البيان في تفسير القرآن

السيد الخوئي


[ 1 ]

البيان في تفسير القرآن


[ 2 ]


[ 3 ]

المدخل – وفاتحة الكتاب البيان في تفسير القرآن للامام الاكبر زعيم الحوزة العلمية السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان


[ 4 ]

الطبعة الرابعة حقوق الطبع محفوظة للمؤلف 1395 – 1975 م


[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين


[ 7 ]

المدخل


[ 8 ]

بحوث تحليلية في معارف القرآن وعظمته، وأسراره الكونية والتشريعية، ومناهجه، واصول تفسيره، ونواحي إعجازه وميزاته، ومختلف قراءاته، وصيانته عن النقص والتحريف، وسموه عن الاوهام والتخرصات والطعون.


[ 9 ]

خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون.


[ 10 ]

” وأفضل صلوات الله وأكمل تسليماته على رسوله الذي أرسله ” بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. ” وعلى آله ” المصطفين الاخيار. الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم. رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون. ” واللعنة الدائمة على أعدائهم ” الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.


[ 11 ]

مقدمة الطبعة الاولى لماذا وضعت هذا التفسير ؟ كنت ولعا منذ أيام الصبا بتلاوة كتاب الله الاعظم، واستكشاف غوامضه واستجلاء معانيه. وجدير بالمسلم الصحيح، بل بكل مفكر من البشر أن يصرف عنايته إلى فهم القرآن، واستيضاح أسراره، واقتباس أنواره، لانه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر، ويتكفل بسعادتهم وإسعادهم. والقرآن مرجع اللغوي، ودليل النحوي، وحجة الفقيه، ومثل الاديب، وضالة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخلقي، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية، وعليه تؤسس علوم الدين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون، ونواميس التكوين. والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة. أولعت منذ صباي بتلاوته، واستيضاح معانيه، واستظهار مراميه، فكان هذا الولع يشتد بي كلما استوضحت ناحية من نواحيه، واكتشفت سرا من أسراره، وكان هذا الولع الشديد باعثا قويا يضطرني إلى مراجعة كتب التفسير، وإلى سبر أغوارها. وهنا رأيت ما أدهشني وحيرني: رأيت صغارة الانسان في تفسيره وتفكيره أمام عظمة الله في قرآنه. رأيت نقص المخلوق في تناهيه وخضوعه أمام كمال الخالق في وجوبه وكبريائه.


[ 12 ]

رأيت القرآن يترفع ويرتفع، ورأيت هذه الكتب تصغر وتتصاغر. رأيت الانسان يجهد نفسه ليكتشف ناحية خاصة أوناحيتين، فيحرر ما اكتشفه في كتاب، ثم يسمي ذلك الكتاب تفسيرا يجلو غوامض القرآن، ويكشف أسراره، وكيف يصح في العقول أن يحيط الناقص بالكامل. على أن هؤلاء العلماء مشكورون في سعيهم، مبرورون في جهادهم. فإن كتاب الله ألقى على نفوسهم شعاعا من نوره، ووضحا من هداه، وليس من الانصاف أن نكلف أحدا – وإن بلغ ما بلغ من العلم والتبحر – أن يحيط بمعاني كتاب الله الاعظم، ولكن الشئ الذي يؤخذ على المفسرين أن يقتصروا على بعض النواحي الممكنة، ويتركوا نواحي عظمة القرآن الاخرى، فيفسره بعضهم من ناحية الادب أو الاعراب، ويفسره الآخر من ناحية الفلسفة، وثالث من ناحية العلوم الحديثة أو نحو ذلك، كأن القرآن لم ينزل إلا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسر، وتلك الوجهة التي يتوجه إليها. وهناك قوم كتبوا في التفسير غير أنه لا يوجد في كتبهم من التفسير إلا الشئ اليسير، وقوم آخرون فسروه بآرائهم، أو اتبعوا فيه قول من لم يجعله الله حجة بينه وبين عباده. على المفسر: أن يجري مع الآية حيث تجري، ويكشف معناها حيث تشير، ويوضح دلالتها حيث تدل. عليه أن يكون حكيما حين تشتمل الآية على الحكمة، وخلقيا حين ترشد الآية إلى الاخلاق، وفقيها حين تتعرص للفقه، واجتماعيا حين تبحث في الاجتماع، وشيئا آخر حين تنظر في أشياء أخر. على المفسر: أن يوضح الفن الذي يظهر في الآية، والادب الذي يتجلى بلفظها، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسرا. والحق أني لم أجد من تكفل بجميع ذلك من المفسرين. من أجل ذلك صمت على وضع هذا الكتاب في التفسير، آملا من الحق تعالى أن يسعفني بما أملت، ويعفو عني فيما قصرت. وقد التزمت في كتابي هذا أن أجمع فيه ما يسعني فهمه من علوم القرآن التي تعود إلى المعنى. أما علوم


[ 13 ]

أدب القرآن فلست أتعرض لها غالبا لكثرة من كتب فيها من علماء التفسير، كالشيخ الطوسي في (التبيان) والطبرسي في (مجمع البيان) والزمخشري في (الكشاف). نعم قد أتعرض لهذه الجهات إذا أوجب البحث علي أن أتعرض لها أو رأيت جهة مهمة أغفلها علماء التفسير وقد أتعرض لبعض الجهات المهمة وإن لم يغفلها العلماء. وسيجد القارئ أني لا أحيد في تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة، من ذرية الرسول – صلى الله عليه واله وسلم – وما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله الله حجة باطنة كما جعل نبيه – صلى الله عليه واله وسلم – وأهل بيته المعصومين عليهم السلام حجة ظاهرة (1). وسيجد القارئ أيضا أني كثيرا ما أستعين بالآية على فهم اختها، واسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الاثر المروي مرشدا إلى هذه الاستفادة. وهنا مباحث مهمة لها صلة وثقى بالمقصود تلقي أضواء على نواح شتى قدمتها لتكون: مدخل التفسير: وهو يشتمل على موضوعات علمية تتصل بالقرآن من حيث عظمته وإعجازه ومن حيث صيانته عن التحريف، وسلامته من التناقض، والنسخ في تشريعاته، وما إلى ذلك من مسائل علمية ينبغي تصفيتها كمدخل لفهم القرآن ومعرفته، والبدء بتفسيره على أساس علمي سليم. واليه جل شأنه ابتهل أن يمدني بالتوفيق، ويلحظ عملي بعين القبول. انه حميد مجيد. المؤلف


(1) اصول الكافي ” كتاب العقل والجهل ” الرواية 12. (*)

[ 15 ]

فضل القرآن


[ 16 ]

عجز الانسان عن وصف القرآن. من هم أعرف الناس بمنزلته. حديث الرسول في فضل القرآن. صيانة القرآن من التلاعب. عاصميته للامة من الاختلاف. خلوده وشموله. فضل قراءة القرآن. الاحاديث الموضوعة في قراءته. التدبر في القرآن. معرفة تفسيره. حث الكتاب، والسنة، وحكم العقل على التدبر في القرآن.


[ 17 ]

من الخير أن يقف الانسان دون ولوج هذا الباب، وأن يتصاغر أمام هذه لعظمة، وقد يكون الاعتراف بالعجز خيرا من المضي في البيان. ماذا يقول الواصف في عظمة القرآن، وعلو كعبه ؟ وماذا يقول في بيان فضله، وسمو مقامه ؟ وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب ؟ وماذا يكتب لكاتب في هذا الباب ؟ وماذا يتفؤه به الخطيب ؟ وهل يصف المحدود إلا محدودا ؟. وحسب القرآن عظمة، وكفاه منزلة وفخرا أنه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيه الكريم، وأن آياته هي المتكفلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل: ” إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم 17: 9. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد 14: 1. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين 3: 138 “. (*) (البيان – 2)


[ 18 ]

وقد ورد في الاثر عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: ” فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ” (1). نعم من الخير أن يقف الانسان دون ولوج هذا الباب، وأن يكل بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن، فإنهم أعرف الناس بمنزلته، وأدلهم على سمو قدره، وهم قرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية، أما جدهم الاعظم فهو الصادع بالقرآن، والهادي إلى أحكامه، والناشر لتعاليمه. وقد قال صلى الله عليه واله وسلم: ” إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ” (2). فالعترة هم الادلاء على القرآن، والعالمون بفضله. فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم، ونستضئ بإرشاداتهم. ولهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسي في (البحار) الجزء التاسع عشر منه. ونحن نكتفي بذكر بعض ما ورد: روى الحارث الهمداني (3) قال: ” دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناسا يخوضون في الاحاديث في المسجد ؟ فقال: قد فعلوها ؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول:


(1) بحار الانوار ج 19 ص 6، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج 11 ص 47، أبواب فضائل القرآن. (2) رواه الترمذي ج 13 ص 200، 201 مناقب أهل البيت. راجع بقية المصادر في قسم التعليقات رقم (1). (3) انظر ترجمة الحارث وافتراء الشعبي عليه في قسم التعليقات رقم (2). (*)

[ 19 ]

ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها ؟ قال: كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الاهواء، ولا تلتبس به الالسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به اجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، خذها اليك يا أعور ” (1). وفي الحديث مغاز جليلة يحسن أن نتعرض لبيان أهمها. يقول صلى الله عليه واله وسلم: ” فيه نبأ ما كان قبلكم. وخبر ما بعدكم ” والذي يحتمل في هذه الجملة وجوه: الاول: أن تكون إشارة إلى اخبار النشأة الاخرى من عالمي البرزخ والحساب والجزاء على الاعمال. ولعل هذا الاحتمال هو الاقرب، ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته: ” فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم ” (2). الثاني: أن تكون إشارة إلى المغيبات التي أنبأ عنها القرآن، مما يقع في الاجيال المقبلة.


(1) هكذا في سنن الدارمي ج 2 ص 435، كتاب فضائل القرآن ومع اختلاف يسير في ألفاظه في صحيح الترمذي ج 11 ص 30 أبواب فضائل القرآن. وفي بحار الانوار ج 9 ص 7 عن تفسير العياشي. (2) بحار الانوار ج 19 ص 6. (*)

[ 20 ]

الثالث: أن يكون معناها أن حوادث الامم السابقة تجري بعينها في هذه الامة، فهي بمعنى قوله تعالى: * (لتركبن طبقا عن طبق 84: 19) *، وبمعنى الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله ” لتركبن سنن من قبلكم ” (1). أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” من تركه من جبار قصمه الله ” فلعل فيه ضمانا بحفظ القرآن عن تلاعب الجبارين، بحيث يؤدي ذلك إلى ترك تلاوته وترك العمل به، والى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الالهية السابقة (2) فتكون إشارة إلى حفظ القرآن من التحريف. وسنبحث عنه مفصلا. وهذا أيضا هو معنى قوله في الحديث: ” لا تزيغ به الاهواء ” بمعنى لا تغيره عما هو عليه، لان معاني القرآن قد زاغت بها الاهواء فغيرتها. وسنبين ذلك مفصلا عند تفسير الآيات إن شاء الله تعالى. وأشار الحديث إلى أن الامة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لاوضح لهم السبيل. ولوجدوه الحكم العدل، والفاصل بين الحق والباطل. نعم، لو أقامت الامة حدود القرآن، واتبعت مواقع إشاراته وإرشاداته، لعرفت لحق وأهله، وعرفت حق العترة الطاهرة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه واله وسلم قرناء الكتاب، وأنهم الخليفة الثانية على الامة من بعده (3) ولو استضاءت الامة بأنوار معارف القرآن، لامنت العذاب الواصب، ولما تردت في العمى، ولا غشيتهم حنادس الضلال، ولا عال سهم من فرائض الله، ولا زلت قدم عن الصراط السوي، ولكنها أبت إلا الانقلاب على الاعقاب، واتباع الاهواء، والانضواء


(1) ورد هذا اللفظ في كنز العمال ج 6 ص 40، من حديث سهل بن سعد. انظر بقية المصادر في قسم التعليقات رقم (3). (2) راجع الهدى إلى دين المصطفى ج 1 ص 34، لآية الله الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي. (3) تقدم مصادر حديث الثقلين في ص 26 رقم (2)، وفي بعض نصوصه تصريح بأن القرآن والعترة خليفتا الرسول ” ص “. (*)

[ 21 ]

إلى راية الباطل حق آل الامر إلى أن يكفر بعض المسلمين بعضا، ويتقرب إلى الله بقتله، وهتك حرمته، وإباحة ماله، وأي دليل على إهمال الامة للقرآن أكبر من هذا التشتت العظيم ؟ ! ! وقال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن: ” ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه، وشعاعا لا يظلم ضوءه، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا (1) لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه، فهومعدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الاسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المنتزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمة، وحبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وعزا لمن تولاه، وسلما لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذرا لمن انتحله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا لمن حاج به، وحاملا لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم،


(1) في بحار الانوار ” بنيانا ” بدل ” تبيانا “. (*)

[ 22 ]

وجنة لمن استلام، وعلما لمن وعى، وحديث لمن روى وحكما لمن قضى ” (1). وقد استعرضت هذه الخطبة الشريفة كثيرا من الامور المهمة التي يجب الوقوف عليها، والتدبر في معانيها. فقوله: ” لا يخبو توقده ” (2) يريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أن القرآن لا تنتهي معانيه، وأنه غض جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنها لا تختص بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامة المعنى. وقد روى العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى، * (ولكل قوم هاد 12: 8) *. أنه قال: ” علي: الهادي، ومنا الهادي، فقلت: فأنت جعلت فداك الهادي. قال: صدقت إن القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الاقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين “. وعن أبي عبد الله عليه السلام: ” إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا “.


(1) نهج البلاغة من خطبة أولها: ” يعلم عجيج الوحوش “. (2) خبت النار: خمد لهبها. (*)

[ 23 ]

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام أنه قال لعمر بن يزيد لما سأله عن قوله تعالى: ” والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل 13: 21 “: ” هذه نزلت في رحم آل محمد صلى الله عليه واله وسلم وقد تكون في قرابتك، فلا تكونن ممن يقول للشئ: إنه في شئ واحد “. وفي تفسير الفرات: ” ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شئ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره مادامت السماوات والارض، ولكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر “. إلى غير هذه من الروايات الواردة في المقام (1). ” ومنها جالا يضل نهجه ” يريد به: أن القرآن طريق لا يضل سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه، فهو حافظ لمن اتبعه عن الضلال. ” وتبيانا لا تهدم أركانه ” المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين: (الاول) أن أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام. (الثاني) أن القرآن بألفاظه لا يتسرب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن عن التحريف. ” ورياض العدل وغدرانه ” (2) معنى هذه الجملة: أن العدل بجميع نواحيه


(1) مرآة الانوار ص 3، 4. (2) الرياض جمع روضة، وهي الارض الخضرة بحسن النبات. والغدران جمع غدير وهو الماء الذي تغدره السيول. والعدل الاستقامة. (*)

[ 24 ]

من الاستقامة في العقيدة والعمل والاخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرقاتها. ” وأثافي الاسلام ” (1) ومعنى ذلك: أن استقامة الاسلام وثباته بالقرآن كما أن استقامة القدر على وضعه الخاص تكون بسبب الاثافي. ” وأودية الحق وغيطانه ” يريد بذلك: أن القرآن منابت الحق، وفى الجملة تشبيه القرآن بالارض الواسعة المطمئنة، وتشبيه الحق بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أن المتمسك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحق، لان القرآن هو منبت الحق، ولا حق في غيره. ” وبحر لا ينزفه المنتزفون ” (2) ومعنى هذه الجملة والجمل التي بعدها: أن المتصدين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لانه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أن معاني القرآن لا تنقص أصلا، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها. ” وآكام لا يجوز عنها القاصدون ” (3) والمراد أن القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أن للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام اولي الافهام. وسنبين هذا في ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد يكون المراد أن القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها، لانهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الاتم. فضل قراءة القرآن: القرآن هو الناموس الالهي الذي تكفل للناس بإصلاح الدين والدنيا، وضمن


(1) الاثافي كأماني جمع اثفية – بالضم والكسر – وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر. (2) نزف ماء البئر: نزح كله. (3) والآكام جمع اكم، كقصب، وهو جمع أكمة، كقصبة، وهي التل. (*)

[ 25 ]

لهم سعادة الآخرة والاولى، فكل آية من آياته منبع فياض بالهداية ومعدن من معادن الارشاد والرحمة، فالذي تروقه السعادة الخالدة والنجاح في مسالك الدين والدنيا، عليه أن يتعاهد كتاب الله العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ويجعل آياته الكريمة قيد ذاكرته، ومزاج تفكيره، ليسير على ضوء الذكر الحكيم إلى نجاح غير منصرم وتجارة لن تبور. وما أكثر الاحاديث الواردة عن أئمة الهدى عليهم السلام وعن جدهم الاعظم صلى الله عليه واله وسلم في فضل تلاوة القرآن. منها: ما عن الامام الباقر عليه السلام. قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة أية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة أية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر… ” ومنها: ما عن الامام الصادق عليه السلام. قال: ” القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية “. وقال: ” ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيئات ؟ “. وقال:


[ 26 ]

” عليكم بتلاوة القرآن، فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: إقرأ وارق، فكلما قرأ آية رقى درجة “. وقد جمعت كتب الاصحاب من جوامع الحديث كثيرا من هذه الآثار الشريفة من أرادها فليطلبها. وفي التاسع عشر من كتاب بحار الانوار الشئ الكثير من ذلك. وقد دلت جملة من هذه الآثار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب. ومن هذه الاحاديث قول اسحق بن عمار للصادق عليه السلام: ” جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف قال: فقال لي: لا. بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل. أما علمت أن النظر في المصحف عبادة ” ؟. وقال: ” من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين ” (1). وفي الحث على القراءة في نفس المصحف نكتة جليلة ينبغي الالتفات إليها، وهو الالماع إلى كلاءة القرآن عن الاندراس بتكثر نسخه، فإنه لو اكتفى بالقراءة عن ظهر القلب لهجرت نسخ الكتاب، وأدى ذلك إلى قلتها، ولعله يؤدي أخيرا إلى انمحاء آثارها. على أن هناك آثارا جزيلة نصت عليها الاحاديث لا تحصل إلا بالقراءة في المصحف، منها قوله: ” متع ببصره ” وهذه الكلمة من جوامع الكلم، فيراد


(1) هذه الروايات في اصول الكافي، كتاب فضل القرآن، وفي الوسائل طبعة عين الدولة ج 1 ص 370. (*)

[ 27 ]

منها أن القراءة في المصحف سبب لحفظ البصر من العمى والرمد، أو يراد منها أن القراءة في المصحف سبب لتمتع القارئ بمغازي القرآن الجليلة ونكاته الدقيقة، لان الانسان عند النظر إلى ما يروقه من المرئيات تبتهج نفسه، ويجد انتعاشا في بصره وبصيرته. وكذلك قارئ القرآن إذا سرح بصره في ألفاظه، وأطلق فكره في معانيه وتعمق في معارفه الراقية وتعاليمه الثمينة يجد في نفسه لذة الوقوف عليها، ومتعة الطموح إليها، ويشاهد هشة من روحه وتطلعا من قلبه. وقد أرشدتنا الاحاديث الشريفة إلى فضل القراءة في البيوت. ومن أسرار ذلك إذاعة أمر الاسلام، وانتشار قراءة القرآن، فإن الرجل إذا قرأه في بيته قرأته المرأة، وقرأه الطفل، وذاع أمره وانتشر. أما إذا جعل لقراءة القرآن أماكن مخصوصة فإن القراءة لا تتهيأ لكل أحد، وفي كل وقت، وهذا من أعظم الاسباب في نشر الاسلام. ولعل من أسراره أيضا إقامة الشعار الالهي، إذا ارتفعت الاصوات بالقراءة في البيوت بكرة وعشيا، فيعظم أمر الاسلام في نفوس السامعين لما يعروهم من الدهشة عند ارتفاع أصوات القراء في مختلف نواحي البلد. ومن آثار القراءة في البيوت ما ورد في الاحاديث: ” إن البيت الذى يقرأ فيه القرآن ويذكر الله تعالى فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضئ لاهل السماء كما يضئ الكوكب الدري لاهل الارض، وان البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن، ولا يذكر الله تعالى فيه تقل بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين ” (1).


(1) اصول الكافي، كتاب فضل القرآن. (*)

[ 28 ]

نعم قد ورد في الاحاديث في فضل القرآن، وفي الكرامات التي يختص الله بها قارءه ما يذهل العقول ويحير الالباب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف “. وقد ورد هذا الحديث من طرق العامة، فقد نقله القرطبي (1) عن الترمذي عن ابن مسعود وروى الكليني قريبا منه عن الصادق عليه السلام. وإن الناظر في جوامع كتب الحديث ومفرداتها يرى من أمثال هذا الحديث الشئ الكثير في فضل القرآن وقراءته، وخواص سوره وآياته. وهناك حثالة من كذبة الرواة، توهموا نقصان ما ورد في ذلك، فوضعوا من أنفسهم أحاديث – في فضل القرآن وسوره – لم ينزل بها وحي ولم ترد بها سنة وهؤلاء كأبي عصمة فرج بن أبي مريم المروزي، ومحمد بن عكاشة الكرماني، وأحمد بن عبد الله الجويباري. وقد اعترف أبو عصمة المروزي بذلك، فقد قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة ؟ فقال: ” إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحق، فوضعت هذا الحديث حسبة “. وقال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث الذي يروى عن أبي بن كعب عن رسول الله – ص – في فضل القرآن سورة سورة: ” قد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من


(1) تفسير القرطبي ج 1 ص 7. وفي الكافي كتاب فضل القرآن. (*)

[ 29 ]

اعترف بأنه وجماعة وضعوه. وقد أخطأ الواحدي وجماعة من المفسرين حيث أو دعوه في تفاسيرهم ” (1). انظر إلى هؤلاء المجترئين على الله كيف يكذبون على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الحديث ؟ ثم يجعلون هذا الافتراء حسبة يتقربون به إلى الله: ” كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون 10: 12 “. التدبر في القرآن ومعرفة تفسيره: ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه. قال الله تعالى: ” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها 47: 24 “. وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن. وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي – ص – أنه قال: ” أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه “. وعن ابي عبد الرحمن السلمي قال: ” حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة انهم كانوا يأخذون من رسول الله – ص – عشر آيات فلا يأخذون في العشر الاخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ” (2). وعن عثمان وابن مسعود وأبي: ” ان رسول الله – ص – كان يقرئهم العشر فلا


(1) نفس المصدر ج 1 ص 78، 79. (2) تفسير القرطبي ج 1 ص 26. (*)

[ 30 ]

يجاوزونها إلى عشر اخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمهم القرآن والعمل جميعا ” (1). وعن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك تصف جابرا بالعلم وأنت أنت ؟ فقال: إنه كان يعرف (2) تفسير قوله تعالى: ” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد 28: 85 “. والاحاديث في فضل التدبر في القرآن كثيرة. ففي الجزء التاسع عشر من بحار الانوار طائفة كبيرة من هذه الاحاديث، على أن ذلك لا يحتاج إلى تتبع أخبار وآثار، فإن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله نظاما يقتدي الناس به في دنياهم، ويستضيؤن بنوره في سلوكهم إلى اخراهم. وهذه النتائج لا تحصل إلا بالتدبر فيه والتفكر في معانيه. وهذا أمر يحكم به العقل. وكل ما ورد من الاحاديث أو من الآيات في فضل التدبر فهي ترشد إليه. ففي الكافي بإسناده عن الزهري. قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: ” آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها ” (3).


(1) اصول الكافي، كتاب فضل القرآن. (2) تفسير القرطبي ج 1 ص 26. (3) اصول الكافي، كتاب فضل القرآن. (*)

[ 31 ]

إعجاز القرآن


[ 32 ]

معنى الاعجاز. لا بد للنبي من إقامة المعجز، خير المعجزات ما شابه أرقي فنون العصر. القرآن معجزة إلهية. القرآن معجزة خالدة. القرآن والمعارف. القرآن والاستقامة في البيان. القرآن في نظامه وتشريعه. القرآن والاتقان في المعاني. القرآن والاخبار بالغيب. القرآن وأسراره الخليقة.


[ 33 ]

قد ذكر للاعجاز في اللغة عدة معان: الفوت. وجدان العجز. إحدائه كالتعجيز. فيقال: أعجزه الامر الفلاني أي فاته، ويقال: أعجزت زيدا أي وجدته عاجزا، أو جعلته عاجزا. وهو في الاصطلاح أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الالهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه. وإنما يكون المعجز شاهدا على صدق ذلك المدعي إذا أمكن أن يكون صادقا في تلك الدعوى. وأما إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل، أو بحكم النقل الثابت عن نبي، أو إمام معلوم العصمة، فلا يكون ذلك شاهدا على الصدق، ولا يسمى معجزا في الاصطلاح وإن عجز البشر عن أمثاله: مثال الاول: ما إذا ادعى أحد أنه إله، فإن هذه الدعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل، للبراهين الصحيحة الدالة على استحالة ذلك. ومثال الثاني: ما إذا ادعى أحد النبوة بعد نبي الاسلام، فإن هذه الدعوى كاذبة قطعا بحكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبي الاسلام، وعن خلفائه المعصومين بأن نبوته خاتمة النبوات، وإذا كانت الدعوى باطلة قطعا، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدعي ؟ ولا يجب على الله جل شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه، أو شهادة النقل ببطلانها. (البيان – 3)


[ 34 ]

وقد يدعي أحد منصبا إلهيا ثم يأتي بشئ يعجز عنه غيره من البشر ويكون ذلك الشئ شاهدا على كذب ذلك المدعي، كما يروى أن ” مسيلمة ” تقل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء، وأنه أمر يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنكهم فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه، ولثغ كل صبي حنكه (1) فإذا أتى المدعي بمثل هذا الشاهد لا يجب على الله أن يبطله، فإن في هذا كفاية لابطال دعواه، ولا يسمى ذلك معجزا في الاصطلاح. وليس من الاعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة، وإن أتى بشئ عنه غيره، ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر، أو شعبذة، أو نحو ذلك وإن ادعى ذلك الشخص منصبا إلهيا، وقد أتى بذلك الفعل شاهدا على صدقه، فإن العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها، وتلك القواعد لا بد من أن توصل إلى نتائجها، وإن احتاجت إلى دقة في التطبيق، وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبايع الاشياء، وإن كانت خفية على عامة الناس، وبل وإن كانت خفية على الاطباء أنفسهم. وليس من القبيح أن يختص الله أحدا من خلقه بمعرفة شئ من تلك الاشياء، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامة الناس، ولكن القبيح أن يغري الجاهل بجهله، وأن يجري المعجز على يد الكاذب فيضل الناس عن طريق الهدى. لا بد للنبي من إقامة المعجز: تكليف عامة البشر واجب على الله سبحانه، وهذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة، والادلة العقلية الواضحة، فإنهم محتاجون إلى التكليف في


(1) الكامل لابن الاثير ج 2 ص 138. (*)

[ 35 ]

طريق تكاملهم، وحصولهم على السعادة الكبرى، والتجارة الرابحة. فإذا لم يكلفهم الله سبحانه، فإما أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف، وهذا جهل يتنزه عنه الحق تعالى، وإما لان الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإما لانه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق، وإذن فلا بد من تكليف البشر، ومن الضروري أن التكليف يحتاج إلى مبلغ من نوع البشر يوقفهم على خفي التكليف وجليه: ” ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة 8: 44 “. ومن الضروري أيضا أن السفارة الالهية من المناصب العظيمة التى يكثر لها المدعون، ويرغب في الحصول عليها الراغبون، ونتيجه هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب، ويختلط المضل بالهادي. وإذن فلا بد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدا واصحا يدل على صدقه في الدعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الافعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية. وإنما يكون الاعجاز دليلا على صدق المدعي، لان المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدعي النبوة كاذبا في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراء بالجهل وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته. وما ذكرناه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما بشبه هذه الامور، ولا يشكون فيها أبدا، فإذا ادعى أحد من الناس سفارة عن ملك


[ 36 ]

من الملوك في امور تختص برعيته، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها، حين تشك الرعية في صدقه، ولا بد من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الاخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية، ثم حياه في الوقت المعين بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة ولا يرتاب العقلاء في ذلك لان الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدق هذا المدعي إذا كان كاذبا، لانه يريد إفساد الرعية. وإذا كان هذا الفعل قبيحا من سائر العقلاء كان محلا على الحكيم المطلق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم: ” ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين 69: 44 – 46 “. والمراد من الاية الكريمة أن محمدا الذي أثبتنا نبوته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقول علينا بعض الاقاويل، ولو صنع ذلك لاخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الاقاويل إمضاء منا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث. ولكن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أما الاشاعرة الذين ينكرون هذا القول، ويمنعون حكم العقل بذلك فلا بد لهم من سد باب التصديق بالنبوة. وهذا أحد مفاسد هذا القول، وإنما لزم من قولهم هذا سد باب التصديق بالنبوة، لان المعجز إنما يكون دليلا على صدق النبوة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب وإذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع أحد أن يميز بين الصادق والكاذب.


[ 37 ]

وقد أجاب ” الفضل بن روزبهان ” عن هذا الاشكال بأن فعل القبيح وإن كان ممكنا على الله تعالى ولكن عادة الله قد جرت على تخصيص المعجزة بالصادق، فلا تظهر معجزة على يد الكاذب، ولا يلزم سد باب التصديق بالنبوة على قول الاشعريين. وهذا الجواب بين الضعف، متفكك العرى. أولا: أن عادة الله التي يخبر عنها ” ابن روز بهان ” ليست من الامور التي تدرك بالحس، ويقع عليها السمع والبصر، فينحصر طريق العلم بها بالعقل، وإذا امتنع على العقل أن يحكم بالحسن والقبح – كما يراه الاشعري – لم يمكن لاحد أن يعلم باستقرار هذه العادة لله تعالى. ثانيا: إن إثبات هذه العادة يتوقف على تصديق الانبياء السابقين، الذين جاءوا بالمعجزات حتى نعلم أن عادة الله قد استقرت على تخصيص المعجزة بالصادق. أما المنكرون لتلك النبوات، أو المشككون فيها فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة التي يدعيها ” ابن روزبهان ” فلا تقوم عليهم الحجة بالمعجزة. ثالثا: إذا تساوى الفعل والترك في نظر العقل، ولم يحكم في ذلك بقبح ولا حسن، فأي مانع يمنع الله أن يغير عادته ؟ وهو القادر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل، فيظهر المعجزة على يد الكاذب. رابعا: إن العادة من الامور الحادثة التي تحصل من تكرر العمل، وهو يحتاج إلى مضي زمان. وعلى هذا فما هي الحجة على ثبوت النبوة الاولى الثابتة قبل أن تستقر هذه العادة ؟ وسنتعرض لاقوال الاشعريين فيما يأتي، ونوضح وجوه فسادها. خير المعجزات ما شابه أرقي فنون العصر: المعجز – كما عرفت – هو ما يخرق نواميس الطبيعة، ويعجز عنه سائر أفراد البشر إذا أتى به المدعي شاهدا على سفارة إلهية. ومما لا يرتاب فيه أن


[ 38 ]

معرفة ذلك تختص بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز، فإن علماء أي صنعة أعرف بخصوصياتها، وأكثر إحاطة بمزاياها، فهم يميزون بين ما يعجز البشر عن الاتيان بمثله وبين ما يمكنهم. ولذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز. أما الجاهل فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمبادئ الصنعة، وما دام يحتمل أن المدعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة، فيكون متباطئا عن الاذعان. ولذلك اقتضت الحكمة الالهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنه أسرع للتصديق وأقوم للحجة، فكان من الحكمة أن يخص موسى عليه السلام بالعصا واليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون. ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والاذعان به، حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا، وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الاولى. رأى علماء السحر ذلك فعلموا أنه خارج عن حدود السحر وآمنوا بأنه معجزة إلهية. وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده. وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح عليه السلام وأتى الاطباء في زمانه بالعجب العجاب، وكان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين، لانهما كانتا مستعمرتين لليونان، وحين بعث الله نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى، وأن يبرئ الاكمه والابرص. ليعلم أهل زمانه أن ذلك شئ خارج عن قدرة البشر، وغير مرتبط بمبادئ الطب، وأنه ناشئ عما وراء الطبيعة. وأما العرب فقد برعت في البلاغة، وامتازت بالفصاحة، وبلغت الذروة في فنون الادب، حتى عقدت النوادي وأقامت الاسواق للمباراة في الشعر والخطابة. فكان المرء يقدر على ما يحسنه من الكلام، وبلغ من تقدير هم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم، وكتبوها بماء الذهب في القباطي،


[ 39 ]

وعلقت على الكعبة، فكان يقال هذه مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره (1). واهتمت بشأن الادب رجال العرب ونساؤهم، وكان النابغة الذبياني هو الحكم في شعر الشعراء. يأتي سوق عكاظ في الموسم فتضرب له قبة حمراء من الادم، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم فيها (2) ولذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الاسلام بمعجزة البيان، وبلاغة القرآن فعلم كل عربي أن هذا من كلام الله، وأنه خارج ببلاغته عن طوق البشر، واعترف بذلك كل عربي غير معاند. ويدل على هذه الحقيقة ما روي عن ابن السكيت أنه قال لابي الحسن الرضا عليه السلام: ” لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه السلام بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمدا – صلى الله عليه واله وسلم وعلى جميع الانبياء – بالكلام والخطب ؟. فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله لما بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الاكمه والابرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم.


(1) العمدة: لابن رشيق ج 1 ص 78. (2) شعراء النصرانية ج 2 ص 640 طبع بيروت. (*)

[ 40 ]

وإن الله بعث محمدا صلى الله عليه واله وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام – وأظنه قال: الشعر – فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم ” (1).. وقد كانت للنبي معجزات اخرى غير القرآن، كشق القمر، وتكلم الثعبان، وتسبيح الحصى، ولكن القرآن أعظم هذه المعجزات شأنا، وأقومها بالحجة، لان العربي الجاهل بعلوم الطبيعة وأسرار التكوين، قد يشك في هذه المعجزات، وينسبها إلى أسباب علمية يجهلها. وأقرب هذه الاسباب إلى ذهنه هو السحر فهو ينسبها إليه، ولكنه لا يشك في بلاغة القرآن وإعجازه، لانه يحيط بفنون البلاغة، ويدرك أسرارها. على أن تلك المعجزات الاخرى موقتة لا يمكن لها البقاء فسرعان ما تعود خبرا من الاخبار ينقله السابق للاحق، وينفتح فيه باب التشكيك. أما القرآن فهو باق إلى الابد، وإعجازه مستمر مع الاجيال. وسنضع بحثا خاصا عن معجزات النبي غير القرآن، ونتفرغ فيه لمحاسبة من أنكر هذه المعجزات من الكتاب المعاصرين وغيرهم. القرآن معجزة إلهية: قد علم كان عاقل بلغته الدعوة الاسلامية، أن محمدا – ص – بشر جميع الامم بدعوتهم إلى الاسلام، وأقام الحجة عليهم بالقرآن، وتحداهم بإعجازه، وطلب منهم أن يأتوا بمثله وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا، ثم تنزل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، ثم تحداهم إلى الاتيان بسورة واحدة. وكان من الجدير بالعرب – وفيهم الفصحاء النابغون في الفصاحة – أن


(1) اصول الكافي ” كتاب العقل والجهل ” الرواية 20. (*)

[ 41 ]

يجيبوه إلى ما يريد، ويسقطوا حجته بالمعارضة، لو كان ذلك ممكنا غير مستحيل. نعم كان من الجدير بهم أن يعارضوا سورة واحدة من سور القرآن، ويأتوا بنظيرها في البلاغة، فيسقطوا حجة هذا المدعي الذي تحداهم في أبرع كمالاتهم، وأظهر ميزاتهم، ويسجلوا لانفسهم ظهور الغلبة وخلود الذكر، وسمو الشرف والمكانة، ويستريحوا بهذه المعارضة البسيطة من حروب طاحنة، وبذل أموال، ومفارقة أوطان، وتحمل شدائد ومكاره. ولكن العرب فكرت في بلاغة القرآن فأذعنت لاعجازه، وعلمت أنها مهزومة إذا أرادت المعارضة، فصدق منها قوم داعي الحق، وخضعوا لدعوة القرآن، وفازوا بشرف الاسلام، وركب آخرون جادة العناد، فاختاروا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف، وآثروا المبارزة بالسنان على المعارضة في البيان، فكان هذا العجز والمقاومة أعظم حجة على أن القرآن وحي إلهي خارج عن طوق البشر. وقد يدعي جاهل من غير المسلمين: أن العرب قد أتت بمثل القرآن وعارضته بالحجة، وقد اختفت علينا هذه المعارضة لطول الزمان. وجواب ذلك: أن هذه المعارضة لو كانت حاصلة لاعلنتها العرب في أنديتها، وشهرتها في مواسمها وأسواقها. ولاخذ منه أعداء الاسلام نشيدا يوقعونه في كل مجلس، وذكرا يرددونه في كل مناسبة، وللقنه السلف للخلف، وتحفظوا عليه تحفظ المدعي على حجته، وكان ذلك أقر لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف، وأشعار الجاهلية التي ملات كتب التاريخ، وجوامع الادب، مع أنا لا نرى أثرا لهذه المعارضة، ولا نسمع لها بذكر. على أن القرآن الكريم قد تحدى جميع البشر بذلك، بل جميع الانس والجن، ولم يحصر ذلك بجماعة خاصة. فقال عز من قائل: ” قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل


[ 42 ]

هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا 17: 88 “. ونحن نرى النصارى وأعداء الاسلام، يبذلون الاموال الطائلة في الحط من كرامة هذا الدين، والنيل من نبيه الاعظم، وكتابه المقدس، ويتكرر هذا العمل منهم في كل عام بل في كل شهر. فلو كان من الميسور لهم أن يعارضوا القرآن، ولو بمقدار سورة منه، لكان هذا أعظم لهم في الحجة، وأقرب لحصول الامنية، ولما احتاجوا إلى صرف هذه الاموال، وإتعاب النفوس. ” يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون 61: 8 “. على أن من مارس كلاما بليغا، وبالغ في ممارسته زمانا، أمكنه أن يأتي بمثله أو بما يقاربه في الاسلوب، وهذا مشاهد في العادة، ولا يجري مثل هذا في القرآن، فإن كثرة ممارسته ودراسته، لا تمكن الانسان من مشابهته في قليل ولا كثير، وهذا يكشف لنا أن للقرآن اسلوبا خارجا عن حدود التعليم والتعلم، ولو كان القرآن من كلام الرسول وإنشائه، لوجدنا في بعض خطبه وكلماته ما يشبه القرآن في اسلوبه، ويضارعه في بلاغته. وكلمات الرسول – ص – وخطبه محفوظة مدونة تختص باسلوب آخر. ولو كان في كلماته ما يشبه القران لشاع نقله وتدوينه، وخصوصا من أعدائه الذين يريدون كيد الاسلام بكل وسيلة وذريعة. مع أن للبلاغة المألوفة حدودا لا تتعداها في الاغلب، فإنا نرى البليغ العربي الشاعر أو الناثر تختص بلاغته في جهة واحدة، أو جهتين أو ثلاث جهات، فيجيد في الحماسة مثلا دون المديح، أو في الرثاء دون النسيب، والقرآن قد استطرد مواضيع عديدة، وتعرض لفنون من


[ 43 ]

الكلام كثيرة، وأتى في جميع ذلك بما يعجز عنه غيره، وهذا ممتنع على البشر في العادة. القرآن معجزة خالدة: قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والايمان بها، ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه، ولما كانت نبوءات الانبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الامد، ومحدودة، لانها شواهد على نبوءات محدودة، فكان البعض من أهل تلك الازمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة، والبعض الاخر تنقل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر، فتقوم عليه الحجة أيضا. أما الشريعة الخالدة، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا، لان المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الامد لم يشاهدها البعيد، وقد تنقطع أخبارها المتواترة، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة، فإذا كلفه الله بالايمان بها كان من التكليف بالممتنع، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى، فلا بد للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة. وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة على السلف. وقد نتج لنا عما قدمناه أمران: الاول: تفوق القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للانبياء السابقين، وعلى المعجزات الاخرى التي ثبتت لنبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم لكون القرآن باقيا خالدا، وكون إعجازه مستمرا يسمع الاجيال ويحتج على القرون. الثاني: إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة، والدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها وبرهانها، لانقطاع زمان المعجزة التى شهدت بصدقها (1).


(1) انظر في قسم التعليقات محادثة علمية جرت بين المؤلف وبين حبر يهودي يتصل بهذا الموضوع برقم (4). (*)

[ 44 ]

ثم ان القرآن يختص بخاصة اخرى، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الانبياء السابقون، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر (1)، وسوقهم إلى غاية كمالهم. فإن القرآن هو المرشد الذي أرشد العرب الجفاة الطغاة، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الاصنام، والمشتغلين – عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس – بالحروب الداخلية، والمفاخرات الجاهلية فتكونت منهم – في مدة يسيرة – أمة ذات خطر في معارفها، وذات عظمة في تاريخها، وذات سمو في عاداتها. ومن نظر في تاريخ الاسلام وسبر تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم المستشهدين بين يديه، ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته، وكبير أثره، فإنه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية إلى أعلى مراتب العلم والكمال، وجعلهم يتفانون في سبيل الدين وإحياء الشريعة، ولا يعبأون بما تركوا من مال وولد وأزواج. وإن كلمة المقداد لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين شاور المسلمين في الخروج إلى بدر شاهد عدل على ما قلنا: ” يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد – يعني مدينة الحبشة – لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خيرا، ودعا له بخير ” (2).


(1) انظر قسم التعليقات لمعرفة الحاجة إلى ترجمة القرآن وشروطها برقم (5). (2) تاريخ الطبري غزوة بدر ج 2 ص 140 الطبعة الثاينة. (*)

[ 45 ]

هذا واحد من المسلمين، يعرب عن عقيدته وعزمه، وتفانيه في إحياء الحق، وإماتة الشرك. وكان الكثير منهم على هذه العقيدة، متذرعين بالاخلاص. إن القرآن هو الذي نور قلوب أولئك العاكفين على الاصنام، المشتغلين بالحروب الداخلية والمفاخرات الجاهلية، فجعلهم أشداء على الكفار رحماء بينهم. يؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه، فحصل للمسلمين بفضل الاسلام من فتوح البلدان في ثمانين سنة ما لم يحصل لغيرهم في ثمانمائة سنة. ومن قارن بين سيرة أصحاب النبي وسيرة أصحاب الانبياء السابقين علم أن في ذلك سرا إلهيا، وأن مبدأ هذا السر هو كتاب الله الذي أشرق على النفوس، وطهر القلوب والارواح بسمو العقيدة، وثبات المبدأ. انظر إلى تاريخ الحواريين، والى تاريخ غيرهم من أصحاب الانبياء تعلم كيف كانوا. كانوا يخذلون أنبياءهم عند الشدائد، ويسلمونهم عند خشية الهلاك ! ! ولذلك لم يكن لاولئك الانبياء تقدم على طواغيت زمانهم بل كانوا يتسترون عنهم بالكهوف والاودية. وهذه هي الخاصة الثانية التي تفضل القرآن على سائر المعجزات. وإذ قد عرفت أن القرآن معجزة إلهية، في بلاغته وأسلوبه فاعلم أن اعجازه لا ينحصر في ذلك، بل هو معجزة ربانية، وبرهان صدق على نبوة من انزل إليه من جهات شتى، فيحسن بنا أن نتعرض إلى جملة منها على نحو الاختصار: 1 – القرآن والمعارف: صرح الكتاب في كثير من آياته الكريمة بأن محمدا صلى الله عليه واله وسلم أمي، وقد جهر النبي بهذه الدعوى بنى ملا من قومه وعشيرته الذين نشأ بين أظهرهم، وتربى في أوساطهم، فلم ينكر أحد عليه هذه الدعوى، وفي ذلك دلالة قطعية على صدقه فيما يدعيه. ومع أميته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة، وأدهش مفكري الشرق والغرب منذ ظهور الاسلام إلى هذا اليوم، وسيبقى


[ 46 ]

موضعا لدهشة المفكرين، وحيرتهم إلى اليوم الاخير، وهذا من أعظم نواحي الاعجاز. ولنتنازل للخصوم عن هذه الدعوى، ولنفرض أن محمدا صلى الله عليه واله وسلم لم يكن أميا، ولنتصوره قد تلقن المعارف، وأخذ الفنون والتاريخ بالتعليم، أفليس لازم هذا أنه اكتسب معارفه وفنونه من مثقفي عصره الذين نشأ بين أظهرهم ؟ ونحن نرى هؤلاء الذين نشأ محمد صلى الله عليه واله وسلم بينهم، منهم وثنيون يعتقدون بالاوهام، ويؤمنون بالخرافات، وذلك ظاهر. ومنهم كتابيون يأخذون معارفهم وتأريخهم، وأحكامهم من كتب العهدين التى ينسبونها إلى الوحي، ويعزونها إلى الانبياء. وإذ فرضنا أن محمدا صلى الله عليه واله وسلم أخذ تعاليمه من أهل عصره، أفليس لازم هذا أن ينعكس على أقواله ومعارفه ظلال هذه العقائد التي اكتسبها من معلميه ومرشديه ومن هذه الكتب التي كانت مصدر ثقافته وعلومه ؟ ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي، وتنزيهه لحقائق المعارف عن الموهومات الخرافية التي ملات كتب العهدين وغيرها من مصادر التعلم في ذلك العصر. وقد تعرض القرآن الكريم لصفات الله جل شأنه في آيات كثيرة، فوصفه بما يليق بشأنه من صفات الكمال، ونزهه عن لوازم النقص والحدوث. وهذه نماذج منها: ” وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون 2: 116. بديع السماوات والارض، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون: 117. وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم: 163. ألله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في


[ 47 ]

السماوات وما في الارض: 255. إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء 3: 5. هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم: 6. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل 6: 102. لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير: 103. قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون 10: 34. ألله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون 13: 2. وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم وإليه ترجعون 28: 70. هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم 59: 22. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون: 23. هو الله خالق البارئ


[ 48 ]

المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم: 24 “. هكذا يصف القرآن إلى العالمين، ويأتي بالمعارف التي تتمشى مع البرهان الصريح، ويسير مع العقل الصحيح، وهل يمكن لبشر أمي نشأ في محيط جاهل أن يأتي بمثل هذه المعارف العالية ؟. ويتعرض القرآن لذكر الانبياء فيصفهم بكل جميل ينبغي أن يوصفوا به، وينسب إليهم كل مأثرة كريمة تلازم قداسة النبوة، ونزاهة السفارة الالهية، وإليك نماذج منها: ” الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث 7: 157. هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 62: 2. وإن لك لاجرا غير ممنون 68: 3. وإنك لعلى خلق عظيم: 4. إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين 3: 23. وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني براء مما


[ 49 ]

تعبدون 43: 26. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين: 27. وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين 6: 75. ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين: 84. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين: 85. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين: 86. ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم: 87. ولقد آتينا داود ولسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين 27: 15. واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل كل من الاخيار 38: 48. أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 19: 58 “. (البيان – 4)


[ 50 ]

هذه جملة من الآيات التي جاء بها الكتاب العزيز في تنزيه الانبياء و تقديسهم، وإظهارهم على حقيقتهم من القداسة والنزاهة وجميل الذكر. أما كتب العهدين فقد تعرضت أيضا لذكر الانبياء ووصفتهم، ولكن بماذا وصفتهم ؟ ! وبأي منزلة وضيعة انزلت هؤلاء السفرة الابرار، ولنذكر لذلك أمثلة: 1 – ذكرت التوراة في الاصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين. قصة آدم وحواء وخروجهما من الجنة. وذكرت أن الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الاثمار إلا ثمرة شجرة معرفة الخير والشر. وقال له: ” لانك يوم تأكل منها موتا تموت ” ثم خلق الله من آدم زوجته حواء وكانا عاريين في الجنة لانهما لا يدر كان الخير والشر، وجاءت الحية ودلتهما على الشجرة، وحرضتهما على الاكل من ثمرها وقالت: إنكما لا تموتان بل إن الله عالم أنكما يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتعرفان الخير والشر فلما أكلا منها انفتحت أعينهما، وعرفا أنهما عاريان. فصنعا لانفسهما مئزرا فرأهما الرب وهو يتمشى في الجنة، فاختبأ آدم وحواء منه فنادى الله آدم أين أنت ؟ فقال آدم: سمعت صوتك فاختبأت لاني عريان. فقال الله: من أعلمك بأنك عريان، هل أكلت من الشجرة ؟ ثم إن الله بعد ما ظهر له أكل آدم من الشجرة. قال: هو ذا آدم صار كواحد منا عارف بالخير والشر، والآن يمديده فيأكل من شجرة الحياة، ويعيش إلى الابد، فأخرجه الله من الجنة، وجعل على شرقيها ما يحرس طريق الشجرة. وذكر في العدد التاسع من الاصحاح الثاني عشر أن الحية القديمة هو المدعو إبليس، والشيطان الذي يضل العالم كله. انظر كيف تنسب كتب الوحي إلى قداسة الله أنه كذب على آدم، وخادعه في أمر الشجرة، ثم خاف من حياته، وخشي من معارضته إياه في استقلال مملكته فأخرجه من الجنة، وأن الله جسم يتمشى في الجنة، وأنه جاهل بمكان آدم حين اختفى عنه، وأن الشيطان المضل نصح لآدم، وأخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة، وإدراك الحسن والقبح.


[ 51 ]

2 – وفي الاصحاح الثاني عشر من التكوين: أن ” ابراهيم ” إدعى أمام ” فرعون ” أن ” سارة ” اخته وكتم أنها زوجته، فأخذها فرعون لجمالها ” وصنع إلى ابراهيم خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال “. وحين علم فرعون أن سارة كانت زوجة إبراهيم وليست اخته قال له: ” لماذا لم تخبرني أنها امرأتك ؟ لماذا قلت: هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي “. ثم رد فرعون سارة إلى إبراهيم. ومغزى هذه القصة أن إبراهيم صار سببا لاخذ فرعون سارة زوجة إبراهيم زوجة له. وحاشا إبراهيم – وهو من أكرم أنبياء الله – أن يرتكب ما لا يرتكبه فرد عادي من الناس. 3 – وفي الاصحاح التاسع عشر من سفر التكوين: قصة ” لوط ” مع ابنتيه في الجبل، وأن الكبيرة قالت لاختها: ” أبونا قد شاخ وليس في الارض رجل ليدخل علينا.. هامي نسقي أبانا خمرا، ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة ” واضطجعت معه الكبيرة. وفي الليلة الثانية سقتاه الخمر أيضا، ودخلت معه الصغيرة فحملتا منه، وولدت البكر إبنا وسمته ” موآب ” وهو أب الموآبيين، وولدت الصغيرة إبنا فسمته ” بزعمي ” وهو أبو بني عمون إلى اليوم. هذا ما نسبته التوراة الرائجة إلى لوط نبي الله وإلى ابنتيه، وليحكم الناظر فيها عقله، ثم ليقل ما يشاء. 4 – وفي الاصحاح السابع والعشرين من التكوين: أن ” إسحق ” أراد أن يعطي إبنه ” عيسو ” بركة النبوة فخادعه ” يعقوب ” وأو همه أنه عيسو، وقدم له طعاما وخرما فأكل وشرب، وبهذه الحيلة والكذب المتكرر توسل إلى أن باركه الله. وقال له اسحق: ” كن سيدا لاخوتك، ويسجد ك بنو أمك ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين “، ولما جاء عيسو علم أن أخاه


[ 52 ]

يعقوب قد انتهب بركة النبوة. فقال لابيه: ” باركني أنا أيضا يا أبي. فقال: جاء أخوك بمكرو أخذ بركتك “. ثم قال عيسو: ” أما أبقيت لي بركة ” ؟ فقال إسحق: ” إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع اليك يا ابني ؟ ورفع عيسو صوته وبكى “. أفهل يعقل انتهاب النبوة ؟ وهل يعطي الله نبوته لمخادع كاذب، ويحرم منها أهلها ؟ وهل أن يعقوب بعمله هذا خادع الله أيضا كما خادع إسحق ولم يقدر الله بعد ذلك على إرجاعها إلى أهلها ؟ ! ! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولعل سكرة الخمر دعت إلى وضع هذه السخافة، والى نسبة شرب الخمر إلى إسحق. 5 – وفي الاصحاح الثامن والثلاثين من التكوين: أن ” يهوذا ” بن يعقوب زنى بزوجة ابنه ” عير ” المسماة ” بثامار ” وأنها حبلت منه وولدت له ولدين ” فارص ” و ” زارح “، وقد ذكر انجيل متى في الاصحاح الاول نسب يسوع المسيح تفصيلا، وجعل المسيح وسليمان وأباه داود من نسل فارص ” هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنته ثامار “. حاشا أنبياء الله أن يولدوا من الزنى، كيف وأن تنسب إليهم الولادة من الزنى بذات محرم ! ! ولكن واضع التوراة الرائجة لا يبالي بما يكتب وبما يقول ! !. 6 – وفي الاصحاحين الحادي والثاني عشر من صموئيل الثاني: أن داود زنى بامرأة ” اوريا ” المجاهد المؤمن. وحملت من ذلك الزنى، فخشي داود الفضيحة، وأراد تمويه الامر على اوريا، فطلبه وأمره أن يدخل بيته فأبى ” اوريا ” وقال: ” سيدي – يوآب – وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي، وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الامر ” فلما يئس داود من التموية أقامه عنده اليوم، ودعاه فأكل عنده وشرب وأسكره وفي الصباح كتب داود إلى يوآب: ” اجعلوا اوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ” وقد فعل يوآب ذلك فقتل اوريا، وأرسل


[ 53 ]

إلى داود يخبره بذلك، فضم داود امرأة اوريا إلى بيته وصارت امرأة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها. وفي الاصحاح الاول من انجيل متى: أن سليمان بن داود ولد من تلك المرأة. تأمل كيف تجرأ هذا الوضع على الله ؟ وكيف تصح نسبة هذا الفعل إلى من له أدنى غيرة وحمية فضلا عن نبي من أنبياء الله ؟ وكيف يجتمع هذا مع ما في انجيل لوقا من أن المسيح يجلس على كرسي داود أبيه ؟ ! ! 7 – وفي الاصحاح الحادي عشر من الملوك الاول: أي سليمان كانت له سبعمائة زوجة من السيدات، وثلاثمائة من السراري، فأمالت النساء قلبه وراء آلهة اخرى ” فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين، وملكوم، رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب.. فقال الرب: إني امزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك “. وفي الثالث والعشرين من الملوك الثاني: أن المرتفعات التي بناها سليمان لعشتورث رجاسة الصيدونيين وك ” كموش ” رجاسة الموآبيين ولملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك ” يوشيا ” وكسر التماثيل وقطع السواري، وكذلك فعل بجميع آثار الوثنيين. هب أن النبي لا يلزم أن يكون معصوما – والادلة العقلية قائمة على عصمته – فهل يجوز له في حكم العقل أن يعبد الاصنام، وأن يبني لها المرتفعات ثم يدعو الناس إلى التوحيد والى عبادة الله ؟ كلا ! ! ! وفي الاصحاح الاول من كتاب ” هوشع “: أن ” أول ما كلم الرب هوشع. قال الرب لهوشع: اذهب خذلنفسك امرأة زنى، وأولاد زنى، لان الارض قد زنت زنى تاركة الرب، فذهب وأخذ ” جومر ” بنت دبلايم فحبلت، وولد له ابنان وبنت “. وفي الاصحاح الثالث: أن الرب قال له: ” إذهب أيضا أحبب امرأة – حبيبة صاحب وزانية – كمحبة الرب لبني إسرائيل “. أهكذا يكون أمر الله، يأمر نبيه بالزنى وبمحبة امرأة زانية ؟ تعالى عن


[ 54 ]

ذلك علوا كبيرا. ولا عجب في أن الكاتب لا يدرك قبح ذلك. وإنما العجب من الامم المثقفة ورجال العصر، ومهرة العلوم الناظرين في التوراة الرائجة، والمطلعين على ما اشتملت عليه من الخرافات، كيف تعتقد بأنها وحي إلهي وكتاب سماوي. نعم ان تقليد الآباء كالغريزة الثانوية، يصعب التنازل عنه إلى اتباع الحق والحقيقة. والله الهادي والموفق. 9 – وفي الاصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، والثالث من مرقس والثامن من لوقا: أن المسيح فيما هو يكلم الجموع ” إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك. فأجاب وقال للقائل له: من هم أمي ومن هم إخوتي، ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: هاأمي وإخوتي، لان من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي “. انظر إلى هذا الكلام وتأمل ما فيه من سخافة. ينتهر المسيح امه القديسة البرة ويحرمها رؤيته، ويعرض بقداستها، ويفضل تلاميذه عليها وهم الذين قال فيهم المسيح: ” إنهم لا إيمان لهم ” كما في الرابع من مرقس، وإنه ليس لهم من الايمان مثل حبة خردل كما في السابع عشر من متى، وهم الذين طلب منهم المسيح أن يسهروا معه ليلة هجوم اليهود عليه فلم يفعلوا، ولما أمسكه اليهود في الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا، كما في الاصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى، إلى ما سوى ذلك من الشنائع التي نسبتها إليهم الاناجيل. 10 – وفي الاصحاح الثاني من يوحنا: أن المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم، فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة. وفي الحادي عشر من متى، والسابع من لوقا: أن المسيح كان يشرب الخمر، بل كان شريب خمر ” كثير الشرب لها “. حاشا قدس المسيح من هذا البهتان العظيم. فقد جاء في العاشر اللاويين أن الرب قال ؟ لهرون: ” خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم


[ 55 ]

خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا، فرضا دهريا في أجيالكم، وللتمييز بين المقدس والمحلل، وبين النجس والطاهر “. وفي الاول من لوقا في مدح يوحنا المعمدان: ” لانه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب “. إلى غير ذلك مما دل على حرمة شرب الخمر في العهدين. هذه أمثلة يسيرة في كتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح، وضعناها أمام القارئ ليمعن النظر فيها، وليحكم عقله ووجد انه. وهل يمكن أن يحكم أن محمدا – ص – قد اقتبس معارفه، وأخذ محتويات قرآنه العظيم من هذه السخافات وهو على ما هو عليه من سمو المعارف، ورصانة التعليم ؟ وهل يمكن أن تنسب هذه الكتب السخيفة إلى وحي السماء وهي التي لوثت قداسة الانبياء بما ذكرناه وبما لم نذكره (1) ؟ 3 – القرآن والاستقامة في البيان: قد علم كل عاقل جرب الامور، وعرف مجاريها أن الذي يبني أمره على الكذب والافتراء في تشريعه وأخباره، لا بد من أن يقع منه التناقض والاختلاف، ولا سيما إذا تعرض لكثير من الامور المهمة في التشريع والاجتماع والعقائد، والنظم الاخلاقية المبتنية على أدق القواعد، وأحكم الاسس، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفتري أيام، ومرت عليه أعوام. نعم لا بد من أن يقع في التناقض والتهافت من حيث يريد أو لا يريد، لان ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص إذا خلا من التسديد. وقد قيل في المثل المعروف: لا حافظة لكذوب. وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون، وتوسع فيها أحسن التوسع


(1) الهدى إلى دين المصطفى. والرحلة المدرسية لشيخنا البلاغي. وكتابنا الاعجاز، تجد في هذه الكتب، الشئ الكثير من نقل هذه الخرافات. (*)

[ 56 ]

فبحث في الالهيات ومباحث النبوات، ووضع الاصول في تعاليم الاحكام والسياسات المدنية، والنظم الاجتماعية، وقواعد الاخلاق. وتعرض لامور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ، وقوانين السلم والحرب، ووصف الموجودات السماوية والارضية من ملك وكواكب ورياح، وبحار ونبات وحيوان وإنسان، وتعرض لانواع الامثال، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها فلم توجد فيه أية مناقضة ولا أدنى اختلاف ولم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل والعقلاء. وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر، فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع. وإليك قصة موسى عليه السلام، فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة، وفي كل مرة تجد لها مزية تمتازبها من غير اختلاف في جوهر المعنى. وإذا عرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث، علمت أن القرآن روح من أمر الله، لان هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة والتناسب حين يجتمع. ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه، فلما اجتمع حصل له إعجازآخر. وقد أشار إلى هذا النحو من الاعجاز قوله تعالى: ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 4: 82 “. وهذه الآية تدل الناس على أمر يحسونه بفطرتهم، ويدركونه بغريزتهم، وهو أن من يعتمد في دعواه على الكذب والافتراء لا بد له من التهافت في القول، والتناقض في البيان، وهذا شئ لم يقع في الكتاب العزيز. والقرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته واحتجاجاته، فيرشد الناس إلى حكم الفطرة، ويرجعهم إلى الغريزة، وهي أنجح طريقة في الارشاد، وأقربها إلى الهداية. وقد أحست العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن،


[ 57 ]

واستيقنت بذلك بلغاؤهم. وإن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك، حيث قال – حين سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا: ” فما أقول فيه ؟ فوالله ما منكم رجل أعلم في الاشعار مني ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى. قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال الوليد: فدعني حتى افكر فيه فلما فكر. قال: هذا سحر يأثره عن غيره ” (1). وفي بعض الروايات قال الوليد: ” والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الانس ومن كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر ” (2)… وإذا أردت أن تحس ذلك من نفسك فانظر إلى الكتب المنسوبة إلى الوحي، فانك تجدها متناقضة المعاني، مضطربة الاسلوب، لا تنهض ولا تتماسك. وإذا نظرت إلى كتب العهدين، وما فيها من تضارب وتناقض تجلت لك حقيقة الامر، وبان لك الحق من الباطل. وهنا نذكر أمثلة مما وقع في الاناجيل من هذا الاختلاف:


(1) تفسير الطبري ج 29 ص 98. (2) تفسير القرطبي ج 19 ص 72. (*)

[ 58 ]

1 – في الاصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، والحادي عشر من لوقا: إن المسيح قال: ” من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق “. وقال في التاسع من مرقس، والتاسع من لوقا: ” من ليس علينا فهو معنا “. 2 – وفي التاسع عشر من متى، والعاشر من مرقس، والثامن عشر من لوقا: إن بعض الناس قال للمسيح: ” أيها المعلم الصالح. فقال: لماذا تدعوني صالحا ؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله “. وفي العاشر من يوحناأنه قال: ” أنا هو الراعي الصالح… أما أنا فإني الراعي الصالح “. 3 – وفي السابع والعشرين من متى قال: ” كان اللصان اللذان صلبامعه – المسيح – يعيرانه “، وفي الثالث والعشرين من لوقا: ” وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا، فأجاب الآخر وانتهره قائلا: أولا أنت تخاف الله ؟ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه “. 4 – وفي الاصحاح الخامس من انجيل يوحنا: ” إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا “. وفي الثامن من هذا الانجيل نفسه أنه قال: ” وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق “. هذه نبذة مما في الاناجيل – على ما هي عليه من صغر الحجم – من التضارب والتناقض. وفيها كفاية لمن طلب الحق، وجانب التعصب والعناد (1). 2 – القرآن في نظامه وتشريعه: يبدو لكل متتبع للتاريخ ما كانت عليه الامم قبل الاسلام من الجهل، وما وصلت إليه من الانحطاط في معارفهم وأخلاقهم. فكانت الهمجية سائدة عليهم،


(1) وللزيادة راجع كتابي ” الهدى والرحلة المدرسية ” لشيخنا البلاغي قدس سره وكتابنا ” نفحات الاعجاز “. (*)

[ 59 ]

والغارات متواصلة فيما بينهم، والقلوب متجهة إلى النهب والغنيمة، والخطى مسرعة إلى إصلاء نيران الحروب والمعارك. وكان للعرب القسم الوافر من خرافات العقيدة، ووحشية السلوك، فلا دين يجمعهم، ولا نظام يربطهم وعادات الآباء تذهب بهم يمينا وشمالا، وكان الوثنيون في بلاد العرب هم السواد الاعظم فكانت لهم – باختلاف قبائلهم وأسرهم – آلهة يعبدونها ويتخذونها شفعاء إلى الله، وشاع بينهم الاستقسام بالانصاب والازلام، واللعب بالميسر، حتى كان الميسر من مفاخرهم (1) وكان من عاداتهم التزويج بنساء الآباء (2) ولهم عادة اخرى هي أفظع منها – وهي وأد البنات – دفنهن في حال الحياة (3). هذه بعض عادات العرب في جاهليتهم. وحين بزغ نور محمد – ص – وأشرقت شمس الاسلام في مكة، تنوروا بالمعارف، وتخلقوا بمكارم الاخلاق، فاستبدلوا الوثنية بالتوحيد، والجهل بالعلم، والرذائل بالفضائل، والشقاق والتخالف بالاخاء والتآلف، فأصبحوا أمة وثيقة العرى مدت جناح ملكها على العالم، ورفعت أعلام الحضارة في أقطار الارض وأرجائها. قال ألدوري (4): ” وبعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة، تقصد مقصدا واحدا، ظهرت للعيان أمة كبيرة، مدت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند، ورفعت على منار الاشادة أعلام التمدن في أقطار الارض، أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة. ثم قال: إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الامم، وانقشعت


(1) بلوغ الارب ج 3 ص 50 طبع مصر (2) نفس المصدر ج 2 ص 52. (3) نفس الصمدر ج 3 ص 43 (4) هو أحد وزراء فرنسا السابقين. (*)

[ 60 ]

بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على اوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين ” (1). نعم إن جميع ذلك كان بفضل تعاليم كتاب الله الكريم الذي فاق جميع الصحف السماوية. فإن للقرآن في أنظمته وتعاليمه مسلكا يتمشى مع البراهين الواضحة، وحكم العقل السليم، فقد سلك سبيل العدل، وتجنب عن طرفي الافراط والتفريط. فتراه في فاتحة الكتاب يطلب عن لسان البشر من الله الهداية إلى الصراط المستقيم بقوله: ” إهدنا الصراط المستقيم 1: 6 “. وهذه الجملة على وجازتها واختصار ألفاظها واسعة المعنى بعيدة المدى. وسنتعرض لما يتيسر من بيان ذلك عند تفسيرنا للآية المباركة إن شاء الله تعالى. وقد أمر القرآن بالعدل وسلوك الجادة الوسطى في كثير من آياته. فقال: ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل 4: 58. اعدلوا هو أقرب للتقوى 5: 8. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى 6: 152. إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون 16: 90 “.


(1) صفوة العرفان لمحمد فريد وجدي ص 119. (*)

[ 61 ]

نعم قد أمر القرآن بالعدل، وسلك في تعاليمه مسلك الاستقامة، فنهى عن الشح في عدة مواضع، وعرف الناس مفاسده وعواقبه: ” ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون بما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والارض والله بما تعملون خبير 3: 18 “. بينما قد نهى عن الاسراف والتبذير ودل الناس على مفاسدهما: ” ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 6: 141. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين 17: 27. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا: 29 “. وأمر بالصبر على المصائب وبتحمل الاذى، ومدح الصابر على صبره، ووعده الثواب العظيم: ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 39: 10. والله يحب الصابرين 3: 146 “. وإلى جانب هذا لم يجعل المظلوم مغلول اليد أمام ظالمه، بل أباح له أن ينتقم


[ 62 ]

من الظالم بمثل ما اعتدى عليه، حسما لمادة الفساد، وتحقيقا لشريعة العدل: ” فمن أعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم 2: 194 “. وجوز لولي المقتول أن يقتص من القاتل العامد: ” ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل 17: 33 “. والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال، وأمره بالعدل والاستقامة قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة، وتكفل بما يصلح الاولى، وبما يضمن السعادة في الاخرى، فهو الناموس الاكبر جاء به النبي الاعظم ليفوز به البشر بكلتا السعادتين، وليس تشريعه دنيويا محضا لا نظر فيه إلى الآخرة، كما تجده في التوراة الرائجة، فإنها مع كبر حجمها لا تجد فيها موردا تعرضت فيه لوجود القيامة، ولم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الاعمال الحسنة والقبيحة. نعم صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدنيا، والتسلط على الناس باستعبادهم، وأن أثر المعصية والسقوط عن عين الرب هو الموت وسلب الاموال والسلطة. كما أن تشريع القرآن ليس أخرويا محضا لا تعرض له بتنظيم أمور الدنيا كما في شريعة الانجيل. فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرة والى صلاح الآخرة مرة أخرى. فيقول في تعليماته. ” ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم 4: 13.


[ 63 ]

ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين: 14. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 99: 7. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره: 8. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا 28: 77 “. ويحث الناس – في كثير من آياته – على تحصيل العلم، وملازمة التقوى بينما يبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيبات: ” قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق 7: 32 “. ويدعو كثيرا إلى عبادة الله، والى التفكر في آياته التشريعية والتكوينية والى التأمل والتدبر في الآفاق وفي الانفس، ومع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي توصل الانسان بربه، بل تعرض للناحية الاخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه. وأحل له البيع: ” وأحل الله البيع وحرم الربا 2: 275 “. وأمره بالوفاء بالعقود. ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود 5: 1 “.


[ 64 ]

وأمر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الانساني: ” وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمآئكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم 24: 32. فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة 4: 3 “. وأمر الانسان بالاحسان إلى زوجتة، والقيام بشؤونها، والى الوالدين والاقربين، والى عامة المسلمين، بل والى البشر كافة. فقال: ” وعاشروهن بالمعروف 4: 19. ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف 2: 228. واعبدوا الله ولا تشركوابه شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا 4: 36. وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين 28: 77. إن رحمة الله قريب من المحسنين 7: 56. وأحسنوا إن الله يحب المحسنين 2: 195 “.


[ 65 ]

هذه أمثلة من تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال، وقد أوجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أفراد الامة، ولم يخصه بطائفة خاصة، ولا بأفراد مخصوصين، وهو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار. فقد جعل كل واحد من أفراد العائلة والبيئة مرشدا لهم، ورقيبا عليهم، بل جعل كل مسلم دليلا وعينا على سائر المسلمين يهديهم إلى الرشاد، ويزجرهم عن البغي والفساد، فالمسلمون بأجمعهم مكلفون بتبليغ الاحكام، وبتنفيذها، أفهل تعلم جنودا هي أقوى وأعظم تأثيرا من هذه الجنود ونحن نرى السلاطين ينفذون إرادتهم على الرعية بقوة جنودهم. ومن الواضح أنهم لا يلازمون الرعية في جميع الامكنة والازمان، فكم فرق بين جند الاسلام، وجند السلاطين. ومن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين، وتوحد بين صفوفهم: المؤاخاة بين طبقات المسلمين، ونبذ الميزات إلا من حيث العلم والتقوى حيث يقول: ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم 49: 13. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون 39: 9 “. قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: إن الله عز وجل أعز بالاسلام من كان في الجاهلية ذليلا، وأذهب بالاسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم. وان آدم خلقه الله من طين، وان أحب الناس (البيان – 5)


[ 66 ]

إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم ” (1)… وقال: ” فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم ” (2). فالاسلام قدم سلمان الفارسي لكمال إيمانه حتى جعله من أهل البيت (3) وأخر أبا لهب عم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لكفره. انك ترى أن نبي الاسلام لم يفتخر على قومه بنسب ولا حسب، ولا بغيرهما مما كان الافتخار به شائعا في عصره، بل دعاهم إلى الايمان بالله وباليوم الآخر، وإلى كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، وبذلك قد تمكن أن يسيطر على أمة كانت تتفاخر بالانساب بقلوب ملؤها الشقاق والنفاق، فأثر في طباعها حتى أزال الكبر والنخوة منها، فأصبح الغني الشريف يزوج ابنته من المسلم الفقير وإن كان أدنى منه في النسب (4). هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه، تنفقد مصالح الفرد، ومصالح المجتمع، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة. فهل يشك عاقل بعد هذا في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم، ولا سيما إذا لاحظ أن نبي الاسلام قد نشأ بين أمة وحشية، لا معرفة لها بشئ من هذه التعليمات ؟ ! !


(1) فروع الكافي ج 2 باب 21 ان المؤمن كفؤ المؤمنة. (2) الجامع الصغير بشرح المناوي ج 4 ص 432. (3) البحار ج 76 باب فضائل سلمان. (4) ومن ذلك تزويج زياد بن لبيد وهو من أشرف بني بياضة ابنته من جويبر لاسلامه. وقد كان رجلا قصيرا ذميما محتاجا عاريا، وكان من قباح السودان. فروع الكافي ج 2 باب 21 ان المؤمن كفؤ المؤمنة. (*)

[ 67 ]

4 – القرآن والاتقان في المعاني: تعرض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد، متباعدة الاغراض من الآلهيات والمعارف، وبدء الخلق والمعاد، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبيس والجن، والفلكيات، والارض، والتاريخ، وشؤون فريق من الانبياء الماضين، وما جرى بينهم وبين أممهم، وللامثال والاحتجاجات والاخلاقيات، والحقوق العائلية، والسياسات المدنية، والنظم الاجتماعية والحربية، والقضاء والقدر، والكسب والاختيار، والعبادات والمعاملات، والنكاح والطلاق، والفرائض، والحدود والقصاص وغير ذلك. وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة، التي لا يتطرق إليها الفساد والنقد في أية جهة من جهاتها، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا شئ يمتنع وقوعه عادة من البشر – ولا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلة لا نصيب لها من المعارف، ولا غيرها من العلوم – ولذلك نجد كل من ألف في علم من العلوم النظرية، لا تمضي على مؤلفه مدة حتى يتضح بطلان كثير من آرائه. فإن العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها وكثر، ازدادت الحقائق فيها وضوحا، وظهر للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم، والحقيقة – كما يقولون – بنت البحث، وكم ترك الاول للآخر، ولهذا نرى كتب الفلاسفة الاقدمين، ومن تأخر عنهم من أهل التحقيق والنظر قد صارت عرضة لسهام النقد ممن تأخر، حتى أن بعض ما اعتقده السابقون برهانا يقينيا، أصبح بعد نقده وهما من الاومام، وخيالا من الاخيلة. والقرآن مع تطاول الزمان عليه، وكثرة أغراضه، وسمو معانيه، لم يوجد فيه ما يكون معرضا للنقد والاعتراض، اللهم إلا أوهام من بعض المكابرين، حسبوها من النقد. وسنتعرض لها، ونوضح بطلانها إن شاء الله تعالى. القرآن والاخبار بالغيب: أخبر القرآن الكريم في عدة من آياته عن امور مهمة، تتعلق بما يأتي من


[ 68 ]

الانباء والحوادث، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقا، لم يخالف الواقع في شئ منها. ولا شك في أن هذا من الاخبار بالغيب، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوة. فمن الايات التي أنبأت عن الغيب قوله تعالى: ” وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين 8: 7 “. وهذه الاية نزلت في وقعة بدر، وقد وعد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم وبقطع دابر الكافرين، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة، حتى أن الفارس فيهم كان هو المقداد، أو هو والزبير بن العوام والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة، وقد وصفتهم الاية بأنهم ذووا شوكة، وأن المؤمنين أشفقوا من قتالهم، ولكن الله يريد أن يحق الحق بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده، ونصرهم على أعدائهم، وقطع دابر الكافرين. ومنها قوله تعالى: ” فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15: 94. إنا كفيناك المستهزئين: 95. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون: 96 “. فإن هذه الاية الكريمة نزلت بمكة في بدء الدعوة الاسلامية، وقد أخرج البزار والطبراني في سبب نزولها عن أنس بن مالك: أنها نزلت عند مرور النبي


[ 69 ]

صلى الله عليه واله وسلم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: ” هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبرئيل “. (1) فأخبرت الاية عن ظهور دعوة النبي صلى الله عليه واله وسلم ونصرة الله له، وخذلانه للمشركين الذين ناوأوه واستهزأوا بنبوته، واستخفوا بأمره. وكان هذا الاخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس انحطاط شوكة قريش، وانكسار سلطانهم، وظهور النبي صلى الله عليه واله وسلم عليهم. ونظير هذه الاية قوله تعالى: ” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون 61: 9 “. ومن هذه الانباء قوله تعالى: ” غلبت الروم 30: 2. في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون: 3 “. وقد وقع ما أخبرت به الاية بأقل من عشر سنين، فغلب ملك الروم، ودخل جيشه مملكة الفرس. ومنها قوله تعالى: ” أم يقولون نحن جميع منتصر 54: 44. سيهزم الجمع ويولون الدبر: 45 “.


(1) لباب النقول ص 133 جلال الدين السيوطي. (*)

[ 70 ]

فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرقهم وقمع شوكتهم، وقد وقع هذا في يوم بدر أيضا حين ضرب أبو جهل فرسه، وتقدم نحو الصف الاول قائلا: ” نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ” فأباده الله وجمعه، وأنار الحق ورفع مناره، وأعلى كلمته، فانهزم الكافرون، وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهم أحد بأن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا – ليس لهم عدة، ولا يصحبون غير فرس أو فرسين وسبعين بعيرا يتعاقبون عليها – يظفرون بجمع كبير تام العدة وافر العدد، وكيف يستفحل أمر اولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح، لولا أمر الله وإحكام النبوة وصدق النيات ؟ !. ومنها قوله تعالى: ” تبت يدا أبي لهب وتب… سيصلى نارا ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب 111: 2 “. وقد تضمنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهب، ودخول زوجته النار. ومعنى ذلك هو الاخبار عن عدم تشرفهما بقبول الاسلام إلى آخر حياتهما، وقد وقع ذلك. 6 – القرآن وأسرار الخليقة: أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والافلاك، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الاسلام إلا من ناحية الوحي الالهي. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم، وكثرة


[ 71 ]

الاكتشافات. وهذه الانباء في القرآن كثيرة، نتعرض لها عند تفسيرنا الايات التي تشير إليها إن شاء الله تعالى. وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الامور، فصرح ببعضها حيث يحسن التصريح، وأشار إلى بعضها حيث تحمد الاشارة، لان بعض هذه الاشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتضح لاهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم، وتكثر الاكتشافات. ومن هذه الاسرار التي كشف عنها الوحي السماوي، وتنبه إليها المتأخرون ما في قوله تعالى: ” وأنبتنا فيها من كل شئ موزون 15: 19 “. فقد دلت هذه الاية الكريمة على أن كل ما ينبت في الارض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر. وان نسبة بعض الاجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر. ومن الاسرار الغريبة – التي أشار إليها الوحي الالهي – حاجة إنتاج قسم من الاشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه: ” وأرسلنا الرياح لواقح 15: 22 “. فإن المفسرين الاقدمين وإن حملوا اللقاح في الاية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه، وفسروا الاية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام،


[ 72 ]

ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر. والنظرة الصحيحة في معنى الاية – بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات – تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين، وهو الاشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح. وأن اللقاح قد يكون بسبب الرياح، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الاكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الازهار الاخرى عفوا. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن سنة الزواج لا تختص بالحيوان، بل تعم النبات بجميع أقسامه بقوله: ” ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين 13: 3. سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون 36: 36 “. ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الارض. فقد قال عز من قائل: ” الذي جعل لكم الارض مهدا 20: 53 “. تأمل كيف تشير الاية إلى حركة الارض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، وكيف تستعير للارض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا ؟ وكذلك الارض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته،


[ 73 ]

فكذلك الارض، فإن حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الانسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات. تشير الاية المباركة إلى حركة الارض إشارة جميلة، ولم تصرح بها لانها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك (1). ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا: وجود قارة اخرى. فقد قال سبحانه وتعالى: ” رب المشرقين ورب المغربين 55: 17 “. وهذه الاية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى. فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. ولكن الظاهر أن المراد بها الاشارة إلى وجود قارة اخرى تكون على السطح الاخر للارض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا. وذلك بدليل قوله تعالى: ” يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين 43: 38 “.


(1) واجترأ الحكيم ” غاليله ” بعد الالف الهجري فأثبت الحركتين ” الوضعية والانتقالية ” للارض فأهانوه، واضطهدوه حتى قارب الهلكة، ثم سجن طويلا مع جلالته، وحقوقه العلمية فصار حكماء الافرنج يكتمون كشفياتهم الانيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفا من الكنيسة الرومية. الهيئة والاسلام ص 63 طبعة بغداد. (*)

[ 74 ]

فإن الظاهر من هذه الاية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لان المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الارضية ليصح هذا التعبير، فالاية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن. فالايات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى: ” ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله 2: 115 “. والايات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الاشارة إلى القارة الموجودة على السطح الاخر من الارض. والايات التي ذكرت ذلك بلفط الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الارضية كما نشير إليه. ومن الاسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الارض فقال تعالى: ” وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها 7: 137. رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق 37: 5. فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون 70: 40 “.


[ 75 ]

ففي هذه الايات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروية الارض، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الارضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف. وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار إليه، لان الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الاراضي. فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الارض وحركتها. وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت – عليهم السلام – وأدعيتهم وخطبهم ما يدل على كروية الارض. ومن ذلك ما روي عن الامام الصادق عليه السلام قال: ” صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت: إنما علينا أن نصلي وإذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى اولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم ” (1). يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الارض، ويقره الامام – عليه السلام – على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.


(1) الوسائل ج 1 ص 237 باب 116 ان أول وقت المغرب غروب الشمس. (*)

[ 76 ]

ومثله قول الامام – عليه السلام – في خبر آخر: ” إنما عليك مشرقك ومغربك “. ومن ذلك ما ورد عن الامام زين العابدين – عليه السلام – في دعائه عند الصباح والمساء: ” وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد ” (1). أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك العصور وهو كروية الارض، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك، تلطف – وهو الامام العالم بأساليب البيان – بالاشارة إلى ذلك على وجه بليغ، فإنه – عليه السلام – لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة اخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الاولى: ” يولج كل واحد منهما في صاحبه ” ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية: ” ويولج صاحبه فيه ” إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لان ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الارض، وان إيلاج الليل في النهار – مثلا – عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الامام – عليه السلام – الاشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الاخيرة فائدة، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الاولى. ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي، وخارج عن طوق البشر.


(1) الصحيفة السجادية الكاملة. (*)

[ 77 ]

وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فمما لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره، لان من يعرف تاريخ جزيرة العرب – ولا سيما الحجاز – لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: ” أنه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين “. بل أعود فأقول: إن تصديق علي عليه السلام – وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة، والمعارف وسائر العلوم – لاعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، واليه تنتهي جميع العلوم الاسلامية وهو المثل الاعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف. وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة، مع علمه بعاقبة الامر إذا عزله عن الولاية. وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا، مطابقا للواقع، ناشئا عن الايمان الصادق. وهذا هو الصحيح، والواقع المطلوب.


[ 79 ]

أوهام حول إعجاز القرآن


[ 80 ]

القرآن والقواعد. كيف يثبت الاعجاز لجميع البشر. قول النظام بالصرفة. مخالفة قصص القرآن لكتب العهدين. وجود التناقض في الانجيل. إبطال الجبر والتفويض. إثبات الامر بين الامرين في القرآن. القرآن كان مجموعا على عهد النبي. أسلوب القرآن في جمعه بين المواضيع المختلفة. سخافات وخرافات في معارضة سورتين من القرآن.


[ 81 ]

لقد تحدى القرآن جميع البشر، وطالبهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطع أحد أن يقوم بمعارضته، ولما كبر على المعاندين أن يستظهر القرآن على خصومه، راموا أن يحطوا من كرامته بأوهام نسجتها الاخيلة حول عظمة القرآن، تأييدا لمذاهبهم الفاسدة. ومن الحسن أن نتعرض لهذه الاوهام التي أتعبوا بها أنفسهم ليتبين مبلغهم من العلم، وأن الاهواء كيف تذهب بهم يمينا وشمالا فترديهم في مهوى سحيق. قالوا: 1 – إن في القرآن امورا تنافى البلاغة لانها تخالف القواعد العربية، ومثل هذا لا يكون معجزا. وهذا القول باطل من وجهين: الاول: إن القرآن نزل بين بلغاء العرب وفصحائها، وقد تحداهم إلى معارضته، ولو بالاتيان بسورة واحدة، وذكر أن الخلق لا يقدرون على ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فلو كان في القرآن ما يخالف كلام العرب فإن هؤلاء البلغاء العارفين بأساليب اللغة ومزاياها لاخذوه حجة عليه، ولعابوه بذلك، واستراحوا به عن معارضته باللسان أو السنان، ولو وقع شئ من ذلك لاحتفظ به التاريخ، ولتواتر نقله بين أعداء الاسلام، كيف ولم ينقل ذلك ولا بخبر واحد ؟. (البيان – 6)


[ 82 ]

الثاني: أن القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين ولا أثر، وإنما اخذت هذه القواعد – بعد ذلك – من استقراء كلمات العرب البلغاء، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحيا إلهيا – كما يزعم الخصم – فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية، ولا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الاخرين المعاصرين لنبي الاسلام. ومعنى هذا: أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضا على تلك القاعدة، لا نقدا على ما استعمله القرآن. على أن هذا لوتم فإنما يتم فيما إذا اتفقت عليه القراءات، فإنا سنثبت – فيما يأتي – أن هذه القراءات المعروفة إنما هي اجتهادات من القراء أنفسهم، وليست متواترة عن النبي – ص – فلو ورد اعتراض على إحدى القراءات كان ذلك دليلا على بطلان تلك القراءة نفسها، دون أن يمس بعظمة القرآن وكرامته. وقالوا: 2 – إن الكلام البليغ – وإن عجز البشر عن الاتيان بمثله – لا يكون معجزا، فإن معرفة بلاغته تختص ببعض البشر دون بعض، والمعجز لا بد وأن يعرف إعجازه جميع أفراد البشر، لان كل فرد منهم مكلف بتصديق نبوة صاحب ذلك المعجز. الجواب: وهذه شبهة تشبه ما تقدمها في ضعف الحجة، وتفكك القياس. فإن المعجز لا يشترط فيه أن يدرك إعجازه كل البشر، ولو اشترطنا ذلك لم يسلم لنا معجز أصلا، فإن إدراكه يختص بجماعة خاصة، ويثبت لغيرهم بالنقل المتواتر. وقد ذكرنا امتياز القرآن عن غيره من المعجزات، بأن التواتر قد ينقطع في مرور الزمان. وأما القرآن فهو معجزة باقية أبدية ببقاء الامة العربية، بل ببقاء من يعرف خصائص اللغة العربية، وإن لم يكن عربيا. وقالوا: 3 – إن العارف باللغة العربية قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن.


[ 83 ]

وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد. الجواب: إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر، فإن القدرة على الاتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن، بل على الاتيان بمثل جملة من جمله لا تقتضي القدرة على الاتيان بمثل القرآن، أو بمثل سورة من سوره، فإن القدرة على المادة لا تستلزم القدرة على التركيب. ولهذا لا يصح لنا أن نقول: إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة، والصروح الضخمة، لانه قادر على وضع آجرة في البناء، أو نقول: إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد، لانه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرادتها. وكأن هذه الشبهة هي التي دعت ” النظام ” وأصحابه إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة. وهذا القول في غاية الضعف: أولا: لان الصرفة التي يقولون بها، إن كان معناها أن الله قادر على أن يقدر بشرا على أن يأتي بمثل القرآن، ولكنه تعالى صرف هذه القدرة من جميع البشر، ولم يؤتها لاحد منهم فهو معنى صحيح، ولكنه لا يختص بالقرآن، بل هو جار في جميع المعجزات. وإن كان معناها أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن، ولكن الله صرفهم عن معارضته فهو واضح البطلان، لان كثيرا من الناس تصدوا لمعارضة القرآن، فلم يستطيعوا ذلك، واعترفوا بالعجز. ثانيا: لانه لو كان إعجاز القرآن بالصرفة لوجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أن يتحدى النبي البشر، ويطالبهم بالاتيان بمثل القرآن، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر، لتكثر الدواعي إلى نقله، وإذ لم يوجد ولم ينقل كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا، خارجا عن طاقة البشر. وقالوا:


[ 84 ]

4 – إن القرآن، وإن سلم إعجازه، إلا أنه لا يكشف عن صدق نبوة من جاء به، لان قصص القرآن تخالف قصص كتب العهدين التي ثبت كونها وحيا إلهيا بالتواتر. الجواب: إن القرآن بمخالفته لكتب العهدين في قصصها الخرافية قد أزال ريب المرتاب في كونه وحيا إلهيا، لخلوه عن الخرافات والاوهام، وعما لا يجوز في حكم العقل نسبته إلى الله تعالى، وإلى أنبيائه، فمخالفة القرآن لكتب العهدين بنفسها دليل على أنه وحي إلهي. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ذلك، وإلى جملة من الخرافات الموجودة في كتب العهدين. وقالوا: 5 – إن القرآن مشتمل على المناقضة فلا يكون وحيا إلهيا، وقد زعموا أن المناقضة وقعت في موردين: الاول: في قوله تعالى: ” قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا 3: 41 “. فإنه يناقض قوله تعالى: ” قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا 19: 10 “. الجواب: إن لفظ اليوم قد يطلق ويراد منه بياض النهار فقط كما في قوله تعالى:


[ 85 ]

” سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما 69: 7 “. وقد يطلق ويراد منه بياض النهار مع ليله كما في قوله تعالى: ” تمتعوا في داركم ثلاثة أيام 11: 65 “. كما أن لفظ الليل قد يطلق ويراد به مدة مغيب الشمس واستتارها تحت الافق، وعليه جاء قوله تعالى: ” والليل إذا يغشى 92: 1. سبع ليال وثمانية أيام حسوما 69: 7 “. وقد يطلق ويراد منه سواد الليل مع نهاره، وعليه جاء قوله تعالى: ” وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة 2: 51 “. واستعمال لفظي الليل والنهار في هذين المعنيين كثير جدا، وقد استعملا في الايتين الكريمتين على المعنى الثاني ” مجموع بياض النهار وسواد النهار ” فلا مناقضة. وتوهم المناقضة يبتني على أن لفظي الليل والنهار قد استعملا على المعنى الاول. وما ذكرناه بين لا خفاء فيه، ولكن المتوهم كابر الحقيقة ليحط من كرامة القرآن بزعمه هذا. وقد غفل أو تغافل عما في إنجيله من التناقض الصريح عند إطلاقه لهاتين الكلمتين ! ! !. فقد ذكر في الباب الثاني عشر من إنجيل متى: إخبار المسيح أنه يبقى


[ 86 ]

مدفونا في بطن الارض ثلاثة أيام أو ثلاث ليال. مع أن إنجيل متى بنفسه والاناجيل الثلاثة الاخر قد اتفقت على أن المسيح لم يبق في بطن الارض إلا يسيرا من آخر يوم الجمعة، وليلة السبت ونهاره، وليلة الاحد إلى ما قبل الفجر. فانظر أخريات الاناجيل، ثم قل لكاتب إنجيل متى، ولكل من يعتقد أنه وحي إلهي: أين تكون ثلاثة أيام وثلاث ليال. ومن الغريب جدا أن يؤمن علماء الغرب ومفكروه بكتب العهدين، وهي مليئة بالخرافات والمناقضات، وألا يؤمنوا بالقرآن، وهو الكتاب المتكفل بهداية البشر، وبسوقهم إلى سعادتهم في الدنيا والاخرة، ولكن التعصب داء عضال، وطلال الحق قليلون كما أشرنا إليه فيما تقدم. الثاني: إن القرآن قد يسند الفعل إلى العبد واختياره. فيقول: ” فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر 18: 29 “. والايات بهذا المعنى كثيرة، فيدل على أن العبد مختار في عمله. وقد يسند الاختيار في الافعال إلى الله تعالى. فيقول: ” وما تشآؤن إلا أن يشآء الله 76: 30 “. فزعموا أنه يدل على أن العبد مجبور في فعله. وقالوا: هذا تناقض واضح، والتأويل في الايات خلاف الظاهر، وقول بغير دليل. الجواب: إن كل أنسان يدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الافعال، فيمكنه أن يفعلها وأن يتركها، وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد إلا أن تعتريه شبهة من خارج. وقد أطبق العقلاء كافة على ذم فاعل القبيح، ومدح فاعل الحسن، وهذا برهان


[ 87 ]

على أن الانسان مختار في فعله، غير مجبور عليه عند إصداره. وكل عاقل يرى أن حركته على الارض عند مشيه عليها تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الارض، فيرى أنه مختار في الحركة الاولى، وأنه مجبور على الحركة الثانية. وكل إنسان عاقل يدرك بفطرته أنه وإن كان مختارا في بعض الافعال حين يصدرها وحين يتركها إلا أن أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره، فإن من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الانسان وحياته، وإدراكه للفعل، وشوقه إليه، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه، وقدرته على إيجاده، ومن البين أن هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الانسان، وأن موجد هذه الاشياء في الانسان هو موجد الانسان نفسه. وقد ثبت في محله أن خالق هذه الاشياء في الانسان لم ينعزل عن خلقه بعد الايجاد، وأن بقاء الاشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن، وليس مثل خالق الاشياء معها كالبناء يقيم الجدار بصنعه، ثم يستغني الجدار عن بانيه، ويستمر وجوده وإن فني صانعه، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه، ثم يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره. بل مثل خالق الاشياء معها ” ولله المثل الاعلى ” كتأثير القوة الكهربائية في الضوء. فإن الضوء لا يوجد إلا حين تمده القوة بتيارها، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين، انعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن. وهكذا تستمد الاشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الاول في كل وقت من أوقات حدوثها وبقائها، وهي مفتقرة إلى مدده في كل حين، ومتصلة برحمته الواسعة التي وسعت كل شئ. وعلى ذلك ففعل العبد وسط بين الجبر والتفويض، وله حظ من كل منهما. فإن إعمال قدرته في الفعل أو الترك وإن كان باختياره. إلا أن هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض من الله، فالفعل مستند إلى العبد من جهة والى الله من جهة اخرى والايات


[ 88 ]

القرآنية المباركة ناظرة إلى هذا المعنى، وأن اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه. ولنذكر مثلا تقريبيا يتضح به للقارئ حقيقة الامر بين الامرين الذي قالت به الشيعة الامامية، وصرحت به أئمتها، وأشار إليه الكتاب العزيز. لنفرض إنسانا كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلا، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلا، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الاعمال بها – والطبيب يمده بالقوة في كل آن – فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الامر بين الامرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلا، لانه موقوف على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلا، لان التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لانه مريد، ولم يفوض إليه الفعل بجميع مبادئه، لان المدد من غيره، والافعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع. فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئا إلا بمشيئة الله. والايات القرآنية كلها تشير إلى هذا الغرض، فهي تبطل الجبر – الذي يقول به أكثر العامة – لانها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحض – الذي يقول به بعضهم – لانها تسند الفعل إلى الله. وسنتعرض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلا، ولابطال هذين القولين حين تتعرض الايات لذلك. وهذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت – ع – وعلومهم وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. واليك بعض ما ورد منهم: سأل رجل الصادق عليه السلام فقال:


[ 89 ]

” قلت: أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال: لا. قلت: ففوض إليهم الامر ؟ قال: قال: لا. قال: قلت: فماذا ؟ قال: لطف من ربك بين ذلك ” (1). وفي رواية اخرى عنه: ” لا جبر ولا قدر، ولكن منزلة بينهما ” (2). وفي كتب الحديث للامامية جملة من هذه الروايات. وقالوا: 6 – لو كان الاتيان بكتاب ما معجزا ” لعجز البشر عن الاتيان بمثله ” لكان كتاب اقليدس وكتاب المجسطي معجزا، وهذا باطل فيكون المقدم باطلا أيضا. الجواب: أولا: إن الكتابين المذكورين لا يعجز البشر عن الاتيان بمثلهما، ولا يصح فيهما هذا التوهم، كيف وكتب المتأخرين التي وضعت في هذين العلمين أرقي بيانا منهما، وأيسر تحصيلا، وهذه الكتب المتأخرة تفضل عليهما في نواح اخرى، منها وجود اضافات كثيرة لا أثر لها فيهما. ثانيا: إنا قد ذكرنا للمعجز شروطا، ومن هذه الشروط أن يكون الاتيان به في مقام التحدي. والاستشهاد به على صدق دعوى منصب إلهي. ومنها أن يكون خارجا عن نواميس الطبيعة، وكلا هذين الشرطين مفقود في الكتابين المذكورين. وقد أوضحنا ذلك أتم إيضاح في أول بحثنا عن الاعجاز. وقالوا: 7 – إن العرب لم تعارض القرآن، لا لكونه معجزا يعجز البشر عن الاتيان


(1) الكافي: كتاب التوحيد. باب الجبر والقدر والامر بين الامرين. (2) نفس المصدر. (*)

[ 90 ]

بمثله، ولكنهم لم يعارضوه لجهات اخرى لا تعود إلى الاعجاز. أما العرب الذين عاصروا الدعوة، أو تأخروا عنها قليلا، فقد كانت سيطرة المسلمين تمنعهم عن التصدي لذلك، فلم يعارضوا القرآن خوفا على أنفسهم وأموالهم من هؤلاء المسيطرين، ولما انقرضت سلطة الخلفاء الاربعة وآل الامر إلى الامويين الذين لم تقم خلافتهم على محور الدعوة الاسلامية، صار القرآن مأنوسا لجميع الاذهان بسبب رشاقة ألفاظه، ومتانة معانيه، وأصبح من المرتكزات الموروثة خلفا عن سلف، فانصرفوا عن معارضته لذلك. الجواب: أولا: إن التحدي بالقرآن، وطلب المعارضة بسورة من مثله، قد كان من النبي – ص – في مكة قبل أن تظهر شوكة الاسلام، وتقوى سلطة المسلمين، ومع ذلك لم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يقوم بهذه المعارضة. ثانيا: إن الخوف في زمان الخلفاء، وسيطرة المسلمين، لم يمنع الكافر من أن يظهره كفره، وإنكاره لدين الاسلام. وقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها بأهنأ عيش وأكرم نعمة، وكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. ولا سيما في عصر خلافة أمير المؤمنين – عليه السلام – الذي اعترف بعدله ووفور علمه المسلمون وغيرهم. فلو كان أحد هؤلاء الكتابيين، أو غيرهم قادرا على الاتيان بمثل القرآن، لاظهره في مقام الاحتجاج. ثالثا: إن الخوف لو سلم وجوده فهو إنما يمنع عن إظهار المعارضة والمجاهرة بها، فما الذي منع الكتابيين، أو غيرهم من معارضته سرا في بيوتهم ومجامعهم ؟ ولو ثبتت هذه المعارضة لتحفظ بها الكتابيون ليظهروها بعد زوال الخوف عنهم، كما تحفظوا على قصص العهدين الخرافية، وسائر ما يرتبط بدينهم. رابعا: إن الكلام – وإن ارتفع مقامه من حيث البلاغة – إلا أن المعهود


[ 91 ]

من الطباع البشرية أنه إذا كرر على الاسماع هبط عن مقامه الاول، ولذلك نرى أن القصيدة البليغة إذا أعيدت على الانسان مرارا ملها، واشمأزت نفسه منها، فإذا سمع قصيدة اخرى فق يتراءى له في أول نظرة أنها أبلغ من القصيدة الاولى، فإذا كررت الثانية أيضا ظهر الفرق الحقيقي بين القصيدتين. وهذا جار في جميع ما يلتذ به الانسان، ويدرك حسنه من مأكول، وملبوس ومسموع وغيرها. والقران لو لم يكن معجزا لكان اللازم أن يجري على هذا المقياس، وينحط في نفوس السامعين عن مقامه الاول، مهما طال به الزمان وطرأ عليه التكرار، وبذلك تسهل معارضته، ولكنا نرى القرآن على كثرة تكراره وترديده، لا يزداد إلا حسنا وبهجة، ولا يثمر إلا عرفانا ويقينا، ولا ينتج إلا إيمانا وتصديقا، فهو في هذه المزية على عكس الكلام مألوف. وإذن فهذا الوجه يؤكد إعجازه لا أنه ينافيه كما يتوهمه هذا الخصم. خامسا: إن التكرار لو فرض أنه يوجب انس النفوس به، وانصرافها عن معارضته، فهو إنما يتم عند المسلمين الذين يصدقون به، ويستمعون إليه برغبة واشتياق كلما تكررت تلاوته، فلما ذا لا يعارضه غيره المسلمين من العرب الفصحاء ؟ لتقع هذه المعارضة موقع القبول ولو من غير المسلمين. وقالوا: 8 – ذكر التاريخ أن أبا بكر لما أراد جمع القرآن، أمر عمر وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد، وأن يكتبا ما شهد شاهدان على أنه من كتاب الله، وفي هذا شهادة على أن القرآن ليس خارقا للعادة، لانه لو كان خارقا للعادة بنفسه لم يحتج إلى الشهادة عليه، ولكان بنفسه شاهدا على نفسه. الجواب: أولا: إن القرآن معجزة في بلاغته واسلوبه، لا في كل كلمة من كلماته، وإذن فقد يقع الشك في تحريف بعض الكلمات المفردة، أو في زيادتها ونقصانها.


[ 92 ]

وشهادة الشاهدين – إذا صحت أخبارها – إنما هي لرفع هذه الاحتمالات التي تعرض من سهو القارئ أو من عمده، على أن عجز البشر عن الاتيان بسورة من مثل القرآن لا ينافي قدرتهم على الاتيان بآية، أو ما يشبه الاية، فإن ذلك أمر ممكن، ولم يدع المسلمون استحالة ذلك، ولم يذكره القرآن عند التحدي بالمعارضة. ثانيا: إن هذه الاخبار التي دلت على جمع القرآن في عهد أبى بكر بشهادة شاهدين من الصحابة، كلها أخبار آحاد: لا تصلح أن تكون دليلا في أمثال ذلك. ثالثا: إنها معارضة بأخبار كثيرة دلت على أن القرآن قد جمع في عهد النبي – ص – وكان كثير من الصحابة يحفظ جميع القرآن. وأما الحافظون منهم لبعض سوره وأجزائه فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى. على أن النظرة العقلية البسيطة تشهد بكذب تلك الاخبار التي استدل بها الخصم. فإن القرآن هو السبب الاعظم في هداية المسلمين، وفي خروجهم من ظلمات الشقاء والجهل إلى نور السعادة والعلم، وقد بلغ المسلمون في العناية بالقرآن الدرجة القصوى، فقد كانوا يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار، وكانوا يتفاخرون في حفظه واتقانه ويتبركون بسوره وآياته، والنبي يحثهم على ذلك. فهل يحتمل عاقل بعد هذا كله أن يقع الشك فيه عندهم حتى يحتاج إثباته إلى شاهدين ؟. وسنثبت – إن شاء الله تعالى – فيما يأتي ان القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم وقالوا: 9 – إن للقرآن اسلوبا يباين أساليب البلغاء المعروفة، فقد خلط بين المواضيع المتعددة، فبينا هو يتكلم في التاريخ إذا به ينتقل إلى الوعد والوعيد، إلى الحكم والامثال، إلى جهات اخرى. ولو كان القرآن مبوبا يجمع في كل موضوع ما يتصل به من الايات، لكانت فائدته أعظم، وكانت الاستفادة منه أسهل.


[ 93 ]

الجواب: إن القرآن أنزل لهداية البشر، وسوقهم إلى سعادتهم في الاولى والاخرى، وليس هو بكتاب تاريخ، أو فقه، أو أخلاق. أو ما يشبه ذلك ليعقد لكل من هذه الجهات بابا مستقلا. ولا ريب في أن اسلوبه هذا أقرب الاساليب إلى حصول النتيجة المقصودة، فإن القارئ لبعض سور القرآن يمكنه أن يحيط بكثير من أغراضه، وأهدافه في أقرب وقت وأقل كلفة، فيتوجه نظره إلى المبدأ والمعاد، ويطلع على أحوال الماضين فيعتبر بهم. ويستفيد من الاخلاق الفاضلة، والمعارف العالية، ويتعلم جانبا من أحكامه في عباداته ومعاملاته. كل ذلك مع حفظ نظام الكلام، وتوفية حقوق البيان، ورعاية مقتضى الحال. وهذه الفوائد لا يمكن حصولها من القرآن إذا كان مبوبا، لان القارئ لا يحيط بأغراض القرآن إلا حين يتم تلاوة القرآن جميعه، وقد يعوقه عائق عن الاتمام فلا يستفيد إلا من باب أو بابين. ولعمري أن هذه إحدى الجهات المحسنة لاسلوب القرآن، الذي حاز به الجمال والبهاء، فإنه مع انتقاله من موضوع إلى موضوع يتحفظ على كمال الربط بينهما، كأن كل جملة منه درة في عقد منتظم، ولكن بغض الاسلام أعمى بصر هذا المستشكل وأصم سمعه، حتى توهم الجمال قبحا، والمحاسن مساوئ. على أن القرآن قد كرر بعض القصص مرارا بعبارات مختلفة، حسب المناسبات المقتضية للتكرار، فلو جمعت تلك العبارات كلها في باب واحد لا نتفت تلك الفائدة الملحوظة، وكان التكرار لغير فائدة ملموسة للقارئ. سخافات وخرافات: ذكر كاتب رسالة ” حسن الايجاز ” (1) في رسالته هذه أنه يمكن معارضة


(1) كتيب صدر من المطبعة الانكليزية الامريكانية ببولاق مصر سنة 1912. (*)

[ 94 ]

القرآن بمثله، وذكر جملا اقتبسها من نفس القرآن، وحور بعض ألفاظها وزعم أنه يعارض بها القرآن، فأظهر مبلغه من العلم، ومقدار معرفته بفنون البلاغة وهنا نذكر للقارئ تلك العبارات، ونوضح له وجوه الفساد في المعارضة الوهمية وقد تعرضنا لها في كتابنا ” نفحات الاعجاز ” (1). ذكر هذا المتوهم في معارضة سورة الفاتحة قوله: ” الحمد الرحمن رب الاكوان، الملك الديان، لك العبادة، وبك المستعان، إهدنا صراط الايمان ” وتخيل أن قوله هذا واف بجميع معاني سورة الفاتحة، مع أنه أخصر منها. ولست أدري ماذا أقول لكاتب هذه الجمل، وهو بهذا المقدار من التمييز بين غث الكلام وسمينه ؟ ! وليته عرض قوله هذا على علماء النصارى العارفين منهم بأساليب الكلام، وفنون البلاغة قل أن يفضح نفسه بهذه الدعوى، أو لم يشعر بأن المألوف في معارضة كلام بمثله، أن يأتي الشاعر أو الكاتب بكلام يتحد مع الكلام المعارض في جهة من الجهات، أو غرض من الاغراض، ولكنه يأتي بكلام مستقل في ألفاظه وتركيبه واسلوبه ؟ وليس معنى المعارضة أن يقلد الكلام المعارض في تركيبه واسلوبه، ويتصرف فيه بتبديل بعض ألفاظه ببعض، وإلا لامكنت معارضة كل كلام بهذا النحو من المعارضة. وقد كان أيسر شئ لمعاصري النبي صلى الله عليه واله وسلم من العرب، ولكنهم لمعرفتهم بمعنى المعارضة الصحيحة ومعرفتهم بوجوه البلاغة في القرآن لم تمكنهم العارضة، واعترفوا بالعجز فآمن به من آمن منهم وجحد به من جحد: ” فقال إن هذا إلا سحر يؤثر 74: 24 “. على أنه كيف تصح المقايسة بين جمله هذه التي أتعب بها نفسه، وبين فاتحة


(1) كتبناه ردا على ” حسن الايجاز ” طبع في المطبعة العلوية في النجف الاشرف سنة 1342. (*)

[ 95 ]

الكتاب حتى يتوهم أنها وافية بمعناها ؟ أو لم يكف هذا الكاتب جهله بفنون البلاغة حتى دل الناس على عيوبه بالجهر بها ؟ ! !. وكيف تصح المقايسة بين قوله ” الحمد للرحمن ” مع قول الله تعالى: ” الحمد لله 1: 2 “. وقد فوت بجملته هذه المعنى المقصود من قول الله تعالى. فإن كلمة ” الله ” علم للذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، ومن صفات الكمال الرحمة التي أشار إليها في البسملة، فذكر كلمة ” الرحمن ” يوجب فوت الدلالة على بقية جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدسة، والتي يستوجب بها الحمد من غير ناحية الرحمة. وكذلك استبدال قوله: ” رب الاكوان ” بقوله تعالى: ” رب العالمين الرحمن الرحيم 1: 3 “. فإن فيه تفويتا لمعنى هاتين الايتين، فإن فيهما دلالة على تعدد العوالم الطولية والعرضية، وأنه تعالى مالك لجميعها ومربيها، وأن رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحو مستمر غير منقطع، كما يدل عليه ذكر لفظ ” الرحيم ” بعد لفظ ” الرحمن “. وسنوضح ذلك في تفسير البسملة. وأين من هذه المعاني قول هذا القائل: ” رب الاكوان ؟ ” فإن الكون معناه الحدوث والوقوع والصيرورة والكفالة (1) وهو بجميع هذه المعاني معنى مصدري لا يصح إضافة كلمة الرب إليه وهي بمعنى المالك المربي. نعم يصح إضافة كلمة الخالق إليه. فيقال: خالق الاكوان. على أن لفظ الاكوان لا يدل على تعدد


(1) راجع لسان العرب. (*)

[ 96 ]

عوالم الموجودات الذي يدل عليه لفظ العالمين، ولا على سائر الجهات التي تدل عليها الاية الكريمة. وكذلك استبداله جملة ” الملك الديان ” بقول الله تعالى: ” مالك يوم الدين 1: 4 “. مع أن جملته تلك لا تدل على وجود عالم آخر لجزاء الاعمال، وأن الله تعالى هو مالك ذلك اليوم، وليس فيه لاحد تصرف ولا اختيار، وأن الناس كلهم في ذلك اليوم تحت حكم الله تعالى ينفذ فيهم أمره، فبعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار. وغاية ما تدل عليه جملته تلك أن الله ملك يجازي بالاعمال، وأين هذا من معنى الاية الكريمة ؟ ! أما قوله تعالى: ” إياك نعبد وإياك نستعين 1: 5 “. فقد فهم هذا الكاتب من معناه أن العبادة لا بد من أن تكون لله، وأن الاستعانة لا تكون إلا به تعالى، فأبدلها بقوله: ” لك العبادة، وبك المستعان ” وقد فاته أن المقصود بالاية تلقين المؤمن أن يظهر توحيده في العبادة، وحاجته وافتقاره إلى إعانة الله عز وجل في عباداته وسائر أعماله، وأن يعترف بأنه وجميع المؤمنين لا يعبدون غير الله، ولا يستعينون بأحد سوى الله، بل يعبدونه وحده ويستعينون به. وأين هذا من عبارة هذا الكاتب على أنها ليست أخصر من الاية المباركة ؟ ! ! وقوله تعالى: ” إهدنا الصراط المستقيم 1: 6 “. أراد به طلب الهداية إلى أقرب طريق يوصل سالكه إلى مقاصده، من أعماله وملكاته وعقائده، ولم يحصره بطريق الايمان فقط، وهذا لا يفي به قول


[ 97 ]

الكاتب ” إهدنا صراط الايمان “. على أن معنى هذه الجملة طلب الهداية إلى طريق الايمان، ولا دلالة فيها على أن ذلك الطريق مستقيم لا يضل سالكه. وقد استغنى الكاتب بجملته هذه عن بقية السورة المباركة، وزعم أن هذه البقية غير محتاج إليها، وهذا يدل على قصوره عن فهم معناها. فإن قوله تعالى: ” صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين 1: 7 “. فيه دلالة على وجود طريق مستقيم سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ووجود طرق اخرى غير مستقيمة سلكها المغضوب عليهم، من المعاندين للحق، والمنكرين له بعد وضوحه، والضالون الذين ضلوا طريق الهدى بجهلهم، وتقصيرهم في الفحص عنه، وفي اقتناعهم بما ورثوه من آثار آبائهم، فاتبعوهم تقليدا على غير هدى من الله ولا برهان. والقارئ المتدبر لهذه الاية الكريمة يتذكر ذلك فيحضر في ذهنه لزوم التأسي بأولياء الله المقربين في أعمالهم، وأخلاقهم وعقائدهم، والتجنب عن مسالك هؤلاء المتمردين الذين غضب الله عليهم بما فعلوا، والذين ضلوا طريق الحق بعد اتضاحه، وهل يعد هذا المعنى من الامور التي لا يهتم بها كما يتوهمه هذا الكاتب ؟ ! !. وذكر في معارضة سورة الكوثر: قوله: ” إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وجاهر، ولا تعتمد قول ساحر ” انظر كيف يقلد القرآن في نظمه وتركيبه ويغير بعض ألفاظه، ويوهم الناس أنه يعارض القرآن ثم انظر كيف يسرق قوله هذا من مسيلمة الكذاب الذي يقول: ” إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك (البيان – 7).


[ 98 ]

وجاهر، وإن مبغضك رجل كافر “. ومن الغريب أنه توهم أن المشابهة في السجع بين الكلامين تقتضي مشاركتهما في البلاغة، ولم يلتفت إلى أن إعطاء الجواهر لا تترتب عليه إقامة الصلاة والمجاهرة بها. وأن لله على عبده نعما عظيمة هي أشرف وأعظم من نعمة المال، كنعمة الحياة والعقل والايمان، فكيف يكون السبب الموجب للصلاة لله هو إعطاء المال دون تلك النعم العظيمة ؟ ! ولكن الذي يستأجر بالمال للتبشير يكون المال قبلته التي يصلي إليها، وهدفه الذي يسعى إلى تحصيله، وغايته التي يقدمها على كل غاية ” وكل إناء بالذي فيه ينضح “. ولسائل أن يسأل هذا الكاتب عن معنى كلمة ” الجواهر ” التي جاء بها معرفة بالالف واللام، فإن أراد بها جواهر معينة فليست في اللفظ قرينة تعين هذه الجواهر المقصودة، وإن أراد بها جميع الجواهر الموجودة في العالم من حيث أن الجمع المعرف بالالف واللام يدل على الاستغراق فهو كذب صريح. وما هو وجه المناسبة بين الجملتين السابقتين وبين قوله: ” ولا تعتمد قول ساحر “. وما هو المراد من لفظ ساحر، ومن قوله الذي لا يعتمد عليه ؟ فإن أراد به ساحرا معينا، وقولا مخصوصا من أقواله، كان عليه أن ينصب قرينة على هذا التعيين. وليس في جملته هذا ما يصلح للدلالة عليه، وإن أراد به كل قول لكل ساحر لانهما نكرتان في سياق النهي لزوم اللغو في هذا الكلام، لانه لا يوجد سبب معقول لعدم الاعتماد على قول كل ساحر، ولو كان هذا القول في الامور الاعتيادية مع الاطمئنان بقوله. وإن أراد أن لا يعتمد قول الساحر بما هو ساحر فهو غلط، لان الساحر من حيث هو ساحر لا قول له، وإنما يسحر الناس ويفسد عليهم حالهم بحيله وأعماله. وأما سورة الكوثر فقد نزلت في من شنا رسول الله – ص – فقال: إنه أبتر وسيموت وينقطع دينه واسمه، وقد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: ” أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 52: 30 “.


[ 99 ]

فأنزل الله تبارك وتعالى: ” إنا أعطيناك الكوثر 108: 1 “. وهو الخير الكثير من جميع الجهات. أما في الدنيا فشرف الرسالة، وهداية الخلق وزعامة المسلمين، وكثرة الانصار، والنصر على الاعداء. وكثرة الذرية – من بضعته الصديقة الطاهرة – التي توجب بقاء اسمه ما دامت لدنيا باقية. وأما في الاخرة فالشفاعة الكبرى، والجنان العالية، والحوض الذي لا يشرب منه إلا هو وأولياؤه إلى ما سوى ذلك من نعم الله عليه. ” فصل لربك وانحر: 2 “. شكرا له على هذه النعم، والمراد بالنحر: النحر بمنى، أو نحر الاضحية في الاضحى، أو رفع اليدين إلى النحر في تكبير الصلاة، أو استقبال القبلة بالنحر، والاعتدال في القيام، وجميع ذلك يناسب المقام لانه نحو من الشكر لتلك النعم. وقد أنزل الله سبحانه: ” إن شانئك هو الابتر: 3 “. فلا يبقى له اسم ولا رسم، فكانت العاقبة لهؤلاء الشانئين ما أخبر الله عنهم، فلم يبق لهم اسم ولا ذكر خير في الدنيا زيادة على جزائهم في الاخرة من العذاب الاليم، والخزي الدائم. وهل تقاس هذه السورة المباركة في معانيها السامية، وبلاغتها الكاملة بتلك الجمل الساقطة التي أجهد هذا الكاتب بها نفسه فقلد القرآن في نحوه تركيبه، وأخذ من مسيلمة الكذاب ألفاظها وأسلوبها، وأتى بها كما شاء له العناد، بل كما شاء له الجهل الفاحش ليعارض بها عظمة القرآن في بلاغته وإعجازه ؟ !


[ 101 ]

حول سائر المعجزات


[ 102 ]

إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية. محاسبة المدارك التي استند إليها منكرو تلك المعجزات. بشارة التوراة والانجيل بنبوة محمد. إسلام كثير من اليهود والنصارى. الدليل القطعي على إثبات هذه البشارة. معجزات النبي أولى بالتصديق من معجزات الانبياء السايقين.


[ 103 ]

لا يشك باحث مطلع في أن القرآن أعظم معجزة جاء بها نبي الاسلام، ومعنى هذا أنه أعظم المعجزات التي جاء بها الانبياء والمرسلون جميعا. وقد ذكرنا في المباحث المتقدمة بعضا من نواحي إعجازه، وأوضحنا تفوق كتاب الله على جميع المعجزات، ولكنا نقول ههنا: إن معجزة النبي – ص – لم تكن منحصرة بالقرآن الكريم، ولقد شارك جميع الانبياء في معجزاتهم واختص من بينهم بمعجزة الكتاب العزيز. والدليل على قولنا هذا أمران: الاول: أخبار المسلمين المتواترة الدالة على صدور المعجزات منه، وقد ألف المسلمون – على اختلاف مللهم ونحلهم في هذه المعجزات – مؤلفات كثيرة فليراجعها من يرغب في الاطلاع عليها. ولهذه الاخبار جهتان من الامتياز على أخبار أهل الكتاب بمعجزات أنبيائهم: الجهة الاولى: قرب الزمان، فإن الشئ إذا قرب زمانه كان تحصيلي الجزم بوقوعه أيسر منه إذا بعد زمانه. الجهة الثانية: كثرة الرواة: فإن أصحاب النبي – ص – الذين شاهدوا معجزاته أكثر – بالوف المرات – من بني إسرائيل، ومن المؤمنين بعيسى الناقلين لمعجزاتهما. فإن المؤمنين بعيسى – عليه السلام – في عصره كانوا لقلتهم يعدون بالاصابع، وإن نقل معجزاته لا بد وأن ينتهي إلى هؤلاء المؤمنين القليلين في العدد، فإذا صحت دعوى التواتر في معجزات موسى وعيسى صحت دعوى


[ 104 ]

التواتر في معجزات نبي الاسلام بطريق أولى. وقد أوضحنا فيما تقدم أن التواتر في معجزات الانبياء السابقين غير ثابت في الازمنة اللاحقة، ودعواه دعوى باطلة. الثاني: ان نبي الاسلام – ص – قد أثبت للانبياء السابقين معجزات كثيرة، ثم ادعى أنه هو أفضل هؤلاء الانبياء جميعا، وأنه خاتمهم. وهذا يقتضي صدور تلك المعجزات منه على نحو أتم، فإنه لا يعقل أن يدعي أحد أنه أفضل من غيره، وهو يعترف بنقصانه عن ذلك الغير في بعض صفات الكمال. وهل يعقل أن يدعي أحد أنه أعلم الاطباء جميعا، وهو يعترف بأن بعض الاطباء الاخرين قادر على معالجة مرض هو غير قادر عليها ؟ ! إن ضرورة العقل تمنع ذلك. ولهذه الجهة نرى أن جملة من المتنبين الكاذبين قد أنكروا الاعجاز، وجحدوا كل معجزة للانبياء السابقين، وصرفوا اهتمامهم إلى تأويل كل آية دلت على وقوع الاعجاز، حذرا من أن يطالبهم الناس بأمثالها فيستبين عجزهم. وقد كتب بعض الجهلاء، والمموهين على البسطاء أن في آيات القرآن ما يدل على نفي كل معجزة للنبي الاعظم – ص – غير القرآن وأن القرآن هو معجزته الوحيدة ليس غير، وهو حجته على نبوته. ونحن نذكر هذه الايات التي احتجوا بها، ونذكر وجه احتجاجهم، ثم نوضح فساد ذلك. فمن هذه الايات قوله تعالى: ” وما منعنا أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايات إلا تخويفا 17: 59 “. ووجه دلالتها – على ما يزعمون – أنها ظاهرة في النبي – ص – لم يأت


[ 105 ]

بآية غير القرآن. وأن السبب في عدم الارسال بالايات هو أن الاولين من الامم السابقة قد كذبوا بالايات التي أرسلت إليهم. الجواب: إن المراد بالايات التي نفتها الاية الكريمة، والتي كذب بها الاولون من الامم هي الايات التي اقترحتها الامم على أنبيائها، فالاية الكريمة تدل على أن النبي – ص – لم يجب المشركين إلى ما اقترحوه عليه من الايات، ولا تنفي عنه صدور المعجزة مطلقا، ويدل على أن المراد هي الايات الاقتراحية أمور: الاول: ان الايات جمع آية بمعنى العلامة، وهو جمع معرف بالالف واللام. والوجوه المحتملة في معناه ثلاثة: فإما أن يراد منه جنس الاية الذي يصلح للانطباق على كل فرد من الايات، ومعنى هذا أن الاية الكريمة تنفي وقوع كل آية تدل على صدق مدعي النبوة، ولازم هذا أن يكون بعث الرسول لغوا، إذا لا فائدة في إرساله إذا لم تكن معه بينة تقوم على صدقه، وأن يكون تكليف الناس بتصديقه، ولزوم اتباعه تكليفا بما لا يطاق. وأما أن يراد به جميع الايات، وهذا التوهم أيضا فاسد، لان إثبات صدق النبي يتوقف على آية ما من الايات، ولا يتوقف على إرساله بجميع الايات. ولم يقترح المقترحون عليه أن يأتي بجميعها، فلا معنى لحمل الاية عليه. فلا بد وأن يراد بهذه الاية الممنوعة خصوص آيات معهودة من الايات الالهية. الثاني: أن تكذيب المكذبين لو صلح أن يكون مانعا عن الارسال بالايات، لكان مانعا عن الارسال بالقرآن أيضا إذ لا وجه لتخصيص المنع بالايات الاخرى. وقد أوضحنا أن القرآن أعظم المعجزات التي جاء بها الانبياء، وقد تحدى به النبي – ص – جميع الامم لاثبات نبوته ما دامت الليالي والايام. وهذا يدلنا أيضا على أن الايات الممنوعة قسم خاص وليست مطلق الايات.


[ 106 ]

الثالث: أن الاية الكريمة صرحت بأن السبب المانع عن الارسال بالايات هو تكذيب الاولين بها، وهذا من قبيل تعليل عدم الشئ بوجود مانعه. ومن البين أن التعليل بوجود المانع لا يحسن في نظر العقل إلا إذا كان السبب المقتضي لوجود ذلك الشئ موجودا. ولذلك يقبح عند العقلاء أن يعلل عدم احتراق الخشبة – مثلا – بوجود الرطوبة عليها إذا كانت النار غير موجودة، وذلك واضح لا يقبل الشك. وإذن فلا بد وأن يكون المقتضي للارسال بالايات موجودا، ليصح تعليل عدمه بوجود التكذيب. والمقتضي للارسال لا يخلو من أن يكون هي الحكمة الالهية لارشاد العباد وهدايتهم إلى سعادتهم. وأن يكون اقتراح الامة على النبي شيئا من الايات زائدا على المقدار اللازم من الايات لاتمام الحجة. أما إذا كان المقتضي للارسال بالايات هي الحكمة الالهية، فلا بد من إرسال هذه الايات، ويستحيل أن يمنع من تأثير الحكمة الالهية شئ لانه يستحيل على الحكيم أن يختار في عمله ما تنافيه حكمته، سواء في ذلك وجود التكذيب وعدمه، على أن تكذيب الامم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الالهية في الارسال بالايات، لصلح أن يكون مانعا عن إرسال الرسول. وهذا باطل بالضرورة. وخلاف للمفروض أيضا. فتعين أن يكون المقتضي للارسال بالايات هو اقتراح المقترحين. ومن الضروري أن المقترحين إنما يقترحون امورا زائدة على الايات التى تتم بها الحجة، فإن هذا المقدار من الايات مما يلزم على الله أن يرسل به لاثبات نبوة نبيه، وما زاد على هذا المقدار من الايات لا يجب على الله أن يرسل به ابتداء، ولا يجب عليه أن يجيب إليه إذا اقترحه المقترحون. نعم لا يستحيل عليه ذلك إذا اقتضت المصلحة أن يقيم الحجة مرة ثانية وثالثة، أو أن يجيب المقترحين إلى ما طلبوا. وعلى هذا فاقتراح المقترحين إنما يكون بعد إتمام الحجة عليهم بما يلزم من الايات، وتكذيبهم إياها. وإنما كان تكذيب الامم السابقة مانعا عن الارسال


[ 107 ]

بالايات المقترحة في هذه الامة، لان تكذيب الايات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين. وقد ضمن الله تعالى رفع العذاب الدنيوي عن هذه الامة إكراما لنبيه صلى الله عليه واله وسلم وتعظيما لشأنه. فقد قال الله تعالى: ” وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم 8: 33 “. أما أن تكذيب الايات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين فلان الاية الالهية إذا كانت مبتدأة كانت متمحضة في إثبات نبوة النبي، ولم يترتب على تكذيبها أكثر مما يترتب على تكذيب النبي من العقاب الاخروي. وأما إذا كانت مقترحة كانت كاشفة عن لجاجة المقترح، وشدة عناده، إذ لو كان طالبا للحق لصدق بالاية الاولى لانها كافية في إثباته، ولان معنى اقتراحه هذا أنه قد التزم على نفسه بتصديق النبي إذا أجابه إلى هذا الاقتراح، فإذا كذب الاية المقترحة بعد صدورها كان مستهزئا بالنبي وبالحق الذي دعا إليه، وبالاية التي طلبها منه، ولذلك سمى الله تعالى هذا النوع من الايات ” آيات التخويف ” كما في آخر هذه الاية الكريمة، وإلا فلا معنى لحصر مطلق الايات بالتخويف، فإن منها ما يكون للرحمة بالعباد وهدايتهم وإنارة سبيلهم. ومما يدلنا على أن المراد من الايات الممنوعة هي آيات التعذيب والتخويف: ملاحظة مورد هذه الاية الكريمة وسياقها. فإن الاية التي قبها هي قوله تعالى: ” وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا 17: 58 “.


[ 108 ]

وقد ذكرت فيها آية ثمود التي أعقبها نزول العذاب عليهم. وقصتهم مذكورة في سورة الشعراء، وختمت هذه الاية بقوله تعالى: ” وما نرسل بالايات إلا تخويفا “. وكل هذه القرائن دالة على أن المراد بالايات الممنوعة هي الايات المقترحة التي تستلزم نزول العذاب. ونحن إذا سبرنا الايات القرآنية يظهر لنا ظهورا تاما لا يقبل التشكيك أن المشركين كانوا يقترحون إنزال العذاب عليهم، أو يقترحون آيات اخرى نزل العذاب على الامم السابقة بسبب تكذيبها. فمن القسم الاول قوله تعالى: ” وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم 8: 32. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون: 33. قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون 10: 50. ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه 11: 8. ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون 29: 53 “.


[ 109 ]

ومن القسم الثاني وقوله تعالى: ” وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ألله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين ظلموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون 6: 124. فليأتنا بآية كما أرسل الاولون 21: 5. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون 28: 48 “. ويدلنا على أن نظير هذه الآيات المقترحة قد كذبها الاولون فاستحقوا به نزول العذاب قوله تعالى: ” قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون 16: 26. كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حبث لا يشعرون 39: 25 ” وما أكثر الشواهد على ذلك من الكتاب العزيز. وقد ورد في تفسير الآية عن طريق الشيعة وأهل السنة ما يؤكد هذا الذي استفدناه من ظاهرها.


[ 110 ]

فعن الباقر عليه السلام: ” أن محمدا – ص – سأله قومه أن يأتي بآية فنزل جبريل وقال: إن الله يقول: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون. وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات ” (1). وعن ابن عباس قال: ” سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا. فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا اهلكوا كما اهلك من قبلهم. قال: بل تستأني بهم فأنزل الله تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات.. ” (2). وهناك روايات اخرى من أراد الاطلاع عليها فليراجع كتب الروايات وتفسير الطبري. ومن الآيات التي استدل بها الخصم على نفي المعجزات للنبي – ص – غير القرآن قوله تعالى: ” وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا 17: 90. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب


(1) تفسير البرهان ج 1 ص 607. (2) تفسير الطبري ج 15 ص 74. (*)

[ 111 ]

فتفجر الانهار خلالها تفجيرا: 91. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا: 92. أو يكون لك بيت من زخرف أوترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا: 93 “. ووجه استدلال الخصم بهذه الآيات الكريمة: أن المشركين قد دعوا النبي إلى إقامة المعجزة شاهدة على صدقه بالنبوة، فامتنع عن ذلك واعترف لهم بالعجز، ولم يثبت لنفسه إلا أنه بشر ارسل إليهم. فالآيات دالة على نفي صدور المعجزة منه. الجواب: أولا: أنا قد أوضحنا للقارئ حال الآيات المقترحة في جواب الاستدلال المتقدم. ولا شك في أن هذه المعجزات التي طلبها المشركون من النبي آيات مقترحة، وأن هؤلاء المشركين في مقام العناد للحق. ويدلنا على ذلك أمران: 1 – أنهم قد جعلوا تصديقهم بالنبي موقوفا على أحد هذه الامور التي اقترحوها، ولو كانوا غير معاندين للحق لاكتفوا بكل آية تدل على صدقه، ولم تكن لهذه الامور التي اقترحوها خصوصية على ما سواها من الآيات. 2 – قولهم: ” أوترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤة ” وأي معنى لهذا التقييد بإنزال الكتاب أفليس الرقي إلى


[ 112 ]

السماء وحده آية كافية في الدلالة على صدقه ؟ أو ليست في هذه التشهيات الباردة دلالة واضحة على عنادهم للحق. وتمردهم عليه ؟ ! !. ثانيا: إن هذه الامور التي اقترحها المشركون في الآيات المتقدمة منها ما يستحيل وجوده، ومنها ما لا يدل على صدق دعوى النبوة. فلو وجب على النبي – ص – أن يجيب المقترحين إلى ما يطلبونه، فليس هذا النوع من الامور المقترحة مما تجب إجابته. وإيضاح هذا: أن الامور المقترحة على النبي – ص – المذكورة في هذه الآيات ستة: ثلاثة منها مستحيلة الوقوع، وثلاثة منها غير مستحيلة، ولكنها لا تدل على صدق المدعي للنبوة (1). فالثلاثة المستحيلة: أولها: سقوط السماء عليهم كسفا. فان هذا يلازم خراب الارض، وهلاك أهلها، وهو إنما يكون في آخر الدنيا. وقد أخبرهم النبي – ص – بذلك، ويدل عليه قولهم: ” كما زعمت ” وقد ذكر هذا في مواضع عديدة من القرآن الكريم. منها قوله تعالى: ” إذا السماء انشقت 84: 1. إذا السماء انفطرت 82: 1. إن نشأ نخسف بهم الارض أو نسقط عليهم كسفا من السماء 34: 9 “. وإنما كان ذلك مستحيلا، لان وقوعه قبل وقته خلاف ما تقتضيه الحكمة


(1) انظر الحديث الكامل – الذي يقص محاورة قريش مع النبي – ص – في فرض هذه الامور المستحيلة عليه، محاولة تعجيزه وتبكيته – في قسم التعليقات برقم (6). (*)

[ 113 ]

الالهية من بقاء الخلق، وإرشادهم إلى كمالهم. ويستحيل على الحكيم أن يجري في أعماله على خلاف ما تقتضيه حكمته. ثانيها: أن يأتي بالله بأن يقابلوه، وينظروا إليه. وذلك ممتنع لان الله لا تدركه الابصار، وإلا لكان محدودا في جهة، وكان له لون وله صورة. وجميع ذلك مستحيل عليه تعالى. ثالثها: تنزيل كتاب من الله. ووجه استحالة ذلك أنهم أرادوا تنزيل كتاب كتبه الله بيده، لا مجرد تنزيل كتاب ما، وإن كان تنزيله بطريق الخلق والايجاد، لانهم لو أرادوا تنزيل كتاب من الله بأي طريق اتفق لم يكن وجه معقول لطلبهم إنزاله من السماء، وكان في الكتاب الارضي ما في الكتاب السماوي من الفائدة والغرض، ولا شك ان هذا الذي طلبوه مستحيل لانه يستلزم أن يكون الله جسما ذا جارحة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأما الامور الثلاثة الاخرى فهي وإن كانت غير مستحيلة، لكنها لا تدل على صدق دعوى النبوة. فإن فجر الينبوع من الارض، أو كون النبي – ص – مالكا لجنة من نخيل وعنب مفجرة الانهار. أو كونه يملك بيتا من زخرف، امور لا ترتبط بدعوى النبوة، وكثيرا ما يتحقق أحدها لبعض الناس ثم لا يكون نبيا. بل فيهم من يتحقق له جميع هذه الامور الثلاثة، ثم لا يحتمل فيه أن يكون مؤمنا، فضلا عن أن يكون نبيا، وإذا لم ترتبط هذه الامور بدعوى النبوة، ولم تدل على صدقها كان الاتيان بها في مقام الاحتجاج عبثا، لا يصدر من نبي حكيم. وقد يتوهم متوهم أن هذه الامور الثلاثة لا تدل على صدق النبوه، إذا وجدت من أسباب عادية مألوفة. أما إذا وجدت بأسباب غير عادية فلا ريب أنها تكون آيات إلهية، وتدل على صدق النبوة. (البيان – 8)


[ 114 ]

الجواب: إن هذا في نفسه صحيح، ولكن مطلوب المشركين أن تصدر هذه الاشياء ولو من أسبابها العادية، لانهم استبعدوا أن يكون الرسول الالهي فقيرا لا يملك شيئا. ” وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم 43: 31 “. فطلبوا من النبي – ص – أن يكون ذا مال كثير. ويدلنا على ذلك أنهم قيدوا طلبهم بأن تكون الجنة والبيت من الزخرف للنبي دون غيره، ولو أرادوا صدور هذه الامور على وجه الاعجاز لم يكن لهذا التقييد وجه صحيح، بل ولا وجه لطلب الجنة أو البيت، فإنه يكفي إيجاد حبة من عنب أو مثقال من ذهب. وأما قولهم: ” حتى تفجر لنامن الارض ينبوعا ” فلا يدل على أنهم يطلبون الينبوع لهم لا للنبي وإنما يدل على أنهم يطلبون منه فجر الينبوع لاجلهم، وبين المعنيين فرق واضح. ولم يظهر النبي لهم عجزه عن الاتيان بالمعجزة كما توهمه هؤلاء القائلون. وإنما أظهر بقوله: ” سبحان ربي ” أن الله تعالى منزه عن العجز، وأنه قادر على كل أمر ممكن، وأنه منزه عن الرؤية والمقابلة. وعن أن يحكم عليه بشئ من اقتراح المقترحين وأن النبي بشر محكوم بأمر الله تعالى، والامر كله لله وحده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن الآيات التي استدل بها القائلون بنفي المعجزات للنبي عدا القرآن قوله تعالى:


[ 115 ]

” لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين 10: 20 “. ووجه الاستدلال: أن المشركين طالبوا النبي بآية من ربه، فلم يذكر لنفسه معجزة. وأجابهم بأن الغيب لله، وهذا يدل على أنه لم يكن له معجزة غير ما أتى به من القرآن. وبسياق هذه الآية آيات اخرى تقاربها في المعنى، كقوله تعالى: ” ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد 13: 7. وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون 6: 37 “. الجواب: أولا: هو ما تقدم. فإن هؤلاء المشركين وغيرهم لم يطلبوا من النبي إقامة آية ما من الآيات التي تدل على صدقه، وإنما اقترحوا عليه إقامة آيات خاصة. وقد صرح القرآن بها في مواضع كثيره، منها ما تقدم. ومنها قوله تعالى: ” وقالوا لولا أنزل عليه ملك 6: 8. وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون 15: 6. لو ما تأتينا


[ 116 ]

بالملائكة إن كنت من الصادقين: 7. وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا 25: 7. أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا: 8 “. وقد علمنا أن الآيات المقترحة لا تجب الاجابة إليها، ويدلنا على أن المشركين إنما يريدون الاتيان بما اقترحوه من الآيات: أنهم لو أرادوا من النبي أن يأتي بآية ما، تدل على صدقه لاجابهم على الاقل بالاتيان بالقرآن الذي تحدى به في كثير من مواضعه. نعم يظهر من الآيات المتقدمة التي استدل بها الخصم، ومما يشبهها من الآيات أمران: 1 – إن تحدي النبي – ص – لعامة البشر إنما كان بالقرآن خاصة من بين سائر معجزاته. وقد أوضحنا فيما سبق أن الامر لا بد وأن يكون كذلك، لان النبوة الابدية العامة تستدعي معجزة خالدة عامة، وهي منحصرة بالقرآن، وليس في سائر معجزاته – ص – ما يتصور له البقاء والاستمرار. 2 – إن الاتيان بالمعجزة ليس اختياريا للنبي صلى الله عليه واله وسلم وإنما هو رسول يتبع في ذلك اذن الله تعالى، ولا دخل لاقتراح المقترحين في شئ من ذلك. وهذا المعنى ثابت لجميع الانبياء. ويدل عليه قوله تعالى: ” وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب 13: 38. وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا


[ 117 ]

بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون 40: 78 “. ثانيا: ان في القرآن أيضا آيات دالة على صدور الآيات من النبي صلى الله عليه واله وسلم. منها قوله تعالى: ” إقتربت الساعة وانشق القمر 54: 1. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر: 2. وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله 6: 124 “. ويدلنا على أن المراد من الآية هنا هي المعجزة: أنه عبر برؤية الآية، ولو كان المراد هو آيات القرآن لكان الصحيح أن يعبر بالسماع دون الرؤية وأنه ضم إلى ذلك انشقاق القمر. وأنه نسب إلى الآية المجئ دون الانزال وما يشبهه. بل وفي قولهم: ” سحر مستمر ” دلالة على تكرر صدور المعجزة عنه صلى الله عليه واله وسلم وإذا: فلو سلمنا دلالة الآيات السابقة على نفي صدور المعجزة عنه، فلا بد وأن يراد من ذلك نفيه في زمان نزول هذه الآيات الكريمة، وما بمعناها، ولا يمكن أن يراد منه نفي الآية حتى بعد ذلك. وحاصل جميع ما ذكرناه في هذا المبحث امور: 1 – إنه لا دلالة لشئ من آيات القرآن على نفي المعجزات الاخرى سوى القرآن، بل وفي جملة من الآيات دلالة على وجود هذه المعجزات التي يدعي الخصم نفيها.


[ 118 ]

2 – إن إقامة المعجزة ليست أمرا اختياريا للرسول صلى الله عليه وآله وإن ذلك بيد الله سبحانه. 3 – إن اللازم في دعوى النبوة هو إقامة المعجزة التي تتم بها الحجة ويتوقف عليها التصديق. وأما الزائدة على ذلك، فلا يجب على الله إظهارها ولا تجب على النبي الاجابة إليها. 4 – إن كل معجزة يكون فيها هلاك الامة وتعذيبها، فهي ممنوعة في هذه الامة. ولا تسوغ إقامتها باقتراح الامة، سواء أكان الاقتراح من الجميع أم كان من البعض. 5 – إن المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وآله التي تحدى بها جميع الامم إلى يوم القيامة، إنما هي كتاب الله المنزل إليه، وأما غيره من المعجزات، فهي وإن كثرت إلا أنها ليست معجزة باقية، وهي في هذه الناحية تشارك معجزات الانبياء السابقين. بشارة التوراة والانجيل بنبوة محمد: صرح القرآن المجيد في جملة من آياته الكريمة أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وأن هذه البشارة مذكورة في التوراة والانجيل. فقد قال تعالى: ” الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر 7: 157. وإذقال پيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من


[ 119 ]

التوراة ومبشرا برسوله يأتي من بعدي اسمه أحمد 61: 6 “. وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوته في زمن حياته وبعد مماته. وهذا يدلنا دلالة قطعية على وجود هذه البشارة في الكتابين المذكورين في زمان دعوته. ولو لم تكن هذه البشارة مذكورة فيهما، لكان ذلك دليلا كافيا لليهود والنصارى على تكذيب القرآن في دعواه، وتكذيب النبي في دعوته، ولانكروا عليه أشد الانكار. فيكون إسلام الكثير منهم في عصر النبي صلى الله عليه وآله وبعد مماته، وتصديقهم دعوته دليلا قطعيا على وجود هذه البشارة في ذلك العصر. وعلى هذا فإن الايمان بموسى وعيسى عليهما السلام يستلزم الايمان بمحمد صلى الله عليه وآله من غير حاجة إلى وجود معجزة تدل على صدقه. نعم يحتاج إلى ذلك بالنسبة إلى الامم الاخرى التي لم تؤمن بموسى وعيسى عليهما السلام وبكتابيهما. وقد عرفت بالادلة المتقدمة أن القرآن المجيد هو المعجزة الباقية والحجة الالهية على صدق النبي الاكرم، وصحة دعواه، وأن غير القرآن – من معجزاته الكثيرة المنقولة بالتواتر الاجمالي – أولى بالتصديق من معجزات سائر الانبياء المتقدمين.


[ 121 ]

أضواء على القرآن


[ 122 ]

حال القراء السبعة وهم: عبد الله بن عامر. ابن كثير المكي. عاصم بن بهدلة الكوفي. أبو عمرو البصري. حمزة الكوفي. نافع المدني. الكسائي الكوفي. ثلاثة قراءآخرون. هم: خلف بن هشام البزار. يعقوب بن اسحاق. يزيد بن القعقاع.


[ 123 ]

تمهيد: لقد اختلفت الآراء حول القراءات السبع المشهورة بين الناس، فذهب جمع من علماء أهل السنة إلى تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وربما ينسب هذا القول إلى المشهور بينهم. ونقل عن السبكي القول بتواتر القراءات العشر (1) وأفرط بعضهم فزعم أن من قال إن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر. ونسب هذا الرأي إلى مفتي البلاد الاندلسية أبي سعيد فرج ابن لب (2). والمعروف عند الشيعة أنها غير متواترة، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ وبين ما هو منقول بخبر الواحد، واختار هذا القول جماعة من المحققين من علماء أهل السنة. وغير بعيد أن يكون هذا هو المشهور بينهم – كما ستعرف ذلك – وهذا القول هو الصحيح. ولتحقيق هذه النتيجة لا بد لنا من ذكر أمرين: الاول: قد أطبق المسلمون بجميع نحلهم ومذاهبهم على أن ثبوت القرآن ينحصر طريقه بالتواتر. واستدل كثير من علماء السنة والشيعة يعلى ذلك: بأن


(1) مناهل العرفان للزرقاني ص 433. (2) نفس المصدر ص 428. (*)

[ 124 ]

القرآن تتوافر الدواعي لنقله، لانه الاساس للدين الاسلامي، والمعجز الالهي لدعوة نبي المسلمين، وكل شئ تتوفر الدواعي لنقله لا بد وأن يكون متواترا. وعلى ذلك فما كان نقله بطريق الآحاد لا يكون من القرآن قطعا. نعم ذكر السيوطي: ” أن القاضي أبا بكر قال في الانتصار: ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة وكره ذلك أهل الحق، وامتنعوا منه ” (1). وهذا القول الذي نقله القاضي واضح الفساد – لنفس الدليل المتقدم – وهو أن توفر الدواعي للنقل دليل قطعي على كذب الخبر إذا اختص نقله بواحد أو اثنين. فإذا أخبرنا شخص أو شخصان بدخول ملك عظيم إلى بلد، وكان دخول ذلك الملك إلى ذلك البلد مما يمتنع في العادة أن يخفى على الناس، فإنا لا نشك في كذب هذا الخبر إذا لم ينقله غير ذلك الشخص أو الشخصين، ومع العلم بكذبه كيف يكون موجبا لاثبات الآثار التي تترتب على دخول الملك ذلك البلد. وعلى ذلك، فإذا نقل القرآن بخبر الواحد، كان ذلك دليلا قطعيا على عدم كون هذا المنقول كلاما إلهيا، وإذا علم بكذبه، فكيف يمكن التعبد بالحكم الذي يشتمل عليه. وعلى كل حال فلم يختلف المسلمون في أن القرآن ينحصر طريق ثبوته والحكم بأنه كلام إلهي بالخبر المتواتر. وبهذا يتضح أنه ليست بين تواتر القرآن، وبين عدم تواتر القراءات أية ملازمة، لان أدلة تواتر القرآن وضرورته لا تثبت – بحال من الاحوال – تواتر


(1) الاتقان في النوع 22 – 27 ج 1 ص 243 الطبعة الثالثة. (*)

[ 125 ]

قراءاته، كما ان أدلة نفي تواتر القراءات لا تتسرب إلى تواتر القرآن بأي وجه وسيأتي بيان ذلك – في بحث ” نظرة في القراءات ” – على وجه التفصيل. الثاني: ان الطريق الافضل إلى إثبات عدم تواتر القراءات هو معرفة القراء أنفسهم، وطرق رواتهم، وهم سبعة قراء. وهناك ثلاثة آخرون تتم بهم العشرة، نذكرهم عقيب هؤلاء. وإليك تراجمهم، واستقراء أحوالهم واحدا بعد واحد:


[ 126 ]

(1) عبد الله بن عامر الدمشقي هو أبو عمران اليحصبي. قرأ القرآن على المغيرة بن أبي شهاب. قال الهيثم بن عمران: ” كان عبد الله بن عامررئيس أهل المسجد زمان الوليد بن عبد الملك، وكان يزعم أنه من حمير، وكان يغمز في نسبه “. وقال العجلي والنسائي: ” ثقة “. وقال أبو عمرو والداني: ” ولي قضاء دمشق بعد بلال بن أبي الدرداء… اتخذه أهل الشام إماما في قراءته واختياره ” (1). وقال ابن الجزري: ” وقد ورد في اسناده تسعة أقوال أصحها أنه قرأ على المغيرة “. ونقل عن بعض أنه قال: ” لا يدري على من قرأ “. ولد سنة ثمان من الهجرة. وتوفي سنة 118 (2). ولعبد الله راويان رويا قراءته – بوسائط – وهما: هشام، وابن ذكوان. أما هشام: فهوابن عمار بن نصير بن ميسرة، أخذ القراءة عرضا عن أيوب ابن تميم، قال يحيى بن معين: ” ثقة “. وقال النسائي: ” لا بأس به “. وقال


(1) تهذيب التهذيب ج 5 ص 274. (2) طبقات القراء ج 1 ص 404. (*)

[ 127 ]

الدارقطني: ” صدوق كبير المحل “. ولد سنة 153 وتوفي سنة 245 (1). وقال الآجري عن أبي داود: ” إن أبا أيوب – يعني سليمان بن عبد الرحمن – خير منه، حدث هشام بأربعمائة حديث مسند ليس لهاأصل “. وقال ابن وارة: ” عزمت زمانا أن امسك عن حديث هشام، لانه كان يبيع الحديث “. وقال صالح بن محمد: ” كان يأخذ علي الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ… قال المروزي: ذكر أحمد هشاما فقال: ” طياش خفيف ” وذكر له قصة في اللفظ بالقرآن أنكر عليه أحمد حتى أنه قال: ” إن صلوا خلفه، فليعيدوا الصلاة ” (2). أقول: فيمن روى القراءة عنه خلاف، فليراجع كتاب الطبقات وغيره. وأما ابن ذكوان: فهو عبد الله بن أحمد بن بشير، ويقال: بشير ابن ذكوان. أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم. قال أبو عمرو الحافظ: ” وقرأ على الكسائي حين قدم الشام “. ولد يوم عاشوراء سنة 173، وتوفي سنة 242 (3). أقول: والحال في من روى القراءة عنه كما تقدم.


(1) طبقات القراء ج 2 ص 354 – 356. (2) تهذيب التهذيب ج 11 ص 52 – 54. (3) طبقات القراء ج 1 ص 403. (*)

[ 128 ]

2 – ابن كثير المكي هو عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان بن فيروزان بن هرمز المكي الداري، فارسي الاصل. أخذ القراءة عرضا – على ما في كتاب التيسير – عن عبد الله بن السائب فيما قطع به الحافظ أبو عمرو الداني وغيره، وضعف الحافظ – أبو العلاء الهمداني – هذا القول، وقال: ” إنه ليس بمشهور عندنا ” وعرض أيضا على مجاهد بن جبر، ودرباس عبد الله بن عباس. ولد بمكة سنة 45 وتوفي سنة 120 (1). قال علي بن المديني: ” كان ثقة “. وقال ابن سعد: ” ثقة “. وذكر أو عمرو الداني أنه: ” أخذ القراءة عن عبد الله بن السائب المخزومي “. والمعروف أنه إنما أخذها عن مجاهد (2). ولعبد الله بن كثير راويان – بوسائط – هما: البزي، وقنبل. أما البزي: فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة، اسمه بشار، فارسي من أهل همدان، أسلم على يد السائب بن أبي السائب المخزومي.


(1) نفس المصدر ص 443 – 445. (2) تهذيب التهذيب ج 5 ص 37. (*)

[ 129 ]

قال ابن الجزري: ” استاذ محقق ضابط متقن “. ولد سنة 170 وتوفي 250 (1). قرأ البزي على أبي الحسن أحمد بن محمد بن علقمة المعروف بالقواس، وعلى أبي الاخريط وهب بن واضح المكي، وعلى عبد الله ابن زياد بن عبد الله بن يسار المكي (2). قال العقيلى: ” منكر الحديث “، وقال أبو حاتم: ” ضعيف الحديث لا احدث عنه ” (3). أقول: الكلام في من أخذ القراءة عنه كما تقدم. وأما قنبل: فهو محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن محمد أبو عمرو المخزومي مولاهم المكي. أخذ القراءة عرضاعن أحمد بن محمد بن عون النبال، وهو الذي خلفه بالقيام بها بمكة، وروى القراءة عن البزي. انتهت إلى قنبل رئاسة الاقراء بالحجاز… وكان على الشرطة بمكة. ولد سنة 195 وتوفي 291 (4). ولي الشرطة فخربت سيرته، وكبر سنه وهرم، وتغير تغيرا شديدا، فقطع الاقراء قبل موته بسبع سنين (5). أقول: الكلام في رواة قراءته كما تقدم.


(1) طبقات القراء ج 1 ص 119. (2) النشر في القراءات العشرج 1 ص 120. (3) لسان الميزان ج 1 ص 283. (4) طبقات القراء ج 2 ص 205. (5) لسان الميزان ج 5 ص 249. (*) (البيان – 9)

[ 130 ]

(3) عاصم بن بهدلة الكوفي هو ابن أبي النجود أبو بكر الاسدي مولاهم الكوفي. أخذ القراءة عرضا عن زر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي عمرو الشيباني. قال أبو بكر بن عياش: ” قال لي عاصم: ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وكنت أرجع من عنده فأعرض على زر “. وقال حفص: قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، وما كان من القراءة التي أقرأتها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود ” (1). قال ابن سعد: ” كان ثقة إلا أنه كان كثير الخطأ في حديثه “. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ” كان خيرا ثقة، والاعمش أحفظ منه “. وقال العجلي: ” كان صاحب سنة وقراءة، وكان ثقة رأسا في القراءة… وكان عثمانيا “. وقال يعقوب بن سفيان: ” في حديثه اضطراب وهو ثقة “. وقد تكلم فيه ابن علية، فقال: ” كان كل من اسمه عاصم سئ الحفظ “. وقال النسائي: ” ليس به بأس “. وقال ابن خراش: ” في حديثه نكرة “. وقال العقيلي: ” لم يكن فيه إلا سوء الحفظ “. وقال


(1) طبقات القراء ج 1 ص 348. (*)

[ 131 ]

الدارقطني: ” في حفظه شئ “. وقال حماد بن سلمة: خلط عاصم في آخر عمره “. مات سنة 127 أو سنة 128 (1). ولعاصم ابن بهدلة راويان بغير واسطة هما: حفص، وأبو بكر: أما حفص: فهو ابن سليمان الاسدي، كان ربيب عاصم. قال الذهبي: ” أما القراءة فثقة ثبت ضابط لها. بخلاف حاله في الحديث “. وذكر حفص: ” أنه لم يخالف عاصما في شئ من قراءته إلا في حرف.. الروم سورة 3 آية 54: الله الذي خلقكم من ضعف. قرأه بالضم وقرأ عاصم بالفتح ” ولد سنة 90 وتوفي سنة 180 (2). وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله عن أبيه: ” متروك الحديث “. وقال عثمان الدارمي وغيره عن ابن معين: ليس بثقة “. وقال ابن المديني: ” ضعيف الحديث، وتركته على عمد “. وقال البخاري: ” تركوه “. وقال مسلم: ” متروك “. وقال النسائي: ” ليس بثقة، ولا يكتب حديثه “. وقال صالح ابن محمد: ” لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير “. وقال ابن خراش: ” كذاب متروك يضع الحديث “. وقال ابن حيان: ” كان يقلب الاسانيد، ويرفع المراسيل “. وحكى ابن الجوزي في الموضوعات عن عبد لرحمن بن مهدي قال: ” والله ما تحل الرواية عنه “. وقال الدارقطني: ” ضعيف ” وقال الساجي: ” حفص ممن ذهب حديثه، عنده مناكير ” (3). أقول: الحال فيمن روى القراءة عنه كما تقدم. وأما أبو بكر: فهو شعبة بن عياش بن سالم الحناط الاسدي الكوفي قال ابن الجزري: ” عرض القرآن على عاصم ثلاث مرات، وعلى عطاء ابن السائب، وأسلم المنقري. وعمر دهرا إلا أنه قطع الاقراء قبل موته بسبع سنين، وقيل


(1) تهذيب التهذيب ج 5 ص 39. (2) طبقات القراء ج 1 ص 254. (3) تهذيب التهذيب ج 2 ص 401. (*)

[ 132 ]

بأكثر، وكان إماما كبيرا عالما عاملا، وكان يقول: ” أنا نصف الاسلام “. وكان من أئمة السنة. ولما حضرته الوفاة بكت اخته فقال لها: ما ” يبكيك، انظري إلى تلك الزاوية فقد ختمت فيها ثمان عشرة ألف ختمة “. ولد سنة 95 وتوفي سنة 193، وقيل 194 (1). قال عبد الله ابن أحمد عن أبيه: ” ثقة وربما غلط “. وقال عثمان الدارمي: ” وليس بذاك في الحديث “. وقال ابن أبي حاتم: ” سألت أبي عن أبي بكر بن عياش، وأبي الاحوص فقال: ما أقربهما “. وقال ابن سعد: ” كان ثقة صدوقا عارفا بالحديث والعلم، إلا أنه كثير الغلط “. وقال يعقوب ابن شيبة: ” في حديثه اضطراب “. وقال أبو نعيم: ” لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطا منه “. وقال البزار: ” لم يكن بالحافظ ” (2).


(1) طبقات القراء ج 1 ص 325 – 327. (2) تهذيب التهذيب ج 12 ص 35 – 37. (*)

[ 133 ]

(4) أبو عمرو البصيري هو زبان بن العلاء بن عمار المازني البصري. قيل إنه من فارس. توجه مع أبيه لما هرب من الحجاج، فقرأ بمكة والمدينة، وقرأ أيضا بالكوفة والبصرة على جماعة كثيرة، فليس في القراء السبعة أكثر شيوخا منه. ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامرإلى حدود الخمسمائة فتركوا ذلك، لان شخصا قدم من أهل العراق، وكان يلقن الناس بالجامع الاموي على قراءة أبي عمرو، فاجتمع عليه خلق، واشتهرت هذه القراءة عنه. قال الاصمعي: سمعت أبا عمرو يقول: ” ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني “. ولد سنة 68. قال غير واحد: مات سنة 154 (1). قال الدوري عن ابن معين: ” ثقة “. وقال أبو خيثمة: ” كان أبو عمرو بن العلاء رجلا لا بأس به ولكنه لم يحفظ “. وقال نصر بن علي الجهضمي عن أبيه: قال لي شعبة: ” انظر ما يقرأ به أبو عمرو، فما يختاره لنفسه فاكتبه، فإنه سيصير للناس استاذا “. وقال أبو معاوية الازهري في التهذيب: ” كان من أعلم الناس بوجوه القراءات، وألفاظ العرب، ونوادر


(1) طبقات القراء ج 1 ص 288 – 292. (*)

[ 134 ]

كلامهم، وفصيح أشعارهم ” (1). ولقراءة أبي عمرو راويان بواسطة يحيى بن المبارك اليزيدي، هما: الدوري، والسوسي. أما يحيى بن المبارك: فقال ابن الجزري: ” نحوي مقرئ، ثقة علامة كبير “. نزل بغداد وعرف باليزيدي لصحبته يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، فكان يؤدب ولده. أخذ القراءة عرضا عن أبي عمرو، وهو الذي خلفه بالقيام بها، وأخذ أيضا عن حمزة. روى القراءة عنه أبو عمرو الدوري، وأبو شعيب السوسي، وله اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة. قال ابن مجاهد: ” وإنما عولنا على اليزيدي – وإن كان سائر أصحاب أبي عمرو أجل منه – لاجل أنه انتصب للرواية عنه، وتجرد لها، ولم يشتغل بغيرها، وهو أضبطهم “. توفي سنة 202 بمرو. وله أربع وسبعون سنة. وقيل: بل جاوز التسعين، وقارب المائة (2). وأما الدوري: فهو حفص بن عمرو بن عبد العزيز الدوري الازدي البغدادي. قال ابن الجزري: ” ثقة ثبت كبير ضابط أول من جمع القراءات “. توفي في شوال سنة 246 (3). قال الدارقطني: ” ضعيف “. وقال العقيلي: ” ثقة ” (4). أقول: الكلام فيمن أخذ القراءة عنه كما تقدم. وأما السوسي: فهو أبو شعيب صالح بن زياد بن عبد الله. قال ابن الجزري:


(1) تهذيب التهذيب ج 12 ص 178 – 180. (2) طبقات القراء ج 2 ص 375 – 377. (3) نفس المصدر ج 2 ص 255. (4) تهذيب التهذيب ج 2 ص 408. (*)

[ 135 ]

” ضابط محرر ثقة “. أخذ القراءة عرضا وسماعا عن أبي محمد اليزيدي، وهو من أجل أصحابه. مات أول سنة 261، وقد قارب السبعين (1). قال أبو حاتم: ” صدوق “. وقال النسائي: ” ثقة “. وذكره ابن حيان في الثقات. وذكر أبو عمرو الداني: ” أن النسائي روى عنه القراءات، وضعفه مسلم بن قاسم الاندلسي بلا مستند ” (2). أقول: الكلام فيمن أخذ القراءة عنه كما تقدم.


(1) طبقات القراء ج ص 332. (2) تهذيب التهذيب ج 4 ص 392. (*)

[ 136 ]

(5) حمزة الكوفي هو ابن حبيب بن عمارة بن اسماعيل أبو عمارة الكوفي التميمي، أدرك الصحابة بالسن. أخذ القراءة عرضا عن سليمان الاعمش، وحمران بن أعين. وفي كتاب ” الكفاية الكبرى والتيسير ” عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وطلحة بن مصرف، وفي كتاب ” التيسير ” عن مغيرة بن مقسم ومنصور وليث ابن أبي سليم، وفي كتاب ” التيسير والمستنير ” عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قالوا: ” استفتح حمزة القرآن من حمران، وعرض على الاعمش وأبي إسحاق وابن أبي ليلى، وإليه صارت الامامة في القراءة بعد عاصم والاعمش، وكان إماما حجة ثقة ثبتا عديم النظير “. قال عبد الله العجلي: قال أبو حنيفة لحمزة: ” شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما: القرآن والفرائض “. وقال سفيان الثوري: ” غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض “. وقال عبد الله بن موسى: ” وكان شيخه الاعمش إذا رآه قد أقبل يقول: هذا حبر القرآن “. ولد سنة 80 وتوفي سنة 156 (1). قال ابن معين: ” ثقة “. وقال النسائي: ” ليس به بأس “.


(1) طبقات القراء ج 1 ص 261. (*)

[ 137 ]

وقال العجلي: ” ثقة رجل صالح “. وقال ابن سعد: ” كان رجلا صالحا عنده أحاديث وكان صدوقا صاحب سنة “. وقال الساجي: ” صدوق سيئ الحفظ ليس بمتقن في الحديث “. وقد ذمه جماعة من أهل الحديث في القراءة. وأبطل بعضهم الصلاة باختياره من القراءة. وقال الساجي أيضا والازدي: ” يتكلمون في قراءته وينسبونه إلى حالة مذمومة فيه “. وقال الساجي أيضا: ” سمعت سلمة بن شبيب يقول: كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يصلي بقراءة حمزة “. وقال الآجري عن أحمد بن سنان: ” كان يزيد – يعني ابن هرون – يكره قراءة حمزة كراهية شديدة “. قال أحمد بن سنان: سمعت ابن مهدي يقول: ” لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لاوجعت ظهره وبطنه “. وقال أبو بكر بن عياش: ” قراءة حمزة عندنا بدعة “. وقال ابن دريد: ” إني لاشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة ” (1). ولقراءة حمزة راويان بواسطة، هما: خلف بن هشام، وخلاد بن خالد: أما خلف: فهو أبو محمد الاسدي بن هشام بن ثعلب البزار البغدادي. قال ابن الجزري: ” أحد القراء العشرة، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة، حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين، وابتدأ في الطلب وهو ابن ثلاث عشر، وكان ثقة كبيرا زاهدا عابدا عالما “. قال ابن اشته: ” كان خلف يأخذ بمذهب حمزة إلا أنه خالفه في مائة وعشرين حرفا “. ولد سنة 150، ومات سنة 229 (2). قال اللالكائي: ” سئل عباس الدوري عن حكاية عن أحمد بن حنبل في خلف ابن هشام. فقال: لم أسمعها ولكن حدثني أصحابنا أنهم ذكروه عند أحمد، فقيل انه يشرب. فقال: انتهى الينا علم هذا، ولكنه – والله – عندنا الثقة الامين “. وقال النسائي: ” بغدادي ثقة “. وقال الدارقطني: ” كان عابدا


(1) تهذيب التهذيب ج 3 ص 27. (2) طبقات القراء ج 1 ص 272. (*)

[ 138 ]

فاضلا “. قال: ” أعدت صلاة أربعين سنة كنت أتناول فيها الشراب على مذهب الكوفيين “. وحكى الخطيب في تاريخه عن محمد بن حاتم الكندي قال: ” سألت يحيى بن معين عن خلف البزار فقال: لم يكن يدري ايش الحديث ” (1). أقول: وسيجئ الكلام فيمن روى قراءته. وأما خلاد بن خالد: فهو أبو عيسى الشيباني الكوفي. قال ابن الجزري: ” إمام في القراءة ثقة عارف محقق استاذ “. أخذ القراءة عرضا عن سليم، وهو من أضبط أصحابه وأجلهم. توفي سنة 220 (2). أقول: والكلام في رواة قراءته كما تقدم.


(1) تهذيب التهذيب ج 3 ص 156. (2) طبقات القراء ج 1 ص 274. (*)

[ 139 ]

(6) نافع المدني هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم. قال ابن الجزري: ” أحد القراء السبعة والاعلام ثقة صالح، أصله من اصبهان “. أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة. قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: ” قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع ؟ قال: نعم “. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ” سألت أبي أي القراءة أحب اليك ؟ قال: قراءة أهل المدينة. قلت: فإن لم يكن قال: عاصم “. مات سنة 169 (1) قال أبو طالب عن أحمد: ” كان يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشئ “. وقال الدوري عن ابن معين: ” ثقة “. وقال النسائي: ” ليس به بأس “. وذكر ابن حيان في الثقات، وقال الساجي: ” صدوق… اختلف فيه أحمد ويحيى. فقال أحمد: منكر الحديث. وقال يحيى: ثقة ” (2). ولقراءة نافع راويان بلا واسطة. هما قالون، وورش: أما قالون: فهو عيسى بن ميناء بن وردان أبو موسى. مولى بني زهرة يقال


(1) طبقات القراءج 2 ص 330. (2) تهذيب التهذيب ج 10 ص 407. (*)

[ 140 ]

إنه ربيب نافع، وهو الذي سماه قالون لجودة قراءته. فإن قالون باللغة الرومية جيد. قال عبد الله بن علي: ” إنما يكلمه بذلك لان قالون أصله من الروم كان جد جده عبد الله بن سبي الروم “، أخذ القراءة عرضا عن نافع. قال ابن أبي حاتم: ” كان أصم، يقرئ القرآن ويفهم خطأهم ولحنهم بالشفة “. ولد سنة 120، وتوفي سنة 220 (1). قال ابن حجر: ” أما في القراءة فثبت، وأما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة “. سئل أحمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك وقال: ” تكتبون عن كل أحد ” (2). أقول: والكلام فيمن روى القراءة عنه كما تقدم. وأما ورش: فهو عثمان بن سعيد. قال ابن الجزري: ” انتهت إليه رئاسة الاقراء في الديار المصرية في زمانه، وله اختيار خالف فيه نافعا، وكان ثقة حجة في القراءة “. ولد سنة 110 بمصر، وتوفي فيها سنة 197 (3). أقول الكلام في رواة قراءته كما تقدم.


(1) طبقات القراء ج 1 ص 615. (2) لسان الميزان ج 4 ص 408. (3) طبقات القراء ج 1 ص 502. (*)

[ 141 ]

(7) الكسائي الكوفي هو علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الاسدي، مولاهم من أولاد الفرس. قال ابن الجزري: ” الامام الذي انتهت إليه رئاسة الاقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات. أخذ القراءة عرضا عن حمزة أربع مرات وعليه اعتماده “. وقال أبو عبيد في كتاب القراءات: ” كان الكسائي: يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا ” واختلف في تاريخ موته، فالصحيح الذي أرخه غير واحد من العلماء والحفاظ سنة 189 (1). أخذ القراءة عن حمزة الزيات مذاكرة، وعن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعيسى بن عمرو الاعمش، وأبي بكر بن عياش، وسمع منهم الحديث، ومن سليمان بن أرقم، وجعفر الصادق عليه السلام، والعزرمي، وابن عيينة… وعلم الرشيد، ثم علم ولده الامين (2) وحدث المرزباني فيما رفعه إلى ابن الاعرابي، قال: ” كان الكسائي أعلم الناس على رهق فيه، كان يديم شرب النبيذ، ويجاهر ب‍… إلا أنه كان


(1) طبقات القراء ج 1 ص 535. (2) تهذيب التهذيب ج 7 ص 313. (*)

[ 142 ]

ضابطا قارئا علما بالعربية صدوقا ” (1). وللكسائي راويان بغير واسطة. هما الليث بن خالد، وحفص بن عمر. أما الليث: فهو أبو الحارث بن خالد البغدادي. قال ابن الجزري: ” ثقة معروف حاذق ضابط “. عرض على الكسائي وهو من أجلة أصحابه مات سنة 240 (2). أقول: الكلام في رواة قراءته كما تقدم. وأما حفص بن عمر الدوري فقد تقدمت ترجمته عند ترجمة عاصم. هذا ما أردنا نقله من ترجمة القراء السبعة، ورواة قراءاتهم، وقد نظم أسماءهم، وأسماء رواتهم ” القاسم بن فيره ” في قصيدته اللامية المعروفة بالشاطبية. وأما الثلاثة المتممة للعشرة فهم: خلف، ويعقوب، ويزيد بن القعقاع.


(1) معجم الادباء ج 5 ص 185. (2) طبقات القراء ج 2 ص 34. (*)

[ 143 ]

(8) خلف بن هشام البزار تقدمت ترجمته عند ترجمة حمزة، ولقراءته راويان، هما: إسحاق، وإدريس. أما إسحاق: فقال فيه ابن الجزري: ” إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله أبو يعقوب المروزي ثم البغدادي، وراق خلف، وراوي اختياره عنه، ثقة “. توفي سنة 286 (1). أقول: الكلام فيمن قرأ عليه كما تقدم. وأما إدريس: فقال فيه ابن الجزري: ” إدريس بن عبد الكريم الحداد أبو الحسن البغدادي، إمام ضابط، متقن ثقة. قرأ على خلف بن هشام. سئل عنه الدارقطني فقال: ” ثقة وفوق الثقة بدرجة “. توفي سنة 292 (2). أقول: الكلام فيمن روى القراءة عنه كما تقدم.


(1) طبقات القراء ج 1 ص 155. (2) نفس المصدر ص 154. (*)

[ 144 ]

(9) يعقوب بن إسحاق هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله أبو محمد الحضرمي، مولاهم البصري. قال ابن الجزري: ” أحد القراء العشرة “. قال يعقوب: ” قرأت على سلام في سنة ونصف، وقرأت على شهاب بن شرنفة المجاشعي في خمسة أيام، وقرأ شهاب على مسلمة بن محارب المحاربي في تسعة أيام، وقرأ مسلمة على أبي الاسود الدؤلي على علي عليه السلام “. مات في ذي الحجة سنة 205، وله ثمان وثمانون سنة (1). قال أحمد وأبو حاتم: ” صدوق “. وذكره ابن حيان في الثقات. وقال ابن سعد: ” ليس هو عندهم بذاك الثبت ” (2). وليعقوب راويان، هما: رويس، وروح. أما رويس: فهو محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي البصري. قال ابن الجزري: مقرئ حاذق ضابط مشهور أخذ القراءة عرضا عن يعقوب الحضرمي “. قال الداني: ” وهو من أحذق أصحابه “. روى القراءة عنه


(1) طبقات القراء ج 2 ص 38. (2) تهذيب التهذيب ج 11 ص 382. (*)

[ 145 ]

عرضا محمد بن هارون التمار، والامام أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري الشافعي. توفي سنة 338 (1). وأما روح: فهو أبو الحسن بن عبد المؤمن الهذلي، مولاهم البصري النحوي. قال ابن الجزري: ” مقرئ جليل ثقة ضابط مشهور “. عرض على يعقوب الحضرمي، وهو من أجلة أصحابه، توفي سنة 235 أو 234 (2). أقول: الكلام فيمن عرض القراءة عليه كما تقدم.


(1) طبقات القراء ج 2 ص 234. (2) نفس المصدر ج 1 ص 285. (*) (البيان – 10)

[ 146 ]

(10) يزيد بن القعقاع (10) قال ابن الجزري: ” يزيد بن القعقاع الامام أبو جعفر المخزومي المدني القارئ. أحد القراء العشرة تابعي مشهور كبير القدر “. عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة. قال يحيى بن معين: ” كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي القارئ بذلك، وكان ثقة قليل الحديث “. وقال ابن أبي حاتم: ” سألت أبي عنه فقال: صالح الحديث “. مات بالمدينة سنة 130 (1). ولابي جعفر راويان، هما: عيسى، وابن جماز. أما عيسى: فهو أبو الحارث عيسى بن وردان المدني الحذاء. قال ابن الجزري: ” إمام مقرئ حاذق، وراو محقق ضابط “. عرض على أبي جعفر وشيبة ثم عرض على نافع. قال الداني: ” هو من أجلة أصحاب نافع وقد مائهم، وقد شاركه في الاسناد “. مات – فيما أحسبب – في حدود سنة 160 (2).


(1) طبقات القراء ج 2 ص 382. (2) نفس المصدر ج 1 ص 616. (*)

[ 147 ]

أقول: الكلام فيمن عرض عليه كما تقدم. وأما ابن جماز: فهو سليمان بن مسلم بن جماز أبو الربيع الزهري مولاهم المدني. قال ابن الجزري: ” مقرئ جليل ضابط “. عرض على أبي جعفر، وشيبة على ما في كتابي ” الكامل والمستنير “، ثم عرض على نافع على ما في ” الكامل “. مات بعد سنة 170 فيما أحسب (1). إن من ذكرناهم من رواة القراء العشرة هم المعروفون بين أهل التراجم. وأما القراءة المروية بغير ما ذكرناه من الطرق فغير مضبوطة. وقد وقع الخلاف بين المترجمين في رواة اخرى لهم. وقد أشرنا إلى هذا – فيما تقدم – ولذلك لم نتعرض – هنا – لذكرهم.


(1) طبقات القراءج 1 ص 315. (*)

[ 149 ]

نظرة في القراءات


[ 150 ]

تواتر القران من الضروريات. ليست القراءات متواترة. تصريحات أرباب الفن بعدم تواتر القراءات. نقد ما استدل به على تواتر القراءات. ليست الاحرف السبع هي القراءات السبع. حجية القراءات. جواز القراءة بها في الصلاة.


[ 151 ]

قد أسلفنا في التمهيد من بحث ” أضواء على القراء ” بعض الآراء حول تواتر القراءات وعدمه وأشرنا إلى ما ذهب إليه المحققون من نفي تواتر القراءات، مع أن المسلمين قد أطبقوا على تواتر القرآن نفسه. والآن نبدأ بالاستدلال على ما اخترناه من عدم تواترها بأمور: الاول: إن استقراء حال الرواة يورث القطع بأن القراءات نقلت الينا بأخبار الآحاد. وقد اتضح ذلك فيما أسلفناه في تراجمهم فكيف تصح دعوى القطع بتواترها عن القراء. على أن بعض هؤلاء الرواة لم تثبت وثاقته. الثاني: إن التأمل في الطرق التي أخذ عنها القراء، يدلنا دلالة قطعية على أن هذه القراءات إنما نقلت إليهم بطريق الآحاد. الثالث: اتصال أسانيد القراءات بالقراء أنفسهم يقطع تواتر الاسانيد حتى لو كانت رواتها في جميع الطبقات ممن يمتنع تواطؤهم على الكذب، فإن كل قارئ إنما ينقل قراءته بنفسه. الرابع: احتجاج كل قارئ من هؤلاء على صحة قراءته، واحتجاج تابعيه على ذلك أيضا، وإعراضه عن قراة غيره دليل قطعي على أن القراءات تستند إلى اجتهاد القراء وآرائهم، لانها لو كانت متواترة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يحتج في إثبات صحتها إلى الاستدلال والاحتجاج. الخامس: ان في إنكار جملة من أعلام المحققين على جملة من القراءات دلالة


[ 152 ]

واضحة على عدم تواترها، إذلو كانت متواترة لما صح هذا الانكار فهذا ابن جرير الطبري أنكرقراءة ابن عامر، وطعن في كثير من المواضع في بعض القراءات المذكورة في السبع، وطعن بعضهم على قراءة حمزة، وبعضهم على قراءة أبي عمرو، وبعضهم على قراءة ابن كثير. وأن كثيرا من العلماء أنكروا تواتر ما لا يظهر وجهه في اللغة العربية، وحكموا بوقوع الخطأ فيه من بعض القراء (1) وقد تقدم في ترجمة حمزة إنكار قراءته من إمام الحنابلة أحمد، ومن يزيد بن هارون، ومن ابن مهدى (2) ومن أبي بكر بن عياش، ومن ابن دريد. قال الزركشي: – بعدما اختار أن القراءات توقيفية – خلافا لجماعة منهم الزمخشري، حيث ظنوا أنها اختيارية، تدور مع اختيار الفصحاء، واجتهاد البلغاء، ورد على حمزة قراءة ” والارحام ” بالخفض، ومثل ما حكي عن أبي زيد، والاصمعي، ويعقوب الحضرمي أنهم خطأوا حمزة في قراءته ” وما أنتم بمصر خي ” بكسر الياء المشددة، وكذلك أنكروا على أبي عمرو إدغامه الراء في اللام في ” يغفر لكم “. وقال الزجاج: ” إنه غلط فاحش ” (3). تصريحات نفاة تواتر القراءات: وقد رأينا من المناسب أن نذكر من كلمات خبراء الفن ممن صرح بعدم تواتر القراءات ليظهر الحق في السمألة بأجلى صوره:


(1) التبيان ص 106 للمعتصم بالله طاهر بن صالح بن أحمد الجزائري. طبع في مطبعة النار سنة 1334. (2) هو عبد الرحمن بن مهدي قال في تهذيب التهذيب ج 6 ص 280: قال أحمد بن سنان: سمعت علي بن المديني يقول: ” كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس “، قالها مرارا. وقال الخليلي: ” هو إمام بلا مدافعة “. وقال الشافعي: ” لاأعرف له نظيرا في الدنيا “. (3) التبيان ص 87. (*)

[ 153 ]

(1) قال ابن الجزري: ” كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمال، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الائمة السبعة أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الائمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الاركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة سواء كانت من السبعة أم عمن هو أكبر منهم “. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف. صرح بذلك الامام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الامام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الامام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحققه الامام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بأبي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه. (2) وقال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز: ” فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الائمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وانها هكذا أنزلت، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا يتفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الاوصاف لا على من تنسب إليه، فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم، وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم: تركتن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم ” (1).


(1) النشر في القراءات العشر ج 1 ص 9. (*)

[ 154 ]

(3) وقال ابن الجزري أيضا: ” وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وان ما جاء مجئ الآحاد لا يثبت به قرآن. هذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الاخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وجب قبوله، وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف، الثابت عن هؤلاء الائمة السبعة وغيرهم. ولقد كنت – قبل – اجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف “. (4) وقال الامام الكبير أبو شامة في مرشده: ” وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين، وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل فردفرد ما روي عن هؤلاء السبعة. قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب. ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق، واتفقت عليه الفرق، من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض، فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها ” (1). (5) وقال السيوطي: وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير ابن الجزري. قال في أول كتابه – النشر – كل قراءة


(1) النشر في القراءات العشر ج 1 ص 13. (*)

[ 155 ]

وافقت العربية… فنقل كلام ابن الجزري بطوله الذي نقلنا جملة منه آنفا. ثم قال: قلت: أتقن الامام ابن الجزري هذا الفصل جدا ” (1). (6) وقال أبو شامة في كتاب البسملة: ” إنا لسنا ممن يلتزم بالتواتر في الكلمات المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر، وذلك بين لمن أنصف وعرف، وتصفح القراءات وطرقها ” (2). (7) وذكر بعضهم: ” إنه لم يقع لاحد من الائمة الاصوليين تصريح بتواتر القراءات، وقد صرح بعضهم بأن التحقيق ان القراءات السبع متواترة عن الائمة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد ” (3). (8) وقال بعض المتأخرين من علماء الاثر: ” ادعى بعض أهل الاصول تواتر كل واحد من القراءات السبع، وادعى بعضهم تواتر القراءات العشر وليس على ذلك إثارة من علم… وقد نقل جماعة من القراء الاجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر، وفيها ما هو آحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحد من السبع


(1) الاتقان النوع 22 – 27 ج 1 ص 129. (2) التبيان ص 102. (3) نفس المصدر ص 105. (*)

[ 156 ]

فضلا عن العشر، وإنما هو قول قاله بعض أهل الاصول. وأهل الفن أخبر بفنهم ” (1). (9) وقال مكي في جملة ما قال: ” وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه عاصم ونافع فإن قراءة هذين الامامين أولى القراءات، وأصحها سندا، وأفصحها في العربية ” (2). (10) وممن اعترف بعدم التواتر حتى في القراءات السبع: الشيخ محمد سعيد العريان في تعليقاته، حيث قال: ” لا تخلوا إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة فإن فيها من ذلك أشياء “. وقال أيضا: ” وعندهم أن أصح القراءات من جهة توثيق سندها نافع وعاصم، وأكثرها توخيا للوجوه التي هي أفصح أبو عمرو، والكسائي ” (3). ولقد اقتصرنا في نقل الكلمات على المقدار اللازم، وستقف على بعضها الآخر أيضا بعيد ذلك. تأمل بربك. هل تبقى قيمة لدعوى التواتر في القراءات بعد شهادة هؤلاء الاعلام كلهم بعدمه ؟ وهل يمكن إثبات التواتر بالتقليد، وباتباع بعض من ذهب إلى تحققه من غير أن يطالب بدليل، ولا سيما إذا كانت دعوى التواتر مما


(1) التبيان ص 106. (2) نفس المصدر ص 90. (3) اعجاز القرآن للرافعي، الطبعة الرابعة ص 52، 53. (*)

[ 157 ]

يكذبها الوجدان ؟ وأعجب من جميع ذلك أن يحكم مفتي الديار الاندلسية أبو سعيد بكفر من أنكر تواترها ! ! ! لنفرض أن القراءات متواترة، عند الجميع، فهل يكفر من أنكر تواترها إذا لم تكن من ضروريات الدين، ثم لنفرض أنها بهذا التواتر الموهوم أصبحت من ضروريات الدين، فهل يكفر كل أحد بإنكارها حتى من لم يثبت عنده ذلك ؟ ! أللهم إن هذه الدعوى جرأة عليك، وتعد لحدودك، وتفريق لكلمة أهل دينك ! ! ! أدلة تواتر القراءات: وأما القائلون بتواتر القراءات السبع فقد استدلوا على رأيهم بوجوه: الاول: دعوى قيام الاجماع عليه من السلف إلى الخلف. وقد وضح للقارئ فساد هذه الدعوى، على أن الاجماع لا يتحقق باتفاق أهل مذهب واحد عند مخالفة الآخرين. وسنوضح ذلك في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى. الثاني: ان اهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءته، وإن ذلك واضح لمن أنصف نفسه وعدل. الجواب: إن هذا الدليل إنما يثبت تواتر نفس القرآن، لا تواتر كيفية قراءته، وخصوصا مع كون القراءة عند جمع منهم مبتنية على الاجتهاد، أو على السماع ولو من الواحد. وقد عرفت ذلك مما تقدم، ولولا ذلك لكان مقتضى هذا الدليل أن تكون جميع القراءات متواترة، ولا وجه لتخصيص الحكم بالسبع أو العشر. وسنوضح للقارئ أن حصر القراءات في السبع إنما حدث في القرن الثالث الهجري، ولم يكن له قبل هذا الزمان عين ولا أثر، ولازم ذلك أن


[ 158 ]

نلتزم إما بتواتر الجميع من غير تفرقة بين القراءات، وإما بعدم تواتر شئ منها في مورد الاختلاف، والاول باطل قطعا فيكون الثاني هو المتعين. الثالث: ان القراءات السبع لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترا والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله: ووجه التلازم أن القرآن إنما وصل الينا بتوسط حفاظه، والقراء المعروفين، فإن كانت قراءاتهم متواترة فالقرآن متواتر، وإلا فلا. وإذن فلا محيص من القول بتواتر القراءات. الجواب: 1 – ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لان الاختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها، ولهذا نجد أن اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد المتنبي – مثلا – لا يصادم تواتر القصيدة عنه وثبوتها له، وان اختلاف الرواة في خصوصيات هجرة النبي لا ينافي تواتر الهجرة نفسها. 2 – ان الواصل الينا بتوسط القراء إنما هو خصوصيات قراءاتهم. وأما أصل القرآن فهو واصل الينا بالتواتر بين المسلمين، وبنقل الخلف عن السلف. وتحفظهم على ذلك في صدورهم وفي كتاباتهم، ولا دخل للقراء في ذلك أصلا، ولذلك فإن القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أن هؤلاء القراء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا. وعظمة القرآن أرقي من أن تتوقف على نقل اولئك النفر المحصورين. الرابع: ان القراءات لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر مثل ” ملك ” و ” مالك ” ونحوهما، فإن تخصيص أحدهما تحكم باطل. وهذا الدليل ذكره ابن الحاجب وتبعه جماعة من بعده. الجواب: 1 – ان مقتضى هذا الدليل الحكم بتواتر جميع القراءات، وتخصيصه بالسبع


[ 159 ]

أيضا تحكم باطل. ولا سيما أن في غير القراء السبعة من هو أعظم منهم وأوثق، كما اعترف به بعضهم، وستعرف ذلك. ولو سلمنا أن القراء السبعة أو ثق من غيرهم، وأعرف بوجوه القراءات، فلا يكون هذا سببا لتخصيص التواتر بقراءاتهم دون غيرهم. نعم ذلك يوجب ترجيح قراءاتهم على غيرها في مقام العمل، وبين الامرين بعد المشرقين، والحكم بتواتر جميع القراءات باطل بالضرورة. 2 – ان الاختلاف في القراءة إنما يكون سببا لالتباس ما هو القرآن بغيره، وعدم تميزه من حيث الهيئة أو من حيث الاعراب، وهذا لا ينافي تواتر أصل القرآن، فالمادة متواترة وإن اختلف في هيئتها أو في إعرابها، وإحدى الكيفيتين أو الكيفيات من القرآن قطعا وإن لم تعلم بخصوصها. تعقيب: ومن الحق إن تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات. وقد اعترف بذلك الزرقاني حيث قال: يبالغ بعضهم في الاشادة بالقراءات السبع، ويقول من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر، لانه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة، ويعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الاندلسية الاستاذ أبي سعيد فرج ابن لب، وقد تحيس لرأيه كثيرا وألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه. والرد على من رد عليه، ولكن دليلة الذي استند إليه لا يسلم. فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن، كيف وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع، بحيث يصح أن يكون القرآن، متواترا في غير القراءات السبع، أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعا. أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قراء كانوا أو غير قراء (1).


(1) مناهل العرفان ص 248. (*)

[ 160 ]

وذكر بعضهم: ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، وانه لم يقع لاحد من أئمة الاصوليين تصريح بتواتر القراءات وتوقف تواتر القرآن على تواترها، كما وقع لابن الحاجب (1). قال الزركشي في البرهان: للقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه واله وسلم للبيان والاعجاز، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، وكيفيتها من تخفيف وتشديد غيرهما، والقراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل بل هي مشهورة. وقال أيضا: والتحقيق انها متواترة عن الائمة السبعة. أما تواترها عن النبي صلى الله عليه واله وسلم ففيه نظر، فإن اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد (2). القراءات والاحرف السبعة: قد يتخيل أن الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن هي القراءات السبع، فيتمسك لاثبات كونها من القرآن بالروايات التي دلت على أن القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا بد لنا أن ننبه على هذا الغلط، وان ذلك شئ لم يتوهمه أحد من العلماء المحققين. هذا إذا سلمنا ورود هذه الروايات، ولم نتعرض لها بقليل ولا كثير. وسيأتي الكلام على هذه الناحية. والاولى أن نذكر كلام الجزائري في هذا الموضع. قال: ” لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها، حتى قام الامام أبو بكر أحمد ابن موسى بن العباس بن مجاهد – وكان على رأس الثلاثمائة ببغداد – فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين والعراقين والشام، وهم: نافع، وعبد الله ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن عامر، وعاصم وحمزة، وعلي


(1) التبيان ص 105. (2) الاتقان النوع 22 – 27 ج 1 ص 138. (*)

[ 161 ]

الكسائي. وقد توهم بعض الناس أن القراءات السبعة هي الاحرف السبعة، وليس الامر كذلك… وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة، لما فيه من الايهام… قال أحمد ابن عمار المهدوي: لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الامر على العامة بايهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة… “. وقال الاستاذ اسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب في الشافي: ” التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، لم يكن قرأ بأكثر من السبع، فصنف كتابا، وسماه كتاب السبعة، فانتشر ذلك في العامة… “. وقال الامام أبو محمد مكي: ” قد ذكر الناس من الائمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة، وأجل قدرا من هؤلاء السبعة… فكيف يجوز أن يظن ظان أن هؤلاء السبعة المتأخرين، قراءة كل واحد منهم أحد الحروف السبعة المنصوص عليها – هذا تخلف عظيم – أكان ذلك بنص من النبي صلى الله عليه واله وسلم أم كيف ذلك ! ! ! وكيف يكون ذلك ؟ والكسائي إنما ألحق بالسبعة بالامس في أيام المأمون وغيره – وكان السابع يعقوب الحضرمي – فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة ونحوها الكسائي موضع يعقوب ” (1). وقال الشرف المرسي:


(1) التبيان ص 82. (*) (البيان – 11)

[ 162 ]

” وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها – الاحرف السبعة – القراءات السبع، وهو جهل قبيح ” (1). وقال القرطبي: ” قال كثير من علمائنا كالداودي، وابن أبي سفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع، التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الاحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف. ذكره ابن النحاس وغيره وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الائمة القراء ” (2). وتعرض ابن الجزري لابطال توهم من زعم أن الاحرف السبعة، التي نزل بها القرآن مستمرة إلى اليوم. فقال: ” وأنت ترى ما في هذا القول، فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة، والثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الاعصار الاول، قل من كثر، ونزر من بحر، فإن من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين، وذلك أن القراء الذين أخذوا عن أولئك الائمة المتقدمين من السبعة، وغيرهم كانوا أمما لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضا أكثر وهلم جرا. فلما كانت المائة الثالثة، واتسع الخرق وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدى بعض الائمة لضبط ما رواه من القراءات، فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم – فيما أحسب – خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة وتوفي سنة 224 وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية، جمع كتابا في قراءات الخمسة، من كل مصر واحد. وتوفي سنة 258 وكان بعده القاضي اسماعيل بن


(1) نفس المصدر ص 61. (2) تفسير القرطبي ج 1 ص 46. (*)

[ 163 ]

اسحاق المالكي صاحب قالون، ألف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما، منهم هؤلاء السبعة. توفي سنة 282 وكان بعده الامام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جمع كتابا سماه ” الجامع ” فيه نيف وعشرون قراءة. توفي سنة 310 وكان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، جمع كتابا في القراءات، وأدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة. وتوفي سنة 324، وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وروى فيه عن هذا الداجوني، وعن ابن جرير أيضا. وتوفي سنة 324 “. ثم ذكر ابن الجزري جماعة ممن كتب في القراءة. فقال: ” وإنما أطلنا هذا الفصل، لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، أو أن الاحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه واله وسلم هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في ” الشاطبية والتيسير “، وأنها هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه واله وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف، حتى أن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ، وكثير منهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذا، وربما كان كثير مما لم يكن في ” الشاطبية والتيسير “، وعن غير هؤلاء السبعة أصح من كثير مما فيهما، وإنما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا ” أنزل القرآن على سبعة أحرف ” وسمعوا قراءات السبعة فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها، ولذلك كره كثير من الائمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطأوه في ذلك، وقالوا: ألا اقتصر على دون هذا العدد أو زاده، أو بين مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة. ثم نقل ابن الجزري – بعد ذلك – عن ابن عمار المهدوي، وأبي محمد مكي ما تقدم نقله عنهما آنفا ” (1).


(1) النشرفي القراءات العشر ج 1 ص 33 – 37. (*)

[ 164 ]

قال أبو شامة: ” ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل ” (1). وبهذا الاستعراض قد استبان للقارئ، وظهر له ظهورا تاما أن القراءات ليست متواترة عن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – ولا عن القراء أنفسهم، من غير فرق بين السبع وغيرها، ولو سلمنا تواترها عن القراء فهي ليست متواترة عن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – قطعا. فالقراءات إما أن تكون منقولة بالآحاد، وإما أن تكون اجتهادات من القراء أنفسهم، فلا بد لنامن البحث في موردين: 1 – حجية القراءات: ذهب جماعة إلى حجية هذه القراءات، فجوزوا أن يستدل بها على الحكم الشرعي، كما استدل على حرمة وطئ الحائض بعد نقائها من الحيض وقبل أن تغتسل، بقراءة الكوفيين – غير حفص – قوله تعالى: ” ولا تقربوهن حتى يطهرن ” بالتشديد. الجواب: ولكن الحق عدم حجية هذه القراءات، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي. والدليل على ذلك أن كل واحد من هؤلاء القراء يحتمل فيه الغلط والاشتباه، ولم يرد دليل من العقل، ولا من الشرع على وجوب اتباع قارئ منهم بالخصوص، وقد استقل العقل، وحكم الشرع بالمنع عن اتباع غير العلم. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.


(1) الاتقان النوع 22 – 27 ج 1 ص 138. (*)

[ 165 ]

ولعل أحدا يحاول أن يقول: إن القراءات – وإن لم تكن متواترة – إلا أنها منقولة عن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – فتشملها الادلة القطعية التي أثبتت حجية الخبر الواحد، وإذا شملتها هذه الادلة القطعية خرج الاستناد إليها عن العمل بالظن بالورود، أوالحكومة، أو التخصيص (1). الجواب: أولا: ان القراءات لم يتضح كونها رواية، لتشملها هذه الادلة، فلعلها اجتهادات من القراء، ويؤيد هذا الاحتمال ما تقدم من تصريح بعض الاعلام بذلك، بل إذا لاحظنا السبب الذي من أجله اختلف القراء في قراءاتهم – وهو خلو المصاحف المرسلة إلى الجهات من النقط والشكل – يقوى هذا الاحتمال جدا. قال ابن أبي هاشم: ” إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها. ان الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل. قال: فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة، بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط… فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الامصار ” (2). وقال الزرقاني: ” كان العلماء في الصدر الاول يرون كراهة نقط المصحف وشكله، مبالغة منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفا من أن يؤدي ذلك


(1) وقد أوضحنا الفرق بين هذه المعاني في مبحث ” التعادل والترجيح ” في محاضراتنا الاصولية المنتشرة. (2) التبيان ص 86. (*)

[ 166 ]

إلى التغيير فيه… ولكن الزمان تغير – كما علمت – فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب، أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفا من أن يؤدي تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه ” (1). ثانيا: ان رواة كل قراءة من هذه القراءات، لم تثبت وثاقتهم أجمع، فلا تشمل أدلة حجية خبر الثقة روايتهم. ويظهر ذلك مما قدمناه في ترجمة أحوال القراء ورواتهم. ثالثا: إنا لو سلمنا أن القراءات كلها تستند إلى الرواية، وأن جميع رواتها ثقات، إلا أنا نعلم علما إجماليا أن بعض هذه القراءات لم تصدر عن النبي قطعا، ومن الواضح أن مثل هذا العلم يوجب التعارض بين تلك الروايات وتكون كل واحدة منها مكذبة للاخرى، فتسقط جميعها عن الحجية، فإن تخصيص بعضها بالاعتبار ترجيح بلا مرجح، فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة، وبدونه لا يجوز الاحتجاج على الحكم الشرعي بواحدة من تلك القراءات. وهذه النتيجة حاصلة أيضا إذا قلنا بتواتر القراءات. فإن تواتر القراءتين المختلفتين عن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – يورث القطع بأن كلا من القراءتين قرآن منزل من الله، فلا يكون بينهما تعارض بحسب السند، بل يكون التعارض بينهما بحسب الدلالة. فإذا علمنا إجمالا أن أحد الظاهرين غير مراد في الواقع فلا بد من القول بتساقطهما، والرجوع إلى الاصل اللفظي أو العملي، لان أدلة الترجيح، أو التخيير تختص بالادلة التي يكون سندها ظنيا، فلا تعم ما يكون صدوره قطعيا. وتفصيل ذلك كله في بحث ” التعادل والترجيح ” من علم الاصول.


(1) مناهل العرفان ص 402 الطبعة الثانية. (*)

[ 167 ]

2 – جواز القراءة بها في الصلاة: ذهب الجمهور من علماء الفريقين إلى جواز القراءة بكل واحدة من القراءات السبع في الصلاة، بل ادعي على ذلك الاجماع في كلمات غير واحد منهم وجوز بعضهم القراءة بكل واحدة من العشر، وقال بعضهم بجواز القراءة بكل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، ولم يحصرها في عدد معين. والحق: ان الذي تقتضيه القاعدة الاولية، هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكل قراءة لم تثبت القراءة بها من النبي الاكرم – صلى الله عليه واله وسلم – أو من أحد أوصيائه المعصومين – عليهم السلام -، لان الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن فلا يكفي قراءة شئ لم يحرز كونه قرآنا، وقد استقل العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة، وعلى ذلك فلا بد من تكرار الصلاة بعد القراءات المختلفة أو تكرار مورد الاختلاف في الصلاة الواحدة، لاحراز الامتثال القطعي، ففي سورة الفاتحة يجب الجمع بين قراءة ” مالك “، وقراءة ” ملك “. أما السورة التامة التي تجب قراءتها بعد الحمد – بناء على الاظهر – فيجب لها إما اختيار سورة ليس فيها اختلاف في القراءة، وإما التكرار على النحو المتقدم. وأما بالنظر إلى ما ثبت قطعيا من تقرير المعصومين – عليهم السلام – شيعتهم على القراءة، بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم، فلا شك في كفاية كل واحدة منها. فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها، ولو ثبت الردع لوصل الينا بالتواتر، ولا أقل من نقله بالآحاد، بل ورد عنهم – عليهم السلام – إمضاء هذه القراءات بقولهم: ” إقرأ كما يقرأ الناس. إقرؤا كما علمتم ” (1). وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص


(1) الكافي: باب النوادر كتاب فضل القرآن. (*)

[ 168 ]

الجواز بالقراءات السبع أو العشر، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة، غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء أهل السنة، ولا موضوعة، أما الشاذة فمثالها قراءة ” ملك يوم الدين ” بصيغة الماضي ونصب يوم، وأما الموضوعة فمثالها قراءة ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” برفع كلمة الله ونصب كلمة العلماء على قراءة الخزاعي عن أبي حنيفة. وصفوة القول: أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت عليهم السلام.


[ 169 ]

هل نزل القرآن على سبعة أحرف ؟ ! !


[ 170 ]

عرض الروايات حول نزول القرآن على سبعة أحرف. تفنيد تلك الروايات. عدم رجوع نزول القرآن على سبعة أحرف إلى معنى معقول. الوجوه العشرة التي ذكروها تفسيرا للاحرف السبعة. بيان فساد تلك الوجوه.


[ 171 ]

لقد ورد في روايات أهل السنة: أن القرآن انزل على سبعة أحرف، فيحسن بناأن نتعرض إلى التحقيق في ذلك بعد ذكر هذه الروايات: 1 – أخرج الطبري عن يونس وأبي كريب، بإسنادهما عن ابن شهاب، بإسناده عن ابن عباس، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: ” أقر أني جبرئيل على حرف فراجعته، فلم أزل استزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف “. ورواها مسلم عن حرملة عن ابن وهب عن يونس (1) ورواها البخاري بسند آخر (2) وروى مضمونها عن ابن البرقي، بإسناده عن ابن عباس. 2 – وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جده عن أبي بن كعب قال: ” كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر فقرأ قراءة


(1) صحيح مسلم باب ان القرآن انزل على سبعة أحرف ج 2 ص 202 طبعة محمد علي صبيح بمصر. (2) صحيح البخاري باب انزل القرآن على سبعة أحرف ج 6 ص 100 طبعة دار الخلافة. المطبعة العامرة. (*)

[ 172 ]

غير قراءة صاحبه، فدخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: فقلت يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقرءا، فحسن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم شأنهما، فوقع في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقا كأنما أنظر إلى الله فرقا. فقال لي: يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هون على امتي، فرد علي في الثانية أن اقرأ القرآن على حرف (1) فرددت عليه أن هون على امتي، فرد علي في الثالثة ان اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لامتي. اللهم اغفر لامتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب فيه إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام “. وهذه الرواية رواها مسلم أيضا بأدنى اختلاف (2). وأخرجها الطبري عن أبي كريب بطرق أخرق باختلاف يسير أيضا. وروى ما يقرب من مضمونها عن طريق يونس بن عبد الاعلى وعن طريق محمد بن عبد الاعلى الصنعاني عن أبي. 3 – وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن سليمان بن صرد عن أبي ابن كعب قال:


(1) هكذا في النسخة، وفي صحيح مسلم: على حرفين. (2) صحيح مسلم ج 2 ص 203. (*)

[ 173 ]

” رحت إلى المسجد فسمعت رجلا يقرأ. فقلت: من أقرأك ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقلت: استقرئ هذا، فقرأ. فقال: أحسنت. قال: فقلت إنك أقرأتني كذا وكذا فقال: وأنت قد أحسنت. قال: فقلت قد أحسنت قد أحسنت. قال: فضرت بيده على صدري، ثم قال: اللهم أذهب عن ابي الشك. قال: ففضت عرقا وامتلا جوفي فرقا، ثم قال صلى الله عليه واله وسلم: إن الملكين أتياني. فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف، وقال الآخر: زده قال: فقلت زدني. قال: اقرأه على حرفين حتى بلغ سبعة أحرف. فقال: اقرأ على سبعة أحرف “. 4 – وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: ” قال رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم -: قال جبرئيل: اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف – والشك من أبي كريب – فقال: كلها شاف كاف. ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب كقولك: هلم وتعال “. 5 – وأخرج عن أحمد بن منصور، بإسناده عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال: ” قرأ رجل عند عمر بن الخطاب فغير عليه فقال: لقد قرأت على رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – فلم يغير


[ 174 ]

علي قال: فاختصما عند النبي – صلى الله عليه واله وسلم – فقال: يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال: بلى. فوقع في صدر عمر شئ فعرف النبي – صلى الله عليه واله وسلم – ذلك في وجهه. قال: فضرب صدره. وقال: أبعد شيطانا، قالها ثلاثا ثم قال: يا عمر إن القرآن كله سواء، ما لم تجعل رحمة عذابا وعذابا رحمة “. وأخرج عن يونس بن عبد الاعلى، بإسناده عن عمر بن الخطاب قضية مع هشام بن حكيم تشبه هذه القصة. وروى البخاري ومسلم والترمذي قصة عمر مع هشام بإسناد غير ذلك، واختلاف في ألفاظ الحديث (1). 6 – وأخرج عن محمد بن المثنى، بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – كان عند أضاءة بني غفار قال: ” فأتاه جبرئيل. فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. فقال: اسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. قال: ثم أتاه الثانية. فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن امتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة. فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن امتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة. فقال: إن الله يأمرك أن


(1) صحيح مسلم ج 2 ص 202، وصحيح البخاري ج 3 ص 90، وج 6 ص 100، 111، وج 8 ص 53، 215، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي باب ما جاء انزل القرآن على سبعة أحرف ج 11 ص 60. (*)

[ 175 ]

تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا “. ورواها مسلم أيضا في صحيحه (1). وأخرج الطبري أيضا نحوها عن أبي كريب، بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب. وأخرج أيضا بعضها عن أحمد بن محمد الطوسي، بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب باختلاف يسير. وأخرجها أيضا عن محمد بن المثنى، بإسناده عن أبي بن كعب. 7 – وأخرج عن أبي كريب باسناده عن زر عن أبي قال: ” لقي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم جبرئيل عند أحجار المراء. فقال: إني بعثت إلى أمة أميين منهم الغلام والخادم، وفيهم الشيخ الفاني والعجوز. فقال جبرئيل: فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف ” (2). 8 – وأخرج عن عمرو بن عثمان العثماني، بإسناده عن المقبري عن أبي هريرة أنه قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة “. 9 – وأخرج عن عبيد بن اسباط، باسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قال:


(1) صحيح مسلم ج 2 ص 203. (2) ورواها الترمذي أيضا بأدنى اختلاف ج 11 ص 62. (*)

[ 176 ]

قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” انزل القرآن على سبعة أحرف. عليم. حكيم. غفور. رحيم “. وأخرج عن أبي كريب، باسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة مثله. 10 – وأخرج عن سعيد بن يحيى، باسناده عن عاصم عن زرعن عبد الله ابن مسعود قال: ” تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون، أو ست وثلاثون آية. قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فوجدنا عليا يناجيه. قال: فقلناإنما اختلفنا في القراءة. قال: فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم. قال: ثم أسر إلى علي شيئا. فقال لنا علي: إن رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما علمتم ” (1). 11 – وأخرج القرطبي عن أبي داود عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” يا أبي إني قرأت القرآن. فقيل لي: على حرف أو حرفين. فقال الملك الذي معي: قل على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة. فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت سميعا، عليما، عزيزا، حكيما، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب ” (2).


(1) هذه الروايات كلها مذكورة في تفسير الطبري ج 1 ص 9 – 15. (2) تفسير القرطبي ج 1 ص 43. (*)

[ 177 ]

هذه أهم الروايات التي رويت في هذا المعنى، وكلها من طرق أهل السنة، وهي مخالفة لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” إن القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجئ من قبل الرواة ” (1). وقد سأل الفضيل بن يسار أبا عبد الله عليه السلام فقال: إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ” كذبوا – أعداء الله – ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد ” (2). وقد تقدم إجمالا أن المراجع بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم في امور الدين، إنما هو كتاب الله وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ” وسيأتي توضيحه مفصلا بعد ذلك إن شاء الله تعالى ” ولا قيمة للروايات إذا كانت مخالفة لما يصح عنهم. ولذلك لا يهمنا أن نتكلم عن أسانيد هذه الروايات. وهذا أول شئ تسقط به الرواية عن الاعتبار والحجية. ويضاف إلى ذلك ما بين هذه الروايات من التخالف والتناقض، وما في بعضها من عدم التناسب بين السؤال والجواب. تهافت الروايات: فمن التناقض أن بعض الروايات دل على أن جبرئيل أقرأ النبي صلى الله عليه واله وسلم على حرف فاستزاده النبي صلى الله عليه واله وسلم فزاده، حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وهذا يدل


(1) اصول الكافي كتاب فضل القرآن – باب النوادر، الرواية: 12. (2) اصول الكافي كتاب فضل القرآن – باب النوادر، الرواية: 13. (*) (البيان – 12)

[ 178 ]

على أن الزيادة كانت على التدريج، وفي بعضها أن الزيادة كانت مرة واحدة في المرة الثالثة، وفي بعضها أن الله أمره في المرة الثالثة أن يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف، وكان الامر بقراءة سبع في المرة الرابعة. ومن التناقض أن بعض الروايات يدل على أن الزيادة كلها كانت في مجلس واحد، وأن طلب النبي صلى الله عليه واله وسلم الزيادة كان بإرشاد ميكائيل، فزاده جبرئيل حتى بلغ سبعا، وبعضها يدل على أن جبرئيل كان ينطلق ويعود مرة بعد مرة. ومن التناقض أن بعض الروايات يقول: إن أبي دخل المسجد، فرأى رجلا يقرأ على خلاف قراءته. وفي بعضها أنه كان في المسجد، فدخل رجلان وقرءا على خلاف قراءته. وقد وقع فيها الاختلاف أيضا فيما قاله النبي – صلى الله عليه واله وسلم – لابي.. إلى غير ذلك من الاختلاف. ومن عدم التناسب بين السؤال والجواب، ما في رواية ابن مسعود من قول علي عليه السلام إن رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – يأمركم أن تقرؤا كما علمتم. فإن هذا الجواب لا يرتبط بما وقع فيه النزاع من الاختلاف في عدد الآيات. أضف إلى جميع ذلك أنه لا يرجع نزول القرآن على سبعة أحرف إلى معنى معقول، ولا يتحصل للناظر فيها معنى صحيح. وجوه الاحرف السبعة: وقد ذكروا في توجيه نزول القرآن على سبعة أحرف وجوها كثيرة نتعرض للمهم منها مع مناقشتها وبيان فسادها: 1 – المعاني المتقاربة: إن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو ” عجل، وأسرع، واسع ” وكانت هذه الاحرف باقية إلى زمان عثمان فحصرها عثمان


[ 179 ]

بحرف واحد، وأمر بإحراق بقية المصاحف التي كانت على غيره من الحروف الستة. واختار هذا الوجه الطبري (1) وجماعة. وذكر القرطبي أنه مختار أكثر أهل العلم (2). وكذلك قال أبو عمرو بن عبد البر (3). واستدلوا على ذلك برواية ابن أبي بكرة، وأبي داود، وغيرهما مما تقدم. وبرواية يونس بإسناده عن ابن شهاب. قال: ” أخبرني سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله تعالى ذكره: ” إنما يعلمه بشر 16: 103 “. إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – سميع عليم، أو عزيز حكيم، وغير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – فيقول: ” أعزيز حكيم، أو سميع عليم، أو عزيز عليم ” ؟ فيقول له رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – أي ذلك كتبت فهو كذلك، ففتنه ذلك. فقال: إن محمدا أوكل ذلك إلي فاكتب ما شئت “. واستدلوا أيضا بقراءة أنس ” إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا ” فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة إنما هي ” وأقوم ” فقال: ” أقوم، وأصوب، وأهدى واحد “. وبقراءة ابن مسعود ” إن كانت إلا زقية واحدة ” (4).


(1) تفسير الطبري ج 1 ص 15. (2) تفسير القرطبي ج 1 ص 42. (3) التبيان ص 39. (4) تفسير الطبري ج 1 ص 18. (*)

[ 180 ]

وبما رواه الطبري عن محمد بن بشار، وأبي السائب بإسنادهما عن همام: أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا: ” إن شجرة الزقوم. طعام الاثيم 44: 44 “. قال: فجعل الرجل يقول: ” إن شجرة الزقوم طعام اليتيم ” قال: فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم. قال: ” إن شجرة الزقوم طعام الفاجر ” (1). واستدلوا أيضا على ذلك بما تقدم من الروايات الدالة على التوسعة: ” ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة “. فإن هذا التحديد لا معنى له إلا أن يراد بالسبعة أحرف جواز تبديل بعض الكلمات ببعض. فاستثنى من ذلك ختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب. وبمقتضى هذه الروايات لا بد من حمل روايات السبعة أحرف على ذلك بعدرد بحملها إلى مبينها. إن جميع ما ذكر لها من المعاني أجنبي عن مورد الروايات – وستعرف ذلك – وعلى هذا فلا بد من طرح الروايات، لان الالتزام بمفادها غير ممكن. والدليل على ذلك: أولا: ان هذا إنما يتم في بعض معاني القرآن، التي يمكن أن يعبر عنها بألفاظ سبعة متقاربة. ومن الضروري أن أكثر القرآن لا يتم فيه ذلك، فكيف تتصور هذه الحروف السبعة التي نزل بها القرآن ؟. ثانيا: إن كان المراد من هذا الوجه أن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – قد جوز تبديل


(1) تفسير الطبري ج 25 ص 78 عند تفسير الآية المباركة. (*)

[ 181 ]

كلمات القرآن الموجودة بكلمات اخرى تقاربها في المعنى – ويشهد لهذا بعض الروايات المتقدمة – فهذا الاحتمال يوجب هدم أساس القرآن، المعجزة الابدية، والحجة على جميع البشر، ولا يشك عاقل في أن ذلك يقتضي هجر القرآن المنزل، وعدم الاعتناء بشأنه. وهل يتوهم عاقل ترخيص النبي – صلى الله عليه واله وسلم – أن يقرأ القارئ ” يس، والذكر العظيم، إنك لمن الانبياء، على طريق سوي، إنزال الحميد الكريم، لتخوف قوما ما خوف أسلافهم فهم ساهون ” فلتقر عيون المجوزين لذلك. سبحانك اللهم إن هذا إلا بهتان عظيم. وقد قال الله تعالى: ” قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلاما يوحى إلي 10: 15 “. وإذا لم يكن للنبي أن يبدل القرآن من تلقاء نفسه، فكيف يجوز ذلك لغيره ؟ وإن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم – علم براء بن عازب دعاء كان فيه: ” ونبيك الذي أرسلت ” فقرأ براء ” ورسولك الذي أرسلت ” فأمره – صلى الله عليه واله وسلم – أن لا يضع الرسول موضع النبي (1). فإذا كان هذا في الدعاء، فماذا يكون الشأن في القرآن ؟. وإن كان المراد من الوجه المتقدم أن النبي – صلى الله عليه واله وسلم – قرأ على الحروف السبعة – ويشهد لهذا كثير من الروايات المتقدمة – فلا بد للقائل بهذا أن يدل على هذه الحروف السبعة التي قرأ بها النبي – صلى الله عليه واله وسلم – لان الله سبحانه قد وعد بحفظ ما أنزله: ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون 9: 15 “. ثالثا: أنه صرحت الروايات المتقدمة بأن الحكمة في نزول القرآن على سبعة


(1) التبيان 58. (*)

[ 182 ]

أحرف هي التوسعة على الامة، لانهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد، وأن هذا هو الذي دعا النبي الاستزادة إلى سبعة أحرف. وقد رأينا أن اختلاف القراءات أوجب أن يكفر بعض المسلمين بعضا. حتى حصر عثمان القراءة بحرف واحد، وأمر بإحراق بقية المصاحف. ويستنتج من ذلك امور: إن الاختلاف في القراءة كان نقمة على الامة. وقد ظهر ذلك في عصر عثمان، فكيف يصح أن يطلب النبي صلى الله عليه واله وسلم من الله ما فيه فساد الامة. وكيف يصح على الله أن يجيبه إلى ذلك ؟ وقد ورد في كثير من الروايات النهي عن الاختلاف. وأن فيه هلاك الامة. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه واله وسلم تغير وجهه واحمر حين ذكر له الاختلاف في القراءة. وقد تقدم جملة منها، وسيجئ بعد هذا جملة اخرى. 2 – قد تضمنت الروايات المتقدمة أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: إن أمتي لا تستطيع ذلك ” القراءة على حرف واحد ” وهذا كذب صريح، لا يعقل نسبته إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم لانا نجد الامة بعد عثمان على اختلاف عناصرها ولغاتها قد استطاعت أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فكيف يكون من العسر عليها أن تجتمع على حرف واحد في زمان النبي صلى الله عليه واله وسلم وقد كانت الامة من العرب الفصحى. 3 – إن الاختلاف الذي أوجب لعثمان أن يحصر القراءة في حرف واحد قد اتفق في عصر النبي صلى الله عليه واله وسلم وقد أقر النبي صلى الله عليه واله وسلم كل قارئ على قراءته، وأمر المسلمين بالتسليم لجميعها، وأعلمهم بأن ذلك رحمة من الله لهم، فكيف صح لعثمان، ولتابعيه سد باب الرحمة، مع نهي النبي صلى الله عليه واله وسلم عن المنع عن قراءة القرآن، وكيف جاز للمسلمين رفض قول النبي صلى الله عليه واله وسلم وأخذ قول عثمان وإمضاء عمله، أفهل وجدوه أرأف بالامة من نبيها أو أنه تنبه لشئ قد جهله النبي صلى الله عليه واله وسلم من قبل وحاشاه، أو أن الوحي قد نزل على عثمان بنسخ تلك الحروف ؟ !.


[ 183 ]

وخلاصة الكلام: أن بشاعة هذا القول تغني عن التكلف عن رده، وهذه هي العمدة في رفض المتأخرين من علماء أهل السنة لهذا القول. ولاجل ذلك قد التجأ بعضهم كأبي جعفر محمد بن سعدان النحوي، والحافظ جلال الدين السيوطي إلى القول بأن هذه الروايات من المشكل والمتشابه، وليس يدري ما هو مفادها (1) مع أنك قد عرفت أن مفادها أمر ظاهر، ولا يشك فيه الناظر إليها، كما ذهب إليه واختاره أكثر العلماء. 2 – الابواب السبعة: إن المراد بالاحرف السبعة هي الابواب السبعة التي نزل منها القرآن وهي زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. واستدل عليه بما رواه يونس، بإسناده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: ” كان الكتاب الاول نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما امرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا ” (2). ويرد على هذه الوجه: 1 – أن ظاهر الرواية كون الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن غير


(1) التبيان ص 61. (2) تفسير الطبري ج 1 ص 23. (*)

[ 184 ]

الابواب السبعة التى نزل منها، فلا يصح ان يجمل تفسيرا لها، كما يريده أصحاب هذا القول. 2 – أن هذه الرواية معارضة برواية أبي كريب، بإسناده عن ابن مسعود. قال: إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال (1) 3 – أن الرواية مضطربة في مفادها، فإن الزجر والحرام بمعنى واحد، فلا تكون الابواب سبعة، على أن في القرآن أشياء اخرى لا تدخل في هذه الابواب السبعة، كذكر المبدأ والمعاد، والقصص، والاحتجاجات والمعارف، وغير ذلك. وإذا أراد هذا القائل أن يدرج جميع هذه الاشياء في المحكم والمتشابه كان عليه أن يدرج الابواب المذكورة في الرواية فيهما أيضا، ويحصر القرآن في حرفين ” المحكم والمتشابه ” فإن جميع ما في القرآن لا يخلو من أحدهما. 4 – أن اختلاف معاني القرآن على سبعة أحرف لا يناسب ما ذلت عليه الاحاديث المتقدمة من التوسعة على الامة، لانها لا تتمكن من القراءة على حرف واحد. 5 – أن في الروايات المتقدمة ما هو صرح في أن الحروف السبعة هي الحروف التي كانت تختلف فيها القراء، وهذه الرواية إذا تمت دلالتها لا تصلح قرينة على خلافها. 3 – الابواب السبعة بمعنى آخر: إن الحروف السبعة هي: الامر، والزجر، والترغيب، والترهيب، والجدل،


(1) تفسير الطبري 1 ص 24. (*)

[ 185 ]

والقصص، والمثل. واستدل على ذلك برواية محمد بن بشار، بإسناده عن أبي قلامة. قال: ” بلغني أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: انزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، ومثل ” (1). وجوابه يظهر مما قدمناه في الوجه الثاني. 4 – اللغات الفصيحة: إن الاحرف السبعة هي اللغات الفصيحة من لغات العرب، وأنها متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه وبعضه بلغة اليمن، وبعضه بلغة كنانة، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة ثقيف. ونسب هذا القول إلى جماعة، منهم: البيهقي، والابهري، وصاحب القاموس. ويرده: 1 – ان الروايات المتقدمة قد عينت المراد من الاحرف السبعة، فلا يمكن حملها على أمثال هذه المعاني التي لا تنطبق على موردها. 2 – ان حمل الاحرف على اللغات ينافي ما روي عن عمر من قوله: نزل القرآن بلغة مضر (2). وانه أنكر على ابن مسعود قراءته ” عتى حين ” أي حتى حين، وكتب إليه أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل (3).


(1) تفسير الطبري ج 1 ص 24. (2) التبيان ص 64. (3) نفس المصدر ص 65. (*)

[ 186 ]

وما روي عن عثمان أنه قال: ” للرهط القرشيين الثلاثة، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ” (1). وما روى من: ” أن عمر وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان، فقرأ هشام قراءة. فقال رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – هكذا أنزلت، وقرأ عمر قراءة غير تلك القراءة. فقال رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ” (2). فإن عمر وهشام كان كلاهما من قريش، فلم يكن حينئذ ما يوجب اختلافهما في القراءة، ويضاف إلى جميع ذلك أن حمل الاحرف على اللغات قول بغير علم، وتحكم من غير دليل. 3 – أن القائلين بهذا القول إن أرادوا أن القرآن اشتمل على لغات اخرى، كانت لغة قريش خالية منها، فهذا المعنى خلاف التسهيل على الامة، الذي هو الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف، على ما نطقت الروايات بذلك، بل هو خلاف الواقع، فإن لغة قريش هي المهيمنة على سائر لغات العرب، وقد جمعت من هذه اللغات ما هو أفصحها، ولذلك استحقت أن توزن بها العربية، وأن يرجع إليها في قواعدها. وإن أرادوا أن القرآن مشتمل على لغات اخرى، ولكنها تتحد مع لغة قريش، فلا وجه للحصر بلغات سبع، فإن في القرآن ما يقرب من خمسين لغة. فعن أبي بكر الواسطي: في القرآن من اللغات خمسون لغة، وهي لغات قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير… (3)


(1) صحيح البخاري باب نزل القرآن بلسان قريش ص 156. (2) أشرنا إلى هذه الرواية في ما تقدم من هذا الكتاب. (3) راجع الاتقان ج 1 النوع 37 ص 230، 204. (*)

[ 187 ]

5 – لغات مضر: إن الاحرف السبعة هي سبع لغات من لغات مضر خاصة. وإنها متفرقة في القرآن، وهي لغات قريش، وأسد، وكنانة، وهذيل، وتميم، وضبة، وقيس. ويرد عليه جميع ما أوردناه على الوجه الرابع. 6 – الاختلاف في القراءات: إن الاحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءات. قال بعضهم: إني تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا. فمنها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل. ” هن أطهر لكم ” بضم أطهر وفتحه. ومنها ما تتغير صورته ويتغير معناه بالاعراب مثل: ” ربنا باعد بين أسفارنا ” بصيغة الامر والماضي. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف مثل: ” كالعهن المنفوش وكالصوف المنفوش “. ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل: ” وطلح منضود وطلع منضود “. ومنها بالتقديم والتأخير مثل: ” وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت “. ومنها بالزيادة والنقصان: ” تسع وتسعون نعجة انثى. وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين. فإن الله من بعد اكراههن لهن غفور رحيم “. ويرده: 1 – أن ذلك قول لا دليل عليه، ولا سيما أن المخاطبين في تلك الرويات لم يكونوا يعرفون من ذلك شيئا.


[ 188 ]

2 – أن من وجوه الاختلاف المذكورة ما يتغير فيه المعنى وما لا يتغير، ومن الواضع أن تغير المعنى وعدمه لا يوجب الانقسام إلى وجهين، لان حال اللفظ والقراءة لا تختلف بذلك، ونسبة الاختلاف إلى اللفظ في ذلك من قبيل وصف الشئ بحال متعلقة. ولذلك يكون الاختلاف في ” طلح منضود. وكالعهن المنفوش ” قسما واحدا. 3 – أن من وجوه الاختلاف المذكور بقاء الصورز للفظ، وعدم بقائها، ومن الواضح أيضا أن ذلك لا يكون سببا للانقسام، لان بقاء الصورة إنما هو في المكتوب لا في المقروء، والقرآن اسم للمقروء لا للمكتوب والمنزل من السماء إنما كان لفظا لا كتابة. وعلى هذا يكون الاختلاف في ” وطلح. وننشزها ” وجها واحدا لا وجهين. 4 – ان صريح الروايات المتقدمة أن القرآن نزل في ابتداء الامر على حرف واحد. ومن البين أن المراد بهذا الحرف الواحد ليس هو أحد الاختلافات المذكورة، فكيف يمكن أن يراد بالسبعة مجموعها !. 5 – أن كثيرا من القرآن موضع اتفاق بين القراء، وليس موردا للاختلاف، فإذا أضفنا موضع الاتفاق إلى موارد الاختلاف بلغ ثمانية. ومعنى هذا أن القرآن نزل على ثمانية أحرف. 6 – أن مورد الروايات المتقدمة هو اختلاف القراء في الكلمات، وقد ذكر ذلك في قصة عمر وغيرها. وعلى ما تقدم فهذا الاختلاف حرف واحد من السبعة، ولا يحتاج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في رفع خصومتهم إلى الاعتذار بأن القرآن نزل على الاحرف السبعة، وهل يمكن أن يحمل نزول جبريل بحرف، ثم بحرفين، ثم بثلاثة. ثم بسبعة على هذه الاختلافات ؟ ! وقد أنصف الجزائري في قوله: ” والاقوال في هذه المسألة كثيرة، وغالبها بعيد عن الصواب “. وكأن القائلين


[ 189 ]

بذلك ذهلوا عن مورد حديث انزل القرآن على سبعة أحرف، فقالوا ما قالوا (1). 7 – اختلاف القراءات بمعنى آخر: ان الاحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءة، ولكن بنحو آخر غير ما تقدم. وهذا القول اختاره الزرقاني، وحكاه عن أبي الفضل الرازي في اللوائح. فقال: الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف الاول: اختلاف الاسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث. الثاني: اختلاف تصريف الافعال من ماض، ومضارع، وأمر. الثالث: اختلاف الوجوه في الاعراب. الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة. الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير. السادس: الاختلاف بالابدال. السابع: اختلاف اللغات ” اللهجات ” كالفتح، والامالة، والترقيق، والتفخيم، والاظهار، والادغام، ونحو ذلك. ويرد عليه: ما أوردناه على الوجه السادس في الاشكال الاول والرابع والخامس منه، ويرده أيضا: أن الاختلاف في الاسماء يشترك مع الاختلاف في الافعال في كونهما اختلافا في الهيئة، فلا معنى لجعله قسما آخر مقابلا له. ولو راعينا الخصوصيات في هذا التقسيم لوجب علينا أن نعد كل واحد من الاختلاف في التثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث، والماضي، والمضارع، والامر قسما مستقلا. ويضاف إلى ذلك أن الاختلاف في الادغام، والاظهار، والروم، والاشمام، والتخفيف


(1) التبيان ص 59. (*)

[ 190 ]

والتسهيل في اللفظ الواحد لا يخرجه عن كونه لفظا واحدا. وقد صرح بذلك ابن قتيبة على ما حكاه الزرقاني عنه (1). والصحيح أن وجوه الاختلاف في القراءة ترجع إلى ستة أقسام: الاول: الاختلاف في هيئة الكلمة دون مادتها، كالاختلاف في لفظة ” باعد ” بين صيغة الماضي والامر، وفي كلمة ” أمانتهم ” بنى الجمع والافراد. الثاني: الاختلاف في مادة الكلمة دون هيئتها، كالاختلاف في لفظة ” ننشرها ” بين الراء والزي. الثالث: الاختلاف في المادة والهيئة كالاختلاف في ” العهن والصوف “. الرابع: الاختلاف في هيئة الجملة بالاعراب، كالاختلاف ” وأرجلكم ” بين النصب والجر. الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، وقد تقدم مثال ذلك. السادس: الاختلاف بالزيادة والنقيصة، وقد تقدم مثاله أيضا. 8 – الكثرة في الاحاد: ان لفظ السبعة يراد منه الكثرة في الاحاد، كما يراد من لفظ السبعين والسبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات. ونسب هذا القول إلى القاضي عياض ومن تبعه. ويرده: ان هذا خلاف ظاهر الروايات، بل خلاف صريح بعضها. على أن هذا لا


(1) مناهل العرفان 154. (*)

[ 191 ]

يعد قولا مستقلا عن الوجوه الاخرى، لانه لم يعين معنى الحروف فيه، فلا بد وان يراد من الحروف أحد المعاني المذكورة في الوجوه المتقدمة ويرد عليه ما يرد من الاشكال على تلك الوجوه. 9 – سبع قراءات: ومن تلك الوجوه ان الاحرف السبعة ” موضوعة البحث ” هي سبع قراءات. ويرده: ان هذه القراءات السبع إن اريد بها السبع المشهورة، فقد أوضحنا للقارئ بطلان هذا الاحتمال في البحث عن تواتر القراءات – وقد تقدم ذلك – في باب ” نظرة في القراءات “. وان اريد بها قراءات سبع عى إطلاقها، فمن الواضح أن عدد القراءات أكثر من ذلك بكثير، ولا يمكن أن يوجه ذلك بأن غاية ما ينتهي إليه اختلاف القراءات أكثر من ذلك بكثير، الواحدة هي السبع، لانه إن اريد أن الغالب في كلمات القرآن أن تقرأ على سبعة وجوه فهذا باطل، لان الكلمات التي تقرأ على سبعة وجوه قليلة جدا. وإن اريد أن ذلك موجود في بعض الكلمات وعلى سبيل الايجاب الجزئي فمن الواضح أن في كلمات القرآن ما يقرأ بأكثر من ذلك فقد قرأت كلمة ” وعبد الطاغوت ” بإثنين وعشرين وجها، وفي كلمة ” أف ” أكثر من ثلاثين وجها. ويضاف إلى ما تقدم ان هذا القول لا ينطبق على مورد الروايات، ومثله أكثر الاقوال في المسألة. 10 – اللهجات المختلفة: إن الاحرف السبع يراد بها اللهجات المختلفة في لفظ واحد، اختاره الرافعي في كتابه (1).


(1) إعجاز القرآن 70. (*)

[ 192 ]

وتوضيح القول: أن لكل قوم من العرب لهجة خاصة في تأدية بعض الكلمات، ولذلك نرى العرب يختلفون في تأدية الكلمة الواحدة حسب اختلاف لهجاتهم. فالقاف في كلمة ” يقول ” مثلا يبدلها العراقي بالكاف الفارسية، ويبدلها الشامي بالهمزة، وقد أنزل القرآن على جميع هذه اللهجات للتوسعة على الامة، لان الالتزام بلهجة خاصة من هذه اللهجات فيه تضييق على القبائل الاخرى التي لم تألف هذه اللهجة، والتعبير بالسبع إنما هو رمز إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذه اللفظة، فلا ينافي ذلك كثرة اللهجات العربية، وزيادتها على السبع. الرد: وهذا الوجه – على أنه أحسن الوجوه التي قيلت في هذا المقام – غير تام أيضا: 1 – لانه ينافي ما ورد عن عمر وعثمان من أن القرآن نزل بلغة قريش، وأن عمر منع ابن مسعود من قراءة ” عتى حين “. 2 – ولانه ينافي مخاصمة عمر مع هشام بن حكيم في الراءة، مع أن كليهما من قريش. 3 – ولانه ينافي مورد الروايات، بل وصراحة بعضها في أن الاختلاف كان في جوهر اللفظ، لا في كيفية أدائه، وان هذا من الاحرف التي نزل بها القرآن. 4 – ولان حمل لفظ السبع – على ما ذكره خلاف – ظاهر الروايات، بل وخلاف صريح بعضها. 5 – ولان لازم هذا القول جواز القراءة فعلا باللهجات المتعددة، وهو خلاف السيرة القطعية من جميع المسلمين، ولا يمكن أن يدعي نسخ جواز القراءة بغير اللهجة الواحدة المتعارفة، لانه قول بغير دليل، ولا يمكن لقائله أن يستدل على النسخ بالاجماع القطعي على ذلك، لان مدرك الاجماع إنما هو عدم ثبوت نزول القرآن على اللهجات المختلفة، فإذا فرضنا ثبوت ذلك كما يقوله أصحاب هذا القول فكيف يمكن تحصيل الاجماع على ذلك ؟ مع أن إصرار


[ 193 ]

النبي – صلى الله عليه واله وسلم – على نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كان للتوسعة على الامة، فكيف يمكن أن يختص ذلك بزمان قليل بعد نزول القرآن، وكيف يصح أن يقوم على ذلك إجماع أو غيره من الادلة ؟ ! ومن الواضح أن الامة – بعد ذلك – أكثر احتياجا إلى التوسعة، لان المعتنقين للاسلام في ذلك الزمان قليلون. فيمكنهم أن يجتمعوا في قراءة القرآن على لهجة واحدة، وهذا بخلاف المسلمين في الازمنة المتأخرة، ولنقتصر على ما ذكرنا من الاقوال فإن فيه كفاية عن ذكر البقية والتعرض لجوابها وردها. وحاصل ما قدمناه: أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح، فلا بد من طرح الروايات الدالة عليه، ولا سيما بعد أن دلت أحاديث الصادقين – ع – على تكذيبها، وأن القرآن إنما نزل على حرف واحد، وان الاختلاف قد جاء من قبل الرواة. (البيان – 13)


[ 195 ]

صيانة القرآن من التحريف


[ 196 ]

وقوع التحريف المعنوي في القرآن باتفاق المسلمين. التحريف الذي لم يقع في القرآن بلا خلاف. التحريف الذي وقع فيه الخلاف. تصريحات أعلام الامامية بعدم التحريف كجزء من معتقداتهم. نسخ التلاوة مذهب مشهور بين علماء أهل السنة. كلمات مشاهير الصحابة في وقوع التحريف. القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف. الادلة الخمسة على نفي التحريف. شبهات القائلين بالتحريف.


[ 197 ]

يحسن بنا – قبل الخوض في صميم الموضوع – أن نقدم أمام البحث امورا، لها صلة بالمقصود، لا يستغنى عنها في تحقيق الحال وتوضيحها. 1 – معنى التحريف: يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدة معان على سبيل الاشتراك، فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين، وبعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضا، وبعض منها وقع الخلاف بينهم. واليك تفصيل ذلك (1): الاول: ” نقل الشئ عن موضعه وتحويله إلى غيره ” ومنه قوله تعالى: ” من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه 4: 46 “. ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله فإن كل من فسر القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه فقد حرفه. وترى كثيرا من أهل البدع، والمذاهب الفاسدة قد حرفوا القرآن بأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم. وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى، وذم فاعله في عدة من الروايات.


(1) انظر التعليقة رقم (6) تقديم دار التقريب لهذا البحث في قسم التعليقات. (*)

[ 198 ]

منها: رواية الكافي بإسناده عن الباقر عليه السلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير: ” وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية… ” (1). الثاني ” النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره “. والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا، فقد أثبتنا لك فيما تقدم عدم تواتر القراءات، ومعنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لاحدى القراءات، وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه. الثالث: ” النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل “. والتحريك بهذا المعنى قد وقع في صدر الاسلام، وفي زمان الصحابة قطعا، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه، وهذا يدل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه، وإلا لم يكن هناك سبب موجب لاحراقها، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف، منهم عبد الله ابن أبي دود السجستاني، وقد سمى كتابه هذا بكتاب المصاحف. وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة إما من عثمان أو من كتاب تلك المصاحف، ولكنا سنبين بعد هذا إن شاء الله تعالى أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين، الذى تداولوه على النبي


(1) الوافي آخر كتاب الصلاة ص 274.

[ 199 ]

– ص – يدا بيد. فالتحريك بالزيادة والنقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان، وأما القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة. وجملة القول: إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف – كما هو الصحيح – فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الاول إلا أنه قد انقطع في زمان عثمان، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي – ص – وأما القائل بتواتر المصاحف بأجمعها، فلا بد له من الالترام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل، وبضياع شئ منه. وقد مر عليك تصريح الطبري، وجماعة آخرين بإلغاء عثمان للحروف الستة التي نزل بها القرآن، واقتصاره على حرف واحد (1). الرابع: ” التحريف بالزيادة والنقيصة في الاية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل، والتسالم على قراءة النبي – ص – إياها “. والتحريف بهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا. فالبسملة – مثلا – مما تسالم المسلمون على أن النبي – ص – قرأها قبل كل سورة غير سورة التوبة وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الاتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف، وذهب جماعة اخرى إلى أن البسملة من القرآن. وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضا – وستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرنا سورة الفاتحة – وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقينا، بالزيادة أو بالنقيصة.


(1) في موضع نزول القرآن على سبعة أحرف ص 196 من هذا الكتاب. (*)

[ 200 ]

الخامس: ” التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل “. والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة. السادس: ” التحريف بالنقيصة، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه على الناس “. والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون. 2 – رأي المسلمين في التحريف: المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الاعظم – ص -، وقد صرح بذكل كثير من الاعلام. منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه، وقد عد القول بعدم التحريف من معتقدات الامامية. ومنه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وصرح بذلك في أول تفسيره ” التبيان ” ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى، واستدلاله على ذلك بأتم دليل. ومنهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره ” مجمع البيان “، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه ” كشف الغطاء ” وادعى الاجماع على ذلك ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه ” العروة الوثقى ” ونسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنه المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه (1). ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره ” آلاء الرحمن “.


(1) الوافي ج 5 ص 274، وعلم اليقين ص 130. (*)

[ 201 ]

وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الاعاظم. منهم شيخ المشايخ المفيد، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي، والمحقق القاضي نور الله، وأضرابهم. وممن يظهر منه القول بعدم التحريف: كل من كتب في الامامة من علماء الشيعة وذكر فيه المثالب، ولم يتعرض للتحريف، فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف وغيره. وجملة القول: أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف. نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة، وجمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف. قال الرافعي: فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الاساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شئ، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه (1) وقد نسب الطبرسي في ” مجمع البيان ” هذا القول إلى الحشوية من العامة. أقول: سيظهر لك – بعيد هذا – أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة – عند علماء أهل السنة – يستلزم اشتهار القول بالتحريف. 3 – نسخ التلاوة: ذكر أكثر علماء أهل السنة: أن بعض القرآن قد نسخت تلاوته، وحملوا على ذلك ما ورد في الروايات أنه كان قرآنا على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فيحسن بنا أن نذكر جملة من هذه الروايات، ليتبين أن الالتزام بصحة هذه الروايات التزام بوقوع التحريف في القرآن:


(1) إعجاز القرآن ص 41. (*)

[ 202 ]

1 – روى ابن عباس أن عمر قال فيما قال، وهو على المنبر: ” إن الله بعث محمدا – ص – بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها. فلذا رجم رسول الله – ص – ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال… ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ، من كتاب الله: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو: إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم… ” (1). وذكر السيوطي: أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد. قال: ” أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد… وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها، لانه كان وحده ” (2). أقول: وآية الرجم التي ادعى عمر أنها من القرآن، ولم تقبل منه رويت بوجوه: منها: ” إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم ” ومنها: ” الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، بما قضيا من اللذة ” ومنها، ” إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ” وكيف كان فليس في القرآن الموجود ما يستفاد منه حكم الرجم. فلو صحت الرواية فقد سقطت آية من القرآن لا محالة. 2 – وأخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا: ” القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف ” (3) بينما القرآن الذي


(1) صحيح البخاري ج 8 ص 26 وصحيح مسلم ج 5 ص 116 بلا زيادة ثم إنا. (2) الاتقان ج 1 ص 101 (3) الاتقان ج 1 ص 121. (*)

[ 203 ]

بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه. 3 – وروى ابن عباس عن عمر أنه قال: ” إن الله عز وجل بعث محمدا بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل إليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: كنا نقرأ: ” ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم “، أو: ” إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ” (1). 4 – وروى نافع أن ابن عمر قال: ” ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله ؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر ” (2). 5 – وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: ” كانت سورة الاحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه واله وسلم مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الان ” (3). 6 – وروت حميدة بنت أبي يونس. قالت: ” قرأ علي أبي – وهو ابن ثمانين سنة – في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، وعلى الذين يصلون الصفوف الاول. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف ” (4). 7 – وروى أو حرب ابن أبي الاسود عن أبيه. قال:


(1) مسند أحمد ج 1 ص 47. (2) الاتقان ج 2 ص 40 – 41 (3) نفس المصدر ج 2 ص 40 – 41 (4) الاتقان ج 2 ص 40 – 41.

[ 204 ]

” بعث أبو موسى الاشعري إلا قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل. قد قرأوا القرآن. فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الامد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فانسيتها، غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فانسيتها، غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة ” (1). 8 – وروى زر. قال: قال أبي بن كعب يا زر: ” كأين تقرأ سورة الاحزاب قلت: ثلاث وسبعين آية. قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة… ” (2). 9 – وروى ابن أبي داود وابن الانباري عن ابن شهاب. قال: ” بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وعوه، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب… ” (3) 10 – وروى عمرة عن عائشة أنها قالت: ” كان فيما انزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحر من ثم نسخن ب‍: خمس معلومات، فتوفي رسول الله – ص – وهو فيما يقرأ من القرآن ” (4). 11 – وروى المسور بن مخرمة. قال:


(1) صحيح مسلم ج 3 ص 100. (2) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 2 ص 43. (3) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 2 ص 50. (4) صحيح مسلم ج 4 ص 167. (*)

[ 205 ]

” قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا. أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فإنا لا تجدها. قال: اسقطت فيما اسقط من القرآن ” (1). 12 – وروى أبو سفيان الكلاعي: أن مسلمة بن مخلد الانصاري قال لهم ذات يوم: ” أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ” (2). وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخقع والحفد في مصحف ابن عباس وأبي بن كعب ” اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق “. وغير ذلك مما لا يهمنا استقصاؤه (3). وغير خفي أن القول بنسخ التلاوة بعينه القول بالتحريف والاسقاط. وبيان ذلك: أن نسخ التلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول الله – ص – وإما أن يكون ممن تصدى للزعامة من بعده، فإن أراد القائلون


(1) الاتقان ج ص 42. (2) نفس المصدر السابق. (3) الاتقان ج 1 ص 122 – 213. (*)

[ 206 ]

بالنسخ وقوعه من رسول الله – ص – فهو أمر يحتاج إلى الاثبات. وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرح بذلك جماعة في كتب الاصول وغيرها (1) بل قطع الشافعي وأكثر أصحباه، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه (2) وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبي – ص – بأخبار هؤلاء الرواة ؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبي – ص – تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الاسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدوا للزعامة بعد النبي – ص – فهو عين القول بالتحريف. وعلى ذلك فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة، لانهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردد الاصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز أن يمسه المحدث. واختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة (3). ومن العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم حتى أن الالوسي كذب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية، وقال: ” إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب إلى ذلك “، واعجب من ذلك أنه ذكر أن قول البرسي بعدم التحريك نشأ من ظهور فساد قول أصحابه بالتحريف، فالتجأ هو إلى إنكاره (4) مع انك ققد عرفت أن القول بعدم التحريك هو المشهور. بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم، حتى


(1) الموافقات لابي اسحاق الشاطبي ج 3 ص 106 طبعة المطبعة الرحمانية بمصر. (2) الاحكام في اصول الاحكام للامدي ج 3 ص 217. (3) نفس المصدر ج 3 ص 201 – 203. (4) روح المعاني ج 1 ص 24.

[ 207 ]

أن الطبرسي قد نقل كلام المرتضى بطوله، واستدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتم بيان وأقوى حجة (1). التحريف والكتاب: والحق. بعد هذا كله ان التحريف ” بالمعنى الذي وقع النزاع فيه ” غير واقع في القرآن أضلا بالادلة التالية: الدليل الاول – قوله تعالى: ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون 15: 9 “. فإن في هذه الاية دلالة على حفظ القرآن من التحريف، وأن الايدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه. والقائلون بالتحريف قد أولوا هذه الاية الشريفة، وذكروا في تأويلها وجوها: الاول: ” أن الذكر هو الرسول ” فقد ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى: ” قد أنزل الله إليكم ذكرا 65: 10. رسولا يتلوا عليكم آيات الله: 11 “. وهذا الوجه بين الفساد: لان المراد بالذكر هو القرآن في كلتا الايتين بقرينة التعبير ” بالتنزيل والانزال ” ولو كان المراد هو الرسول لكان المناسب أن يأتي


(1) مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب ص 15. (*)

[ 208 ]

بلفظ ” الارسال ” أو بما يقاربه في المعنى، على ان هذا الاحتمال إذ تم في الاية التانية فلا يتم في آية الحفظ، فإنها مسبوقة بقوله تعالى: ” وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون 15: 6 “. ولا شبهة في أن المراد بالذكر في هذه الاية هو القرآن، فتكون قرينة على أن المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن أيضا. الثاني: ” أن يراد من حفظ القرآن صيانته عن القدح فيه، وعن إبطال ما يتضمنه من المعاني العالية، والتعاليم الجليلة “. وهذا الاحتمال أبين فساد من الاول: لان صيانته عن القدح إن أريد بها حفظه من قدح الكفار والمعاندين فلا ريب في بطلان ذلك، لان قدح هؤلاء في القرآن فوق حد الاحصاء. وان أريد أن القرآن رصين المعاني، قوي الاستدلال مستقيم الطريقة، وأنه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاما من أن يصل إليه قدح القادحين، وريب المرتابين فهو صحيح ولكن هذه ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الاية، لان القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه، وليس محتاجا إلى حافظ آخر، وهو غير مفاد الاية الكريمة، لانها تضمنت حفظه بعد التنزيل. الثالث: ” أن الاية دلت على حفظ القرآن في الجملة، ولم تدل على حفظ كل فرد من أفراد القرآن، فإن هذا غير مراد من الاية بالضرورة وإذا كان المراد حفظه في الجملة، كفى في ذلك حفظه عند الامام الغائب عليه السلام “. وهذا الاحتمال أوهن الاحتمالات: لان حفظ القرآن يجب أن يكون عند من انزل إليهم وهم عامة البشر، أما حفظه عند الامام عليه السلام فهو نظير حفظه في


[ 209 ]

اللوح المحفوظ، أو عند ملك من الملائكة، وهو معنى تافه يشبه قول القائل: إني أرسلت اليك بهدية وأنا حافظ لها عندي، أو عند بعض خاصتي. ومن الغريب قول هذا القائل إن المراد في الاية حفظ القرآن في الجملة، لا حفظ كل فرد من أفراده، فكأنه توهم أن المراد بالذكر هو القران المكتوب، أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة، ومن الواضح أن المراد ليس ذلك، لان القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجا، فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ وإنما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والمراد بحفظه صيانته عن التلاعب، وعن الضياع، فيمكن للبشر عامة أن يصلوا إليه، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة، فإنا نريد من حفظها صيانتها، وعدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها. نعم هنا شبهة اخرى ترد على الاستدلال بالاية الكريمة على عدم التحريف. وحاصل هذه الشبهة أن مدعي التحريف في القرآن يحتمل وجود التحريف في هذه الاية نفسها، لانها بعض آيات القرآن، فلا يكون الاستدلال بها صحيحا حتى يثبت عدم التحريف، فلو أردنا أن نثبت عدم التحريف بها كان ذلك من الدور الباطل. وهذه شبهة تدل على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الالهية، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم، فإنه لا يسعه دفع هذه الشبهة، وأما من يرى أنهم حجج الله على خلقه، وأنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك فلا ترد عليه هذه الشبهة، لان استدلال العترة بالكتاب، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجية الكتاب الموجود، وإن قيل بتحريفه، غاية الامر أن حجية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقفة على إمضائهم. (البيان – 14)


[ 210 ]

الدليل الثاني قوله تعالى: ” وإنه لكتاب عزيز 41: 41. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: 42 “. فقد دلت هذه الاية الكريمة على نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب فإن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم، ولا شبهة في أن التحريف من أفراد الباطل، فيجب أن لا يتطرق إلى الكتاب العزيز. وقد أجيب عن هذا الدليل: بأن المراد من الاية صيانة الكتاب من التناقض في أحكامه، ونفي الكذب عن أخباره، واستشهد لذلك برواية علي بن إبراهيم القمي، في تفسيره عن الامام الباقر عليه السلام قال: ” لا يأتيه الباطل من قبل التوراة، ولا من قبل الانجيل، والزبور، ولا من خلفه أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله ” ورواية مجمع البيان عن الصادقين – ع – أنه: ” ليس في اخباره عما مضى باطل، ولا في اخباره عما يكون في المستقبل باطل “. ويرد هذا الجواب: أن الرواية لا تدل على حصر الباطل في ذلك، لتكون منافية لدلالة الاية على العموم، وخصوصا إذا لا حظنا الروايات التي دلت على أن معاني القرآن لا تختص بموارد خاصة، وقد تقدم بعض هذه الروايات في مبحث ” فضل القرآن ” فالاية دالة على تنزيه القرآن في جميع الاعصار عن الباطل بجميع أقسامه، والتحريف من أظهر أفراد الباطل فيجب أن يكون مصونا عنه، ويشهد لدخول التحريف في الباطل، الذي نفته الاية عن الكتاب أن الاية وصفت الكتاب


[ 211 ]

بالعزة وعزة الشئ تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع، أما إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل في الاية الكريمة، فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزة. التحريف والسنة: الدليل الثالث: أخبار الثقلين اللذين خلفهما النبي صلى الله عليه واله وسلم في أمته وأخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وأمر الامة بالتمسك بهما، وهما الكتاب والعترة. وهذه الاخبار متظافرة من طرق الفريقين (1) والاستدال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون من ناحيتين: الناحية الاولى: أن القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسك بالكتاب المنزل لضياعه على الامة بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باق إلى يوم القيام: لصريح أخبار الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلا جزما. وتوضيح ذلك: أن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب، وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلا بد من وجود شخص يكون قرينا الكتاب ولا بد من وجود الكتاب ليكون قرينا للعترة، حتى يردا على النبي الحوض، وليكون التمسك بهما حفظا للامة عن الضلال، كما يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم في هذه الحديث. ومن الضروري أن التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم، واتباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم، وهذا شئ لا يتوقف على الاتصال بالامام، والمخاطبة معه شفها، فإن الوصول إلى الامام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان


(1) تقدمت الاشارة إلى مصادر هذه الاخبار في ص 26 من هذا الكتاب. (*)

[ 212 ]

الحضور، فضلا عن أزمنة الغيبة، واشتراط إمكان الوصول إلى الامام عليه السلام لبعض الناس دعوى بلا برهان ولا سبب يوجب ذلك، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه ويتبعون أوامره، ومن هذه الاوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يمكن إلا بالوصول إليه، فلا بد من كونه موجودا بين الامة، ليمكنها أن تتمسك به، لئلا تقع في الضلال، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الامام الغائب، فإن وجوده الواقعي لا يكفى لتمسك الامة به. وقد أشكل على هذا الدليل: بأن أخبار الثقلين إنما تدل على نفي التحريف في آيات الاحكام من القرآن، لانها هي التي أمر الناس بالتمسك بها، فلا تنفي وقوع التحريف في الايات الاخرى منه. وجوابه: أن القرآن بجميع آياته مما أنزله الله لهداية البشر، وإرشادهم إلى كمالهم الممكن من جميع الجهات، ولا فرق في ذلك بين آيات الاحكام وغيرها، وقد قدمنا في بيان فضل القرآن أن ظاهر القرآن قصة وباطنه عظة، على أن عمدة القائلين بالتحريف يدعون وقوع التحريف في الايات التي ترجع إلى الولاية وما يشبهها ومن البين أنها لو ثبت كونها من القرآن، لوجب التمسك بها على الامة. الناحية الثانية: أن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية، فلا يتمسك بظواهره، فلا بد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى إمضاء الائمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا، وإقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه، ومعنى هذا: أن حجية الكتاب الموجود متوقفة على إمضاء الائمة للاستدلال به، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما، بل هو الثقل


[ 213 ]

الاكبر، فلا تكون حجيته فرعا على حجية الثقل الاصغر، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية – على القول بالتحريف – هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها، أما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط، فإن الدليل على هذا الاصل هو بناء العقلاء على اتباع الظهور، وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه، وقد أوضحنا في مباحث الاصول أن القدر الثابت من البناء العقلائي، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة، ولا باحتمال القرية المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان، أو غفلة السامع عن الاستفادة، أما احتمال وجود القرينة المتصلة من غير هذين السببين، فإن العقلاء يتوقفون عن اتباع الظهور معه، ومثال ذلك: ما إذا ورد على إنسان كتاب ممن يجب عليه طاعته يأمره فيه بشراء دار، ووجد بعض الكتاب تالفا، واحتمل أن يكون في هذا البعض التالف بيان لحصوصيات في الدار التي أمر بشرائها من حيث السعة والضيق، أو من حيث القيمة أو المحل، فإن العقلاء لا يتمسكون بإطلاق الكلام الموجود، اعتمادا على أصالة عدم القرينة المتصلة ولا يشترون أية دار امتثالا لامر هذا الامر، ولا يعدون من يعمل مثل ذلك ممتثلا لامر سيده. ولعل القارئ يذهب به وهمه بعيدا، فيقول: إن هذا التقريب يهدم أساس الفقه، واستنباط الاحكام الشرعية، لان العمدة فإن أدلتها هي الاخبار المروية عن المعصومين – عليهم السلام – ومن المحتمل أن تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متصلة، ولم تنقل الينا. ولو تأمل قليلا لم يستقر في ذهنه هذا التوهم، فإن المتبع في مقام الاخبار، هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتصلة، فإن اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متصلا بقرينة، واحتمال غفلته عنها مدفوع بالاصل. نعم إن القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسك بظواهر القرآن، ولا


[ 214 ]

يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العلم الاجمالي باختال الظواهر في بعض الايات، حتى يجاب عنه بأن وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الاجمالي المذكور، وبأن هذا العلم الاجمالي لا ينجز، لان بعض أطرافه ليس من آيات الاحكام، فلا يكون له أثر في العمل، والعلم الاجمالي إنما ينجز إذا كان له أثر عملي في كل طرف من أطرافه. وقد يدعي القائل بالتحريف: أن إرشاد الائمة المعصومين – عليهم السلام – إلى الاستدلال بظواهر الكتاب، وتقرير أصحابهم عليه قد أثبت الحجية للظواهر، وإن سقطت قبل ذلك بسبب التحريف. ولكن هذه الدعوى فاسدة، فإن هذا الارشاد من الائمة المعصومين عليهم السلام، وهذا التقرير منهم لاصحابهم على التمسك بظواهر القرآن، إنما هو من جهة كون القرآن في نفسه حجة مستقلة، لا أنهم يريدون إثبات الحجية له بذلك ابتداء. ترخيص قراءة السور في الصلاة: الدليل الرابع: انه قد أمر الائمة من أهل البيت – ع – بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الاوليين من الفريضة، وحكموا بجواز تقسيم سورة تامة أو أكثر في صلاة الايات، على تفصيل مذكور في موضعه. ومن البين أن هذه الاحكام إنما ثبتت في أصل الشريعة بتشريع الصلاة وليس للتقية فيها أثر، وعلى ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف أن لا يأتوا بما يحتمل فيه التحريف من السور، لان الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. وقد يدعي القائل بالتحريف أنه غير متمكن من إحراز السورة التامة، فلا تجب عليه، لا الاحكام إنما تتوجه إلى المتمكنين، وهذه الدعوى إنما تكون مسلمة إذا احتمل وقوع التحريف في جميع السور.


[ 215 ]

أما إذا كان هناك سورة لا يحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد، فاللازم عليه أن لا يقرأ غيرها، ولا يمكن للخصم أن يجعل ترخيص الائمة – ع – للمصلي بقراءة أية سورة شاء دليلا على الاكتفاء بما يختاره من السور، وإن لم يجز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف، فإن هذا الترخيص من الائمة – ع – بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن وإلا لكان مستلزما لتفويت الصلاة الواجبة على المكلف بدون سبب موجب فإن من البين أن الالزام بقراءة السور، التي لم يقع فيها تحريف ليس فيه مخالفة للتقية، ونرى أنهم عليهم السلام أمرونا بقراءة سورة ” القدر والتوحيد ” في كل صلاة استحبابا، فأي مانع من الالزام بهما، أو بغيرهما مما لا يحتمل وقوع التحريف فيه. اللهم إلا أن يدعي نسخ وجوب قراءة السورة التامة إلى وجوب قراءة سورة تامة من القرآن الموجود، ولا أظن القائل بالتحريف يلتزم بذلك، لان النسخ لم يقع بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم قطعا، وان كان في إمكانه وامتناعه كلام بين العلماء، وهذا خارج عما نحن بصدده. وجملة القول انه لا ريب في أمر أهل البيت – ع – بقراءة سورة من القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة، وهذا الحكم الثابت من دون ريب ولا شائبة تقية إما أن يكون هو نفس الحكم الثابت في زمان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وإما أن يكون غيره، وهذا الاخير باطل لانه من النسخ الذي لا ريب في عدم وقوعه بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم وإن كان أمرا ممكنا في نفسه، فلا بد وأن يكون ذلك هو الحكم الثابت على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومعنى ذلك عدم التحريف. وهذا الاستدلال يجري في كل حكم شرعي، رتبه أهل البيت عليهم السلام على قراءة سورة كاملة، أو آية تامة. دعوى وقوع التحريف من الخلفاء: الدليل الخامس: أن القائل بالتحريف إما أن يدعي وقوعه من الشيخين،


[ 216 ]

بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله وسلم وإما من عثمان بعد انتهاء الامر إليه، وإما من شخص آخر بعد انتهاء الدور الاول من الخلافة، وجميع هذه الدعاوى باطلة. أما دعوى وقوع التحريف من أبي بكر وعمر، فيبطلها انهما في هذا التحريف إما أن يكونا غير عامدين، وإنما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن اليهما بتمامه، لانه لم يكن مجموعا قبل ذلك، وإما أن يكونا متعمدين في هذا التحريف، وإذا كانا عامدين فإما أن يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمس بزعامتهما وإما أن يكون في آيات ليس لها تعلق بذلك، فالاحتمالات المتصورة ثلاثة: أما احتمال عدم وصول القرآن اليهما بتمامه فهو ساقط قطعا، فإن اهتمام النبي – ص – بأمر القرآن بحفظه، وقراءته، وترتيل آياته، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله – ص – وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظا عندهم، جمعا أو متفرقا، حفظا في الصدور، أو تدوينا في القراطيس، وقد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز، الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته، وإعلان أحكامه، وهجروا في سبيله أوطانهم، وبذلوا أموالهم، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ، وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن ؟ حتى يضيع بين الناس، وحتى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدين ؟ وهل هذا إلا كاحتمال الزيادة في القرآن بل كاحتمال عدم بقاء شئ من القرآن المنزل ؟. على أن روايات الثقلين المتظافرة ” المتقدمة ” دالة على بطلان هذا الاحتمال، فإن قوله – ص -: ” إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي ” لا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعا في عصره، فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن، وجمعه في زمان النبي – ص – لان الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات، ولا على المحفوظ في الصدور. – وسنتعرض للكلام فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم -، وإذا سلم عدم اهتمام المسلمين بجمع القرآن على عهده – صلى الله عليه واله وسلم –


[ 217 ]

فلماذا لم يهتم بذلك النبي – صلى الله عليه واله وسلم – بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمر القرآن ؟ فهل كان غافلا عن نتائج هذا الاغفال، أو كان غير متمكن من الجمع، لعدم تهيؤ الوسائل عنده ؟ ! ومن الواضح بطلان جميع ذلك. وأما احتمال تحريف الشيخين للقرآن – عمدا – في الايات التي لا تمس بزعامتهما، وزعامة أصحابهما فهو بعيد في نفسه، إذ لا غرض لهما في ذلك، على أن ذلك مقطوع بعدمه، وكيف يمكن وقوع التحريف منهما مع أن الخلافة كانت مبتنية على السياسة، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ؟ وهلا احتج بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما، والمعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة وأصحابه ؟ وهلا ذكر ذلك أمير الؤمنين – عليه – في خطبته الشقشقية المعروفة، أو في غيرها من كلماته التي اعترض بها على من تقدمه ؟ ولا يمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك، واختفاء ذلك عنا، فإن هذه الدعوى واضحة البطلان. وأما احتمال وقوع التحريف من الشيخين عمدا، في آيات تمس بزعمامتهما فهو أيضا مقطوع بعدمه، فإن أمير المؤمنين – عليه السلام – وزوجته الصديقة الطاهرة – عليها السلام – وجماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة، واحتجوا عليهما بما سمعوا من النبي – ص – واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والانصار، واحتجوا عليه بحديث الغدير وغيره، وقد ذكر في كتاب الاحتجاج: احتجاج اثني عشر رجلا على أبي بكر في الخلافة، وذكروا له النص فيها، وقد عقد العلامة المجلسي بابا لا حتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في أمر الخلافة (1)، ولو كان في القرآن شئ يمس زعامتهم لكان أحق بالذكر في مقام الاحتجاج، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين، ولا سيما أن أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير، ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أول


(1) بحار الانوار ج 8 ص 79. (*)

[ 218 ]

أمر الخلافة وبعد انتهائها إلى علي – عليه السلام – دلالة قطعية على عدم التحريف المذكور. وأما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الاولى: 1 – لان الاسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئا، ولا في إمكان من وأكبر شأنا من عثمان. 2 – ولان تحريفه إن كان للايات التي لا ترجع إلى الولاية، ولا تمس زعامة سلفه بشئ، فهو بغير سبب موجب، وإن كان للايات التي ترجع إلى شئ من ذلك فهو مقطوع بعدمه، لان القرآن لو اشتمل على شئ من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان. 3 – ولانه لو كان محرفا للقرآن، لكان في ذلك أوضح حجة، وأكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علنا، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين، وإلى ما سوى ذلك من الحجج. 4 – ولكان من الواجب على علي – عليه السلام – بعد عثمان أن يرد القرآن إلى أصله، الذي كان يقرأ به في زمان النبي – ص – وزمان الشيخين ولم يكن عليه في ذلك شئ ينتقد به، بل ولكان ذلك أبلغ أثرا في مقصوده وأظهر لحجته على التائرين بدم عثمان، ولا سيما أنه – عليه السلام – قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان. وقال في خطبة له: ” والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ” (1).


(1) نهج البلاغة: فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان. (*)

[ 219 ]

هذا أمر علي في الاموال، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرفا، فيكون إمضاؤه – عليه السلام – للقرآن الموجود في عصره، دليلا على عدم وقوع التحريف فيه. وأما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدعها أحد فيما نعلم، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف، فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم، وزاد فيه ما لم يكن منه، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر، والشام، والحرمين، والبصرة والكوفة، وإن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف. وأما المصاحف الاخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئا ولا نسخة واحدة (1). وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين، وخرافات المجانين والاطفال، فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية، وهو أقصر باعا، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشئ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الاسلامية، فكيف يغير ما هو أساس الدين، وقوام الشريعة ؟ ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الاسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها ؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الاهمية، وكثرة الدواعي إلى نقله، وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته، وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج، وانتهاء سلطته ؟. وهب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها، ولم تشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة، فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القران ؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله، على أن القرآن لو كان في بعض آياته شئ يمس بني أمية، لاهتم معاوية بإسقاطه قبل


(1) مناهل العرفان ص 257. (*)

[ 220 ]

زمان الحجاج وهو أشد منه قدرة، وأعظم نفوذا، ولاستدل به أصحاب علي – عليه السلام – على معاوية، كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ، وكتب الحديث والكلام، وبما قدمناه للقارئ، يتضح له أن من يدعي التحريف يخالف بداهة العقل، وقد قيل في المثل: حدث الرجل بما لا يليق، فإن صدق فهو ليس بعاقل. شبهات القائلين بالتحريف: وهنا شبهات يتشبث بها القائلون بالتحريف لا بد لنا من التعرض لها ودفعها واحدة واحدة: الشبهة الاولى: أن التحريف قد وقع في التوراة والانجيل، وقد ورد في الروايات المتواترة من طريقي الشيعة والسنة: أن كل ما وقع في الامم السابقة لا بد وأن يقع مثله في هذه الامة، فمنها ما رواه الصدوق في ” الاكمال ” عن غياث بن ابراهيم، عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: كل ما كان في الامم السالفة، فإنه يكون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة ” (1). ونتيجة ذلك: أن التحريف لا بد من وقوعه في القرآن، وإلا لم يصح معنى هذه الاحاديث.


(1) البحار باب افتراق الامة بعد النبي – ص – على ثلاث وسبعين فرقة ج 8 ص 4. وقد تقدم بعض مصادر هذا الحديث من طرق أهل السنة في ما تقدم من هذا الكتاب. (*)

[ 221 ]

والجواب عن ذلك: أولا: أن الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا، ودعوى التواتر فيها جزافية لا دليل عليها، ولم يذكر من هذه الروايات شئ في الكتب الاربعة، ولذلك فلا ملازمة بين وقوع التحريف في التوراة ووقوعه في القرآن. ثانيا: أن هذا الدليل لو تم لكان دالا على وقوع الزيادة في القرآن أيضا، كما وقعت في التوراة والانجيل، ومن الواضح بطلان ذلك. ثالثا: أن كثيرا من الوقائع التي حدثت في الامم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الامة، كعبادة العجل، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة، وغرق فرعون وأصحابه، وملك سليمان للانس والجن، ورفع عيسى إلى السماء وموت هارون وهو وصي موسى قبل موت موسى نفسه، وإتيان موسى بتسع آيات بينات، وولادة عيسى من غير أب، ومسخ كثير من السابقين قردة وخنازير، وغير ذلك مما لا يسعنا إحصاؤه، وهذا أدل دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات، فلا بد من إرادة المشابهة في بعض الوجوه. وعلى ذلك فيكفي في وقوع التحريف في هذه الامة عدم اتباعهم لحدود القرآن، وإن أقاموا حروفه كما في الرواية التي تقدمت في صدر البحث، ويؤكد ذلك ما رواه أبو واقد الليثي: ” أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ” (1) فإن هذه الرواية صريحة في أن الذي يقع في هذه الامة، شبيه بما وقع في تلك الامم من بعض الوجوه.


(1) صحيح الترمذي، باب ما جاء لتركبن سنن من قبلكم ج 9 ص 26. (*)

[ 222 ]

رابعا: لو سلم تواتر هذه الروايات في السند، وصحتها في الدلالة، لما ثبت بها أن التحريف قد وقع فيما مضى من الزمن، فلعله يقع في المستقبل زيادة ونقيصة، والذي يظهر من رواية البخاري تحديده بقيام الساعة، فكيف يستدل بذلك على وقوع التحريف في صدر الاسلام، وفي زمان الخلفاء. الشبهة الثانية: أن عليا عليه السلام كان له مصحف غير المصحف الموجود، وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه، وأن مصحفه عليه السلام كان مشتملا على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بأيدينا، ويترتب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين علي عليه السلام وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه، والروايات الدالة على ذلك كثيرة: منها ما في رواية احتجاج علي عليه السلام على جماعة من المهاجرين والانصار أنه قال: ” يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه واله وسلم عندي باملاء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه واله وسلم وكل حلال، أو حرام، أو حد أو حكم، أو شئ تحتاح إليه الامة إلى يوم القيامة، فهو عندي مكتوب باملاء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخط يدي، حتى أرش الخدش… ” (1) ومنها ما في احتجاجه عليه السلام على الزنديق من أنه:


(1) مقدمة تفسير البرهان ص 27. وفي هذه الرواية تصريح بأن ما في القرآن الموجود كله قرآن. (*)

[ 223 ]

” أتى بالكتاب كملا مشتملا على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام فلم يقبلوا ذلك ” (1). ومنها ما رواه في الكافي، بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله، ظاهره وباطنه غير الاوصياء ” (2). وبإسناده عن جابر. قال: ” سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والائمة من بعده عليهم السلام ” (3). والجواب عن ذلك: أن وجود مصحف لامير المؤمنين – عليه السلام – يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه، وتسالم العلماء الاعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لاثباته، كما أن اشتمال قرآنه – عليه السلام – على زيادات ليست في القرآن الموجود، وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن، وقد أسقطت منه بالتحريف، بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحا للمراد.


(1) تفسير الصافي المقدمة السادسة ص 11. (2) الوافي ج 2 كتاب الحجة باب 76 ص 130. (3) نفس المصدر. (*)

[ 224 ]

وأن هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل والتنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا، وإطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ، حملا له على خلاف ظاهره، إلا أن هذين الاطلاقين من الاصطلاحات المحدثة، وليس لهما في اللغة عين ولا أثر ليحمل عليهما هذان اللفظان ” التنزيل والتأويل ” متى وراد في الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام. وإنما التأويل في اللغة مصدر مزيد فيه، وأصله ” الاول – بمعنى الرجوع “. ومنه قولهم: ” أول الحكم إلى أهله أي رده إليهم “. وقد يستعمل التأويل ويراد منه العاقبة، وما يؤول إليه الامر. وعلى ذلك جرت الايات الكريمة: ” ويعلمك من تأويل الاحاديث 12: 6. نبئنا بتأويله: 36. هذا تأويل رؤياي: 100. ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا 18: 82 “. وغير ذلك من موارد استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم، وعلى ذلك فالمراد بتأويل القرآن ما يرجع إليه الكلام، وما هو عاقبته، سواء أكان ذلك ظاهرا يفهمه العارف باللغة العربية، أم كان خفيا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم. وأما التنزيل فهو أيضا مصدر مزيد فيه، وأصله النزول، وقد يستعمل ويراد به ما نزل، ومن هذا القبيل إطلاقه على القرآن في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:


[ 225 ]

” إنه لقرآن كريم 56: 77. في كتاب مكنون: 78. لا يمسه إلا المطهرون: 79. تنزيل من رب العالمين: 80 “. وعلى ما ذكرناه فليس كل ما نزل من الله وحيا يلزم أن يكون من القرآن، فالذي يستفاد من الروايات في هذا المقام أن مصحف علي – عليه السلام – كان مشتملا على زيادات تنزيلا أو تأويلا. ولا دلالة في شئ من هذه الروايات على أن تلك الزيادات هي من القرآن. وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذكر أسماء المنافقين في مصحف أمير المؤمنين – عليه السلام – فإن ذكر أسمائهم لا بد وأن يكون بعنوان التفسير. ويدل على ذلك ما تقدم من الادلة القاطعة على عدم سقوط شئ من القرآن، أضف إلى ذلك أن سيرة النبي – ص – مع المنافقين تأبى ذلك فإن دأبة تأليف قلوبهم، والاسرار بما يعلمه من نفاقهم، وهذا واضح لمن له أدنى اطلاع على سيرة النبي صلى الله عليه واله وسلم وحسن أخلاقه، فكيف يمكن أن يذكر أسماءهم في القرآن، ويأمرهم بلعن أنفسهم، ويأمر سائر المسلمين بذلك ويحثهم عليه ليلا ونهارا، وهل يحتمل ذلك حتى ينظر في صحته وفساده أو يتمسك في إثباته بما في بعض الروايات من وجود أسماء جملة من المنافقين في مصحف علي عليه السلام وهل يقاس ذلك بذكر أبي لهب المعلن بشركه، ومعاداته النبي صلى الله عليه واله وسلم مع علم النبي بأنه يموت على شركه. نعم لا بعد في ذكر النبي صلى الله عليه واله وسلم أسماء المنافقين لبعض خواصه كأمير المؤمنين عليه السلام وغيره في مجالسه الخاصة. وحاصل ما تقدم: أن وجود الزيادات في مصحف علي عليه السلام وإن كان صحيحا، إلا أن هذه الزيادات ليست من القرآن، ومما أمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (البيان – 15)


[ 226 ]

بتبليغه إلى الامة، فإن الالتزام بزيادة مصحفه بهذا النوع من الزيادة قول بلا دليل، مضافا إلى أنه باطل قطعا. ويدل على بطلانه جميع ما تقدم من الادلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن. الشبهة الثالثة: أن الروايات المتواترة عن أهل البيت – ع – قد دلت على تحريف القرآن فلا بد من القول به: والجواب: أن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه، وتوضيح ذلك: أن كثيرا من الروايات، وإن كانت ضعيفة السند، فإن جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري، الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه، وأنه يقول بالتناسخ، ومن علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب، وأنه فاسد المذهب إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها. عرض روايات التحريف: علينا أن نبحث عن مداليل هذه الروايات، وإيضاح أنها ليست متحدة في المفاد، وأنها على طوائف. فلا بد لنا من شرح ذلك والكلام على كل طائفة بخصوصها. الطائفة الاولى: هي الروايات التي دلت على التحريف بعنوانه، وانها تبلغ عشرين رواية، نذكر جملة منها ونترك ما هو بمضمونها. وهي: 1 – ما عن علي بن إبراهيم القمي، بإسناده عن أبي ذر. قال:


[ 227 ]

” لما نزلت هذه الاية: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ترد أمتي علي يوم القيامة على خمس رايات. ثم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين. فتقول الراية الاولى: أما الاكبر فحرفناه، ونبذناه وراء ظهورنا، وأما الاصغر فعاديناه، وأبغضناه، وظلمناه. وتقول الراية الثانية: أما الاكبر فحرفناه، ومزقناه، وخالفناه، وأما الاصغر فعاديناه وقاتلناه… “. 2 – ما عن ابن طاووس، والسيد المحدث الجزائري، باسنادهما عن الحسن ابن الحسن السامري في حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لحذيفة فيما قاله في من يهتك الحرم: ” إنه يضل الناس عن سبيل الله، ويحرف كتابه، ويغير سنتي “. 3 – ما عن سعد بن عبد الله القمي، باسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” دعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بمنى. فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين – أما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي – والكعبة البيت الحرام ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما كتاب الله فحرفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرأوا “. 4 – ما عن الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبي قال: ” يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف،


[ 228 ]

والمسجد، والعترة. يقول المصحف يا رب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة يا رب قتلونا، وطردونا، وشردونا… “. 5 – ما عن الكافي والصدوق، باسنادهما عن علي بن سويد. قال: ” كتبت إلى أبي الحسن موسى صلى الله عليه واله وسلم وهو في الحبس كتابا إلى أن ذكر جوابه عليه السلام بتمامه، وفيه قوله عليه السلام اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه “. 6 – ما عن ابن شهراشوب، باسناده عن عبد الله في خطبة أبي عبد الله الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، وفيها: ” إنما أنتم من طواغيت الامة، وشذاذ الاحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الاثام، ومحرفي الكتاب “. 7 – ما عن كامل الزيارات، باسناده عن الحسن بن عطية، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إذا دخلت الحائر فقل: اللهم العن الذين كذبوا رسلك، وهدموا كعبتك، وحرفوا كتابك… “. 8 – ما عن الحجال عن قطبة بن ميمون عن عبد الاعلى. قال: ” قال أبو عبد الله عليه السلام أصحاب العربية يحرفون كلام الله عز وجل عن مواضعه “.


[ 229 ]

المفهوم الحقيقي للروايات: والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: أن الظاهر من الرواية الاخيرة تفسير التحريف باختلاف القراء، وإعمال اجتهاداتهم في القراءات. ومرجع ذلك إلى الاختلاف في كيفية القراءة مع التحفظ على جوهر القرآن وأصله وقد أوضحنا للقارئ في صدر المبحث أن التحريف بهذا المعنى مما لا ريب في وقوعه، بناء على ما هو الحق من عدم تواتر القراءات السبع، بل ولا ريب في وقوع هذا التحريف، بناء على تواتر القراءات السبع أيضا، فإن القراءات كثيرة، وهي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة. فهذه الرواية لا مساس لها بمراد المستدل. وأما بقية الروايات، فهي ظاهرة في الدلالة على أن المراد بالتحريف حمل الايات على غير معانيها، الذي يلازم إنكار فضل أهل البيت – عليهم السلام – ونصب العداوة لهم وقتالهم. ويشهد لذلك – صريحا – نسبة التحريف إلى مقاتلي أبي عبد الله – عليه السلام – في الخطبة المتقدمة. ورواية الكافي التي تقدمت في صدر البحث، فإن الامام الباقر – عليه السلام – يقول فيها: ” وكان من نبذهم الكتاب أنهم أقاموا حروفه، وحرفوا حدوده “. وقد ذكرنا أن التحريف بهذا المعنى واقع قطعا، وهو خارج عن محل النزاع، ولولا هذا التحريف لم تزل حقوق العترة محفوظة، وحرمة النبي فيهم مرعية، ولما انتهى الامر إلى ما انتهى إليه من اهتضام حقوقهم وإيذاء النبي – ص – فيهم. الطائفة الثانية: هي الروايات التي دلت على أن بعض الايات المنزلة من القرآن قد ذكرت فيها أسماء الائمة – عليهم السلام – وهي كثيرة:


[ 230 ]

منها: ما ورد من ذكر أسماء الائمة – عليهم السلام – في القرآن، كرواية الكافي بإسناده عن محمد بن الفضيل بن أبي الحسن – عليه السلام – قال: ” ولاية علي بن أبي طالب مكتوبة في جميع صحف الانبياء، ولن يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد و ” ولاية ” وصيه، صلى الله عليهما وآلهما “. ومنها: رواية العياشي بإسناده عن الصادق عليه السلام: ” لو قرئ القرآن – كما أنزل – لالفينا مسمين “. ومنها: رواية الكافي، وتفسير العياشي عن أبي جعفر – عليه السلام – وكنز الفوائد بأسانيد عديدة عن ابن عباس، وتفسير فرات بن إبراهيم الكوفي بأسانيد متعددة أيضا، عن الاصبغ بن نباتة. قالوا: قال أمير المؤمنين – عليه السلام -: ” القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن “. ومنها: رواية الكافي أيضا بإسناده عن أبي جعفر – عليه السلام – قال: ” نزل جبرئيل بهذه الاية على محمد – ص – هكذا: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا – في علي – فأتوا بسورة من مثله “. والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: أنا قد أوضحنا فيما تقدم أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه، فلا بد من حمل هذه الروايات على أن ذكر أسماء الائمة – عليهم السلام – في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من


[ 231 ]

طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب، والسنة، والادلة المتقدمة على نفي التحريف. وقد دلت الاخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنة وأن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه، وضربه على الجدار. ومما يدل على أن اسم أمير المؤمنين عليه السلام لم يذكر صريحا في القرآن حديث الغدير، فإنه صريح في أن النبي – ص – إنما نصب عليا بأمرالله، وبعد أن ورد عليه التأكيد في ذلك، وبعد أن وعده الله بالعصمة من الناس، ولو كان اسم ” علي ” مذكورا في القرآن لم يحتج إلى ذلك النصب، ولا إلى تهيئة ذلك الاجتماع الحافل بالمسلمين، ولما خشي رسول الله – ص – من إظهار ذلك، ليحتاج إلى التأكيد في أمر التبليغ. وعلى الجملة: فصحة حديث الغدير توجب الحكم بكذب هذه الروايات التي تقول: إن أسماء الائمة مذكورة في القرآن ولا سيما أن حديث الغدير كان في حجة الوداع التي وقعت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه واله وسلم ونزول عامة القرآن، وشيوعه بين المسلمين، على أن الرواية الاخيرة المروية في الكافي مما لا يحتمل صدقه في نفسه، فإن ذكر اسم علي عليه السلام في مقام إثبات النبوة والتحدي على الاتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال. ويعارض جميع هذه الروايات صحيحة أبي بصير المروية في الكافي. قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى: ” وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم 4: 59 “. ” قال: فقال نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين – ع – فقلت له: إن الناس يقولون فما له لم


[ 232 ]

يسم عليا وأهل بيته في كتاب الله. قال عليه السلام: فقولوا لهم إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا، ولا أربعا، حتى كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هو الذى فسر لهم ذلك… ” (1). فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات، وموضحة للمراد منها، وأن ذكر اسم أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الروايات قد كان بعنوان التفسير، أو بعنوان التنزيل، مع عدم الامر بالتبليغ. ويضاف إلى ذلك أن المتخلفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجوا بذكر اسم علي في القرآن، ولو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في الحجة، ولا سيما أن جمع القرآن – بزعم المستدل – كان بعد تمامية أمر الخلافة بزمان غير يسير، فهذا من الادلة الواضحة على عدم ذكره في الايات. الطائفة الثالثة: هي الروايات التي دلت على وقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان، وان الامة بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم غيرت بعض الكلمات وجعلت مكانها كلمات أخرى. فمنها: ما رواه علي بن ابراهيم القمي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام: ” صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين “. ومنها: ما عن العياشي، عن هشام بن سالم. قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: ” إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران 33: 3 “.


(1) الوافي ج 2 باب 30 ما نص الله ورسوله عليهم ص 63. (*)

[ 233 ]

قال: هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين، فوضعوا اسما مكان اسم. أي انهم غيرا فجعلوا مكان آل محمد آل عمران. والجواب: عن الاستدلال بهذه الطائفة – بعد الاغضاء عما في سندها من الضعف – أنها مخالفة للكتاب، والسنة، ولاجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرفا واحدا حتى من القائلين بالتحريف. وقد ادعى الاجماع جماعة كثيرون على عدم الزيادة في القرآن، وأن مجموع ما بين الدفتين كله من القرآن. وممن ادعى الاجماع الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشيخ البهائي، وغيرهم من الاعاظم قدس الله أسرارهم. وقد تقدمت رواية الاحتجاج الدالة على عدم الزيادة في القرآن. الطائفة الرابعة: هي الروايات التي دلت على التحريف في القرآن بالنقيصة فقط. والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: أنه لا بد من حملها على ما تقدم في معنى الزيادات في مصحف أمير المؤمنين – عليه السلام – وإن لم يمكن ذلك الحمل في جملة منها فلا بد من طرحها لانها مخالفة للكتاب والسنة، وقد ذكرنا لها في مجلس بحثنا توجيها آخر أعرضنا عن ذكره هنا حذرا من الاطالة، ولعله أقرب المحامل، ونشير إليه في محل آخر إن شاء الله تعالى. على أن أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند. وبعضها لا يحتمل صدقه في نفسه. وقد صرح جماعة من الاعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أو لزوم طرحها.


[ 234 ]

وممن صرح بذلك المحقق الكلباسي حيث قال على ما حكي عنه: ” أن الروايات الدالة على التحريف مخالفة لاجماع الامة إلا من لا اعتداد به… وقال: إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر، نظرا إلى العادة في الحوادث العظيمة. وهذا منها بل أعظمها “. وعن المحقق البغدادي شارح الوافية التصريح بذلك، ونقله عن المحقق الكركي الذي صنف في ذلك رسالة مستقلة، وذكر فيها: ” أن ما دل من الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها، فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب، والسنة المتواترة، والاجماع، ولم يمكن تأويله، ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه “. أقول: أشار المحقق الكركي بكلامه هذا إلى ما أشرنا إليه – سابقا – من أن الروايات المتواترة قد دلت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها. فمن تلك الروايات: ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام: ” الوقوف عند الشبهه خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه… ” (1). وما رواه الشيخ الجليل سعيد بن هبة الله ” القطب الراوندي ” بسنده الصحيح إلى الصادق عليه السلام:


(1) الوسائل گ 3 كتاب القضاء. باب وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة، وكيفية العمل، ص 380. (*)

[ 235 ]

” إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه… ” (1). وأما الشبهة الرابعة: فيتلخص في كيفية جمع القرآن، واستلزامها وقوع التحريف فيه. وقد انعقد البحث الاتي ” فكرة عن جمع القرآن ” لتصفية هذه الشبهة وتفنيدها.


(1) المصدر السابق. (*)

[ 237 ]

فكرة عن جمع القرآن


[ 238 ]

كيفية جمع القرآن. عرض الروايات في جمع القرآن. تناقضها وتضاربها. معارضتها لما دل على أن القرآن جمع على عهد الرسول. معارضتها للكتاب وحكم العقل. مخالفتها لاجماع المسلمين على أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر. الاستدال بهذه الروايات يستلزم التحريف بالزيادة المتسالم على بطلانه.


[ 239 ]

ان موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي يتذرع بها القائلون بالتحريف، إلى إثبات ان في القرآن تحريفا وتغييرا. وان كيفية جمعه مستلزمة – في العادة – لوقوع هذا التحريف والتغيير فيه. فكان من الضروري أن يعقد هذا البحث إكمالا لصيانة القرآن من التحريف وتنزيهه عن نقص أو أي تغيير. إن مصدر هذه الشبهة هو زعمهم بأن جمع القرآن كان بأمر من أبي بكر بعد أن قتل سبعون رجلا من القراء في بئر معونة، وأربعمائة نفر في حرب اليمامة فخيف ضياع القرآن وذهابه من الناس، فتصدى عمر وزيد بن ثابت لجمع القرآن من العسب، والرقاع، واللخاف، ومن صدور الناس بشرط أن يشهد شاهدان على أنه من القرآن، وقد صرح بجميع ذلك في عدة من الروايات، والعادة تقضي بفوات شئ منه على المتصدي لذلك، إذا كان غير معصوم، كما هو مشاهد فيمن يتصدى لجمع شعر شاعر واحد أو أكثر، إذا كان هذا الشعر متفرقا، وهذا الحكم قطعي بمقتضي العادة، ولا أقل من احتمال وقوع التحريف، فإن من المحتمل عدم إمكان إقامة شاهدين على بعض ما سمع من النبي صلى الله عليه واله وسلم فلا يبقى وثوق بعدم النقيصة. والجواب: إن هذه الشبهة مبتنية على صحة الروايات الواردة في كيفية جمع القرآن والاولى أن نذكر هذه الروايات ثم نعقبها بما يرد عليها.


[ 240 ]

أحاديث جمع القرآن: 1 – روى زيد بن ثابت. قال: ” أرسل إلي أبو بكر، مقتل أهل يمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني. فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القران. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله ؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني من جمع القران قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري، للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الانصاري، لم أجدها مع أحد غيره: ” لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم 9: 128. فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم: 129 “. حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ” (1).


(1) صحيح البخاري. باب جمع القرآن ج 6 ص 98. (*)

[ 241 ]

2 – وروى ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه: ” ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق. فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها اليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمرزيد بن ثابت، و عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل افق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق “. قال ابن شهاب: ” وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الاحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الانصاري: ” من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 33: 23 “. ” فألحقناها في سورتها في المصحف ” (1).


(1) صحيح البخاري ج 6 ص 99، وهاتان الروايتان وما بعدهما إلى الرواية الحادية والعشرين، مذكورة في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 2 ص 43 – 52. (*) (البيان – 16)

[ 242 ]

3 – وروى ابن أبي شيبة باسناده عن علي. قال: ” أعظم الناس في المصاحف أجراأبو بكر، إن أبا بكر أول من جمع ما بين اللوحين “. 4 – وروى ابن شهاب. عن سالم بن عبد الله وخارجة: ” أن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل، فكانت الكتب عند أبي بكر حتى توفي، ثم عند عمر حتى توفي، ثم كانت عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه واله وسلم فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها، حتى عاهدها ليردنها إليها فبعثت بها إليه، فنسخ عثمان هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها… “. 5 – وروى هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ” لما قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت. فقال: اجلسا على باب المسجد. فلا يأتينكما أحد بشئ من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلا اثبتماه، وذلك لانه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد جمعوا القرآن “. 6 – وروى محمد بن سيرين. قال: ” قتل عمر ولم يجمع القرآن “. 7 – وروى الحسن: ” أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة. فقال: إنا لله، وأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف “. 8 – وروى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. قال: ” أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله – ص – شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف


[ 243 ]

والالواح، والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان، فقال: من كان عنده من كتاب الله شئ فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاءه خزيمة ابن ثابت، فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: ما هما ؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم.. ” إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة “. 9 – وروى عبيد بن عمير، قال: ” كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان، فجاءه رجل من الانصار بهاتين الآيتين: لقد جاءكم رسول من أنفسكم… إلى آخرها. فقال عمر: لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله ” (1). 10 – وروى سليمان بن أرقم، عن الحسن وابن سيرين، وابن شهاب الزهري. قالوا: ” لما أسرع القتل في قراء القرآن يوم اليمامة قتل منهم يومئذ أربعمائة رجل، لقي زيد بن ثابت عمر بن الخطاب، فقال له: إن هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهب ديننا، وقد عزمت على أن أجمع القرآن في كتاب، فقال له: انتظر حتى أسأل أبا بكر، فمضيا إلى أبي بكر فأخبراه بذلك، فقال: لا تعجل حتى اشاور المسلمين، ثم قام خطيبا في الناس فأخبرهم بذلك، فقالوا:


(1) الروايات التي نقلناها عن المنتخب مذكورة في كنز العمال ” جمع القرآن ” الطبعة الثانية ج 2 ص 361 عداهذه الرواية، ولكن بمضمونها رواية عن يحيى بن جعدة. (*)

[ 244 ]

أصبت، فجمعوا القرآن، فأمر أبو بكر مناديا فنادى في الناس: من كان عنده شئ من القرآن فليجئ به.. “. 11 – وروى خزيمة بن ثابت. قال: ” جئت بهذه الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم… إلى عمر بن الخطاب وإلى زيد بن ثابت. فقال زيد: من يشهد معك ؟ قلت: لا والله ما أدري. فقال عمر: أنا أشهد معه على ذلك “. 12 – وروى أبو إسحق، عن بعض أصحابه. قال: ” لما جمع عمر بن الخطاب المصحف سأل: من أعرب الناس ؟ قيل: سعيد ابن العاص. فقال: من أكتب الناس ؟ فقيل: زيد بن ثابت. قال: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتبوا مصاحف أربعة، فأنفذ مصحفا منها إلى الكوفة، ومصحفا إلى البصرة، ومصحفا إلى الشام، ومصحفا إلى الحجاز “. 13 – وروى عبد الله بن فضالة. قال: ” لما أراد عمر أن يكتب الامام أقعد له نفرا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل على رجل من مضر “. 14 – وروى أبو قلابة. قال: ” لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون ويختلفون، حتى ارتفع ذلك الى المعلمين، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا. فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأي عني من الامصار أشد اختلافا، وأشد لحنا، فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما، قال أبو قلابة: فحدثني مالك ابن أنس، قال أبو بكر بن أبي داود: هذا مالك بن انس جد مالك بن أنس. قال: كنت فيمن أملي عليهم فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها


[ 245 ]

من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجئ أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف كتب إلى أهل الامصار أني قد صنعت كذا وصنعت كذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم “. 15 – وروى مصعب بن سعد. قال: ” قام عثمان يخطب الناس. فقال: أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، تقولون قراءة أبي، وقراءة عبد الله، يقول الرجل والله ما تقيم قراءتك، فاعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب الله شئ لما جاء به، فكان الرجل يجئ بالورقة والاديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان ودعاهم رجلا رجلا، فناشدهم لسمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو أمله عليك فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان. قال: من أكتب الناس ؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب ؟ قالوا سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد، فكتب زيد، وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد صلى الله عليه واله وسلم يقول: قد أحسن “. 16 – وروى أبو المليح. قال: ” قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف، تملي هذيل وتكتب ثقيف “. 17 – وروى عبد الاعلى بن عبد الله بن عبد الله بن عامر القرشي. قال: ” لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه. فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها “. 18 – وروى عكرمة. قال:


[ 246 ]

” لما أتى عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن. فقال: لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا “. 19 – وروى عطاء: ” أن عثمان بن عفان لما نسخ القرآن في المصاحف، أرسل إلى أبي بن كعب فكان يملي على زيد بن ثابت، وزيد يكتب، ومعه سعيد بن العاص يعربه، فهذا المصحف على قراءة أبي وزيد “. 20 – وروى مجاهد: ” ان عثمان أمر أبي بن كعب يملي، ويكتب زيد بن ثابت، ويعربه سعيد ابن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث “. 21 – وروى زيد بن ثابت: ” لما كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله – ص – فوجدتها عند خزيمة بن ثابت: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. إلى تبديلا. وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين أجاز رسول الله صلى الله عليه واله وسلم شهادته بشهادة رجلين “. 22 – وقد أخرج ابن اشته، عن الليث بن سعد. قال: ” أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشهادة عدلين، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت. فقال: اكتبوها فإن رسول الله – ص – جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لانه كان وحده ” (1).


(1) الاتقان النوع 18 ج 1 ص 101. (*)

[ 247 ]

هذه أهم الروايات التي وردت في كيفية جمع القرآن، وهي – مع انها أخبار آحاد لا تفيدنا علما – مخدوشة من جهات شتى: 1 – تناقض أحاديث جمع القرآن ! إنها متناقضة في أنفسها فلا يمكن الاعتماد على شئ منها، ومن الجدير بنا أن نشير إلى جملة من مناقضاتها، في ضمن أسئلة وأجوبة: * – متجمع القرآن في المصحف ؟ ظاهر الرواية الثانية أن الجمع كان في زمن عثمان، وصريح الروايات الاولى، والثالثة، والرابعة، وظاهر البعض الآخر أنه كان في زمان أبي بكر، وصريح الروايتين السابعة، والثانية عشرة أنه كان في زمان عمر. * – من تصدى لجمع القرآن زمن أبي بكر ؟ تقول الروايتان الاولى، والثانية والعشرون أن المتصدي لذلك هو زيد بن ثابت، وتقول الرواية الرابعة أنه أبو بكر نفسه، وإنما طلب من زيد أن ينظر فيما جمعه من الكتب، وتقول الرواية الخامسة – ويظهر من غيرها أيضا – أن المتصدي هو زيد وعمر. * – هل فوض لزيد جمع القرآن ؟ يظهر من الرواية الاولى أن أبا بكر قد فوض إليه ذلك، بل هو صريحها، فإن قوله لزيد: ” إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله – ص – فتتبع القرآن واجمعه ” صريح في ذلك، وتقول الرواية الخامسة وغيرها: إن الكتابة إنما كانت بشهادة شاهدين، حتى ان عمر جاء بآية الرجم فلم تقبل منه. * – هل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمان عثمان ؟


[ 248 ]

ظاهر كثير من الروايات، بل صريحها أنه لم يبق شئ من ذلك، وصريح الرواية الثانية، بقاء شئ من الآيات لم يدون إلى زمان عثمان. * – هل نقص عثمان شيئا مما كان مدونا قبله ؟ ظاهر كثير من الروايات بل صريحها أيضا أن عثمان لم ينقص مما كان مدونا قبله، وصريح الرواية الرابعة عشرة أنه محا شيئا مما دون قبله، وأمر المسلمين بمحو ما محاه. * – من أي مصدر جمع عثمان المصحف ؟ صريح الروايتين الثانية والرابعة: أن الذي اعتمد عليه في جمعه هي الصحف التي جمعها أبو بكر، وصريح الروايات الثامنة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، أن عثمان جمعه بشهادة شاهدين، وبأخبار من سمع الآية من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. * – من الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ؟ تقول الرواية الاولى أن الذي طلب ذلك منه هو عمر، وأن أبا بكر إنما أجابه بعد الامتناع، فأرسل إلى زيد وطلب منه ذلك، فأجابه بعد الامتناع، وتقول الرواية العاشرة أن زيدا وعمر طلبا ذلك من أبي بكر، فأجابهما بعد مشاورة المسلمين. * – من جمع المصحف الامام وأرسل منه نسخا إلى البلاد ؟ صريح الرواية الثانية أنه كان عثمان، وصريح الرواية الثانية عشرة أنه كان عمر. * – متى ألحقت الآيتان بآخر سورة براءة ؟ صريح الروايات الاولى، والحادية عشرة، والثانية والعشرين أن إلحاقهما كان


[ 249 ]

في زمان أبي بكر، وصريح الرواية الثامنة، وظاهر غيرها أنه كان في عهد عمر. * – من اتى بهاتين الآيتين ؟ صريح الروايتين الاولى، والثانية والعشرين أنه كان أبا خزيمة، وصريح الروايتين الثامنة، والحادية عشرة أنه كان خزيمة بن ثابت، وهما رجلان ليس بينهما نسبة أصلا، على ما ذكره ابن عبد البر (1). * – بماذا ثبت أنهما من القرآن ؟ بشهادة الواحد، على ما هو ظاهر الرواية الاولى، وصريح الروايتين التاسعة، والثانية والعشرين، وبشهادة عثمان معه، على ما هو صريح الرواية الثامنة، وبشهادة عمر معه، على ما هو صريح الرواية الحادية عشر. * – من عينه عثمان لكتابة القرآن وإملائه ؟ صريح الرواية الثانية أن عثمان عين للكتابة زيدا، وابن الزبير، وسعيد، وعبد الرحمن، وصريح الرواية الخامسة عشرة أنه عين زيدا للكتابة وسعيدا للاملاء، وصريح الرواية السادسة عشرة أنه عين ثقيفا للكتابة، وهذيلا للاملاء وصريح الرواية الثامنة عشرة أن الكاتب لم يكن من ثقيف وأن المملي لم يكن من هذيل، وصريح الرواية التاسعة عشرة أن المملي كان أبي بن كعب، وأن سعيدا كان يعرب ما كتبه زيد، وهذا أيضا صريح الرواية العشرين بزيادة عبد الرحمن بن الحرث للاعراب. 2 – تعارض روايات الجمع: إن هذه الروايات معارضة بما دل على أن القرآن كان قد جمع، وكتب على


(1) تفسير القرطبي ج 1 ص 56. (*)

[ 250 ]

عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقد روى جماعة، منهم ابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والضياء المقدسي عن ابن عباس. قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الانفال وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ؟ ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد، وكان إذا نزل عليه الشئ يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الانفال من أول ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ووضعتهما في السبع الطوال (1). وروى الطبراني، وابن عساكر عن الشعبي، قال: ” جمع القرآن على عهد رسول الله – ص – ستة من الانصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث ” (2). وروى قتادة، قال: ” سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي ؟ قال: أربعة كلهم من الانصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد ” (3).


(1) منتخب كنز العمال ج 2 ص 48. (2) نفس المصدر ج 2 ص 52. (3) صحيح البخاري باب القراء من أصحاب النبي – ص – ج 6 ص 202. (*)

[ 251 ]

وروى مسروق: ذكر عبد الله بن عمرو عبد الله بن مسعود، فقال: ” لا أزال أحبه، سمعت النبي – ص – يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب ” (1). وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر، قال: ” جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي – ص – فقال: اقرأة في شهر… ” (2). وستجئ رواية ابن سعد في جمع أم ورقة القرآن. ولعل قائلا يقول وإن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين، وهذا القول دعوى لا شاهد عليها، أضف إلى ذلك أنك ستعرف أن حفاظ القرآن على عهد رسول الله – ص – كانوا أكثر من أن تحصى أسماؤهم، فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستة ؟ ! ! وإن المتصفح لاحوال الصحابة، وأحوال النبي – ص – يحصل له العلم اليقين بأن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله – ص – وأن عدد الجامعين له لا يستهان به. وأما ما رواه البخاري بإسناده عن أنس، قال: مات النبي – ص – ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، فهو مردود مطروح، لانه معارض للروايات المتقدمة، حتى لما رواه البخاري بنفسه. ويضاف إلى ذلك أنه غير قابل للتصديق به. وكيف يمكن أن يحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبي – ص – على كثرتهم، وتفرقهم في البلاد، ويستعلم أحوالهم ليمكنه أن يحصر الجامعين للقرآن في أربعة، وهذه الدعوى تخرص بالغيب، وقول بغير علم. وصفوة القول: أنه مع هذه الروايات كيف يمكن أن يصدق أن أبا بكر


(1) المصدر السابق. (2) الاتقان النوع 20 ج 1 ص 124. (*)

[ 252 ]

كان أول من جمع القرآن بعد خلافته ؟ وإذا سلمنا ذلك فلماذا أمرزيدا وعمر بجمعه من اللخاف، والعسب، وصدور الرجال، ولم يأخذه من عبد الله ومعاذ وأبي، وقد كانوا عند الجمع أحياء، وقد أمروا بأخذ القرآن منهم، ومن سالم ؟ نعم إن سالما قد قتل في حرب اليمامة، فلم يمكن الاخذ منه. على أن زيدا نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية، فلا حاجة إلى التفحص والسؤال من غيره، بعد أن كان شابا عاقلا غير متهم كما يقول أبو بكر، أضف إلى جميع ذلك أن أخبار الثقلين المتظافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله – ص – على ما سنشير إليه. 3 – تعارض أحايث الجمع مع الكتاب: إن هذه الروايات معارضة بالكتاب، فإن كثيرا من آيات الكتاب الكريمة دالة على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وان السور كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فإن النبي – ص – قد تحدى الكفار والمشركين على الاتيان بمثل القرآن، وبعشر سور مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا: أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم. وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي صلى الله عليه واله وسلم: ” إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي ” وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوبا مجموعا، لانه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف، والعسب، والاكتاف، إلا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزء غير مجتمع، فضلا عما إذا لم يكتب، وكان محفوظا في الصدور فقط.


[ 253 ]

4 – مخالفة أحاديث الجمع من حكم العقل ! إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل، فإن عظمة القرآن في نفسه، واهتمام النبي – ص – بحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي – ص – وما يستوجبه ذلك من الثواب، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات، فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لان يكون القرآن موضعا لعناية المسلمين، وسببا لاشتهاره حتى بين الاطفال والنساء منهم، فضلا عن الرجال. وهذه الجهات هي: 1 – بلاغة القرآن: فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ، ولذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف بالقرآن الذي تحدى ببلاغته كل بليغ، وأخرس بفصاحته كل خطيب لسن، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه، سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لايمانه، والكافر يتحفظ به لانه يتمنى معارضته، وإبطال حجته. 2 – إظهار النبي – ص – رغبته بحفظ القرآن، والاحتفاظ به: وكانت السيطرة والسلطة له خاصة، والعادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإن ذلك الكتاب يكون رائجا بين جميع الرعية، الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا. 3 – إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس، وتعظيمه عندهم: فقد علم كل مطلع على التاريخ ما للقراء والحفاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة، أو بحفظ القدر الميسور منه. 4 – الاجر والثواب الذي يستحقه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحفظه: هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون


[ 254 ]

يهتمون بشأن القرآن، ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، وبما يهمهم من مال وأولاد. وقد ورد أن بعض النساء جمعت جميع القرآن. أخرج ابن سعد في الطبقات: ” أنبأنا الفضل بن دكين، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع، قال: حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، وكان رسول الله – ص – يزورها، ويسميها الشهيدة وكانت قد جمعت القرآن، ان رسول الله – ص – حين غزا بدار، قالت له: أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم وامرض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة ؟ قال: إن الله مهد لك شهادة… ” (1) وإذا كان هذا حال النساء في جمع القران فكيف يكون حال الرجال ؟ وقد عد من حفاظ القرآن على عهد رسول الله – ص – جم غفير. قال القرطبي: ” قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي – ص – ببئر معونة مثل هذا العدد ” (2). وقد تقدم في الرواية ” العاشرة ” أنه قتل من القراء يوم اليمامة أربعمائة رجل على أن شدة اهتمام النبي صلى الله عليه واله وسلم بالقرآن، وقد كان له كتاب عديدون، ولا سيما أن القرآن نزل نجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة، كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده. روى زيد بن ثابت، قال: ” كنا عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نؤلف القرآن من الرقاع “. قال الحاكم: ” هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ” وفيه الدليل الواضح: أن القرآن إنما جمع على عهد رسول الله (3). وأما حفظ بعض سور القرآن أو بعض السورة فقد كان منتشرا جدا، وشذ


(1) الاتقان – النوع 20 ج 1 ص 125. (2) الاتقان – النوع 20 ص 122، وقال القرطبي في تفسيره ج 1 ص 50: وقتل منهم ” القراء ” في ذلك اليوم ” يوم اليمامة ” فيما قيل سبعمائة. (3) المستدرك ج 2 ص 611. (*)

[ 255 ]

أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين. روى عبادة بن الصامت قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن ” (1). وروى كليب، قال: ” كنت مع علي عليه السلام فسمع ضجتهم في المسجد يقرأون القرآن، فقال: طوبى لهؤلاء… ” (2). وعن عبادة بن الصامت أيضا: ” كان الرجل إذاهاجر دفعه النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا ” (3). نعم إن حفظ القرآن ولو ببعضه كان رائجا بين الرجال والنساء من المسلمين، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر (4) ومع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال: إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمان خلافة أبي بكر، وإن أبا بكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.


(1) مسند أحمد ج 5 ص 324. (2) كنز العمال. فضائل القرآن الطبعة الثانية ج 2 ص 185. (3) مناهل العرفان ص 324. (4) رواه الشيخان، وأبو داود والترمذي، والنسائي. التاج: ج 2 ص 332.

[ 256 ]

5 – مخالفة أحاديث الجمع للاجماع: إن هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لا طريق لاثباته إلا التواتر، فإنها تقول: إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصرا بشهادة شاهدين، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين، وعلى هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضا، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك ؟ ولست أدري كيف يجتمع القول بصحة هذه الروايات التي تدل على ثبوت القرآن بالبينة، مع القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، أفلا يكون القطع بلزوم كون القرآن متواترا سببا للقطع بكذب هذه الروايات أجمع ؟ ومن الغريب أن بعضهم كابن حجر فسر الشاهدين في الروايات بالكتابة والحفظ (1). وفي ظني أن الذي حمله على ارتكاب هذا التفسير هو ما ذكرناه من لزوم التواتر في القرآن. وعلى كل حال فهذا التفسير واضح الفساد من جهات: أما، أولا: فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمع القرآن، وقد سمعتها. وأما، ثانيا: فلان هذا التفسير يلزمه أنهم لم يكتبوا ما ثبت أنه من القرآن بالتواتر، إذا لم يكن مكتوبا عند أحد، ومعنى ذلك أنهم أسقطوا من القرآن ما ثبت بالتواتر أنه من القران. وأما، ثالثا: فلان الكتابة والحفظ لا يحتاج اليهما إذا كان ما تراد كتابته متواترا، وهما لا يثبتان كونه من القرآن، إذا لم يكن متواترا. وعلى كل حال فلا فائدة في جعلهما شرطا في جمع القرآن. وعلى الجملة لا بد من طرح هذه الروايات، لانها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين.


(1) الاتقان – النوع 18 ص 100. (*)

[ 257 ]

6 – احاديث الجمع والتحريف بالزيادة ! إن هذه الروايات لو صحت، وأمكن الاستدلال بها على التحريف من جهة النقص، لكان اللازم على المستدل أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة في القرآن أيضا، لان كيفية الجمع المذكورة تستلزم ذلك، ولا يمكن له أن يعتذر عن ذلك بأن حدالاعجاز في بلاغة القرآن يمنع من الزيادة عليه، فلا تقاس الزيادة على النقيصة، وذلك لان الاعجاز في بلاغة القرآن وإن كان يمنع عن الاتيان بمثل سورة من سوره، ولكنه لا يمنع من الزيادة عليه بكلمة أو بكلمتين، بل ولا بآية كاملة، ولا سيما إذ اكانت قصيرة، ولولا هذا الاحتمال لم تكن حاجة إلى شهادة شاهدين، كما في روايا ت الجمع المتقدمة، فإن الآية التي يأتي بها الرجل تثبت نفسها أنها من القرآن أو من غيره. وإذن فلا مناص للقائل بالتحريف من القول بالزيادة أيضا وهو خلاف إجماع المسلمين. وخلاصة ما تقدم، أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم، مخالف للكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل، فلا يمكن القائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه، ولو سلمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة، وأن جمع القرآن كان مستندا إلى التواتر بين المسلمين، غاية الامر أن الجامع قد دون في المصحف ما كان محفوظا في الصدور على نحو التواتر. نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق (البيان – 17)


[ 258 ]

المصاحف الاخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة. قال الحارث المحاسبي: ” المشهور عند الناس أن جامع القران عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة، بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والانصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن… ” (1). أقول: أما أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه منع عن القراءات الاخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، التي تقدم توضيح بطلانها، أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لان الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا. وقد مر – فيما تقدم – بعض الروايات الدالة على أن النبي صلى الله عليه وآله منع عن الاختلاف في القرآن، ولكن الامر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الامصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سموه بحراق المصاحف.


(1) الاتقان – النوع 18 ج 1 ص 103. (*)

[ 259 ]

النتيجة: ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه يجب القول به. والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته.


[ 261 ]

حجية ظواهر القرآن


[ 262 ]

إثبات حجية ظواهر القرآن. أدلة المنكرين لها مع تزييفها. اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به. الاخذ بالظاهر من التفسير بالرأي. غموض معاني القرآن يمنع من فهمها. إرادة خلاف الظاهر في بعض الايات – إجمالا – تسقط الظواهر عن الحجية. المنع من اتباع المتشابه يسقط حجية ظواهر القرآن.


[ 263 ]

لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لافهام مقاصده، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره، ويزدجروا بزواجره، وقد تكرر في الايات الكريمة ما يدل على ذلك، كقوله تعالى: ” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها 47: 24 “. وقوله تعالى: ” ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون 39: 27 “. وقوله تعالى: ” وإنه لتنزيل رب العالمين 26: 192. نزل به الروح الامين: 193. على قلبك لتكون من المنذرين: 194. بلسان عربي مبين: 195 “. وقوله تعالى:


[ 264 ]

” هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين 3: 138 “. وقوله تعالى: ” فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون 44: 58 “. وقوله تعالى: ” ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكره 54: 17 “. وقوله تعالى: ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 4: 82 “. إلى غير ذلك من الايات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الاخذ بما يفهم من ظواهره. ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب وفهم العرب لمعانيه: 1 – أن القرآن نزل حجة على الرسالة، وأن النبي – ص – قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ومعنى هذا: أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الالغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه، لانهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الايمان به. 2 – الروايات المتظافرة الامرة بالتمسك بالثقلين الذين تركهما النبي في المسلمين، فإن من البين أن معنى التمسك بالكتاب هو الاخذ به، والعمل بما يشتمل عليه، ولا معنى له سوى ذلك.


[ 265 ]

3 – الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الاخبار على الكتاب، وأن ما خالف الكتاب منها يضرب على الجدار، أو أنه باطل، أو أنه زخرف، أو أنه منهي عن قبوله، أو أن الائمة لم تقله، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب، وأنه مما تفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب. ومن هذا القبيل الروايات التي أمرت بعرض الشروط على كتاب الله ورد ما خالفه منها. 4 – استدلالات الائمة – ع – على جملة من الاحكام الشرعية وغيرها بالايات القرآنية: منها: قول الصادق عليه السلام حينما سأله زرارة من أين علمت أن المسح ببعض الرأس: ” لمكان الباء “. ومنها: قوله عليه السلام في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النمام: إنه فاسق، وقد قال الله تعالى: ” إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا 49: 6 “. ومنها: قوله عليه السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله، أما سمعت قول الله عز وجل: ” إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا 17: 36 “. ومنها: قوله عليه السلام لابنه إسماعيل فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم: مستدلا بقول الله عز وجل: ” يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين 9: 61 “.


[ 266 ]

ومنها: قوله عليه السلام في تحليل نكاح العبد للمطلقة ثلاثا: إنه زوج، قال الله عز وجل: ” حتى تنكح زوجا غيره 2: 230 “. ومنها: قوله عليه السلام في أن المطلقة ثلاثا لا تحل بالعقد المنقطع: إن الله تعالى قال: ” فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا 4: 127 “. ولا طلاق في المتعة. ومنها: قوله عليه السلام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة: إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله تعالى: ” وما جعل عليكم في الدين من حرج 22: 78 “. ثم قال امسح عليه. ومنها: استدلاله عليه السلام على حلية بعض النساء بقوله تعالى: ” وأحل لكم ما وراء ذلكم 4: 23 “. ومنها: استدلاله عليه السلام على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى: ” عبدا مملوكا لا يقدر على شئ 16: 75 “. ومنها: استدلاله عليه السلام على حلية بعض الحيوانات بقوله تعالى: ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه 6: 145 “.


[ 267 ]

وغير ذلك من استدلالاتهم – ع – بالقرآن في موارد كثيرة، وهي متفرقة في أبواب الفقه وغيرها. أدلة اسقاط حجية ظواهر الكتاب: وقد خالف جماعة من المحدثين، فأنكروا حجية ظواهر الكتاب ومنعوا عن العمل به. واستدلوا على ذلك بأمور: 1 – اختصاص فهم القرآن: إن فهم القرآن مختص بمن خوطب به، وقد استندوا في هذه الدعوى إلى عدة روايات واردة في هذا الموضوع، كمرسلة شعيب بن أنس، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لابي حنيفة: ” أنت فقيه أهل العراق ؟ قال: نعم. قال عليه السلام: فبأي شئ تفتيهم ؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيه. قال عليه السلام يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال: نعم. قال عليه السلام: يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما – ويلك – ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلى الله عليه وآله وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفا “. وفي رواية زيد الشحام، قال: ” دخل قتادة على أبي جعفر عليه السلام فقال له: أنت فقيه أهل البصرة ؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال عليه السلام بلغني أنك تفسر القرآن. قال: نعم. إلى أن قال


[ 268 ]

يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة – ويحك – إنما يعرف القرآن من خوطب به “. والجواب: إن المراد من هذه الروايات وأمثالها أن فهم القرآن حق فهمه، ومعرفة ظاهره وباطنه، وناسخه ومنسوخه مختص بمن خوطب به. والرواية الاولى صريحة في ذلك، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حق معرفته، وتمييز الناسخ من المنسوخ، وكان توبيخ الامام عليه السلام لابي حنيفة على دعوى معرفة ذلك. وأما الرواية الثانية فقد تضمنت لفظ التفسير، وهو بمعنى كشف القناع، فلا يشمل الاخذ بظاهر اللفظ، لانه غير مستور ليكشف عنه القناع، ويدل على ذلك أيضا ما تقدم من الروايات الصريحة في أن فهم الكتاب لا يختص بالمعصومين عليهم السلام ويدل على ذلك أيضا قوله عليه السلام في المرسلة: ” وما ورثك الله من كتابه حرفا ” فإن معنى ذلك أن الله قد خص أوصياء نبيه صلى الله عليه وآله بإرث الكتاب، وهو معنى قوله تعالى: ” ثم أورثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا 35: 32 “. فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته، وليس لغيرهم في ذلك نصيب. هذا هو معنى المرسلة وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئا من كتاب الله حتى مثل قوله تعالى: ” قل هو الله أحد 111: 1 “.


[ 269 ]

وأمثال هذه الاية مما يكون صريحا في معناه، والاخبار الدالة على الاختصاص المتقدم كثيرة جدا، وقد تقدم بعضها. 2 – النهي عن التفسير بالرأي: إن الاخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي، وقد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين. والجواب: إن التفسير هو كشف القناع كما قلنا، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره، لانه ليس بمستور حتى يكشف، ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي، لتشمله الروايات الناهية المتواترة، وإنما هو تفسير بما تفهمه العرف من اللفظ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة – مثلا – بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة، لا يعد عمله هذا من التفسير بالرأي، وقد أشار إلى ذلك الامام الصادق عليه السلام بقوله: إنما هلك الناس في المتشابه لانهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم. ويحتمل أن معنى التفسير بالرأي الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الائمة عليهم السلام، مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك، ولزوم الانتهاء إليهم، فإذا عمل الانسان بالعموم أو الاطلاق الوارد في الكتاب، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الائمة – ع – كان هذا من التفسير بالرأي، وعلى الجملة حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة من الكتاب والسنة، أو الدليل العقلي لا يعد من التفسير بالرأي بل ولا من التفسير نفسه، وقد تقدم بيانه، على أن الروايات المتقدمة دلت على الرجوع إلى الكتاب،


[ 270 ]

والعمل بما فيه. ومن البين أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره، وحينئذ فلا بد وأن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعا بين الادلة. 3 – غموض معاني القرآن: إن في القران معاني شامخة، ومطالب غامضة، واشتماله على ذلك يكون مانعا عن فهم معانيه، والاحاطة بما أريد منه، فإنا نجد بعض كتب السلف لا يصل إلى معانيها إلا العلماء المطلعون، فكيف بالكتاب المبين الذي جمع علم الاولين والاخرين. والجواب: أن القرآن وإن اشتمل على علم ما كان وما يكون، وكانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل بيت النبوة من دون ريب، ولكن ذلك لا ينافي أن للقرآن ظواهر يفهمها العارف باللغة العربية وأساليبها، ويتعبد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن. 4 – العلم بارادة خلاف الظاهر: إنا نعلم – إجمالا – بورود مخصصات لعمومات القرآن، ومقيدات لاطلاقاته، ونعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعا، وهذه العمومات المخصصة، والمطلقات المقيدة، والظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها، ليتوقف فيها بخصوصها. ونتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب وعموماته ومطلقاته تكون مجملة بالعرض، وإن لم تكن مجملة بالاصالة، فلا يجوز أن يعمل بها حذرا من الوقوع فيما يخالف الواقع.


[ 271 ]

والجواب: أن هذا العلم الاجمالي إنما يكون سببا للمنع عن الاخذ بالظواهر، إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد، وأما بعد الفحص والحصول على المقدار الذي علم المكلف بوجوده إجمالا بين الظواهر، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي، ويسقط عن التأثير، ويبقى العمل بالظواهر بلا مانع. ونظير هذا يجري في السنة أيضا، فإنا نعلم بورود مخصصات لعموماتها، ومقيدات لمطلقاتها، فلو كان العلم الاجمالي مانعا عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعا عن العمل بظواهر السنة أيضا، بل ولكان مانعا عن إجراء اصالة البراءة في الشبهات الحكمية، الوجوبية منها والتحريمية، فإن كل مكلف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة، ولازم هذا العلم الاجمالي وجوب الاحتياط عليه في كل شبهة تحريمية، أو وجوبية يقع فيها مع أن الاحتياط ليس بواجب فيها يقينا. نعم ذهب جمع كثير من المحدثين إلى وجوب الاحتياط في موارد الشبهات التحريمية، إلا أن ذلك نشأ من توهمهم أن الروايات الامرة بالتوقف أو الاحتياط تدل على وجوب الاحتياط والتوقف في موارد تلك الشبهات. وليس قولهم هذا ناشئا من العلم الاجمالي بوجود التكاليف الالزامية في الشريعة المقدسة، وإلا لكان اللازم عليهم القول بوجوب الاحتياط حتى في الشبهات الوجوبية، مع أنه لم يذهب إلى وجوبه فيها أحد فيما نعلم. والسر في عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد وفي أمثالها واحد، وهو أن العلم الاجمالي قد انحل بسبب الظفر بالمقدار المعلوم، وبعد انحلاله يسقط عن التأثير. ولتوضيح ذلك يراجع كتابنا ” أجود التقريرات “. 5 – المنع عن اتباع المتشابه: إن الايات الكريمة قد منعت عن العمل بالمتشابه، فقد قال الله تعالى:


[ 272 ]

” منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه 3: 7 “. والمتشابه يشمل الظاهر أيضا، ولا أقل من احتمال شموله للظاهر فيسقط عن الحجية. الجواب: إن لفظ المتشابه واضح المعنى ولا إجمال فيه ولا تشابه، ومعناه أن يكون للفظ وجهان من المعاني أو أكثر، وجميع هذه المعاني في درجة واحدة بالنسبة إلى ذلك اللفظ، فإذا أطلق ذلك اللفظ احتمل في كل واحد من هذه المعاني أن يكون هو المراد، ولذلك فيجب التوقف في الحكم إلى أن تدل قرينة على التعيين، وعلى ذلك فلا يكون اللفظ الظاهر من المتشابه. ولو سلمنا أن لفظ المتشابه متشابه، يحتمل شموله للظاهر، فهذا لا يمنع عن العمل بالظاهر بعد استقرار السيرة بين العقلاء على اتباع الظهور من الكلام، فإن الاحتمال بمجرده لا يكون رادعا عن العمل بالسيرة، ولا بد في الردع عنها من دليل قطعي، وإلا فهي متبعة من دون ريب، ولذلك فإن المولى يحتج على عبده إذا خالف ظاهر كلامه، ويصح له أن يعاقبه على المخالفة، كما أن العبد نفسه يحتج على مولاه إذا وافق ظاهر كلام مولاه وكان هذا الظاهر مخالفا لمراده. وعلى الجملة فهذه السيرة متبعة في التمسك بالظهور حتى يقوم دليل قطعي على الردع. 6 – وقوع التحريف في القرآن: إن وقوع التحريف في القرآن، مانع من العمل بالظواهر، لاحتمال كون هذه الظواهر مقرونة بقرائن تدل على المراد، وقد سقطت بالتحريف.


[ 274 ]

والجواب: منع وقوع التحريف في القرآن، وقد قدمنا البحث عن ذلك، وذكرنا أن الروايات الامرة بالرجوع إلى القرآن بأنفسها شاهدة على عدم التحريف، وإذا تنزلنا عن ذلك فإن مقتضى تلك الروايات هو وجوب العمل بالقرآن، وإن فرض وقوع التحريف فيه. ونتيجة ما تقدم أنه لا بد من العمل بظواهر القرآن، وأنه الاساس للشريعة، وأن السنة المحكية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له.


[ 275 ]

النسخ في القرآن


[ 276 ]

المعنى اللغوي والاصطلاحي للنسخ. إمكان النسخ. وقوعه في التوراة. وقوعه في الشريعة الاسلامية. أقسام النسخ الثلاثة. الايات المدعى نسخها وإثبات انها محكمة. آية المتعة ودلالتها على جواز نكاح المتعة. الرجم على المتعة. فتوى أبي حنيفة بسقوط حد الزنا بالمحارم إذا عقد عليها. فتواه بسقوط الحد إذا استأجر امرأة فزنى بها. نسبة هذه الفتوى إلى عمر. مزاعم حول المتعة. تعصب مكشوف حول ترك الصحابة العمل بآية النجوى. كلام الرازي والرد عليه.


[ 277 ]

في كتب التفسير وغيرها آيات كثيرة ادعى نسخها. وقد جمعها أبو بكر النحاس في كتابه ” الناسخ والمنسوخ ” فبلغت ” 138 ” آية. وقد عقدنا هذا البحث لنستعرض جملة من تلك الايات المدعى نسخها ولنتبين فيها أنه ليست – في واقع الامر – واحدة منها منسوخة، فضلا عن جميعها. وقد اقتصرنا على ” 36 ” آية منها، وهي التي استدعت المناقشة والتوضيح لجلاء الحق فيها، وأما سائر الايات فالمسألة فيها أوضح من أن يستدل على عدم وجود نسخ فيها. النسخ في اللغة: هو الاستكتاب، كالاستنساخ والانتساخ، وبمعنى النقل والتحويل، ومنه تناسخ المواريث والدهور، وبمعنى الازالة، ومنه نسخت الشمس الظل، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ (1). النسخ في الاصطلاح: هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان


(1) وقد اطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب إلى ابن عباس. (*)

[ 278 ]

ذلك الامر المرتفع من الاحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الالهية أم من غيرها من الامور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنه شارع، وهذا الاخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط، وإنما قيدنا الرفع بالامر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته، فإن هذا النوع من ارتفاع الاحكام لا يسمى نسخا، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد. ولتوضيح ذلك نقول: إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت: أحدهما: ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والانشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولا على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام – مثلا – فليس معناه أن هنا خمرا في الخارج. وأن هذا الخمر محكوم بالحرمة، بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ. وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج، فإن الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب خلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شئ، ولا كلام لاحد في جواز ذلك ولا في وقوعه، وإنما الكلام في القسم الاول، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والانشاء.


[ 279 ]

امكان النسخ: المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه ” رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والانشاء ” وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ، واستندوا في ذلك إلى شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت. وملخص هذه الشبهة: إن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ، أو جهله بوجه الحكمة، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقه تعالى، وذلك لان تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد وأن يكون على طبق مصلحة تقتضيه، لان الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله، وعلى ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم مطلق، وإما أن يكون من جهة البداء، وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الاحكام والقوانين العرفية، وهو يستلزم الجهل منه تعالى. وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لانه يستلزم المحال. والجواب: إن الحكم المجعول من قبل الحكيم قد لا يراد منه البعث، أو الزجر الحقيقيين كالاوامر التي يقصد بها الامتحان، وهذا النوع من الاحكام يمكن إثباته أولا ثم رفعه، ولا مانع من ذلك، فإن كلا من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة، وهذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة، ولا ينشأ من البداء الذي يستحيل في حقه تعالى، وقد يكون الحكم المجعول حكما حقيقيا، ومع ذلك ينسخ بعد زمان، لا بمعنى أن الحكم بعد ثبوته يرفع في الواقع ونفس الامر، كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات، بل هو بمعنى أن


[ 280 ]

يكون الحكم المجعول مقيدا بزمان خاص معلوم عند الله، مجهول عند الناس، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان، لانتهاء أمده الذي قيد به، وحلول غايته الواقعية التي أنيط بها. والنسخ بهذا المعنى ممكن قطعا، بداهة: أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الاحكام مما لا يشك فيه عاقل، فإن يوم السبت – مثلا – في شريعة موسى عليه السلام قد اشتمل على خصوصية تقتضي جعله عيدا لاهل تلك الشريعة دون بقية الايام، ومثله يوم الجمعة في الاسلام، وهكذا الحال في أوقات الصلاة والصيام والحج، وإذا تصورنا وقوع مثل هذا في الشرايع فلنتصور أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدة معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الامر بالعكس. وجملة القول: إذا كان من الممكن أن يكون للساعة المعينة، أو اليوم المعين أو الاسبوع المعين، أو الشهر المعين تأثير في مصلحة الفعل أو مفسدته أمكن دخل السنة في ذلك أيضا، فيكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك السنين، وكما يمكن أن يقيد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل، فكذلك يمكن أن يقيد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل، فإن المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق، مع أن المراد الواقعي هو الخاص أو المقيد، ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لاطلاق الحكم من حيث الزمان ولا تلزم منه مخالفة الحكمة ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى، وهذا كله بناء على أن جعل الاحكام وتشريعها مسبب عن مصالح أو مفاسد تكون في نفس العمل. وأما على مذهب من يرى تبعية الاحكام لمصالح في الاحكام أنفسها فإن الامر أوضح، لان الحكم الحقيقي على هذا الرأي يكون شأنه شأن الاحكام الامتحانية.


[ 281 ]

النسخ في التوراة: وما قدمناه يبطل تمسك اليهود والنصارى باستحالة النسخ في الشريعة، لاثبات استمرار الاحكام الثابتة في شريعة موسى. ومن الغريب جدا أنهم مصرون على إحالة النسخ في الشريعة الالهية، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين: 1 – فقد جاء في الاصحاح الرابع من سفر العدد ” عدد 2، 3 “: ” خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع “. وقد نسخ هذا الحكم، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة بما في الاصحاح الثامن من هذا السفر ” عدد 23، 24 “: ” وكلم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا، يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع “. ثم نسخ ثانيا: فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الاصحاح الثالث والعشرين من أخبار الايام الاول ” عدد 24، 32 “: ” هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الاباء حسب إحصائهم في عدد الاسماء، حسب رؤوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق… وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع، وحراسة القدس “.. 2 – رجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد ” عدد 3 – 7 “: ” وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب، خروفان حوليان صحيحان، لكل يوم محرقة دائمة، الخروف الواحد تعمله صباحا، والخروف الثاني تعمله


[ 282 ]

بين العشاءين. وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرض تقدمة… وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد “. وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق، وثلث الهين من الزيت بما جاء في الاصحاح السادس والاربعين من كتاب حزقيال ” عدد 13 – 15 “: ” وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا صباحا تعمله. وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة. وزيتا ثلث الهين لرش الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة “. 3 – وجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا: ” عدد 9، 10 “: ” وفي يوم السبت خروفان حوليان صحيحان، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه. محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها “. وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة السبت ستة حملان وكبش، وجعلت التقدمة إيفة للكبش، وعطية يد الرئيس للحملان، وهين زيت للايفة بما جاء في الاصحاح السادس والاربعين من كتاب حزقيال أيضا ” عدد 4، 5 “: ” والمحرقة التي يقربها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة، وكبش صحيح. والتقدمة إيفة للكبش، وللحملان تقدمة عطية يده، وهين زيت للايفة “. 4 – وجاء في الاصحاح الثلاثين من سفر العدد ” عدد 2 “: ” إذا نذر رجل نذرا للرب، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه، حسب كل ما خرج من ؟ ؟ يفعل “.


[ 283 ]

وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى ” عدد 33، 34 “: ” أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوف للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة “. 5 – وجاء في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج ” عدد 23 – 25 “: ” وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس، وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل، وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض “. وقد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى ” عدد 38 “: ” سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر أيضا “. 6 – وجاء في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين ” عدد 10 ” في قول الله لابراهيم: ” هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر “. وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج ” عدد 48 – 49 “: ” وإذا نزل عندك نزيل، وصنع فصحا للرب فليختن منه كل ذكر، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الارض، وأما كل أغلف فلا يأكل منه، تكون شريعة واحدة لمولود الارض، وللنزيل النازل بينكم “. وجاء في الاصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين ” عدد 2، 3 “: ” إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته “. وقد نسخ هذا الحكم، ووضع ثقل الختان عن الامة بما جاء في الاصحاح


[ 284 ]

الخامس عشر من أعمال الرسل ” عدد 24 – 30 ” وفي جملة من رسائل بولس الرسول. 7 – وجاء في الاصحاح الرابع والعشرين من التثنية ” عدد 1 – 3 “: ” إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه، لان وجد فيها عيب شئ، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الاخر وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الاخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الاول الذي طلقها أن يعود يأخذها، لتصير له زوجة “. وقد نسخ الانجيل ذلك وحرم الطلاق بما جاء في الاصحاح الخامس من متى ” عدد 31 – 32 “: ” وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني. ” وقد جاء مثل ذلك في الاصحاح العاشر من مرقس: عدد: 11، 12 ” والاصحاح السادس عشر من لوقا ” عدد 18 “. وفيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع هو شهيد، ومن أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليراجع كتابي إظهار الحق (1) والهدى إلى دين المصطفى (2). النسخ في الشريعة الاسلامية: لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الاسلامية، وإن جملة من أحكام هذه


(1) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، وهو كتاب جليل نافع جدا. (2) للامام البلاغي. (*)

[ 285 ]

الشريعة قد نسخت بأحكام اخرى من هذه الشريعة نفسها، فقد صرح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الاولى، وهذا مما لا ريب فيه. وإنما الكلام في أن يكون شئ من أحكام القرآن منسوخا بالقرآن، أو بالسنة القطعية، أو بالاجماع، أو بالعقل. وقبل الخوض في البحث عن هذه الجهة يحسن بنا أن نتكلم على أقسام النسخ، فقد قسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام: 1 – نسخ التلاوة دون الحكم: وقد مثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا: إن هذه الاية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد قدمنا لك في بحث التحريف أن القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف وأوضحنا أن مستند هذا القول أخبار آحاد وأن أخبار الاحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام. فقد أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد كما أن القرآن لا يثبت به، والوجه في ذلك – مضافا إلى الاجماع – أن الامور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس، وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم من القرآن، وانها قد نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، نعم قد تقدم أن عمر أتى بآية الرجم وادعى انها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون، لان نقل هذه الاية كان منحصرا به، ولم يثبتوها في المصاحف، فالتزم المتأخرون بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم. 2 – نسخ التلاوة والحكم: ومثلوا لنسخ التلاوة والحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة


[ 286 ]

من نسخ التلاوة في بحث التحريف، والكلام في هذا القسم كالكلام على القسم الاول بعينه. 3 – نسخ الحكم دون التلاوة: وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسرين، وقد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ. منهم العالم الشهير أبو جعفر النحاس، والحافظ المظفر الفارسي، وخالفهم في ذلك بعض المحققين، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن. وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك، وعلى وجود آيات من القرآن ناسخة لاحكام ثابتة في الشرائع السابقة، ولاحكام ثابتة في صدر الاسلام. ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول: إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة: 1 – إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة، أو بالاجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه السلام وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا، فإن ثبت في مورد فهو المتبع، وإلا فلا يلتزم بالنسخ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد. 2 – إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ، ومبينة لرفعه، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى ” سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى “. 3 – إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق، ولا مبينة لرفعه، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الاية المتأخرة ناسخة لحكم الاية المتقدمة.


[ 287 ]

والتحقيق: أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال الله عز وجل: ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 4: 82 “. ولكن كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الايات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الايات، والتزموا لاجله بأن الاية المتأخرة ناسخة لحكم الاية المتقدمة، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا كانت إحدى الايتين قرينة عرفية على بيان المراد من الاية الاخرى، كالخاص بالنسبة إلى العام، وكالمقيد بالاضافة إلى المطلق، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها، ومنشأ هذا قلة التدبر، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه، ولكن إطلاقه – بعد ذلك – مبني على التسامح لا محالة. مناقشة الايات المدعى نسخها: وعلى كل فلا بد لنامن الكلام في الايات التي ادعي النسخ فيها. ونذكر منها ما كان في معرفة وقوع النسخ فيه وعدم وقوعه غموض في الجملة. أما ما كان عدم النسخ فيه ظاهرا – بعد ما قدمناه – فلا نتعرض له في المقام ” وسنتعرض لذلك عند تفسيرنا الايات إن شاء الله تعالى “. وليكن كلامنا في الايات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم: 1 – ” ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم


[ 288 ]

الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير 2: 109 “. فعن ابن عباس وقتادة والسدي، أنها منسوخة بآية السيف. واختاره أبو جعفر النحاس (1). وآية السيف هو قوله تعالى: ” قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون 9: 29 “. والالتزام بالنسخ – هنا – يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين: الاول: أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخا، وهذا واضح الفساد، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد. فإن الحكم إذا كان موقتا – وإن كان توقيته على سبيل الاجمال – كان الدليل الموضح لوقته، والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا، وليس هذا من النسخ في شئ. فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الاطلاق في الدوام وعدم الاختصاص بزمان مخصوص. وقد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل وهو قول بين الفساد، وأما الحكم الذي صرح فيه بالتأييد، فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.


(1) في كتابه الناسخ والمنسوخ ص 26 طبع المكتبة العلامية بمصر. (*)

[ 289 ]

الثاني: أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم بقتالهم، وذلك باطل، فإن الايات القرآنية الامرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الايمان بالله تعالى وباليوم الاخر. وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى: ” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 2: 190 “. أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين، لقوله تعالى بعد ذلك: ” والفتنة أشد من القتل 2: 191 “. أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للاية المتقدمة، وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر، كما هو صريح الاية الكريمة. وحاصل ذلك: أن الامر في الاية المباركة بالعفو والصفح عن الكتابيين، لانهم يودون أن يردوا المسلمين كفارا – وهذا لازم عادي لكفرهم – لا ينافيه الامر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه، على أن متوهم النسخ في الاية الكريمة قد حمل لفظ الامر من قوله تعالى: ” حتى يأتي الله بأمره 2: 109 “. على الطلب، فتوهم أن الله أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ. وقد اتضح للقارئ أن هذا – على فرض صحته – لا يستلزم النسخ ولكن (البيان – 19)


[ 290 ]

هذا التوهم ساقط، فإن المراد بالامر هنا الامر التكويني وقضاء الله تعالى في خلقه، ويدل على ذلك تعلق الاتيان به، وقوله تعالى بعد ذلك: ” إن الله على كل شئ قدير 2: 109 “. وحاصل معنى الاية الامر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودهم هذا، حتى يفعل الله ما يشاء في خلقه من عز الاسلام، وتقوية شوكته، ودخول كثير من الكفار في الاسلام، وإهلاك كثير من غيرهم، وعذابهم في الاخرة، وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره. 2 – ” ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم 2: 115 “. فقد نسب إلى جماعة منهم ابن عباس، وأبو العالية، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والسدى، وزيد بن أسلم أن الاية منسوخة (1) واختلف في ناسخها فذكر ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: ” وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره 2: 150 “. وذهب قتادة إلى أن الناسخ قوله تعالى: ” فول وجهك شطر المسجد الحرام 2: 150 “. كذلك ذكر القرطبي (2)، وذكروا في وجه النسخ أن النبي صلى الله عليه واله وسلم وجميع


(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 157، 158. (2) تفسير القرطبي ج 2 ص 74. (*)

[ 291 ]

المسلمين كانوا مخيرين في الصلاة إلى أية جهة شاءوا وإن كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد اختار من الجهات جهة بيت المقدس، فنسخ ذلك بالامر بالتوجه إلى خصوص بيت الله الحرام. ولا يخفى ما في هذا القول من الوهن والسقوط، فإن قوله تعالى: ” وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه 2: 143 “. صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك، ولم يكن لاختيار النبي صلى الله عليه واله وسلم في ذلك دخل أصلا. والصحيح أن يقال في الاية الكريمة إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة بالله تعالى، فإنه لا يحيط به مكان، فأينما توجه الانسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته فقد توجه إلى الله تعالى. ومن هنا استدل بها أهل البيت – ع – على الرخصة للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء، وعلى صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ، وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة. وعلى صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة، وقد تلاها سعيد بن جبير ” رحمه الله ” لما أمر الحجاج بذبحه إلى الارض (1) فهذه الاية مطلقة، وقد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة، وإلى الكعبة تارة أخرى، وفي النافلة أيضا في غير حال المشي على قول. وأما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك ” وقد تقدم أن الايات لا تختص بموارد نزولها “. وجملة القول: ان دعوى النسخ في الاية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين:


(1) تفسير القرطبي ج 2 ص 75. (*)

[ 292 ]

الاول: أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة، وهذا معلوم بطلانه، وقد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء وفي النافلة للمسافر، وفي صلاة المتحير، وفي من صلى إلى غير القبلة خطأ (1) وقد مر عليك – آنفا – استشهاد أهل البيت – ع – بالاية المباركة في عدة موارد. الثاني: أن يكون نزولها قبل نزول الاية الامرة بالتوجه إلى الكعبة وهذا أيضا غير ثابت، وعلى ذلك فدعوى النسخ في الاية باطلة جزما. وفي بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت – ع – التصريح بأن الاية المباركة ليست منسوخة. نعم قد يراد من النسخ معنى عاما شاملا للتقييد، فإذا أريد به ذلك في المقام فلا مانع منه، ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد ابن عباس من النسخ فيها، وقد أشرنا إليه فيما تقدم. 3 – ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى 2: 178 “. فقد ادعي انها منسوخة بقوله تعالى: ” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن 5: 45 “. ومن أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى: أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يرد إلى ورثته شئ من الدية (2) وخالف في ذلك الحسن وعطاء، فذهبا


(1) تفسير الطبري ج 1 ص 400 – 402. (2) تفسير القرطبي ج 2 ص 229. (*)

[ 293 ]

إلى: أن الرجل لا يقتل بالمرأة. وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة (1) وذهبت الامامية إلى: أن ولي دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها، ومطالبة الرجل القاتل بالقصاص، بشرط أداء نصف دية الرجل. والمشهور بين أهل السنة: أن الحر لا يقتل بالعبد، وعليه إجماع الامامية، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود، فقالوا: إن الحر يقتل بعبد غيره (2)، وذهب شواذ منهم إلى: أن الحر يقتل بالعبد وإن كان عبد نفسه (3). والحق: أن الاية الاولى محكمة ولم يرد عليها ناسخ، والوجه في ذلك: أن الاية الثانية مطلقة من حيث العبد، والحر، والذكر، والانثى فلا صراحة لها في حكم العبد، وحكم الانثى، وعلى كل فإن لم تكن الاية في مقام البيان من حيث خصوصية القاتل والمقتول، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط، على ما هو مفاد قوله تعالى: ” فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم 2: 194 “. كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للاية الاولى، وإن كانت في مقام البيان من هذه الناحية – وكانت ظاهرة في الاطلاق وظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الامة أيضا، ولم تكن للاخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط – كانت الاية الاولى مقيدة لاطلاقها، وقرينة على بيان المراد منها، فإن المطلق


(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 210. (2) نفس المصدر ص 209. وقال ابن كثير: قال البخاري وعلي بن المديني، وإبراهيم النخعي، والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده. (3) أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 137. (*)

[ 294 ]

لا يصلح لان يكون ناسخا للمقيد وإن كان متأخرا عنه، بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر، وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد. وأما الرواية التي رووها عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من قوله: ” المسلمون تتكافأ دماؤهم ” فهي – على تقدير تسليمها – مخصصة بالاية، فإن دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم. ومن البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه والمتأخر. وأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بطريق الحسن عن سمرة فهو ضعيف السند، وغير قابل للاعتماد عليه. قال أبو بكر بن العربي: ” ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه ” ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: ” من قتل عبده قتلناه “، وهذا حديث ضعيف (1). أقول: هذا، مضافا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه واله وسلم ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به (2). وبما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وبما رواه جابر عن عامر عن علي عليه السلام: ” لا يقتل حر بعبد ” (3)، وبما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد (4). وقد عرفت أن روايات أهل البيت – ع – مجمعة على: أن الحر لا يقتل


(1) أحكام القرآن لابي بكر بن العربي ج 1 ص 27. (2) سنن البيهقي ج 8 ص 36. (3) نفس المصدر ص 34، 35. (4) نفس المصدر ص 34. (*)

[ 295 ]

بالعبد، وأهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الاعظم صلى الله عليه واله وسلم وبعد هذا فلا يبقى مجال لدعوى نسخ الاية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد. وأما بالاضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الاية منسوخة أيضا، بناء على مذهب الامامية والحسن وعطاء، نعم تكون الاية منسوخة على مسلك الجمهور، وتوضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى: ” كتب عليكم القصاص 2: 178 “. أن القصاص فرض واجب، ومن الواضح أنه إنما يكون فرضا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم، وذلك أمر معلوم من الخارج، ويدل عليه من الاية قوله تعالى فيها: ” فمن عفي له من أخيه شئ: 178 “. وعلى ذلك فالمستفاد من الاية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك، ومن الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلا، أو قتل المرأة رجلا أو امرأة، فإن الرجل إذا قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة، وله الامتناع حتى يأخذ نصف ديته، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك. وبتعبير آخر: تدل الاية المباركة على أن بدل الانثى هي الانثى، فلا يكون الرجل بدلا عنها، وعليه فلا نسخ في مدلول الاية، نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته، فيكون الرجل بدلا عن مجموع الانثى ونصف الدية، وهو حكم آخر لا يمس بالحكم الاول المستفاد من الاية الكريمة، وأين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به. وجملة القول: أن ثبوت النسخ في الاية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد


[ 296 ]

على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص، كما عليه الجمهور. وأنى لهم إثباته ؟ فإنهم قد يتمسكون لاثباته باطلاق الاية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم، وبعموم قول النبي صلى الله عليه واله وسلم: ” المسلمون تتكافأ دماؤهم ” وقد عرفت ما فيه. وقد يتمسكون لاثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة وقادهم بها. وعن ليث عن الحكم عن علي وعبد الله قالا: ” إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود “. وعن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله – ص – قال: ” إن الرجل يقتل بالمرأة ” (1). وهو باطل من وجوه: 1 – إن هذه الروايات – لو فرضت صحتها – مخالفة للكتاب، وما كان كذلك لا يكون حجة. وقد عرفت – فيما تقدم – قيام الاجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد. 2 – إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت – ع – وبما رواه عطاء والشعبي، والحسن البصري عن علي عليه السلام أنه قال في قتل الرجل امرأة: ” إن أولياء المرأة إن شاءوا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل ” (2). 3 – إن الرواية الاولى منها من المراسيل، فإن ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر (3) فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة، وإذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر، ولا حجية لفعله في نفسه، وأن الرواية الثانية


(1) أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 139. (2) نفس المصدر ج 1 ص 120. (3) تهذيب التهذيب ج 4 ص 86. (*)

[ 297 ]

ضعيفة مرسلة، وأما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة، وقابلة لان تقيد بأداء نصف الدية. ونتيجة ما تقدم: أن الاية الكريمة لم يثبت نسخها بشئ، وأن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء، وكيف يمكن أن ترفع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو ؟ ومما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. وقد اتضح مما بيناه أن قوله تعالى: ” ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا 17: 33 “. وقوله تعالى: ” ولكم في القصاص حيوة يا أولي الالباب 2: 179 “. لا يصلحان أن يكونا ناسخين للاية المتقدمة التي فرقت بين الرجل والانثى، وبين الحر والعبد. – وسيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الاية الكريمة إن شاء الله تعالى -. 4 – ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين 2: 180 “. فقد ادعى جمع أنها منسوخة بآية المواريث، وادعى آخرون أنها منسوخة


[ 298 ]

بما عن النبي – ص – من قوله: ” لا وصية لوارث ” (1). والحق: أن الاية ليست منسوخة. أما القول بنسخها بآية المواريث، فيرده أن الايات قد دلت على أن الميراث مترتب على عدم الوصية، وعدم الدين. ومع ذلك فكيف يعقل كونها ناسخة لحكم الوصية ؟ وقد قيل في وجه النسخ للاية: إن الميراث في أول الاسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك، وإنما كان الارث يدفع جميعه للولد، وما يعطى الوالدان من المال فهو بطريق الوصية فنسخ ذلك بآية المواريث. وهذا القول مدفوع: أولا: بأن هذا غير ثابت، وإن كان مرويا في صحيح البخاري، لان النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا. ثانيا: أنه موقوف على تأخر آية المواريث عن هذه الاية، وأنى للقائل بالنسخ إثبات ذلك ؟ أما دعوى القطع بذلك من بعض الحنفية فعهدتها على مدعيها. ثالثا: أن هذا لا يتم في الاقربين، فإنه لا إرث لهم مع الولد، فكيف يعقل أن تكون آية المواريث ناسخة لحكم الوصية للاقربين ؟ وعلى كل فإن آية المواريث من حيث ترتبها على عدم الوصية تكون مؤكدة لتشريع الوصية ونفوذها، فلا معنى لكونها ناسخة لها. وأما دعوى نسخ الاية بالرواية المتقدمة فهي أيضا باطلة من وجوه: 1 – ان الرواية لم تثبت صحتها، والبخاري ومسلم لم يرضياها، وقد تكلم في تفسير المنار على سندهما (2).


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 20. (2) الجزء الثاني ص 138. (*)

[ 299 ]

2 – أنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم السلام الدالة على جواز الوصية للوارث. ففي صحيحه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الوصية للوارث فقال: تجوز. قال: ثم تلا هذه الاية: ” إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين 2: 180 “. وبمضمونها روايات اخرى (1). 3 – أن الرواية لو صحت، وسلمت عن المعارضة بشئ فهي لا تصلح لنسخ الاية، لانها لا تنافيها في المدلول. غاية الامر أنها تكون مقيدة لاطلاق الاية فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الارث لمانع، وبمن لا يرث من الاقربين وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الاية فقد تقدم: أن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقرآن بإجماع المسلمين، فالاية محكمة وليست منسوخة. ثم ان الكتابة عبارة عن القضاء بشئ، ومنه قوله تعالى: ” كتب على نفسه الرحمة 6: 12 “. والعقل يحكم بوجوب امتثال حكم المولى وقضائه ما لم تثبت فيه رخصة من قبل المولى. ومعنى هذا أن الوصية للوالدين والاقربين واجبة بمقتضى الاية، ولكن السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين، والروايات المأثورة عن الائمة من أهل البيت عليهم السلام والاجماع المتحقق من الفقهاء في كل عصر قد أثبت لنا الرخصة فيكون الثابت من الاية بعد هذه الرخصة هو استحباب الوصية المذكورة، بل تأكد استحبابها على الانسان، ويكو المراد من الكتابة فيها هو: القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الالزام.


(1) الوافي ج 13 ص 17. (*)

[ 300 ]

5 – ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون 2: 183 “. فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى: ” أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم: 187 “. وذكروا في وجه النسخ: أن الصوم الواجب على الامة في بداية الامر كان مماثلا للصوم الواجب على الامة السالفة، وأن من أحكامه أن الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك، وإذا نام أحدهم بعد المساء حرم عليه الطعام والشراب والنساء، فنسخ ذلك بقوله تعالى: ” وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض: 187 “. وبقوله تعالى: ” أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم: 187 “. وقد اتفق علماء أهل السنة على أن آية التحليل ناسخة (1) ثم اختلفوا فقال بعضهم: هي ناسخة للاية السابقة، فإنهم استفادوا منها أن الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصوم الواجب على الامم السالفة، وقال بذلك أبو العالية، وعطاء، ونسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضا (2) وقال بعضهم: إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 24. (2) نفس المصدر ص 21. (*)

[ 301 ]

ولا يخفى أن النسخ للاية الاولى موقوف على إثبات تقدمها على الاية الثانية في النزول، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، وعلى أن يكون المراد من التشبيه في الاية تشبيه صيام هذه الامة بصيام الامم السالفة، وهو خلاف المفهوم العرفي، بل وخلاف صريح الاية، فإن المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة فلا دلالة فيها على أن الصومين متماثلان لتصح دعوى النسخ، وإذا ثبت ذلك من الخارج كان نسخا لحكم ثابت بغير القرآن، وهو خارج عن دائرة البحث: 6 – ” وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له 2: 184 “. فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى: ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه: 185 “. ودعوى النسخ في هذه الاية الكريمة واضحة الثبوت لو كان المراد من الطوق السعة والقدرة، فإن مفاد الاية على هذا: أن من يستطع الصوم فله أن لا يصوم ويعطي الفدية: طعام مسكين بدلا عنه، فتكون منسوخة. ولكن من البين أن المراد من الطاقة: القدرة مع المشقة العظيمة. وحاصل المراد من الاية: أن الله تعالى بعد أن أوجب الصوم وجوبا تعيينيا في الاية السابقة، وأسقطه عن المسافر والمريض، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلا عنه، أراد أن يبين حكما آخر لصنف آخر من الناس وهم الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة وجدها بالغا، كالشيخ الهم، وذي العطاش، والمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الاخر، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء


[ 302 ]

وقضاء، وأوجب عليهم الفدية، فالاية المباركة حيث دلت على تعيين وجوب الصوم على المؤمنين في الايام المعدودات، وعلى تعين وجوبه قضاء في أيام أخر على المريض والمسافر، كانت ظاهرة في أن وجوب الفدية تعيينا إنما هو على غير هذين الصنفين اللذين تعين عليهما الصوم، ومع هذا فكيف يدعى أن المستفاد من الاية هو الوجوب التخييري بين الصوم والفدية لمن تمكن من الصوم، وإن أخبار أهل البيت – ع – مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الاية (1). ولفظ الطاقة وإن استعمل في معنى القدرة والسعة إلا أن معناه اللغوي هو القدرة مع المشقة العظيمة، وإعمال غاية الجهد. ففي لسان العرب: ” الطوق الطاقة أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقة منه “. ونقل عن ابن الاثير والراغب أيضا التصريح بذلك. ولو سلمنا أن معنى الطاقة هي السعة كان الفظ الاطاقة بمعنى إيجاد السعة في الشئ، فلا بد من أن يكون الشئ في نفسه مضيقا لتكون سعته ناشئة من قبل الفاعل، ولا يكون هذا إلا مع إعمال غاية الجهد. قال في تفسير المنار نقلا عن شيخه: ” فلا تقول العرب: أطاق الشئ إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة شديدة ” (2). فالاية الكريمة محكمة لا نسخ لها، ومدلولها حكم مغاير لحكم من وجب عليه الصوم أداء وقضاء. وجميع ما قدمناه مبني على القراءة المعروفة. أما على قراءة ابن عباس، وعائشة، وعكرمة، وابن المسيب حيث قرأوا يطوقونه بصيغة المبني للمجهول من باب التفعيل (3) فالامر أوضح. نعم بناء على قول


(1) الوافي ج 7 باب العاجز عن الصيام ص 43. (2) الجزء الثاني ص 156. (3) أحكام القرآن للجصاص ص 177. (*)

[ 303 ]

ربيعة ومالك، بأن المشايخ والعجائز لا شئ عليهم إذا أفطروا (1) تكون الاية منسوخة، ولكن الشأن في صحة هذا القول، والاية الكريمة حجة على قائله. 7 – ” ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين 2: 191 “. قال أبو جعفر النحاس: وأكثر أهل النظر على هذا القول أن الاية منسوخة، وأن المشركين يقاتلون في الحرم وغيره. ونسب القول بالنسخ إلى قتادة أيضا (2). والحق: أن الاية محكمة ليست منسوخة. فإن ناسخ الاية إن كان هو قوله تعالى: ” فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم 9: 5 “. فهذا القول ظاهر البطلان، لان الاية الاولى خاصة، والخاص يكون قرينة على بيان المراد من العام، وإن علم تقدمه عليه في الورود، فكيف إذا لم يعلم ذلك ؟ وعلى هذا فيختص قتال المشركين بغير الحرم، إلا أن يكونوا هم المبتدئين بالقتال فيه، فيجوز قتالهم فيه حينئذ. وإن استندوا في نسخ الاية إلى الرواية القائلة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل ابن خطل – وقد كان متعلقا بأستار الكعبة – فهو باطل أيضا.


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 23. (2) نفس المصدر ص 28. (*)

[ 304 ]

أولا: لانه خبر واحد لا يثبت به النسخ. ثانيا: لانه لا دلالة له على النسخ، فإنهم رووا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: ” إنها لم تحل لاحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهارها ” (1)، وصريح هذه الرواية أن ذلك من خصائص النبي عليه السلام فلا وجه للقول بنسخ الاية إلا المتابعة لفتاوى جماعة من الفقهاء، والاية حجة عليهم. 8 – ” يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير 2: 217 “. قال أبو جعفر النحاس: أجمع العلماء على أن هذه الاية منسوخة، وأن قتال المشركين في الشهر الحرام مباح، غير عطاء فإنه قال: الاية محكمة، ولا يجوز القتال في الاشهر الحرم (2). وأما الشيعة الامامية فلا خلاف بينهم نصا وفتوى على أن التحريم باق، صرح بذلك في التبيان وجواهر الكلام، وهذا هو الحق، لان المستند للنسخ إن كان هو قوله تعالى: ” فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم 9: 5 “. كما ذكره النحاس فهو غريب جدا، فإن الاية علقت الحكم بقتل المشركين على انسلاخ الاشهر الحرم، فقد قال تعالى:


(1) فتح القدير للشوكاني ج 1 ص 168. (2) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 32. (*)

[ 305 ]

” فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم 9: 5 “. فكيف يمكن أن تكون ناسخة لحرمة القتال في الشهر الحرام ؟ وإن استندوا فيه إلى إطلاق آية السيف وهي قوله تعالى: ” قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة 9: 36 “. فمن الظاهر أن المطلق لا يكون ناسخا للمقيد، وإن كان متأخرا عنه. وإن استندوا فيه إلى ما رووه عن ابن عباس وقتادة أن الاية منسوخة بآية السيف فيرده: أولا: ان النسخ لا يثبت بخبر الواحد. وثانيا: انها ليست رواية عن معصوم، ولعلها اجتهاد من ابن عباس وقتادة. وثالثا: انها معارضة بما رواه ابراهيم بن شريك، قال: حدثنا أحمد – يعني ابن عبد الله بن يونس – قال: حدثنا الليث عن أبي الازهر عن جابر، قال رسول الله – ص -: لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو (1) فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ، ومعارضة بما رواه أصحابنا الامامية عن أهل البيت – ع – من حرمة القتال في الاشهر الحرم. وإن استندوا في النسخ إلى ما نقلوه من مقاتلة رسول الله – ص – هوازن في


(1) كذا في الاصل. (*)

[ 306 ]

حنين، وثقيفا في الطائف شهر شوال، وذي القعدة، وذي الحجة من الاشهر الحرم فيرده: أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد. وثانيا: إن فعل النبي – إذا صحت الرواية – مجمل يحتمل وقوعه على وجوه، ولعله كان لضرورة اقتضت وقوعه، فكيف يمكن أن يكون ناسخا للاية. 9 – ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن 2: 221 “. فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى: ” والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن 5: 5 “. ذهب إليه ابن عباس، ومالك بن أنس، وسفيان بن سعيد، وعبد الرحمن ابن عمر، والاوزاعي، وذهب عبد الله بن عمر إلى أن الاية الثانية منسوخة بالاولى، فحرم نكاح الكتابية (1). والحق: أنه لا نسخ في شئ من الايتين فإن المشركة التي حرمت الاية الاولى نكاحها، إن كان المراد منها التي تعبد الاصنام والاوثان – كما هو الظاهر – فإن حرمة نكاحها لا تنافي إباحة نكاح الكتابية التي دلت عليها الاية الثانية، لتكون إحداهما ناسخة والثانية مسوخة، وإن كان المراد من المشركة ما هو أعم من الكتابية – كما توهمه القائلون بالنسخ – كانت الاية الثانية مخصصة للاية الاولى


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 58.

[ 307 ]

ويكون حاصل معنى الايتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة. نعم المعروف بين علماء الشيعة الامامية أن نكاح الكتابية لا يجوز إلا بالمتة، إما لتقييد إطلاق آية الاباحة بالروايات الدالة على تحريم النكاح الدائم، وإما لدعوى ظهور الاية الكريمة في المتعة دون العقد الدائم، ونقل عن الحسين والصدوقين جواز الدائم أيضا ” وسنتعرض للكلام كل في محله إن شاء الله تعالى “. 10 – ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي 2: 256 “. فقد قال جماعة: إنها منسوخة بقوله تعالى “: ” يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين 9: 73 “. وذهب بعضهم إلى أنها مخصوصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يقاتلون لكفرهم ” وقد عرفت ذلك فيما تقدم. والحق: أن الاية محكمة وليست منسوخة، ولا مخصوصة، وتوضيح ذلك: أن الكره في اللغة يستعمل في معنيين، أحدهما: ما يقابل الرضا، ومنه قوله تعالى: ” وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم 2: 216 “. وثانيهما: ما يقابل الاختيار، ومنه قوله تعالى: ” حملته أمه كرها ووضعته كرها 46: 15 “. فإن الحمل والوضع يكونان في الغالب عن رضى، ولكنهما خارجان عن


[ 308 ]

الاختيار، والقول بالنسخ أو بالتخصيص يتوقف على أن الاكراه في الاية قد استعمل بالمعنى الاول، وهو باطل لوجوه: 1 – إنه لا دليل على ذلك: ولا بد في حمل اللفظ المشترك على أحد معنييه من وجود قرينة تدل عليه. 2 – إن الدين أعم من الاصول والفروع، وذكر الكفر والايمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الاختصاص بالاصول فقط، وإنما ذلك من قبيل تطبيق الكبرى على صغراها، ومما لا ريب فيه أن الاكراه بحق كان ثابتا في الشرع الاسلامي من أول الامر على طبق السيرة العقلائية، وأمثلته كثيرة، فمنها إكراه المديون على أداء دينه، وإكراه الزوجة على إطاعة زوجها، وإكراه السارق على ترك السرقة، إلى أمثال ذلك، فكيف يصح أن يقال: إن الاكراه في الشريعة الاسلامية لم يكن في زمان. 3 – إن تفسير الاكراه في الاية بالمعنى الاول ” ما يقابل الرضا ” لا يناسبه قوله تعالى: ” قد تبين الرشد من الغي 2: 256 “. الا بأن يكون المراد بيان علة الحكم، وان عدم الاكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد وتبينه من الغي، وإذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخه، فإن دين الاسلام كان واضح الحجة، ساطع البرهان من أول الامر، إلا أن ظهوره كان يشتد شيئا فشيئا، ومعنى هذا أن الاكراه في أواخر دعوة النبي صلى الله عليه وآله أحرى بأن لا يقع لان برهان الاسلام في ذلك العهد كان أسطع، وحجته أوضح، ولما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار، فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض، ولازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم، وهذه نتيجة باطلة بالضرورة.


[ 309 ]

فالحق: أن المراد بالاكراه في الاية ما يقابل الاختيار، وأن الجملة خبرية لا إنشائية، والمراد من الاية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الايات القرآنية كثيرا، من أن الشريعة الالهية غير مبتنية على الجبر، لا في أصولها ولا في فروعها، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإيضاح الاحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، كما قال تعالى: ” إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا 76: 3 “. وحاصل معنى الاية أن الله تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان ولا طاعة، ولكنه يوضح الحق يبينه من الغي، وقد فعل ذلك، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا – ولو شاء لفعل – لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على أعمالهم، بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل، فقد قال عز من قائل: ” ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون 5: 48. قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 6: 149. وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين 16: 35 “.


[ 310 ]

11 – ” واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا 4: 15. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: 16 “. فذهب بعضهم، ومنهم عكرمة وعبادة بن الصامت في رواية الحسن عن الرقاشي عنه أن الاية الاولى منسوخة بالثانية والثانية منسوخة في البكر من الرجال والنساء إذا زنى بأن يجلد مائة جلدة، وينفى عاما، وفي الثيب منهما أن يجلد مائة، ويرجم حتى يموت، وذهب بعضهم كقتادة ومحمد بن جابر إلى أن الاية الاولى مخصوصة بالثيب والثانية بالبكر، وقد نسخت كلتاهما بحكم الجلد والرجم، وذهب ابن عباس ومجاهد ومن تبعهما، كأبي جعفر النحاس إلى أن الاية الاولى مختصة بزناء النساء من ثيب أو بكر، والاية الثانية مختصة بزناء الرجال ثيبا كان أو بكرا، وقد نسخت كلتاهما بحكم الرجم والجلد (1) وكيف كان فقد ذكر أبو بكر الجصاص أن الامة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين (2). والحق: أنه لا نسخ في الايتين جميعا، وبيان ذلك: أن المراد من لفظ


(1) الناسخ والمنسوخ ص 98. (2) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 107. (*)

[ 311 ]

الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطا، وقد يكون بين ذكر وأنثى فيكون زنى، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعا ولا انصرافا، ثم ان الالتزام بالنسخ في الاية الاولى يتوقف. أولا: على أن الامساك في البيوت حد لارتكاب الفاحشة. ثانيا: على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد وكلا هذين الامرين لا يمكن إثباته، فإن الظاهر من الاية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وهذا من قبيل دفع المنكر، وقد ثبت وجوبه بلا إشكال في الامور المهمة كالاعراض، والنفوس، والامور الخطيرة، بل في مطلق المنكرات على قول بعض، كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب، فكيف يكون منه الجلد والرجم، وهل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفهة الحال أن ترجم وتجلد، وكيف يكون الجلد أو الرجم سبيلا لها وإذا كان ذلك سبيلا لها فما هو السبيل عليها ؟ !. وعلى ما تقدم: فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة، كما أن المراد بها في الاية الثانية خصوص اللواط، ” وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى “، وقد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة والزنا، وعلى كلا هذين الاحتمالين يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرج الله عنها، فيجيز لها الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وإما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنها ونحوه، وإما بميلها إلى الزواج وتزوجها برجل يتحفظ عليها، وإما بغير ذلك من الاسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة. وهذا الحكم باق مستمر، وأما الجلد أو الرجم فهو حكم آخر شرع لتأديب مرتكبي الفاحشة، وهو أجنبي عن الحكم الاول، فلا معنى لكونه ناسخا له.


[ 312 ]

وبتعبير آخر: أن الحكم الاول شرع للتحفظ عن الوقوع في الفاحشة مرة أخرى، والحكم الثاني شرع للتأديب على الجريمة الاولى، وصونا لباقي النساء عن ارتكاب مثلها فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الاول بالثاني. نعم إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد ارتفع وجوب الامساك في البيت لحصول غايته، وفيما سوى ذلك فالحكم باق ما لم يجعل الله لها سبيلا. وجملة القول: إن المتأمل في معنى الاية لا يجد فيها ما يوهم النسخ، سواء في ذلك تأخر آية الجلد عنها وتقدمها عليها. وأما القول بالنسخ في الاية الثانية فهو أيضا يتوقف: أولا: على أن يراد من الضمير في قوله تعالى ” يأتيانها ” الزنا. ثانيا: على أن يراد بالايذاء الشتم والسب والتعيير ونحو ذلك، وكلا هذين الامرين – مع أنه لا دليل عليه – مناف لظهور الاية. وبيان ذلك: أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الايتين ثلاث مرات، ولا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالاولين. ومن البين أن المراد بهما خصوص الرجال، وعلى هذا فيكون المراد من الموصول رجلين من الرجال، ولا يراد منه ما يعم رجلا وامرأة، على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان فليس لها وجه صحيح، وكان الاولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع، كما كان التعبير في الاية السابقة كذلك. وفي هذا دلالة قوية على أن المراد من الفاحشة في الاية الثانية هو خصوص اللواط لا خصوص الزنا، ولا ما هو أعم منه ومن اللواط وإذا تم ذلك كان موضوع الاية أجنبيا عن موضوع آية الجلد. وإذا سلمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الاية، فلا دليل على إرادة نوع خاص من الايذاء الذي أمر به في الاية، عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير وضرب النعال، وهو ليس بحجة ليثبت به النسخ، فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره، ثم تقييده بآية الجلد، أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنة القطعية.


[ 313 ]

وجملة القول: أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الايتين، غير التقليد المحض، أو الاعتماد على أخبار الاحاد التي لا تفيد علما ولا عملا. 12 – ” وأحل لكم ما وراء ذلكم 4: 24 “. فقد قيل إنها منسوخة بما دل من السنة على تحريم غير من ذكر في الاية من النساء، وثبوت هذه الدعوى موقوف على أن يكون الخاص المتأخر ناسخا للعام المتقدم لا مخصصا. والحق: أن الخاص يكون مخصصا للعام تقدم عليه أو تأخر عنه، ولا يكون ناسخا له، ولاجل ذلك يكتفى بخبر الواحد الجامع لشرائط الحجية في تخصيص العام – على ما سيجئ من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد – ولو كان الخاص المتأخر ناسخا لم يصح ذلك، لان النسخ لا يثبت بخبر الواحد، أضف إلى ذلك أن الاية ليس لها عموم لفظي، وإنما هو ثابت بالاطلاق، ومقدمات الحكمة، فإذا ورد من الادلة ما يصلح لتقييدها حكم بأن الاطلاق فيها غير مراد في الواقع. 13 – ” فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة 2: 24 “. فقد اشتهر بين علماء أهل السنة أن حلية المتعة قد نسخت، وثبت تحريمها إلى يوم القيامة، وقد أجمعت الشيعة الامامية على بقاء حلية المتعة وأن الاية المباركة لم تنسخ، ووافقهم على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن حزم:


[ 314 ]

ثبت على إباحتها – المتعة – بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ابن مسعود، ومعاوية، وأبو سعيد، وابن عباس، وسلمة، ومعبد ابنا أمية بن خلف، وجابر، وعمرو بن حريث، ورواه جابر عن جميع الصحابة: ” مدة رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر ” ثم قال: ” ومن التابعين طاووس، وسعيد بن جبير، وعطاء وسائر فقهاء مكة ” (1). ونسب شيخ الاسلام المرغيناني القول بجواز المتعة إلى مالك، مستدلا عليه بقوله: ” لانه – نكاح المتعة – كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه ” (2). ونسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة في رواية (3) وقد تزوج ابن جريح أحد الاعلام وفقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة (4) وسنتعرض إن شاء الله تعالى للبحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الاية الكريمة، ولكنا نتعرض هنا تعرضا إجماليا لاثبات أن مدلول الاية المباركة لم يرد عليه ناسخ. وبيان ذلك: أن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف. أولا: على أن المراد من الاستمتاع في الاية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة. ثانيا: على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك.


(1) هامش المنتقى للفقي ج 2 ص 520. (2) الهداية في شرح البداية ص 385 طبعة بولاق مع فتح القدير، وهذه النسبة قد أقرها الشيخ محمد البابرتي في شرحه على الهداية، نعم ان ابن الهمام الحنفي أنكر ذلك في فتح القدير والله العالم. وقال عبد للباقي المالكي الزرقاني في شرحه على مختصر أبي الضياء ج 3 ص 190: ” حقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ مطلقا أن يقع العقد مع ذكر الاجل من الرجل أو المرأة أو وليها بأن يعلمها بما قصده، وأما إذا لم يقع ذلك في العقد، ولكنه قصده الرجل، وفهمت المرأة ذلك منه فإنه يجوز، قاله مالك، وهي فائدة حسنة تنفع المتغرب “. (3) تفسير ابن كثير عند تفسيره الاية المباركة ج 1 ص 474. (4) شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء ج 8 ص 76 (*).

[ 315 ]

أما الامر الاول: ” إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع ” فلا ريب في ثبوته وقد تظافرت في ذلك الروايات عن الطريقين، قال القرطبي: قال الجمهور المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الاسلام، وقرأ ابن عباس، وأبي، وابن جبير ” فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن اجورهن ” (1)، ومع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن بأن المراد منها النكاح الدائم، وأن الله لم يحل المتعة في كتابه، ونسب هذا القول إلى مجاهد، وابن عباس أيضا، والروايات المروية عنهما أن الاية نزلت في المتعة تكذب هذه النسبة، وعلى كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح وتشريعه تغنينا عن تكلف إثباته، وعن إطالة الكلام فيه. وأما الامر الثاني: ” تحريم نكاح المتعة بعد جوازه ” فهو ممنوع، فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد امور، وجميعها لا يصلح لان يكون ناسخا، وهي: 1 – إن ناسخها هو قوله تعالى: ” يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن 65: 1 “. ونسب ذلك إلى ابن عباس (2) ولكن النسبة غير صحيحة، فإنك ستعرف أن ابن عباس بقي مصرا على إباحة المتعة طيلة حياته. والجواب عن ذلك ظاهر، لان الالتزام بالنسخ إن كان لاجل أن عدد عدة


(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 130، وقال ابن كثير في تفسيره: وكان ابن عباس وابي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي يقرأون ” فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن اجورهن فريضة “. (2) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105. (*)

[ 316 ]

المتمتع بها أقل من عدة المطلقة فلا دلالة في الاية، ولا في غيرها، على أن عدة النساء لا بد وأن تكون على نحو واحد، وإن كان لاجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة، فليس للاية تعرض لبيان موارد الطلاق، وأنه في أي مورد يكون وفي أي مورد لا يكون. وقد نقل في تفسير المنار عن بعض المفسرين أن الشيعة يقولون بعدم العدة في نكاح المتعة (1). سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وهذه كتب فقهاء الشيعة من قدمائهم ومتأخريهم، ليس فيها من نسب إليه هذا القول، وإن كان على سبيل الشذوذ، فضلا عن كونه مجمعا عليه بينهم، وللشيعة مع هؤلاء الذين يفترون عليهم الاقاويل، وينسبون إليهم الاباطيل يوم تجتمع فيه الخصوم، وهنالك يخسر المبطلون (2). 2 – إن ناسخها قوله تعالى: ” ولكم نصف ما ترك أزواجكم 4: 12 “. من حيث أن المتمتع بها لا ترث ولا تورث فلا تكون زوجة. ونسب ذلك إلى سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن أبي بكر (3). الجواب: إن ما دل على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصا لاية الارث ولا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث. وقد ثبت أن الكافر لا يرث


(1) المجلد الخامس ص 13، 14. (2) سنتعرض لبعض هذه الافتراءات عند تفسيرنا قوله تعالى: ” إياك نعبد وإياك نستعين ” من هذا المجلد. (3) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105، 106. (*)

[ 317 ]

المسلم، وأن القاتل لا يرث المقتول، وغاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم، وأين هذا من النسخ ؟ ! !. 3 – إن ناسخها هو السنة، فقد رووا عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس: ” إنك رجل تائه. إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية زمن خيبر “. وروى الربيع بن سبرة عن أبيه قال: ” رأيت رسول الله – ص – قائما بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا “. وروى سلمة عن أبيه قال: ” رخص رسول الله صلى الله عليه وآله عام أو طاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها “. والجواب: أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، وقد تقدم مرارا. ثانيا: إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت – ع – المتواترة التي دلت على إباحة المتعة، وأن النبي لم ينه عنها أبدا. ثالثا: إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لا يكفي في الحكم بنسخ الاية، لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الاباحة، وقد استفاضت الروايات من طرق أهل السنة على حلية المتعة في الازمنة الاخيرة من حياة


[ 318 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله إلى زمان من خلافة عمر، فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب ولا بد من طرحه. ولاجل التبصرة نذكر فيما يلي جملة من هذه الروايات: 1 – روى أبو الزبير قال: ” سمعت جابر بن عبد الله يقول كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الايام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه – نكاح المتعة – عمر في شأن عمرو بن حريث ” (1). 2 – وروى أبو نضرة قال: ” كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين – متعة الحج ومتعة النساء – فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعدلهما ” (2). 3 – وروى أبو نضرة عنه أيضا قال: ” متعتان كانتا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهانا عنهما عمر فانتهينا ” (3). 4 – وروى أبو نضرة عنه أيضا: ” تمتعنا متعتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله: الحج والنساء فنهانا عنهما عمر فانتهينا ” (4). 5 – وروى أبو نضرة عنه أيضا قال:


(1) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ج 4 ص 141. (2) نفس المصدر. (3) مسند أحمد ج 3 ص 325. (4) مسند أحمد ص 356، 363. (*)

[ 319 ]

” قلت إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها، قال: – جابر – على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله هذا الرسول، وإن القرآن هذا القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما واعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة.. ” (1). 6 – وروى عطاء قال: ” قدم جابر بن عبد الله معتمرا، فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله – ص – وأبي بكر وعمر ” (2). وأخرج ذلك أحمد في مسنده، وزاد فيه: ” حتى إذا كان في آخر خلافة عمر ” (3). 7 – وروى عمران بن حصين قال: ” نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى، وعملنا بها مع رسول الله – ص – فلم تنزل آية تنسخها، ولم ينه عنها النبي – ص – حتى مات ” (4). وذكرها الرازي عند تفسيره الاية المباركة بزيادة: ” ثم قال رجل برأيه ما شاء ” (5). 8 – وروى عبد الله بن مسعود قال:


(1) سنن البيهقي ج 7 باب نكاح المتعة ص 206، وقال: أخرجه مسلم من وجه آخر عن همام. (2) صحيح مسلم ج 4 باب نكاح المتعة ص 131. (3) مسند أحمد ج 3 ص 380. (4) نفس المصدر ج 4 ص 436. (5) الرواية مع هذه الزيادة مذكورة في صحيح مسلم ج 4 باب جواز التمتع ص 48. (*)

[ 320 ]

” كنا نغزو مع رسول الله – ص – ليس معنا نساء، قلنا ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: ” يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 5: 87 ” (1). أقول: إن قراءة عبد الله الاية صريحة في أن تحريم المتعة لم يكن من الله ولا من رسوله، وإنما هو أمر حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. 9 – وروى شعبة عن الحكم بن عيينة قال: ” سألته عن هذه الاية – آية المتعة – أمنسوخة هي ؟ قال لا. قال الحكم: قال علي لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي ” (2). وروى القرطبي ذلك عن عطاء عن ابن عباس (3). أقول: لعل المراد بالشقي – في هذه الرواية – هو ما فسر به هذا اللفظ في رواية أبي هريرة، قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن الشقي ؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة، ولا يترك لله معصية ” (4). 10 – وروى عطاء قال: ” سمعت ابن عباس يقول: رحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة من الله


(1) صحيح مسلم ج 4 ص 130. انظر التعليقة رقم (7) لمعرفة تحريفها في البخاري. (2) تفسير الطبري عند تفسيره الاية المباركة ج 5 ص 9. (3) تفسير القرطبي ج 5 ص 130. (4) مسند أحمد ج 2 ص 349. (*)

[ 321 ]

تعالى رحم الله بها أمة محمد – ص – ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا ” (1). ثم إن الروايات التي استند إليها القائل بالنسخ على طوائف، منها: ما ينتهي سنده إلى الربيع بن سبرة عن أبيه، وهي كثيرة، وقد صرح في بعضها بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قام بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، وأعلن تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة. ومنها: ما روي عن علي – ع – أنه روى تحريمها عن رسول الله صلى الله عليه وآله. ومنها: ما روي عن سلمة بن الاكوع. أماما ينتهي سنده إلى سبرة، فهو وإن كثرت طرقه إلا أنه خبر رجل واحد ” سبرة ” وخبر الواحد لا يثبت به النسخ. على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد بكذبها، إذ كيف يعقل أن يقوم النبي – ص – خطيبا بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، ويعلن تحريم شئ إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين، ثم لا يسمعه غير سبرة، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه، فأين كان المهاجرون والانصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وأفعاله ؟ وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ اشارات يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولحظات عينيه، ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة ؟ ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه ؟ !. أضف إلى ذلك أن روايات سبرة متعارضة، يكذب بعضها بعضا، ففي بعضها أن التحريم كان في عام الفتح (2) وفي بعضها أنه كان في حجة الوداع (3) وعلى الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الاخذ بها من جهات شتى.


(1) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 147. الشفا: القليل. (2) صحيح مسلم ج 4 باب نكاح المتعة في عدة روايات ص 132، 133. (3) سنن ابن ماجة الطبعة الاولى ج 1 باب النهي عن نكاح المتعة ص 309، وسنن أبي داود ج 1 باب نكاح المتعة ص 324. (*)

[ 322 ]

وأما ما روي عن علي عليه السلام في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا، وذلك لاتفاق المسلمين على حليتها عام الفتح، فكيف يمكن أن يستدل علي عليه السلام على ابن عباس بتحريمها في خيبر، ولاجل ذلك احتمل بعضهم أن تكون جملة (زمن خيبر) في الرواية المتقدمة راجعة إلى تحريم لحوم الحمر الاهلية، لا إلى تحريم المتعة، ونقل هذا الاحتمال عن ابن عيينة كما في المنتقى، وسنن البيهقي في باب المتعة. وهذا الاحتمال باطل من وجهين: 1 – مخالفته للقواعد العربية: لان لفظ النهي في الرواية لم يذكر إلا مرة واحدة في صدر الكلام، فلا بد وأن يتعلق الظرف به، فالذي يقول، أكرمت زيدا وعمرا يوم الجمعة، لا بد وأن يكون مراده أنه أكرمهما يوم الجمعة، أما إذا كان المراد أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له من أن يقول: أكرمت زيدا، وأكرمت عمروا يوم الجمعة. 2 – إن هذا الاحتمال مخالف لصريح رواية البخاري، ومسلم، وأحمد عن علي عليه السلام أنه قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الانسية (1)، وروى البيهقي – في باب المتعة – عن عبد الله بن عمر أيضا رواية تحريم المتعة يوم خيبر (2). وأما ما روي عن سلمة بن الاكوع عن أبيه، قال: ” رخص رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها ” فهو خبر واحد، لا يثبت به النسخ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وعمرو بن حريث، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين


(1) المنتقى ج ص 519، ورواه ابن ماجة ج 1 ص 309. (2) سنن البيهقي ج 7 ص 202. (*)

[ 323 ]

وكيف يصح ذلك ولم يحرم أبو بكر المتعة أيام خلافته، ولم يحرمها عمر في شطر كبير من أيامه، وإنما حرمها في أواخر أمره. وقد مر عليك كلام ابن حزم في ثبوت جماعة من الصحابة والتابعين على إباحة المتعة، ومما يدل على ما ذكره ابن حزم من فتوى جماعة من الصحابة بإباحة المتعة: ما رواه ابن جرير في تهذيب الاثار، عن سليمان بن يسار، عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة: ” إن رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك قالت: فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أحق ما حدثت ؟ قلت: نعم: قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الذي فعلته ؟ قال: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى بعرف النكاح من السفاح “. وما رواه ابن جرير أيضا، وأبو يعلى في مسنده، وأبو داود في ناسخه عن علي عليه السلام قال: ” لو لا ما سبق من رأي عمر بن الحطاب لامرت


[ 324 ]

بالمتعة، ثم ما زني إلا شقي ” (1). وفي هاتين الروايتين وجوه من الدلالة على أن التحريم إنما كان من عمر: الاول: شهادة الصحابي، وشهادة علي عليه السلام على أن تحريم المتعة لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه واله وسلم ولا بعده إلى أن حرمها عمر برأيه. الثاني: شهادة العدول عن المتعة في الرواية الاولى، مع عدم نهيهم عنها تدل على أنهم كانوا يجوزونها. الثالث: تقرير عمر دعوى الشامي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لم ينه عنها. الرابع: قول عمر للشامي: ” لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك ” فإنه صريح في أن عمر لم يتقدم بالنهي قبل هذه القصة، ومعنى ذلك: أن عمر قد اعترف بأن المتعة لم ينه عنها قبل ذلك. الخامس: قول عمر: ” بينوا حتى بعرف النكاح من السفاح ” فإنه يدل على أن المتعة كانت شايعة بين المسلمين، فأراد أن يبلغ نهيه عن المتعة إليهم لينتهوا عنها بعد ذلك، ولعل لهذه القصة دخلا مباشرا أو غير مباشر في تحريم عمر للمتعة، فإن إنكاره على الشامي عمله هذا مع شهادة الحديث بأن التمتع كان أمرا شايعا بين المسلمين ووصول الخبر إليه، مع أن هذه الاشياء لا يصل خبرها إلى السلطان عادة، كل هذا يدلنا على أن في الامر سرا جهلته الرواة، أو أنهم أغفلوه فلم يصل إلينا خبره. ويضاف إلى ذلك أن رواية سلمة بن الاكوع ليس فيها ظهور في أن النهي كان من النبي صلى الله عليه واله وسلم فمن المحتمل ان لفظ نهي في الرواية بصيغة المبني للمفعول وأريد منه نهي عمر بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. وعلى الجملة: انه لم يثبت بدليل مقبول نهي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن المتعة ومما


(1) كنز العمال ج 8 ص 294. (*)

[ 325 ]

يدل على أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لم ينه عن المتعة: أن عمر نسب التحريم إلى نفسه حيث قال: ” متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأنا أنهى عنهما واعاقب عليهما (1) ولو كان التحريم من النبي صلى الله عليه واله وسلم لكان عليه أن يقول: نهى النبي عنهما. 4 – ان ناسخ جواز المتعة الثابت بالكتاب والسنة هو الاجماع على تحريمها. والجواب عن ذلك: أن الاجماع لا حجية له إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم وقد عرفت أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا من الخطأ ؟ ولو صح ذلك لامكن نسخ جميع الاحكام التي نطق بها الكتاب، أو أثبتتها السنة القطعية، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة، أو الصيام، أو الحج بآراء المجتهدين، وهذا مما لا يرضى به مسلم. أضف إلى ذلك: أن الاجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة، وكيف يدعي الاجماع على ذلك، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم ومن بعده ولا سيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وإذن فلم يبقل إلا تحريم عمر. ومن البين أن كتاب الله وسنة نبيه أحق بالاتباع من غيرهما، ومن أجل ذلك أفتى عبد الله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج، فقال له ناس: ” كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك، فقال لهم:


(1) تقدم ذلك في الرواية الخامسة من روايات جابر، ورواه أبو صالح كاتب الليث في نسخته والطحاوي، ورواه ابن جرير في تهذيب الاثار، وابن عساكر إلا أن عمر قال في ما روياه، واضرب فيهما، كنز العمال المتعة ج 8 ص 293، 294 (*)

[ 326 ]

ويلكم ألا تتقون… أفرسول الله صلى الله عليه واله وسلم أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر ؟ ” (1). وخلاصة ما تقدم: أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الاية المباركة، الذي ثبت – قطعا – تشريعه في الاسلام. الرجم على المتعة: قد صح في عدة روايات – تقدم بعضها – أن عمر حكم بالرجم على المتعة، فمنها ما رواه جابر، قال: ” تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحجة والعمرة لله كما أمركم، وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة ” (2). ومنها: ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب، فقالت: ” إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج عمر يجر رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة ولو كنت تقدمت فيه لرجمته ” (3).


(1) مسند أحمد ج 2 ص 95. (2) صحيح مسلم باب المتعة بالحج والعمرة ج 4 ص 36، وروى الطيالسي قريبا منها عن جابر في مسنده ج 8 ص 247. (3) سنن البيهقي باب نكاح المتعة ج 7 ص 206. (*)

[ 327 ]

ومنها: ما رواه نافع عن عبد الله بن عمر: ” إنه سئل عن متعة النساء، فقال: حرام، أما إن عمر بن الخطاب لو أخذ فيها أحدا لرجمه ” (1). ونهج ابن الزبير هذا المنهج، فإنه حينما أنكر نكاح المتعة، قاله له ابن عباس: ” إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين – رسول الله – فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لارجمنك بأحجارك ” (2). وهذا من الغريب، وكيف يستحق الرجم رجل من المسلمين خالف عمر في الفتيا، واستند في قوله هذا إلى حكم رسول الله – ص – ونص الكتاب، ولنفرض أن هذا الرجل كان مخطئا في اجتهاده، أفليست الحدود تدرأ بالشبهات ؟ ! على أن ذلك فرض محض، وقد علمت أنه لا دليل يثبت دعوى النسخ. وما أبعد هذا القول من مذهب أبي حنيفة، حيث يرى سقوط الحد إذا تزوج الرجل بامرأة نكاحا فاسدا أو بإحدى محارمه في النكاح، ودخل بها مع العلم بالحرمة وفساد العقد (3) وأنه إذا استأجر امرأة فزنى بها، سقط الحد لان الله تعالى سمى المهر أجرا. وقد روي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب أيضا (4). مزاعم حول المتعة: زعم صاحب المنار أن التمتع ينافي الاحصان، بل يكون قصده الاول


(1) نفس المصدر. (2) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ج 4 ص 133. (3) الهداية، وفتح القدير ج 4 ص 147. (4) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 146. (*)

[ 328 ]

المسافحة، لانه ليس من الاحصان في شئ أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل، فتكون كما قيل: كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل وزعم أنه ينافي قوله تعالى: ” والذين هم لفروجهم حافظون 23: 5. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين: 6. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: 7 “. ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه، فإن ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بين تحريمها، أو أنه أنفذه. ثم إنه استغفر بعد ذلك عما كتبه في المنار من أن عمر منع المتعة اجتهادا منه ووافقه عليه الصحابة (1). ودفعا لهذه المزاعم نقول: أما حكاية منافاة التمتع للاحصان فهو مبني على ما يزعمه هو من أن المتمتع بها ليست زوجة، وقد أوضحنا – فيما تقدم – فساد هذا القول ومنه يظهر أيضا فساد توهمه أن جواز التمتع ينافي وجوب حفظ الفروج على غير الازواج. وأما تعبيره عن عقد المتعة بإجارة المرأة نفسها، وتشبيه المرأة بالكرة التي تتلقفها الايدي، فهو – لو كان صحيحا – لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول الله – ص – لان هذا التشبيه والتقبيح لا يختص بزمان دون زمام، ولا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول الله


(1) تفسير المنار ج 5 ص 13 – 16. (*)

[ 329 ]

– ص – وقد عرفت – فيما تقدم – أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر. ومن الغريب: أن يصرح – هنا – انه لم يقصد غير بيان الحق، وانه لا يتعصب لمذهب، ثم يجره التعصب إلى أن يشنع على ما ثبت في الشرع الاسلامي بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وإن وقع الاختلاف بينهم في نسخه واستمراره. أضف إلى ذلك أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان ذلك مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم، لتنتقل إلى عصمة رجل آخر، وعن انتقال المرأة بملك اليمين، ولم يستشكل في ذلك أحد من المسلمين، إلا أن صاحب المنار في مندوحة عن هذا الاشكال، لانه يرى المنع من الاسترقاق، وأن في تجويزه مفاسد كثيرة، وزعم أن العلماء الاعلام أهملوا ذكر ذلك، وذهب إلى بطلان العقد الدائم، إذا قصد الزوج من أول الامر الطلاق بعد ذلك، وخالف في ذلك فتاوى فقهاء المسلمين. ومن الغريب أيضا: ما وجه به نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه، فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه، فإن بيان عمر للتحريم إما أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبي – ص -، وإما أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبي إياها، وإما أن يكون رواية منه للتحريم عن النبي صلى الله عليه واله وسلم. أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبي فلا يساعد عليه نسبة التحريم، والنهي إلى نفسه في كثير من الروايات. على أنه إذا كان رواية، كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر، وأين كان عمر أيام خلافة أبي بكر ؟ وهلا أظهر روايته لابي بكر ولسائر المسلمين ؟ على أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ. وأما احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبي نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة بإباحته في زمان رسول الله – ص – إلى وفاته. على أن اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع


[ 330 ]

اجتهاده ورأيه، بل وهذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته: ” متعتان كانتا على عهد رسول اله – ص – وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما “. وإذن فقد انحصر الامر في أن التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول الله بالاباحة، ولاجل ذلك لم تتبعه الامة في تحريمه متعة الحج وفي ثبوت الحد في نكاح المتعة، فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبي – ص – وأن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافة: ” وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم 33: 36 “. وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” ما أحللت إلا ما أحل الله، ولا حرمت إلا ما حرم الله ” (1). وقال صلى الله عليه واله وسلم: ” فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه – فمه – إلا حق ” (2). ومع هذا كله: فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة، خلافا لرسول الله وأجيب: ” بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع ” (3). وقال الامدي: اختلفوا في أن النبي – ص – هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل، والقاضي أبو يوسف: ” إنه كان متعبدا به ” وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع، وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري، ثم قال: والمختار جواز ذلك عقلا ووقوعه سمعا ” (4).


(1) طبقات ابن سعد طبعة مصر ج 4 ص 72، وبمضمونها رواية ما بعدها. (2) رواه أبو داود – التاج ج 1 ص 66. (3) شرح التجريد في مبحث الامامة. (4) الاحكام في اصول الاحكام ج 4 ص 222. (*)

[ 331 ]

وقال فيه أيضا: القائلون بجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه واله وسلم اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده، فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك، وذهب أكثر أصحابنا، والحنابلة، وأصحاب الحديث، والجبائي، وجماعة من المعتزلة إلى جوازه، لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار (1). وحاصل ما تقدم: أن آية التمتع لا ناسخ لها، وأن تحريم عمر، وموافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص، وقد اعترف بذلك جماعة، وأنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر، إلا أنهم رأوا أن اتباع سنة الخلفاء كاتباع سنة النبي (2). وعلى أي فما أجود ما قاله عبد الله بن عمر: ” أرسول الله صلى الله عليه واله وسلم أحق أن تتبع سنته أم سنة عمر “، وما أحق ما قاله الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى: ” الطلاق مرتان ” (3). 14 – ” ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا 4: 33 “. قد اختلفت الاراء في مدلول الاية المباركة: فمنهم من حمل ذيل الاية المباركة ” والذين عقدت أيمانكم ” على بيان حكم


(1) نفس المصدر ص 290. (2) هامش المنتقى للفقي ج 2 ص 519. (3) انظر التعليقة رقم (8) في قسم التعليقات رأي ابن عبده في الطلاق الثلاث. (*)

[ 332 ]

مستقل عن سابقه، فجعله جملة مستأنفة، وفسر كلمة ” نصيبهم ” بالنصر، والنصح، والرفادة، والعون والعقل، والمشورة، وعلى ذلك: فالاية محكمة غير منسوخة، وهذا القول منسوب إلى ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير (1)، ومنهم من جعله معطوفا على ما قبله، وفسر كلمة ” نصيبهم ” بما يستحقه الوارث من التركة. ثم إن هؤلاء قد اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين في الاية المباركة عقد المؤاخاة، وما يشبهه من العقود التي كانت يتوارث بسببها في الجاهلية، وقد أقر الاسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث: ” وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله 8: 75 “. وعلى ذلك فالاية منسوخة (2). وذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة وعلى ذلك فإن قلنا بما ذهب إليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة فكانت الاية منسوخة أيضا بآية المواريث (3)، وإن قلنا بما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من ثبوت الارث بهذا العقد كانت الاية محكمة غير منسوخة. وقد استدلوا على ذلك بأن آية المواريث لم تنف إرث غير اولي الارحام، وإنما قدمهم على غيرهم، فلا تنافي بين الايتين، لتكون آية المواريث ناسخة لهذه الاية (4).


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 107. (2) نفس المصدر ص 109. (3) تفسير ابن كثير ج 1 ص 490. (4) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 185 (*)

[ 333 ]

والحق: إن المراد بالاية ما هو ظاهرها الذي يفهم منها، وهو ثبوت الارث بالمعاقدة، ومع ذلك فلا نسخ لمدلول الاية. وبيان ذلك: إن سياق الاية يقتضي أن يكون المراد بالنصيب المذكور فيها هو الارث، وحمله على النصرة وما يشبهها خلاف ظاهرها، بل كاد يكون صريحها. ثم إن ذكر الطوائف الثلاث في الاية لا يدل على اشتراكهم وتساويهم في الطبقة، فإن الولد يرث أبويه ولا يرث معه أحد من أقرباء الميت من أولي أرحامه فالذي يستفاد من الاية الكريمة أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث، وأما ترتيب الارث وتقدم بعض الوارث على بعض فلا يستفاد من الاية، وقد استفيد ذلك من الادلة الاخرى في الكتاب والسنة. وعلى هذا الذى ذكرناه تكون الاية الكريمة جامعة لجميع الوراث على الاجمال، فالولد يرث ما تركه الوالدان، والاقربون من اولي الارحام يرث بعضهم بعضا، ومن عقد معه يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا. وتفصيل ذلك: إن الارث من غير جهة الرحم لا بد له من تحق عقد والتزام من العاقد بيمينه وقدرته، وهو تارة يكون من جهة الزواج، فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما، وتارة يكون من جهة عقد البيعة والتبعية ويسمى ذلك بولاء الامامة، ولا خلاف في ثبوت ذلك لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقد ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة أنه صلى الله عليه واله وسلم قال: ” أنا وارث من لا وارث له ” (1). ولا إشكال أيضا في ثبوته لاوصياء النبي الكرام – ع – فقد ثبت بالادلة (*)


(1) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة: المنتقى ج 2 ص 462. (*)

[ 334 ]

القطعية أنهم بمنزلة نفس الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وعلى ذلك اتفقت كلمات الامامية وروايات أهل البيت – ع – وتارة يكون من جهة عقد العتق، فيرث المعتق عبده الذي أعتقه بولاء العتق، ولا خلاف في ذلك بين الامامية، وقال به جمع من غيرهم، وتارة يكون من جهة عقد الضمان ويسمى ذلك ” بولاء ضمان الجريرة ” وقد اتفقت الامامية على ثبوت الارث بسبب هذا الولاء، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه. وجملة القول: فدعوى نسخ الاية يتوقف على ثبوتها على أمرين: 1 – أن يكون قوله تعالى: ” والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم 4: 33 “. في الاية معطوفا على ما قبله، ولا يكون جملة مستأنفة ليكون المراد من ” نصيبهم ” النصح والمشورة وما يشبههما. 2 – أن يراد بعقد اليمين فيها: خصوص ضمان الجريرة، مع الالتزام بعدم ثبوت الارث به، أو عقد المؤاخاة وما يشبهه من العقود التي اتفق المسلمون على عدم ثبوت الارث بها. أما ” الامر الاول “: فلا ريب فيه، وهو الذي يقتضيه سياق الاية. وأما ” الامر الثاني “، فهو ممنوع، لان ضمان الجريرة أحد مصاديق عقد اليمين، ومع ذلك فلم ينسخ حكمه، ودعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث، كالمؤاخاة ونحوها لا دليل على ثبوتها. 15 – ” يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون 4: 43 “.


[ 335 ]

فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها منسوخة (1) ولكن وقع الكلام في ناسخها فعن قتادة ومجاهد أنها منسوخة بتحريم الخمر. وحكي هذا القول عن الحسن أيضا (2)، وعن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: ” إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق 5: 6 “. وكلا هذين القولين ظاهر الفساد: أما القول الاول: فلان الاية الكريمة لا دلالة فيها على جواز شرب الخمر بوجه، وإن فرض أن تحريم الخمر لم يكن في زمان نزول الاية، فالاية لا تعرض لها لحكم الخمر رخصة أو تحريما. على أن هذا مجرد فرض لا وقوع له، ففي رواية ابن عمر: نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شئ نزل: ” يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما 2: 219 “. فقيل: حرمت الخمر، فقيل يا رسول الله دعنا ننتفع بها، كما قال الله عز وجل، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الاية (3): ” لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى 4: 43 “. وروى نحو ذلك أبو هريرة (4). وروى أبو ميسرة عن عمر بن الخطاب قال:


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 109. (2) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 201. (3) مسند الطيالسي ج 8 ص 264. (4) مسند أحمد ج 2 ص 351. (*)

[ 336 ]

” لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الاية التي في سورة البقرة: ” يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير 2: 19 “. قال: فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الاية التي في سورة النساء: ” يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى 4: 43 “. فكان منادي رسول الله – ص – إذا أقام الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الاية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: ” فهل أنتم منتهون 5: 91 “. قال: فقال عمر: ” انتهينا انتهينا ” (1). وأخرج النسائي أيضا هذا الحديث باختلاف يسير في ألفاظه (2). وأما القول الثاني: فلان وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة لا مساس له بمضمون الاية الكريمة ليكون ناسخا لها. ولعل القائل بالنسخ يتوهم فيقول: إن النهي عن القرب إلى الصلاة حالة


(1) نفس المصدر ج 1 ص 53. (2) سنن النسائي باب تحريم الخمر ج 2 ص 323. (*)

[ 337 ]

السكر يقتضي أن يراد بالسكر ما لا يبلغ بالشخص إلى حد الغفلة عن التكاليف وامتثالها، وعدم الالتفات إليها. فإن الذي يصل به السكر إلى هذا الحد يكون تكليفه قبيحا، وعلى ذلك فإذا فرضنا أن شخصا شرب الخمر، وحصل له هذا المقدار من السكر فهو مكلف بالصلاة بالاجماع، وذلك يستلزم نسخ مفاد الاية. ولكن هذا القول توهم فاسد، فإن المراد بالسكر بقرينة قوله تعالى: ” حتى تعلموا ما تقولون 4: 43 “. هي المرتبة التي يفقد السكران معها الشعور، وهذا النهي قد يحمل على الحرمة التكليفية، ولا ينافيها فقد الشعور، لان إقامة الصلاة في ذلك الحال، وإن كانت غير مقدورة إلا أن فقده لشعوره هذا كان باختياره، والممتنع بالاختيار لا ينافي صحة العقاب عليه عقلا، فيصح تعلق النهي بها قبل أن يتناول المسكر باختياره، ومثل هذا كثير في الشريعة الاسلامية. وقد يراد من النهي: الارشاد إلى فساد الصلاة في هذا الحال كما هو الظاهر من مثل هذا التركيب، والامر على هذا الاحتمال واضح جدا، وعلى كل فلا سبب يوجب الالتزام بالنسخ في الاية. 16 – ” إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم (البيان – 22)


[ 338 ]

فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا 4: 90 “. فقد ذكروا أن الاية منسوخة بالامر بنبذ ميثاق المشركين، وبالامر بقتالهم سواء أكانوا اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم، فيكون في الاية موردان للنسخ. والجواب: إن الاية الكريمة نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا وكفروا بعد إسلامهم في الظاهر، والدليل على ذلك سياق الاية الكريمة، فقد قال الله تعالى: ” فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا 4: 88. ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا: 89. إلا الذين يصلون: 90 “. وعلى ذلك فالحكم في الاية وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم أسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم، والحكم فيهم بمقتضى الاية هو القتل إلا في موردين: 1 – وصولهم إلى قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة، واستجارتهم بهم فيجري عليهم حكم القول الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة، ولكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة، فإذا ألغيت بينهم وبين المسلمين لم يبق للحكم موضوع وقد أوضحنا في أول هذا البحث أن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس


[ 339 ]

من النسخ في شئ، وقد ألغيت المعاهدة بين المسلمين والمشركين في سورة التوبة وأمهلوا أربعة أشهر ليتخيروا إما الاسلام، وإما الخروج عن بلاد المسلمين، وعلى ذلك فلم يبق موضوع للاستجارة التي ذكرتها الاية. 2 – مجيئهم إلى المسلمين، وقد حصرت صدورهم عن القتال، مع اعتزالهم، والقائهم السلم إلى المسلمين بعد الردة، والمراد بإلقاء السلم إظهار الاسلام، والاقرار بالشهادتين، ويشهد لهذا قوله تعالى: ” ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا 4: 94 “. فالاية دالة على قبول المرتد الملي إذا أظهر التوبة والاسلام، وانه لا يقتل بعد التوبة، وقد استقر على هذا مذهب الامامية: ولم ترد في القرآن آية تدل على وجوب قتل المرتد على الاطلاق، لتكون ناسخة لذلك. أما إذا أراد القائل بالنسخ: أن يتمسك في نسخ الاية بما دل على قتال المشرك والكافر، فمن الواضح أن ذلك مشروط ببقاء موضوعه، على ما هي القاعدة المتبعة في كل قضية حقيقية في الاحكام الشرعية وغيرها. نعم ورد الامر بقتل المرتد على الاطلاق في بعض روايات أهل السنة، فقد روى البحاري، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجة عن بن عباس عن رسول الله – ص – أنه قال: ” من بدل دينه فاقتلوه ” (1). إلا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم مقيد بعدم التوبة، وإن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب فيها، وفي وجوب الاستتابة واستحبابها. فالمشهو بين الامامية أنه واجب، وأنه لا يحد بمدة مخصوصة، بل يستتاب مدة يمكن منه الرجوع فيها إلى الاسلام، وقيل يستتاب ثلاثة أيام، ونسب ذلك إلى بعض الامامية،


(1) المنتقى ج 2 ص 745. (*)

[ 340 ]

واختاره كثير من علماء أهل السنة، وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى استحباب الامهال ثلاثة أيام. نعم ذهب علي بن أبي بكر المرغيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال، ونسب ابن الهمام إلى الشافعي، وابن المنذر أنهما قالا في المرتد: ” إن تاب في الحال وإلا قتل ” (1). وعلى كل فلا إشكال في سقوط حكم القتل بالتوبة، كما صرح به في الروايات المأثورة عن الطريقين، وبعد ذلك فلا تكون الاية منسوخة. 17 – ” فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين 5: 42 “. وقد اختلفت الاقوال في هذه الاية الكريمة، فقيل: إنها محكمة لم تنسخ وقد أجمعت الشيعة الاثني عشرية على ذلك، فالحاكم مخير – حين يتحاكم إليه الكتابيون – بين أن يحكم بينهم بمقتضى شريعة الاسلام، وبين أن يعرض عنهم ويتركهم وسا التزموا به في دينهم. وقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة، وأهل الانجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء ترك ” (2)، وإلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومالك (3).


(1) فتح القدير ج 4 ص 386. (2) الوسائل ج 3 باب 27 من كتاب القضاء ص 406 طبعة عين الدولة. (3) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 130، وفي أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 434. نسبة هذا القول إلى الحسن أيضا. (*)

[ 341 ]

وذهب جمع منهم إلى أن الاية المباركة منسوخة بقوله تعالى بعد ذلك: ” فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم 5: 48 “. وروي عن مجاهد أنه ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للاية الثانية. والتحقيق: عدم النسخ في الاية، فإن الامر بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله في قوله تعالى: ” فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ” مقيد بما إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم، والقرينة على التقييد هي الاية الاولى. ويدل على ذلك أيضا – مضافا إلى شهادة سياق الايات بذلك – قوله تعالى في ديل الاية الاولى: ” وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ” فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم، وللحاكم أن يعرض عنهم فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه. ومما يدل على عدم النسخ في الاية المزبورة الروايات التي دلت على أن سورة المائدة نزلت على رسول الله – ص – جملة واحدة، وهو في أثناء مسيره. فقد روى عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام ” إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها نزلت وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي حتى وقعت ” (1). وروت أسماء بنت يزيد، قالت: ” إني لاخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق من عضد الناقة ” (2). وروت أيضا بإسناد آخر، قالت: ” نزلت سورة المائدة على النبي صل الله عليه وآله وسلم


(1) تفسير البرهان ج 1 ص 263. (2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 2. (*)

[ 342 ]

جميعا ان كادت لتكسر الناقة ” (1). وروى جبير بن نفير قال: ” حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت: نعم، فقالت: أما انها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه ” (2). وروى أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس، قالا: ” قال رسول الله صلى الله عليه وآله المائدة من آخر القرآن تنزيلا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها ” (3) وغير ذلك من الروايات الدالة على أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة، وهي آخر ما نزل من القرآن، ومع هذه الروايات المستفيضة كيف يمكن دعوى أن تكون احدى آياتها ناسخة لاية أخرى منها ! وهل ذلك إلا من النسخ قبل حضور وقت العمل ؟ ونتيجة ذلك أن يكون التشريع في الاية المنسوخة لغوا لا فائدة فيه، على أن بعض الروايات المتقدمة دلت على أن هذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن، وإن شيئا من آياتها لم ينسخ. 18 – ” يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم 5: 106 “.


(1) مسند أحمد ج 6 ص 458، وفي تفسير الشوكاني ج 2 ص 2: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، والطبراني، وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في شعب الايمان عن أسماء بنت يزيد نحوه. (2) أخرجه أحمد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في سننه: تفسير الشوكاني ج 2 ص 2. (3) نفس المصدر. (*)

[ 343 ]

وقد ذهبت الشيعة الامامية إلى أن الاية محكمة، فتجوز شهادة أهل الكتاب على المسلمين في السفر إذا كانت الشهادة على الوصية، وإليه ذهب جمع من الصحابة والتابعين، منهم: عبد الله بن قيس، وابن عباس، وشريح، وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وعبيدة، ومحمد بن سيرين، والشعبي، ويحيى بن يعمر، والسدي وقال به من الفقهاء: سفيان الثوري ومال إليه أبو عبيد لكثرة من قال به، وذهب زيد بن أسلم، ومالك بن أنس، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أن الاية منسوخة، وأنه لا تجوز شهادة كافر بحال (1). والتحقيق بطلان القول بالنسخ في الاية المباركة، والدليل على ذلك وجوه: 1 – الروايات المستفيضة من الطريقين الدالة على نفوذ شهادة أهل الكتاب في الوصية، إذا تعذرت شهادة المسلم، فمن هذه الروايات: ما رواه الكليني عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: ” أو آخران من غيركم، قال: إذا كان الرجل في أرض غربة، لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية ” (2). وما رواه الشعبي: ” أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة ب‍ ” دقوقا ” هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الاشعري – يعني أبا موسى – فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فأحلفهما بعد العصر ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وانها لوصية الرجل وتركته، فأمضى شهادتهما ” (3).


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 133، 134. (2) الوافي ج 3 باب الاشهاد على الوصية ص 8. (3) رواه أبو داود، وروى الدار قطني بمعناه: المنتقى ج 2 ص 942. (*)

[ 344 ]

2 – الروايات المتقدمة في أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة، وانها كانت آخر ما نزل، وليس فيها منسوخ. 3 – إن النسخ لا يتم من غير أن يدل عليه دليل، والوجوه التي تمسك بها القائلون بالنسخ لا تصلح لذلك. فمن هذه الوجود: أن الله سبحانه اعتبر في الشاهد أن يكون عدلا مرضيا، فقال تعالى: ” ممن ترضون من الشهداء 2: 282. وأشهدوا ذوي عدل منكم 65: 2 “. والكافر لا يكون عدلا ولا مرضيا، فلا بد وأن يكون الحكم بجواز شهادته منسوخا. والجواب: أولا: إن الاية الاولى وردت في الشهادة على الدين، والاية الثانية وردت في الشهادة على الطلاق، فلا يكون لهما دلالة على اعتبار العدالة في شهود الوصية. ثانيا: إن هاتين الايتين لو سلم أنهما مطلقتان كانت الاية المتقدمة مقيدة لهما، والمطلق لا يكون ناسخا لدليل المقيد، ولا سيما إذا تأخر المقيد عنه في الزمان، كما في المقام. ومن هذه الوجوه: أن الاجماع قد انعقد على عدم قبول شهادة الفاسق، والكافر فاسق فلا تقبل شهادته. والجواب: إنه لا معنى لدعوى الاجماع هنا بعد ذهاب أكثر العلماء إلى الجواز، وقد عرفت ذلك آنفا، ولا ملازمة عقلا بين رد شهادة المسلم الفاسق، ورد


[ 345 ]

شهادة الكافر إذا كان عادلا في دينه. ومن هذه الوجوه: أن شهادة الكافر لا تجوز على المسلمين في غير الوصية وقد اختلف في قبولها في الوصية، فيرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه. والجواب: إن هذا الوجه في منتهى الغرابة بعد أن عرفت قيام الدليل على قبول الشهادة في باب الوصية بلا معارض، وليت هذا المستدل عكس الامر. وقال: إن شهادة الكافر على الوصية كانت مقبولة في زمان النبي – ص – بالاجماع، وقد اختلف فيه بعد زمان النبي – ص – فيرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه. وجملة القول: لا سند لدعوى النسخ في الاية غيرتقليد جماعة من الفقهاء المتأخرين. وكيف يصح أن ترفع اليد عن حكم ورد في القرآن لفتوى أحد من الناس على خلافه ؟ ومن الغريب قول الحسن والزهري: إن المراد بقوله تعالى: ” أو آخران من غيركم 5: 106 “. آخران من غير عشيرتكم، فلا دلالة في الاية على قبول شهادة الكفار (1). ويرده – مضافا إلى الروايات التي وردت في تفسير الاية -: أنه مخالف لظاهر القرآن أيضا، لان الخطاب في الاية للمؤمنين، فلا بد وأن يراد من قوله تعالى: ” غيركم ” غير المؤمنين، وهم الكفار نعم: إطلاق الاية الكريمة يدل على قبول شهادة الكافر في الوصية وإن لم يكن الكافر من الكتابيين، سواء أأمكنت إقامة الشهود من المؤمنين أم لم تمكن، ولكن الروايات المستفيضة قيدت ذلك بشهادة الكتابي، وبما إذا لم يمكن تحصيل الشهود من المؤمنين، وهذا من جملة موارد تقييد إطلاق الكتاب والسنة.


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 134. (*)

[ 346 ]

19 – ” وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 6: 141 “. فقد ذهب أكثر علماء أهل السنة إلى أن الاية منسوخة، ولهم في بيان نسخها وجوه: 1 – إنها واردة في الزكاة، وأن وجوبها قد نسخ في غير الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب على ما هو الاشهر، بل ولا قائل من الصحابة والتابعين بوجوبها في كل ما أنبتت الارض، نعم ذهب أبو حنيفة وزفر إلى وجوبها في غير الحطب والحشيش، والقصب (1). 2 – إن حكم الاية قد نسخ بالسنة: العشر ونصف العشر، وذهب إلى ذلك السدي، وأنس بن مالك، ونسب ذلك إلى ابن عباس، ومحمد بن الحنفية (2). 3 – إن مورد الاية غير الزكاة، وقد نسخ وجوب إعطاء شئ من المال بوجوب الزكاة، ذهب إلى ذلك عكرمة، والضحاك، ونسب ذلك إلى سعيد ابن جبير أيضا (3). (1) أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص 9. (2) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 140. (3) نفس المصدر. (*)


[ 347 ]

والحق: بطلان القول بالنسخ في مدلول الاية الكريمة، والدليل على ذلك وجوه: الاول: الروايات المستفيضة عن أهل البيت – ع – الدالة على أن الحق المذكور في الاية هو غير الزكاة، وهو باق ولم ينسخ، منها ما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن معاوية بن الحجاج، قال: ” سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في الزرع حقان: حق تؤخذ به، وحق تعطيه، قلت: وما الذي أؤخذ به وما الذي أعطيه ؟ قال أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر، وأما الذي تعطيه فقول الله عز وجل: ” وآتوا حقه يوم حصاده ” (1)، وقد روى ابن مردويه بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله في قول الله تعالى: ” وآتوا حقه يوم حصاده، قال: ما سقط من السنبل ” (2). الثاني: إن سورة الانعام نزلت بمكة جملة واحدة، وقد صرحت بذلك روايات كثيرة، منها: ما رواه الشيخ الكليني، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، قال: ” قال أبو عبد الله عليه السلام إن سورة الانعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى نزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعظموها وبجلوها، فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها ” (3). ومنها: ما روي عن ابن عباس قال:


(1) تفسير البرهان ج 1 ص 338. (2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 182. (3) تفسير البرهان ج 1 ص 313. (*)

[ 348 ]

” نزلت سورة الانعام بمكة ليلا جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح ” (1). ومما لا ريب فيه أن وجوب الزكاة إنما نزل في المدينة، فكيف يمكن أن يقال: إن الاية المذكورة نزلت في الزكاة !. وحكى الزجاج أن هذه الاية قيل فيها: إنها نزلت بالمدينة (2)، وهذا القول مخالف للروايات المستفيضة المتقدمة، وهو مع ذلك قول بغير علم. الثالث: إن الايتاء الذي امرت به الاية الكريمة قد قيد بيوم الحصاد فلا بد أن يكون هذا الحق غير الزكاة، لانها تؤدى بعد التنقية والكيل، ومما يشهد على أن هذا الحق غير الزكاة أنه قد ورد في عدة من الروايات المأثورة عن أهل البيت – ع – النهي عن حصاد الليل، معللا في بعضها أنه يحرم منه القانع والمعتر (3). وروى جعفر بن محمد بن إبراهيم، بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: ” ان رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الجداد بالليل، والحصاد بالليل، قال جعفر: أراه من أجل المساكين ” (4). وأما ما قيل في توجيه ذلك: إن يوم الحصاد يمكن أن يكون ظرفا لتعلق الحق بالمال لا للايتاء فيبطله: 1 – أنه خلاف الظاهر الذي يفهمه العرف من الاية، بل كاد يكون خلاف صريحها، فإن الظرف إنما يتعلق بما تدل عليه مادة الفعل، ولا يتعلق بما تدل


(1) رواه أبو عبيد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، تفسير الشوكاني ج 2 ص 91. (2) تفسير القرطبي ج 7 ص 99. (3) تفسير البرهان ج 1 ص 338. (4) سنن البيهقي ج 4 ص 133. (*)

[ 349 ]

عليه هيئته، فإذا قيل أكرم زيدا يوم الجمعة كان معناه أن يوم الجمعة ظرف لتحقق الاكرام، لا أنه ظرف لوجوبه. 2 – أن الزكاة لا تجب يوم الحصاد، بل يتعلق الحق بالمال إذا انعقد الحب، وصدق عليه اسم الحنطة والشعير، وعلى ذلك فذكر يوم الحصاد في الاية قرينة قطعية على أن هذا الحق هو غير الزكاة، ومما يؤيد أن هذا الحق هو غير الزكاة: أنه تعالى نهى في هذه الاية عن الاسراف وذلك لا يناسب الزكاة المقدرة بالعشر ونصف العشر، وإذا اتضح أن الحق الذي امرت الاية الكريمة بإيتائه هو غير الزكاة الواجبة لم تكن الزكاة ناسخة له. وجملة القول: أن دعوى النسخ في الاية المباركة تتوقف على إثبات وجوب حق آخر في الزروع حتى ينسخ بوجوب الزكاة، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك، لان ظهور الامر في الوجوب، وظهوره في الدوام والاستمرار لا يمكن الاحتفاظ بهما جميعا في الاية، وذلك للعلم بأنه لا يجب حق آخر بعد الزكاة فلا بد – إذن – من التصرف في أحد الظهورين، إما برفع اليد عن الظهور في الوجوب، وإبقائه على الدوام والاستمرار، فيلتزم – حينئذ – بثبوت حق آخر استحبابي باق إلى الابد، وإما برفع اليد عن الدوام والاستمرار، وإبقائه على الظهور في الوجوب فيلتزم بالنسخ، ولا مرجح للثاني على الاول، بل الترجيح للاول والدليل على ذلك أمران: 1 – الروايات المستفيضة عن الائمة المعصومين – ع – ببقاء هذا الحق واستحبابه، ” وقد أشرنا إلى هذه الروايات آنفا “. 2 – أن هذا الحق لو كان واجبا لشاع بين الصحابة والتابعين، ولم ينحصر القول به بعكرمة، والضحاك، أو بواحد واثنين غيرهما. وحاصل ما تقدم: أن الحري بالقبول هو القول بثبوت حق آخر تدبي في الثمار والزروع، وهذا هو مذهب الشيعة الامامية، وعليه فلا نسخ لمدلول الاية الكريمة.


[ 350 ]

20 – ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم 6: 145 “. قال جماعة: إن الاية منسوخة بتحريم النبي – ص – بعد ذلك لبعض الاشياء غير المذكورة في الاية. والحق: عدم النسخ لان مفاد الاية هو الاخبار عن عدم وجدان محرم غير ما ذكر فيها، وهو دليل على عدم الوجود حين نزولها. وعليه فلا معنى لدعوى النسخ فيها، فإن النسخ لا يقع في الجملة الخبرية، وإذن فلا بد من الالتزام بأن الحصر في الاية إضافي، فإن المشركين حرموا على أنفسهم أشياء، وهي ليست محرمة في الشريعة الالهية، وهذا يظهر من سياق الايات التي قبل هذه الاية، أو الالتزام بأن الحصر حقيقي، وأن المحرمات حين نزول هذه الاية كانت محصورة بما ذكر فيها، فإن هذه الاية مكية وقد حرمت بعد نزولها أشياء أخرى، وكانت الاحكام تنزل على التدريج. ومن الظاهر أن تحريم شئ بعد شئ لا يكون من النسخ في شئ، وكون الحصر حقيقيا أظهر الاحتمالين وأقربهما إلى الفهم العرفي، ومع ذلك فلا نسخ في مدلول الاية – ولو كان الحصر إضافيا – كما عرفت. 21 – ” يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا


[ 351 ]

زحفا فلا تولوهم الادبار 8: 15. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير: 16 “. فقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى: ” ألان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين 8: 66 “. فإن المسلمين إذا قل عددهم عن نصف عدد الكفار جاز لهم ترك القتال، والفرار من الزحف. ومن القائلين بهذا القول: عطاء بن أبي رياح (1). والجواب عن ذلك: أن تقييد إطلاق هذه الاية بآية التخفيف المذكورة مؤكد لبقاء حكمها ومعنى ذلك: أن الفرار من الزحف محرم في الشريعة الاسلامية إذا لم يكن عدد المسلمين أقل من نصف عدد الكفار، وأما إذا كان المسلمون أقل عددا من ذلك فلا يحرم عليهم الفرار، وهذا ليس من النسخ في شئ. وروي عن عمرو بن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي نضرة، ونافع مولى ابن عمر، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة، وزيد بن أبي حبيب، والضحاك: أن الحكم مخصوص بأهل بدر، ولا يحرم الفرار من الزحف على


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 154، وتفسير الطبري ج 9 ص 135. (*)

[ 352 ]

غيرهم. وبه قال أبو حنيفة (1). وهذا القول أيضا باطل: فإن مورد الاية وإن كان يوم بدر، إلا أن ذلك لا يوجب اختصاص الحكم به، بعد أن كان اللفظ عاما، وكان الخطاب شاملا لجميع المسلمين ولا سيما إذا كان نزول الاية المباركة بعد انقضاء الحرب من يوم بدر (2). وذهب ابن عباس (3) وجميع الشيعة الامامية، وكثير من علماء أهل السنة إلى أن الاية محكمة، وحكمها مستمر إلى يوم القيامة، وهذا هو القول الصحيح وقد عرفت الدليل عليه، والروايات في ذلك متظافرة من الطريقين. روى الكليني بإسناده عن محمد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” سمعته يقول الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله عليه النار ” (4). وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله: ” واجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل


(1) تفسير الشوكاني ج 2 ص 280. (2) نفس المصدر. (3) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 154، وتفسير الطبري ج 9 ص 135. (4) الوافي ج 3 باب تفسير الكبائر ص 174. (*)

[ 353 ]

مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الفافلات (1). 22 – ” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها 8: 61 “. فذهب ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء، وعكرمة، والحسن وقتادة إلى أنها منسوخة بآية السيف (2). والحق: أنها محكمة غير منسوخة، والدليل على ذلك. أولا: إن آية السيف خاصة بالمشركين دون غيرهم، ” وقد تقدم بيان ذلك “، ومن هنا صالح النبي صلى الله عليه وآله نصارى نجران في السنة العاشرة من الهجرة (3) مع أن سورة براءة نزلت في السنة التاسعة، وعليه فتكون آية السيف مخصصة لعموم الحكم في الاية الكريمة، وليست ناسخة لها. وثانيا: أن وجوب قتال المشركين، وعدم مسالمتهم مقيد بما إذا كان للمسلمين قوة واستعداد للمقاتلة وأما إذا لم تكن لهم قوة تمكنهم من الاستظهار على عدوهم فلا مانع من المسألة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك مع قريش يوم الحديبية، وقد دل على التقييد قوله تعالى: ” فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم 47: 25 “.


(1) صحيح البخاري باب قول الله تعالى: ” إن الذين يأكلون أموال اليتامى ” ج 3 ص 195، وصحيح مسلم باب بيان الكبائر ج 1 ص 64، وسنن أبي داود باب التشديد في أكل مال اليتيم ج 2 ص 93، وسنن النسائي باب اجتناب أكل مال اليتيم ج 2 ص 131، إلا أنه ذكر الشح بدل السحر. (2) تفسير ابن كثير ج 2 ص 322. (3) أمتاع الاسماع للمقريزي ص 502. (*)

[ 354 ]

23 – ” يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون 8: 65. ألان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين: 66 “. فقد ذكروا أن حكم الاية الاولى قد نسخ بالاية الثانية، وإن الواجب في أول الامر على المسلمين أن يقاتلوا الكفار، ولو كانوا عشرة أضعافهم ثم خفف الله عن المسلمين فجعل وجوب القتال مشروطا بأن لا يزيد الكفار على ضعف عدد المسلمين. والحق: أنه لا نسخ في حكم الاية، فإن القول بالنسخ يتوقف على إثبات الفصل بين الايتين نزولا، وإثبات أن الاية الثانية نزلت بعد مجئ زمان العمل بالاية الاولى، وذلك لئلا يلزم النسخ قبل حضور وقت الحاجة ومعنى ذلك: أن يكون التشريع الاول لغوا، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك إلا أن يتمسك بخبر الواحد، ” وقد أوضحنا أن النسخ لا يثبت به إجماعا ” (1)، أضف إلى ذلك أن سياق الايتين أصدق شاهد على أنهما نزلتا مرة واحدة. ونتيجة ذلك: أن حكم مقاتلة العشرين للمائتين استحبابي، ومع ذلك كيف يمكن دعوى النسخ، على أن لازم كلام القائل بالنسخ: ان المجاهدين في


(1) تقدم ذلك في ص 285 من هذا الكتاب. (*)

[ 355 ]

بدء أمر الاسلام كانوا أربط جأشا، وأشد شكيمة من المجاهدين بعد ظهور الاسلام، وقوته وكثرة أنصاره، وكيف يمكن القول بأن الضعف طرا على المؤمنين بعد قوتهم ! ! والظاهر أن مدلول الايتين هو تحريض المؤمنين على القتال، وان الله يعدهم بالنصر على أعدائهم، ولو كانت الاعداء عشرة أضعاف المسلمين، إلا أنه تعالى لعلمه بضعف قلوب غالب المؤمنين، وعدم تحملهم هذه المقاومة الشديدة لم يوجب ذلك عليهم، ورخص لهم بترك المقاومة إذا زاد العدو على ضعفهم، تخفيفا عنهم، ورأفة بهم، مع وعده تعالى إياهم بالنصر إذا ثبتت أقدامهم في إعلاء كلمة الاسلام. وقد جعل وجوب المقاومة مشروطا بأن لا يبلغ العدو أكثر من ضعف عدد المسلمين، فإن الكفار لجهلهم بالدين، وعدم ركونهم إلى الله تعالى في قتالهم لا يتحملون الشدائد، وإن عقيدة الايمان في الرجل المؤمن تحدوه إلى الثبات أمام الاخطار، وتدعوه إلى النهضة لاعزاز الاسلام، لانه يعتقد بنجاحه على كل حال، وربحه في تجارته على كل تقدير، سواء أكان غالبا أم كان مغلوبا، قال الله تعالى: ” ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما 4: 104 “. 24 – ” إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما 9: 19 “.


[ 356 ]

فعن ابن عباس، والحسن، وعكرمة: أنها منسوخة (1) بقوله تعالى: ” وما كان المؤمنون لينفروا كافة 9: 122 “. وهذا القول مبني على أن النفر كان واجبا ابتداء على جميع المسلمين مع أن الاية المباركة ظاهرة في أن الوجوب إنما هو على الذين يستنفرون إلى الجهاد، فقد قال تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحيوة الدنيا من الاخرة فما متاع الحيوة الدنيا في الاخرة إلا قليل 9: 38. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير: 39 “. وحاصل الاية أن من أمر بالنفير إلى الجهاد ولم يخرج استحق العذاب بتركه الواجب، ولا صلة لهذا بوجوب الجهاد على جميع المسلمين. وبهذا البيان يتضح بطلان دعوى النسخ (2) في قوله تعالى: ” انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله 9: 41 “.


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 169، ونسبه القرطبي في تفسيره إلى الضحاك أيضا ج 8 ص 142. (2) نسبها القرطبي في تفسيره إلى قائل ولم يسمه ج 8 ص 150، ونسبها الطبرسي في مجمع البيان إلى السدي ج 3 ص 33. (*)

[ 357 ]

على أنا قد أوضحنا للقارئ – مرارا – أن تخصيص العام ببعض أفراده ليس من النسخ، بل إن قوله تعالى: ” وما كان المؤمنون لينفروا كافة 9: 122 “. بنفسه دليل على عدم النسخ، فإنه دل على أن النفر لم يكن واجبا على جميع المسلمين من بداية الامر، فكيف يكون ناسخا للآية المذكورة. 25 – ” عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين 9: 43. لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين: 44. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله: 45 “. فعن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة: أن هذه الآيات منسوخة (1) بقوله تعالى: ” فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم 24: 62 “. والحق: أن الآيات الثلاث لا نسخ فيها، لان صريحها أن المنع من الاستيذان وعتاب النبي صلى الله عليه واله وسلم على اذنه إنما هو في مورد عدم تميز الصادق من الكاذب


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 170. (*)

[ 358 ]

وقد بين سبحانه وتعالى أن غير المؤمنين كانوا يستأذنون النبي صلى الله عليه واله وسلم في البقاء فرارا من الجهاد بين يديه، فأمره بأن لا يأذن لاحد إذا لم تبين الحال، أما إذا تبين الحال فقد أجاز الله المؤمنين أن يستأذنوا النبي صلى الله عليه واله وسلم في بعض شأنهم، وأجاز للنبي صلى الله عليه واله وسلم أن يأذن لمن شاء منهم، وإذن فلا منافاة بين الآيتين لتكون إحداهما ناسخة للاخرى. * * * 26 – ” ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه 9: 120 “. فعن ابن زيد: انها منسوخة (1) بقوله تعالى: ” وما كان المؤمنون لينفروا كافة 9: 122 “. والحق: أنه لا نسخ فيها، فإن الآية الثانية قرينة متصلة بالآية الاولى، وحاصل المراد منهما أن وجوب النفر إنما هو على البعض من المسلمين على نحو الكفاية، فلا تكون ناسخة، نعم قد يجب النفير إلى الجهاد على جميع المسلمين إذا اقتضته ضرورة وقتية، أو طلبه الولي العام الشرعي، أو لما سوى ذلك من الطوارئ، وهذا الوجوب هو غير وجوب الجهاد كفائيا الذي ثبت بأصل الشرع على المسلمين بذاته، وكلا الوجوبين باق، ولم ينسخ. * * *


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 181 ونسب القرطبي القول بالنسخ فيها إلى مجاهد أيضا ج 8 ص 392. (*)

[ 359 ]

27 – ” واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين 10: 109 “. فعن ابن زيد: أن هذه الآية منسوخة بالامر بالجهاد، والغلظة على الكفار (1) وبطلان هذا القول يظهر مما قدمناه في إبطال دعوى النسخ في الآية الاولى من الآيات التي نبحث عن نسخها، فلا حاجة إلى الاعادة أضف إلى ذلك أنه لا دلالة على أن المراد من الصبر في هذه الآية هو الصبر على الكفار، نعم الصبر عليهم يشمله إطلاق الآية، وعليه فلا وجه لدعوى النسخ فيها. * * * 28 – ” وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل 15: 85 “. فعن ابن عباس، وسعيد، وقتادة: أنها منسوخة بآية السيف (2)، وغير خفي أن الصفح المأمور به في الآية المباركة هو الصفح عن الاذى الذي كان يصل من المشركين إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم على تبليغه شريعة ربه، ولا علاقة له بالقتال، ويشهد لهذا قوله تعالى بعيد ذلك. ” فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15: 94. إنا كفيناك المستهزئين: 95 “. وحاصل الآية: أن الله سبحانه يحرض النبي صلى الله عليه واله وسلم على المصابرة في تبليغ


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 178. (2) نفس المصدر ص 180. (*)

[ 360 ]

أوامره، ونشر أحكامه، وأن لا يلتفت إلى أذى المشركين واستهزائم، ولا علاقة لذلك بحكم القتال الذي وجب بعد ما قويت شوكة الاسلام، وظهرت حجته، نعم إن النبي الاكرم لم يؤمر بالجهاد في بادئ الامر، لانه لم يكن قادرا على ذلك حسب ما تقتضيه الظروف من غير طريق الاعجاز، وخرق نواميس الطبيعة، ولما أصبح قادرا على ذلك، وكثر المسلمون، وقويت شوكتهم، وتمت عدتهم وعدتهم أمر بالجهاد، وقد أسلفنا أن تشريع الاحكام الاسلامية كان على التدريج وهذا ليس من نسخ الحكم الثابت بالكتاب في شئ. * * * 29 – ” ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا 16: 67 “. فعن قتادة، وسعيد بن جبير، والشعبي، ومجاهد، وإبراهيم، وأبي رزين: أن هذه الاية منسوخة بتحريم الخمر (1). والحق: ان الآية محكمة، فإن القول بالنسخ فيها يتوقف على إثبات أمرين: 1 – أن يراد بلفظ ” سكرا ” الخمر والشراب المسكر، والقائل بالنسخ لا يستطيع إثبات ذلك، فإن أحد معانيه في اللغة الخل، وبذلك فسره علي بن ابراهيم (2)، وعلى هذا المعنى يكون المراد بالرزق الحسن الطعام اللذيذ من الدبس وغيره. 2 – أن تدل الآية على إباحة المسكر، وهذا أيضا لا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، فإن الآية الكريمة في مقام الاخبار عن أمر خارجي ولا دلالة لها على


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 181. (2) تفسير البرهان ج 1 ص 577. (*)

[ 361 ]

إمضاء ما كان يفعله الناس، وقد ذكرت الآية في سياق إثبات الصانع الحكيم بآياته الآفاقية، فقال عز من قائل: ” والله أنزل من السماء ماء فأحياء به الارض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون 16: 65. وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين: 66. ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون: 67. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون: 68. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون: 69 “. فذكر سبحانه وتعالى أن من آياته أن ينزل الماء من السماء، وأنه يحيى به الارض بعد موتها. ثم ذكر تدبيره في صنع الحيوان، وأنه يخرج اللبن الخالص من بين فرث ودم. ثم ذكر ما أودعه في ثمرات النخيل والاعناب من الاستعداد لاتخاذ السكرمنها والرزق الحسن، وقد امتازت هي من بين الثمار بذلك. ثم ذكر ما يصنعه النحل من الاعمال التي يحار فيها العقلاء العارفون بمزايا صنع العسل ومبادئه، وأن ذلك بوحي الله تعالى وإلهامه. وإذن فليس في الآية دلالة على إباحة شرب المسكر أصلا. على أن في الآية إشعارا – لو سلم إرادة المسكر من


[ 362 ]

لفظ سكرا – بعدم جواز شرب المسكر، فإنها جعلت المسكر مقابلا للرزق الحسن. ومعنى هذا: أن المسكر ليس من الرزق الحسن، فلا يكون مباحا. وتدل على ما ذكرناه الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام فإنها دلت على أن الخمر لم تزل محرمة. روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم، قال: ” سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الخمر، فقال: قال رسول الله – ص -: إن أول ما نهاني عنه ربي عز وجل عبادة الاوثان وشرب الخمر.. “. وروى عن الريان عن الرضا عليه السلام، قال: ” ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر ” (1)، وقد تقدم في بحث الاعجاز تحريم الخمر في التوراة (2)، ولكن الشئ الذي لا يشك فيه أن الشريعة الاسلامية لم تجهر بحرمة الخمر برهة من الزمن، ثم جهرت بها بعد ذلك، وهذا هو حال الشريعة المقدسة في جميع الاحكام. ومن البين أنه ليس معنى ذلك أن الخمر كان مباحا في الشريعة ثم نسخت حرمته. * * * 30 – ” الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين 24: 3 “.


(1) البحار تتمة ج 16 باب حرمة شرب الخمر ص 18، 20. وقد افرد لذلك بابا في الوافي ج 11 ص 79. (2) تقدم ذلك في ص 54 من هذا الكتاب. (*)

[ 363 ]

فعن سعيد بن المسيب، وأكثر العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ” وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم 24: 32 “. فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (1). والحق: أن الآية غير منسوخة، فإن النسخ فيها يتوقف على أن يكون المراد من لفظ النكاح هو التزويج، ولا دليل يثبت ذلك. على أن ذلك يستلزم القول بإباحة نكاح المسلم الزاني المشركة، وبإباحة نكاح المشرك المسلمة الرابي، وهذا مناف لظاهر الكتاب العزيز، ولما ثبت من سيرة المسلمين، وإذن فالظاهر أن المراد من النكاح في الآية هو الوطئ، والجملة خبرية قصد بها الاهتمام بأمر الزنا. ومعنى الآية: أن الزاني لا يزني إلا بزانية، أو بمن هي أخس منها وهي المشركة، وأن الزانية لا تزني إلا بزان، أو بمن هو أخس منه وهو المشرك. وأما المؤمن فهو ممتنع عن ذلك، لان الزنا محرم، وهو لا يرتكب ما حرم عليه. * * * 31 – ” قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله 45: 14 “. فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية الكريمة منسوخة بآية السيف، وقالوا: إن هذه الآية مكية، وقد نزلت في عمر بن الخطاب حين شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة، فأراد عمر أن يبطش به: فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى:


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 193. (*)

[ 364 ]

” فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم 9: 5 “. واستندوا في ذلك إلى ما رواه عليل بن أحمد، عن محمد بن هشام عن عاصم ابن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس (1) ولكن هذه الرواية ضعيفة جدا، ولا أقل من أن في سندها عاصم بن سليمان وهو كذاب وضاع (2) مع أن الرواية ضعيفة المتن، فإن المسلمين – قبل الهجرة – كانوا ضعفاء، ولم يكن عمر مقداما في الحروب، ولم يعد من الشجعان المرهوبين، فكيف يسعه أن يبطش بالمشرك ؟ ! على أن لفظ الغفران المذكور في الآية يدل على التمكن من الانتقام. ومن المقطوع به أن ذلك لم يكن ميسورا لعمر قبل الهجرة، فلو أراد البطش بالمشرك لبطش به المشرك لا محالة. والحق: أن الآية المباركة محكمة غير منسوخة، وأن معنى الآية: أن الله أمر المؤمنين بالعفو والاغضاء عما ينالهم من الايذاء والاهانة في شؤونهم الخاصة ممن لا يرجون أيام الله، ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك: ” ليجزي قوما بما كانوا يكسبون 45: 14. من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون: 15 “. فإن الظاهر منه أن جزاء المسئ الذي لا يرجو أيام الله ولا يخاف المعاد،


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 218. (2) قال ابن عدي: ” يعد ممن يضع الحديث “. وقال أيضا: ” عامة أحاديثه مناكير متنا واسنادا، والضعف على رواياته بين “، وقال الفلاس: ” كان يضع الحديث، ما رأيت مثله قط ” وقال أبو حاتم والنسائي: ” متروك “. وقال الدارقطني: ” كذاب “، وقال أيضا في العلل: ” كان ضعيفا آية من الآيات في ذلك “. وقال ابن حبان: ” لا يجوز كتب حديثه إلا تعجبا ” وقال أبو داود الطيالسي: ” كذاب “، وقال الساجي: ” متروك يضع الحديث “، وقال الازدي: ” ضعيف مجهول “، لسان الميزان ج 3 ص 218، 219. (*)

[ 365 ]

سواء أكان من المشركين، أم من الكتابيين، أم من المسلمين الذين لا يبالون بدينهم إنما هو موكول إلى الله الذي لا يفوته ظلم الظالمين وتفريط المفرطين، فلا ينبغي للمسلم المؤمن بالله أن يبادر إلى الانتقام منه، فإن الله أعظم منه نقمة وأشد أخذا، وهذا الحكم تهذيبي أخلاقي، وهو لا ينافي الامر بالقتال للدعوة إلى الاسلام أو لامر آخر، سواء أكان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف أم كان بعده. * * * 32 – ” فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء 47، 4 “. فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وذهب آخرون إلى أنها ناسخة لها (1). والحق: أنها ليست ناسخة ولا منسوخة، وتحقيق ذلك يحتاج إلى مزيد من البسط في الكلام. أحكام الكافر المقاتل: المعروف بين الشيعة الامامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم، ولا يسقط قتله بالاسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين، ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم، وإذا أسلم ارتفع موضوع القتل، وهو الكافر، وأما الاسر بعد الاثخان فيسقط فيه القتل، فإن الآية قد جعلت الاثخان غاية لوجوب ضرب الرقاب.


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 220. (*)

[ 366 ]

ومن الواضح: أن الحكم يسقط عند حصول غايته، ويتخير ولي الامر في تلك الحال بين استرقاق الاسير، وبين مفاداته، والمن عليه من غير فداء، من غير فرق في ذلك بين المشرك وغيره من فرق الكفار، وقد ادعي الاجماع على ما ذكرناه من الاحكام، والمخالف فيها شاذ لا يعبأ بخلافه، ” وسيظهر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى “. وهذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة من جميع الجهات إذا كان شد الوثاق هو الاسترقاق، باعتبار أن معنى شد الوثاق هو عزله عن الاستقلال ما لم يمن عليه أو يفاد، وأما إذا لم يكن شد الوثاق بمعنى الاسترقاق، فلا بد من إضافة الاسترقاق إلى المفاداة والمن للعلم بجوازه من أدلة أخرى، فيكون ذلك تقييدا لاطلاق الآية بالدليل. وقد وردت الاحكام المذكورة فيما رواه الكليني، والشيخ الطوسي بإسنادهما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” سمعته يقول كان أبي يقول ان للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها، ولم يثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الامام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم، وتركه يتشحط في دمه حتى يموت وهو قول الله تعالى: ” إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أوتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم 5: 33 “. ألا ترى أنه التخيير الذي خير الله الامام على شئ واحد وهو الكفر وليس


[ 367 ]

هو على أشياء مختلفة فقلت لجعفر بن محمد عليه السلام قول الله تعالى: ” أو ينفوا من الارض “، قال ذلك الطلب أن يطلبه الخيل حتى يهرب، فإن أخذته الخيل حكم ببعض الاحكام التي وضعت ذلك، والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها، فكل أسير أخذ على تلك الحال وكان في أيديهم فالامام فيه بالخيار، إن شاء الله من عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا ” (1). ووافقتا على سقوط القتل عن الاسير بعد الاثخان: الضحاك وعطاء، وصرح الحسن بذلك وان الامام بالخيار إما أن يمن أو يفادي أو يسترق (2). وعلى ما ذكرناه فلا نسخ في الآية الكريمة، غاية الامر أن القتل يختص بمورد، ويختص عدم القتل بمورد آخر من غير فرق بين أن تكون آية السيف متقدمة في النزول على هذه الآية، وبين أن تكون متأخرة عنها. ومن الغريب: أن الشيخ الطوسي – في هذا المقام – نسب إلى أصحابنا أنهم رووا تخيير الامام في الاسير بعد الاثخان بين القتل وبين ما ذكر من الامور. قال: ” والذي رواه أصحابنا أن الاسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب والقتال – بأن تكون الحرب قائمة، والقتال باق – فالامام مخير بين أن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، وليس له المن ولا الفداء، وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان – الامام – مخيرا بين المن والمفاداة إما بالمال أوالنفس، وبين الاسترقاق – وضرب الرقاب – “. وتبعه على ذلك الطبرسي في تفسيره (3) مع أنه لم ترد في ذلك رواية أصلا.


(1) الوافي ج 9 ص 23. (2) القرطبي ج 16 ص 227، 228، ونقله النحاس في الناسخ والمنسوخ عن عطاء ص 221. (3) تفسير التبيان ج 9 ص 291 ط النجف. (*)

[ 368 ]

وقد نص الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط (1): ” كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها، فإنه يكون الامام مخيرا فيه بين أن يمن عليه فيطلقه، وبين أن يسترقه وبى أن يفاديه، وليس له قتله على ما رواه أصحابنا وقد ادعى الاجماع والاخبار على ذلك: في المسألة السابعة عشرة من كتاب الفئ، وقسمة الغنائم من كتاب الخلاف. ومن الذين ادعوا الاجماع على ذلك صريحا العلامة في كتابي ” المنتهى والتذكرة ” في أحكام الاسارى من كتاب الجهاد. وفي ظني: أن كلمة ” ضرب الرقاب ” في عبارة ” التبيان ” إنما كانت من سهو القلم، وقد جرى عليه الطبرسي من غير مراجعة. هذا هو مذهب علماء الشيعة الامامية، والضحاك، وعطاء، والحسن. آراء اخرى حول الآية: وأما بقية علماء أهل السنة فقد ذهبوا إلى أقوال: 1 – منهم من قال: ” إن الآية نزلت في المشركين، ثم نسخت بآيات السيف “، نسب ذلك إلى قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جريح، وابن عباس، وإلى كثير من الكوفيين، فقالوا: ” إن الاسير المشرك يجب قتله، ولا تجوز مفاداته، ولا المن عليه بإطلاقه ” (2). ويرده: أنه لا وجه للنسخ على هذا القول، فإن نسبة هذه الآية إلى آيات السيف نسبة المقيد إلى المطلق، سواء أكانت متقدمة عليها في النزول أم كانت متأخرة


(1) المبسوط كتاب الجهاد، فصل في أصناف الكفار وكيفية قتالهم. (2) تفسير القرطبي ج 16 ص 227. (*)

[ 369 ]

عنها. وقد أوضحنا – فيما سبق – أن العام المتأخر لا يكون ناسخا للخاص المتقدم، فكيف بالمطلق إذا سبقه المقيد (1) ؟. 2 – ومنهم من قال: ” إن الآية نزلت في الكفار جميعا، فنسخت في خصوص المشرك ” نسب ذلك إلى قتادة، ومجاهد، والحكم، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة (2). ويرده: أن هذا القول واضح البطلان كالقول السابق، فإن ذلك موقوف على أن تكون آيات السيف متأخرة في النزول عن هذه الآية، ولا يمكن القائل بالنسخ إثبات ذلك، ولا سند له غير التمسك بخبر الواحد، وقد أوضحنا أن خبر الواحد لا يثبت به النسخ إجماعا، ولو فرضنا ثبوت ذلك، فلا دليل على كون آيات السيف ناسخة لها، ليصح القول المذكور، بل تكون هذه الآية مقيدة لآيات السيف، وذلك: لاجماع الامة على أن هذه الآية قد شملت المشركين أو أنها مختصة بهم، وعلى ذلك كانت الآية المباركة قرينة على تقييد آيات السيف لما أشرنا إليه آنفا من أن المطلق لا يصلح أن يكون ناسخا للمقيد، وإذا أغمضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارضة لآيات السيف بالعموم من وجه، ومورد الاجتماع هو المشرك الاسير بعد الاثخان، ولا مجال للالتزام بالنسخ فيه. 3 – ومنهم من قال: ” إن الآية ناسخة الآية السيف ” نسب ذلك إلى الضحاك وغيره ” (3). ويرده:


(1) قد فصلنا الكلام في ذلك في بحث العموم والخصوص من كتابنا ” أجود التقريرات “. (2) تفسير القرطبي ج 16 ص 227. (3) نفس المصدر. (*) (البيان – 24)

[ 370 ]

أن هذا القول، يتوقف على إثبات تأخر هذه الآية في النزول عن آيات السيف، ولا يمكن هذا القائل إثبات ذلك، على أنا قد أوضحنا – فيما تقدم – أنه لا موجب للالتزام بالنسخ، تأخرت الآية في النزول عن آيات السيف، أم تقدمت عليها. 4 – ومنهم من قال: ” إن الامام مخير في كل حال بين القتل والاسترقاق والمفاداة والمن “، رواه أبو طلحة عن ابن عباس، واختاره كثير: منهم ابن عمر، والحسن، وعطاء، وهو مذهب مالك، والشافعي، والثوري، والاوزاعي وأبي عبيد، وغيرهم. وعلى هذا القول فلا نسخ في الآية (1) قال النحاس بعدما ذكر هذا القول: ” وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن لان النسخ إنما يكون بشئ قاطع، فأما إذا أمكن العمل بالآيتين، فلا معنى في القول بالنسخ.. وهذا القول يروى عن أهل المدينة، والشافعي، وأبي عبيد ” (2). ويرده: أن هذا القول وإن لم يستلزم نسخا في الآية، إلا أنه باطل أيضا، لان الآية الكريمة صريحة في أن المن والفداء إنما هما بعد الاثخان فالقول بثبوتهما – قبل ذلك – قول بخلاف القرآن، والامر بالقتل في الآية مغيا بالاثخان فالقول بثبوت القتل بعده قول بخلاف القرآن أيضا، وقد سمعت أن آيات السيف مقيدة بهذه الآية. وأما ما استدل به على هذا القول من أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قتل بعض الاسارى وفادى بعضا، ومن على آخرين، فهذه الرواية – على فرض صحتها – لا دلالة لها على التخيير بين القتل وغيره، لجواز أن يكون قتله للاسير قبل الاثخان


(1) تفسير القرطبي ج 16 ص 228. (2) الناسخ والمنسوخ ص 221. (*)

[ 371 ]

وفداؤه ومنه في الاسراء بعده، وأما ما روي من فعل أبي بكر وعمر فهو – على تقدير ثبوته – لا حجية فيه، لترفع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز. * * * 33 – ” وفي أموالهم حق للسائل والمحروم 51: 19 “. * * * 34 – ” والذين في أموالهم حق معلوم 70: 24. للسائل والمحروم: 25 “. فقد وقع الاختلاف في نسخ الآيتين وإحكامهما. ووجه الاختلاف في ذلك: أن الحق المعلوم الذي أمرت الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة، وقد يكون فرضا ماليا آخر غيرها، وقد يكون حقا غير الزكاة ولكنه مندوب وليس بمفروض. فإن كان الحق واجبا ماليا غير الزكاة فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة، من حيث إن الزكاة نسخت كل صدقة واجبة في القرآن وقد اختار هذا الوجه جماعة من العلماء. وإن كان الحق المعلوم هو الزكاة نفسها، أو كان حقا مستحبا غير مفروض، فالآيتان محكمتان بلا ريب. والتحقيق: يقتضي اختيار الوجه الاخير، وأن الحق المعلوم شئ غير الزكاة، وهو أمر قد ندب إليه الشرع. فقد استفاضت النصوص من الطريقين بأن الصدقة الواجبة منحصرة بالزكاة، وقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام بيان المراد من هذا الحق المعلوم. روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال: ” كنا عند أبي عبد الله عليه السلام ومعنا بعض أصحاب الاموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها، وإنما هو شئ ظاهر


[ 372 ]

إنما حقن بهادمه وسمي بها مسلما، ولو لم يؤدها لم تقبل صلاته، وإن عليكم في أموالكم غير الزكاة. فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة ؟ فقال: سبحان الله ! أما تسمع الله يقول في كتابه: والذين في أموالهم… ؟ قال: قلت: فماذا الحق المعلوم الذي علينا ؟ قال: هو والله الشئ يعلمه الرجل في ماله يعطيه في اليوم، أو في الجمعة، أو الشهر قل أو كثر غير أنه يدوم عليه “. وروى أيضا بإسناده عن اسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: ” والذين في أموالهم… أهو سوى الزكاة ؟ فقال: هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الالف، والالفين، والثلاثة آلاف، والاقل والاكثر فيصل به رحمه، ويحتمل به الكل عن قومه “. وغير ذلك من الروايات عن الصادقين عليهما السلام (1). وروى البيهقي في شعب الايمان، بإسناده عن غزوان بن أبي حاتم قال: ” بينا أبو ذر عند باب عثمان لم يؤذن له إذ مر به رجل من قريش فقال: يا أبا ذر ما يجلسك ههنا ؟ فقال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لي، فدخل الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له ؟ فأمر فاذن له فجاء حتى جلس ناحية القوم.. فقال عثمان لكعب: يا أبا إسحق أرأيت المال إذا أدي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة ؟ قال: لا، فقام أبو ذر ومعه عصا فضرب بها بين اذني كعب، ثم قال: يا ابن اليهودية، أنت تزعم أنه ليس حق في ماله إذا أدى الزكاة. والله تعالى يقول: ” ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 59: 9 “.


(1) الوافي باب الحق المعلوم وما قبله ج 6 ص 52. (*)

[ 373 ]

والله تعالى يقول: ” ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا 76: 8 “. والله تعالى يقول: ” والذين في أموالهم حق معلوم 7: 74. للسائل والمحروم: 75 “. فجعل يذكر نحو هذا من القرآن.. ” (1). وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس: ” أن الحق المعلوم سوى الصدقة يصل بها رحما، أن يقري بها ضيفا أو يحمل بها كلا، أو يعين بها محروما ” (2). وتبع ابن عباس على ذلك جملة من المفسرين، وعلى هذا فلا نسخ في الآية المباركة. * * * 35 – ” يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم 58: 12 “.


(1) كنز العمال ج 3 ص 310. (2) تفسير القرطبي ج 29 ص 50. (*)

[ 374 ]

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى: ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون 58: 13 “. فقد استفاضت الروايات من الطريقين: أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير علي عليه السلام فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم، فكان كلما ناجى الرسول صلى الله عليه واله وسلم قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات. أحاديث العمل بآية النجوى: روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال: ” قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا قد شركته فيها وفضلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني أحد منهم، قلت: يا أمير المؤمنين فأخبرني بهن، فقال عليه السلام: وإن أول منقبة – وذكر السبعين – وقال في ذلك: وأما الرابعة والعشرين فإن الله عز وجل أنزل على رسوله: إذا ناجيتم فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله أتصدق قبل ذلك بدرهم، والله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عز وجل: ءأشفقتم.. ” (1). وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال: ” قال علي رضي الله عنه آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلى ولا يعمل


(1) تفسير البرهان ج 2 ص 1099. (*)

[ 375 ]

بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي: إذا ناجيتم ” (1). قال الشوكاني: وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه – علي بن أبي طالب – قال: ” ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة يعني آية النجوى “. وأخرج سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضا قال: ” إن في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى: إذا ناجيتم… كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت: ء أشفقتم.. ” (2). وتحقيق القول في ذلك: أن الآية المباركة دلت على أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم خير، وتطهير للنفوس، والامر به أمر بما فيه مصلحة العباد. ودلت على أن هذا الحكم إنما يتوجه على من يجد ما يتصدق به، أما من لا يجد شيئا فإن الله غفور رحيم. ولا ريب في أن ذلك مما يستقل العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحته فإن في الحكم المذكور نفعا للفقراء، لانهم السمتحقون للصدقات، وفيه تخفيف عن النبي


(1) تفسير الطبري ج 28 ص 15. (2) فتح القد يرج 5 ص 186 والروايات في هذا المقام كثيرة فليراجع تفسير البرهان وتفسير الطبري وكتب الروايات. وقد تعرض لنقل جملة منها شيخنا المجلسي في المجلد التاسع من البحار ص 170. (*)

[ 376 ]

صلى الله عليه واله وسلم فإنه يوجب قلة مناجاته من الناس، وأنه لا يقدم على مناجاته – بعد هذا الحكم – إلا من كان حبه لمناجاة الرسول أكثر من حبه للمال. ولا ريب أيضا في أن حسن ذلك لا يختص بوقت دون وقت. ودلت الآية الثانية على أن عامة المسلمين – غير علي بن أبي طالب عليه السلام – أعرضوا عن مناجاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم إشفاقا من الصدقة، وحرصا على المال. سبب نسخ صدقة النجوى: ولا ريب في أن إعراضهم عن المناجاة يفوت عليهم كثيرا من المنافع والمصالح العامة. ومن أجل حفظ تلك المنافع رفع الله عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعلى النفع الخاص بالفقراء، وأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله. وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ، وأن الحكم المجعول بالاية الاولى قد نسخ وارتفع بالاية الثانية. ويكون هذا من القسم الاول من نسخ الكتاب – أعني ما كانت الاية الناسخة ناظرة إلى انتهاء أمد الحكم المذكور في الاية المنسوخة – ومع ذلك فنسخ الحكم المذكور في الاية الاولى ليس من جهة اختصاص المصلحة التي اقتضت جعله بزمان دون زمان إذ قد عرفت انها عامة لجميع أزمنة حياة الرسول صلى الله عليه وآله إلا أن حرص الامة على المال، وإشفاقها من تقديم الصدقة بين يدي المناجاة كان مانعا من استمرار الحكم المذكور ودوامه، فنسخ الوجوب وابدل الحكم بالترخيص. وقد يعترض: أنه كيف جعل الله الحكم المذكور ” وجوب التصدق بين يدي النجوى ” مع عامه منذ الازل بوقوع المانع !. والجواب: أن في جعل هذا الحكم ثم نسخه – كما فعله الله سبحانه – تنبيها للامة،


[ 377 ]

وإتماما للحجة عليهم. فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك أن الصحابة كلهم آثروا المال على مناجاة الرسول الاكرم، ولم يعمل بالحكم غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. وترك المناجاة وإن لم يكن معصية لله سبحانه، لان المناجاة بنفسها لم تكن واجبة، ووجوب الصدقة كان مشروطا بالنجوى، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدقة ولا معصية في ترك المناجاة، إلا أنه يدل على أن من ترك المناجاة يهتم بالمال أكثر من اهتمامه بها. حكمة تشريع صدقة النجوى: وفي نسخ هذا الحكم بعد وضعه ظهرت حكمة التشريع، وانكشفت منة الله على عباده، وبان عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبي الاكرم، وعرف مقام أمير المؤمنين عليه السلام من بينهم. وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب، وتدل عليه أكثر الروايات. وأما إذا كان الامر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى أمرا صوريا امتحانيا – كأمر إبراهيم بذبح ولده – فالاية الثانية لا تكون ناسخة للاية الاولى نسخا اصطلاحيا، بل يصدق على رفع ذلك الحكم الامتحاني: النسخ بالمعنى اللغوي. ونقل الرازي عن أبي مسلم: أنه جزم بكون الامر امتحانيا، لتمييز من آمن إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه فلا نسخ. وقال الرازي: ” وهذا الكلام حسن ما به بأس ” (1). وقال الشيخ شرف الدين: إن محمد بن العباس ذكر في تفسيره سبعين حديثا من طريق الخاصة والعامة تتضمن أن المناجي للرسول هو أمير المؤمنين عليه السلام دون الناس أجمعين… ونقلت من مؤلف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ذكره أنه في جامع الترمذي، وتفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الانماوي يرفعه إلى علي عليه السلام أنه قال:


(1) تفسير الرازي ج 8 ص 167 طبع المطبعة العامرة. (*)

[ 378 ]

” بي خفف الله عن هذه الامة لان الله امتحن الصحابة، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق بصدقة، وكان معي دينار، فتصدقت به، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالاية، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب، لامتناع الكل من العمل بها ” (1). أقول: إن هذه الرواية لا وجود لها في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي ولم أظفر بشئ من نسخة القديمة المخطوطة، ولم أظفر أيضا بتفسير الثعلبي الذي نقل عنه في جملة من المؤلفات، ولا أعلم بوجوده في مكان. وكيف كان فلا ريب في أن الحكم المذكور لم يبق إلا زمنا يسيرا ثم ارتفع، ولم يعمل به أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام وبذلك ظهر فضله، سواء أكان الامر حقيقيا أم كان امتحانيا. تعصب مكشوف: اعتذر الرازي عن ترك شيوخ الصحابة العمل بالاية المباركة، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا، فقال ما نصه: ” وذلك الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الغني، فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن في من لم يفعل، فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الاغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة، لان الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، وأيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات، ولا من الطاعات المندوبة، بل قد بينا أنهم إنما كانوا كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا


(1) البحار ج 9 ص 72، وتفسير البرهان ج 2 ص 1100. (*)

[ 379 ]

هذه المناجاة، ولما كان الاولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن ” (1). تعقيب: أقول: هذا عذره، وأنت تجد أنه تشكيك لا ينبغي صدوره ممن له أدنى معرفة بمعاني الكلم، هب ان في هذا المقام لم ترد فيه رواية أصلا، أفلا يظهر من قوله تعالى: ” ءأشفقتم.. ” أنه عتاب على ترك المناجاة خوفا من الفقر أو حرصا على المال ؟ وأن الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير، إلا أن التعصب داء عضال، ومن الغريب أنه ذكر هذا، وقد اعترف قبيل ذلك بأن من فوائد هذا التكليف أن يتميز به محب الاخرة من محب الدنيا، فإن المال محك الدواعي ! !. وأما ان الفعل المذكور يكون سببا لحزن الفقراء، ووحشة الاغنياء فيكون تركه الموجب للالفة أولى، أما هذا الذي ذكره فلو صح لكان ترك جميع الواجبات المالية أولى من فعلها، ولكان أمره تعالى بالفعل أمرا بما يحكم العقل بأولوية تركه، وليس ببعيد أن يلتزم الرازي بهذا، وبما هو أدهى منه لينكر فضيلة من فضائل علي عليه السلام. ومن المناسب – هنا – أن أنقل كلاما لنظام الدين النيسابوري، قال ما نصه: قال القاضي: ” هذا – تصدق علي بين يدي النجوى – لا يدل على فضله على أكابر الصحابة، لان الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض، وقد قال فخر الدين الرازي: سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا، وينفر الرجل الغني، ولم يكن في تركه مضرة، لان


(1) تفسير الرازي ج 8 ص 167. (*)

[ 380 ]

الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، وأيضا الصدقة عند المناجاة واجبة، أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة، بل الاولى ترك المناجاة، لما بينا من أنها كانت سببا لسآمة النبي صلى الله عليه وآله. قلت: هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما، ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضى الله عنه في كل خصلة ؟ ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة ؟ !. فقد روي عن ابن عمر: كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة رضي الله عنها، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى، وهل يقول منصف: إن مناجاة النبي صلى الله عليه وآله نقيصة، على أنه لم يرد في الاية نهي عن المناجاة، وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالاية حصل له الفضيلة من جهتين: سد خلة بعض الفقراء، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى الله عليه وآله ففيها القرب منه، وحل المسائل العويصة، وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من الما ” (1). 36 – ” ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل 59: 8 “. فقد نقل عن قتادة أنها منسوخة، وأنه قال: الفئ والغنيمة واحد وكان في بدو الاسلام تقسيم الغنيمة على هذه الاصناف، ولا يكون لمن قاتل عليها


(1) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج 28 ص 24. (*)

[ 381 ]

شئ إلا أن يكون من هذه الاصناف. ثم نسخ الله ذلك في سورة الانفال، فجعل لهؤلاء الخمس، وجعل الاربعة الاخماس لمن حارب قال الله تعالى (1). ” وأعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه 8: 41 “. وقد رفض المحققون هذا القول، وقالوا: إن ما يغنمه المسلمون في الحرب يغاير موضعا ما أفاء الله على رسوله بغير قتال، فلا تنافي بين الايتين لتنسخ إحداهما الاخرى. أقول: إن ما ذكره المحققون بين لا ينبغي الجدال فيه، ويؤكده أنه لم ينقل من سيرة النبي صلى الله عليه وآله أن يخص بالغنائم نفسه وقرابته دون المجاهدين. ومما يبطل النسخ ما قيل من أن سورة الانفال نزلت قبل نزول سورة الحشر (2) ولا أدنى من الشك في ذلك، ومما لا ريب فيه أن الناسخ لا بد من تأخره عن المنسوخ.


(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 231. (2) تفسير القرطبي ج 18 ص 14. (*)

[ 383 ]

البداء في التكوين


[ 384 ]

العلم الالهي الازلي لا ينافى قدرته. موقف اليهود من قدرة الله. موقع البداء عند الشيعة. أقسام القضاء الالهي. ثمرة الاعتقاد بالبداء. حقيقة البداء عند الشيعة. أحاديث أهل السنة الدالة على البداء. إنباء المعصومين بالحوادث المستقبلة.


[ 385 ]

بمناسبة الحديث عن النسخ في الاحكام وهو في أفق التشريع، وبمناسبة أن النسخ كالبداء وهو في أفق التكوين، وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين، وأنهم نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه، وأنهم لم يحسنوا في الفهم ولم يحسنوا في النقد، وليتهم إذ لم يعرفوا تثبتوا أو توففوا (1) كما تفرضه الامانة في النقل، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم، والورع في الدين بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئا في توضيح معنى البداء، وإن لم تكن له صلة – غير هذا – بمدخل التفسير. تمهيد: لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته، وأن وجود أي شئ من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى، فإن شاء أوجده، وإن لم يشأ لم يوجده. ولا ريب أيضا في أن علم الله سبحانه قد تعلق بالاشياء كلها منذ الازل، وأن الاشياء بأجمعها كان لها تعين علمي في علم الله الازلي وهذا التعين يعبر عنه ب‍ ” تقرير الله ” تارة وب‍ ” قضائه ” تارة أخرى، ولكن تقدير الله وعلمه سبحانه


(1) انظر التعليقة رقم (9) للوقوف على اختلاق الفخر الرازي نسبة الجهل إلى الله على لسان الشيعة – في قسم التعليقات. (*)

[ 386 ]

بالاشياء منذ الازل لا يزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها، فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبر عنها بالاختيار، وقد يعبر عنها بالارادة، فإن تعلقت المشيئة به وجد وإلا لم يوجد. والعلم الالهي يتعلق بالاشياء على واقعها من الاناطة بالمشيئة الالهية، لان انكشاف الشئ لا يزيد على واقع ذلك الشئ، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقا به على هذه الحالة، وإلا لم يكن العلم علما به على وجهه، وانكشافا له على واقعه. فمعنى تقدير الله تعالى للاشياء وقضائه بها: أن الاشياء جميعها كانت متعينة في العلم الالهي منذ الازل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الالهي. موقف اليهود من قدرة الله: وذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الاشياء في الازل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه. ومن أجل ذلك قالوا: يد الله مغلولة عن القبض والبسط والاخذ والاعطاء، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير (1)، ومن الغريب أنهم – قاتلهم الله – التزموا بسلب القدرة عن الله، ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد، مع أن الملاك في كليهما واحد، فقد تعلق العلم الازلي بأفعال الله تعالى، وبأفعال العبيد على حد سواء. موقع البداء عند الشيعة: ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الامامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلف، ولا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء، وتوضيح ذلك أن القضاء على ثلاثة أقسام:


(1) انظر التعليقة رقم (10) لمعرفة بعض الاخبار الدالة على مشيئة الله تعالى – في قسم التعليقات. (*)

[ 387 ]

أقسام القضاء الالهي: الاول: قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم. روى الشيخ الصدوق في ” العيون ” بإسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي: ” رويت عن أبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إن لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلما علمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه… ” (1). وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في ” بصائر الدرجات ” بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه، ونحن نعلمه ” (2). الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما، ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء، وإن افترق عن القسم الاول، بأن البداء لا ينشأ منه. قال الرضا عليه السلام لسليمان المروزي – في الرواية المتقدمة – عن الصدوق: ” إن عليا عليه السلام كان يقول: العلم علمان، فعلم علمه الله ملائكته ورسله،


(1) عيون أخبار الرضا باب 13 في ذكر مجلس الرضا مع سليمان المروزي، والبحار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 132 ط كمباني. (2) نقلا عن البحار باب البداء والنسخ ج 2 ص 136 ط كمباني، ورواه الشيخ الكليني عن أبي بصير أيضا، الوافي باب البداء ج 1 ص 113. (*)

[ 388 ]

فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ” (1). وروى العياشي عن الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ” من الامور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الامور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحدا – يعني الموقوفة – فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا بكذب نفسه، ولا نبيه، ولا ملائكته ” (2). الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: ” يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب 13: 39. لله الامر من قبل ومن بعد 29: 4 “. وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه: 1 – ما في ” تفسير علي بن إبراهيم ” عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره، أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده. قلت: وكل شئ هو عند الله مثبت في كتاب ؟ قال: نعم. قلت:


(1) عيون أخبار الرضا باب 13 ورواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر – ع – الوافي باب البداء ج 1 ص 113. (2) نقلا عن البحار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 133 ط كمباني. (*)

[ 389 ]

فأي شئ يكون بعده ؟ قال: سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى ” (1). 2 – ما في تفسيره أيضا عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن – ع – في تفسير قوله تعالى: ” فيها يفرق كل أمر حكيم 44: 4 “. أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة. يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الاجال والارزاق والبلايا والاعراض والامراض، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء.. ” (2). 3 – ما في كتاب ” الاحتجاج ” عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ” لولا آية في كتا ب الله، لاخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الاية: يمحوا الله… ” (3). وروى الصدوق في الامالي والتوحيد بإسناده عن الاصبغ عن أمير المؤمنين عليه مثله. 4 – ما في ” تفسير العياشي ” عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” كان علي بن الحسين عليه السلام يقول: لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة. فقلت: أية آية ؟ قال: قول الله: يمحو الله… ” (4). 5 – ما في ” قرب الاسناد ” عن البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: قال


(1) نقلا عن البحار. باب البداء والنسخ ج 2 ص 133 ط كمباني. (2) نفس المصدر ص 134. (3) الاحتجاج للطبرسي ص 137 المطبعة المرتضوية – النجف الاشرف. (4) نقلا عن البحار باب البداء والنسخ ج 2 ص 139 ط كمباني. (*)

[ 390 ]

أبو عبد الله، وأبو جعفر، وعلي بن الحسين، والحسين بن علي، والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب عليهم السلام: ” لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: يمحو الله… ” (1). إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف. وخلاصة القول: أن القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ، وبام الكتاب، والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يتصور فيه البداء ؟ وأن الله سبحانه عالم بجميع الاشياء منذ الازل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء. روى الصدوق في ” إكمال الدين ” بإسناده عن أبي بصير وسماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شئ لم يعلمه أمس فابرأوا منه ” (2). وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام يقول: ” إن الله يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب، وقال: فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شئ يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل ” (3). وروى أيضا عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام: ” سئل عن قول الله: يمحو الله.. قال: إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت، فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا ” (4).


(1) نفس المصدر ص 132. (2) نقلا عن البحار، باب البداء والنسخ ج 2 ص 136. (3) نقلا عن نفس المصدر ص 139. (4) نقلا عن نفس المصدر ص 139. (*)

[ 391 ]

وروى الشيخ الطوسي في كتاب ” الغيبة ” بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال علي بن الحسين، وعلي بن أبي طالب قبله، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد: ” كيف لنا بالحديث مع هذه الاية يمحو الله.. فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشئ إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد ” (1). والروايات المأثورة عن أهل البيت – ع – أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حد الاحصاء، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الامامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح. ثمرة الاعتقاد بالبداء: والبداء: إنما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو والاثبات، والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله. فالقول بالبداء: هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه، وأن إرادة الله نافذة في الاشياء أزلا وأبدا، بل وفي القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الالهي وبين علم المخلوقين، فعلم المخلوقين – وإن كانوا أنبياء أو أوصياء – لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فإن بعضا منهم وإن كان عالما – بتعليم الله إياه – بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه، فإنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى – لوجود شئ – أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.


(1) نقلا عن البحار باب البداء والنسخ ج 2 ص 136 ط كمباني، وروى الشيخ الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله – ع – قال: ” ما بدا لله في شئ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له ” الوافي باب البداء ج 1 ص 113 “.

[ 392 ]

والقول بالبداء: يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهماته، وتوفيقه للطاعة، وإبعاده عن المعصية، فإن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة – دون استثناء – يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه، فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل، وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا، ولم ينفعه الدعا ولا التضرع، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه، حيث لا فائدة في ذلك، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين – ع – أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد. وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام من الاهتمام بشأن البداء. فقد روى الصدوق في كتاب ” التوحيد ” بإسناده عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال: ” ما عبد الله عز وجل بشئ مثل البداء ” (1). وروى بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” ما عظم الله عز وجل بمثل البداء ” (2). وروى بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” ما بعث الله عز وجل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الاقرار بالعبودية وخلع الانداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ” (3). والسر في هذا الاهتمام: أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله


(1) أفضل من البداء – نسخة اخرى. (2) التوحيد للصدوق باب البداء ص 272 ط سنة 1386، ورواه الشيخ الكليني أيضا. الوافي باب البداء ج 1 ص 113. (3) نفس المصدر ص 272، ورواه الشيخ الكليني أيضا الوافي باب البداء ج 1 ص 113. (*)

[ 393 ]

غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه. حقيقة البداء عند الشيعة: وعلى الجملة: فإن البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الامامية هو من الابداء ” الاظهار ” حقيقة، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل والاطلاق بعلاقة المشاكلة. وقد اطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة. روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة، أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأعمى وأقرع، بدالله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الابرص… ” (1) وقد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية، كقوله تعالى: ” الان علم الله أن فيكم ضعفا 8: 66 “. وقوله تعالى: ” لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا 8: 12 “. وقوله تعالى: ” لنبلوهم أيهم أحسن عملا 8: 7 “. وما أكثر الروايات من طرق أهل السنة في أن الصدقة والدعاء يغيران القضاء (2).


(1) صحيح البخاري ج 4 باب ما ذكر عن بني إسرائيل ص 146. (2) انظر التعليقة رقم (11) للوقوف على روايات تفيد أن الدعاء يغير القضاء – في قسم التعليقات. (*)

[ 394 ]

أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السلام من الانباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها: أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم والجزم ودون تعليق، فذلك يدل أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم وهذا هو القسم الثاني ” الحتمي ” من أقسام القضاء المتقدمة. وقد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء، فإن الله لا يكذب نفسه ولا نبيه. ومتى ما أخبر المعصوم بشئ معلقا على أن لا تتعلق المشيئة الالهية بخلافه، ونصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدل على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء. والخبر الذي أخبر به المعصوم صادق وإن جرى فيه البداء، وتعلقت المشيئة الالهية بخلافه. فإن الخبر – كما عرفت – منوط بأن لا تخالفه المشيئة. وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال: ” دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو إني مفارقكم، ثم قال: سنة السبعين فيها بلاء… فقلت: بأبي أنت وأمي قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء ؟ قال: نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء “.. وذكر آية يمحو الله…


[ 395 ]

أصول التفسير


[ 396 ]

بطلان الاعتماد على الظن وعلى آراء المفسرين في فهم القرآن. مدارك التفسير. تخصيص القرآن بخبر الواحد. شبهات المنكرين له، والاقوال في المسألة.


[ 397 ]

التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان، ولا على شئ لم يثبت أنه حجة من طريق العقل، أو من طريق الشرع، للنهي عن اتباع الظن، وحرمة إسناد شئ إلى الله بغير إذنه قال الله تعالى: ” قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون 10: 59 “. وقال الله تعالى: ” ولا تقف ما ليس لك به علم 17: 36 “. إلى غير ذلك من الايات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطريقين. ومن هذا يتضح أنه لا يجوز اتباع أحد المفسرين في تفسيره، سواء أكان ممن حسن مذهبه أم لم يكن، لانه من أتباع الظن، وهو لا يغني من الحق شيئا. مدارك التفسير: ولا بد للمفسر من أن يتبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح ” فقد بينا لك حجية الظواهر ” أو يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح فإنه حجة من الداخل كما أن النبي حجة من الخارج، أو يتبع ما ثبت عن المعصومين عليهم السلام فإنهم المراجع في الدين، والذين أوصى النبي صلى الله عليه وآله بوجوب التمسك بهم


[ 398 ]

فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا (1). ولا شبهة في ثبوت قولهم عليه السلام إذا دل عليه طريق قطعي لا شك فيه كما أنه لا شبهة في عدم ثبوته إذا دل عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية، وهل يثبت بطريق ظني دل على اعتباره دليل قطعي ؟ فيه كلام بين الاعلام. وقد يشكل: في حجية خبر الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين عليهم السلام في تفسير الكتاب، ووجه الاشكال في ذلك أن معنى الحجية التي ثبتت لخبر الواحد، أو لغيره من الادلة الظنية هو وجوب ترتيب الاثار عليه عملا في حال الجهل بالواقع، كما تترتب على الواقع لو قطع به، وهذا المعنى لا يتحقق إلا إذا كان مؤدى الخبر حكما شرعيا، أو موضوعا قد رتب الشارع عليه حكما شرعيا، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد الذي يروى عن المعصومين في التفسير. وهذا الاشكال: خلاف التحقيق، فإنا قد أوضحنا في مباحث ” علم الاصول ” أن معنى الحجية في الامارة الناظرة إلى الواقع هو جعلها علما تعبديا في حكم الشارع، فيكون الطريق المعتبر فردا من أفراد العلم، ولكنه فرد تعبدي لا وجداني فيترتب عليه كلما يترتب على القطع من الاثار، فيصح الاخبار على طبقه كما يصح أن يخبر على طبق العلم الوجداني، ولا يكون من القول بغير علم. ويدلنا على ذلك سيرة العقلاء، فإنهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني من غير فرق بين الاثار، فإن اليد مثلا امارة عند العقلاء على مالكية


(1) يأتي بعض مصادر الحديث في التعليقة رقم (1) من قسم التعليقات من هذا الكتاب وفي كنز العمال – باب الاعتصام بالكتاب والسنة ج 1 ص 103 و 332 طبعة دائرة المعارف العثمانية – الشئ الكثير من طرق هذه الرواية. (*)

[ 399 ]

صاحب اليد لما في يده، فهم يرتبون له آثار المالكية، وهم يخبرون عن كونه مالكا للشئ بلا نكير، ولم يثبت من الشارع ردع لهذه السيرة العقلائية المستمرة. نعم يعتبر في الخبر الموثوق به، وفى غيره من الطرق المعتبرة أن يكون جامعا لشرائط الحجية، ومنها أن لا يكون الخبر مقطوع الكذب، فإن مقطوع الكذب لا يعقل أن يشمله دليل الحجية والتعبد، وعلى ذلك فالاخبار التي تكون مخالفة للاجماع، أو للسنة القطعية، أو الكتاب، أو الحكم العقلي الصحيح لا تكون حجة قطعا، وإن استجمعت بقية الشرائط المعتبرة في الحجية. ولا فرق في ذلك بين الاخبار المتكفلة لبيان الحكم الشرعي، وغيرها. والسر في ذلك: أن الراوي مهما بلغت به الوثاقة، فإن خبره غير مأمون من مخالفة الواقع، إذ لا أقل من احتمال اشتباه الامر عليه، وخصوصا إذا كثرت الوسائط، فلا بد من التشبث بدليل الحجية في رفع هذا الاحتمال، وفرضه كالمعدوم. وأما القطع بالخلاف، وبعدم مطابقة الخبر للواقع فلا يعقل التعبد بعدمه، لان كاشفية القطع ذاتية، وحجيته ثابتة بحكم العقل الضروري. وإذن فلا بد من اختصاص دليل الحجية بغير الخبر الذي يقطع بكذبه وبمخالفته للواقع، وهكذا الشأن في غير الخبر من الطرق المعتبرة الاخرى التي تكشف عن الواقع، وهذا باب تنفتح منه أبواب كثيرة، وبه يجاب عن كثير من الاشكالات والاعتراضات فلتكن على ذكر منه. تخصيص القرآن بخبر الواحد: إذا ثبتت حجية الخبر الواحد بدليل قطعي فهل يخصص به عموم ما ورد في الكتاب العزيز ؟ ذهب المشهور إلى جواز ذلك، وخالف فيه فريق من علماء أهل السنة، فمنعه بعضهم على الاطلاق. وقال عيسى بن أبان: إن كان العام الكتابي قد خص – من قبل – بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا لم يجز. وقال الكرخي: إذا خص العام بدليل منفصل جاز تخصيصه بعد ذلك


[ 400 ]

بخبر الواحد وإلا فلا. وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف (1). والذي نختاره: هو القول المشهور. والدليل على ذلك أن الخبر – كما فرضنا – قطعي الحجية، ومقتضى ذلك أنه يجب العمل بموجبه ما لم يمنع منه مانع. شبهات وأقوال: وما توهم منعه عن ذلك امور لا تصلح للمنع: 1 – قالوا: إن الكتاب العزيز كلام الله العظيم المنزل على نبيه الكريم، وذلك قطعي لا شبهة فيه. وأما خبر الواحد فلا يقين بمطابقته للواقع، ولا بصدور مضمونه عن المعصوم إذ لا أقل من احتمال اشتباه الراوي. والعقل لا يجوز أن ترفع اليد عن أمر مقطوع به لدليل يحتمل فيه الخطأ. والجواب عن ذلك: أن الكتاب – وإن كان قطعي الصدور – إلا أنه لا يقين بأن الحكم الواقعي على طبق عموماته، فإن العمومات إنما وجب العمل على طبقها من أجل أنها ظاهر الكلام، وقد استقرت العقلاء على حجية الظواهر، ولم يردع الشارع على اتباع هذه السيرة. ومن البين أن سيرة العقلاء على حجية الظاهر مختصة بما إذا لم تقم قرينة على خلاف الظهور، سواء أكانت القرينة متصلة أم كانت منفصلة، فإذا نهضت القرينة على الخلاف وجب رفع اليد عن الظاهر، والعمل على وفق القرينة. وإذن فلا مناص من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد بعد قيام الدليل القطعي على حجيته. فإن معنى ذلك أن مضمون الخبر صادر عن المعصومين تعبدا. وإن شئت فقل: إن سند الكتاب العزيز – وإن كان قطعيا – إلا أن دلالته ظنية، ولا محذور بحكم العقل في أن ترفع اليد عن الدلالة الظنية لدليل ظني آخر ثبتت حجيته بدليل قطعي.


(1) اصول الاحكام للامدي ج 2 ص 472. (*)

[ 401 ]

2 – وقالوا: قد صح عن المعصومين عليهم السلام أن تعرض الروايات على الكتاب وما يكون منها مخالفا لكتاب الله يلزم طرحه، وضربه على الجدار، وهو مما لم يقولوه. والخبر الخاص المخالف لعموم الكتاب مما تشمله تلك الادلة، فيجب طرحه وعدم تصديقه. والجواب عن ذلك: أن القرائن العرفية على بيان المراد من الكتاب لا تعد في نظر العرف من المخالفة له في شئ، والدليل الخاص قرينة لا يضاح المعنى المقصود من الدليل العام، والمخالفة بين الدليلين إنما تتحقق إذا عارض أحدهما صاحبه بحيث يتوقف أهل العرف في فهم المراد منهما إذا صدر كلاهما من متكلم واحد، أو ممن بحكمه فخبر الواحد الخاص ليس مخالفا للعام الكتابي، بل هو مبين للمراد منه. ويدل على ذلك أيضا: أنا نعلم أنه قد صدر عن المعصومين عليهم السلام كثير من الاخبار المخصصة لعمومات الكتاب، والمقيدة لمطلقاته، فلو كان التخصيص أو التقييد من المخالف للكتاب لما صح قولهم: ” ما خالف قول ربنا لم نقله، أو هو زخرف، أو باطل ” فيكون صدور ذلك عنهم عليهم السلام دليلا على أن التخصيص أو التقييد ليس من المخالفة في شئ. أضف إلى ذلك: أن المعصومين عليهم السلام قد جعلوا موافقة أحد الخبرين المتعارضين للكتاب مرجحا له على الخبر الاخر، ومعنى ذلك أن معارضه – وهو الذي لم يوافق الكتاب – حجة في نفسه لو لا المعارضة، ومن الواضح أن ذلك الخبر لو كانت مخالفته للكتاب على نحو لا يمكن الجمع بينهما لم يكن حجة في نفسه ولم يبق مع مجال للمعارضة والترجيح، وإذن فلا مناص من أن يكون المراد من عدم موافقته للكتاب أنه يمكن الجمع بينهما عرفا بالالتزام بالتخصيص أو التقييد. (البيان – 26).


[ 402 ]

ونتيجة ذلك: أن الخبر المخصص للكتاب، أو المقيد له حجة في نفسه، ويلزم العمل به إلا حين يبتلى بالمعارضة. 3 – وقالوا: لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به، والنسخ به غير جائز يقينا فالتخصيص به غير جائز أيضا، والسند في هذه الملازمة: أن النسخ – كما أوضحناه في مبحث النسخ – تخصيص في الازمان، والدليل الناسخ كاشف عن أن الحكم الاول كان مختصا بزمان ينتهي بورود ذلك الدليل الناسخ، فنسخ الحكم ليس رفعا له حقيقة، بل هو رفع له صورة وظاهرا، والتخصيص في الافراد كالتخصيص في الازمان، فكلاهما تخصيص، فلو جاز الاول لجاز الثاني. والجواب عن ذلك: أن الفارق بين النوعين من التخصيص هو الاجماع القطعي على المنع في النسخ ولو لا ذلك الاجماع لجاز النسخ بخبر الواحد الحجة، كما جاز التخصيص به، وقد بينا أن الكتاب وإن كان قطعي السند إلا أن دلالته غير قطعية، ولا مانع من رفع اليد عنها بخبر الواحد الذي ثبتت حجيته بدليل قطعي. نعم: الاجماع المذكور ليس إجماعا تعبديا، بل لان بعض الامور من شأنه أن ينقل بالتواتر لو تحقق في الخارج، فإذا اختص بنقله بعض دون بعض كان ذلك دليلا على كذب راويه أو خطئه، فلا تشمله أدلة الحجية لخبر الواحد، ومن أجل هذا قلنا: إن القرآن لا يثبت بخبر الواحد. ومما لا ريب فيه أن النسخ لا يختص بقوم من المسلمين دون قوم، والدواعي لنقله متظافرة، فلو ثبت لكانت الاخبار به متواترة، فإذا اختص الواحد بنقله كان ذلك دليلا على كذبه أو خطئه، وبذلك يظهر الفارق بين التخصيص والنسخ وتبطل الملازمة بين جواز الاول وجواز الثاني.


[ 403 ]

حدوث القرآن وقدمه


[ 404 ]

التكلم من صفات الله الثبوتية. مسألة حدوث القرآن وقدمه أمر حادث لا صلة له بعقائد الاسلام. صفات الله الذاتية وصفاته الفعلية. الكلام النفسي. أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي. تصور الكلام قبل وجوده أجنبي عن الكلام النفسي. الكلام النفسي أمر خيالي بحت.


[ 405 ]

لا يشك أحد من المسلمين أن كلام الله الذي أنزله على نبيه الاعظم برهانا على نبوته ودليلا لامته. ولا يشك أحد منهم أن التكلم إحدى صفات الله الثبوتية المعبر عنها بالصفات الجمالية. وقد وصف الله سبحانه نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال تعالى: ” وكلم الله موسى تكليما 4: 103 “. أثر الفلسفة اليونانية في حياة المسلمين: وقد كان المسلمون بأسرهم على ذلك، ولم يكن لهم أي اختلاف فيه، حتى دخلت الفلسفة اليونانية أوساط المسلمين، وحتى شعبتهم بدخولها فرقا تكفر كل طائفة اختها، وحتى استحال النزاع والجدال إلى المشاجرة والقتال، فكم هتكت في الاسلام من أعراض محترمة، وكم اختلست من نفوس بريئة، مع أن القاتل والمقتول يعترفان بالتوحيد، ويقران بالرسالة والمعاد. أليس من الغريب أن يتعرض المسلم إلى هتك عرض أخيه المسلم وإلى قتله ؟ وكلاهما يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عنده، وأن الله يبعث من في القبور. أولم تكن سيرة نبي الاسلام وسيرة من ولي الامر من بعده أن يرتبوا آثار الاسلام على من يشهد بذلك ؟ فهل روى أحد أن الرسول أو غيره ممن قام مقامه سأل أحدا عن حدوث القرآن


[ 406 ]

وقدمه، أو عما سواه من المسائل الخلافية، ولم يحكم بإسلامه إلا بعد أن ؟ قر بأحد طرفي الخلاف ؟ ! ! ولست أدري – وليتني كنت أدري – بماذا يعتذر من ألقى الخلاف بين المسلمين وبم يجيب ربه يوم يلاقيه، فيسأله عما ارتكب ؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد حدثت هذه المسألة – حدوث القرآن وقدمه – بعد انشعاب المسلمين شعبتين: أشعري وغير أشعري. فقالت الاشاعرة بقدم القرآن، وبأن الكلام على قسمين: لفظي ونفسي، وأن كلام الله النفسي قائم بذاته وقديم بقدمه وهو إحدى صفاته الذاتية. وذهبت المعتزلة والعدلية إلى حدوث القرآن، وإلى انحصار الكلام في اللفظي، وإلى أن التكلم من الصفات الفعلية. صفات الله الذاتية والفعلية: والفارق بين صفات الله الذاتية وصفاته الفعلية أن صفات الله الذاتية هي التي يستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا. إذا فهي التي لا يصح سلبها عنه في حال. ومثال ذلك: العلم والقدرة والحياة، فالله تبارك وتقدس لم يزل ولا يزال عالما قادرا حيا، ويستحيل أن لا يكون كذلك في حال من الاحوال. وأن صفاته الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في حال وبنقيضها في حال آخر. ومثال ذلك: الخلق والرزق، فيقال: إن الله خلق كذا ولم يخلق كذا، ورزق فلانا ولدا ولم يرزقه مالا. وبهذا يظهر جليلا أن التكلم إنما هو من الصفات الفعلية، فإنه يقال: كلم الله موسى ولم يكلم فرعون، ويقال: كلم الله موسى في جبل طور ولم يكلمه في بحر النيل. الكلام النفسي: اتفقت الاشاعرة على وجود نوع آخر من الكلام غير النوع اللفظي المعروف وقد سموه بالكلام النفسي، ثم اختلفوا فذهب فريق منهم إلى أنه مدلول الكلام


[ 407 ]

اللفظي ومعناه، وذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ، وأن دلالة اللفظ عليه دلالة غير وضعية، فهي من قبيل دلالة الافعال الاختيارية على إرادة الفاعل وعلمه وحياته. والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام، إلا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا (1). وقد عرفت أن غير الاشاعرة متفقون على حدوث القرآن، وعلى أن كلام الله اللفظي ككلماته التكوينية مخلوق له، وآية من آياته. ولا يترتب على الكلام في هذه المسألة وتحقيق القول فيها غرض مهم، لانها خارجة عن أصول الدين وفروعه، وليست لها أية صلة بالمسائل الدينية، والمعارف الالهية، غير أنني أحببت التكلم فيها ليتضح لاخواننا الاشاعرة – وهم أكثر المسلمين عددا – أن ما ذهبوا إليه واعتقدوا به وحسبوه مما يجب الاعتقاد به أمر خيالي لا أساس له من العقل والشرع. وتوضيح ذلك: أنه لا خلاف في أن الكلام المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف الله تعالى به في الازل وغير الازل. والخلاف إنما هو في وجود سنخ آخر من الكلام مجتمعة أجزاؤه وجودا، فأثبتته الاشاعرة وقالت بأنه من صفات الله الذاتية كما يتصف غيره به أيضا. ونفاه غيرهم وحصروا الكلام في اللفظي، وقالوا: إن قيامه بالمتكلم قيام الفعل بالفاعل والصحيح هو القول الثاني. ودليلنا على ذلك: أن الجمل: إما خبرية وإما إنشائية. أما الجمل الخبرية، فإنا إذا فحصنا مواردها لن نجد فيها إلا تسعة أمور، وهي التي لا بد منها في الاخبار عن ثبوت شئ لشئ أو عدم ثبوته له:


(1) شرح التجريد: المقصد الثالث ص 354 (*)

[ 408 ]

أولا – مفردات الجملة بموادها، وهيئاتها. ثانيا – معاني المفردات، ومداليلها. ثالثا – الهيئة التركيبية للجملة. رابعا – ما تدل عليه الهيئة التركيبية. خامسا – تصور المخبر مادة الجملة، وهيئتها. سادسا – تصور مدلول الجملة بمادتها، وهيئتها. سابعا – مطابقة النسبة لما في الخارج، أو عدم مطابقتها له ثامنا – علم المخبر بالمطابقة، أو بعدمها، أو شكه فيها. تاسعا – إرادة المتكلم لايجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها. وقد اعترفت الاشاعرة بأن الكلام النفسي ليس شيئا من الامور المذكورة وعلى هذا فلا يبقى للكلام النفسي عين ولا أثر، أما مفاد الجملة فلا يمكن أن يكون هو الكلام النفسي، لان مفاد الجملة الخبرية – على ما هو المعروف – ثبوت شئ لشئ أو سلبه عنه، وعلى ما هو التحقيق – عندنا – هو قصد الحكاية عن عن الثبوت أو السلب، فقد أثبتنا أن الهيئة التركيبية للجملة الخبرية بمقتضى وضعها أمارة على قصد المتكلم للحكاية عن النسبة، وشأنها في ذلك شأن ما سوى الالفاظ من الامارات الجعلية. وقد حققنا: أن الوضع هو التعهد بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه، وقد أوضحنا ذلك كله في محله (1) هذا هو مفاد الجملة الخبرية، والكلام النفسي – عند القائل به – موجود نفساني من سنخ الكلام مغاير للنسبة الخارجية ولقصد الحكاية.


(1) في كتابنا ” أجود التقريرات ” في الاصول، المطبوع مع تعليقاتنا. (*)

[ 409 ]

وأما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية، والفارق بينهما أن الجمل الانشائية ليس في مواردها خارج تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه وعليه فالامور التي لا بد منها في الجمل الانشائية سبعة، وهي بذاتها الامور التسعة التي ذكرناها في الجمل الخبرية ما عدا السابع والثامن منها، وقد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منها. ولعل سائلا يقول: ما هو مفاد هيئة الجملة الانشائية ؟. المعروف بين العلماء أنها موضوعة لايجاد معنى من المعاني نحو إيجاد مناسب لعالم الانشاء، وقد تكرر في كلمات كثير منهم أن الانشاء إيجاد المعنى باللفظ، وقد ذكرنا في مباحثنا الاصولية أنه لا أصل للوجود الانشائي، واللفظ والمعنى وإن كانت لهما وحدة عرضية منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الوضع، فوجود اللفظ وجود له بالذات ووجود للمعنى بالعرض والمجاز، ومن أجل ذلك يسري حسن المعنى أو قبحه إلى اللفظ، وبهذا المعنى يصح أن يقال: وجد المعنى باللفظ وجودا لفظيا، إلا أن هذا لا يختص بالجمل الانشائية، بل يعم الجمل الخبرية والمفردات أيضا. أما وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين، وكلاهما لا مدخل للفظ فيه أبدا: أحدهما: وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر والاعراض، ولا بد في تحقيق هذا الوجود من تحقق أسبابه وعلله، والالفاظ أجنبية عنها بالضرورة. ثانيهما: وجوده الاعتباري، وهو نحو من الوجود للشئ إلا أنه في عالم الاعتبار لا في الخارج، وتحقق هذا النحو من الوجود إنما هو باعتبار من بيده الاعتبار، واعتبار كل معتبر قائم بنفسه، ويصدر منه بالمباشرة، ولا يتوقف على وجود لفظ في الخارج أبدا، أما إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الايقاعات الصادرة من الناس، فهو وإن توقف على صدور لفظ من المنشئ أو


[ 410 ]

ما بحكم اللفظ، ولا أثر لاعتباره إذا تجرد عن المبرز من قول أو فعل، إلا أن الامضاء المذكور متوقف على صدور لفظ قصد به الانشاء، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جئ به في المرحلة السابقة على الامضاء. وعلى الجملة: إن الوجود الحقيقي والاعتباري للشئ لا يتوقفان على اللفظ، وإما إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو وإن توقف على صدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ، إلا أنه يتوقف عليه بما هو لفظ مستعمل في معناه، وأما الوجود اللفظي فهو عام لكل معنى دل عليه باللفظ، فلا أساس للقول المعروف: ” الانشاء إيجاد المعنى باللفظ “. والصحيح: إن الهيئات الانشائية وضعت لابراز أمر ما من الامور النفسانية وهذا الامر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الامر والنهي والعقود والايقاعات، وقد يكون صفة من الصفات، كما في التمني والترجي، فهيئات الجمل أمارات على أمر ما من الامور النفسانية وهو في الجمل الخبرية قصد الحكاية، وفي الجمل الانشائية أمر آخر. ثم إن الاتيان بالجملة المبرزة – بوضعها – لامر نفساني قد يكون بداعي إبراز ذلك الامر، وقد يكون بداع آخر سواه، وفي كون الاستعمال في هذا القسم الاخير مجازا أو حقيقة كلام ليس هنا محل ذكره، وللاطلاع على تفصيل الكلام في ذلك يراجع تعليقاتنا الاصولية. والذي يظهر من موارد استعمال لفظ الطلب: أنه موضوع للتصدي لتحصيل شئ ما، فلا يقال: طلب الضالة، ولا طلب الاخرة، إلا عند التصدي لتحصيلهما، وفي لسان العرب ” الطلب محاولة وجدان الشئ وأخذه “، وبهذا الاعتبار يصدق على الامر أنه طالب، لانه يحاول وجدان الفعل المأمور به، فإن الامر هو الذي يدعو المأمور إلى الاتيان بمتعلقه، وهو بنفسه مصداق للطلب، لا أن الامر لفظ والطلب معناه فلا أساس للقول بأن الامر موضوع للطلب، ولا للقول بأن الطلب كلام نفسي يدل عليه الكلام اللفظي.


[ 411 ]

وقد أصابت الاشاعرة في قولهم: ” إن الطلب غير الارادة ” ولكنهم أخطأوا في جعله صفة نفسية، وفي جعله مدلولا عليه بالكلام اللفظي. نفي الكلام النفسي: ومن جميع ما ذكرناه يستبين القارئ: أنه ليس في موارد الجمل الخبرية ولا الانشائية ما يكون من سنخ الكالم قائما بالنفس، ليسمى بالكلام النفسي، نعم لا بد للمتكلم من أن يتصور كلامه قبل إيجاده، والتصور وجود في النفس يسمونه بالوجود الذهني، فإن أراد القائلون بالكلام النفسي هذا النحو من الوجود للكلام في النفس فهو صحيح، ولكنك تعلم أنه غير مختص بالكلام، بل يعم كل فعل اختياري، والكلام إنما لزم تصوره لانه فعل اختياري للمتكلم. أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي: استدل القائلون بالكلام النفسي على مدعاهم بوجوه: الاول: أن كل متكلم يرتب الكلام في نفسه قبل أن يتكلم به، والموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النفس، وهذا وجداني يجده كل متكلم في نفسه، واليه أشار الاخطل بقوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وجوابه قد تقدم: فإن تركيب الكلام في النفس هو تصوره وإحضاره فيها، وهو الوجود الذهني الذي يعم الافعال الاختيارية كافة، فالكاتب والنقاش لا بد لهما من أن يتصورا عملهما أولا قبل أن يوجداه، فلا صلة لهذا بالكلام النفسي. الثاني: أنه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية، فيقول القائل: إن في نفسي كلاما لا اريد أن أبديه، وقد قال الله عز اسمه:


[ 412 ]

” وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور 67: 13 “. وجوابه يظهر مما تقدم: فإن الكلام كلام في وجوده الذهني، كما هو كلام في وجوده الخارجي ولكل شئ نحوان من الوجود: خارجي وذهني، والشئ هو ذلك الشئ في كلا وجوديه، وإطلاق الاسم عليه بلا عناية. ولا يختص هذا بالكلام، فيقول المهندس: إن في نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة، ويقول المتعبد: إن في نفسي أن أصوم غدا. الثالث: أنه يصح إطلاق المتكلم على الله، وهذا الهيئة اسم الفاعل وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا. ولذا لا يطلق المتحرك والساكن والنائم إلا على من تلبس بالحركة والسكون والنوم، دون من أوجدها. وواضح أن الكلام اللفظي لا يمكن أن يتصف به الله تعالى، لا ستحالة اتصاف القديم بالصفة الحادثة، فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم، ليصح إطلاق المتكلم على الله سبحانه باعتبار اتصافه به. وجوابه: أن المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام، فإنه غير قائم بالمتكلم قيام الصفة بموصوفها حتى في غير الله، فإن الكلام كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموج الهواء، وهو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلم، والمبدأ في الصيغة المذكورة هو التكلم، ولا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنى واحد. وأما قول المستدل: ” إن هيئة اسم الفاعل وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قيام الوصف بالموصوف ” فهو غلط بين، فان الهيئة إنما تفيد قيام المبدأ بالذات


[ 413 ]

نحوا من القيام. أما خصوصيات القيام من كونها إيجادية أو حلولية أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة وهي تختلف باختلاف الموارد، ولا تدخل تحت ضابط كلي، فالعالم والنائم مثلا لا يطلقان على موجد العلم والنوم، لكن القابض والباسط والنافع والضار تطلق على موجد هذه المبادئ، وعليه فعدم صحة إطلاق المتحرك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحة إطلاق المتكلم على موجد الكلام. وحاصل ما تقدم: أن الكلام النفسي أمر خيالي بحت لا دليل على وجوده من وجدان أو برهان. ومن المناسب أن نختم الكلام بما ذكره الامام أبو عبد الله جععر بن محمد الصادق عليه السلام في هذا الموضوع، فقد روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال: ” سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله عز وجل ربنا، والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الاشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المبصر والقدرة على المقدور. قال: قلت: فلم يزل الله متحركا ؟ قال: فقال: تعالى الله عن ذلك، إن الحركة صفة محدثة بالفعل. قال: فقلت: فلم يزل الله متكلما ؟ قال: فقال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية، كان الله عز وجل ولا متكلم ” (1).


(1) اصول الكافي باب صفات الذات ص 51. (*)

[ 415 ]

تفسير فاتحة الكتاب


[ 416 ]

محل نزولها. فضلها. آياتها. غاياتها. القراءة الاعراب. اللغة. التفسير. تحليل آية: الحمد لله رب العالمين.. تحليل آية: إياك نعبد وإياك نستعين. تحليل آية: اهدنا الصراط المستقيم.. البحث الاول حول آية: البسملة.. البحث الثاني حول آية: الحمد.. البحث الثالث حول آية: إهدنا..


[ 417 ]

(1) سورة الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم 1 الحمد الله رب العالمين 2 الرحمن الرحيم 3 ملك يوم الدين 4 إياك نعبد وإياك نستعين 5 اهدنا الصرط المستقيم 6 صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين 7 مكية وآياتها سباع (البيان – 27)


[ 418 ]

محل نزولها: المعروف: أن هذه السورة مكية، وعن بعض أنها مدنية، والصحيح هو القول الاول، ويدل على ذلك أمران: الاول: أن فاتحة الكتاب هي السبع المثاني (1) وقد ذكر في سورة الحجر أن السبع المثاني نزلت قبل ذلك، فقال تعالى: ” ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم 15: 87 “. وسورة الحجر مكية بلا خلاف: فلا بد وأن تكون فاتحة الكتاب مكية أيضا. الثاني: أن الصلاة شرعت في مكة، وهذا ضروري لدى جميع المسلمين ولم تعهد في الاسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب، وقد صرح النبي صلى الله عليه واله وسلم بذلك بقوله: ” لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ” وهذا الحديث منقول عن طريق الامامية وغيرهم. وذهب بعض: إلى أنها نزلت مرتين، مرة في مكة، واخرى في المدينة تعظيما لشأنها، وهذا القول محتمل في نفسه وإن لم يثبت بدليل، ولا يبعد أن يكون هو الوجه في تسميتها بالسبع المثاني، ويحتمل أن يكون الوجه هو وجوب الاتيان بها مرتين في كل صلاة: مرة في الركعة الاولى ومرة في الركعة الثانية.


(1) صرح بذلك في عدة من الروايات: منها رواية الصدوق والبخاري وسنذكرهما بعد هذا. (*)

[ 419 ]

فضلها: كفى في فضلها: أن الله تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم في آية الحجر المتقدمة، وأنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور، وأن الصلاة هي عماد الدين، وبها يمتاز المسلم عن الكافر. ” وسنبين – إن شاء الله تعالى – ما اشتملت عليه هذه السورة من المعارف الالهية على اختصارها “. روى الصدوق باسناده عن الحسن بن علي – العسكري – عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام. أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب وهي سبع آيات تمامها: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: إن الله تعالى قال لي يا محمد: ” ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم 15: 87 “. فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش.. ” (1). وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى، قال: ” كنت أصلي فدعاني النبي صلى الله عليه واله وسلم فلم أجبه. قلت: يا رسول الله إني كنت اصلي. قال: ألم يقل الله: ” استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم 24: 8 “. ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج، قلت: يا رسول الله إنك قلت ألا اعلمك أعظم


(1) تفسير البرهان ج 1 ص 26. (*)

[ 420 ]

سورة من القرآن ؟ قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ” (1). آياتها: المعروف بين المسلمين: أن عدد آياتها سبع، بل لا خلاف في ذلك وروي عن حسين الجعفي: أنها ست، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان، وكلا القولين شاذ مخالف لما اتفقت عليه روايات الطريقين من أنها سبع آيات. وقد مر أنها المراد من السبع المثاني في الاية المتقدمة، فمن عد البسملة آية ذهب إلى أن قوله تعالى: ” صراط الذين أنعمت عليهم ” إلى آخر السورة آية واحدة. ومن لم يعدها آية ذهب إلى أن قوله تعالى: ” غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” آية مستقلة. غاياتها: الغاية من السورة المباركة بيان حصر العبادة في الله سبحانه، والايمان بالمعاد والحشر. وهذه هي الغاية القصوى من إرسال الرسول الاكرم وإنزال القرآن، فإن دين الاسلام قد دعا جميع البشر إلى الايمان بالله وإلى توحيده: ” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله 3: 64 “. وأنه لا يستحق غيره لان يعبد، فالشر – وكل موجود مدرك – يجب أن يكون خضوعه وتوجهه لله وحده. وبرهان ذلك – في هذه السورة الكريمة –


(1) البخاري ج 6 ص 103 باب فاتحة الكتاب. (*)

[ 421 ]

هو أن العاقل إنما يخضع لمن سواه ويعبده، ويتوجه إليه بحوائجه، إما لكمال في ذلك المعبود المستعان – والناقص مجبول على الخضوع للكامل – وإما لاحسانه وإنعامه عليه، وإما لاحتياج الناقص في جلب منفعة أو دفع مضرة، وإما لقهر الكامل وسلطانه فيخضع له خوفا من مخالفته وعصيانه. هذه هي الاسباب الموجبة للعبادة والخضوع. وأيها ينظر فيه العاقل يراه منحصرا في الله سبحانه. فالله هو المستحق للحمد، فانه المستجمع لجميع صفات الكمال، بحيث لا يتطرق إل ى ساحة قدسه شائبة نقص. والله هو المنعم على جميع العوالم الظاهرية والباطنية المجتمعة والمتدرجة، وهو مربيها تكوينا وتشريعا. والله هو المتصف بالرحمة الواسعة غير القابلة للزوال. والله هو المالك المطلق، والسلطان على الخلق بلا شريك ولا منازع. فهو المعبود بالحق لكماله وإنعامه ورحمته وسلطانه، فلا يتوجه الانسان العاقل إلا إليه، ولا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، لان ما سوى الله ممكن، والممكن محتاج في ذاته. والاستعانة والعبادة لا تكونان إلا للغني: ” يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد 35: 15 “. وبعد أن أثبت تبارك وتعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء بقوله: ” الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين ” لقن عباده أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم: ” إياك نعبد وإياك نستعين “. ثم أشار تعالى إلى أحوال البشر بعد إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإتمام الحجة عليهم، وأنهم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: الاول: من شملته العناية الالهية والنعم القدسية، فاهتدى إلى الصراط المستقيم، فسلكه إلى مقصده المطلوب وغايته القصوى، ولم ينحرف عنه يمينا ولا شمالا.


[ 422 ]

الثاني: من ضل الطريق فانحرف يمنة ويسرة إلا أنه لم يعاند الحق، وإن ضل عنه لتقصيره، وزعم أن ما اتبعه هو الدين، وما سلكه هو الصراط السوي. الثالث: من دعاه حب المال والجاه إلى العناد فعاند الحق ونابذه، سواء أعرف الحق ثم جحده أم لم يعرفه. ومثل هذا – في الحقيقة – قد عبده هواه، كما أشار سبحانه إليه بقوله: ” أفرأيت من اتخذ إلهه هواه 45: 22 “. وهذا الفريق أشد كفرا من سابقه، فهو يستحق الغضب الالهي بعناده زائدا على ما يستحقه بضلاله. وبما أن البشر لا يخلو من حب الجاه والمال، ولا يؤمن عليه من الوقوع في الضلال، وغلبة الهوى ما لم تشمله الهداية الربانية، كما أشير إلى هذا في قوله تعالى: ” ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم 24: 21 “. لقن الله عبيده أن يطلبوا منه الهداية، وأن يقولوا: ” إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” فالعبد يطلب من ربه الهداية المختصة بالمؤمنين، وقد قال تعالى: ” والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 2: 213 “. ويسأله أن يدخله في زمرة من أنعم عليهم وفي السالكين طريقتهم، كما أشير إليه بقوله تعالى: ” أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية


[ 423 ]

آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 19: 85 “. وأن لا يسلك طريق الطائفتين الزائغتين عن الهدى: ” المغضوب عليهم والضالين “. خلاصة السورة: إنه تعالى مجد نفسه بما يرجع إلى كمال ذاته، ومجدها بما يرجع إلى أفعاله من تربيته العوالم كلها، ورحمته العامة غير المنفكة عنه، وسلطانه يوم الحشر وهو يوم الجزاء، وهذا هو هدف السورة الاولى. ثم حصر به العبادة والاستعانة، فلا يستحق غيره أن يعبد أو يستعان، وهذا هو هدفها الثاني. ثم لقن عبيده أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الحياة الدائمة، والنعيم الذي لا زوال له، والنور الذي لا ظلمة بعده، وهذا هو هدفها الثالث. ثم بين أن هذا الصراط خاص بمن أنعم الله عليهم برحمته وفضله، وهو يغاير صراط من غضب عليهم وصراط الآخرين الذين ضلوا الهدى، وهذا هو هدفها الرابع.


[ 424 ]

تحليل آية بسم الله الرحمن الرحيم * * * اللغة الاسم: في اللغة بمعنى العلامة، وهمزته همزة وصل، وليست من الحروف الاصلية، وفيه لغات كثيرة والمعروف منها أربع: اسم، سم وكلاهما بكسر الاول وضمه وهو مأخوذ من السمو ” الارتفاع ” باعتبار أن المعنى يرتفع به فيخرج من الخفاء إلى الظهور، فإن المعنى يحضر في ذهن السامع بمجرد سماع اللفظ بعد أن لم يكن فيه، أو باعتبار أن اللفظ يرتفع بالوضع فيخرج من الاهمال إلى الاستعمال، وقيل باشتقاقه من السمة ” العلامة ” وهو خطأ لان جمع اسم أسماء، وتصغيره سمي، وعند النسبة إليه يقال: سموي واسمي وعند التعدية يقال: سميت وأسميت. ولو كان مأخوذا من السمة لقيل في جمعه أو سام، وفي تصغيره وسيم، وفي النسبة إليه وسمي، وعند التعدية وسمت وأو سمت.


[ 425 ]

الله: علم للذات المقدسة، وقد عرفها العرب به حتى في الجاهلية، قال لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل وقال سبحانه: ” ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله 31: 25 “. ومن توهم أنه اسم جنس فقد أخطأ، ودليلنا على ذلك أمور: الاول: التبادر، فإن لفظ الجلالة ينصرف بلا قرينة إلى الذات المقدسة، ولا يشك في ذلك أحد، وبإصالة عدم النقل يثبت أنه كذلك في اللغة، وقد حققت حجيتها في علم الاصول. الثاني: ان لفظ الجلالة – بما له من المعنى – لا يستعمل وصفا، فلا يقال: العالم الله، الخالق الله، على أن يراد بذلك توصيف العالم والخالق بصفة هي كونه الله وهذه آية كون لفظ الجلالة جامدا، وإذا كان جامدا كان علما لا محالة، فإن الذاهب إلى أنه اسم جنس فسره بالمعنى الاشتقاقي. الثالث: أن لفظ الجلالة لو لم يكن علما لما كانت كلمة ” لا إله إلا الله ” كلمة توحيد، فإنها لا تدل على التوحيد بنفسها حينئذ، كما لا يدل عليه قول: لا إله إلا الرازق، أو الخالق، أو غيرهما من الالفاظ التي تطلق على الله سبحانه، ولذلك لا يقبل إسلام من قال إحدى هذه الكلمات. الرابع: أن حكمة الوضع تقتضي وضع لفظ للذات المقدسة، كما تقتضي الوضع بإزاء سائر المفاهيم، وليس في لغة العرب لفظ موضوع لها غير لفظ الجلالة، فيتعين أن يكون هو اللفظ الموضوع لها.


[ 426 ]

إن قلت: إن وضع لفظ لمعنى يتوقف على تصور كل منهما، وذات الله سبحانه يستحيل تصورها، لا ستحالة إحاطة الممكن بالواجب، فيمتنع وضع لفظ لها، ولو قلنا بأن الواضع هو الله – وأنه لا يستحيل عليه أن يضع إسما لذاته لانه محيط بها – لما كانت لهذا الوضع فائدة لاستحالة أن يستعمله المخلوق في معناه فإن الاستعمال أيضا يتوقف على تصور المعنى كالوضع، على أن هذا القول باطل في نفسه. قلت: وضع اللفظ بإزاء المعنى يتوقف على تصوره في الجملة، ولو بالاشارة إليه، وهذا أمر ممكن في الواجب وغيره، والمستحيل هو تصور الواجب بكنهه وحقيقته، وهذا لا يعتبر في الوضع ولا في الاستعمال، ولو اعتبر ذلك لامتنع الوضع والاستعمال في الموجودات الممكنة التي لا تمكن الاحاطة بكنهها: كالروح والملك والجن، ومما لا يرتاب فيه أحد أنه يصح استعمال اسم الاشارة أو الضمير ويقصد به الذات المقدسة، فكذلك يمكن قصدها من اللفظ الموضوع لها، وبما أن الذات المقدسة مستجمعة لجميع صفات الكمال، ولم يلحظ فيها – في مرحلة الوضع – جهة من كمالاتها دون جهة صح أن يقال: لفظ الجلالة موضوع للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال. إن قلت: إن كلمة ” الله ” لو كانت علما شخصيا لم يستقم معنى قوله عزاسمه: ” وهو الله في السماوات وفي الارض 6: 3 “. وذلك لانها لو كانت علما لكانت الآية قد أثبتت له المكان وهو محال، فلا مناص من أن يكون معناه المعبود، فيكون معنى الآية: وهو المعبود في السماوات والارضين.


[ 427 ]

قلت: المراد بالآية المباركة أنه تعالى لا يخلو منه مكان، وأنه محيط بما في السماوات وما في الارض، ولا تخفى عليه منها خافية، ويشهد لهذا قوله تعالى في آخر الآية الكريمة: ” يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون 6: 3 “. وقد روى أبو جعفر وهو محمد بن نعمان في ظن الصدوق قال: ” سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: ” وهو الله في السماوات وفي الارض 6: 3 “. قال عليه السلام: ” كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته ؟ قال: ويحك إن الاماكن أقدار، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق: علما وقدرة وإحاطة وسلطانا… ” (1). والالف واللام: من كلمة الجلالة وإن كانت جزء منها على العلمية، إلا أن الهمزة فيها همزة وصل تسقط في الدرج، إلا إذا وقعت بعد حرف النداء، فتقول يا الله بإثبات الهمزة وهذا مما اختص به لفظ الجلالة، ولم يوجد نظيره في كلام العرب قط، ولا مضايقة في كون كلمة الجلالة من المنقول، وعليه فالاظهر أنه مأخوذ من كلمة ” لاه ” بمعنى الاحتجاب والارتفاع، فهو مصدر مبني للفاعل، لانه سبحانه هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض، وهو – في غاية ظهوره بآثاره وآياته – محتجب عن خلقه بذاته، فلا تدركه الابصار ولا تصل إلى كنهه الافكار:


(1) تفسير البرهان ج 1 ص 315. (*)

[ 428 ]

فيك يا أعجوبة الكو * ن غدا الفكر كليلا أنت حيرت ذوي اللب وبلبلت العقولا كلما أقدم فكري * فيك شبرا فر ميلا ناكصا يخبط في عشواء * لا يهدي السبيلا ولا موجب للقول باشتقاقه من ” أله ” بمعنى عبد، أو ” أله ” بمعنى تحير ليكون الاله مصدرا بمعنى المفعول – ككتاب – فانه التزام بما لا يلزم. الرحمن: مأخوذ من الرحمة، ومعناها معروف، وهي ضد القسوة والشدة. قال الله تعالى: ” أشداء على الكفار رحماء بينهم 48: 29. إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم 5: 98 “. وهي من الصفات الفعلية، وليست رقة القلب مأخوذة في مفهومها، بل هي من لوازمها في البشر. فالرحمة – دون تجرد عن معناها الحقيقي – من صفات الله الفعلية كالخلق والرزق، يوجدها حيث يشاء. قال عز وجل: ” ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم 17: 54. يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون 29: 21 “. حسب ما تقتضيه حكمته البالغة. وقد ورد في الآيات طلب الرحمة من الله سبحانه: ” وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين 23: 118 “.


[ 429 ]

وقال غير واحد من المفسرين وبعض اللغويين: إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة، وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن، فان كلمة ” الرحمن ” في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شئ. ومما يدلنا على ذلك أنه لا يقال: إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمن، كما يقال: إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم. وكلمة ” الرحمن ” بمنزلة اللقب من الله سبحانه، فلا تطلق على غيره تعالى، ومن أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادتها قال سبحانه: ” قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ 36: 15. إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون: 23. هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون: 52. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت 67: 3 “. ومما يقرب اختصاص هذا اللفظ به قوله تعالى: ” رب السماوات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا 19: 65 “. فان الملحوظ أن الله تعالى قد اعتنى بكلمة ” الرحمن ” في هذه السورة ” مريم ” حتى كررها فيها ست عشرة مرة. وهذا يقرب أن المراد بالآية الكريمة أنه ليس لله سمي بتلك الكلمة. الرحيم: صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة. ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل


[ 430 ]

غالبا في الغرائز واللوازم غير المنفكة عن الذات: كالعليم والقدير والشريف، والوضيع والسخي والبخيل والعلي والدني. فالفارق بين الصفتين: أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط. ومما يدل على أن الرحمة في كلمة ” رحيم ” غريزة وسجية: أن هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلا متعدية بالباء، فقد قال تعالى: ” إن الله بالناس لرؤف رحيم 1432. وكان بالمؤمنين رحيما 33: 43 “. فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم. وذهب الآلوسي إلى أن الكلمتين ليستا من الصفات المشبهة، بقرينة إضافتهما إلى المفعول في جملة: ” رحمن الدنيا والآخرة وحريمهما “. والصفة المشبهة لا بد من أن تؤخذ من اللازم (1). وهذا الاستدلال غريب، لان الاضافة في الجملة المذكورة ليست من الاضافة إلى المفعول بل هي من الاضافة إلى المكان أو الزمان. ولا يفرق فيها بين اللازم والمتعدي. ثم إنه قد ورد في بعض الروايات: أن ” الرحمن ” اسم خاص ومعناه عام وأما لفظ ” الرحيم ” فهو اسم عام، ومعناه خاص ومختص بالآخرة أو بالمؤمنين (2) إلا أنه لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها، لمخالفتها الكتاب العزيز، فانه قد استعمل فيه لفظ ” الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز:


(1) تفسير الآلوسي ج 1 ص 59. (2) تفسير الطبري ج 1 ص 43، وتفسير البرهان ج 1 ص 28. (*)

[ 431 ]

” فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم 14: 36. نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم 15: 49. إن الله بالناس لرؤف رحيم 22: 65. ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما 17: 66. ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما 33: 24 “. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، وفي بعض الادعية والروايات: رحمن الدنيا الآخرة ورحيمهما (1). ويمكن أن يوجه هذا الاختصاص بأن الرحمة الالهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة، فكأنها لم تكن رحمة (2). وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران ؟ فإن الرحمة الزائلة تندك أمام العذاب الدائم لا محالة، وبلحاظ ذلك صح أن يقال: الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة. الاعراب ذهب بعضهم إلى أن متعلق الجار والمجرور هو أقرأ، أو إقرأ، أو أقول، أو قل، وقال بعض: متعلقه أستعين، أو استعن، وذهب آخرون إلى تعلقه بأبتدئ، والوجهان الاولان باطلان:


(1) الصحيفة السجادية في دعائه – ع – في استكشاف الهموم، ومستدرك الحاكم ج 1 ص 155. (2) اشير إلى ذلك في بعض الادعية المأثورة. (*)

[ 432 ]

أما الوجه الاول: فلان مفعول القراءة أو القول – هنا – يجب أن يكون هي الجملة بما لها من المعنى، فلا مناص من تقدير كلمة أخرى، لتكون الجملة بما لها من المتعلق مقولا للقول. وأما الوجه الثاني: فلان الاستعانة تستحيل أن تكون من الله تعالى، لغناه عن الاستعانة حتى بأسمائه الكريمة، والاستعانة من الخلق إنما تكون بالله لا باسمائه وقد نص تعالى على ذلك بقوله: ” إياك نستعين ” فتعين أن يكون متعلق الجار والمجرور هو أبتدئ، وإضافة الاسم إلى الله ليست بيانية، ليكون المراد من قوله: ” الله الرحمن الرحيم ” ألفاظها فإنه بعيد جدا، ويضاف إلى ذلك: أنه لو كان المراد نفس هذه الالفاظ فإن أريد مجموعها، فهو ليس من الاسماء الالهية، وإن أريد كل على انفراده، احتيج إلى العاطف، فتكون الجملة هكذا: ” بسم الله والرحمن والرحيم ” إذا فالاضافة معنوية لا محالة، وكلمة ” الله ” مستعملة في معناها. التفسير لما كانت سور القرآن قد أنزلت لسوق البشر إلى كماله الممكن، وإخراجه من ظلمات الشرك والجهالة إلى نور المعرفة والتوحيد، ناسب أن يبدأ في كل سورة باسمه الكريم، فإنه الكاشف عن ذاته المقدسة، والقرآن إنما انزل ليعرف به الله سبحانه، واستثنيت من ذلك سورة براءة، فإنها بدأت بالبراءة من المشركين ولهذا الغرض انزلت، فلا يناسبها ذكر اسم الله ولا سيما مع توصيفه بالرحمن الرحيم (1).


(1) روى ابن عباس قال سألت علي بن أبي طالب – ع – لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال: لانها أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان، المستدرك ج 2 ص 33. (*)

[ 433 ]

وعلى الجملة: ابتدأ الله كتابه التدويني بذكر اسمه، كما ابتدأ في كتابه التكويني باسمه الاتم، فخلق الحقيقة المحمدية ونور النبي الاكرم قبل سائر المخلوقين، وإيضاح هذا المعنى: أن الاسم هو ما دل على الذات، وبهذا الاعتبار تنقسم الاسماء الالهية إلى قسمين: تكوينية، وجعلية. فالاسماء الجعلية هي الالفاظ التي وضعت للدلالة على الذات المقدسة، أو على صفة من صفاتها الجمالية والجلالية، والاسماء التكوينية هي الممكنات الدالة بوجودها على وجود خالقها وعلى توحيده: ” أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون 52: 35. لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا 21: 22 “. ففي كل شئ دلالة على وجود خالقه وتوحيده، وكما تختلف الاسماء الالهية اللفظية من حيث دلالتها، فيدل بعضها على نفس الذات بما لها من صفات الكمال، ويدل بعضها على جهة خاصة من كمالاتها على اختلاف في العظمة والرفعة فكذلك تختلف الاسماء التكوينية من هذه الجهة، وإن اشترك جميعها في الكشف عن الوجود والتوحيد، وعن العلم والقدرة وعن سائر الصفات الكمالية. ومنشأ اختلافها: أن الموجود إذا كان أتم كانت دلالته أقوى، ومن هنا صح إطلاق الاسماء الحسنى على الائمة الهداة، كما في بعض الروايات (1). فالواجب جل وعلا قد ابتدأ في أكمل كتاب من كتبه التدوينية بأشرف الالفاظ وأقربها إلى اسمه الاعظم من ناظر العين إلى بياضها (2) كما بدأ في كتابه التكويني باسمه


(1) الكافي باب النوادر من أبواب التوحيد ص 70، والوافي ج 1 ص 109، وتفسير البرهان ج 1 ص 377. (2) الوافي باب قراءة البسملة والجهر بها ج 5 ص 99، والتهذيب ج 1 ص 218 باب = (*) (البيان – 28)

[ 434 ]

الاعظم في عالم الوجود العيني (1)، وفي ذلك تعليم البشر بأن يبتدئوا في أقوالهم وأفعالهم باسمه تعالى. روي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: كل كلام أو أمر ذي بال لم يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر، أو قاطع أقطع (2)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن الله عز وجل: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر (3).


= كيفية الصلاة وصفتها. ورواه عثمان عن النبي – ص – باختلاف يسير في ألفاظه، المستدرك للحاكم ج 1 ص 552، وكنز العمال ج 2 ص 190. انظر التعليقة رقم (12) لمعرفة أهمية البسملة – في قسم التعليقات. (1) انظر التعليقة رقم (12) لمعرفة كتابه التكويني بماذا بدأه به – في قسم التعليقات. (2) مسند أحمد ج 2 ص 359. (3) البحار ج 16 باب 58 الافتتاح بالتسمية، وج 19 ص 60. (*)

[ 435 ]

البحث الاول حول آية البسملة


[ 436 ]

ذكر الرحمة بدء القرآن. ذكر الرحيم بعد الرحمن. هل البسملة من القرآن ؟


[ 437 ]

ذكر الرحمة بدء القرآن: قد وصف الله تعالى نفسه بالرحمة في ابتداء كلامه دون سائر صفاته الكمالية، لان القرآن إنما نزل رحمة من الله لعباده. ومن المناسب أن يبتدأ بهذه الصفة التي اقتضت إرسال الرسول وإنزال الكتاب. وقد وصف الله كتابه ونبيه بالرحمة في آيات عديدة، فقد قال تعالى: ” هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 7: 203. وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين 10: 57. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين 16: 89. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين 17: 82. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 21: 107. وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين 27: 77 “. ذكر الرحيم بعد الرحمن: قد عرفت أن هيئة فعيل تدل على أن المبدأ فيها من الغرائز والسجايا غير


[ 438 ]

المنفكة عن الذات (1). وبذلك تظهر نكتة تأخير كلمة ” الرحيم ” عن كلمة ” الرحمن ” فإن هيئة ” الرحمن ” تدل على عموم الرحمة وسعتها ولا دلالة لها على أنها لازمة للذات، فأتت كلمة ” الرحيم ” بعدها للدلالة على هذا المعنى. وقد اقتضت بلاغة القرآن أن تشير إلى كلا الهدفين في هذه الآية المباركة، فالله رحمن قد وسعت رحمته كل شئ وهو رحيم لا تنفك عنه الرحمة. وقد خفي الامر على جملة من المفسرين، فتخيلوا أن كلمة ” الرحمن ” أوسع معنى من كلمة ” الرحيم ” بتوهم أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني. وهذا التعليل ينبغي أن يعد من المضحكات، فإن دلالة الالفاظ تتبع كيفية وضعها، ولا صلة لها بكثرة الحروف وقلتها. ورب لفظ قليل الحروف كثير المعنى، وبخلافه لفظ آخر، فكلمة حذر تدل على المبالغة دون كلمة حاذر، وإن كثيرا ما يكون الفعل المجرد والمزيد فيه بمعنى واحد، كضر وأضر. هذا إذا فرضنا أن يكون استعمال كلمة ” الرحمن ” استعمالا اشتقاقيا وأما بناء على كونها من أسماء الله تعالى وبمنزلة اللقب له نقلا عن معناها اللغوي – وقد تقدم إثبات ذلك – فإن في تعقيبها بكلمة ” الرحيم ” زيادة على ما ذكر إشارة إلى سبب النقل، وهو اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة. هل البسملة من القرآن ؟ اتفقت الشيعة الامامية على أن البسملة آية من كل سورة بدئت بها، وذهب إليه ابن عباس، وابن المبارك، وأهل مكة كابن كثير، وأهل الكوفة كعاصم، والكسائي، وغيرهما ما سوى حمزة. وذهب إليه أيضا غالب أصحاب الشافعي (2) وجزم به قراء مكة والكوفة (3)، وحكي هذا القول عن ابن عمر، وابن الزبير


(1) مر ذلك في الصفحة 422 من هذا الكتاب. (2) تفسير الآلوسي ج 1 ص 39. (3) تفسير الشوكاني ج 1 ص 7. (*)

[ 439 ]

وأبي هريرة، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومكحول، والزهري، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، واسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام (1) وعن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري ومحمد بن كعب (2)، واختاره الرازي في تفسيره ونسبه إلى قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز، وإلى ابن المبارك والثوري، واختاره أيضا جلال الدين السيوطي مدعيا تواتر الروايات الدالة عليه معنى (3). وقال بعض الشافعية وحمزة: ” إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها ” ونسب ذلك إلى أحمد بن حنبل، كما نسب إليه القول الاول (4). وذهب جماعة: منهم مالك، وأبو عمرو، ويعقوب إلى أنها آية فذة وليست جزء من فاتحة الكتاب ولا من غيرها، وقد انزلت لبيان رؤوس السور تيمنا، وللفصل بين السورتين، وهو مشهور بين الحنفية (5). غير أن أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة وذكر الزاهدي عن المجتبى أن وجوب القراءة في كل ركعة هي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة (6). وأما مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها، واستحبابها لاجل الخروج من الخلاف (7).


(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 16. (2) تفسير الخازن ج 1 ص 13. (3) الاتقان النوع 22 – 27 ج 1 ص 135، 136. (4) تفسير الآلوسي ج 1 ص 39. (5) نفس المصدر. (6) نفس المصدر. (7) الفقه على المذاهب الاربعة ج 1 ص 257. (*)

[ 440 ]

أدلة جزئية البسملة للقرآن: وفي هذه المسألة أقوال أخر شاذة لا فائدة في التعرض لها، ولكن المهم بيان الدليل على المذهب الحق ويقع ذلك في عدة أمور: 1 – أحاديث أهل البيت: وهي الروايات الصحيحة المأثورة عن أهل البيت – عليهم السلام – الصريحة في ذلك (1) وبها الكفاية عن تجشم أي دليل آخر بعد أن جعلهم النبي صلى الله عليه واله وسلم عدلا للقرآن في وجوب التمسك بهم والرجوع إليهم (2). 1 – عن معاوية بن عمار قال: ” قلت لابي عبد الله عليه السلام إذا قمت للصلاة أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن ؟ قال: نعم. قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة، قال: نعم ” (3). 2 – عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال: ” كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ: ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها ؟ فقال العباسي: ليس بذلك بأس، فكتب بخطه: يعيدها – مرتين – على رغم أنفه، يعني العباسي ” (4).


(1) وللاطلاع على الروايات المذكورة يراجع فروع الكافي باب قراءة القرآن ص 86، والاستبصار باب الجهر بالبسملة ج 1 ص 311، والتهذيب – باب كيفية الصلاة وصفتها ج 1 ص 153، 218، ووسائل الشيعة باب أن البسملة آية من الفاتحة ج 1 ص 352. (2) تقدم بعض مصادر هذا الحديث في الصفحة ” 18، 398 ” من هذا الكتاب. (3) الكافي ج 3 ص 312 ط دار الكتب الاسلامية. (4) نفس المصدر ص 313. (*)

[ 441 ]

3 – وفي صحيحة ابن أبي أذينة: “.. فلما فرغ من التكبير والافتتاح أوحى الله إليه سم باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى الله إليه أن احمدني فلما قال: الحمد لله رب العالمين، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم في نفسه شكرا فأوحى الله عز وجل إليه قطعت حمدي فسم باسمي فمن أجل ذلك جعل في الحمد: الرحمن الرحيم مرتين، فلما بلغ ولا الضالين قال النبي صلى الله عليه واله وسلم الحمد لله رب العالمين شكرا فأوحى الله إليه قطعت ذكري فسم باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى الله عز وجل إليه إقرأ يا محمد نسبة ربك تبارك وتعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ” (1). 2 – أحاديث أهل السنة: وقد دلت على ذلك أيضا روايات كثيرة من طرق أهل السنة نذكر جملة منها: 1 – ما رواه أنس قال: ” بينا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر.. ” (2). 2 – ما أخرجه الدارقطني بسند صحيح عن علي عليه السلام: ” أنه سئل عن السبع المثاني، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له: إنما هي ست آيات، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية ” (3).


(1) الكافي ج 3. (2) صحيح مسلم باب حجة من قال البسملة آية ج 2 ص 12، وسنن النسائي باب قراءة البسملة ج 1 ص 143، وسنن أبي داود باب الجهر بالبسملة ج 1 ص 125. (3) الاتقان النوع 22 – 27 ج 1 ص 136، ورواهما البيهقي في سننه باب الدليل على أن البسملة آية تامة ج 2 ص 45. (*)

[ 442 ]

3 – ما أخرجه الدارقطني أيضا بسند صحيح عن أبي هريرة قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إذاقرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فانها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ” (1). 4 – ما أخرجه ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال: ” السبع المثاني فاتحة الكتاب. قيل: فأين السابعة ؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم ” (2). 5 – ما أخرجه ابن خزيمة والبيهقي في المعرفة بسند صحيح من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: ” استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن: بسم الله الرحمن الرحيم ” (3). 6 – ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ” كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت ” (4). 7 – ما رواه سعيد عن ابن عباس: ” أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أن ذلك سورة ” (5).


(1) نفس المصدر السابق. (2) نفس المصدر، ورواه الحاكم في المستدرك ج 1 ص 551. (3) نفس المصدر ص 135، ورواه البيهقي في سننه باب افتتاح القراءة في الصلاة ج 2 صفحة 50. (4) مستدرك الحاكم ج 1 ص 232 قال الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين. (5) مستدرك الحاكم ج 1 ص 231. (*)

[ 443 ]

8 – ما رواه ابن جريج قال: ” أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره، قال: ولقد آتيناك سبعا من المثاني قال: هي أم القرآن، قال أبي: وقرأ علي سعيد بن جبير بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. قال سعيد بن جبير: وقرأها علي ابن عباس كما قرأتها عليك، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. قال ابن عباس: فأخرجها الله لكم وما أخرجها لاحد قبلكم ” (1). إلى غير ذلك من الروايات. ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع مظانها. الروايات المعارضة: وليس بإزاء هذه الروايات إلاروايتان دلتا على عدم جزئية البسملة للسورة: 1 – إحداهما: رواية قتادة عن أنس بن مالك، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبي بكر وعمرو عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (2). 2 – ثانيتهما: ما رواه ابن عبد الله بن مغفل يزيد بن عبد الله، قال: ” سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أي بني ! إياك قال: ولم أر أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان أبغض إليه حدثا في الاسلام منه، فإني قد صليت مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومع أبي بكر وعمر، ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها، إذا أنت قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين ” (3).


(1) نفس المصدر السابق كتاب فضائل القرآن ص 550. (2) مسند أحمد ج 3 ص 177، 273، 278. وصحيح مسلم باب حجة من لا يجهر بالبسملة ج 2 ص 12. وسنن النسائي باب ترك الجهر بالبسملة ج 1 ص 144. وروى قريبا منه عن عبد الله بن مغفل. (3) مسند أحمدج 4 ص 85، ورواه الترمذي باختلاف يسير باب ما جاء في ترك الجهر بالبسملة ج 2 ص 43. (*)

[ 444 ]

والجواب عن الرواية الاولى: – مضافا إلى مخالفتها للروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام – أنها لا يمكن الاعتماد عليها من وجوه: الوجه الاول: معارضتها بالروايات المتواترة معنى، المنقولة عن طرق أهل السنة، ولا سيما أن جملة منها صحاح الاسانيد، فكيف يمكن تصديق هذه الرواية ؟ مع شهادة ابن عباس، وأبي هريرة، وأم سلمة على أن رسول الله كان يقرأ البسملة ويعدها آية من الفاتحة، وإن ابن عمر كان يقول: لم كتبت إن لم تقرأ ! ” وإن عليا عليه السلام كان يقول: ” من ترك قراءتها فقد نقص ” وكان يقول: ” هي تمام السبع المثاني ” (1). الوجه الثاني: مخالفتها لما اشتهر بين المسلمين من قراءتها في الصلاة، حتى أن معاوية تركها في صلاته في يوم من أيام خلافته، فقال له المسلمون: ” أسرقت أم نسيت ؟ ” (2). ومع هذا كيف يمكن التصديق بأن رسول الله ” ص ” ومن بعده لم يقرأوها ! الوجه الثالث: مخالفتها لما استفاض نقله عن أنس نفسه (3) فالرواية موضوعة ما في ذلك من شك. والجواب عن الرواية الثانية: – وهي رواية ابن عبد الله بن مغفل – يظهر مما تقدم في الجواب عن الرواية


(1) انظر التعليقة رقم (14) لمعرفة أن البسملة جزء من القرآن بشهادة جملة من الاحاديث – في قسم التعليقات. (2) انظر التعليقة رقم (15) قصة نسيان معاوية لقراءة البسملة واعتراض المسلمين عليه – في قسم التعليقات. (3) انظر التعليقة رقم (16) للوقوف على أن النبي – ص – كان يقرأ البسملة في كل صلاة، ثم توجيه رواية أنس – في قسم التعليقات. (*)

[ 445 ]

الاولى، على أنها تضمنت ما يخالف ضرورة الاسلام، فإنه لا يشك أحد من المسلمين في استحباب التسمية قبل الحمد والسورة، ولو بقصد التيمن والتبرك، لا لان البسملة جزء، فكيف ينهى ابن مغفل عنها بدعوى أنها حدث في الاسلام ! 3 – سيرة المسلمين: لقد استقرت سيرة المسلمين على قراءة البسملة في أوائل السور غير سورة براءة، وثبت بالتواتر أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان يقرأها، ولو لم تكن من القرآن للزم على الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم أن يصرح بذلك، فإن قراءته – وهو في مقام البيان – ظاهرة في أن جميع ما يقرأ قرآن، ولو لم يكن بعض ما يقرأ قرآنا ثم لم يصرح بذلك لكان ذلك منه إغراء منه بالجهل وهو قبيح، وفي ما يرجع إلى الوحي الالهي أشد قبحا، ولو صرح الرسول صلى الله عليه واله وسلم بذلك لنقل الينا بالتواتر مع أنه لم ينقل حتى بالآحاد. 4 – مصاحف التابعين والصحابة: مما لا ريب فيه أن مصاحف التابعين والصحابة – قبل جمع عثمان وبعده – كانت مشتملة على البسملة، ولو لم تكن من القرآن لما أثبتوها في مصاحفهم، فان الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن، حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف وتشكيله. فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن كسائر الايات المتكررة فيه. وما ذكرناه يبطل احتمال أن إثباتهم إياها كان للفصل بين السور. ويبطل هذه الدعوى أيضا إثبات البسملة في سورة الفاتحة، وعدم إثباتها في أول سورة براءة. ولو كانت للفصل بين السور، لاثبتت في الثانية، ولم تثبت في الاولى. وذلك يدلنا قطعا على أن البسملة آية منزلة في الفاتحة دون سورة براءة. أدلة نفاة جزئية البسملة: واستدل القائلون بأن البسملة ليست جزء من السورة بوجوه:


[ 446 ]

الوجه الاول: أن طريق ثبوت القرآن ينحصر بالتواتر، فكل ما وقع النزاع في ثبوته فهو ليس من القرآن، والبسملة مما وقع النزاع فيه. والجواب أولا: أن كون البسملة من القرآن مما تواتر عن أهل البيت عليهم السلام ولا فرق في التواتر بين أن يكون عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وبين أن يكون عن أهل بيته الطاهرين بعد أن ثبت وجوب اتباعهم. وثانيا: أن ذهاب شر ذمة إلى عدم كون البسملة من القرآن لشبهة لا يضر بالتواتر، مع شهادة جمع كثير من الصحابة بكونها من القرآن، ودلالة الروايات المتواترة عليه معنى. وثالثا: أنه قد تواتر أن النبي صلى الله عليه واله وسلم يقرأ البسملة حينما يقرأ سورة من القرآن وهو في مقام البيان، ولم يبين أنها ليست منه وهذا يدل دلالة قطعية على أن البسملة من القرآن. نعم لا يثبت بهذا أنها جزء من السورة. ويكفي لاثباته ما تقدم من الروايات، فضلا عما سواها من الاخبار الكثيرة المروية من الطريقين. والجزئية تثبت بخبر الواحد الصحيح، ولا دليل على لزوم التواتر فيها أيضا. الوجه الثاني ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال: ” سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله تعالى: مجدني عبدي، وإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي


[ 447 ]

ما سأل، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ” (1). وتقريب الاستدلال في هذه الرواية أنها تدل – بظاهرها – على أن ما بعد آية إياك نعبد وإياك نستعين يساوي ما قبلها في العدد، ولو كانت البسملة جزء من الفاتحة لم يستقم معنى الرواية، وذلك: لان سورة الفاتحة – كما عرفت – سبع آيات، فإن كانت البسملة جزء كان ما بعد آية: إياك نعبد وإياك نستعين آيتين، ومعنى ذلك أن ما قبل هذه الاية ضعف ما بعدها، فالفاتحة لا تنقسم إلى نصفين في العدد. والجواب عنه أولا: أن الرواية مروية عن العلاء، وقد اختلف فيه بالتوثيق والتضعيف. وثانيا: أنه لو تمت دلالتها، فهي معارضة بالروايات الصحيحة المتقدمة الدالة على أن الفاتحة سبع آيات، مع البسملة لا بدونها. وثالثا: إنه لا دلالة في الرواية على أن التقسيم بحسب الالفاظ، بل الظاهر انه بحسب المعنى، فالمراد أن أجزاء الصلاة بين ما يرجع إلى الرب وما يرجع إلى العبد بحسب المدلول. ورابعا: أنه لو سلمنا أن التقسيم إنما هو بحسب الالفاظ فأي دليل على انه بحسب عدد الايات، فلعله باعتبار الكلمات، فإن الكلمات المتقدمة على آية ” إياك نعبد وإياك نستعين ” والمتأخرة عنها، مع احتساب البسملة وحذف المكررات عشر كلمات. الوجه الثالث: ما رواه أبو هريرة:


(1) صحيح مسلم باب قراءة الفاتحة في كل ركعة ج 2 ص 6، وسنن أبي داود – باب من ترك القراءة في صلاته ج 1 ص 130، وسنن النسائي باب ترك قراءة البسملة في فاتحة الكتاب ج 1 ص 144. (*)

[ 448 ]

” من أن سورة الكوثر ثلاث آيات (1)، وأن سورة الملك ثلاثون آية ” (2) فلو كانت البسملة جزء منها، لزاد عددهما على ذلك. والجواب: إن رواية أبي هريرة في سورة الكوثر على فرض صحة سندها معارضة برواية أنس، وقد تقدمت (3) وهي رواية مقبولة روتها جميع الصحاح غير موطأ مالك (4) فرواية أبي هريرة مطروحة أو مؤلة بإرادة الايات المختصة، فإن البسملة مشتركة بين جميع السور، وهذا هو جواب روايته في سورة الملك.


(1) لم أعثر على هذه الرواية في كتب الروايات. (2) مستدرك الحاكم ج 1 ص 565، وصحيح الترمذي باب ما جاء في فضل سورة الملك ج 11 ص 30، وكنز العمال فضائل السور والايات ج 1 ص 516، 525. (3) في الصفحة 441 من هذا الكتاب. (4) تيسير الوصول ج 1 ص 199. (*)

[ 449 ]

(2) تحليل آية الحمد لله رب العالمين – 2. الرحمن الرحيم – 3. مالك يوم الدين – 4. القراءة المشهور على ضم الدال من كلمة ” الحمد “، وكسر اللام من كلمة ” الله ” وقرأ بعضهم بكسر الدال إتباعا له لما بعده، وقرأ بعضهم بضم اللام إتباعا له لما قبله، وكلتا القراءتين شاذة لا يعتنى بها. واختلفت القراءات في كلمة مالك، والمعروف منها اثنتان: إحداهما على زنة ” فاعل ” وثانيتهما على زنة ” كتف “. وقرأ بعضهم على زنة ” فلس ” وقرأ بعضهم على زنة ” فعيل “. وقرأ أبو حنيفة بصيغة الماضي، وغير الاوليين من القراءات شاذ لا اعتبار به. (البيان – 29)


[ 450 ]

وجوه ترجيح القراءتين: وقد ذكروا لترجيح كل واحدة من القراءتين الاوليين ” زنة فاعل وفعل ” على الاخرى وجوها، منها: 1 – أن مفهوم مالك أوسع وأشمل، فإذا قيل: مالك القوم استفيد منه كونه ملكا لهم. وإذا قيل: ملك القوم لم يستفد منه كونه مالكهم، فقراءة مالك أرجح من قراءة ملك. 2 – أن الزمان لا تضاف إليه كلمة مالك غالبا، وإنما تضاف إليه كلمة ملك، فيقال: ملك العصر، وملوك الاعصار المتقدمة، فقراءة ملك أرجح من قراءة مالك. عدم جدوى الترجيح: والصحيح أن الترجيح في القراءات المعروفة لا محصل له، فان القراءات إن ثبت تواترها عن النبي صلى الله عليه واله وسلم فلا معنى للترجيح ما بينها، وإن لم يثبت كما هو الحق (1) فان أوجب الترجيح الجزم ببطلان القراءة المرجوحة فهو، ودون إثباته خرط القتاد. وإن لم يوجب ذلك – كما هو الغالب – فلا فائدة في الترجيح بعد أن ثبت جواز القراءة بكل واحدة منها (2). والترجيح في المقام باطل على الخصوص، فإن اختلاف معنى مالك ومعنى ملك إنما يكون إذا كان الملك – السلطنة والجدة – أمرا اعتباريا فإنه يختلف حينئذ باختلاف موارده، وهذا الاختلاف يكون في غير الله تعالى، وأما ملك الله سبحانه فإنه حقيقي ناشئ عن إحاطته القيومية بجميع الموجودات، فهذه الاحاطة بذاتها منشأ صدق مالك وملك عليه تعالى، ومن ذلك يتضح أن نسبة


(1) تقدمت أدلة ذلك في الصفحة 151 من هذا الكتاب. (2) تقدم بيان ذلك في الصفحة 167 من هذا الكتاب. (*)

[ 451 ]

مالك إلى الزمان إذا لم تصح في غير الله فلا يلزمها عدم صحتها فيه سبحانه فهو مالك للزمان كما هو مالك لغيره. وقد يقال: إضافة مالك إلى يوم الدين إضافة لفظية لا تفيد التعريف فلا يصح أن تقع الجملة وصفا للمعرفة، فالمتعين قراءة ملك، فإن المراد به السلطان وهو في حكم الجامد، وإضافته إضافة معنوية. وأجيب عنه: في الكشاف وغيره بأن إضافة اسم الفاعل ونحوه تكون لفظية إذا كان بمعنى الحال والاستقبال، ومعنوية إذا كان بمعنى الماضي أو أريد به الدوام. ومن الاول قوله تعالى: ” الحمد لله فاطر السماوات والارض جاعل الملائكة رسلا 35: 1 “. ومن الثاني قوله تعالى: ” تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول 40: 3 “. والمقام من قبيل الثاني، فإن مالكيته تعالى ليوم الدين صفة ثابتة له لا تختص بزمان دون زمان، فيصح كون الجملة صفة للمعرفة. والتحقيق أن الاضافة مطلقا لا تفيد تعريفا، وإنما تفيد التخصيص والتضييق والتعريف إنما يستفاد من عهد خارجي. ودليل ذلك.


[ 452 ]

انه لا فرق بالضرورة بين قولنا غلام لزيد ولنا غلام زيد فكما أن القول الاول لا يفيد إلا التخصيص كذلك القول الثاني، والتخصيص يتحقق في موارد الاضافة اللفظية كما يتحقق في موارد الاضافة المعنوية. والفارق: أن التخصيص في الاولى لم ينشأ من الاضافة، بل هو حاصل بدونها، وأن الاضافة لم تفد إلا التخفيف إلا أن هذا لا يوجب أن لا يقع المضاف فيها صفة للمعرفة، فإن المصحح لذلك إن كان هو التخصيص فهو موجود في مواردها، وإن كان هو التعريف الحاصل من العهد الخارجي فهو مشترك بين الاضافتين معا، فلا فرق في مقام الثبوت، بلحاظ ذات المعنى بين موارد الاضافتين. وجميع ما ذكروه لا يرجع إلى محصل: نعم يبقى الكلام في مقام الاثبات، وقد ادعي الاتفاق على أن المضاف بالاضافة اللفظية لا يقع صفة لمعرفة إذا كان المضاف من الصفات المشبهة، وأما غيرها فقد نقل سيبويه عن يونس والخليل وقوعه صفة للمعرفة في كلام العرب كثيرا (1) وعليه يحمل ما ورد في القرآن من ذلك، كما في المقام. وأما قول الكشاف: إن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار فهو واضح البطلان فإن إحاطة الله تعالى بالموجودات، ومالكيته لها وإن كانت استمرارية إلا أن كلمة مالك في الاية المباركة قد اضيفت إلى يوم الدين، وهو متأخر في الوجود، فلا بد من أن يكون اسم الفاعل المضاف إليه بمعنى الاستقبال. وأما التفرقة التي ذكرها بعضهم في اسم الفاعل المضاف بين ما إذا كان بمعنى الماضي فيصح وقوعه صفة للمعرفة، وبين غيره فلا يصح، لان حدوث الشئ يوجب تعينه، فهي بينة الفساد، فإن حدوث الشئ لا يستلزم – في الغالب – العلم به، وإذا كانت العبرة بالعلم الشخصي فلا فرق بين تعلقه بالماضي وتعلقه بغيره.


(1) تفسير أبي حيان ج 1 ص 21. (*)

[ 453 ]

والحاصل أن المتبع في الكلام العربي هو القواعد المتخذة من استعمالات العرب الفصحى: ولا اعتماد على الوجوه الاستحسانية الواهية التي يذكرها النحويون. اللغة الحمد: ضد اللوم، وهو لا يكون إلا على الفعل الاختياري الحسن، سواء أكان إحسانا للحامد أم لم يكن، والشكر مقابل الكفران، وهو لا يكون إلا للانعام والاحسان، والمدح يقابل الذم، ولا يعتبر أن يكون على الفعل الاختياري فضلا عن كونه إحسانا، والالف واللام في كلمة الحمد للجنس إذ لا عهد، وتقدم معنى كلمات: ” الله. الرحمن. الرحيم “. الرب: مأخوذ من ربب، وهو المالك المصلح والمربي، ومنه الربيبة، وهو لا يطلق على غيره تعالى إلا مضافا إلي شئ، فيقال: رب السفينة، رب الدار. العالم: جمع لا مفرد له كرهط وقوم، وهو قد يطلق على مجموعة من الخلق متماثلة، كما يقال: عالم الجماد، عالم النبات، عالم الحيوان. وقد يطلق على مجموعة يؤلف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان، فيقال: عالم الصبا، عالم الذر، عالم الدنيا، عالم الاخرة. وقد يطلق ويراد به الخلق كله على اختلاف حقائق وحداته، ويجمع بالواو والنون، فيقال: عالمون ويجمع على فواعل، فيقال: عوالم، ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل، ويجمع بالواو والنون غير هذه الكلمة. الملك: الاحاطة والسلطة، وهذه قد تكون خارجية حقيقية كما في إحاطته تعالى بالموجودات، فإن كل موجود إنما يتقوم في ذاته بخالقه وموجده، وليس له


[ 454 ]

واقع مستقل سوى التدلي والارتباط بعلته الموجدة، والممكن فقير محتاج إلى المؤثر في حدوثه وفي بقائه، فهو لا ينفك عن الحاجة أبدا: ” والله الغني وأنتم الفقراء 47: 38 “. وقد تكون اعتبارية، كما في ملكية الناس للاشياء، فإن ملكية زيد لما بيده مثلا ليست إلا اعتبار كونه مالكا لذلك الشئ، وأن زمان أمره بيده، وذلك عند حدوث سبب يقتضيه من عقد أو إيقاع أو حيازة أو إرث أو غير ذلك، حسب ما توجبه المصلحة في نظر الشارع أو العقلاء. والملكية عند الفلاسفة هيئة حاصلة من إحاطة شئ بشئ، وهي أحد الاعراض التسعة، ويعبر عنها بمقولة الجدة، كالهيئة الحاصلة من إحاطة العمامة بالرأس أو الخاتم بالاصبع. الدين: بمعنى الجزاء والحساب، وكلاهما مناسب للمقام، فان الحساب مقدمة للجزاء ويوم الحساب هو يوم الجزاء بعينه. التفسير بين سبحانه أن طبيعة الحمد وجنسه تختص به تعالى، وذلك لامور: الامر الاول: إن حسن الفعل وكماله ينشأ من حسن الفاعل وكماله، والله سبحانه هو الكامل المطلق الذي لا نقص فيه من جهة أبدا، ففعله هو الفعل الكامل الذي لا نقص فيه أبدا: ” قل كل يعمل على شاكلته 17: 84 “.


[ 455 ]

وأما غيره فلا يخلو عن نقيصة ذاتية بل نقائص، فأفعاله لا محالة تكون كذلك. والفعل الحسن المحض يختص به سبحانه، ويمتنع صدوره من سواه، فهو المختص بالحمد ويمتنع أن يستحقه أحد سواه. وقد أشير إلى هذا بقوله: ” الحمد لله ” فقد عرفت أن كلمة ” الله ” علم للذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال. وقد ورد عن الصادق عليه السلام أنه قال: ” فقد لابي بغلة فقال: لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن جئ بها بسرجها ولجامها، ولما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال: الحمد لله، ولم يزد، ثم قال: ما تركت ولا أبقيت شيئا جعلت جميع أنواع المحامد لله عز وجل فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت ” (1). وعنه – سلام الله عليه -: ” ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد لله، إلا أدى شكرها ” (2). الامر الثاني: إن الكمال الاول لكل ممكن من العقول والنفوس والارواح والاشباح إنما هو وجوده ولا ريب في أنه فعل الله سبحانه وهو مبدعه وموجده. وأما الكمال الثاني وهى الامور التي توجب الفضل والميز، فما كان منه خارجا عن اختيار المخلوق فهو أيضا من أفعال الله تعالى بلا ريب. وذلك كما في نمو النبات وإدراك الحيوان منافعه ومضاره، وقدرة الانسان على بيان مقاصده. وما كان منه صادرا عن المخلوقين باختيارهم، فهي وإن كانت الختيارية إلا أنها منتهية إلى الله سبحانه، فانه الموفق للصواب، والهادي إلى الرشاد. وقد ورد: ” إن الله أولى بحسنات العبد منه ” (3) وقد أشير إلى ذلك بجملة ” رب العالمين “. الامر الثالث: إن الفعل الحسن الصادر من الله تعالى لا يرجع نفعه إليه، لانه الكامل المطلق


(1) تفسير البرهان ج 1 ص 29 وقريب منه في اصول الكافي باب الشكر ص 356. (2) اصول الكافي باب الشكر ص 356. (3) الوافي باب الخير والقدر ج 1 ص 119. (*)

[ 456 ]

الذي يستحيل عليه الاستكمال. وفعله إنما هو إحسان محض يرجع نفعه إلى المخلوقين. وأما الفعل الحسن الصادر من غيره فهو وإن كان إحسانا إلى أحد في بعض الاحيان، إلا أنه إحسان إلى نفسه أولا وبالذات، وبه يدرك كماله: ” إن أحسنتم أحسنت لانفسكم 17: 7 “. فالاحسان المحض إنما هو فعل الله تعالى لا غير فهو المستحق للحمد دون غيره وإلى ذلك أشير بجملة: ” الرحمن الرحيم “. ثم إن الثناء على الفعل الجميل قد يكون ناشئا عن إدراك الحامد حسن ذات الفاعل وصفاته من دون نظر إلى إنعامه، أو الرغبة فيه، أو الرهبة منه. وقد يكون ناشئا عن النظر إلى أحد هذه الامور الثلاثة، فقد أشير إلى المنشأ الاول بجملة: ” الحمد لله ” فالحامد يحمده تعالى بما أنه مستحق للحمد في ذاته، وبما أنه مستجمع لجميع صفات الكمال منزه عن جميع جهات النقص. وأشير إلى المنشأ الثاني بجملة: ” رب العالمين ” فانه المنعم على عباده بالخلق والايجاد، ثم بالتربية والتكميل. وأشير إلى المنشأ الثالث بجملة: ” الرحمن الرحيم “. فان صفة الرحمة تستدعي الرغبة في نعمائه تعالى وطلب الخير منه. وأشير إلى المنشأ الرابع بقوله: ” مالك يوم الدين “، فان من تنتهي إليه الامور ويكون إليه المنقلب جدير بأن ترهب سطوته، وتحذر مخالفته. وقد يكون الوجه هو بيان أن يوم الدين هو يوم ظهور العدل والفضل الالهيين، وكلاهما جميل لا بد من حمده تعالى لاجله، فكما أن أفعاله في الدنيا من الخلق والتربية والاحسان كلها أفعال جميلة يستحق عليها الحمد فكذلك أفعاله في الاخرة من العفو والغفران وإثابة المطيعين، وعقاب العاصين كلها أفعال جميلة يستوجب الحمد بها. ومما بيناه يتضح أن جملة: ” الرحمن الرحيم ” ليس تكرارا أتي بها للتأكيد – كما زعمه بعض المفسرين – بل هي لبيان منشأ اختصاص الحمد به تعالى فلا يغني عنه ذكرها أولا في مقام التيمن والتبرك، وهو ظاهر.


[ 457 ]

(3) تحليل آية إياك نعبد وإياك نستعين – 5. اللغة العبادة: في اللغة تأتي لاحد معان ثلاثة: الاول: الطاعة، ومنه قوله تعالى: ” ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين 36: 60 “. فان عبادة الشيطان المنهي عنها في الاية المباركة إطاعته. الثاني: الخضوع والتذلل، ومنه قوله تعالى: ” فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون 23: 47 “.


[ 458 ]

أي خاضعون متذللون، ومنه أيضا إطلاق ” المعبد ” على الطريق الذي يكثر المرور عليه. الثالث: التأله، ومنه قوله تعالى: ” قل إنما أمرت أن أ عبد الله ولا أشرك به 13: 36 “. وإلى المعنى الاخير ينصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة. والعبد: الانسان وإن كان حرا، لانه مربوب لبارئه، وخاضع له في وجوده وجميع شؤونه، وإن تمرد عن أوامره ونواهيه. والعبد: الرقيق لانه مملوك وسلطانه بيد مالكه، وقد يتوسع في لفظ العبد فيطلق على من يكثر اهتمامه بشئ حتى لا ينظر إلا إليه، ومنه قول أبي عبد الله الحسين عليه السلام: ” الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم وإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ” (1). وقد يطلق العبد على المطيع الخاضع، كما في قوله تعالى: ” أن عبدت بني إسرائيل 26: 22 “. أي جعلتهم خاضعين لا يتجاوزون عن أمرك ونهيك. الاستعانة: طلب المعونة، تتعدى بنفسها وبالباء، يقال استعنته واستعنت به أي طلبت منه أن يكون عونا وظهيرا لي في أمري.


(1) البحار باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية ج 10 ص 189. (*)

[ 459 ]

الاعراب ” إياك “: في كلا الموردين مفعول قدم على الفعل لافادة الحصر، وفي الاية التفات من الغيبة إلى الخطاب. والسر في ذلك أحد أمرين: الاول: أن سابق هذه الاية الكريمة قد دل على أن الله سبحانه هو المالك لجميع الموجودات، والمربي لها والقائم بشؤونها، وهذا يقتضي أن تكون الاشياء كلها حاضرة لديه تعالى، وأن يكون – سبحانه – محيطا بالعباد وبأعمالهم ليجازيهم يوم الدين بالطاعة أو بالمعصية، واقتضى ذلك أن يظهر العبد حضوره بين يدي ربه ويخاطبه. الثاني: ان حقيقة العبادة خضوع العبد لربه بما أنه ربه والقائم بأمره والربوبية تقتضي حضور الرب لتربية مربوبه، وتدبير شؤونه. وكذلك الحال في الاستعانة فإن حاجة الانسان إلى إعانة ربه وعدم استقلاله عنه في عبادته تقتضي حضور المعبود لتتحقق منه الاعانة، فلهذين الامرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربه غير غائب عنه. التفسير بعد أن مجد الله نفسه بالايات المتقدمة لقن عباده أن يتلوا هذه الاية الكريمة وأن يعترفوا بمدلولها وبمغزاها، فهم لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا به، فإن ما سوى الله من الموجودات فقير في ذاته، عاجز في نفسه، بل هو لا شئ بحت، إلا أن تشمله العناية الالهية، ومن هذا شأنه لا يستحق أن يعبد أو يستعان، والممكنات كلها – وان اختلفت مراتبها بالكمال والنقص – تشترك في صفة العجز اللازمة للامكان، وفي ان جميعها تحت حكم الله وإرادته:


[ 460 ]

” ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين 47: 54. ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير 24: 42 “. من ذا الذي يعارضه في سلطانه وينازعه في أمره وحكمه ؟ وهو القابض والباسط، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فالمؤمن لا يعبد غير الله، ولا يستعين إلا به، فان غير الله – أيا كان – محتاج إلى الله في جميع شؤونه وأطواره والمعبود لا بد وأن يكون غنيا، وكيف يعبد الفقير فقيرا مثله ؟ !. وعلى الجملة: الايمان بالله يقتضي أن لا يعبد الانسان أحدا سواه، ولا يسأل حاجته إلا منه، ولا يتكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، وإلا فقد أشرك بالله وحكم في سلطانه غيره: ” وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه 17: 23 “.


[ 461 ]

البحث الثاني حول آية الحمد


[ 462 ]

العبادة والتأله. العبادة والطاعة. العبادة والخضوع. السجود لغير الله. دواعي العبادة. حصر الاستعانة بالله. الشفاعة.


[ 463 ]

العبادة والتأله: مما لا يرتاب فيه مسلم: ان العبادة بمعنى التأله تختص بالله سبحانه وحده، وقد قلنا: إن هذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الاطلاق، وهذا هو التوحيد الذي ارسلت به الرسل، وأنزلت لاجله الكتب: ” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله 3: 64 “. فالايمان بالله تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق، وإنكار التوحيد في الذات، أم نشأت عن الاعتقاد بأن الخلق معزولون عن الله فلا يصل إليه دعاؤهم، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة اخرى تكون وسائط بينهم وبين الله يقربونهم إليه، وشأنه في ذلك شأن الملوك وحفدتهم، فإن الملك لما كان بعيدا عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم، ويجيبون دعواتهم. وقد أبطل الله سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الالهة:


[ 464 ]

” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا 21: 22. وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضه سبحان الله عما يصفون 23: 91 “. وأما الاعتقاد الثاني – وهو إنما ينشأ عن مقايسته بالملوك والزعماء من البشر – فقد أبطله الله بوجوه من البيان: فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى، وأنها مما لم يدل عليه دليل، فقال: ” أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين 27: 64. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين 26: 71. قال هل يسمعونكم إذ تدعون: 72. أو ينفعونكم أو يضرون: 73. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون: 74 “. وأخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أن ما يعبدونه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، والذي لا يملك شيئا من النفع والضر، والقبض والبسط، والاماتة والاحياء، لا يكون إلا مخلوقا ضعيفا، ولا ينبغي أن يتخذ إلها معبودا: ” قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم 21: 66. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون: 67. قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا 5: 6. ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين 7: 148 “.


[ 465 ]

وهذا الحكم عقلي فطري شاءت الحكمة أن تنبه العباد عليه في هذه الايات المباركة، وهو سار في كل موجود ممكن محتاج، وإن كان نبيا: ” وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب 5: 116. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم: 117 “. وأبطل هذا الاعتقاد مرة ثالثة، بأن الله قريب من عباده يسمع نجواهم ويجيب دعواهم، وأنه القائم بتدبيرهم وبتربيتهم، فقال تعالى: ” ونحن أقرب إليه من حب الوريد 50: 16. أليس الله بكاف عبده 39: 36. أدعوني أستجب لكم 40: 60. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير 6: 18. قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الارض والله على كل شئ قدير 3: 29. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله 10: 107. وإن يمسسك بخير فهو على (البيان – 30)


[ 466 ]

كل شئ قدير 6: 17. الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر 13: 26. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين 51: 58. ليس كمثله شئ وهو السميع البصير 42: 11. ألا إنه بكل شئ محيط 41: 54. فالله سبحانه غير معزول عن خلقه، وأمورهم كلها بيده، ولا يفتقر العباد إلى وسائط تبلغه حوائجهم، ليكونوا شركاء له في العبادة، بل الناس كلهم شرع سواء في أن الله ربهم وهو القائم بشؤونهم: ” ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا 58: 7. كذلك الله يفعل ما يشاء 3: 40. إن الله يحكم ما يريد 5: 1 “. وعلى الجملة، لا شك لمسلم في ذلك. وهذا ما يمتاز به الموحد عن غيره، فمن عبد غير الله واتخذه ربا كان كافرا مشركا. العبادة والطاعة: لا شك أيضا في وجوب طاعة الله سبحانه، وفي استحقاق العقاب عقلا على مخالفته، وقد تكرر في القرآن وعد الله تعالى لمن أطاعه بالثواب ووعيده لمن عصاه بالعقاب. وأما إطاعة غير الله تعالى فهي على أقسام: الاول: أن تكون إطاعته بأمر من الله سبحانه وبإذنه كما في إطاعة الرسول


[ 467 ]

الاكرم صلى الله عليه واله وسلم وأوصيائه الطاهرين عليهم السلام وهذا في الحقيقة إطاعة الله سبحانه، فهو واجب أيضا بحكم العقل: ” من يطع الرسول فقد أطاع الله 4: 80. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله 4: 64 “. ومن أجل ذلك قرن الله طاعة رسوله بطاعته في كل مورد أمر فيه بطاعته: ” ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما 33: 71. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم 4: 59 “. الثاني: أن تكون إطاعة غير الله منهيا عنها، كإطاعة الشيطان وإطاعة كل من أمير بمعصية الله، ولا شك في حرمة هذا القسم شرعا، وقبحه عقلا، بل قد تكون كفرا أو شركا، كما إذا امر بالشرك أو الكفر: ” يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين 33: 1. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا 76: 24. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما 31: 15 “. الثالث: أن تكون إطاعة غير الله مجردة لا أمر بها من الله ولا نهى، وهي حينئذ تكون جائزة لا واجبة ولا محرمة.


[ 468 ]

العبادة والخضوع: لا ينبغي الريب في أنه لا بد للمخلوق من أن يخضع ويتذلل لخالقه، فإن ذلك مما حكم به العقل، وندب إليه الشرع. وأما الخضوع والتذلل للمخلوق فهو على أقسام: أحدها: الخضوع لمخلوق من دون إضافة ذلك المخلوق إلى الله بإضافة خاصة وذلك: كخضوع الولد لوالده، والخادم لسيده والمتعلم لمعلمه، وغير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس، ولا ينبغي الشك في جواز هذا القسم ما لم يرد فيه نهى كالسجود لغير الله، بل جواز هذا القسم مقتضى الضرورة، وليس فيه أدنى شائبة للشرك، وقد قال عز من قائل: ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا 17: 24 “. أفترى أنه سبحانه أمر بعبادة الوالدين، حيث أمر بالتذلل لهما ؟ مع أنه قد نهى عن عبادة من سواه قبل ذلك: ” وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا 17: 23 “. أم ترى أن خفض الجناح من الذل – كما تفعله صغار الطير – هو من الاحسان الذي أمرت به الاية الكريمة، وجعلته مقابلا للعبادة، وإذا فلا يكون كل خضوع وتذلل لغير الله شركا بالله تعالى. ثانيها: الخضوع للمخلوق باعتقاد أن له إضافة خاصة إلى الله يستحق من أجلها أن يخضع له، مع أن العقيدة باطلة، وأن هذا الخضوع بغير إذن من الله كما في خضوع أهل الاديان والمذاهب الفاسدة لرؤسائهم. ولا ريب في أنه


[ 469 ]

إدخال في الدين لما لم يكن منه، فهو تشريع محرم بالادلة الاربعة، وافتراء على الله تعالى. ” فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا 18: 15 “. ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من الله وإرشاده، كما في الخضوع للنبي صلى الله عليه واله وسلم ولاوصيائه الطاهرين عليهم السلام بل الخضوع لكل مؤمن، أو كل ما له إضافة إلى الله توجب له المنزلة والحرمة، كالمسجد والقرآن والحجر الاسود وما سواها من الشعائر الالهية. وهذا القسم من الخضوع محبوب لله فقد قال تعالى: ” فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة عل يالمؤمنين أعزة على الكافرين 5: 45 “. بل هو لدى الحقيقة خضوع لله، وإظهار للعبودية له فمن اعتقد بالواحدانية الخالصة لله، واعتقد أن الاحياء والاماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والعقوبة كلها بيده، ثم اعتقد بأن النبي صلى الله عليه واله وسلم وأوصياءه الكرام عليهم السلام: ” عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون 21: 27 “. وتوسل بهم إلى الله، وجعلهم شفعاء إليه بإذنه، تجليلا لشأنهم وتعظيما لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حد الايمان، ولم يعبد غير الله. ولقد علم كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان يقبل الحجر الاسود، ويستلمه بيده إجلالا لشأنه وتعظيما لامره. وكان صلى الله عليه واله وسلم يزور قبور المؤمنين والشهداء والصالحين، ويسلم عليهم، ويدعو لهم.


[ 470 ]

وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفا عن سلف، فكانوا يزورون قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم ويتبركون به ويقبلونه، ويستشفعون برسول الله، كما كانوا يستشفعون به في حياته. وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة الدين وأولياء الله الصالحين، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، ولا أحد من التابعين أو الاعلام، إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني فحرم شد الرحال إلى زيارة القبور، وتقبيلها، ومسها، والاستشفاع بمن دفن فيها، حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم أن تبرك به بتقبيل أو لمس، وجعل ذلك من الشرك الاصغر تارة ومن الشرك الاكبر أخرى. ولما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين، وضرورة المسلمين، لانهم قد رووا عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حثه على زيارة المؤمنين عامة وعلى زيارته خاصة بقوله صلى الله عليه واله وسلم: ” من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي ” وما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر (1) تبرأوا منه، وحكموا بضلاله، وأوجبوا عليه التوبة، فأمروا بحبسه إما مطلقا أو على تقدير أن لا يتوب. والذي أوقع ابن تيمية في الغلط – إن لم يكن عامدا لتفريق كلمة المسلمين – وهو تخيله أن الامور المذكورة شرك بالله، وعبادة لغيره. ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الاعمال يعتقدون توحيد الله، وأنه لا خالق ولا رازق سواه، وأن له الخلق والامر، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله، وقد علمت أنها راجعة إلى تعظيم الله والخضوع له والتقرب إليه سبحانه، والخلوص لوجهه الكريم، وأنه ليس في ذلك أدنى شائبة للشرك، لان الشرك – كما عرفت – أن يعبد الانسان غير الله. والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشئ على أنه رب يعبد، وأين هذا من تعظيم النبي الاكرم وأوصيائه الطاهرين – ع – بما


(1) انظر التعليقة رقم (17) للوقوف على الروايات التي استفاضت في جواز زيارة القبور، وقد ذكر جملة منها عبد السلام بن تيمية – في قسم التعليقات. (*)

[ 471 ]

هو نبي وهم أوصياء، وبما أنهم عباد مكرمون، ولا ريب في أن المسلم لا يعبد النبي أو الوصي فضلا عن أن يعبد قبورهم. وصفوة القول: أن التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم لا تكون شركا بأي وجه من الوجوه، وبأي داع من الدواعي، ولو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضا، إذ لا فرق بينه وبين الميت من هذه الجهة – ولا يلتزم ابن تيمية وأتباعه بهذا – وللزم نسبة الشرك إلى الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وسلم وحاشاه فقد كان يزور القبور، ويسلم على أهلها، ويقبل الحجر الاسود كما سبق وعلى هذا فيدور الامر بين الحكم بأن بعض الشرك جائز لا محذور فيه، وبين أن يكون التقبيل والتعظيم – لا بعنوان العبودية – خارجا عن الشرك وحدوده، وحيث أنه لا مجال للاول لظهور بطلانه فلا بد وأن يكون الحق هو الثاني، فإذا تكون الامور المذكورة داخلة في عبادة الله وتعظيمه: ” ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقول القلوب 22: 32 “. وقد مرت الروايات الدالة على استحباب زيارة قبر النبي وأولياء الله الصالحين. السجود لغير الله: لقد اتضح مما قدمنا أن الخضوع لاي مخلوق إذا نهي عنه في الشريعة لم يجز فعله، وإن لم يكن على نحو التأله، ومن هذا القبيل السجود لغير الله، فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير الله، قال عز من قائل: ” لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون 41: 37 “. فإن المستفاد منه أن السجود مما يختص بالخالق، ولا يجوز للمخلوق وقال تعالى:


[ 472 ]

” وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا 72: 18 “. ودلالة هذه الاية الكريمة على المقصود مبنية على أن المراد بالمساجد المساجد السبعة، وهي الاعضاء التي يضعها الانسان على الارض في سجوده وهذا هو الظاهر، ويدل عليه المأثور (1) وكيف كان فلا ريب في هذا الحكم وأنه لا يجوز السجود لنبي أو وصي فضلا عن غيرهما. وأما ما ينسب إلى الشيعة الامامية من أنهم يسجدون لقبور أئمتهم، فهو بهتان محض، ولسوف يجمع الله بينهم وبين من افترى عليهم وهو أحكم الحاكمين ولقد أفرط بعضهم في الفرية، فنسب إليهم ما هو أدهى وأمض، وادعى أنهم يأخذون التراب من قبور أئمتهم، فيسجدون له سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم (2) وهذه كتب الشيعة: قديما وحديثها مطبوعها ومخطوطها، وهي منتشرة في أرجاء العالم متفقة على تحريم السجود لغير الله، فمن نسب إليهم جواز السجود للتربة فهو إما مفتر يتعمد البهت عليهم، وإما غافل لا يفرق بين السجود لشئ والسجود عليه. والشيعة يعتبرون في سجود الصلاة أن يكون على أجزاء الارض الاصلية: من حجر أو مدر أر رمل أو تراب، أو على نبات الارض غير المأكول والملبوس ويرون أن السجود على التراب أفضل من السجود على غيره، كما أن السجود على التربة الحسينية أفضل من السجود على غيرها. وفي كل ذلك اتبعوا أئمة مذهبهم الاوصياء المعصومين (3) ومع ذلك كيف تصح نسبة الشرك إليهم وأنهم يسجدون لغير الله (4).


(1) راجع الوسائل باب حد القطع من أبواب حد السرقة ج 3 ص 448. (2) انظر التعليقة رقم (18) للوقوف على التهمة التي ألصقها الالوسي بالشيعة في صيامهم – في قسم التعليقات. (3) راجع الوسائل باب 162 من أبواب ما يسجد عليه ص 236. (4) انظر التعليقة رقم (19) بشأن حوار جرى بين المؤلف وأحد علماء الحجاز حول التربة الحسينية – في قسم التعليقات. (*)

[ 473 ]

والتربة الحسينية ليست إلا جزء من أرض الله الواسعة التي جعلها لنبيه مسجدا وطهورا (1) ولكنها تربة ما أشرفها وأعظمها قدرا، حيث تضمنت ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسيد شباب أهل الجنة من فدى بنفسه ونفيسه ونفوس عشيرته وأصحابه في سبيل الدين وإحياء كلمة سيد المرسلين. وقد وردت من الطريقين في فضل هذه التربة عدة روايات عن رسول الله (2) وهب أنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولا عن أوصيائه ما يدل على فضل هذه التربة، أفليس من الحق أن يلازم المسلم هذه التربة، ويسجد عليها في مواقع السجود ؟ فإن في السجود عليها – بعد كونها مما يصح السجود عليه في نفسه – رمزا وإشارة إلى أن ملازمها على منهاج صاحبها الذي قتل في سبيل الدين وإصلاح المسلمين. آراء حول السجود لادم: بقي الكلام في سجود الملائكة لادم، وكيف جاز ذلك ؟ مع أن السجود لا يجوز لغير الله، وقد أجاب العلماء عن ذلك بوجوه: الرأي الاول: إن سجود الملائكة هنا بمعنى الخضوع، وليس بمعنى السجود المعهود. ويرده: أن ذلك خلاف الظاهر من اللفظ، فلا يصار إليه من غير قرينة، وأن الروايات قد دلت على أن ابن آدم إذا سجد لربه ضجر إبليس وبكى، وهي دالة على أن سجود الملائكة الذي أمرهم الله به، واستكبر عنه إبليس كان بهذا المعنى المعهود، ولذلك يضجر إبليس ويبكي من إطاعة ابن آدم للامر وعصيانه هو من قبل.


(1) راجع سنن البيهقي باب التيمم بالصعيد الطيب ج 1 ص 212، 213. (2) راجع الوسائل باب استحباب السجود على تربة الحسين – ع – 1 ص 236، انظر التعليقة رقم (20) بشأن فضيلة تربة الحسين – ع – في قسم التعليقات. (*)

[ 474 ]

الرأي الثاني: إن سجود الملائكة كان لله، وإنما كان آدم قبلة لهم، كما يقال: صلى للقبلة أي إليها. وقد أمرهم الله بالتوجه إلى آدم في سجودهم تكريما له وتعظيما لشأنه. ويرده: أنه تأويل ينافيه ظاهر الايات والروايات، بل ينافيه صريح الاية المباركة. فإن إبليس إنما أبى عن السجود بادعاء أنه أشرف من آدم، فلو كان السجود لله، وكان آدم قبلة له لما كان لقوله: ” ءأسجد لمن خلقت طينا 17: 61 “. معنى لجواز أن يكون الساجد أشرف مما يستقبله. الرأي الثالث: إن السجود لادم حيث كان بأمر من الله تعالى فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له. وبيان ذلك: أن السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع، ولذلك قد خصه الله بنفسه، ولم يرخص عباده أن يسجدوا لغيره، وإن لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد، والربوبية للمسجود له. غير أن السجود لغير الله إذا كان بأمر من الله كان في الحقيقة عبادة له وتقربا إليه، لانه امتثال لامره، وانقياد لحكمه، وإن كان في الصورة تذللا للمخلوق. ومن أجل ذلك يصح عقاب المتمرد عن هذا الامر، ولا يسمع اعتذاره بأنه لا يتذلل للمخلوق، ولا يخضع لغير الامر (1). وهذا هو الوجه الصحيح: فإن العبد يجب أن لا يرى لنفسه استقلالا في


(1) انظر التعليقة رقم (21) بشأن تأويل آية السجود من قبل بعض أصحاب الكشف – في قسم التعليقات. (*)

[ 475 ]

اموره، بل يطيع مولاه من حيث يهوى ويشتهي. فإذا أمره بالخضوع لاحد وجب عليه أن يمتثله، وكان خضوعه حينئذ خضوعا لمولاه الذي أمره به (1). ونتيجة ما قدمناه: أنه لا بد في كل عمل يتقرب به العبد إلى ربه من أن يكون مأمورا به من قبله بدليل خاص أو عام. وإذا شك في أن ذلك العمل مأمور به كان التقرب به تشريعا محرما بالادلة الاربعة. نعم إن زيارة القبور وتقبيلها وتعظيمها مما ثبت بالعمومات، وبالروايات الخاصة من طرق أهل البيت عليهم السلام الذين جعلهم النبي صلى الله عليه واله وسلم قرناء للكتاب في قوله: ” إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ” (2). وتؤكد جوازها أيضا سيرة المسلمين وجريهم عليها من السلف والخلف، وما قدمناه من الروايات عن طرق أهل السنة. كيف يتحقق الشرك بالله ؟ تنبيه: إذا نهي عن خضوع خاص لغير الله كالسجود، أو عن عبادة خاصة كصوم العيدين، وصلاة الحائض، والحج في غير الاشهر الحرم كان الاتي به مرتكبا للحرام ومستحقا للعقاب، إلا أنه لا يكون بذلك الفعل مشركا ولا كافرا، فليس كل فعل محرم يقتضي شرك مرتكبه أو كفره. وقد عرفت أن الشرك إنما هو الخضوع لغير الله بما أن الخاضع عبد والمخضوع له رب، فمن تعمد السجود لغير الله بغير قصد العبودية لم يخرج بعمله هذا المحرم عن زمرة المسلمين، فإن الاسلام يدور مدار الاقرار بالشهادتين، وبذلك يحرم ماله ودمه.


(1) انظر التعليقة رقم (22) لمعرفة ما قاله تعالى لابليس في ترك السجود – في قسم التعليقات. (2) تقدم بعض مصادر الحديث في الصفحة 18، 398 من هذا الكتاب. (*)

[ 476 ]

والروايات الدالة على هذا متواترة من الطريقين (1)، ومع ذلك كيف يجوز الحكم بشرك من زار قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم وأوصياءه – ع – متقربا إلى الله وهو يشهد الشهادتين: ” ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا 4: 94 “. ولسوف يحكم الله بين عباده بالحق وهو أحكم الحاكمين. دواعي العبادة: العبادة فعل اختياري، فلا بد لها من باعث نفساني يبعث نحوها، وهو أحد امور: 1 – أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الانسان في إنعامه، وبما يجزيه عليها من الاجر والثواب، حسبما وعده في كتابه الكريم: ” ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار 4: 13. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم 5: 9 “. 2 – أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة: ” إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم 10: 15. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا 76: 10 “. وقد أشير إلى كلا الامرين في عدة من الايات الكريمة:


(1) انظر التعليقة رقم (23) لمعرفة ان الاسلام يدور مدار الشهادتين – في قسم التعليقات. (*)

[ 477 ]

” تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا 32: 16. وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين 7: 56. يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه 17: 57 “. 3 – أن يعبد الله بما أنه أهل لان يعبد، فإن الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال. وهذا القسم من العبادة لا يتحقق إلا ممن اندكت نفسيته فلم ير لذاته إنية إزاء خالقه، ليقصد بها خيرا، أو يحذر لها من عقوبة، وإنما ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا إليه، وهذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين – ع – الذين أخلصوا لله أنفسهم فهم المخلصون الذين لا يستطيع الشيطان أن يقترب من أحدهم: ” ولاغوينهم أجمعين 15: 39. إلا عبادك منهم المخلصين: 40 “. قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه: ” ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ” (1)، وأما سائر العباد فتنحصر عبادتهم في أحد القسمين الاولين، ولا يسعهم تحصيل هذه الغاية. وبذلك يظهر بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة عن العطمع أو الخوف، واعتبر في صحة العبادة أن تكون لله ما هو أهل للعبادة ووجه بطلان هذا القول: أن عامة البشر غير المعصومين لا يتمكنون من ذلك فكيف يمكن تكليفهم به ! وهل هو إلا تكليف بما لا يطاق ؟ !


(1) مرآة العقول باب النية ج 2 ص 101. (*)

[ 478 ]

أضف إلى ذلك أن الايتين الكريمتين المتقدمتين قد دلتا على صحة العبادة إذا صدرت عن خوف أو طمع. فقد مدح الله سبحانه من يدعوه خوفا أو طمعا وذلك يقتضي محبوبية هذا العمل وأنه مما أمر به الله تعالى وأنه يكفي في مقام الامتثال. وقد ورد عن المعصومين عليهم السلام ما يدل على صحة العبادة إذا كانت ناشئة من خوف أو طمع (1). وقد أوضحنا – فيما تقدم – أن الايات السابقة من هذه السورة قد حصرت الحمد في الله تعالى من جهة كماله الذاتي، ومن جهة ربوبيته ورحمته، ومن جهة سلطانه وقدرته، فتكون فيها إشارة إلى منا شئ العبادة ودواعيها أيضا، فالعبادة إما ناشئة من إدراك العابد كمال المعبود واستحقاقه العبادة بذاته وهي عبادة الاحرار، وإما من إدراكه إنعام المعبود وإحسانه وطمعه في ذلك وهي عبادة الاجراء، وإما من إدراكه سطوته وقهره وعقابه وهي عبادة العبيد. حصر الاستعانة بالله: لا مانع من استعانة الانسان في مقاصده بغير الله من المخلوقات أو الافعال قال الله تعالى: ” واستعينوا بالصبر والصلاة 2: 45. وتعاونوا على البر والتقوى 5: 2. قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة 18: 95 “. وإذن فليست الاستعانة بمطلقها تنحصر بالله سبحانه بل المراد منها استعداد القدرة على العبادة منه تعالى، والاستزادة من توفيقه لها حتى تتم وتخلص


(1) انظر التعليقة رقم (24) للوقوف على أقسام الدوافع للعبادة – في قسم التعليقات. (*)

[ 479 ]

والغرض من ذلك اثبات أن العبد في أفعاله الاختيارية وسط بين الجبر والتقويض فان الفعل يصدر عن العبد بإختياره، ولذلك أسند الفعل إليه في قوله تعالى: ” إياك نعبد ” إلا أن هذا الفعل الاختياري من العبد إنما يكون بعون الله له وبإمداده إياه بالقدرة آنا فآنا: ” عطاء غير مجذوذ ” بحيث لو انقطع المدد عنه في آن لم يستطع إتمام الفعل، ولم تصدر منه عبادة ولا حسنة. وهذا هو القول الذي يقتضيه محض الايمان، فان الجبر يلزمه أن يكون العقاب على المعاصي عقابا للعبد من غير استحقاق، وهذا ظلم بين: ” سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا 17: 43 “. وإن التفويض يلزمه القول بخالق غير الله فان معناه أن العبد مستقل في أفعاله، وأنه خالق لها، ومرجع هذا إلى تعدد الخالق وهو شرك بالله العظيم والايمان الحق بالله هو الحد الوسط بين الافراط والتفريط، فالفعل فعل العبد وهو فاعله باختياره، ولذلك استحق عليه الثواب أو العقاب، والله سبحانه هو الذي يفيض على العبد الحياة والقدرة وغيرهما من مبادئ الفعل إفاضة مستمرة غير منقطعة، فلا استقلال للعبد، ولا تصرف له في سلطان المولى، وقد أوضحنا هذا في بحثنا عن إعجاز القرآن (1). هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله تعالى، فلولا الافاضة الالهية لما وجد فعل من الافعال ولو تظاهرت الجن والانس على إيجاده، فإن الممكن غير مستقل في وجوده، فيستحيل أن يكون مستقلا في إيجاده، وبما ذكرناه يظهر الوجه في تأخير جملة: ” إياك نستعين ” عن قوله: ” إياك نعبد ” فإنه تعالى حصر العبادة بذاته أولا، فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله، ثم أبان لهم أن عباداتهم إنما تصدر


(1) في الصفحة 33 من هذا الكتاب. (*)

[ 480 ]

عنهم بعون الله وإقداره، فالعبد رهين إفاضة الله ومشيئته، والله أولى بحسنات العبد من نفسه، كما أن العبد أولى بسيأته من الله (1). الشفاعة: تدل الايات المباركة على أن الله سبحانه هو الكافل بامور عبيده، وأنه الذي بيده الامر، يدبر شؤون عبده ويوجهه إلى كماله برحمته، وهو قريب منه، يسمع نداءه ويجيب دعاءه: ” أليس الله بكاف عبده 39: 36. وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 2: 186 “. وعلى هذا فليس لمخلوق أن يستشفع بمخلوق مثله، ويجعله واسطة بينه وبين ربه، ففي ذلك تبعيد للمسافة، بل وفيه إظهار للحاجة إلى غير الله وماذا يصنع محتاج بمحتاج مثله ؟ وماذا ينتفع العاصي بشفاعة من لا ولاية له ولا سلطان ؟ بل: ” لله الامر من قبل ومن بعد 30: 4. قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والارض 39: 44 “. هذا كله إذا لم تكن الشفاعة بإذن من الله سبحانه، وأما إذا أذن الله بالشفاعة لاحد فإن الاستشفاع به يكون نحوا من الخضوع لله والتعبد له، ويستفاد من القرآن الكريم أن الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة، إلا أنه لم ينوه بذكرهم عدا الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم، فقد قال الله تعالى:


(1) انظر رقم (25) للوقوف على الامر بين الامريين في كسب الحسنات وارتكاب السيئات – في قسم التعليقات. (*)

[ 481 ]

” ولا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا 19: 87. يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن 20: 109. ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له 34: 23. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما 4: 64 “. والروايات الواردة عن النبي الاكرم صلى الله عليه واله وسلم وعن أوصيائه الكرام – ع – في هذا الموضوع متواترة. أحاديث الشفاعة عند الامامية: أما الروايات من طريق الشيعة الامامية فهي أكثر من أن تحصى، وأمر الشفاعة عندهم أوضح من أن يخفى، ونكتفي بذكر رواية واحدة منها: روى البرقي في المحاسن بإسناده عن معاوية بن وهب، قال: ” سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: ” لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا 78: 38 “. قال: نحن والله المأذون لهم في ذلك، والقائلون صوابا، قلت: جعلت فداك وما تقولون إذا كلمتم ؟ قال نمجد ربنا، ونصلي على نبينا، ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا “. وروى محمد بن يعقوب في الكافي بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي عليه السلام مثله ” (1).


(1) البحار باب الشفاعة ] 3 ص 301. (*) (البيان – 31)

[ 482 ]

أحاديث الشفاعة عند العامة: وأما الروايات من طرق أهل السنة فهي أيضا كثيرة متواترة (1) نتعرض لذكر بعضها: 1 – روى يزيد الفقير، قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: ” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا.. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي، وأعطيت الشفاعة.. ” (2). 2 – روى أنس بن مالك، قال: ” قال النبي صلى الله عليه واله وسلم أنا أول شفيع في الجنة ” (2). 3 – روى أبو هريرة قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لكل نبي دعوة وأردت إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة ” (4). 4 – وروى أيضا قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنا سيد ولد آدم عليه السلام يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ” (5). 5 – وروى أيضا، قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الشفعاء خمسة: القرآن، والرحم، والامانة، ونبيكم، وأهل بيته ” (6).


(1) في المجلد السابع من كنز العمال ص 215، 270 من هذه الروايات ما يزيد على ثمانين رواية. (2) صحيح البخاري كتاب التيمم باب 1 ج 1 ص 86. (3) صحيح مسلم باب أن النبي أول من يشفع في الجنة ج 1 ص 130. (4) انظر التعليقة رقم (26) لاستقصاء مصادر هذه الرواية – في قسم التعليقات. (5) صحيح مسلم باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق ج 7 ص 59. (6) كنز العمال: الشفاعة ج 7 ص 214. (*)

[ 483 ]

6 – روى عبد الله بن أبي الجدعاء قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم ” ورواه الترمذي والحاكم (1). ومن هذه الروايات يستكشف أن الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه واله وسلم وبأهل بيته الكرام – ع – أمر ندب إليه الشرع، فكيف يعد ذلك من الشرك ؟ عصمنا الله من متابعة الهوى وزلل الاقدام والاقلام.


(1) نفس المصدر السابق ص 215. (*)

[ 484 ]

(4) تحليل آية اهدنا الصراط المستقيم – 6. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين – 7. القراءة المعروف قراءة غير بالجر، ونقل الزمخشري أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وعمر قرءا بالنصب، والصحيح هو الاول، فإن قراءة النصب عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لم تثبت وكذلك لم تثبت عن عمر، على أنها لو ثبتت عنه فهي ليست بحجة، فقد أوضحنا أن قراءة غير المعصوم إنما يعبأ بها إذا كانت من القراءات المشهورة، وإلا فهي شاذة لا تجزي للامتثال. والمعروف أيضا قراءة ” الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” ونسب إلى علي عليه السلام وإلى عمر قراءة ” من أنعمت عليهم وغير الضالين ” أما قراءة علي عليه السلام بذلك فلم تثبت، بل الثابت عدمها، فلو كانت قراءته هي ذلك، لشاع خبرها بين شيعته، ولاقرها الائمة من بعده، مع أنها


[ 485 ]

لم تنقل حتى بخبر رجل واحد يعتمد عليه، ومثل هذا يقال في نسبة قراءة ” غير ” بالنصب إلى الرسول صلى الله عليه واله وسلم وأما قراءة عمر فقد عرفت الحال فيها. اللغة الهداية: الارشاد والدلالة، والهدى ضد الضلال، وستقف على بيان هداية الله الناس وإرشادهم. الصراط: الطريق وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود، وقد يكون غير حسي فيقال: الاحتياط طريق النجاة، وإطاعة الله طريق الجنة، وإطلاقه على الطريق غير الحسي إما لعموم المعنى اللغوي وإما من باب التشبيه والاستعارة الاستقامة: الاعتدال، وهو ضد الانحراف إلى اليمين أو الشمال، و ” الصراط المستقيم ” هو الصراط الذي يصل بسالكه إلى النعيم الابدي، وإلى رضوان الله، وهو أن يطبع المخلوق خالقه، ولا يعصيه في شئ من أوامره ونواهيه، وأن لا يعبد غيره، وهو الصراط الذي لا عوج فيه، قال الله تعالى: ” وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم 42: 52. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الارض: 53. وهذا صراط ربك مستقيما 6: 126. إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم 3: 51. وأن اعبدوني هذا صراط


[ 486 ]

مستقيم 36: 61. وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون 6: 152. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، 153 “. وبما أن عبادة الله لا تنحصر في نوع معين، بل تعم أفعال الجانحة وأفعال الجارحة على كثرتها فقد يلاحظ المعنى العام الشامل لهذه الافعال كلها، فيعبر عنه باللفظ المفرد كالصراط المستقيم، والصراط السوي، وقد تلاحظ الانواع على كثرتها من الايمان بالله وبرسوله وبالمعاد، ومن الصلاة والصيام والحج وما سوى ذلك، فيعبر عنها بالجمع. ” قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين 5: 15. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام: 16. وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا 14: 12. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا 29: 69 “. الانعام: الافضال بالنعمة وزيادتها، ومن أنعم الله عليهم هم الذين سلكوا ” الصراط المستقيم ” ولم يمل بهم الهوى إلى طاعة الشيطان، ولذلك قد فازوا بالحياة الدائمة والسعادة الابدية، وفوق ذلك كله فازوا برضوان من الله: ” وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم 9: 73 “.


[ 487 ]

الغضب: السخط، وتقابله الرحمة، والمغضوب عليهم هم الذين توغلوا في الكفر وعندوا عن الحق، ونبذوا آيات الله وراء ظهورهم، ولا يراد به مطلق الكافر: ” ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم 16: 106 “. الضلال: التيه ويقابله الهدى، والضالون هم الذين سلكوا غير طريق الهدى فأفضى بهم إلى الهلاك الابدي والعذاب الدائم، ولكنهم دون المغضوب عليهم في شدة الكفر، لانهم وإن ضلوا الطريق المستقيم عن تقصير في البحث والفحص، إلا أنهم لم يعاندوا الحق بعد وضوحه، وقد ورد في المأثور أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى. وقد تقدم (1) أن الايات القرآنية لا تختص بمورد، وأن كل ما يذكر لها من المعاني فهو من باب تطبيق الكبرى. الاعراب ” غير المغضوب عليهم “: بدل من جملة ” الذين أنعمت عليهم ” أو صفة للذين وذلك: أن نعمة الله كرحمته قد وسعت جميع البشر، فمنهم من شكر، ومنهم من كفر: ” ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من


(1) الصفحة 25 من هذا الكتاب. (*)

[ 488 ]

يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير 31: 30 “. وإذا ففي توصيف من أنعم الله عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين تقييد لا طلاقه، وتضييق لسعته، فلا يشمل هؤلاء الذين لم يؤدوا شكر النعمة، ويكون مدلول الآية أن العبد يطلب من الله الهداية إلى طريق سلكه فريق خاص من الذين أنعم الله عليهم وهم الذين لم يبدلوا نعمة الله كفرا، فحازوا بإطاعتهم واستقامتهم نعمة الآخرة كما كانوا حائزين نعمة الدنيا، فاتصلت لهم السعادة في الدنيا والعقبى، ونظير الآية المباركة أن يقال: يجوز اقتناء كل كتاب غير كتب الضلال، وعلى ذلك فلا موقع لقول بعضهم: إن كلمة غير متوغلة في الابهام ولا تعرف بهما تضاف إليه فلا يصح جعلها صفة للمعرفة ولا لما ذكروه جوابا عن ذلك. وخلاصة القول: أن الحكم المذكور في القضية – خبرية كانت أو إنشائية – إذا كان عاما لجميع الافراد، فإنه يصح تخصيصه متى أريد ذلك – بكلمة غير، كما يصح تخصيصه بغيرها، فتقول: جاءني جميع أهل البلد، أو أكرم جميعهم غير الفاسقين. ” الضالين “: عطف على المغضوب عليهم: وأتي بكلمة ” لا ” تأكيدا للنفي لئلا يتوهم السامع أن المنفي هو المجموع، وكلمة ” غير ” تدل على النفي التزاما فاجري عليها حكم غيرها من دوال النفي. تقول: جالس رجلا غير فاسق ولا سئ الخلق، أعبد الله بغير كسل ولا ملل، وتوهم بعض مقاربي عصرنا عدم جواز ذلك فأتعب نفسه في توجيه الآية المباركة ولم يأت بشئ، واعترف بعجزه عن الجواب. التفسير وبعد أن لقن الله عبيده أن يعترفوا بين يديه بالتوحيد في العبادة والاستعانة


[ 489 ]

لقنهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم. وقد اشتملت هذه السورة الكريمة في بداءتها على تمجيد الله سبحانه، والثناء عليه بما هو أهله واشتملت في نهايتها على سؤال الهداية منه. وبين تلك البداءة وهذه الخاتمة أنزل الله تعالى قوله: ” إياك نعبد وإياك نستعين ” فهو نتيجة للتمجيد السابق وتوطئة للسؤال اللاحق، فإن في التمجيد السابق ملاك حصر العبادة والاستعانة به تعالى فالمستحق للعبادة إنما هو الله بذاته وبرحمته وسلطانه، وغيره لا يستحق أن يعبد أو يستعان به. وإذا كانت العبادة والاستعانة منحصرتين بالله سبحانه فلا مناص للعبد من أن يدعو ربه الذي حصر عبادته واستعانته به. ومن هنا ورد عن الطريقين ” أن الله تبارك وتعالى قد جعل هذه السورة نصفين: نصف له ونصف لعبده، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله تعالى: مجدني عبدي، وإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ” (1). ثم إنك عرفت أن الطرق التي يسلكها البشر في أعمالهم وإيمانهم ثلاثة: أحدها: الطريق الذي مهده الله لعباده، يسلكه من هداه الله إليه بفضله وإحسانه. ثانيها: الطريق الذي يسلكه الضالون. ثالثها: الطريق الذي بسلكه المغضوب عليهم. وقد بين الله سبحانه مغايرة الطريق المستقيم للطريقين الآخرين ببيان أن سالكي هذا الطريق غير سالكي ذينك الطريقين. وبذلك بين أن من اجتنب الطريق المستقيم فلا مناص له من الخذلان، إما بضلاله فحسب وإما بضلاله مع استحقاقه الغضب الالهي. أعاذنا الله من الخذلان وهدانا إلى صراط المستقيم.


(1) عيون أخبار الرضا – باب ما جاء عن الرضا من الاخبار المتفرقة ص 166، طبعة إيران سنة 1317 ه‍. وتقدم نظير هذا عن أبي هريرة في الصفحة 446 من هذا الكتاب. (*)

[ 491 ]

البحث الثالث حول آية اهدنا


[ 492 ]

الهداية بمعنى الاستمرار. الهداية بمعنى الثواب. الهداية بمعنى الاستزادة منها


[ 493 ]

ذكر المفسرون: أن من يطلب الهداية من الله لا بد وأن يكون فاقدا لها، فكيف يطلبها المسلم الواحد في صلاته، وأجابوا عنه بوجوه: 1 – أن يراد بالهداية: الاستمرار عليها، فبعد ما من الله تعالى على المصلي بهدايته إلى الايمان يطلب منه الاستمرار والثبات على هذه النعمة لئلا تزل له قدم بعد ثبوتها. 2 – أن يراد بالهداية: الثواب فمعناه إهدنا طريق الجنة ثوابا لنا. 3 – أن يراد بالهداية: زيادتها فإن الهداية قابلة للزيادة والنقصان، فمن كان واجدا لمرتبة منها جاز أن يطلب مرتبة أكمل منها. وكل هذه الوجوه استحسانية تخالف ما يقتضيه ظاهر الآية المباركة والصحيح أن يقال: إن الهداية التي يطلبها المسلم في صلاته هي هداية غير حاصلة له، وإنما يطلب حصولها من ربه فضلا منه ورحمة. وتوضيح ذلك: أن الهداية من الله تعالى على قسمين: هداية عامة وهداية خاصة، والهداية العامة قد تكون تكوينية، وقد تكون تشريعية، أما الهداية العامة التكوينية فهي التي أعدها الله تعالى في طبيعة كل موجود سواء أكان جمادا أم كان نباتا أو حيوانا، فهي تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها، والله هو الذي أودع فيها قوة الاستكمال، ألا ترى كيف يهتدي النبات إلى نموه، فيسير إلى جهة لا صاد له عن سيره فيها، وكيف يهتدي الحيوان فيميز بين من يؤذيه


[ 494 ]

ومن لا يؤذيه ؟ فالفأرة تفر من الهرة، ولا تفر من الشاة، وكيف يهتدي النمل والنحل إلى تشكيل جمعية وحكومة وبناء مساكن ! وكيف يهتدي الطفل إلى ثدي أمه، ويرتضع منه في بدء ولادته: ” قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى 20: 50 “. وأما الهداية العامة التشريعية فهي الهداية التي بها هدى الله جميع البشر بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، فقد أتم الحجة على الانسان بافاضته عليه العقل وتمييز الحق من الباطل، ثم بإرساله رسلا يتلون عليهم آياته، ويبينون لهم شرائع أحكامه، وقرن رسالتهم بما يدل على صدقها من معجز باهر، وبرهان قاهر، فمن الناس من اهتدى، ومنهم من حق عليه الضلالة: ” أنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا 76: 3 “. وأما الهداية الخاصة، فهي هداية تكوينية، وعناية ربانية خص الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته، فيهيئ له ما به يهتدي إلى كماله ويصل إلى مقصوده، ولو لا تسديده لوقع في الغي والضلالة، هذا وقد أشير إلى هذا القسم من الهداية في غير واحد من الآيات المباركة، قال عز من قائل: ” فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة 7: 30. قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين 6: 149. ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء 2: 272. إن الله لا يهدي القوم الظالمين 6: 144. والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم 2: 213. إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء 28: 56. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم


[ 495 ]

سبلنا 29: 69. فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم 14: 4 “. إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها اختصاص هداية الله تعالى وعنايته الخاصة بطائفة خاصة دون بقية الناس، فالمسلم بعد ما اعترف بأن الله قد من عليه بهدايته هداية عامة تكوينية وتشريعية طلب من الله تعالى أن يهديه بهدايته الخاصة التكوينية التي يختص الله بها من يشاء من عباده. * * * وصفوة القول: أن البشر بطبعه في معرض الهلاك والطغيان فلا بد للمسلم الموحد أن لا يتكل على نفسه بل يستعين بربه، ويدعوه لهدايته، ليسلك به الجادة الوسطى فلا يكون من المغضوب عليهم، ولا من الضالين.


[ 497 ]

قسم التعليقات


[ 498 ]

مصادر: حديث الثقلين، ترجمة: الحارث وافتراء الشعبي عليه. مصادر: حديث لتركبن سنن من قبلكم. محادثة: بين المؤلف وحبر يهودي. ترجمة: القرآن وشروطها. قصة: قريش في محاولتهم تعجيز النبي. تحريف: رواية في صحيح البخاري. رأي: محمد عبده في الطلاق الثلاث. اختلاق الرازي نسبة الجهل إلى الله على لسان الشيعة. أحاديث: مشيئة الله. أحاديث: إن الدعاء يغير القضاء. أهمية آية البسملة. معرفة: بدء الخليقة في كتاب التكوين. أحاديث: إن البسملة جزء من القرآن. قصة: نسيان معاوية لقراءة البسملة. قراءة: النبي البسملة وتوجيه رواية أنس. ابن تيمية: ونقله أحاديث جواز زيارة القبور. تهمة: الآلوسي للشيعة. حوار: بين المؤلف وعالم حجازي. فضيلة: تربة الحسين. تأويل: آية السجود بالكشف. حديث: إبليس مع الله. الاسلام: يدور مدار الشهادتين. العبادة وأقسام دوافعها. الامر بين الامرين: والحسنات والسيئات. مصادر: رواية الشفاعة.


[ 499 ]

التعليقة (1) ص 18 مصادر: حديث الثقلين روى – حديث الثقلين – أحمد في الجزء 3 من مسنده ص 14، 17، 26، 59 عن أبي سعيد الخدري. ورواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن الجزء 2 ص 431، وأحمد في الجزء 4 من مسنده: ص 366، 371 عن زيد بن أرقم. ورواه أحمد في الجزء ص 182، 189 عن زيد بن ثابت. ورواه جلال الدين السيوطي في ” جامعه الصغير ” عن الطبراني عن زيد بن ثابت وصححه. وقال العلامة المناوي في شرحه الجزء 3 ص 15: قال الهيثمي: ” رجاله موثقون “. ورواه أيضا أبو يعلى بسند لا بأس به، والحافظ عبد العزيز بن الاخضر وزاد أنه قال في حجة الوداع ” ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي ” قال السمهودي ” وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة “. ورواه الحاكم في ” المستدرك الجزء 3 ص 109 ” عن زيد بن أرقم وصححه ولم يعقبه الذهبي. وفي ألفاظ الروايات اختلاف في التعبير لكنها متفقة في المقصود. * * *


[ 500 ]

التعليقة (2) ص 18 ترجمة: الحارث وافتراء الشعبي عليه هو الحارث بن عبد الله الاعور الهمداني، وقد اتفقت كلمات علماء الامامية على أنه من أعاظم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وعلى نزاهته ومكانته السامية، ووصفوه بالورع والتقوى، والقيام بخدمة سيده أمير المؤمنين عليه السلام. ونص على توثيقه الاعلام في كتبهم الرجالية وغيرها، وذكر غير واحد من أكابر علماء السنة الحارث فأثنى عليه. قال ابن حجر العسقلاني في ” تهذيب التهذيب ” في ترجمة الحارث: قال الدوري عن ابن معين: ” الحارث قد سمع من ابن مسعود وليس به بأس “. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ” ثقة “. وقال أشعث بن سوار عن ابن سيرين: ” أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة، من بدأ بالحارث ينى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث “. وقال ابن أبي داود: ” كان الحارث أفقه الناس، وأحسب الناس، وأفرض الناس، تعلم الفرائض من علي “. وقال أبو جعفر الطبري في المنتخب من كتاب ” ذيل المذيل ” تحت عنوان من هلك سنة 161: ” وكان الحارث من مقدمي أصاحب أمير المؤمنين عليه السلام وعبد الله في الفقه والعلم بالفرائض والحساب “. قال الذهبي في ترجمة الحارث، وحديث الحارث في السنن الاربعة، والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به وقوى أمره وكان من أوعية العلم. قال مرة ابن خالد أنبأنا محمد بن سيرين قال: ” كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة وفاتني الحارث فلم أره، وكان يفضل عليهم وكان أحسنهم “.


[ 501 ]

أقول: قد شاء التعصب والهوى أن يقول الشعبي: ” حدثني الحارث الاعور وكان كذابا ” وان يتابعه جماعة على رأيه. قال أبو عبد الله القرطبي في الجزء الاول من تفسيره ص 5: ” الحارث رماه الشعبي بالكذب وليس بشئ ولم يبين من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي عليه السلام وتفضيله له على غيره، ومن ههنا – والله أعلم – كذبه الشعبي لان الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من أسلم “. قال ابن حجر في ترجمة الحارث: وقد فسر ابن عبد البر في كتاب ” العلم ” السر في طعن الشعبي على الحارث فقال: ” إنما نقم عليه لافراطه في حب علي عليه السلام، وأظن أن الشعبي عوقب على تكذيبه الحارث لانه لم تبن منه كذبة أبدا “. وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح المصري: ” الحارث الاعور ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي وأثنى عليه، قيل له فقد قال الشعبي: كان يكذب، قال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه “. بربك أخبرني أيها الناقد البصير هل يجوز في شريعة العلم ؟ أو هل يسوغ الدين نسبة الفاحشة إلى المسلم، وقذفه بالكذب بمجرد ولائه لامير المؤمنين عليه السلام وتفضيله إياه على غيره ؟ أليس رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هو الذي جاهر بتفضيل علي عليه السلام على غيره، حتى جعله منه بمنزلة هارون من موسى وأثبت له خصالا لم يحظ بمثلها رجل من الصحابة، وقد شهد بذلك – على ما رواه الحاكم في المستدرك – الجزء 3 ص 108 – سعد بن أبي وقاص أمام معاوية حين حمله على سبه فقال: ” كيف أسب رجلا كانت له خصال من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، لو أن لي واحدة منها لكان أحب إلي من حمر النعم ” ثم ذكر قصة الكساء، وحديث المنزلة وإعطاء الراية له في يوم خيبر، ولم يكتف نبي الاسلام صلى الله عليه واله وسلم بذلك حتى أعلم الامة بمنزلة الرفيعة – كما في نفس المصدر ص 108 – فقال لعلي: ” من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاك فقد عصاني “، وغير ذلك من فضائله التي لا تعد ولا تحصى.


[ 502 ]

نعم ليس من الغريب أن يفتري الشعبي على الحارث، ويصفه بالكذب فقد كان من صنايع الامويين يرتع في دنياهم، ويسير على رغباتهم، فقد بعثه عبد الملك بن مروان – كما في كتاب النجوم الزاهرة الجزء 1 ص 208 – إلى مصر بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك، ثم تولى المظالم بالكوفة – كما في كتاب الاغاني الجزء 2 ص 120 – من قبل بشر بن مروان أيام ولايته عليها من قبل عبد الملك، ثم تولى القضاء – كما في تاريخ الطبري الجزء 5 ص 310 الطبعة الثانية – من قبل عمر بن عبد العزيز في الكوفة، فهو مرواني النزعة، يقول ويفعل بما يشاء له الهوى، لا يتحرج من كذبه، ولا يتبرم من خطل. ذكر أبو الفرج في الاغاني الجزء 1 ص 121 عن الحسن بن عمر الفقيمي قال: ” دخلت على الشعبي فبينا أنا عنده في غرفته إذ سمعت صوت غناء فقلت أهذا في جوارك ؟ فأشرف بي على منزله فإذا بغلام كأنه قمر وهو يتغنى… قال فقال لي الشعبي: أتعرف هذا ؟ قلت: لا: فقال: هذا الذي أوتي الحكم صبيا، هذا ابن سريج “. وذكر أيضا في الجزء 2 ص 71 عن عمر بن أبي خليفة قال: ” كان الشعبي مع أبي في أعلى الدار فسمعنا تحتنا غناء حسنا فقال له أبي: هل ترى شيئا ؟ قال: لا. فنظرنا فإذا غلام حسن الوجه حديث السن يتغنى.. فإذا هو ابن عائشة فجعل الشعبي يتعجب من غنائه، ويقول: يؤتي الحكمة من يشاء “. وذكر أيضا في الجزء 2 ص 133 ” أن مصعب بن الزبير أيام ولايته على الكوفة أخذ بيد الشعبي وأدخله في حجلة زوجته عائشة بنت طلحة، وهي بارزة حاسرة، فسأله عن حالها فأبدى رأيه فيها، ووصفها له بما يريد، ثم أمر مصعب له بعشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا “. نعم ليس غريبا من الشعبي أن يصف الحارث بهذه الصفة، وقد افترى على أمير المؤمنين عليه السلام كما في القرطبي الجزء 1 ص 158 حيث كان يحلف بالله: ” لقد دخل علي حفرته وما حفظ القرآن “.


[ 503 ]

قال الصاحبي في فقه اللغة ص 170: ” وهذا كلام شنيع جدا فيمن يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فما من آية إلا أعلم بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل “. وروى السدي عن عبد خير عن علي: ” أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأقسم أن لا يضع على ظهره رداء حتى يجمع القرآن، قال: فجلس في بيته حتى جمع القرآن فهو أول مصحف جمع فيه القرآن جمعه من قلبه وكان عند آل جعفر “. ألا تنظر أيها المسلم الغيور إلى هذا الرجل كيف تجرأ على الله وعلى رسوله، وتكلم بهذا الكلام الشنيع ؟ أفيقال مثل هذا الكلام فيمن هو باب مدينة علم الرسول والمبين لامته لا أرسله الله به ؟ وفي ذلك روايات كثيرة كما في ” كنز العمال الجزء 6 ص 156 ” – وفيمن هو باب مدينة الحكمة كما في ” صحيح الترمذي الجزء 13 ص 171 ” – وفيمن هو مع القرآن والقرآن معه لن يفترقا حتى يردا على الحوض كما في ” مستدرك الحاكم الجزء 3 ص 124 والجامع الصغير للسيوطي الجزء 4 ص 356 ” إن الذين يكسبون الاثم سيجزون ما كانوا يقترفون. * * * التعليقة (3) ص 20 مصادر: حديث لتركبن سنن من قبلكم.. ورد هذا الحديث في مسند أحمد الجزء 5 ص 218 من حديث أبي واقد الليثي. وعند البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي: لتتبعن سنن من قبلكم الجزء 8 ص 151 وعند مسلم في كتاب ” العلم ” باب اتباع سنن اليهود والنصارى الجزء 8 ص 57. وفي مسند أحمد الجزء 3 ص 74 عن أبي سعيد الخدري. وفي مجمع الزوائد للهيثمي الجزء 7 ص 261 عن ابن عباس.


[ 504 ]

التعليقة (4) ص 43 محادثة: بين المؤلف وحبر يهودي وقد جرت محادثة بيني وبين حبر من أحبار اليهود تتصل بموضوع انتهاء شريعتهم بانتهاء أمد حجتها وبرهانها. قلت له: هل التدين بشريعة موسى عليه السلام يختص باليهود أو يعم من سواهم من الامم ؟ فإن اختصت شريعته باليهود لزم أن نثبت لسائر الامم نبيا آخر، فمن هو ذلك النبي ؟ وإن كانت شريعة موسى عامة لجميع البشر، فمن الواجب أن تقيموا شاهدا على صدق نبوته وعمومها، وليس لكم سبيل إلى ذلك فإن معجزاته ليست مشاهدة للاجيال الآخرين ليحصل لهم العلم بها، وتواتر الخبر بهذه المعجزات يتوقف على أن يصل عدد المخبرين في كل جيل إلى حد يمنع العقل من تواطئهم على الكذب، وهذا شئ لا يسعكم إثباته، وأي فرق بين إخباركم أنتم عن معاجز موسى عليه السلام وإخبار النصارى عن معاجز عيسى عليه السلام وإخبار كل امة اخرى بمعاجز أنبيائها الآخرين فإذا لزم على الناس تصديقكم بما تخبرون به، فلم لا يجب على الناس تصديق المخبرين الآخرين في نقلهم عن أنبيائهم ؟ !. وإذا كان الامر على هذه الصورة فلم لا تصدقون الانبياء الآخرين، فقال: إن معاجز موسى ثابتة عند كل من اليهود، والنصارى والمسلمين، وكلهم يعترفون بصدقها. وأما معاجز غيره فلم يعترف بها الجميع، فهي لذلك تحتاج إلى الاثبات فقلت له: إن معجزات موسى عليه السلام لم تثبت عند المسلمين ولا عند النصارى إلا باخبار نبيهم بذلك لا بالتواتر فإذا لزم تصديق المخبر عن تلك المعاجز وهو يدعي النبوة لزم الايمان به والاعتقاد بنبوته، وإلا لم تثبت تلك المعاجز أيضا، هذا شأن الشرائع السابقة.


[ 505 ]

أما شريعة الاسلام فإن حجتها باقية تتحدى الامم إلى يوم القيامة، وإذا ثبتت هذه الشريعة المقدسة وجب علينا تصديق جميع الانبياء السابقين لشهادة القرآن الكريم ونبي الاسلام العظيم. وإذن فالقرآن هو المعجزة الخالدة الوحيدة الباقية التي تشهد لجميع الكتب المنزلة بالصدق، ولجميع الانبياء بالتنزيه. * * * التعليقة (5) ص 44 ترجمة: القرآن وشروطها لقد بعث الله نبيه لهداية الناس فعززه بالقرآن، وفيه كل ما يسعدهم ويرقى بهم إلى مراتب الكمال، وهذا لطف من الله لا يختص بقوم دون آخر بل يعم البشر عامة، وقد شاءت حكمته البالغة أن ينزل قرآنه العظيم على نبيه بلسان قومه، مع أن تعاليمه عامة، وهدايته شاملة، ولذلك فمن الواجب أن يفهم القرآن كل أحد ليهتدي به. ولا شك أن ترجمته مما يعين على ذلك، ولكنه لا بد وأن تتوفر في الترجمة براعة وإحاطة كاملة باللغة التي ينقل منها القرآن إلى غيرها، لان الترجمة مهما كانت متقنة لا تفي بمزايا البلاغة التي امتاز بها القرآن، بل ويجري ذلك في كل كلام إذ لا يؤمن أن تنتهي الترجمة إلى عكس ما يريد الاصل. ولا بد – إذن – في ترجمة القرآن من فهمه، وينحصر فهمه في أمور ثلاثة: 1 – الظهور اللفظي الذي تفهمه العرب الفصحى. 2 – حكم العقل الفطري السليم. 3 – ما جاء من المعصوم في تفسيره.


[ 506 ]

وعلى هذا تتطلب إحاطة المترجم بكل ذلك لينقل منها معنى القرآن إلى لغة اخرى. وأما الآراء الشخصية التي يطلقها بعض المفسرين في تفاسيرهم، لم تكن على ضوء تلك الموازين فهي من التفسير بالرأي، وساقطة عن الاعتبار، وليس للمترجم أن يتكل عليها في ترجمته. وإذا روعي في الترجمة كل ذلك فمن الراجح أن تنقل حقائق القرآن ومفاهيمه إلى كل قوم بلغتهم، لانها نزلت للناس كافة، ولا ينبغي أن تحجب ذلك عنهم لغة القرآن ما دامت تعاليمه وحقائقه لهم جميعا * * * التعليقة (6) ص 112 قصة: قريش في محاولتهم لتعجيز النبي ويرشد إلى ما أوضحناه في معنى الآيات الكريمة المتقدمة: الروايات التي وردت في شأن نزولها. ففي ” تفسير البرهان ” عند تفسيره هذه الآيات: ” أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة، إذاجتمع جماعة عن رؤساء قريش، منهم الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو البختري بن هشام، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل السهمي، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي، وجمع ممن يليهم كثير، ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله، يذكرهم عن الله أمره ونهيه. فقال المشركون بعض لبعض: قد استفحل أمر محمد وأعظم خطبه. تعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه، والاحتجاج عليه، وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه، ويصغر قدره عندهم، فلعله أن ينزع عما هو فيه، ومن غيه وباطله، وتمرده وطغيانه، فإن


[ 507 ]

انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر. فقال أبو جهل: فمن ذا الذي يلي كلامه ومحاورته ؟ قال عبد الله بن أبي أمية المخزومي: أنا إلى ذلك، أما ترضاني له قرنا حسيبا ومحاورا كفيا ؟ قال أبو جهل: بلى. فأتوه جميعا فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالا هائلا. زعمت أنك رسول الله رب العالمين، وما ينبغي لرب العالمين، وخالق الخلق أن يكون مثلك رسولا له بشرا مثلنا، تأكل كما نأكل، وتشرب كما نشرب، وتمشي في الاسواق كما نمشي. فهذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير مال، عظيم حال له قصور ودور وفساطيط وخيام، وعبيد وخدم. ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم وهو عبيده.. لو أراد الله أن يبعث الينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا مالا، وأحسن حالا. فهلا انزل هذا القرآن – الذي تزعم أن الله أنزله اليك وبعثك رسولا – على رجل من القريتين عظيم، إما الوليد بن مغيرة بمكة، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: فهل بقي من كلامك شئ يا عبد الله ؟ قال: بلى لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا بمكة هذه، فإنها ذات أحجار وعرة وجبال، تكسح أرضها وتحفرها، وتجري فيها العيون فإنا إلى ذلك محتاجون، أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمها، وتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإنك قلت لنا: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم، فلعلنا نقول ذلك. ثم قال: ولن نؤمن لك أو تأتي بالله والملائكة قبيلا تأتي بهم وهم لنا مقابلون أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا فلعلنا نطغى فإنك قلت لنا: كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى. ثم قال: أوترقى في السماء ولن نؤمن لصعودك حتى تنزل علينا كتابا من الله العزيز الحكيم، إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد ابن عبد الله بن عبد المطلب، فإنه رسولي، وصدقوه في مقاله فإنه من عندي.


[ 508 ]

ثم لامري يا محمد إذافعلت هذا كله اؤمن بك أو لا اؤمن بك، لو رفعتنا إلى السماء، وفتحت أبوابها، ودخلناها لقلناإنما سكرت أبصارنا وسحرتنا.. فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اللهم أنت السامع لكل صوت، والعالم بكل شئ، تعلم ما قاله عبادك.. وأما قولك: إن هذا ملك الروم، وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال.. فإن الله له التدبير والحكم، لا يفعل على ظنك وحسابك واقتراحك، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.. فلو كان النبي صاحب قصور يحتجب فيها، أو عبيد وخدام يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والامور تتباطأ ؟ وأما قولك لي: ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده فالملك لا تشاهده حواسكم، لانه من جنس هذا الهواء لاعيان منه، ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم: ليس هذا ملك بل هذا بشر لانه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقاله.. وأما قولك: ما أنت إلا رجلا مسحورا فكيف أكون كذلك وأنتم تعلمون أني في التمييز والعقل فوقكم، فهل جربتم علي مذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة جريرة أو كذبة أوخنى، أو خطأ من القول أو سفها من الرأي ؟ أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته.. ؟. وأما قولك: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.. فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت، ولا خطر له عنده كماله عندك.. وليس هو عز وجل مما يخاف أحدا كما تخافه لما له وحاله. وأما قولك: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا، إلى آخر ما قلته، فإنك اقترحت على محمد رسول الله أشياء: منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته، ورسول الله يرتفع أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه. ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك، وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الايمان، لئلا يهلكوابها، فإنما اقترحت هلاكك، ورب العالمين أرحم بعباده، وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما يقترحون، ومنها المحال الذي لا يصح ولا


[ 509 ]

يجوز كونه.. ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد لا تقبل حجة، ولا تصغي لبرهان.. ! فأما قولك: يا عبد الله لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله، أرأيت لو فعلت هذا كنت من أجل هذا نبيا ؟.. فما هو إلا كقولك لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الارض.. أو ليس لك ولاصحابك جنان من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها، وتفجرون خلالها تفجيرا، أفصرتم أنبياء بهذا ؟.. وأما قولك: أو تسقط السماء كما زعمت كسفا.. فإن في سقوط السماء عليكم موتكم وهلاككم، فإنما تريد بهذا من رسول الله أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم بك من ذلك ولا يهلكك، لكنه يقيم عليك حجج الله، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب الاقتراح من عباده، لان العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز من الفساد.. وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم ؟.. فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بينة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه.. ! وأما قولك: أو تأتي بالله والملائكة قبيلا يقابلوننا ونعاينهم، فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به إن ربنا عز وجل ليس كالمخلوقين يجئ ويذهب ويقابل ويتحرك، ويقابل شيئا حتى يؤتى به، فقد سألتم بهذا المحال.. وأما قولك: يا عبد الله أو يكون لك بيت من زخرف – وهو الذهب – أما بلغك أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف ؟ قال: بلى. قال أفصار بذلك نبيا ؟ قال: لا. قال صلى الله عليه واله وسلم فكذلك لا يوجب ذلك لمحمد لو كان له نبوة، ومحمد لا يغتنم جهلك لحجج الله.. ! وأما قولك: يا عبد الله: أو ترقى في السماء، ثم قلت: ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه، يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها، فإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم نزولي، ثم قلت:


[ 510 ]

حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه، من بعد ذلك لا أدري اؤمن بك ؟. فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك.. وقد أنزل الله تعالى علي كلمة جامعة لبطلان ما اقترحته فقال: قل يا محمد سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.. وليس لي أن آمر ربي ولا أنهى ولا أشير.. “. والحديث يشتمل على فوائد كثيرة فليراجعه المتتبع، وفي شأن نزول هذه الآيات روايات عديدة ذكرها ” الطبري ” عند تفسير الآيات المباركة. * * * التعليقة (7) ص 320 تحريف: حديث المتعة في صحيح البخاري روى هذا الحديث: ” كنانغزو مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله ” يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين “. رواها عن البخاري جماعة من المحدثين، والمفسرين، والفقهاء بهذا النص، ولكن الموجود في صحيح البخاري المتداول: الجزء 6 ص 53 يخالف ما ذكره هؤلاء من وجهين: 1 – حذف كلمة: ” ابن مسعود ” من سند الحديث – وقد ذكره معظمهم – لانه كان يقول بجواز المتعة، حتى لا تكون قرينة على أن المراد بهذه الرواية هو جواز نكاح المتعة وترخيصه. 2 – حذف كلمة ” إلى أجل ” من آخر الرواية، لانها صريحة في ترخيص


[ 511 ]

نكاح المتعة، كما فهمها الشراح وفسروها، لان الترخيص في النكاح – في هذا المورد – لا بد وأن يكون ترخيصا لنكاح المتعة، دون النكاح الدائم، خاصة وإن كان المقصود من: ” ليس معنا نساء ” أي نساؤنا وزوجاتنا، لا مطلق النساء، وإلا لم يكن معنى للترخيص في النكاح في تلك الحالة، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض المصادر: ” ليس لنا نساء “. ولدلالة هذه الرواية على نكاح المتعة ادعى غير واحد من الفقهاء نسخ هذا الحكم الثابت في هذه الرواية بتحريم نكاح المتعة بعد ذلك بروايات اخرى تفيد تحريمها. ومع أن ذلك لا يتم لهم لاسباب مرت عليك – عند مناقشة تلك الروايات في آية المتعة – فإن يد التحريف تناولت هذه الرواية فغيرتها عما كانت عليه من الصحة. ألا قاتل الله التحريف، وأهواء المحرفين !. ومن المحدثين، والمفسرين، والفقهاء الذين رووا الحديث المذكور عن البخاري على وجه الصحة، هم: (أ) البيهقي: في سننه الجزء 7 الصفحة 200 طبعة حيدر آباد (ب) السيوطي: في تفسيره ” 2 ” 207 ” الميمنية بمصر (ج) الزيلعي: في نصب الراية ” 3 ” 180 ” دار التأليف ” (د) ابن تيمية: في المنتقى ” 2 ” 517 ” الحجازي ” (ه‍) ابن القيم: في زاد المعاد ” 4 ” 8 ” محمد علي صبيح ” (و) القنوجي: في الروضة الندية ” 2 ” 16 ” المنيرية ” (ز) محمد بن سليمان: في جمع الفوائد ” 1 ” 589 ” دار التأليف ” ولهذه الرواية مصادر اخرى وهي: (ح) مسند أحمد: الجزء 1 الصفحة 420 طبعة مصر 1313 (ط) تفسير القرطبي: ” 5 ” 130 ” ” 1356 (ي) تفسير ابن كثير: ” 2 ” 87 ” ” علي البابي


[ 512 ]

(ك) أحكام القرآن: الجزء 2 الصفحة 184 طبعة مصر 1347 (ل) الاعتبار للحازمي: ” – ” 176 ” حيدر آباد وهناك مصادر اخرى كصحيح أبي حاتم البستي وغير ذلك من امهات المصادر. * * * التعليقة (8) ص 331 رأي: محمد عبده في الطلاق الثلاث فإنه بعدما اثبت أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة، قال: ” وليس المراد مجادلة المقلدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فيها، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها، ولا يبالي بها، لان العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله “. تفسير المنار. الجزء 1 ص 386. وليته ذكر مثل هذا الكلام في بحث المتعة، وذلك لما عرفت أن نكاح المتعة قد ثبت في الشريعة الاسلامية دن أن يثبت له ناسخ، فلم يبق للقائلين بتحريمه غير اتباع أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله وسلم !. * * * التعليقة (9) ص 385 اختلاق: الرازي نسبة الجهل إلى الله ومن الذين لم يثبتوا ولم يتوقفوا الفخر الرازي عند تفسيره قوله تعالى:


[ 513 ]

” يمحو الله ما يشاء ويثبت.. ” قال: قالت الرافضة: البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئا، ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده. انتهى. سبحانك اللهم إن هذا إلا اختلاق. وقد حكى الرازي في خاتمة كتاب المحصل عن سليمان بن جرير كلاما يقبح منه ذكره ولا يحسن مني سطره. وإن هذه الكلمة قد صدرت على أثر كلمة اخرى تشابهها تفوه بها بعض النصارى في حق الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم حينما جاء بأحكام ناسخة لما جاء به قبلها ” كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون “. * * * التعليقة (10) ص 386 أحاديث: مشيئة الله في خلقه روى الصدوق في كتابي التوحيد ومعاني الاخبار بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في قول الله عز وجل: ” وقالت اليهود يد الله مغلولة “: لم يعنوا أنه هكذا، ولكنهم قالوا: قد فرغ من الامر، فلا يزيد ولا ينقص، فقال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم: ” غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ” ألم تسمع الله عز وجل يقول: ” يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب “. وروى العياشي عن يعقوب بن شعيب، وعن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام نحو ذلك، هذه الروايات وغيرها مما نذكره في هذا الفصل موجودة في كتاب البحار لشيخنا المجلسي الجزء 2 ص 131 – 142. * * * (البيان – 33)


[ 514 ]

التعليقة (11) ص 393 أحاديث: ان الدعاء يغير القضاء روى سليمان، قال: قال رسول الله لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، رواه الترمذي، باب ما جاء: لا يرد القدر إلا الدعاء الجزء 8 ص 350. وروى ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وان الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها. رواه ابن ماجة: باب في القدر الجزء 1 ص 24. ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ولم يتعقبه الذهبي الجزء 1 ص 493، ورواه أحمد في مسنده الجزء 5 ص 277، 280، 282. والروايات بهذا المعنى كثيرة تطلب من مظانها. * * * التعليقة (12) ص 434 أهمية: آية البسملة قد أوضحنا في بحث الاعراب – ص 459 – ان إضافة اسم إلى الله إضافة معنوية، وأن كلمة ” الله ” مستعملة في معناها، وعليه فقد استعملت كلمة ” اسم ” في معناها الجامع القابل للصدق على جميع أسمائه تعالى، فهو من باب ذكر المفهوم والاشارة به إلى المصداق. وبما أن الاسم الاعظم أشرف المصاديق فلا محالة أن يكون أولى وأحق بانطباق المفهوم عليه. وبهذا يتضح معنى كون ” بسم الله ” أقرب إلى الاسم الاعظم من سواد العين إلى بياضها: فإن القرب بينهما قرب ذاتي، إذا المفهوم متحد مع مصداقه خارجا، وقرب سواد العين إلى بياضها قرب مكانها، والاتحاد بينهما وضعي.


[ 515 ]

التعليقة (13) ص 434 معرفة: بدء الخليقة في الكتاب التكويني قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: أول ما خلق الله نوري. البحار: باب حقيقة العقل وكيفيته وبدء خلقه الجزء 1 ص 33. وروى محمد بن سنان قال: ” كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فقال يا محمد: إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة فمكثوا ألف دهر.. ” اصول الكافي باب تاريخ مولد النبي ص 239، والوافي باب بدء خلق المعصومين الجزء 2 ص 155. * * * التعليقة (14) ص 444 أحاديث: ان البسملة جزء من القرآن روى البيهقي بإسناده عن ام سلمة: ” أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية.. ” ورواه الحاكم في المستدرك الجزء 1 ص 232 وقال: صحيح على شرط الشيخين. وعن عبد خير، قال: ” سئل علي عن السبع المثاني، فقال: الحمدلله، فقيل له: إنما هي ست آيات، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية. ورواها عن أبي هريرة أيضا. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه كان يقول: ” الحمد لله رب العالمين سبع آيات، إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم… ” وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يستفتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ” ورواها الترمذي أيضا الجزء 2 ص 44 “.


[ 516 ]

وعن ابن عمر: أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، فإذا فرغ قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. قال: وكان يقول لم كتبت في المصحف إن لم تقرأ ؟ ! إلى غير ذلك من الروايات. راجع الجزء الثاني من سنن البيهقي ص 43 – 47. وفي كنز العمال في فضل فضائل السور والآيات الجزء 2 ص 190 وفي باب: البسملة آية ص 375: روى الثعلبي عن علي عليه السلام أنه كان أذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص وكان يقول: هي تمام السبع المثاني. * * * التعليقة (15) قصة: نسيان معاوية قراءة البسملة روى البيهقي الجزء 2 ص 49 بإسناده عن أنس بن مالك أنه قال: ” صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهرفيها بالقراءة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لان المقرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم، ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت ؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين يهوي ساجدا ” ورواها بطريق آخر، غير أنه قال: فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لام القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، وزاد ” الانصار “. ورواها الحاكم في المستدرك الجزء 1 ص 233 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. * * *


[ 517 ]

التعليقة (16) ص 444 قراءة النبي البسملة وتوجيه رواية أنس تقدمت إحدى هذه الروايات في ص 444، وروى قتادة عن أنس: أن قراءة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كانت مدا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم ” سنن البيهقي – باب افتتاح القراءة في الصلاة ببسم الله – الجزء 2 ص 46، والمستدرك، حديث الجهر ببسم الله الجزء 1 ص 233 “. وروى شريك عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يجهر بسم الله الرحمن الرحيم. قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. وروى العسقلاني قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة ابي وقال ابي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات ” المستدرك الجزء 1 ص 233 – 234 “. وروى أبو نعامة عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبو بكر وعمر لا يقرأون يعني لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ” سنن البيهقي – باب من قال لا يجهر بها – الجزء 2 ص 52 “. أقول: يمكن أن يكون المراد من رواية أنس المتقدمة – التي استدلوا بها على أن البسملة ليست من القرآن – أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومن بعده لم يجهروا بالبسملة، والقرينة على ذلك هذه الرواية الاخيرة، ويؤيد هذا أن أنس قد عبر في الرواية المتقدمة بعدم سماعه القراءة، بل وفي بعض روايات أنس قال: فلم


[ 518 ]

أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي بعضها قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم.. ” سنن النسائي – باب ترك الجهر ببسم الله – الجزء 1 ص 144 ” وعليه فلا معارضة بين رواية أنس المتقدمة وما ذكرناه من الروايات الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومن بعده كانوا يقرأونها. نعم ذكر في رواية واحدة: أنهم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها ” صحيح مسلم – باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة – الجزء 2 ص 12، إلا أن في سند هذه الرواية الوليد بن مسلم القرشي، وفي وثاقته كلام، بل صرح غير واحد بكثرة خطئه، أو تدليسه ” راجع تهذيب التهذيب “. وأما رواية قتادة عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبو بكر وعمرو عثمان يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ” الترمذي باب ما جاء في افتتاح القراءة بالحمد – الجزء 2 ص 45، وسنن أبي داود باب الجهر ببسم الله – الجزء 1 ص 125 وقريب منه ما رواه النسائي باب البداءة بفاتحة الكتاب الجزء 1 ص 143 “. فهذه الرواية محمولة على أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومن بعده كانوا يبدأون بقراءة فاتحة الكتاب، وقد أطلق جملة: الحمد لله رب العالمين على سورة فاتحة الكتاب ووقع مثل ذلك في بعض الروايات المتقدمة، وعلى ذلك حملها الشافعي أيضا. * * * التعليقة (17) ص 470 ابن تيمية ونقله أحاديث جواز زيارة القبور إن كثرة الروايات في المقام، واستفاضتها أغنتنا عن ذكرها، إلا أننا نذكر بعض ما رواه عبد السلام بن عبد الله بن تيمية جد أحمد بنفسه في كتابه ” المنتقى من أخبار المصطفى ” وبعض ما رواه غيره:


[ 519 ]

1 – روى عن بريدة، قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكرة الآخرة ” قال: رواه الترمذي وصححه. 2 – وعن أبي هريرة، قال: ” زار النبي صلى الله عليه واله وسلم قبر امه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت “. قال: رواه الجماعة. 3 – وعن عبد الله بن أبي مليكة: ” إن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن زيارة القبور ؟ قالت: نعم. كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها ” قال: رواه الاثرم في سننه. أقول: قال الشيخ محمد حامد الفقي في تعليقه على الكتاب، ورواه ابن ماجة، والحاكم، والبغوي في شرح السنة. 4 – عن أبي هريرة: ” ان النبي صلى الله عليه واله وسلم أتى المقبرة، فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ” قال: رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. ولاحمد من حديث عائشة مثله، وزاد: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. 5 – وعن بريدة، قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ” قال: رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجة – المنتقى – الجزء 2 ص 116.


[ 520 ]

6 – روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي “. رواه الطبري في الاوسط، والبيهقي في السنن. 7 – وروى أيضا عنه صلى الله عليه واله وسلم: ” من زار قبري وجبت له شفاعتي “. رواه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في شعب الايمان. 8 – روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة “. رواه البيهقي في شعب الايمان – كنز العمال فضل زيارة القبور الجزء 8 ص 99. 9 – روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ” ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلم عليه ويقعد عنده إلا رد عليه السلام وأنس به، حتى يقوم من عنده “. رواه أبو الشيخ، والديلمي. 10 – وروى أيضا عنه صلى الله عليه واله وسلم: ” ما من رجل يمر بقبر كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام “. رواه تمام، وخطيب، وابن عساكر، وابن النجار. قال في كنز العمال: وسنده جيد. والروايات التي جمعها في كنز العمال الجزء 8 ص 99 وما بعدها وص 125 وما بعدها يقرب من ثمانين رواية، من أراد الاطلاع عليها فليراجعها. 11 – روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: ” ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام “. سنن البيهقي باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم الجزء 5 ص 245. 12 – روى ابن عمر في استلام الحجر، قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يستلمه ويقبله، فقال – السائل -: أرأيت إن زحمت ؟ أرأيت إن غلبت ؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يستلمه ويقبله “. رواه البخاري في الصحيح عن مسدد.


[ 521 ]

13 – روى ابن عباس، قال: ” رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فعل كذا “. قلت رواه الطيالسي وغيره. 14 – وروى أبو جعفر: ” أن ابن عباس قبل الركن، ثم سجد عليه، ثم قبله، ثم سجد عليه ثلاث مرات “. 15 – روى عكرمة عن ابن عباس، قال: ” رأيت النبي صلى الله عليه واله وسلم يسجد على الحجر ” سنن البيهقي باب السجود عليه – على الحجر – الجزء 5 ص 74، 75. 16 – روى داود بن أبي صالح، قال: ” أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع ؟ قال: نعم. فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الانصاري – رضي الله عنه – فقال: جئت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله “. رواه الحاكم في المستدرك الجزء 4 ص 515، وصححه ولم يعقبه الذهبي. وروى ابن تيمية روايات تقبيل الحجر واستلامه، ووضع الخد عليه في المنتقى الجزء 2 ص 261، 262، 263. 17 – وأخرج الحافظ ابن عساكر. ” أن فاطمة جاءت، فوقفت على قبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأخذت قبضة من تراب القبر، فوضعت على عينيها وبكت: 18 – وأخرج أيضا: ” أن أعرابيا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم، وحثا من ترابه على رأسه، وخاطبه وقال: وكان فيما انزل عليك: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك.. وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غفر لك. وكان هذا بمحضر من علي أمير المؤمنين “.


[ 522 ]

19 – وأخرج أيضا: ” أن بلالا أتى قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم وجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما ” الغدير الجزء 5 ص 127 – 128. * * * التعليقة (18) ص 472 تهمة الآلوسي للشيعة ونظير الاتهام المذكور في (ص 472) ما ذكره الآلوسي عند تفسير قوله تعالى: ” كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ” من أن الشيعة يجوزون الاكل والشرب إلى طلوع الشمس. ولست أدري إلى أي سناد استند في هذه النسبة، وهو في بغداد عاصمة العراق، والعراق مقر الشيعة قديما وحديثا، ولا سيما أن المشاهد المشرفة قريبة من بغداد، وقل من يوجد من غير الشيعة فيها. أضف إلى ذلك أن الآلوسي لم يكن بعيدا من كتب الشيعة ومؤلفاتها. ولعمري: إن هذه النسبة وأمثالها هي التي فرقت بين المسلمين، وحكمت عليهم أعداءهم. ولعلها كانت دسائس أجنبية. * * * التعليقة (19) ص 472 حوار بين المؤلف وعالم حجازي لقيت شيخا فاضلا يدعى بالشيخ زين العابدين في المسجد النبوي الشريف


[ 523 ]

سنة تشرفي بحج بيت الله الحرام 1353 يترصد لمن يسجد على التربة فيأخذها منه فقلت له: يا شيخ أما حرم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم التصرف في مال المسلم بغير إذنه ورضاه ؟ قال: نعم. قلت: فلما ذا تسلب هؤلاء المسلمين أموالهم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ؟ قال: هم مشركون اتخذوا التربة صنما يسجدون لها. قلت: أتسمح لي بالمذاكرة حول هذا الموضوع ؟ قال: لا بأس. فشرعنا في المذاكرة والمناظرة حتى انتهى الامر إلى أن اعتذر عما ارتكبه، واستغفر الله ربه، وقال: إني كنت رجلا التبس عليه الامر. ثم التمسني المذاكرة معه في مواضيع شتى فكان ينعقد مجلس لمحاضرتي في المسجد النبوي كل ليلة، وبقينا زهاء عشر ليال نجتمع فيه ونحن جماعة مختلطة من مختلف المذاهب، وتجري المناظرة بيني وبين الشيخ حول تلك المواضيع، وكانت عاقبة الامر أن تبرأ الشيخ مما كان يعتقد في حق الشيعة، ووعدني أن ينشر محاضراتي في جريدة ” ام القرى ” ليتبين الامر لغير المعاندين للحق، ممن التبس عليهم الامر، وأن يبعث إلي نسخة من تلك الجريدة، إلا أنه لم يف بوعده ولعل الظروف لم تساعده، وحالت الاوضاع بينه وبين ما يريد. * * * التعليقة (20) ص 473 فضيلة: تربة الحسين روى أبو يعلى في مسنده، وابن أبي شيبة وسعيد عن منصور في سننه عن مسند علي، قال: ” دخلت على النبي صلى الله عليه واله وسلم: ذات يوم، وعيناه تفيضان قلت: يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال: بلى قام من عندي جبرئيل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، فقال: هل لك إلى أن أشمك من تربته


[ 524 ]

قلت: نعم، فمد يده، فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا “. وروى الطبراني في ” الكبير ” عن ام سلمة، قالت: اضطجع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذات يوم فاستيقظ وهو خائر النفس، وفي يده تربة حمراء يقلبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله ؟ قال: أخبرني جبرئيل أن هذا يقتل بأرض العراق ” للحسين ” فقلت لجبرئيل: أرني تربة الارض التي يقتل بها، فهذه تربتها، ورواها ابن أبي شيبة عن ام سلمة مع اختلاف في ألفاظها، وروى ابن ماجة والطيالسي وأبو نعيم ما يقرب منها عن ام سلمة. وروى أبو نعيم عن أنس ما يقرب من مضمونها أيضا، ” كنز العمال الجزء 7 الصفحة 105، 106 “. التعليقة (21) ص 474 تأويل: آية السجود بالكشف قال الحسن بن منصور: ” لما قبل لابليس: اسجد لآدم، خاطب الحق فقال: ارفع شرف السجود عن سري إلا لك في السجود حتى أسجد له، إن كنت أمرتني فقد نهيتني، فقال له: فإني اعذبك عذاب الابد، فقال: أو لست تراني في عذابك لي ؟ فقال: بلى، فقال: فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب افعل بي ما شئت “. تفسير ابن روزبهان الصفحة 21 طبعة الهند. أقول: فلتقر عيون أصحاب الكشف – ابن روزبهان وأمثاله – بهذه المكاشفة ونظائرها المخالفة لحكم العقل، وصريح القرآن، وضرورة الدين.


[ 525 ]

التعليقة (22) ص 475 حديث: ابليس مع الله عن الصادق عليه السلام: ” قال إبليس: رب اعفني من السجود لآدم، وأنا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فقال جل جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث اريد، لا من حيث تريد ” تفسير الصافي، عند تفسير قوله تعالى: فسجدوا إلا إبليس، ص 26. وقال عليه السلام – أيضا – في جواب سؤال الزنديق: ” كيف أمر الله الملائكة لآدم: إن من سجد بأمر الله فقد سجد لله، فكان سجوده الله إذا كان عن أمر الله ” البحار – باب سجود الملائكة ومعناه، الجزء 5 ص 37. * * * التعليقة (23) ص 476 الاسلام: يدور مدار الشهادتين روى سماعة عن الصادق عليه السلام: ” الاسلام شهادة أن لاإله إلا الله، والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث ” الوافي باب ان الايمان أخص من الاسلام الجزء 3 ص 18. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: ” اقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ” ورواها


[ 526 ]

جابر وعبد الله بن عمر باختلاف يسير – صحيح مسلم باب الامر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله الجزء 1 ص 39. قال في ” تيسير الوصول ” بعد رواية عبد الله بن عمر: أخرجه الشيخان – الجزء 1 ص 20 وهذه الرواية رواها الترمذي عن أبي هريرة، باب ما جاء أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الجزء 10 ص 68، ورواها النسائي عن أنس أيضا – كتاب ” تحريم الدم ” الجزء 2 ص 161، وباب على ما يقاتل الناس ص 269، ورواها أحمد في مسنده الجزء 2 ص 345، 528 عن أبي هريرة والجزء 3 ص 199، 224 عن أنس والجزء 5 ص 246 عن معاذ بن جبل. وص 433 ما يؤدي معناها عن عبيد الله بن عدي، قال في ” تيسير الوصول ” الجزء 1 ص 20 بعد رواية عبيد الله أخرجه مالك. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: ” امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ” صحيح البخاري باب قتل من أبي قبول الفرائض الجزء 8 ص 50، ورواها مسلم أبو داود وابن ماجة والترمذي والنسائي وأحمد والطيالسي. وروى أوس بن أوس الثقفي، قال: ” دخل علينا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ونحن في قبة في مسجد المدينة، فأتاه رجل فساره بشئ لا ندري ما يقول، فقال صلى الله عليه واله وسلم اذهب قل لهم يقتلوه، ثم دعاه فقال: لعله يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: نعم، فقال: اذهب فقل لهم يرسلوه، أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وكان حسابهم على الله. رواها أبو داود الطيالسي وأحمد والدارمي والطحاوي ” كنز العمال في حكم الاسلام طبعة دائرة المعارف العثمانية الجزء 1 ص 375 “. * * *


[ 527 ]

التعليقة (24) ص 478 العبادة: وأقسام دوافعها روى محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إن العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفا، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبا للثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له، فتلك عبادة الاحرار، وهي أفضل العبادة “. وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام ما يقرب من ذلك وقال علي عليه السلام في ” نهج البلاغة “: ” أن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار ” الوسائل مقدمة العبادات، باب ما يجوز قصده من غايات النية الجزء 1 ص 10. * * * التعليقة (25) ص 480 الامر بين الامرين وحسنات الناس وسيئاتهم روى الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: ” سألته فقلت: الله فوض الامر إلى العباد ؟ قال: الله أعز من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي ؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك. قال ثم قال: قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أول بسيئاتك مني. عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك ” الوافي باب الخير والقدر الجزء 1 ص 119. * * *


[ 528 ]

التعليقة (26) التعليقة (26) ص 482 مصادر: رواية الشفاعة هذه الرواية: ” لكل نبي دعوة وأردت إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة ” مذكور في صحيح البخاري، كتاب الدعوات باب 1 الجزء 7 ص 145، وصحيح مسلم باب اختباء النبي دعوة الشفاعة لامته الجزء 1 ص 130، 131. وأخرجها عن أنس وعن جابر أيضا وأخرجها مالك في الموطأ عن أبي هريرة باب ما جاء في الدعاء الجزء 1 ص 166 طبعة مصطفى محمد المشروحة. وأخرجها ابن ماجة في سننه باب ذكر الشفاعة الجزء 2 ص 301 طبعة المطبعة العلمية بمصر. وأخرجها أحمد في مسنده عن أبي هريرة الجزء 2 ص 275، 313، 381، 396، 409، 426، 430، 486، وعن أبي سعيد الخدري الجزء 3 ص 2، وعن أنس الجزء 3 ص 134، 208، 218، 209، 258، 276، 292، وعن جابر الجزء 3 ص 384، 396، وعن أبي ذر: الجزء 5 ص 148. * * * الحمد لله على ما أنعم علينا بنشر هذا القسم من الكتاب، راجين منه سبحانه أن ينفع به المسلمين وغيرهم، ويجعله وسيلة إلى معرفة القرآن، وفهم أسراره ومغازيه. نسأله التوفيق لاكمال هذا التفسير، فإنه غاية السول، ومنتهى المأمول. والله ولي التوفيق. المؤلف * * *

اترك تعليقاً