27 – ومن ذلك ما روى عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال – والخبر مطعون في سنده -: ” ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته “، وفي رواية أخرى: ” لا نضارون في رؤيته ” بالتشديد فيهما وفتح التاء، وعامه المحدثين يقولون: تضارون وتضامون بالتخفيف وضم التاء، كأنه من الضير والضيم: أي لا تختلفون في مطلعه، ولا تتمارون في رؤيته، فيضير بعضكم بعضا، أو يضيم بعضكم بعضا في دفعه عن ذلك، أو الاستئثار به عليه والادراك له دونه، فأما من روى: تضارون وتضامون بفتح التاء والتشديد، فالضرار هاهنا راجع إلى معنى الضير هناك لانه من المضارة، وهى المفاعلة بين الاثنين، فكأن الضرار وقع بينهما لاجل اختلافهما وتنازعهما، ومن قال لانضامون بالتشديد، فمعناه: إنكم ترون القمر رؤية جلية لا تحتاجون معها (هامش ص 47) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه اشتداد الحرب والصراع بين المتقاتلين نحمى الوطيس واشتداد النار فيه، واشتق من الحمى: بمعنى الاشتداد، حمى بمعنى اشتد على طريق الاستعارة التبعية.


[ 48 ]

إلى أن ينضم بعضكم إلى بعض طلبا لرؤيته واستعانة على مشاهدته، فهو مأخوذ من الانضمام، وهو الاجتماع للتقوى على نظر الشئ البعيد أو الخفى الضئيل. وهذا الخبر كما قلنا مطعون في سنده، ولو صح نقله وسلم أصله لكان مجازا كغيره من المجازات التى تحتاج إلى أن تحمل على التأويلات الموافقة للعقل. وبعد هذا فهذا الخبر من أخبار الآحاد فيما من شأنه أن يكون معلوما، فغير جائز قبوله، لان كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط فيما يخبر به، ويصح كونه كاذبا في نقله، ولا يجوز أن يقطع في ديننا على الشئ من وجه يجوز الغلط فيه، لانا لا نأمن بالاقدام على اعتقاده من أن يكون جهلا، ولا نأمن من أن يكون إخبارنا عنه كذبا، وإنما نعمل بأخبار الآحاد في فروع الدين وما يصح أن يتبع العمل به غالب الظن. ومما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسن عبد الجبار بن أحمد عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرؤية إلى من شرط في قبول خبر الواحد أن يكون راويه عدلا، وراوي هذا الخبر قيس به أبى حازم عن جرير بن عبد الله البجلى، وكان منحرفا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، ويقال: إنه كان من الخوارج، وذلك يقدح في عدالته ويوجب تهمته في روايته. وأيضا فقد كان رمى في عقله قبل موته، وكان مع ذلك يكثر الرواية فلا يعلم هل روى هذا الخبر


[ 49 ]

في الحال التى كان فيها سالم التمييز أو في الحال التى كان فيها فاسد المعقول، وكل ذلك يمنع من قبول خبره، ويوجب اطراح روايته. وأقول أنا: ومن شرط قبول خبر الواحد أيضا مع ما ذكره قاضى القضاة من اعتبار كون راويه عدلا، أن يعرى الخبر المروى من نكير السلف، وقد نقل نكير جماعة من السلف على راوي هذا الخبر منهم العرباض بن سارية السلمى، وهو من مختصى الصحابة. وروى عنه أنه قال: من قال إن محمدا رأى ربه فقد كذب. وروى أيضا عن بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام: أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله. وقالت ذلك عند ذهاب بعض الناس إلى أن قوله تعالى: ” ولقد رآه نزلة أخرى “. إنما أريد بها رؤية الله سبحانه، لا رؤية جبرائيل عليه الصلاة والسلام، كما يقوله أهل العدل (1)، وأيضا ففى هذا الخبر كاف التشبيه لانه قال: ترونه كما ترون القمر الذى هو في جهة مخصوصة وعلى صفة معلومة، وإذا كان الامر كما قلنا لم يكن للخبر ظاهر (2)، واحتجنا إلى تأوله كما احتجنا إلى ذلك في غبره. وقد يجوز أن نحمله على ما حملنا عليه الآية، وهى قوله تعالى: ” وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة “. لانا نقول إن في (هامش ص 49) (1) أي لم يكن له ظاهر واضح يتمشى مع العقيدة السليمة، لان كاف التشبيه تجعل الله تعالى كالحوادث التى تقتحمها العين وتحد مكانها.


[ 50 ]

الكلام إسقاط مضاف كأنه تعالى قال: إلى ثواب ربها ناظرة، فكذلك هذا الخبر قد يجوز أن يكون المراد به إنكم ترون أشراط يوم المعاد وما وعد الله به وأوعد من الثواب والعقاب كما ترون القمر ليلة البدر، يريد في البيان والظهور والاصحار (1) للعيون. رلو كان هذا الخبر صحيح الاصل واضح النقل لكان عندنا محمولا على العلم، لان إطلاق لفظ الرؤية بمعنى العلم في الكلام مشهور، والاستشهاد على ذلك كثير. وهذا موضع المجاز الذى يختص ذكره بكتابنا هذا. وأما اعتراض المخالفين على هذا التأويل بأن النبي عليه الصلاة والسلام، أخرج هذا الكلام مخرج البشارة لاصحابه، ولا يجوز أن يبشرهم بمعنى كان حاصلا لهم في الدنيا، وهو العلم بالله سبحانه، فهو اعتراض عليل واحتجاج مدخول، وذلك لان العلم بالله سبحانه علم استدلال تعترضه الشكوك وتعتوره الشبه والظنون، ويحتاج العالم في حل عقود تلك الشبه إلى كلف ومشاق تتعب الخواطر وتعنى الناظر، فبشرهم عليه الصلاة والسلام بأن ذلك يزول في الآخرة، فيكون علمهم بالله سبحانه اضطرارا غير مشوب بكلفة ولا معقود بمشقة. وهذا كقول القائل منا إذا أراد أن يخبر عن شدة تحققه للشئ: أنا أعلم هذا الامر كما أرى هذه الشمس، وقوله من بعد (هامش ص 50) (1) الاصحار: معناه الظهور، قال في القاموس ” وأصحروا برزوا في الصحراء ” والبروز في الصحراء ظهور، لان الصحراء خالية من موانع الرؤية.


[ 51 ]

لا يضامون في رؤيته أو لا يضارون بالتخفيف، والتشديد على الخلاف الذى قدمنا ذكره مقو للتأويل الذى تأولناه من معنى العلم الذى لا شبهة فيه ولا شك يعتريه، والصحيح أن يكون الضمير في قوله: لا تضامون في رؤيته راجعا إلى القمر، لا إلى الله سبحانه كأنه قال: تعلمون ربكم كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته: أي في رؤية القمر. وقد يجوز أيضا أن يكون الضمير راجعا إلى الله سبحانه، ويكون بمعنى العلم كأنه قال: تعلمون ربكم كما ترون القمر، لا تضامون في علمه: أي في علم ربكم (1). 28 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية ظهر وبطن “، وهذا القول مجاز، لانه لا ظهر للآية ولا بطن على الحقيقة، وإنما المراد أن لها فحوى وظاهرا وسرا وباطنا، فالظهر ها هنا بمعنى الظاهر، والبطن بمعنى الباطن، وهذا القول ينصرف إلى الآى المتشابهة دون الآيات المحكمة، لان المتشابهة هي التى لا ظهر لها، والمحكمة هي التى لا بطن لها. (هامش ص 51) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على رأى الشريف استعارة تبعية، حيث شبه العلم القوى الذى لا يعترضه شبه ولا شكوك بالرؤية في الوضوح والتوثيق، واستعار من الرؤية بمعنى العلم القوى ترون بمعنى تعلمون علما قويا على سبيل الاستعارة التبعية.


[ 52 ]

والمتشابهة هي التى يستعمل فيها الفكر، ويتفاضل العلماء في استفتاح مبهمها واستنطاق معجمها (1). 29 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” والخيل معقود بنواصيها الخير “، وهذا القول مجاز لان الخير في الحقيقة ليس يصح أن تعقد به نواصى الخيل، وإنما المراد أن الخير كثيرا ما يدرك بها ويوصل إليه عليها، فهى كالوسائل إلى بلوغه، والارشية إلى قليبه (2) فكأنه معقود بنواصيها لشدة ملازمته لها، وكثرة انتهاز فرصه بها لانهم عليها يدركون الطوائل (3)، ويحبون المغانم، ويفوقون الاعداء، ويبلغون العلياء. ومما يقوى ذلك ما روى من تمام هذا الخبر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” الخيل معقود بنواصيها الخير: الاجر والغنيمة إلى يوم القيامة “، وفي هذا الكلام حث على ارتباط الخيل لما في ذلك من الغنم العاجل والاجر الآجل، فأما (هامش ص 52) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية حيث شبه الآية بالدابة التى لها ظهر وبطن، وإنما قلنا بالدابة لان ظهرها هو المرئى وبطنها هو الخفى، وحذف المشبه به ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الظهر والبطن، وإثبات الظهر والبطن للآية تخييل. (2) الارشية جمع رشاء: وهو الحبل، والقليب: البئر، والحبل هو الذى يربط فيه الدلو ويلقى في البئر فيخرج الماء. (3) الطوائل جمع طائلة: وهى الفضل والغنى والسعة. (*)


[ 53 ]

الغنم فما يدرك بها من الاسلاب والانفال (1)، وأما الاجر فعلى ما يدفع بها من أعداء الاسلام وأشياع الضلال، وكلا الامرين خير تنحوه الطلبات (2)، وتتعلق به الرغبات (3). 30 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في إنائها “، وفي هذا الكلام استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام أراد أن المرأة لا ينبغى لها أن تطلب طلاق أختها لتتصل بالزوج الذى كان لها طلبا لان تجر حظها إليها، وتستبد بالنفع عليها، فتكون كأنها اكتفأت ما في إنائها: أي أمالت الاناء إلى نفسها فقلبته لتستفرغ ما فيه وتستاثر عليها به. يقال: كفأت الاناء إذا كببته، واكتفأته إذا شربت ما فيه أجمع أو أكلت ما فيه أجمع (4). (هامش ص 53) (1) الاسلاب جمع سلب: وهو سلاح المحاربين، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ” من قتل قتيلا فله سلبه ” فله سلاحه، والانفال جمع نفل: وهو الغنيمة ومن ذلك سورة الانفال أي الغنائم. (2) الطلبات جمع طلبة: بكسر اللام وفتح الطاء أي الرغبات. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبه مجئ الخير بواسطة الخيل في أغلب الاحيان وملازمته لها بعقده بنواصيها في قربه منها وملاصقته لها، واستعار العقد بالنواصى للمجئ بسرعة وقرب، واشتق من العقد بمعنى سرعة المجئ والقرب معقود بمعنى قريب وسريع على طريق الاستعارة التبعية. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تمثيلية حيث شبه حالة الاخت التى تعمل على طلاق أختها – > (*)


[ 54 ]

31 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تنكح المرأة لميسمها (1) “، وهذا القول مجاز لانه لا ميسم هناك. ولا يبعد أن يكون هذا الكلام داخلا في حيز الحقيقة، ويكون الميسم مفعلا من الوسامة. يقال: وسمت المرأة وسامة، وإنها ذات ميسم وجمال وهذا القول مجاز، لانه لا ميسم هناك على الحقيقة، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أنها تنكح لاثر الجمال الظاهر عليها، وجعل الجمال ميسما لها مبالغة في وصفه بالعلوق بها والظهور على وجهها كما يشهر أثر الميسم الذى تكوى به الابل فلا يذهب إلا بذهاب الجلد الذى أثر فيه وعلق به. ويقولون في أمثالهم، يبقى بقاء الوسم: إذا وصفوا الامر بالخلود والدوام والبقاء على الايام. 32 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الاسلام يجب ما قبله “، وهذا القول مجاز، لان أصل الجب هو اختزال السنام من أصله، فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل الاسلام مستأصلا (هامش ص 54) (1) من زوجها لتتزوج هي به، بحالة الشخص الذى يقلب الاناء فيفرغ ما فيه ثم ياكله كله أو يشربه كله. فوجه الشبه منتزع من متعدد وهو تشبيه طلب التطليق بمحاولة قلب الاناء ووقوع التطليق بإفراغ الاناء والزواج بزوج الاخت بأكل ما في الاناء كله أو شربه كله. واستعيرت ألفاظ المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التمثيلية. (1) الميسم والوسم: أثر الحسن، وعلى ذلك يكون الكلام حقيقة: أي تنكح المرأة لاثر الحسن فيها، والميسم اسم آلة لوسم الابل والحيوانات وكيها بالنار، فإذا جعلنا الميسم هو هذا كان الكلام استعارة، ويكون في الكلام مضاف محذوف والتقدير لاثر ميسمها فيكون الحسن مشبها بأثر الميسم. (*)


[ 55 ]

لكل ذنب تقدم للانسان قبله حتى لا يدع له جناية يحذر عاقبتها ولا معرة يسوء الحديث عنها بل يعفى على ما تقدم من السوءات، ويحثو على ما ظهر (1) من العورات. 33 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في وصيته لامراء الجيش الذى بعثه إلى مؤتة (2): ” وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف “، وهذه من الاستعارات العجيبة، والمجازات اللطيفة. وذلك أن من كلام العرب أن يقول القائل منهم إذا أراد أن يصف إنسانا بشدة الارتكاس في غيه والارتكاض في عنان بغيه قد فرخ الشيطان في رأسه أو قد عشش الشيطان في قلبه، فذهب عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الوضع وبنى على ذلك الاصل، فقال للشيطان في رؤوسهم مفاحص والمفحص في الاصل الموضع الذى تبحثه القطاة لتجثم عليه أو لتبيض فيه (3). وإنما قيل له مفحص لانها لا تجثم فيه إلا بعد أن تفحص التراب عنه توطئة لمجثمها وتمهيدا لجسمها. ويقال ما بقى لفلان مفحص قطاة إذا (هامش ص 55) (1) يحثو على ما ظهر: أي يغطى عليه كأنه حثا التراب عليه فغطاه. (2) مؤتة: موضع بمشارف الشام، قتل فيه جعفر بن أبى طالب، وكان به غزوة للمسلمين. (3) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ” من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة “. (*)


[ 56 ]

لم يبق له ربع يؤويه ولا جرئ (1) يكون فيه. فيحتمل قوله عليه الصلاة والسلام: للشيطان في رؤوسهم مفاحص أحد معنيين. (أحدهما) أن يكون أراد أن الشيطان قد بدأ يختدعهم، ويغرهم، ويستهويهم ويضلهم، ولم يبلغ بعد من ذلك غايته، ولا استوعب خديعته كالقطاة التى بدأت باتخاذ المفحص لتبيض به وترتب فراخها فيه. (والمعنى الآخر) أن يكون أراد أن الشيطان قد استوطن رؤوسهم. فجعلها له مقيلا، ومبركا، وملعبا ؟ ؟، ومتمعكا (2). كما تتخذ القطاة مفحصا لتأوى إليه وتستجن فيه (3). 34 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أجد نفس بكم من قبل اليمن “، وهذا القول مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام أراد أن غوث الله ونصره يأتيان من قبل اليمن يعنى القبيلة لا البلدة، والقبيلة هم الانصار الذين نفس الله بهم خناق الدين، (هامش ص 56) (1) الجرئ والجريئة: بيت يصطاد الصيادون فيه السباع ويكون في العراء لا أثر فيه لترف ولا يصلح للاقامة. (2) المتمعك: المكان الذى يتمرغ فيه الحيوان ليهرش جلده. (3) والمعنى الاخير أولى بالحمل عليه، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال فاقلعوها بالسيوف، وأثر الفحص لا يقلع وإنما يقلع العش والبيت الذى بنى، إلا إذا جعلنا في اقلعوها مجازا بأن يشبه محو الاثر بقلع البيت. وفي الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه المعلومات الزائفة والعقائد الفاسدة التى بثها الشيطان في عقولهم بعش الطائر المعد لاقامته فيه. (*)


[ 57 ]

وكشف بأيديهم كرب المؤمنين. ومن كلامهم: أنت في نفس من أمرك: أي في متسع طويل ومضطرب عريض. ويقول القائل: اللهم، نفس عنى، أي فرج كربى، واكشف همى. ومما يقوى هذا التأويل الحديثان المرويان عنه عليه الصلاة والسلام في مثل هذا المعنى وأحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن “. يريد أنه تعالى يفرج بها الكروب ويطرد بها الجدوب (1). والحديث الآخر قوله عليه الصلاة والسلام: ” الريح من روح الله “. فقوله عليه الصلاة والسلام من روح الله كقوله: من نفس الرحمن، والمعنيان متقاربان (2). 35 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الحمى رائد الموت، وهى سجن الله في الارض يحبس بها عبده إذا شاء ويرسله إذا شاء “، وفي هذا الكلام استعارتان عجيبتان: (إحداهما) قوله عليه الصلاة والسلام: الحمى رائد الموت. تشبيها لها برائد الحى الذى يتقدمهم فيرتاد لهم مساقط السحاب (هامش ص 57) (1) الجدوب جمع جدب: كقلب وقلوب، والجدب: القحط وقلة الزرع، وذلك لان الريح تحمل السحاب، فإذا صادفت جوا باردا أمطرت فتسقى الارض فينبت الزرع فيأكل الناس والدواب ويشربون ويزول الجدب. (2) فنفس في الحديث اسم وضع موضع المصدر أي أجد تنفيس ربكم وتفريجه من قبل اليمن أي من جهته والمراد بجهة اليمن كما قال الشريف الانصار لانهم في الاصل من اليمن، والمجاز حينئذ في استعمال اليمن في القبيلة فهو مجاز مرسل علاقته المحلية. (*)


[ 58 ]

ومنابت الاعشاب، فيكون ارتحالهم على خبره، واستنامتهم إلى نظره. ومنه الحديث: الرائد لا يكذب أهله ” فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل الحمى مقدمة للموت وطليعة للحتف. (والاستعارة الاخرى) قوله عليه الصلاة والسلام: وهى سجن الله في الارض يحبس بها عبده إذا شاء ويرسله إذا شاء. فكأنه عليه الصلاة والسلام شبهها بالسجن من حيث منعت صاحبها من التصرف والاضطراب وغفلته عن قضاء الآراب (1)، فكان أسيرها حتى تطلقه ورقيقها حيت تعتقه، ومثل ذلك الحديث الآخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ” لانه عليه الصلاة والسلام شبه الدنيا بالسجن للمؤمن من حيث قصر فيها خطوه عن اللذات، وكبح لجامه عن الشهوات، وحصر نفسه عن التسرع إلى ما تدعو إليه الدواعى المخزية، والاهواء المردية. وكان زمام نفسه وخطامها، وهاديها وإمامها، خائفا خوف الجاني المرعوب، والطريد المطلوب، في عصبة عملوا للمعاد، وفطنوا للزاد، تحسبهم من طول سجودهم أمواتا، ومن طول قيامهم نباتا. ومن أحسن ما سمعته في هذا المعنى أن بعض الزهاد المنقطعين طلب القوت من بعض الراغبين المفتونين، فقيل له في ذلك. فقال: (هامش ص 58) (1) الآراب جمع أرب: بفتح الهمزة والراء وهو الغاية والبغية وأصلها أأراب قلبت الهمزة الثانية الساكنة مدة من جنس حركة ما قبلها.


[ 59 ]

أنا مسجون وهو مطلق وهل يأكل المسجون إلا من يد المطلق. وشبهها عليه الصلاة والسلام بالجنة للكافر من حيث استوعب فيها شهواته، واستفرغ لذاته، وقضى فيها الاوطار، وتعجل المسار، واستهواه عاجل حطامها. وريق جمامها (1). فنسى العاقبة واستهان بالمغبة فكان ميت الاحياء كما كان المؤمن حى الاموات. ولى في بعض كتبي فصل هو لائق بهذا الموضع. وذلك قولى: فالحمد لله الذى جعل أهل طاعته أحياء في مماتهم، كما جعل أهل معصيته أمواتا في حياتهم (2). 36 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كيف أنتم إذا مرج الدين ” في حديث طويل. وفي هذا القول مجاز لان أصل (هامش ص 59) (1) الجمام جمع جم: وهو الكثير، والريق: الرائق الشائق الذى يجذب العين ويخلب اللب، أي استهواه كثير مفاتنها، وحسن متاعها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبه الحمى في سبقها الموت بالرائد الذى يسبق قبيلته للبحث عن الكلا أو غيره، وشبه الحمى في حبسها الانسان عن القيام بأعماله بالسجن في حبس جسمه عن الخروج إلى المنطلق في الدنيا، وفيه استعارتان بالكناية حيث شبه الموت بالقبيلة التى ترسل واحدا منها لارتياد المكان وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الرائد وإثبات الرائد للموت تخييل وشبه الله تعالى بالحاكم في الارض الذى له سجن يحبس فيه المخالفين له، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو السجن وإثبات السجن لله تعالى تخييل.


[ 60 ]

قولهم مرج الشئ (1) مأخوذ من القلق والاضطراب، والمجئ والذهاب. يقال: مرج الخاتم في الاصبع إذا قلق وتحرك، فكأنه عليه الصلاة والسلام وصف دين الناس على ذلك العهد بالتكفى (2) والمرجان (3)، واضطراب الاركان. والمراد بذلك اضطراب أهل الدين فيه، وقلة ثباتهم عليه. قال الشاعر: مرج الدين فأعددت له * مشرف الحارك (4) محبوك الكبد (5) (هامش ص 60) (1) مرج من باب فرح، فسد وقلق واضطرب واختلط. قال في القاموس: ” المرج محركة الابل ترعى بلا راع للواحد والجميع، والفساد والقلق والاضطراب والاختلاط ” اه‍. فالمعنى يدور على الخلل وعدما الانتظام، ومن ذلك قوله تعالى: ” فهم في أمر مريج ” أي مختلط مضطرب. (2) كفأ فلانا: كبه على وجهه، وتكفأ تعثر في مشيته حيت ليكاد ينكفئ على وجهه، والتكفى تفعل من كفأ، وأصله التكفؤ فسهلت همزته فصار التكفو، فوقعت الواو آخر الكلمة فقلبت ياء ثم كسرت الفاء لمناسبة الياء. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف دين الناس في هذا العهد بالانقلاب على وجهه، كما قال تعالى: ” وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه “. (3) المرجان: فعلان من المرج الذى سبق بيانه. (4) الحارك: منبت أدنى عرف الفرس إلى ظهره وهو الذى يمسك به من يركبه بدون سرج. (5) الحبك: الشد والاحكام، والمراد بالكبد القلب. والمعنى أعددت لمرج الدين واضطرابه فرسا مشرف منبت العرف أي عاليه، قوى القلب يقدر على الجرى السريع مع استطاعتي التملك منه بالقبض على شعر عرفه الذى يسهل القبض عليه العلو منبته. والمعنى أنه أعد هذا الفرس ليهرب عليه أو ليحارب عليه المارجين.


[ 61 ]

ومثل هذا الحديث الحديث الآخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو: ” كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم “: أي لا يستقرون على عهد، ولا يقيمون على عقد، يصفهم عليه الصلاة والسلام بقلة الثبات، وكثرة الانتقالات. والمراد أصحاب الامانات والعهود، وإن كان ظاهر اللفظ يتناولها وصريح الكلام يتعلق بها. وذلك أيضا من جملة المجازات المقصود بيانها في هذا الكتاب. والحثالة: الردئ من كل شئ. وأصله ما يتهافت من قشارة التمر والشعير. يقال: حثالة وجفالة وحفالة وجثالة (1). فشبه عليه الصلاة والسلام بذلك الرذال (2) الباقين من الخيار الذاهبين. وهذا أيضا داخل في باب للجاز (3). 37 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد خرج ذات (هامش ص 61) (1) الجفالة: القشارة، جفله: قشره، والجثالة: ما تناثر من ورق الشجر، والحفالة: هي الحثالة، وقد سبق بيانها، وهذه الالفاظ كلها تدور على معنى النفاية والردئ. (2) الرذال: الدون الخسيس والردئ من كل شئ. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه فساد أمر الدين وعدم ثباته في نفوس الناس باضطراب الخاتم في اليد، أو باضطراب الانسان وقلقه وذهابه ومجيئه بجامع عدم النبات في كل من المشبه والمشبه به، ثم اشتق من اللفظ الدال على المشبه به وهو المرج بمعنى الاضطراب مرج بمعنى فسد ولم يثبت على طريق الاستعارة التبعية.


[ 62 ]

يوم محتضنا أحد ابنيه الحسن أو الحسين عليهما السلام: ” لتجبنون وتبخلون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها الله بوج “. في كلام طويل، وفي هذا الكلام مجازان: (أحدهما) قوله عليه الصلاة والسلام ” وإنكم لمن ريحان الله “. وللريحان ها هنا وجهان: أحدهما يكون الكلام به استعارة، والآخر يكون به حقيقة. فأما الوجه الذى يكون به حقيقة، فهو أن يكون الريحان بمعنى الرزق. وقد قيل إنه الرزق الذى يؤكل خصوصا. ومن كلامهم: خرجنا نطلب ريحان الله: أي رزق الله، والولد من رزق الله سبحانه، فصار الكلام حقيقة. وأما الوجه الذى يكون به استعارة، فهو أن يكون الريحان هاهنا يريد به النبت المخصوص الذى يستطاب للشميم، فجعل الولد بمنزلته لانه يستلذ شم ريحه ويستروح إلى استنشاق عرفه. وعادة الناس معروفة في شم الولد وضمه. وأصل الريحان مأخوذ من الشئ الذى يستروح إليه ويتنفس من الكرب به. وعلى ذلك قول الشاعر: سلام الاله وريحانه * ورحمته وسماء درر (1) وأصله من الواو كأنه مأخوذ من الروح. (والمجاز الآخر) قوله عليه الصلاة والسلام: ” وإن آخر (هامش ص 62) (1) درر: أي ممطرة.


[ 63 ]

وطأة وطئها الله بوج “، وأصح ما قاله العلماء في تأويل هذا الخبر أن فيه مضافا محذوفا تقديره أن يكون، وإن آخر وطأة وطئها جند الله أو رسول الله بوج، ووج جبل بالطائف. وهذا كما تقوله في قوله تعالى: ” والذين يؤذون الله ورسوله “. أي يؤذون أولياء الله وأصفياء الله، لان حقيقة الاذى لا يصح على الله سبحانه، والمراد بذكر الوطأة بوج أن آخر إيقاع الله سبحانه بالمشركين على أيدى المؤمنين بوج، ولذلك قال سفيان بن عيينة: آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله، الطائف. يريد أنه لم يغز بعدها غزاة فيها قتال، لان مخرجه عليه الصلاة والسلام إلى تبوك من بعد لم يلق فيه كيدا ولم يقابل أحدا. والعرب تكنى عن الوقيعة أو الحال الشديدة بالوطأة يقولون: وطئ آل فلان آل فلان في يوم كذا وفي مكان كذا وطئا شديدا. ومنه ما حكى عن أبى سفيان بن حرب أنه خرج يوما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظاهر المدينة، فلما نظر إلى أحد قال: لقد وطئنا محمدا وأصحابه ها هنا وطئا شديدا. ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ” اللهم اشدد وطأتك على مضر “. أي أصبهم بالشدائد واقرعهم بالقوارع، ومنه قول الشاعر.


[ 64 ]

ووطئتنا وطئا على حنق (1) * وطأ المقيد نابت الهرم (2) وإنما قال المقيد لان وطأه أشد واعتماده أثقل. وقال الآخر: * وطئنا تميما وطأة المتشاغل * وقوله عليه الصلاة والسلام في أول الحديث: ” إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون “، يريد به أنكم لتجبن الناس آباءكم وتبخلهم وتجهلهم (3). فأضاف هذه الاحوال إلى الابناء إذ كانوا شبها للآباء وهذا أيضا مجاز ثالث في الخبر الذى كلامنا عليه (4). 38 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لو يعلمون ما يكون في هذه الامة من الجوع الاغبر، ومن الموت الاحمر “. (هامش ص 64) (1) الحنق: الغيظ أو شدته، والمغيظ إذا وطئ من أحنقه يكون وطؤه شديدا جدا. (2) الهرم: يابس الحطب، وإذا وطئه المقيد ووطئه شديد هشمه هشما. (3) هذا التفسير يناسبه ضبط الافعال بالبناء للمفعول لا للفاعل، والاصل: ليجبنكم الناس وينخلونكم ويجهلونكم، فلما حذف الفاعل وهو الناس استند الفعل إلى المفعول به، والناس لا يجبنون الاولاد وإنما يجبنون آباءهم لانهم لخوفهم عليهم يبتعدون عن الحرب ويحرصون على المال، ويقضون أوقاتهم في طلب الرزق، فلا يسعون إلى العلم، وقوله إذ كانوا شبها للآباء، فيه حذف وتحريف، والاصل إذ كانوا سببا لجبن الآباء، وقد ورد الحديث بالروايتين. (4) هذا المجاز الثالث، مجاز عقلي حيث أسند الفعل إلى سببه وهو الابناء، لان الضمائر التى هي واوات الجماعة في الافعال الثلاثة عائدة إلى الابناء، والابناء لا ينسبون للجبن وإنما ينسب آباؤهم إليه بسببهم، أما على ضبط الافعال بالبناء للفاعل فالكلام حقيقة لا مجاز فيه، لان الابناء يجبنون آباءهم ويجهلونهم، فالابناء هم المسند إليهم في الحقيقة ونفس الامر.


[ 65 ]

وهاتان الاستعارتان من أحسن الاستعارات، لان الجوع أبدا إنما كان يلحق العرب في اللاواء (1) والازمات والسنين المجدبات، وتلك السنون تسمى غبرا لا غبرار آقاقها من قلة الامطار، وأراضيها من عدم النبات والاعشاب، ويقولون: هذه حجج (2) غبر إذا كانت كذلك، ألا ترى إلى قول الشاعر: أغريبارى الريح في كل شتوة * إذا اغبر أقدام الرجال من المحل وقيل عام الرمادة (3) لهذا المعنى على أحد القولين، والقول الآخر: أنه إنما سمى بذلك لهلاك الناس فيه مأخوذ من الرمد وهو الهلاك، قال الشاعر: صببت عليهم حاصبى فتركتهم * كأضرام (4) عاد حين جللها الرمد أي الهلاك. والاستعارة الاخرى قوله عليه الصلاة والسلام: والموت الاحمر، وهذه طريقة للعرب في وصف اليوم العماس (5)، واشتداد البأس (هامش ص 65) (1) اللاواء: الشدة. (2) الحجج: السنين. ومن ذلك قوله تعالى ” على أن تأجرني ثمانى حجج “. (3) رمدت الغنم ترمد: من باب ضرب هلكت ببرد أو صقيع ومنه عام الرمادة الذي هلك فيه الناس والاموال من الجدب وقلة الغذاء، وكان ذلك في أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه. (4) ضرم كفرح: اشتد جوعه، والضرم بوزن كتف: الجائع، فالاضرام هنا جمع ضرم، أي كجياع عاد. (5) العماس: المظلم الشديد.


[ 66 ]

بالحمرة. فكما يقولون: يوم أحمر، كذلك يقولون: موت أحمر. قال الشاعر في صفة الاسد: أذا علقت أظفاره في فريسة * رأى الموت في عينيه أحمر أسودا وقد يجوز أن يكونوا إنما وصفوا يوم الحرب بالحمرة لا حمرار أرضه وسلاحه بأسابى النجيع (1)، والعلق (2) الصبيب لكثرة الجراح التى يحمر من نضحها معارف (3) الابدان، وسرابيل الاقران، وإذا ساغ هذا في صفة اليوم ساغ مثله في صفة الموت. 39 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لازواجه: ” أسرعكن لحاقا بى أطولكن يدا (4) “، والحديث أنهن لما سمعن منه صلى الله عليه وعلى آله هذا القول جعلن يتذارعن (5) ينظرن أيهن أطول يدا إلى أن توفيت زينب بنت جحش بن رباب (هامش ص 66) (1) النجيع من الدم: ما كان مائلا إلى السواد لشدة حمرته، وأساببه طرائقه والاسابى جمع إسباءة فأصل أسابى أسابئ فقلبت الهمزة باء وأدغمت في الياء. (2) العلق: الدم مطلقا أو الشديد الحمرة أو الغليظ، والصبيب الدم، والمراد الدم الاحمر الشديد الحمرة حتى يكون مناسبا للموت الاحمر. (3) المعارف: الوجوه، والسرابيل: الجلود. (4) المراد أسرعهن لحاقا به في الموت، أي أول من تموت منهن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هي أسرعهن لحاقا به. (5) يتذارعن: أي يقسن أذرعهن ليرين أي الايدى أطول، وفي البخاري: فأخذن قصبة (قطعة من البوص) يقسن بها أيديهن. والمعنى أن نساءه صلى الله عليه وسلم فهمن من طول اليد الطول الحسى لا الطول المعنوي، وهو الكرم وبذل المعروف.


[ 67 ]

الاسدي أول من توفى منهن، وكانت كثيرة المعروف، فعلمن حينئذ أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بطول اليد كثرة البر وبذل الوفر، وكنايته عليه الصلاة والسلام عن هذا المعنى بطول اليد مجاز وأتساع، لان الاغلب أن يكون ما يعطيه الانسان غيره من الرفد والبر أن يعطيه ذلك بيده فسمى النيل (1) باسم اليد، إذ كان في الاكثر إنما يكون مدفوعا بها ومجتازا عليها. وقد أشرنا إلى هذا المعنى فيما تقدم. ومثل ذلك قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة، ومعنى هذا القول أن من يبذل خير الدنيا يجزه الله خير الآخرة، وكنى عليه السلام عما يبذل من نفع الدنيا باليد القصيرة لقلته في جنب نفع الآخرة، لان ذلك زائل ماض وهذا مقيم باق. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة، وقد جمعوا اليد التى هي الجارحة على أيد وأياد، وهو شاذ فيها كما جمعوا اليد التى هي العطية على أياد وأيد وهو شاذ فيها (2)، وقد جاء أيضا في جمعها يدى (3). أنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنى، (هامش ص 67) (1) النيل: العطاء. (2) يريد أن أياد شاذ في جمع الجارحة، وأيد شاذ في جمع العطية. (3) يدى على وزن فعول وأصلها يدوى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الدال لمناسبة الياء، وقد خص الشريف ” يدى ” بالعطية، ولكنها وردت في جمع الجارحة أيضا.


[ 68 ]

وأبو الحسن على بن عيسى الربعي، وأظنه من أبيات الكتاب (1): ولن أذكر النعمان إلا بصالح * فإن له عندي يديا وأنعما (2) 40 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ” مات حتف أنفه “. وذلك مجاز لانه جعل الحتف لانفه خاصا وهو في الحقيقة له عاما. لان الميت على فراشه من غير أن يعجله القتل إنما يتنفس شيئا فشيئا حتى ينقضى ذماؤه (3) وتفنى حوباؤه (4)، فخص عليه الصلاة والسلام الانف بذلك لانه جهة لخروج النفس وحلول الموت. ولا يكاد يقال ذلك في سائر الميتات حتى تكون الميتة ذات مهلة. وتكون النفس غير معجلة، فلا يستعمل ذلك في الميتة بالغرق والهدم وجميع فجأة الموت، وإنما يستعمل في العلة المطاولة، والميتة المماطلة. وروى عن أمير المؤمنين على عليه السلام أنه قال: ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله، وسمعته (هامش ص 68) (1) إذا أطلق الكتاب: انصرف إلى كتاب سيبويه. (2) ما في الحديث من البلاغة: قال الشريف: إن فيه كناية، كنى بطول اليد عن كثرة العطاء، لان كثرة العطاء تستلزم كثرة مد اليد وكثرة مد اليد تستلزم طولها لانها في أكثر أحيانها ممدودة، وأيادى بقية نسائه صلى الله عليه وسلم غير ممدودة، فتكون يد المعطية أطول من أيدى غيرها، وهو طول نسبي. (3) الذماء: بقية الروح. (4) الحوباء: النفس.


[ 69 ]

يقول: مات حتف أنفه. وما سمعتها من عربي قبله (1). 41 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إياكم وخضراء الدمن “، ولهذا القول تملق بباب المجاز. وللعلماء في تأويله قولان: أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن، وهى في المنبت السوء أو في البيت السوء. فوجه المجاز من هذا القول أنه عليه الصلاة والسلام شبه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها، وشبه منبتها السوء بالدمنة لقباحة باطنها، والدمنة: هي الابعار المجتمعة تركبها السوافى ويعلوها الهابى (2). فإذا أصابها المطر أنبتت نباتا خضرا يروق منظره ويسوء مخبره، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة (3) في نفسها، أو مطعونا عليها في نسبها، لان أعراق السوء تنزع إلى ولدها وتضرب في نسلها. قال الشاعر: (هامش ص 69) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته المحلية، لان النفس تخرج من الانف وهى التى تهلك لا الانف. (2) السوافى: جمع سافية، وهى الريح تثير التراب، والهابى: تراب القبر، والتراب الذى يهب مع الريح، والمراد هنا الاخير. (3) الغامض: الخامل الذليل والحسب الغير المعروف، والمراد بالمرأة المغموضة الخاملة الذليلة التى لا يعرف حسبها.


[ 70 ]

وأدركنه خالاته فخذلنه * ألا إن عرق السوء لابد مدرك والقول الآخر أن يكون عليه الصلاة والسلام، إنما نهى في الحقيقة عن تعارض النفاق وتغاير الاخلاق، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل، وينطوى على الباطن الذميم، وأن يخدعه بحلاوة اللسان، ومن خلفها مرارة الجنان. وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله: وقد ينبت المرعى على دمن (1) الثرى * وتبقى حزازات النفوس كما هيا كأنه أراد إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر، فإنا نضمر لكم على باطن الغش والغمر (2)، ومثل هذا قول الآخر: وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغن * كما طر (3) أوبار الجراب (4) على النشر وقال أهل العربية: النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العر (هامش ص 70) (1) الدمن: جمع دمنة، وهى بقية الدار التى تكون محلا للقذارة، وماوى للحشرات. (2) الغمر: الحقد. (3) طر: نبت، يقال طر شاربه، أي نبت شاربه، والمراد هنا كما ينبت وبر الجمال على الجرب. (4) الجراب: جمع جرب، كفرح، أو جريان ؟ أو أجرب، وهو الجمل المريض بالجرب.


[ 71 ]

وهو الجرب، فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم (1). 42 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الانصار كرشى وعيبتى “، وفي هذا القول مجازان: (أحدهما) قوله عليه الصلاة والسلام: كرشى. ويحتمل ذلك معنيين: (أحدهما) أن يكون أراد عليه الصلاة والسلام أنهم مادتي التى أقوى بها، وأفزع إليها كما تفزع ذوات الاجترار إلى أكراشها في انتزاع لجرة منها، والاعتماد عند فقد المرعى عليها. فأراد عليه الصلاة والسلام أن الانصار رحمة الله عليهم يمدونه بأنفسهم، ويكون معوله في السراء والضراء عليهم. و (المعنى الآخر) أن يكون المراد أن الانصار أهلى وعيالي وحامتى (2) وجماعتي، والكرش اسم للجماعة. قال الشاعر: وسبينا بنات قيصر قسرا * واستبحنا كركرا (3) وكروشا أي جماعات. وقال أبو زيد: الكرش اسم من أسماء الاصل كالسنخ والجذم، وما في معناهما، ويقول القائل لفلان: كرش (هامش ص 71) (1) ما في الحديث من البلاغة: في استعمال خضراء الدمن في المرأة السيئة استعارة تصريحية، حيث شبه المرأة السيئة الحسب أو النسب الجميلة المنظر، بالنبات الاخضر في المنبت السوء، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية. (2) الحامة: خاصة الرجل من أهله وولده. (3) الكراكر: الجماعات من الناس. (*)


[ 72 ]

منثورة إذا أراد أنه ذو كثرة من العيال وعدد من الاولاد، ومعنى منثورة أنهم متفرقون متشعبون لان الكرش مجتمعة، وهؤلاء مع شبههم بها كالشعب المتفرقة. وإنما شبه العيال وألاولاد بالكرش لانها في الانعام مستقر لاعلافها، ومغيض لما يصل إلى أجوافها، وكذلك عيال الرجل وولده إليهم تنصرف مكاسبه، وعليهم تنفق خزائنه. (والمجاز الآخر) قوله عليه الصلاة والسلام: وعيبتى (1)، وأراد أنهم موضع ثقتى ومستودع نفثتى، ومكان سرى ولجأ (2) ظهرى، كالعيبة التى يودعها الانسان نفائس ذخره (3)، وكرائم وفره، ويكون ما استودعها قوة لظهره، وعدة لدهره. وقد ذكر الواقدي في كتاب المغازى هذا الكلام في جملة خطبة النبي التى خطب بها قبل وفاته بزيادة في ألفاظه. فقال: قال صلى الله عليه وآله: ” ألا إن الانصار عيبتي التى آوى إليها ونعلي التى أطأ بها وكرشى التى آكل فيها “. وهاهنا زيادة مجاز لم تكن هناك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ونعلي التى أطأ بها. ولهذا القول وجهان: (هامش ص 72) (1) عيبة الرجل: موضع سره. (2) اللجأ: الملجأ والمسند. (3) هذا تفسير آخر للعيبة، لان العيبة تكون بمعنى الحقيبة التى توضع فيها الثياب، وما يحتاج الانسان إلى حفظه من أمتعته. (*)


[ 73 ]

(أحدهما) أن يكون شبههم بالنعل ؟ ؟ التى تقى القدم نكت الظراب (1)، ووخز الشباك (2)، وما في معنى ذلك. فأراد أنهم تقوية ضد الاعداء واشتداد اللاواء. (والوجه الآخر) أن يكون أراد أنهم جنوده التى يطأ بها البلاد، ويغلب الاضداد. وتقول العرب: داس آل فلان آل فلان، ووطئ بنو فلان بنى فلان إذا كانوا الغالبين لهم والعالين عليهم. ومن ذلك ما حكى عن أبى سفيان بن حرب أنه قال وقد مر بأحد: لقد دسنا هاهنا محمدا وأصحابه دوسة منكرة، ويروى وطئنا (3). 43 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ” لحكيم بن حزام بن خويلد بعد إسلامه وقد ألحف في سؤاله صلى الله عليه وآله (هامش ص 73) (1) النكت: أن تضرب في الارض بقضيب فيؤثر فيها، والظراب جمع ظرب ككتف: وهو ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، والمراد أن النعل تقى القدم تأثير الحجارة فيها. (2) الشباك: نوع من البوص إذا وضعت عليه القدم بدون نعل جرحها. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تصريحيتان: الاولى في ” كرشى ” حيث شبه الانصار في الاعتماد عليهم عند الحاجة بالكرش في اختزان الطعام وإجتراره منه عند الحاجة إلى ذلك، والثانية في ” عيبتي ” حيث شبه الانصار في الاعتماد عليهم وقت الشدة بالحقيبة التى يحفظ فيها الانسان متاعه ونفائسه، فإذا احتاج إليها أخرجها لينتفع بها واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية. (*)


[ 74 ]

لما قسم غنائم هوازن: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة (1) نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف (2) نفس لم يبارك له فيه “. في كلام أكثر من هذا، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” إن هذا المال خضرة حلوة ” مجاز لانه شبه حلاوة المال في القلوب بحلاوة الثمرة الطيبة في الافواه، فكما أن هذه الثمرة الحلوة تشرف النفس إليها ويكثر التتبع لها، فكذلك الاموال الدثرة (3) تلهج النفس لها ويكثر النزوع إليها. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ” خضرة حلوة ” سر لطيف. وهو أنه شبه المال بالثمرة التى حسن منظرها وطاب مخبرها، وليس كل ثمرة مأكولة كذلك صفتها لان في النابتات والثمرات ما يحسن ظاهره ويقبح باطنه، ومنها ما تقبح ظواهره وتحسن مخابره. فجعل عليه الصلاة والسلام المال من قسم النابتات التى تروق في العيون وتحلو في الافواه والقلوب، والمال على الحقيقة بهذه الصفة لان العيون تعلقه (4)، والقلوب تمقه (5). ومما يشبه ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ” من خضر له في شئ لزمه (6) ” والمراد من اعتاد الانتفاع بشئ علق به وتوكل (هامش ص 74) (1) سخاوة النفس: عدم حرصها على المال واقتناته. (2) إشراف النفس: تطلعها إلى المال وحرصها على تملكه. (3) الدثرة: الكثيرة قال في القاموس: الدثر: المال الكثير مال ومالان وأموال دثر. (4) تعلقه: تتطلع إليه. (5) تمقه: تحبه. (6) معنى الحديث أن من وجد حلاوة الرزق في نوع من أنواع العمل أو التجارة لازم العمل فيه، فشبه حلاوة الرزق بالخضرة. (*)


[ 75 ]

عليسه. فكأنه شبه تلويح الامر بنفعه، وإبدائه بالخير المرجو من جهته بالخضرة الطالعة إذا أذنت بالثمرة اليانعة (1). 44 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الصدقة (2) عن ظهر غنى (3) “، وهذا القول مجاز. لان المراد بذلك أن المتصدق إنما يجب عليه الصدقة إذا كانت له قوة من غنى والظهر هاهنا عبارة عن القوة، فكأن المال للغنى بمنزلة الظهر الذى عليه اعتماده، وإليه سناده. ومن ذلك قولهم: فلان ظهر لفلان إذا كان يتقوى به ويلجأ في الحوادث إليه، وقد جاء في السير: أن المسلمين كانوا عند حفر الخندق بالمدينة يرتجزون بجعيل بن سراقة الضمرى (4) ويقولون: سماه من بعد جعيل عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول معهم: عمرا وظهرا ولا يقول باقى الشعر. وكان جعيل بن سراقة يعمل معهم ويقول (هامش ص 75) (1) ما في الحديث من البلاغة. في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه المال بالفاكهة أو النبات الاخضر الحلو الذي يرون منظره ويحلو في الفم بجامع النقع الكثير للمال في الظاهر والباطن والسر والعلن، واستعمل لفظ المشبه به وهو خضرة حلوة في ” المال ” على طريق الاستعارة التصريحية. (3) هذا جواب عن سؤال سأله أحد الناس للنبى صلى الله عليه وسلم قال: (أي الاعمال أفضل) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الصدقة عن ظهر غنى (4) الضمرى بفتح الضاد نسبة إلى قبيلة بنى ضمرة.


[ 76 ]

مثل قولهم ويضحك إليهم، فعلموا أنه لا يسوؤه ارتجازهم به. وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد سماه عمرا، واسمه الاظهر جعيل. ويقال جعال. وكان رجلا صالحا من قدماء المهاجرين ومن البدريين والذين شهدوا المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وآله. وكان له مع ذلك اختصاص بخدمته وملازمة لمعزله (1). وكان من فقراء الصحابة لما قسم النبي صلى الله عليه وآله، غنائم حنين، لم يعط الانصار منها شيئا ولا كثيرا من المهاجرين وفرقها في قريش والمؤلفة قلوبهم ليثبتوا على الاسلام ويؤمن منهم الفساد، وكان جعيل بن سراقة ممن حرم العطية فكلم سعد بن أبى وقاص النبي عليه الصلاة والسلام في شأنه وقال: يا رسول الله تحرم جعيلا مع ما تعلمه من خلته (2)، ومع ما له من حرمته، وتعطى عيينة بن حصن والاقرع ابن حابس (3) وفلانا وفلانا. فقال عليه الصلاة والسلام: ” أما والذى نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع (4) الارض مثل عيينة والاقرع، ولكني تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه “. (1) المعزل: مكان العزلة والانفراد، أي أن جعيلا هذا كان يلازم النبي في عزلته وانفراده عن الناس ليخدمه. (2) الخلة بفتح الخاء: الفاقة والاحتياج. (3) عيبنه بن حصن والاقرع بن حابس من شجعان العرب وزعمائهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتألف قلوبهما هما وغيرهما حتى يثبتوا على الاسلام. (4) أي من ملء الارض مثل عيينة. (*)


[ 77 ]

ومما في هذا المعنى أيضا قول القائل: أعطيت فلانا كذا عن ظهر يد أي عن امتناع وقوة ولم أعطه عن خيفة وذلة. هذا المعنى ضد قوله سبحانه حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فكأن خلع لفظ الظهر من الكلام غير المعنى. والمراد بذلك هاهنا على الاظهر من التأويلات التى ذكرناها في كتاب مجازات القرآن أن يكون حتى يعطوا الجزية عن قهر وذلة وخيفة ورقبة. فهو نقيض قول القائل: أعطيته عن ظهر يد أي عن اختيار ومشيئة واستظهار قوة (1). 45 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اللهم إنى أحمدك على العرق الساكن (2) والليل النائم (3) “، ووصف الليل (هامش ص 77) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الغنى في القوة بالظهر الذى يركبه الانسان فيمنعه المعاطب ويتجو ؟ ؟ عليه من المخاوف، وهو من إضافة المشبه به إلى المشبه على حد قولهم: ذهب الاصيل ولجين الماء، أي الاصيل الذي كالذهب والماء الذي كاللجين وهنا الغنى الذي كالظهر فحذفت الاداة ووجه الشبه وأضيف المشبه به للمشبه. (2) المراد بالعرق الساكن: الطمأنينة وعدم الازعاج، لان العروق يكون جريان الدم فيها طبيعيا ؟ إذا كان القلب طبيعيا، والقلب يتأثر نبضه ودفعه الدم في العروق، بالخوف وبالحزن، وبالخجل وبالالم، وبالمرض. وعلى العموم يتأثر بتأثر حواس الانسان فإذا لم يحدث للانسان إزعاج فعرقه ساكن، أما إذا أزعج أو تأثر فإن القلب يدفع الدم بشدة في العروق فيظهر أثر ذلك في العروق بالارتفاع والانخفاض، فلا يكون ساكتا في نظر من يراه. (3) أي النائم صاحبه لان الليل لا ينام وإنما ينام فيه الانسان، وحمد الرسول صلى الله عليه وسلم ربه على نوم الليل لانه لا ينام إلا خالي البال الهادئ المطمئن غير المنزعج وغير المتألم. (*)


[ 78 ]

بالنوم مجاز، لان النوم إنما يكون فيه لا منه، ولكنه لما كان مطية للنوم وظرفا له حسن أن يوصف به ويضاف إليه، وعلى هذا قول جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطى بنائم (1) 46 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من أكل من هاتين البقلتين (2) فلا يقربن مسجدنا فمن كان آكلهما لابد فليمتهما (3) طبخا ” وهذا القول مجاز لان الاماتة على الحقيقة لا تلحق إلا ذا حياة، وإنما المراد فليستخرج ما فيهما من القوة التى عنها (هامش ص 78) (1) أي وما المطى بنائمة في الليل، فجعل سهر المطى سهرا لليل وهذا ضد ما في الحديث لان الذي في الحديث ليل نائم والذى في البيت ليل غير نائم. وفي الحديث من البلاغة كناية ومجاز عقلي. أما الكناية فقوله عليه الصلاة والسلام العرق الساكن يريد به الطمأنينة، لان سكون العرق يلزم منه عدم الانزعاج والالم. ولم يرد سكون العرق فقط بل أراد لازمه وهو هدوء البال وطمأنينة العيش. وأما المجاز العقلي ففى إسناد اسم الفاعل الذى هو نائم إلى الليل، لان في النائم ضميرا يعود على الليل، والليل ليس بنائم وإنما هو ظرف لنوم الانسان فهو من إسناد ما في معنى الفعل إلى ظرفه وزمانه. وفي الليل النائم كناية أيضا عن خلو البال وراحة الضمير، لان الانسان لا ينام الليل إلا إذا كان خالي البال مستريح الضمير غير متألم ولا مريض. (2) البقلتان: هما الثوم والبصل، وقد ورد التصريح بهما في رواية أخرى وهى (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا) وأوشك من الراوى. (3) أي فمن كان لابد له من أكلهما. (*)


[ 79 ]

تكون شدة الرائحة المكروهة، بالطبخ تشبيها بالميت الذي لا يبلغ إلى مفارقة الحياة إلا بعد بلوغ قوته منقطعها وتفريق الموت مجتمعها. وفي رواية أخرى فليمثهما (1) طبخا بالثاء، أي فليطبخهما حتى تتفتتا فتنماثا ؟ ؟ (2). 47 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المؤمن مرآة أخيه “، وفي رواية أخرى: ” مرآة أخيه المؤمن يرى فيه حسنه وقبحه ” وهذا القول مجاز واستعارة. والمراد أن المؤمن الناصح لاخيه المؤمن يبصره مواقع رشده، ويطلعه على خفايا عيبه. فيكون كالمرآة له ينظر فيها محاسنه: فيستحسنها ويزداد منها، ويرى مساويه فيستقبحها وينصرف عنها (3). (هامش ص 79) (1) ماث الشئ موثا وموثانا بفتح الواو في الاخيرة خلطه، والمراد من أراد أكل البقلتين فليخلطهما بشئ زكى الرائحة حتى يغير رائحتهما ولا تظهر الرائحة الكريهة فتؤذى الناس، وهذا المعنى غير الذى ذكره الشريف. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في ” فليمتهما ” حيث شبه إزالة رائحة البقلتين القوية بإذهاب الحياة من الانسان بجامع انعدام التأثير في كل واستعار الاماتة لازالة الرائحة واشتق من الاماتة بمعنى إزالة الرائحة يميت بمعنى يزيل الرائحة على طريق الاستعارة التبعية. (3) ما في الحديث من البلاغة. في الحديث تشبيه بليغ حيث شبه المؤمن بالنسبه لاخيه المؤمن بالمرآة من حيث انطباع الصورة فيهما فكما إن المرآة تطبع فيها الصورة فكذلك المؤمن برى في أخيه أثر أفعاله أن كانت حسنة أو قبيحة، فينصحه إذا أساء ويمدحه إذا أحسن، فيكون كالمرآة التى تظهر الصور الحسنة والقبيحة. وأصل الكلام: المؤمن كالمرآة لاخيه المؤمن في ظهور صور الافعال، فحذفت الاداة ووجه الشبه. (*)


[ 80 ]

48 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع “، وهذا القول مجاز لان اليمين الفاجرة على الحقيقة لا تخرب الديار ولا تعفى الآثار، وإنما المراد أن الله سبحانه إذا أقدم الحالف على اليمين الفاجرة استهانة بها واستغرارا بالعقوبة، المرصدة عليها قطع تعالى دابره وأخرب منازله ورداه رداء خزيه وقنعه قناع بغيه (1). 49 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث يختص بصلاة الجمعة: ” تصلى في حلاقيم البلاد “، وهذا الكلام مجاز، وحلاقيم البلاد عبارة عن نواحيها وأطرافها والمداخل إليها فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه تلك الاطراف المفضية إلى الاوساط بالحلاقيم التى هي الطرق إلى الاحشاء والاجواف (2). بسم الله الرحمن الرحيم 50 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إنى ممسك (هامش ص 80) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز عقلي حيث أسند تدع إلى اليمين الفاجرة، مع أن الفعل لله تعالى، وإنما هي سبب لخراب الديار فأسند الفعل إلى سببه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبهت مداخل البلاد بحلاقيم الانسان لان الحلقوم مدخل إلى الجوف، ومداخل البلاد سبيل إلى أوساطها، واستعمل لفظ المشبه به وهو الحلاقيم في المشبه، وهو مداخل البلاد على طريق الاستعارة التصريحية. (*)


[ 81 ]

بحجزكم (1) هلموا (2) عن النار وتغلبونني تقاحمون (3) فيها تقاحم الفراش (4) والجنادب وأوشك أن أرسل حجزكم (5) “، وفي هذا الكلام مجاز وتوسع. ذلك أن المراد به أنه عليه الصلاة والسلام يبالغ في زجر أمته عن التقحم في المعاصي والارتكاس في المضال والمغاوى بشكائم (6) المنع وخزائم (7) الردع. فشبه ذلك عليه الصلاة والسلام بإمساك الرجل بحجزة صاحبه إذا كاد أن يسقط في مهواة، أو يرتكس في مقواة ؟ ؟: ليتماسك بإمساكه، وينجو بعد إشفاقه. فلما شبه إحدى الحالتين بالاخرى أجرى عليها الاسم على سبيل المجاز (هامش ص 81) (1) الحجز: جمع حجزة وهى معقد الازار وهو الثوب الذي يغطى مابين السرة والركبة، وكان العرب يلبسون الازار والرداء فوقة وهو ما يغطى الكتفين إلى السرة، والحجزة من السراويل موضع التكة، والمراد بالاخذ بالحجز الشد والجذب منها، لانها أمكن في الشد والجذب. (2) هلم: معناها أقبل. والمعنى هنا أقبلوا إلى بعيدا عن النار أو ضمن هلموا معنى ابتعدوا وهنا حذف تقديره أقول لكم أو قائلا هلموا. (3) قال في القاموس: قحم في الامر كنصر رمى بنفسه فيه فجأة بلا رويه، وتقاحمون تتغالبون وتتدافعون في رمى أنفسكم في النار. (4) الفراش جمع فراشة: وهى الحيوان الضعيف الذى يتهافت على السراج وضوء المصابيح، والجنادب: الجراد. (5) أي أكاد أهم بعدم جذبكم ومنعكم فأترك المكان الذى أجذبكم منه فتهوون في النار. (6) الشكائم جمع شكيمة وهى الحديدة التى في اللجام تكون في فم الفرس فإذا جذب الراكب اللجام نحوه ضغطت الحديدة على فم الفرس فيمتنع عن المشى. (7) الخزائم جمع خزامة: ككتابة، وهى خطام البعير في أنفه حتى يمتنع عن المشى إذا جذبه راكبه نحوه. (*)


[ 82 ]

وطريق الانساع. وحسن أن يقول عليه الصلاة والسلام: إننى آخذ بحجزكم عن النار، ومراده عن الاعمال المؤدية إلى دخول النار، لان السبب للشئ جار مجرى نفس الشئ. ومما يبين أن المراد ذلك إنهم لم يكونوا في حال سماعهم لهذا الخطاب متهافتين في النار وإنما كانوا في الاعمال التى يستحقون بها عذاب النار. ومما يشبه هذا الخبر ما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: ” يخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا (1) وصاروا حمما (2) وفحما “، فمعنى هذا الكلام عندنا أنه يخرج من استحقاق النار بالتوبة قوم هذه صفتهم، وهذا على طريق المجاز، أي أنهم بأعمالهم المؤدية إلى دخول النار كمن أحرق بضرمها وصار من حممها، ومعنى امتحشوا: أحرقوا، المرجئة (3) يحملون هذا الخبر على ظاهره ولا يفزعون إلى تأويله. ومعنى هلموا عن النار: أي ارجعوا إلى طاعة الله سبحانه التى هي الامان من العذاب، وجانبوا معاصيه التى هي الطريق إلى العقاب ومعنى تغلبونني تقاحمون فيها أي أننى مع كثرة الزجر لكم والاعذار إليكم تنفلتون وتنازعون إلى المقبحات كما يتهافت الفراش في الشهاب، (هامش ص 82) (1) أي احترقوا. (2) يقال حمت الجمرة صارت حممة بوزن همزة، أي اتقدت واحمرت، والحمم جمع حممة، والمعنى صاروا جمرا متقدا وقوله وفحما: أي تفحموا بعد احتراقهم أي اسودوا. (3) المرجئة، جماعة من المسلمين لا يحكمون على أحد بأنه من أهل النار بل يرجئون أمر العصاة إلى مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء لم يعذبهم. (*)


[ 83 ]

والذباب في الشراب. ومعنى وأوشك أن أرسل حجزكم: أي أوشك أن يطرقني طارق الموت فتفقدون نهيى لكم عن المعاصي، وأخذى بكم عن طرق المغاوى، فجعل ذلك عليه الصلاة والسلام بمنزلة إرسال حجزهم، وإلقاء أزمتهم. وهذا مجاز ثان (1). 51 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لمحلم بن جثامة الليثى في قتله عامر بن الاضبط الاشجعى وهو مسلم: ” أقتلته في غرة الاسلام “. وهذه استعارة. وأراد عليه الصلاة والسلام بغرة الاسلام أوله، تشبيها بغرة الفرس التى هي أول ما يستقبلها منه المستقبل ويراها المتأمل. ولها أيضا يشتهر (2) شينه وتيمن (3) صورته، ويقولون هذا غرة الشهر: أي أوله لانه أول عده ومبدأ مدخله. ويقولون: فلان غرة قومه إذا كان المنظور إليه منهم، (هامش ص 83) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، ومجاز مرسل. التبعية في قوله ” آخذ بحجزكم ” حيث شبه تحذير الرسول لقومه لمنعهم من الضرر، بأخذ الرجل بحجزة أخيه، واشتق من الاخذ بالحجزة بمعنى التحذير للمنع من الضر، آخذ بمعنى محذر على طريق الاستعارة التبعية، والمجاز المرسل استعمال النار في أسبابها من المعاصي، لان المعاصي سببها، فهو فجاز مرسل علاقته المسبية، وفي إرسال الحجز استعارة تبعية، مثل الاخذ بالحجز. وقد أشار إليها الشريف بقوله: وهذا مجاز ثان ؟ ؟. (2) يشتهر: أي يظهر ظهورا واضحا، والشين: العيب، واللام في لها: بمعنى باء السببية، أي بسبب الغرة أي إذا كان فيها عيب يتضح ويظهر. (3) تيعن: أي تحس صورته، وليس المراد باليمن البركة فيكون نظم الكلام فتبارك صورته، وإنما المراد الحسن، واستعمل اليمن في الحسن. (*)


[ 84 ]

والمعول عليه من بينهم (1). 52 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في مثل ضربه لقريش يطول الكتاب بذكره: ” ويقطع الناس في آثارهم حتى بقيت عجز من الناس عظيمة “، وهذه استعارة لان المراد بالعجز ها هنا: مآخير الناس وعقابيلهم (2) تشبيها بعجز الناقة أو غيرها من الدواب، لان أول ما يتحرك للسير هاديها وعنقها ثم يتبعه ردفعها وعجزها. فسمى القوم الذين يتأخرون في السير أعجازا كما سمى المتقدمون أعناقا، يقال قد طلعت أعناق القوم: أي أوائلهم ومتقدموهم، وجاءت أعجازهم: أي أواخرهم ومتثبطوهم. وعلى هذا سموا مقدمى القوم في الوجاهة والمنزلة أعناقا ورؤوسا. وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم وقد يجوز أن يكون الحديث المروى: ” يجئ المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة “. من هذا أيضا. يريد أنهم يوافون يوم القيامة أوجه الناس وجوها، ورؤوسا. فيكون قولنا أطول هاهنا من الطول (3) لا الطول، ولابد أن يكون (هامش ص 84) (1) ما في الحديث من البلاغة: في استعمال الغرة في الاول استعارة تصريحية كما ذكر الشريف، حيث شبه أول الاسلام بغرة الفرس في كونها في مقدمته وفي ظهور الحسن والشين فيها، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) العقابيل: البقايا جمع عقبولة وعقبول بضم العين. (3) الطول: الطاقة والفضل ومن ذلك قوله تعالى (ومن لم يستطيع منكم طولا أن ينكح المحصنات). (*)


[ 85 ]

المراد بالناس هاهنا الخصوص دون العموم كأنهم يكونون في القيامة أوجه من الناس الذين هم كالنظراء لهم في الطبقة معهم لانهم لا يجوز أن يكونوا يومئذ أعظم وجاهة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين (1). 53 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعثمان بن مظعون رحمه الله لما أراد الاختصاء والسياحة: ” خصاء أمتي الصيام “، وهذا القول مجاز لانه عليه الصلاة والسلام أراد أن الصيام يميت الشهوات ويشغل عن اللذات، كما أن الخصاء في الاكثر يكسر النزوة (2) ويقطع الشهوة. ومما يؤكد ذلك، الخبر الآخر المروى عنه عليه الصلاة والسلام قال: ” من استطاع منكم الباه (3) فليتزوج ومن لم يستطعه فليصم فإن الصوم وجاء (4) ” والوجاء: الخصاء. وسمعت شيخنا أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي عفا الله عنه يقول في أثناء قراءتى عليه وقد اعترض ذكر الخلاف في وجوب النكاح: (هامش ص 85) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية حيث شبه بقايا الناس بأعجاز الحيوان بجامع التأخر في كل، لان العجز في مؤخر الحيوان، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه والقرينة قوله من الناس. (2) النزوة هنا: الرغبة في الجماع. (3) الباه: القدرة على الجماع أو نفقات الزواج، وقد روى هذا الحديث ” من استطاع الباءة ” ومعناها معنى الباه. (4) قال في القاموس: وجأ التيس وجأ ووجاء: دق عروق خصييه بين حجرين ولم يخرجهما، ولا شك أن دق عروق الخصيين خصاء كما قال الشريف. (*)


[ 86 ]

يمكن الاستدلال بهذا الخبر على أن النكاح غير واجب خلافا لداود فإنه يقول إنه واجب على الرجل مرة في عمره، قال: وموضع الاستدلال منه أنه عليه الصلاة والسلام نقل النكاح إلى الصوم وجعل الصوم بدلا منه والابدال حكمها حكم المبدلات، فلو كان الاصل واجبا كان بدله كذلك كالتيمم والماء، وأبدال الكفارات مثلها، فلما كان الصوم الذى هو بدل من النكاح غير واجب دل على أن المبدل أيضا وهو النكاح غير واجب (1). 54 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لامير المؤمنين علي ابن أبى طالب عليه السلام: ” إن لك بيتا وإنك لذو قرنيها (2) “. وهذه استعارة لان المراد إنك ذو قرنى الامة، فكأنه عليه السلام قال وإنك رأس هذه الامة، لان الرأس هو ذو القرنين، لان القرنين إنما يكونان فيه ويظهران عليه، وهذا الخبر على هذا التأويل من الاخبار الدالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كان رأس أمته ورئيس (هامش ص 86) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه الصوم في قطع أسباب الشهوة بالخصاء في منع حدوثها، بجامع المنع في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه فجعل الصوم وجاء، أي خصاء، والقرينة أن الصوم ليس فيه دق عروق الخصيين كما في الوجاء. (2) القرنان: الجانبان الاعليان من الرأس، والمراد أنك رأس هذه الامة وصاحب جانبيها، أوهما قرنان حقيقيان، ويكون المراد تشبيه رأس الامة برأس الحيوان الذى له قرنان. (*)


[ 87 ]

أسرته. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: لذو قرنيها في أن المراد به الامة، وإن لم يجر لها ذكر قوله تعالى ” حتى توارت بالحجاب “، وقوله سبحانه: ” ولو دخلت عليهم من أقطارها ” في أن المراد الشمس والمدينة وإن لم يجر لهما ذكر وقد قال بعضهم المراد بهذا الخبر أنك في هذه الامة كذى القرنين في أمته، وعلى هذا التأويل أيضا لابد من تسليم الرياسة له على كافتهم، لان ذا القرنين كان مستتبعا ذمة الملوك كلهم، والعالي بالقدرة والبسط على جماعتهم. هذا إن كان ذو القرنين هو الاسكندر الرومي على ما يقوله بعضهم وإن كان اسم نبى من الانبياء على ما يقوله الآخرون فموضع الاحتجاج بالفضل أيضا موجود لان ذلك النبي في دهره كان أفضل أمته وخيار أهل دعوته. وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال وقد ذكر ذو القرنين فقال: دعا قومه إلى عبادة الله فضربوه على قرنيه ضربتين وإن فيكم لمثله. فترى أنه عليه السلام أراد بهذا القول نفسه أي أنا أدعو إلى اتباع الحق وسأضرب على رأسي ضربتين تكون فيهما منيتى فأكون كذى القرنين. وقد يجوز أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أراد يقوله: وإنك لذو قرنيها هذا المعنى والله أعلم. وقال بعضهم: إنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر في أول الكلام الجنة قال: وإنك لذو قرنيها، يريد قرنى الجنة: أي طرفيها، فكأنه وصفه ببلوغ غايات المثابين فيها، وفي هذا القول بعد.


[ 88 ]

وحكى عن ثعلب أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: أراد عليه الصلاة والسلام إنك لذو جبليها، يعنى الحسن والحسين عليهما السلام. قال: ويجوز أن يكون قوله ذو قرنيها يريد به طرفي الامة: أي أنت في أولها، والمهدى من ولدك في آخرها. قال ويجوز أن يكون ذلك من قوله: عصرت الفرس قرنا أو قرنين: أي استخرجت عرقه بالجرى مرة أو مرتين، فكأنه عليه الصلاة والسلام ذو اقتباس العلم الظاهر واستخراج العلم الباطن. والاعتماد على ما قدمنا ذكره من التأويل الاول وهو من استنباطي (1). 55 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أخاف عليكم إذا صبت الدنيا عليكم صبا “، وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام أراد إذا غمرتكم الدنيا بمنافعها وعمتكم بفوائدها وعوائدها، فشبه كثرة ذلك بالوبل الغزير المنصب على الانسان في أنه يبله بدفعاته، ويغمره من جميع جهاته. ومثل ذلك قولهم: انغمس (هامش ص 88) (1) غلا الشريف في تفضيل الامام على بسبب هذا الحديث، لانه شيعي من الذين يجعلون الامام عليا أولى بالخلافة من أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وغير الشيعة فسروا القرنين بالحسن والحسين رضى الله عنهما، أو جعل الضمير في قرنيها عائدا على الجنة، وكل التفسيرات تتمشى على رأى الشيعة حتى على رأى الشريف. فمعنى رأس الامة رأسها في العلم، ورأسها في الشجاعة والقوة، والتفاتى في الدفاع عن الاسلام، وليس الرأس في ناحية من نواحى الاسلام يكون رأسا في جميع النواحى. ولا يجوز أن يفضل الامام على في جميع الاحوال على أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.


[ 89 ]

فلان في الدنيا انغماسا: إذا كثر التباسه لها وعظم أخذه منها تشبيها لها بغمرة الماء إذا خاضها الخائض أو غمس فيها الغامس (1). 56 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كل عين زانية “، وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام لم يرد حقيقة الزناء المذموم، وإنما أراد أن كل عين لابد أن تكون لها طمحة إلى حسن أو طرحة إلى أرب. وإن كان ذو التقوى يكبح نفسه بالشكيم، ويعرك (2) شهوته عرك الاديم (3)، ولا يكون نظره إلا فلتة، ولا تتبع النظرة النظرة كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى * ولى نظر لولا التحرج عارم (4) فوصف النظر بالعرام (5) في هذا الشعر كوصف العين بالزنا في هذا (هامش ص 89) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه حدوث منافع الدنيا الكثيرة وخيراتها للانسان بالماء الكثير الذي يصب عليه، واشتق من الصب بمعنى الحدوث، صب بمعنى حدث أو أصاب على طريق التبعية. ومعلوم أن في الحديث مجازا بالحذف، لان التقدير إذا صبت عليكم خيرات الدنيا. (2) يعرك يفرك ويدلك ليجعلها هادئه غير شديدة. (3) الاديم: الجلد، وإذا دلك الجلد صار ناعما وذهبت خشونته، كما تذهب خشونة الشهوة. (4) المحصب: موضع بمنى تجمع فيه الحصباء وترمى بها الجمار، والتحرج: خوف الوقوع في الحرج وهو الحرام والعارم: الشديد. (5) العرام: الحدة.


[ 90 ]

الخبر. فأما الحديث الآخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” القسطنطينية الزانية “، فالمراد به الزانى أهلها، وذلك كما جاء في التنزيل من ذكر القرى مثل قوله تعالى: ” وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة “،.. و ” قرية كانت آمنة مطمئنة “، أي أهلها ظالمون وأهلها آمنون. وذلك في القرآن كثير (1). 57 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ” لا يلقى الله عبد لم يشرك بالله شيئا ولم يتند بدم حرام إلا دخل من أي أبواب الجنة شاء ” فقوله عليه الصلاة والسلام: ” ولم يتند بدم حرام ” مجاز، لانه أراد لم يصب دما حراما، ومن قوله: ما نديت من فلان بشئ: أي لم أصب منه شيئا، فجعل عليه الصلاة والسلام الذى يسفك الدم متنديا به، وإن كان لم يباشر سفكه بنفسه، لان الاغلب فيمن بتولى سفك الدم مباشرة أن يصيبه منه بلل، ويشهد عليه أثر. وعلى هذا قول الشاعر: تبرأ من دم القتيل وبزه (2) * وقد علقت دما القتيل أزارها (3) (هامش ص 90) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه طموح النظرة وعملها في القلب ومراودة النفس، بالزنا بجامع التحريم الشديد في كل، واشتق من الزنا بمعنى الطموح، زانية بمعنى طامحة على طريق التبعية. (2) البز: أخذ الشئ بقهر وجفاء، أي تتبرأ من قتل القتيل، وحتى من قهره وغلبته والجفوة عليه. (3) الازار: هو ما يغطى أسفل الجسد من اللباس والمراد هنا مطلق اللباس، أي أن دم القتيل علقته ثيابها، أي تعلق الدم بها، وذلك شاهد على القتل.


[ 91 ]

ولم يكن هناك على الحقيقة أثر دم علقت (1) الازار، وإنما أخرجه الشاعر على الوجه الذى ذكرناه. فكأنه جعل القاتل، وإن لم يظهر عليه شاهد الدم، كمن ظهرت عليه شواهده الناطقة ودلائله القاطعة لقوة الامارات التى تشهد بفعله وتعصب الامر به، وهذا المعنى (2) أيضا أراد جرير بقوله: وقلت نصاحة (3) لبنى عدى * ئيابكم ونضح (4) دم القتيل فكأنه خاطب قوما ونهاهم عن أن يقفوا موقف الظنة وينزلوا منزل التهمة (5) ليتبرءوا من دم قتيل اتهموا بنفسه وقرفوا بقتله (6). 58 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من فعل كذا وكذا فقد احتظر من النار بحظار “. وهذا القول مجاز، والمراد أن من فعل ذلك فقد احتجز من النار بحاجز، والحظار: الحائط المستدير على الشئ، فجعل عليه الصلاة والسلام المتباعد عن الفعلة التى توجب دخول النار، كمن ضرب بينه وبينها سياج، وأغلق عليه رتاج (7)، (هامش ص 91) (1) المفعول به محذوف، والتقدير علقته الازار. (2) هذا مفعول به مقدم لاراد. (3) النصاحة والنصاحية: النجح. (4) النضح: الرش، أي باعدوا ثيابكم عن إصابتها برشاش دم القتيل حتى لا يكون ذلك شبهة تجعلكم في مظنة قتله. (5) التهمة: بضم التاء وفتح الهاء، الاتهام ومايتهم به. (6) قرفوا: اتهموا. (7) السياج: الحائط، والرتاج: الباب العظيم.


[ 92 ]

والحظار والحظيرة بمعنى واحد (1). وهو حظار بفتح الحاء (2) والجمع أحظرة، كما يقال دوار والجمع أدورة (3). 59 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اغتربوا لاتضووا “، وهذه استعارة، والمراد انكحوا في الغرائب، ولا تنكحوا في القرائب، لانهم يقولون الغرائب أنجب (4)، والضوى: ضؤولة الجسم ودقته، ويقال: أضوت المرأة أذا أتت بولد ضاو، كما يقال أذكرت: إذا أتت بولد ذكر، وكانوا يعتقدون أن القريبة تضوى كما أن الغريبة تدهى: أي تأتى بالولد داهية (5)، وقال الشاعر: فتى لم تلده بنت عم قريبة * فتضوى وقد بضوى رديد القرائب (6) (هامش ص 92) (1) ومعناه الحائط (2) أي يجوز فتح حائه. (3) دوار على وزن فعال: جمع دار، وكان حقه قلب الواو ياء فتصير ” ديار ” كما هو المشهور، ولكنه ورد كذلك شاذا، وأدورة جمع دار أيضا. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الامتناع من النار بفعل الحسنات، باحتظار الحظيرة للوقاية منها، واشتق من الاحتظار بمعنى الامتناع، احتظر بمعنى امتنع على طريق الاستعارة التبعية. (4) أنجب: أفعل تفضيل من النجابة، والولد النجيب: الكريم الحسيب. (5) أي جيد الرأى والادب. (6) رديد القرائب: أي مردود القرائب، أي المولود من الزوجات القريبات، وقد هنا للتكثير.


[ 93 ]

وقال الآخر: وأترك بنت العم وهى قريبة * مخافة أن تضوى على سليلى (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: اغتربوا، عبارة عن هذا المعنى من أحسن العبارات لانه جعل التباعد عن المنكح (2) في العشيرة والبيت والذهاب به إلى غير السنخ (3) والاصل بمنزلة الرجل المغترب الذي يوطن (4) غير وطنه، ويسكن غير سكنه (5). 60 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” خير المال عين ساهرة لعين نائمة “، وهذه استعارة لان المراد بذلك عين الماء الجارية التى لا ينقطع جريها ليلا كما لا ينقطع نهارا، فسماها ساهرة لهذا المعنى لانها في ليلها دائبة، وعين صاحبها نائمة، ولفظ السهر في هذا الكلام أحسن ما جعل بهذا المعنى متلبسا (6)، وصب (هامش ص 93) (1) سليلى: الولد الذى خرج من صلبى، ومن ذلك السيف السليل والمسلول: الذي خرج من قرايه ؟. (2) مصدر ميمى بمعنى النكاح. (3) السنخ: الاصل. (4) أي الذي ينزل وطنا غير وطنه فيكون غريبا فيه. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الزواج بغير القريبات بالاغتراب في الوطن، واشتق من اغترب بمعنى تزوج غير القريبة، اغتربوا بمعنى تزوجوا البعيدات على طريق الاستعارة التبعية. (6) أي مختلطا به ومستعملا في معناه.


[ 94 ]

عليها ملبسا (1). 61 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كل هوى شاطن في النار ” وهذا مجاز، لانه وصف الهوى بالشطون وهو العبد، وأراد به تباعد صاحبه عن الرشد، وتراميه إلى الغي. وقال أبو عبيدة: الشاطن هاهنا المعوج عن الحق، والهوى على الحقيقة ليس بجسم فيوصف بالقرب والبعد والزوال واللبث. وسمى الشيطان شيطانا لانه شطن عن أمر ربه أو أبعد في مذاهب غيه، ومنه قيل نوى شطون ومن ذلك سمى الحبل شطنا لانه يبلغ القعر العميق، والماء البعيد. وفي هذا الخبر أيضا مجاز آخر، وهو أنه عليه الصلاة والسلام جعل الهوى الشاطن في النار، ومراده صاحب الهوى الشاطن، وهو الذي يمتد به هواه فيقذفه في المضال ويحمله على المزال. ونظير هذا: الخبر الآخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” عليكم بالصدق فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور، (هامش ص 94) (1) الملبس: اللباس، جعل الشريف لفظ السهر كأنما ألبسه المعنى المراد، وهو دوام جريان العين. ما في الحديث من البلاغة: فيه استعارة تبعية، حيث شبه دوام جريان الماء وعدم انقطاعه بالسهر بجامع عدم الانقطاع في كل، واشتق من السهر بمعنى عدم الانقطاع، ساهرة بمعنى غير منقطعة على طريق الاستعارة التبعية.


[ 95 ]

وهما في النار “. وأراد عليه الصلاة والسلام صاحب الصدق والبر، وصاحب الكذب والفجور (1). 62 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه ويبقى حثالة من الناس قد مرجت (2) عهودهم وأماناتهم “، وهذه استعارة والمراد أنهم يتنقى خيارهم فيهلكون بالقتل السريع، والموت الذريع كما يغر بل الحب بالغربال فيسقط قشبه (3) وصغاره ويبقى جلاله (4) وخياره. وقد قيل: إن الغربلة اسم للقتل خصوصا، ومنه قول الشاعر: ترى الملوك حوله مغربله * يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له أي مقتلة، والقول الاول أشبه بالمراد وأليق بالصواب، وقد تكلمنا فيما تقدم على قوله عليه الصلاة والسلام: ويبقى حثالة من (هامش ص 95) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز بالحذف، والاصل كل صاحب هو، ومجاز مرسل في إسناد شطون إلى ضمير الهوى، لان الهوى ليس هو البعيد وإنما البعيد صاحبه، والعلاقة الحالية، لان الهوى يحل بصاحبه. (2) سبق بيان ذلك في الكلام على حديث: كيف أنتم إذا مرج أمر الدين، وسيشير الشريف إلى ذلك قريبا، ومنه بيان معنى الحثالة، وقد أو فينا هناك هذا الموضوع شرحا. (3) القشب: بكسر القاف وسكون الشين: الناعم. (4) الجلال جمع جليل: وهو الكبير.


[ 96 ]

الناس قد مرجت عهودهم (1). 63 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل ” أي الاعمال أفضل ؟ فقال: الحال المرتحل، قيل: وما الحال المرتحل ؟ قال: الخاتم المفتتح). وفي هذا الكلام مجاز لانه عليه الصلاة والسلام إنما أراد المداوم لتلاوة القرآن، فهو يختم ويفتتح، ويتم ويستأنف، فشبهه عليه الصلاة والسلام بالمسافر المجد بينا ينزل حتى يرتحل، وبينا يسير حتى ينزل، فشبه عليه الصلاة والسلام ختم التلاوة بنزول المنزل، وشبه استئنافها بسير المرتحل، وجعله مستمرا على هذه الطريقة أبدا لا يرمى إلى غاية، ولا يقف عند نهاية. وقد قيل إن المراد بذلك المجاهد في سبيل الله الذى يغزو ويعقب ويقفل (2) ويعاود والقول الاول أظهر عند العلماء. وأوغل في مذاهب الفصحاء (3). (هامش ص 96) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه قتل الخيار وبقاء غيرهم بغربلة الحب، وبقاء كباره وسقوط صغاره، واشتق من الغربلة بالمعنى المذكور، غربل بمعنى أبقى الخيار وأذهب غيرهم على طريق الاستعارة التبعية، وفي مرجت عهودهم مجاز عقلي حيث أسند المرج إلى العهود والذي يمرج أصحابها. (2) يقفل: أي يرجع، ومن ذلك سميت القافلة لجماعة الابل المسافرة، تفاؤلا بأنها سترجع إلى وطنها سالمة بعد سفرها. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه ختم القرآن بالحلول بالمكان والاستقرار فيه، وافتتاحه بالارتحال عن المكان، بجامع الانتقال من حال إلى حال من كل من المشبه والمشبه به، واشتق من الحلول بمعنى الختم حال بمعنى خاتم، ومن الارتحال بمعنى الافتتاح، مرتحل بمعنى مفتتح على طريق الاستعارة التبعية.


[ 97 ]

64 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن قوما يضفرون (1) الاسلام، ثم يلفظونه (2) “، وهذا القول مجاز، لان المراد أنهم يلقنون الاسلام ويعلمونه، فيتناسونه ويفارقونه كالذي يلقم الشئ، فيدسع (3) به، ولا يسيغه إلى جوفه. وذلك مأخوذ من قولهم: ضفرت البعير أضفره ضفرا: إذا لقمته لقما عظاما. وقد يجور أن يكون مأخوذا من قولهم: ضفر الرجل الدابة يضفرها ضفرا: إذا ألقى اللجام في فيها، والمعنيان متقاربان (4). 65 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” يمين الله (هامش ص 97) (1) الضفر: بفتح الضاد وسكون الفاء: إلقاء العلف في فم الدابة، ويقال: ضفر الدابة يضفرها بكسر الفاء في المضارع: ألقى العلف في فمها، والفعل هنا مبنى للمجهول، والاصل إن قوما يضفرهم قوم الاسلام، فحذف الفاعل وأسند الفعل إلى المفعول. (2) يلفظونه: يقال لفظ الشئ بكسر الفاء: إذا رماه. والمعنى أنهم يخرجونه عن أفواههم، ومن ذلك الكلام الملفوظ به لانه أخرج من الفم. (3) دسع يدسع: من باب منع بمعنى دفع، والتقدير في كلام الشريف يلقم الشئ: أي يوضع الشئ في فيه، فيدفع به ويرميه من فيه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تبعيتان، حيث شبه تعليم الاسلام للناس بالضفر، وهو إلقاء العلف في فم الداية، وشبه تناسى الناس للاسلام ومفارقته بلفظ الشئ من الفم، واشتق من الضفر يضفرون بمعنى يلقنون ويعلمون، ومن اللفظ يلفظون بمعنى يتناسون، ويفارقون على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون في الحديث استعارة تمثيلة حيث شبه الناس الذين يلقنون القرآن ثم يتناسونه بهبتة الدابة التى يوضع العلف في فمها ثم تلفظه، بجامع محاولة الشئ وعدم قبوله، فوجه الشبه هبتة منتزعة من متعدد.


[ 98 ]

ملاى سحاء، لا يغيضها الليل والنهار ” وهذه استعارة، لان المراد باليمين هاهنا نعمة الله، ووصفها بالامتلاء لكثرة منافعها وعموم مراقدها، فجعلها كالعين الثرة (1) التى لا يغيضها (2) الموائح، ولا تنقصها النوازح (3). والسح: شدة المطر، يقال: سحت السماء سحا إذا جادت جودا، وخص اليمين لانها في الاكثر مظنة العطاء ومواصلة الحباء (4)، على طريق المجاز والاتساع. وقد شرحنا هذا المعنى في عدة مواضع من كتبنا المشتملة على علوم القرآن (5). 66 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ابنوا المساجد واتخذوها جما “، وهذه استعارة لان المراد ابنوها ولا تتخذوا لها شرفا فشبهها عليه الصلاة والسلام بالكباش الجم، وهى التى قرونها (هامش ص 98) (1) الترة: كثرة الماء. (2) يقال غاض الماء يغيضه وأغاضه يغيضه: إذا نقصه. والمعنى لا ينقص ماءها، والموائح جمع مائحة: وهى الآلات التى تخرج الماء من العيون والآبار. (3) النوازح جمع نازحة: هي مثل الموائح. (4) الحباء: العطاء. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية عن غنى الله وكرمه. لانه إذا كانت يمينه مليئة بالخير، تسح سحا به، ولا ينقصها هذا السح ما تعاقب الليل والنهار، فلا شك أنه غنى كريم، واستعمال اليمين لا مانع أن يكون على الحقيقة، فيكون لله تعالى يمينا لا نعرف كنهها، كما قال تعالى: ” يد الله فوق أيديهم ” فله يد وليست كأيدي الحوادث، وهذا أولى من جعل اليمين بمعنى النعمة، فإن تشبيه النعمة باليمين غير ظاهر، وحمل الحديث على الكناية يناسبه قول الشريف بعد ذلك، ” وخص اليمين لانها في الاكثر مظنة العطاء ” فمراده يد الله مطلقا، وخصت اليمين لانها التى يعطى بها، ويجوز أن يكون في الحديث مجاز مرسل علاقته السببية فأطلق اليمين وأراد العطاء لان اليد سببه.


[ 99 ]

صغار خافية، ومنه الخبر المشهور في ذكر القيامة ” إنه يؤخذ للجماء من القرناء ” وذلك من أحسن التشبيه وأوقع التمئيل. وقال ابن الاعرابي: الام أ الذي لا رمح معه، ومن ذلك قول الشاعر: ويل امهم معشرا جما بيوتهم * من الرماح وفي المعروف تنكير أراد أن بيوتهم خالية من الرماح المركوزة بأبوابها، فهى كالكباش الجم التى لا قرون تظهر لها، وقال الاعشى: متى تدعهم للقاء الحروب * أتتك خيول لهم غير جم أي قد أشرع فوارسها الرماح، فهى كالكباش إذا نهدت للكفاح، وسددت قرونها للنطاح. وقد جاء في كلامهم: الرماح قرون الخيل. ومثل ذلك الحديث المروى: ” ستكون فتنة كأنها صياصى بقر ” والصياصى هاهنا: القرون. قيل إنما شبهها عليه الصلاة والسلام بقرون البقر لكثرة ما يشرع فيها من الرماح (1). 67 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يزال العبد خفيفا معنقا بذنبه ما لم يصب دما (2)، فإذا أصاب دما بلح “، (هامش ص 99) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه المساجد بالكباش الجم التى لا قرون لها، بجامع عدم بروز شئ في كل من المشبه والمشبه به، وحذفت أداة التشبيه ووجهه. (2) أي ما لم يقتل أحدا.


[ 100 ]

وهذا مجاز لانه عليه الصلاة والسلام شبه المذنب غير القاتل بحامل الحمل إلا أن فيه بعض الخفة فهو يعنق به، أي يسرع من تحته، فإذا أصاب دما ثقل ذلك العبء حتى يبلح منه، والتبليح: الاعياء، مأخوذ من بلوح الشئ، وهو انقطاعه فكأن منته (1) قد نفدت، وقوته قد انقطعت. وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك تغليظا لامر الدم ليقل الاقدام على سفكه، ويكثر التزاجر عن التعرض له، ومع ذلك فالتوبة تسقط العقاب المستحق عليه كما تسقط العقاب المستحق على غيره من المعاصي، خلافا لما ظنه بعض الناس من أن القاتل لا توبة له، لان الامر لو كان على ما قاله لم يكن للقاتل سبيل إلى الانتفاع بطاعته في المستقبل لانها تقع محبطة، ولا يجوز ألا يكون للعاصي طريق إلى الانفكاك من عقاب المعاصي لان في ذلك إغراء بها، وحملا له عليها. وفي بعض الاحاديث: أن أعرابيا قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم أتى راهبا بالشام يستفتيه في توبته، فقال له: ما أرى لك توبة، فقال لا جرم والله لاكملنهم بك مائة، فقتل الراهب: وما حكوه عن عبد الله بن عباس رحمه الله من اختلاف فتواه في هذا المعنى لانه أفتى مستفتيا سأله عن توبة القاتل يأنه لا توبة له، وأفتى آخر: بأن له توبة، فله عندنا وجه صحيح قد نقل عن ثقات الناقلين، وذلك أنه (هامش ص 100) (1) منته: قوته.


[ 101 ]

سئل عن اختلاف قوليه في هذا الباب، فقال: أتانى مستفت فأفتيته بأن للقاتل توبة، لانى رأيت عليه أمارات من قتل وهو نادم على قتله، خائف من جرائر فعله، واستفتاني آخر: فأفتيته بأنه لا توبة للقاتل لانى رأيت عليه أمارات من قد عزم على القتل في المستقبل، وأراد أن يلجأ إلى التوبة بعد الاقدام على سفك الدم المحرم، فأفتيته بذلك ليقف عن عزمه، ويخاف عواقب إثمه (1). 68 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” بلوا أرحامكم ولو بالسلام “، وفي رواية أخرى: ” انضحوا أرحامكم “، والمعنى واحد، وهذه استعارة لان المراد: صلوا أرحامكم ولو بالسلام، أي جددوا المودة بينكم وبين أقربائكم ولو بالتسليم عليهم تشبيها ببل السقاء اليابس لانه لا يتبال إلا بملء الماء، فينتدى قاحله (1)، ويتمدد قالصه (2)، فشبهوا بل الارحام (هامش ص 101) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبه الذنب بالحمل بجامع وجود المشقة في كل واستعير لفظ الحمل للذنب، وحذف ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو الخفة والاعناق والابلاح في صاحب الذنب، ويستتبع ذلك تشبيه صاحب الذنب بحامل الحمل فهو تارة خفيف وتارة ثقيل. (2) فاحله: يابسه. (3) القالص: المنكمش (المتكرمش).


[ 102 ]

بذلك، لان في حسن المخالقة (1) تجديدا لمخلقها (2)، وإحكاما لما وهى من علائقها، ومثل ذلك قول الكميت الاسدي: نضحت أديم الود بينى وبينهم * بآصرة (3) الارحام لو يتبلل 69 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لرجل قيل له: إنه نام عن الصلاة حتى أصبح: ” ذاك رجل بال في أذنه الشيطان “، وهذا مجاز لانه عليه الصلاة والسلام أراد أن الشيطان تهكم به وسخر منه، لانهم يقولون ذلك فيمن ظهر اختلاله، وبان انحلاله، وأصله مأخوذ من الافساد، فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن الشيطان قد أفسده وفسخ عقده (4)، وعلى ذلك قول الشاعر: إذا رأيت أنجما من الاسد * جبهته أو الخرات والكتد (5) بال سهيل في الفضيخ ففسد * وطاب ألبان اللقاح وبرد (6) (هامش ص 102) (1) المخالقة: هي المعاشرة بخلق حسن، يقال: خالفهم أذا عاشرهم بخلق حسن. وأراد الشريف بها هنا مطلق المعاشرة. (2) المخلق: بضم الميم وفتح اللام: الذى ابلى واستنفدت جدته فصار باليا، والمعنى تجديد البالى من المعاشرة. (3) آصرة الارحام: صلة الارحام، لان الآصرة تطلق على الرحم وعلى القرابة، وعلى المنة والعطية. (4) فسخ عقده: لما تغلب الشيطان على هذا الشخص ومنعه من صلاة الصبح كان كأنه تسبب في فسخ العقد الذي بينه وبين ربه على الطاعة والصلاة في أوقاتها. (5) الاسد: برج من أبراج النجوم، والجبهة والخراث والكند: نجوم. (6) سهيل: نجم، والفضيخ: اللبن المخلوط بالماء. والمراد أنه إذا ظهرت هذه النجوم فسد اللبن المذكور وطاب اللبن الجيد، وبرد: أي صار سائغا مقبولا محبوبا.


[ 103 ]

أي أفسد سهيل اللبن ففسد، فعبر عن إفساده له ببوله فيه، تشبيها بالبائل في الماء، لانه يفسد عذبه، ويمنع شربه (1). 70 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تعرض للناس جهنم كأنها سراب (2) يحطم بعضها بعضا “، وهذا مجاز لانه عليه الصلاة والسلام أراد شدة احتدامها والتفاف ضرامها، فكأن بعضها يحطم بعضا: أي يهده ويهيضه، والحطم: الكسر. وقد يجوز أن يكون المراد أنها تحطم أبدان المعاقبين بها، وجعلهم بعضها لانهم خالدون فيها غير خارجين منها (3). 71 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لرجل من وفد (هامش ص 103) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبه إغواء الشيطان لهذا النائم عن صلاته، ببوله في أذنه، بجامع الافساد في كل، واشتق من البول بمعنى الاغواء، بال بمعنى أغوى على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون كناية عن إفساده، لان الاغواء والبول في الاذن إفاد. (2) السراب: ما يراه الانسان نصف النهار، كأنه ماء وليس بماء، والمراد بتشبيهها بالسراب أن لها لمعانا من شدة حرارتها، وهى تغلى وينقلب بعضها على بعض، كأنه يحطمه ويكسره، والمراد من التشبيه شدة حرارة النار وشدة غليانها وقوتها، تخويفا لمن يراها من الناس. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه مرسل ذكرت فيه الاداة وحذف وجه الشبه وهو اللمعان والاخذ بالابصار.


[ 104 ]

تجيب (2): ” إنى لارجو أن تموت جميعا، فقال: أو ليس الرجل يموت جميعا يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا فلعل أجله يدركه في بعض ذلك فلا يبالى الله في أيها هلك “، وفي هذا الكلام مجازان أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: إنى لارجو أن تموت جميعا لان الانسان لا يموت إلا جميعا، وإنما أراد إنى لارجو ألا يدركك الموت، وهمومك متقسمة، وأهواؤك متشعبة، فكان يكون متفرقا بتفرق أهوائه، ومتشعبا بتشعب آرائه. والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام في أودية الدنيا، وهذه استعارة عجيبة، لانه شبه اختلاف طرائق الدنيا ومذاهبها، وتباين أحوالها ونوائبها بالاودية المختلفة. فمنها البعيد والقريب، والمخصب والجديب، والواسع والضيق، والمنجى والمعطب (2). 72 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وهو يعنى المدينة: ” أسكنت بأقل الارض مطرا، وهى بين عينى السماء: عين (هامش ص 104) (1) تجيب بن كندة: بطن من بطون العرب. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجازى عقلي واستعارة. أما المجاز العقلي: فهو إسناد جميعا إلى ضمير الشخص، والمراد أهواؤه ورعبناته لان جميعا بمعنى مجموع، فهو فعيل بمعنى مفعول، والعلاقة الظرفية، لان الانسان موضع لرغبائه والاستعارة في قوله ” أودية الدنيا ” والمراد أحوالها حيث شبهت أحوال الدنيا بالاودية في تشعبها وقربها وبعدها، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية.


[ 105 ]

بالشام وعين باليمن “، وهذه استعارة لانه عليه الصلاة والسلام أراد كثرة انهلال السماء بالمطر في هذين الموضعين: الشام، واليمن، يكنى عن ذلك بعينى السماء كأنه عليه الصلاة والسلام شبه أفقى السماء المطلين على هذين البلدين بالعينين الدامعتين، فأراد أن العينين لا تنقطع مياههما عن هذين الموضعين كما لا ترقأ (1) دموع هاتين العينين. وقد يجوز أن يكون إنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يشبههما بالعينين من العيون التى تنبع (2) الماء في الارض. فكما أن ماء العين موصول لا ينقطع، فكذلك قطر السماء في هذين البلدين متصل غير منقطع، وكلا القولين مجاز وتوسع. وقد سموا السحاب الناشئ من جهة القبلة عينا على أحد المعنيين اللذين ذكرناهما، فقد يجوز أيضا أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: بين عينى السماء، يريد بين السحابين الناشئين بهذين البلدين (3). 73 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الحياء نظام الايمان “، وهذه استعارة، والمراد أن الحياء يجمع خلال الايمان، كما (هامش ص 105) (1) رقأ الدمع رقأ ورقوءا: جف وسكن. (2) تنبع من أنبع: أي التى تخرج الماء من الارض. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه أفقى السماء في جهة الشام وجهة اليمن بالعينين يجامع نزول الماء من كل، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية. والقرينة أن السماء ليس لها عيون حقيقية.


[ 106 ]

يجمع السلك فرائد النظام (1)، لان الانسان الكثير الحياء يحجم عن مواقعة المعاصي، ومطاوعة المغاوى، فإذا قل حياؤه تفرق جماع (2) إيمانه، فأشبه السلك في أنه إذا انقطع تهافتت خرز نظامه، وهذا المعنى أراده الشاعر بقوله: يعيش المرء ما استحيا بخير * ويبقى العود ما بقى اللحاء (3) وليس ينافي هذا الحديث الحديث الآخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ” الحياء شعبة من الايمان ” فإنه لا يمتنع أن يكون شعبة منه ويكون مع ذلك نظاما له (4). 74 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” منبرى هذا على ترعة من ترع الجنة “، وقد قيل في تفسير الترع ثلاثة أقوال: أحدها: أي يكون اسما للدرجة. والثانى: أن يكون اسما للروضة على المكان العالي خاصة. والثالث: أن يكون اسما للباب، وفي (هامش ص 106) (1) النظام: كل خيط يسلك فيه لؤلؤ ونحوه، والمراد فرائد اللؤلؤ التى تنظم في الخيط. (2) كل ما تجمع وانضم بعضه إلى بعض فهو جماع كرمان. (3) اللحام بوزن كتاب: قشر الشجر، والمراد أن العود يبقى ما بقى لحاؤه وقشره لانه يحفظه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة، حيث شبه الحياء بالخيط الذي يجمع فيه اللؤلؤ، واستعمل اسمه وهو ” نظام ” في المشبه به وهو الحياء على طريق الاستعارة التصريحية. ووجه الشبه أن السلك يجمع حبات اللؤلؤ، والحياء بجمع خصال الايمان.


[ 107 ]

هذا الكلام مجاز على الاقوال الثلاثة، وجميعها يئول إلى معنى واحد. فإن كانت الترعة بمعنى الدرجة، فالمراد أن منبره عليه الصلاة والسلام على طريق الوصول إلى درج الجنة، لانه عليه الصلاة والسلام يدعو عليه إلى الايمان، ويتلو قوارع القرآن، ويخوف ويزجر ويعد ويبشر. وإن كانت بمعنى الباب، فالقول فيهما واحد. وإن كانت بمعنى الروضة على المكان العالي، فالمراد بذلك أيضا كالمراد بالقولين الاولين، لان منبره عليه الصلاة والسلام على الطريق إلى رياض الجنة لمن طلبها وسلك السبيل إليها، وفيه زيادة معنى، وهو أن يكون إنما شبهه بالروضة لما يمر عليه من محاسن الكلم وبدائع الحكم التى تشبه أزاهير الرياض وديابيج (1) النبات، وهم يقولون في الكلام الحسن: كأنه قطع الروض، وكأنه ديباج الرقيم (2). وأضاف عليه الصلاة والسلام الروضة إلى الجنة، لان الكلام المونق الذي يتكلم به عليه الصلاة والسلام يهدى إلى الجنة، ويكون دالا عليها وقائدا إليها، وعندهم أن الروضة إذا كانت على الايفاع (3) (هامش ص 107) (1) الدبج: النقش، والديباج المنقوش المخطط أو المطرز. والجمع ديابيج ودبابيج. وهو فارس معرب. والمراد هنا النبات الذى كأنه ديباج: أي يطرز الارض ويزينها. (2) الرقيم فعيل بمعنى مفعول: أي المرقوم المخطط. والمراد كأنه ثوب الحرير المخطط. (3) اليفع: بفتح الفاء واليفاع كسحاب: التل. والايفاع: جمع اليفع أو اليفاع.


[ 108 ]

والانشاز (1) كانت أحسن منظرا، وآنق زهرا. وعلى ذلك قول الاعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة * خضراء جاد عليها واكف خضل (2) وقد قال بعضهم: التزعة: الكوة (3) وهو غريب، فإن كان المراد ذلك، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: ” منبرى على مطلع من مطالع الجنة “، والمعنى قريب من معنى الباب، لان السامع لما يتلى عليه كأنه يطلع إلى الجنة، فينظر إلى بهجتها وإلى ما أعد الله للمؤمنين فيها (4). 75 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها “، وهذه استعارة، والمراد أن الاسلام ليأوى إلى المدينة كما تأوى الحية إلى جحرها، (هامش ص 108) (1) الانشاز: جمع نشز بوزن جمل. ونشاز كسحاب: وهو المكان المرتفع. (2) الخزن: المكان المرتفع. والروضة إذا كانت بربوة كانت أخصب وأنضر. والمعشبة: ذات النبات والعشب. والواكف: الهاطل. والخضل: الندى الذى يبلل نباتها. (3) الكوة: بضم الكاف وفتحها: الخرق في الحائط. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، شبه فيه مكان منبره صلى الله عليه وسلم بنزعة من ترع الجنة، بجامع أن في كل من المشبه والمشبه به خيرا وبركة، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية.


[ 109 ]

وأصل ذلك مأخوذ من التقبض والاجتماع، يقال: أرز أروزا: إذا كان منه ذلك، فجعل عليه الصلاة والسلام المدينة كالوجار (1) للاسلام يتقلص إليها وينضم إلى حماها، لانها قطب مداره ونقطة ارتكازه (2). 76 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت “، وهذا القول مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام شبه نماء أعضاء البدن بنبات أغصان الشجر لما بينهما من المشاكلة، لان العروق كالعروق، والالحية (3) كالجلود، والايراق كالحياة، والايباس كالوفاة (4). 77 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو ابن العاص وذكر قيام الليل وصيام النهار، فقال: ” إنك إذا فعلت (هامش ص 109) (1) الوجار بكسر الواو وفتحها: جحر الضبع وغيرها. والمراد أن المدينة كالجحر للاسلام يتجمع فيها كما تأوى الحية إلى جحرها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه بقاء الاسلام في المدينة وتجمع المسلمين فيها، بأروز الحية إلى جحرها، بجامع التجمع والانكماش في كل، واستعار الاروز للبقاء والتجمع، واشتق من الاروز بمعنى التجمع. يأرز بمعنى يتجمع على طريق الاستعارة التبعية، وفيه تشبيه مرسل حيث شبه أروز الاسلام بأروز الحية وذكر أداة التشبيه. (3) الالحية جمع لحاء ككتاب: وهو قشر الشجرة، وقد سبق بيانه آنفا. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه نمو اللحم بنمو النبات، واستعمل لفظ المشبه به وهو النبات في المشبه، وهو نمو لحم الانسان، واشتق من النبات بمعنى النمو نبت بمعنى نمى على طريق الاستعارة التبعية.


[ 110 ]

ذلك هجمت (1) عيناك وتهمت نفسك “، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” هجمت عيناك ” استعارة، لان المراد به غور العينين لطول القيام، ولبعد العهد بالطعام. وذلك مأخوذ من قولهم: هجم فلان على فلان إذا دخل عليه دخولا فيه سرعة وله روعة. ويقال: هجم عليهم البيت إذا سقط عليهم (2)، فشبه عليه الصلاة والسلام إفراط دخول العينين في حجاج (3) الرأس بهجوم الرجل الهاجم، أو وجوب (4) البيت الواقع، فالتشبيه بالاول لا يغاله في مدخله، والتشبيه بالثاني لزواله عن موضعه. ومعنى تهمت (5) نفسك: أي أصابها الملال، وجدها (6) الاعياء والكلال (7). (هامش ص 110) (1) في القاموس المحيط: هجمت عينه هجما وهجوما: غارت، وعلى ذلك يكون الكلام حقيقة لا مجاز فيه. (2) في القاموس: هجم البيت انهدم كانهجم. (3) الحجاج بفتح الحاء وكسرها: العظم الذى ينبت عليه الحاجب. (4) وجب يحب وجبة: سقط، فوجوب البيت معناه سقوطه. (5) تهمت نفسك: ظهر عجزها، وهذا مرادف لما ذكره الشريف من إصابة الملال إذا أريد بالملال العجز. (6) جد الشئ: قطعه. والمراد أن الاعياء والكلال وهو التعب، يقطعان النفس عن العمل. (7) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على ما ذكره الشريف استعارة تبعية في هجمت عيناك، حيث شبه غئور العين ودخولها في محجرها، بالهجوم بغتة وفجأة بجامع حدوث الشئ قبل إداركه في كل، واشتق من هجم بمعنى غار، هحمت بمعنى غارت على طريق الاستعارة التبعية.


[ 111 ]

78 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعرا “، وفي هذا القول مجاز، لان المراد به النهى عن أن يكون حفظ الشعر أغلب على قلب الانسان، فيشغله عن حفظ القرآن وعلوم الدين حتى يكون (1) أحضر حواضره، وأكثر خواطره. فشبهه عليه الصلاة والسلام بالاناء الذى يمتلئ بنوع من أنواع المائعات، فلا يكون لغيره فيه مسرب (2)، ولا معه مذهب. وقال بعضهم: إنما هذا في الشعر الذى هجى به النبي عليه الصلاة والسلام خصوصا، والصحيح أنه في كل شعر استولى على القلب كل استيلاء عموما، لان النهى يتعلق بحفظ القليل مما هجى به النبي عليه الصلاة والسلام، وكثيره يراعى فيه أن يكون غالبا على القلب وطافحا على اللب. وقوله عليه الصلاة والسلام حتى يريه معناه حتى يفسده (3) ويهيضه (4)، ويقولون: وراه الداء إذا فعل ذلك، قال الشاعر: وراهن ربى مثل ما قد وريننى * وأحمى على أكبادهن المكاويا 79 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كل صلاة (هامش ص 111) (1) الضمير في يكون للشعر. (2) المسرب: الطريق. (3) في القاموس: ورى القيح جوفه أفسده. (4) في القاموس: فلان به هيضة: أي قياء وقيام جميعا، ولعل مراد الشريف أن يفسد القيح الجوف ويجعل صاحبه يقئ ويضطرب.


[ 112 ]

لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهى خداج “، وهذه استعارة عجيبة، لانه عليه الصلاة والسلام جعل الصلاة التى لا يقرأ فيها ناقصة بمنزلة الناقة إذا ولدت ولدا ناقص الخلقة أو ناقص المدة. ويقال: أخدج الرجل صلاته: إذا لم يقرأ فيها فهو مخدج وهى مخدجة. وقال بعض أهل اللغة: يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أو ان النتاج، وإن كان تام الخلقة، وأخدجت إذا ألقته ناقص الخلق، وإن كان تام الحمل، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: كل صلاة لا يقرأ فيها فهى نقصان (1) إلا أنها مع نقصانها مجزئة، وذلك كما تقول في قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ” إنما أراد به نفى الفضل لا نفى الاصل، فكأنه قال: لا صلاة كاملة أو فاضلة إلا في المسجد، وإن كانت مجزئة في غير المجسد. فنفى عليه الصلاة والسلام كمالها ولم ينف أصلها. ومما يؤكد ذلك الخبر الخبر الآخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا غرار في صلاة ولا تسليم ” أي لا نقصان فيهما (2) من قولهم: ناقة مغار أذا نقص لبنها، ومنه الحديث الآخر: لاتغاروا التحية، أي لا تنقصوا السلام وردوا (هامش ص 112) (1) هكذا فسر القاموس المحيط الخداج فقال: ” وصلاته خداج أي نقصان ” (2) الغرار في الصلاة: النقصان في ركوعها وسجودها وظهورها وفي التسليم أن يقول سلام عليكم أو أن يرد بعليك لا عليكم، وهذا يفسر قوله عليه الصلاة والسلام: ” لاتغاروا التحية “.


[ 113 ]

على البادئ به مثل ما قال (1). 80 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” عائد المريض على مخارف الجنة “، وفي هذا الكلام مجاز على التأويلين جميعا، فإن كان المراد المخارف، جمع مخرف، وهو جنى النخل، فكأنه عليه الصلاة والسلام شهد لعائد المريض بدخول الجنة وحقق له ذلك حتى عبر عنه، وهو بعد في دار التكليف، بعبارة من صار إلى دار الخلود ثقة له بالوصول إلى الجنة، والنزول في دار الامنة (2). وهذا موضع المجاز، وإن كان المراد بالمخارف، جمع مخرفة، وهى الطريق. كما روى عن بعض الصحابة أنه قال في كلام له: وتركتكم على مثل مخرفة النعم: أي طريق النعم الواضح الذى أعلمته يأخفافها وأعتدته (3) بكثرة غدوها ورواحها، فموضع المجاز أنه عليه الصلاة والسلام جعل عائد المريض كالماشي في طريق يفضى به إلى الجنة (هامش ص 113) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ: حيث شبه الصلاة الناقصة بالناقة التى ألقت ولدها قبل أو ان وضعه، أو التي ألقته ناقص الخلق، واستعمال المصدر وهو خداج أبلغ من استعمال اسم المفعول وكان الاصل فهى مخدجة، ولكن استعمال المصدر أبلغ. وأصل التشبيه: كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهى كالناقة المخدجة بجامع النقصان في كل، فحذف وجه الشبه والاداة. (2) الامنة بفتحات: هي الامن، يقال أمن أمنا وأمانا وأمنا: بفتح الميم وأمنة. (3) اعتدته: أعدته وهيأته وجعلته صالحا للسير فيه.


[ 114 ]

ويوصله إلى دار المقامة (1). 81 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة ليتزوجها: ” لو نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما “، وفي هذا اللفظ مجاز على التأويلين جميعا، فأحدهما أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: أحرى أن يؤدم بينكما مأخوذ من الطعام المأدوم، لان طيبه وصلاحه إنما يكون بالادام كالزيت والاهالة (2) وما يكون في معناهما، فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن ذلك أحرى أن يتوافقا كما يوافق الطعام أدمه، أو كما يوافق الادام (3) خبزه. قال الكسائي: أدم الله بينهما على مثال فعل: إذا ألقى بينهما المحبة والاتفاق. وأقول: إن هذا يشبه دعاءه عليه الصلاة والسلام للبانى على أهله، وهو قوله: بالرفاء والبنين، كأنه عليه الصلاة والسلام دعا بأن يلائم الله بينهما كما يلائم الرافى بين شقق الثوب المرفوء. وأما التأويل الآخر في أصل الخبر، فهو أن يكون بمعنى: (هامش ص 114) (1) المقامة: الاقامة، كالمقام والمقام بفتح الميم وضمها، ومن ذلك قوله تعالى ” الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب، ولا يمسنا فيها لغوب ” أي دار الاقامة الدائمة. (2) الاهالة: الشحم الجامد أو الذائب أو الزيت، وكل ما أؤتدم به (أي كل ما جعل إداما) وينبغى أن يراد به هنا ما عدا الزيت إذا اعتبرنا العطف ليس للتفسير، أما إذا أريد بالعطف عطف التفسير فيجوز أن يراد به الزيت. (3) الادام: ما يؤكل مع الخبز من زيت وغيره.


[ 115 ]

ذلك أحرى أن يصلح الله بينكما، من قولهم: عنان مؤدم، إذا كان مصلحا محكما. قال الراجز: * في صلب مثل العنان المؤدم (1) * ويقال أديم مؤدم إذا ظهرت أدمته، وهو مأوى اللحم منه. وأديم مبشر إذا ظهرت بشرته، وهو مأوى الشعر منه. ويقال: رجل مؤدم إذا كان محبوبا. قال الراجز: * والبيض لا يؤد من إلا مؤدما * (2) أي لا يحببن إلا محبوبا (3). 82 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن من البيان لسحرا “، وهذا القول مجاز، والمراد به إن البيان قد يخدع بتزويقه ورحارفه وحسن معارضه ومطالعه، حتى يستنزل الانسان من حال الغضب، والمخاشنة إلى حال الرضا والملاينة، وينزع (هامش ص 115) (1) الصلب محركة: الظهر والعنان: اللجام، والمؤدم: المتين اللين، الذى جمع بين اللين والمتانة. (2) المؤدم: الرجل الحاذق المجرب الذى جمع بين لين الادمة وخشونة البشرة ومثل هذا يكون محبوبا، فقد عبر الشريف عن لازم المعنى وهو الحب. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الموافقة بين الرجل وزوجته بالادمة، وهى الموافقة بين الخبز وإدامه بجامع التوافق في كل، واشتق من الادمة يؤدم بمعنى يوافق على سبيل الاستعارة التبعية، ويجوز ألا يكون فيه استعارة بل يكون الكلام على الحقيقة، لان من معاني الادمة الموافقة.


[ 116 ]

حمات (1) السخائم، ويفسخ عقود العزائم، ويكبح الجامح حتى يرجع، ويسف (2) بالمحلق حيت يقع، ويعود بالخصم الضالع (3) موافقا، وبالضد الابعد مقاربا. والسحر في الاصل هو التمويه والخديعة والتلبيس والتغطية. وقال بعضهم: السحر ما نقلك من حال إلى حال. وكانت العرب تعتقد أن السحر يصرف الوجوه، ويقلب القلوب، ويمرض الاجسام، ويسفه الاحلام، ويفرق بين المتحابين، ويجمع بين المتباغضين. وهذا في الحقيقة نقل من حال إلى حال، وهو عندنا باطل إلا أن يراد به ما قدمنا القول فيه من خديعة الانسان بلين القول وحسن اللفظ، حتى يرضى بعد اشتطاطه (4)، وينثنى بعد جماحه. وهذا الوجه هو الذى ذهب إليه النبي عليه الصلاة والسلام دون ما يقوله أهل الجهالة وطغام الجاهلية (5). (هامش ص 116) (1) الحمات جمع حمة بضم الحاء وفتح الميم: وهى الابرة التى يضرب بها الزنبور أو الحية أو العقرب أو يلدغ بها، والسخائم: جمع سخيمة: وهى الحقد، والمراد ينزع دوافع الحقد وأسبابه. (2) يقال أسف الطائر: دنا من الارض في طيرانه، وأسفت السحابة دنت من الارض، والمحلق المرتفع، والمراد أن الكلام ينزل بالمرتفع إلى أسفل أي يغير حال المخاطب من التشدد إلى اللين. (3) الخصم الضالع: المائل المخالف، ومن معاني الضالع الجائر، ولكن المعنى الذى ذكرناه أولى وأنسب بقول الشريف موافقا. (4) الاشتطاط: مجاوزة القدر المعقول والتباعد عن الحق. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه الكلام الحسن بالسحر في تأثيره على السامع، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية.


[ 117 ]

83 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إلا أن يتغمدني منه برحمة “، وأصل هذا الكلام مستعار، لان المراد به: إلا يغطينى الله أو يجللني (1) منه برحمة، مأخوذ من غمد السيف الذى يكون كنانا (2) وسباغا (3) عليه، وقال الشاعر: نصبنا رماحا فوقها جد عامر (4) * كطل السماء كل أرض تغمدا أي امتد جدهم على أقطار الارض، فغطاها كامتداد السماء عليها من جميع جهاتها، يصفهم باستطالة الجد، وانبساط اليد، وثراء المال والعدد (5). 84 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اللهم إنى أسألك رحمة تلم بها شعثى ” (6)، وهذه استعارة، والمراد تجمع بها (هامش ص 117) (1) يجللني: أي يغطينى ويعلوني بالرحمة. (2) الكنان والكنة والكن: ما يستر الشئ ويقيه. (3) سبغ الشئ سبوغا: طال إلى الارض. والمعنى يكون ستارا عليه. (4) الجد: العظمة، يريد أن رماحهم غطتها عظمتهم، وهذه الرماح كثيرة حتى أنها تغطى جميع الارض، أي أرض بلادهم، ولكنه بالغ حتى جعلها تعم الارض جميعها كظل السماء. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه شمول رحمة الله بتغطية الغمد للسيف واشتماله عليه من جميع جهاته: واشتق من التغميد بمعنى الشمول يتغمد بمعنى يشمل على طريق الاستعارة التبعية. (6) الشعث: انتشار الامر وتفرقه، ولم الله شعته: قارب بين شتيت أموره.


[ 118 ]

أمرى، فكنى عليه الصلاة والسلام عن ذلك بالشعث تشبيها بالعود الذي تشعث رأسه وتشظت (1) أطرافه، فهو محتاج إلى جامع يجمعه وشاعث يشعثه. ومن ذلك قول الشاعر يصف النار: وغبراء شعثاء الفروع منيفة (2) * بها توصف الحسناء وهى جميل أراد تفرق أطرافها وتشعث شواظها (3). 85 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أعوذ بالله من شر عرق نعار “، وهذه استعارة، والاصل في ذلك رفع الصوت يقال: فلان نعار في الفتن، أي صياح فيها ودعاء إليها. وقال بعض التابعين وقد صلى خلف مصعب بن الزبير وهو رافع صوته بالتكبير والتهليل: قاتله الله نعارا بالبدع، أي صياحا بها، فشبه (هامش ص 118) (1) تشظت أطرافه: أي صارت أطرافه شظايا جمع شظية، وهى القطعة من الشئ، ويقال تشظى العود: تطاير شظايا. (2) منيفة: عالية مرتفعة، والمراد أن هذه النار متفرقة عالية توصف بها الحسناء السمينة في حرارتها وفي ضيائها وفي عظمها. (3) الشواظ: المراد به هنا دخان النار، لانه هو الذى يظهر فيه التفرق أكثر من تفرق اللهب. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تبعية في تلم، وتصريحية في شعثى، أما الاولى فشبه جمع الامر المعنوي بجمع الاشياء المتفرقة واشتق من لم بمعنى جمع، الامر تلم بمعنى تجمع الامر على طريق الاستعارة التبعية، وشبه تفرق الامر المعنوي بتفرق العود شظايا، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية، ويجوز أن يكون الكلام حقيقة لا مجاز فيه.


[ 119 ]

عليه الصلاة والسلام شغور (1) دم العرق وتواتره بصوت الصائح المنوه من وجهين، لارتفاع ندائه، ولتكرير دعائه، فجعل العرق نعارا للعلة المذكورة على طريق المجاز والاتساع. وقال بعض أهل اللغة: يقال نعر العرق نعرا ونعرانا إذا اهتز بالدم ولم يرقأ، فإن كان الامر على ما قال، فقد خرج الكلام عن باب المجاز إلى حيز الحقيقة (2). 86 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من كانت الدنيا همه وسدمه (3) جعل الله فقرا بين عينيه “، وهذا الكلام مجاز، والمراد به أن من جعل الدنيا همه، وقر عليها باله، وأعرض عن الآخرة بوجهه، وأخرج ذكرها من قلبه، وأقبل على تثمير الاموال (4)، واستضخام الاحوال، عاقبه الله على ذلك بأن يزيده (هامش ص 119) (1) شغور دم العرق، شدة دفعه وضربه حتى يسمع له صوت، وهو ضد سكون العرق الذى دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سابق. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبه شدة دفع الدم في العرق بالصوت العالي واشتق من التنعير بمعنى التدفق نعار بمعنى متدفق شديد الدفع على طريق الاستعارة التبعية. (3) السدم: من معانيه الهم، فيكون العطف من عطف المترادفات ومن معاثيه اللهج بالشئ، وهو أن يغرى الشخص به ويثابر عليه، ويكثر من ذكره بقلبه وبلساته، وهذ أنسب لمعنى الحديث. (4) المراد بالاقبال على تثمير الاموال يجب تقييده بتثميرها طلبا للمباهاة بها والاستعلاء على عباد الله، أما من يثمر الاموال يريد بها صالح الجماعة الاسلامية فهذا محبوب من الله ومن الناس، مجزى خيرا على عمله بإذن الله.


[ 120 ]

فقر نفس وضرع (1) خد، فلا تسد مفاقره (2) كثرة ما جمع وعدد، وعظيم ما أثل وثمر، فكأنه يرى الفقر بين عينيه، فهو أبدا خائف من الوقوع فيه، والانتهاء إليه، فلا يزال آكلا لا يشبع، وشاربا لا ينقع (3)، فمعه حرص الفقراء، وله مال الاغنياء. وقال عليه الصلاة والسلام: جعل فقرا بين عينيه مبالغة في وصفه بتصور الفقر، فكأنه قريب منه، وغيره غائب عنه، كما يقول القائل لغيره إذا أراد هذا المعنى: حاجتك بين عينى، أي هي متصورة لى وغير غائبة عن قلبى (4). 87 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في صفة شاء (5) ذكرها: ” فجاءت به كله قالب لون غير واحد أو اثنين “، وهذه (هامش ص 120) (1) يقال ضرع فلان إلى فلان: إذا ذل واستكان وخضع، ونسبة الضرع إلى الخد أبلغ، لان الخد هو موضع التكريم في الوجه، فإذا كان ذليلا كان الجسم كله ذليلا، وكانت النفس خاضعة مستكينة، وهذا التعبير يستعمل عند الناس في هذه الايام، إذ يقولون: ” جعل خده مداسا “، أي مكان الدوس والوطئ بالاقدام. (2) المعاقر: اللهوات، وهى داخل الفم، أي لا يملا فمه. (3) لا ينقع: أي لا يرتوى، يقال نفع الماء غلة العطشان: أي رواه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته المحلية، حيث أريد بالدنيا أعراضها والدنيا محلها، واستعمل لفظ المحل في الحال فيه. (5) الشاء جمع شاة: أي في صفة شياه ذكرها، وهذه الشياه هي التى رعاها موسى عليه السلام لشعيب عليه السلام، وكان رعيها ثمانى حجج مهرا لابنته التى تزوجها موسى عليه السلام، وقد سمح شعيب لموسى من نتاح الغنم بما كان لونه مخالفا للون أمه، فلم تجئ منها كذلك إلا واحدة أو اثنتان.


[ 121 ]

استعارة، وأن ألوانها جاءت متساوية (1)، فكأنما أفرغت في قالب واحد. وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، وذلك كما يقول القائل منا إذا أراد أن يصف قوما متشابهين في الخلق والمناظر أو في الطبائع والغرائز: كأنما طبعوا على سكة (2) واحدة، أو خلقوا من طينة واحدة (3). 88 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” خير الخيل الادهم (4) الاقرح (5) المحجل (6) ثلاثا، طلق اليد اليمنى “، وهذه (هامش ص 121) (1) فمعنى كونه قالب لون: أنها جاءت على لون واحد، كما يقال صيغت في غالب واحد كما يقول الشريف. (2) السكة: حديدة منقوشة تضرب عليها الدراهم، أي القالب الذى تصب فيه المعادن التى تصنع منها الدراهم على شكله، يريد كأنهم طبعة واحدة لقالب واحد. (3) ما في الحديث من البلاغة: قال في القاموس: ” وشاة قالب لون على غير لون أمها ” وهذا مخالف لما ذكره الشريف، فإنه جعل المعنى عكس ذلك وقال ” وأن ألوانها جاءت متساوية ” وقال صاحب النهاية في غريب الحديث ” قالب لون ” كأن لونها قد انقلب. فعلى ما ذكره الشريف يكون في الحديث استعارة، حيث شبه خلق الغنم على لون واحد بضرب الدراهم في قالب واحد مثلا، أما على رأى غيره فليس فيه استعارة، وإنما الكلام هكذا، فجاءت لونا مقلوبا عن لون أمها، أي متغيرا عنه كأنما انقلب لونها من أسود إلى أبيض، ومن أبيض إلى أسود وهكذا. (4) الادهم: الاسود. (5) الاقرح: الذى في جبهته بياض قليل أصغر من الغرة. (6) المحجل: الذي في قوائمه بياض ويكون في رجلين ويد وفي رجلين فقط، وفي رجل فقط، ولا يكون في اليدين وحدهما بل يكون فيهما مع الرجلين ولا يكون في يد واحدة دون الاخرى إلا مع الرجلين. فمعنى المحجل ثلاثا: أي الذي بثلاث من قوائمه بياض، هي الرجلان واليد اليسرى بدليل قوله طلق اليد اليمنى. (م – 8)


[ 122 ]

من محاسن الاستعارات، لانه عليه الصلاة والسلام شبه الثلاث من قوائمه لا لتفاف التحجيل عليها بالثلاث المعقولة من قوائم البعير، والمشكولة من قوائم الفرس، وشبه اليمنى منها لخلوها من التحجيل بالمطلقة من العقال (1)، أو العاطلة من الشكال (2). ويقال: ناقة علط إذا لم تكن موسومة (3)، ويقال: طلق إذا لم تكن معقولة، وناقة علط إذا لم تكن مزمومة (4). 89 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لسراقة بن مالك المدلجى لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة مهاجرا إلى المدينة وقد لحق به وهو بعد على شركه: ” قف هاهنا فعم علينا بتهور النجوم “، وهذه استعارة، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه السماء وما فيها من مواقع الكواكب ومراقب الثواقب بالابنية (هامش ص 122) (1) العقال: القيد. (2) الشكال: الحبل. (3) أي معلمة بالوسم، وهو كى في عنقها. (4) الزمام: الخطام الذى يخطم به البعير، فالناقة غير المزمومة هي غير المخطومة. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه عدم التحجيل بعدم القيد، وعدم القيد هو الاطلاق، فيكون شبه عدم التحجيل بالاطلاق، واشتق من الاطلاق بمعنى عدم التحجيل، طلق، بمعنى غير محجل على طريق الاستعارة التبعية، وفي ذلك نشبيه ضمنى للقوائم الثلاثة الباقية، وهى المحجلة بالمقيدة.


[ 123 ]

الموطودة (1) والدعائم المرفوعة، وجعل تزحزحها عن مطالعها وانصبابها بعد ترفعها، كالبناء المتهور (2) والسقف المتقوض (3). 90 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث طويل وقد خط في الارض خطوطا يمثل بها أحوال ابن آدم، فقال صلى الله عليه وآله: ” وهذه الخطوط إلى جنبه الاعراض تنهشه من كل مكان فإن أخطأه هذا أصابه هذا “، وفي هذا الكلام مجاز. وقوله عليه الصلاة والسلام: وهذه الخطوط إلى جنبه الاعراض تنهشه، ويروى تنغشه بالغين (4)، والمراد بذلك أعراض الدنيا، وهى ما تعرض فيها من المصائب، وتطرق من النوائب. وشبهها عليه الصلاة والسلام بالحيات الناهشة، والذؤبان الناهسة (5) لاخذها من لحم الانسان ودمه، وتأثيرها في نفسه وجسمه. (هامش ص 123) (1) يقال وطد الشئ يطده وطدا وطدة: فهو وطيد وموطود: إذا ثبته، فمعنى موطودة مثبتة. (2) المتهور: المتهدم. (3) المتقوض: المتهدم أيضا، أو هو الذى نزعت منه الاعواد والقوائم والاطناب. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه زوال النجوم من أماكنها بتهور البناء، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية. (4) النغش: تحرك الشئ في مكانه. والمعنى أنها تجعله مضطربا غير ثابت. (5) نهس اللحم: أخذه بمقدم أسنانه ونتفه، وهذا أوجع وآلم من أخذ قبضة كثيرة منه.


[ 124 ]

91 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يصل الرجل وهو زناء ” (1)، وهذا القول مجاز، لان أصل الزناء الضيق والاجتماع. وقال الاخطل يذكر حفرة القبر: وإذا قذفت إلى الزناء (2) تعرها * غبراء مظلمة من الاحفار ويقال: قد زنأ بوله يزنأ زنوءا إذا احتقن، وأزنأ الرجل بوله إزناء إذا حقنه، فسمى الحاقن زناء لاجتماع البول فيه وضيق وعائه عليه، وموضع المجاز من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام وصف الرجل بالضيق، وإنما الضيق وعاء البول، إلا أن ذلك الموضع لما كان شيئا من جملته نوطا معلقا به، جاز أن يجرى اسمه عليه. وقوله عليه الصلاة والسلام: لا يصل الرجل وهو زناء، وفيه من الفائدة ما ليس في قوله: وهو حاقن، لان الحاقن قد يحقن القليل كما يحقن الكثير، والزناء هو الضيق، ولا يكاد يضيق وعاء البول إلا من الكثير دون القليل (3). (هامش ص 124) (1) قال في القاموس ” الزناء كسحاب القصير المجتمع والحاقن لبوله ” فاستعمال الزناء في الحاقن لبوله حقيقة وليس بمجاز، ولكن الشريف جعله مجازا باعتبار الزناء الاجتماع والضيق. (2) الزناء هنا الضيق، وتعرها أي تلطخها بشر، يريد أن الميت شر يسئ الحفرة التى يقذف إليها وهى القبر، والغبراء: ذات الغبار، والمظلمة ذات الظلام، والاحفار: الحفائر. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته الاشتقاق، حيث استعمل المصدر في المشتق منه فاستعمل الزناء وهو الضيق في المكان الضيق وهو الزنئ، وهذا على رأى الشريف.


[ 125 ]

92 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الحجاز قطيفة الايمان “، وهذه استعارة، والمراد بها أنه يحيط بالايمان ويجمع شمله ويضم أهله كما تضم القطيفة، وهى الكساء الغليظ، جملة بدن الانسان إذا اشتمل بها ودخل فيها، وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك لثبات عرب الحجاز من قريش وغيرها على الاسلام بعد دخولهم فيه، فلم يرتد منهم أحد كغيرهم ممن خلى حبل الدين عن بدنه، ورجع على عقبه. وقال أصحاب الآثار: ما من قبيلة من قبائل العرب بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام إلا وقد فشا فيها الارتداد عامة أو خاصة إلا قريشا وثقيفا، فإنه لم يرتد منهم أحد. هذا على أن هاتين القبيلتين كانتا في أول الاسلام أشد نكاية، ولرسول الله صلى الله عليه وآله أحضر (1) عداوة. (2). 92 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن هذه المسائل (3) كد يكد بها الرجل وجهه “، وفي هذا الكلام استعارة على تأويل الكد في العربية. وأحد التأويلين: أن يكون الكد بمعنى الاتعاب والانصاب، كما يقول القائل: كددت فرسى إذا أراد (هامش ص 125) (1) المحاضرة: المجالدة، والمراد بقوله أحضر عداوة أشد عداوة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه المجاز بالقطيفة، وهى الثوب الذي يشتمل على الانسان بجامع الضم والجمع في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (3) المسائل جمع مسألة: وهى سؤال الشخص الناس العطاء والصدقة ونحوهما


[ 126 ]

أنه أتعبه واستنفد طاقته، فعلى هذا التأويل يكون معنى كد الرجل وجهه بالمسائل أنه لكثرة بذله في السؤال وطلب ما في أيدى الرجال قد أجراه مجرى المطية التى يحضرها بكثرة الحل والترحال وقطع المسافات الطوال. والتأويل الآخر: أن يكون الكد مأخوذا من استقصاء النزح ماء الركية (1) حتى يبلغ حمأتها (2) ويستنفد غمرتها (3) يقال: كد الركية واكتدها إذا فعل ذلك بها قال الشاعر: أمص ثمادى والمياه كثيرة * أعالج منها حقرها واكتدادها (4) ويكون قول القائل على هذا التأويل: كددت فرسى، أي اعتصرت مادته واستقصيت ما عنده، فيكون كد الوجه على هذا القول يراد به اعتصار مائه واستقطار حياته. ومن المتعارف بيننا أن يقول القائل إذا أراد هذا المعنى: قد هرقت (5) ماء وجهى بكثرة الطلب إلى فلان، والرغبة فيما عند فلان (6). (هامش ص 126) (1) الركية: البئر. (2) حمأة البئر طينتها، أي نزح ماء البئر جميعها حتى وصل إلى الطين الموجود في قعرها. (3) غمرتها: معظم مائها. (4) الثماد: الماء القليل، والحقر: قليل الشأن، واكتداد: المياه استخراج غايتها حتى لا يبقى شئ منها كما سبق في كد البئر. (5) هرقت الماء وأرقته: صببته، وباللغة العامية (كببته). (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه السؤال بالكد وهو إتعاب الفرس أو استنزاف ماء البئر، لان في السؤال إتعابا للوجه بكثرة تعريضه للمسئول على المعنى الاول واستنزاف حياته المقائل لماء البئر على المعنى الثاني.


[ 127 ]

94 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذى قال لبعض الصحابة: إن فتح الله عليكم الطائف فسل النبي عليه الصلاة والسلام أن يهب لك نادية بنت غيلان بن سلمة، فإنها إذا قامت تثنت، وإذا تكلمت تغنت، في كلام طويل بلغه عليه الصلاة والسلام عنه، وكان هذا الرجل من مخنثى المدينة، فقال عليه الصلاة والسلام: ” لقد غلغلت النظر يا عدو الله “، وفي هذا الكلام استعارة، لان غلغلة الشئ هو إدخاله في شئ حتى يلتبس به ويصير من جملته، وذلك لا يصح في نظر الانسان إلا عن طريق الاتساع والمجاز، فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن هذا الانسان بلغ بنظره من محاسن هذه المرأة إلى حيث لا يبلغ ناظر ولا يصل واصل، فكان كالشئ المتغلغل الذي يدق مدخله ويلطف مسلكه ويبعد متولجه (1). وروى لنا أبو على الحسن بن أحمد بن عبد الغفار النحوي الفارسى في كتابه الموسوم بالايضاح إجازة، وأنشدناه الشيخان أبو الفتح وأبو الحسن النحويان ملافظه قول الشاعر: طلين بكديون وأشعرن كرة * فهن إضاء صافيات الغلائل (2) (هامش ص 127) (1) متولجه: مدخله، ومن ذلك قوله تعالى: ” يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ” أي يدخل كلا منهما في الآخر. (2) يصف الشاعر الدروع، فيقول إنها دروع ثمينة جيدة، لانها طليت بعكر الزيت، وحميت به في النار حتى صفت، وجليت بتراب البعر حتى لمعت، فهى وضيئة صافيات البطائن التى تبطن بها، فإضاء أصلها وضاء، قلبت الواو همزة جوازا لانها في أول الكلام ولا مقتضى لوجوب قلبها.


[ 128 ]

والكديون: عكر الزيت تطلى به الدروع وتحمى به في النار لتذهب أصداؤها وتصفو ألوانها وقيل أيضا: إن الكديون اسم من أسماء التراب. والكرة: البعر الذى يوقد به النار عليها. وقيل في الغلائل التى ذكرها الشاعر في هذا البيت قولان: فأحدهما: إنها اسم لبطائن وشعارات تلبس تحت الدروع والواحدة غلالة، وإنما سميت غلائل لا نغلالها بين الدروع والاجساد. والثانى: أنها المسامير التى تجمع بين رءوس الحلق والواحدة غليلة وإنما سميت بذلك لانها تغل في الدروع، أي يستقصى إدخالها فيها فتصير كالاجزاء منها (1). 95 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل: ” وليس من ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن أرتع حول الحمى كان قمنا أن يرتع فيه “، وهذا الكلام مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام شبه ما حظره الله سبحانه من محارمه بالحمى الذي يحميه ذو السلطان والملكة من مواقع السحاب ومنابت الاعشاب، فلا ترعى فيه إلا إبله، ولا ينزل به إلا حيه، وما كان (هامش ص 128) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إحداد النظر وشدة التأمل به بالغلغلة، وهى إدخال شئ في شئ بجامع الوصول إلى أقصى الداخل في كل، واستعير الغلغلة لاحداد النظر واشتق من الغلغة بمعنى إحداد النظر، غلغل بمعنى أحد النظر على طريق الاستعارة التبعية.


[ 129 ]

يفعل ذلك من العرب إلا الاعز فالاعز، والابر فالابر (1)، حتى ضربت العرب المثل بحمى كليب بن ربيعة، وهو كليب وائل في أنه رجل حرام وممنوع (2) لا يرام، فقالوا: أعز من حمى كليب، فجعل عليه الصلاة والسلام ما حظره الله سبحانه على العباد كالحمى الذي يجب عليهم ألا يطوفوا به ولا يمروا بجوانبه، ومن خالف الله منهم أرصد له العقاب وانتظر له النكال (3)، فما حرم من الاشياء حمى لا يرعى، وما أحل منها مرعى لا يحمى. وقوله عليه الصلاة والسلام: فمن أرتع حول الحمى كان قمنا أن يرتع فيه، يريد به التحذير من الالمام بشئ من صغائر الذنوب لئلا يكون ذلك مجرئا على الوقوع في كبائرها والتهوك (4) في معاظمها. وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى. وهذا الغرض نحاه (5) عمر بن عبد العزيز بقوله: دع بينك وبين الحرام جزءا من الحلال، فإنك إن استوفيت الحلال كله تاقت نفسك إلى الحرام (6). (هامش ص 129) (1) يقال أبر فلان على القوم: غلبهم. والمعنى على ذلك الاغلب فالاغلب. (2) عطف تفسير، أي رجل ممنوع حماه من دخول غيره فيه. (3) النكال: الفعل الذى يقع بالشخص فيحذر غيره الوقوع في مثله. (4) قال في القاموس: التهوك: التهور والوقوع في الشئ بلا مبالاة. (5) نحاه: قصده وأراده. (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية في قوله: حمى الله، حيث شبه المحرمات التى حرمها الله بالحمى الذى يحميه الملك أو الرئيس فلا يقربه أحد، واستعار لفظ المشبه به للمشبه.


[ 130 ]

96 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لزيد بن أرقم وقد كان رقى (1) إليه صلى الله عليه وآله في غزوة المريسيع (2) كلاما سمعه من عبد الله بن أبي بن سلول، فيه طعن على المهاجرين، وغمض (3) لرسول الله صلى الله عليه وآله، وهو مشهور في كتب المغازى (4)، فاتهمت الانصار زيدا في حكايته، وكان إذ ذاك صغير السن، حتى نزل القرآن بتصديقه في السورة التى يذكر فيها المنافقون، وذلك قوله سبحانه: ” يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون “، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام زيد بن أرقم، وهو متأثر على ما هو فيه، فأخذ بأذنه فرفعه، ثم قال له: ” وفت أذنك يا غلام وصدق الله حديثك “، فقوله عليه الصلاة والسلام: وفت أذنك مجاز، كأنه جعل أذنه في سماعها ما سمعت كالضامنة لتصديق ما حكت، لانه صدق في نفسه، فلما نزل ما نزل في القرآن في تحقيق (هامش ص 130) (1) رقى إليه كلاما: أبلغه إياه وأصل رقى رفع، وهذا مناسب لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم. (2) المريسيع: قال في القاموس المريسيع مصغر مرسوع: بئر أو ماء لخزاعة على يوم من الفرع (الفرع بضم الفاء موضع بالمدينة) وإليه تضاف غزوة بنى المصطلق، وفيها سقط عقد عائشة ونزلت آية التيمم انتهى كلام القاموس، وما بين القوسين ليس من كلامه هنا. (3) الغمض: التنقيص. (4) هو قوله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل).


[ 131 ]

ذلك الخبر صارت الاذن كأنها وافية بضمانها، وخارجة من الظنة فيما أدته إلى لسانها، وهذا من غريب المجازات (1). 97 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” حسان حجاز بين المؤمنين والمنافقين، لا يحبه منافق، ولا يبغضه مؤمن “، وفي هذا الكلام مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام جعل حسان كالسياج المضروب بين حيزى الايمان والنفاق، فمن كان في حيز الايمان أحبه، ومن كان في حيز النفاق أبغضه. وذلك لما كان يظهر منه من المنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله والاسلام بسيف لسانه، ونوافذ أقواله، فكان قوله يسر المؤمنين ويغبطهم، ويسوء المنافقين ويزعجهم. وهذا الكلام عندنا في حسان متعلق بوقت مخصوص، وهو زمن النبي صلى الله عليه وآله فأما حين ظاهر أمير المؤمنين (2) عليه السلام بعداوته، ورماه بمعاريض (3) القول في أشعاره فقد خرج من أن يكون حجازا بين الايمان والنفاق، وتحيز إلى (هامش ص 131) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شيه تصديق الله تعالى لزيد بن أرقم بوفاء أذنه، كأنها حققت ضمانها لما سمعت، واشتق من الوفاء بمعنى التصديق، وفت بمعنى صدقت على طريق الاستعارة التبعية. (2) هو الامام على كرم الله وجهه. (3) معاريض القول: أي الاقوال غير الصريحة في نقد الامام على.


[ 132 ]

جانب النقمة والضلال (1). 98 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام تكلم به عند منصرفه من تبوك: فلم يبق منهم تحت أديم السماء إلا رجل في الحرم منعه الحرم من عذاب الله ” وفي هذا الكلام مجازان: (أحدهما) قوله عليه الصلاة والسلام: تحت أديم السماء، فجعل للسماء أديما، يريد ما ظهر منها للابصار، تشبيها بأديم الحيوان، وهى الجلود التى تلبس الاجساد، وتغطى اللحوم والعظام، ويقال أيضا: أديم الارض، ويراد به ما ظهر من صفحاتها التى تباشرها النواظر، وتطؤها الاقدام والحوافر. (والمجاز الآخر) قوله عليه الصلاة والسلام: فمنعه الحرم من عذاب الله، والحرم على الحقيقة غير مانع من العذاب الذى يريد الله سبحانه أن ينزله بالمستحقين، وإنما المراد أن الله تعالى جعل الحرم معاذة لعباده تعظيما لقدره، وتفخيما لامره، فمن استجار به من عذابه عند مواقعة معصيته جاز أن يؤخر عنه العذاب ما كان متعلقا به. (هامش ص 132) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه حسان رضى الله عنه بالشئ الا حجز بين شيئين، بجامع الفصل في كل، لان حسان يدافع عن المؤمنين ضد الكافرين، فكأنه يحجز المؤمنين عن الكافرين، أو يحجز الكافرين عن المؤمنين، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 133 ]

وفي إقامة الحدود على اللاجئ إلى الحرم خلاف بين العلماء، ليس هذا موضع ذكره، ولابد أن يوفيه تعالى ما يستحقه من العقاب في دار الجزاء، إلا أن يكون منه توبة يسقط بها عقابه أو طاعة عظيمة تصغر معها معصيته، فالحرم لا يمنع من العذاب وإنما يمتنع الله سبحانه من فعله باللاجئ إليه والعائذ به للعلة التى ذكرناها، فلما كان الله تعالى إنما يفعل ذلك لاجل الحرم جاز أن ينسبه إليه على طريق المجاز وعادة الاتساع (1). 99 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أوثق العرى كلمة التقوى ” وهذه استعارة لانه عليه الصلاة والسلام جعل التقوى كالعروة التى يتعلق بها فتنهض من المعاثر وتنجى من المزال والمزالق، لان المتقى لله سبحانه يأمن من نقماته وينجو من سطواته فيكون كالممسك بعروة الحبل المتين، والمستند إلى النضد (2) (هامش ص 133) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية ومجاز عقلي. أما الاستعارة المكنية: فهى أن في قوله ” أديم السماء ” تشبيها للسماء بالحيوان الذى له جلد، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو الاديم على طريق الاستعارة بالكناية، وفي إضافة الاديم إلى السماء استعارة تخييلية. وأما المجاز العقلي: فهو إسناد منع العذاب إلى الحرم، وإنما الذى يمنع العذاب هو الله تعالى بسبب الحرم، ففيه إسناد الفعل إلى سببه، ومنع العذاب تأجيل الحد، أو تأجيل القتل يسبب الالتجاء إلى الحرم. (2) النضد: الجبل والامين الذى يأمن من يستند إليه من أن يؤتى من وراء ظهره.


[ 134 ]

الامين (1). 100 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: وهو يتجهز لغزوة تبوك: ” إنى على جناح سفر ” وهذه استعارة واقعة موقعها ومقرطسة (2) غرضها لانه عليه الصلاة والسلام شبه السفر بالطائر الذي قدهم بالمطار (3) وجعل الآخذ أهبة المسافر كالكائن على جناح ذلك الطائر ينتظر نهوضه (4) ويرقب تحليقه. ومما يؤكد ذلك قولهم للانسان الذى تكثر أسفاره ويطول حله وترحاله: ما هو إلا طائر طيار عبارة عن التردد في السفر وكثرة الانزعاج عن الوطن (5). 101 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الناس (هامش ص 134) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه التقوى بعروة الحبل وعقدته المعقودة عقدا وثيقا لا يتخلخل ولا يتفلت، وحذف أداة التشبيه ووجهه. (2) الغرض: هو ما ينصب هدفا لاصابته بالبندقية أو غيرهما، ومقرطسة أي مضيبة هدفها، لان القرطاس، هو ما ينصب هدفا أيضا، فالقرطاس يسمى هنا غرضا وهو في نفس الوقت قرطاس، ويقال: رمى فقرطس إذا أصاب الهدف. (3) المطار مصدر ميمى: من طار، أي الذى هم بالطيران. (4) يقال نهض الطائر إذا بسط جناحيه ليطير، ومصدره النهض والنهوض، ويظهر أن في كلمة تنهض في الاصل تصحيفا وأصلها ينتظر نهوضه، أي ينتظر المتهيئ للسفر نهوض الطائر، ويرقب بالبناء للفاعل أي ينتظر فهو من عطف المرادف، وهذا كثير في كلام الشريف، وقد أثيتنا هنا ينتظر بدل ينتهض. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية حيث شبه السفر بالطائر، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الجناح، وإثبات الجناح للسفر تخييل.


[ 135 ]

معادن ” وهذه استعارة لانه عليه الصلاة والسلام شبه الناس بالمعادن التى تكون في قرارات الارض فلا يحكم على ظواهرها حتى يستخرج دفائنها وبستنبط كوامنها فيكون منها اللجين والنضار (1)، ويكون منها النفط والقار فكذلك الناس لا يجب (2) أن يحكم على مجاليهم ولا يقطع على بواديهم حتى يخبروا ويعرفوا ويثاروا ويبحثوا فيخرج البحث جواهرهم، ويمحص الامتحان مخابرهم. فيتبين حينئذ كرم النحائز (3) وطيب الغرائز وتكشف منهم الطرائق ولتيم الخلائق (4). 102 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في آخر خطبة خطبها ببطن عرفة وذلك في حجة الوداع: ” ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع “، وهذا القول مجاز والمراد به إذلال أمر الجاهلية وحط أعلامها ونقض أحكامها، كما يستذل الشئ الموطوء الذى تدوسه الاخامص (5) الساعية والاقدام (هامش ص 135) (1) اللجين: الفضة، والنضار: الذهب، والنفط الزيت يستخرج منه البترول، والقار: القطران. (2) ويجب: أي لا يلزم، يقال وجب الشئ: لزم. (3) النحائز جمع نحيزه: وهى الغريزة. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الناس بالمعادن في أنها تحتاج في معرفتها إلى بحث وفي اختلاف طبائعها إلى نظر، وحذف وجه الشبه والاداة، والاصل الناس كالمعادن. (5) الاخامص جمع أخمص: وهو مالا يصيب الارض من باطن القدم.


[ 136 ]

الواطئة فلا يبقى منه مرفوع إلا وضع ولا قائم إلا صرع (1). 103 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في وصية وصى بها أسامة بن زيد لما أراد بعثه إلى مؤتة (2) ليثأر بأبيه زيد في كلام طويل: ” واعلموا أن الجنة تحت البارقة ” وهذا القول مجاز، والبارقة هاهنا السيوف، وليس الجنة تحتها على الحقيقة وإنما المراد أن الصبر تحتها لجهاد الكافرين، ودفاع أعداء الدين، يفضى بالصابر إلى دخول الجنة ونزول دار الامنة، فلما كان ذلك سبب دخولها والوصول إلى نعيمها جاز أن يسميه باسمها. ونظائر ذلك كثيرة وقد أشرنا في كتابنا هذا إلى بعضها (3). 104 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب المكتوب بينه وبين قريش في صلح الحديبية (4): ” لا إسلال ولا إغلال وإن بيننا عيبة مكفوفة “، وهذه استعارة. والمراد بالعيبة (هامش ص 136) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية، لان الشئ الموضوع تحت القدم ذنيل، فهو كناية عن تحقير شأن الجاهلية وعاداتها وأحكامها، ما عدا ما أقره الاسلام منها، كعدم القتل في الحرم، وعدم القتال في الاشهر الحرم ونحو ذلك. (2) مؤتة: موضع بمشارف الشام، قتل فيه جعفر بن أبى طالب. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته السببية، حيث أطلق الجنة وأراد سببها، وهو الصبر الذى يؤدى إلى الجنة. (4) الحديبية: موضع قرب مكة، سميت بذلك لوجود شجرة حدباء بها، وفيها عقد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح المشهور بصلح الحديبية.


[ 137 ]

المكفوفة السلم الذى يضم النشر ويجمع الامر، كأنه عليه الصلاة والسلام شبه حال السلم من أنها تحجز بين الفريقين عن شن الغارات وتكف أيديهم عن المجاذبات، بالعيبة المشرجة (1) التى تنشر مطاويها (2) ولا يتناهب ما فيها. وقد يجوز أن يكون معنى ذلك على قول من قال إن الاسلال السرقة، والاغلال، الخيانة. أنه عليه الصلاة والسلام شبه الصلح الواقع بينهم في أن أموالهم تكون به محروسة وخزائنهم محفوظة بالعيبة التى قد استوثق من إشراجها، فلا يصل إليها خائن ولا يقدر عليها سارق، والمعنيان متقاربان، ويقال رجل مسل مغل: أي صاحب مسلة وهى السرقة ومغلة وهى الخيانة وقوله تعالى: ” وما كان لنبى أن يغل ” قرأنا على شيوخنا القراء لابي عمر وابن كثير وعاصم يغل بفتح الياء وضم الغين: أي ما كان له أن يخون، وقرأ بقية القراء السبعة يغل بضم الياء وفتح الغين: أي ما كان له أن يخان، ويجوز أن يراد بذلك أيضا ما كان له أن يخون أي ينسب إلى الخيانة، وقد قال بعضهم: المراد بالاسلال ها هنا سل السيوف، وبالاغلال لبس الدروع، وهذا القول غير (هامش ص 137) (1) العيبة: الحقيبة، والمشرجة بتشديد الراء وفتحها: المربوط المشدودة التى لا يخرج ما فيها. (2) المطاوى جمع مطوية: أي الشئ المطوى في الحقيبة، والتاهب: الاخذ. (*)


[ 138 ]

معروف، والقول الاول هو القول السدد والصحيح المعتمد (1). 105 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرحم: ” هي شجنة من الله ” وفيها لغتان (2) شجنة وشجنة، وهذا القول مجاز، لان أصل الشجنة اسم لشعبة من شعب الغصن المتصل بالشجرة (3) ويقال شجر متشجن إذا التف بعضه ببعض. ومنه قولهم الحديث شجون وذو شجون: أي ذو شعب تتشعب فيذكر بعضها بعضا ويجر أول آخرا، وقيل أيضا إن الشجون هي الشعاب المتصلة بالاودية، فيجوز أن يكون الحديث شبه بها لكثرة طرقه ومداخله، وتعلق أواخره بأوائله. والمراد بالشجنة ها هنا تشبيه الرحم بالشعبة المتصلة بالشجرة، فهى بعض منها ومنتسبة إليها. فكذلك الرحم يجب صلتها على من وجب عليه حقها وضرب إليه عرقها، ويجوز أيضا أن يكون إنما شبهت بشجون الوادي لتعلقها به وإضافتها (هامش ص 138) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه الصلح في عدم سماحه بالسرقة والخيانة والقتل وغيرهما بالحقيبة المغلقة المربوطة التى لا يخرج منها شئ، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) قال في القاموس: الشجن محركة الشعبة من كل شئ كالشجنة مثلثة، وعلى ذلك يكون الشريف اقتصر على ضم الشين وكسرها، وترك لغة الفتح، ولعل ذلك لقلتها. (3) سبق أنها الشبعة من كل شئ، ولعل الشريف أراد توضيحها بشعب الغصن المتصل بالشجرة، كما يدل عليه قوله بعد ذلك ” والمراد بالشجنة ها هنا تشبيه الرحم بالشعبة بالشجرة “. (*)


[ 139 ]

إليه كما قلنا في شجون الحديث. وقوله من الله المراد أن الله سبحانه جعل حقها واجبا، وذمامها لازما. وقد يجوز أن يكون المراد بذلك أن الله سبحانه يثبت واصلها ويرعى راعيها، فكأنها متعلقة به تعالى على طريق التمثيل لا على طريق التحقيق ليعظم تعالى حقها بترهيب قاطعها وترغيب واصلها (1). 106 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الولد للفراش وللعاهر الحجر “. وهذا مجاز على أحد التأويلين. وهو أن يكون المراد أن العاهر لا شئ له في الولد فعبر عن ذلك بالحجر: أي له من ذلك مالا حظ فيه ولا انتفاع به، كما لا ينتفع بالحجر في أكثر الاحوال كأنه يريد أن له من دعواه الخيبة والحرمان، كما يقول القائل لغيره إذا أراد هذا المعنى: ليس لك من هذا الامر إلا الحجر والجلمد (2) والتراب والكثكث (3)، أي ليس لك منه إلا مالا محصول له ولا منفعة فيه. ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه (هامش ص 139) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الرحم بالشجنة، وهى الشعبة من الله تعالى، كأن الرحم جزء متصل بالله تعالى، وهذا على سبيل التمثيل، لان الله تعالى ليس جسما، ولا يتصل به جسم، وحذفت أداة التشبيه ووجهه، والوجه هنا بركتها وكرامتها، كما تكون للشعبة من الله بركتها وكرامتها. (2) الجلمد والجلمود: الصخر. (3) قال في القاموس: الكتكث بفتح كافيه وكسرهما: التراب وفتات الحجارة. (*)


[ 140 ]

عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ” الولد للفراش وللعاهر الاثلب ” والاثلب (1): التراب المختلط بالحجارة. وهذا الخبر يحقق أن المراد بالحجر هاهنا ما لا ينتنع به كما قلنا أولا، ومما يصدق ذلك قول الشاعر: كلانا يا معاذ يحب ليلى * بفى وفيك من ليلى التراب شركتك (2) في هوى من كان حظى * وحظك من تذكرها العذاب أراد ليس لنا منها إلا ما لا نفع به ولا حظ فيه كالتراب الذى هذه صفته. وأما التأويل الآخر الذى يخرج الكلام عن حيز المجاز إلى حيز الحقيقة فهو أن يكون المراد نه ليس للعاهر (3) إلا إقامة الحد عليه وهو الرجم بالاحجار، فيكون الحجر هاهنا اسما للجنس لا للمعهود، وهذا إذا كان العاهر محصنا، فإن كان غير محصن فالمراد بالحجر هاهنا على قول بعضهم الاعناف به والغلظة عليه بتوفية الحد الذى يستحقه من الجلد له. وفي هذا القول تعسف واستكراه وإن كان داخلا في باب المجاز لان الغلظة على من يقام الحد عليه إذا كان الحد جلدا لا رجما لا يعبر عنها بالحجر، لان ذلك بعد عن سنن (هامش ص 140) (1) قال في القاموس: الاثلب والاثلب التراب والحجارة أو فتاتها. (2) قال في القاموس: شركه في البيع والميراث كعلمه: شركة بالكسر. (3) العاهر: الزانى. (*)


[ 141 ]

الفصاحة ودخول في باب الفهاهة (1)، فالاولى إذا الاعتماد على التأويل الاول لانه الاشبه بطريقهم، والاليق بمقاصدهم (2). 107 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور وسوء المنظر في الاهل والمال “، وفي هذا الكلام مجازان: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: ” من وعثاء السفر “، وهى فعلاء من الوعث وهو ضد الجدد (3)، والسير فيه يشق على القدم والمنسم (4). فجعل عليه الصلاة والسلام طول السفر وشقته وتكاليفه ومشقته بمنزلة الوعثاء التى قاطعها تعب، والسارى فيها نصب. (هامش ص 141) (1) الفهاهة والفهة والفهفهة: العى وعدم الفصاحة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على التفسير الاول وهو أنه لا فائدة للعاهر من الولد كناية، حيث استعمل جملة ” للعاهر الحجر ” بمعنى ليس له فيه إلا التراب والتراب لا قيمة له أولا ثمن له، فلزم من ذلك أن يكون ليس للعاهر في الولد فائدة: أما على التفسير الثاني وهو أن المراد بالحجر حقيقته وهو الذى يرجم به، فقد قال الشريف: إن الكلام حينئذ حقيقة، ولكني أقول إنه مجاز أيضا، لان العاهر له الرجم، أي الضرب بالحجر فعير بالحجر نفسه عن الضرب بالحجر، فهو مجاز مرسل علاقته الآلية لان الحجر هو آلة الضرب كالسوط وتحوه. ويخص الحديث بالزانى المحصن، أما التفسير الثالث فهو باطل، لان الاعناف على الزانى غير المحصن لا يكون بالحجر، وإنما بالجلد بالسوط ونحوه. (3) الجدد: الطريق السالك السهل المنبسط الذى لا وعورة فيه. (4) يريد أنه يشق على قدم الانسان وعلى المنسم، وهو خف البعير، أي أنه شاق على الانسان والحيوان. (*)


[ 142 ]

والمجاز الآخر قوله عليه الصلاة والسلام: ” والحور بعد الكور (1) “، أي انتشار الامور بعد انضمامها (2)، وانفراجها بعد التئامها، وذلك مأخوذ من حور العمامة بعد كورها، وهو نقضها بعد ليها، ونشرها بعد طيها. وقد قيل: إن معناه القلة بعد الكثرة والنقصان بعد الزيادة، فكأنه تعوذ من الانتقال عن حال حسنة إلى حال سيئة، وعلى ذلك قول الشاعر: واستعجلوا عن شديد المضغ فابتلعوا * والذم يبقى وزاد القوم في حور (3) أي في نقصان، والمعنيان متقاربان، وقد روى هذا الكلام على وجه آخر، فقيل من الحور بعد الكون بالنون، من قولهم: حار إذا رجع، يقولون كان على حال جميلة، فحار عنها: أي رجع عما كان عليه منها. والرواية الاولى أعرف عند أهل اللسان، وأشبه (هامش ص 142) (1) قال في القاموس: الحور هو ما تحت الكور من العمامة، أي الشئ الذى تلف عليه العمامة كالطاقية أو الطربوش أو نحو ذلك. والكور هو لف العمامة، وإدارتها كالتكوير، وبناء على هذين المعنيين سنبين ما في الحديث من البلاغة في آخره. (2) هذا لا يناسب المعنى الذى ذكره القاموس. (3) ضرب هذا البيت دخله القطع فحذف خامسه وسكن ما قبله، وأصله فاعلن فحذفت النون وسكنت اللام، ويحول إلى فعلن بسكون العين. (*)


[ 143 ]

بمزاوجة الكلام (1). 108 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للشارب في آنية الذهب والفضة: ” إنما يجرجر في بطنه نار جنهم “، برفع النار، والاكثر من الروايات على نصبها، وهذا القول مجاز، لان نار جنهم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه، والجرجرة صوت البعير عند الضجر أو الدأب (2)، قال امرؤ القيس يصف طريقا: (هامش ص 143) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تصريحيتان: الاولى: استعمال وعثاء السفر، وهى طريقه الوعر في مشقته وتعبه، حيث شبهت المشقة والتعب بالوعورة في الطريق بجامع ما يتحمله المسافر منهما واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. والثانية: استعمال الحور في النقصان، والكور في الزيادة، أو بمعنى آخر استعمال الحور في سوء العيش، والكور في حسنه وعلى تفسير ؟ ؟ الشريف يكون شبه سوء العيش بنقض العمامة، وحسنه بلفها وتكويرها، ففى كل من الحور والكور استعارتان تصريحيتان. أما على المعنى الذى ذكره القاموس من أن الحور هو ما تحت العمامة، فيكون المعنى الاستعاذة من انكشاف الستر، لان العمامة تغطى الحور، وظهور الحور معناه زوال ساتره وهو العمامة، وأرى أن في الحديث على هذا المعنى استعارة تمثيلية، حيث شبه مال الانسان في عسره بعد يسره، وقله ما في يده بعد كثرته ؟ ؟ وانكشاف ستره المعنوي بعد أن كان مستورا بالحور بعد الكور، فوجه الشبه منزع من متعدد، وهو تشبيه الغنى بالكور والفقر بظهور الحور مجتمعين في وجود واحد بعد الآخر، وليس كل منهما منفردا وإلا كانا تشبيهين لا تشبيه تمثيل. (2) الدأب: بسكون الهمزة وفتحها هنا التعب. (*)


[ 144 ]

على لا حب لا يهتدى بمناره * إذا سافه العوذ الذفافى جرجرا (1) ولكنه عليه الصلاة والسلام جعل صوت جرع الانسان للماء في هذه الاواني المخصوصة لوقوع النهى عن الشرب فيها، واستحقاق العقاب على استعمالها، كجرجرة نار جنهم في بطنه على طريق المجاز، إذ كان ذلك مفضيا به إلى حلول دارها، واصطلاء نارها، نعوذ بالله. ولفظ الخبر يجرجر بالياء، والوجه أن يكون تجرجر بالتاء على قول من رواه برفع النار، ولكنه لما دخل بين فعل المؤنث وفاعله الذى هو النار لفظ آخر حسن تذكير الفعل للبعد بينهما (2) كما قال الشاعر: * لقد ولد الاخيطل أم سوء * وقد روى في خبر آخر: كأنما يجرجر في بطنه نارا. فالانسان هاهنا فاعل والنار مفعوله. وعلى هذه الرواية فالمراد كأنما يجر في بطنه نارا، فقال يجرجر طلبا لتضعيف اللفظ الدال على تكثير الفعل (هامش ص 144) (1) يصف امرؤ القيس طريقا، واللاحب واللحب: الطريق الواضح، والمنار: هي المنارة، وهى مكان النور، ومعنى ساقه: شمه، والعود: الجمل المسن، والذفافى: السريع، وجرجر: أي صوت علامة على ضجره وملاله، وكان من عادة العرب أن الدليل العالم بالطريق يشم ترابه فيعلم إن كان سائرا على هدى أو هو ضل الطريق، فشبه امرؤ القيس جمله بالدليل الذى يشم تراب الطريق ليعلم ضلاله من هداه، وقد علم الجمل بعد ما شم تراب الطريق بعد الشقة فجرجر وتضجر لذلك. (2) يريد أنه لما فصل بين الفعل وفاعله المؤنث جاز عدم تأنيث الفعل. (*)


[ 145 ]

كما جاء في التنزيل ” فكبكبوا فيها هم والغاوون (1) “، والمراد فكبوا، فيجوز على هذا أن يقال: جر وجرجر، كمايقال كب وكبكب. وإن كان الوجه أن يقال: وقد جاء في كلام العرب: جرجر فلان الماء إذا جرعه متواترا (2)، له صوت كصوت جرجرة البعير. فيكون المراد على هذا القول كأنما يتجرع نار جنهم، وهذا أصح التأويلين. فأما آنية الذهب والفضة فلا يحل عندنا الاكل فيها ولا الشرب منها، ولا يجوز أيضا استعمالها في شئ مما يؤدى إلى مصالح البدن نحو الادهان واتخاذ الميل (3) للاكتحال والمجمر للبخور (4). وكنت سألت شيخنا أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي رحمه الله عند انتهائي في القراءة عليه إلى هذه المسألة من كتاب الطهارة، عن المدخنة، إذ لا خلاف في المجمرة، فقال: القياس أنها غير مكروهة، لانها تستعمل على وجه التبع للمجمرة، فهى غير مقصودة بالاستعمال، لان المجمرة لو جردت من غيرها في البخور لقامت بنفسها، ولم تحتج إلى المدخنة مضافة إليها، فأشبهت الشرب في الاناء المفضض إذا لم يضع فاه على موضع الفضة. (هامش ص 145) (1) كبكبوا: ألقوا على وجوهم فيها مثل كبوا أيضا. (2) أي شربه متصلا مع إحداث صوت، فجملة له صوت حالية. (3) الميل: المكحلة. (4) يقال له عندنا (المنقد) ويظهر أن أصله الموقد. (*)


[ 146 ]

وفي هذه المسألة خلاف للشافعي، لانه يكره الشرب في الاناء المفضض، وذهب داود الاصفهانى إلى كراهة الشرب في أواني الذهب والفضة، دون غيره من الاكل والاستعمال في مصالح الجسم مضيا على نهجه في التعلق بظاهر الخبر الوارد في كراهة الشرب خاصة. وليس هذا موضع استقصاء الكلام في هذه المسألة إلا أن المعتمد عليه في كراهة استعمال هذه الاواني الخبر الذى قدمنا ذكره لما فيه من تغليط الوعيد. وقد روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ” من يشرب بها في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة “، فتثبت بهذين الخبرين وما يجرى مجراهما كراهة الشرب فيها، ثم صار الاكل والادهان والاكتحال مقيسا على الشرب بعلة أن الجميع يؤدى إلى منافع الجسم (1). 109 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن ليلة القدر: ” هي ليلة إضحيانة (2) كأن قمرا يفضحها “، وهذه استعارة لان حقيقة الفضح كشف القبيح، وهو أن يكشف (هامش ص 146) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه شربه الماء في آنية الذهب والفضة بشرب نار جنهم، بجامع أن في كل ألما فظيعا، وإن كان الالم في الشرب من آنية الذهب والفضة معنويا لانه، يوصل إلى الالم الحقيقي في الآخرة. (2) الاضحيانة والاضحية: المضيئة. (*)


[ 147 ]

على الانسان ريبة أو تثنى (1) عليه سوءة، ولكن القمر لما كان كاشفا للسدفة (2) وصادعا للظلمة أجراه عليه الصلاة والسلام مجرى الثاني للسوءة المخفاة، والكاشف للريبة المغطاة، وهذه من محاسن الاستعارات، وقال الشاعر في فضح الصبح للظلام: يا رب كل غابق ومصطبح * ورب كل شيطني منسرح (3) أرسل على حوفاء في الصبح الفضح * حويرنا مثل قضيب ؟ ؟ المجتدح * متى نضت من كعبها عرقا يرح قوله ” حويرنا ” تصغير حار، يريد حية طال بقاؤه (4) حتى حار أي رجع من غلظ وعظم إلى دقة خلق وجسم، فصار كضيب المجتدح، وهو المجدح الذى يحرك به الشراب والسويق وما يجرى مجراهما. ومن كلامهم رماه الله بأفعى حارية يريدون هذا المعنى (5)، (هامش ص 147) (1) تثنى عليه: أي تجمع وتعد عليه من العدد والجمع، وأصلها أن تكون ثانية بعد أولى، ولكن المراد بها هنا مطلق السوءة، ولو كانت الاولى. (2) السدفة: الظلمة. (3) الغابق: الذى يشرب بالعشى (ليلا) والمصطبح: الذى يشرب صباحا، والشيطن المنسرح: الفرس السريع العريان، وحوفاء: اسم امرأة، والصبح: الفضح الواضح، وقد شرح الشريف بقية الابيات. (4) كان حقه طال بقاؤها، لان الحية مؤنثة، ويجوز أن يكون ذكر باعتبار الثعبان، أو أن في النسخ تصحيفا. (5) أي يريدون أنها دقيقة الجسم من كثرة سمها، كأن سمها أثر في جسمها لشدته فنقص جسمها. (*)


[ 148 ]

وقوله ” يرح ” أي يميت، ومثل ذلك قول العجاج: ” أراح بعد الغم والتغمغم ” أي أمات الله بعد الكرب والخناق، وقيل يجوز أن يكون قوله يرح عائدا على العرق لا على الحية كأنه قال: متى نضت منها عرقا يحدث فيه جرحا (1) إذا قيح كانت عنه رائحة خبيثة. والقول الاول أسد، وعليه المعتمد (2). 110 ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للضحاك ابن سفيان الكلابي وقد بعثه مصدقا (3): ” خذ من حواشى أموالهم “، وهذه استعارة على أصل وضعها في كلام العرب، لانهم يسمون صغار الابل حشوا وحاشية، كأنهم يشبهونها بحشو الشئ الذى يتأتى ذلك فيه كالمرفقة (4) والحشية لانها غير معتد بها، كما أن الحشو (5) غير معتد به، وإنما الاعتداد بما هو في ضمنه. ومن هذا (هامش ص 148) (1) كان الاولى الرفع، أو جعل تحدث بالتاء، ولعل في النسخ تصحيفا. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إذهاب الظلمة وإضاءة الليلة بالفضح، وهو كشف الستر عن شئ سئ. ولما كان كشف الستر عن شئ سئ يستلزم إزالته، شبه كشف الظلمة وإزالتها بالفضح بجامع الازالة في كل، واستعير الفضح لازالة الظلمة، واشتق من الفضح بمعنى إزالة الظلمة، يفضح بمعنى يزيل الظلمة على طريق الاستعارة التبعية. (3) المصدق: بتشديد الدال الذى يبعثه الحاكم لجمع الصدقات الواجبة، أي الزكوات الواجبة في الاموال. (4) المرفقة: بكسر الميم وفتح الفاء المخدة، والحشية: فعيلة بمعنى مفعولة الفراش المحشو. (5) الحشو هو ما بداخل الشئ المحشو.


[ 149 ]

الموضع سموا الرذال والطغام (1) من الناس حشوا، وقد يجوز أن يكونوا إنما سموها بذلك تشبيها بحشوة الانسان التى هي حوايا جوفه وأمعاء بطنه. يقولون: طعنه فانتثرت حشوته، وضربه فخرجت حشوته. وإنما قيل لها حشوة حطأ لها عن ما هو أعلى قدرا منها من كرائم أعضاء الانسان التى يشتمل عليها جوفه، كالقلب والنياط (2) والكبد والفؤاد. وقد يجوز أن يكون إنما سموها بذلك تشبيها لها بحواشي الثوب (3) في أنها كالتبع له وغير قائمة بذاتها دونه، وكذلك صغار الابل تابعة لكبارها وغير قائمة بأنفسها، وعلى مثل هذا المعنى تسميتهم ردئ المال ورذاله من الابل وما في معناها شوى تشبيها له بشوى الانسان (4) والفرس وغيره من الحيوان ذى الاربع، وهو الاطراف دون كرام الاعضاء، وشرائف الاحناء (5). قال الشاعر: أكلنا الشوى حتى إذا لم نجد شوى * أشرنا إلى خيراتها بالاصابع (هامش ص 149) (1) رذال الناس وطغامهم: الدون والخسيس منهم. (2) النياط: هو الفؤاد، والفؤاد هو القلب. فهذه الاشياء الاربعة المعطوفة شيئان فقط: القلب، والكبد. (3) حواشى الثوب: جوانبه. (4) شوى الانسان وغيره: اليدان والرجلان وقحف الرأس وما كان غير مقتل، أي الاجزاء التى لا تقتل الانسان والحيوان إصابتها. (5) الاحناء: جم حنو: بفتح الحاء وكسرها: كل ما فيه اعوجاج من البدن.


[ 150 ]

أي أكلنا رذال إبلنا، فلما أنفذناها عطفنا على خيارها، وأشرنا إلى خيارها، فكأنه عليه الصلاة والسلام: نهى أن يأخذ المصدق من كرائم الابل وعقائلها (1)، وأمره بالعدول إلى حشوها وأراذلها رفقا بأصحابها، وحنوا على أربابها (2). 111 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” بين يدى الساعة ينطق الرويبضة “، وهذه استعارة لانه عليه الصلاة والسلام أراد أمام الساعة، فقال: بين يديها تقريبا لهذه الحال من قيام الساعة لانه لو قال قبل الساعة لما أفاد ذلك من القرب منها ما أفاد قوله بين يديها، لانك إذا أردت التقريب على من استرشدك مكانا تطلبه، أو إنسانا تتبعه قلت له: هو بين يديك أي قريب منك، ولو قلت هو أمامك لا حتمل البعد والقرب، كما أن قبل يحتمل البعد والقرب، هذا على الاغلب والاكثر: وقد يجوز أن يكون قولك أمامك وبين يديك عبارة عن مراد واحد: وقالوا في الرويبضة: هو امرؤ (هامش ص 150) (1) الواجب في الصدقة أو ساط النعم لاكرائهما ولا معيبها، ويجب على جامع الزكاة أن يتجنب نفائس الاموال حتى لا يتسبب في حقد أصحابها وشحهم بزكاتها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على ما قاله الشريف استعارة تصريحية، حيث شبهت صغار النعم بحشو الشئ الذى بداخله، في عدم أهميته وضعف مكانته، واستعير لفظ المشبه به للمشبه.


[ 151 ]

(1) السوء التافه (1)، وقالوا هو الفويسق الخامل (2). 112 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: في كلام وصف به عدة من قبائل العرب ” وغطفان أكمة (3) خشناء تنفى الناس عنها “. وهذا القول مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام شبه غطفان لاشتداد شوكتها، واتقاد جمرتها، بالاكمة الشاقة التى تزل الاقدام عنها، وتنقطع أطماع الراقين دونها، فجعل امتناع الناس من التعرض لها بمنزلة منعها لهم من التطرق إليها (4). 113 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام ذكر فيه امرأ القيس بن حجر ” يجئ يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار “، وهذا القول مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد أن أمرأ القيس يحمل لواء الشعراء على الحقيقة، وإنما أراد أنه يجئ (هامش ص 151) (1) قال في القاموس: ” والرويبضة تصغير الرابضة، وهو الرجل التافه، أي الحقير ينطق في أمر العامة، وهذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للكلمة ” ومعنى ينطق في أمر العامة، أي يتولى شئونهم، أي أنه من علامات الساعة أن يتولى الرويبضة أمور الناس. (2) ما في الحديث من البلاغة. في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبهت الساعة بإنسان له يدان وحذف ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو اليدان، وإثبات اليدين إلى الساعة تخييل. (3) الاكمة: التل أو الموضع يكون أكثر ارتفاع من غيره وهو غليظ. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه عطفان وهى القبيلة بالاكمة الخشناء في صعوبة قدرة الناس على الانتصار عليها، كما يتعب الناس في الصعود إلى الاكمة، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 152 ]

يوم القيامة على مقدمتهم ويدخل النار قبلهم، كما كان في الدنيا متقدما لهم ومتقدما عليهم، وإنما عبر عليه الصلاة السلام عن هذا المعنى بحمل اللواء لان حامل اللواء في الجحافل المجرورة (1) يكون متقدما متبوعا ونابها مشهورا، يطأ الناس على قومه (2)، ويتلاحقون على آثار تقدمه (3). 114 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما من جرعة يتجرعها الانسان أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ في الله “، وهذا القول مجاز، والمراد بجرعة الغيظ ها هنا الصبر عند الاهتياج، والكظم عند الانزعاج، وترك اتباع نوازع النفس، إلى ما تدعو إليه في تلك الحال من شفاء غيظ، أو تنفيس كرب، أو إطلاق عقال، أو فعل، مراقبة الله سبحانه، وتنجزا لثوابه، واحتجازا عن عقابه. وشبه عليه الصلاة والسلام تلك الحال بالجرعة، لان الانسان كأنه بالكظم لها والصبر عليها قد ضاق بها مرارة، وأساغ منها حرارة، وعلى ذلك قول الشاعر: (هامش ص 152) (1) المجرورة: أي المنقادة أو المسوقة. (2) أي يقتفى الناس آثاره ويخطون بخطوه. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث: تشبيه بليغ، حيث شبه امرأ القيس في سبقه إلى النار يوم القيامة بحامل ؟ ؟ لان حامل الراية في الحرب يكون هو المتقدم الذى يسبق غيره ويكون ؟ ؟ ؟ ؟ وجه الشبه والاداة.


[ 153 ]

شربنا الغيظ حتى لو سقينا * دماء بنى أمية ما روينا وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا اللفظ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما تجرع عبد جرعة أحب إلى الله من جرعة مصيبة يردها بحسن عزاء، أو جرعة غيظ يردها بحلم ” (1). 115 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في خبر طويل روى عن أنس بن مالك سمعه منه صلى الله عليه وآله في ذكر منافع كثير من يقول الارض ومضارها، فقال عليه الصلاة والسلام عند ذكر الجرجير: ” فو الذى نفس محمد بيده ما من عبد بات في جوفه شئ من هذه البقلة إلا بات الجذام يرفرف على رأسه حتى يصبح إما أن يسلم وإما أن يعطب “، وهذا القول مجاز، لان الداء المخصوص الذى هو الجذام لا يصح أن يوصف بالرفرفة على الحقيقة لانه عرض من الاعراض، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن البائت على أكل هذه البقلة يكون على شرف من الوقوع من الجذام لشدة اختصاصها بتوليد هذه العلة، فإما أن يدفعها الله تعالى عنه فتدفع، أو يوقعه فيها فيقع، وإنما قال عليه الصلاة والسلام (هامش ص 153) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ أضيف فيه المشبه به للمشبه كقولهم: ذهب الاصيل، أي غيظ، كأنه جرعة الدواء المرة التى يضيق الانسان يشربها، فجعل الغيظ كأنه جرعة الدواء والصبر عليه كالصبر على تحمل مرارة الدواء. (م – 10)


[ 154 ]

” يرفرف على رأسه ” عبارة عن دنو هذه العلة منه فيكون بمنزلة الطائر الذى يرفرف على الشئ إذا هم بالنزول إليه والوقوع عليه (1). بسم الله الرحمن الرحيم 116 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم “. وفي رواية أخرى: ” على مناخرهم في النار… “، وهذه من الاستعارات العجيبة، والمراد بها أن أكثر معاثر الاقدام ومصارع الانام إنما تكون بجرائر ألسنتهم عليهم، وعواقب الاقوال السيئة التى تؤثر عنهم، هذا في الدار الدنيا وعلى المتعارف بين أهلها، والمتعالم من مجارى عاداتها. فأما في الدار الآخرة فيأخذون فيها بآثام الاقوال، كما يؤخذون بآثام الافعال، فيكبون على مناخرهم في أطوار العذاب وبين أطباق النيران، نعوذ بالله منها. والعبارة عن هذه الحال بحصائد الالسنة من أحسن العبارات لانه عليه الصلاة والسلام شبه (هامش ص 154) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية وتبعية: حيث شبه الجذام وهو المرض المعروف الذى تتساقط منه أطراف الانسان بالطائر، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو الرفرفة على طريق الاستعارة بالكناية، وشبه قرب المرض برفرفة الطائر، واستعار من الرفرفة، يرفرف بمعنى يقرب على طريق الاستعارة التبعية، وإثبات الرفرفة، إلى ضمير الجذام تخييل.


[ 155 ]

ما تحذف (1) به ألسنتهم من الاقوال المذمومة التى تسوء عواقبها ويعود عليهم وبالها بالزراع الذى يستوبئ (2) عاقبة زرعه، والغارس الذى يستمر (3) ثمرة غرسه، وهذا كقول القائل لمن أخذ بجريرة، وعوقب على جريمة: احصد ما زرعت واستوف أجر ما غرست (4). 117 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تدور رحا الاسلام لسنة كذا ” (5) وهذا مجاز، والمراد أن الاسلام على هذا العهد يضطرب في قراره، ويقلق في نصابه بالولاة الذين يتنكبون واضح السبيل وتنتقض على أيديهم مرر (6) الدين، فشبه عليه (هامش ص 155) (1) ما تحذف به ألسنتهم: أي ترمى به، يقال حذفه بحجر: إذا رماه به. وقد جعل الشريف الاقوال المذمومة كأنها حجارة يقذف بها اللسان. (2) استوبأ المكان: وجده وبيئا: أي ذا وباء وهلاك. (3) أي يجدها مرة، كأنه ذاق ثمرة من غرسه فوجدها مرة. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان بالكناية والتبعية، أما الاولى: فهى تشبيه اللسان بالمنجل الذى يحصد الزرع، ثم حذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الحصائد، وأما الثانية: فهى تشبيه رمى اللسان باللفظ بحصد الزرع بجامع القطع في كل، فإن في خروج الكلمة من اللسان قطع لها عنه كما في قطع الزرع، ثم اشتقق من الحصد بمعنى قذف اللفظ حصائد بمعنى مقذوفات على طريق الاستعارة التبعية. (5) حددت هذه السنة في الحديث بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين. (2) المرر جمع مرة: بكسر الميم، والمراد بها هنا طاقات الحبل المفتول، أي شبهت أمور الدين القوية بطاقات الحبل المفتول، وعدم السير على نهج الدين بنقص طاقات الحبل.


[ 156 ]

الصلاة والسلام الاسلام بالرحا الساكنة في مستقرها، القائمة على قطبها، فإذا كان الوقت الذى وقع الايماء إليه دارت دور هرج واضطراب، لا دور قوة واستتباب، ودور الرحا يكون عبارة عن حالين مختلفين: إحداهما مذمومة، والاخرى محمودة: المذمومة هي الحال التى بنى الخبر عليها، وعلى ذلك كان قول عثمان بن حنيف (1) الانصاري رحمه الله يوم الجمل، وكان في حيز أمير المؤمنين على عليه السلام، وقد رأى استحرار القتل واستلحام الامر: دارت رحا الاسلام ورب الكعبة، أراد أن الناكثين بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وهم أصحاب الجمل قد أزعجوا الاسلام عن مناطه، وأزحفوه عن قراره. وأما الحال المحمودة، فهى أن يكون دور الرحا عبارة عن تحرك جد القوم، وقوة أمرهم، وعلو نجمهم، يقال: دارت رحا بنى فلان، إذا اتفقت لهم هذه الاحوال المحمودة. ومن هذا القبيل أيضا العبارة بدوران الرحا عن هزم عسكر لعسكر، وكسر فيلق لفيلق. قال الشاعر: طحنت رحا بدر لهلك فتية * ولمثل بدر تستهل (2) الادمع فهذه حال كان دور الرحا فيها محمودا لمن دارت له، ومذموما (هامش ص 156) (1) حنيف: بضم الحاء وفتح النون على صيغة المصغر، وكانت مضبوطة في الطبعة السابقة بفتح الحاء وكسر النون، والصحيح ما أثبتناه هنا. (2) تستهل الادمع: أي يكثر دمعها ويغزر.


[ 157 ]

لمن دارت عليه. وإنما قالوا: دارت رحا الحرب لجولان الابطال فيها، وحركات الخيل تحتها. وقد روى هذا الخبر على وجه آخر، وهو قوله: ” تزول رحا الاسلام “، والمراد بذلك أنها تزول عن ثباتها، وتميل عن موضع استقرارها (1). 118 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قبله، ونخيلة صدره، فليطعه ما استطاع “، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” وثمرة قلبه ” استعارة لان المراد بها خالصة صدره. أي بايعه بطاعة صحيحة، وبنية غير مدخولة، فشبه عليه الصلاة والسلام ذلك بالثمرة لانها لباب كل شئ، وخالصته، وصفوته، وخلاصته. ومثل ذلك الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام: ” الولد مبخلة مجبنة مجهلة، ثمرات القلوب، وقرات العين “، أراد عليه الصلاة والسلام أن الاولاد خالصة القلوب والاكباد، كما أن الثمر خالصة النبات والاشجار. وعندي في ذلك وجه آخر، وهو أن الولد من أبيه بمنزلة الثمرة من الشجرة لانه منه تفرع، وبواسطته ظهر وطلع، فلو قال: الاولاد (هامش ص 157) (1) ما في الحديث البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه استقامة أمر الاسلام في أوله إلى سنة كذا بدوران الرحى بجامع كون الشئ على حالته الطبيعية في كل، واستعار لفظ المشبه به للمشبه، واشتق من الدوران بمعنى الاستقامة، تدور بمعنى تستقيم على طريق الاستعارة التبعية.


[ 158 ]

ثمرات الرجال لكان الغرض صحيحا، والمعنى مستقيما، إلا أنه عليه الصلاة والسلام أضافهم إلى القلوب، فجعلهم ثمارا لها دون سائر الاعضاء غيرها، لان القلب سيد الاعضاء الرئيسة والاحناء الشريفة فحسنت حينئذ إضافة الولد إلى القلب خصوصا، وإن حسنت إضافته إلى سائر أعضاء الاب عموما لانه عصارة مائه، وخلاصة أعضائه (1). 119 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سأله رجل عما شيبه ؟ فقال: ” هود وأخواتها قصفن على الامم “، (هامش ص 158) (1) ما في الحديث من البلاغة: قال الشريف: إن فيه استعارة في قوله ئمرة قلبه، وأقول إن فيه استعارة أيضا في قوله ونخيلة صدره، وبيان الاولى أنه شبه الاخلاص في البيعة والاخلاص محله القلب بثمرة القلب، فتكون في الجملة استعارة بالكناية حيث شبه القلب بالشجرة وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو الئمرة، وإثبات الثمرة إلى القلب تخييل، واستعارة مصرحة حيث شبه الاخلاص في كونه صادرا من القلب ونتيجة إخلاصه بثمرته، واستعمل اللفظ الدال على المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية. وبيان الثانية أن شبه الصدر بشئ ينخل وتستخرج خلاصته كالدقيق مثلا، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو لتخيله على طريق الاستعارة بالكناية، وشبه إخلاص الطوية وثبات النية، بالنخيلة وهى الشئ المنخول الذى صفى، أي ناتج نخله، بجامع الصفاء والنقاوة في كل، واستعار لفظ المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة المصرحة. وفي الحديث أيضا كناية في قوله ” صفقة يده ” لان صفقة اليد ضم إحدى يدى المعاهد بيد المعاهد وليس هذا مرادا وحده، وإنما المراد إعطاء العهد. ولما كان من عادة العرب عند التعاهد والتعاقد والبيع، وضع اليد في اليدكنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عن العهد، كأنه قبل من بايع إماما فأعطاه عهده وبيعته.


[ 159 ]

وهذا القول مجاز، لان أهل القصف: كسر الشئ وحطمه. ومن ذلك ما حكى عن بعض اليهود لما قدم النبي صلى الله عليه وآله المدينة أن قال: تركت بنى قيلة (1) يتقاصفون بقباء (2) على رجل يزعم أنه نبى، يقول من شدة ازدحامهم عليه كان بعضهم يكسر بعضا، ومنه: سميت الريح الشديدة قاصفا، لانها تحطم الاشجار وتهدم الجدران. فالمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: قصفن على الامم أن هودا وما يجرى مجراها من السور أفيض فيها ذكر مهالك الامم الخالية، ومصارع القرون الماضية، فنسب عليه الصلاة والسلام إهلاكهم إلى هذه السورة لما كانت المترجمة عن ذكر هلاكهم، والهاتفة ثانيا ببورهم على طريق المجاز والاتساع. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” قصفن على ” أي تلون على أخبار تلك المهالك وأنباء تلك المعاطب، وهذا مجاز آخر، لان السور متلوة وليست بتالية، ولكنه لما نسب فعل الهلاك إليها وأقامها مقام المهلك المعطب حسن أن يقيمها مقام المتكلم المخبر (3). (هامش ص 159) (1) قيلة: هي أم الاوس والخزرج، وهما قبيلتا اليهود بالمدينة، أي تركت اليهود أو تركت الاوس والخزرج. (2) قباء: بضم القاف ومد الهمزة وقصرها: موضع قرب المدينة، ويتقاصفون: يتزاحمون كما قال الشريف. (3) ما في الحديث من البلاغة: في إسناد قصف إلى نون النسوة وهى ضمير هود وأخواتها مجاز عقلي، حيث أسند الفعل إلى غير ما هو له، لان الذى قصف الامم هو الله تعالى، وإنما نسبت


[ 160 ]

120 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الرحم تتكلم بلسان طلق ذلق تقول: صل من وصلنى ” وقد روى أيضا بلسان طلق ذلق بالضم (1) في الحرفين جميعا، وهذا الكلام مجاز، والمراد أن الله سبحانه قد أوجب على خلقه صلة الرحم، وأمرهم بالعطافة عليها، والقيام بالحقوق الواجبة لها. فصارت بظاهر هذه الحال كأنها ناطقة بالحض على صلتها، والدعاء لمن وصلها (2). ومن كلامهم أطت بفلان الرحم (3)، والاطيط ها هنا: الصوت فيه بعض الحنين، كأنها دعته إل أن يرعى ذمتها وذكرته بما يجب عليه لها. ويقولون أرزمت (4) إليه الرحم، وناشدته الرحم، وذلك في لسانهم (هامش ص 160) (1) = إلى السور لانها محل أخبارها وهلاكها وتقصيفها، فيكون من إسناد الفعل إلى محله وإن كان المحل هنا معنويا، وقد ورد في حديث آخر قول النبي صلى الله عليه وسلم ” شيبتني هود وأخواتها ” فيكون إسناد التشبيب إلى هود وأخواتها مجازا عقليا أيضا، لان الذى شييه إنما ما هو فيها من أخبار الهالكين. وأخوات هود هي: يونس والقصص وغيرها مما فيه قص أخبار الهالكين. (1) قال في القاموس: ” ولسان طلق ذلق وطليق وذليق وطلق وذلق بضمتين وكصرد وكتف: ذوحدة ” أي أن الرحم تنطق بلسان حاد فصيح. (2) من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام فيما يحكى عن ربه: ” أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته ” فلما قال الله تعالى ذلك، وأوجب على نفسه وصل من وصل الرحم، وقطع من قطعها، كانت الرحم كأنها تنطق فتقول ” صل من وصلنى “. (3) قال في القاموس (أطت له رحمى: رقت) وأصل الاطيط: الصوت. (4) يقال أرزمت الناقة: إذا حنت على ولدها، فاستعمل هذا في الرحم، كأنها تحن على صاحبها.


[ 161 ]

أشهر من أن يحتاج إلى إقامة الشواهد، وإيضاح الدلائل (1). 121 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تمشوا على أعقابكم القهقرى ” وهذه استعارة، والمراد لا ترجعوا عن دينكم ولا تكفروا بعد إيمانكم فتكونوا كالراجع على عقبه عاكسا لقدمه وناكصا بعد تقدمه. فهذا وجه. وقد يجوز أن يكون المراد لا تولوا عن الدين راجعين وتلتووا عنه منصرفين. فعبر عن الرجوع بد الذهاب بالرجوع على الاعقاب، لان من دعاتهم أن يقولوا رجع فلان على عقبه إذا أدبر عن وجهته أو خالف قصد جهته، والمعنيان متقاربان (2). 122 – ومن ذلك عليه الصلاة والسلام: ” من أتاكم وأمركم جمع يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه ” (هامش ص 161) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية وتبعية. أما المكنية: فهى أنه شبهت الرحم بإنسان يتكلم، وحذف ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو التكلم، وأما التبعية: فهى في تتكلم، حيث شبهت حال الرحم في إثابة من يصلها بسبب هذه الصلة، واستجابة الله تعالى لها بإخباره عن نفسه كما في الحديث السابق بالتكلم واشتق من التكم بمعنى دلالة الحال تتكلم بمعنى تدل حالها على طريق الاستعارة التبعية، وإثبات التكلم إلى الرحم تخييل، وكذلك إثبات اللسان وجعله طلقا ذلقا إطناب وتخييل ؟ ؟. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تمثيلية، حيث شبه الراجع عن دين الاسلام العائد إلى الكفر بالراجع عن وجهته دائرا على عقبه عائدا إلى الخلف، واستعمل اللفظ الدال على المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التمثيلية. (*)


[ 162 ]

فقوله عليه الصلاة والسلام ” يريد أن يشق عصاكم ” استعارة، والمراد به تفريق أمرهم، وتشتيت جمعهم. فشبه ذلك بشق العصا، لان عن شقها يكون تشظيها (1)، وتطاير الصدوع (2) فيها، قال الراعى: فتشققت من بعد ذاك عصاهم * شققا وغودر جمعهم مفلولا أي انتشرت أمورهم وتفرقت جموعهم. ومثل ذلك من كلامهم قولهم: فض الله مروتهم، وهى الصخرة، وفض الله خدمتهم، وهى الحلقة. فكأنهم شبهوا التئام جموهم بالصخرة الملمومة، وشبهوا التحام شؤونهم بالحلقة المأطورة (3). ويجوز أن يكون لشق العصا وجه آخر، وهو أن يراد به فل شوكتهم وإيهان (4) قوتهم، لان العصا لصاحبها قوة يدفع بها، وبسطة يعول عليها. ألا ترى إلى قوله تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام ” هي عصاي، أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخرى “. فيجعل من مرافقها الاعتماد عليها والهش على الغنم بها، ومن المآرب الاخرى التى فيها أن تكون آلة لدفاعه وعدة لقراعه، وهى بعد عون للماشي وهداية (هامش ص 162) (1) تشظيها: تفرقها شظايا وقطعا صغيرة. (2) الصدوع: الشقوق. (3) المأطورة: المستديرة الملتصق بعضها ببعض ” ليس فيها فاصل ولا ثغرة. (4) إيهان قوتهم: إضعافها، وأصله إوهان، من أوهن بمعنى أضعف، فوقعت الواو ساكنة بعد كسره فقلبت ياء، مثل إيداع وإيصال. (*)


[ 163 ]

للعاشى (1) وسلاطة (2) للراعي. 123 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من لبس في الدنيا ثوب شهرة ألبسه الله مذلة ” وهذه استعارة. والمراد أن الله سبحانه يشمله بالمذلة حتى تضفو عليه من جهاته، وتلتقي عليه من جنباته، كما يشمل الثوب بدن لابسه، فيكون سادا لخلله ومغطيا لفرجه. ومعنى هذه المذلة أن يحقره سبحانه في القلوب ويصغره في العيون، وربما زيد في هذا الخبر: ألبسه الله ثوب مذلة في الآخرة، والمذلة في الآخرة هي حرمان الثواب وإنزال العقاب (3). 124 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: وقد جاء رجل (هامش ص 163) (1) العاشى: اسم فاعل من عشا يعشو، إذا ساء بصره وضعف، ويقال عشى كرضى، فهو عش. (2) المراد الشدة والقوة. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان في ثوب شهرة. وثوب مذلة، حيث شبهت الشهرة والمذلة بالثوب في شمولها لصاحبها وإحاطتها به من جميع جهاته، وهذا من إضافة المشبه به للمشبه مثل قولهم لجين الماء. (ملحوظة) ينبغى تقييد إلباس الله تعالى ثوب المذلة في الآخرة لمن اكتسى ثوب شهرة في الدنيا: بمن يتعالى بشهرته على الضعفاء، ولآينفعهم بها بل يشعرهم بذلهم فيجازيه الله من جنس عمله بإذلاله في الآخرة، كما أذل عباده في الدنيا، أما من يكتسى ثوب شهرة في الدنيا بالحق: كأن يكون عالما نافعا لاهله ووطنه، ولا يتعالى بعلمه، ولا يحقر غيره من العلماء والجهال، أو يكون قائدا شجاعا مظفرا انتصر في معارك حاسمة، ولا يتعالى على غيره بل يعتقد أن النصر من عند الله ويحرص على نفع الضعفاء وعدم إذلالهم، فهذا يكسوه الله ثوب عزة في الآخرة. (*)


[ 164 ]

بامرأته يشكو خلقها فأخذ عليه الصلاة والسلام برأسيهما وقال: ” اللهم أر بينهما ” وهذه استعارة، والمراد اللهم قرب بينهما ولائم بين خلقيهما. وذلك مأخوذ من الآرى وهى الآخية التى تربط الدابة إليها، فكأنه عليه الصلاة والسلام دعالهما أن يكونا كالدابتين على الآرى، في المقاربة والملازمة وعدم النفار والمباعدة. وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: أربت العقدة إذا شددتها وأحكمت عقدها، فكأنه عليه الصلاة والسلام دعا لهما بأن يكون عقد الود بينهما فتكون أخلاقهما متوافقة وأحوالهما متلافقة. وقد يجوز أيضا أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: أرى فلان بالمكان إذا قام به، فكأنه عليه الصلاة والسلام دعا لهما بأن يثبتا على الالفة، ويدوما على المودة (1)، والتأرى أيضا: التوقع للشئ والانتظار له. قال الشاعر: لا يتأرى لما في القدر يرقبه * ولا يعض على شرسوفه الصفر (2) (هامش ص 164) (1) ترك الشريف معنى من معنى الارى هو ألبق بهذا الحديث، وهو أريت الدابة إلى الدابة: انضمت إليها وألقت معها معلفا، أي اللهم ألف بينهما حتى ينضما إلى بعضهما كالدابتين المذكورتين. (2) يتأرى: ينتظر، والشرسوف: طرف الضلع المشرف على البطن، والصفر: داء في البطن يصفر منه الوجه. ومعنى البيت: أن الممدوح ليس متلهفا على الاكل، وليس مريضا بمرض الصفر الذى يعض على أطراف أضلاعه المشرفة = (*)


[ 165 ]

125 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في هجاء شعراء الاسلام لمشركي قريش: ” فوالذي نفسي بيده لكأنما ينضحونهم بالنبل “، وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: نضح الشجر ينضح نضحا إذا تفطر (1) للتوريق، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: شققوا جلودهم بنبلكم تتشقق ألحية (2) الشجر عن طوالع أوراقه ونواجم أفنانه (3). 126 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد كسا أسامة ابن زيد قبطية (4) فكساها امرأته، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هامش ص 165) = على بطنه. ومن معاني الصفر الجوع، وهو أولى هنا من غيره من معاني الصفر، أي أن هذا الرجل لا ينتظر طعام القدر، ولا يعض الجوع على شرسوفه فهو شبعان قانع، وهذا من صفات السادة. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه التأليف بين الزوجين في عدم انفصالهما ومحبة كل منهما للاخر بالتأليف بين الدابتين في العلف أو في الثبات أو غير ذلك من المعاني التى ذكرها الشريف، واستعار لفظ التأرية للتأليف، واشتق من التأرية بمعنى تأليف أر، بمعنى ألف على طريق الاستعارة التبعية. (1) تفطر: تشقق، ومنه ” إذا السماء انفطرت “. تكاد السموات يتفطرن منه: أي يتشققن. (2) ألحية: جمع لحاء: وهو قشر الشجرة وغلافها الخارجي. (3) ما في الحديث من البلاغة: في القاموس ” نضح فلانا بالنبل رماه به ” وعلى ذلك يكون المعنى أصليا ولا مجاز فيه، وعلى قول الشريف فيه استعارة تبعية، حيث شبه الرمى الشديد بتشقيق الجلد بجامع الايلام في كل، واستعار النضح بمعنى التشقيق للرمي، واشتق من النضح بالمعنى الذكور ينضحونهم بمعنى يرمونهم على طريق الاستعارة التبعية. (4) القبطية يضم القاف وكسرها: ثياب مصرية منسوبة إلى قبط مصر. (*)


[ 166 ]

(1) ” أخاف أن تصف حجم عظامها “، وهذه استعارة. والمراد أن القبطية برقتها تلصق بالجسم، فتبين حجم الثدين والرادفتين وما يشذ من لحم العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذه الاعضاء حتى تكون كالظاهرة للحظه (1)، والممكنة للمسه، فجعلها عليه الصلاة والسلام لهذه الحال كالواصفة لما خلفها والمخبرة عما استتر بها. وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى. وهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: إياكم ولبس القباطى (2)، فإنها إلا تشف (3) تصف، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله أبا عذر (4) هذا المعنى، ومن تبعه فإنما سلك نهجه، وطلع فجه (5). (هامش ص 166) (1) أي لنظره. (2) القباطى: بضم القاف وفتحها جمع قبطية. (3) تشف: أي يظهر الجسم من تحتها بلونه وحجمه، وتصف أي يظهر الجسم من تحتها بحجمه فقط. (4) العذر والعذرة: البكارة، ويقال فلان أبو عذر على هذا المعنى، وأبو عذرته بمعنى هو السابق إليه، لان الذى يفتض البكر ويزيل عذرها، هو أول من يقربها فشبه هذا بهذا. (5) الفج بفتح الفاء: الطريق الواسع بين جبلين، والمراد مطلق الطريق، أي سار على نهجه. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه التصاق الثوب بأعضاء الجسم وعدم اتساعه في تحديد طوله وعرضه، بالشخص الذى يصف حجم العضو فيقول: طوله كذا وعرضه كذا بجامع بيان الابعاد في كل، واستعير الوصف لالتصاق الثوب، واشتق من وصف بمعنى حدد، تصف بمعنى تحدد على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 167 ]

127 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تعضية في ميراث إلا فيما حمل القسم “، وهذه استعارة والمراد بالتعضية التفريق من قولهم: عضي الجزور إذا نحرها، وقسم أعضاءها وفرق أشلاءها، فشبه عليه الصلاة والسلام الميراث المقتسم بالاعضاء المتفرقة والاشلاء المورعة، ومعنى إلا ما حمل القسم: أي ما احتمل إذا قسم أعضاء، وفرق أجزاء ألا يكون ذلك مضرا به ومفسدا له. ومالا يحتمل القسم كالحمام (1) من العقار والدرة (2) من العروض، وما في معنى هذين الجنسين من المال الموروث، وعلى ذلك قول الشاعر: * وليس دين الله بالمعضى * أي ليس الدين بالمفرق والموزع، ولكنه المضموم المجتمع (3). 128 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام: (هامش ص 167) (1) الحمام: هو المكان المعد للاستحمام وتقسيمه لا يجوز لانه يفسده، فإذا جعل مكان الحمام وحده، ومكان النوم وحده، لم يصلح المكان أن يكون حماما. (2) الدرة: هي الحجر الكريم وتقسيمه يفسده، لانه ينقص قيمته، ومن المعلوم أن الدرة كلما كبر جحمها زاد ثمنها. (3) ما في الحديث من البلاغة: التعضية: التقسم لغة، وعلى ذلك لا مجاز في الحديث، أما على رأى الشريف وهو أن الاصل يقسم الشئ أعضاء، ففيه استعارة تصريحية حيث شبه التقسيم الذى يفسد المقسم بالتعضية، وهى تقطيع الجسم إلى أعضاء بجامع الافساد في كل، واستعيرت التعصية لتقسيم الفاسد على طريق الاستعارة التصريحية. (*)


[ 168 ]

” ولا تسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ” (1) وهذه استعارة، والمراد بالبيضة هاهنا مجمتع أمته عليه الصلاة والسلام وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم (2). وشبه ذلك بالبيضة لاجتماعها، وتلاحق أجزائها، واستناد ظاهرها إلى باطنها، وامتناع باطنها بظاهرها. وقد يجوز أن يكون المراد بالبيضة هاهنا المغفر الذى هو من لامة الحرب، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه مكان اجتماعهم، ومظنة اتفاقهم والتئامهم ببيضة الحديد التى تحصن الدارع (3) وترد القوارع (4). وكان شيخنا أبو الفتح (5) النحوي رحمه الله يقول: قولهم فيها الجماء الغفير (6)، يريدون به البيضة التى هي المغفر وسموها جماء لملاستها (7) وغفيرا لتغطيتها (8) كأنهم بهذا الكلام (هامش ص 168) (1) هذه قطعة من حديث طويل أوله ” إن الله زوى لى الارض فرأيت مشارقها ومغاربها ” الحديث. (2) في القاموس: البيضة: ساحة القوم، والمراد أنه لا يستبيح أوطانهم، فيدخلها غازيا فاتحا ويتحكم فيهم. وعلى ذلك لا استعارة في الكلام، ويجوز أن يكون هذا معنى ثانيا، والمعنى الذى ذكره الشريف معنى أول. (3) الدارع: لابس الدرع، وهو قميص من حديد يلبسه المحارب ليقى صدره وظهره من الطعنات. (4) القوارع جمع قارعة: وهى الضربات التى تأتيه من الاعداء. (5) هو أبو الفتح ابن جنى صاحب كتاب الخصائص وغيره في اللغة والنحو. (6) تقول العرب: جاءوا جما غفيرا، والجماء: الغفير، ويظهر أن في الجملة تحريفا، والاصل جاءوا يدل فيها. (7) من معاني الجماء: الملساء. (8) الغفر: الستر، ومن ذلك غفران الذنوب: أي سترها، والمغفر وهو الدرع لانه يستر صاحبه. (*)


[ 169 ]

يصفون قوما بالقوة والاجتماع، والكثرة والاحتشاد، فشبهوا قوتهم بالحديد الذى هو النهاية في الشدة، وشبهوا كثرته (1) في أن بعضهم ليستر بالمغفر الذى هو غطاء لما تحته من شعر الهامة (2). وفي هذا الكلام مسألة من الاعراب، وهى من مسائل الكتاب (3)، وليس كتابنا هذا مقتضيا لذكرها فنتعاطاه، لا سيما وغرضنا فيه اتباع نهج الاختصار، والانحراف عن طريق الاكثار والاطناب (4). 129 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من كسب مالا من نهاوش (5) أنفقة في نهابر ” (6)، وفي هذا الكلام (هامش ص 169) (1) الضمير يعود على الاجتماع بمعنى الجمع. (2) قال في القاموس: ” والمغفر كمنر وبهاء ” زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنع به المتسلح ” فقوله يلبس تحت القلنسوة هو المراد بقوله: غطاء لما تحته من شعر الهامة والهامة الرأس. (3) المراد بكتاب سيبويه في النحو، وإذا أطلق الكتاب انصرف إليه، لانه أعظم من كتاب ألف في النحو والمسألة من الاعراب التى أشارها إليها الشريف هي أن جمهور البصريين يرون أن الحال لا تكون إلا نكرة، فإذا جاءت معرفة فهى مؤولة بنكرة، وفي هذه الجملة: جاءو الجماء الغفير، الجماء حال من الواو في جاءوا وهى معرفة وكان حقا جاءوا جماء غفيرا، ولكنها وردت هكذا في لسان العرب، فقال البصريون: هي مؤولة بالنكرة، والتقدير جاءوا جميعا، وجميعا منكر. (4) ما في الحديث من البلاغة: فيه على رأى الشريف استعارة تصريحية، حيث شبه ساحة القوم بالبيضة في أنها حافظة لما بداخلها، وإذا سلب جزء منها سلب باقيها. واستعمل لفظ المشبه به وهو البيضة في المشبه وهو الساحة على طريق الاستعارة التصريحية. (5) قال في القاموس: النهاوش: المظالم والاجحافات بالناس. (6) قال في القاموس: النهابر: المهالك وما أشرف من الارض والرمل، أو الحفر بين الآكام الواحدة نهبرة ونهبورة بضمهما. (*)


[ 170 ]

مجاز والمراد بالنهاوش على ما قاله أهل العربية: اكتساب أموال من النواحى المكروهة، والوجوه المذمومة، ومن غير حلها، ولا حميد سبلها. وذلك مأخوذ من نهش الحية كأنها تنهش من هنا ومن هنا لا تتقى منهشا ولا تجتنب ملبسا، وذلك ضد قوله عليه الصلاة والسلام على أحد التأويلين: ” اطلبو المال من حسان الوجوه “. أي من وجوه المكاسب الطيبة التى يحسن الطلب منها، ولا يذم التعرض لها. وقال أبو عبيدة: هو مهاوش بالميم، يريد أخذ المال من التلصص نحو لصوص بنى سعد. وقال غيره: ذلك مأخوذ من الهوش. يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا: ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ” إياكم وهوشات الاسواق “، أي اختلاطها وفسادها. والميم زائدة في بناء الكلمة، والمعنى راجع إلى ماقاله أبو عبيدة، لان الاموال المأخوذة من التلصص موصوفة بالاختلاط في أنفسها، والآخذ لها موصوف بالتخليط فيها، وقوله عليه الصلاة والسلام: أنفقه في نهابر: أي في الوجوه المحرمة التى يضيع الانفاق فيها، ولا يعود إليه نفع منها. وذلك مأخوذ من نهابر الرمل، واحدتها نهبورة، وهى وهدات تكون بين الرمال المستعظمة إذا وقع البعير فيها استرخت قوائمه، ولم يكد يتخلص منها. ويقال: حفر بين الآكام يصعب السلوك بها وتكثر المعاثر فيها، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه ما يكسب من الحرام وينفق في الحرام بالشئ الواقع


[ 171 ]

في عجمة (1) الرمل لا يرجى وجوده، ولا ينشد مفقوده، ومع ذلك فقد أرصد لمنفقه أليم العذاب، وعقيم العقاب (2). 130 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كتاب كتبه لبعض الوفود: ” لا يباح ماؤه ولا يعقر أرعاؤه ” (3)، وهذه استعارة، والمراد به لا يقطع ما فيه من شجر أوكلا إلا بإذن صاحبه، فشبه عليه الصلاة والسلام ما يقطع من الشجر بما يعقر (4) من الابل. وذلك من التشبيهات الواقعة والتمثيلات النافعة، لان سقوط الشجر عن قطعها، كسقوط البدنة عن عقرها (5). (هامش ص 171) (1) قال في القاموس: العجمة بالضم والكسر: ما تعقد من الرمل أو كثرته. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على ما ذكره الشريف استعارتان تصريحيتان في نهاوش ونهابر ” حيث شبه وجوه الكسب غير الشريفة بالنهاوش، وهى نهشات الحيات التى لا تتقى مكانا في نهشا، بل تنهش الحسن والسئ على السواء، وشبه إنفاق المال في المهالك والوجوه غير الشريفة، بالوقوع في وهدات الرمال التى يصعب القيام منها، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (3) المرعاة: المرعى، وهو مكان الرعى، والارعاء جمع رعى: بكسر الراء وهو الكلا الذى يرعى، وقد وردت الكلمة في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة هكذا (مرعاؤه) وهى تصحيف ” أرعاؤه ” لانه لا يوجد ” مرعاء ” بمعنى المرعئ. (4) عقر الدابة: جرحها. والظاهر أن في الاصل تحريفا، والصواب: ولا يعقر أرعاؤه، يدل مرعاؤه. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه ضرب حشيش المرعى بعقر الدابة في أن كلا منهما يسقط بسبب ضربه، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، واشتق من العقر بمعنى الضرب، يعقر بعنى يضرب على طريق الاستعارة التبعية وفيه مجاز عقلي في إسناد العقر إلى المرعى، والعقر إنما هو للنبات، فالعلاقة المحلية. (*)


[ 172 ]

131 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الولاء (1) لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب “، وهذه استعارة. لانه عليه الصلاة والسلام جعل التحام الولى بوليه كالتحام النسيب بنسيبه في استحقاق الميراث، وفي كثير من الاحكام. وذلك مأخوذ من لحمة الثوب وسداه (2) لانهما يصيران كالشئ الواحد بما بينهما من المداخلة الشديدة، والمشابكة الوكيدة، ويقال لحمة البازى (3)، ولحمة النسب، ولحمة الثوب واحد، وهى المشابكة والمخالطة إلا أنهم فرقوا بين اللفظين ليكون ذلك تمييزا للمسميين (4). 132 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المؤمن موه (5) راقع “، وهذه استعارة والمراد أن المؤمن إذا أساء أحسن (هامش ص 172) (1) الولاء: الملك، والمراد الصلة التى تكون بين العبد ومالكه في أن المالك يلى أمر مملكوكه ويرثه بعد موته. (2) لحمة الثوب: هي الخيوط التى تنسج بالعرض، وسداه وسداته: هي الخيوط الممدودة بالطول فتجئ الخيوط العرضية وهى اللحمة، فتتداخل فيها وتتشابك حتى إنها بعد نسجها لا يعرف السدى من اللحمة لشدة تشابكها وتماسكها. (3) البازى: هو الصقر، ولحمته ما يطعمه من اللحم، ولحمة النسب هي القرابة ولحمة الثوب سبق بيانها. (4) كان الشريف يقول: إنهم فرقوا بين اللفظين بفتح أحدهما وضم الآخر، وذلك أنه لا يجوز في لحمة النسب إلا الضم، وأما غيرها فيجوز فيه الفتح والضم. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه مرسل، حيث شبه لحمة الولاء بلحمة النسب في قوتها وذكر أداة التشبيه. (5) موه: اسم فاعل من أوهى بمعنى أضعف، وأصلها موهى حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع التنوين وجعل التنوين على الكسرة.


[ 173 ]

وإذا أخطأ ندم. فكأنه يوهى دينه بمعصيته، ويرقعه بتوبته. فشبهه عليه الصلاة والسلام بمن يخرق ثوبا، ثم يبادر رقع ما حرق، ورتق ما فتق. 133 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من خلع يدا من طاعة لقى الله ولا حجة له ” وهذه استعارة. والمراد بخلع اليد هاهنا الخروج عن طاعة الامام العادل، فشبه عليه الصلاة والسلام من يخرج عن طاعة سلطانه بالاسير الذى نزع يده من ربقته (2)، وأخرج عنقه عن جامعته (3)، فكأنه عليه الصلاة والسلام أقام لوازم الطاعة في الاعناق مقام الجوامع في الايدى والرقاب، وجعل الخارج منها كالمارق من ربقة الاسر، والناصل (4) من مثناة الحبل (5). (هامش ص 173) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبه المؤمن بخارق الثوب وهو (موه) وذلك عند ارتكاب المعصية، وشبه بالراقع الذى يرقع الثوب ويخيط فتقه وذلك عند توبته، وحذف وجه الشبه، وهو الافساد والاصلاح في كل، وحذفت أداة التشبيه، والاصل المؤمن كالموهى الراقع. (2) الربقة: القيد الذى يكون في رقبة الدابة. (3) الجامعة: القيد الذى يكون في اليد. (4) الناصل: الخارج، ومثناة الحبل: القيد المثنى على اليد ونحوها. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبه الطاعة بالقيد وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو خلع اليد منه، وفي خلع يدا استعارة تبعية، حيث شبهت المخالقة بخلع اليد من الحبل المقيد واشتق من الخلع خلع بمعنى خالف على طريق الاستعارة التبعية.


[ 174 ]

134 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من كانت نيته الآخرة جعل الله سبحانه غناه في قلبه (1) وأتته الدنيا وهى راغمة “، وهذه استعارة، والمراد أتته الدنيا من حيث لا يطلبها ودرت عليه منافعها من حيث لا يحتسبها، فأقام عليه الصلاة والسلام مواتاة الدنيا من غير طلب مقام إتيانها راغمة وإقبالها عليه ضارعة. وأصل الرغم أن يلصق الانف بالرغام، وهو التراب، وقيل الرمل وليس يكاد يكون ذلك إلا عن غاية الخشوع، ونهاية الخضوع (2). 135 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” عليكم بسنتى وسنة المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ ” وهذا مجاز. والمراد أن اقطعوا عليها وقفوا عندها، ولا تتجاوزوها إلى غيرها. كما أن من شدد العض بنواجذه على الشئ الذى يتأتى فيه القطع قطعه. والنواجذ أقصى الاضراس، وهى أقواها وأمضاها. وقد يجوز أن يكون المراد الامر بلزوم سنته عليه الصلاة والسلام (هامش ص 174) (1) المراد جعل الله غناه في نفسه كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الغنى غنى النفس، أي أنها لا تشنهى ولا تطلب من الدنيا إلا ما يقيم أودها ويقضى مصالحها، ولا تنظر إلى ما في أيدى الناس من زينتها وتحاول الحصول عليه من كل مكان. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه انقياد الدنيا بوضع الانف في الرغام، واشتق من الرغم بمعنى الخضوع والانقياد، راغمة بمعنى خاضعة على طريق الاستعارة التبعية، وأرى أن الاولى اعتبار ما في الحديث كنا عن خضوع الدنيا، حيث إن رغم الانف يستلزم الخضوع.


[ 175 ]

كما أن العاض بنواجذه على الشئ الذى يتأتى فيه القطع يلزمه أشد اللزوم لقوة العوازم، واستحصاف اللوازم (1). 136 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” حبك الشئ يعمى ويصم “، وهذا مجاز. لان الحب للشئ على الحقيقة لا يعمى ولا يصم، وإنما المراد أن الانسان إذا أحب الشئ أغضى عن مواضع عيوبه كأنه لا ينظرها، وأعرض عن الملاوم والمعاتب من أجله كأنه لا يسمعها. فصار من هذا الوجه كالاعمى لتغاضيه، والاصم لتغابيه (2). 137 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تنام عيناى ولا ينام قلبى “. وهذا القول عند المحققين من العلماء مجاز. لانه عليه الصلاة والسلام لو كان قلبه لا ينام على الحقيقة كقلوب الناس لكان ذلك من أكبر معجزاته، وأبهر آياته، ولوجب أن تتظاهر الاخبار بنقله، كما تظاهرت بنقل غيره من أعلامه ودلالته. ومما يحقق (هامش ص 175) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه التمسك الشديد بالسنة بالعض على الشئ بالنواجذ بجامع الامساك الشديد في كل، واستعير العض للتمسك بقوة، واشتق من العض بمعنى التمسك، عضوا بمعنى تمسكوا على سبيل الاستعارة التبعية. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تبعيتان في يعمى ويصم، حيث شبه تغاضى المحب عما في المحبوب من العيوب والمكاره والمستنكرات بالعمى وبالصمم بجامع عدم التأثر في كل واشتق من العمى والصمم: يعمى ويصم بمعنى لا يتأثر على طريق الاستعارة التبعية.


[ 176 ]

قولنا ما رواه عبد الله بن عباس رحمهما الله من أنه صلى الله عليه وآله، نام ونقخ فصلى ولم يتوض، فقيل له عليه الصلاة والسلام في ذلك، فقال: ليس الوضوء على من نام قاعدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا. وفي بعض الروايات أو متوركا فإنه إذا نام كذلك استرخت مفاصله. فبين عليه الصلاة والسلام أنه لو نام مضطجعا للزمه الوضوء لاسترخاء مفاصله، فلو كان قلبه لا ينام لما وجب عليه الوضوء إذا نام مضطجعا، كما لا يجب عليه إذا نام قاعدا. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” تنام عيناى ولا ينام قلبى ” أنه لا يعتقد في حال نومه من الرؤيا الفاسدة والمنامات المتضادة ما يعتقده غيره من سائر البشر، فيكون في حكم المستيقظ، وبمنزلة المتحفظ (1). 138 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إياكم والمشارة (2) فإنها تحيى العرة (3) وتميت الغرة (4) ” وهذه استعارة (هامش ص 176) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في قوله: لا ينام قلبى، حيث شبه عدم تأثره صلى الله عليه وسلم بالنوم كما يتأثر غيره بعدم النوم، واشتق من عدم النوم لا ينام بمعنى لا يتأثر على طريق الاستعارة التبعية. (2) المشارة: مفاعلة من الشر، أي إياكم واستثارة الشر ومقابلته بمثله. (3) العرة: الجرب، أو قروح في أعناق الفصلان، وداء يتمعط منه وير الابل. والخلة القبيحة. وهذا المعنى الاخير هو الذى فسره الرضى بالمثلبة. (4) الغرة: بياض في جبهة الفرس، ويقال في الانسان غر وجهه يغر، صار ذا: غرة أي أبيض.


[ 177 ]

عجيبة، والمراد بها أن مشارة الناس تظهر المعايب وتخفى المناقب لان المهاتر المشاغب لا يقدر لمخاصمة على مثلبة (1) إلا بحثها، ولا يجد له منقبة (2) إلا دفنها، فكأنه يميت محاسنه ويحيى مساويه، وجعل عليه الصلاة والسلام الغرة في مكان المنقبة لتجمل الانسان بنشرها، وجعل العرة في مكان المثلبة لتهجن الانسان بكشفها، وقد قيل إن المراد بالغرة هاهنا النفيسة من المال، ومنه قول الشاعر: * غرير التلاد منيل الطعام * أراد بغرير التلاد كرائم المال، والمراد بالعرة: البلاء والملاك مأخوذ من العرة، وهى قروح تصيب الابل، وهذا القول ذكره أبو عبيدة، والقول الاول أشبه بظاهر الكلام وأبعد من الاعتساف والاستكراه، ومما يؤكد ذلك ما روى عن جدنا الصادق جعفر بن محمد عليه وعلى آبائه السلام أنه قال: إياكم وتعداد العرة (3) فإنها تكشف العورة وتورث المعرة (4). فهذا كالبيان لذلك الاجمال، والاخراج من ذاك الاحتمال (5). (هامش ص 177) (1) المثلبة: المنقصة. (2) المنقبة: المفخرة والمحمدة. (3) العرة: المثلبة، أي إياكم وتعداد المثالب والعيوب. (4) المعرة: العار. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية ومكنية: حيث شبه المثلبة أو القرح بالشخص الذى له =


[ 178 ]

139 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” دب إليكم داء الامم من قبلكم الحسد والبغضاء، وهى الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر ” وهذه استعارة. والمراد بالحالقة هاهنا المبيرة المهلكة: أي هذه الخلة المذمومة تهلك الدين، وتستأصله كما تستأصل الموسى الشعر، والمقراض الوبر، وعلى هذا قول الشاعر: أرسل عليهم سنة قاشوره * تحتلق الناس احتلاق النوره (1) أي تبير (2) الناس، فتأتى على نفوسهم، أو تأتى على أموالهم من الابل والشياه، فتكون كأنما قد أتت على نفوسهم بإتيانها على ما هو قوام نفوسهم، وإنما جعل عليه الصلاة والسلام البغضاء حالقة (هامش ص 178) = حياة وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الاحياء، فهذه المكنية والتبعية في تشبيه إظهار المثلبة والقرح بإحيائهما، واشتق من الاحياء بمعنى الاظهار، يحيى بمعنى يظهر، وكذلك في تميت الغرة: استعارتان مكنية وتبعية، حيث شبه الغرة وهى المنقبة أو كرائم المال بالانسان إلى يمات، وشبه إخفاء المنقبة وتبديد المال بالاماتة ؟ ؟ كما سبق في تحيى المعرة. (1) قال في القاموس: والقاشور من الاعوام يقشر كل شئ كالقاشورة. والمعنى أن هذه السنة تأتى على أموالهم فتذهبها كأنها قد قشرت جلدهم وسلخته، واحتلاق الناس: إماتتهم أو إذهاب أموالهم كما قال الشريف، والنورة الهناء وهو القطران الذى تطلى به الابل الجربى، فيأكل المكان المريض ويذهب بالجلد ثم يظهر جلد جديد خال من الميكروبات، والمراد أن هذه السنة تفنى الناس أو أموالهم كما يذهب القطران بالجلد، وقد ورد هذا البيت في لسان العرب مادة قشر هكذا: أتت عليهم سنة قاشورة * تحتلق المال احتلاق النوره (2) تبير الناس: تهلكهم. (*)


[ 179 ]

للدين لانها سبب التفاني والتهالك، والايقاع في المعاطب والمهالك، والداعى إلى سفك الدم الحرام، واحتمال أعباء الآثام (1). 140 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” قيدوا العلم بالكتاب ” وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام جعل ضروب العلم بمنزلة الابل الصعاب التى تشرد إن لم تعقل، وتند إن لم تقيد، وجعل الكتاب لها بمنزلة الاقياد (2) المانعة والعقل اللازمة. ومن هناك أيضا سموا مثل شكل الخط تقييدا، فقالوا: خط مقيد بالشكل، كأنه حفظ عليه إيضاحه في إفهامه، ولولا الشكل لضل بيانه وأنكر عارفانه، ومما يشبه ذلك الحال التى من أجلها سمى العقل عقلا، وهو عندنا اسم لعلوم مخصوصة يطول بتعدادها الكتاب. منها العلم بمجارى العادات، ومنها العلم بالمشاهدات، وهو أقوى هذه العلوم وأولاها بالتقديم، لان الانسان إذا لم يعلم المشاهدات لم يصح أن يعلم شيئا غيرها من المعلومات. ومنها العلم بأن الشئ لا يخلو من وجود أو عدم، والموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، (هامش ص 179) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إذهاب الحسد والبغضاء للحسنات بالحلق بجامع الا ذهاب في كل واشتق من الحلق بمعنى الا ذهاب حالقة بمعنى مذهبة على طريق الاستعارة التبعية. (2) الاقياد جمع قيد: ويجمع أيضا على قيود، غير أن أقيادا جمع قلة، وقيود جمع كثرة، والعقل جمع عقال: وهو الحبل الذى تربط به الدابة. (*)


[ 180 ]

وأن الجسم لا يجوز أن يكون في مكانين في وقت واحد، والجسمين لا يصح كونهما في مكان واحد في حال واحدة. ومنها العلم بقبح كثير من المقبحات (1): كنحو الظلم والكذب الذى ليس فيه جر منفعة، ولا دفع مضرة، والامر بالقبيح، وكفران النعمة. ومنها العلم بحسن كثير من المحسنات (2): كنحو إرشاد الضال، وبذل الافضال. ومنها العلم بوجوب كثر من الواجبات: كنحو الانصاف والعدل، وشكر المنعم، وترك الظلم. ومنها العلم بتعلق الفعل بالفاعلين، والاضطرار عند أحوال مخصوصة إلى كثير من قصود المخاطبين. ومنها معرفة ما يمارسه الانسان من الصنائع المتعاطاة، والحرف المعاناة. ومنها معرفة ما يسمعه من مخبرى الاخبار إذا كان المخبرون عددا مخصوصا، وكانوا عالمين بما أخبروا به اضطرارا، وقد تركنا ذكر كثير من هذه الاقسام عدولا إلى جانب الاختصار. وذكر لى قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد عند قراءتى عليه ما قرأته من كتابه الموسوم بالعمد في أصول الفقد (3) أن هذه العلوم المخصوصة إنما سميت عقلا لانها تعقل من فعل المقبحات، وذاك لان العالم بها (هامش ص 180) (1) المقبحات بتشديد الباء: جمع مقبحة، وهى ما يعده الناس قبيحا، أو الخصلة التى يعدها الناس قبيحة. (2) المحسنات: بتشديد السين جمع محسنة، وهى ما يعده الناس حسنا. (3) اسم الكتاب: العمدة في أصول الفقه. وقد ورد في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة بالفاء بدل النون، أي الفقد، كما حذفت التاء المربوطة، وهو تصحيف ظاهر. (*)


[ 181 ]

إذا دعته نفسه إلى ارتكاب شئ من المقبحات منعه عليه بقبحه من ارتكابه، والاقدام على طرق بابه، تشبيها بعقال الناقة المانع لها من الشرود والحائل بينها وبين النهوض، ولهذا المعنى لم يوصف القديم تعالى بأنه عاقل لان هذه العلوم غير حاصلة له إذا هو عالم بالمعلومات كلها لذاته. قال: وقيل أيضا إنما سميت هذه العلوم المخصوصة عقلا لان ما سواها من العلوم يثبت بثباتها ويستقر باستقرارها ؟ ؟ تشبيها بعقال الناقة الذى به تثبت في مكانها، ولمثل ذلك قيل معقل الجبل للمكان الذى يلجأ إليه ويعتصم به وله سميت المرأة عقيلة، وهى التى يمنعها شرف بيتها، وكرم أصلها، وقوة حزمها، من الاقدام على ما يشينها، والتعرض لما يعيبها، والكلام في تفصيل هذه العلوم، وبيان مالا جله ؟ ؟ احتيج إلى كل واحد منها يطول، وليس هذا الكتاب من مظان ذكره، ومواضع شرحه (1). 141 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” سيحرصون بعدى على الامارة، فنعمت المرضع وبئست الفاطم “، وهذه استعارة كأنه عليه الصلاة والسلام أقام الامارة في حلاوة أوائلها، (هامش ص 181) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه إثبات العلم وعدم نسيانه بالتقييد بالعقال في عدم الانفلات، واشتق من القيد بمعنى الاثبات قيدوا بمعنى أثبتوا على طريق الاستعارة التبعية، ويمكن إجراء استعارة مكنية فيه أيضا، حيث شبه العلم بحيوان يقيد وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو القيد عل طريق الاستعارة المكنية. (*)


[ 182 ]

ومرارة أواخرها، مقام المرضع التى تحسن الرضاع، وتسئ الفطام، وهذا من أوقع تشبيه وأحسن تمثيل، لان مداخل الامارة محبوبة، ومخارجها مكروهة، لما في المداخل إليها من قضاء الارب، وعلو الرتب، ولما في المخارج عنها من طرق السوء، وشمات (1) العدو (2). 142 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تغالوا بمهور النساء، فإنما هي سقيا الله سبحانه ” وهذه استعارة، والمراد إعلامهم أن وفاق النساء المنكوحات، وكونهن على إرادات الازواج ليس هو بأن يزاد في مهورتهن (3)، ويغالى بصدقاتهن (4)، وإنما ذلك إلى الله سبحانه، فهى كالاحاظى (5) والاقسام والجدود (هامش ص 182) (1) الشمات والشماتة بفتح الشين فيهما: الفرح ببلاء العدو. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان حيث شبه الامارة في إبانها ودرها الخير على متوليها بالمرضع التى تغذى ولدها من لبنها، وشبهها بعد زوالها بالمرأة الفاطم أو بالناقة الفاطم التى بلغ مبلغ حوارها سنة فمنعت عنه اللبن، يجامع المنع في كل وحذفت أداة التشبيه ووجهه. (3) المهورة: جمع مهر بزيادة التاء فيه للمبالغة كأنه مصدر، ومن ذلك البعولة كقوله تعالى: ” وبعولتهن أحق بردهن ” وفحولة الشعراء: أي فحولهم، وهؤلاء عمومتي: أي أعمامي. (4) الصدقات بضم الدال جمع صدقة: وهى المهر. (5) الاحاظى جمع حظ بضم الحاء: وهى جمع حظ بفتحها، وكان الجمع في الاصل أحظ على وزن أفعل فحذفت الهمزة تخفيفا والاحاظى جمع الجمع، والاقسام جمع قسم: بكسر القاف وسكون السين. والجدود جمع جد: بفتح الجيم وهو الحظ. (*)


[ 183 ]

والارزاق، فقد تكون المرأة منزورة (1) الصداق، واقعة بالوفاق، وقد تكون ناقصة المقة (2)، وإن كانت زائدة الصدقة. فشبه ذلك عليه الصلاة والسلام بسقيا الله يرزقها واحد ويحرمها آخر، ويصاب بها بلد، ويمنعها بلد. وهذه من أحسن العبارات عن المعنى الذى أشرنا إليه، ودللنا عليه (3). 143 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في جملة كلام ضربه مثلا: ” إن الله سبحانه جعل الاسلام دارا، والجنة مأدبة والداعى إليها محمدا صلى الله عليه وآله “، وهذا الكلام مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام أقام الاسلام مقام الدار المنتجعة (4)، والجنة مقام المأدبة المصطنعة (5)، والنبى عليه الصلاة والسلام مقام الدال عليها، والداعى إليها. وإنما شبه عليه الصلاة والسلام الاسلام بالدار (هامش ص 183) (1) أي قليلة الصداق. (2) المقة: الحب. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه النساء بالمطر الذى ينزله الله على من يشاء من عباده بدون جهد منهم ولا تعب ولا تفكير وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: فإنما هي – أي النساء – سقيا الله. فمن كان حظه حسنا جاءت زوجته موافقة مطيعة محبة له حافظة لعرضه وماله منجبة نافعة، ومن كان حظه غير ذلك جاءت زوجته بخلاف ذلك. (4) المنتجعة: أي المقصودة لطلب النجعة، أي الطعام، وأصل انتجع: طلب الكلا. (5) أي المصنوعة المقامة للناس المدعوين إليها. (*)


[ 184 ]

من حيث كان (1) جامعا لاهليه، حاميا لمن فيه، وشبه الجنة بالمأدبة من حيث كان مجتمع الشهوات، ومنتجع اللذات، وشبه نفسه عليه الصلاة والسلام بالداعى إليها من حيث كان المرشد إلى الاسلام والهادي للانام، صلى الله عليه وآله الطيبين الاخيار (2). 144 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أنا النذير والموت المغير “، وهذه من الاستعارات الناصعة، والمجازات الواضحة لان الاستعارة على ضربين: ظاهرة تعرف بجليتها (3)، وغامضة يضطر إلى استنباط خبيتها (4). فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه الموت الذى يطلع الثنايا، ويطلب البرايا بالجيش المغير الذى يهجم هجوم السيل، ويطرق طروق الليل، وشبه نفسه عليه الصلاة والسلام بالنذير المتقدم أمامه، يحذر الناس من فجئه ليعدوا العتاد، (هامش ص 184) (1) الضمير في كان إلى الدار لانها تذكر وتؤنث ولكن تذكيرها قليل. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاثة تشبيهات بليغة: حيث شبه الاسلام بالدار، لان فيه الاعمال التى تجلب الثواب والنعم، وتشبيه الجنة بالمأدبة في أن فيها ما لذ وطاب من أنواع المآكل والمشارب، وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم بالداعى إلى المأدبة لانه الذى يدعو الناس إلى الاسلام، وحذف وجه الشبه والاداة. (3) أي بوضوحها وظهورها لا نحتاج إلى إعمال فكر، ولا إلى روية في فهم معناها. (4) الخبية: أصلها الخبيئة ففيعلة بمنى مفعوله، أي يضطر سامعها إلى إعمال فكره ؟ ؟ ليستنبط المعنى المخبوء فيها. وقد سهلت الهمزة فصارت ياء وأدغمت في ياء فعيلة. فصارت خبية. (*)


[ 185 ]

ويتزود الازواد. وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام تصديق لقول الله سبحانه فيه: ” إن أنا إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد “. وقد تكلمنا على هذه الآية في كتابنا الموسوم بمجازات القرآن. ويقال إنه عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية أتى على أبى قبيس (1) ونادى: يا صباحاه، فلما اجتمع الناس إليه قال لهم يا معشر قريش: لو كنت مخبركم بأن جيشا يطلع عليكم من هذه الثنية أكنتم مصدقى ؟ قالوا أجل والله ما علمناك إلا صادقا مصدقا. قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فلما سمعوا ذلك انفضوا عنه ارتكاسا في الغواية، واتباعا للضلالة. ولقد أحسن صلى الله عليه وآله ضرب المثل لهم، وسلك الطريق الاخصر في حياشتهم (2) وتقريب الامر عليهم، ولكن عشوا عن النور الابلج، وأبوا غير الطريق الاعوج (3). (هامش ص 185) (1) أبو قبيس: جبلى بمكة سمى برجل من مذحج حداد، لانه أول من بنى فيه (أقام به) وكان يسمى الامين لان الركن كان مستودعا فيه. (2) يقال حاشى الصياد الصيد: إذا جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة التى يقع فيها وهو واوى العين، والاصل حوشى. وعلى ذلك فالحياشة أصلها الحواشة قلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة وهى عين لمصدر فعل أعلت فيه. والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الاخصر في جذبهم إلى الاسلام. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبه الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه قومه أحكام الاسلام وتحذيرهم من الموت على الكفر بالنذير بين يدى الجيش الذى يحذر هجومه، وشبه الموت بالجيش المغير الذى يفاجئ الناس بإغارته عليهم واحتلال أوطانهم والاستيلاء على أموالهم وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 186 ]

145 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في وصف الفرس الذى جاء سابقا: ” إنه لبحر “، وهذا مجاز، وربما طعن بعض الجهال بمناديح كلام العرب في هذا القول بأن يقول: كيف شبه عليه الصلاة والسلام سرعة جرى الفرس بالبحر والبحر راكد لا يجرى، وقائم لا يسرى ؟ فجوابه أن يقال: إنما شبه عليه الصلاة والسلام اتساعه في الجرى باتساع ماء البحر، ألا تراهم يقولون إنه لواسع الحضر (1) ووساع الخطو (2) يريدون هذا المعنى. والبحر في كلام العرب الشئ الواسع، ومن هناك سموا البلدة المتسعة الاقطار بحرا، وقد يجوز أن يكون المراد بتشبيهه بالبحر أن جريه غزير لا ينفد، كما أن ماء البحر كثير لا ينضب. ويقال للفرس الكثير الجرى: بحر وفيض وسكب. وعلى هذا قول الشاعر: * وفى البحور تغرق البحور * قيل أراد الخيل السابقة التى تسبقها خيل أسبق منها، فقد بان أن التشبيه واقع موقعه، وأن الطاعن فيه لم يفهم غرضه (3). (هامش ص 186) (1) الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه، أي واسع مسافة ارتفاعه عن الارض أثناء عدوه وجريه. (2) أي واسع الخطو، فوساع بمعنى واسع. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الفرس السابق بالبحر، ووجه الشبه ارتفاع الفرس في عدوه كما يرتفع موج البحر، وسهولة جريه كما يجرى ماء البحر سهلا لا يعوقه حاجز، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 187 ]

146 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ألا أخبركم بأحبكم إلى وأقربكم منى مجالس يوم القيامة ؟ أحاسنكم (1) أخلاقا الموطئون أكنافا (2) الذين يألفون ويؤلفون. ألا أخبركم بأبغضكم إلى وأبعدكم منى مجالس يوم القيامة ؟ الثرثارون المتفيهقون “، فقوله عليه الصلاة والسلام ” الثرثارون المتفيهقون ” استعارة، والمراد به الذين يكثرون الكلام، ويتعمقون فيه طلبا للتكلف، وخروجا عن القصد، وتباعدا عن احق، وأصل الثرثار مأخوذ من العين الثرثارة، وهى الواسعة الارجاء، الغزيرة الماء. يقال: عين ثرة وثرثارة، وبذلك سمى الثرثار، وهو النهر المعروف بالشام، وقال الاخطل: لعمري لقد لا قت سليم وعامر * على جانب الثرثار راغية البكر (3) قال المبرد: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظ الثرثارة، ولكنها في معناها. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” المتفيهقون ” يريد به ما يريد بقوله: ” الثرثارون “، ومتفيهق (هامش ص 187) (1) أحاسن: جمع أحسن. (2) الكنف: الجانب، والموطئون، الذين يطأ الناس أي يدوسون جانبهم وناحيتهم فلا يؤذون ولا يزعجون، والمراد لين الاخلاق وعدم شراستها. (3) البكر: الفتى من الابل، والراغبة: المصوتة التى ترغى، والثرثار: نهر بالشام.


[ 188 ]

متفيعل من قولهم: فهق الغدير يفهق: إذا كثر ماؤه، وطمت (1) جماته (2). 147 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في وصية لمعاذ ابن جبل: ” وأمت أمر الجاهلية إلا ما حسن “، وهذه استعارة والمراد توصيته بإن يحيل أمر الجاهلية، بنقض أحكامها وخفض أعلامها، حتى ينسى ذكرها، ويعفو أثرها، فتكون كالميت الذى (هامش ص 188) (1) طمت: أي زادت وملات، والجمات: المياه الجارية في الغدير، أي إذ زاد ماؤه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على ما ذكره الشريف استعارتان تبعيتان في الثرثارون، وفى المتفيهقون. أما الاولى: فقد شبه الرجل كثير الكلام المتكلف فيه بالنهر الثرثار الكثير الماء بجامع الكثرة في كل، وأما الثانية: فقد شبه الرجل المتحذلق في كلامه الذى يخرج الحروف قوية في فمه حتى تكاد تملاه، وتنفخ خديه، بالغدير الذى يزيد فيه الماء حتى يملا جوانبه أو يكاد يسيل منها، أو بالقصعة التى تمتلئ بالطعام وتفهق به حتى يكاد يجاوز جوانبها بجامع الامتلاء والزيادة في كل، واستعيرت الثرثرة للكلام الكثير، والفهقة: امتلاء الفم بالكلام، واشتق من الثرثرة ثرثار، ومن الفهقة متفيهق على سبيل الاستعارة التبعية. وفى الحديث استعارة أخرى لم يذكرها الشريف، وهى الموطئون أكنافا: فإن المراد بهذه الجملة، لينوا الاخلاق، فشبه لين الاخلاق بتوطئ الجانب، واشتق من التوطئ بمعنى اللين، الموطئون بمعنى اللينون على سبيل الاستعارة التبعية. ويجوز أن تكون كناية فتكون حوانبهم موطئة حقيقة، ولكن المراد لين الاخلاق، فكنى عن لين الاخلاق بتوطئ الجانب.


[ 189 ]

نسى ذكره، وانقطع خبره (1). 148 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة “، وهاتان استعارتان إحداهما: قوله عليه الصلاة والسلام: ” الصوم جنة “. والمراد أن الصائم الذى يخلص في صومه، ويستكمل آخر يومه يكون بالاخلاص في ذلك الصوم كأنه قد لبس جنة من العقاب، وأخذا أمانا من النار. وللصوم مزية على سائر العبادات في هذا المعنى، وإن كانت إذا أديت على شروطها بهذه الصفة. وذلك أن الصيام لا يظهر أثره بقول اللسان ولا فعل الاركان، وإنما هو نية في القلوب وإمساك عن حركات المطعم والمشرب. فهو يقع بين الانسان، وبين الله خالصا من غير رياء ولا نفاق، وسائر العبادات وضروب القرب والطاعات قد يجوز أن يفل على وجه الرياء والسمعة دون حقائق الاخلاص والطاعة، وقال لى أبو عبد الله محمد بن يحيى الجرجاني الفقيه: عند أصحابنا أن الصلاة أفضل من الصيام لانها تتضمن ما في الصيام من الامساك، وفيها مع ذلك الخشوع وتلاوة القرآن، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ” لا يزال البدن في جهاد الشيطان مادام في صلاته “، (هامش ص 189) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه ترك أمر الجاهلية نسيا بالامانة بجامع عدم الاثر في كل، واستعار الاماتة للترك والنسيان، واشتق منها أمت بمعنى اترك على سبيل الاستعارة التبعية.


[ 190 ]

فجعل الصلاة أيضا تتضمن معنى الجهاد. فأما ما روى في الخبر من أنه عليه الصلاة والسلام قال حاكيا عن الله تعالى: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به “. فليس ما فيه من تفضيل الصوم بدال على أن غيره من العبادات ليس بأفضل منه، وإنما وجه اختصاصه بالذكر من بين العبادات على التعظيم له لاجل ما قدمنا ذكره من أنه يفعل إلا على محض الاخلاص، ولا يتأتى في حقيقته شئ من الرياء والنفاق، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ” ليس في الصوم رياء “، وهذا بيان للمعنى الذى تكلمنا عليه. وحكى عن سفيان بن عيينة في تفسير هذا الخبر أنه قال: الصوم هو الصبر، لان الانسان يصبر عن المطعم والمشرب والمنكح، وقد قال تعالى: ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب “. يقول: فثواب الصوم ليس له حساب يعلم من كثرته على قدر كلفته ومشقته. والاستعارة الاخرى قوله عليه الصلاة والسلام: ” والصدقة تطفئ الخطيئة “، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الخطيئة بمنزله النار من حيث كانت مفضية إلى عذاب النار، وجعل الصدقة مطفئة لها، إذا كثرت فأثرت في سقوط عقابها. وهذا القول يصح على طريقة من يقول بالموازنة (1)، فإذا كان عقاب الخطيئة مائة (هامش ص 190) (1) القول بالموازنة رأى لبعض المعتزلة، ومعناه: أن السيئة توازن الحسنة فتسقط السيئة بالحسنة، أي يسقط عقاب هذه بثواب تلك، ولكن الرأى الراجح أن الحسنات يذهبن السيئات لا على طريق الموازنة، بل قد تسقط حسنة واحدة سيئات كثيرة، وقد لا تعدل حسنات كثيرة سيئة واحدة، وإنما تقدر الحسنة بما فيها من عموم الخير وتقدر السيئة بما فيها من فظاعة الشر.


[ 191 ]

جزء، وكان ثواب الصدقة خمسين جزءا سقط من أجزاء العقاب، بقدر أجزاء الثواب. فكأن الصدقة بنقصانها من قدر العقاب، قد أطفأت وقدته، وكسرت سورته، وكان أبو هاشم يختار في الاحباط والتفكير الموازنة، وكان أبو على يقول: إن الزائد يسقط الناقص من الثواب والعقاب، لا على طريق الموازنة، ولا يجوز أن يتساوى ما يستحق على الطاعة، وما يستحق على المعصية. لانهما لو تساويا لسقطا، فلم يكن المكلف مستحقا لحمد ولاذم، ولا مستوجبا لثواب ولا عقاب، وقد امنا الاجماع على ذلك، فالامة مجمعة على أن كل من كلفه الله سبحانه في الدار الدنيا، فهوفى يوم المعاد في إحدى الدارين مثابا أو معاقبا، ويبين ذلك قوله سبحانه: ” فريق في الجنة وفريق في السعير “، والكلام على تفصيل هذه الجملة يخرجنا عن غرض الكتاب، ويدخلنا في باب الاطناب (1). 149 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: لكعب بن (هامش ص 191) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، واستعارة مكنية وتبعية. أما التشبيه البليغ: فهو في قوله صلى الله عليه وسلم: ” لصوم جنة ” أي الصوم كالجنة، وهى الستر الذى يجن الانسان أي يستره. فكما أن الجنة تستر، كذلك الصوم يمنع العذاب ويستر منه. وأما الاستعارة المكنية والتبعية: فهى في تطفئ الخطيئة، حيث شبه الخطيئة بالنار في ضررها، وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو الاطفاء، وشبه إحباط عقاب الخطيئة وإذهاب أثره بإطفاء النار، واشتق من الاطفاء بمعنى إذهاب الاثر، تطفئ بمعنى تذهب الاثر على طريق الاستعارة التبعية.


[ 192 ]

عجرة ” يا كعب بن عجرة: الناس غاديان، فغاد مبتاع (1) نفسه فمعتقها، وغاد (2) بائع نفسه فموبقها ” (3) وهذه استعارة، والمراد أن أحدهما عصم نفسه من اتباع الشهوات، وركوب الموبقات، وقام بوظائف الواجبات فأمن ضرر العقاب ونقاش الحساب. فكأنه ابتاع نفسه بذلك فأعتقها واستشلاها (4) واستنقذها، والآخر أتبع نفسه هواها (5)، وأوردها رداها بالتهوك (6) في المغاوى والارتكاس (7) في المهاوى، والتقاعس (8) عن الواجبات، والاسراع إلى المقبحات، فكأنه باع نفسه بذلك فأوبقها، وعرضها للهلكة فأوردها. وهذه من أحسن العبارات عن المطيع الناجى. بطاعته، والعاصي الهالك (هامش ص 192) (1) مبتاع: أي مشتر نفسه فمعتقها من العذاب، كما يشترى الانسان العبد فيعتقه من الرق والعبودية. (2) الغادى: هو المسافر في وقت الغدوة وهى أول النهار، أوما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، والمراد الناس صنفان أو نوعان سائران في الحياة على طريقتين مختلفتين. (3) موبقها: مهلكها، يقال أوبق نفسه: أهلكها، فهو موبقها: أي مهلكها. (4) استشلاها: دعاها لينجيها من الضيق والهلاك. (5) أي جعل نفسه تابعة لهواها. (6) التهوك: التهور، وقد سبق بيانه في هذا الكتاب. (7) الارتكاس: الوقوع، وقد سبق بيانه أيضا. (8) التقاعس: الرجوع وعدم الاقدام.


[ 193 ]

بمعصيته (1). 150 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن من أشراط الساعة سوء الجوار، وقطيعة الارحام، وأن يعطل السيف من الجهاد،، وأن تختل الدنيا بالدين “، والكلمة الاخيرة داخلة في باب المجاز، والمراد بها النهى عن طلب منافع الدنيا وحطامها، واستدرار أحلابها موادها، بإظهار الورع، وإبطان الطمع، فكأن الانسان بذلك يختل الدنيا ليرمى ثغرتها (2)، ويصيب غرتها (3)، كالصائد الذى يختل (4) الوحش بضروب الحيل حتى يعلق في حباله، وينشب في أشراكه، وعلى ذلك قول الكميت بن زيد: (هامش ص 193) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث أربع استعارات تبعية: الاول في مبتاع بمعنى مشتر، حيث شبه من يربأ بنفسه عن المعاصي ويحملها على الطاعات بالمشترى لنفسه، واشتراؤه لنفسه يمنعها من العذاب، فكأنه يعتقها من العبودية للشيطان الذى يجرها إلى المعاصي، وهذه هي الاستعارة الاولى، الثانية في معتقها. والثالثة بائع نفسه، حيث شبه تارك نفسه بدون كبح عن المعاصي وحاعلها تسترسل فيها: ببائع نفسه بجامع التسليم في كل. والاستعارة الرابعة في قوله موبقها: أي مميتها حيث شبه من يترك نفسه للمعاصي بمميتها بجامع الهلاك في كل، لان المعصية سبب الهلاك في الآخرة، واشتق من المصادر مبتاع بمعنى جاذب نفه ناحية الطاعة، ومعتق بمعنى معطيها الحرية ومانعها من العذاب، وبائع بمعنى مسلم نفسه وتاركها، وموبقها بمعنى مسبب هلاكها على طريق الاستعارة التبعية في الجميع. (2) الثغرة: هي نقرة النحر الذى إذا وصلت إليها السهام قتلت. (3) الغرة: الغفلة. (4) يختله: يخدعه.


[ 194 ]

وإنى على حبيهمو وتطلعي إلى نصرهم أمشى الضراء (1) وأختل (2) وقد يجوز أن يكون المراد، وأن يختل أهل الدنيا بالدين، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه على مثال قوله سبحانه: ” واسئل القرية ” وهذا النوع في الكلام لا يحصى كثرة (2). 151 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل ” ولا تكلم اليوم بكلام تعتذر منه غدا واخزن لسانك ” وهذه استعارة، والمراد بخزن اللسان حفظ فلتاته، وكف جمحاته حتى لا يسرع إلى ما تسوء مغبته، ولا تؤمن عاقبته، فأقام عليه الصلاة والسلام ضبط اللسان عن ذلك مقام الخزن له، فأجراه مجرى المال الذى يحفظ فلا ينفق في الوجوه المفسدة، والمخارج المضرة ولا يكون إنفاقه إلا فيما جر منفعة، أو دفع مضرة (4). (هامش ص 194) (1) قال في القاموس: الضراء: الاستخفاء. (2) أختل: أخدع وأنافق. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز عقلي، والاصل يختل أهل الدنيا، فحذف أهل وأسند الفعل إلى الدنيا، والعلاقة المحلية أو الظرفية لان الدنيا ظرف لاهلها. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه اللسان عن المزالق وعدم التكلم إلا لنافع، يخزن المال وعدم إنفاقه في غير المصالح بجامع الحبس في كل، واشتق من الخزن بمعنى المنع، اخزن بمعنى امنع وحفظ على طريق الاستعارة التبعية.


[ 195 ]

152 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام من جملة كلام: ” العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيمه، واللين أخوه، والرفق والده، والصبر أمير جنوده “، وهذه الالفاظ كلها مستعارة، ونحن بتوفيق الله نتكلم عليها، ونبين مواضع الاستعارة منها، فالمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” العلم خيل المؤمن ” أنه يأنس به من الوحشة: ويسكن إليه في الوحدة كما يأنس الخليل بخليله ويسكن الحميم إلى حميمه. والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” والحلم وزيره ” أنه يقوى به على الامور، ويوازره على كظم المكروه، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” والعقل دليله ” أنه بالعقل يهتدى في ظلم المشكلات، وينجو من مضايق العمرات، فهو كالدليل الذى يرشد في المضال، ويجنب عن المرال ؟. والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” والعمل قيمه ” أن العمل يثقف ميله، ويقوم زلله ويسد خلله، فهو كالقيم الذى يأتي لمصالح ما يقوم عليه، ومراشد ما يوكل إليه، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” واللين أخوه ” أن اللين يفيده مؤاخاة الاخوان ومخالصتهم، ويحفظ عليه صفاءهم ومودتهم، فجعله عليه الصلاة والسلام أخاه من حيث كان سبب لاجتلاب الاخوان إليه، وحفظ المودات عليه، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” والرفق والده “


[ 196 ]

كالمراد بقوله: واللين أخوه، لان الرفق يقبل إليه بالقلوب، ويظأر (1) عليه كوامن الصدور، فيصير كل واحد في الحنو عليه، والميل إليه كالوالد الرؤوف، والجد العطوف، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” والصبر أمير جنوده ” أن الصبر ملاك أمره، وشداد أزره، وبه تبلغ الآراب، وتدرك المحاب، فهو كأمير جنده الذى يقوى به على أعدائه، ويصل به إلى أغراضه وطلباته. وقد يجوز أن يكون المراد أن الصبر رأس خلاله، ورئيس خصاله، فهو متقدم عليها، وكالامير لسائرها، كما أن الامير متقدم على رعيته، وله شأن على من في طبقته (1). 153 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في جملة كلام: ” والمهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه “، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” شح مطاع ” استعارة كأنه أقام الشح مقام الآمر بالامساك، والمخوف من عواقب الانفاق، وأقام البخيل (هامش ص 196) (1) يظأر: يعطف وهو متعد، أي يعطف كوامن الصدور عليه، ويجعل ميلها إليه. وقد سبق مثل ذلك في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بن ؟ كلب في قوله ” ومن ظأره الاسلام من غيرها ” أي ومن عطفة الاسلام عليه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث سبعة تشبيهات بليغة، حيث شبه العلم بالخليل، والحلم بالوزير، والعقل بالدليل، والعمل بالقيم الذى يقوم على شئون الشخص، واللين بالاخ، والرفق بالوالد، والصبر بأمير الجنود، وقد بين الشريف أوجه الشبه في كل منها وقد حذف وجه الشبه والاداة.


[ 197 ]

مقام المطيع لامره، والمتصرف على حكمه. وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك في خطبة له، فقال: ” وإياكم والبخل فإنه أهلك من كان قبلكم. أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا ” فبين عليه الصلاة والسلام كيف يكون البخل آمرا مطاعا وقائدا متبوعا. وهذه أيضا استعارة أخرى لان البخل على الحقيقة لا يكون آمرا ناهيا، ولا قائدا مخاطبا. والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” أمرهم بالقطيعة فقطعوا ” أن البخلاء يضنون بمالهم على أهل الحاجة من أقربائهم، وأولى الخلة (1) من ذوى أرحامهم، فيكونون بذلك قاطعين للرحم: القريبة، وعاقين لاعراق الوشيجة (2) والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: وأمرهم بالفجور ففجروا ” أن البخل حسن لهم منع الاموال من الانفاق في الحقوق، وإسلاكها (3) سبل المعروف، فأجرى عليهم لهذه الحال اسم الفجور (4). (هامش ص 197) (1) الخلة: الفقر والاحتياج، وأصلها الثقبة في الشئ، وشبهت بها الحاجة في كونها نقصا في الانسان. (2) الوشيجة: الصلة والقرابة، وأصل الوشيجة عرق الشجرة، شبهت بها القرابة في كونها توصل المودة كما توصل عروق الشجرة الغذاء. (3) أي إدخالها طرق المعروف. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه سير الانسان على طبيعة البخل فيه بعدم إنفاق المال بإطاعة البخل، ويتضمن ذلك تشبيه البخيل بالمرءوس، والبخل بالرئيس أو بالجندي والامير، واشتق من الاطاعة مطاع بمعنى مسير على نهجه على سبيل الاستعارة التبعية.


[ 198 ]

154 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الكلمة الحكيمة ضالة الحكيم حيثما وجدها فهو أحق بها “، وهذه استعارة. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الكلمة الحكيمة للحكيم بمنزلة الضالة التى هو ناشد لها، وساع في طلبها، لانها أشبه بحكمته، وأولى بالانضمام إلى أخواتها في قلبه، فحيثما سمعها من قائل حكيم أو مرشد غير رشيد، فهو أحق بالحيازة لها والغلبة عليها. ويشهد بذلك ما روى في الحديث الآخر: ” إن الكلمة الحكيمة تكون في قلب المنافق، فلا تزال تنزع حتى تلحق بصواحباتها في قلب المؤمن “، فكأنها جعلت في قلب المنافق بمنزلة الغريبة التى هي في غير وطنها، ومع غير أهلها، وجعلت في قلب المؤمن بمنزلة المستقرة في الوطن، والساكنة إلى السكن. وهذه أيضا استعارة أخرى (1). 155 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في خطبة له: ” إلا وإن الدنيا قد ارتحلت (2) مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت (هامش ص 198) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ حيث شبه الكلمة الحكيمة بالدابة الضالة التى ينشدها صاحبها ويطلب ردها عليه في أنه أولى بها وأحق وأنه صاحبها، وحذف وجه الشبه والاداة. (2) قد ارتحلت ركبت الراحلة والمراد هنا قاربت على الانتهاء، وكذا يقال في ارتحلت مقبلة.


[ 199 ]

مقبلة ” وهذه استعارة لانه عليه الصلاة والسلام جعل الدنيا بمنزلة الهارب المولى، والآخرة بمنزلة الطالب المجلى (1). وذلك من أحسن التمثيلات، وأوقع التشبيهات، لان أبناء الدنيا بمثابة الهاربين من علائق الحمام، وبوائق الايام، والموت الذى هو من أسباب الآخرة بمنزلة المغير على الارواح، والهاجم على الآجال، وهذه الصفة مستمرة للدنيا في شبابها قبل أن تهرم، وفى ابتداء مدتها قبل أن تتصرم، لان كون الموت طالبا لاهلها، ومبددا لشملها، معلوم من أول أنشائها، وتصوير أبنائها، وقد يجوز أن يكون المراد بارتحال الدنيا مدبرة معنى آخر يختص بحال الدنيا في أواخر مدتها، وعند تناهى غايتها. وهو أن توصف بتصرم الامد، ونقصان العدد، كما يقول القائل: قد ارتحل عمر فلان. وقد أدبرت مدة فلان إذا مضى عنفوان أيامه، وقربت أوقات حمامه. ويروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لامير المؤمنين على بن أبى طالب عليه الصلاة والسلام، وقد أوردناه في كتابنا الموسوم ” بنهج البلاغة “، وهو المشتمل على مختار كلامه عليه السلام في جميع المعاني والاغراض والاجناس والاعراض (2). (هامش ص 199) (1) المجلى: أي الذى ينظر ببصره إلى من يطلبه، يقال جلى ببصره تجلية: ذا رمى به. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في قوله ارتحلت، لان معنى ارتحلت ركبت الراحلة =


[ 200 ]

156 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الاحتباء حيطان العرب، والعمائم تيجان العرب “، وهاتان استعارتان عجيبتان، فأما قوله عليه الصلاة والسلام ” الاحتباء حيطان العرب ” فإنما أراد به أنها إذا استعملت الحبوة في قعودها، قامت لها مقام الحيطان في الاستناد إليها، والاعتماد عليها، كما تتساند الظهور إلى الجدران، أو كما يستروح الجراب إلى الاجذال (1)، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ” والعمائم تيجان العرب ” فإنما أراد أن بهاء العرب يكون بعمائمها، كما يكون بهاء ملوك العجم بتيجانها، فإن العمائم تخص الهامة، وتتمم القامة، وتفخم الجلسة، وتوقر الجلمة، حتى إن العرب لتقول على المتعارف بينها: ماسفه معتم قط. ولهذا المعنى فسر قول الفرزدق: إذا مالك ألقى العمامة فاحذروا * بوادر كفى مالك حين تعصب (2) أراد أنه إذا ألقى العمامة طاش حمله، وخيف سطوه، وما دام معتما، فهو مأمون الهفوة، ومغمود السطوة، على مجرى عادتهم، (هامش ص 200) = فشبه قرب انقضاء الدنيا بالارتحال للادبار والذهاب بجامع قرب الغاية في كل، واشتق من الارتحال بمعنى القرب، ارتحل بمعنى قرب على طريق الاستعارة التبعية ومثل ذلك ارتحلت مقبلة، أي قرب أوانها. (1) الجراب: أي الابل الجربى، والاجذال جمع جذل: وهو عرق الشجر تحتك به الابل الجربى لتستريح من أكل الجرب في أجسامها. (2) عصب الكفين: معناه شدهما بالعصابة، وهذا كناية عن قوتهما وشدتهما.


[ 201 ]

وعرف طريقتهم، وقد فسر أيضا قول الآخر: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني (1) على مثل هذا المعنى، فكأنه توعدهم عند إلقاء العمامة ببادرته، وأن يفيض عليهم ما يستجمه (2) من مثابة سطوته. وقوله: تعرفوني ليس يريد العرفان الذى هو ضد الانكار، وإنما أخرجه مخرج الوعيد، وأطلعه مطلع التهديد، كما يقول القائل لغيره إذا أراد هذا المعنى: ستعرفني أو أما تعرفني، والمراد ستعرف عقوبتي، أو أما تعرف غضبى وسطوتي (3). 157 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المجاهد من جاهد نفسه ” وهذا مجاز، والمراد من امتنع من مواقعة المعاصي (هامش ص 201) (1) يستجمه: أي يخزنه ويدخره، وأصل المثابة من البئر منلغ جموم مائها أي اجتماعه، أي ما يخزنه مما اجتمع من سطوته. (2) ابن جلا: هو الرجل الواضح الامر، أي أنا رجل معروف أمرى مشهور بالقوة والردع، وقد شرح الشريف وضع العمامة بمعنى ذهاب الحلم، وهذا أحسن مما شرح به غيره من وضع العمامة معناه لبس لامة الحرب، لانه يريد أن يقول لاهل العراق: لا تخرجوني عن حلمي فإننى إذا خرجت عن حلمي عرفتم مبلغ تنكيلي بكم وبطشي. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبه الحبوة وهى ما يجمع به الساقان إلى الظهر من عصابة ونحوها، بالحائط الذى يستند إليه الانسان فلا يميل، ويكون ثابتا في مجلسه بجامع الثبات في كل، وشبه العمامة بالتاج في كونها زينة الرأس كما أن التاج زينة الرأس وحذف وجه الشبه وأداته. (م – 13)


[ 202 ]

الموبقة، واستعصم من الخطايا المردية، فجعله عليه الصلاة والسلام بمنزلة من برز له قرن ينازله، وعدو يقابله، لما يعاينه من المشقة في مغالبة نوازع قبله ودواعى نفسه، وما يعركه من أديمها (1)، ويعلكه من شكيمها (2). 158 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في خطبة طويلة ” والنساء حبائل الشيطان “، وهذه من أحاسن الاستعارات، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام جعل النساء من أقوى ما يصيد به الشيطان الرجال، فهن كالحبائل المبثوثة، والاشراك المنصوبة، لانهن مظان الشهوات، ومقاود الخطيات، وبهن يستخف الركين (3)، ويستخون الامين (4). (هامش ص 202) (1) عرك أديم نفسه: دلكه، ومعنى ذلك أنه هذبها وذللها. (2) الشكيم: الحديدة التى تكون في فم الفرس من اللجام، وعلك الفرس الشكيم: تلويكه في فمه، وهذا معالجة له وتليين، كأن الانسان ؟ ؟ نفسه حتى تقبل على غير عادتها. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث: استعارة تبعية، حيث شبه مخالفة النفس والابتعاد عن أغراضها بالجهاد الذى يكون بين المتحاربين بجامع الاخضاع في كل، واشتق من الجهاد بمعنى الاخضاع، جاهد بمعنى أخضع، على طريق الاستعارة التبعية (3) الركين: الرزين: وأصله الجبل العالي الاركان. (4) يستخون: أي يرى خاثنا. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه النساء بالحبائل وهى المصائد التى تنصب لصيد الحيوانات بجامع الايقاع في كل، فالحبائل توقع الصيد فيها، والنساء توقع الانسان في المعاصي، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 203 ]

159 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام: ” والشباب شعبة من الجنون ” وهذا القول مجاز، والمراد أن الشباب يحسن القبيح ويسفه الحليم، ويحل مسكة المتماسك، ويكون عذرا للمتهالك (1)، فمن هذه الوجوه يشبه صاحبه بالسكران من الخمر، والمغلوب على العقل، ومن هناك قيل: الشباب كسكر (2) الشراب، وعلى ذلك قول الشاعر: إن شرخ الشباب والشعر الاسود ما لم يعاض كان جنونا (3) 160 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ألا إن الغضب جمرة توقد في جنب ابن آدم، ألم تروا إلى حمرة عينيه وانتفاخ أو داجه. في حديث طويل “، وهذه استعارة، كأنه عليه (هامش ص 203) (1) يقال تهالك الفراش: تساقط، والمراد به هنا التساقط في المعصية. (2) السكر: بفتح السين والكاف، والسكر بضم السين وسكون الكاف: أي غياب العقل بالمسكر، وهو أيضا الخمر، والكلام هنا يحتمل المعنيين، أي الشباب كغياب العقل بالشراب، أو كالخمر الذى يغيب العقل. (3) شرخ الشباب: أوله، والشعر الاسود: المراد به القوة، لانه مادام شعر الانسان أسود فهو غير عجوز، أي هو قوى، ويعاض: بعوض عن نزواته بأن يشغل بشئ نافع، ويلاحظ أن لم هنا لم تجزم الفعل المضارع لانها أهملت حملا على ما النافية، ولو جزمت لقيل ما لم يعض بحذف الالف وسكون الضاد، وقد فتحت الضاد مع أن الكثير عند الاهمال رفع الفعل، وقد وردت يعاص بالصاد المهملة في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة وهو تحريف. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الشباب بأنه شعبة من الجنون في تحسين القبيح وتقنيح الحسن وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 204 ]

الصلاة والسلام جعل اهتياج الطبع، واحتدام الغيظ، بمنزلة الجمرة التى تتوقد في جوف الانسان، فيظهر أثر اتقادها في احمرار عينيه، واختناق وريديه، فلا تزال كذلك حتى يطفئها برد الرضا، أو عواطف الحلم والبقيا (1). 161 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” العلم رائد، والعدل سائق، والنفس حرون ” وهذا الكلام مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام شبه علم الانسان بالرائد الذى يتقدم أمام الحى فيدلهم على المنزل الوسيع، والمرعى المريع، لان العلم يأخذ بصاحبه إلى المناجى (2)، ويعدل به عن المغاوى (3)، وشبه العقل بالسائق يحث الانسان على سلوك النهج الاسلم، وبحمله على الذهاب في الطريق الاقوم، وشبه النفس بالدابة الحرون (4)، لانها تتقاعس (5) عن (هامش ص 204) (1) البقيا: البقاء: أي لولا عواطف البقاء: أي الحياة. مافى الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الغضب بجمرة تتوقد في جنب ابن آدم بجامع إحداث الالم وظهور الاثر في العينين والاوداج، وحذف وجه الشبه والاداة. (2) المناجى جمع منجاة: وهى مكان النجاة. (3) المغاوى جمع مغواة: وهى مكان الغواية. (4) الدابة الحرون: هي التى إذا أريد جريها وقفت، والمصدر الحران بوزن كتاب ورغاء، يقال حرنت الدابة تحرن من باب نفرو كرم، والحران خاص بذوات الحافر. (5) تتقاعس: تتراجع.


[ 205 ]

مراشدها (1)، وتلذع (2) بسوط الادب، حتى تسلك طرق مصالحها (3). 162 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كل واعظ قبلة ” وهذا القول مجاز، والمراد أمر الناس بالاقبال على الواعظ لهم، والمتكلم بما يأخذ إلى الرشاد يأزمتهم، إصغاء إلى كلامه، وتفهما لمقاصد خطابه، كإقبالهم على القبلة التى يصلون إليها ويتوجهون نحوها، ولا يجوز لهم الانحراف عنها (4). 163 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” نعم وزير الايمان، العلم، ونعم وزير العلم الحلم، ونعم وزير الحلم الرفق، ونعم وزير الرفق اللين ” وهذا الكلام مجاز، والمراد كل (هامش ص 205) (1) المراشد جمع مرشد: وهو مكان الرشد ضد الغى. (2) اللذع في الاصل: وضع طرف الميسم، وهو المكواة التى تكوى بها الدواب على الدابة، وقد استعمله هنا الشريف في الضرب الشديد بالسوط، وهو استعارة. (3) مافى الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاث تشبيهات بليغة، حيث شبه العلم بالرائد في الدلالة على محاسن الامور، وشبه العقل بالسائق في قيادة صاحبه إلى الطريق السليم، وشبه النفس بالدابة الحرون التى يطلب منها الجرى فتقف، ووجه الشبه مخالفتها لعقل صاحبها وعدم استجابتها له، حتى يجاهدها ويحملها على ما يريد من الخير. وحذف وجه الشبه والاداة في كل. (4) مافى الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الواعظ بالقبلة في وجوب الالتفات إليه والتوجه إلى وجهته وعدم جواز الانحراف عنه. وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 206 ]

خلة من هذه الخلال المذكورة توازر صاحبتها، وتعاهد قرينتها، وتقوى كل واحدة منها بأختها، كما يوازر الرجل صاحبه على الامر يطلبه، والعدو يحاربه، فيشتد متناهما (1)، وتستحصف (2) قواهما (3). 164 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” زاد المسافر الحداء (4) والشعر ما لم يكن فيه إخناء ” (5)، وهذا القول مجاز، والمراد أن التعلل بأغاريد الحداء، وأنا شيد القريض، يقوم للمسافرين مقام الزاد المبلغ في إمساك الارماق (6)، والاستعانة على قطع المسافات، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر بقوله: (هامش ص 206) (1) المتن: الظهر، والمعنى أن الوزير، وهو المعاون يشد أزر من يعاونه، وكذلك الموازر، أي المعان أزر الوزير، فيكون التعاون شدا لظهر الاثنين. (2) يقال: أحصف الحبل إذا أحكم فتله، والسين والتاء في تستحصف للصيرورة، أي تصير قواهما حصيفة، أي محكمة لا يسهل نقضها. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث أربعة تشبيهات بليغة، حيث شبه كل من العلم، والحلم، والرفق واللين بالوزير، بجامع المعاونة، وحذف وجه الشبه والاداة. (4) الحداء بضم الحاء وكسرها: سوق الابل وزجرها، والمراد به هنا ما يصاحب السوق من الغناء للابل حتى تسترسل في مشيها، ويسهل عليها الطريق ويخف عنها التعب. (5) الاخناء: الافحاش، وقد وردت هذه الكلمة في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة ” خناء ” بدون همزة في الاول وهو تحريف، لانه ليس في اللغة خناء ممدودا. (6) الارماق جمع رمق: بفتح الراء والميم، وهو بقية الحياة.


[ 207 ]

* إن الحديث طرف من القرى * (1) 156 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من عد غدا من أجله فقد أساء صحبة الموت ” وهذا القول مجاز، لانه عليه السلام أقام الموت للانسان مقام العشير المحالم (2)، والرفيق الملازم، وجعل من اغتر بطول أجله واتساع مهله، بمنزلة من أساء صحبة ذلك الرفيق المصاحب، والخليط المقارب، إذ كان الاولى أن يعتقد أنه غير مفارق له، وأن المدى غير منفرج بينه وبينه، وعلى ذلك قول الشاعر: * والمنايا قلائد الاعناق (3) * 166 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أنا مدينة (هامش ص 207) (1) لان الحديث يسلى الضيف ويهون عليه الغربة، كما يهون عليه الجوع إذا كان طعامه قد تأخر. (2) العشير المحالم: الملاطف المسلى. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الحداء بالزاد في أن الزاد يبقى حياة المسافر، والحداء يبقى صبره وجلده على تحمل مشاق السفر، وحذف وجه الشبه والاداة. (3) المنايا جمع منية: وهى الموت، والقلائد جمع قلادة: وهى ما يزين به العنق. ومعنى البيت أن المنايا ملازمة للناس ملازمة القلائد للاعناق، فهى معها في كل وقت. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية: حيث شبه دنو الموت من الانسان جدا بالصحبة بجامع القرب والملازمة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه على طريق الاستعارة التصريحية.


[ 208 ]

العلم، وعلى بابها، ولن تدخل المدينة إلا من بابها ” وهذا القول مجاز لانه عليه الصلاة والسلام شبه علمه بالمدينة المحصنة التى لا يطمع طامع في دخولها: ولا الوصول إليها إلا من بابها، وأقام عليا أمير المؤمنين عليه السلام لتلك المدينة، مقام الباب الذى يفتتح من جهته، ويوصل إليها من ناحيته (1). 167 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لكل شئ وجه، ووجه دينكم الصلاة فلا يشينن أحدكم وجه دينه، ولكل شئ أنف، وأنف الصلاة التكبير “، وهذا القول مجاز، والمراد أن الصلاة يعرف بها جملة الدين، كما أن الوجه يعرف به جملة الانسان، لانها أظهر العبادات، وأشهر المفروضات، وجعل أنفها التكبير، لانه أول ما يبدو من أشراطها، ويسمع من أذكارها وأركانها (2). (هامش ص 208) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان: حيث شبه الرسول عليه السلام نفسه بمدينة العلم بجامع اشتمال المدينة على ما فيها واشتماله صلى الله عليه وسلم على العلم الكثير، حتى صار كأنه يملا المدينة، وشبه عليا عليه السلام بباب هذه المدينة بجامع التوصيل في كل. فالباب يوصل إلى المدينة، وعلى عليه السلام يوصل إلى علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذف وجه الشبه والاداة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبهت الصلاة بالوجه بجامع الاظهرية في كل كما قال الشريف، وشبه التكبير بالانف لانه أبرز شئ فيها، كما أن الانف أظهر شئ في الانسان، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 209 ]

168 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أطعموا الله يطعمكم ” وهذا القول مجاز لانه سبحانه قال: ” وهو يطعم ولا يطعم “، والمراد أطعموا فقراء الله الذين أمركم بإطعامهم، وجعلكم سببا لارزاقهم، يجازكم على ذلك بجزيل الثواب، ويكثر لكم من الاخلاف (1) والاعواض (2). 169 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” العلم خزائن ومفتاحها السؤال، فاسئلوا رحمكم الله فإنه يؤجر أربعة: السائل، والمجيب، والمستمع، والمحب لهم ” وهذا القول مجاز، والمراد تشبيه العلم في قلوب العلماء بالخزائن المستبهمة، والابواب المستغلقة، وإنما تستفتح بسؤال السائلين، ويستخرج ما فيها ببحث الباحثين (3). (هامش ص 209) (1) الاخلاف جمع خلف: وهو ما يخلفه الله على المنفق يدل ما أنفق، والاعواض جمع عوض: وهو ما يعوض الله للمنفق عما أنفق، وكانت واو العطف ساقطة في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إرضاء الله بإطعام الفقراء بإطعامه تعالى بجامع أن في كل ما يجلب السرور، واشتق من الاطعام بمعنى الارضاء، أطعموا بمعنى أرضوا على طريق الاستعارة التبعية. (3) ما في الحديث من البلاغة: ما في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه العلم بالخزائن بجامع أن كلا منهما مغلق لا ينفتح إلا بمفتاح، فمفتاح الخزائن معروف، ومفتاح العلم السؤال، وشبه السؤال بالمفتاح بجامع أنه يوصل إلى العلم كما يوصل مفتاح الخزانة إلى ما فيها، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 210 ]

170 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الموت ريحانة (1) المؤمن ” وهذا القول مجاز، والمراد أن المؤمن يستروج إلى الموت تغوثا (2) من كروب الدنيا وهمومها وروعاتها وخطوبها، كما يستروح (3) الانسان إلى طيب المشمومات، ونظر المستحسنات (4). 171 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ” وهذا القول مجاز، والمراد أن المؤمن يستدفع بالدعاء كيد الكائدين، وظلم الظالمين: فيقوم له مقام السلاح الذى يريق الدماء، ويغل الاعداء، وجعل عليه الصلاة والسلام الدعاء عمود الدين، لانه لا يصدر إلا عن قلب المخلص الاواب، لا الشاك المرتاب، والاخلاص قطب الدين الذى عليه المدار، وإليه المحار (5). (هامش ص 210) (1) الريحانة: واحدة الريحان، وهو نبات ذو رائحة عطرة محبوبة. (2) التغوث: طلب الغوث والانفاذ. (3) يستروح: بجد الراحة، وهى مثل يستريح، كما أن استروح، مثل استراح، غير أنه حصل إعلال بالقلب في الكلمتين فقلبت الواو في الاولى ياء، وفى الثانية ألفا. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الموت بالريحانة بجامع استراحة النفص عند لقاء كل. فالمؤمن يستريح إلى الموت كما يستريح من يشم الريحانة، وحذف وجه الشبه والاداة. (5) المحار، المرجع، وأصلها: المحور: بفتح الميم والواو، فقلبت الواو ألفا حسب القواعد الصرفية، وفعله حار يحور: بمعنى يرجع. ومن ذلك قوله تعالى: (إنه ظن أن لن يحور ؟ بلى إن ربه كان به بصيرا). =


[ 211 ]

172 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام من كلام في وصف النساء: ” ومنهن ربيع مربع (1)، وغل قمل ” وهذا القول مجاز، والمراد تشبيه المرأة الحسناء المستوفقة (2) بالربيع المزهر، والروض المنور، وتشبيه المرأة الشوهاء المستثقلة بالغل (3) الذى يثقل الرقاب، ويطول العذاب، وجعله عليه السلام قملا (4) ليكون أعظم لعذابه، وأبلغ في مكروه المبتلى به (5). 173 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن المسجد (هامش ص 211) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان، بليغان: حيث شبه الدعاء بالسلاح في أن كلا منهما يدفع عن صاحبه، فالسلاح يرد الاعداء ماديا، والدعاء يردهم معنويا، لان الله يرد به كيد الكائدين وظلم الظالمين، وشبه الدعاء أيضا بعمود الدين، في أن الدعاء لا يصدر إلا عن الاخلاص، والاعتقاد بأن الله هو القوى القادر فهو علامة الايمان، ولذلك شبه بالعمود الذى يقوم عليه البناء، بجامع أنه إذا ذهب انهدم اليناء، وإذا ذهب الايمان ذهب الدين. (1) مربع: منبت مثمر. (2) المستوفقة: التى توافق زوجها وتعاشره بإحسان. (3) الغل: القيد في الرقبة لا في الرجل، أما في الرجل فيسمى القيد أو الحجل وقد يستعمل في اليد. (4) قملا: أي ذا قمل، وذلك إذا كان الغل من شعر فإن القمل يتولد فيه فيصبر عذاب المغلول عذابين، وألمه ألمين: ألم القيد وألم القمل الذى يأكل جسده. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان: الاول تشبيه المرأة الحسناء الموافقة بالربيع المئمر. بجامع حسن المنظر والمنفعة، والثانى تشبيه المرأة الشوهاء أي سيئة الخلقة غير الموافقة بالغل الذى يولد فيه القمل، بجامع سوء المنظر والايلام، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 212 ]

لينزوي من النخامة (1) كما تنزوي الجلدة في النار “، يقال انزوت الجلدة إذا انقبضت واجتمعت. وهذا الكلام مجاز، وفيه قولان: * (أحدهما) * أن المسجد يتنزه عن النخامة، وهى البصقة، بمعنى أنه يجب أن يكرم عنها، وألا يبتذل بها. فإذا رؤيت عليه كانت شائنة له، وزارية (2) عليه، فكان معها بمنزلة الرجل ذى الهيئة يشمئز مما يهجنه (3)، وينقبض عما يدنسه، وأصل الانزواء: الانحراف مع تقبض وتجمع. * (والقول الآخر) *: أن يكون المراد أهل المسجد، فأقيم المسجد في الذكر مقامهم لما كان يشتمل لميهم، وعلى ذلك قول الشاعر: * واستب بعدك يا كليب المجلس (4) * والمراد أهل المجلس، لان الاستباب لا يكون بين القاعات والجدران، وإنما يكون بين الانسان والانسان. فالمعنى أن أهل المسجد ينقبضون من النخامة إذا رأوها فيه ذهابا به عن الادناس، (هامش ص 212) (1) يقال تنخم: إذا دفع بشئ من صدره أو أنفه، والاول البلغم والثانى المخاط. فالنخامة تشمل الاثنين، وقد خصها الشريف بالبصقة وهى النوع الاول من النخامة. (2) يقال زرى عليه: عابه، أي تكون عيبا فيه. (3) يهجنه: ينقص قدره. (4) الاستباب: افتعال من السب، والمراد بالمجلس أهل المجلس، أي تشاتم أهل المجلس بعدك يا كليب، لانك كنت رئيسهم الذى تحفظ كرامة المجالس.


[ 213 ]

وصيانة له عن الادران (1). 174 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من القتلى رجل قرف (2) على نفسه من الذنوب والخطايا حتى إذا لقى العدو قاتل حتى قتل، فتلك مضمضة (3) محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء للخطأ “. وهذا الكلام مجاز، لان السيف على الحقيقة لا يمحو شيئا من الذنوب، ولكن القتل بالسيف لما كان سببا للشهادة التى يستحق بها دخول الجنة، وحقيقتها شهادة الملائكة للقتيل بأنه من أهل الجنة إذا بذل مهجته في طاعة الله مجتهدا، ووطن نفسه على ألم الجراح والثبات للقاء صابرا محتسبا، كان السيف كأنه قد محا ما سلف من ذنوبه، وليس يبلغ الانسان إلى هذه المنزلة في طاعة الله تعالى، من بذل النفس للقتل، وتوطينها على الهلك في الاغلب الاكثر، إلا وهو تائب من جميع الذنوب التى توجب العقاب، وتحبط الثواب، فتكون الشهادة حينئذ دالة على أنه من أهل الجنة، وسببها السيف، فكأنه قد محاذنوبه، أي أزالها وأبطلها، وعلى ذلك قول الشاعر: (هامش ص 213) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه أثر النخامة في المسجد بالانزواء وهو القبض والتجمع خوفا على نفسه منها، وبجامع الايذاء في كل، واشتق من الانزواء بمعنى التأذى، ينزوى بمعنى يتأذى على طريق الاستعارة التبعية. (2) قرف على نفسه: بغى عليها وظلمها. (3) المضمضة: تحريك الماء في الفم وغسل الاناء وغيره وفى كل منهما تنظيف.


[ 214 ]

فلا تكثروا فيها الضجاج (1) فإنه * محا السيف ما قال ابن دارة (2) أجمعا أي أزاله وأبطله. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” فتلك مضمضة محت ذنوبه ” مجاز آخر، كأن القتل غسله من درن الذنوب. قال ابن السكيت: يقال: مصمصت الاناء ومضمضته بالصاد والضاد إذا غسلته. ويقال أيضا: ماص (3) الثوب بالصاد غير معجمة إذا غسله (4). 175 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لاصحابه: ” اتبعونى تكونوا بيوتا ” وهذا القول مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام لم يرد بيوت الشعر وبيوت المدر (5) على الحقيقة. وإنما أراد أنكم تكونون لعلو أقداركم، واشتهار أخباركم بيوتا، أي شعوبا تقف نسبة أولادكم عندكم، ولا تتجاوزكم إلى من فوقكم، وهذا لا يكون إلا لنباهة الاب الادنى، واستغنائه بالنباهة عن الاب الاعلى، كما يقال لمن ينسب إلى أمير المؤمنين على عليه السلام: ” علوى، (هامش ص 214) (1) الضجاج بكسر الضاد: المشاغبة والمشارة. (2) ابن دارة: شاعر هجا قوما فقتلوه فمحا قتله كل ما فاله في هجائهم. (3) الموص: الغسل اللين والدلك باليد، ويقال منه ماص يموص. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه قتل النفس في الجهاد بالمضمضة التى تنظف. الفم والاناء بجامع المحو والاذهاب في كل. فالقتل يمحو الذنوب، والمضمضة تمحو الدرن والقذر، وحذف وجه الشبه والاداة. (5) المدر بتفح الميم والدال: قطع الطين اليابس.


[ 215 ]

ويستغنى أن يقال: هاشمى أو منافى، وكما يقال لمن كان من ولد عمر: عمرى، ولا يقال: عدوى (1). ونظائر تلك كثيرة. وإنما سميت المناسب (2) المخصوصة بيوتا، لا شتمالها على ضروب الرجال المتصلين بها والمضافين إليها، تشبيها بالبيت المبنى في اشتماله على الدعائم والعماد، والاوتاد والاطناب (3) لشهرته ونجابته. ونظير الخبر المذكور من الشعر قول الطائى الاكبر (4) في صفة الفرس: هذب في جنسه ونال المدى * بنفسه فهو وحده جنس أراد أن نسله ينسب إليه، ولا يتجاوز به إلى من وراءه من آبائه وأماته (5)، كما يقال: هذا الفرس من نسل ذى العقال (6)، ومن نتاج ذى الجمازة (7)، وما أشبههما. (8). (هامش ص 215) (1) نسبة إلى عدى بتشديد الباء: قبيلة عمر رضى الله عنه. (2) المناسب جمع منسبة: وهى الانساب. (3) الاطناب جمع طنب: بفتح الطاء والنون وهى الحيال التى تشد بها أطراف البيت من الجلد والشعر ونحوهما من بيوت العرب. (4) هو حاتم الطائى. (5) الامات: جمع أم. (6) العقال بشد القاف وضم العين: فرس حوط بن أبى جابر، وهو فرس مشهور من جياد الخيل العربية. (7) الجمازة: فرس عبد الله بن حنتم أكرم خيول العرب. (8) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم من الناس بالبيوت، في الارتفاع وعلو الشأن، غير أن الرفعة في البيوت حسية، وفى الانساب معنوية، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 216 ]

176 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الكلام الذى تكلم به يوم الغدير (1): ” وأسئلكم عن ثقلى (2) كيف خلفتموني فيهما، فقيل له: وما الثقلان يا رسول الله فقال: الاكبر منهما كتاب الله سبب (3)، طرف منه بيد الله، وطرف بأيديكم “. هذه رواية زيد بن أرقم. وفى رواية أبى سعيد الخدرى: ” حبل ممدود من السماء إلى الارض، والاصغر منهما عترتي أهل بيتى، إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض “. وفى رواية أخرى: ” حبلان ممدودان من السماء إلى الارض “، فإن الكلام يعود على الثقلين. وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام شبه كتاب الله بالحبل الممدود بين الله وبين خلقه، يعصم منهم من اعتصم به، ويستنقذ من المهاوى والمعاطب من اعتلق بطرفه، وليس هناك يد على الحقيقة تعصم المتعلق بها، وتستشيل (4) المتورط، وإنما ذلك على التمثيل (هامش ص 216) (1) يوم الغدير: يوم خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ذكر فيها فضل آله بيته ومنهم الامام على كرم الله وجهه. (2) ثقلى: تثينة ثقل: بفتح الثاء والقاف وهو الشئ النفيس. والثقلان اللذين سيسأل النبي صلى الله عليه وسلم الناس عنها، هما: القرآن وآل بيته وعترته وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ” إنى تارك فيكم ثقلين كتاب الله وعترتي “. (3) سبب: حبل (4) أي ترفعه إلى أعلى من ورطته، والورطة: الارض المنخفضة والبئر، والهلكة، والمتورط: الواقع في الورطة.


[ 217 ]

والتشبيه، لان المستنقذ من الورطة، والمنهض من السقطة في الاكثر إنما يجتذب بيده، ويستعين بسببه، فأخرج عليه الصلاة والسلام كلامه على العرف المعروف والامر المعهود. ومن روى حبلان ممدودان وأراد بأحد الحبلين العترة، فالمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أقام عترته مقام الحبل الممدود الذى يكون عصمة المستعصم، ونجاة المستسلم، كما قلنا في القرآن. وهذا الخبر بتمامه هو خبر يوم الغدير الذى يقول فيه صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلى مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره. وقد رواه من مشهورى الصحابة عشرة، أولهم أمير المؤمنين عليه السلام وهو الصادق المصدق، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد، والبراء بن عازب، وسعد بن أبى وقاص، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو أيوب خالد بن زيد، وأنس بن مالك، وبريدة بن الحصيب الاسلمي. فأما زيد بن أرقم، وبريدة بن الحصيب، فقد روى عنهما في هذا الخبر: ” من كنت وليه فعلى وليه “، ووافقهما ابن عباس على ذلك. وأخبرنا بهذه الرواية خاصة – وهى أشهر الروايات – أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانى، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد ابن عرفة الواسطي، قال: حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا الوليد (م – 14)


[ 218 ]

ابن صبيح عن ابن امرأة زيد بن أرقم عن زيد بن أرقم، أخبرنا بذلك أبو عبيد الله المرزبانى في جملة ما أخبرنا به من رواياته ومصنفاته. وعلى هذه الرواية تخرج اللفظة من الاحتمال، وتكون أقرب إلى المعنى المراد، لان ولى النبي صلى الله عليه وسلم أولى به من غيره، وأحق بالاستيلاء عليه من كل من لم يضرب فيه بمثل حقه. وقد روى عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ” على ولى كل مؤمن بعدى “. وفى هذا الخبر تصريح بأنه من بعده ولى الامر وواليه، والقائم مقامه فيه، كما قال الكميت ابن زيد في ذلك: ونعم ولى الامر بعد وليه * ومنتجع التقوى ونعم المؤدب والكلام في هذا المعنى يطول. وليس كتابنا هذا من مظان استقصائه، ومواضع استيفائه. وفى هذا الخبر أيضا مجاز، وذلك تسميته عليه الصلاة والسلام الكتاب والعترة بالثقلين، وواحدهما ثقل، وهو متاع المسافر الذى يصحبه إذا رحل، ويسترفق به إذا نزل، فأقام عليه الصلاة والسلام الكتاب والعترة مقام رفيقه في السفر، ورفاقه في الحضر، وجعلهما بمنزلة المتاع الذى يخلفه بعد وفاته، فلذلك احتاج إلى أن يوصى بحفظه ومراعاته. وقال بعض العلماء: إنما سميا ثقلين لان الاخذ بهما


[ 219 ]

ثقيل. وقال بعضهم: إنما سميا بذلك لانهما العدتان اللتان يعول في الدين عليها، ويقوم أمر العالم بهما، ومنه قيل للانس والجن ثقلان لانهما اللذان يعمران الارض ويثقلانها. ومن ذلك قول الشاعر: تقوم الارض ما عمرت فيها * وتبقى ما بقيت بها ثقيلا لانك موضع القسطاس (1) منها * فتمع جابيها أن يزولا (2) 177 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لبعض أزواجه: ” أحسنى جوار نعم الله، فإنها قلما نفرت عن قوم فكادت ترجع إليهم “. وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام جعل النعم المتفاضلة على الانسان بمنزلة الضيف النازل، والجار والمجاور، الذى يجب أن يعد قراه، ويكرم مثواه، وتصفى مشاربه، (هامش ص 219) (1) القسطاس: أقوم الموازين أو ميزان العدل. (2) ما في الحديث من البلاغة: في قوله صلى الله عليه وسلم ثقلى: إذا جعل الثقل هو متاع المسافر استعارة تصريحية، حيث شبه القرآن والعترة بالمتاع الذى يتوارث بعد موت صاحبه بجامع الانتفاع به، وحرص الوارث عليه أن تضييعه، واستعار لفظ المشبه به للمشبه. أما على جعل الثقل هو الشئ النفيس فليس فيه استعارة. وفيه أيضا تشبيه بليغ في قوله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله سبب، فشبه القرآن بالحبل الذى طرفه بيد الله وطرفه بيد الناس، بجامع شدة الاتصال وإمكان الانقاذ به في كل، وحذف وجه الشبه والاداة. وقد بين الشريف أن لا يد هناك وإنما هو على التمثيل والتشبيه، وهذا رأى المتأخرين الذين يؤولون يد الله بقدرته ونحوها، أما السلف فيقولون إن لله يدا لا كأيدينا، وهذا أفضل ووقوف عند حدود الله وعند قوله في وصفه لنفسه، تعالى الله عنه الشبه والمثيل.


[ 220 ]

وتؤمن مساربه (1)، فإن أخيف سربه، ورنق (2) شربه، وضيعت قواصيه (3)، واعتميت (4) مقاربه، كان خليقا بأن ينتقل، وجديرا بأن يستبدل، فكذلك النعم إذا لم يجعل الشكر قرى نازلها، والحمد مهاد منزلها، كانت وشيكة بالانتقال، وخليقة بالزيال (5). وفى رواية أخرى: أحسنوا جوار نعم الله فإنها وحشية. وباقى الخبر على لفظه. فعلى هذه الرواية كأنه عليه الصلاة والسلام شبه النعم بأوابد الوحش (6) التى تقيم مع الايناس، وتنفر مع الايحاش، ويصعب رجوع شاردها إذا شرد، ودنو نافرها إذا بعد (7). (هامش ص 220) (1) السرب: القطيع من الظباء والنساء وغيرهما، والطريق والبال والقلب والنفس ؟، والمراد هنا قطيعه الذى يرعى في مساربه. (2) رنق: أي كدر، والشرب: الماء الذى يشرب منه، أي كدر ماؤه الذى يرده الشرب. (3) القواصى جمع قاصية: وهى البعيدة، والمراد بتضييع القواصى عدم المحافظة على ما يغيب عنه من ماله. (4) يقال اعتمى واعتام: بمعنى قصد واختار، والمقارب جمع مقربة: أي ماله القريب، أي استصفى ماله القريب ولم يرد عليه ماله البعيد. (5) الزيال: أصله الزئال أو الزول، مصدر زال يزول. ثم سهلت الهمزة إلى الياء وقلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة وقد أعلت في الفعل. (6) الاوابد جمع آبد: وهى الحيوانات المتوحشة. (7) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبه نعم الله بالحيوانات التى يمكن استئناسها وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو النفار المعبر عنه بنفرت بجامع بقائها إذا أدى شكرها وذهابها إذا أنكر جميلها، وفى نفرت استعارة تبعية، حيث شنه الذهاب بالنفار بجامع البعد والزوال في كل واشتق من النفار بمعنى الذهاب نفرت بمعنى ذهبت وزالت على طريق الاستعارة التبعية وإسناد نفرت إلى ضمير النعم ترشيح.


[ 221 ]

178 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد سمع مؤذنا يقول: ” أشهد أن لا إله إلا الله فقال: صدقك كل رطب ويابس “، وهذا الكلام مجاز، لان الرطب واليابس من الشجر والاعشاب والماء والتراب لا كلام لهما، ولا روح فيهما، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن تصديقهما بلسان الخلق لا بلسان النطق فجميع المخلوقات شاهدة بأن لا إله إلا الله سبحانه بما فيها من تأثير الصبغة (1) وإتقان الصنعة، وشواهد الصانع الحكيم، والمقدر العليم، فهى من هذه الوجوه متكلمة، وإن كانت خرساء ومفصحة وإن كانت عجماء. وعلى هذا المعنى خرج قول الشاعر: وفى كل شئ له آية * تدل على أنه واحد (2) 179 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب “، وهذه استعارة، والمراد أن الحسد يخرج بصاحبه إلى الاقدام على المعاصي، والارتكاس (هامش ص 221) (1) الصبغة: الخلقة، ومن ذلك قوله تعالى: ” صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة “. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه دلالة الرطب واليابس بما فيهما من حسن الصنعة وإتقان الخلقة بالتصديق على وحدانية الله تعالى بجامع إفادة ذلك في كل، غير أنها في الرطب واليابس دلالة معنوية وفى التصديق دلالة لفظية، واشتق من التصديق بمعنى الدلالة، صدق بمعنى دل على طريق الاستعارة التبعية.


[ 222 ]

في المهاوى، فيلغ في الدماء الحرام، ويحتطب في حبائل الآثام، ويشرع في نقل النعم من أماكنها، وإزعاجها عن مواطنها. فيكون عقاب هذه المحظورات محبطا لحسناته، ومسقطا لثواب طاعاته، على المذهب الذى أشرنا إليه فيما تقدم. فيصير الحسد الذى هو السبب في استحقاق العقاب، وإحباط الثواب كأنه يأكل تلك الحسنات، لانه يذهبها ويفنيها، ويسقط أعيانها ويعفيها. وإنما شبهه عليه الصلاة والسلام في أكله الحسنات بالنار التى تأكل الحطب، لان الحسد يجرى في قلب الانسان مجرى النار لاهتياجه، واتقاده وإرماضه (1) وإحراقه. ومن هناك قال بعضهم: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، نفس يتصعد، وزفير يتردد، وحزن يتجدد (2). 180 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في عهد كتبه لعماله على اليمن: ” فإن هذا القرآن حبل الله المتين، فيه إقامة (هامش ص 222) (1) الارماض: شدة الحرارة. (2) مافى الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إذهاب الحسد للحسنات بأكل النار للحطب بجامع الافناء في كل، واشتق من الاكل بمعنى الافناء، يأكل بمعنى يفنى، على طريق الاستعارة التبعية، وفيه أيضا استعارة مكنية في تأكل النار، لان النار لا تأكل وإنما شبهت بحيوان يأكل وحذف رمز إليه بشئ من لوازمه وهو الاكل، وإسناد تأكل إلى ضمير النار ترشيح، وفى تأكل أيضا استعارة تبعية مثل السايقة: في الحسد بأكل الحسنات.


[ 223 ]

العدل، وينابيع العلم، وربيع القلوب “، وفى هذا الكلام ثلاث استعارات: (أو لاهن) قوله عليه السلام: ” فإن هذا القرآن حبل الله المتين “، وقد تقدم كلامنا على نظيرها (1) وبينا لاى معنى شبه القرآن بالحبل الممدود بين الله سبحانه وبين خلقه في أنه عصمة لمستعصمهم ومسكة لمستمسكهم (والاستعارة الثانية): قوله عليه الصلاة والسلام في صفة القرآن ” ينابيع العلم ” وذلك أنه صلى الله عليه وآله شبه ما يفتحه القرآن لمتفهميه، ويبينه للناظرين فيه، من أبواب العلم وطرقه، ويفتقه من أكمته (2) وغلفه، بينابيع الماء المتفجرة، وعيونه المستنبطة، ولان العلم أيضا ينقع الغليل بعد الشك المحير، كما يبرد الماء الغلة بعد العطش المبرح. فلذلك شبهه عليه الصلاة والسلام بعيون الماء وينابيع الرواء (3). (والاستعارة الثالثة): قوله عليه الصلاة والسلام: ” وربيع القلوب “، وذلك أنه جعل القرآن للقلوب الواعية، بمنزلة الربيع للابل الراعية، لان القلوب تنتفع بتدبر القرآن وتأمله، كما تنتفع الابل بتحمض (4) الربيع (هامش ص 223 (1) سبق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث رقم 176 ” كتاب الله سبب، طرف منه بيد الله وطرف بأيديكم “. (2) الاكمة جمع كمامة بوزن كتابة: وهى غطاء النور الذى يخرجه النبات، والغلف جمع غلاف: وهو غطاء الشئ. (3) الرواء بوزن سماء: الماء الكثير المروى. (4) الحمض: ما ملح ومر من النبات وهو كفاكهة الابل.


[ 224 ]

وتنقله (1)، فهذا غذاء للارواح، كما أن ذلك غذاء للاجسام. وقد يجوزأن يكون المراد أن القلوب تنفرج بحكم القرآن وآدابه، كما تنفرج العيون بأنوار الربيع وأعشابه. والربيع: اسم للغيث في الاصل، ثم صار اسما عندهم لما ينبت عن الغيث من أفانين (2) النور والعشب، ألا ترى إلى قول الشاعر، وهو يريد الغيث: أنت ربيعي والربيع ينتظر * وخير أنواء الربيع ما بكر (3) وهذا كما سموا الغيث سماء، لان نزوله يكون من جهة السماء. قال الشاعر: إذا سقط السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا أراد إذا سقط الغيث، ثم قال: رعيناه، فرد الكلام على ما ينبت عن الغيث من الرعى الجميم (4)، والكلا العميم، ومثل هذا في كلامهم كثير مستفيض، والربيع أيضا: النهر الصغير، وفى الحديث: وما سقى الربيع، وجمعه أربعاء (5) على وزن أنصباء. (هامش ص 224) (1) تنقل الربيع: أي انتقال الابل من مكان إلى مكان فيه حيث تكثر المراعى. (2) الافانين جمع أفنان: والافنان جمع فن: وهو النوع. (3) الانواء جمع نوء: وهو في الاصل النجم الذى يطلع في السماء فيصحب طلوعه ريح ممطرة والمراد به هنا المطر، وبكر: جاء مبكرا في أول الربيع، لانه يجئ على حاجة إليه وشوق بعد طول جفاف. (4) الجميم: الكثير، يقال شئ جم وجميم: بمعنى كثير والرعى بكسر الراء: النبات الذى يرعى. (5) هذا الذى ذكره الشريف أحد قولين في جمع الربيع، وقيل يجمع على أربعة ورباع، والذى ذكره الشريف قوى.


[ 225 ]

181 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في هذا العهد وهو يذكر أوقات الصلاة: ” والعصر إذا كان ظل كل شئ مثله، وكذلك ما دامت الشمس حية، والعشاء إذا غاب الشفق إلى أن تمضى كواهل الليل ” وهاتان استعارتان: أولاهما قوله عليه الصلاة والسلام: ” مادامت الشمس حية، والمراد بحياة الشمس هاهنا كونها في بقية من الاحمرار، من قبل أن يفضى إلى الحؤول (1) والاصفرار، ومن هناك قالوا: شمس مريضة إذا ولى احمرارها، وأقبل اصفرارها، وعلى هذا قول الشاعر: لدن غدوة حتى نزعن عشية * وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف (2) فجعل نصفها ميتا لما تصرم (3) أكثر ضيائها، وجعل نصفها مدنفا، لما كان من التصرم على شفا (4)، ومثل ذلك قوله الراجز: * والشمس قد كادت تكون دنفا * (هامش ص 225) (1) الحؤول مصدر حال: بمعنى تحول وتغير. (2) الشطر: النصف، وقد كان هذا البيت في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة ” والشمس مدنف ” ولكن الصحيح ما ذكرناه هنا، والمدنف: المريض. وكانت كلمة نصفها في الطبعتين السابقتين ” يصفها ” بالياء أولها مع وضع ضمة على الفاء، باعتبار الكلمة فعلا مضارعا، وهذا غير صحيح، والصحيح ما ذكرناه جعل الشاعر نصف الشمس الذى غاب ميتا ونصفها الباقي الاصفر مريضا. (3) تصرم: ذهب وانقضى. (4) شفا كل شئ: حرفه ونهايته أي لما كان نصفها الآخر على حافة الغروب.


[ 226 ]

أي قد قاربت أن تشفى على الغروب، كما يشفى الدنف المريض على الخفوت، فجعلها دنفا مبالغة في وصفها بنقصان اللون وحؤول (1) الضوء على أصل وصفهم لها بالمرض، ولوصفهم الشمس بالموت في أشعارهم وجه آخر، وهو أنهم إذا أرادوا أن يصفوا يوم الحرب باشتداد الحر، واسوداد الافق للقتام (2) المتراكب والنقع المتعاظل (3) يقيمون تغيب الشمس، واحتجابها، مقام انقراضها وذهابها، و (الاستعارة الاخرى) قوله عليه الصلاة والسلام ” ألى أن تمضى كواهل الليل ” (4)، والمراد إلى أن تمضى أوائله، فسماها كواهل تشبيها لليل بالمطايا السائرة التى تتقدم أعناقها وهواديها، ويتبعها أعجازها وتواليها، ومن هناك قالوا في السارى ليلا: اتخذ الليل جملا، ويقولون ركب الليل، وامتطى الليل لما جعلوه بمنزلة الظهر المركوب والبعير المرحول (5). (هامش ص 226) (1) حؤول الضوء: ثغيره واستحالته من الاحمرار إلى الاصفرار. (2) القتام: الغبار، والمتراكب: المتراكم. (3) النقع: الغبار، والمتعاظل: المتشابك. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان الاولى تبعية في قوله حية حيث شبه قوة الشمس بالحياة. بجامع ظهور الاثر وشدته في كل، واشتق من الحياة بمعنى القوة حية بمعنى قوية على طريق الاستعارة التبعية، والثانية تصريحية في قوله: كواهل الليل، حيث شبه أوائل الليل بكواهل الابل بجامع الاسبقية في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (5) المرحول: المتخذ راحلة مركوبة عليها الرحل.


[ 227 ]

182 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” مفاتيح الجنة لا إله إلا الله ” وهذه استعارة، والمراد أن هذا القول به يوصل إلى دخول الجنة، فجعله عليه الصلاة والسلام بمنزلة المفاتيح التى يستفتح بها الاغلاق ويستفرج (1) الابواب، وأراد عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة وما يتبعها من شعائر الاسلام، وقوانين الايمان إلا أنه صلى الله عليه وآله عبر عن جميع ذلك بهذه الكلمة، لانها أول لتلك الشعائر، وسائرها تابع لها ومتعلق بها، فهى لها كالزمام القائد، والمتقدم الرائد، وذلك كما يعبر عن حروف المعجم ببعضها فيقال ألف باتائا والمراد جميعها، وكذلك يقولون: هو في أبجد ويريدون سائر هذه الحروف، إلا أن هذه الحروف لما كانت أولة لباقيها، ومتقدمة لما يليها، حسن أن يعبر بها عن جميعها (2). 183 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في وصية لمعاذ ابن جبل لما بعثه إلى اليمن: ” وصل الظهر بعد ما يتنفس الظل وتبرد الرياح “. وهذه استعارة، والمراد بعد ما يزيد امتداد الظل (هامش ص 227) (1) يستفرج، أي يستفتح، لان الفرجة: هي الفتحة في الجدار ونحوه، واستفراج الابواب معناه: استفتاحها. (2) مافى الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه قول ” لا إله إلا الله ” بالمفاتيح في أنها سبب الدخول، فالمفتاح سبب دخول البيت، وكلمة التوحيد سبب دخول الجنة. وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 228 ]

من قولهم: تنفس النهار، إذا أخذ بالطول، ومنه قوله تعالى: ” والصبح إذا تنفس “، إى إذا زاد ضياؤه، وانتشرت أنواره. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتاب تلخيص البيان عن مجازات القرآن. وأصل هذه مأخوذ من تنفس الحيوانات، وهو امتداد الريح الحارة من تجاويف صدورها، عند ترويح رئاتها عن قلوبها، بانقباضها وانبساطها، وانضمامها وانفراجها (1). 184 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم، فإن أحدهم ليعثر وإن يده بيد الله يرفعها ” وهذا القول مجاز، والمراد بذكر يد الله هاهنا معونة الله تعالى وتقدس ونصرته، فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن أحدهم ليعثر، وأن معونة الله من ورائه، تنهضه من سقطته، وتقيله من عثرته، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لما جاء بلفظ العثار أخرج الكلام بعده على عرف العادات، لان العادة جارية أن يكون المنهض للعاثر، والمقيم للواقع، إنما يستنهضه بيده، ويستعين عليه بجلده. والمراد بذوى الهيئات هاهنا ذوو الاديان، لا ذوو الملابس الحسان، كما يظن من (هامش ص 228) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في قوله يتنفس الظل، حيث شبه استطالة الظل بتنفس الحيوان، بجامع أن في كل منهما استطالة. فالحيوان إذا تنفس تتسع رئتاه وتمتد ؟ ضلوعه. والظل يطول، وفيه أيضا استعارة بالكناية حيث شبه الظل بحيوان يتنفس، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو التنفس، وإثبات التنفس إلى الظل ترشيح.


[ 229 ]

لا علم له، لان هيئة الدين وظاهره أحسن الهيئات والمظاهر، وأفخم المعارض والملابس (1). 185 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” جبرائيل ناموس الله “. وهذا القول مجاز وأصل الناموس المكان الذى يستجن فيه الصائد عن الوحش لئلا تراه فتنفر منه، ومن ذلك سمى من يجعله الانسان موضع سره، ومستودع نفثه ناموسا، يقال منه: نمس ينمس نمسا ونامسه منامسة (2)، فكأنه عليه السلام إنما شبهه بذلك، لانه يستخفى بما يؤديه عن الله سبحانه إلى الانبياء عليهم السلام من أوامر الله، التى تقيد القلوب بحبائل الخوف والرجاء، وتجتذبها بعلائق الوعد والابعاد، تشبيها بالصائد الذى يختل صيده حتى يصيب غرته، ويقتحم غفلته. وقد قال بعضهم: إن الناموس في كلام بعض العرب اسم للنمام، فكأن جبرائيل عليه السلام هو الذى يظهر أمر الله لانبيائه لا على الوجه المذموم الذى يقصده لسان النمام، ويعتمده ناقل الكلام. (هامش ص 229) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على رأى الشريف استعارة تصريحية، حيث شبهت قدرة الله تعالى وعونه باليد، بجامع المساعدة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، أما على رأى السلف، فليس فيه استعارة ولا تشبيه، لان يد الله حقيقة، لله تعالى يد لا كأيدينا. (2) نامسه منامسة: ساره مسارة، أي تكلم ممه سرا.


[ 230 ]

وقال بعضهم: الناموس من أسماء العلم (1)، فيكون في الخبر إذا حملناه على هذا الوجه تقدير مضاف لدلالة الكلام عليه، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: جبرائيل حامل علم الله، أو صاحب علم الله، والحذف إنما يحسن في الكلام إذا كان فيما يبقى دليل على ما يلقى، كقوله تعالى: ” واسئل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها “، فلما كانت القرية، والعير: لا تسئلان، ولا تجيبان علم أن المطلوب غيرهما، وأنه المضاف إليهما، ولا يجوز على هذا: جاء زيد وأنت تريد غلام زيد، لان المجئ قد يكون من الغلام، كما يكون من صاحب الغلام، فلا دليل في مثل هذا على المحذوف كما كان في الوجه الاول (2). 186 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” بلغني عن فلان كلام تشذر لى (3) عن إيعاد “، فوصف الكلام بالتشذر (هامش ص 230) (1) العلم: المراد به هنا الراية التى تدل على حاملها ومن على طريقته، والتى يحملها المحارب في الحرب ومثل ذلك. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على التفسير الاول استعارة تصريحية حيث شبه جبريل بالمكان الذى يستجن فيه الصائد لانه يخفيه كما يخفى جبريل عليه السلام ما أوحى الله به إلى أنبيائه، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وعلى التفسير الثاتى فيه مجاز بالحذف. (3) قال في القاموس: تشذرت الناقة: رأت رعيا فحركت رأسها فرحا، وتشذر الرجل: تهدد وتغضب، وتهيأ للقتال وتوعد، وتسرع إلى الامر. ولكن المعنى الذى ذكره الشريف أليق بالحديث. والايعاد: التوعد والتهديد.


[ 231 ]

مجاز، وأصل التشذر: أن الناقة إذا ألقحت عقدت ذنبها، ونصبته على عجزها، قال الشاعر: لها ذنب كالقنو قد مذلت به * وأسمح للتخطار بعد التشذر (1) فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن الكلام الذى سمعه أعرب له عما في ضمنه من الوعيد، كما أن تشذر الناقة بذنبها دليل على لقاح بطنها، ويجوز أن يكون المراد صفة ذلك الكلام، بالارتفاع والعلو، والاشتطاط والغلو، تشبيها بذنب الناقة إذا عقدته لا قحة، ورفعته شامذة (2). 187 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الايمان هيوب (3) ” وفى هذا الكلام مجاز، لان فيه تقدير كلام محذوف، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: ” صاحب الايمان هيوب “، (هامش ص 231) (1) القنو: الكباسة، وهى الشمروخ يكون فيه البلح، ومذلت ضجرت، وأسمح: لان، التخطار: الضرب يمينا وشمالا: والتشذر: التعقد كالحقلة كما قال الشريف. والمعنى أن هذه الناقة لها ذنب كثيف ضجرت منه وقد لان وأصبح غير معقد صالحا للضرب به يمينا وشمالا بعد أن كان معقودا كالحلقة. (2) لاقحة، أي رفعت ذنبها حال كونها لاقحة، أي رفعت ذنبها دليلا على أنها لقحت ومعنى شامذة لاقحة. مافى الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في تشذر، حيث شبه دلالة الكلام على التوعد والتهديد بالتشذر الذى يدل على اللقاح بجامع الدلالة في كل، واشتق من التشذر بمعنى الدلالة، تشذر بمعنى دل على طريق الاستعارة التبعية. (3) هيوب: صيغة مبالغة على وزن فعول من الهيبة: وهى الخشية والخوف.


[ 232 ]

والعرب تقول: الباب لئيم، أي مغلق الباب دون الاضياف، والمراد أن صاحب الايمان بما معه من حواجز إيمانه، وبصائر إيقانه يهاب تطرق الحوب (1)، ومواقعة الذنوب، فلا يقدم عليها إقدام المرتكس الهاوى، والضال الغاوى (2). 188 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الاستغفار مهدمة (3) للذنوب “، فوصف الاستغفار بأنه يهدم الذنوب مجاز، لان المعاصي الكثيرة لما كانت كالبناء في تراكب أجزائها، واستغلاظ جرابها، كان استغفار النادم، وإقلاع التائب، كأنهما هدم لذاك البناء من أساسه، وكب له على أم رأسه (4). (هامش ص 232) (1) الحوب: الذنب والاثم، قال تعالى: ” إنه كان حوبا كبيرا ” أي إثما كبيرا. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز بالحذف والاصل صاحب الايمان فحذف صاحب وأقيم المضاف إليه مقامه. (3) المهدمة: مفعلة من الهدم، فهى مصدر ميمى، أي هدم للذنوب. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الاستغفار في إزالته للذنوب بالهدم بجامع الازالة في كل، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 233 ]

بسم الله الرحمن الرحيم 189 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما أذن (1) الله لشئ كأذنه لنبى يتغنى بالقرآن ” وهذا القول مجاز، والمراد ما استمع الله لشئ كاستماعه لنبى يداوم تلاوة القرآن، فيجعله دأبه وديدنه، وهجيراه (2) وشغله، كما يجعل غيره الغناء مستروح (3) حزنه، ومستفسح قلبه، ليس أن هناك غناء به على الحقيقة. وهذا كما يقول القائل: قد جعل فلان الصوم لذته: والصلاة طربته، إذا أقامهما مقام شغل غيره باللذات، وطربه إلى المستحسنات. وقد قيل إن المراد بذلك تحزين القراءة ليكون أشجى للسامع، وآخذ بقلب العارف، فسمى هذه الطريقة غناء على الاتساع لانها تقود أزمة القلوب، وتستميل نوازع النفوس. وإلى ذلك ذهب عليه الصلاة والسلام بقوله: ” زينوا أصواتكم بالقرآن ” في الحديث آخر. وليس المراد بذلك تلحين القراءة وتطريبها، فإن الاخبار قد وردت بذم هذه الطريقة، حتى ذكر عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة أمورا عددها، ثم قال: وأن يتخذ القرآن مزامير. وقال بعضهم: (هامش ص 233) (1) أذن كفرح: استمغ للشئ معجبا به والاذن كالفرح: الاستماع بإعجاب وعلى ذلك فتضبط ” كأذنه ” بفتح الهمزة والذال لا بكسر الهمزة وسكون الذال، خلافا لما ذهب إليه الاستاذ محمود مصطفى. (2) الهجيرى: العادة. (3) المستروح: مصدر بمعنى الراحة والمستفسح مصدر بمعنى الفسحة. (م – 15)


[ 234 ]

معنى يتغنى بالقرآن: أي يذكر القرآن، من قولهم: تغنى فلان فلان إذا ذكره في شعره، إما هجاء وإما مدحا. فأما الحديث الآخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” ليس منا من لم يتغن بالقرآن “. فليس المراد به هذا المعنى، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام ليس منا من لم يستغن بالقرآن عما سواه، وتغنى هاهنا بمعنى استغنى، وهو تفعل من الاستغناء لا من الغناء. قال العجاج: أرى الغوانى قد غنين عنى * وقلن لى عليك بالتغنى أي استغنين عنى وقلن لى: استغن عنا كما استغنينا عنك. وهذا عند موت الشباب، وانقضاء الآراب (1). ويؤكد ذلك الحديث الآخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد عظم صغيرا وصغر عظيما “. ولو كان المراد بالتغنى في هذا الخبر ترجيع الصوت بالقرآن لكان من لم يقصد هذه الطريقة في تلاوته، ويعتمدها في صلاته، داخلا تحت الذم، ومقارفا للذنب، لانه عليه الصلاة والسلام قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. فبان أن المراد به الاستغناء لا الغناء (2). (هامش ص 234) (1) الآراب: جمع أرب، وأصلها أرأب فقلبت الهمزة الثانية مدة من جنس حركة ما قبلها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في ” ما أذن الله لشئ ” وتصريحية في ” كأذنه ” حيث شبه في الاولى رضى الله عن النبي الذى يتلو القرآن بالسماع والاعجاب، بجامع الرضى في كل: واشتق من الاذن بمعنى الرضى، أذن بمعنى رضى على طريق الاستعارة =


[ 235 ]

190 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر “: وهو مجاز. وذلك أن العرب كانت إذا قرعتها القوارع ونزلت بها النوازل، وحطمتها السنون الحواطم، وسلبت كرائم أعلاقها من مال مثمر، أو ولد مؤمل، أو حميم (1) مرجب. ألقت الملاوم على الدهر، فقالت في كلامها وأسجاعها، وأرجازها وأشعارها، استقاد (2) منا الدهر:، وجار علينا الدهر، ورمانا بسهامه الدهر، كقول القائل منهم وهو عدى بن زيد. ثم أمسوا لعب الدهر بهم * وكذاك الدهر يودى (3) بالرجال وكقول الآخر: * أكل الدهر عليهم وشرب * وكقول الآخر: * والدهر غيرنا وما يتغير * والاشعار في ذلك أكثر من أن نحيط بها، أو نأتى على جميعها. (هامش ص 235) = التبعية، وشبه في الثانية الرضى بالسماع مع الاعجاب، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وفيه أيضا استعارة تبعية في ” يتغنى “، حيث شبه القراءة المرتلة الخاشعة بالتغنى، بجامع استمالة القلوب في كل، واشتق من التغني بمعنى القراءة بخشوع يتغنى بمعنى يقرأ بخشوع على طريق الاستعارة التبعية. (1) الحميم: الصديق، والمرجب: المعظم. (2) استقاد: أي أخذ منا القود وهو القصاص، كأنهم فعلوا جرما وهو قد اقتص منهم. (3) يودى بالرجال: يهلكهم.


[ 236 ]

فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: لا تذموا الذى يفعل بكم هذه الافعال، فإن الله سبحانه وهو المعطى والمنتزع، والمغير والمرتجع والرائش (1) والهائض (2)، والباسط والقابض، وقد جاء في التنزيل ما هو كشف عن هذا المعنى وهو قوله تعالى: ” وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون “، فصرح تعالى بذمهم على اعتقادهم أن الدهر يملكهم، ويعطيهم ويسلبهم، ودل بمفهوم الكلام على أنه سبحانه هو المالك للامور، والمصرف للدهور (3). 191 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة “. وهذه استعارة. وذلك أنهم يقولون هذه غنيمة باردة إذا حازوها، من غير أن يلقوا دونها حر السلاح وألم الجراح، لانه ليس كل الغنائم كذلك، بل في الاكثر لا تكاد تنال إلا باصطلاء نار الحرب ومألم (4) الطعن والضرب، فكأنه (هامش ص 236) (1) الرائش: أي معطى المال والمتاع، لان الريش هو المال والمتاع. (2) يقال، هاض العظم يهيضه: إذا كسره بعد أن كان سليما، والمراد أن الله هو الذى يصبب الناس بالمصائب. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية، حيث كنى بالدهر عن لازمه في أذهان العرب، وهو الاعطاء والمنع، والاحياء والاماتة، والاعثار والافقار، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الاصلى واضحة، وهى أن الله تعالى ليس زمنا ولاغير زمن، بل لا يعلم ذاته تعالى إلا هو – ويجوز أن يكون فيه مجاز بالحذف لان الله خالق الدهر. (4) المألم: مصدر ميمى بمعنى الالم.


[ 237 ]

عليه الصلاة والسلام جعل صوم الشتاء غنيمة باردة، لان الصائم يحوز فيه الثواب الجزيل والخير الكثير، بلا معاناة مشقة ولا ملاقاة كلفة، لقصر نهاره، وعدم أواره (1). وقد قيل أيضا: إنما وصف الصوم في الشتاء بأنه غنيمة باردة لبرد النهار الذى يقع الصيام فيه، وأنه بخلاف نهار الصيف الذى يشتد فيه العطش وتطول المخامص (2) ويقصر ليله عن القيام بوظائف العبادة التى تحمد عقبى، وتقرب إلى الله زلفى. والشتاء على خلاف هذه الصفة، لقصر نهار الصائم، وطول ليل القائم (3). 192 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اتقوا الله في النساء فإنهن في أيديكم عوان “. وهذا مجاز لانه عليه الصلاة والسلام جعل النساء عند أزواجهن بمنزلة الاسراء، وذلك لان المرأة تجرى على أحكام الرجل في الصدور والورود والوقوف والخفوف، فهى راسفة (4) في أقياد حصره، وناشبة (5) في حبائل نهيه وأمره. (هامش ص 237) (1) الاوار: الحرارة. (2) المخامص: جمع مخمصة، وهى المجاعة: أي الجوع. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشييه بليغ حيث شبه الصوم في الشتاء بالغنيمة الباردة، بجامع الحصول على الشئ بدون مشقة كبيرة أبو بدون مشقة أصلا. وحذف وجه الشبه والاداة. (4) راسفة: أي سائرة سيرا غير منطلق، والاقياد جمع قيد، والحصر: المنع، فالرجل يمنع زوجته من الانطلاق في غير ما يراه نافعا لها ومصلحا لامرها. (5) ناشبة: أي داخلة، والحبائل جمع حبالة، وهى ما ينصبه الصياد للصيد، والمراد بها هنا حدود الامر والنهى.


[ 238 ]

ومن ههنا قيل: فلانة في حبال فلان، إذا كان بعلها، للعلة المقدم ذكرها. والعانى الاسير والجمع عناة، الاسيرة عانية والجمع عوان. وقد يقال للاسير أيضا الهدى. وقال المتلمس في قتل عمرو بن هند طرفة بن العبد بعد أن سجنه زمانا: كطريفة بن العبد كان هديهم * ضربوا صميم قذاله بمهند (1) قيل إنما سميت المرأة المنقولة إلى زوجها هديا، لانها بمنزلة الاسيرة عنده، وقيل: بل سمتى بذلك لانها تهدى إلى زوجها، فهى فعيل في موضع مفعول، فهدى في مكان مهدى. يقال: هديت المرأة إلى زوجها أهديها هداء، وهو من الهداة وليس من الهدية، لانه لا يقال من الهدية إلا أهديت (2). وقد قيل: إن في بعض اللغات أهدبت المرأة، واللغة الاولى هي المعتد بها، والمعول عليها (3). 193 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” استعيذوا بالله من طمع يهدى إلى طبع (4) “، وهذا مجاز، والمراد أن الطمع (هامش ص 238) (1) القذال: جماع مؤخر الرأس، والهند: السيف. (2) يقال: هديت المرأة وأهديتها بمعنى واحد، وهو إهداؤها إلى زوجها. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه النساء بالاسيرات، في خضوعهن لرغبات أزواجهن وامتثالهن لاوا امرهم، وحذف وجه الشبه والاداة. (4) الطبع: الوسخ الشديد من الصدأ والشين والعيب.


[ 239 ]

يصير بصاحبه إلى معايب الافعال ومدانسها، ويوقعه في مذامها ومناقصها. والطبع: الدنس والعيب. يقال: فلان طبع كدنس وجشع، فلما كانت عواقب الطمع صائرة إلى مدارن (1) الطبع جعل عليه الصلاة والسلام الطبع كأنه هاديا إليها، ودليلا عليها، على المجاز والاتساع. والطبع على ما سمعته من شيخنا أبى الفتح النحوي رحمه الله مأخوذ من الطابع، وهو الخاتم، كأنه يسم صاحبه بالمعايب، ويشهره بالمثالب، فيكون كالخاتم الذي يظهر رسمه، ويؤثر وسمه (2). 194 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث مشهور للرجل الذى تفوت (3) ابنه عليه في ماله ففرقه وبذره: ” اردد (4) على ابنك ماله، فإنما هو سهم من كنانتك “. وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام جعل ابن الرجل بمنزلة السهم الذى في كنانته. ولذلك وجهان: (هامش ص 239) (1) المدارن: الاوساخ جمع مدرن، مصدر ميمى من الدرن بمعنى الوسخ (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبه توصيل الطمع إلى الطبع بالهداية بجامع الايصال في كل، واشتق من الهداية بمعنى الايصال يهدى بمعنى يوصل على طريق الاستعارة التبعية. (3) تفوت عليه في ماله: تصرف فيه بغير إذنه وعلى غير رغبته. والمعنى أن الابن كان له مال فتصرف فيه بغير إذن أبيه في وجوه التبذير، فالضمير في ماله للابن لا للاب وكانت هذه الجملة في الاصل يفوت ابنه عليه ماله.. إلخ، والصحيح ما أثبتناه. (4) المعنى: اجمع المال الذي بذره ابنك ورده عليه، لان المال قوة للابن، والابن قوة لابيه، فهو كالسهم في كنانة الاب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم


[ 240 ]

(أحدهما): أن يكون إنما شبهه بالسهم من سهامه، لان الاب سبب نشئه وتربيته، وولى تثقيفه وتأويله، كما أن النابل (1) بارى السهم ورائشه (2)، ومثقفه ومقومه. (والوجه الآخر): أن يكون المراد أنه بمنزلة السهم في كنانته من حيث كان في حصنه، وحاصلا تحت ضبنه (3)، وأنه متى شاء صرفه في آرائه، كما أن صاحب السهم متى شاء رمى به في أغراضه (4). ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ” اردد على ابنك ” أي استرجع ما فرقه من ماله في وجوه التبذير ومظان التبديد، فرده إلى ملكه استظهارا له، وإشبالا (5) له، إذ ليس له أن يفتات عليك بمال، ولا يعصيك في حال (6). (هامش ص 240) (1) النابل: صانع النبل وهو السهم، وهو قطعة من خشب لها رأس مدبب في آخرها نصل، ومعنى بارى السهم الذي يبريه: أي يدبب رأسه ويضع فيها النصل. (2) رائش السهم: الذي يضع فيه الريش، وكان العرب يضعون في السهام ريشا حتى يكون ذلك أسرع لوصولها إلى الغرض، لان الهواء يدخل في الريش فيحمل السهم فيسرع به إلى غرضه كما يدخل الهواء في شراع السفينة فيدفعها في سيرها، ومثقفه هو مقومه ومعدله، لان الخشب الذي تصنع منه السهام قد يكون فيه عوج أو نتوء فيثقفه النبال ويقومه. (3) الضبن بكسر الضاد وفتحها مع سكون الباء هنا: المكان الذي يغطيه العضد من الذراع: لان كنانة السهام يضعها الرامى في هذا المكان. (4) الاولى أن يراد أن الولد سهم من كنانة أبيه وأنه قوة له، كما أن السهم قوة لصاحبه وراميه يدافع به عن نفسه ويردى به عدوه كما سبق أن بينا ذلك. (5) استظهارا له: أي تقوية الابن قوة للاب، والاشبال: العطف والاعانة. (6) ما في الحديث من البلاغة: =


[ 241 ]

195 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الخلق عيال الله عزوجل فأحبهم إليه أنفعهم لعياله ” أخبرنا بهذا الحديث أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجراح في جملة ما أخبرنا به من الاحاديث. قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي (1) في سنة سبع وثلثمائة قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: سمعت المأمون في الشماسية (2)، وقد أجرى الحلبة (3)، فجعل ينظر إلى كثرة الناس، فقال ليحيى ابن أكثم: أما ترى إلى هذه الامم، ثم قال: حدثنا يوسف ابن عطية عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ” الخلق عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله “. وقد حدثنا بهذا الحديث أيضا سهل بن أحمد بن عبد الله بن سهل الديباجي عن محمد ابن يحيى الصولى فيما صنفه مما رضيه خلفاء بني العباس من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام على خلاف هذه الحكاية. (هامش ص 241) = في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الابن بالسهم من كنانة الاب، في أن صاحبه يصرفه كيف يشاء، أو في أن السهم قوة لصاحبه، كما أن الولد قوة لابيه، وحذف وجه الشبه والاداة. (1) البغوي: من حفاظ الحديث وكان محدث العراق في عصره ولد سنة 213 الموافق 828 م، وتوفي سنة 317 ه‍، الموافقة سنة 929 م، وهو غير البغوي صاحب المسند، وبينهما قرابة، فكلاهما ابن عبد العزيز بن المرزبان. (2) الشماسية: قال في القاموس هي موضع قرب رصافة بغداد. (3) الحلبة: الموضع الذي تجرى فيه خيل السباق، والمراد هنا الخيل التى تجرى فيها.


[ 242 ]

وهذا القول مجاز، لان عيال الانسان من يعوله (1) ثقلهم، ويهمه أمرهم، والله سبحانه وتعالى لا تئوده (2) الاثقال، ولا تهمه الاحوال، ولكنه سبحانه وتعالى لما كان متكفلا بمصالح عباده، يدر عليهم حلب الارزاق، ويلم لهم شعث الاحوال، ويعود عليهم بمرافق الابدان، ومراشد الاديان، شبهوا من هذه الوجوه بالعيال الذين في ضمان العائل، وكفاية الكافل، على طريق الاتساع، وعلى معارف العادات (3). 196 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الخمر أم الخبائث، ومن شربها لم يقبل الله منه صلاة أربعين يوما، فإن مات وهى في بطنه مات ميتة جاهلية “، سمعنا هذا الحديث من عمر ابن إبراهيم بن أحمد المقرى (4) ابن حفص الكنانى في جملة ما رواه لنا من الاحاديث، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، قال: حدثنا علي بن إشكاب (5)، قال: حدثنا محمد بن ربيعة، قال: حدثنا (هامش ص 242) (1) قال في القاموس: عال الشئ فلانا غلبه، وثقل عليه وأهمه. (2) أي لا تتعبه الاثقال، ويقال: آده الامر أودا وأوودا: بلغ منه المجهود ومن ذلك قوله تعالى: ” وسع كرسيه السموات والارض ولا يئوده حفظهما ” أي لا يتعبه حفظهما. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الخلق في احتياجهم إلى الله، بالعيال الذين يحتاجون إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم، وحذف وجه الشبه والاداة. (4) المقرى: بفتح الميم، نسبة إلى مقرى بوزن سكرى، وهى قرية بدمشق. (5) على بن إشكاب: بكسر الهمزة وسكون الشين ممنوعا من الصرف وأحمد بن إشكاب محدثان.


[ 243 ]

الحكم بن عبد الرحمن بن أبى نعيم، عن الوليد بن عبادة، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” الخمر أم الخبائث، وذكر ما في الحديث “، وهذه استعارة، وإنما سماها عليه الصلاة والسلام أم الخبائث على تغليظ النهى عن شربها، وتعظيم قدر العقاب عليها، فكأنها جماع الخبائث المردية، ومعظم الذنوب الموبقة، كما أن الام جامعة لاولادها، ومتقدمة عليهم بميلادها، والفائدة في تقديمها على غيرها من المعاصي، أن الاغلب في شربها أن يكون طريقا إلى ارتكاب الكبائر، وجر الجرائر، فإن السكران قد يحمله سكره على القذف والافتراء، وإراقة الدماء، واستحلال الفروج والاموال، وغير ذلك من مقاحم (1) الذنوب، ومعاظم العيوب، وكل هذا فالسكر من أقوى أسبابه، وأقرب أبوابه (2) 197 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع “، وحدثنا بهذا الحديث عمر بن إبراهيم أبو حفص المقرى قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد (هامش ص 243) (1) المقاحم جمع مقحمة: وهى مهالك الذنوب. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الخمر بالام في كونها مصدر الخبائث، كما أن الام مصدر الاولاد، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 244 ]

البغوي (1) ابن بنت منيع قال: حدثنا داود بن رشيد (2) قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن الاوزاعي عن قرة عن ابن شهاب عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ” كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع “. وهذا القول مجاز، وإنما شبه عليه الصلاة والسلام الامر الذى تهم الافاضة فيه، وتمس الحاجة إلى الكلام عليه، إذا لم ينظر فيه حمد الله سبحانه وتعالى، بالاقطع اليد من حيث كان قالصا (3) عن السبوغ، وناقصا عن البلوغ. ومما يقوى ذلك ما رواه أبو هريرة أيضا قال: قال عليه الصلاة والسلام: ” الخطبة التى (4) ليس فيها شهادة كاليد الجذماء ” (5) فأقام عليه الصلاة والسلام نقصان الخطبة، مقام نقصان الخلقة. ومما يشبه هذا الخبر الحديث الآخر الذي ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه: ” غريب الحديث “، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” من تعلم القرآن ثم نسيه لقى الله سبحانه وهو أجذم ” قال: والاجذم (هامش ص 244) (1) هو البغوي السابق. (2) هو بصيغة التصغير أحد المحدثين. (3) يقال قلصت شفته: إذا قصرت، وقلص الظل: إذا انقبض وانحسر، وقلص الثوب بعد الغسيل: إذا انكمش، فمعنى قالصا هنا قاصرا، وهو من باب ضرب يضرب، وحسب يحسب، بكسر عينه، والسبوغ: الشمول والستر. (4) كانت في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة (الخطبة الذى)، وقد صححناها هنا. (5) اليد الجذماء: التى ذهبت أناملها.


[ 245 ]

المقطوع اليد (1)، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وما كنت إلا مثل قاطع كفه * بكف له أخرى فأصبح أجذما واعترض هذا القول عبد الله بن مسلم بن قتيبة قادحا فيه وطاعنا عليه، فقال: إنما أتى أبو عبيد في فساد هذا التفسير من قبل البيت الذى استشهده، وليس كل أجذم أقطع اليد، وإذا نحن حملنا الحديث على ما ذهب إليه أبو عبيد رأينا عقوبة الذنب لا نشا كل الذنب، لان اليد لا سبب لها في نسيان القرآن، والعقوبات من الله سبحانه وتعالى تكون بحسب الذنوب، كقوله تعالى وتقدس: ” الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس “، يريد أن الربا الذى أكلوه أثقل بطونهم، فهم يقومون ويسقطون كما يصيب من يتخبطه الشيطان، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله: ” رأيت ليلة أسرى بى قوما تقرض شفاههم بالمقاريض كلما قرضت وفت (2)، فقال جبرائيل: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون مالا يفعلون. لانهم قالوا بأفواههم فعوقبوا فيها “: ومثل هذا كثير قال: والاجذم ههنا المجذوم (3)، يقال: (هامش ص 245) (1) في القاموس: الاجذم: المقطوع اليد أو الانامل. (2) وفت: أي تبقت وعادت كما كانت. (3) المجذوم: هو المصاب بداء الجذام، وهو مرض يسود منه العضو ثم يسقط.


[ 246 ]

رجل أجذم وقوم جذماء مثل: أحمق وحمقاء، وأنوك () ونوكاء، إلا أن يكون روى في حديث آخر: ” إنه يحشر أقطع اليد “، أو ما يدل على ذلك فيقع التسليم منا. وإنما سمى من به هذا الداء أجذم لانه يقطع أصابع يديه وينقص خلقه، والجذم: القطع، وكل شئ قطعته فقد جذمته وجذوته، ولهذا قيل للمقطوع اليد أجذم، كما قيل له أقطع، أشبه بالعقوبة، لان القرآن كان يدفع عن جسمه كلمة العاهة ويحفظ عليه الصحة، ولما نسيه فارقه ذلك، فنالته الآفة في جميعه، ولا داء أشمل لليد من الجذام ولا أفسد للخلقة. انقضى كلام ابن قتيبة: قلت أنا: وقد خلط هذا الرجل في اعتراضه هذا تخليطا كثيرا لانه أنكر غير منكر وطعن في غير مطعن. وذلك أن أبا عبيد إنما فسر الاجذم في الحديث بأنه المقطوع اليد على أصل صحيح، وهو ما ذكرناه في الخبر الاول من أن الاقطع هناك كالاجذم هاهنا والمراد به أنه يلقى الله تعالى بعد نسيان القرآن ناقصا بعد تمامه، كالذى قطعت يده فظهرت نقيصة أعضائه، وإن كان أبو عبيد لم يبين هذا البيان، فإنه لم يرد غير هذا المراد. فأما قول ابن قتيبة: إن عقوبة الذنب يجب أن تكون مشاكلة للذنب وتعلقه بالمثلين اللذين أوردهما فقد غلط فيما ظنه، ووهم فيما توهمه، لان العقوبات لا يجب (هامش ص 246) (1) الانوك: الاحمق، والجمع نوكى مثل سكرى، وكذلك حمقى.


[ 247 ]

أن تكون مقصورة على الاعضاء المباشرة للذنوب، وإنما المعاقب بها جملة الانسان، ولو كان الامر على ما ظنه لكان الزانى إذا زنى غير محصن يضرب ذكره، والقاذف إذا قذف يجلد لسانه، لانهما واقعا المعصية وباشرا الخطيئة. فلما رأينا هذين المذنبين يعاقب منهما غير المواضع التى باشرت الذنب وواقعت الجرم، علمنا أن المقصود بالعقوبة جملة الانسان دون أعضاء الجسم، فأما يد السارق فلم تكن علة قطعها أنه باشر بها السرقة، ألا ترى أنه لو دخل حرزا فأخرج منه بفمه دون يده ما يجب في مثله القطع قطعت يده، ولم يعتبر أخذه الشئ المسروق بفمه. وأيضا فلو أخذ في أول مرة بيده اليسرى قطعت يده اليمنى، وإذا سرق ثانية بعد قطع يده اليمنى قطعت رجله اليسرى ولم تقطع يده اليسرى وإن باشر السرقة بها. وذلك على مذهب من يرى استيفاء الاعضاء الاربعة في تكرير السرقة وهو مذهب الشافعي، فبان أنه لا يعتبر بقطع ما باشر أخذ السرقة من أعضاء الانسان، وسقط ما اعتمد عليه ابن قتيبة من تشقيق (1) الكلام (2). (هامش ص 247) (1) يقال شقق الكلام: أخرجه أحسن مخرج، والمراد ما اعتمد عليه ابن قتيبة من إخراج الكلام مخرجا حسنا ياخذ بالباب سامعه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الكلام الذى لا يبدأ فيه بالحمد، بالشخص الاقطع المقطوع اليد، بجامع النقصان في كل، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 248 ]

198 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام حين قال له حذيفة بن اليمان، وقد ذكر الفتن: ” أفبعد هذا الشر خير يا رسول الله ؟ قال: هدنة على دخن (1) وجماعة على أقذاء (2) ” وفي هذا الكلام استعارتان: (إحداهما) قوله عليه الصلاة والسلام: ” هدنة على دخن ” وقيل: إن الدخن في الاصل اسم للون الذي فيه كدروة، والصحيح أنه مأخوذ من الدخان لكدر أجزائه وارتداد ألوانه، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه الهدنة التى تؤذن بالقتنة والسلم (3) الذى ينكشف عن المحاربة بالدخان الذى تؤذن سواطعه (4) بالنار الموقدة، وتجلى عن الجواحم (5) المتضرمة. ويقال: دخان ودواخن، وعثان (6) (هامش ص 248) (1) الهدنة: السكون، والدخن: الحقد، ومعنى هدنة على دخن: سكون على حقد، وفي القاموس: هدنة على دخن: سكون لغلبة لا لصلح اه‍. وهذه يكون الحقد دفينا فيها. (2) الاقذاء جمع قذى: وهو ما يقع في العين فيقذيها، وفي الشراب فيفسده. وأصل أقذاء: أقذاى، وقعت الياء بعد ألف أفعال فقلبت همزة. ومعنى جماعة على أقذاء: اجتماع على غير صفاء كإغماض العين على القذى. (3) السلم: يذكر ويؤنث، ومن تأنيثه قوله تعالى: ” وإن جنحوا للسلم: فاجنح لها “. (4) السواطع جمع ساطعة: أي المرتفعات من قطع الدخان، يقال سطع الغبار إذا ارتفع. (5) الجواحم جمع جحيم: وهى النار الشديدة التأجج، والمتضرمة: الشديدة الاشتعال. (6) العثان: الدخان، وقد قال في القاموس: الدخان: العثان.


[ 249 ]

وعواثن، وهما جمعان على غير القياس (1). ويجوز أن يكون المراد بالدخن هاهنا قسطل (2) الحرب، لانه يشبه بالدخان في الحقيقة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: هدنة تنكشف عن رهج القراع (3)، وغبار المصاع. وإنما قال: على دخن، أي أن تلك الهدنة كأنها عطاء تحته هيعة (4) الحرب، وزلزال الخطب، وليس باطنها كظاهرها، وشاهدها كغائبها. (والاستعارة الاخرى) قوله عليه الصلاة والسلام: ” وجماعة على الاقذاء “، فكأنه صلى الله عليه وآله شبه الاجتماع على فساد الغيوب (5) وتغلل (6) القلوب، بالعين المغضية على الداء، المغمضة على الاقذاء. فالظاهر سليم، والباطن سقيم. وفي رواية أخرى زيادة في هذا الحديث فيها مجاز آخر، وهى قوله عليه الصلاة والسلام: ” وفتنة عمياء صماء، ودعاة ضلالة على أبواب جهنم من أجابهم (1) لان جمعهما القياسي على أفعلة فيقال أدخنة وأعثنة، وقد ورد الجمع القياسي في الاستعمال العربي مع هذا الجمع غير القياسي، وورد أيضا دواخين في جمع الدخان. (2) القسطل والقسطال والقسطلان والقسطول: بضم القاف الغبار. (3) الرهج: الغبار، والقراع: المقارعة والمضاربة، والمصاع: النزال والمحاربة. (4) هيعة الحرب: أصواتها المفزعة. (5) الغيوب: الشكوك، كأن كل واحد من المجتمعين يشك في صاحبه ولا يأمن له، وهذا سبب الفساد، فلذلك قال الشريف على فساد الشكوك. (6) تغلل القلوب: امتلاؤها بالحقد حتى يكاد يؤثر فيها. (م – 16)


[ 250 ]

قذفوه فيها “. فوصف الفتنة بالعماء والصمم مجاز، والمراد أن أهلها عمى عن المراشد، صم عن المواعظ، فلما كانت الفتنة سببا لعماهم وصممهم جاز أن ينسب العمى والصمم إليها دونهم. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد أنها تعمى الابصار برهج غبارها، وتصم الاسماع بزجل (1) أصواتها، والقول الاول أقرب إلى الصواب، وأشبه بمقاصد الكلام (2). 199 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لرجل حلب ناقة: ” دع داعى اللبن ” وهذه استعارة، والمراد أمره أن يبقى في خلف (3) الناقة شيئا من لبنها من غير أن يستفرغ جميعه، لان ما يبقى منه يستنزل عفافتها (4)، ويستجم (5) درتها، فكأنه يدعو (هامش ص 250) (1) الزجل: الجلبة وارتفاع الاصوات. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تصريحيتان، حيث شبه الحقد الذى يكون بين المتهادنين بالدخان الذى يدل على النار، بجامع دلالة كل منهما على ما بعده، فالحقد يدل على نقض الهدنة، والدخان يدل على اشتعال النار، وحيث شيه الشك الذى بين المجتمعين بالقذى الذى يكون في العين وهى مغمضة عليه غير ظاهر، بجامع الافساد في كل، فالقذى يفسد العين، والشك يفسد الاجتماع ويسبب الفرقة. وفيه مجاز مرسل، حيث استعمل عمياء وصماء، وهو وصف الفتنة في الناس، لان الفتنة سببه، فإسناد عمياء وصماء إلى ضمير الفتنة مجاز مرسل علاقته السببية. (3) خلف الناقة: بكسر الخاء وسكون اللام، ثديها. (4) العفافة: بقية اللبن في الضرع بعد ما حلب أكثره. (5) يستجم درتها: يكثر إدرارها وإنزالها للبن.


[ 251 ]

بقية اللبن إليه ويكون كالمثابة له، وإذا استنفد الحالب ما في الخلف أبطأ غزره (1)، وقلص دره (2). 200 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مقطع ” وفي هذا الكلام استعارتان: (إحداهما) قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن “. وقد قيل في ذلك أقوال: منها أن يكون المراد أن القرآن يتقلب وجوها، ويحتمل من التأويلات ضروبا كما وصفه أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلام له، فقال: القرآن حمال ذو وجوه، أي يحتمل التصريف على التأويلات، والحمل على الوجوه المختلفات. وقد ذكرنا هذا الكلام في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة. ومن ذلك قول القائل: قلبت أمرى ظهرا لبطن، أي صرفته وأدرته، ليبين لى منه وجه الرأى فأتبعه، وطريق الرشد فأقصده وأنشدنا أبو الفتح (3) النحوي رحمه الله قول الشاعر: (هامش ص 251) (1) الغزر: الكثرة، وقلص: قل، والدرا، نزول اللبن في الضرع. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إبقاء بعض اللبن في الضرع بدعوة اللبن بجامع حصول اللبن بسببه، واشتق من الدعوة داع بمعنى جالب على طريق الاستعارة التبعية. (3) هو أبو الفتح بن جنى، وقد سبق للشريف أن تكلم عنه في هذا الكتاب.


[ 252 ]

أما تراني قالبا مجنى (1) * أقلب أمرى ظهره للبطن * قد قبل الله زيادا عنى * وكان رحمه الله يقول في قوله: ” قد قبل الله زيادا عنى ” سر لطيف، وهو أنه أقام قبله مقام عزله، فكأنه قال: قد عزل الله زيادا عنى، لانه إذا قبل فقد زال سلطانه، وأمنت سطواته. وقال آخرون: الظهر تنزيل القرآن وكلامه، والبطن تأويله وإحكامه. وقال بعضهم: معنى الظهر هاهنا ما قصه الله سبحانه علينا في القرآن من أنباء القرون وأخبار الملوك، وما أوقعه بهم من سطواته وأنزله بهم من نقماته، لما جمحوا في أعنة الطغيان، وأبعدوا في مذاهب البغى والعدوان. وجميع ذلك أحاديث قصها سبحانه علينا، فهى في الظاهر إخبار منه لنا، وأما المراد بالباطن فإنه سبحانه جعل تلك الانباء المقصوصة، والامثال المضروبة، عظة ينبه بها على طريق الرشد، ويحذر معها مصارع البغى فيتناهى عما كان السبب في إهلاك القرون الماضية، والامم الخالية. وذلك مثل مخبر أخبرنا عن إيقاع السلطان بجماعة من الجناة، فقوم قتلهم لما قتلوا، وقوم قطعهم لما سرقوا، وقوم (هامش ص 252) (1) المجن: النرس ؟ الذى بستجن به المحارب من ضربات عدوه، والمراد هنا تغيير الحال، يقال قلب مجنه وقلب له ظهر المجن إذا تغير حاله عليه.


[ 253 ]

جلدهم لما سكروا، فظاهر ذلك أنه أنقال (1) لنا عن هذه الافعال الواقعة بمستحقيها من الحياة، والباطن أنه وعظ وتنبيه لعقولنا. على أن من أقدم منا على مثل تلك المحظورات، أنزل به مثل تلك العقوبات. وقد مضى فيما تقدم من كتابنا هذا كلام مختصر على نظير لهذا الخبر (2)، إلا أننا في هذا الموضع شرحنا ذلك فضل شرح، وبسطناه فضل بسط. (والاستعارة الاخرى) قوله عليه الصلاة والسلام: ” ولكل حرف حد ولكل حد مطلع (3) “. قال بعضهم: معنى المطلع هاهنا يطلع قوم يعملون به. وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من حرف – أو قال آية – إلا وقد عمل بها قوم، أو لها قوم سيعملون بها. وقال بعضهم: المراد بالمطلع هاهنا المأتى الذى يؤتى منه حتى يعلم تأويل القرآن من جهته. وقال بعضهم: المطلع هو المنحدر من المكان المشرف إلى المكان المنخفض، وقد يكون أيضا المصعد من المكان المنخفض إلى المكان المشرف، فهو من الاضداد على هذا التقدير، فكأن الانسان يكون في التوصل إلى علم تأويل القرآن بمنزلة الراقي إلى الذروة، والصاعد إلى النجوة (4)، أو يكون في (هامش ص 253) (1) أنقال: جمع نقل بمعنى المنقول، أي أخبار منقولة لنا عن السابقين. (2) مضى في ذلك في كلام الشريف على حديث مرور النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء على جماعة تقرض شفاههم وكلما قرضت نبتت. الحديث. (3) الذى سبق في الحديث ” ولكل حد مقطع ” ولعل لفظة مطلع وردت في رواية أخرى غير الرواية السابقة. (4) النجوة: المكان المرتفع.


[ 254 ]

التولج (1) على غوامضه بمنزلة الهابط من المكان المشتط (2)، إلى المكان المنحط (3). وقال بعضهم: الحد هاهنا الفرائض والاحكام، والمطلع الثواب والعقاب، فكأنه تعالى جعل لكل حد من حدوده التى حدها من الحرام والحلال مقدارا من الثواب والعقاب، يلاقيه الانسان في العاقبة، ويطلع عليه في الآخرة. ومن ذلك ما يكثر على الالسنة من ذكر هول المطلع وإنما يراد به ما يشرف الانسان عليه بعد الموت من أعلام الساعة، وأشراط القيامة. وعندي في ذلك وجه آخر: وهو أن يكون المراد أن لكل حرف حد يجب على التالى أن يقف عنده، ويتعرف مغزاه ومغيبه (4) فإنه إذا فعل ذلك أفضى به ذلك الحد إلى مطلع يشرف منه على حقيقة المعنى وجلية المغزى. فكأن الوقوف عند تلك الحدود والتمهل عليها والتثبت فيها، يفضى بالانسان إلى مطالع معرفتها، ومفاتق أكمتها (5)، فيكون كطالع الثنية (6) في الاشراف على ما تحتها، والادراك لما استجن عن الناظر قبل الايفاء (7) عليها. وهذا القول (هامش ص 254) (1) التولج: الدخول. (2) المشتط: البعيد والمراد هنا المرتفع. (3) المنحط: المنخفض. (4) هذا المعنى مناسب لرواية ” مقطع ” الواردة في أول الحديث. (5) الاكمة جمع كمام: وهو غطاء الزهر، وقد سبق بيانها في هذا الكتاب (6) الثنية: الارض المرتفعة. (7) الايفاء عليها: الارتفاع فوقها.


[ 255 ]

من استنباطي وما أظن أحدا قرع (1) بابه وطلع نقابه (2) قبلى (3). 201 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من أحيا أرضا ميتة (4) فهى له وليس لعرق (5) ظالم حق “، وهذا مجاز، والمراد به أن يجئ الرجل إلى أرض قد أحياها محى قبله فيغرس فيها غرسا، أو يحدث فيها حدثا (6)، فيكون ظالما بما أحدثه، وغاصبا لحق لا يملكه، إنما أضاف عليه الصلاة والسلام الظلم إلى العرق، لانه إنما ظلم بغرس عرقه، فنسب الظلم إلى العرق دون صاحبه. ذلك كما قال: ليل نائم، ونهار صائم، أي ينام في هذا، ويصام في هذا. وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن (هامش ص 255) (1) قرع باب الشئ: أراد دخوله فدخله، أي لا أظن أحدا وصل إلى هذا المعنى. طلع نقابه: ارتقى، لان النقاب جمع نقب وهو الطريق في الجبل، وقد سبق هذا التفسير في هذا الكتاب في قوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ” أرجو ألا يطلع إلينا نقابها ” أي نقاب المدينة المنورة. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تصريحيتان: الاولى في قوله ظهر وبطن، حيث شبه المعنى الظاهر بالظهر، والمعنى الخفى بالبطن، بجامع الظهور والخفاء في كل، والثانية في قوله مطلع، حيث شبه جهة فهم الحرف بالمطلع الذى يطلع منه الانسان إلى الجبل ونحوه، بجامع كون كل منهما طريقا للوصول إلى المطلوب. (4) الارض الميتة: التى لا تنبت، وإحياؤها سقيها ورعيها وتعهدها حتى تنبت أو البناء فيها حتى تصير ذاث منفعة بعد أن كانت عديمتها. (5) العرق، هو الشجر ويطلق على النبات، والبناء في الارض. (6) كأن يضع عليها سورا، أو يحفر فيها حفرا لوضع الجدار، أو يكون غيره قد سواها ومهدها وحفر للجدار، فيأتى هذا ويضع الجدار أو غير ذلك.


[ 256 ]

الزبير قال: العروق أربعة، عرقان ظاهران، وعرقان باطنان. أما الظاهران: فالغرس والبناء. وأما الباطنان: فالتبر والمعدن. وربما روى هذا الخبر على الاضافة، فيكون ليس لعرق ظالم حق، فإن كانت هذه الرواية صحيحة فقد خرج الكلام من حيز الاستعارة ودخل في باب الحقيقة (1). 202 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اللهم المم شعثنا “، وهذه استعارة، والمراد: اللهم اجمع كلمتنا، وانظم ما تشتت من أمرنا، وتبدد من شملنا، فأقام عليه الصلاة والسلام تفرق الكلمة، وانصداع الامور الملتئمة، مقام العود (2) المتشعث الذى (هامش ص 256) (1) لان الظالم حينئذ هو صاحب العرق وهو الشخص، والظلم يتأتى منه فيكون حقيقة بخلاف رواية التنوين، فالظلم فيها منسوب إلى العرق، والظلم لا يتأتى منه. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على ما ذكره الشريف مجاز مرسل في إسناد ظالم إلى ضمير العرق، والعلاقة السببية، لان العرق هو سبب الظلم، حيث غرسه على غرس غيره، أو بناه على بناء غيره، وترك الشريف استعارة مكنية وتبعية في قوله صلى الله عليه وسلم ” أحيا أرضا ” حيث شبهت الارض بالانسان الذى يحيا ويموت، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الاحياء، وفي أحيا استعارة تبعية حيث شبه زرع الارض أو البناء فيها بإحيائها بجامع حصول المنفعة منها، لان الحى ينتفع بحياته، واشتق من الاحياء بمعنى إحداث النفع، أحيا بمعنى أحدث النقع، على طريق الاستعارة التبعية. (2) العود: قطعة الخشب، وقوله الذى كثر تشظيه أي الذي ذهبت منه قطع واحدة بعد الاخرى حتى أصبح له شظايا، أي قطع منفصلة عنه، ولم الشعث: جمع المتفرق، وقد استعمل هذا في جمع شمل المسلمين.


[ 257 ]

كثر تشظيه، واستطارت الصدوع فيه. وقد مضى الكلام على نظير هذه الكلمة (1). 203 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” قلدوا (2) الخيل ولا تقلدوها الاوتار (3) “، وهذه استعارة على أحد التأويلين وهو أن يكون المراد النهى عن طلب أو تار الجاهلية على الخيل بشن الغارات، وشب النائرات. ومعنى لا تقلدوها: أي لا تجعلوها كأنها قد قلدت درك الوتر فتقلدته، وضمنت أخذ النار فتضمنته. وذلك عبارة عن فرط جدهم في الطلب، وحرصهم على الدرك، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: قلدوا الخيل طلب أعداء الدين، والدفاع عن المسلمين، ولا تقلدوها طلب أو تار الجاهلية، ودخول مصارع الحمية “. وأذا حمل الخبر على التأويل الآخر خرج عن أن يكون مجازا، وهو أن يكون المراد النهى عن تقليد الخيل أو تار القسى. وقيل في وجه النهى عن ذلك قولان: (هامش ص 257) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية في شعثنا حيث شبه تفرق الكلمة واختلاف الرأى بتفرق العود وتشظيه بجامع التفرق في كل واستعير لفظ المشبه به للمشبه. (2) تقليد الخيل، وضع شئ في أعناقها أو وضع شئ تعلم به أنها خيل كذا أي خيل فلان، أو خيل الجهاد أو نحو ذلك. ومعنى الحديث أن وضع القلادة في أعناق الخيل جائز ما عدا الاوتار. (3) الاوتار: يجوز أن تكون جمع وتر بكسر الواو وسكون التاء، بمعنى الثأر، ويجوز أن تكون جمع وتر بفتح الواو والتاء، وهو الخيط أو السير الذي يشد به القوس، وقد ذكر الشريف المعنيين.


[ 258 ]

(أحدهما) أن يكون عليه الصلاة والسلام إنما نهى عنه، لان الخيل ربما رعت الاكلاء (1) والاشجار، فنشبت (2) الاوتار التى في أعناقها ببعض شعب ما ترعاه من ذلك، فخنقتها أو حبستها على عدم المأكل والمشرب حتى تقضى نحبها. (والوجه الآخر) أنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن تقليد الخيل بالاوتار يدفع عنها حمة عين العائن (3) وشرارة نظر المستحسن، فيكون كالعوذ (4) لها، والاحراز عليها، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يعلمهم أن تلك الاوتار لا تدفع ضررا، ولا تصرف حذرا، وإنما الله سبحانه وتعالى الدافع الكافي، والمعيذ الواقى. ومما يقوى هذا التأويل ما روى من أمره عليه الصلاة والسلام بقطع الاوتار من أعناق الخيل. ولتقليد الخيل وجه آخر، وهو أن العرب كانت إذا قدرت وظفرت قلدت الخيل العمائم. وذكر أن معاوية بن أبى سفيان لما تغلب على الامر ودخل الكوفة بعد صلح الحسن بن علي عليهما السلام فعل ذلك بخيله، فقالت أم الهيثم بنت الاسود: (هامش ص 258) (1) الاكلاء جمع كلا: وهو الحشيش الذى ينبت في الارض فترعاه الخيل. (2) نشبت: أي اشتبكت وتعلقت. (3) العائن: الحاسد، وحمة عينه: أثر عينه الحامى. (4) العوذ جمع العوذة: بضم العين وفتحها مع سكون الواو، التميمة التى توضع لافساد أثر الحسد، والاحراز: جمع حرز بكسر الحاء وسكون، الراء وهو هنا بمعنى العوذة السابقة، فهو من عطف المرادف.


[ 259 ]

أقر عينى أن جاءت مقلدة * خيل الشامين في أعناقها الخرق (1) 204 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ضالة المؤمن حرق النار “، وهذا مجاز، لان الضالة على الحقيقة ليست بحرق النار، وإنما المراد أخذ ضالة المؤمن، والاشتمال عليها، والحول بينه وبينها، يستحق به العقاب بالنار، فلما كانت الضالة سبب ذلك حسن أن تسمى باسمه، لان عاقبة أخذها يئول إلى حريق النار، ويفضى إلى أليم العقاب. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن أخذ ضوال الابل وهواميها، والهوامى: الضائعة. قال الشاعر: همت بغلها بالسبلجين وأوفضت * بوادي ثميل عن جبين مشيد (2) (هامش ص 259) (1) أقر عينى: سرنى، وأصل قرار العين سكونها، والشآمين جمع شآم، وهو الرجل من أهل الشام، وهم أنصار معاوية رضى الله عنه، والخرق: القماش الذى وضع على أعناق الخيل كالعمائم على رؤس الرجال. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية على المعنى الاول الذى ذكره الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: ” تقلدوها الاوتار ” حيث شبه جدهم في طلب الثأر، وحرصهم عليه بتقلد الخيل الثأر، وجعل الثأر قلادة في أعناق الخيل، بمعنى أن الثأر جعل علامة للخيل كأنها خصصت لطلبه، بجامع الاعلام والاشعار في كل، واستعير التقليد للجد في طلب الثأر، واشتق من التقليد بمعنى الجد في طلب الثأر، تقلدوا بمعنى تجدوا وتحرصوا على سبيل الاستعارة التبعية. (2) همت: ضاعت، بغلها: التبغيل في السير: التوسط فيه، السبلجين: مكان، أو فضت: أسرعت، وادى ثميل: مكان، الجبين المشيد: الطويل المرتفع. والمعنى أن هذه الناقة ضاع سيرها المتوسط في المكان الاول لانه مكان


[ 260 ]

أي ضاعت بغل هذه الناقة بهذا الموضع المذكور، وذلك لا يكون إلا عند تقطع هلبها (1) وإجحاف السير بها (2). 205 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى “، ووصف الدين بالمتانة هاهنا مجاز، والمراد أنه صعب الظهر، شديد الاسر، مأخوذ من متن الانسان، وهو ما اشتد من لحم منكبيه، وإنما وصفه عليه الصلاة والسلام بذلك لمشقة القيام بشرائطه، والاداء لوظائفه، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يدخل الانسان أبوابه مترفقا، ويرقى هضابه متدرجا، ليستمر على تجشم متاعبه، ويمرن على امتطاء مصاعبه. وشبه عليه الصلاة والسلام العابد الذى يحسر (3) منته، ويستنفد طاقته، بالمنبت، وهو الذى يغذ (4) السير، ويكد الظهر (5)، (هامش ص 260) رملي يجهد السائر فيه ويعوقه عن الاسراع، وأسرعت في المكان الثاني: رافعة جبينها عند الجرى. (1) الهلب: بفتح الهاء وسكون اللام، متابعة الجرى، والمراد تقطع جريها وأجحف بها السير: أضربها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز بالحذف، والاصل عاقبة أخذ ضالة المؤمن حرق النار. (3) يحسر: بفتح الياء وكسر السين وضمها وبضم الياء: أعيا، والمنة: القوة. والمعنى يعيى قوته ويضعفها. (4) يغذ: يسرع. (5) بكد الظهر: يتعبه، والمراد بالظهر الدابة.


[ 261 ]

منقطعا من رفقته (1)، ومنفردا عن صحابته، فتحسر (2) مطيته، ولا يقطع شقته (3). وهذا من أحسن التمثيلات، وأوقع التشبيهات. ومما يقوى المراد بهذا الخبر ما كشفناه من حقيقة الخبر الآخر عنه عليه الصلاة والسلام، وهو فيما رواه بريدة بن الحطيب الاسلمي قال: قال عليه الصلاة والسلام: ” عليكم هديا قاصدا (4) فإنه من يشاد (5) هذا الدين يغلبه (6) “. 206 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إذا سافرتم (هامش ص 261) (1) أي سابقا لهم بسبب أسراعه. (2) تحسر مطيته: أي تتعب. (3) لا يصل إلى غرضه. (4) الهدى: بفتح الهاء وكسرها مع سكون الدال: الطريقة والسيرة، والقاصد: المستقيم، والمراد به هنا الزموا طريقا قصيرا في الوصول إلى أغراضكم، ومن ذلك قوله تعالى: ” لو كان سفرا قاصدا لا تبعوك ” أي سفرا قصيرا. (5) في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة، يشار: يفاعل من الشر. وأصل المعنى يقابل الشر بالشر، والمراد هنا من يجالد الدين يغلبه الدين، والمعنى الاول هو الذى ذكره الاستاذ محمود مصطفى في تعليقه على الطبعة الثانية لهذا الكتاب، ولفظ يشار محرف والصحيح يشاد بالدال بدل الراء، بدليل الرواية الاخرى لهذا الحديث ” إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ” والمشادة مفاعلة من الشد وهو الجذب، كما يشد شخصان حبلا بينهما لاختبار قوتهما، فالقوى يجذب الضعيف ناحيته ويغلبه، فكذلك الدين يغلب من يقاويه، ويحاول فعل جميع فروعه. (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية في ” متين “، حيث شبهت شدة أوامر الدين ونواهيه بالمتانة، بجامع عدم القدرة على الاجتياز في كل، واشتق من المتانة بمعنى الشدة، متين بمعنى شديد على طريق الاستعارة التبعية.


[ 262 ]

في الخصب فأعطوا الركب (1) أسنتها “، وفي رواية أخرى: ” فأعطوا الركاب أسنانها “، وهذه استعارة، والمراد بالاسنة هاهنا على ما قاله جماعة من علماء اللغة: الاسنان، وهو جمع الجمع، لان الاسنان جمع سن، والاسنة جمع الاسنان، والركب جمع الركاب، فكأنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بأن يمكنوا ركابهم زمان الخصب من الرعى في طرق أسفارهم، وعند نزولهم وارتحالهم، فكنى عن ذلك بإعطائها أسنانها، والمراد تمكينها من استعمال أسنانها في اجتذاب الاكلاء، وامتشاط (2) الاعشاب، فكأنهم بتمكينها من ذلك قد أعطوها أسنانها. وهذا كما يقول القائل لغيره: أعط الفرس عنانها، وأعط الراحلة زمانها، أي مكنها من التوسع في الجرى، ومد العنق في الخطو. وعندي في ذلك وجه آخر، وهو أن يكون المراد: مكنوا الركاب في الخصب من أن تسمن بكثرة الرعى، لانهم قد عبروا في أشعارهم عن سمن الابل وبدنها (3) بالسلاح تارة، وبالاسنة تارة. قال الشاعر: (هامش ص 262) (1) الركب: جمع ركوب، فعول بمعنى مفعول، أي المركوب، أي اعطوا الدواب المركوبة أو جمع ركاب، كما قال الشريف، والركاب جمع ركوب بمعنى مركوب، فيكون الركاب جمع الجمع. (2) امتشاط الاعشاب: رعيها، كأن الدابة تدخل أسنانها بين أجزاء النبات فتمشطها. (3) يقال بدن: من باب كرم ونصر، بدنا بفتح الباء وضمها مع سكون الدال إذا كبر جسمه وصار بدينا.


[ 263 ]

ولا تأخذ الكوم الجلاد سلاحها * له عند صرات الشتاء الصنابر (1) أي لم يمنعه سمن إبله وشارتها (2) في عينه من أن ينحرها لاضيافه ويبذلها لطراقه، فجعل السمن لها كالسلاح الذى تدافع به عن نحرها وتماطل به عن عقرها. وقد قال الآخر في مثل ذلك، ويعنى الابل: * خابلت فيها ولم تأخذ أسنتها * (3) ومن أبيات لاياس بن سلم الاسلمي يمدح بها النبي عليه الصلاة والسلام: وأبيك حقا إن إبل محمد * عزل تناوح أن تهب شمال وإذا رأين لدى الفناء قريبة * فاضت لهن على الخدود سجال يقول: إن إبله مبذولة عند نزول النازل، وطروق الطارق، فلا يمنعه من عقرها رواؤها (4) وشارتها، فكأنها عزل لا سلاح معها، (هامش ص 263) (1) الكوم: جمع كوماء، وهى الناقة السمينة، الجلاد، جمع جلد بسكون اللام، أو جلدة بفتحها وهى الكبار من الابل لا صغار فيها. والضمير في له لصاحب الابل وهو الممدوح، والصرات: جمع صرة بكسر الصاد، وهى شدة البرد أو البرد فقط، والمراد الاول، وصنابر الشتاء: شدة برده، والصنبر: بتشديد النون المفتوحة وسكون الباء: الريح الباردة. (2) الشارة: الحسن والجمال هنا. (3) خايلت فيها: رجوت فيها اللبن واستحقاق الذبح مع أنها لم تكبر ولم تبلغ المدى الذى تذبح عنده. (4) الرواء: الحسن والزينة، والشارة: الحسن والجمال كما سبق.


[ 264 ]

كما جعل الشاعر الاول هذه الحال بمنزلة بمنزلة السلاح لها وأراد بقوله: إذا رأين لدى الفناء قريبة، أي رأين رفقة قريبة بفناء النبي عليه الصلاة والسلام بكين وتناوحن، علما بأنهن ينحرن لها، ويعقرن لاجلها. وكذلك إذا هبت الشمال في صميم الشتاء، حاذرن العقر، وانتظرن النحر. ومما يقوى ذلك ما جاء في الحديث المشهور عنه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الجفاء والقسوة في الفداذين إلا من أعطى في نجدتها ورسلها “. والفدادون هاهنا على أصح الاقوال هم أصحاب الابل الكثيرة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: إلا من أعطى من إبله في حال كثرة شحومها وشارة جسومها، وسمى ذلك نجدة لها على ما قدمنا القول فيه، لانها إذا كانت في تلك الحال كانت كالمانعة لصاحبها من نحرها، نفاسة بها، وشحا عليها، فكانت شارتها كالمنجدة لها، والسلاح الذى تدفع به عن أنفسها. وقد قيل في رسلها هاهنا قولان: (أحدهما) في حال كثرة ألبانها، موافقة لقوله عليه الصلاة والسلام: في نجدتها، إذا كان ذلك بمعنى حسن شارتها. (والقول الآخر) أن يعطيها في حال يهون عليه إعطاؤها فيها، وهى حال نقصان شحومها، وخفة جسومها، من قولهم: تكلم فلان


[ 265 ]

بكذا على رسله، أي والكلام هين عليه، فهو متمهل فيه غير عجل وساكن غير غلق (1)، فكأن المعنى: إلا من أعطاها في حالتى كرامتها وهوانها، واستقباحها واستحسانها، كقولك في حال العسر واليسر، وعند الطوع والكره. والقول الاول هو المعتمد (2). 207 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أنا برئ من كل مسلم مع مشرك، قيل: ولم يا رسول الله ؟ قال: لا تراءى ناراهما “، وهذه استعارة، وقد قيل في ترائى النارين قولان: (أحدهما) أن يكون المراد أن المسلم لا ينبغى له أن يساكن المشرك في بلاد فيكون منه بحيث إذا أوقد كل واحد نارا رآه الآخر، فجعل الترائى للنارين وهو في الحقيقة للموقدين. والاصل في ذلك المداناة والمقابلة يقول القائل: دور بنى فلان تتناظر، أي تتدانى وتتقابل، ويقولون للمسترشد: إذا أخذت في طريق كذا فنظر إليك الجبل فخذ عن يمينه أو عن يساره، والمراد إذا قابلك الجبل فنظرت إليه، فجعلوا النظر له، لانهم أقاموا الجبل مقام (هامش ص 265) (1) غير غلق: غير مكره، والمراد هنا غير المعجل، أو غير المدفوع إلى الاسراع في الكلام. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه تمكين الدواب من الرعى بإعطائها أسنانها التى تأكل بها، بجامع إيجاد وسيلة الاكل في كل، واشتق من إعطاء الاسنة بمعنى التمكين، أعطوا بمعنى مكنوا على طريق الاستعارة التبعية. (م – 17)


[ 266 ]

الرئية (1) الناظر، والرفيق المساير. وقال الشاعر: سل الدار من جنبى حبر فواهب * إلى ما رأى هضب القليب المضيح (2) وهضب القليب والمضيح: موضعان متقاربان، فجعلهما لتجاذبهما كأنهما يتراءيان. ومثله قول الآخر: حيث يرى الدير المنار. (والوجه الآخر) أن يكون المراد بالنار هاهنا نار الحرب، لانهم يكنون عن الحرب بالنار، لما فيها من رهج المصاع، ووهج القراع (3). ومن ذلك قول الشاعر: هما حيان يصطليان حربا * رداء الموت بينهما جديدا وعلى هذا المعنى جاء التنزيل بقوله تعالى: ” كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله “، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: ” وناراهما مختلفان ” أي حرباهما متباينان. هذه تدعو إلى الهدى والرشاد، وهذه تدعو إلى العمى والضلال. وقد يجوز في ذلك عندي وجه آخر، وهو أن يكون المراد: (هامش ص 266) (1) الرئية: فعيلة بمعنى فاعلة، أي الرائية الناظرة. (2) حبر وواهب: مكانان، وهضب القليب: جبل لبنى عامر، والمضيح: المختلط فيه الدماء بالحصى والتراب بعد الحرب. (3) سبق بيان معاني الرهج والمصاع والقراع قريبا، والوهج: شعاع النار ونحوها.


[ 267 ]

لا يجتمع سرباهما (1)، ولا يختلط سرحاهما (2)، والنار عندهم اسم لسمات الابل، يقولون على هذه الابل: نار بنى فلان، أي وسمهم. وعلى هذا قول بعض خراب (3) الابل في ذكر أذواد (4) استلبها، وأراد عرضها ليبيعها: يسألنى الباعة ما نجارها * إذ زعز عوها فسمت أبصارها (5) فكل دار لا ناس دارها * وكل نار العالمين نارها أي هي مأخوذة من قبائل شتى، فوسمها غير متسق، ونجارها غير متفق. وهذا الوجه يعود إلى معنى الوجه الاول، لان المراد أن المسلم والمشرك لا يجوز اجتماعهما في دار حتى تجتمع أذوادهما في الرعى وأورادهما (6) في الورد (7)، فقوله عليه الصلاة والسلام على هذا (هامش ص 267) (1) السرب: الجماعة، أي لا تختلط جماعة كل منهما بجماعة الآخر. (2) السرح: المال السائم، أي لا يقتربان في المرعى. (3) الخراب: جمع خارب، كسارق وسراق، وزنا ومعنى. (4) الاذواد: جمع ذود، وهو الجماعة من الابل. (5) الباعة: جمع بائع، وهو السمسار الذى يشترى ليبيع، وكان يسمى المستام الذى يسوم الابل ليشتريها ويبيعها لغيره، والنجار: الاصل، وزعزعوها: حركوها ومشوا بها بسرعة ليروا هل فيها عيب أو لا. وسمت أبصارها: ارتفعت كأنها تنظر لترى أحدا من أصحابها، ونار العالمين: المراد بها الوسم بالنار والتعليم بها، كما استدل به الشريف على ذلك. (6) الاوراد جمع ورد: وهم الذين يردون الماء لسقى دوابهم. (7) الورد هنا: مصدر ورد الماء بمعنى قصده للسقيا.


[ 268 ]

الوجه: لا يتراءى ناراهما، أي لا يختلط وسماهما (1). وأما الحديث الآخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ” فقيل إن المراد لا تستشير وهم في أموركم، فتعملوا بآرائهم، فترجعوا إلى أقوالهم. وهذا أيضا مجاز آخر، لانه عليه الصلاة والسلام شبه الاسترشاد بالرأى بالاستضواء بالنار إذ كان فعله كفعلها في تبيين المبهم، وتنوير المظلم (2). 208 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن عم الرجل صنو أبيه “، وهذه استعارة، والمراد أن أصلهما من منبت واحد، فهما كالنخلتين من الصنوان، يجتمع أصلهما ويفترق رأساهما، فيكونان اثنين في الرؤية، والاصل واحد في الحقيقة. يقال: صنو، والجمع صنوان، مثل قنو، والجمع قنوان، قال سبحانه: ” صنوان وغير صنوان “، وقيل أيضا: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان غير المجتمع (3). (هامش ص 268) (1) أي لا تختلط إبلهما الموسومة بوسمهما. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية: حيث كنى بعدم رؤية نار أحدهما لنار صاحبه عن ابتعادهما، والقرينة هنا أن عدم رؤية النار للنار لا يتعلق به غرض، وإنما المراد بعد المسلم عن المشرك في العقيدة، بحيث لا يقترب المسلم من المشرك في عقيدته فيحمله ذلك على الخروج من الاسلام، أما قرب الدار وقرب الاوطان فلا مانع منه، ولم يرد في الشرع نص بتحريمه. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه عم الرجل بالصنو في أن أصلهما واحد، لان


[ 269 ]

209 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تمسحوا بالارض فإنها بكم برة “، وهذه استعارة، والمراد بقوله: ” فإنها بكم برة ” يرجع إلى أنها كالام للبرية لان خلقهم ومعاشهم عليها، ورجوعهم إليها، فلما كانت الارض تسمى أما لنا من الوجوه التى ذكرناها كان قوله عليه الصلاة والسلام: ” فإنها بكم برة ” يرجع إلى وصفها بالامومة، لانهم يقولون: الارض ولود، يريدون كثرة إنشاء الخلق واستيلادهم عليها. وقال ذو الرمة في وصف الام بالبر، وهو يذكر فراخ النعام: جاءت من البيض زعرا لا لباس لها * إلا الدهاس وأم برة وأب (1) والدهاس: الرمل. ولقوله عليه الصلاة والسلام: ” تمسحوا بالارض ” وجهان: (أحدهما) أن يكون المراد التيمم منها في حال الطهارة وحال الجنابة. (والوجه الآخر) أن يكون المراد مباشرة ترابها بالجباه في حال (هامش ص 269) أباهما واحد وحذف وجه الشبه والاداة. (1) الزعر: جمع زعراء، وهى قليلة الريش، والدهاس: النبات الذى لم يخضر بعد، شبه الريش القليل الذى لم يتلون بالنبات الذى لم يخضر. والمعنى أن فراخ النعام خرجت من البيض بعد فقسها قليلة الريش، لا يكسوها إلا الريش الذى لم يصل إلى درجة التلون وعطف أمها وأبيها. ويجوز أن يكون المراد بالدهاس الرمل كما قال الشريف، فتكون فراخ النعام بعد فقسها اختلطت أجسادها برمل المكان الذى ولدت فيه.


[ 270 ]

السجود عليها، وتعفر الوجوه فيها، ويكون هذا القول أمر تأديب لا أمر وجوب، لان من سجد على جلدة الارض ومن سجد على حائل بينها وبين الوجه واحد في إجزاء الصلاة، إلا أن مباشرتها بالسجود أفضل. وقد روى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد على الحمرة، وهى الحصير الصغير يعمل من سعف النخل، فبان أن المراد بذلك فعل الافضل لا فعل الاوجب. ومما يقرب شبها من هذا الخبر ما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: ” نعمت العمة لكم النخلة “، فكأنها لا نتفاعهم بها، وتعويلهم على ثمرتها، قد قامت مقام القريبة الحانية، وذات الرحم المتحفية، ولم يجعلها عليه الصلاة والسلام بمنزلة الام للناس كما جعل الارض في الخبر الاول، لانهم في الحقيقة لم يخلقوا منها، ولم ينسبوا إليها، فجعلها من حيث الانتفاع بها بمنزلة أقرب الاناث القرائب من الانسان بعد اللاتى ولدنه واللاتي ولدهن هو، وتلك عمة الانسان وخالته، إلا أن أخت الاب أرفع منزلة من أخت الام، ولذلك جعلها عمة، ولم يجعلها خالة (1). (هامش ص 270) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الارض بالام البرة في نشأة الناس منها وعودهم إليها، وحذف وجه الشبه والاداة. وهنا موصوف محذوف والتقدير فإنها أم برة بكم.


[ 271 ]

210 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في دعاء كان يدعو به: ” رب تقبل توبتي واغسل عنى حوبتى ” وهذه استعارة، والحوبة والحوب (1): المأثم، والمراد احط عنى وزرى، وتغمد ذنبي وخطيئتي، ولكن المعصية لما كانت كالدرن (2) الذى يصيب الانسان، فيفحش أثره، ويقبح منظره، أقام عليه الصلاة والسلام إماطة وزرها، وإسقاط إثمها مقام غسل الادران، وإماطة الادناس لان الانسان بعدها يعود نقى الاثواب، طاهرا من العاب (3). وهذا الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام على وجه التعبد والخضوع، والتطامن والخشوع، لا أن له عليه الصلاة والسلام حوبة يستحط وزرها، ويستغسل درنها، أو يكون قوله عليه الصلاة والسلام ذلك على طريق التعليم لامته كيف يتوب العاصى، وينيب الغاوى، ويستأمن الخائف، ويستقيم الجانف (4). والسبب الذى لاجله قلنا إن الانبياء عليهم السلام لا يجوز أن يواقعوا المعاصي، ويقدموا على المغاوى، أن الحكيم تعالى إذا أرسل رسولا جنبه كل ما ينفر عنه، (هامش ص 271) (1) الحوب: بضم الحاء الذنب والاثم، قال تعالى ” إنه كان حوبا كبيرا ” أي إثما، وكذلك الحوب بفتح الحاء وسكون الواو، والمأثم: مصدر ميمى بمعنى الاثم، وهو ارتكاب الذنب. (2) الدرن: الوسخ والقذر. (3) العاب والمعاب والمعابة: العيب. (4) يقال جنف: من باب ضرب فهو جانف، أي مال وجار من الطريق المستقيم، فهو جائر.


[ 272 ]

ويصرف عن القبول منه، ومعرفة ما يقطع على أنه منفر مأخوذ من عادات الناس، وكبائر المعاصي منفرة لانها تخرج من ولاية الله تعالى إلى عداوته، وتوجب عاجل مقته وعقوبته. وفي الصغائر خلاف ليس كتابنا هذا موضع بيانه، واستقصاء حجابه، وقد بسطنا الكلام على ذلك في باب مفرد من جملة كتابنا الكبير في متشابه القرآن، فمن أراد استيعاب معانيه، ومعرفة الخلاف فيه. فليقصد مطالعته من هناك بتوفيق الله (1). 211 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من سره أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر (2) الصبر وثلاثة أيام من كل شهر “، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” وحر صدره ” استعارة، والمراد غشه ودغله، وفساده ونغله (3)، وذلك (هامش ص 272) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية وتبعية. الاولى: في تشبيه الذنب بالوسخ والقذر بجامع الاثر السئ والشنعة في كل، وحذف ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الغسل، والثانية: في اغسل، حيث شبه غفر الذنب وعدم المؤاخذة عليه بغسل الوسخ بجامع إزالة الاثر في كل، واشتق من الغسل بمعنى الغفران، اغسل بمعنى اغفر على طريق الاستعارة التبعية. (2) شهر الصبر: هو شهر رمضان، وصيامه واجب، وثلاثة أيام من كل شهر من أوله أو من آخره أو وسطه، وهذا صيام نفل وليس واجبا. (3) يقال نغل الجرح: إذا فسد، ونغلت نيته: ساءت، وقلبه على ضغن: (حقد) وهو من باب فرح، فالنغل هنا مصدر.


[ 273 ]

مأخوذ من اسم دويبة يقال لها الوحرة وجمعها وحر (1)، وهى شبيهة بالحرباء. وقال بعضهم: هي تشبه العظاء (2)، إذا دبت (3) على اللحم فأكل منه إنسان وحر صدره، أي اشتكى داء فيه (4)، ويقال: إنها شبيهة باليعوب (5) الاحمر تسكن القليب والآبار. قال الراجز: في كل يوم قربة موكره * يشربها مرية كالوحره (6) فشبه عليه الصلاة والسلام ما يسكن في صدر الانسان من الغش والبلابل، ويجول في قلبه من مذمومات الخواطر، بهذه الدويبة المنعوتة، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه القلب بالقليب، وشبه ما يستجن فيه من نغله، بما يستجن في القليب من وحره (7). (هامش ص 273) (1) قال في القاموس: ” الوحرة محركة وزغة كسام أبرص، أو ضرب من العظاء لا تطأ شيئا إلا سمته ” اه‍. (2) العظاء: بفتح العين جمع عظاية، وهى دابة كسام أبرص، وسام أبرص: هي ما يسميه الناس البرص أو البريصة على اختلاف التسمية في البلاد. (3) دبت على اللحم: مشت عليه. (4) أي تسمم من سم الوحرة، فيقال وحر. (5) اليعسوب: ذكر النحل: أو أميرها أو كبيرها. (6) الموكرة: المملوءة، يقال وكر الاناء ووكره بتشديد الكاف: إذا ملاه، والمرية: السهلة السائغة، والوحزة: الدويبة المعروفة، وهى تأكل من كل شئ، فهو مرى عندها. (7) ما في الحديث من البلاغة. في الحديث استعارة تصريحية في وحر صدره، حيث شبه ما يكون في الصدر من الضيق والحقد بسم الوحرة، بجامع الافساد في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه.


[ 274 ]

212 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه. فقيل يا رسول الله: ما همزه ونفثه ونفخه ؟ فقال: أما همزه فالموتة (1)، وأما نفثه فالشعر، وأما نفخه فالكبر “، وفي هذا الكلام استعارات ثلاث: الاولى منها الاستعارة من همز الشياطين، وأصل الهمز الغمز والدفع وكل شئ دفعته فقد همزته، ويروى بيت القطامى: تراهم يهمزون من اشتركوا * ويجتنبون من صدق المصاعا (2) ويروى يغمرون، فالهمز على ما فسره النبي عليه الصلاة والسلام هاهنا الموتة وهى الجنون على الحقيقة، فإن الشيطان لا سلطان له على الانسان ولا يصرعه ويوسوس له ويفزعه، وقد صرح التنزيل بذلك، فقال تعالى: ” وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى ” الآية، فعلمنا أنه لا سلطان له على الانسان إلا بالوساوس والتخابيل، وضروب (هامش ص 274) (1) الموتة: الاغماء والجنون. (2) يهمزون: يدفعون ويضربون، من اشتركوا: من استضعفوه، مأخوذ من الرك وهو الضعف، والمصاع: النزال والجلاد في الحرب، ومن صدقه: من كان فيه قويا شديدا فهم يجتنبونه لخوفهم منه.


[ 275 ]

التهاويل، فلما كان ما يلحق المجنون من الافزاع، ويأخذه من العرواء (1) والانزعاج، عن وساوس الشيطان جاز أن ينسب ذلك إلى همزه وغمزه على طريق المجاز والاتساع في نظائره. ” والاستعارة الثانية ” الاستعارة من نفث الشيطان، وهى الشعر على ما فسره النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك مخصوص في شعر المشركين الذى كانوا يهجون به رسول الله صلى الله عليه وآله وخيار المسلمين، أو ما يجرى مجراه من أشعار المسلمين الاسلاميين، لانه عليه الصلاة والسلام قد قال: ” إن من الشعر حكما “، فلا يجوز أن يكون هذا القول متناولا لجميع الشعر عموما، وموضع الاستعارة أن الشيطان لما كان يزين للمشركين الطعن في أعراض المسلمين، وكان الشعر مما تلفظ به ألسنتهم، شبهه عليه الصلاة والسلام بالشئ الذى تنفث (2) به أفواههم، ونسبه إلى الشيطان لان تزيينه ما زين لهم كان سببا لما نفثت به ألسنتهم، وقد يجوز أن يكون إنما نسبه إلى نفثه لان الشيطان كان نفثه في أفواههم، وتكلم به على ألسنتهم، كما يقولون للمتكلم بالكلمة الغاوية: ما نطق على لسانك إلا شيطان. قال الفرزدق في قصيدته التى يهجو فيها إبليس، وهى مشهورة: (هامش ص 275) (1) العرواء: قوة الحمى ومسها في أول رعدتها، وقد شبه الرضى ما بحدث لمن يهمزه الشيطان بالرعدة التى تحدث للمحموم. (2) النفث: إخراج النفس مع بعض الريق، فهو نفخ ضعيف وأقل من التفل.


[ 276 ]

وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا * لهم بعذاب الناس كل غلام (1) هما نفثا في في من فمويهما (2) * على النابح العاوى أشد رجام (3) ويروى لجام، يريد بقوله: ألبنا كل غلام، أي سقياه اللبن، فكأنهما غذياه بذلك فدرب به ونشأ عليه وتعوده، ” والاستعارة الثالثة “: الاستعارة من نفخ الشيطان، وهو على ما فسره عليه الصلاة والسلام الكبر والعجب ولا نفخ هناك على الحقيقة، وأنما المراد به ما يسوله الشيطان للانسان من تعظيم نفسه واستحقار غيره، وتصغير الناس في عينه، فكأنه بهذا الفعل ينفخ في روعه ما يستشعر به أنه أحق من غيره بالتعظيم، وأولى بالتفخيم، تشبيها بالشئ الاجوف كالزق (4) وما في معناه، لانه إذا نفخ فيه انتفخ بعد ضمره (5)، وعظم بعد صغره، ومن قولهم للمتكبر إذا أسرف في الكبر، واستطار من العجب: قد نفخ الشيطان في مناخره، (هامش ص 276) (1) أي أن إبليس وابنه أرضعا كل غلام بعذاب الناس. (2) فمويهما: أصلها فموان لهما تثنية فم، وكان حقه أن يقول فمان، ولكن لما كان ميم فم أصلها واو، أتى بالواو وبعد الميم وهو شاذ. (3) النابح العاوى: يريد به من يهجوه، والرجام: الحجارة التى يرمى بها، وقد شبه الفرزدق هجوه لاعدائه بالرمي بالحجارة بعد أن شبههم بالكلاب النابحة العاوية. (4) الزق: القربة الجوفاء التى تمتلئ بالهواء إذا نفخ فيها. (5) الضمر: الهزال والنحافة، والمراد هنا انتفخ، وصار كبيرا بعد أن كان صغيرا.


[ 277 ]

يريدون به المعنى الذى قدمنا ذكره (1). 213 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” العين وكاء السه (2)، فإذا نامت العين استطلق الوكاء (3) “، وهذه من أحسن الاستعارات. والسه: اسم للسته. قال الشاعر: شأتك قعين غثها وسمينها * وأنت السه السفلى إذا دعيت نصر (4) فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه السته بالوعاء، وشبه العين بالوكاء، فإذا نامت العين انحل صرار (5) السته، كما أنه إذا زال الوكاء دسع (6) بما فيه الوعاء، إلا أن حفظ العين للسته على خلاف (هامش ص 277) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاث استعارات تصريحية. 1 – حيث شبه إغواء الشيطان للانسان بالجنون بجامع عمل مالا ينبغى في كل. 2 – حيث شبه الشعر السئ بنفث الشيطان، بجامع الاستقباح في كل. 3 – حيث شبه الكبر بفخ ؟ الشيطان، بجامع أن المتكبر يظن نفسه – كبيرا وهو غير ذلك، فكأن الشيطان نفخ فيه، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه في الجميع. (2) السه، والسته، والاست: الدبر، والوكاء: الرباط الذى يربط به الشئ المفتوح كالكيس والغرارة ونحوهما. (3) استطلق: أي أصبح صالحا لاطلاق ما فيه. (4) شأتك: أتعبتك، وقعين: قبيلة والغث: الردئ، السمين: الجيد، والسه السفلى هي الدبر ووصفها بالسفلى مع أنها كذلك لزيادة التحقير، ونصر: النصرة والدفاع عن الحمى. (5) الصرار: الرباط، لان الصر هو الربط. (6) أي دفع بما في داخله.


[ 278 ]

حفظ الوكاء للوعاء (1)، فإن العين إذا أشرجت (2) لم تحفظ ستهها، والاوكية إذا حلت لم تضبط أو عيتها. ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد ذكر محمد بن يزيد المبرد في الكتاب المقتضب في باب اللفظ بالحروف، وفي الاظهر الاشهر أنه للنبى عليه الصلاة والسلام (3). 214 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وهو يسأل عن سحابة عرضت (4): ” كيف ترون قواعدها وبواسقها، وكيف ترون رحاها ؟ ” في حديث طويل. وفي هذا الكلام استعارات ثلاث: فإنه عليه الصلاة والسلام شبه أصولها ومناشئها، وطوالعها (هامش ص 278) (1) يريد بيان الاختلاف حتى يشرح التشبيه. (2) أشرجت: ينبغى أن تكون الهمزة في أشرج هنا للازالة كما في أعجم الحرف أي أزال عجمته، فإنه يقال شرج الخريطة إذا ربطها ويكون هنا أشرج الخريطة بمعنى أزال رباطها، وأشرج العين بمعنى أزال رباطها وهو يقظتها، حتى يستقيم كلام الشريف. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ حيث شبه العينين اليقظتين بالرباط للسه بجامع عدم خروج شئ من المشبه والمشبه به، فالسه مع يقظة العين لا يخرج منه شئ، والكيس ونحوه لا يخرج منه شئ إذا كان مربوطا، وحذف وجه الشبه والاداة، ويلاحظ أن في المشبه وصفا محذوفا تقديره العينان اليقظتان. بدليل قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ” فأذا نامت العين استطلق الوكاء “. (4) عرضت: ظهرت في السماء.


[ 279 ]

ومبادئها، بقواعد البيت التى هي أصل بنائه وأول إنشائه. وشبه فروعها المستطيلة إلى أوساط السماء، وأعاليها البعيدة عن الآفاق، بفروع الشجرة الباسقة التى هي ملتف أوراقها، ومزدحم أفنانها. يقال: بسقت الشجرة والنخلة تبسقان بسوقا إذا طالتا، وكل باسق طويل. وفي التنزيل: ” والنخل باسقات لها طلع نضيد “. وشبه مستدارها في السماء عند استوائها، بالرحا المستديرة على قطبها. ومن ذلك قيل: رحا الحرب، وهو الموضع الذى يستدار فيه للمعاركة والجلاد، والتفاف الرجال بالرجال. ومنه قول سليمان بن صرد الخزاعى في حديث له: أتيت عليا عليه السلام حين رفع يده عن مرحى (1) الجمل، يريد عن مجثم (2) تلك الحرب بالمكان المخصوص الذى دارت به رحاها، وبلغت فيه منتهاها. وعلى ذلك قول الكميت بن زيد يصف السحاب: كأنما الزجر والصهيل به مر * حى مراس الحروب ذو اللجب (3) (هامش ص 279) (1) الجمل: المراد بها وقعة الجمل التى كانت بين أنصار الامام على ومعاوية رضى الله عنهما، ومرحاها: مدارها أي المكان الذى دارت فيه، كأنها الرحى التى تدور والعرب تشبه، الحرب والقتال فيها بدوران الرحى. (2) المجثم: اسم مكان من جثم بمعنى برك شبهت الحرب بالجمل ونحوه. (3) الزجر والصهيل: المراد بهما الاصوات التى تنبعث من السحابة من حفيف حبات المطر أثناء سقوطها وزمجرة الرعد الذى يصاحب المطر. والمرحى: مصدر


[ 280 ]

يريد بالزجر والصهيل حفيف ودقه، وأزيز رعده. ويحتمل قولهم: رحا الحرب، وجهين: (أحدهما): أن يريدوا به اللبث والاستقرار. (والآخر): أن يريدوا به الجولان والمدار، وقد يجوز أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام في السحابة: ” كيف ترون رحاها “. يريد به صوت رعدها، كما سألهم عن لمع برقها، وكثيرا ما تشبه أصوات الرعد القاصفة بقعقعة أصوات الارحاء (1) الدائرة، ولا يمتنع أن يعبر عما تسمعه الاذن بعبارة ما تشاهده العين كما يقول القائل لغيره إذا سأله عن سماع الغناء المطرب، والحداء المعجب: كيف ترى هذا الغناء، وكيف ترى هذا الحداء ؟، وذلك شائع عند أهل اللسان (2). (هامش ص 280) ميمى بمعنى دوران الرحى، والمراس: مصدر مارس، والمراد قتال الحروب، واللجب: الضوضاء والاصوات المرتفعة. يقول الشاعر كأن الاصوات العالية والقعقعة دوران الحروب وما يصاحبها من ضوضاء. (1) الارحاء: جمع رحى، وأصلها أرحاى وقعت الياء طرفا أثر ألف زائدة فقلبت همزة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاث استعارات تصريحية: 1 – حيث شبه مبادئ السحابة بالقواعد، بجامع كونها موضع الاستقرار ومنشأ البناء في كل. 2 – حيث شبه فروع السحابة المبثوثة في السماء بفروع الشجر الباسقة العالية بجامع الطول والارتفاع في كل. 3 – حيث شبه استدارتها في السماء بالرحى، بجامع الاستدارة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه في الجميع.


[ 281 ]

215 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كلكم بنو آدم طف (1) الصاع لم تملئوه، وليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى ” في حديث طويل، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” طف الصاع ” ها هنا استعارة. والمراد أن كل من كان من ولد آدم عليه الصلاة والسلام، فهو ناقص لا يوصف بالتمام، ولا يعطى مزيد الكمال، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم، ويفضلون بكثرة فضائلهم. وإنما يوصف الانسان بأنه فاضل إذا أضيف إلى الناقص، وإلا فلا بد من نقائص تتخلل فضائله، ومساو (2) تتوسط محاسنه. إما بأن يكون فاضلا في حال، وناقصا في حال، وإما بأن يكون قاصرا عما فوقه، وزائدا على من دونه. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” طف الصاع لم تملئوه ” من العبارات العجيبة عن هذا المعنى، يريد أن كلكم قاصر عن غاية الكمال، تشبيها بطف المكيال، وهو أن يقارب الامتلاء من غير أن يمتلئ. يقال: طف المكيال وطفافه إذا أريد به هذا المعنى، وهو ضد الطلاع (3) والطفاح، لان هاتين اللفظتين (هامش ص 281) (1) الصاع: مكيال تكال به الحبوب، وهو قد حان مصريان عند أكثر الفقهاء، وطف الاناء وطففه وطفافه: بفتح الطاء وكسرها، ما ملا حافته وجوانبه، ولم يصل إلى رأسه وغايته، وهو ملؤه أيضا، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” لم تملئوه احترازا من طف الكيل ” بمعنى ملئه. (2) مساو: جمع مساءة، وأصلها مساوئ، سهلت الهمزة بقلبها ياء، فصارت مثل جواري ثم حذفت الياء للتنوين. (3) طلاع الشئ: بكسر الطاء ملؤه، وطفاح الشئ ملؤه أيضا، ومن (م – 18)


[ 282 ]

يعبر بهما عن بلوغ غاية الامتلاء، واللفظة الاولى يعبر بها عن الوقوف دون حد الامتلاء. ويقال: إناء طفان إذا بلغ الماء أكثره ولم يبلغ غايته، ولو قال عليه الصلاة والسلام: أنتم بنو آدم كطف الصاع خرج الكلام عن أن يكون مستعارا، لان دخول كاف التشبيه في الكلام يخرجه عن باب المجاز، مثل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث: ” خرجت حين بزغ القمر كأنه فلق (1) جفنة “. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث: ” فإن الساعة كالحامل المتم (2) التى لا يدرى أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارا “، ولو قال: والقمر فلق جفنة، والساعة حامل متم، كان الكلام من حيز الاستعارة. ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلام: ” المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا “، ولو قال: بنيان، لكان من قبيل المجاز. ومثله أيضا قوله عليه الصلاة والسلام لقوم كانوا يرفعون أيديهم في الصلاة: ” مالى أراهم يرفعون أيديهم كأنها أذناب خيل شمس (3) “. (هامش ص 282) ذلك طفاح الارض ذهبا: أي ملؤها ذهبا. (1) فلق الجفنة: نصفها، والجفنة: القصعة، وهى تكون بيضاوية الشكل ومثلها يكون مثل الهلال أي متقوسا دائر الوسط دقيق الاطراف. (2) المتم: التى بلغت تمام أشهرها وتهيأت للولادة، ولكن لا تعلم ساعة ولادتها بالضبط. (3) الشمس: بضم الشين والميم وبتسكين الميم جمع شامس، وشموس بفتح


[ 283 ]

ولو قال: أيديهم أذناب خيل شمس، لكان الكلام مستعارا. ولذلك نظائر كثيرة يطول بذكرها الكتاب (1)، ولم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله: ” طف الصاع ” في إرادة الغرض الذى تكلمنا عليه في الخبر، حتى قال: ” لم تملئوه ” فزاد المعنى إيضاحا، والكلام إفصاحا. وفي ضمن هذا القول نهى عن الافتخار على الناس إلا بالفضائل الدينية، دون الفضائل الدنياوية (2)، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ” ليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى ” لان فضائل الدين وصل (3) يتوصل بها إلى النعيم الباقي، والدرج العوالي، وفضائل الدنيا لا نعدو غايتها، ولا توصل إلى ما بعدها، فهى كالغرس الذي لا يثمر، والزاد الذى لا يبلغ (4). (هامش ص 283) الشين: وهو الفرس يحمى ظهره من أن يركب، فهو دائما متوتر الاعصاب يرفع ذيله مع التواء. (1) هذه الامثلة التى ذكرها الشريف وجعلها مع الكاف تشبيها ومع عدمها استعارة، يؤيد ما ذكرناه في مقدمة هذا الكتاب من أن الشريف يعتبر التشبيه البليغ استعارة، والاصطلاح البلاغى ليس كذلك، بل يسمى ما ذكر فيه طرفا التشبيه وحذف منه وجه الشبه والاداة تشبيها بليغا. (2) هذا أحد الاوجه الجائزة في النسب إلى دنيا، ويجوز فيها أيضا دنيوى، ودنيى. (3) الوصل: جمع وصلة، والوصلة والصلة بمعنى واحد، لان الواو حذفت من ” صلة ” جوازا حملا على حذفها في مضارع الفعل، إذ يقال: وصل يصل، أما حذفها في المضارع فواجب لوقوعها بين الياء والكسرة. (4) الزاد الذى لا يبلغ: هو الزاد الذى لا يكفى المسافر حتى يصل إلى غايته.


[ 284 ]

216 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” اللهم إنا نعوذ بك من الابهمين “، قيل: إنهما السيل والحريق، وقيل: بل هما السيل والجمل الصئول (1). وتسمية كل واحد من هذه الثلاثة (2) بالابهم مجاز، وذلك أن الابهم هاهنا اسم للشئ لا يملك دفعه، ولا يستطاع رده، ولاله نطق فيكلم، ولا سمع فيهجهج (3)، ولا معقول (4) فيستعتب. ومن ذلك قيل للفلاة: بهماء، إذا كانت عمياء المسالك، لا يتهدى بآياتها (5)، ولا يستدل بأعلامها (6). وقال الاعشى: وبهماء بالليل غطشى الفلا * ة يؤنسني صوت فيادها (7) (هامش ص 284) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبه عدم الكمال الخلقى والدينى بطف المكيال بجامع عدم الوصول إلى الغاية في كل، واشتق من الطفف طف بمعنى ناقص، على طريق الاستعارة التبعية. (1) الصئول: فعول من صال يصول بمعنى عدا وهجم، وأصلها صوول، قلبت الواو الاولى همزة لتخفيف ثقل النطق بالواوين المضمومتين متجاورتين. (2) الثلاثة: السيل والحريق والجمل. (3) يهجهج: يزجر بالصياح عليه وتخويفه برفع الصوت. (4) المعقول: مصدر ميمى، أي، عقل، ويستعتب: أي يزال سبب عتبه، كما يزال سبب عتب الانسان العاقل. (5) الآيات: العلامات. (6) الاعلام: جمع علم، وهو العلامة. (7) وبهماء: الواو واو رب، بهماء: المراد بها الارض المبهمة التى ليس بها آيات ولا أعلام. وغطشى: مظلمة، والفلاة: الارض المقفرة الخالية من


[ 285 ]

والفياد: اسم طائر، وقيل إنه ذكر البوم. ومثل تسميتهم الشئ أبهم إذا كان على الصفة التى ذكرناها ما أنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنى النحوي رحمه الله، وأظنه من أبيات الكتاب (1): وداهية يتقيها الرجا * ل مرهوبة الحد لا فالها (2) قال: والمراد بقوله: لا فالها، أي ليس لها جهة واحدة تتقى منها كما يتقى الحيوان العادى من جهة أنيابه، أو ناحية أظفاره، بل كل جهاتها محذور، وكل نواحيها مخوف. وقد روى في هذا الخبر مكان التعوذ من الابهمين التعوذ من الاعميين، والمعنى فيهما متقارب، لان الابهم هو الذى لا يعلم كيف يدفع، ومن أي وجه يضبط، والاعمى هو الذى لا يعلم علام يرد، ولا لاى وجه يفصد (3). (هامش ص 285) الناس، والفياد: الطائر الذى ذكره الشريف. يقول الشاعر: إنه شجاع، فكثير من الاراضي المتاهة المظلمة الموحشة قطعها وخرج منها سالما. (1) هو كتاب سيبويه وإذا أطلق الكتاب ينصرف إليه. (2) الحد: الشدة، أي شدتها وقسوتها. ولا فالها: أي لا فم لها، وكان حقها لا فم لها، لان الفم لا تعرب بالحروف إلا إذا أضيفت، وهى هنا غير مضافة والمراد بالفم هنا المدخل. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه السيل والحريق بالابهمين، أي الشيئين المبهمين اللذين ليس لهما مكان يفتحان منه، ولا مدخل يدخل إليهما به، بجامع عدم فائدة المحاولة فيهما، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه.


[ 286 ]

217 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش (1) والبخل، ويخون الامين، ويؤتمن الخائن، وتهلك الوعول، وتظهر التحوت “، قال: الوعول: وجوه الناس وأشرافهم (2)، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس (3) لا يؤبه لهم. فقوله عليه الصلاة والسلام: لو عول والتحوت، مجازان على التفسير الذى ذكره صلى الله عليه وآله، لانه شبه عليه الصلاة والسلام الناس وجلتهم بالوعول، لانها تعلو قلل الجبال، وتكون في شعف (4) الهضاب، فهى أبدا عالية المنازل، بعيدة عن المتناول. وقوله: النحوت، وهو جمع تحت، يريد به الخاملين المغمورين، والقليلين الذليلين، لانهم الطبقة السفلى من الناس، وهم الذين نزلوا عن غايات العلية، وقعدوا بمهابط الذلة، فكأنهم تحت أجلة الناس وأشرافهم، والاشراف والوجوه فوق لهم. وتفسيره عليه الصلاة والسلام التحوت بأنهم الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم مجاز آخر، وليس المراد أنهم كانوا تحت مواطئ (هامش ص 286) (1) الفحش: ما يشتد قبحه من الذنوب. (2) الوعل في الاصل: التيس الجبلى الذى يسكن أعالي الجبال، وشبه به الشريف من الناس في أنه بعيد المنال. (3) فالتحوت: جمع تحت، وهو مقابل فوق، فجعل الناس الذين لا يؤبه لهم نفس التحت وعين السفل. (4) شعف الجبال: بالعين والغين أعاليها.


[ 287 ]

الاقدام على الحقيقة، وإنما المراد أنهم كانوا من خمول الذكر، وغموض القدر، بحيث يشبهون بالشئ الموطوء لذلته، والمنبوذ لبذلته (1). 218 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب الذى كتبه لصاحب دومة (2)، وهو المعروف بأكيدر منصرفه (3) صلى الله عليه وآله من غزوة تبوك: ” إن لنا الضاحية من البعل، ولكم الضامنة من النخل “، وفي رواية أخرى: ” إن لنا الضاحية من الضحل، ولكم الضامنة من النخل “. والضحل: الماء القليل، والرواية الاولى أصح: والضاحية من البعل: هي النخيل التى في ضواحي البلدة وصحاريها، والبعل: اسم لما شرب الماء بعروقه من الارض ولم يتعهد كغيره بالسقى. قال عبد الله بن رواحة: هنا لك لا أبالى طلع بعل * ولا سقى وإن عظم الاناء ويروى: نخل بعل، وقوله عليه الصلاة والسلام: ” ولكم (هامش ص 287) (1) البذلة والمبذلة: بوزن مكثسة، الشئ الذي لا يصان، والبذلة هنا مصدر بمعنى الابتذال، أي لا بتذاله. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تصريحيتان: 1 – حيث شبه كرام الناس وأشرافهم بالوعول في امتناعها وعدم الوصول إليها 2 – حيث شبه أصاغر الناس وأراذلهم بأصل المكان في ابتذاله، وكونه في متناول كل أحد، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) هي دومة الجندل، وهى مكان قرب تبوك. (3) منصرف: اسم زمان من انصرف: أي وقت انصرافه من غزوة تبوك.


[ 288 ]

الضامنة من النخل ” مجاز. والمراد بالضامنة هاهنا ما تضمنه القرى والامصار من النخل، فسماها عليه الصلاة والسلام ضامنة، وهى في الحقيقة مضمونة، وهذا موضع المجاز، ومثل ذلك قول الشاعر: ومحترش ضب العداوة منهم * بحلو الخلا حرش الضباب الخوادع (1) فجعل الضباب خوادع، وهى في الحقيقة مخدوعة، لانها تخدع بضروب من الحيلة حيت تخرج من مجاحرها، وتستذلق (2) من مكامنها. والخلا مقصورا: اسم من أسماء الحشيش، وهو أيضا اسم لحسن الكلام، وهو المراد في هذا المكان، يقال إنه يحسن الخلا: إذا كان حسن الكلام (3). 219 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث: ” واستذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من (هامش ص 288) (1) المحترش: الصائد من قوله: حرش الضب صاده، ومن ذلك المثل: ” أتعلمني بضب أنا حرشته ” أي أتخبرني بشئ أنا أول من علم به، وضب العداوة: أي العداوة التى كالضب في أنه يخرج إلى صائده بالحيلة، فيصب الصياد الماء في جحر الضب فيخرج فيحرشه الحارش أي الصائد، والخلا: الكلام الحسن كما ذكر الشريف. (2) تستذلق: أي تستخرج، وذلك بصب الماء في جحورها كما سبق. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته الاشتقاق، حيث استعمل اسم الفاعل في معنى اسم المفعول: والقرينة المانعة أن الضب مخدوع وليس بخادع.


[ 289 ]

النعم من عقلها ” كذا رواه أبو عبيد، ورواه أبو عبيدة ” حادثوا القرآن بالدرس، فهو أشد تفصيا من صدر الرجال من الابل المعقلة تنزع إلى أوطانها “. فقوله عليه الصلاة والسلام: ” فلهو أشد اتفصيا من صدور الرجال “. مجاز، والمراد بالتفصى هاهنا الذهاب والتفلت. قال الشاعر: يا حفص ماليلك ذا التفصى * والاثر البين للمفص (1) فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه تفلت القرآن وذهابه من الصدر ما لم يحادث بالتلاوة ويتعهد بالقراءة، بتفلت النعم المعقلة (2) من عقلها، إذا لم يستظهر بإحكام عقلها، فأقام عليه الصلاة والسلام الاستكثار من درس القرآن في أنه يجمع مشتته ويضبط متفلته مقام الاستظهار بعقل النعم في أنه يقصر (3) متسرعها، ويحبس نوازعها (4)، والكلام هاهنا يدل بمفهومه على أن القرآن هو المتفصى عن الصدور، والحقيقة أن القلوب هي المتخلية منه والتاركة له، فلما كان الامر كذلك جاز على طريق المجاز أن يقال: إن (هامش ص 289) (1) التفصى: الانفصال، والمفص: مريد الفصل بين الشيئين، فيقال فصى الشئ عن الشئ وفصصه، وفصاه: إذا فصله. (2) المعقلة: أي التى ربطت بها بالعقال. (3) يقصر: يحبس متسرعها: عن الاسراع. (4) النوازع: جمع نازعة، وهى المشتاقة إلى المشى والرجوع إلى أو طانها.


[ 290 ]

القرآن هو التارك لها، والمتفصي منها (1). 220 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: وقد سئل عن الابل فقال: ” أعنان (2) الشياطين لا تقبل إلا مولية ولا تدبر إلا مولية (3) ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الاشأم ” (4)، فقوله عليه الصلاة السلام: ” أعنان الشياطين ” مجاز، والاعنان: النواحى (5). ومنه قولهم: أعنان السماء. أي نواحيها. وقال بعضهم الصحيح أن عنان الشئ نواحيه، فالاول قول البصريين، والثانى قول الكوفيين. والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” نواحى الشياطين ” على القولين جميعا المبالغة في وصف الابل بالاخلاق السيئة، والطباع المستعصية، فكأن الشياطين تختلها وتنفرها، وتنهاها وتأمرها. ومما يقوى ذلك الحديثان الآخران في نعت الابل، فأحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الابل خلقت من الشياطين “. والحديث الآخر قوله صلى الله عليه وآله: ” إن (هامش ص 290) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية في كلمة ” تفصيا ” حيث شبه نسيان القرآن وعدم وجوده في ذاكرة القرئ بتفلت الابل وانفصالها من عقلها، بجامع عدم القرار في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) أعنان الشياطين: أخلاقها، أي أن أخلاق الابل كأخلاق الشياطين. (3) مولية: معرضة ونافرة: أي أنها في جميع أحوالها نافرة. (4) الجانب الاشأم: هو الشمال. (5) الاولى تفسيرها بالاخلاق، أما النواحى، فتفسر بها أعنان السماء، وإذا فسرت أعنان الشياطين هنا بنواحيها لم يكن لها معنى يصح أن يقصد.


[ 291 ]

على ذروة (1) كل بعير شيطانا “، وهذا أيضا مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام بالغ بذلك في وصف الابل بالحران (2) والنفار والاستصعاب واللجاج، فكأنه لافراط نفارها وشماسها (3)، قد امتطت الشياطين ذراها، فهى تؤزها (4) وتجوسها (5). وقيل إن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: لا تقبل إلا مولية المثل الذى يقال فيها: إنها إذا أقبلت أدبرت، وإذا أدبرت أدبرت: أي أن إقبالها إذا كان بمنزلة الادبار، فإدبارها إذا غاية الادبار. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الاشأم “. يريد أنها لا تحلب ولا تركب إلا من جهات شمائلها، ويقال لليد الشمال: الشؤمى. ومنه قوله تعالى: ” وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة ” يريد أصحاب الشمال. والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية الاخرى: ” وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال “. فلما قال سبحانه في الآية الاولى: ” فأصحاب الميمنة “. قال: ” وأصحاب المشئمة “. ولما قال سبحانه في الآية الاخرى ” وأصحاب اليمين ” قال: ” وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال “، والمراد في الآيتين واحد (هامش ص 291) (1) ذروة الشئ: أعلاه. (2) الحران: مصدر حرنت الدابة إذا امتنعت عن المشى، والنفار: مصدر نفرت الدابة إذا هاجت. (3) الشماس: مصدر شمست الدابة إذا منعت نفسها من أن يركبها أحد. (4) توسوص لها، وأصل الاز التحريك والدفع، ويجوز إرادة المعنى الحقيقي (5) تجوسها: تدخلها، كأنها تلبس أجسادها.


[ 292 ]

لا أنه سبحانه طلب المقابلة في الكلام تأليفا لاجزائه، وملاحمة بين أعضائه (1)، ويقال للجانب الايمن الانسى، وللجانب الايسر الوحشى هذا على قول البصريين، وقال بعض الكوفيين الانسى: هو الايسر. وهو الذى تأتيه الناس عند الاحتلاب والركوب، والوحشي هو الايمن، وإنما سمى وحشيا لان الراكب والحالب لا يأتيان منه وإنما يأتيان من الايسر دونه، ومنه قول زهير: فجالت على وحشيها وكأنها * مسربلة من رازقي معضد (2) أراد جانبها الايمن، لانها إذا فزعت حاصت (3) من جانبها الانسى الذى تخاف أن تؤتى منه، وهو الشمال إلى جانبها الوحشى الذى تأمل الاتيان من ناحيته وهو اليمين. والخائف إنما يفر من موضع الذعر والمخافة إلى موضع الامن والسلامة (4). 221 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من شر (هامش ص 292) (1) جعل للكلام أعضاء تشبيها بالانسان والمراد بالاعضاء الاجزاء. (2) جالت: دارت، وحشيها: جانبها الايمن، مسريلة: لابسة، رازقي: ثوب من الكتان الابيض، والمعضد: ثوب له علم في موضع العضد، أي أن هذه البقرة الوحشية، دارت على جانبها الايمن نافرة حال كونها، كأنها تلبس ثوب كتان أبيض فيه علامة عند العضد. (3) حاصت: رجعت وعادت. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه أخلاق الابل بأخلاق الشياطين في السوء، وحذف وجه الشبه والاداة والمشبه، إذ الاصل أخلاقها أخلاق الشياطين.


[ 293 ]

ما أعطى العبد شح هالع أو جبن خالع “، والهالع: المخيف المفزع والاسم منه الهلع، وهو أشد الجزع (1). وقوله عليه الصلاة والسلام: ” أو جبن خالع ” مجاز: أي يخلع قلب الجبان، وهذا على المبالغة في وصفه بوهل (2) الروع (3)، ونخب الروع، وليس يبلغ الجبن على الحقيقة إلى أن يخلع قلب الجبان من مناطه، ويزعجه عن قراره، وإنما المراد بذلك ما يعرض في القلب عند الخوف من نوازغ الافكار (4)، ونوازغ الحذار (5). وعلى ذلك (6) قوله تعالى: ” وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر “. وقد أوضحنا الكلام على ذلك في كتاب (مجازات القرآن) (7). (هامش ص 293) (1) في القاموس: الهلع أفحش الجزع. (2) الوهل: الضعف والفزع. (3) الروع بفتح الراء: الخوف، يقال هدئ من روعك: أي قلل من خوفك، والروع: القلب والنفس، يقال ألقى الله في روعى كذا، أي في قلبى ونفسي. والنخب بفتحتين: الجبن. فالمعنى وصفه بفزع الخوف وجبن النفس أو القلب. (4) نوازغ الافكار: أي الافكار الباطلة، لان النزغ هو الوسوسة والافساد. (5) الحذار هو الحذر ونوازعه ميوله جمع نازعة، أي الميل إلى الحذر والخوف من الاقدام على الشئ. (6) وعلى ذلك أي على المبالغة في وصف الخوف. (7) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ في قوله: جبن خالع، حيث شبه الجبن الشديد بخلع القلب، والمراد جبن شديد كأنه لشدته يخلع القلب من مكانه.


[ 294 ]

222 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما من أمير عشرة إلا وهو يجئ يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه حتى يكون عمله الذي يطلقه أو يوتغه “، وهذه استعارة، لان العمل على الحقيقة لا يطلق المرء من وثاق، ولا يوثقه بعد إطلاق، وإنما المراد أنه يجئ مغلولة يده إلى عنقه، فإن كان عمله صالحا أطلق الله عنه ربقة وثاقه، وإن كان عملا طالحا زاده الله خناقا إلى خناقه، وإنما أضاف عليه الصلاة والسلام الاطلاق والايثاق للعمل، لانه سببهما، وصلاحه وفساده مؤثر فيهما. وقوله: ” يوتغه ” المراد به يسلمه ويهلكه، يقال: وتغ الرجل يوتغ وتغا إذا هلك، وقد أو تغه غيره إذا أهلكه. ومنه قولهم: أوتغ فلان دينه إذا ثلمه وأفسده، ويروى: أو يوبقه (1)، والمعنيان متقاربان (2). 223 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كتاب كتبه لثقيف: ” وإن ما كان لهم من دين إلى أجل فبلغ أجله فإنه لياط مبرا من الله “، وهذه استعارة، والمراد باللياط هاهنا: الربا المضاف إلى رؤس الاموال، كأنه عليه الصلاة والسلام شبهه بالشئ الملصق بالشئ والمضاف إليه، وكل شئ ألصق بشئ فقد ليط به، ومنه لياط (هامش ص 294) (1) يوبقه: يهلكه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز عقلي علاقته السببية: حيث أسند يطلق ويوبق إلى ضمير العمل، والذى بطلق ويهلك إنما هو الله تعالى، أما العمل فهو سبب الهلاك.


[ 295 ]

الحوض وهو ما يلصق به بعض أحجاره إلى بعض عند بنائه أو إصلاحه من طين، أو ما يقوم مقامه، يقال: قد لاط فلان حوضه: إذا رمه وأصلحه، وفي حديث لامير المؤمنين عليه السلام مع الفرزدق: إن أباه غالبا جاء به إليه صلى الله عليه واله، وهو يلوط حوضا له (1)، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ” مبرأ من الله ” سر لطيف، وهو أنه لما جعل الربا ملصقا إلى أموالهم على الوجه المذموم جعله مبرأ من الله سبحانه، فكان ذلك الالصاق بالاموال سببا للتبرئة من الله تعالى. والمراد مبرأ من رضاء أو من دين الله أو من ثواب الله، لابد من تقدير واحد من هذه المضافات، لان الله سبحانه لا يجوز أن يتصل به شئ على الحقيقة، لان ذلك من صفات الاجسام المكيفة، والابعاض المؤلفة التى يجوز عليها أن تتدانى فتلتصق، وأن تتناءى فتفترق، تعالى الله على ذلك علوا كبيرا. وليس هذا من مواضع استقصاء الكلام عن هذا المعنى، وقد يجوز أن يكون المراد باللياط هاهنا القشر، يقال: ليط (2) ولياط. قال الشاعر يصف قوسا عربية: (هامش ص 295) (1) فيكون المعنى على ذلك أن الدين الذى بلغ أجله واستحق الربا المشروط في عقد الدين فإن الربا لياط، أي ملوط وملتصق بالدين، فعبر بالمصدر عن اسم المفعول، وفي هذا مجاز بالاشتقاق، ولكنه مع التصاقه بأموالهم منفصل من الله ويعيد عنه، والمراد بانفصاله من الله وبراءة الله منه بعده عن الحل ودخوله في باب المحرمات المحقرات، كما في قوله تعالى: ” إن الله برئ من المشركين ورسوله “. (2) في القاموس: ليط كل شئ قشره، ولياطه كذلك.


[ 296 ]

فملك بالليط الذى تحت قشرها * كغرقئ بيض كنه القيض من عل (1) فقوله ملك: أي شدد بترك قشر النبعة عليها ما تحته من عودها، فقويت بانضمام القشر إليها. وذلك مأخوذ من قول القائل: ملكت العجين، أي أحكمت عجنه، وموضع الذى هاهنا نصب بملك كأنه قال: فقوى بالليط عود القوس، والغرقئ: القشر الرقيق الذى بين جسم البيضة وبين قشرها الاعلى، والقشر الاعلى هو القيض، والليط أيضا الجلد، والجمع ألياط، والليط أيضا كون الشئ (2)، ذكر ذلك أبو عبيد في الغريب المصنف، فيكون الربا المضاف إلى رؤس الاموال على هذا القول مشبها بالقشر المضاف إلى العود في أن العود هو القائم بنفسه، والقشر كالتبع له والمنوط به (3). 224 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن للشيطان نشوقا ولعوقا ودساما “، وهذه الكلمات الثلاث محمولة على المجاز، (هامش ص 296) (1) الليط هنا القشر وقد تركه القواس عليها تقوية للعود الذى تحت القشر، ومعنى كنه القيض: ستره، القيض الذى هو القشرة اليابسة للبيضة، وهى حماية للغرقئ، كما أن قشر القوس حماية لها. (2) أي وجوده. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الربا المضاف إلى المال باللياط الذى يضم بعض أجزاء البناء إلى بعض في تقويته للمال، كما أن اللياط يقوى البناء، هذا على المعنى الاول، وعلى المعنى الثاني شبه الربا بقشر البيضة اليابس، الذى هو القبض في أنه يحمى المال الاصلى، كما أن القبض يحمى الغرقئ. وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 297 ]

لان النشوق ما استنشقه الانسان بأنفه، واللعوق مالعقه بلسانه، والدسام هاهنا الشئ الذى يجعله سدادا لاذنه، يقال منه: دسمت الشئ أدسمه دسما: إذا سددته. والمراد بهذه الكلمات قريب من المراد بالحديث الذى تقدم كلامنا عليه في هذا الكتاب، وهو استعاذته عليه الصلاة والسلام من همزات الشيطان ونفثه ونفخه. فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه ما يسوله الشيطان للانسان من العجب بنفسه، والازراء على غيره حتى يشمخ بأنفه، وينأى بعطفه، بالنشوق الذى ينشقه إياه، فيحدث له هذا الخلق الذميم، والطبع اللئيم، وقوى ذلك بذكر اللعوق، فكأن الشيطان يلعقه بهذا التسويل لعوقا إذا وصل إلى جوفه أحدث له خيلاء الكبر، ومدله في غلواء العجب. وشبه عليه الصلاة والسلام صرف الشيطان للانسان عن مراشده، وإصمامه عن سماع قول مرشده بالدسام، وهو الصمام الذى تسد به الاذن، فتحجب عن سماع الاصوات، وزواجر العظات (1)، (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاث استعارات تصريحية: 1 – حيث شبه وسوسة الشيطان بالنشوق الذى ينشقه الانسان فيؤثر فيه. 2 – وحيث شبه الوسوسة أيضا باللعوق، وهو ما يلعقه الانسان فيتأثر به في عقله أو جسمه. 3 – وحيث شبه إبعاد الشيطان الانسان عن سماع الحق بالدسام، وهو السداد الذى يسد به الشئ، بجامع الحيلولة بين وصول شئ من خارج المسدود إليه، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (م – 19)


[ 298 ]

225 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلم في مرضه الذى مات فيه: ” أغبطت على الحمى ” (1) وهذه استعارة، ربما قيل: أغمطت (2) بالميم. قال الواقدي في هذا الحديث: أصابته حمى مغمطة بالميم، وقال الاصمعي: أغبطت علينا السماء إذا دام مطرها، وقال أبو عبيد: هما لغتان بالميم والباء قد سمعناهما. وهذا كقولهم: سبد الرجل رأسه وسمده إذا استأصل حلقه (3)، وأشباه ذلك كثيرة. وأغبطت الحمى بالباء أكثر في كلامهم، والاصل في ذلك إلزام الرحل ظهر البعير، يقال: أغبط فلان رحله على مطيته: أي أطال مكثه عليها ولزامه لها. ومن ذلك قول الراجز: (إغباطنا الميس (4) على أصلابه). وقول الآخر: وألزمته قتبا توسطه * فقربت فهى علينا تغبطه (5) (هامش ص 298) (1) أغبطت: دامت. (2) دامت ولازمت. (3) في القاموس: التسييد: حلق الشعر، والتسميد استئصال الشعر. فالمعنى واحد إلا أن في التسميد زيادة على التسييد، وهى الحلق مع الاستئصال في التسميد. (4) الميس. شجر عظام تعمل منه الرحال. والاغباط: إدامة وضع الرحل، وأصلابه: أصلاب البعير: أي ظهره. (5) القتب: البرذعة، توسطه: أي تجعله في وسط ظهر الدابة، وتغطيه، أي تطيل إبقاءه.


[ 299 ]

ومنه سمى الغبيط، وهو مركب من مراكب النساء، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه لزوم الحمى له بلزوم القتب ظهر الراحلة، لانه إذا ألزم ظهرها عقره، وأكثر دبره (1)، ويقال: قتب معقر (2): إذا عض الغارب، وأدمى المناكب (3)، فكذلك الحمى إذا دام لبثها على الانسان هاضت (4) متنه، وحسرت قوته (5). 226 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” خير الناس في آخر الزمان النومة ” (6) وهذا مجاز، والمراد بالنومة هاهنا: الرجل الخامل الشأن الخفى المكان، لا الكثير النوم على الحقيقة. ومثله الحديث الآخر: ” رب ذى طمرين لا نومة له لو أقسم على الله لابر قسمه ” (7). لان الخاشع العابد، والمنقطع الزاهد، كثيرا (هامش ص 299) (1) عقره: جرحه، والدبر: أثر الجراح. (2) معقر: جارح. (3) عض الغارب: الغارب هو ما بين السنام إلى العنق، وعضه التأثير فيه تأثيرا شديدا، والمناكب: جمع منكب وهو الكتف، وإدماؤها جرحها حتى تدمى. (4) هاضت: أضعفت، والمتن: الظهر، والمراد به هنا الجسم كله أو قوته (5) حسرت قوته، قللتها. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه دوام الحمى بإغباط الرحل على ظهر البعير بجامع التأثير الشديد وإحداث الضرر، واشتق من الاغباط بمعنى الادامة، أغبطت بمعنى دامت. (6) النومة: النائم أو كثير النوم. (7) الطمر: الثوب البالى، والنومة: المرة من النوم، والمراد أنه فقير لا يجد مكانا ينام فيه نومة واحدة، وقد فسرت النومة في الطبعة السابقة بخمول =


[ 300 ]

ما يكون خامل الشخص ميت الذكر لخفائه على النواظر، وانقطاعه عن المجامع، ومن ذلك قولهم: نام جد (1) آل فلان، أي خمل بعد اشتهارة، وسقط بعد ارتفاعه. قال الشاعر: نامت جدودهم وأسقط نجمهم * والنجم يسقط والجدود تنام (2) 227 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من خالف الجماعة فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه ” وهذه استعارة، والربقة: حبل يربط بين عودين، ثم تجعل فيه عرى فتربق فيه السخال (3)، أي تربط فيه، ويقال في إبل الصدقة: عقال عام واحد لان الابل تعقل، وفي الغنم رباق عام واحد، لان الغنم تربق، والمراد بذلك صدقة عام من الابل أو الغنم، فشبه عليه الصلاة والسلام (هامش ص 300) = الذكر، وهذا التفسير لا يطابق معنى الحديث، لان المعنى عليه يكون هكذا. ” رب ذى طمرين لا خمول ذكر له لو أقسم على الله لابر قسمه ” فنفى خمول الذكر لا يناسب المعنى الذى ورد فيه الحديث، والمناسب ما ذكرناه. وقد ورد في اللغة ” ماله نيمة ليلة ” أي ماله موضع مبيت ليلة، ومعنى لو أقسم على الله لابر قسمه: أي لو دعا الله ملحا في الدعاء لاجابه إلى ما يطلب. (1) الجد: الحظ. (2) نامت جدودهم: تعثرت حظوظهم، وأسقط نجمهم: خمل ذكرهم، لان العرب تعبر عن علو الذكر بعلو النجم، وخمول الذكر بسقوط النجم. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه خمول الذكر بالنوم، بجامع عدم الاثر في كل، واشتق من النوم بمعنى خمول الذكر، نومة بمعنى خامل الذكر على طريق الاستعارة التبعية. (3) السخال: جمع سخلة، وهى بنت الشاة.


[ 301 ]

ما في عنق الانسان، من لوازم الاسلام ومعاقد الايمان، بالربقة التى في عنق السخل (1)، لانها تصده إذا هم بالشرود، وتمسكه إذا جاذب إلى النزوع، وكذلك الاسلام يمنع صاحبه من الارتكاس في المحظورات، والتهوك (2) في الضلالات (3). 228 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: ” تؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى “، وقد قيل في ذلك أقوال كلها بعيدة عن المحجة (4)، ومع ذلك فيخرج الكلام من حيز الاستعارة، غير قول واحد (5)، وهو أن يكون المراد أإنهم يؤخرون الصلاة إلى ألا يبقى من النهار إلا بقدر ما بقى من نفس الميت الذى قد شرق (6) بريقه، وغرغر (7) ببقية نفسه، فشبه عليه الصلاة والسلام (هامش ص 301) (1) السخل: جمع سخلة. الارتكاس: السقوط، والتهوك: التهور، وقد سبق تفسير اللفظين في هذا الكتاب. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه تعاليم الاسلام أوامره ونواهيه ولزومها للمسلم بربقة الدابة التى تربطها فتمنعها من الفرار، كما تمنع تعاليم الاسلام المسلم من الخروج عليها، بجامع المنع من الضرر في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (4) بعيد عن الصواب وأصل المحجة، الطريق المستقيم. (5) أي كل الاقوال يخرج عليها الكلام من حيث الاستعارة إلا قولا واحدا وهو ما ذكره الشريف. (6) شرق بريقه: غص به حتى لا يكاد يبتلعه. (7) غرغر: تردد نفسه في حلقه كما يتردد ماء الغرغرة.


[ 302 ]

تلك البقية بشفافة (1) الذماء التى قد قرب انقضاؤها، وحان فناؤها (2). 229 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا ترفع عصاك عن أهلك “، وهذا القول مجاز على أكثر الاقوال، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد الضرب بالعصا على الحقيقة، لان ذلك مكروه عنده، ومذموم فاعله. ألا تراه عليه الصلاة والسلام يوصى أمته بأن يرفقوا بمن ملكت أيمانهم، حنوا عليهم، ورأفة بهم، ونظرا إليهم، فكيف بالاحرار من الاهل والولد الذين حقهم أوجب، والحنو عليهم أولى ؟. وإنما المراد لا ترفع التأديب عنهم، ولا تغب التقويم لهم، فكنى عن ذلك بالعصا، حملا للكلام على عرف العرب، لان المتعارف بينها أن التأديب في الاكثر لا يكون إلا بقرع العصا، وقد يجوز أن يكون المراد بذلك الاجتماع والائتلاف من قولهم: فلان قد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وبدد ألفتهم، ومنه قول صلة بن أشيم (3) لابي السليل (4): إياك (هامش ص 302) (1) الشفافة: بضم الشين: بقية الماء في الاناء، والذماء: بقية الروح، فقد شبه الشريف بقية الروح ببقية الماء. والمعنى على كلامه بقية بقية الروح، أي آخر آخرها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه آخر وقت الصلاة، التى لا يستطيع الانسان إتمامها فيه أداء وهو وقت الحرمة يشرق الموتى، بجامع عدم القدرة على العمل النافع في كل من الحالتين، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (3) في القاموس: بنو أشيم كأحمد: قبيلة، وصلة بن أشيم: تابعي. (4) هو ضريب بن نقير بصيغة التصغير فيهما كما في القاموس: أحد التابعين.


[ 303 ]

وقتل العصا، يقول: إياك أن تكون قاتلا أو مقتولا في شق عصا المسلمين. ومنه قول جرير: فلما التقى الحيان ألقيت العصا * ومات الهوى لما أصيبت مقاتله يقول: لما التقى الحيان وقع الائتلاف والدنو، وزال التمنع والنبو (1)، فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله: ” لا ترفع عصاك عن أهلك “، أي احملهم أبدا على الصلاح والائتلاف، وامنعهم من الفساد والخلاف. ويقال للرجل، إذا كان رقيق السيرة جميل الاياله (2): إنه للين العصا، قال معن بن أوس المزني: عليه شريب وادع لين العصا * يساجلها جماته وتساجله (3) وقد تكلمنا على نظير هذا الحديث فيما تقدم (4). (هامش ص 303) (1) النبو: البعد. (2) آل على القوم أولا وإيالا وإيالة: تولى عنهم. (3) الشريب: من يستقرى معك أو من يشاربك، والمراد هنا الاول لانه يصف حوضا يستقى منه الناس، ويساجلها: يقاسمها، وأصل المساجلة أن تملا سجلا، أي دلوا ويأخذ غيرك سجلا، وجمات: جمع جمة، وهى معظم الماء. (4) ما في الحديث من البلاغة. في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه استدامة تقويم الاهل باستدامة العصا، بجامع الاخافة والحمل على السير المستقيم في كل، واشتق من رفع الصعا بمعنى استدامة التقويم، لا ترفع بمعنى لا تترك، أو استدم على طريق الاستعارة التبعية.


[ 304 ]

230 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه: ” كيف تصنع في فتن تنجم من أطراف الارض كأنها صياصى بقر ” وفي هذا الكلام مجاز على بعض الاقوال، وهو أن يكون المراد تشبيه الفتن الناجمة من أطراف الارض بنجوم (1) صياصى البقر وهى قرونها، وإنما سميت صياصى تشبيها لها بالصياصى التى هي الحصون، فكأنها تحتمى بقرونها، كما تحتمى الرجال بحصونها، فأراد عليه الصلاة والسلام أن الفتن تنجم صغارا ثم تعظم وتبدو سحيلا (2) ثم تبرم كنجوم قرون البقر لانها تبدو هنات ضئيلات، ثم تكون شككا ناكيات (3). وقد يجوز أن يكون المراد بتشبيه الفتن هاهنا بقرون البقر، المبالغة في وصفها بالحدة والشدة، وكثرة العديد والعدة. وقد يجوز أيضا أن يكون تشبيها بقرون البقر لكثرة ما يشرع فيها من الاسنة، ألا ترى إلى قول بعض العرب: الاسنة قرون الخيل، لانها توضع منها مكان القرون من ذوات القرون، وصدم الخيل (4) بعواليها، كنطح البقر بصياصيها، وليس موضع (هامش ص 304) (1) نجوم هنا مصدر: بمعنى الطلوع والظهور. (2) السحيل: الحبل المفتول على خيط واحد، والمبرم: المفتول على أكثر من خيط. والمراد تكون ضعيفة ثم تقوى. (3) الشكك: بكسر الشين جمع شكة بكسرها أيضا، وهى السلاح، والناكيات: جمع ناكية، معنى جارحات أو قاتلات، يريد الشريف أن قرون البقر بعد قوتها تكون كالسلاح القاتل أو الجارح. (4) المراد بصدم الخيل: صدم راكبها وهم الفرسان، لانهم يمسكون الرماح التى فيها الاسنة. (*)


[ 305 ]

المجاز من هذا الكلام قوله عليه الصلاة كأنها صياصى، لانا قد ذكرنا فيما تقدم أن دخول كاف التشبيه في الكلام يخرجه من باب المجاز (1)، ولكن الموضع الذى يكون فيه هذا القول من حيز المجازات قوله عليه الصلاة والسلام في فتن تنجم من أطراف الارض، فجعلها بمنزلة النبات الذى يكون خافيا فيظهر، والقرون الناشئة التى تكون صغارا فتكبر (2). 231 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث يذكر فيه أشراط الساعة: ” فعند ذلك تقئ الارض أفلاذ كبدها “، وهذه من الاستعارات العجيبة، لانه عليه الصلاة والسلام شبه الكنوز التى استودعتها بطون الارض بأفلاذ الكبد، وهى شعبها وقطعها، لان شعب الكبد من شرائف (3) الاعضاء الرئيسة (هامش ص 305) (1) هذا الرأى خاص بالرضى كما ذكرنا في المقدمة، فإنه يجعل التشبيه البليغ مجازا، وتارة يسميه استعارة، فإذا دخل فيه أداة التشبيه جعله تشبيها، ولكن الاصطلاح البلاغى أن التشبيه الخالى من الاداة والوجه تشبيه بليغ، والذي فيه الاداة تشبيه مرسل، والذي فيه الاداة والوجه تشبيه مبتذل. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية وتشبيه مرسل، أما الاستعارة فحيث شبه ظهور الفتنة في أطراف الارض بنجوم النبات منها، أي ظهوره بعد أن كان مخبوءا تحتها، بجامع الظهور بعد الخفاء في كل، واشتق من نجم بمعنى ظهر، تنجم بمعنى تظهر على طريق الاستعارة التبعية، وأما التشبيه المرسل: فهو تشبيه الفتن بصياصى البقر، وذكر أداة التشبيه وهى كأن. (3) شرائف: جمع شريفة. (*)


[ 306 ]

فكذلك الكنوز من جواهر الارض النفيسة، ولما شبهها عليه الصلاة والسلام بأفلاذ الكبد من الوجه الذى ذكرناه جعل الارض عند إخراجها كأنها تقيأت ودسعت (1) بما استودعته منها. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ” تقئ الارض أفلاذ كبدها ” زيادة فائدة في المعنى المراد، وهو وصف الارض بالمبالغة في إخراج كنوزها حتى لا يخفى منها خافية، ولا يبقى باقية، وذلك كما يقول القائل: قد تقيأ فلان كبده إذا أراد المبالغة في وصفه باستيعاب جميع ما في جوفه (2) وذلك معروف في كلامهم، وموضوع على قاعدة العرف بينهم (3). 232 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث: ” من قال كذا وكذا (4) غفر له ولو كان عليه طفاح (5) الارض ذنوبا ” وهذه استعارة، والمراد: ولو كان عليه ملء الارض ذنوبا، (هامش ص 306) (1) دسعت: دفعت وأخرجت، وقد سبق مثلها قرببا. (2) ومثل ذلك ما يقوله الناس الآن عن الذى يتقيأ كثيرا حيث يقولون: ” رمى لحم بطنه ” مبالغة في كثرة القئ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ” تقئ الارض ” إشارة إلى أنها تخرج كنوزها بأمر الله تعالى. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه إخراج كنوز الارض بالتقيؤ، بجامع الاخراج الاضطراري في كل، واشتق من التقيؤ بمعنى الاخراج الاضطراري، تقئ بمعنى تخرج مضطرة، على طريق الاستعارة التبعية. (4) كذا وكذا: كناية عن القول الذى يقوله المؤمن فتغفر له ذنوبه، وهذا القول هو (لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله) في بعض الاحاديث (وسبحان الله وبحمده) ماية مرة في بعض الاحاديث البخاري. والجامع الصغير (5) قال في القاموس: طفاح الارض بالكسر: ملؤها. (*)


[ 307 ]

فجعل الارض كالاناء الذى طفح ماؤه، وبلغ الغاية امتلاؤه، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ” طفاح الارض ” زيادة معنى على قوله: ملء الارض أو طلاع الارض لان الطلاع والملء: يفيدان بلوغ الحد في الامتلاء، والطفاح: يفيد مجاوزة الحد في الامتلاء (1). وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدم من هذا الكتاب (2). 233 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق ” وهذا القول المجاز، والمراد أن القرآن سبب لثواب العامل به، وعقاب العادل عنه، فكأنه يشفع للاول فيشفع، ويشكو من الآخر فيصدق، والماحل هاهنا: الشاكى (3)، ويكون أيضا بمعنى الماكر، يقال: محل فلان بفلان: إذا مكربه: قال الشاعر: (هامش ص 307) (1) لعل الشريف أخذ هذا المعنى من قولهم: إناء طفحان، إذا كان يفيض من جوانبه، أي أنه امتلا حتى سال ما فيه على جوانبه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبه الارض بالاناء بجامع كون كل منهما مكانا للشئ يوضع فيه، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الطفاح، لان الاناء هو الذى يطفح ويسيل ما فيه على جوانبه وإضافة الطفاح إلى الارض تخييل. (3) في القاموس: المحال: المكر والكيد، وهذا هو المعنى الثاني الذي ذكره الشريف ولم يذكر القاموس المعنى الاول، ولعل الشريف أخذ معنى الشكاية من قول بعضهم إن القرآن يسعى بمن لا يعمل به إلى الله ومن قوله عليه السلام ” مصدق ” (*)


[ 308 ]

ألا ترى أن هذا الناس قد نصحوا * لنا على طول ما غشوا وما محلوا (1) 234 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يكونوا مغويات لمال الله ” (2) وهذه استعارة، والمغواة في الاصل: زبية تحفر للسباع والذئاب، ويموه (3) رأسها ليخفى قعرها، ويجعل فيها سخل (4) يستدعى به السباع والذئاب إليها، فتكون مهلكة له إذا وقع فيها، فأراد عليه الصلاة والسلام بهذا القول: لا يكونوا كالمهالك لمال الله بأن يأخذوها بالمكر والمخداع، وينفقوها في الفسوق والضلال، فيكونوا لها كالمغويات التى تخدع ظواهرها، وتهلك بواطنها، وقال رؤبة بن العجاج، يعنى الدهر: إلى مغواة الفتى بالمرصاد (5). كأنه (هامش ص 308) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه القرآن بالكائد بمعنى أنه يكون سببا لعقاب من لا يعمل به كما يكون الكائد سببا لضرر من يكيد له، بجامع حدوت الضرر من كل، وحذف وجه الشبه والاداة. (2) ورد هذا الحديث في كتاب النهاية في غريب الحديث هكذا ” إن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله ” بصيغة اسم الفاعل، ولكن المعنى على تشديد الواو وفتحها (مغويات) كما شرحه الشريف أي لا يكونوا مصائد للمال. (3) يموه رأسها: يوضع عليه شئ يخفيه، كما يطلى الشئ بالذهب فيخفيه الذهب. (4) السخل: جمع سخلة، وهى ولد الشاة (الخروف الصغير). (5) يريد الشاعر أن الدهر واقف مترصد للناس، يجرهم إلى مغواتهم، أي إلى مهالكهم. (*)


[ 309 ]

قال: يسوق الفتى إلى مهلكته، تشبيها بالزبية التى ذكرنا حالها، ووصفنا الحيلة فيها (1). 235 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إياكم والمغمضات من الذنوب ” وهذه استعارة، والمراد بالغمضات هاهنا على ما فسره الثقات من العلماء الذنوب العظام يركبها الرجل وهو يعرفها، فكأنه يغمض عينيه تعاشيا عنها وهو يبصرها، ويتناكرها اعتمادا وهو يعرفها، ومثل ذلك قول أبى النجم يصف ناقة: * يرسلها التغميض إن لم ترسل * وذلك أن الناقة إذا غشيت الحوض الذى تذاد عنه حملتها شدة العطش على الاقتحام عليه، فغمضت عينها، وحملت على عصى الذادة (2) حتى ترده، وربما روى هذا الخبر بفتح الميم من المغمضات (3)، فيكون المراد به على هذا الوجه ضد المراد به على الوجه الاول، لان المغضمات بالكسر كما قلنا: الذنوب العظام، والمغمضات بالفتح: الذنوب الصغار، وإنما سميت مغمضات لانها تدق وتخفى، (هامش ص 309) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه قريشا في أخذها للمال بطرق الغش والخداع وإنفاقها له في المفاسد بالمغويات، وهى الحفر التى تحفر لاصطياد السباع، بجامع الخداع الذى يؤدى إلى الهلكة في كل. (2) الذادة: جمع ذائد، وهو المانع الذى يمنع النوق من ورود الماء. (3) المغمضات: المستخفيات من الذنوب. (*)


[ 310 ]

فيركبها الانسان بضرب من الشبهة، ولا يعلم أنه عاص بفعلها، ولا معاقب من أجلها (1). 236 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد أتاه رجل فقال: ” السلام عليك يا نبى الله، فقال: وعليك ورحمة الله، ثم أتاه رجل آخر، فقال السلام عليك يا نبى الله ورحمة وبركاته، فقال: وعليك، فقيل له: يا رسول الله لم لم تقل لهذا كما قلت للذى قبل ؟ فقال: إنه تشافها ” فقوله عليه الصلاة والسلام: ” إنه تشافها ” استعارة، والمراد استفرغ جميع التحية، فلم يدع منها شيئا يزاد به على لفظه، ويرد عليه جوابا عن قوله. والاولان أبقيا من تحيتهما بقية ردت عليهما، وأعيدت إليها، وأصل ذلك مأخوذ من التشاف، وهو تتبع بقية الاناء والحوض حتى يستنفد جميع ما فيه، وتلك البقية تسمى الشفافة. (هامش ص 310) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث على المعنى الاول استعارة تبعية، حيث شبه إتيان الذنوب العظيمة مع معرفة ضررها، بإغماض العين عنها حتى لا ترى، بجامع إهمال الحذر في كل، واشتق من الاغماض بمعنى إهمال الحذر، مغمضات بمعنى مهملات الحذر على طريق الاستعارة التبعية وفي استعمال المغمضات في الذنوب مجاز مرسل علاقته السببية، لان الذنوب ليست هي المغمضة، وإنما فاعلها هو المغمض عينيه عن ضررها لشدة لذتها عنده، وحرصه على الوقوع فيها كما تغمض الناقة العطشى عينيها وتتحمل الضرب في سبيل الشرب لشدة حاجتها إليه. وعلى المعنى الثاني استعارة تصريحية أيضا، غير أن المعنى يختلف، فإن الذنوب هنا مغمضة، أي مستترة، فشبهت الذنوب الصغيرة بالشئ المغمضة عليه العين. (*)


[ 311 ]

قال الشاعر: أخو فقرات دببت في عظامه * شفافات أعجاز الكرى فهو أخضع (1) يريد بقايا الكرى وصباباته، ودليل ذلك قوله: أعجاز الكرى، أي أواخره وعقابيله (2)، ومن أمثال العرب: ليس الرى عن التشاف. يقولون: ليس يروى العطشان تتبع بقية الماء حتى يستفرغ جميع ما في الاناء (3). 237 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” سيد الايام يوم الجمعة ” وهذا القول مجاز، والمراد أن ليوم الجمعة شرفا ونباهة يبين بهما من سائر الايام، فيكون مقدما لها، وعاليا عليها لما يختص به من صلاة الجماعة التى ينشر ذكرها، ويعظم أجرها كما يتقدم السيد على من دونه بعلو القدر، ونباهة الذكر (4). (هامش ص 311) (1) الاخضع: الراضي بالذل. (2) العقابيل: جمع عقبولة، وهى بقية العلة والعداوة والعشق، وقد أطلقها الشريف على بقايا النوم. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه تتيع ألفاظ التحية إلى آخرها بتشاف الماء، وهو تتبع بقيته، بجامع الوصول إلى آخر الشئ فيهما، واشتق من التشاف بمعنى الوصول إلى آخر الشئ، تشاف التحية بمعنى وصل إلى آخرها على طريق الاستعارة التبعية. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه يوم الجمعة بالسيد من الناس، بجامع التعظيم والشرف في كل، وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 312 ]

238 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تزوجوا الشواب فإنهن أغر (1) أخلاقا ” وفي هذا الكلام مجاز لان وصف الخلق بأنه أغر إنما يراد بياضه، والبياض هاهنا عبارة عن الحسن، كما أن السواد في قولهم: فلان أسود الخلق عبارة عن القبح، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: ” فإنهن أحسن خلقا كما أن الغر من الخيل أحسن خلقا (2) “. 239 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: وقد سمع ناسا من أصحابه يتذاكرون القضاء والقدر: ” إنكم قد أخذتم في شعبين (3) بعيدى الغور (4) ” وهذا القول مجاز، لانه عليه الصلاة والسلام شبه القضاء والقدر، وحقيقة علمهما، ومعرفة كنههما، بالشعبين اللذين غورهما بعيد، واقتحامهما شديد، وطالب غايتهما مجهود (5) يقول عليه الصلاة والسلام: ” إن علمهما لا يدرك كالماء (هامش ص 312) (1) الاغر: الذي في وجهه غرة وهو خاص بالخيل، وهو البياض الذى يكون في وجهها عندما تكون سوداء أو حمراء أو بلقاء. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه حسن الخلق بالغرة التى تكون في جبهة الفرس، بجامع الحسن في كل، واشتق من الغرة بمعنى الحسن، أغر بمعنى أكثر حسنا على سبيل الاستعارة التبعية. (3) الشعب: الطريق بين الجبلين، ومسيل الماء في بطن الارض. (4) الغور: قعر كل شئ وأسفله، والمراد هنا سرتم في طريقين كل منهما بعيد المنتهى. (5) مجهود: متعب مكدود. (*)


[ 313 ]

الغائر الذى لا يقدر عليه، ولا يهتدى إليه (1) “. 240 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: ” ثم يكون ملك عض يستحل الفرج والحرير ” وفي هذا الكلام مجازان: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام: ” ملك عض ” والعض في الاصل هو الرجل الداهية المنكر. وربما سمى أيضا بذلك الرجل السئ الخلق المتكبر ؟ (2). قال حسان بن ثابت: وصلت به ركني وخالط شيمتي * ولم أك عضا في الندامى ملوما (3) فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه الملك الذى أومأ إليه في السطوة والقسوة والطماح والنزوة بذى الدهاء والنكر. أو بذى الشموخ والكبر. والمجاز الآخر قوله عليه الصلاة والسلام: ” يستحل الفرج والحرير “، وإنما أراد أن أهله يستحلون ذلك، فحسنت إضافته إلى الملك لما كان الاستحلال واقعا في الملك، ونظائر ذلك كثيرة، وقد جاء في رواية أخرى لهذا الخبر: ثم يكون: ” ملك عاض “، (هامش ص 313) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه القضاء والقدر بطريقين إذا حفر فيهما لاستخراج الماء احتاج ذلك جهدا شديدا، أو إذا أراد سالكهما بلوغ غايتهما لم يمكنه إلا بعد جهد جهيد وتعب شديد، بجامع بعد الغاية في كل والجهد في الوصول إليها، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) في القاموس: العض: السئ الخلق، والبليغ المنكر. (3) الركن: الجانب، والرماد تقويت به، والشيمة: الطبيعة، والندامى: خلطاء الشراب، الملوم: الذى يأتي ما يلام عليه. (*)


[ 314 ]

وهذه أيضا استعارة، وذلك كقول القائل: قد عضني الدهر: إذا أثرت فيه نوائبه، واشتدت عليه مصائبه، فوصف هذا الملك بالعضاض، لتأثيره في الناس بوقائع الغشم (1)، وقوارع الظلم. وقد جاء في أشعارهم من ذكر عض الزمان وعض الايام، ما هو أشهر من أن يتكلف التنبيه عليه، والايماء إليه (2). 241 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الصوم جنة (3) ما لم يخرقها ” (4) وهذه استعارة وذلك أنه عليه الصلاة والسلام شبه الصوم الذى يجن صاحبه من لواذع العذاب، وقوارع العقاب، إذا أخلص له النية أصلح فيه السريرة، فجعل عليه الصلاة والسلام من اعتصم في صومه من الزلل، وتوقى جرائر القول والعمل، كمن صان تلك الجنة وحفظها، وجعل من أتبع نفسه هواها، وأوردها رداها، كمن خرق تلك الجنة وهتكها، فصارت بحيث لا تجن من جارحة، ولا تعصم من جانحة (5)، وذلك من أحسن التمثيلات، (هامش ص 314) (1) الغشم: الظلم. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ ومجاز عقلي: الاول في قوله ملك عض: أي ملك كالرجل السئ الخلق، أو كالرجل المتكبر أو الداهية المنكر، والمجاز العقلي في إسناد يستحل إلى ضمير الملك، والمتحل إنما هو أهل الملك، فالعلاقة الظرفية، لان أهل الملك في الملك. (3) الجنة: كل ما يقى الانسان. خرق الثوب والجدار: ثقبه. (5) الجانحة: الضربة التى تصيب الضلوع. (*)


[ 315 ]

وأوقع التشبيهات (1). 242 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن المسلم إذا توضأ ثم صلى الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات الورق ” وهذه استعارة، والمراد أن الله تعالى يكفر عنه خطاياه بسرعة، فتسقط عنه آصارها (2)، وتنحط أوزارها، كما تتساقط الاوراق عن أغصانها إذا هزهزتها الراح (3)، أو زعزعتها الرياح (4)، ولابد أن يكون في الكلام مضمر مراد جعلت الصلاة مخبرا عنه وعلما عليه، وهو اجتناب الكبائر، والقيام بسائر الفرائض، فاكتفى عليه الصلاة والسلام بذكر الصلاة عن ذكر جميع ذلك، لان الصلاة أفضل شعائر الاسلام، وأظهر معالم الايمان، وليس لسائر الاوامر والعبادات، والفرائض الواجبات من التأكيد مالها. وذلك لان من الفرائض ما أوجبه تعالى على الاغنياء دون الفقراء، ومنها ما ينوب (هامش ص 315) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ واستعارة تبعية: الاول في قوله: الصوم جنة، فقد شبه الصوم بالجنة التى تقى الانسان مما يصيبه من السهام ونحوها. والاصل كجنة في الوقاية، فحذف وجه الشبه والاداة، والاستعارة في قوله ” يخرقها ” فقد شبه فعل المحرمات في الصيام بخرق الجنة بجامع الافساد في كل، واشتق من الخرق بمعنى الافساد، يخرق بمعنى يفسد على طريق الاستعارة التبعية. (2) الآصار جمع إصر: وهو الذنب، وأصلها أأصار، وقعت همزتان ثانيتهما ساكنة فقلبت همزة من جنس حركة ما قبلها. (3) هزهزتها: حركتها، والراح: اليد. (4) زعزعتها الرياح: حركتها تحريكا شديدا. (*)


[ 316 ]

عنه غيره (1)، ومنها ما ينوب عن كله بعضه (2)، وجميع العبادات تختص إما بالفعل، أو بالذكر. والصلاة قد جمعت أفعالا وأذكارا، من القيام والقعود والركوع والسجود والقراءة والتسبيح، والثناء على الله سبحانه والصلاة على الرسول وعلى آله، والاستغفار للمؤمنين، ولانها واجبة في اليوم والليلة خمس مرات على كل عاقل بالغ قادر عليها، لا يؤديها عنه غيره، ولا يسقطها عنه فقره، ولا يتولاها وليه، وباقى العبادات يتعلق بزمان مخصوص، ووقت معلوم، كالصوم الذى يفعل في السنة دفعة، والزكاة التى تجب في الحول مرة، والحج الذى في العمر دفعة واحدة. ولهذا كانت عامة وصية النبي عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت بالصلاة. وفي حديث أنس: أنه عليه الصلاة والسلام ما زال يكرر قوله: ” الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يغيض ” (3) أي يبين. وفي الاكثر أن الانسان إذا أدى الصلاة على شرائطها، وفعلها في أوقاتها، وقام بجميع واجباتها، وهى التى تكرر في الليل والنهار، وتفعل على الدوام والاستمرار، كان أجدر بتأدية الفروض في سائر (هامش ص 316) (1) يصدق ذلك على العبادات المخيرة كالكفارات: من عتق الرقبة والاطعام والصيام، فأى واحد منها ينوب عن الآخر. (2) مثل فروض الكفاية: كصلاة الجماعة، فإذا فعلها بعض الناس سقطت عن باقيهم. (3) يغرغر بها صدره: تتردد في صدره كما يتردد ماء الغرغرة في الفم. (*)


[ 317 ]

العبادات، والقيام ببواقى الطاعات التى هي أخف محملا، وأسهل متحملا، فأراد عليه الصلاة والسلام أن من قام بهذه الواجبات التى عددناها، واجتنب الكبائر التى توعد بالعقاب عليها، سقط عنه عقاب معاصيه الصغائر، كما يتساقط ؟ ؟ الورق المتناثر، ويقال: انحت الورق وتحات: إذا انسلت من أغصانه، وانحسر عن أفنانه (1). 243 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لرجل أقبل إليه ممن يتهم في دينه: ” أرى عليه سفعة من الشيطان ” وهذا القول مجاز، والسفعة: السواد، وقيل هو السواد المشرب حمرة، فكأنه عليه الصلاة والسلام رأى بوجهه أثرا يدل على نغل (2) الضمير وفساد اليقين، فنسب ذلك إلى الشيطان، لانه مسول (3) المعاصي، ومطرق (4) المغاوى، وفي الاكثر أن يقال لمن خبثت عقيدته وساءت سريرته: وجه فلان مسود، يراد لعظيم كفره، وفساد سره. (هامش ص 317) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية وتشبيه مرسل، أما الاستعارة: ففى قوله صلى الله عليه وسلم ” تحاتت ” حيث شبه زوال أثر الخطايا بتحات أوراق الشجر بجامع السقوط والزوال في كل، واشتق من التحات بمعنى زوال الاثر، تحاتت بمعنى زال أثرها، على طريق الاستعارة التبعية. وأما التشبيه ففى قوله: كما يتحات الورق، فشبه تحات الخطايا بتحات الورق، وذكرت أداة التشبيه وهى الكاف. والتشبيه الذى يذكر فيه الطرفان والاداة يسعى في الاصطلاح تشبيها مرسلا. (2) نغل الضمير: سوؤه وفساده. (3) مسول: مزين. (4) مطرق: ممهد الطريق. (*)


[ 318 ]

وقد يجوز أن تكون السفعة هاهنا بفتح السين مأخوذة من قول القائل: سفعت رأس فلان: إذا ضربه بالعصا فأثرت فيه، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: ” أرى عليه أثرا من الشيطان “، وقد يكون السفع أيضا بمعنى الاخذ والقبض، ومنه قوله تعالى: ” لنسفعا بالناصية ” أي لنأخذن بها ولنقبضن عليها. فإن حمل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أرى عليه سفعة من الشيطان ” جاز، وجميع الوجوه المذكورة في هذا الكلام قريب بعضها من بعض (1). 244 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” خير الناس منزلة رجل أخذ بعنان فرسه يطلب الموت مظانه ” وهذا القول مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الرجل المجاهد في سبيل الله الذى يتتبع قراع الاعداء ومواطن اللقاء، كطالب الموت في معادنه، والمنقب عنه في مكامنه، وإن كان غير طالب له على الحقيقة وإنما يطلب نصرة الدين، ووقم (2) المحادين، ولكن ذلك لما كان في الاكثر مفضيا إلى الموت القاصي (3) والاجل الدانى، كان كأنه (هامش ص 318) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه ما في عقيدته من التغير، بالسواد الذى يكون في الوجه ونحوه، بجامع السوء في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) الوقم: القهر والاذلال، والمحادين: المخالفين والمعادين. (3) القاصي: القاطع للحياة. (*)


[ 319 ]

انتجع مظنة حتفه، ونقب عن هلاك نفسه، والمظان: الاماكن التى إذا طلب الرجل وجد فيها، يقال: موضع كذا مظنة من فلان: أي معلم منه ومكان يوجد فيه. قال الشاعر: وإن يك عامر قد قال جهلا * فإن مظنة الجهل الشباب كأنه قال: إن الشباب موضع للجهل، فيه تسرح سارحته، وفيه تنشد ضالته. وأراد عليه الصلاة والسلام: يطلب الموت في مظانه. فلما خلع الجار وصل الفعل إلى المظان فنصبها (1)، وذلك أقرب في الفصاحة، وأضرب في مذاهب البلاغة (2). 245 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أعوذ بك من شر الجوع فإنه بئس الضجيع “. وهذا القول مجاز، وإنما جعل عليه الصلاة والسلام الجوع بمنزلة الضجيع، لان الانسان إذا بات طاويا كان كأنه مضاجع للجوع في مهاد، ومبايته على فراش، لانه يخلو في الليل به، وينفرد بمعاناته ومكابدته (3). (هامش ص 319) (1) يريد أنه منصوب على نزع الخافض، والاصل يطلب الموت قى مظانه، فحذفت في فنصب الاسم، لان المجرور موضعه في الواقع نصب. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الجهاد في سبيل الله باستمرار بطلب الموت، لان الجهاد قد يؤدى إلى الموت، ووجه الشبه، السير إلى مظنة الهلاك، واشتق من طلب الموت بمعنى الجهاد، يطلب بمعنى يجاهد على سبيل الاستعارة التبعية (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه ملازمة الجوع للانسان بالمضاجعة وهى النوم بجوار الشخص، بجامع الملازمة في كل، واشتق من المضاجعة ضجيع بمعنى ملازم على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 320 ]

246 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الحلة والخميصة (1)، إن أعطى رضى وإن منع سخط. تعس فلا انتعش (2)، وإذا شيك فلا انتقش ” (5)، وفي هذا الكلام مجاز. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الرجل القوى الطمع الشديد الجشع، الذى يرضى بإعطاء ما سأل، ويسخط بمنع ما طلب بمنزلة العبد للدينار والدرهم، والثوب والعرض، لانه بإعطاء هذه الاشياء يسترق ويملك، ويمتهن ويستبذل. فجعله عليه الصلاة والسلام عبدا لها على المجاز، وهو في الحقيقة عبد لباذلها. ومن معروف كلامهم: فلان عبدالطمع، وخادم الامل، إذا كان ذليلا لمن وجه أمله إليه، وضارعا لمن علق طمعه به، وقوله عليه الصلاة والسلام: ” وإذا شيك فلا انتقش ” من صلة الدعاء عليه. يقول: وإذا دخلت في قدمه شوكة، فلا قدر على منقاش ينتقشها حتى يدوم مكثها في أخمصه، فيكون ذلك أطول لالمه (4). (هامش ص 320) (1) الحلة: الثوب، وهو إزار ورداء، قال في القاموس: ولا تكون حلة إلا من إزار ورداء برد أو غيره، ولا تكون حلة إلا بثوبين أو ثوب له بطانة، والخميصة: كساء أسود مربع له علمان. (2) انتعش: ارتفع بعد تعاسته، أو جبر بعد فقره. (3) انتقش: أخرج الشوكة بالمنقاش، وقد بين الشريف المراد من ذلك. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه الرجل الذى يستذله الدينار والدرهم بالعبد بجامع الذل والاستكانة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (*)


[ 321 ]

247 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا حرج إلا على رجل اقترض عرض أخيه بظلم ” وهذه استعارة، والمراد بالاقتراض هاهنا: القدح في العرض، والحز فيه والنيل منه، فهو افتعال من القرض الذى هو القطع، ومنه قول ذى الرمة: إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف * شمالا وعن أيمانهن الفوارس (1) يقول: يقطعن أوساط هذا الموضع المذكور بطى سقته ؟، وتجاوز مسافته، وقولهم: أقرض فلان فلانا مالا راجع إلى هذا المعنى. والمراد أنه اقتطع له من ماله قطعة فسلمها إليه، وقوله عليه الصلاة والسلام في أول الخبر: ” لا حرج إلا على رجل اقترض عرض أخيه بظلم ” لا يدل على أن من فعل غير ذلك من الافعال التى يستحق عليها الذم، ويعظم بها الاثم. لا حرج عليه في الحقيقة، ولكنه عليه الصلاة والسلام كأنه قال: ” لا حرج في فعل مالا إثم فيه إلا على رجل اقترض عرض أخيه ” (2)، وهذا التقدير في الكلام كأنه (هامش ص 321) (1) الظعن: جمع ظعينة، وهى المرأة في الهودج، والاقواز: جمع قوز، وهو المستدير من الرمل، مشرف: مكان مرمل بالدهناء، والفوارس: رمال طويلة كالجبال بالدهناء أيضا. (2) الاولى تقدير وصف محذوف بعد حرج، والتقدير لا حرج عظيما إلا على رجل. الحديث، كأن الحرج العظيم كله خاص بهذه الفعلة، وهذا تبشيع لها، وتحذير شديد منها. (*)


[ 322 ]

معلوم بفحواه، ومفهوم بمعناه. وإن كان ظاهر اللفظ غير دال عليه (1). 248 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن السقط ليجر أمه إلى الجنة بسرره ” وهذا القول مجاز، والمراد أن المرأة إذا أسقطت الولد عن حادث أصابها، واتفق أن يكون ذلك الاسقاط سبب منيتها، كان لها بذلك أجر تستحق به دخول الجنة إذا كانت سليمة من الكبائر الموبقة، والمعاصي المرهقة، فلما كان ذلك السقط سببا لوصول أمه إلى دار النعيم، والبقاء المقيم، حسن أن يقول عليه الصلاة والسلام: ” إنه يجرها إلى الجنة بسرره ” وهو الجلد الرقيق المتصل منها به (2). يقال: قطع سره وسرره، والسرة: اسم لما يبقى بعد القطع منه (3). (هامش ص 322) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية واستعارة تبعية، الاولى حيث شبه العرض بشئ بقرض بالمقراض كثوب أو جلد أو نحو ذلك، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو القرض. والثانية حيث شبه نقصان العرض بالذم فيه بقرض الثوب ونحوه، بجامع النقص في كل، واشتق من القرض بمعنى النقص، اقترض بمعنى انتقص، على طريق الاستعارة التبعية. (2) وهو الذي تقطعه القابلة من المولود بعد ولادته، حيث كان ينقل الغذاء من أمه إليه بواسطته. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه تسبب السقط في إدخال أمه الجنة بجره لها إلى الجنة، بجامع الايصال إلى الجنة في كل، واشتق من الجر بمعنى التسبب، يجر بمعنى يتسبب على طريق الاستعارة التبعية.


[ 323 ]

249 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يمنعنكم من سحوركم الفجر حتى يستطير “. وفي هذا القول استعارة، والمراد حتى ينتشر ضوء الفجر، فيكون كتحليق الطائر، وكالشرر المتطاير، والفجر عندهم فجران: مستطيل، ومستطير، فأما المستطيل فهو الاول، ولا يحرم على الصائم الطعام والشراب. وأما المستطير فهو الثاني، ويحرم الشراب والطعام، ويسمى الاول ذنب السرحان لدقة خيطه وغموض سمته (1). قال الكميت بن زيد: ولما علا شمطه (2) المضبأين * من ليلة الذنب الاشعل (3) وأطلع منه اللياح (4) الشميط * خدودا كما سلت الانصل (5) فجعله أشعل لكثرة البياض فيه. والمضبأين: تثنية مضبأ، وهو المكان الذى يضبأ الانسان به: أي يلزمه ويلطأ فيه. واللياح: الابيض، ويقال: بكسر اللام وفتحها. والشميط: الكثير البياض، (هامش ص 323) (1) يسمى الفجر الاول عند الفقهاء بالفجر الكاذب، وهو نور يظهر قبل الفجر ثم يذهب، كما يسمى الفجر الثاني بالفجر الصادق، لانه نور يظهر في موعد الفجر ثم يبقى وينتشر حتى تطلع الشمس. (2) الشمط: بفتح الشين والميم، بياض الرأس يخالط سواده، وقد شبه الكميت بياض الصبح في سواد الليل بالشمط، وسكن الميم للوزن. (3) الذنب الاشعل: الفجر الكاذب. (4) اللياح: الصبح. (5) الانصل جمع نصل، وهو اللاح الابيض، يريد أن الصبح انتشر في كل مكان كما تضئ الاسلحة المسلولة.


[ 324 ]

يقال: ذنب شميط إذا كان كذلك، وهو بمعنى الاشعل، والمراد هاهنا الصبح، وجعل له خدودا بارزة على طريق الاستعارة كما يقال: طرة الصبح. وحاجب الشمس، ويسمى الفجر الثاني المستطير لانتشاره ووضوحه. قال الشاعر: لهان على سراة بنى لؤى * حريق بالنويرة مستطير أراد حريقا قد انتشر شراره، وعظم أواره. وفي حديث آخر: أنه عليه الصلاة والسلام قال: ” ليس الفجر المستطيل الابيض ولكنه المعترض الاحمر ” (1). 250 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في صفة أهل الموقف يوم القيامة: ” يبلغ العرق هناك ما يلجمهم “، وفي هذا القول مجاز، وله وجهان. (أحدهما) أن يكون المراد أن العرق يزيد بهم يومئذ حتى يضعفوا عن الكلام فلا يحيروا جوابا، ولا يبتدئوا مقالا كما يقول القائل: حاججت فلانا فألجمته بالحجة: إذا أسكته بها عن مراجعته، وقطع لسانه عن مناقلته. فشبه عليه الصلاة والسلام إضعاف العرق (هامش ص 324) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه سرعة انتشار ضوء الفجر بالاستطارة، بجامع السرعة في كل، واشتق من الاستطارة بستطير بمعنى يسرع انتشاره، على طريق الاستعارة التبعية.


[ 325 ]

لهم، وبلوغه إلى أن يملك عليهم نطقهم باللجم التى تملا أفواه الخيل فتمنعها من تحريك ألسنتها تمطقا (1) بالمشرب، أو تلمظا (2) بالمطعم. (والوجه الآخر) أن يكون المراد أن العرق يكثر منهم حتى يخوضوا فيه فيبلغ إلى أن يدخل أفواههم. فيكون بمكان اللجم لهم. ومن روى هذه الكلمة بالتشديد فقال: ما يلجمهم، فالمراد بذلك أن العرق يبلغ الملجم من كل واحد منهم، وهو ما يلى الرأس من الرقبة، وقيل له: الملجم لانه مكان اللجام من رأس الفرس كما قيل: المقلد والمسور والمخلخل والمؤزر، لموضع القلادة والسوار والمئزر والخلخال (3). 251 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لما قسم غنائم حنين فأعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط الانصار في كلام طويل: ” يا معشر الانصار أو جدتم (4) في قلوبكم من لعاعة (5) من الدنيا (هامش ص 325) (1) التمطق: التصويت باللسان أي لا تستطيع تحريك ألسنتها من ملء العرق لافواهها. (2) التلمظ: إخراج اللسان على الشفتين عند الاكل. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه منع العرق للناس من الكلام بالالجام، بجامع منع اللسان من الحركة في كل، واشتق من الالجام يلجم بمعنى يمنع من تحريك اللسان على طريق الاستعارة التبعية. (4) وجد عليه بفتح الجيم وكسرها، يجد بكسر الجيم وضمها: بمعنى غضب عليه أو حقد، وحذف هنا كلمة على مع وجودها في الروايات الاخرى. (5) اللعاعة: واحدة اللعاع، بضم اللام فيهما، وهو ثبت ناعم في أول =


[ 326 ]

تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم “، وهذه استعارة. واللعاعة: البقل أول ما يبدو وهو ناعم رقيق، وقيل: هي بقلة ناعمة تعرف بعينها (1) ذكر ذلك أبو عبيد في الغريب المصتف. ومن قول الغريب، خرجنا نتلعع: أي نتتبع هذه البقلة في منابتها، ونجتنيها من مقاطعها. قال الشاعر: رعى غير مذعور بهن وراقه * لعاع تهاداه الدعادع (2) واعد يريد بواعد هاهنا: أن هذا النبات كثير يعد راعيه الشبع منه والاكتفاء به. فشيه عليه الصلاة والسلام حلاوة المال المبذول، وتعلق القلوب به، وتتبع النفوس له بهذه البقلة الناعمة التى تستطاب مجانيها،، ويتتبعها جانيها، ويجرى ذلك مجرى قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الآخر لحكيم بن حزام: إن هذا المال حلوة خضرة (3)، (هامش ص 326) = ما يبدو، هي أيضا الهندباء، وهى نبات معروف يكون مع (الشكوريا) وهى ” السريس “، والجرعة من الشراب، والكلا الخفيف. والمناسب في الحديث حمل اللعاعة على واحدة اللعاع السابق أو الجرعة من الشراب، أو الكلا الخفيف، لان الرسول صلى الله عليه وسلم يقلل من شأن ما أعطاه لمن تألف قلوبهم، ويكون شبه ما أعطاه من الغنائم بالجرعة من الشراب أو الكمية القليلة من الكلا. (1) هي الهندباء كما سبق ذكره. (2) الدعادع: الارض الجرداء، وتهاداه: تميله أي تنبته مائلا. (3) أرى أن تشبيه ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لمن تألف قلوبهم باللعاعة، إنما هو لقلته وعدم عظم قيمته حتى إنه يعتب عليهم أنهم غضبوا عليه في هذا الشئ القليل الذى أعطاء لغيرهم ولم يعطه لهم. واللعاع: نبت ضعيف أو كلا خفيف ينبت بالأراضي الجرداء غير الخصبة قليلة الرى، كما أن من معاني اللعاعة الجرعة من الشراب وهى قليلة، فالقلة ملحوظة في كل المعاني التى تحتملها اللعاعة.


[ 327 ]

وقد ذكرناه فيما تقدم من كتابنا هذا (1). 252 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: تحفة المؤمن الموت “، وهذه استعارة، وأصل التحف: طرف الفواكه التى يتهاداها الناس بينهم، فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل الموت الوارد على المؤمن كالتحفة المهداة إليه، لانه يسر بتعجيل مماته، كما يسر الكافر بتنفيس حياته، لان المؤمن يخرج من عقال إلى مجال (2) والكافر يخرج من مجال إلى عقال (3). 253 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الله يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب “، وهذا القول مجاز. والمراد أن الله سبحانه يقبل توبة العبد من جميع المعاصي مادام في نفس الرجاء، وفسحة البقاء، فإذا بلغ حال انقطاع التكليف، ووقوع الامر المخوف، لم تنفعه التوبة، ولم تنقذه الانابة. فكأنه قد حجب (هامش ص 327) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه ما أعطى للمؤلفة قلوبهم من غنائم خفيفة باللعاعة في قلته، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) المجال: المكان المتسع الذى يجول فيه الانسان ويطوف بأنحائه، والعقال: الحبل الذى تربط به قوائم الدابة، والمراد المكان الضيق الذى يقيد حركة من فيه. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الموت بالتحفة في إدخال السرور على من تهدى إليه، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 328 ]

عن طريق الاستغفار، وأخذ على حال الاصرار. وقد يجوز أن يكون المراد بالحجاب هاهنا ضد المراد بالوجه الاول، وهو أن يكون وقوعه بمعنى (1) انكشافه وسقوطه كما يقول القائل: وقع الستر المضروب، وسقط الفدام الممدود: أي زال، وانتهك وانكشف وانفرج، والمراد بانكشاف الحجاب: أن تظهر للمرء أشراط الآخرة التى لا نضام (2) التكليف، فيراها بادية بعد أن كانت خافية، وظاهرة بعد أن كانت باطنة، فيكون الحجاب هناك على ضربين: حجاب مهتوك عما كان خافيا من أعلام الآخرة، وحجاب مضروب دون ما كان ممكنا من أحوال التوبة (3). 254 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المعروف والمنكر خليفتان ينصبان للناس، فيقول المنكر لاهله: (هامش ص 328) (1) الفدام: بكسر الفاء وفتحها، شئ يضعه المجوس على أفواهها عند السفر، وإذا سقط انكشف ما تحته كما ينكشف الحجاب عن المؤمن عند موته (2) تضام التكليف أي تجامعه أي لا تكون. وجودة مع وجود التكليف على المؤمن، وعند موته يسقط التكليف فتنكشف له أشراط الساعة أي علاماتها. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الموت بوقوع الحجاب، وضربه بين الشيئين بجامع الحيلولة بين المحجوب والمحجوب عنه، والمحجوب هنا المؤمن، والمحجوب عنه التوبة، والحجاب الموت. واشتق من وقوع الحجاب بمعنى الموت، يقع الحجاب بمعنى يموت المؤمن على طريق الاستعارة التبعية، وهكذا على المعنى الثاني الذى ذكره الشريف غير أن المحجوب عنه في هذا المعنى الثاني كان أشراط، الساعة، فلما سقط الحجاب ظهرت، والتشبيه هنا بسقوط الحجاب لا بوجوده.


[ 329 ]

إليكم إليكم (1) وما يستطيعون له إلا لزوما “. وهذا القول مجاز، والمراد أن الله تعالى جعل للفعل المعروف علامات، وعلى فعل المنكر أمارات، ووعد على فعل المعروف حلول دار النعيم، وأوعد على فعل المنكر خلود دار الجحيم، فكان بين الامرين الحجاز البين والفرقان النير، فكأن المعروف يدعو إلى فعله لما وعد عليه من الثواب، وكأن المنكر ينهى عن فعله لما وعد عليه من العقاب فلذلك قال عليه الصلاة والسلام ” فيقول المنكر لاهله إليكم إليكم ” على طريق الانساع والمجاز، وقوله عليه الصلاة والسلام من بعد: وما يستطيعون له إلا لزوما، المراد به أنهم مع قوارع النذر، وصوادع الغير، وزواجر التحذير، وبوالغ الوعيد، يتنازعون إلى فعله، ويتسارعون إلى ورده، وليس المراد أنهم لا يستطيعون له إلا لزوما على الحقيقة، وإنما قيل ذلك على طريق المبالغة في صفتهم بالنزوع إليه والاصرار عليه كما يقول القائل: ما أستطيع النظر إلى فلان أو لا أستطيع الاجتماع مع فلان: إذا أراد المبالغة في نفسه بشدة الابغاض لذلك الانسان، والاستثقال لرؤيته، والنفور من مقاعدته، وإن كان على الحقيقة مستطيعا لذلك بصحة أدواته (2)، والتمكن (هامش ص 329) (1) إليكم إليكم: معناها ابتعدوا عنى. (2) صحة الادوات: أي وجود الموصلات إلى الشخص المذكور، فجعل أسباب الاتصال كأدواته.


[ 330 ]

من تصريف إرادته (1)، ولو لم يكن هؤلاء المذكورون في الخبر قادرين على الانفصال من فعل المنكر لما كانوا على مواقعته مذمومين، وبجريرته مطالبين (2)، وذلك أوضح من أن نستقصي الكلام فيه، ونستكثر من الحجاج عليه (3). 255 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أمرت (4) بقرية تأكل القرى تنفى الخبث (5) كما ينفى الكير خبث الحديد ” يريد عليه الصلاة والسلام الهجرة إلى المدينة، فقوله: ” أمرت بقرية تأكل القرى ” مجاز، والمراد أن أهلها يقهرون أهل (هامش ص 330) (1) أي أن مريد الاجتماع بإنسان يستطيع تصريف إراداته، وتغييرها حتى يمكنه الاجتماع به. (2) أي لو كان فاعلوا المنكر لا يستطيعون حقيقة الابتعاد عنه بمقتضى طبيعتهم، لما كان عليهم إثم في فعله، ولم يلحقهم ذم في ملازمته. لان الله تعالى عادل لا يعاقب على ذنب يجبر الانسان على فعله. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه المعروف والمنكر بخليفتين، والخليفة هو السلطان الاعظم، ينصبان للناس أي يكون كل منهما خليفة عليهم، فاحدهما وهو المنكر يطرد الناس عنه، ووجه الشبه الاعتراف والمتابعة والاقبال. ففى الخلافة تبعية وإقبال، وفي المعروف والمنكر إقبال ووفاق كما في التبعية، وحذف وجه الشبه والاداة، وفيه أيضا استعارة تبعية، حيث شبه حالة المنكر وما عليه من وعيد وتهديد، وذم وعذاب، بالقول الذى يدل على الامر بالابتعاد عنه، فشبهت دلالة الحال بدلالة المقال، واشتق من القول بمعنى الدلالة، يقول بمعنى يدل، على طريق الاستعارة التبعية. (4) أمرت بقرية: أي بسكنى قرية أو بالهجرة إلى قرية. (5) الخبث: القذر والوسخ والضرر.


[ 331 ]

القرى فيملكون بلادهم، ويغتنمون أموالهم، فكأنهم لهذه الاحوال يأكلونهم، وخرج هذا القول على طريقة للعرب معروفة، لانهم يقولون: أكل فلان جاره إذا عدا عليه، فانتهك حرمته، واصطفى حريته، وعلى ذلك قول علقمة بن عقيل بن علفة لابيه في أبيات: أكلت بنيك أكل الضب حتى * وجدت مرارة الكلا الوبيل ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية: ” ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ” يريد أنها قد أفنت رجالهم، وانتهبت أموالهم، فكانت من هذا الوجه كأنها آكلة لهم. قال ذلك عليه الصلاة والسلام في حديث طويل، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ” تنفى الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد ” أن أهلها يتمحصون فينتفى عنها الاشرار، ويبقى فيها الاخيار، ويقارقها الاخلاط والاوشاب (1)، ولا يصبر عليها إلا الصميم واللباب، فتكون بمنزلة الكير الذى ينفى الاخباث والادران، ويخلص المصاص (2) والنضار. وهذا أيضا مجاز ثان. وقد ورد هذا الخبر بلفظ آخر ذكره عمر بن عبد العزيز، قال: سمعنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ” المدينة تنفى خبث الرجال كما ينفى (هامش ص 331) (1) الاوشاب: الاخلاط، والاوشاب: جمع وشب، بكسر الواو وسكون الشين. (2) المصاص: خلاصة الشئ، والنضار: الذهب الخالص أو خالص الجواهر.


[ 332 ]

الكير خبث الحديد ” والمعنى في اللفظين واحد (1). 256 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الرحم لها حجنة كحجنة المغزل ” وهذه استعارة، والحجنة: هي الحديدة المعقفة (2) في رأس المغزل، ومنه المحجن وهى العصا المعوجة الرأس. فأراد عليه الصلاة والسلام أن الرحم لها علائق يعتلق بها، وشوابك تجتذب بوصلها، فكأنها تستعطف المعرض عنها وترد الشارد إليها كما يجتذب الانسان الشئ بالمحجن إلى جهته، أو يستثنى (3) به الذاهب عن وجهته (4). (هامش ص 332) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية وتشبيه مرسل، أما الاولى: فحيث شبه قهر المدينة وأهلها لاهل القرى الاخرى بالاكل، بجامع الاستيلاء وإفناء الشخصية في كل، واشتق من الاكل بمعنى القهر تأكل بمعنى تقهر وتستولي، على طريق الاستعارة التبعية، ومع التبعية مكنية، حيث شبه المدينة بالحيوان الذى يفترس الحيوانات الاخرى ويأكلها، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الاكل، وإسناد تأكل إلى ضمير المدينة تخييل، وأما التشبيه فهو تشبيه نفى المدينة لخبثها بنفى الكير، وهو المنفاخ الذمي يؤجج نار الحداد لخبث الحديد مع ذكر أداة التشبيه، وهى السكاف. وفي الحديث أيضا مجازان عقلي ومرسل، علاقتهما المحلية: الاول: قوله تأكل فأسند الفعل إلى المحل وهو المدينة والذى يأكل أهلها لا هي، والثانى: في قوله القرى. فإن المأكول أهل القرى وليس القرى، فاستعمل المحل وأريد الحال، وهو مجاز مرسل. (2) المعقفة: الملوية المثنية (3) يستثنى: يلويه ويثنيه ناحيته. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية: حيث شبه صلة الرحم التى تعطف أهلها بالحجنة بجامع الجذب والتعليق في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه.


[ 333 ]

257 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من قتل تحت راية عمية (1) تغضب لغضبه وتقاتل لعصبته (2) فقتلته جاهلية (3) “. وفي رواية أخرى: ” يغضب غضبته ويقاتل عصبته “. فقوله عليه الصلاة والسلام ” تحت راية عمية “، مجاز لانه جعل الراية عمية، والمراد الحرب التى رفعت تلك الراية فيها، وإنما حسن وصفها بالعمى وهو في الحقيقة للحرب، لان الراية علم لها، ودليل عليها، والحرب العمية هي المشتبهة التى لا يهتدى فيها إلى القصد، ولا يتبين فيها وجه الرشد، فهى كالعمياء التائهة، والعشواء الخابطة، ومن ذلك قولهم: نحن في عمياء، إذا كانوا في أمر مختلط، أو على رأى مشتبه، وربما روى لفظ الخبر على الاضافة، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” تحت راية عمية ” كأنه قال: تحت راية حرب عمية، والمعنيان متقاربان (4). (هامش ص 333) (1) العمية: بكسر العين وضمها وتشديد الميم والياء. والكبر والضلال. (2) العصبة هنا: قوم الرجل الذين يتعصبون له. (3) أي لا ثواب له فيها ويعاقب عليها، وهذا تنفير عن فعل مثل هذا العمل والمعنى من حارب بسبب الكبر والضلال والتعصب لقومه فقتل كانت نفسه هدرا وكان فعله مذموما لا ثواب له فيه، بل عليه عقاب وله عذاب. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل حيث نسب الكبر والضلال للراية، وليست هي صاحبة الكبر والضلال، وإنما الحرب هي صاحبتهما، ولكن الراية دليل الحرب والعلامة عليها، فكأنها سببها.


[ 334 ]

258 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من أراد أهل المدينة يكيدهم اماع (1) كما يماع الملح في الماء “. وهذه استعارة، والمراد أنه يمحق كيده ويضمحل أمره، فيكون كالهباء المتلاشى والبناء المتداعى، فلا يثبت له عماد، ولا يد عمه سناد. فعبر عليه الصلاة والسلام عن هذه الحال بالامياع، لانه لا يماع إلا الجسم المتخلخل الذى لم تستحصف جبلته (2)، ولا استحجرت طينته (3)، وتوصف أيضا الاجسام الرقيقة بمثل ذلك، فيقال ماع الماء إذا جرى على وجه الارض، وكذلك الدم، واماع السمن: إذا ذاب، وكذلك الرب (4) ويفرق بينهما بأن يقال للجسم الذى لا يتماسك إذا خلى عنه ماع كالماء والدم. ويقال للجسم الذى إذا أطلق عنه تماسك بعض التماسك اماع كالسمن والرب قال الشاعر: كأنه ذو لبد دلهمس * بساعديه جسد مورس (5) * من الدماء مائع وملبس * (هامش ص 334) (1) اماع: ذاب. (2) الجبلة: الطبيعة، وتستحصف: تستحكم وتقوى. (3) أي لم تقو طينته وتجمد حتى تصير حجرا. (4) الرب: ما يبقى ثخينا بعد عصير الفاكهة ونحوها، وثفل السمن. (5) اللبد: الشعر الذى يكون على كتفي الاسد، وذو اللبد: هو الاسد، والدلهس: الاسد، والساعدان: تثنية ساعد، وهو جزء اليد من الرسغ إلى المرفق، والجسد: الدم، والمورس، شبيه الورس، وهو نبات كالسمسم يزرع جيده في اليمن ورديئه في الحبشة. والمعنى أن الدم أصفر، والملبس: المختلط كأن الدم اختلط بالماء.


[ 335 ]

والجسد هاهنا اسم من أسماء الدم (1). 259 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لسلمان الفارسى رحمة الله عليه: سلمان ابن الاسلام، سلمان جلدة بين عينى “. وفي هذا الكلام مجازان: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام ” سلمان ابن الاسلام ” ولهذا القول وجهان: (أحدهما) أن يكون المراد به أن سلمان يتعرف بالاسلام كما يتعرف الناس بآبائهم، وينتمون إلى أجدادهم، لانه كان عبدا غير معروف الاب ولا مشهور النسب، وإنما بالاسلام سمى وإليه انتمى. (والوجه الآخر) أن يكون المراد أن الاسلام دعم ظهره وشد أزره، فقام له مقام الحاضن الكافل، والاب العائل، والمجاز الآخر قوله عليه الصلاة والسلام: ” سلمان جلدة بين عينى ” وجلدة بين العينين هاهنا كناية عن الانف، فكأنه عليه الصلاة السلام جعله في العزة والقرب منه كالانف الكريم على صاحبه والعزيز على مفارقه، وهذا القول أصح معنى من قول الشاعر: (هامش ص 335) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه هزيمة من يكيد أهل المدينة واضمحلال أمره بالامياع، وهو التفكك والتحلل في الماء، بجامع تغير الحال إلى الضعف وحصول الضرر والنقصان. واشتق من الامياع بمعنى الاضمحلال، إمياع بمعنى اضمحل، على طريق الاستعارة التبعية، وفيه تشبيه مرسل حيث شبه تحلل كائد أهل المدينة بتحلل الملح في الماء في سرعته وعدم قدرته على المقاومة، وذكر أداة التشبيه وهى الكاف.


[ 336 ]

* وجلدة بين العين والانف سالم * لانه لا جلدة بين العين والانف مذكورة يقصد قصدها، ويشار نحوها، كما قلنا في جلدة بين العينين إنها الانف الكريم موقعه، والمشهور موضعه (1). 260 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” معترك المنايا بين الستين والسبعين ” وهذا القول مجاز، والمعترك موضع الحرب وسمى معتركا كالالتفاف الرجال، واعتراك الابطال. وقد قال عليه الصلاة والسلام في خبر آخر: أعمار أمتى بين الستين والسبعين، وقال صلى الله عليه وآله: لا خير لمؤمن في عمر يتجاوز عمرى، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه هذا العمر لكثرة الذاهبين فيه، وقلة المجاوزين له بمعترك المنايا تكافح فيه الارواح، وتصطلم (2) الآجال فلا يفلت من ذلك المقام إلا من أشذه حائلها (3)، وتخطاه نائلها (4). (هامش ص 336) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان: الاول تشبيه سلمان رضى الله عنه بابن الاسلام في قوته به وشد أزره والثانى تشبيه سلمان رضى الله عنه بأنف النبي صلى الله عليه وسلم في علو الشأن وكرم المنزلة، وحذف وجه الشبه والاداة فيهما. (2) تصطلم: تسأصل وتجتث. (3) أشذه: نحاه وأبعده، وحائلها: الذى يحول بينها وبين الشخص. (4) نائلها: النائل الآخذ، والمراد هنا تخطفه المنايا لان نيلها هو أخذها وإزهاق أرواح من تنالهم. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه العمر في السن الواقعة بين الستين =


[ 337 ]

261 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تسبوا الابل فإنها رقوء (1) الدم “. وهذا القول مجاز، لان الابل على الحقيقة ليست برقوء الدم، وإنما المراد أنها إذا أعطيت في الديات كانت سببا لانقطاع الدماء المطلولة (2) والثارات المطلوبة. فشبه عليه الصلاة والسلام تلك الحال بالعرق (3) العاند، والدم السائل الذى إذا ترك لج واستشرى، وإذا عولج انقطع ورقأ، وعلى هذا المعنى قول الكميت بن زيد. ولكني رقوء دم وراق * لادوء الضغائن والذخول (4) ويروى هذا الخبر على لفظ آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: فإن فيها رقوء الدم (5). (هامش ص 337) = والسبعين بمكان الموقعة الحربية لانه مظنه الموت غالبا ولا ينجو منه إلا القليل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (1) رقوء: فعول من رقأ الدم بمعنى انقطع، ورقاه بمعنى قطعه ووقف سيلانه، فهو صيغة مبالغة من الرق ء وهو القطع. (2) المطلولة: المسفوكة المراقة. (3) عند العرق: سال، ولم يرفأ كأعند، فالعرق العاند السائل الذى لا ينقطع دمه. (4) راق: فاعل من الرقية، وهى العوذة التى يعوذ بها الانسان المريض أو الممسوس من الجن، فيذهب مرضه أو مسه. وأدواء: جمع داء، والضغائن: الاحقاد، والذحول: جمع ذحل، وهو الثأر، والثأر تسيل فيه الدماء. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ حيث شبه الابل في أنها تعطى في الدية فيأخذها ورثة القتيل فيسكتوا عن المطالبة بالثار، فيمتنع سيلان دماء من كان سيقتل في الثأر بالرقوء =


[ 338 ]

262 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: إن ذا الوجهين (1) لخليق ألا يكون عند الله وجيها (2) “، وهذا القول مجاز لانه عليه الصلاة والسلام لم يرد تثنية الوجه الذى هو العضو المخصوص على الحقيقة، لان استحالة ذلك في الانسان معلوم ضرورة، وإنما أراد ذم المنافق الذى ظاهره يخالف باطنه، وحاضره يضاد غائبه، فكأنه يلقى أخاه في مشهده بصفحة المودة، ويتناوله في مغيبه بلسان الذم والعصبية، فشبه عليه الصلاة والسلام هاتين الحالتين لاختلافهما بالوجهين المختلفين لتباين ما بينهما (3). 263 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الايمان يمان (4) والحكمة يمانية ” وهذا قدر ما أورده أبو عبيد في كتابه (هامش ص 238) (1) = وهو الشئ الذى يوضع على الدم فيجف أو على العرق المقطوع فيسكت سيلان دمه، وحذف وجه الشبه والاداة، أما على الرواية الاخيرة التى ذكرها الشريف وهى (فإن فيها رقوء الدم) ففى الحديث استعارة تصريحية حيث شبه الابل بالشئ الذى يمنع الدم، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (1) ذو الوجهين: المنافق. (2) وجيها: ذا جاه، أي لا يكون محترما ولا ينظروا إليه نظرة إكبار. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه المنافق الذى يظهر غير ما يبطن، والذى يقول في الحضرة غير ما يقوله في الغيبة بذى الوجهين، الذى يضع أحدهما على رقبته مرة والآخر مرة أخرى، والمراد بذى الوجهين المختلفين، بجامع تغير الحال في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (4) يمان: أي يمنى، نسبة إلى اليمن، فيقال يمنى ويمان كما يقال: شآمى وشآم.


[ 339 ]

من هذا الخبر، وقد ذكر غيره زيادة كثيرة، وهى قوله عليه الصلاة والسلام بعد الكلام المتقدم ” رحا الاسلام دائرة في قحطان، حمير رءوس العرب وبهاؤها، والاسد (1) كاهلها وجمجمتها (2)، ومذحج هامتها (3) وغلصمتها (4) “. في حديث طويل، وفي هذا الحديث عدة مجازات: أحدها قوله عليه الصلاة والسلام: الايمان يمان والحكمة يمانية، والمراد أهل الايمان وأهل الحكمة يمانون، وأمثال ذلك في الكلام معروف كثير. ويدخل في هذا الوصف أهل مكة وأهل المدينة. فأما مكة فهى جهة من جهات اليمن ومفضى (5) إلى ذلك الشق والسمت. وأما المدينة فمعظم أهلها الانصار وهم من أهل اليمن بالاصل وإن كانوا من أهل الحجاز بالدار، وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام بتبوك وهى من أرض الشأم، وكانت مكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى جهة اليمن، وهو يريد مكة والمدينة. والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: رحا الاسلام دائرة في قحطان. والمراد أن أمر الاسلام يدور عليها كما تدور الرحا على قطبها، وقد مضى في صدر (هامش ص 339) (1) الاسد: هي الازد، والسين والزاى يتعاقبان في اللغة العربية، والكاهل: الكتف. (2) الجمجمة: عظم الرأس الذى فيه المخ. (3) الهامة: الرأس. (4) الغلصمة: اللحم بين الرأس والعنق. (5) مفضى: موصل ومنفذ.


[ 340 ]

هذا الكتاب من الكلام على رحا الاسلام ما فيه كفاية، والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: حمير رءوس العرب وبهاؤها، والاسد كاهلها وجمجمتها، ومذحج هامتها وغلصمتها. والمراد أن حمير في التقدم كالرءوس الاعاظم، والاسد في الاشتداد والاجتماع كالكواهل والجماجم، ومذحج في السمو والدنو كالهامات. والغلاصم (1). (هامش 340) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كنايتان وثلاثة تشبيهات بليغة، الكناية الاولى: في قوله صلى الله عليه وسلم ” الاسلام يمان والحكمة يمانية “، فهذا كناية عن أن أهل اليمن متصفون بحسن الاسلام، ويفهم هذا من أل الدالة على الكمال، ومتصفون بالحكمة لان الارض لا تتصف بالحكمة وإنما أهلها الذين يتصفون بذلك، والكناية الثانية: في قوله ” رحا الاسلام دائرة في قحطان ” فهذا كناية عن اشتغالهم بالاسلام وتعاليمه، دائرون في فلكه كما تدور الرحى. وأما التشبيهات فهى: 1 – حمير: رءوس العرب وبهاؤها. 2 – الاسد: كاهلها وجمجمتها، مذحج: هامتها وغلصمتها. حيث شبهت كل قبيلة من القبائل المذكورة بما أخبر عنها به بجامع الرفعة والفوة والشهرة في كل، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 341 ]

بسم الله الرحمن الرحيم 264 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ينادى مناد يوم القيامة لتلحقن كل أمة بما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد صنما إلا ذهب حتى يقع في النار ويبقى غبرات (1) أهل النار ” فقوله عليه الصلاة والسلام: غبرات أهل النار استعارة، والمراد عقابيلهم وبقاياهم، وذلك مأخوذ من غبر اللبن وغبره بالتشديد والتخفيف، وهو بقيته في الخلف والضرع، وغبر الليل: آخره، مأخوذ من ذلك. قال الطرماح بن حكيم في الغبر مثقلا. فيا صبح كمش (2) غبر الليل مصعدا * بتم ؟ (3) ونبه ذا العفاء (4) الموشح يريد الديك. وقال آخر في الغبر مخففا. متفلق أنساؤها عن قانئ * كالقرظ صاف غبره لا يرضع (5) (هامش ص 341) (1) الغبرات: بتشديد الباء وسكونها جمع غبرة بالتشديد والتسكين، وهى بقية الشئ، وغلبت على بقية اللبن في الضرع، وبقية دم الحيض، والمراد بغبرات أهل النار بقاياهم بعد عبدة الاصنام الذين وقعوا في النار، وهذا يدل على أن المشركين هم كثرة أهل النار ومن عداهم قليل. (2) كمش: أعجل بقايا الليل حتى تذهب. (3) بم: بلد بكرمان. (4) العفاء: كثرة الريش، والمراد كما قال الشريف الديك، والموشح: الذى فيه بياض مع سواد أو حمرة أو غيرهما. (5) المتفلق: المتشقق، والانساء: جمع نسا وهو عرق في الفخذ معروف =


[ 342 ]

قال الاخفش: هو بالتخفيف لا غير، وأنشد هذا البيت شاهدا على قوله (1). 265 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الرؤيا على الرجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت فلا تحدثن بها إلا حبيبا أو لبيبا ” روى هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أبو رزين العقيلى، وهو لقيط بن عامر بن المنتفق، وفي عذا الكلام مجاز. والمراد بالطائر هاهنا الامر الذى يتطير به، ومنه قوله تعالى: ” وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ” يريد ما يتطير منه، ويخاف وقوعه به من جزاء أعماله السيئة وأوزاره المئقلة، وذلك مأخوذ من زجر الطير على مذاهب العرب، وكانوا يتيمنون بأيامنها (2) ويتشاءمون بأشائمها (3)، وعلى ذلك قول الشاعر: ولقد غدوت وكنت لا * أغدو على واق وحاتم فإذا الاشائم كالايامن * والايامن كالاشائم والواق: بكسر القاف الصرد، كأنهم سموه بحكاية صوته. (هامش ص 342) = والقانئ: الاحمر، والقرظ: حب أحمر يدبغ به الجلد، والغبر: البقية، يريد أن هذه الشاة يظهر لحمها أحمر كالقرظ لا ترضع بقيته. (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه بقايا أهل النار بعد عبدة الاصنام ببقايا اللبن ونحوه، بجامع القلة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) الايامن: جمع أيمن، وهى جهة اليمين. (3) الاشائم: جمع أشأم، وهى جهة الشمال.


[ 343 ]

قال الشاعر: ولست بهياب إذا شد رحله * يقول عدانى اليوم واق وحاتم والحاتم: الغراب، فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل رؤيا الانسان التى يتروع لها ويخاف ضررها، بمنزلة الشئ الذى يتطير به وقد يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، فإذا عبرها فعبرت له على ما يكره وقع متوقعها، وخلص للشر مجوزها (1). ويشبه ذلك ما حكى عن بعض المتقدمين أنه قال: علم النجوم فأل فلكى، كأنه يشير إلى أن يتفاءل بالسعود (2) تعرضا لها، ويتطير بالنحوس تباعدا منها. وجميع ذلك ما يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع، ولما جعل عليه الصلاة والسلام الرؤيا بمنزلة الطائر المتطير به جعل تعبيرها على الامر المكروه بمنزلة وقوع الطائر موافقة بين أنحاء الكلام حتى تقع مواقعها، وتطبق مفاصلها، وقوله عليه الصلاة والسلام من بعد: فلا تحدثن بها إلا حبيبا أو لبيبا، يريد به النهى عن قصتها إلا على محب ناصح، أو لبيب راجح، لان المحب للانسان يتعمد حمل أموره على أجملها، ويتوخى مسرته بتحسين ما يحسن منها. وبخلاف ذلك يكون المبغض المباعد، والكاشح الموارب (3). وأما اللبيب وهو (هامش ص 343) (1) أي الذى يجوز أن يكون خيرا، ويجوز أن يكون شرا. (2) السعود: جمع سعد، والنحوس: جمع نحس. (3) الموارب: المداهن المخاتل الذى لا ينصح، والكاشح: المبغض.


[ 344 ]

العاقل فهو يعبرها على الوجه الصحيح الذى لا يوطئ فيه عشوة (1)، ولا يطلب مضرة. وبخلاف ذلك يكون الاخرق الجاهل، والغبى الغافل (2). 266 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام. ” إن الشيطان ذئب الانسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والشاذة “. وفي رواية أخرى، ” فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعمامة ” (3). وهذه من أحسن الاستعارات. وذلك أنه جعل الشيطان للانسان بمنزلة الذئب للشاة يأخذ البعيدة المتفردة، ويختلس الشاذة الشاردة، ويكون لجماعتها أهيب ولفرادها (4) أقرب. وكذلك الشيطان يقوى طمعه في الفذ الفريد، والشارد الوحيد، فيستهويه بهواجسه، ويجعله غرضا رجيما (5) لوساوسه، ويكونه في جماعة الناس أضعف طمعا، وبهم أقل تولعا. وفي هذا الكلام حث للناس (هامش ص 344) (1) يقال أوطأه عشوة: أركبه على غير هدى، والمعنى هنا: لا يفسر بغير علم. (2) في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الرؤيا بالطائر المحتمل أمره للخير والشر على ما كانت تعتقد العرب من أنه إذا طار من جهة اليمين كان خيرا، وإذا طار من جهة الشمال كان شرا وحذف وجه الشبه والاداة. (3) العمامة: الكثرة. (4) الفراد: جمع فريد. (5) رجيما: مذموما، لان من معاني الرجم الشتم.


[ 345 ]

على لزوم ؟ الجماعة في طاعة السلطان العادل والامام الفاضل، ويجوز أيضا أن يكون فيه حث لهم على لزوم الدين القويم والصراط المستقيم وترك الانفراد بالمذاهب، وسلوك الولائج (1) والعوادل (2). 267 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لينقضن الاسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة ” (3) هذه رواية فيروز الديلمى (4). وفي رواية أبى أمامة الباهلى: عرى الاسلام عروة عروة (5)، فكلما انتقضت عروة كان تشبث الناس بالتى تليها، فأولهن نقضا الحكم (6)، وآخرهن لتنقضن الصلاة، وهذه استعارة. (هامش ص 345) (1) الولائج: جمع وليجة، وهى الكهف ومنعطف الوادي، والمراد هنا الطرق غير الواضحة. (2) العوادل: جمع عادلة، وهى الطريق المعوجة. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان أولهما بليغ وثانيهما مرسل. الاول الشيطان ذئب الانسان أي كذئب الانسان في الاغتيال. فحذف وجه الشبه والاداة، والثانى كذئب الغنم شبه الشيطان بأنه كذئب الغنم فذكر أداة التشبيه، ووجه الشبه الاغتيال. (3) قوة قوة: القوة هي الخبط الواحد الذى يفتل مع غيره حتى يتكون منه الحبل. (4) فيروز الديلمى: صحابي روى عنه أبناؤه: الضحاك وسعيد و عبد الله. (5) العروة: العقدة، لان النسيج يكون له عقد عند نسجه، بكثرتها يصير النسيج متينا وبقلتها يصير غير متين، فجعل الاسلام كالنسيج ذى العقد. (6) الحكم: أي الخلافة، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول ما نقض من الاسلام هو الحكم إذ صارت الخلافة ملكا يتوارثه أبناء الخلفاء من عهد معاوية إلى ما بعده. (م – 22)


[ 346 ]

والمراد لتتركن العمل بشرائع الاسلام التى أحكم عقدها، ووكد العمل بها حتى تكاد تنمحي مراسمها، وتعفو معالمها، فيكون الاسلام كالحبل المنتقض من أطرافه، والمنتكث بعد استحصافه. والقوى: الطاقات التى يفتل منها الخيط ! والواحدة قوة، وجعل عليه الصلاة والسلام شرائع الاسلام كالعرى له من حيث كانت ربقا (1) للرقاب، وكان التعلق بها أمانا من العذاب، ونظير هذا الخبر الخبر الآخر الذى رواه البراء بن عازب عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: أي عرى الاسلام أوثق ؟ فعدد الحاضرون شيئا شيئا من شرائع الدين، فقال عليه الصلاة والسلام. أوثق عرى الاسلام أن يحب في الله ويبغض في الله (2). 268 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما من آدمى إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله “. وهذا النوع من جملة الاخبار التى توهم التجسيم وتقتضي التشبيه، قد ذكرناها في (هامش ص 346) (1) ربقا: جمع ربقة وهى القيد. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية حيث شبه ترك العمل بتعاليم الاسلام بنقض عقد الحبل بجامع الافساد في كل، واشتق من النقض بمعنى ترك العمل لتنقضن بمعنى تتركون العمل، على طريق الاستعارة التبعية، وفيه استعارة بالكناية حيث شبه الاسلام بالنسيج في تكون كل منهما من أشياء تحصل بانضمامها إلى بعضها جملته، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه، ونسبة النقض للاسلام تخييل، وفيه تشبيه مرسل حيث شبه نقض الاسلام بنقض الحبل وذكر اداة التشبيه وهى الكاف.


[ 347 ]

أول كتابنا هذا أنا نغفل الكلام عليها لان جماعة من علماء الشريعة واللغة قد سبقونا إلى استقصاء القول فيها، وإنما نذكر منها ماله دخول في باب الاستعارة بجهة من الجهات، إلا أنا نتكلم على هذا الخبر هاهنا لضرب من الاستظهار، فنقول: إن كان نقله صحيحا فله وجه في كلام العرب يسوغ حمله عليه ورده إليه مما يوافق صفات الله سبحانه الذى لا يشبه الخلق التى خلقها، والبرايا التى براها، وصورها وهو: أن الاصبع في كلام العرب اسم للاثر الحسن التى تظهر سمته وتشهر علامته، يقال لفلان في ماله إصبع حسنة أي قيام محمود وأثر جميل. وعلى ذلك قوله الراعى (1) يصف راعيا لابله. ضعيف العصا بادى العروق ترى له * عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا أي ترى له عليها أثرا حسنا، وقد قيل أيضا: إن المراد بذلك إشارة الناس إليها بالاصابع لحسنها وشارتها. وقوله: ضعيف العصا، يريد أنه لا يكثر ضربها، ولا يعتنف بها، وذلك أجدر بأن تشحم أبدانها، وتغزر ألبانها، ومثل هذا قول الشاعر الآخر، وقد تقدم ذكره: عليها شريب وادع لين العصا * يساجلها جماته وتساجله وأنشد الخليل بن أحمد في كتاب العين لبعض العرب: أغر كضوء البدر في كل منكب * من الناس نعمى يحتذيها وإصبع (هامش ص 347) (1) هو الراعى النميري الشاعر المعروف.


[ 348 ]

يحتذيها هاهنا: يعطيها، كأنه يفتعلها من الحذى (1)، كما تقول يصطنعها، والمنكب عندهم: اسم لكل اثنتى عشرة عرافة (2)، ويسمى الرجل الذى يلى ذلك منكبا (3)، وهو من يدبر هذه العدة من العرفاء، وقال شاعر آخر في معنى الاصبع أيضا: من يجعل الله عليه إصبعا * للخير والشر يصادفه معا أي من يجعل الله عليه أثرا يستدل به على أنه من أهل الخير: أو من أهل الشر يصادف الجزاء على كلا الفعلين من ثواب أو عقاب ونعيم أو عذاب، وذلك الاثر الذى يجعله الله عليه هو استحقاق الحمد من الناس إن كان محسنا، أو استحقاق الذم منهم إن كان مسيئا. فإذا تمهدت (4) الذى قررناه كان معنى لفظ الخبر: مامن آدمى إلا وقلبه من الله سبحانه بين نعمتين حسنتين: إحداهما مامن به عليه من معرفة خالقه ورازقه، والاخرى الغبطة بما أنعم به عليه من (هامش ص 348) (1) الحذى: كان حقه أن يقول من الحذو، لانه يقال: حذا فلان فلانا إذا أعطاه عطية وهى الحذوة بكسر الحاء، ويقال أيضا: أحذاه بمعنى أعطاه، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح والجلبس السوء كصاحب المسك وكير الحداد، فصاحب المسك إما أن يحذيك أو تبتاع منه) الحديث. أي إما أن يعطيك مسكا. (2) العرافة: جماعة من الناس يكون عليهم عريف، أي رئيس بعرفهم وهم من ثلاثة إلى عشرة. (3) أي الذى يرأس العرافات الاثنى عشرة. (4) تمهدته: قبلته وفهمته.


[ 349 ]

تحسين خلقه وتوسيع رزقه، وذلك يوجب عليه الخروج إليه تعالى من حق الشكر على مننه، وإحسان الجوار لنعمه، وقد عبر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة أخرى قال: للمراد بذلك تقلب القلوب بين حسن آثار الله عليها، وهذا القول مجمل، والقول الذى ذكرناه من قبل مفصل. فأما ما تذهب إليه المشبهة من أن الاصبع هاهنا على حقيقتها، وأن لله سبحانه أصابع ويدا وساقا وقدما إلى غير ذلك، فهو من الجهالات التى تدفعها العقول بأوائلها، وتقضى بفسادها قبل إعمال النظر فيها، وكيف يصح هذا القول لهم، ويقوم في عقولهم مع اعتقادهم أن الله سبحانه مستو على العرش كاستواء القاعد في مقعده، والمتمهد على مهاده، وأن بينه وبين المخلوقين من بنى آدم سبع سموات، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك (1) كل سماء مثل ذلك، فيكف يسوغ أن تكون أصابعه (تعالى عن ذلك علوا كبيرا) واصلة إلى قلوب خلقه مع هذا البعد العظيم، والمدى الطويل ؟ ولو كان ذلك على حقيقته لوجب أن يكون له من الاصابع مالا نهاية له حتى يختص قلب كل عبد من عبيده بإصبعين من أصابع يده. هذا لعمر الله القول المتفاسد، والظن المتكاذب، وبمثل هذا الجواب نجيب من سأل عن قوله تعالى: ” ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو (هامش ص 349) (1) السمك: الارتفاع. (*)


[ 350 ]

رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ” الآية. فنقول: أراد سبحانه أنه معهم بالعلم والاحاطة لا بالدنو والمقاربة، لان الامر لو كان على ذلك لكان المعنى مستحيلا، وذلك أنه تعالى لا يجوز أن يكون مع كل ثلاثة، ولا مع كل خمسة في حال واحدة على الحقيقة، لان الجسم لا يصح أن يكون في مكانين في حال واحدة، تعالى الله عن تنقل الامكنة وتقلب الازمنة علوا كبيرا. ومما يبين كذب قولهم، وفساد تأويلهم، ما رواه أبو معاوية الضرير وغيره عن الاعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ” أتى النبي عليه الصلاة والسلام رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله يحمل السموات على إصبع، والارض على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع ؟ فضحك صلى الله عليه وآله من قوله، وأنزل الله سبحانه عقيب ذلك – وما قدروا الله حق قدره ” – الآية. وقد روى أيضا في حديث عبد الله بن عباس: أن من زعم أن الله خنصرا وبنصرا فقد أشرك بالله سبحانه، ومجال كتابنا هذا أضيق من أن نسير في أقطار الكلام على هذا الخبر أكثر من هذا المسير، وقد استقصينا ذلك في كتاب حقائق التأويل (1). (هامش ص 250) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل على ما ذكره الشريف، حيث استعمل الاصبعين في أثرى نعمة الله اللتين ذكرهما الشريف والعلاقة السببية لان الاصابع هي محدثة الاثر = (*)


[ 351 ]

269 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان. الحرص على الحياة، والحرص على المال ” وفي رواية أخرى: ” الحرص والامل “. وهذه استعارة، كأنه عليه الصلاة والسلام جعل زيادة هاتين الخلتين (1) في الانسان مع نقصان عمره، وتدانى أجله، بمنزلة الشباب المقبل، والعمر المستقبل، فكلما ازدادت حوامل جسمه ضعفا وانتقاضا، زادت جواذب أمله قوة واستحصافا، فيكون أضعف ما كان بدنا وشخصا، أقوى ما يكون أملا وحرصا. وروى هذا الخبر أبو هريرة على خلاف هذه الرواية قال: قال عليه الصلاة والسلام: ” قلب الكبير شاب على حب اثنتين: حب الحياة وحب المال (2) “. (هامش ص 351) = وأرى أن في الحديث تشبيها بليغا، حيث شبه قلب بنى آدم في قدرة الله عليه وتصريفه حيث يشاء بالشئ الكائن بين أصبعين من أصابع الله، وحذف وجه الشبه والاداة. (ملحوظة) يرى السلف أنه لا مانع من إثبات الاعضاء التى يثبتها القرآن والحديث لله تعالى، بعد الحزم بعدم مشابهتها للحوادث، ولكن التأويل كما ذهب إليه الشريف هو رأى المتأخرين، ويراه العلماء أسلم في زماننا هذا. (1) الخلة: بفتح الخاء: الخصلة والطبيعة. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه شدة الحرص على المال وعلى الحياة بالشباب بجامع القوة في كل، واشتق من الشباب بمعنى القوة، يشب بمعنى يقوى، على طريق التبعية. (*)


[ 352 ]

270 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ” وهذه استعارة، والغض في كلامهم صفة للثمر، أو النبت الذى لم يطل مكثه ؟ ؟ بعد مجتناه، فيؤثر فيه الزمان، ويدخله التغيير والفساد. ويقولون: غض وغضيض بمعنى واحد، والغضيض أيضا عندهم اسم من أسماء الطلع، فأراد عليه الصلاة والسلام أن من يأخذ القرآن عن ابن أم عبد، وهو عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه، أو يسلك في القراءة نهجه، ويطلع فجه (1) فقد أخذه سليما من الفساد والتغيير، وبريئا من التحريف والتبديل، فهو كالنبات الغض لم يطل عهد جانيه، ولا دب الفساد فيه (2). وقد روى هذا الخبر على وجه آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل. والمعنى في الروايتين واحد، وروى أبو هريرة: من أحب أن يقرأ القرآن غريضا كما أنزل، والغريض: الطرى، وهو أيضا في معنى الروايتين الاوليين (3). (هامش ص 352) (1) الفج الطريق. (2) أي هو طازج، ما زال فيه الرواء والنضرة. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه قراءة القرآن على قراءة ابن مسعود بالغضاضة وهى كون الشئ في أول أمره (طازج) واشتق من الغضاضة غضا بمعنى طازجا على طريق الاستعارة التبعبة، ويجوز أن يجعل تشبيها بليغا، لان غضا حال من القرآن فيكون على حد قولهم: ” بدت قمرا ومالت خوطبان ” وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 353 ]

271 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لاصحابه: ” لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليلحينكم الله كما لحيت عصاي هذه ” لعود في يده. وفي هذا الكلام موضع استعارة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ليلحينكم الله، والمراد ليتنقصنكم الله في النفوس والاموال، وليصيبنكم بالمصائب العظام فتكونون كالاغصان التى جردت من أوراقها، وعريت من ألحيتها (1) وألياطها فصارت قضبانا مجردة وعيدانا مفردة، وهم يقولون لمن جلف (2) الزمان ماله، أو سلبه أولاده وأعضاده (3)، قد لحاه الدهر لحى العصا، لان ما كان ينضم إليه من ولدته (4) وحفدته، ويسبغ عليه من جلابيب نعمته، بمنزلة اللحاء للقضيب، والورق للغصن الرطيب، فإذا أخرج عن ذلك أجمع، كان كالعود العارى، (هامش ص 353) (1) الالحية: جمع لحاء، وهو قشر الشجرة، وفي قشرها قوة لها، فإذا زال القشرة تعرض جسمها الداخلي لعوامل الجو فتؤثر فيها، والالياط: جمع ليطة، وهى قشر القصبة والعود من الخشب ونحوهما، فهى بمعنى لحاء. (2) جلف الزمان ماله: أصل جلف قشر مثل لحا، والمراد هنا ذهب الزمان بماله، شبه إذهاب الزمان للمال بتقشير العود ونحوه، لان القشر ساتر وذهاب المال ذهاب للستر. ومثل ذلك الاولاد والاعضاد، لان فيها قوة كما أن في القشر قوة للعود، ويمكن تجربة ذلك في عود القصب إذا حاولت كسره قبل تقشيره كان صعبا، فإذا قشرته وحاولت كسره انكسر بسهولة. (3) الاعضاد: جمع عضد، بوزن رجل وكتف، هو ما بين المرفق إلى الكتف، والانسان يستعين بعضده ويقوى به، والمراد هنا الانصار والمساعدون تشبيها بالاعضاد. (4) الولدة: جمع ولد، والولد يطلق على المفرد والجمع. (*)


[ 354 ]

والقضيب الذاوى (1). 272 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم ” وهذه استعارة، لانه عليه الصلاة والسلام شبه تناول الانسان من عرض غيره بالذم والوقيعة، والطعن والعضيهه (2) أكثر مما تناوله منه ذلك الذى قدح في عرضه وأغرق في ذمه، بالربا في الاموال، وهو أن يعطى الانسان القليل ليجر الكثير، فإنه يستربى المال بذلك الفعل: أي يطلب نماءه وزيادته، وأصل الربا عندهم مأخوذ من الزيادة، يقولون ربا الشئ في الماء إذا زاد وانتفخ، ومنه الرباوة والربوة، وهى ما علا من الارض وارتفع، ومن ذلك قوله تعالى: ” وترى الارض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ” أي رطب ثراها وبل، وكثر نبتها واتصل (3). (هامش ص 354) (1) الذاوى: الذابل الذى قل غذاؤه، أو قطع فذبل وضعف. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه نقص الله للناس في المال والولد بلحى الشجر وقشره، بجامع النقص والاضعاف في كل، واشتق من اللحى بمعنى النقص يلحين بمعنى ينقصن على طريق الاستعارة التبعية، وفيه استعارة بالكناية، حيث شبه ؟ ؟ الناس بعيدان الشجر، وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو اللحى، وإثبات اللحى إلى الناس تخييل. (2) العضيهة: الكذب والنميمة (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه غيبة المرء لاخيه المسلم بأبشع الربا، والربا حرام والزيادة فيه أكثر حرمة فكأنه عليه الصلاة والسلام قال ” استطالة المرء في عرض أخيه المسلم من أحرم المحرمات ” فوجه الشبه الحرمة وارتكاب الذنب، وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 355 ]

273 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” في صفة الخوارج والخبر طويل: يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا يجاوز حناجرهم “، وهذا القول مجاز. والمراد أنهم لا يعملون بأحكام القرآن وفرائضه، ولا يأتمرون بأوامره ولا ينزجرون بزواجره وكأنهم ليس لهم منه إلا الصوت الخارج من حناجرهم. يقول عليه الصلاة والسلام لا يعرف القرآن عندهم إلا بهذه (1) وتلاوته، دون العمل بأحكامه وواجباته. وقد روى أيضا لا يجاوز تراقيهم (2)، والمعنى واحد (3). 274 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لمخاطبين من أهله سألاه في حديث طويل: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تنطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم “. وفي هذا القول مجاز، وأهل الصفة هم فقراء المهاجرين، فكأنه عليه الصلاة والسلام (هامش ص 355) (1) الهذ: سرعة القراءة، يريد الشريف أن سرعة القراءة عندهم وكثرة ما يتلون من القرآن هي التى تهمهم، أما العمل بالقرآن وتدبر آياته فليسوا منه في شئ. (2) التراقي: جمع ترقوة، وهى مقدم الحلق في أعلى الصدر، حيثما يترقى فيه النفس، ومعنى ولا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم، أن القرآن بخرج ألفاظا من حلوقهم وأفواههم ولا بجاوز ؟ ؟ حلوقهم إلى الداخل، فتتلقاه قلوبهم بالتدبر والقبول فهو ألفاظ فقط لا معاني لها في مفهومهم. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية، حيث كنى بعدم مجاوزة القرآن لحناجر الخوارج عن عدم تدبرهم له وعملهم به. (*)


[ 356 ]

شبه بطونهم من الخمص (1) والهضم (2)، لقلة الزاد والمطعم، بالاوعية الفارغة التى تنطوى لفراغها، وتنضم لخلو أجوافها. وقد يجوز أيضا أن يكون إنما شبهها بالبرود المثنية (3)، والخماص (4) المطوية، لانضمام بعضها على بعض من خلو الاحشاء، وبعد العهد بالغذاء. وقد يجوز أيضا أن يكون تنطوى بطونهم هاهنا تنفعل من الطوى وهو الجوع، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: تتجوع بطونهم. وهذا القول يخرج الكلام من حيز الاستعارة ويدخله في باب الحقيقة (5). 275 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الايمان قيد الفتك (6) ” وهذه استعارة. والمراد بذلك أن الانسان المؤمن يمتنع لاجل إيمانه أن يسفك الدم الحرام طاعة لامر الحمية، وركوبا (هامش ص 356) (1) الخمص: خلو البطن. (2) الهضم: هو الخمص. (3) الاثواب المطوية. (4) الخماص: جمع خميصة، وهى كساء أسود مربع له علمان، يريد الشريف كالاكسية المطوية. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية وتبعية، أما المكنية: فهى تشبيه بطون أهل الصفة بالشئ الذى ينطوى إذا فرغ منه الهواء كالقربة ونحوها، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو تنطوى، وإثبات الانطواء إلى البطون تمثيل، وأما التبعية: فحيث شبه خلو البطون من الطعام بالانطواء ؟ ؟ والانثناء، واشتق من الانطواء تتطوى بمعنى تجوع، على طريق الاستعارة التبعية. (6) الفتك بتثليث الفاء وسكون التاء: فعل ما تدعو إليه النفس، فالاسلام يقيد المسلم بقيود تمنعه من فعل جميع ما تشتهيه نفسه، فلا تفعل إلا ما تشتهيه من الخير، أما الشر فيمنعه منه. (*)


[ 357 ]

لسنن الجاهلية، فكأن إيمانه قد فتكه فتماسكه ؟، وضبط تهالكه (1). ومثل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لخوات بن جبير الانصاري وكان خليعا (2) قبل إسلامه: ” ما فعل شراد (3) بعيرك يا خوات ؟ ” فقال: قيده الاسلام يا رسول الله. إلا ترى كيف شبهه عليه الصلاة والسلام في ريعان خلاعته، وعنفوان نزاقته، بالبعير الشارد الذى قد فارق مراحه (4)، أو تبع ارتياحه. وكيف أجاب هذا الانسان عن كلام النبي عليه الصلاة والسلام بما هو من جنسه، وماض على نهجه فقال: قيده الاسلام، لانه عليه الصلاة والسلام لما جعله بمنزلة البعير الشارد، جعل هو مارده (5) عن ذلك الشراد، وعكسه عن تلك الحال بمنزلة القيد والعقال. وهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله أيضا داخل في باب المجاز (6). (هامش ص 357) (1) هذا الذى ذكره الشريف بعض ما منع الاسلام منه من الفتك، ولعل الشريف خصه لعظم شأنه وكونه أجهل الفتك. (2) الخليع: هو الذى يؤخذ لا بجريرته لعدم التعويل عليه والاعتداد به، فهو كالسائمة لا يؤبه له. (3) الشراد: مصدر شرد البعير، إذا ند وهرب. (4) المراح: مكان مبيت الابل والدواب. (5) الضمير لخوات رحمه الله، وكذلك في عكسه. (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الايمان بالقيد الذى يمنع النفس من فعل ما تشتهى، والاسلام ليس قيدا على الحقيقة وإنما لما منع النفس من مزاولة شهواتها كان كالقيد. وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 358 ]

ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الصبر عند الصدمة الاولى “. وفي رواية أخرى: ” الاجر عند الصدمة الاولى “. وهذا القول مجاز، المراد بالصدمة أول ما يطرق الانسان من النوائب، ويبدهه (1) من المصائب، فشبه ذلك عليه الصلاة والسلام في شدة وقعته وعظيم روعته، بصدمة الجسم الشديد، أو صكة الحجر الثقيل في أنه يوهن ويحطم ويرمض (2) ويؤلم. فإذا صبر الانسان لتلك الوقعة، وتماسك تحت تلك الروعة، وسلم للاقضية النازلة والاقدار الغالبة، ولم ينفذ في جواذب الجزع ويركض في مضمار القلق أعطى الاجر برمته (3)، وقيد إليه بأزمته، لان ما يطرق الانسان وهو ذاهل، ويفجؤه وهو غافل، أعظم نكاية لقلبه وإيجاعا لنفسه مما يطرق وقد أخذ له أهبته، وأعد له عدته (4). 277 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” والذى نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه “. في حديث (هامش ص 358) (1) يبدهه: يفجؤه ويقع له أول مرة. (2) يوجع ويحرق. (3) جميعه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه وقع المصيبة المفاجئة على نفس الانسان بالصدمة التى هي اصطكاك شئ صلب بآخر صلب، وفي ذلك مبالغة، لان اصطدام الصلب بالصلب أشد من اصطدام اللين باللين، واللين بالصلب، ووجه الشبه شدة التأثير في كل واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (*)


[ 359 ]

طويل، وهذه استعارة، والمراد بإسلام قلبه سلامته من الاخبات (4)، وبإسلام لسانه تسلمه من الارفاث (3)، فلا يعتقد قلبه شرا ولا يقول لسانه هجرا، والدليل على إرادته عليه الصلاة والسلام هذا المعنى قوله في تمام الكلام: ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ” المسلم من سلم الناس من لسانه ويده “، وكأنه عليه الصلاة والسلام جعل تمام إسلام العبد: أن يكف قلبه عن اعتقاد المقبحات، ويده عن فعل المحظورات، ولسانه عن قول المقذعات (2). 278 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الله (هامش ص 359) (1) الاخبات: الخشوع والتواضع، والمراد سلامة قلبه من الاخبات والخضوع لغير الله سبحانه وتعالى فلا يخشع إلا له ولا يخضع إلا لامره. (2) الارفاث: جمع رفث، وهو الفحش وقد وردت هذه الكلمة في الطبعة الاولى لهذا الكتاب (الا رفات) بالتاء، وفي الطبعة الثانية الآفات جمع آفة، وليس المراد الآفات، وإنما المراد الارفاث لانها التى يتعلق بها اللسان، ويدل على ذلك شرح الشريف لسلامة القلب واللسان بقوله فلا يعتقد قلبه شرا ولا يقول لسانه هجرا، والهجر الفحش، والفحش الرفث. (3) المقذعات: جمع مقذعة، وهى الكلمة الفاحشة، يقال قذعه وأقذعه إذا رماه بالفحش. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه عدم اعتقاد القلب شيئا مخالفا بالاسلام وعدم نطق اللسان بالفحش بالاسلام، بجامع السير على النهج القويم في كل، واشتق من الاسلام بمعنى السير على النهج القويم، يسلم بمعنى يسير على النهج القويم، على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 360 ]

سبحانه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ” (1) وهذا القول مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام شبه ما حرمه الله تعالى من محارمه، ونهى عباده عن تقحمه (2) بالحمى الذى يحمى رعيه (3) ويمنع رعيه، وشبه عليه الصلاة والسلام المتعرض لحرمة من تلك الحرمات بمن هجم في الحمى مقدما، واطلع فجأة متقحما. وقد مضى الكلام على نظير هذا الخبر فيما تقدم من كتابنا هذا (4). 279 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل ذكر فيه بنى إسرائيل: ” نهاهم علماؤهم عن المعاصي فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ” فقوله عليه الصلاة والسلام: فضرب الله قلوب بعضهم ببعض كأنه تعالى خلطها بأن شهد على جميعها بالضلال، ولم يميز بين قلوب العلماء والجهال إذ كان الضلال شاملا لهم والغواية ضاربة بسياجها عليهم، (هامش ص 260) (1) اطلع مثل طلع، يقال: طلع علينا واطلع وطلع الجبل واطلعه. (2) تقحم الشئ اقتحامه: والدخول فيه. (3) الرعى: بكسر الراء الكلا، والرعى بفتح الراء: أكل الكلا. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه فعل المحرمات بطلوع الجبل ونحوه واقتحامة، بجامع الدخول في الشئ واقتحامه في كل، واشتق من الطلوع بمعنى الفعل اطلع بمعنى فعل على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 361 ]

ومن ذلك قوله: القائل ضربت بعض بنى فلان ببعض إذا ألقى بينهم حربا يختلطون فيها، أو عداوة يتناوشون عليها، ونظير ذلك الخبر مروى عنه عليه الصلاة والسلام وهو قوله: أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض: أي أن تجعلوا حرامه حلالا، وحلاله حراما، فكأنكم قد خلطتموه، فجعلتم أعلاه أسفله، ومفهومه مبهومه (1). 280 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الايدى ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطى بلغ قبالا (2) الوسطى، ويد السائل السفلى “. وقد مضى هذا الخبر فيما تقدم إلا أن فيه هاهنا زيادة لاجلها أعدنا الكلام عليه، وهى قوله عليه الصلاة والسلام فيد الله العليا. وهذا القول مجاز، ويد الله سبحانه هاهنا نعمته، وهى أعلى النعم لانها أصل لها وأم لجميعها، لان كل من أعطى عطاء (هامش ص 361) (1) المبهوم: الذى لا يدرى أوله من آخره، أو الذى لا يدرى من أي مكان يوصل إليه. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه خلط القلوب بعضها ببعض وعدم التمييز بينها بضربها بعضها ببعض، بجامع الاختلاط في كل. لان ضرب الشئ، بالشئ يصله به ويخلطه، واشتق من الضرب بمعنى الخلط، ضرب بمعنى خلط، على طريق الاستعارة التبعية. (2) القبال: بضم القاف: الناصية، وقبال كل شئ أوله، والمراد بقوله بلغ قبالا: أي بلغ درجة من الارتفاع والعلو محدودة فكانت يده الوسطى لانها لم تبلغ النهاية في العلو. (*)


[ 362 ]

أو حبى حباء، فإنما أعطى مما خوله الله سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لكانت كفه جامدة، وريح أريحيته راكدة، ولاجل ذلك يقول في الحياة إنها أول النعم، ويريد بذلك أنها أول في الرتبة، لافتقار كل نعمة إليها، وصحة وجودها متفردة بنفسها، غير مفتقرة إلى غيرها، فصارت أولى في الرتب وإن جاز أن يوجد معها غيرها من النعم، وفيما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسن عبد الجبار بن أحمد فيما قرأته عليه من أوائل كتابه المعروف بشرح الاصول الخمسة: أن النعمة هي المنفعة أذا قصد بها فاعلها وجه الاحسان، فإن قيل: فما المنفعة ؟ قيل اللذات والمسار وما أدى إليها، إذا لم يعقب ضررا أعظم منها، فإن قيل: فما اللذات ؟ قيل: ما يعلمه كل أحد من نفسه في إدراك ما يشتهيه ما مآكله ومشاربه ومناظره وملابسه، إلى غير ذلك من الامور التى يدعو العلم بها إلى التوصل إليها. فأما السرور فهو اعتقاد ذلك، أو الظن له، وليس بمعنى سوى ما ذكرناه، وما يؤدى إلى اللذات في كونه نعمة كاللذات. ولذلك نعد من مكن غيره من الوصول إلى الملاذ بالدنانير والدراهم منعما، وإن كانت أعيان الدراهم والدنانير لا لذة فيها، ولهذا الوجه نعد التمكين من هذه الامور نعمة حتى نقول: إن الله سبحانه منعم بالتكليف الذى هو وصلة إلى النعيم المقيم والثواب العظيم، ولاجله أيضا قلنا في المصحح للنعم إنه نعمة، كما


[ 363 ]

نقول في الحياة والشهوة، وإن كانا يترتبان (1)، وقد عد في ذلك أيضا دفع المضار والغموم، وما يؤدى إليهما. ولذلك نقول: إن الله سبحانه لو عفا عن العصاة كان منعما عليهم، ولو سهل لهم السبيل إلى الفرار من النار كان محسنا إليهم، وليس يحتمل كتابنا هذا أكثر من القدر المذكور في هذا المعنى، وكأنه عليه الصلاة والسلام جعل يد الله العليا للعلة التى ذكرناها، وجعل يد المعطى الوسطى لانها تليها، وجعل يد السائل السفلى، لانها مصب فضلها، وقرارة سيلها، وقد تقدمت الاشارة إلى جملة هذا المعنى فيما تقدم من الكلام (2). 281 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ليلة الجمعة غراء ويومها أزهر “. وهاتان استعارتان. والمراد أن ليلة الجمعة متميزة من سائر الليالى بتعظيم قدرها وتشريف العمل فيها، فقد صارت لاجل ذلك كالفرس الغراء التى تبين من البهم (3) (هامش ص 263) (1) يترتبان: أي الحياة أولى والشهوة ثانية، لان الحياة هي أولى النعم لانها سبب لجميعها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه نعمة الله باليد، بجامع أن كلا منهما سبب الاحسان، واستعمل لفظ المشبه ؟ ؟ به في المشبه، والقرينة المانعة أن الله تعالى ليس له يد، هذا على رأى الشريف، أما على رأى السلف الذين يرون أنه لا مانع من كون الله له يد ليست كأيدي البشر، فليس في الكلام استعارة. (3) البهم: جمع بهيم أو بهيمة، وهو مالا شبه فيه من الخيل، كأن يكون أسود خالصا أو أحمر خالصا، والغراء: الفرس التى في جبهتها بياض وهى سوداء أو حمراء فلذلك تبين وتظهر من الافراس البهم. (*)


[ 364 ]

والشهباء التى تتميز عن الدهم (1). وكذلك المراد يكون يومها أزهر، والازهر: الشديد البياض، كأنه لتميزه من الايام يعظم القدر وشرف الذكر، قد زاد عليها إيضاحا، وكثرها (2) غررا (3) وأوضاحا (4). 282 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل: ” ألا إن عمل الجنة حزن (5) بربوة، ألا إن عمل النار سهل بسهوة (6) وما من جرعة أحب إلى الله سبحانه من جرعة (هامش ص 364) (1) الدهم: جمع أدهم، وهو الاسود، والشهباء: البيضاء، والفرس البيضاء تتميز من الافراس الدهم. (2) كثرها: زاد عليها وغلبها في الكثرة لان هذا الوزن للمغالبة، يقال كاثرته في المال أو في الولد فكثرته: أي غلبته في هذا المعنى فزدت عليه فيه. (3) الغرر: جمع غرة، وسبق بيانها، والاوضاح: جمع وضح بوزن قمر، وهو بمعنى الغرة، فهو من عطف المرادف. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبه ليلة الجمعة بالفرس الغراء التى في جبهتها بياض، بجامع الحسن والتميز على غيرها، وحيث شبه يومها بالثوب الازهر الشديد البياض، بجامع الحسن والتميز على غيره، وحذف وجه الشبه والاداة. (5) الحزن من الارض: الصعب الشديد الذى لا يستطيع الانسان السير فيه بسهولة لغلظه واختلافه ارتفاعا وانخفاضا، والربوة: الارض المرتفعة وهى تحتاج في صعودها إلى جهد ومشقة، فكأن عمل الجنة مشقة مضاعفة، فهو ذاته صعب ومكانه عال. (6) السهل: من الارض الذى لا يحتاج السير فيه إلى مشقة، والسهوة: الارض اللينة الواطئة التى يسهل الانحدار إليها، فكأن عمل النار سهولته مضاعفة، فالسير فيه سهل ومكانه منخفض يتأتى الانحدار إليه بل هو يجذب إلى فعله، لان المنحدر يزلق الناس إليه. (*)


[ 365 ]

غيظ يكظمها (1) عبد “. وفي هذا الكلام مجازان. (أحدهما) قوله عليه الصلاة والسلام: ألا إن عمل الجنة حزن بربوة. ألا إن عمل النار سهل بسهوة، فجعل عليه الصلاة والسلام عمل الجنة كالحزن من الارض، وهو ما غلظ منها، لانه يصعب تجشمه، فكذلك عمل الجنة يشق تكلفه، وزاد عليه الصلاة والسلام الكلام إيضاحا بقوله: حزن بربوة، فلم يرض بأن جعله حزنا حتى جعله بربوة، وهى الاكمة العالية ليكون تجشمه أشق وتكلفه أصعب، ولم يرض عليه الصلاة والسلام بأن جعل عمل النار سهلا وهو ضد الحزن حتى جعله بسهوة ليكون أخف على فاعله وأهون على عامله. (والمجاز الآخر) قوله عليه الصلاة والسلام: وما من جرعة أحب إلى الله سبحانه من جرعة غيظ يكظمها عبد. فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل كظم الغيظ بمنزلة الجرعة المؤثرة التى يجرعها الانسان، فيجد مذاقها مرا ويجد غبها (2) حلوا. ولهذا المعنى شبهوا ما يجده الانسان من حرارة حزن وحرارة هم، بالشجا (3) المعترض في الحلق، وشبهو ما يلحقه من منظر يأباه، وملحظ لا يهواه، بالقذى (هامش ص 365) (1) يكظمها: يكتمها في نفسه ولا ينفذ مقتضاها، فلا ينتقم ممن غاظه. (2) غبها: عاقبيها. (3) الشجا: الشوكة. (*)


[ 366 ]

العارض في الطرف (1)، لان الاول يحبس مجارى أنفاسه، والثانى يمنع مجال ألحاظه (2). 283 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” شفاء العى (3) السؤال “، وهذا القول مجاز. والمراد أن الشئ إذا عى الانسان به، ولم يثلج صدره بمعرفته، كان في السؤال عنه بيان التباسه وسراح احتباسه، فأقام عليه الصلاة والسلام العمى بمعرفة الامر مقام الداء المطاول والكرب المماطل وأقام السؤال عنه إذا أدى إلى العلم مقام الشفاء المزيح (4)، والفرح المريح (5). (هامش ص 266) (1) القذى: القذر والوسخ، والطرف: العين. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهات ثلاثة بليغة. الاول: تشبيه عمل الجنة بالمكان الحزن فوق ربوة عالية، بجامع صعوبة الوصول إليه في كل، والثانى: تشبيه عمل النار بالمكان السهل في السهوة بجامع سهولة الوصول إليه في كل، وحذف وجه الشبه والاداة. أما الثالث: ففى قوله ” جرعة غيظ ” حيث شبه الغيظ بجرعة الدواء المر التى يتجرعها المريض، ويحمل نفسه على قبولها، ولكنه يجد أثرها حسنا، شفاء وعافية. وهذا التشبيه الاخير أضيف فيه المشبه به للمشبه على حد قولهم: ” لجين الماء ” و ” ذهب الاصيل “. (3) العى: مصدر عى بالامر وعيى به: إذا لم يهتد لوجهه ولم يعرف طريق الوصول إلى مغالقه. (4) المزيح: المبعد للمرض. (5) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبه الجهل بالمرض، بجامع الفساد والالم في كل، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الشفاء، وإضافة الشفاء إلى العى تخييل. (*)


[ 367 ]

284 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلمات قالهن لعبد الله بن عباس: ” احفظ الله يحفظك، احفظه تجده تجاهك ” وفي رواية أخرى ” تجده أمامك “. وهذا مجاز، لان الله سبحانه أمامنا وخلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا من طريق الحفظ لنا والاحاطة بنا، فليس يختص ذلك منا بجهة دون جهة وبحالة دون حالة إلا أن المراد بتجاهك وأمامك هاهنا أنك تجد حفظه ومعونته حيث توجهت وأى طريق سلكت. وذلك كقول الشاعر في التخويف بالله تعالى وهو نظير للحال التى كلامنا عليها: * والله يصبح من أمام المدلج * (1) أي لا يفوته هارب، ولا يضل عنه شارد (2). 285 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” العين حق تستنزل الحالق “. وهذا مجاز، والمراد أن الاصابة بالعين من قوة تأثيرها وتحقق أفاعيلها، كأنها تستهبط العالي من ارتفاعه، وتستقلق (3) (هامش ص 367) (1) المدلج: السائر بالليل، والمراد هنا الذى يستخفى من الله بفعل المحرمات بينه وبين نفسه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته المصدرية (المحلية) وعبرنا عنها بالمصدرية تأثما، لان الله تعالى لا يحل فيه شئ، وبيان المجاز أن عبر بضمير الجلالة في قوله تجده التى تصدق على ذاته الكريمة عن حفظه وصيانته وإنقاذه فمعنى تجده تجد حفظه. (3) تستقلق: أي تزحزح وتحرك، والسين والتاء زائدتان للمبالغة. والمعنى تقلق وتحرك. (*)


[ 368 ]

الثابت بعد استقراره، والحالق: المكان المرتفع من الجبل وغيره، فجعل عليه الصلاة السلام العين كأنها تحط ذروة الجبل من شدة بطشها وحدة أخذها، وقد تناصرت (1) الاخبار بأن الاصابة بالعين حق، والذى يقوله أصحابنا (2) أن الله سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الافعال التى يفعلها، والاقدار التى يقدرها، وإذا تقررت هذه القاعدة فغير ممتنع أن يكون تغييره تعالى نعمة زيد مصلحة لعمرو (3)، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو لم يسلب زيدا نعمته، ويخفض منزلته، أقبل على الدنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعطفه، وأقدم على المغاوى، وارتكس في المهاوى، وإذا سلب سبحانه نعمة زيد للعلة التى ذكرناها عوضه عنها وأعطاه بدلا منها عاجلا أو آجلا. وإذا كان ذلك كما قلنا، وقد روى عنه صلى الله عليه وآله ما يدل على أن الشئ إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره، وصغره أمره لم ينكر تغيير حال بعض الاشياء عند نظر بعض الناظرين إليه، واستحسانه له وعظمه في صدره، وفخامته في عينه. كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: لما (هامش ص 368) (1) تناصرت: قوى بعضها بعضا من كثرة ما وردت في هذا المعنى. (2) يريد بأصحابه المعتزلة، ورأيهم في ذلك غير قوى، لان الله تعالى يفعل الصالح وغير الصالح، وهو الضار النافع، والمعطى المانع. (3) يريد أن الله تعالى يفعل المصلحة لعباده على وجه العموم لا على وجه الخصوص، وهذا تعليل لمذهب المعتزلة حتى يكون مقبولا من جهة قولهم برعاية الله لمصلحة عباده. (*)


[ 369 ]

سبقت ناقته العضباء (1)، وكانت إذا سوبق بها لم تسبق: ما رفع العباد من شئ إلا وضع الله منه، فيمكن أن يتأول قوله عليه الصلاة والسلام: العين حق على هذا الوجه، ويجوز أن يكون ما أمر به المستحسن للشئ عند رؤيته له من إعاذته بالله والصلاة على رسول الله قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشئ المستحسن، فلا تغير عند ذلك لان الرائى قد أظهر الرجوع إلى الله سبحانه والاخبات له، وأعاذ ذلك المرئى به، فكأنه غير راكن إلى الدنيا، ولا مغتر بها، ولا واثق بما يرى عليه أحوال أهلها. ولعمرو بن بحر الجاحظ في الاصابة بالعين مذهب انفرد به، وذلك أنه يقول: إنه لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشئ المستحسن أجزاء لطيفة فتؤثر فيه وتجنى عليه، ويكون هذا المعنى خاصا ببعض الاعين كالخواص في الاشياء، وعلى هذا القول اعتراضات طويلة، وفيه مطاعن كثيرة لا يقتضى هذا الكتاب استيفاء ذكرها، واستقصاء شرحها (2). 286 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الاسلام (هامش ص 369) (1) العضباء في اللغة: الناقة المشقوقة الاذن، وكان هذا الاسم لقبا لناقة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تكن مشقوقة الاذن. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه تأثير العين في الشئ المحسود من تغيير حاله من حسن إلى سئ باستنزال الشئ العالي من علو إلى سفل، واشتق من الاستنزال، تستنزل بمعنى تؤثر، على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 370 ]

ذلول (1) لا يركب إلا ذلولا “. وهذه استعارة، والمراد أن الاسلام سهل القياد لمن اقتاده وطئ الظهر لمن اقتعده، لا بتوقص (2) براكبه، ولا يتقاعس (3) على جاذبه، فهو كالبعير الذلول الذى يسهل مرامه (4) ويطوع (5) زمامه، وقوله عليه الصلاة والسلام: لا يركب إلا ذلولا: أي لا يستجيب له من الناس إلا من لانت للدين عرائكه، وقربت عليه مآخذه، وطاعت نفسه باحتمال أعبائه، والصبر على لاوائه (6). فأشبه المسلم من هذا الوجه أيضا الفرس الذلول الذى يمكن راكبه، ويطاوع فارسه، وإنما جعل عليه الصلاة والسلام الاسلام في الثاني بمنزلة الراكب بعد أن وصفه في الاول بصفة المركوب، لان الاسلام كالمالك على الانسان أمره، والمبتاع منه نفسه، فهو يقوده بزمامه ويصرفه على أحكامه، وكان من هذا (هامش ص 370) (1) ذلول: لين سهل القياد. (2) يتوقص براكبه: لا يتعبه بشدة وطئه في الارض، لان شدة الوطئ تهز الراكب وتقلق مكانه. (3) يتقاعس: يرجع إلى الوراء إذا جذبه الجاذب، أي أنه مطاوع غير شرس. (4) المرام: الطلب. (5) يطوع: ينقاد زمامه، أي لجامه كلما حركه راكبه في ناحية تحرك فيها من غير إباء. (6) اللاواء: الشدة. (*)


[ 371 ]

الوجه كأنه راكب لظهره لما كان مالكا لامره (1). 287 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من تقرب إلى الله شبرا تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إلى الله ذراعا تقرب إليه باعا (2)، ومن أقبل إلى الله ماشيا أقبل الله إليه مهرولا ” (3). وهذا القول مجاز، والمراد أن من فعل الشئ القليل من البر عوضه الله الشئ الكثير من الاجر. فجعل عليه الصلاة والسلام التقرب من استحقاق الثواب، كأنه تقرب من فاعل الثواب، على طريق المجاز والاتساع، وعلى هذا المعنى يحمل كل ما جاء في القرآن والكلام من ذكر التقرب إلى الله سبحانه، لانه تعالى جده (هامش ص 371) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ واستعارة تبعية ومكنية. الاول: في قوله: الاسلام ذلول، حيث شبه الاسلام بالمركوب الذلول السهل الانقياد من الدواب، بجامع المطاوعة للمسلم في كل ما يريد من الاعمال، فإذا أراد تكثير العبادة أو تقليلها فهو على نهجه سائر وعلى تعاليمه مقيم، كما أن راكب الذلول إذا أراد الاسراع أسرع، وإذا أراد الابطاء أبطأ. والاستعارة المكنية، حيث شبه المسلم بالدابة المركوبة للاسلام من حيث أن الاسلام يملك أمر المسلم فيصرفه كيف يشاء كما يصرف الراكب الدابة، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الركوب وإثبات الركوب للمسلم تخييل، والتبعية في تشبيه تصريف الاسلام أمر المسلم بالركوب، بجامع التمكن والقدرة في كل، واشتق من الركوب يركب بمعنى يصرف الامر على طريق الاستعارة التبعية. (2) الباع: قدر مد اليدين، أي قدر المسافة التى بين اليدين مفتوحتين كل منهما في جهتها. (3) الهرولة: بين الجرى والمشى أو الاسراع في المشى. (*)


[ 372 ]

لا يوصف بالقرب من طريق الدنو بالمسافة، ولكن من حيث كان قريب الثواب من متحقه، ودانى الاحسان من راجيه ومؤمله، فكانت صفة القرب متعلقة بإحسانه وثوابه لا بنفسه وذاته. فأما قوله عليه الصلاة والسلام: ومن أقبل إلى الله ماشيا أقبل الله إليه مهرولا، فالمراد به أن من تقرب إليه سبحانه بطاعة، وإن فعلها بطيئا متضرعا، فإنه تعالى يجعل جزاءه عليها معدا مسرعا. فالمشي ها هنا كناية عن الطاعة المبطئة، والهرولة كناية عن المثوبة المسرعة. فذكره عليه الصلاة والسلام على طريق ضرب المثل لفضل ما يفعله الرب تعالى على ما يفعله العبد، وإن كان لا يجب في كل طاعة أن يكون جزاؤها عاجلا، وثوابها مبادرا (1). 288 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء ” وهذا القول مجاز، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أقام النساء لحكمهن على النفوس وتأثير هن في القلوب مقام السلاح للشيطان الذى يقارع به قلوب (هامش ص 272) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحدث ثلاثة مجازات عقلية: 1 – إسناد تقرب الاولى إلى الله تعالى والمراد ثوابه. 2 – إسناد تقرب الثانية إلى الله والمراد ثوابه أيضا. 3 – إسناد أقبل إلى الله، والمراد ثوابه. والعلاقة المصدرية كما سبق في حديث ” احفظ الله تجده تجاهك “. لان الله تعالى هو مصدر الثواب، أو يقال العلاقة السببية، لان الله تعالى سبب الثواب. (*)


[ 373 ]

الصالحين ويقرع بحده ضمائر المتماسكين، فيملك به أزمة رقابهم، وينقلهم به إلى طاعته عن طاعة ربهم. ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: النساء حبائل الشيطان. وقد مضى كلامنا عليه فيما تقدم من هذا الكتاب (1). 289 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل عن ضالة الابل، فقال للسائل: ” مالك ولها، معها حذاؤها وسقاوها، ترد الماء وترعى الماء وترعى الشجر، حتى يجئ ربها (2) فيأخذها “. وهاتان استعارتان، كأنه عليه الصلاة والسلام جعل خف الضالة بمنزلة الحذاء، ومستجرها (3) بمنزلة السقاء، فليس يضر بها التردد في الفيافي، والتنقل في المصايف والمشاتي، لانها صابرة على قطع الشقة (4)، وتكلف المشقة، لاستحصاف (5) مناسمها، واستغلاظ قوائمها، ولانها بطول عنقها تتمكن من ورود المياه (هامش ص 373) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه ضمنى، حيث جعل أبلغ أسلحة الشيطان النساء في أنهن يستولين على ألباب الصالحين ويؤثرن في نفوسهم فيجعلنهم يتركون عبادة الله، فكأنهن سلاح يضرب به الشيطان أفئدة الصالحين. (2) ربها: صاحبها. (3) مستجرها: مكان جرتها واجترارها، أي بعض معدتها التى تختزن فيه الطعام والماء، وكان في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة ” مستقرها ” ولكن لا معنى لها مناسب لما نحن بصدده. (4) الشقة: المسافة. (5) استحصاف: متانة وإحكام، والمناسم: هي الاخفاف. (*)


[ 374 ]

القالصة (1)، والتناول من أوراق الشجر الشاخصة (2)، فهى لهذه الاحوال بخلاف الضالة من الشاة، لان تلك تضعف عن إدمان (3) السير، والضرب في أقطار الارض لضعف قوائمها، وقلة تمكنها من أكثر المياه والمراعى بنفسها، ومع ذلك فهى فريسة للذئب إن أحس حسها (4)، واستروح ريحها (5)، ولاجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام للسائل عنها: خذها، فإنما هي لك أو لاخيك أو للذئب (6). 290 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: في كلام طويل: ” فإذا طلع حاجب الشمس فلا تصلوا حتى تبرز، (هامش ص 374) (1) القالصة: البعيدة المنال التى يصعب على غيرها ورودها، وكانت في الطبعة الاولى ” العالصة ” وغيرت في الطبعة ؟ ؟ الثانية إلى ” الغائصة ” ولكن هذا المعنى الذى ذكرناه أنسب. (2) الشاخصة: المرتفعة. (3) ادمان السير: مداومته. (4) الحس: الصوت الضعيف. (5) استروح: شم. (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تصريحيتان: 1 – حيث استعمل لفظ الحذاء في الخف فقد شبه الخف بالحذاء، بجامع السير عليه ووقاية القدم في كل. 2 – حيث استعمل لفظ السقاء في جزء المعدة التى تخزن فيه الابل الطعام والماء (المستجر) فقد شبهه بالسقاء بجامع حفظ الماء وخزنه في كل منهما، لان السقاء هو القربة التى تتخذ من جلد الماعز ونحوها لوضع الماء فيها. (*)


[ 375 ]

وأذا غاب حاجب الشمس فلا تصلوا حتى تغيب ” وهذه استعارة، والمراد بحاجب الشمس أول ما يبدو من قرصها، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبه الشمس عند صعودها من حدبة (1) الارض بالطالع من وراء ستر يستره، أو غيب يطمره (2)، فأول ما يبدو منه وجهه، وأول ما يبدو من مخاطيط وجهه حاجبه، ثم بقية وجهه، ثم سائر جسده شيئا شيئا، وجزءا جزءا، فكأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة عند ظهور بعض الشمس للعيون حتى يظهر جميعها، وعند مغيب بعضها حتى تغيب جميعها، وقال القطامى في حاجب الشمس، ومراده جانبها: تراءت لنا كالشمس تحت غمامة * بدا حاجب منها وضنت بحاجب أي ظهر منها جانب، وغاب منها جانب. وقد يجوز أن يكون لحاجب الشمس هاهنا معنى آخر، وهو أن يراد به ما يبدو من شعاعها قبل أن يظهر جرمها، وكذلك ما يغيب من شعاعها قبل أن يغيب قرصها، فأقام ذلك عليه الصلاة والسلام لها مقام الحاجب لانه يدل عليها، ويظهر بين يديها، فكأنه ؟ ؟ عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة قبل أن يظهر قرص الشمس، وبعد الشعاع الغائب أمامه، (هامش ص 375) (1) حدبة الارض وحدبها: ما ارتفع منها. (2) يطمره: يخفيه ويدفنه. (*)


[ 376 ]

والصلاة المرادة هاهنا صلاة التطوع دون صلاة المفروضات، وفي أول هذا الخبر ما يحقق القول الذى قلناه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: لا تتحروا (1) بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرنى شيطان. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يتطوع بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس. وقال الشافعي: يجوز أن يصلى في هذين الوقتين النفل الذى له سبب مثل تحية المسجد، ولا يصلى النفل المبتدأ الذى لا سبب له (2). 291 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المؤمن يأكل في معاء (3) واحد، والكافر ياكل في سبعة أمعاء “، وهذا القول مجاز، والمراد أن المؤمن يقنع من مطعمه بالبلغ (4) التى (هامش ص 376) (1) تتحروا: تقصدوا وتتبعوا، وقد وردت هذه الكلمة في الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة بالنون بدل التاء الثانية، وفسرها الاستاذ المحقق بقوله لا تنحروا بصلاتكم بمعنى الانتصاب ونهد الصدر، والصحيح ما ذكرناه هنا. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه شعاعها الاول بالحاجب في كونه أول ما يظهر من الانسان الصاعد إلى علو من سفل مستورا بالعلو، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (3) المعاء والمعى: بوزن إلى والمعى بوزن شمس: واحد الامعاء، وهى المصارين التى يمر فيها الطعام من الفم إلى القاولون ثم المستقيم. (4) البلغ: جمع بلغة، وهى المقدار الذى يتبلغ به، أي يصل به إلى حفظ حياته وإمساك رمقه.


[ 377 ]

تمسك الرمق، وتقيم الاود (1)، دون المآكل التى يقصد بها وجه اللذة، ويقضى بها حق الشهوة، فكأنه يأكل في معاء واحد لفرط الاقتصار، وكراهة الاستكثار. و أما الكافر: فإنه لتبحبحه في المآكل، وتنقله في المطاعم، وتوخيه ضد ما يتوخاه المؤمن من إحراز حطام الدنيا التى يطلب عاجلها ولا يأمل آجلها، فهو عبد فيها للذته، وكادح في طاعة شهوته، كأنه يأكل في سبعة أمعاء، لان أكله للذة لا للبلغه، وللنهمة لا للمسكة (2). 292 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” جيئوا بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ” في حديث طويل، ” فأتى به فضحى به وذبحه بيده “. وهذه استعارة. والمراد بقوله عليه الصلاة و السلام: يطأ في سواد أن أظلافه سود، فكأنه يطأ منها في سواد: أي ليس بينه وبين الارض منها إلا ما هو أسود، (هامش ص 377) (1) الاود: مصدر أود بوزن فرح، بمعنى اعوج، فالاود: العوج، ومعنى يقيم أوده: يقيم اعوجاجه، والمراد يقيم صلبه فلا يعوج، لان الجوع والضعف يحنى الظهر ويطوى البطن. (2) المسكة: هي ما يمسك الرمق، كما سبق قريبا. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الاكل الكثير من الكافر بالاكل في سبعة أمعاء، بجامع الكثرة في كل، واشتق من الاكل في سبعة أمعاء بمعنى كثرة الاكل يأكل في سبعة أمعاء بمعنى يكثر الاكل على طريق الاستعارة التبعية، أو هو تشبيه بليغ حيث شبه الكافر في أكله الكثير بمن يأكل في سبعة أمعاء، فهو يأكل كثيرا فيملا هذه الامعاء السبعة، وحذف وجه الشبه والاداة. (م – 24)


[ 378 ]

وهذه من محاسن الاستعارات. والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: وينظر في سواد أن حدقته سوداء أو مطارح نظره منها فكأنما وينظر في سواد، وهذا المعنى أراد كثير بقوله: ومن نجلاء (1) تدمع في بياض * إذا دمعت وتنظر في سواد فالمراد بقوله تدمع في بياض أن دمعها يقطر على خدها وهو أبيض، فيصير الدمع واقعا في بياض، والمراد بقوله وتنظر في سواد المعنى الذى قدمنا ذكره من وصف الحدقة بشدة الاسوداد، وإذا كان النظر منها فكأن النظر في سواد (2). 293 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر له امرأة استحيضت (3): ” ليست هذه بالحيضة ولكنها ركضة (هامش ص 378) (1) النجلاء: واسعة العينين. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تبعيتان. الاولى: يطأ في سواد، والثانية: ينظر في سواد، حيث شبه وضع الكبش رجله ذات الظلف الاسود على الارض عند المشى بالوطئ في سواد، بجامع الشكل في كل، واشتق من الوطئ في سواد يطأ بمعنى يضع قدمه سوداء الظلف على طريق الاستعارة التبعية، وحيث شبه نظر الكبش ذى الحدقة السوداء بالنظر في السواد، بجامع الشكل في كل، واشتق من النظر في السواد بمعنى نظر الكبش ذى الحدقة السوداء ينظر في سواد بمعنى بنظر حال كونه حدقته سوداء، على طريق الاستعارة التبعية. (3) استحيضت: معناها أنها حصلت لها الاستحاضة، وهى من ينزل عليها الدم، لامن الحيض، بل بسبب مرض يسمى الاستحاضة، ينزل منه الدم على المرأة باستمرار في غير أوقات الحيض، ويقول الفقهاء: إنه يسيل من عرق في الرحم يسمى العاذل، ومعنى ذكر له امرأة استحيضت سأله الناس عن هذه المرأة على =


[ 379 ]

من الرحم “، وهذه استعارة، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ركضة من الرحمن أن الرحم نفحت (1) بهذا الدم من غير حيضة، ولكن من حادث علة فأشبهت رامحة الفرس إذا رمح (2) بحافره، أو ركضة (3) البعير إذا ركض بمنسمه، وهم يسمون الطعنة إذا عند عرقها (4) وفار دمها رماحة (5) ورموحا، ويقولون: رمحت بالدم إذا كان فرغها (6) رغيبا، وجرحها رحيبا، وذلك موجود في أشعارهم، ومتعارف في لسانهم (7). (هامش ص 379) = أنها نزل عليها الحيض على غير عادة النساء وهو نزوله في غير أوقاته، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا الدم ليس حيضا وإنما هو استحاضة، وهو ما عبر عنه بقوله ” ولكنها ركضة من الرحم “. وكانت هذه الكلمة في الطبعتين السابقتين ” استحيضته ” ولكني أرجعتها إلى صحتها. (1) في القاموس: نفح العرق: نزى منه الدم، أي سال. (2) رمح الفرس بحافره: رفس. (3) ركض البعير: ضرب بخفه، وا لمنسم: الخف. (4) عند العرق: سال دمه باستمرار ولم يكف عن السيلان. (5) الرماحة والرموح: صيغتا مبالغة من الرمح، وهو الدفع، ويقال قوس رماحة: إذا كانت شديدة الدفع، فشبهت الطعنة لشدة دفعها للدم بالقوس الشديدة الدفع. (6) الفرغ: مكان خروج الماء من الدلو بين العراقى، كأنه يخرج من مسام القربة، فإذا اتسعت المسام سميت رغيبة، أي واسعة. والمعنى إذا كان مكان خروج الدم منها واسعا. (7) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه دفعة الدم في غير أو ان الحيض بالركضة، بجامع شدة الدفع في كل، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 380 ]

294 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الله ليربى لاحدكم التمرة واللقمة، كما يربى أحدكم فلوه وفصيله حتى يكون مثل أحد “، وهذه استعارة. والمراد أن الله سبحانه يجمع القليل إلى القليل من صدقاتكم والنزر من قربكم وطاعاتكم حتى يعظم يسيرها، ويكبر صغيرها، فيكون عظيم الجزاء بحسبه وجزيل الثواب على قدره، فجعل عليه الصلاة والسلام ذلك كتربية الفلو (1) والفصيل، وتربية الطفل الصغير، لانه تنقيل من حال الضعف والصغر إلى حال الاشتداد والكبر (2). 295 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من عاد مريضا لم يزل يخوض الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها “، وهذه استعارة. والمراد العبارة عن كثرة ما يختص به عائد المريض من الاجر الوافر، والثواب الغامر، فشبهه عليه الصلاة (هامش ص 380) (1) الفلو: بكسر الفاء وسكون اللام، وبفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، وبضم الفاء: ولد الفرس (المهر) الصغير الذى له حول. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية وتشبيه مرسل. الاولى: حيث شبه حسبان الله تعالى للصدقات الصغيرة من المتصدق وضمها إلى بعضها حتى تصير كبيرة بالمنربية ؟، بجامع التعهد والتنمية إلى حال الكبر في كل، واشتق من التربية بمعنى التعهد والتنمية، يربى بمعنى يتعهد وينمى، ويجمع على طريق الاستعارة التبعية، والتشبيه المرسل، حيث شبه تربية الصدقة بتربية المهر، وذكر أداة التشبيه وهى الكاف.


[ 381 ]

والسلام لهذه الحال بخائض الغمر (1) في مشيته، والمغتمس (2) فيه عند جلته (3). 296 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة و السلام في كلام طويل ” لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء “، فقوله عليه الصلاة والسلام: فحمة العشاء، المراد ظلمة العشاء، إلا أنه عليه الصلاة والسلام شبه الظلمة في هذا الوقت بالفحمة، وهى الهنة السوداء التى أحرقت النار أجزاءها، وإحالتها عن هيئتها (4) والجمع فحم كسعفة وسعف (5)، فكأنه عليه الصلاة والسلام أقام شمس النهار مقام النار المتوقدة، فإذا انطفأ جاحمها (6) وخمد متضرمها (7) أعقب منها الحمم (8) وخلفها الفحم، (هامش ص 381) (1) الغمر: الماء الكثير. (2) المغتمس فيه: المغمور به حتى يغطيه. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية واستعارة تبعية. الاولى: حيث شبهت الرحمة بالنهر بجامع النفع العميم في كل، وحذف المشبه به ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الخوض، وإثبات الخوض إلى الرحمة تخييل، والثانية: حيث شبه سير عائد المريض إلى عيادته بالخوض في الرحمة بجامع الحسن واليمن والبركة في كل، واشتق من الخوض بمعنى السير، يخوض بمعنى يسير، على طريق الاستعارة التبعية. (4) هي الجمرة عند خمود جذوتها واسوداد لونها، وفي القاموس الفحم: الجمر الطافئ. (5) هو اسم جمع، وقوله جمع تجاوز عن الاصطلاح. (6) جاحمها: شديدها ومتأججها. (7) خمد: سكن، والمتضرم: شديد الاشتعال. (8) الحمم: جمع حممة بوزن ” همزة ” وهى الجمرة الحامية الحارة، والمراد بقى منها الحرارة.


[ 382 ]

والفواشى في هذا الخبر: اسم لما ينتشر من الحيوانات في الحى: كالابل، والغنم والحمير، والبقر، وما يجرى هذا المجرى، وسميت فاشية لانتشارها وظهورها، ومنه قولهم فشا الحديث إذا ظهر وانتشر ومن كلام العرب: ضموا فواشيهم، وردوا مواشيهم (1). 297 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” أعطوا الطرق حقها. قيل: وما حقها يارسول الله ؟ قال: غض البصر وكف الاذى، والامر بالمعروف، والنهى عن المنكر “. في حديث آخر: ” لا تقعدوا على الصعدات إلا من أعطاها حقها “، والصعدات (2): الطرق. وهذه استعارة، كأنه عليه الصلاة والسلام جعل للطرق على القاعدين عليها حقا يجب عليهم الخروج إليها منه، والاعفاء (3) لها به، وهو مجموع الخلال المذكورة في أول الحديث، فمن خرج من ذلك الحق الواجب، وقام بذلك الفرض اللازم، جاز له القعود على الطرق، ومن لم يقم بذلك الحق، ويؤد ذلك الفرض، كان جلوسه عليها محظورا، وكان بمخالفة الامر مذموما (4). (هامش ص 382) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه ظلمة أول الليل في سوادها بالفحمة واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (2) الصعدات: بضم الصاد والعين، الطرقات. (3) الاعفاء لها، الدفع لها به: أي دفعه لها (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه غض البصر وكف الاذى والامر =


[ 383 ]

298 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المجالس ثلاثة سالم وغانم وشاجب “. وهذا القول مجاز، والمراد أن أهل هذه المجالس الثلاثة سالمون، وغانمون، وشاجبون، والشاجب الهالك، والشجب الهلاك، فجعل عليه الصلاة والسلام هذه الصفات للمجالس وهى على التحقيق لاصحاب المجالس، ولكنها لما كانت مشتملة على أهلها حسن إجراء صفاتهم عليها، ومعنى هذا الخبر: المجلس الذى لا يذكر فيه الجميل، ولا القبيح، ولا المنكر، ولا المعروف، فأهله سالمون، والمجلس الذى يذكر فيه الحسن من الاقوال ويتحاض من فيه على جميل الافعال فأهله غانمون، والمجلس الذى لا يسمع فيه إلا القبيح، ولا يفعل فيه إلا المحظور فأهله هالكون (1). 299 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن إبراهيم ابني مات في الثدى، وإن له لظئرين (2) يكملان رضاعه في (هامش ص 383) = بالمعروف والنهى عن المنكر في لزومها ووجوبها على الجالس في الطريق بالحق الواجب أداؤه، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاثة مجازات عقلية: في سالم وغانم وشاجب، حيث أسند اسم الفاعل إلى ضمير المجلس، والمراد أهله والعلاقة الظرفيه أو المحلية. (2) الظئر: العاطفة على ولد غيرها المرضعة له، ومعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ” إن له ظئرين يكملان رضاعه في الجنة “، أن إبراهيم عليه السلام مكرم من الله تعالى في الجنة بنعيم يعوض عليه ما فاته في الدنيا بعدم رضاع الثدى، وجعل له مرضعتان بدل مرضعة واحد، وهذا كناية عن مضاعفة التعويض عما فاته في الحياة.


[ 384 ]

الجنة “. فقوله عليه الصلاة والسلام: مات في الثدى مجاز، والمراد أن الموت أصابه وهو يرضع، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: مات وهو في الرضاع، وذلك كقول القائل: ابن فلان في الصياغة، أو ولد فلان في التجارة إذا أراد أنه قد دفع إلى من يعلمه هذه الصناعة فهو مقصور على ذلك، ومأخوذ به، ولم يفرغ بعد من تعلمه، ومثل ذلك أيضا قولهم: ابن فلان بعد في أبجد أو في ألف با تا ثا: أي هو بعد في تعلمه هذه الحروف المخصوصة، ولم يستكمل علمها، فينتقل عنها إلى غيرها، ولابد من حمل الكلام على تقدير مضاف محذوف وهو رضاع الثدى، فيكون المعنى صحيحا، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: مات وهو في رضاع الثدى، ولذلك نظائر كثيرة، وأمثال مشهورة، وبابه ما جاء في التنزيل من قوله تعالى – واسئل القرية – والمراد أهل القرية، وما في معنى ذلك (1). 300 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إذا وقعت (2) الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة “، وهذا القول مجاز، والمراد وحيزت الطرق فخرجت عن حال الاشتراك، وطريقة (هامش ص 384) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز بالحذف كما ذكر الشريف، والتقدير إن إبراهيم مات في رضاع الثدى أي في أثناء مدة رضاع الثدى. فالمحذوف مضافان لا مضاف واحد، والتقدير في مدة رضاع الثدى. (2) وقعت: ثبتت.


[ 385 ]

الاختلاط، فشبه عليه الصلاة والسلام ذلك بصرف الانسان عن وجهته، وهذا الخبر مما يستشهد به من قال: إن الشفعة إنما تجب للشريك المخالط دون الجار المجاور، وقال أهل العراق: إنما تجب للشريك المخالط، ثم للجار المجاور (1). 301 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” وسيأتى على الناس زمان يثقفون القرآن، كما يثقف القدح ” (2) في حديث طويل أخرجه مخرج الذم لاهل ذلك الزمان، وهذه استعارة، والمراد أنهم يعنون بإصلاح ألفاظ القرآن حتى تقوم على المنهاج، وتقوم بعد الاعوجاج، فتكون كالسهم المثقف الذى يسرع في الانباض (3) (هامش ص 385) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبهت حيازة الطرق وتخصيص كل طريق لصاحبه بصرفها عما كانت عليه من الاشتراك، بجامع التحول من حال إلى حال في كل، واشتق من الصرف بمعنى التخصيص، صرفت بمعنى حيزت وخصصت، على طريق الاستعارة التبعية. (2) القدح: السهم قبل أن يوضع فيه النصل (السلاح) والريش: الذى يسرع به إلى الغرض، أي العود من الخشب الذى يصير سهما، ومعنى تثقيفه تقويمه وجعله مستقيما لا عوج فيه حتى يطلق بسرعة إلى غرضه، والمراد بتثقيف القرآن إصلاح لفظه من جهة المخرج والنطق والتعطيش والمد والغن وغير ذلك، وهذا الزمان الذى ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم هو زمننا هذا، فإنك لا تجد أقوم قراءة ولا أحلى تلاوة من قراء القرآن بمصر، وكثير منهم لا يتدبر ما يقرأ، والمعلم والسامع لا بتدبر ما يقرأ، ونسأل الله، صلاح الحال. (3) الانباض: تحريك الوتر حتى يسمع له رنين.


[ 386 ]

ويقرطس في الاغراض (1)، ولا يتدبرون ما وراء تلك الالفاظ من حكم واجب، وأمر لازم، وفرض متعين، وحق مبين (2). 302 ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام أطلق فيه الشرب في الاوعية بعد أن كان حظره (3): ” ونهيتكم عن الشرب في الاوعية فاشربوا ما شئتم ألا من أوكى (4) سقاءه ؟ على إثم “. وهذا القول مجاز، والمراد إطلاق الشرب في الاوعية التى وقع النهى عنها كالدباء (5) والحنتم والنقير والمزفت إذا كان (هامش ص 386) (1) يقرطس: يصيب، والاغرض: جمع غرض، وهو ما ينصب لاصابته بالسهم، والمراد يقع في الهدف ويصيبه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية وتبعية وتشبيه مرسل، الاولى: حيث شبه القرآن بالقدح وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو التثقيف، وإثبات التثقيف إلى القرآن تخييل، والثانية: حيث شبه تحسين القرآن وإصلاح ألفاظه بتثقيف القدح بجامع الاصلاح في كل، واشتق من التثقيف بمعنى الاصلاح، يثقفون بمعنى يصلحون على طريق الاستعارة التبعية. والثالث: حيث شبه تثقيف القرآن بتثقيف القدح وذكر أداة التشبيه وهى الكاف. (3) كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المسلمين في أول الاسلام الشرب في الاوعية التى ينتبذون فيها، أي يضعون فيها النمر والبلح والعنب ونحوها مع الماء فتتخمر وتصير خمرا مسكرا، فنهاهم عن استعمالها إطلاقا منعا للخمر، ثم بعد ذلك أباح استعمالها في غير الانتباذ كشرب الماء. ووضع الاطعمة وكل ما ليس بمحرم، وسيأتى تمثيل لهذه الاوعية في كلام الشريف. (4) أوكى: ربط وأغلق. (5) الدباء: القرع، والحنتم: جرة من خرف مدهونة، والنقير: جذع النخلة ينقر ويقور حق يصير كالاناء، والمزفت: المطلى بالزفت من خارجه حتى يسد مسام الاناء فيكون أسرع لتخمر ما فيه.


[ 387 ]

ما فيها من الاشربة (1) المطلقة غير الممنوعة، والمباحة غير المحظورة، وموضع المجاز قوله عليه الصلاة والسلام: إلا من أوكى سقاءه على إثم. يقول: إلا من ربط سقاءه على مشروب محرم فإن ذلك خارج من باب الاطلاق والاباحة، وداخل في باب الحظر والكراهة، وأراد عليه الصلاة والسلام إلا من أوكى سقاءه على مشروب يؤدى إلى الاثم، فأقام الاثم مقامه لانه عاقبة أمره، ووبال فعله (2). 303 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات “. وهذا القول مجاز، والمراد أن جميع الافعال التى توصل إلى الجنة يتجشم فعلها على الكره والمشقة، لان طريقها وعر، ومذاقها مر. فلما كانت الطرق المفضية إلى الجنة كلها كما ذكرنا شاقة المسالك، صعبة على السالك، حسن أن يقال: الجنة حفت بالمكاره على طريق المجاز، وسعة الكلام، ولما كانت الافعال المفضية إلى دخول النار في الاغلب الاكثر كثيرة الملاذ ملائمة للطباع، لا تؤتى من طريق مشقة ولا يقرع لها باب كلفه، حسن أن يقال إن النار حفت بالشهوات (هامش ص 387) (1) من الاشربة جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر كان. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته السببية، حيث استعمل لفظ الاثم في المشروب الذى هو سببه.


[ 388 ]

على طريق الاتساع والمجاز (1). 304 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ” وقد سئل عن رجل كانت تحته أمرأة فطلقها ثلاثا، فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل لزوجها الاول ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ” لا، حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها (2)، وذاقت من عسيلته “. وهذه استعارة كأنه عليه الصلاة والسلام كنى عن حلاوة الجماع بحلاوة العسل، وكأن (3) مخبر المرأة ومخبر الرجل كالعسلة المستودعة في ظرفها، فلا يصح الحكم عليها إلا بعد الذوق منها. وجاء عليه الصلاة والسلام باسم العسلة مصغرا لسر لطيف في هذا المعنى، وهو أنه أراد فعل الجماع دفعة واحدة، وهو ما تحل المرأة به للزوج الاول، فجعل ذلك بمنزلة الذوق القابل من العسلة من غير استكثار منها ولا معاودة لاكلها، فأوقع التصغير على الاسم، وهو في الحقيقة للفعل وذلك بالعكس من التصغير في (هامش ص 388) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تبعيتان في قوله حفت، وهما في الواقع استعارة واحدة، لان اللفظ المستعمل واحد ولكنه تكرر في موضعين، وذلك حيث شبه تقريب الطاعات للجنة، والطاعات مكاره، لان النفس تكرهها، لما فيها من الصعوبة عليها، وتقييد حريتها، بحقها بها، بجامع التقريب في كل، واشتق من الحف بمعنى التوصيل، حفت الجنة بمعنى توصل إليها على طريق الاستعارة التبعية. (2) قال في القاموس: العسبلة، النطفة أو ماء الرجل أو حلاوة الجماع تشبه بالعسل للذته، وقد اختار الشريف المعنى الاخير. (3) المخبر: اسم مكان أي مكان اختبار الرجل والمرأة.


[ 389 ]

البيت المشهور وهو من أبيات الكتاب وأنشدناه الشيخان أبو الفتح عثمان بن جنى وأبو الحسن على بن عيسى الربعي، وذلك قول الشاعر: ياما أمليح غزلانا شدن (1) لنا * من هاؤليائكن الضال (2) والسمر (3) فأوقع الشاعر التصغير على الفعل في الظاهر وذلك غير جائز وإنما أراد به على الحقيقة تصغيرا لاسم المصدر الذى هو الملاحة، فهذا الشاعر كما ترى صغر الفعل وأراد الاسم، وهو عليه الصلاة والسلام في الخبر صغر الاسم وأراد الفعل (4). 305 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره (5)، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضى الامام صلاته إلا كان ذلك كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة، ما اجتنب المقتلة “، فقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتنب المقتلة مجاز، والمراد ما لم يواقع الخطيئة الكبيرة التى تكون (هامش ص 389) (1) شدن: قوين، يقال شدن الظي شدونا إذا قوى. (2) الضال: شجر الدر إذا كان عذبا. (3) السمر: شجر تأكله الابل واحدته سمرة، والمراد التعجب من ملاحة الغزلان التى تربت بين الضال والسمر حتى قويت. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه الجماع بالعسلة، أي الشئ المعسول بجامع اللذة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (5) الطهور بالضم: التطهر، وهو الوضوء والغسل وإزالة النجاسة.


[ 390 ]

سببا لهلاكه، وطريقا إلى بواره، فشبهها عليه الصلاة والسلام بالمقتل من مقاتل الانسان الذى إذا أتى منه فقد أتى عليه، وإنما أنث عليه الصلاة والسلام المقتل لانه جعله في هذا الموضع عبارة عن الخطيئة، وهى مؤنثة، فأنثه حملا على المعنى، ولذلك في كلامهم نظائر كثيرة (1). 306 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله مائة مرة “. وهذا القول مجاز، والمراد أن الغم يتغشى قلبه عليه الصلاة والسلام حتى يستكشف غمته. ويستفرج كربته بالاستغفار، فشبه ما تغشى قلبه من ذلك بغواشى الغيم التى تستر الشمس، وتجلل الافق، والغيم والغين اسمان للسحاب وسواء قال: يغان على قلبى أو قال يغام على قلبى (2). 307 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض “، وهذه استعارة. والمراد تشبيه (هامش ص 390) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته السببية، حيث استعمل لفظ ” المقتلة في الذنب الكبير الذى يسبب الهلاك. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه الكروب والهموم التى تعترى الانسان وتحيط بقلبه بالغيم الذى يحجب ضوء الشمس، بجامع الحيلولة بين الشئ وصفائه في كل، واشتق من الغيم بمعنى الحيلولة، يغان بمعنى يجال، على طريق الاستعارة التبعية.


[ 391 ]

القلوب بالاوعية، وهى الظروف والعياب (1) التى تحرز فيها الامتعة وغيرها من الاشياء المحفوظة، وهى كالآنية لايداع الاشياء المائعة، إلا أن الاوعية تختص بالجامدات، كما أن الآنية تختص بالمائعات. فالقلب من حيث حفظ ووعى، كالوعاء من حيث جمع وأوعى، وربما نسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام على خلاف في لفظه، وقد ذكرناه في جملة كلامه، لكميل بن زياد النخعي في كتاب نهج البلاغة (2). 308 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما يخرج رجل شيشا من الصدقة حتى يفل (3) عنه لحى (4) سبعين شيطانا “، وهذا القول مجاز، والمراد تعظيم الامر في مجاهدة الانسان نفسه عند إخراج الصدقة لشدة تتبع النفس لها، وكثرة الصوارف عنها، ووساوس الشيطان بما يقتضى الامتناع منها، فإذا غلب الانسان بأخراجها نوازع جنانه (5)، ونوازغ شيطانه، كان كأنه قد افتلها (6) من أيدى الجاذبين، وفل عنها لحى الشياطين، وإنما ذكر عليه الصلاة (هامش ص 391) (1) العياب: جمع عيبة، وهى (الشنطة) ونحوها. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه القلوب بالاوعية بجامع حفظ ما يدخلها في كل، فهذه تحفظ المعاني وتلك تحفظ الماديات، وحذف وجه الشبه والاداة. (3) يفل: يهزم، يقال فل القوم هزمهم. (4) لحى: جمع لحية، وهى شعر الذقن والخدين، والمراد الشياطين أنفسهم. (5) الجنان: النفس. (6) افتلها: استخلصها بعد فلهم وهزيمتهم.


[ 392 ]

والسلام هذا العدد المخصوص من الشياطين وهو السبعون على طريقة للعرب مشهورة في ذكر ذلك إذا أرادت التكثير، وقد ورد التنزيل بسلوك هذا النهج، والوقوف عند هذا القدر. قال سبحانه: ” استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم “، وقال تعالى: ” ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (1) “. 309 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” يد الله مع القاضى حين يقضى، ويد الله مع القاسم حين يقسم “، وهذا القول مجاز. والمراد أن علم الله سبحانه ومعرفته لا يغيبان عن الحاكم إذا حكم، وعن القاسم إذا قسم، فيعلم سبحانه عدل القاضى إذا تحرى العدل، وظلمه إذا اعتمد الظلم، ولا يخفى عليه حيف القاسم وميله أو إنصافه وعدله، وذلك كما يقول القائل: يد فلان مع فلان إذا كان (هامش ص 392) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية ومجاز مرسل: الاولى حيث شبه مجاهدة النفس وغلبتها وقهر الشيطان ورد وسوسته في نحره بهزيمته في الحرب بجامع القهر والغلبة في كل، واشتق من الفل بمعنى الغلب، بفل بمعنى يغلب على طريق الاستعارة التبعية، والثانى. في قوله لحى سبعين شيطانا، فإن الهزيمة للشيطان لا لحيته، وإنما نسب الهزيمة لها لانها موضع الوقار والزينة والتى يحلف بها الحالف عند إرادة توكيد حلفه، والتى يعبر عن المهانة والذل بإزالتها لانها الفرق الظاهر بين الرجل والمرأة، والعلاقة الجزثية: لان الحية جزء الشيطان.


[ 393 ]

مشاركا له في ولاية يلييها أو مشارفا له (1) في أمور يمضيها. وفي هذا القول تخويف شديد للحاكم والقاسم من مفارقتهما مقام الحق، ومقال الصدق، وحث لهما على سلوك النهج الابلج، وتجنب الطريق الاعوج. ونظير هذا الخبر قوله عليه الصلاة والسلام: ” أن الله عند لسان كل قائل “، والمراد أنه تعالى يحيط علما بمقاصد كلامه، ومصارف لسانه، كما يعلم ذلك منه من سمع حواره، وشهد خطابه. ومثل ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام وأراد الله سبحانه: ” إنه أقرب إليكم من رءوس ركابكم (2) “. 310 – ومن ذلك عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن زيد ابن عبد ربه الانصاري وقد رأى الاذان في نومه: ” ألقه (3) على بلال فإنه أندى (4) منك صوتا “، وهذا القول مجاز، والمراد أنه أمد صوتا منك، تشبيها بالشئ الندى (5) الذى يمتد وينبسط، وهو (هامش ص 393) (1) مشارفا له: مخالطا ومطلعا. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه علم الله بيده بجامع التأثير والادراك في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (3) ألقه على بلال: أي اترك أمره إلى بلال. (4) أندى: أبعد منك صوتا: أي أن صوته يصل إلى مكان أبعد من المكان الذى يصل إليه صوتك، والمطلوب في الاذان الابلاغ، وكلما كان مدى الصوت بعيدا كان المبلغون به أكثر عددا. (5) الندى: الرطب الطرى الذى يمكن مطه وتطويله. (م – 25)


[ 394 ]

بالضد من اليابس الذى يجتمع وينقبض (1) وعلى ذلك قول الشاعر: فقلت ادعى وأدعو إن أندى (2) * لصوت أن ينادى داعيان (3). 311 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شئ قدير عشر مرات كتب الله له بكل واحدة قالها عشر حسنات، وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات، وكن له مسلحة من أول نهاره إلى آخره ما لم يعمل يومئذ عملا يقهرهن “. وفي هذا الكلام استعاراتان (إحداهما) قوله عليه الصلاة والسلام: وكن له مسلحة من أول نهاره إلى آخره. والمراد بالمسلحة هاهنا مجتمع السلاح الكثير، يقال: هاهنا مسلحة للسطان، ويراد به الموضع الذى فيه جماعة من أعوانه قد كثرت أسلحتهم، واشتدت شوكتهم، كما يقال: مأسدة للارض الكثيرة الاسد، ومكمأة للارض الكثيرة (هامش ص 394) (1) أي لا يمكن مده ولا مطه. (2) أي أبعد مدى للصوت مناداة مناديين. فإن في اجتماع الصوتين قوة لا تكون للصوت الواحد. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه بعد مدى الصوت بنداه وطراوته، وإمكان مطه وتطويله، بجامع الوصول إلى المكان البعيد عن المصدر في كل، وحذف وجه الشبه والاداة.


[ 395 ]

الكمأة، ومفعاة، ومحواة للارض الكثيرة الافاعى والحيات، ونظائر ذلك كثيرة، فجعل عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات لقائلهن بمنزلة السلاح الكثير الذى يدفع عنه المخاوف، ويرد الايدى البواطش. (والاستعارة الاخرى) قوله عليه الصلاة والسلام: ما لم يعمل يومئذ عملا يقهرهن، والمراد ما لم يعمل من الاعمال السيئة في يومه ما يغلب إثمه أجر هذه الكلمات إذا قالها على الوجه المحدود فيها. وينبغى أن يكون المراد بذلك الذنوب الصغائر دون الذنوب الكبائر، لان عقاب الكبيرة يعظم فيكون كالقاهر لتلك الحسنات التى ذكرها، والدرجات التى أشار إليها، ولما أقام عليه الصلاة والسلام تلك الكلمات مقام السلاح لقائلها، جعل ما في مقابلتها من إثم مولغ (1)، وذنب موبق، بمنزلة القاهر لها والثالم (2) فيها، ملامحة (3) بين صفات الالفاظ ومزاوجة بين فرائد الكلام، وهذا موضع المجاز الثاني الذى أفضنا في ذكره، وكشفنا عن سره (4). (1) المولغ: أي موقع ومدله في النار، ومن ذلك ولغ الكلب في الاناء: أدخل لسانه فيه. (2) الثالم: الكاسر، أو الموثر تأثيرا ينقص منها. (3) ملامحة: مشابهة ومشاكلة، لان الملامح: المشابه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، ومجاز مرسل واستعارة تبعية، الاول في قوله كن له مسلحة، فشبه الكلمات بالمسلحة وهى مكان السلاح، بجامع أن فيها ما يرد عوادى الشيطان، وحذف وجه الشبه والاداة، والاصل كن له كالمسلحة في رد عدوان =


[ 396 ]

312 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لما أمر برجم اليهودي الذى زنا بعد أن وافق اليهود على أن حد الزانى المحصن عندهم الرجم دون الجلد، وكانوا أنكروا ذلك ثم أقروا به، فقال عليه الصلاة والسلام: ” اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذا أماتوه ” وهذه استعارة، والمراد أنى أول من أظهر أمرك، إذ ستروه، وأذاعه إذ كتموه. فأقام عليه الصلاة والسلام الاظهار مقام الاحياء، والاخفاء مقام الاماتة، لان الحى ظاهر منتشر، والميت خاف مستتر، وقد مضى الكلام على نظير هذا الخبر فيما تقدم من هذا الكلام (1). (هامش ص 396) = الشيطان، والمجاز المرسل في قوله مسلحة، والمراد كن له سلاحا فعبر عن السلاح بمكانه وهو مجاز مرسل علاقته الظرفية، والتبعية في قوله يقهرهن، حيث شبه إذهاب فائدتهن بعمل الذنب بالقهر بجامع إذهاب الاثر والفائدة في كل، واشتق من القهر بمعنى إذهاب الفائدة والاثر، يقهر بمعنى يذهب الاثر، على طريق الاستعارة التبعية. (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارتان تبعيتان: الاولى في أحيا، والثانية في أماتوه: 1 – حيث شبه إظهار حكم الله في الزانى المحصن وهو الرجم بالاحياء، بجامع وجود الاثر في كل، واشتق من الاحياء بمعنى الاظهار، أحيا بمعنى أظهر، على طريق الاستعارة التبعية. ب – وحيث شبه إخفاء اليهود لحكم الله في الزانى المحصن بالاماتة، بجامع إعدام الاثر في كل، واشتق من الاماتة بمعنى الاخفاء، أماتوا بمعنى أخفوا، على طريق الاستعارة التبعية، ويمكن اعتبار استعارة مكنية: في الحديث بأن يقال: شبه حكم الله في الزانى المحصن بالانسان الذى يحيا ويمات بجامع ظهوره وخفائه في كل من المشبه والمشبه به، وحذف المشبه به ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الاحياء والاماتة على طريق الاستعارة المكنية، وإثبات الاحياء والاماتة إلى الامر والحكم تخييل.


[ 397 ]

313 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، فيما رواه شداد بن الهاد قال: ” سجد رسول الله صلى الله عليه وآله سجدة أطال فيها، فقال الناس عند انقضاء الصلاة: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهرانى صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه أتاك وحى، فقال عليه الصلاة والسلام: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني هذا ارتحلني (1) فكرهت أن أعجله حتى يقضى حاجته “، وكان الحسن أو الحسين عليهما السلام قد جاء النبي عليه الصلاة والسلام في سجدته فامتطي ظهره: وهذا الحديث مشهور، وهو حجة لمن يجوز انتظار الامام بركوعه إذا سمع خفق النعال حتى يدخل الواردون معه في الصلاة وهو قول الشافعي، وقد كرهه أهل العراق. ولا خلاف في أن الامام يجوز له أن ينتظر حضور الجماعة إذا لم يخش فوت الوقت قبل أن يدخل في الصلاة، فانتظاره عليه الصلاة والسلام ابنه حتى يقضى منه حاجته يدل على أن من فعل هذا الفعل وأشباهه لا يخرج به من الصلاة، وقوله عليه الصلاة والسلام: ” ولكن ابني هذا ارتحلني ” استعارة، والمراد أنه جعل ظهره كالراحلة له والمطية التى تحمله، ويقال من ذلك: رحلت الناقة وارتحلتها: إذا امتطيتها لتسيرها، وعلى ذلك قال الشاعر: ولكن رحلناها نفوسا كريمة * تحمل مالا يستطاع فتحمل (هامش ص 397) (1) ارتحلني: صعد فوق ظهرى كما يصعد راكب الراحلة على ظهرها.


[ 398 ]

ألا ترى أن الشاعر لما جعل هذه النفوس بمنزلة المطايا المذللة، والظهور المحملة، استحسن أن يقول: رحلناها مقابلة بين أجزاء اللفظ، وملاحمة (1) بين العجز والصدر. وليس هناك على الحقيقة ظهور تحمل الرجال، وتحمل الانفال، وإنما أراد صفة تلك النفوس بالصبر على عض البلاء، وعرك الادواء (2)، ونوازل القدر، وجواذب الغير (3). 314 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام كلم به بعض أصحابه: ” لن تبرحوا مبتلين (4) ما كنت بين أظهركم، فإذا أنا هلكت أقبلت إليكم الدنيا وأقبلتم إليها، واضطمتكم (5) الدنيا اضطمام الوالدة ولدها ” وهذه استعارة. (هامش ص 398) (1) ملاحمة: مشاكلة وموافقة، يقال هذا لحيم هذا بمعنى وفقه وشكله. (2) الادواء: جمع داء، عركها: تأثيرها في الاجسام. (3) الغير: أحداث الدهر المتغيرة، جمع غيرة بكسر الغين وسكون الياء. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه صعود الحسن أو الحسين رضى الله عنهما على ظهره صلى الله عليه وسلم بالارتحال، بجامع الصعود على الظهر في كل، واشتق من الارتحال بمعنى الصعود على الظهر، ارتحلني بمعنى صعد على ظهرى، على طريق الاستعارة التبعية. (4) أي ستستمرون في البلاء ما دمت حيا بينكم. (5) اضطمتكم: صيغة افتعل من الضم وقلبت تاء الافتعال فيه طاء، لوقوعها بعد حرف الاطباق وهو الضاد تسهيلا للنطق، لان الانتقال من الضاد إلى التاء ثقيل، والاصل ” اضتمتكم “، فحدث القلب كما ذكرنا، ومثلها اضطمام أصلها ” اضتمام ” فحدث فيها ما حدث في اضطمتكم “.


[ 399 ]

والمراد أن الدنيا بعده عليه الصلاة والسلام تكثر فوائدها، وتتصل مراغدها، فشبه نفعها لاهلها بحفاوة الوالدة بولدها، إذا كانت ترضعه درها، وتمهده حجرها (1)، وتشبل (2) عليه جهدها، وذلك كقولهم: قد ضم فلان فلانا إلى كنفه، يريدون أنه قد قام بأمره، وأغناه من غيره (3). 315 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تعادوا الايام فتعاديكم ” (4). وهذا القول مجاز، لان الايام على الحقيقة لا يصح أن تعادى ولا تعادى، وإنما المراد لا تخصوا بعض الايام بالكراهية له والتطير به، فربما اتفق عليكم فيه من طوارق القدر، وبوائق الغير، ما يقوى في ظنونكم أنه يختص ذلك اليوم دون غيره (هامش ص 399) (1) تمهده حجرها: تجعله له مهدا ينام فيه كالسرير أو غيره مما يجعل مناما للطفل. (2) تشيل عليه: تعطف عليه. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية وتشبيه بليغ، الاولى في قوله ” اضطمتكم ” حيث شبه إقبال الدنيا بخيراتها ومنافعها على المسلمين بالاضطمام، بجامع شدة القرب والالتحام في كل، واشتق من الاصطمام بمعنى شدة القرب والاقبال، اضطمتكم بمعنى أقبلت عليكم بشدة، وزادت في إقبالها حتى تكون كالملتصقة بكم، على طريق الاستعارة التبعية. والثانى في قوله: اضطمام الوالدة ولدها، فالاصل كاضطمام الوالدة في شدة الحنو والعطف، ثم حذف وجه الشبه والاداة. (4) تعاديكم: يحدث لكم فيها ما يحدث من العدو لعدوه، فكأنها هي العدو.


[ 400 ]

من الايام، وليس كما ظننتم، لان الايام تمضى في ذلك على عاداتها، وتجرى إلى غاياتها، فتكونون كأنكم قد عاديتم ذلك اليوم باستشعاركم وصول الضرر إليكم منه، ويكون ذلك اليوم كأنه قد عاداكم باتفاق المضرة عليكم فيه، وخرج القول مخرج المجاز والاتساع، ومناديح (1) الكلام (2). بسم الله الرحمن الرحيم 316 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد سمع أعرابيا يقول في مسجده صلى الله وآله بعقب صلاة صلاها: اللهم ارحمنى ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فقال عليه الصلاة والسلام: ” لقد تحجرت واسعا “، وهذه استعاة. وأصل التحجر أن يختط الانسان خطة، ويضرب عليها سياجا ليحوزها به، ويعلم أنها في قبضته. ومنه الحجرة، وهو البيت المضروب، وجعلت بعد ذلك اسما لبناء مخصوص وجمعها حجر. ومن ذلك قولهم: حجر الحاكم على فلان إذا منعه من التصرف في ماله، فكأنه ضرب عليه (هامش ص 400) (1) مناديح الكلام: جمع مندوحة، وهى في الاصل ما اتسع من الارض، وهنا ما اتسع من الكلام. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه حدوث الاضرار في الايام بمعاداتها للناس، بجامع كون كل من المشبه والمشبه به سببا في حدوث الضرر، واشتق من المعاداة بمعنى حدوث الضرر، تعادى بمعنى يحدث الضرر فيها، على طريق الاستعارة التبعية.


[ 401 ]

حظارا (1) يحبسه فيه، ويقصر خطوه دونه، فأراد عليه الصلاة والسلام بقوله للاعرابي: ” لقد تحجرت واسعا ” تشبيهه بمن ضرب سياجه على قاعة واسعة فحازها، ومنع غيره من المشاركة فيها، لانه دعا ربه أن يرحم النبي عليه الصلاة والسلام ويرحمه معه خصوصا، وحظر رحمته سبحانه على الناس عموما، وكان ذلك تحجرا على الرحمة، ويسطرة على النعمة، وخلافا لقوله تعالى: ” ورحمتي وسعت كل شئ “، وفي رواية أخرى: أنه عليه الصلاة والسلام قال لما سمع قول الاعرابي: ” من هذا لقد احتظر واسعا “. والمعنى في اللفظين واحد: لان الاول مأخوذ من الحجرة، والثانى مأخوذ من الحظيرة، وقد يجوز أن يكون المراد لقد ضيق أمرا واسعا في الجملة، وقد يجوز أن يكون لقد وسع على نفسه فضيق على غيره (2). 317 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من أبطأ به (هامش 401) (1) الحظار: ككتاب وسماء: الحائط وما بحوط به على الدواب من شجر ونحوه، أي ضرب عليه حجابا. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه قصر رحمة الله على النبي صلى الله عليه وسلم هو والداعى بالتحجر وهو عمل الحجرة والحائط لمنع الناس من الدخول، بجامع المنع في كل واشتق من التحجر بمنع المنع، تحجرت بمعنى ضيقت، لان كل من عمل حائطا أو بنى حظيرة، فقد ضيق الواسع من الارض، وذلك على طريق الاستعارة التبعية.


[ 402 ]

عمله لم يسرع به نسبه ” وهذه استعارة. والمراد أن من تأخر بسوء عمله عن غايات الفضل ومواقف الفخر، لم يتقدم إليها بشرف نسبه وكريم حسبه، فجعل عليه الصلاة والسلام الابطاء والاسراع مكان التأخر والتقدم، لان المبطئ متأخرو المسرع متقدم، وأضافهما إلى العمل والنسب وهما في الحقيقة لصاحبهما لالهما، ولكن العمل والنسب لما كانا سبب الابطاء والاسراع، حسن أن يضاف ذلك إليهما على طريق المجاز والاتساع (1). 318 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” رحم الله حميرا أفواههم (2) سلام، وأيديهم طعام، أهل أمن وإيمان “، وهذا القول مجاز. والمراد المبالغة في صفتهم بإفشاء السلام، وإطعام (هامش ص 402) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة مكنية وتبعية: 1 – حيث شبه عمل الانسان ونسبه بالدابة، بجامع الايصال إلى المطلوب في كل، وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو الابطاء والاسراع لانهما في الغالب من خواص الدواب التى تقطع مراحل السفر. 2 – وحيث شبه عدم إيصال العمل الضعيف قليل الخير بإبطاء الدابة، بجامع التأخر في الوصول في كل، وإيصال العمل كثير الخير القوى بالاسراع بجامع الوصول بسرعة في كل، واشتق من الابطاء إبطأ، ومن الاسراع أسرع، على طريق الاستعارة التبعية. (2) الاصل أفواهم صاحبة سلام وأيديهم صاحبة طعام، فلما أريدت المبالغة حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار خبرا عن المبتدأ، فهذا مجاز مرسل من استعمال المصدر في المشتق والعلاقة الاشتقاق. كأن الاصل أفواهم مسلمة وأيديهم مطعمة، فاستعمل السلام والطعام بدل اسم الفاعل.


[ 403 ]

الطعام، فلما كثر لفظ السلام من أفواههم، وبذل الطعام من أيديهم، جاز على طريق المبالغة أن يقول: أفواههم، سلام، وأيديهم طعام، كما يقول القائل: ما فلان إلا أكل ونوم، وما فلان إلا صلاة وصوم، إذا كثر الاكل والنوم من الاول، والصلاة والصوم من الآخر، وعلى هذا قول الخنساء في صفة الظبية الفاقدة ولدها: ترتاع ما نسيت حتى إذا ذكرت * فإنما هي إقبال وإدبار تريد صفتها بكثرة الاقبال والادبار والتململ والاضطراب. ومن هذا الباب أيضا قولهم: فلان عدل، فوصفوه بالمصدر الذى فعله عدل يعدل عدلا لكثرة وقوعه منه، وتظاهره به، ونظائر ذلك كثيرة. 319 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، ويعنى الموت: ” أكثروا ذكر هادم اللذات “، وهذه استعارة، والمراد أن اللذات بالموت تتلاشى وتبطل وتمحق، وتضمحل كما يضمحل البناء بهدمه، ويبطل بتعفية رسمه، والهدم في الاصل هو الابطال للشئ، فإذا قالوا: هدم فلان البناء، فإنما يريدون إنه أزاله وأبطله. ومن ذلك الحديث المروى عنه عليه الصلاة والسلام للانصار ليلة العقبة بعد مراجعة كلام طويل: الدم الدم والهدم الهدم “. وأصح ما قيل في تفسير ذلك أنه عليه الصلاة والسلام أراد إنكم


[ 404 ]

إن طلبتم بدم طلبته، وإن هدمتموه هدمته، وأقام الهدم عاهنا مقام الطل، يقول: إن طللتموه طللته، بمعنى إن أبطلتموه أبطلته، وقال يعقوب بن السكيت في كتاب الالفاظ: يقال دماؤهم هدم بينهم: أي هدر. ويقال هدم بتحريك الدال أيضا (1). 320 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في ذم أقوام من المنافقين: ” خشب بالليل جدر بالنهار “، في كلام طويل، وهذه استعارة. والمراد أنهم ينامون الليل كله من غير قيام لصلاة، ولا استيقاظ لمناجاة، فهم كالخشب الواهية التى تدعم لئلا تتهافت، وتمسك لئلا تتساقط (2). 321 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن المؤمن إذا أذنب كان الذنب نكتة (6) سوداء في قلبه، فإن (هامش ص 404) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه قطع اللذات بسبب الموت بهدم البناء، بجامع قطع المنفعة في كل، واشتق من الهدم بمعنى قطع المنفعة، هادم بمعنى قاطع، على طريق الاستعارة التبعية. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيهان بليغان، حيث شبه المنافقين بالخشب بالليل، لانهم ينامون ولا يتحركون، ولكن يمكن تحريكهم، لان النوم يسلب إرادتهم، وبالجدر بالنهار لانهم يجلسون في أماكنهم لا يتحركون بالنهار لقضاء الصلاة، ولا يمكن تحريكهم، لان إرادتهم موجودة وهم لا يعترفون في سريرتهم بالصلاة، فأذا طلب منهم أحد القيام بها لم يحركوا ساكنا، كالجدار الذى لا يتحرك لثباته، وحذف وجه الشبه والاداة. (3) النكتة: النقطة التى لها أثر.


[ 405 ]

تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ؟، فإن زاد زادت حتى تغمر قلبه ” فقوله عليه الصلاة والسلام: ” صقل قلبه ” استعارة، والمراد إزالة تلك النكتة السوداء عن قلبه، ولكنها لما كانت بمنزلة الدرن في الثوب (1)، أو الطبع على السيف، حسن أن يقال: صقل قلبه منها كما يصقل السيف من طبعه، أو يغسل الثوب من درنه (2). 322 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل ” ولا يشرب أحدكم الحدود، وهو حين يشربها مؤمن “، وهذا القول مجاز، والمراد بالحدود هاهنا الخمر، وإنما عبر عليه الصلاة والسلام بهذا الاسم عنها، لان إقامة الحدود تستحق بشربها، وليس هاهنا معصية ربما اجتمعت في الاقدام عليها حدود كثيرة غيرها، لان السكران في الاكثر يقدم على استحلال الفروج، واستهلاك النفوس، وسب الاعراض، وقذف المحصنات، فيجتمع عليه حد السكر، وحد القتل، وحد الزنا، وحد القذف، ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام، وقد سأله عمر بن الخطاب عن حد (هامش ص 405) (1) الدرن: الوسخ، والطبع: الوسخ الشديد من تأثير الصدأ. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ واستعارة تبعية، فالتشبيه في قوله: كان الذنب نكتة سوداء، أي مثل النكتة، وحذف وجه الشبه والاداة. الاستعارة التبعية في قوله: صقل قلبه، حيث شبه ذهاب النكتة وانعدام أثرها، وعودة المقلب إلى ما كان عليه بالصقل، بجامع الملاسة وعدم الاثر في كل، واشتق من الصقل بمعنى عدم الاثر، صقل بمعنى ذهب أثر الذنب منه، على طريق الاستعارة التبعية.


[ 406 ]

السكران، فقال: أقم عليه حد المفترى، لان الشارب إذا سكر لغا (1). وإذا لغا افترى (2). 323 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في أطفال المسلمين: ” هم دعاميص الجنة ” وهذه استعارة، والدعموص: دويبة صغيرة تكون في مياه العيون. يقال: إنها ضفدع، فكأنه عليه الصلاة والسلام شبههم للعبهم في أنهار الجنة ومياهها بالدعاميص التى تعوم في قرارات الغدران وجمامها (3). 324 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة: ” إذا أضيعت الامانة فانتظروا الساعة. قيل: وما إضاعتها يا رسول الله ؟ قال: إذا توسد الامر إلى غير أهله “، وفي رواية أخرى: ” إذا وسد الامر إلى غير أهله “، وهذه استعارة، والمراد إذا استند الامر إلى غير أهله، فأقام الوساد هاهنا مقام السناد، لان المتوسد للشئ (هامش ص 406) (1) اللغو: سقط الكلام والفحش. (2) كذب وتكلم بالباطل في حق الناس. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته المسببية، حيث استعمل لفظ الحدود في الخمر والحدود مسببة عنها. (3) جمام: جمع جمة، وهى مجتمع الماء. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه أطفال المسلمين بالدعاميص، بجامع اللعب والعوم في الماء في كل وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 407 ]

مستند إليه ومعتمد، وإنما جعل عليه الصلاة والسلام الامر مستندا لهم، لانهم القائمون بأحكامه، والمقيمون لاعلامه، فهم له كالمساك والسناد، والدعائم والعماد، ويكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام على الرواية الاخرى: ” إذا وسد (1) الامر إلى غير أهله ” على فعل ما لم يسم فاعله (2). 325 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله سبحانه، وقتل نفس بغير حق، أو بهت (3) مؤمن، أو الفرار يوم الزحف، أو يمين صابرة (4) يقتطع بها مال بغير حق ” وهذا مجاز، والمراد أو يمين مصبورة: أي مكرهة على الكذب من قولهم: فلان مصبور على (هامش ص 407) (1) وسد: بالبناء للمجهول، أي إذ أسند الامر إلى غير أهله. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه قيام الحكام بالاحكام وتنفيذها بالتوسد بجامع الاعتماد في كل، لان المتوسد هو الذى يضع رأسه على الوسادة (المخدة) فهو يعتمد عليها في وضع رأسه، والامور تعتمد على الحكام في تنفيذها، واشتق من التوسد بمعنى الاعتماد، توسد بمعنى اعتمد، على طريق الاستعارة التبعية، ومثل ذلك وسد في الرواية الاخرى التى وردت بالبناء للمجهول. (3) بهت المؤمن: اختلاق الكلام عليه وهو لم يقله. يقال بهته كمنعه، بهتا وبهتا وبهتانا: قال عليه ما لم يفعل. (4) اليمين الصابرة: بمعنى المصبورة، ومعنى الصابرة الحابسة، والمصبورة المحبوسة، وليس الحبس هنا مرادا وإنما المراد اللزوم. فالمعنى اليمين اللازمة التى يلزم بها الشخص حتى إذا حلف قضى له بما حلف عليه، وإنما سميت مصبورة لانها ألزمت للحالف، أي ألزم بها فهى ملزمة بصيغة اسم المفعول. (*)


[ 408 ]

السيف: أي محبوس على القتل مع إكراه عليه واضطرار إليه. ومن ذلك الخبر المروى أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن صبر البهائم، وصبرها حبسها، وترك تغذيتها إلى أن تموت مكرهة على تلك الحال المكروهة، ومن ذلك قولهم: قتل فلان صبرا، فكأنه عليه الصلاة والسلام جعل تلك اليمين الكاذبة لبعدها عن الصدق ومخالفتها جهة الحق بمنزلة المكرهة على ركوب تلك المحجة الضلعاء (1)، والوقوف عند تلك السوءة السوءاء (2)، فهى كالمصبورة على السيف، والمحمولة على الخسف، ومما يقوى ما قلنا رواية عمران بن حصين الخزاعى لهذا الخبر قال: قال صلى الله عليه وآله: ” من حلف بيمين كاذبة مصبورة فليتبوأ مقعده من النار “، فقد صرح عليه الصلاة والسلام في هذه الرواية بأن اليمين الصابرة في الرواية الاولى بمعنى الصمبورة (3). (هامش ص 408) (1) المحجة: الطريق، والضلعاء: المعوجة لان الضلع هو الاعوجاج خلقة. (2) السوءاء: الشديدة السوء لان فعلاء أنثى أفعل (أسوأ) وهو الاكثر سوءا. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل على مجاز عقلي، أي أن الكلمة فيها مجازان، وبيان ذلك أن المراد باليمين الصابرة. المصبورة، فهنا مجاز مرسل علاقته الاشتقاق، حيث استعمل اسم الفاعل في اسم المفعول، والعلة المبالغة كما سيأتي بيانه، والمجاز العقلي في إسناد الصابرة بمعنى المصبورة إلى ضمير اليمين والمصبور صاحبها لانه هو المجبر والملزم بالحلف فأسند اسم المفعول إلى غير من هو له وهو الحالف فهو السبب، وبيان المبالغة أن اليمين لما كانت مصبورة اعتبرت صابرة كأنها هي التى أجبرت صاحبها على الذنب لانها سببه، ويجوز أن يقال في علاقة المجاز المرسل السببية. (*)


[ 409 ]

326 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إذا دخل البصر فلا إذن “. وهذه استعارة، والمراد أن من استأذن على بيت فولج (1) فيه بصره قبل أن يلج فيه بدنه، فقد بطل إذنه، لان الاذن إنما يكون من قبل أن يقع البصر على ما يشتمل عليه البيت، فأما إذا كان ذلك فكأن المستأذن قد وصل قبل أن يؤذن له في الوصول، ودخل قبل أن يؤمر بالدخول، ويقوى ما قلناه من ذلك الخبر الآخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ” من اطلع من صير باب فقد دمر “، ومعنى دمر: دخل، والدامر: الداخل، والصير هاهنا: الشق أو الفرجة تكون بين البابين. ذكر ذلك أبو عبيد في غريب الحديث. وموضع المجاز من هذا الكلام تصييره عليه الصلاة والسلام البصر بمنزلة الداخل على القوم، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام رؤيته لهم، ونفوذه إلى ما رواء بابهم (2). 327 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الجرس مزمار الشيطان ” وهذه استعارة، وذلك أنه لما كان كل صوت مكروه ينسب إلى الشيطان، كضروب الغناء، وعويل النساء، (هامش ص 409) (1) دخل فيه بصره: أي وصل النظر إلى داخل البيت. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه وصل النظر إلى داخل البيت بالدخول بجامع الوصول في كل، واشتق من الدخول بمعنى الوصول، دخل بمعنى وصل، على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 410 ]

وكان صوت الجرس من الاصوات المكروهة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الآخر: ” لا تصحب الملائكة رففة فيها جرس ” حسن أن يضاف صوته إلى الشيطان على طريق المجاز والاتساع (1). 328 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن المؤمن لينضى (2) شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في السفر ” وهذه استعارة، والمراد أن المؤمن يصعب قياده على الشيطان فلا يصغى إلى وساوسه، ولا يجعل لهواجسه سبيلا إليه، اعتصاما منه بدينه، واستلآما (3) عليه في جنة (4) يقينه، فشيطانه أبدا مكدود (5) معه لطول منازعته القياد ومفالتته (6) الزمام، فشبهه عليه الصلاة والسلام لاتعابه الشيطان في الاحتجاز عن إضلاله، والامتناع من اتباعه (هامش ص 410) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الجرس بمزمار الشيطان، بجامع النفرة من المشبه والمشبه به، وحذف وجه الشبه والاداة. (2) ينضى شيطانه: أي يسبب له الهزال من كثرة إجهاده في السير خلفه لاغوائه ثم لا يحصل الشيطان على طائل، كما ينضى الرجل بعيره أي يسبب له الهزال من كثرة السير والاجهاد في السفر. (3) استلآما عليه: أي اعتصاما وامتناعا على الشيطان من قولهم لبس لامة الحرب: إذا وقى نفسه بها. (4) الجنة: الستر، كأن اليقين شئ حسى يستر المؤمن عن الشيطان ويختبئ داخله. (5) مكدود: متعب. (6) مفالتته: أي كلما أمسك الشيطان بزمام المؤمن ليقوده في غواياته، يشد المؤمن زمامه من يد الشيطان ويفلته منه. (*)


[ 411 ]

بالمنضى بعيره في السفر، إذا أطال شقته (1) واستفرع قوته وحش عريكته (2). 329 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل: ” لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض إلى أن يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه “، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” حتى يكثر المال ويفيض ” استعارة، كأنه شبهه بالماء الطامى (3) الذى يفيض من قرارته (4)، ويسيح من كثرته. ونظير هذا الخبر ما روى من قوله عليه الصلاة والسلام في خبر آخر: ” ورب متخوض في مال الله ورسوله فيما اشتهت نفسه، له النار يوم القيامة ” كأنه عليه الصلاة والسلام جعل كثرة المال عند هذا (هامش ص 411) (1) شقته: مسافته. (2) حش: قطع، والعريكة: السنام، ومعنى قطع السنام وهو ما يتغذى منه البعير عند عدم الغذاء فهو كالاحتياطي له: أن المؤمن أذهب قوة الشيطان الاحتياطية بعد أن استفرغ قوته الاصلية. وكانت في الاصل وحسن عريكته، ولكن المعنى الذيك ذكرناه أولى. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية: حيث شبه إتعاب المؤمن للشيطان واستعصائه على إغوائه بالانضاء وهو الاهزال، بجامع الاتعاب في كل، واشتق من الانضاء بمعنى الاهزال: ينضى بمعنى يهزل، على طريق الاستعارة التبعيه. وفيه تشبيه مرسل، حيث شبه إنضاء الشيطان بإنضاء البعير وذكر الاداة وهى الكاف. (3) الطامى: العالي المرتفع. (4) قرارة الماء: ما استقر فيه من نهر أو بحر أو نحوهما. (*)


[ 412 ]

الانسان بمنزلة الغمرة (1) الطامية، والجمة (2) الطافحة، وجعل إنفاقه منه وتقلبه فيه، بمنزلة الخوض في الجمام الغزار، واللجج (3) الغمار. 330 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن للمساجد أوتادا، الملائكة جلساؤهم، إذا غابوا افتقدوهم (4)، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم ” وهذه استعارة، كأنه عليه الصلاة والسلام شبه المقيمين في المساجد، والملازمين لها، والمنقطعين إليها بالاوتاد المضروبة فيها، وذلك من التمثيلات العجيبة الواقعة موقعها، والمقرطسة غرضها (5)، ويقال: فلان وتد المسجد، وحمامة (6) المسجد: إذا طالت ملازمته له، وانقطاعه إليه، وتشبيهه (هامش ص 412) (1) الغمرة: الكثرة من الماء، والطامية: العالية. (2) الجمة: معظم الماء. والطافحة: التى بلغت الحافة ثم سالت على الجوانب. (3) اللجج: جمع لجة، وهى الماء المجتمع، والغمار: الكثيرة. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه كثرة المال وعمومه بفيض النهر ونحوه بجامع الزيادة، واشتق من الفيض بمعنى العموم، يفيض بمعنى يعم، على طريق الاستعارة التبعيه، وفيه أيضا استعارة بالكناية، حيث شبه المال بالماء في زيادته وفيضه، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو يفيض، وإسناد الفعل إلى ضمير المال تخييل. وفي الحديث الآخر استعارة تبعية أخرى في ” متخوض ” حيث شبه المنفق في مال الله الكثير، بالمتخوض في الماء. (4) افتقدوهم: طلبوهم عند غيابهم. (5) يقال قرطس السهم: أصاب الغرض، أي من التمثيلات المصيبة غرضها. (6) حمامة المسجد: يشبه المقيم بالمسجد بحمامته، لان الحمام يأوى إلى المسجد ويقيم فيه اطمئنانا إلى أن أحدا لن يهيجه. (*)


[ 413 ]

بالوتد في الملازمة أبلغ من تشبيهه بالحمامة، لان الحمامة تنتقل وتزول، والوتد مقيم لا يريم (1). 331 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: ” ورجل تصدق بصدقة أخفاها لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ” وهذا مجاز، والمراد المبالغة في صفته بكتمان نفقته، وإخفاء صدقته، فإذا كانت شماله لا تعلم بما تنفقه يمينه، وهى سريحتها (2) وقسيمتها، وجارتها ولصيقتها، فأجدر ألا يعلم بذلك غيرها ممن شط (3) دارا، وبعد جوارا (4). 332 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر لوطا عليه الصلاة والسلام، وقوله لقومه: ” لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد “. قال عليه الصلاة والسلام: ” فما بعث الله بعده نبيا إلا في ذروة قومه ” وهذه استعارة، والمراد فما بعث الله بعده نبيا إلا في أعلى شرف قومه، لئلا يغمض حسبه، (هامش ص 413) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه المقيمين في المساجد، الملازمين لها بالاوتاد، بجامع الثبات وعدم المفارقة في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (3) سريحتها: شقيقتها، لان السريحة هي القطعة من الثوب، فالقطعتان سريحتان، كل منهما سريحة للاخرى، وقسيمتها توضيح لها. (3) شط: بعد. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية ؟ ؟، حيث كنى بعدم علم شماله بما تنفقه يمينه عن شدة الاخفاء. (*)


[ 414 ]

ويزدرى منصبه، فيكون ذلك منفرا عنه، وموحشا منه. فشبه عليه الصلاة والسلام ذلك بذروة البعير وهى سنامه، أو ذورة الجبل وهى رأسه، ويقولون: فلان في الغوارب (1) من قومه، كما يقولون في الذرى من قومه. فالغارب هاهنا كالذورة هناك. ويقولون أيضا: هو في عليا قصر قومه (2)، وفي رواية: عليا قومه إذا أرادوا هذا المعنى، وذلك في أشعارهم وكلامهم أكثر من أن يستقصى، وفي شعر يروى لامير المؤمنين علي عليه السلام: كانوا الذؤابة (3) من فهر وأكرمها * حيث الالوف الفرع والعدد (4) 333 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لكل شئ سنام وسنام القرآن سورة البقرة، ومنها آية هي سيدة آى القرآن، لا تقرأ في بيت فيه الشيطان إلا خرج منه، وهى آية الكرسي “، وفي رواية أخرى: ” البقرة سنام القرآن وذروته، وياسين قلب القرآن “، وفي هذا الكلام استعارات ثلاث: (هامش ص 414) (1) الغارب: هو الكاهل أو ما بين العنق والسنام، والمراد في المكان المرموق العالي. (2) القصر: البناء العظيم، وعلياه: الحجرة العليا فيه أو أعلاه. (3) الذؤابة: الناصية أو منبتها، والمراد في أعلى فهر، وهى قبيلة معروفة ؟. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه أشراف القوم بذروة البعير، بجامع العلو في كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (*)


[ 415 ]

أولاهن قوله عليه الصلاة والسلام: ” وسنام القرآن سورة البقرة ” والمراد أنها أعلى القرآن، وأشرفه كما أن أعلى ما في البعير سنامه وذروته، والكلام في هذا المعنى كالكلام على الخبر المذكور أمام هذا الخبر (1)، لان المراد بهما واحد. والاستعارة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام: ” ومنها آية هي سيدة آى القرآن “. والمراد أنها تتقدم القرآن وتفضله، كما أن السيد يتقدم على عشيرته، ويفضل أهل طبقته، والاستعارة الثالثة قوله عليه الصلاة والسلام: ” ياسين قلب القرآن “. والمراد أنها خالصته ولبابه، كما أن قلب الشئ صميمه ومصاصه، ويقولون: فلان قلب بنى فلان، إذا كان في مقر صميمهم، وفي مصح (2) أديمهم. 334 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل: ” أيها الناس: ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب، كما (هامش ص 415) (1) يريد الحديث السابق على هذا الحديث وفيه (في ذروة قومه). (2) الاديم: الجلد، والمصح: شئ تحشى به جلود الفصلان حتى يصير الجلد على هيئة الفصيل لتدر أمه، والمراد أنه في في داخل القوم محوط بهم كما يحيط الجلد بما في داخله. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاثة تشبيهات بليغة. الاول: تشبيه سورة البقرة بالسنام في الرفعة، والثانى: تشبيه آية الكرسي بالسيدة، في التكريم والتقديم والاحترام، والثالث: تشبيه سورة ياسين بقلب القرآن في عظم الفائدة، وحذف وجه الشبه والاداة في الجميع. (*)


[ 416 ]

يتتايع الفراش في النار ” وهذا القول مجاز، والمراد يتسارعون إلى قول الكذب تهافتا فيه، ومنازعة إليه، فيكونون كالفراش المتساقط في النار، لانه يلوذ بها وينازع إليها، والتتايع: التواقع في الشئ المكروه (1)، فلما كان الكذب كالمهواة (2) والمزلة، من حيث أدى إلى المخزاة والمذلة، حسن لذلك أن يجعل المتسرع إليه كالواقع فيهما، والمرتكس في قعرهما. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد أن الكذب لما كان مفضيا إلى دخول النار جعل المتسرع إليه كالمتهافت في النار، ويؤكد هذا الوجه تشبيه المتتايع في الكذب بالفراش المتساقط في النار، ولذلك نظائر قد تقدم الكلام عليها في هذا الكتاب (3). (هامش ص 416) (1) في القاموس: التتايع: ركوب الامر على خلاف الناس، والتهافت والاسراع في الشر واللجاجة، وأجود المعاني المناسبة للتتايع هنا هو التهافت، لان تتايع الفراش تهافته، والتهافت: هو التساقط والتتابع، ولا مانع أن يكون الحديث: تتابعون بالباء بدل الياء، أي يتلو بعضكم بعضا، ولكن المعنى الاول أفضل. (2) المهواة: مكان الهوى والسقوط، والمزلة: مكان الزلل والوقوع. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه تهافت الناس في الكذب ووقوعهم فيه بتهافت الفراش في النار، بجامع الوصول إلى سبب الهلاك في كل، واشتق من التتايع تتايعوا بمعنى تتهافتوا، على طريق الاستعارة التبعية، وفيه أيضا استعارة بالكناية، حيث شبه الناس بالفراش في إسراعهم في أسباب هلاكهم، وحذف المشبه به ورمز إليه بشئ من لوازمه، وهو التتايع، وإسناد التتايع إلى ضمير الناس تخييل. (*)


[ 417 ]

335 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر عنده رجال من أصحابه يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال عليه الصلاة والسلام: ” تلك ضراوة الاسلام وشرته، ولكل شئ ضراوة (1) وشرة، ولكل شرة قترة (2)، فمن كانت قترته إلى الكتاب والسنة فسالم ما هو، ومن كانت قترته إلى معاصي الله فذلك الهالك “، فقوله عليه الصلاة والسلام: ” تلك ضراوة الاسلام وشرته ” استعارة، والمراد بذلك شدة الورع وإفراطه وغلوه واشتطاطه (3)، تشبيها له بالضراوة على الشئ المأكول أو المشروب، وهى شدة الاعتياد له، وفرط المنازعة إليه. وذلك مأخوذ من قولهم: سبع ضار، إذا درب بأكل اللحم فكثر طلبه له ولوبته (4) عليه، ويقولون: عرق ضار إذا فار دمه فلم يقف، وتواتر فلم ينقطع. وقال الاخطل يصف دن الخمر عند بزله (5). (هامش ص 417) (1) الضراوة: الاعتياد والدرية، والشرة: النشاط. (2) القترة: بالقاف المثناة المضمومة والتاء والراء، ناموس الصائد أي طريقته في الصيد أو شبكته أو بيته أو حفيرته التى يقع فيها صيده، وفي الطبعتين السابقتين على هذه الطبعة ” فترة ” بالفاء ولا معنى ؟ ؟ لها هنا. (3) الاشتطاط: الابعاد في الشئ والزيادة فيه. (4) اللوبة هنا: استدارة الحائم حول الماء وهو عطشان لا يصل إليه، والمراد بحثه عنه، وتحويمه ودوراته عليه. (5) يقال بزل دن الخمر: إذا ثقبه ليخرج منه الخمر، والمعنى عند ثقبه لاستخراج الخمر منه. (*)


[ 418 ]

لما أتوها بمصباح (1) ومبزلهم * سارت إليهم سؤور (2) الابجل الضار والابجل: واحد الا باجل، وهى العروق، ومعنى سارت: أي فارت ونضحت (3) مأخوذ من سورة الشئ وهى حركته وطموحه، ومما في هذا المعنى الخبر المروى عن بعض الصحابة: ” اتقوا هذه المجازر (4) فإن لها ضراوة كضراوة (5) الخمر “، فأراد أن ضرر الادمان على أكل اللحم، كضرر الادمان على شرب الخمر، إلا أن المستكثر من اللحم يؤثر ضرره في بدنه، والشارب للخمر يؤثر ضررها في دينه (6). 336 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” لعن الله (هامش ص 418) (1) المصباح: السنان العريض، والقدح: الكبير، والمبزل: المصفاة. والمعنى لما أتوا الخمر بالسنان لثقب دنها وبالمصفاة لتصفية ما يسيل منها. (2) سارت إليهم: فارت وخرجت من الدن، سؤور الابجل: فوران العرق الضارى الذى لا يكف عن خروج الدم منه. (3) نضحت بالضاد المعجمة: أي رشت وخرجت متدفقة. (4) المجازر: جمع مجزور، وهو النعم التى تذبح فتؤكل. (5) أي لها إدمان واعتياد كإدمان الخمر. (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه اعتياد الطاعات والافراط في الميل إليها، بضراوة المآكل والمشارب، بجامع محاولة الوصول إليها مهما كان المانع، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (*)


[ 419 ]

الذين يشققون (1) الكلام تشقيق الشعر “، وهذا القول مجاز، والمراد الذين يتصرفون في الكلام فيدققون فيه، ويتعمقون في معانيه. وشبه عليه الصلاة والسلام فعلهم ذلك بتشقيق الشعر، لان طاقات الشعر مستدقه في نفوسها، وإذا تعاطى الانسان تشقيقها انتهت من الدقة إلى غاية لا زيادة وراءها، وهذا اللعن في الخبر إنما يتناول من بلغ في تدقيق الكلام إلى ذلك الحد ليشتبه الباطل بالحق، ويجوز الغى بالرشد، كما قلنا في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: ” ألا أخبركم بأبغضكم إلى وأبعدكم منى مجلسا يوم القيامة ؟ الثرثارون المتفيقهون (2) “. 337 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل “، وهذا القول مجاز. والمراد انتشار الاسلام في الشرق والغرب، واشتماله على البر والبحر، فجعله عليه (هامش ص 419) (1) يشققون الكلام: يزينونه ويحسنونه حتى يخرج أحسن مخرج، فهو كالكلام المعسول ومذاقه مر، وتشقيق الشعر: أي مثل تشقيق الشعر وتصفيفه وترجيله وتلميعه، يلبسون الحق بالباطل، ويقدمون القبيح في ثوب المليح. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية وتشبيه بليغ، الاول: حيث شبه تزيين الكلام وتحسينه بتصفيفه وتقسيمه إلى أقسام تحسن في السمع بتشقيق الشعر، واشتق من التشقيق بمعنى التزيين يشققون بمعنى يزينون على طريق الاستعارة التبعية، والثانى حيث شبه تشقيق الكلام بتشقيق الشعر في دقة التقسيم وحسن التزيين، وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 420 ]

الصلاة والسلام من هذا الوجه بمنزلة الداخل دخول الليل في الاطلال (1) والاطباق، وتجليل (2) البلاد والآفاق. ومن ذلك ما روى في حديث عن بعض الصحابة، وهو قوله: ” وكان ذلك حين دجا (3) الاسلام ” أي ألبس كل شئ، ودخل على كل حى تشبيها بالليل في تغطية البلاد، وشموله النجاد (4) والوهاد. ومما يقوى هذا المعنى ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لفاطمة عليها السلام وقد رأت قميصه مخروقا، وبطنه خميصا، فبكت عند ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: أما يرضيك يا فاطمة ألا يبقى على ظهر الارض بيت مدر (5) ولا وبر إلا دخله عز أو ذل (6) بأبيك “. (هامش ص 420) (1) الاطلال: الاشراف، يقال أطل عليه إذا أشرف عليه، والاطباق: التغطية، لان طبق كل شئ غطاؤه، ويقال: أطبق عليه بمعنى غطاه واستولى عليه. (2) التجليل: التغطية أيضا، يقال جلله بمعنى غطاه، والمراد شمول الاسلام لكل شئ وإشرافه عليه. (3) دجا الاسلام: انتشر وعم كل شئ مأخوذ من قولهم: دجا الثوب: إذا سبغ وستر جميع البدن. (4) النجاد: المرتفعات، والوهاد: المنخفضات. (5) المدر: قطع الطين اليابس، واحدته مدرة بوزن بقرة، والمراد بيوت المدن التى تبنى بالطين والحجارة، والوبر: صوف الابل ونحوها. والمراد أن لا يبقى بيت على ظهر الارض من البيوت بجميع أنوعها، سواء كان في المدن حيث البيوت من الطين والحجارة، أو في الصحراء، حيث البيوت من الصوف ونحوه. (6) ومعنى دخله عز أو ذل: أن الاسلام سيعم جميع البيوت، فالمسلم منها يعتز به، والكافر منها يذل به، ومعنى بأبيك: أي بسبب أبيك، لانه الذى جاء بالاسلام ؟ ؟. (*)


[ 421 ]

338 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل: ” ألا أخبرك برأس الامر وعموده وذروة (1) سنامه ؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: رأس الامر الاسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ” وهذه الالفاظ كلها مستعارة، كأنه عليه الصلاة والسلام جعل الاسلام رأس دين الله المتقدم، ورئيسه المعظم، وجعل الصلاة عموده الذى به قوامه (2)، وعليه قيامه، وجعل الجهاد ذروة سنامه، لانه يعد الرأس أعلى مشارفه (3)، وأرفع مراتبه، وبه يشاد بناؤه، ويقام لواؤه، ويقمع أعداؤه (4). (هامش ص 421) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث كناية عن دخول الاسلام على كل شئ في الدنيا، كما يدخل الليل على كل شئ في الدنيا، أي من انتشاره في جميع بقاع الارض. (1) ذروة السنام: أعلاه، والسنام معروف وهو من الجمل ما يكون فوق ظهره، ولكنه أريد به هنا مكارم الاسلام العالية، وأعماله الشامخة. (2) قوام الشئ: قيمته وكنهه. (3) مشارف الشئ: أعاليه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث ثلاث استعارات تصريحية: 1 – حيث شبه الاسلام وهو النطق بالشهادة والايمان بالله ورسوله، برأس الاسلام في الشرف والفائدة بحيث إذا ذهب الرأس ذهب الجسم. 2 – وحيث شبه الصلاة بالعمود الذى يقام عليه البيت، بجامع أن العمود أهم شئ في البيت، فما دام موجودا فالبيت قائم. 3 – وحيث شبه الجهاد بذروة سنام الاسلام، بجامع أنه أعلى الطاعات وأفضل القربات ليس قبله ولا بعده عمل في الاسلام يفضله، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه في المواضع الثلاثة. (*)


[ 422 ]

339 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” حجوا قبل ألا تحجوا قبل أن يمنع البر جانبه “. وفي هذا القول مجاز. والمراد حجوا قبل أن يمنع سلوك البر القاطعون لسبيله، والعائثون في طريقه، والحائلون بين الناس وبين دخوله. فلما جعل عليه الصلاة والسلام البر ممنوعا بمن أشرنا إلى ذكره، حسن على طريق المجاز أن يجعله كالمانع لجانبه (1)، والمخوف لسالكه، لان المحجوب كرها كالمحتجب، والممنوع قسرا كالممتنع (2). 340 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الحمى كير (3) جهنم ” وهذا القول مجاز. والمراد المبالغة في وصف حرارة الحمى واتقادها، وشدة أوارها، فشبهها عليه الصلاة والسلام: بكير يستمد من نار جهنم، وهى أعظم النيران وقودا، وأبعدها خمودا. (هامش ص 422) (1) يقال منع جانبه: إذا اشتدت قوته، ومنه الناس من تحيف أطرافه والوصول إلى مكانه. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه قطع الطريق وعدم إمكان السير فيه، بمنع جانبه كما سبق بيانه، بجامع عدم الوصول إليه وعدم إمكان السير فيه، واشتق من منع الجانب بمعنى تعذر السير، يمنع بمعنى يتعذر السير فيه، على طريق الاستعارة التبعية. وفيه أيضا استعارة مكنية، حيث شبه البر بالانسان الذى يمنع جانبه ويحميه من مس أحد له، وحذفه ورمز إليه بشئ من لوازمه وهو الجانب وإسناد المنع إلى البر تخييل. (3) الكير: منفاخ الحداد، ومعنى أن الحمى كير جهنم: أنها كالكير الذى يقوى النار، غير أن هذا الكير يلفح لفحا شديدا كأنه لفح جهنم، لان كير جهنم فيها، والهواء الذى يخرج منه حار حرارة جهنم. (*)


[ 423 ]

وقال المفسرون في قوله تعالى وهو يريد نار الدنيا: ” نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ” قالوا تذكرة يستذكر بها الناس نار الآخرة، فيكون ذلك أزجر لهم عن المعاصي، وأصرف عن المضال والمغاوى، لان نار الدنيا إذا كانت على ما هي عليه من قوة الاحراق وشدة الارماض (1) والاقلاق (2)، وهى مع ذلك دون نار الآخرة في الطبقة، وجزء من أجزائها في الايلام والنكاية، فما ظننا بتلك النار إذا باشرت الاجسام، وخالطت اللحوم والعظام، نعوذ بالله منها، ونسأله التوفيق لما باعد عنها. وقيل في المقوين قولان. أحدهما: أن يكونوا المرملين من الزاد، والفاقدين للطعام، يقال: أقوى فلان من زاده إذا لم يبق عنده شئ منه، وذلك مأخوذ من الارض القواء التى لا شئ فيها، فكأنه صار كهذه الارض في الخلو من البلغ التى يتبلغ بها، والمسك التى يترمقها (3)، والقول الآخر أن يكون المقوون هاهنا السائرين في القوى، وهى الارض التى قدمنا ذكرها، والنار للمسافر أرفق (4) منها للحاضر. (هامش ص 423) (1) الارماض: الايقاع في الحرارة، أي شدة إشعار الشخص بالحرارة. (2) الاقلاق: الازعاج. (3) يقال ترمق اللبن: إذا شربه قليلا قليلا، والمسك جمع مسكة وهى ما يمسك الرمق الذى هو بقية الحياة. والمعنى أن المقوى الذى لا يجد إلا القليل من الطعام والزاد، يترمقه: أي يأخذه قليلا قليلا كلما وجده. (4) الرفق بكسر الراء وسكون الفاء: ما استعين به، ومعنى أرفق للمسافر أي أكثر عونا له. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الحمى فيما تجلبه = (*)


[ 424 ]

341 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: في دعاء دعا به لميت: ” اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر وعذاب النار “. فقوله عليه الصلاة والسلام ” وحبل جوارك ” استعارة. والمراد أنه لجئ (1) إلى ظلك، ومضطر إلى فضلك. فأخرج قوله ” في ذمتك، وحبل جوارك ” على عادة كلام العرب، لانهم يقولون: قد عقد فلان لفلان حبلا، وأخذ فلان من فلان حبلا: إذا أعطاه ذماما، أو عقد له جوارا، وقد سموا العهود: حبالا على هذا المعنى، وفي التنزيل: ” إلا بحبل من الله وحبل من الناس “: أي بعهد من الله وعهد من الناس، والاصل في ذلك أن يشبهوا ما يعقد من الذمام (2) بما يعقد من الحبال، لانها تقرب بين البعيدين، وتجمع بين القريبين، وتصل الابيات بالابيات، وتربط الاطناب (3) بالاطناب (4). (هامش ص 424) = من الحرارة بكير من جهنم ينفخ حرها، مبالغة في شدة حرارة الحمى، وحذف وجه الشبه والاداة. (1) لجئ: اسم فاعل من لجئ بوزن فرح، فهو على وزن فعل بفتح الفاء وكسر العين، بمعنى لائذ. (2) الذمام: جمع ذمة، وهى العهد. (3) الاطناب: جمع طنب بوزن فرس، وهو الحبل الذى يشد به البيت من جلد ونحوه. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الميت الذى أصبح في رحمة الله بالشخص = (*)


[ 425 ]

342 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لاصحابه وقد ذكر وقوع الفتن: ” ثم تعودون فيها أساود (1) صبا يضرب بعضكم رقاب بعض “، وهذا القول مجاز. وأراد عليه الصلاة والسلام أنكم تكونون في هذه الفتنة كالحيات التى تنصب على مناهشها، وتسرع إلى ملابسها، غير متذممة (2) من محرم، ولا متورعة عن معظم (3). 343 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كلكم يدخل الجنة إلا من شرد (4) على الله شراد البعير “. فقوله عليه الصلاة والسلام ” إلا من شرد على الله ” مجاز، والمراد إلا من عند (5) عن أمر الله سبحانه وتعالى، وبعد عن رضاه وطاعته، وذهب في غير جهة مشيئته وإرادته، فكان كالبعير الشارد الذى ندعن (هامش ص 425) = المعاهد غيره، والذى أصبح في عهده، لان الذمة هي العهد، أي في حمايتك، وشبه أيضا يمن في حبل جواره، لان عادة العرب أن يجيروا المستجير فكأن الميت استجار بالله فأجاره فأصبح في ضمانته لانه أصبح مقطوع العمل، عديم النصر. وحذف وجه الشبه والاداة. (1) الاساود: جمع أسود، وهو الحية العظيمة، والصب والصبة: ما صب من طعام وغيره. والمعنى بنصب بعضكم على بعض كما تنصب الاساود على غريمها. (2) غير متذممة: غير مستنكفة ولا مبالية. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الناس بالحيات المقاتلة، بجامع عدم التحرج والمبالاة بإراقة الدماء وقطع حبال المودة. وحذف وجه الشبه والاداة. (4) شرد: نفر، وعدى بعلى لتضمينه معنى خرج. (5) عند: مال، أي إلا من مال عن أمر الله وبعد عنه. (*)


[ 426 ]

صاحبه، وبعد عن معاطنه (1). 344 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لاسماء بنت أبى بكر: ” انفحى (2) وانضحى (3)، ولا توعى فيوعى الله عليك ” وقوله عليه الصلاة والسلام ” انفحى وانضحى ” استعارة. والمراد أنفقي مالك في سبيل الله، وابذليه في طاعة الله، وأصيبى به مواضعه بإسراع وبدار (4) كما تنفح الريح هبوبها (5)، وتنضح السحابة شؤبوبها (6). والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام هاهنا ” ولا توعى (7) فيوعى الله عليك “، أي لا تمسكي فيمسك الله (هامش ص 426) (1) المعاطن: جمع معطن، وهى مبارك الابل ومناماتها. والمراد مأواها. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه مخالفة أمر الله بشراد البعير، بجامع المخالفة والبعد في كل، واشتق من الشراد، شرد بمعنى خالف، على طريق الاستعارة التبعية. (2) انفحى: أعطى الناس من مالك، وأصل النفح: إخراج اللبن من غير حلب، مأخوذ من قولهم: ناقة نفوح، وهى التى تخرج لبنها من غير حلب. (3) انضحى: أنفقي مالك، وأصل النضح سقى النخل ونضحت السحابة الارض: رشتها بالماء، والمعنى أعطى الناس من مالك ما ينفعهم، كما ينفع الماء النخل. (4) البدار: مصدر بادر، أي أسرع. (5) يقال نفحت الريح: إذا هبت. (6) الشؤبوب: الدفعة من المطر، أي كما تنضح السحابة مطرها وماءها. (7) لا توعى: أي لا تقترى في النفقة، وأصل أوعى: حفظ الشئ في الوعاء، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لاسماء رضى الله عنها: لا تضعى مالك في الوعاء وتغلقيه عليه فلا تنفقي منه، فيعاقبك الله بان بوعى عليك: أي يقتر عليك في الرزق. (*)


[ 427 ]

عليك، لان من أوعى شيئا وحفظه، فقد أمسكه ومنعه (1) 345 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن قريشا أهل صدق وأمانة، فمن بغاهم (2) العواثر كبه (3) الله لوجهه ” وهذا القول مجاز، والمراد فمن بغاهم المعثرات، وهى الامور التى تعثرهم، وتضع (4) شرفهم. فقال عليه الصلاة والسلام ” العواثر ” لانها وإن أعثرتهم فكأنها عاثرة بهم، أو واقعة عليهم، ومنه قولهم: عثر الدهر بآل فلان: إذا نقص أعدادهم، وغير أحوالهم، (هامش ص 427) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث أربع استعارات تبعية: ا – حيث شبه إنفاق المال بدون طلب بالنفح وهو بإخراج الناقة لبنها من غير حلب، واشتق من النفح انفحى بمعنى أنفقي، على سبيل الاستعارة التبعية. ب – وحيث شبه إنفاق المال بالنضح وهو سقى النخل بالماء أو رش السحابة الارض بماء المطر، بجامع النفع ؟ ؟ في كل، واشتق من النضح بمعنى الانفاق، انضحى بمعنى أنفقي على سبيل الاستعارة التبعية. ج – وحيث شبه الامساك عن الانفاق بالايعاء وهو حفظ الشئ في الوعاء، بجامع الحبس في كل، واشتق من الايعاء بمعنى الامساك توعى بمعنى تمسكي على سبيل الاستعارة التبعية. د – وحيث شبه إمساك الله عن إعطاء الممسك بالايعاء أيضا، واشتق من الايعاء بمعنى الامساك، يوعى بمعنى يمسك أو يقتر على سبيل الاستعارة التبعية. (2) بغاهم: أي طلب لهم، العواثر جمع عاثرة بمعنى معثرة، والعاثرة الكابية، أي التى تعلقت قدمها بشئ فكبت على وجهها، والمراد بالمعثرات، أي المكبيات التى تسبب الكبوة، وقد بين الشريف سبب التعبير بالعواتر بدل المعثرات. (3) كبه الله على وجهه: ألقاه على وجهه في النار. (4) تضع شرفهم: تحطه وتنقص قيمته. (*)


[ 428 ]

وبلغ المبالغ منهم، وساءت آثاره فيهم (1). 346 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” المسلمان إذا حمل كل واحد منهما على صاحبه السلاح فهما على جرف (2) جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا “، وهذا القول مجاز. والمراد بذلك المسلمان اللذان يتقاتلان في غير طاعة الله سبحانه، فهما بنفس القتال وتظاهرهما بحمل السلاح عاصيان الله سبحانه مستحقان لعقابه مقدمان على شقاقه. فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلا جميعا النار إلا أن المقتول يستحقها بتعرضه للقتال المحظور عليه، والقاتل يستحقها بمثل ذلك، ويتفرد بعقاب القتل الذى وقع منه، فيكون أشدهما نكالا، وأعظمهما وبالا. وموضع المجاز، قوله عليه الصلاة والسلام ” فهما على جرف جهنم ” والمراد أنهما على طريق استحقاق نار جهنم، بإقدامهما على الفعل المحظور، والامر المكروه، فشبه عليه الصلاة والسلام كونهما قريبين من استحقاق (هامش ص 428) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، وتبعية: 1 – الاولى حيث شبه ما يجلب الضرر والحط من القدر بالعواثر، بجامع حدوث المكروه من كل، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. 2 – وحيث شبه مجازاة الله لمن بغى العواثر بقريش وعقابه بكبه لوجهه، بجامع فعل ما يسوء في كل، واشتق من الكب بمعنى العقاب، كبه بمعنى عاقبه، على طريق الاستعارة التبعية. (2) الجرف بضم الراء وسكونها: ما تجرفته السيول وأكلته من الارض، والمعنى: فهما على مكان تكاد تجرفه جهنم وتعمه، أو تدخله فيها. (*)


[ 429 ]

دخول النار بمن أشرف على جرفها (1)، وقام على حرفها، في شدة القرب منها، والاشفاء (2) على الوقوع فيها. ومثل ذلك قوله تعالى: ” وكنتم على شفا (3) حفرة من النار فأنقذكم منها “. وقد لخصنا الكلام على ذلك في كتاب مجازات القرآن (4). 347 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد رأى بعيرا في بعض حيطان (5) المدينة فحن إليه كالشاكي، فقال عليه الصلاة والسلام لصاحبه: ” إن بعيرك يشكوك ويزعم أنك أكلت شبابه حتى إذا كبر تريد أن تنحره “، وهذا القول مجاز، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام ” أكلت شبابه ” استعملته في حال شبابه وقوته، وأجمعت نحره في حال ضعفه وكبره، فجعل استعماله طول أيام شبابه كالاكل شبابه، لانه استنفاد له وذهاب به (6) (هامش ص 429) (1) أي على المكان المعرض لجرف جهنم له كما سبق بيانه. (2) الاشفاء: الاشراف. (3) شفا حفرة: حرف حفرة معرضين للوقوع فيها. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه المسلمان اللذان يحمل كل منهما السلاح على صاحبه بالشخصين الواقفين على قطعة من الارض تكاد النار تجرفها وتلتهمهما، بجامع التعرض للخطر الداهم في كل، وحذف وجه الشبه والاداة. (5) الحائط هنا: البستان وجمعه حيطان وحياط. (6) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه استعمال البعير في شبابه وإبان قوته بأكل شبابه، بجامع الافناء في كل، واشتق من الاكل بمعنى الاستعمال طول مدة الشباب أكل بمعنى استعمل، على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 430 ]

348 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: في حديث طويل نهى فيه عن الذبح بالسن والظفر: ” أما السن فعظم (1)، وأما الظفر فمدى الحبشة ” (2)، وهذه استعارة، والمدى السكاكين، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: والاظفار سكاكين الحبشة لانهم يذبحون بحدها ويقيمونها مقام المدى في التذكية بها، والظفر هاهنا اسم للجنس كالدينار والدرهم في قولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم: أي الدنانير والدراهم. ولذلك صح أن يقول: مدى الحبشة، والمدى جمع لان الواحدة مدية (3). 349 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” كفى بالسلامة داء “. وهذا القول مجاز، لان السلامة على الحقيقة ليست بداء في نفسها، وإنما المراد أنها تفضى إلى الادواء القاتلة، والاعراض المهلكة، لان طولها يؤدى إلى موت الشهوات وانقطاع اللذات، وحواني (4) الهرم، وعوادى السقم. فحسن من هذا الوجه أن (هامش ص 430) (1) أي والعظم لا يحل الذبح به لانه بعض الحيوان. (2) أي ومدى الحبشة لا يحل الذبح بها عند المسلمين، للنهى عنها وعن السن في الذبح بقوله صلى الله عليه وسلم ” ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر ” وذلك لصفة الوحشية والشراسة في الذبح بالسن والظفر، والاسلام يحب المسلم مهذبا أليفا لا يظهر في صورة الوحش المفترس. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الاظافر بالمدى بجامع الذبح بها في كل وحذف وجه الشبه والاداة. (4) حوانى الهرم: اعوجاجاته وتغيراته. (*)


[ 431 ]

تسمى داء، إذ كانت موقعة فيه، ومؤدية إليه. وقد أكثرت الشعراء نظم هذا المعنى في أشعارهم، إلا أن كلمة النبي عليه الصلاة والسلام أبهى من جميع ما قالوه مطلقا، وأبعد منزعا، وأوجز في تمام، وأكثر مع قلة كلام. فمما جاء في هذا المعنى قول حميد بن ثور: أرى بصرى قدرا بنى (1) بعد صحة * وحسبك داء أن تصح وتسلما وقول لبيد بن ربيعة: ودعوت ربى بالسلامة جاهدا * ليصحنى فإذا السلامة داء وقول النمر بن تولب: يود الفتى طول السلامة والغنى * فكيف يرى طول السلامة يفعل وإنى لاستحسن كثيرا الابيات التى من جملتها هذا البيت، وهى قوله: تغير منى كل شئ ورابنى * مع الدهر أبدالى التى أتبدل (2) (هامش ص 431) (1) رابنى: أعيانى. (2) الابدال: جمع بدل، وهو وجع المفاصل، والمراد الوجع عموما، كأنه يقول وأوجاعي التى أتوجع منها، أو المراد وأحوالى المتبدلة المتغيرة من قوة إلى ضعف، ومن حسن إلى سئ. (*)


[ 432 ]

فضول أراها في أديمي بعدما * يكون كفاف الجسم أو هو ؟ أجمل (1) كأن محطا في يدى حارثية * صناع علت منى به الجلد من عل (2) يرد الفتى بعد اعتدال وصحة * ينوء (3) إذا رام القيام ويحمل تدارك ما قبل الشباب وبعده * حوادث أيام تمر وأغفل يود الفتى طول السلامة والغنى * فكيف يرى طول السلامة يفعل (4) 350 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر صلاة العصر: ” ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد “، وهذه (هامش ص 432) (1) فضول: زيادات جمع فضل، وهو الزيادة، والاديم: الجلد، وكفاف الجسم: قدره لا تزيد عنه أو أزيد منه مع امتلاء، وجمال: يشكو ما حدث له من ترهل في الجسم وذهاب اللحم، وبقاء الجلد واسعا كالثوب الواسع على الشخص النحيل بعد ما كان جلده ملائما لجسمه وممتلئا باللحم. (2) المحط والمحطة: حديدة ؟ ؟ أو خشبة معروفة عند العرب يحط بها الجلد، أي يصقل ويلين، والحارثية: امرأة منسوبة إلى قبيلة الحارث بن كعب، والصناع: الماهرة في عملها، وعلت متى به الجلد: أي نزلت بالمحط على جلدى بمهارة فألانته، ولين الجلد عند العرب يدل على الضعف، وشدة الجلد تدل على القوة. (3) ينوء: يتعب ولا يقدر على القيام. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث مجاز مرسل علاقته السببية، حيث استعمل الداء في سببه وهو السلامة، لان السلامة تسبب الداء. (*)


[ 433 ]

استعارة والمراد، بالشاهد هاهنا النجم، والعرب يسمون الكوكب شاهد الليل، كأنه يشهد بإدبار النهار وإقبال الظلام. وكل شئ يدل على شئ فهو يجرى مجرى الشاهد به والمخبر عنه، إذ ليس كل دال بإنسان، ولا كل دليل من جهة اللسان (1). 351 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” وأى داء أدوى (2) من البخل “، وهذا القول مجاز، لان البخل على الحقيقة ليس بداء، ولكنه لما كان عادة مكروهة، وخليقة مذمومة، أجرى مجرى الداء الذى يغير الصحة، ويفسد الجبلة، إلا أنه داء يمكن الانتقال عن صحبته، وحمل النفس على مفارقته، لانه لو لم يكن كذلك لما حسن الذم عليه والتعيير به، كما لا يحسن الذم على سائر الامراض التى تغير الاحوال وتفسد الاجسام، والبخل على الحقيقة هو منع الواجب، وكل من منع الواجب يوصف بالخبل، ومن منع التفضل لا يوصف بذلك إلا على سبيل المجاز، وكل ما في القرآن من ذكر البخل، فإنما يراد به منع الواجب، كما أن كل ما فيه من (هامش ص 433) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه طلوع النجم بالشهادة على انقضاء الليل، بجامع الاثبات والدلالة في كل، واشتق من الشهادة بمعنى الطلوع، شاهد بمعنى طالع أو دال، على طريق الاستعارة التبعية. (2) أدوى: أفعل تفضيل من دوى، دوى بوزن فرح فرحا بمعنى أصابه الداء، أي وأى داء أشد دوى من البخل أي أشد دائية من البخل. (*)


[ 434 ]

الامر بالانفاق، إنما يراد به إخراج المال في الواجب. فأما تسمية العرب من لا يقرى النازل ولا يعطى السائل بالبخيل، فلانهم اعتقدوا وجوب ذلك عليه، فوصفوه بالبخل لامتناعه منه وأساميهم تتبع اعتقاداتهم (1). 352 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: وقد سأله رجل من جهينة متى يصلى العشاء الآخرة (2) فقال: ” إذا ملا الليل بطن كل واد “، وهذا مجاز، لان الليل على الحقيقة لا تملا به بطون الاودية، كما تمتلئ بطون الاوعية، وإنما المراد إذا شمل ظل الليل البلاد، وطبق النجاد والوهاد، فصار كأنه سداد لكل شعب وصمام لكل نقب (4). (هامش ص 434) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه ضمنى، حيث شبه البخل بالداء بجامع إفساد الطبيعة في كل، واستعمل لذلك الاسلوب الذى يدل على ثبوت وصف البخل بالداء وتخلفه في باب الامراض، فاستفهم استفهاما إنكاريا عن أي داء أشد من البخل فقال ” وأى داء أدوى من البخل ” أي لا داء أدوى من البخل. (2) العشاء الآخرة: هي صلاة العشاء، وتسمى بالآخرة لان المغرب تسمى عشاء أيضا إلا أنها عشاء أولى. (3) بطن الوادي مسيله ومنحدره، وإذا عم الليل المنحدرات فقد تم إظلامه وأسبغ إلياله. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه عموم ظلام الليل للاودية بملء بطونها، بجامع الحلول الشامل في كل، واشتق من الملء بمعنى العموم، ملا بمعنى عم، على طريق الاستعارة التبعية. وفيه أيضا استعارة بالكناية، حيث شبه الاودية بالحيوانات، وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو البطن، وإثبات البطن إلى الاودية تخييل. (*)


[ 435 ]

353 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد طلعت بين أصابعه حرة (1) فوضع يده عليها وقال: ” اللهم مطفئ الكبير ومكبر الصغير أطفئها عنى برحمتك “، وهذه استعارة: كأنه عليه الصلاة والسلام أقام الشفاء المطلوب من الله سبحانه مقام الاطفاء لها ونضح الماء عليها. في أن ذلك يفنى وقودها، ويسرع خمودها. وهذا من التشبيهات الصادقة، والتمثيلات الواقعة. وروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقلق القلق الشديد لما يظهر في جسمه من الداء اليسير، فقيل له: في ذلك، فقال: إن الله إذا أراد أن يعظم صغيرا عظمه (2). 354 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من قعد في مصلاه حين يصلى الصبح حتى يسيح (3) الضحا. في حديث طويل “، وهذه استعارة كأنه عليه الصلاة والسلام جعل الضحا، وهو شباب النهار وزيادته، بمنزلة الماء السائح من الغدير: وفي السائح (هامش ص 435) (1) الحرة: البثرة الصغيرة، وهى مثل الدمل الصغير. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة بالكناية، حيث شبه البثرة بالنار في إيلامها لما تمسه من الاجسام الحساسة، وحذفها ورمز إليها بشئ من لوازمها وهو الاطفاء، وإثبات الاطفاء إلى النار تخييل. وفيه استعارة تبعية، حيث شبه شفاء البثرة وإذهابها بإطفاء النار، بجامع إذهاب الاثر وإبعاد الالم في كل، واشتق من الاطفاء بمعنى الشفاء أطفئ بمعنى اشف على طريق الاستعارة التبعية. (3) يسيح الضحى: ينتشر وتعم شمسه الآفاق. (*)


[ 436 ]

تمثيل من وجهين: أحدهما أن بياض الضحى كبياض الماء، والآخر أن انتشار النهار بضيائه كانسياح الغدير بمائه، ومثل تسميتهم الشمس عند أول طلوعها بالغزالة، وليس ذلك باسم لها في جميع الاحوال، كما يظنه بعض الجهال، وإنما هو اسم لها في هذا الوقت المخصوص، ومن الشاهد على ذلك قول ذى الرمة: وأشرفت الغزالة رأس حزوى * لانظرهم وما أغنى قبالا (1) كأنه قال: وأشرفت ذلك الموضع أول طلوع الشمس، وأبين من هذا قول الآخر، وأنشدناه شيخنا أبو الفتح النحوي رحمه الله: قالت له وارتفعت ألا فتى * يسوق بالقوم غزالات الضحى كأنها قالت يسوق بهم أوائل النهار، وعند ابتداء الشمس في الانتشار، وغزالات الضحى أول شروقها وإنضاضها (1)، والضحى وقت إشراقها وارتفاعها (3). (هامش ص 436) (1) الغزالة الشمس أول طلوعها، ورأس حزوى: موضع، وقبالا: أي شيئا، يقول الشاعر أشرفت المكان المعروف برأس حزوى وقت طلوع الشمس وهى الغزالة لارى أحبتي ولكن لم تفد الرؤية شيئا لان ما بالنفس لا تشفيه نظرة ولا نظرات. (2) نض الشئ: ارتفع، ومعنى انضاض الشمس: ارتفاعها قليلا قليلا، والضحى: ارتفاعها أكثر من هذا. (3) ما في الحديث من بلاغة: في الحديث استعارة تبعية، حيث شبه انتشار الضحى بسيلان الماء، بجامع عموم الامكنة في كل، واشتق من السيح بمعنى الانتشار، يسيح بمعنى ينتشر، على طريق الاستعارة التبعية. (*)


[ 437 ]

355 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، وقد مر على قوم وقوف على ظهور دوابهم ورواحلهم، يتنازعون الاحاديث، فقال عليه الصلاة والسلام: ” لا تتخذوها كراسي لاحاديثكم في الطرق والاسواق، فرب مركوب خير من راكبه “، وهذه استعارة كأنه عليه الصلاة والسلام شبه الدواب والرواحل في حالة إطالة الوقوف على ظهورها، بالكراسى التى يجلس عليها، لانها تثبت في مواضعها ولا تزول إلا بمزيل لها، فنهى عليه الصلاة والسلام أن يجعل الحيوان المتصرف بمنزلة الجماد الثابت، والشئ النابت (1). 356 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إن الاسلام بدأ جذعا، ثم ثنيا، ثم رباعيا، ثم سديسا، ثم بازلا (2)، وما بعد البزول إلا النقصان “. وهذا الكلام كله مستعار، والمراد (هامش ص 437) (1) الشئ النابت: الذى نبت في الارض، ونباته في الارض يدل على ثبوته فيها لان جذره مغروس فيها. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الدواب التى يجلس عليها أصحابها مدة طويلة يتحدثون بالكراسى، بجامع الجلوس عليها، وحذف وجه الشبه والاداة. (2) الجذع: الذى أجذع مقدم أسنانه، أي أسقطها لينبت غير، ويكون عمره خمس سنوات في هذه الحالة، والثنى: هو الذى نبتت له ثنيتان من أسنانه وتكون سنه حينئذ ست سنوات، والرباعى: الذى نبتت له أربعة أسنان ويكون عمره حينئذ سبع سنوات والسديس وعمره ثمان سنوات، والبازل: الذى تخرج أنيابه قوية، ويكون عمره حينئذ تسع سنوات، والبازل أقوى أنواع الجمال. ويكون تام القوة، كامل البنيان. (*)


[ 438 ]

تمثيل الاسلام في تنقل أحواله، وتغاير أوصافه، بولد الناقة ينتقل في أسنانه، فيكون أول أمره جذعا، ثم ثنيا، ثم رباعيا، ثم سديسا ثم بازلا، وهى سن التمام، وما بعدها إلى النقصان. ومدار المعنى على أن الاسلام بدا في غاية الصغر، ثم انتهى إلى غاية الكبر، على تدريج ما بين البازل والجذع، وأنه عليه الصلاة والسلام يخشى عليه نقيصة التمام، وعكيسة الكمال، كما يخشى على اليفن (1) بعد انحنائه، والبازل (2) بعد انتهائه. 357 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” إنما هذا المال من الصدقة أوساخ أيدى الناس “، وفي رواية أخرى: ” غسالات أيدى الناس “، وذكر ابن سعد في كتاب الطبقات أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب رحمه الله، وقد سأله أن يستعمله على الصدقة: ” ما كنت لاستعملك على غسالة ذنوب الناس “، وهذا القول مجاز، والمراد تشبيه ما يخرجه الناس من صدقاتهم بالاوساخ التى يميطونها عن أيديهم. والتشبيه بذلك من وجهين: (هامش ص 438) (1) اليفن: الشيخ الكبير. (2) البازل: القوى. ما في الحديث من البلاغة: في الحديث خمس تشبيهات بليغة، حيث شبه الاسلام في أحواله المختلفة بالجمل في أسنانه المختلفة، وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 439 ]

(أحدهما) أن تكون أموال الصدقات لما كان إخراجها مطهرا لما وراءها من سائر الاموال، جرت مجرى المياه التى تغسل بها الادران، وتزال بها الانجاس في انتقال تلك الادران إليها، وحصول تلك الادناس والانجاس فيها. (والوجه الآخر) أن يكون المراد أن أموال الصدقات في الاكثر لا تكون إلا أسافل الاموال دون أخايرها، ومفارقاتها (1) دون كرامها. وذلك أمر عليه الصلاة والسلام في الصدقة بالاخذ من حواشى (2) الاموال دون حرزاتها، وهى خيارها، وإنما نسب عليه الصلاة والسلام تلك الاوساخ إلى الايدى، لان الاموال المعطاة في الاكثر إنما تكون بها وتمر عليها، وقد مضى الكلام على مثل هذا المعنى فيما تقدم (3). (هامش ص 439) (1) ومفارقات: معطوف على أسافل، أي ولا تكون إلا مفارقاتها دون كرامها، والمراد بالمفارقات التى يرضى أصحابها بمفارقتها لهم ويبذلونها عن طيب خاطر، لانها غير عزيزة عليهم والكرام لا تهون عليهم. (2) حواشى الاموال: صغارها وأقلها قيمة كما سبق في حديث ” خذ من حواشى أموالهم “. (3) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه مال الصدقة بالاوساخ، بجامع أنها تطهر غيرها كما أن الاوساخ إذا خرجت طهرت غيرها، واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، أو بجامع أنها نفايات الاموال، كما أن الاوساخ نفايات الاجسام، وفي أيدى مجاز مرسل علاقته السببية، حيث أراد بالايدي الاموال، لان المعنى أوساخ أموال الناس، ولما كانت الاموال تملك وتعطى باليد، كات اليد سببا للاموال المعطاة، فاستعمل لفظ السبب في المسبب. (*)


[ 440 ]

358 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في تعديد أقوام ذمهم: ” ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العظمة (1) “، وهذا القول مجاز، والمراد بذلك أن الكبرياء والعظمة رداؤه تعالى وإزاره اللذان يكسوهما خليقته، ويلبسهما بريته، ولا يقدر غيره على أن ينزع منهما ما ألبسه، أو يلبس منهما ما نزعه. والمراد بذلك العظمة والكبرياء على حقيقتهما، دون ما يعتقده الجهال أنه عظمة وكبرياء وليس بهما، وذلك مثل ما نشأ من تعظم الجبارين، وتكبر المتملكين، فإن ذلك ليس بتعظيم من الله سبحانه لهم، ولا بإفاضة من ملابس كبريائه عليهم، وإنما العظمة والكبرياء في الحقيقة هما الكرامة التى يلقيها الله سبحانه على رسله وأنبيائه، والقائمين بالقسط من عباده، فيعظمون بها في العيون، ويجلون في الصدور والقلوب، وإن كانت هيئاتهم ذميمة، وظواهرهم ورقابهم خاضعة، وبطونهم جائعة، فإذا ثبت ما قلنا بأن تسمية الكبرياء والعظمة رداء الله وإزاره ليس لانه يكتسيهما، ولكن لانه يكسوهما (2)، وذلك كما يقول القائل، وقد رأى على بعض الناس (هامش ص 440) (1) الرداء: هو الثوب الذى يستر أعلى الجسم، والازار: هو الذى يستر أسفل الجسم، وكان من عادة العرب لبس ثوبين إزار ورداء فعبر الرسول صلى الله عليه وسلم في جانب الله بما يفهمه العرب ويعقلونه. (2) يريد الشريف أن معنى قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم رداء الله وإزاره، الرداء والازار اللذين يملكهما ويكسوهما الناس، لا أنهما الرداء = (*)


[ 441 ]

ثوبا أفاضة عليه عظيم من العظماء، أو كريم من الكرماء: هذا ثوب فلان، ولم يرد أنه ملبسه، فأضافه إليه من حيث كساه، لا من حيث اكتساه. ويجرى هذا مجرى قولنا: بيت الله، وليس بساكنه وعرش الله، وليس براكبه. ونظير ذلك قولهم: لعمر الله ما فعلت كذا، ولعمر الله لقد فعلت كذا، والعمر هو العمر، يقال: عمر وعمر بمعنى واحد، قال الشاعر: بان الشباب وأخلق العمر * الاخواو تغيرن والدهر (1) أراد العمر على أحد التفسيرين، والتفسير الآخر أن يريد به واحد عمور (2) الاسنان، وإخلاقه تغيره من الكبر، إلا أن العمر في قولهم: لعمر الله، يراد به الحياة. وهذا المراد بقول القائل: (هامش ص 441) = والازار اللذين يلبسهما الله سبحانه وتعالى، ويكون معنى الحديث: ورجل ينازع الله ثوبي الكبرياء والعظمة اللذين يسكوهما من يختاره من عباده، ومعنى منازعة هذا الرجل لله أنه يتكبر ويتعاظم بغير ما أراد الله: أي يتعاظم ويتكبر بالباطل لا بالحق أما الذى يعظم بحق ويكبر بحق، فهو من يلبسه الله ثوب العظمة والكبرياء بان يكون متواضعا لخلقه مكرما للضعيف، موقرا للكبير معطيا للمحتاج صابرا على البلاء معتقدا أن العظمة لله والكبرياء له وحده، ولا مانع عندي أن يكون المراد برداء الله وإزاره: الصفتين اللتين يتصف بهما الله تعالى كما يلبس الرجل الازار والرداء، فإن الله تعالى عظيم متكبر، وهو الكبير المتعال، والتعبير على المعنيين مجاز كما سنبينه. (1) بان: ذهب وولى، وأخلق: بلى وتمزق. (2) عمور الاسنان: جمع عمر: بفتح العين وضمها، وهو اللحم الذى بين الاسنان أو لحم اللثة. (*)


[ 442 ]

لعمري، ولعمر أبى، ولعمر فلان، كأنه قال: وحياتي، وحياة أبى، وحياة فلان. وجاء عن ابن عباس رحمة الله عليه أنه قال: من كرامات الله سبحانه لنبينا عليه الصلاة والسلام أنه أقسم في القرآن بحياته ولم يفعل ذلك بنبى غيره، قال تعالى: ” لعمرك أنهم لفى سكرتهم يعمهون “، وكأنه سبحانه قال: وحياتك إنهم كذلك. وإذا صح ما قلناه صار القائل لعمر الله، كأنما حلف بحياة يحيى الله بها، لا حياة يحياها (1)، لانه سبحانه يتعالى عن أن يحيا بحياة، أو يتكلم بأداة، أو يفعل بآلات (2). 359 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” قد تركتكم على البيضاء، ليليها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك “، وهذا القول مجاز، والمراد بالبيضاء هاهنا مححة الدين (هامش ص 442) (1) معنى هذا أن قولك لعمرك: لحياتك، لاحياء الله لك، أي لتعمير الله إياك وإحيائه لك. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تبعية، واستعارتان تصريحيتان. الاولى حيث شبه تكبر الشخص بالباطل بمنازعة الله رداءه على المعنيين السابقين في معنى المنازعة، كأنه يجذب رداء الله الذى يتصف به أو الذى يلبسه لاحد الناس. واشتق من المنازعة بمعنى الاتصاف بصفة الكبر بغير إذن الله، ينازع بمعنى يتصف، على طريق الاستعارة التبعية، والثانية والثالثة حيث شبه الكبرياء بالرداء، والعظمة بالازار بجامع الالتصاق في كل، لان الثوب يلتصق بالبدن والصفة تلتصق بالنفس الكائنة في البدن واستعمل لفظ المشبه به في المشبه. (*)


[ 443 ]

ومدرجة الطريق المستقيم، وصفتها بالبياض: عبارة عن وضوح نهجها وبيان سننها، وكل أبيض في كلامهم واضح، يقولون: وجه واضح إذا كان أبيض المحيا، وجبين واضح، وجيد واضح على هذا المعنى. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” ليلها كنهارها ” مقول ما فسرناه من المراد بالبياض، كأنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن الليل لا يغطى وضوح هذه المحجة بسواده، ولا يستر أعلامها بظلامه، ولا محجة هناك على الحقيقة، وإنما المراد صفة الدين، بوضوح المعالم، وبيان المراسم (1)، وإنارة المداخل، وظهور الحجج والدلائل (2). 360 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما ملا آدمى وعاء شرا من بطنه. في حديث طويل “، وهذا القول مجاز إنما جعل عليه الصلاة والسلام البطن بمنزلة الوعاء، لانه قرار للطعام والشراب، وما يستحيلان إليه من الفروث (1) والاخباث، وكأن (هامش ص 443) (1) المراسم: الرسوم والخطوط التى تبين الطريق. (2) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية وتشبيه مرسل، الاولى في قوله ” البيضاء “، والمراد الطريق البيضاء، وحيث شبه الملة الاسلامية بالطريق البيضاء الواضحة التى لا يضل فيها السائر، ولا يتعثر فيها السالك. واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، والتشبيه: هو تشبيه ليل الملة الاسلامية بنهارها في الوضوح والنور، وذكرت أداة التشبيه وهى الكاف. (3) الفروث: جمع فرث بوزن كلب، وهو الروث والغائط الذى يتكون من فضلات الطعام بعد هضمه، والاخباث: جمع خبث، وهو القاذورات التى تخرج بعد الهضم. (*)


[ 444 ]

المأكل والمشرب إيعاء (1) فيه، وكأن إفراز الغدد (2) والتبرز تفريغ له. ونظير هذا الخبر الخبر المروى عنه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله: ” القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض “، وقد تقدم الكلام عليه، لانه عليه الصلاة والسلام إنما جعل القلوب كالاوعية، لانها موضع إيداع السرائر والضمائر، وحفظ الادلة والعلوم، ومستقر الآراء والعزوم (3)، إلا أن القلوب: أوعية للاعراض من الارادات والاعتقادات، والبطون: أوعية للاجسام من المأكولات والمشروبات (4). 361 – ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” الحجر يمين الله، فمن شاء صافحه بها “، وهذا القول مجاز، والمراد أن الحجر جهة من جهات القرب إلى الله، فمن استلمه وباشره قرب من طاعته تعالى، فكان كاللاصق بها، والمباشر لها، فأقام عليه الصلاة (هامش ص 444) (1) إيعاء: أي وضع في الوعاء، ومن ذلك قوله تعالى: ” جمع فأوعى “، وقوله صلى الله عليه وسلم لاسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها: (لا توعى) شبه الامساك بالوضع في الوعاء. (2) كانت هذه الكلمة ” العدد ” بالعين فزدنا لها إفراز وأعجمنا العين حتى يكون الاسلوب مفهما المعنى المقصود. (3) العزوم: جمع عزم، وهو القصد. (4) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث استعارة تصريحية، حيث شبه بطن ؟ ؟ الانسان بالوعاء، بجامع أن كلا ؟ ؟ منهما يملا إذا كان فارغا، واستعمل لفظ ؟ ؟ المشبه به في المشبه. (*)


[ 445 ]

والسلام اليمين هاهنا مقام الطاعة التى يتقرب بها إلى الله سبحانه على طريق المجاز والاتساع، لان من عادة العرب إذا أراد أحدهم التقرب من صاحبه، وفضل الانسة بمخالطته، أن يصافحه بكفه، ويعلق يده بيده. وقد علمنا في القديم تعالى أن الدنو يستحيل على ذاته، فيجب أن يكون ذلك دنوا من طاعته ومرضاته. ولما جاء عليه الصلاة والسلام بذكر اليمين أتبعه بذكر الصفاح، ليوفى الفصاحة حقها، ويبلغ بالبلاغة غايتها. ونظير هذا الخبر الحديث الآخر: ” إن الصدقة تقع في يد الله سبحانه وتعالى قبل يد السائل “، أي يتعجل بها منه سبحانه مثوبته ومواقعته، وموافقة طاعته، وأنها لا تهلك ضلالا، ولا تذهب ضياعا، بل تكون كالشئ المحفوظ باليد، والمذخور للغد (1). * * * وهذا أخير انتهائنا إلى الفراغ من كتاب ” مجازات الآثار النبوية ” على ما تخلل عملنا له من قواطع الاشغال، وبواهظ الاثقال، وعوادى الايام والليال. وقد خرجنا في صدر هذا الكتاب من (هامش ص 445) (1) ما في الحديث من البلاغة: في الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الحجر الاسود الذى يستلمه الحج بيمين الله، بجامع البركة في استلام كل إذا قلنا إن لله تعالى يمينا ليست كأيماننا كما هو رأى أهل السنة، وإذا قلنا إن اليمين جهة قرب الله ففيها البركة أيضا، كما قال الشريف، وحذف وجه الشبه والاداة. (*)


[ 446 ]

عهدة التكفل باستيعاب جميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله من آثاره الملفوظة، والاخبار المنقولة، بما شرطناه من كلامنا الذى وقع إلينا، وقرب من متناولنا، دون ما بعد عنا، وشذ عن أيدينا. ولا يبعد أن يكون القدر الذى تكلمنا عليه قليلا من كثير، وقصيرا من طويل، إلا أن عذرنا في الاقتصار عليه واضح، وجيبنا فيما أديناه ناصح (1). ونحن نحمد الله سبحانه على ما من به من التوفيق لا قتناص شوارده، وتسهيل موارده، وإثارة (2) فوائده وعوائده (3)، حمدا يكون للنعمة قواما، ولنتاجها تماما، ولصعبها عقالا (4) وزماما، ونحن نحمد الله سبحانه على ما من به من التوفيق لا قتناص شوارده، وتسهيل موارده، وإثارة (2) فوائده وعوائده (3)، حمدا يكون للنعمة قواما، ولنتاجها تماما، ولصعبها عقالا (4) وزماما، فإن النعمة تثنى (5) على قواعد الشكر لها، وترفع على دعائم المعرفة بقدرها. وما توفيقنا إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. (هامش ص 446) (1) يقال رجل ناصح الجيب: لا غش فيه، ونصح بمعنى خلص، ويظهر أن أصل المعنى وجيبنا خالص، لا شئ فيه من المحظورات. (2) أثار الفوائد: أظهرها بعد أن كانت راكدة، وأفشاها بعد أن كانت خافية. (3) العوائد: جمع عائدة، وهى المنفعة. (4) الصعب من الدواب: الشديد المراس، الذى تصعب قيادته، والعقال: القيد، والزمام: اللجام. (5) تثنى: تعود مرتين فاكثر. (تم بحمد الله) تمت

اترك تعليقاً