الأمالي

السيد المرتضى ج 1


[ 1 ]

* (الجزء الاول من كتاب) * امالي السيد المرتضى * (الشريف أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين المتوفى سنة 436 رضى الله عنه) * * (في التفسير والحديث والادب) * (الطبعة الاولى) (سنه 1325 ه‍ سنة 1907 م) (علي نفقة احمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه) حقوق الطبع محفوظة) صححه وضبط ألفاظه وعلق حواشيه (السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي) منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم – ايران 1403 ه‍ ق


[ 2 ]

بسم الله الرحمن الرحيم (الحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين) قال السيد المرتضى علم الهدى ذو المجدين أبو القاسم علي بن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن ابراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وقدس الله أرواحهم (المجلس الاول 1) [ تأويل آية ].. قال الله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) الآية.. في هذه الاية وجوه عدة من التأويل كل منها يبطل الشبهة الداخلة على بعض المبطلين فيها حتى عدلوا بتأويلها عن وجهه وصرفوه عن بابه.. أولها ان الاهلاك قد يكون حسنا وقد يكون قبيحا فإذا كان مستحقا أو على سبيل الامتحان كان حسنا وانما يكون قبيحا إذا كان ظلما فتعلق الارادة به لا يقتضي تعلقها به على الوجه القبيح ولا ظاهر الآية يقتضي ذلك إذا علمنا بالأدلة تنزيه القديم تعالى عن القبائح علمنا أن الارادة لم تتعلق إلا بالاهلاك الحسن.. وقوله تعالى * (أمرنا مترفيها) * المأمور به محذوف وليس يجب أن يكون المأمور به هو الفسق وان وقع بعده ويجري هذا مجرى قول القائل أمرته فعصى ودعوته فأبى والمراد إنني أمرته بالطاعة ودعوته الى الاجابة والقبول.. ويمكن أن يقال على هذا الوجه ليس موضع الشبهة ما تكلمتم عليه وانما موضعها أن يقال أي معنى لتقدم الارادة فان كانت متعلقة بإهلاك مستحق


[ 3 ]

بغير الفسق المذكور في الآية فلا معنى لقوله تعالى إذا أردنا أمرنا لان أمره بما يأمر به لا يحسن ارادته العقاب المستحق بما تقدم من الافعال وان كانت الارادة متعلقة بالاهلاك بمخالفة الامر المذكور في الآية فهذا الذي يأبونه لأنه يقتضي أنه تعالى مريد لاهلاك من لم يستحق ذلك العقاب.. والجواب عن ذلك انه تعالى لم يعلق الارادة الا باهلاك مستحق بما تقدم من الذنوب والذي حسن قوله تعالى وإذا أردنا أمرنا هو ان يكون الامر بالطاعة والايمان اعذارا الى العصاة وانذارا لهم وايجابا واثباتا للحجة عليهم حتى يكونوا متى خالفوه وأقاموا على العصيان والطغيان بعد تكرار الوعظ والوعيد والانذار ممن يحق عليه القول وتجب عليه الحجة ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى قبل هذه الآية * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *.. والوجه الثاني في تأويل هذه الآية ان يكون قوله تعالى أمرنا مترفيها من صفة القرية وصلتها ولا يكون جوابا لقوله تعالى وإذا أردنا ويكون تقدير الكلام وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها انا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وتكون إذا علي هذا الجواب لم يأت لها جواب ظاهر في الآية للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه.. ونظير هذا قوله تعالى في صفة الجنة * (حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأور ثناالارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) * ولم يأت لا ذا جواب في طول الكلام للاستغناء عنه ويشهد أيضا لصحة هذا الجواب قول الهذلي حتى إذا سلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا (1) فحذف جواب إذا ولم يأت به لأن هذا البيت آخر القصيدة.. والوجه الثالث ان يكون ذكر الارادة في الآية مجازا واتساعا وتنبيها على المعلوم من حال القوم وعاقبة أمرهم وانهم متى امروا فسقوا وخالفوا ويجري ذكر الارادة ههنا مجرى قولهم إذا


(1) – قتائدة – ثنية أو عقبة أو كل ثنية قتائدة – وشلا – طردا – وشردا – جمع شرود وشار د وهو النافر.

[ 4 ]

أراد التاجر ان يفتقر أتته النوائب من كل وجهة وجاءه الخسران من كل جانب.. وقولهم إذا أراد العليل أن يموت خلط في مأكله وتسرع الي كل ما تتوق إليه نفسه ومعلوم ان التاجر لم يرد في الحقيقة شيئا ولا العليل أيضا لكن لما كان المعلوم من حال هذا الخسران ومن حال هذا الهلاك حسن هذا الكلام واستعمل ذكر الارادة لهذا الوجه وكلام العرب وحي واشارات واستعارات ومجازات ولهذا الحال كان كلامهم في المرتبة العليا من الفصاحة فان الكلام متى خلا من الاستعارات وجرى كله على الحقيقة كان بعيدا من الفصاحة بريا من البلاغة وكلام الله تعالى أفصح الكلام.. والوجه الرابع ان تحمل الآية على التقديم والتأخير فيكون تلخيصها إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة فعصوا واستحقوا العقاب أردنا اهلاكهم والتقديم والتأخير في الشعر وكلام العرب كثير ومما يمكن ان يكون شاهدا لصحة هذا التأويل من القرآن قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق) * والطهارة انما تجب قبل القيام الى الصلاة وقوله تعالى * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) * وقيام الطائفة معه يجب ان يكون قبل اقامة الصلاة لان إقامتها هي الاتيان بجميعها على الكمال أما قراءة من قرأ الآية بالتشديد فقال أمرنا وقرأ من قرأها بالمد والتخفيف فقال آمرنا فلن يخرج معنى قراءتهما عن الوجوه التي ذكرناها الا الوجه الاول فان معناه لا يليق الا بان يكون ما تضمنته الآية هو الامر الذي يستدعي به الى الفعل [ تأويل خبر ].. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه: قال من تعلم القرآن ثم نسيه لقى الله وهو أجذم: قال أبو عبيد القاسم بن سلام مفسرا لهذا الحديث في كتابه غريب الحديث الاجذم المقطوع اليد واستشهد بقول المتلمس وما كنت الا مثل قاطع كفه بكف له اخرى فأصبح أجذما (1) وقد خطأ عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبا عبيد في تأويله هذا الخبر.. وقال الاجذم


(1) الملتمس هو عدي بن عبد المسيح وهو صاحب الصحيفة المشهورة التى يضرب بها المثل ورفيق طرفة الي عامل البحرين وقصتهما مشهورة وهذا البيت من قصيدة له تعد في.

[ 5 ]

وان كان مقطوع اليد فان هذا المعني لا يليق بهذا الموضع قال لان العقوبات من الله لا تكون الا وفقا للذنوب وبحسبها واليد لا مدخل لها في نسيان القرآن فكيف يعاقب فيها واستشهد بقوله تعالى * (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * وزعم ان تأويل الاية أن الربا إذا أكلوه ثقل في بطونهم وربا في أجوافهم فجعل قيامهم مثل قيام من يتخبطه الشيطان تعثرا وتخبلا واستشهد أيضا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم وكلما قرضت وفيت فقلت يا جبريل من هؤلاء فقال لي جبريل هؤلاء خطباء أمتك تقرض شفاههم لانهم يقولون ما لا يفعلون.. قال والاجذم في الخبر انما هو المجذوم وانما جاز ان يسمى المجذوم أجذم لأن الجذام يقطع أعضاءه ويشذ بها والجذم القطع.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه وقد أخطأ الرجلان جميعا وذهبا عن الصواب ذهابا بعيدا وان كان غلط ابن قتيبة أفحش وأقبح لانه علل غلطه فأخرجه الى أغاليط كثيرة ونحن نبين معنى الخبر ثم نتكلم على ما أورداه.. أما معنى الخبر فهو ظاهر لمن كان له أدنى معرفة بمذاهب العرب في كلامها وإنما أراد عليه الصلاة والسلام بقوله يحشر أجذم المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال وفقد ما كان عليه بالقرآن من الزينة والجمال والتشبيه له بالاجذم من حسن التشبيه وعجيبه لأن اليد من الأعضاء الشريفة التي لا يتم كثير من التصرف ولا يوصل الى كثير من المنافع الا بها ففاقدها يفقد ما كان عليه من الكمال وتفوته المنافع والمرافق التي كان يجعل يده ذريعة الى تناولها وهذه حال ناسى القرآن ومضيعه بعد حفظه لأنه يفقد ما كان لابسا له من الجمال ومستحقا له


جيد شعر العرب وبعده يداه أصابت هذه حتف هذه فلم تجد الأخرى عليها مقدما فلما استقاد الكف بالكف لم يجد له در كافي أن تبينا فأحجما فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغا لناباه الشجاع لصمما لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الانسان الا ليعلما وقوله لناباه جعله بالالف وتلك طريقة لهم في الزام المثنى الالف في حالاته الثلاث.

[ 6 ]

من الثواب وهذه عادة للعرب في كلامهم معروفة يقولون فيمن فقد ناصره ومعينه فلان بعد فلان أجدع وقد بقي بعده أجذم وقال الفرزدق يرثي مالك بن مسمع تضعضع طودا وائل بعد مالك وأصبح منها معطس العز أجذعا وانما أراد المعنى الذي ذكرناه وللعرب ملاحن في كلامها واشارات الى الأغراض وتلويحات بالمعاني متى لم يفهمها ويتسرع الي الفطنة لها من تعاطي تفسير كلامهم وتأويل خطابهم كان ظالما نفسه متعديا طوره ونعود الى الكلام على ما ذكره الرجلان.. أما أبو عبيد فان خطأه من حيث لم يفطن للغرض من الخبر فضل عن وجه والا فالاجذم هو الاقطع لا محالة كما قال الا انه لا يليق بهذا الموضع فإذا حمل عليه لم يفد شيئا فان كانت شبهته التي أوقعته في ذلك ظنه ان ذلك يكون على سبيل العقوبة على نسيان القرآن فليس كما ظن لأن الجذم أولا ليس بعقوبة لان الله تعالى قد يجذم أولياءه والصالحين من عباده ويقطع أعضاءهم بالامراض وقد يبتدأ خلق منه هو ناقص الاعضاء فليس بلازم في الجذم ان يكون عقوبة ثم لو كان يستحق ناسي القرآن عقوبة على نسيانه لكان حفظ القرآن بأسره فرضا واجبا وحتما لازما لان العقوبة لا تستحق بترك ما ليس بواجب وليس حفظ جميع القرآن كذلك.. وأما ابن قتيبة فانه غلط من حيث لم يفطن للوجه في الخبر الذي ذكرناه ومن حيث ظن ان العقوبة لا تكون الا في محل الذنب وهذا القول يوجب عليه أن لا يجلد ظهر الزاني وتختص العقوبة بفرجه وكذلك القاذف كان يجب أن يعاقب في لسانه دون سائر أعضائه والخبر الذي استشهد به حجة عليه لانا نعلم ان اللسان أقوى حظا في باب الكلام من الشفة فلم لم يخص بالعقوبة وحلت بالشفاه دونه.. ثم غلطه في تأويل الآية التي أوردها أقبح من كل ما تقدم لانه توهم أنما تضمنته الآية من تخبط آكل الربا وتعثره في القيام انما هو في الدنيا من حيث يثقل ما أكله في معدته فيمنعه من النهوض ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك ونجد كثيرا من آكلي الربا أخف نهوضا وأسرع قياما وتصرفا من غيرهم ممن لم يأكل الربا قط والمعنى في الاية هو ما ذكره المفسرون من ان ما وصفهم الله تعالى به يكون عند قيامهم من قبورهم فيلحقهم العثار


[ 7 ]

والزلل والتخبل على سبيل العقوبة لهم وليكون ذلك أيضا أمارة لمن يعاقبهم من الملائكة والخزنة على الفرق بين الولي والعدو ومستحق الجنة ومستحق النار وليس بمعروف ولا ظاهر ان الأجذم هو المجذوم.. ورد ان قتيبة معناه واشتقاقه الى الجذم الذي هو القطع يوجب عليه أن يكون كل داء يقطع الجسد ويفرق الأوصال كالجدري والأكلة وغيرهما يسمى جذاما ويسمى من كان عليه أجذم وهذا باطل.. وأما قول الشاعر حيث يقول وحرق قيس علي البلاد حتى إذا اضطرمت أجذما فليس هو من هذا الباب بل هو من الاجذام الذي هو الاسراع فكأنه قال لما اضطرمت أسرع عنى وتباعد مني (1) والاجذام بالذال المعجمة والدال غير المعجمة جمعا الاسراع.. وأ ما قول عنترة في وصف الذباب هزجا يحك ذراعه بذراعه قدح المكب على الزناد الأجذم فهو من هذا الباب لأن الأجذم من صفة المكب لا من صفة الزناد فكأنه قال قدح المكب الأجذم وهو من أحسن التشيبه وأوقعه [ مسألة ] (2) كان بعض المشايخ المتقدمين يقول ليس بممتنع أن يمكن الله تعالى من الظلم من يعلم من حاله انه يرد القيامة غير مستحق لشئ من الأعواض أو لما يوازي القدر المستحق عليه منها فإذا أراد الانتصاف منه تفضل عليه بما ينقله الى مستحق العوض ويقول ليس هذا ببعيد ولا مستحيل لأن العوض ليس يختص بصفة تمنع من التفضل بمثله ولا يجري في ذاك مجرى الثواب والمستقر من مذاهب الشيوخ وهو الصحيح ان الانتصاف لا يجوز أن يكون موقوفا على ما يتفضل به لأن الانتصاف واجب على الله تعالى من حيث خلى بين


(1) ويروي البيت (حتى إذا اضطرمت أحجما) أي نكص وتأخر وحاصل المعنى على الروايتين واحد (2) ما ذكر في هذه المسألة مبني على القول بالعدل ووجوب الأصلح على الله تعالى وهي مقالة للمعتزلة ومنهم المؤلف وأهل السنة يخالفونهم فيها فلا تغتر بما تراه هنا وكن منه على حذر.

[ 8 ]

عباده وبين الظلم فلا يجوز أن يتعلق إلا بأمر واجب والتفضل لفاعله أن لا يفعله فتؤول الحال الى تعذر الانتصاف.. وقالوا من يعلم الله انه يرد القيامة ولا أعواض له يمنعه من الظلم ولا يمكنه منه لهذه العلة ويجيزون أن يمكن من الظلم من يكون في الحال غير مستحق للعوض أو غير مستحق للقدر الذي يوازي الظلم من العوض بعد أن يكون المعلوم من حاله انه يرد القيامة وقد يستحق من الأعواض ما يوازي ما عليه منها.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه وهذا القول يعني تجويز تمكين الظالم من الظلم وهو في الحال غير مستحق للعوض يبطل بالعلة التي أبطلنا بها قول من أجاز الانتصاف بالتفضل لأنا نعلم ان تبقية المكلف لا تجب وللقديم تعالى أن لا يفعلها فلو لم يفعلها واخترم هذا الظالم بعد حال ظلمه لكان الانتصاف منه غير ممكن وقد تعلق الانتصاف على هذا القول بما ليس بواجب كما علقه من قدمنا حكاية قوله بما ليس بواجب وليس لهم أن يقولوا ذلك يحسن لأن الله تعالى يعلم انه يبقيه فيستحق أعواضا لأن عليهم مثل ذلك إذا قيل لهم فأجيزوا أيضا أن يرد القيامة وهو لا يستحق العوض ويعلم الله انه يتفضل عليه بما يقع به الانتصاف فإذا قالوا علم الله بأنه يتفضل لا يخرج التفضل من أن يكون غير واجب قيل لهم وعلم الله بأنه يبقى من لا عوض له ليستحق العوض لا يخرج التبقية عن أن تكون غير واجبة فاستوى الأمران والصحيح أن يقال انه تعالى لا يمكن من الظلم من لا عوض له في الحال ليستقيم الكلام ويطرد (مجلس آخر 2) [ 0 تأويل آية ].. قال الله تعالى * (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) *.. وقد ظن قوم من غفلة الملحدة وجها لهم أن الجواب عما سئل عنه في هذه الآية لم يحصل وان الامتناع منه انما هو لفقد العلم به وان قوله تعالى * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما وانما هو على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب.. وفي هذه الآية وجوه من التأويل تبطل ما ظنوه وتدل


[ 9 ]

على ما جهلوه.. أولها انه تعالى انما عدل عن جوابهم لعلمه بأن ذلك أدعى لهم الى الصلاح في الدين وان الجواب لو صدر منه إليهم لازدادوا فسادا وعنادا إذ كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين وليس هذا بمنكر لأنا قد نعلم في كثير من الأحوال فيمن يسألنا عن الشئ ان العدول عن جوابه أولى وأصلح في تدبيره.. وقد قيل ان اليهود قالت لكفار قريش سلوا محمدا عن الروح فأن أجابكم فليس بنبي وان لم يجبكم فهو نبي فانا نجد في كتبنا ذلك فأمره الله تعالى بالعدول عن ذلك ليكون علما ودلالة على صدقه وتكذيبا لليهود الرادين عليه وهذا جواب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الحياني.. وثانيها أن القوم انما سألوه عن الروح وهل هي محدثة مخلوقة أو ليست كذلك فأجابهم بأنها من أمر ربي وهو جوابهم عما سألوه بعينه لأنه لا فرق بين أن يقول في الجواب انها محدثة مخلوقة وبين قوله انها من أمر ربي لانه انما أراد انها من فعله وخلقه وسواء على هذا الجواب أن تكون الروح التي سألوا عنها هي التي بها قوام الجسد أو عيسى أو جبرئيل عليهما السلام وقد سمى الله جبرئيل روحا وعيسى أيضا بذلك مسمى في القرآن.. وثالثها انهم سألوه عن الروح الذي هو القرآن وقد سمى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب فإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب موقعه لأنه قال لهم الروح الذي هو القرآن من أمر ربي ومما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليجعله دلالة له وعلما على صدقه وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم وهذا جواب للحسن البصري ويقويه قوله تعالى بعد هذه الآية * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لا تجد لك علينا وكيلا) * فكأنه تعالى قال ان القرآن من أمري وفعلي ومما أنزلته علما على نبوة رسولي صلى الله عليه وسلم ولو شئت لرفعته وأنزلته وتصرفت فيه كما يتصرف الفاعل فيما يفعله [ فصل ].. قال أبو مسلم محمد بن بحر الآصبهاني في قوله تعالى * (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) * قال انما خص الموزون دون المكيل بالذكر لوجهين.. أحدهما ان غاية المكيل تنتهي الى الوزن لأن سائر المكيلات إذا صارت طعاما دخلت في باب الوزن وخرجت عن باب الكيل فكان الوزن أعم من الكيل.. والوجه الآخر ان في الوزن معنى الكيل لأن الوزن هو طلب (2 – أمالي)


[ 10 ]

مساواة الشئ بالشئ ومقايسته إليه وتعديله به وهذا المعنى ثابت في الكيل وخص الوزن بالذكر لاشتماله على معنى الكيل هذا قول أبي مسلم.. ووجه الآية وما شهد له ظاهر لفظها غير ما سلكه أبو مسلم وانما أراد الله تعالى بالموزون المقدر الواقع بحسب الحاجة فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة أو داخلة في باب العبث ونظير ذلك من كلامهم قولهم كلام فلان موزون وأفعاله مقدرة موزونة وانما يراد ما أشرنا إليه وعلى هذا المعنى تأول المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد التأويلين وانها التعديل والمواساة بين الثواب والعقاب.. قال الشاعر هو ذو الرمة لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي لاهراء ولا نزر – الهراء – الكثير – والنزر – القليل وكأنه قال ان حديثها لا يقل عن الحاجة ولا يزيد عليها وهذا يجرى مجرى أن يقول هو موزون.. وقال مالك (1) بن أسماء بن خارجة الفزارى وحديث الذه هو مما ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا


(1).. قال ابن قتيبة بعد أن ذكر نسبه وكان مالك شاعرا غزلا ظريفا وهو القائل فذكر البيتين وذكر بعدهما قوله حبذا يومنا بتل بونا حيث نسقي شرابنا ونغنى من شراب كأنه دم جوف يترك الكهل كالفتى مرجحنا أينما دارت الزجاجة درنا يحسب الجاهلون أنا جننا ومررنا بنسوة عطرات وسماع وقرقف فنزلنا – وبونا – من قرى الكوفة.. ويقال ان عمر بن أبى ربيعة مر بمالك هذا فاستنشده شيئا من شعره فأنشده فقال عمر ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التي تذكرها فيه قال مثل ماذا قال مثل قولك أشهدتني أم كنت غائبة عن ليلتي بحديثة القسب.. ومثل قولك

[ 11 ]

وهذا الوجه الذي ذكرناه أشبه بمراد الله تعالى في الآية وأليق بفصاحة القرآن وبلاغته الموفيتين على فصاحة سائر الفصحاء وبلاغتهم.. فأما قول الشاعر الذي استشهدنا بشعره وتلحن أحيانا فلم يرد اللحن في الاعراب الذي هو ضد الصواب وانما أراد به الكناية عن الشئ والتعريض بذكره والعدول عن الافصاح عنه على معنى قوله تعالى * (ولتعرفهم في لحن القول) *.. وقول الشاعر ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا ولحنت لحنا ليس بالمرتاب وقد قيل ان اللحن الذي عنى به في البيت هو الفطنة وسرعة الفهم على معنى ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته أي أفطن لها وأغوص عليها.. ومما يشهد لما ذكرناه ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني قال حدثنا أحمد بن عبد الله العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن اسماعيل اليزيدي قال أخبرنا اسحاق بن ابراهيم تكلمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت وهي عند الحجاج فقال لها أتلحنين وأنت شريفة وفي بيت قيس قالت أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الانصارية قال وما هو قالت قال منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا فقال لها الحجاج انما عنى أخوك اللحن في القول إذا كنى المحدث عما يريد ولم يعن اللحن في العربية فأصلحي لسانك.. قال المرتضى ] رضي الله عنه قد ظن عمرو بن بحر الجاحظ مثل هذا بعينه وقال ان اللحن مستحسن من النساء الغرائر وليس بمستحسن منهم كل الصواب والتشبه بفحول الرجال واستشهد بأبيات مالك بعينها وظن انه


حبذا يومنا بتل بونا حيث نسقى شرابنا ونغنى فقال مالك هي قرى البلد التي أنا فيه وهي مثل ما تذكره أنت في شعرك من أرض بلادك قال مثل ماذا قال مثل قولك ما على الربع بالبليين لو بين رجع السلام أو لو أجابا فأمسك ابن أبي ربيعة ولم يجب بشئ (*)

[ 12 ]

أراد باللحن ما يخالف الصواب وتبعه على هذا الغلط عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار أبيات الفزاري واعتذر بها من لحن أصيب في كتابه * وأخبرنا أبو عبيد المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني يحيى بن علي المنجم قال حدثني أبي قال قلت للجاحظ مثلك في عقلك وعلمك بالادب ينشد قول الفزاري ويفسره علي انه أراد اللحن في الاعراب وانما أراد وصفها بالظرف والفطنة وانها توري عما قصدت له وتتنكب التصريح فقال له قد فطنت لذلك بعد قلت فغيره من كتابك فقال كيف لي بما سارت به الركبان قال الصولي فهو في كتابه على خطئه [ قال المرتضي ] رضي الله عنه ومن حسن اللحن الذي هو التعريض والكناية ما أخبرنا به أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الازدي أن رجلا من بني العنبر حصل أسيرا في بكر بن وائل فسألهم رسولا الى قومه فقالوا لا ترسل الا بحضرتنا لانهم كانوا عزموا على غزو قومه فخافوا أن ينذرهم فجئ بعبد أسود فقال له أتعقل فقال نعم اني لعاقل فقال ما أراك عاقلا وأشار بيده الى الليل فقال ما هذا قال الليل قال أراك عاقلا ثم ملأ كفيه من الرمل فقال كم هذا فقال لا أدرى ولكنه كثير فقال أيما أكثر النجوم أم التراب فقال كل كثير فقال أبلغ قومي التحية وقل لهم ليكرموا فلانا يعني أسيرا كان في أيديهم من بكر فان قومه لي مكرمون وقل لهم ان العرفج قد أدبى (1) وشكت النساء وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد طال ركوبها وان يركبوا جملى الأصهب بآية ما أكلت معكم حيسا واسألوا أخي الحارث عن خبرى فلما أدى العبد الرسالة إليهم قالوا لقد جن الاعور والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب ثم سرحوا العبد ودعوا الحارث فقصوا عليه القصة فقال قد أنذركم أما قوله قد أدبى العرفج يريد ان الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح وقوله شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر (2) وقوله الناقة الحمراء أي ارتحلوا عن الدهناء واركبوا الصمان (3) وهو الجمل


(1) – العرفج – ضرب من النبات – وأدبى – خرج منه مثل الدبى وهو أصغر الجراد (2) – الشكاء – جمع شكوة وهو وعاء من جلد يجعل للماء واللبن (3) – الصمان – والصمانة كل أرض صلبة ذات حجارة الى جنب رمل والصمان موضع بعالج

[ 13 ]

الأصهب وقوله أكلت معكم حيسا يريد اخلاطا من الناس قد غزوكم لان الحيس يجمع التمر والسمن والأقط فامتثلوا ما قال وعرفوا لحن كلامه [ تأويل خبر ].. روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه غريب الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا أو تجفافا.. قال أبو عبيد وقد تأول بعض الناس هذا الخبر على انه أراد به الفقر في الدنيا وليس ذلك كذلك لانا نرى فيمن يحبهم مثل ما نرى في سائر الناس من الغنى والفقر ولا تمييز بينهما قال والصحيح انه أراد به الفقر في يوم القيامة وأخرج الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحث على الطاعات فكأنه أراد من أحبنا فليعد لفقره يوم القيامة ما يجبره من الثواب والقرب الى الله تعالى والزلفي عنده.. قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة وجه الحديث خلاف ما قاله أبو عبيد ولم يرد الا الفقر في الدنيا ومعنى الخبر أن من أحبنا فليصبر على التقلل من الدنيا والتقنع فيها وليأخذ نفسه بالكف عن أحوال الدنيا وأعراضها وشبه الصبر على الفقر بالتجفاف أو الجلباب لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب أو التجفاف البدن قال ويشهد بصحة هذا التأويل ماروى عنه عليه السلام انه رأى قوما على بابه فقال يا قنبر من هؤلاء فقال له قنبر هؤلاء شيعتك فقال مالي لاأرى فيهم سيما الشيعة قال وما سيما الشيعة قال خمص البطون من الطوى ويبس الشفاه من الظما وعمش العيون من البكا هذا كله قوله ابن قتيبة والوجهان في الخبر جميعا حسنان وان كان الوجه الذي قاله ابن قتيبة أحسن وأنصع.. ويمكن أن يكون في الخبر وجه ثالث تشهد لصحته اللغة وهوان أحد وجوه معنى لفظة الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص الى العظم أو قريب منه ثم يلوى عليه حبل يذلل بذلك الصعب يقال فقره يفقره فقرا إذا فعل به ذلك وبعير مفقور وبه فقرة وكل شئ حززته وأثرت فيه فقد فقرته تفقيرا ومنه سميت الفاقرة وقيل سيف مفقر فيحمل القول على أن يكون عليه السلام أراد من أحبنا فليزم نفسه وليخطمها وليقدها الى الطاعات وليصرفها عما تميل طباعها إليه من الشهوات وليذللها على الصبر عما كره منها ومشقة ما أريد بها كما يفعل ذلك بالبعير الصعب وهذا وجه ثالث في الخبر لم يذكر ولا يستبعد حمل الكلام على بعض ما يحتمله إذا كان


[ 14 ]

له شاهد في اللغة وكلام العرب لأن الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام والشعر أن يذكر كل ما يحتمله الكلام من وجوه المعاني ويجوز أن يكون أراد المخاطب كل واحد منهما منفردا وليس عليه العلم بمراده بعينه فان مراده مغيب عنه وأكثر ما يلزمه ما ذكرناه من ذكر وجوه احتمال الكلام [ فصل ].. قال الشري المرتضى رضي الله عنه وممن كان من مشهوري الشعراء ومتقدميهم على مذهب أهل العدل (1) ذو الرمة واسمه غيلان بن عقبة وكنيته أبو الحارث وذو الرمة لقب لقب به لبيت قاله وهو في صفة الوتد * أشعث باقي رمة التقليد * (2) – والرمة – القطعة البالية من الحبل يقال حبل أرمام إذا كان ضعيفا باليا وقيل انه انما لقب بذي الرمة لأنه كان وهو غلام يتفزع (3) فجاءته أمه بمن كتب له كتابا وعلقته عليه برمة من حبل فسمى ذا الرمة ويشهد بمذهبه في العدل ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني قال حدثنا ابن دريد قال أخبر نا أبو عثمان الاشنانداني عن


(1) – أهل العدل لقب المعتزلة لقبوا به أنفسهم لقولهم بوجوب الصلاح والأصلح عليه تعالى وانه يعاقب المسيئ على اساءته ويثيب المحسن على احسانه ولابد وانما سموا المعتزلة لان رئيسهم واصل بن عطاء كان يحضر حلقة الحسن البصري فسأله يوما عن مرتكب الكبيرة هل يكون مؤمنا أو لا فقال انه مؤمن وأمره في كبيرته مفوض الى ربه ان شاء عذبه وان شاء عفا عنه فلم يعجب ذلك واصل فقعد الى سارية من سوارى المسجد يقرر ان مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وانه مخلد في النار فقال الناس قد اعتزل واصل فقيل لمن وافقه على رأيه معتزلة (2) الذي في غيره من كتب الأدب وانما قيل له ذا الرمة لقوله لم يبق منها أبد الأبيد غير ثلاث ما ثلات سود وغير مشجوج القفا موتود فيه بقايا رمة التقليد (3) أي يفزع في نومه

[ 15 ]

التوزي عن أبي عبيدة قال اختصم رؤبة وذو الرمة عند بلال بن أبي بردة فقال رؤبة والله ما فحص طائرا فحوصا ولا تقرمص سبع قرموصا الا بقضاء من الله وقدر فقال له ذو الرمة والله ما قدر الله على الذئب أن يأكل حلوبة عيايل ضرائك قال رؤبة أفبقدرته أكلها هذا كذب على الذئب ثان فقال ذو الرمة الكذب على الذئب خير من الكذب على رب الذئب وهذا الخبر صريح في قوله بالعدل (1) واحتجاجه عليه وبصيرته فيه فأما – العيايل – فجمع عيل وهو ذو العيال – والضرائك – جمع ضريك وهو الفقير.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا أحمد ابن محمد المكي عن أبي العيناء عن الأصمعي عن اسحاق بن سويد قال أنشدني ذو الرمة وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقلت له فعولين خبر الكون فقال لي لو سبحت ربحت وانما قلت وعينان فعولان فوصفتهما بذلك وانما تحرز ذو الرمة بهذا الكلام من القول بخلاف العدل وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا الوجه.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أحمد بن خالد النحاس قال حدثني محمد بن القاسم أبو العيناء قال حدثني الأصمعي قال لما أنشد ذو الرمة قوله وعينان قال الله كونا فكانتا فعولين بالألباب ما تفعل الخمر وهو يريد كونا فكانتا فعولين حيث كانتا قال له عمرو بن عبيد ويحك قلت عظيما (2) فقل


(1) لأن المعتزلة يقولون ان الله لا يريد الشر وان ما يقع في الكون من الشرور فانما يقع على خلاف ارادته وليس لقول ذي الرمة والله ما قدر الله على الذئب أن يأكل حلوبة عيال ضرائك معنى الا ان هذا شر والشر لا يكون مرادا لله تعالى (2) – قلت عظيما – انما قال له ذلك لانه لما نصب فعولين جعلة معمولا لكانتا فاقتضى ان كون العينين فعولان بالألباب كما تفعل الخمر بأمر الله تعالى وهو شر لا يصلح أن تتعلق به ارادة الله تعالى على مذهب عمرو بن عبيد وكان عمر بن عبيد هذا شيخ المعتزلة في عصره ولسانهم وكان آية في الذكاء والحفظ وكان متقشفا زاهدا

[ 16 ]

فعولان بالالباب فقال ذو الرمة ما أبالى قلت هذا أم سبحت فلما علم ما ذهب إليه عمرو قال سبحان الله لو عنيت ما ظننت كنت جاهلا.. وممن روي انه كان على مذهب أهل العدل من شعراء الطبقة الاولى أعشى قيس بن ثعلبة واستشهد بقوله إستأثر الله بالوفاء وبالعد ل وولى الملامة الرجلا وممن قيل انه على مذهب الجبر (1) من المشهورين أيضا لبيد بن ربيعة العامري واستدل بقوله إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل وان كان لا طريق الى نسبة الجبر الى مذهب لبيد الا هذان البيتان فليس فيهما دلالة على ذلك.. أما قوله وباذن الله ريثي والعجل فيحتمل أن يكون بعلمه كما يتأول عليه قوله تعالى * (وما هم بضارين به من أحد الا باذن الله) * أي بعلمه وان قيل في هذه الآية أنه أراد بتخليته وتمكينه وان كان لا شاهد لذلك في اللغة أمكن مثله في قول لبيد.. وأما قوله من هداه اهتدى ومن شاء أضل فيحتمل ان يكون مصروفا الى بعض الوجوه التي يتأول عليها الضلال والهدى المذكوران في القرآن مما يليق بالعدل ولا يقتضي الاجبار اللهم الا ان يكون مذهب لبيد في الاجبار معروفا بغير هذه الابيات فلا يتأول له هذا التأويل بل يحمل مراده على موافقة المعروف من مذهبه [ مسألة ].. اعلم ان أصحابنا لما استدلوا على نفي الرؤية بالابصار عن الله بقوله * (لا تدركه الابصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * وبينوا انه تعالى تمدح بنفي الادراك الذي هو رؤية البصر عن نفسه على وجه يرجع الى ذاته فيجب ان يكون


يضرب به المثل في ذلك فيقال أزهد من عمرو بن عبيد وفيه يقول القائل كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد (1) يريد بالجبر مذهب أهل السنة وانما سموا مجبرة لانهم لما جعلوا افعال العبد مخلوقة لله تعالى وليس لقدرة العبد دخل في ايجاد أفعاله فقد جعلوا العبد مجبورا على ما يصدر عنه من الافعال وأما المعتزلة فقالوا ان أفعال العبد من قدرته فكان مختارا عندهم

[ 17 ]

ثبوت الرؤية له في وقت من الاوقات نقص وذم.. قال لهم مخالفوهم كيف يتمدح بانه لا يرى وقد شاركه في نفي الرؤية ما ليس بممدح كالمعدومات والارادات والاعتقادات فقالوا لهم لم يتمدح تعالى بنفي الرؤية فقط وانما تمدح بنفي الرؤية عنه واثباتها له فتمدحه بمجموع الامرين وليس يشاركه في هاتين الصفتين مشارك لان الموجودات المحدثات أصناف.. منها مالا يرى ولا يرى كالارادات والاعتقادات.. ومنها ما يرى ولا يرى كالألوان.. ومنها ما يرى ويرى كالانسان وضروب الاحياء وليس فيها ما يري ولا يري فثبت المدح لله تعالى بمتضمن الآية.. فقال لهم المخالفون وكيف يجوز ان تكون صفة لا تقتضي المدحة بانفرادها ثم تصير تقتضيها مع غيرها ولئن جاز هذا ليجوزن أن يتمدح متمدح بأنه شئ عالم أو موجود قادر فإذا كان لا مدحة في وصف الذات بانها شئ وموجود وان انضمت الي صفة مدح من حيث كانت بانفرادها لا تقتضي مدحا فكذلك لا مدحة في نفي الرؤية عما تثبت له من حيث كانت بانفرادها لا تقتضي مدحا. فأجاب أصحابنا عن هذا الكلام بان قالوا ليس يمتنع في الصفة ان تكون لا تقتضي مدحا إذا انفردت وتقتضيه إذا انضمت الى غيرها ومثلوا ذلك بقوله تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم فان نفي السنة والنوم ههنا انما يكون مدحا إذا انتفى عمن هو بصفة الاحياء وان كان بانفراده لا يقتضي مدحا لمشاركته ذوات كثيرة غير ممدوحة فيه وفصلوا بين الوصف بالنفي والوجود وبين ما ذكروا بالشئ من حيث لا تأثير لهاتين الصفتين في المدح.. واعلم ان صفات المدح المتضمنة للاثبات ما تكاد تفتقر الي شرط وفي كونها مدحا.. وصفات النفي إذا كانت مدحا فلابد فيها من شرط وانما افترق الامران من حيث كان النفي أعم من الاثبات فيدخل تحته الممدوح وغير الممدوح والاثبات أشد اختصاصا ألا ترى ان ما ليس بعالم من الذوات وليس بموجود أكثر مما ثبت له العلم والوجود منها لان الاول لا يكون الاغير متناه والثاني لابد أن يكون متناهيا فلما اشتملت صفات النفي الممدوح وغير الممدوح احتاجت الى شرط يخصها وأنت إذا اعتبرت سائر صفات النفي التي يتمدح بها وجدتها مفتقرة الى الشروط ألا ترى ان من ليس بجاهل انما يكون ممدوحا بهذا النفي إذا كان حيا ذاكرا لانه قد يكون الحى لا عالما ولا جاهلا لسهو يلحقه وذهول (3 – أمالي)


[ 18 ]

يعتريه ومن ليس بعاجز انما يكون ممدوحا إذا كان أيضا موجودا حيا ومن ليس بظالم انما يكون ممدوحا إذا كان قادرا على الظلم وله دواع إليه ولابد في الشرط الذي يحتاج إليه في صفات النفي حتى يكون مدحا من أن يكون أيضا إثباتا أو جاريا مجرى الاثبات ولا يكون نفيا لانه ان كان نفيا لم يتخصص وساوى فيه الممدوح ما ليس بممدوح. مثال ذلك أنا إذا مدحنا غيرنا بانه لا يظلم وشرطنا في هذه المدحة انه لم يدعه داع الي الظلم لم تحصل المدحة لانه قد يشاركه في نفي الظلم ونفي الدواعي إليه ما ليس بممدوح فلا بد من شرط يجري مجرى الاثبات وهو ان نقول وهو من تدعوه الدواعي الى الافعال ويتصرف فيها بحسب دواعيه فإذا صحت هذه الجملة فالوجه ان نقول ان المدحة في الآية انما تتعلق بنفي الادراك عن القديم تعالي لكن بشرط ان يكون مدركا ونجعل كل واحد من الصفتين تقتضي المدح مجتمعا مع أن كل واحدة لا تقتضيه على سبيل الانفراد وليس بمنكر ان يقتضي الشئ غيره بشرط متى وجد حصل المقتضى فإذا لم يوجد لم يحصل مقتضاه ونفي السنة والنوم والظلم عن الله تعالى انما كان مدحا بشروط معروفة على نحو ما ذكرناه وهذا التلخيص في هذا الموضع أولى وأحسم للشبه مما تقدم ذكره (مجلس آخر 2) [ تأويل آية ].. ان سأل سائل فقال ما تقولون في قوله تبارك وتعالى حكاية عن موسى * (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) *.. وقال تعالى في موضع آخر * (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولي مدبرا ولم يعقب) * والثعبان الحية العظيمة الخلقة والجان الصغير من الحيات فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة وكيف يجوز ان تكون العصا في حالة واحدة بصفة ما عظم خلقه من الحيات وبصفة ما صغر منها وبأي شئ تزيلون التناقض عن هذا الكلام (الجواب) أول ما نقوله ان الذي ظنه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة باطل بل الحالتان مختلفتان فالحال التي أخبر ان العصا فها بصفة الجان كانت في ابتداء النبوة وقبل مصير موسى إلى فرعون والحال التي صار


[ 19 ]

العصا عليها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وابلاغه الرسالة والتلاوة تدل على ذلك وإذا اختلفت القصتان فلا مسألة على ان قوما من المفسرين قد تعاطوا الجواب على هذا السؤال إما لظنهم ان القصة واحدة أو لاعتقادهم ان العصا الواحدة لا يجوز ان تنقلب في حالين تارة الى صفة الجان وتارة الى صفة الثعبان أو على سبيل الاستظهار في الحجة وان الحال لو كانت واحدة على ما ظن لم يكن بين الأيتين تناقض وهذا الوجه أحسن ما تكلف به الجواب لاجله لان الاولين لا يكونان الا عن غلط أو عن غفلة وذكروا وجهين تزول بكل واحد منهما الشبهة من تأويلها.. أحدهما انه تعالى انما شبهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها وكبر جسمها وهول منظرها وشبهها في الآية الاخرى بالجان لسرعة حركتها ونشاطها وخفتها فاجتمع لها مع انها في جسم الثعبان وكبر خلقه نشاط الجان وسرعة حركته وهذا أبهر في باب الاعجاز وأبلغ في خرق العادة ولا تناقض معه بين الآيتين.. وليس يجب إذا شبهها بالثعبان ان يكون لها جميع صفات الثعبان وإذا شبهها بالجان ان يكون لها جميع صفاته وقد قال الله تعالى * (يطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة) * ولم يرد تعالى ان الفضة قوارير على الحقيقة وانما وصفها بذلك لانه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقتها مع انها من فضة وقد تشبه العرب الشئ بغيره في بعض وجوهه فيشبهون المرأة بالظبية وبالبقرة ونحن نعلم أن في الظباء والبقر من الصفات ما لا يستحسن ان يكون في النساء وانما وقع التشبيه في صفة دون صفة ومن وجه دون آخر.. والجواب الثاني انه تعالى لم يرد بذكر الجان في الآية الاخرى الحية وانما أراد أحد الجن فكأنه تعالى أخبر بان العصا صارت ثعبانا في الخلقة وعظم الجسم وكانت مع ذلك كأحد الجن في هول المنظر وافزاعها لمن شاهدها ولهذا قال تعالى (فلما رآها تهتز كأنها جان ولي مدبرا ولم يعقب) ويمكن ان يكون في الآيه تأويل آخر استخرجناه ان لم يزد على الوجهين الاولين لم ينقص عنهما والوجه في تكلفنا له ما بيناه من الاستظهار في الحجة وان التناقض الذي توهم زائل على كل وجه وهو ان العصا لما انقلبت حية صارت أولا بصفة الجان وعلى صورته ثم صارت بصفة الثعبان ولم تصر كذلك ضربة واحدة


[ 20 ]

فتتفق الآيتان على هذا التأويل ولا يختلف حكمهما وتكون الآية الاولى تتضمن ذكر الثعبان اخبارا عن غاية حال العصا وتكون الآية الثانية تتضمن ذكر الحال التي ولى موسى فيها هاربا وهي حال انقلاب العصا الى خلقة الجان وان كانت بعد تلك الحال انتهت الى صورة الثعبان.. فان قيل على هذا الوجه كيف يصح ما ذكرتموه مع قوله تعالى فإذا هي ثعبان مبين وهذا يقتضي أنها صارت ثعبانا بعد الالقاء بلا فصل.. قلنا ليس تفيد الآية ما ظن وانما فائدة قوله تعالى فإذا هي الاخبار عن قرب الحال التي صارت فيها بتلك الصفة وانه لم يطل الزمان في مصيرها كذلك ويجري هذا مجرى قوله تعالى (أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيما مبينا وقولهم ركب فلان من منزله فإذا هو في ضيعته وسقط من أعلا الحائط فإذا هو في الأرض ونحن نعلم ان بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانا وانه لم يصل إليها الا على تدريج وكذلك الهابط من الحائط وانما فائدة الكلام الاخبار عن تقارب الزمان وانه لم يطل ولم يمتد [ آية أخرى ].. قال الله تعالى * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) *.. وقد ظن (1) بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده ان


(1) اعلم ان للمفسرين في هذه الآية قولين أحدهما ان ذلك الاخراج والاشهاد حقيقة واليه ذهب كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس قالوا ان الله استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم فقررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك واقرارهم به واحتجوا لذلك بأحاديث كثيرة وردت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا منها ما روى مسلم بن يسار الجهني ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال صلي الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته الحديث وروى علي عن ابن عباس في قوله تعالى واذ أخذ ربك الآية قال

[ 21 ]

تأويل هذه الآية ان الله استخرج من ظهر آدم جميع ذريته وهم في خلق الذر فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم وهذا التأويل مع ان العقل يبطله ويحيله مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأن الله تعالى قال واذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل من آدم وقال من ظهورهم


ان الله تعالى خلق آدم ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر فقال لهم من ربكم قالوا الله ربنا ثم أعادهم في صلبه حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم الى يوم القيامة أما المعتزلة وأصحاب المعقولات من المفسرين فانهم جعلوا ذلك على سبيل التمثيل وقالوا انه تعالى أخرج الاولاد وهم الذرية من أصلاب آبائهم وذلك الاخراج انهم كانوا نطفة فاخرجها الله تعالى الى أرحام الامهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كا ملا ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته فكأنه قررهم وقال ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا واعترفنا بوحدانيتك قالوا وباب التمثيل واسع في كلام الله ورسوله وكلام العرب وفي القرآن الكريم (فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين.. وقال الشاعر امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملات بطني وطعنوا فيما ذهب إليه الفريق الأول بما بسطه المؤلف هنا وكل ما طعنوه به يمكن الجواب عنه.. أما قولهم ان المذكور في القرآن ان الله أخذ من بني آدم من ظهور هم لا من آدم ولا من ظهره وما روى أصحاب القول الأول يدل على انه أخذ من آدم كما في الرواية التي سبق نقلها.. فالجواب عنه ان الله انما أخرج من صلب كل رجل ذريته الا انهم لما كانوا جميعا من صلب آدم صح أن يقال انه أخذهم من صلب آدم ومثل هذا الاستعمال سائغ لا مجال للطعن فيه.. وأما قولهم انهم حين أخرجوا فان كانوا عقلاء مستوفين لشرائط التكليف لزم أن يذكروا ذلك حين وجودهم وان لم يكونوا عقلاء لم يكن للاشهاد معنى.. فالجواب عنه أن نختار انهم كانوا عقلاء ولا يلزم أن يذكروا ذلك حين وجودهم الآن فان النفس انما تذكر حين ملابستها للبدن ما كان وقع لها حين ملابسته

[ 22 ]

ولم يقل من ظهره وقال ذرياتهم ولم يقل ذريته ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا انهم كانوا عن هذا غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم وانهم نشؤا على دينهم وسنتهم وهذا يقتضي ان الآية لم تتناول ولد آدم لصلبه وانها انما تناولت من كان له آباء مشركون وهذا يدل على اختصاصها ببعض ولد آدم فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويله فأما شهادة العقل فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي استخرجت من أن تكون من ظهر آدم فخوطبت وقررت أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف فان كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وانشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال وما قرروا به واستشهدوا عليه لأن العاقل لا ينسي ما يجري هذا المجرى وان بعد العهد وطال الزمان ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسي مع بعد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله وليس أيضا لتخلل الموت بين الحالين تأثير لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذكر لكان تخلل النوم والسكر والجنون


فأما ما وقع لها عند تجردها عن البدن والانقطاع عنه فلا تذكره ومثل هذا يقع لأصحاب الرياضات فقد يتفق لبعضهم وقت تتجرد فيه نفوسهم عن أبدانهم ويصدر عنهم حينئذ من الاقوال والافعال شئ كثير فإذا عادت نفوسهم إليهم لم يذكروا شيئا مما كان منهم ولهذا أسباب ليس هذا محل بسطها انما الغرض أن نبين ان النفس انما تذكر عند ملابسة البدن ما يقع لها في مثل ذلك الحال وإذا جاز أن تفارق النفس البدن زمنا طفيفا ثم لا تذكر عند العود الى البدن ما كان منها عند المفارقة فكيف لها أن تذكر ما كان لها قبل أن يخلق البدن بالآف من السنين.. هذا أقوى ما احتجوا به على ابطال قول الفريق الاول.. ثم اعلم بعد هذا ان ما ذهب إليه الفريق الثاني لا يبطل قول الفريق الأول ولا هو مستنكر في ذاته والتمثيل غير منكر في كلام أي كلام كان من كلام الخالق أو البشر وكما أمكن حمل الآية على التمثيل يمكن حمل الاحاديث فانها غير صريحة في ان الاخراج حقيقة وانما دعواهم ان المعنى الحقيقي غير ممكن ارادته ودعوى ان ذلك باطل شرعا وعقلا مما ننكره ونأباه وليس فيه الا تغليب الرأي والوهم على ظاهر الكتاب والسنة كما هي عادة المتكلمين

[ 23 ]

والاغماء من أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضي من أحوالهم لأن سائر ما عددناه مما ينفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا وليس لهم أن يقولوا إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسي ماكان عليه في حال الطفولية جاز ما ذكرناه وذلك انما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى عليهم وهم كاملو العقول ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه على ان تجويز النسيان عليهم ينقص الغرض في الآية وذلك أن الله تعالى أخبرنا بأنه انما قررهم وأشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة وسقوط الحجة عنهم فيه فإذا جاز نسيانهم له عاد الامر الى سقوط الحجة وزوالها وان كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم واشهادهم وصار ذلك عبثا قبيحا * فان قيل قد أبطلتم قول مخالفيكم فما تأويلها الصحيح عندكم * قلنا في الآية وجهان. أحدهما أن يكون تعالى انما عنى بها جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلغهم وأكمل عقولهم وقررهم على ألسن رسله عليهم السلام بمعرفته وما يجب من طاعته فأقروا بذلك وأشهدهم على أنفسهم لئلا يقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين أو يتعذروا بشرك آبائهم وانما اتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظن أن اسم الذرية لا يقع الا على من لم يكن عاقلا كاملا وليس الأمر كما ظن لانه سمى جميع البشر بأنهم ذرية آدم وان دخل فيهم العقلاء الكاملون وقد قال تعالى * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) * ولفظ الصالح لا يطلق الا على من كان كاملا عاقلا فان استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلفين هذا جوابهم. والجواب الثاني انه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدل على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته وأراهم العبر والآيات والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنسفهم وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقر المعترف وان لم يكن هناك اشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) وان لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهما جواب ومثله قوله تعالى


[ 24 ]

(شاهدين على أنفسهم بالكفر) ونحن نعلم ان الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم وانما ذلك لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ومثل هذا قولهم جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة باحسانك.. وما روى عن بعض الحكماء من قوله سل الارض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فان لم تجبك جؤارا أجابتك اعتبارا وهذا باب كبير وله نظائر كثيرة في النظم والنثر يغني عن ذكر جميعها القدر الذي ذكرناه منها (تأويل خبر).. قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام ليس منا من لم يتغن بالقرآن قال أراد يستغني به واحتج بقولهم تغنيت تغنيا وتغانيت تغانيا وأنشد بيت الأعشى وكنت امرأ زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن.. وقول الآخر كلانا غنى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا واحتج أيضا بقول ابن مسعود من قرأ سورة آل عمران فهو غني أي مستغن وبالحديث الآخر نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل والصعلوك الفقير واحتج بحديث آخر روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا ينبغي لحامل القرآن أن يظن ان أحدا اعطى أفضل مما أعطى لانه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن افضل من ملكه. واحتج أيضا بخبر رفعه عن عبد الله بن نهيك انه دخل على سعد بيته فإذا مثال رث ومتاع رث فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن.. قال أبو عبيد فذكره المتاع الرث والمثال الرث يدل على ان التغني بالقرآن الاستغناء به عن الكثير من المال – والمثال – هو الفراش قال الشاعر بكل طوال الساعدين كأنما يرى بسرى الليل المثال الممهدا يعني الفراش.. قال أبو عبيد ولو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك إذ كان من لم يرجع بالقرآن ليس منه عليه الصلاة والسلام.. وذكر عن غير أبي عبيد جوابا آخر وهو أنه عليه الصلاة السلام أراد من لم يحسن صوته بالقرآن ولم يرجع فيه واحتج


[ 25 ]

صاحب هذا الجواب بحديث عبد الرحمن بن السائب قال أتيت سعدا وقد كف بصره فسلمت عليه فقال من أنت فأخبرته فقال مرحبا با بن أخي بلغني انك حسن الصوت بالقرآن وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فان لم تبكوا فتباكوا فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا فقوله فابكوا أو تباكوا دليل على ان التغني هو والترجيع والتحنين.. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لا يأذن الله لشئ من أهل الارض الا لأصوات المؤذنين والصوت الحسن في القرآن ومعنى قوله يأذن يستمع له يقال أذنت للشئ آذن أذنا إذا استمعت له.. قال الشاعر صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا.. وقال عدي بن زيد العبادي أيها القلب تعلل بددن إن همي في سماع وأذن والاذن هو السماع وانما حسن تكرير المعنى اختلاف اللفظ وللعرب في هذا مذهب معروف ومثله * وهند أتى من دونها النأي والبعد * فأما الددن فهو اللهو واللعب وفيه لغات ثلاث دد على مثال دم وددا على مثال فتى وددن على مثال حزن.. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أنا من دد ولا الدد منيه * فان قيل كيف يحمل لا يأذن الله لشئ كاذنه لكذا وكذا على معنى الاستماع وهو تعالى سامع لكل شئ مسموع فأي معنى للاختصاص * قلنا ليس المراد ههنا بالاستماع مجرد الادراك وانما المراد به القبول فكأنه عليه الصلاة والسلام قال ان الله لا يتقبل أو يثيب على شئ من أهل الأرض كتقبله وثوابه على كذا وكذا ومن هذا قولهم هذا كلام لا أسمعه وخاطبت فلانا بكلام فلم يسمعه وانما يريد نفي القبول لا الادراك والبيت الذي أنشدناه يشهد بذلك لانه قال * وان ذكرت بسوء عندهم أذنوا * ونحن نعلم انهم يستمعون الذكر بالخير والشر معا من حيث الادراك فوجه الاختصاص ما ذكرناه وقد ذكر أبو بكر محمد بن القاسم الانباري وجها ثالثا في الخبر قال أراد عليه الصلاة والسلام من لم يتلذذ بالقرآن ويستحله ويستعذب تلاوته كاستحلاء أصحاب الطرب للغناء والتذاذهم به (4 – أمالي)


[ 26 ]

وسمى ذلك تغنينا من حيث يفعل عنده ما يفعل عند التغني بالغناء وذكر أن ذلك نظير قولهم العمائم تيجان العرب والخباء حيطان العرب والشمس حمامات العرب.. وأنشد بيت النابغة بكاء حمامة تدعو هديلا مفجعة على فنن تغني (1) فشبه صوتها لما أطرب اطراب الغناء بالغناء وجعلوا العمائم لما قامت مقام التيجان تيجانا وكذلك القول في الخباء والشمس. وجواب أبي عبيد أحسن الأجوبة وأسلمها وجواب أبي بكر أبعدها لأن التلذذ لا يكون الا في المشتهيات * وكذلك الاستحلاء والاستعذاب وتلاوة القرآن وتفهم معانيه من الأفعال الشاقة فكيف يكون ملذا مشتهى. فان عاد الى أن يقول قد تستحلي التلاوة من الصوت الحزين * قلنا هذا رجوع الى الجواب الثاني الذي رغبت عنه وانفردت عند نفسك بما يخالفه ويمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا وهو أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام من لم يتغن من غني الرجل بالمكان إذا طال مقامه به ومنه قيل المغني والمغاني قال الله تعالى كأن لم تغن بالأمس وكأن لم يغنوا فيها أي لم يقيموا بها وقال الاسود بن يعفر الايادي ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد (2)


(1) – الهديل – ذكر الحمام وقيل انه طائر كان على عهد نوح عليه السلام صاده جارح من الطير فما من حمامة الا وهي تبكي عليه الى اليوم وهذا من خرافات العرب في الزمن الأول وقد ضمن بعض شعراء الاسلام أشعارهم هذه الحكاية كقول أبي العلاء يرثي رجلا يا بنات الهديل أسعدن أوعد ن قليل العزاء بالاسعاد إبه لله دركن فأنتن اللواتي تحسن حفظ الوداد ما نسيتن هالكا في الأوان ال‍… خال أودي من قبل هلك إياد والمقصود حكاية المشهور لا أنهم يعتقدون ذلك – والمفجعة – المؤلمة بفقد ما يعز عليها – والفن – الغصن وجمعه أفنان (2) هوله من أبيات يشكو بها من موت لداته وتأخر وفاته أولها

[ 27 ]

وبيت الاعشي الذي أنشده أبو عبيد وكنت امرأ زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن بطول المقام أشبه منه بالاستغناء لان المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك فكان الاعشي أراد انني كنت ملازما لوطني مقيما بين أهلي لا أسافر للانتجاع والطلب ويجري قوله هذا مجرى قول حسان بن ثابت الانصاري أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الجواد المفضل أراد بقوله حول قبر أبيهم انهم ملوك لا ينتجعون ولا يفارقون محالهم وأوطانهم فيكون معنى الخبر على هذا الوجه من لم يقم على القرآن فلا يتجاوزه الى غيره ولا يتعدا الى سواه ويتخذه مغنى ومنزلا ومقاما فليس منا * فان قيل أليس يتعدى القرآن الى السنة والاجماع وسائر أدلة الشرع فكيف يحظر علينا تعديه * قلنا ليس في ذلك تعد للقرآن لان القرآن دال على وجوب اتباع السنة وغيرها من أدلة الشرع فمن اعتمد بعضها في شئ من الاحكام لا يكون متجاوزا للقرآن وأما قوله عليه الصلاة والسلام ليس منا فقد قيل فيه انه لا يكون على أخلاقنا واستشهد ببيت النابغة إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني


ومن الحوادث لا أبا لك انني ضربت على الأرض بالاسداد لا أهتدي فيها لموضع تلعة بين العذيب وبين أرض مراد كان كف في آخر عمره فهو يقول ذلك ماذا أؤمل بعد آل محرق تركوا منازلهم وبعد اياد أهل الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيئ من أطواد أرض تخيرها لطيب مقيلها كعب بن مامة وابن أم دؤاد جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد فأرى النعيم وكل ما يلهى به يوما يصير الى بلى ونفاد (*)

[ 28 ]

.. وقيل انه أراد ليس منا أي على ديننا وهذا الوجه لا يليق الا بجوابنا وهو بعده بجواب أبي عبيد أليق لانه محال ان يخرج عن دين النبي وملته من لم يحسن صوته بالقرآن ويرجع فيه أو من لم يتلذذ بتلاوته ويستحليها [ مسألة ].. إعلم ان أصحابنا قد اعتمدوا في إبطال ما ظنه أصحاب الرؤية في قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) على وجوه معروفة لأنهم بينوا ان النظر ليس يفيد الرؤية ولا الرؤية من أحد محتملاته ودلوا على ان النظر ينقسم الى أقسام كثيرة.. منها تقليب الحدقة الصحيحة في جهة المرئي طلبا لرؤيته.. ومنها النظر الذي هو الانتظار.. ومنها النظر الذي هو التعطف والمرحمة.. ومنها النظر الذي هو الفكر والتأمل وقالوا إذا لم يكن في أقسام النظر الرؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلق واحتجنا جميعا الى طلب تأويل الآية من غير جهة الرؤية وتأولها بعضهم على الانتظار للثواب وان كان المنتظر في الحقيقة محذوفا والمنتظر منه مذكورا على عادة للعرب معروفة وسلم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر وحمل الآية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم على سبيل حذف المرئى في الحقيقة وهذا كلام مشروح في مواضعه وقد بينا ما يرد عليه وما يجاب به عن الشبهة المعترضة في مواضع كثيرة.. وههنا وجه غريب في الآية حكى عن بعض المتأخرين لا يفتقر معتمده الى العدول عن الظاهر أو الى تقدير محذوف ولا يحتاج الى منازعتهم في أن النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها بل يصح الاعتماد عليه سواء كان النظر المذكور في الآية هو الانتظار بالقلب أم الرؤية بالعين وهو ان يحمل قوله تعالى الى ربها الى انه أراد نعمة ربها لان الآلاء النعم وفي واحدها أربع لغات الأمثل قفا وألى مثل رمي وإلى مثل معي وإلي مثل حني قال أعشي بكر بن وائل أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا يخون إلي أراد أنه لا يخون نعمة وأراد تعالى الى ربها فأسقط التنوين للاضافة * فان قيل فأي فرق بين هذا الوجه وبين تأويل من حمل الآية على انه أراد به الى ثواب ربها ناظرة بمعنى رائية لنعمه وثوابه * قلنا ذلك الوجه يفتقر الى محذوف لانه إذا جعل الى حرفا


[ 29 ]

ولم يعلقها بالرب تعالى فلابد من تقدير محذوف وفي الجواب الذي ذكرناه لا يفتقر الى تقدير محذوف لان الى فيه اسم يتعلق به الرؤية ولا يحتاج الى تقدير غيره (1) والله أعلم بالصواب


اعلم أن مما وقع فيه الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة رؤية الباري جل شأنه في الآخرة فأثبت الأولون جواز ذلك ووقوعه ونفى المعتزلة الأمرين واعتلوا لما ذهبوا إليه من عدم جواز رؤيته تعالى بأن الرؤية تعتمد كون المرئي في جهة وكونه مقابلا للرائي وكونه غير مفرط البعد عنه ولا مفرط القرب منه فان اختل شرط من ذلك لم يمكن وقوع الرؤية. قالوا وكل هذه الشروط لا يمكن اعتبارها في حقه سبحانه وتعالى فلا تكون رؤيته جائزة لأن ما يتوقف على محال فوجوده محال: وبناء على القاعدة المعروفة بين المتكلمين من ان النقل إذا عارضه العقل وجب تأويله حتى يوافق العقل عمدوا الى تأويل النصوص القرآنية المصرحة بوقوع رؤيته تعالى لجماعة من المؤمنين في الآخرة لئلا تصادم العقل فتأولوا قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة) بما ذكره المصنف وتأولوا قوله تعالى لموسى (لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني) بأنه علق الرؤية على استقرار الجبل حين تحركه واستقرار الجبل حين تحركه محال فما علق عليه كذلك والحق الذي يجب المصير إليه أن رؤية الباري جل شأنه جائزة والآيات القرآنية التي وردت بوقوعها في الآخرة ان كان فيها بعض اجمال يسوغ التأويل فقد ورد في الأحاديث الصحيحة الصريحة ما لا يمكن الطعن فيه ولا صرفه عن ظاهره ومن ذلك الحديث الذي رواه أحد وعشرون صحابيا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال انكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فكان هذا بيانا لمجمل الآيات ثم ان كون الرؤية مشروطة بما تقدم من الشروط فانما ذاك في رؤية الحوادث وكون ذلك مشروطا في رؤيته تعالى غير معلوم وقياس الغائب على الشاهد مع اختلاف ما بينهما غير جائز والوقوف عند ظواهر الشريعة واجب ما أمكن والتسرع في التأويل لمجرد التوهم غير حميد والله الهادي

[ 30 ]

(مجلس آخر 4) [ تأويل آية ].. ان قال قائل ما تأويل قوله تعالى (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) فظاهر هذا الكلام يدل على ان الايمان انما كان لهم فعله باذنه وأمره وليس هذا مذهبكم وان حمل الاذن ههنا على الارادة اقتضى أن من لم يقع منه الايمان لم يرده الله منه وهذا أيضا بخلاف قولكم ثم جعل الرجس الذي هو العذاب على الذين لا يعقلون ومن كان فاقدا عقله لا يكون مكلفا فكيف يستحق العذاب وهو بالضد من الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال أكثر أهل الجنة البله.. الجواب يقال له في قوله تعالى الا باذن الله وجوه.. منها ان يكون الاذن الامر ويكون معنى الكلام ان الايمان لا يقع إلابعد ان يأذن الله فيه ويأمر به ولا يكون معناه ما ظنه السائل من انه لا يكون للفاعل فعله الا باذنه ويجري هذا مجرى قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت الا باذن الله ومعلوم ان معنى قوله ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه وان كان الاشبه في هذه الآية التي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالاذن العلم.. ومنها أن يكون الاذن هو التوفيق والتيسير والتسهيل ولا شبهة في ان الله يوفق لفعل الايمان ويلطف فيه ويسهل السبيل إليه.. ومنها أن يكون الاذن العلم من قولهم أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته وأذنت فلانا بكذا إذا أعلمته فتكون فائدة الآية الاخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات فانه ممن لا يخفي عليه الخفيات.. وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الاذن بكسر الالف وتسكين الذال عبارة عن العلم وزعم ان الذي هو العلم الاذن بالتحريك واستشهد بقول الشاعر * إن همي في سماع وأذن * وليس الامر على ما توهمه هذا المتوهم لان الاذن هو المصدر والاذن هو اسم الفعل فيجري مجرى الحذر والحذر في انه مصدر والحذر بالتسكين الاسم على انه لو لم يكن مسموعا الا الاذن بالتحريك لجاز التسكين مثل مثل ومثل وشبه وشبه ونظائر ذلك كثيرة.. ومنها أن يكون الاذن العلم ومعناه إعلام الله المكلفين بفضل الايمان وما يدعو


[ 31 ]

الى فعله ويكون معنى الاية وما كان لنفس ان تؤمن الا باعلام الله لها بما يبعثها على الايمان وما يدعوها الي فعله.. فاما ظن السائل دخول الارادة في محتمل اللفظ فباطل لان الاذن لا يحتمل الارادة في اللغة ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهمه لانه إذا قال ان الايمان لا يقع إلا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريدا لما لم يقع وليس في صريح الكلام ولا دلالته شئ من ذلك.. وأما قوله تعالى ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون فلم يعن بذلك الناقصي العقول وانما أراد الذين لم يعقلوا ولم يعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم والاعتراف بنبوة رسله والانقياد الى طاعتهم ووصفهم تعالى بانهم لا يعقلون تشبيها كما قال تعالى صم بكم عمي وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الامور أو لم يعلم ما هو مأمور بعمله بالجنون وفقد العقل.. فاما الحديث الذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل إنه عليه السلام لم يرد بالبله ذوي الغفلة والنقص والجنون وانما أراد البله عن الشر والقبيح وسماهم بلها عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه لا من حيث فقدوا العلم به ووجه تشبيه من هذه حاله بالابله ظاهر فان الابله عن الشئ هو الذي لا يعرض له ولا يقصد إليه فإذا كان المتنزه عن الشر معرضا عنه هاجرا لفعله جاز ان يوصف بالبله للفائدة التي ذكرناها ويشهد بصحة هذا التأويل قول الشاعر ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها أراد أنها بلهاء عن الشر والريبة وان كانت فطنة لغيرهما.. وقال أبو النجم العجلى من كل عجزاء سقوط البرقع بلهاء لم تحفظ ولم تضيع أراد بالبلهاء ما ذكرناه.. فأما قوله – سقوط البرقع – فاراد أنها تبرز وجهها ولا تستره ثقة بحسنه وادلالا بجماله وقوله لم تحفظ أراد ان استقامة طرائقها تغني عن حفظها وانها لعفافها ونزاهتها غير محتاجة الى مسدد وموقف وقوله – لم تضيع – أراد انها لم تهمل في أغذيتها وتنعيمها وترفيهها فتشقى ومثل قوله سقوط البرقع.. قول الشاعر فلما تواقفنا وسلمت أقبلت وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا.. ومثله أيضا


[ 32 ]

بها شرق من زعفران وعنبر أطارت من الحسن الرداء المحبرا أي رمت بها عنها ثقة بالجمال والكمال.. ومثله وهو مليح لهونا بمنجول البراقع حقبة فما بال دهر لزنا بالوصاوص أراد بمنجول البراقع اللاتي يوسعن عيون براقعهن ثقة بحسنهن ومنه الطعنة النجلاء والعين النجلاء ثم قال ما بال دهر أحوجنا واضطرنا الى القباح اللواتي يضيقن عيون براقعهن لقبحهن والوصاوص هي النقب الصغار للبراقع.. ومما يشهد للمعنى الاول الذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدمينة بمالي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ويروي بنفسي وأهلي ولم يعتذر عذر البري ولم تزل به سكتة حتى يقال مريب.. ومثله أحب اللواتي في صباهن غرة وفيهن عن أزواجهن طماح مسرات حب مظهرات عداوة تراهن كالمرضى وهن صحاح.. ومثله يكتبين الينجوج في كبد المش‍ تي وبله أحلامهن وسام.. أما قوله – يكتبين – فمأخوذ من لفظ الكبا وهو العود أراد يتبخرن به والينجوج هو العود وفيه ست لغات. ينجوج. وأنجوج. ويلنجوج. وألنجوج. وبلنجج. وألنجج.. فاما كبد المشتي فهو ضيقه وشدته.. ومنه قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وقد روى في كبة المشتي والمعنى متقارب لان الكبة هي الصدمة مأخود من كبة الخيل وأما الوسام فهي الحسان من الوسامة وهي الحسن.. ويمكن ان يكون في البله جواب آخر وهو ان يحمل على معني البله الذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة ويكون معنى


[ 33 ]

الخبر ان أكثر أهل الجنة الذين كانوا بلها في الدنيا فعندنا ان الله ينعم الاطفال في الجنة والمجانين والبهائم وانما لم نجعلهم بلها في الجنة وان كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضل لا يفتقر الى كمال العقل لان الخبر ورد بأن الاطفال والبهائم إذا دخلو الجنة لم يدخلوها الا وهم على أفضل الحالات وأكملها ولهذا صرفنا البله عنهم في الجنة ورددناه الي أحوال الدنيا والا فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب [ تأول آية أخرى ].. قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره الا لأجل معدود يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه) * وقال في موضع آخر (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * وفي موضع آخر (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) وظاهر هذه الآيات ظاهر الاختلاف لان بعضها ينبئ عن أن النطق لا يقع منهم في ذلك اليوم ولا يؤذن لهم فيه وبعضها ينبئ عن خلافه.. وقد قال قوم من المفسرين في تأويل هذه الآيات إن يوم القيامة يوم طويل ممتد فقد يجوز ان يمنع النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر وهذا الجواب يضعف لان الاشارة الى يوم القيامة بطوله فكيف تجعل الحالات فيه مختلفة وعلى هذا التأويل يجب ان يكون قوله تعالى هذا يوم لا ينطقون في بعضه والظاهر بخلاف ذلك (1).. والجواب السديد عن هذا أن يقال انما أراد الله تعالى نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون


(1) اعلم ان اليوم في لغة العرب قد يستعمل مرادا به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها وذلك إذا أضيف الي فعل له امتداد كقولك صمت يوما فان الصوم وهو الامساك ممتد فيراد باليوم بياض النهار وقد يراد به مطلق الوقت أي ساعة كان من ليل أو نهار كما تقول جئتك يوم السبت وزرتك يوم قدم زيد فها هنا المراد باليوم مطلق الوقت ولا يصح ارادة المعنى الأول وفي الآية المضاف الى اليوم النطق منفيا وهو فعل غير ممتد فيكون المراد باليوم مطلق الوقت قل أو كثر فلا تكون هذه الآية منافية لما حكى الله عنهم من قولهم (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) وقولهم (ربنا أخرجنا منها) الى غير ذلك مما أخبر الله عنهم من قولهم وهذا الجواب لا يحتاج الى تكلف تقدير لا ينطقون في بعضه حتى يكون خلاف الظاهر كما توهم المصنف (5 – أمالي)

[ 34 ]

لهم في مثله عذر أو حجة ولم ينف النطق الذي ليست هذه حاله ويجري هذا مجرى قولهم خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم يقل شيئا وان كان الذي وصف بالخرس عن الحجة والذي نفي عنه القول قد تكلم بكلام كثير غزير الا انه من حيث لم يكن فيه حجة ولا به منفعة جاز إطلاق القول الذي حكيناه عليه ومثل هذا قول الشاعر أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يوارى جارتي الخدر ويصم عما كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر.. وقال الآخر لقد طال كتمانيك حتى كأنني برد جواب السائلي عنك أعجم وعلى هذا التأويل قد زال الاختلاف لان التساؤل والتلاؤم لا حجة فيه.. وأما قوله تعالى ولا يؤذن لهم فيعتذرون فقد قيل (1) انهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون ويجاب بحمل الاذن على الامر وانما لم يؤمروا به من حيث كانت تلك الحال لا تكليف فيها والعباد ملجؤن عند مشاهدة أحوالهم الى الاعتراف والاقرار.. وأحسن من هذا التأويل ان يحمل يؤذن على معنى أنه لا يستمع لهم ولا يقبل عذرهم والعلة في امتناع قبول عذرهم هي التي ذكرناها [ تأويل خبر ].. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الدهر فان الدهر هو


(1) هذا الاستشكال ساقط لا محل له ومنشأ توهم المتوهم انه ظن لرفع يعتذرون المقرون بالفاء مع كونه بعد النفي انه منقطع عما قبله وان المعنى وهم يعتذرون ولم يؤذن لهم بالاعتذار وليس كما توهم وانما هو مرتبط بما قبله والمعنى ولا يؤذن لهم بالاعتذار مما كان منهم حتى يعتذروا وهو عطف على يؤذن وانما رفع لأنه رأس آية فرق بينه وبين ما قبله من رؤس الآي والرفع والنصب جائزان في مثل هذا كما في قوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) قرئ بالرفع والنصب جميعا

[ 35 ]

الله.. وقد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر ان المراد به لا تسبوا الدهر فانه لا فعل له وان الله مصرفه ومدبره فحذف من الكلام ذكر المصرف والمدبر وقال هو الدهر.. وفي هذا الخبر وجه آخر هو أحسن من ذلك الذي ذكرناه وهو أن الملحدين ومن نفي الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال الله كالمرض والعافية والجدب والخصب والبقاء والفناء الى الدهر جهلا منهم بالصانع جلت عظمته ويذمون الدهر ويسبونه في كثير من الاحوال من حيث اعتقدوا أنه الفاعل بهم هذه الافعال فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال لا تسبوا من فعل بكم هذه الافعال ممن تعتقدون أنه الدهر فان الله تعالى هو الفاعل لها.. وانما قال ان الله هو الدهر من حيث نسبوا الى الدهر أفعال الله وقد حكي الله سبحانه عنهم قولهم ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر.. وقال لبيد في قروم سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل أي دعا عليهم.. وقال عمرو بن قمئة كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عذار لجامي على الراحتين مرة وعلى العصا أنوء ثلاثا بعدهن قيامي رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمي وليس برامي فلو أنها نبل إذا لا تقيتها ولكنني أرمي بغير سهام إذا ما رآني الناس قالوا ألم تكن جليدا حديد الطرف غير كهام وأفني وما أفني من الدهر ليلة ولم يغن ما أفنيت سلك نظام ويهلكني تأميل يوم وليلة وتأميل عام بعد ذاك وعام.. وقال الأصمعي ذم أعرابي رجلا فقال هو أكثر ذنوبا من الدهر وأنشد الفراء حنتني حانيات الدهر حتى كأني خاتل أدنو لصيد


[ 36 ]

قصير الخطو يحسب من رأني ولست مقيدا أني بقيد.. وقال كثير وكنت كذى رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت.. وقال آخر فاستأثر الدهر الغداة بهم والدهر يرميني وما ارمي يا دهر قد أكثرت فجعتنا بسراتنا ووقرت في العظم قوله – وقرت في العظم – أراد به اتخذت فيه وقرا أو وقيرة والوقر هي الحفيرة العظيمة تكون في الصفا يستنقع فيها ماء المطر والوقب أيضا كذلك والوقيرة أيضا الحفيرة إلا أنها دون الاوليين في الكبر وكل هؤلاء الذين روينا أشعارهم نسبوا أفعال الله التي لا يشاركه فيها غيره الى الدهر فحسن وجه التأويل الذي ذكرناه [ مسألة ].. إعلم ان المنافع التي عرض الله تعالى الاحياء لها ثلاث منفعة تفضل ومنفعة عوض ومنفعة ثواب.. فاما المنفعة على سبيل التفضل فهي الواقعة ابتداء من غير سبب استحقاق ولفاعلها أن يفعلها وله أن لا يفعلها.. وأما منفعة العوض فهي المنعفة المستحقة من غير مقارنة شئ من التعظيم والتبجيل لها.. وأما منفعة الثواب فهي المستحقة على وجه التعظيم والتبجيل.. فمنفعة العوض تبين من التفضل بالاستحقاق والثواب يبين من العوض بالتعظيم والتبجيل المصاحبين له فكأن التفضل أصل لسائر المنافع من حيث يجب تقدمه وتأخر ما عداه لانه لا سبيل للمنتفع أن ينتفع بشئ دون أن يكون حياله شهوة والابتداء بخلق الحياة والشهوة تفضل فقد صح أنه لا سبيل الى النفع بمنفعة العوض والثواب إلا بعد تقدم التفضل.. فاما المنفعة بالثواب فهي الاصل للمنفعة بالعوض لان الآلام وما جرى مجرى الآلام مما يستحق به العوض متى لم يكن فيها اعتبار يفضى الى الثواب ويستحق به لم يحسن فعلها وجرى عندنا مجرى العبث ولهذا نقول ان الله تبارك وتعالى لو لم يكلف أحدا من المكلفين ما كان يحسن منه أن يبتدئ بالآلام وان عوض عليها والاحياء على ضروب فمنهم من عرض للمنافع الثلاث.. ومنهم


[ 37 ]

من عرض لاثنتين ومنهم من عرض لواحدة والمكلف المعرض للثواب لابد أن يكون منفوعا بالتفضل من الوجه الذي قلناه لانه إذا خلق حيا وجعل له القدرة والشهوة والعقل وضروب التمكين فقد نفع بالتفضل وليس يجب فيمن هذه حالة أن يكون منفوعا بالعوض لانه لا يمتنع أن يخلو المكلف منا من ألم يبتدؤه الله به فلا يكون معرضا للعوض فمتى عرض له فقد تكاملت فيه المنافع فصار المكلف مقطوعا على تعريضه لاثنتين من المنافع ومجوزا تكامل الثلاث له.. فاما من ليس بمكلف فمقطوع في تعريضه على إحدى المنافع وهي التفضل من حيث خلق حيا ومكن من كثير من المنافع ومشكوك في تعريضه للعوض من الوجه الذي بينا وكما قطعنا على أحد المنافع فيه فنحن قاطعون أيضا على نفى التعريض للثواب عنه لفقد ما يوصل إليه وهو التكليف ولابد في كل حي محدث أن يكون معرضا لاحدى هذه المنافع أو لجميعها وإنما أوجبنا ذلك من جهة حكمة القديم تعالي لا من جهة أنه يستحيل في نفسه وانما قلنا ليس بمستحيل لان كونه حيا وعاقلا وذا شهوة وقدرة ليس منفعة بنفسه وانما يكون منفعة ونعمة إذا فعل تعريضا للنفع فاما إذا فعل تعريضا للضرر أو لوجه من الوجوه فانه لا يكون منفعة ولا نعمة وأوجبناه من جهة حكمة القديم لانه إذا جعل الحي بهذه الصفات فلا يخلو من أن يكون أراد بها نفعه أو ضره أو لم يرد بها شيئا فان كان الاول فهو الذي أوجبناه وان كان الثاني أو الثالث فالقديم تعالى منزه عنهما لان الثاني يجري مجرى الظلم والثالث هو العبث بعينه وقد يشارك القديم تعالى في النفع بالتفضل والعوض الفاعلون المحدثون ولا يصح ان يشاركوه في النفع بالثواب لان الصفة التي يستحق المكلف لكونه عليها الثواب وهي كون الفعل شاقا عليه لا يكون إلا من قبله تعالى وليس لاحد أن يظن فيمن يهدي الى الدين والرشاد الى الايمان وما يستحق به الثواب انه معرض للثواب وذلك أن المكلف قد يكون معرضا للثواب ويصح أن يستحقه من دون كل هداية وإرشاد يقع منا ولولا الصفة التي جعله الله عليها لم يصح ان يستحقه فبان الفضل بين الامرين على ان أحدنا وإن نفع غيره بالتفضل وبالتعريض للعوض فهذه المنافع منسوبة الى الله تعالى ومضافة إليه من قبل انه لولا نعمه ومنافعه لم تكن هذه المنافع ولا نعما ألا ترى


[ 38 ]

أنه ولو لم يخلق الحياة والشهوة لم يكن ما يوصل اليهما مما ذكرنا منفعة ولا نعمة ولو لم يخلق المشتهى الملذوذ لم يكن سبيل لنا الى النفع والانعام فبان بهذه الجملة ما قصدناه (مجلس آخر 5) [ إن سأل سائل ].. فقال ما تأويل قوله تعالى مخبرا عن مهلك قوم فرعون وتوريثهم نعمهم (كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) وكيف يجوز أن ينفي البكاء عنهما وهو لا يجوز في الحقيقة عليهما.. والجواب يقال له في هذه الآية وجوه أربعة من التأويل.. أولها انه تعالى أراد أهل السماء والأرض فحذف كما حذف في قوله واسئل القرية وفي قوله حتى تضع الحرب أوزارها أراد أهل القرية وأصحاب الحرب ويجري ذلك مجرى قولهم السخاء حاتم يريد السخاء سخاء حاتم.. وقال الحطيئة وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره أراد شر المنايا منية ميت.. وقال الآخر قليل عيبه والعيب جم ولكن الغنى رب غفور أراد غنى رب غفور.. وقال ذو الرمة هم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها أراد أهل مجلس.. وأما قوله – صهب السبال – فانما أراد به الاعداء والعرب تصف الاعداء بذلك وان لم يكونوا صهب الأسبلة.. وقوله – سواسية – يريد انهم مستوون مشتبهون ولا يقال هذا الا في الذم.. وثانيها انه أراد تعالى المبالغة في وصف القوم بصغر القدر وسقوط المنزلة لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت كسفت الشمس لفقده وأظلم القمر وبكاه الليل والنهار والسماء والارض يريدون بذلك المبالغة في عظم الأمر وشمول ضرره.. قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز


[ 39 ]

الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا.. وقال يزيد بن مفرغ الحميرى الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه.. وهذا صنيعهم في وصف كل أمرئ جل خطبه وعظم موقعه فيصفون النهار بالظلام وان الكواكب طلعت نهارا لفقد نور الشمس وضوئها.. قال النابغة تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلام.. وقال طرفة ان تنوله فقد تمنعه وتريه النجم يجري بالظهر.. ومن هذا قولهم لأرينك الكواكب بالنهار ومعناه أورد عليك ما يظلم له في عينك النهار فتظنه ليلا ذا كواكب.. وأما بيت جرير فقد قيل في انتصاب القمر والنجوم وجوه ثلاثة.. أحدها انه أراد الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر لأن عظم الرزء قد سلبها ضوءها فلم يناف طلوعها ظهور الكواب.. والوجه الثاني أن يكون انتصاب ذلك كما ينتصب في قولهم لا أكلمك الأبد والدهر وطوال المدد وما جري مجرى ذلك فكأنه أخبر بان الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وظهر القمر.. والوجه الثالث أن يكون القمر ونجوم الليل باكين الشمس على هذا المرثى فبكتهن أي غلبتهن بالبكاء كما يقال باكانى عبد الله فبكيته وكاثرني فكثرته أي غلبته وفضلت عليه.. وثالثها أن يكون معنى الآية الاخبار عن انه لا أحد أخذ بثأرهم ولا انتصر لهم لأن العرب كانت لا تبكي على قتيل الا بعد الأخذ بثاره وقتل من كان بواء به من عشيرة القاتل فكني تعالى بهذا اللفظ عن فقد الانتصار والأخذ بالثار على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن.. ورابعها أن يكون ذلك كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها الى السماء ويطابق هذا التأويل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى ما بكت عليهم السماء والارض قيل له أو يبكيان على أحد قال نعم مصلاه في الأرض ومصعد عمله في السماء.. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مؤمن الا وله باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا


[ 40 ]

مات بكيا عليه ومعنى البكاء ههنا الاخبار عن الاختلال بعده كما يقال بكى منزل فلان بعده.. قال ابن مقبل لعمر أبيك لقد شاقني مكان حزنت له أو حزن.. وقال مزاحم العقيلي بكت دارهم من أجلهم فتهللت دموعي فاي الجازعين ألوم أمستعبرا يبكي من الهون والبلا وآخر يبكي شجوة ويئيم فإذا لم يكن لهؤلاء القوم الذين أخبر الله عن بوارهم مقام صالح في الأرض ولا عمل كريم يرفع الى السماء جاز أن يقال فما بكت عليهم السماء والارض.. ويمكن في الآية وجه خامس وهو أن يكون البكا فيها كناية عن المطر والسقيا لان العرب تشبه المطر بالبكاء ويكون معنى الآية أن السماء لم تسق قبورهم ولم تجد عليهم بالقطر على مذهب العرب المشهور في ذلك لأنهم كانوا يستسقون السحاب لقبور من فقدوه من أعزائهم ويستنبتون لمواضع حفرهم الزهر والرياض.. قال النابغة فما زال قبر بين تبني وجاسم عليه من الوسمى طل ووابل (1) فينبت حوذانا وعوفا منورا سأتبعه من خير ما قال قائل وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام ومسألة الله لهم الرضوان والفعل الذي أضيف الى السماء وان كان لا يجوز اضافته الي الارض فقد يصح عطف الارض على السماء بان


(1) – تبني – بضم أوله وسكون ثانيه مقصور بلدة بحوران من أعمال دمشق وقال ابن حبيب تبني قرية من أرض الثنية لغسان قال ذلك في تفسير قول كثير أكاريس حلت منهم مرج راهط فأكناف تبنى مرجها فتلالها كان القيان الغر وسط بيوتهم نعاج بجو من رماح حلالها – وجاسم – موضع آخر بالشام دفن بين هذين الموضعين أحد آل جفنة فرثاه النابغة – وطل – يروي بدله جود – والوسمي – مطر الربيع الاول ويقال للمطر الثاني الولي لأنه يليه

[ 41 ]

يقدر لها فعل يصح نسبته إليها والعرب تفعل مثل هذا.. قال الشاعر يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا فعطف الرمح على السيف وان كان التقلد لا يجوز فيه لكنه أراد حاملا رمحا ومثل هذا يقدر في الآية فيقال انه تعالى أراد أن السماء لم تسق قبورهم وان الأرض لم تعشب عليها وكل هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله ورضوانه [ تأويل خبر ].. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ان أحب الأعمال الى الله عزوجل أدومها وان قل فعليكم من الاعمال بما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا وفي وصفه تعالى بالملل وجوه أربعة * أولها انه أراد نفي الملل عنه وانه لا يمل أبدا فعلقه بما لا يقع على سبيل التبعيد كما قال تعالى (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط).. وقال الشاعر فإنك سوف تحكم أو تناهي إذا ما شبت أو شاب الغراب أراد أنك لا تحكم أبدا.. فان قيل ومن أين قلتم ان ما علقه به لا يقع حتى حكمتم بأنه أراد نفي الملل على سبيل التأبيد.. قلنا معلوم ان الملل لا يشتمل البشر في جميع آرابهم وأوطارهم وانهم لا يعرون من حرص ورغبة وأمل وطمع فلهذا جاز أن يعلق ما علم تعالى أنه لا يكون بمللهم.. والوجه الثاني ان يكون المعنى انه لا يغضب عليكم ويطرحكم حتى تتركوا العمل له وتعرضوا عن سؤاله والرغبة في حاجاتكم الى جوده فسمى الفعلين مللا وان لم يكونا في الحقيقة كذلك على مذهب العرب في تسمية الشئ باسم غيره إذا وافق معناه من بعض الوجوه.. قال عدي بن زيد العبادي ثم أضحوا لعب الدهر بهم وكذاك الدهر يودي بالرجال.. وقال عبيد بن الأبرص الاسدي سائل بنا حجر ابن أم قطام إذ ظلت به السمر الذوابل تلعب (1)


(1) – حجر بن أم قطام – هو حجر بن عمرو الكندي أبو امرئ القيس الشاعر وكان حجر هذا ملك على بني أسد فكان يأخذ منهم شيئا معلوما فامتنعوا منه فسار (6 – أمالي)

[ 42 ]

فنسب اللعب الى الدهر والقنا تشبيها.. وقال ذو الرمة وأبيض موشي القميص نصبته على خصر مقلاة سفيه جديلها فسمى اضطراب زمامها وشدة تحركه سفها لأن السفه في الاصل هو الطيش وسرعة الاضطراب والحركة وانما وصف ناقته بالذكاء والنشاط.. وأما قوله – وأبيض موشي القميص – فانما عني سيفه وقميصه جفنه والمقلاة الناقة التي لا يعيش لها ولد * والوجه الثالث أن يكون المعنى انه تعالى لا يقطع عنكم فضله واحسانه حتى تملوا من سؤاله ففعلهم ملل على الحقيقة وسمى فعله مللا وليس بملل على الحقيقة للازدواج ومشاكلة اللفظتين في الصورة وان اختلفا في المعنى ومثل هذا قوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.. وجزاء سيئة سيئة مثلها).. ومثله قول الشاعر وهو عمرو بن كلثوم التغلبي ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وانما أراد المجازاة على الجهل لان العاقل لا يفخر بالجهل ولا يتمدح به.. والوجه الرابع أن يكون الراوي وهم وغلط من الفتح الى الضم وان يكون قوله يمل بالضم لا بالفتح وعلى هذا يكون له معنيان أحدهما انه لا يعاقبكم بالنار حتى تملوا من عبادته وتعرضوا


إليهم فأخذ سرواتهم فقتلهم بالعصى فسموا عبيد العصى وأسر منهم جماعة فيهم عبيد بن الأبرص الاسدي فقام بين يدي الملك.. فقال يا عين فابكي ما بني أسدهم أهل الندامة أهل القباب الحمر وال‍… نعم المؤبل والمدامه في كل واد بين يث‍ رب والقصور الى اليمامة تطريب عان أو صيا ح محرق وزقاء هامه أنت المليك عليهم وهم العبيد الى القيامة فرحمهم الملك وعفا عنهم وسرحهم الى بلادهم ثم انهم أغاروا عليه في غرة منه فقتلوه واستولوا على أمواله فقال عبيد عدة قصائد يفتخر بذلك

[ 43 ]

عن طاعته لان الملة هي مشتوي الخبز يقال مل الرجل الخبزة وغيرها يملها إذا اشتواها في الملة وقيل ان الجمر لا يقال له ملة حتى يخالطه رماد. والمعنى الثاني أن يكون أراد انه لا يسرع الى عقابكم بل يحلم عنكم رفقا وحتى تملوا حلمه وتستعجلوا عذابه بركوبكم المحارم وتتابعكم في المآثم.. وروي انه قيل للفرزدق هل حسدت أحدا على شئ من الشعر فقال لا لم أحسد على شئ منه إلا ليلى الا خيلية في قولها ومخرق عنه القميص تخاله بين البيوت من الحياء سقيما حتى إذا رفع اللوي رأيته تحت اللوي على الخميس زعيما (1) لا تقربن الدهر آل مطرف لا ظالما أبدا ولا مظلوما.. قال علي أنني قد قلت وركب كأن الريح تطلب عندهم لهاترة من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الليل وهي تلفهم إلي شعب الاكوار من كل جانب إذا أبصروا نارا يقولون ليتها وقد خصرت أيديهم نار غالب (2) وليس أبيات الفرزدق بدون أبيات ليلى بل هي أجزل ألفاظا وأشد أسرا الا أن أبيات ليلى أطبع وأنصع.. وقد كان الفرزدق مشهورا بالحسد على الشعر والاستكثار لقليله والافراط في استحسان مستحسنه.. وروي ان الكميت بن زيد الاسدي رحمه الله لما عرض على الفرزدق أبياتا من قصيدته التي أولها


(1) – اللوي – اللواء سمى بذلك لأنه يلوي به يقال ألوى الرجل بثوبه إذا أشاح به – والخميس – الجيش لأن له خمسة أركان مقدمة ومؤخرة وقلب وجناحان – والزعيم – الكفيل بالأمر القائم به (2) – خصرت – أصابها الخصر وهو شدة البرد – وغالب – أبو الفرزدق.. يقول انهم يتمنون إذا أبصروا نارا أن تكون نار غالب لانهم يرون عندها من القرى ما لا يرون عند نار أخرى

[ 44 ]

أتصرم الحبل حبل البين لم أم تصل فكيف والشيب في فوديك مشتعل والأبيات لما عبات لقوس المجد أسهمها حيث الجدود على الأحساب تتصل أحرزت من عشرها تسعا وواحدة فلا العمى لك من رام ولا الشلل الشمس أياك إلا أنها امرأة والبدر إياك إلا أنه رجل حسده الفرزدق فقال له أنت خطيب وانما سلم له الخطابة ليخرجه عن أسلوب الشعر ولما بهره من حسن الابيات وأفرط بها اعجابه ولم يتمكن من دفع فضلها جملة عدل في وصفها الي معنى الخطابة.. وحسد الفرزدق على الشعر واعجابه به من أدل دليل على حسن نقده وقوة بصيرته فيه وان كان يطرب للجيد منه فضل طرب ويعجب منه فضل عجب ويدل أيضا على انصافه فيه وأنه مستقل للكثير الصادر من جهته فان كثيرا من الناس قد يبلغ بهم الهوى والاعجاب والاستحسان لما يظهر منهم من شعر وفضل الى أن يعموا عن محاسن غيرهم ويستقلوا منهم الكثير ويستصغروا الكبير.. ولابيات الفرزدق التي ذكرناها خبر مشهور متداول.. أخبرنا أبو عبد الله المزرباني قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة عن يونس قال دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك ومعه نصيب الشاعر فقال سليمان للفرزدق أنشدني فأنشده الابيات التي تقدم ذكرها فاسود وجه سليمان وغاظه فعله وكان يظن أنه ينشده مديحا له فلما رأى نصيب ذلك قال ألا أنشدك فانشده أقول لركب قافلين لقيتهم قفاذات أوشال ومولاك قارب قفوا خبروني عن سليمان إنني لمعروفه من أهل ودان طالب فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فقال له سليمان أنت أشعر أهل جلدتك.. وفي بعض الاخبار ان الفرزدق قال ذلك في نصيب سأله عنه سليمان.. وروي أيضا انه لما أنشد نصيب أبياته قال له سيلمان


[ 45 ]

أحسنت ووصله ولم يصل الفرزدق فخرج الفرزدق وهو يقول وخير الشعر أكرمه رجالا وشر الشعر ما قال العبيد ولا شبهة في ان أبيات الفرزدق مقدمة في الجزالة والرصانة على أبيات نصيب وان كان نصيب قد أغرب وأبدع في قوله * ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب * الا ان أبيات نصيب وقعت موقعها ووردت في حال تليق بها وأبيات الفرزدق جاءت في غير وقتها على غير وجهها فلهذا قدمت أبيات نصيب والفرزدق مع تقدمه في الشعر وبلوغه فيه الذروة العلياء والغاية القصوى شريف الآباء كريم البيت له ولآبائه مآثر لا تدفع ولا تجحد والفرزدق لقب لقب به وليس باسمه وانما لقب به لجهامة وجهه وغلظه لأن الفرزدقة هي القطعة الضخمة من العجين وقيل انها الخبزة الغليظة التي تتخذ منها النساء الفتوت.. واسمه همام بن غالب وكنيته أبو فراس وقيل انه كان يكنى في شبابه بأبي مكية (1) وهي أغرب كناه.. وكان شيعيا مائلا الى بني هاشم ونزع في آخر عمره عما كان عليه من القذف والفسق وراجع طريقة الدين على انه لم يكن في خلال فسقه منسلخا من الدين جملة ولا مهملا أمره أصلا.. ومما يشهد بذلك ما أخبرنا به علي بن محمد الكاتب عن أبي بكر محمد بن يحيي الصولي عن أبي حفص الغلاس عن عبد الله ابن سوار عن معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال دخلت على الفرزدق فجعلت أحادثه فسمعت صوت حديد يتقعقع فتأملت الامر فإذا هو مقيد الرجلين فسألت عن السبب


(1) كنى بذلك ببنت له اسمها مكية وكانت كأبيها حاضرة الجواب خبيثة اللسان فيقال ان رجلا قرع باب الفرزدق يسأل عنه وكان مقطوع اليد فخرجت إليه مكية فسألها عن أبيها فقالت انه خرج في بعض حاجه ثم قالت ما لي أرى يدك مقطوعة فقال قطعها الحرورية فقالت بل قطعت في اللصوصية فانصرف الرجل خجلا ثم جاء الفرزدق فأخبر بذلك فقال أشهد انها بنتي حقا ثم أنشأ يقول حام إذا ما كنت ذا حميه بدارمي بنته صييه صمحمح يكنى أبا مكيه وكانت مكية هذه من زنجية

[ 46 ]

في ذلك فقال اني آليت على نفسي انى لا أنزع القيد من رجلي حتى أحفظ القرآن.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا أبو ذر القراطيسي قال أخبرنا ابن أبي الدنيا قال أخبرنا الرياشي عن الأصمعي عن سلام بن مسكين قال قيل للفرزذق علام تقذف المحصنات فقال والله الله أحب الي من عيني هاتين أفتراه يعذبني بعدها.. وروي انه تعلق باستار الكعبة فعاهد الله على ترك الهجاء والقذف اللذين كان ارتكبهما.. وقال ألم ترني عاهدت ربي وإنني لبين رتاج قائما ومقام على حلفة لا أشتم الدهر مسلما ولا خارجا من في زور كلام أطعتك يا إبليس تسعين حجة فلما قضى عمري وتم تمامى فزعت إلي ربي وأيقنت أنني ملاق لأيام الحتوف حمامي.. وروى الصولي عن الحسين بن الفياض عن إدريس بن عمران قال جاءني الفرزدق فتذاكرنا رحمة الله وسعتها فكان أوثقنا بالله فقال له رجل ألك هذا الرجاء والمذهب وأنت تقذف المحصنات وتفعل ما تفعل فقال أترونني لو أذنبت ذنبا الى أبوي أكانا يقذفانى في تنور وتطيب أنفسهما بذلك قلنا لا بل كانا يرحمانك قال فأنا والله برحمة ربي أوثق مني برحمتهما.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا محمد بن ابراهيم قال حدثنا عبد الله بن أبي سعيد الوراق قال حدثني محمد بن محمد بن سليمان الطفاوى قال حدثنى أبي عن جدي قال شهدت الحسن البصري في جنازة النوار امرأة الفرزدق وكان الفرزدق حاضرا فقال له الحسن وهو عند القبر يا أبا فراس ما أعددت لهذا المضجع قال شهادة أن لا إله الا الله منذ ثمانون سنة فقال له الحسن هذا العمود فاين الطنب.. وفي رواية أخرى أنه قال نعم ما أعددت ثم قال الفرزدق في الحال أخاف وراء القبر إن لم يعافنى أشد من الموت التهابا وأضيقا إذا جاءني يوم القيامة قائد عنيف وسواق يسوق الفرزدقا


[ 47 ]

لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا يقاد إلى نار الجحيم مسربلا سرابيل قطران لباسه محرقا.. قال فرأيت الحسن يدخل بعضه في بعض ثم قال حسبك.. ويقال ان رجلا رأى الفرزدق بعد موته في منامه فقال ما فعل الله بك فقال عفا عني بتلك الابيات.. وأما ما يدل علي تشيعه وميله الى بني هاشم فما أخبرنا أبو عبيد الله المزرباني قال حدثني عمر ابن داود العماني قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال حدثنا أبو لبيد قال جاء الكميت الى الفرزدق فقال يا عم اني قد قلت قصيدة أريد أعرضها عليك فقال له قل.. فأنشده * طربت وما شوقا إلى البيض أطرب * فقال له الفرزدق فالي من طربت ثكلتك أمك فقال * ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب * ولم تلهني دار ولا رسم منزل ولم يتطربني بنان مخضب فقال له إلام طربت فقال ولا أنا ممن يزجر الطير همه أصاح غراب أم تعرض ثعلب [ قال المرتضى رضى الله عنه ].. تقف علي الطير ثم تبتدئ بهمه ليعلم الغرض ولا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مر أعضب (1) ولكن إلي أهل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلب.. قال الفرزدق هؤلاء بنو دارم.. فقال الكميت


(1) – السانحات – جمع سانحة – والبارحات – جمع بارحة والسانح من الطير ما مر من مياسرك الى ميامنك والبارح بعكسه والعرب كانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح.. ومن أمثالهم من لي بالسانح بعد البارح أي بالمبارك بعد المشؤم

[ 48 ]

إلى النفر البيض الذين بحبهم الى الله فيما نابني أتقرب فقال الفرزدق هؤلاء بنو هاشم فقال الكميت بني هاشم رهط النبي فانني بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب فقال له الفرزدق والله لو جزتهم الى سواهم لذهب قولك باطلا.. ومما يشهد أيضا بذلك ما أخبرنا به أبو عبيد الله المرزباني.. قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا جدي يحيي ابن الحسن العلوي قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال حدثني غير واحد من أهل الادب أن علي بن الحسين عليه السلام حج فاستجهر الناس جماله وتشوفوا له وجعلوا يقولون من هذا فقال الفرزدق هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم إذا رأته قريش قال قائلها الي مكارم هذا ينتهي الكرم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضى حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم أي القبائل ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نعم من يشكر الله يشكر أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الامم.. وفي رواية الغلابي أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة عبد الملك أو الوليد وهو حدث السن فاراد أن يستلم الحجر فلم يتمكن من ذلك لتزاحم الناس عليه فجلس ينتظر خلوة فاقبل علي بن الحسين عليه السلام وعليه إزار ورداء وهو من أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ الحجر تنحى الناس له عنه حتى يستلمه هيبة له واجلالا فغاظ ذلك هشاما فقال له رجل من أهل الشام من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فقال هشام لا أعرفه لئلا يرغب فيه أهل


[ 49 ]

الشام فقال الفرزدق وكان هناك حاضرا لكنى أعرفه وذكر الأبيات وهي أكثر مما رويناه لكنا تركناها لانها معروفة.. قال فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فبعث الى الفرزدق باثني عشر ألف درهم وقال اعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر منها لوصلناك به فردها الفرزدق وقال يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت الا غضبا لله ورسوله وما كنت لا رزأ عليه شيئا وردها إليه فردها عليه وأقسم عليه في قبولها وقال له قد رأى الله مكانك وعلم نيتك وشكر لك ونحن أهل بيت إذا أنفذنا شيئا لم نرجع فيه فقبلها وجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس.. ومما هجاه به أتحبسني بين المدينة والتي إليها رقاب الناس يهوي منيبها يقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعينا له حولاء باد عيوبها (مجلس آخر 6) [ ان سأل سائل ].. فقال ما عندكم في تأويل قوله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء أن يكونوا أمة واحدة وأن يجتمعوا على الايمان والهدى وهذا بخلاف ما تذهبون إليه.. ثم قال ولذلك خلقهم فلا يخلو من أن يكون عني إنه للاختلاف خلقهم أو للرحمة ولا يجوز ان يعني الرحمة لأن الكناية عن الرحمة لا تكون بلفظه ذلك ولو أرادها لقال ولتلك خلقهم فلما قال ولذلك خلقهم كان رجوعه الي الاختلاف أولى وليس يبطل حمل الآية على الاختلاف من حيث لم يكن مذكورا فيها لان الرحمة أيضا غير مذكورة فيها وإذا جعلتم قوله تعالى الا من رحم دالا على الرحمة فكذلك قوله مختلفين دالا على الاختلاف على أن الرحمة هي رقة القلب والشفقة وذلك لا يجوز على الله تعالى ومتى ما تعدى بها ما ذكرناه لم يعن بها الا العفو وإسقاط الضرر وما جرى (7 – أمالي)


[ 50 ]

مجراهما عن مستحقه وهذا مما لا يجوز أن يكونوا مخلوقين له على مذهبكم لأنه لو خلقهم للعفو لما حسن منه عقاب المذنبين ومؤاخذة المستحقين.. الجواب يقال له أما قوله تعالى ولو شاء ربك فانما عني بها المشيئة التي ينضم إليها الالجاء ولم يعن المشيئة على سبيل الاختيا روانما أراد تعالى أن يخبرنا عن قدرته وانه لا يغالب ولا يعصي مقهورا من حيث كان قادرا على العباد واكراههم على ما أراد منهم.. فاما لفظة ذلك في الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف (1) بدليل العقل وشهادة اللفظ.. فاما دليل العقل فمن حيث علمنا أنه تعالى كره الاختلاف والذهاب عن الدين ونهى عنه وتوعد عليه فكيف يجوز أن يكون شائيا له ومخبرا بخلق العباد عليه.. وأما شهادة اللفظ فلأن الرحمة أقرب الى هذه الكناية من الاختلاف وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى في لسان العرب.. فاما ما طعن به السائل وتعلق به من تذكير الكناية وان الكناية عن الرحمة لا تكون الا مؤنثة فباطل لان تأنيث الرحمة غير حقيقي وإذا كنى عنها بلفظة التذكير كانت الكناية على المعني لان معناها هو الفضل والانعام كما قالوا سرني كلمتك يريدون سرني كلامك وقال تعالى (هذا رحمة من ربي) ولم يقل هذه وانما أراد هذا فضل من ربي.. وقالت الخنساء فذلك يا هند الرزية فاعلمي ونيران حرب حين شب وقودها أرادت الرزء.. وقال امرؤ القيس


(1) – قلت – بل الصواب أن يعود على الاختلاف لا لأن رجوع اسم الاشارة على الرحمة غير ممكن بل لأن السياق يدل على خلافه فان الله جل شأنه ذكر صنفين من خلقه أحدهما أهل اختلاف وباطل والآخر أهل حق ثم عقب ذلك بقوله ولذلك خلقهم فعم بقوله ذلك صفة الصنفين فأخبر عن كل فريق منهما انه ميسر لما خلق له ومعنى قوله ولذلك خلقهم على هذا انه على علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم انه يكون فيهم المؤمن والكافر والشقي والسعيد خلقهم فاللام في قوله ولذلك بمعنى على وبهذا يندفع كل اشكال يرد هنا

[ 51 ]

برهرهة رودة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر (1) فقال المنفطر ولم يقل المنفطرة لانه ذهب الى الغصن.. وقال الآخر هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي بناقة سعد والعشية بارد فذكر الوصف لانه ذهب الى العشي.. وقال الآخر قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة قد ذل من ليس له ناصر فقال ذا غربة ولم يقل ذات غربة لانه أراد شخصا ذا غربة.. وقال زياد الاعجم إن الشجاعة والسماحة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح.. فقال ضمنا ولم يقل ضمنتا.. قال الفراء لأنه ذهب الى ان السماحة والشجاعة مصدران والعرب يقولون قصارة الثوب يعجبني لان تأنيث المصادر يرجع الى الفعل وهو مذكر.. وقال الفرزدق تجوب بنا الفلاة الي سعيد إذا ما الشاة في الأرطاة قالا فذكر الوصف لأنه أراد التيس.. فأما – الارطاة – واحدة الارطي وهي شجر ينبت في الرمل تستظل بظلالة الظباء من الحر وتأوي إليه.. قال الشماخ إذا الأرطا توسد أبرديه خدود جوازي بالرمل عين.. وقوله – قالا – من القيلولة لا من القول على ان قوله تعالى الا من رحم ربك كما يدل علي الرحمة يدل أيضا على ان يرحم فإذا جعلنا الكناية بلفظة ذلك عن أن يرحم كان التذكير في موضعه لأن الفعل مذكر ويجوز أيضا أن يكون قوله ولذلك خلقهم كناية عن


(1) – الرهرهة – النعامة البيضاء من النعمة – والرودة – اللينة من قولهم ريح رود أي لينة – والرخصة – الغضة الناعمة – والخرعوبة – والخرعوب الغصن لسنته أو الغصن السامق الناعم الحديث البنات

[ 52 ]

اجتماعهم على الايمان وكونهم فيه أمة واحدة (1) ولا محالة ان لهذا خلقهم ويطابق هذه الآية قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).. وقال قوم في قوله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ان معناه انه لو شاء أن يدخلهم أجمعين الجنة فيكونوا في وصول جميعهم الى النعيم أمة واحدة وأجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) في انه أراد هداها الى طريق الجنة فعلى هذا التأويل أيضا يمكن ان ترجع لفظة ذلك الى ادخالهم أجمعين الى الجنة لانه تعالى انما خلقهم للمصير إليها والوصول الى نعيمها.. فاما قوله ولا يزالون مختلفين فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه بالهوى والشبهات.. وذكر أبو مسلم محمد بن بحر في قوله مختلفين وجها غريبا وهو أن يكون معناه أن خلف هؤلاء الكافرين يخلف سلفهم في الكفر لانه سواء قولك خلف بعضهم بعضا وقولك اختلفوا وسواء قولك قتل بعضهم بعضا واقتتلوا.. ومنه قولهم لا أفعل كذا ما اختلف العصران والجديدان أي جاء كل واحد منهما بعد الآخر فاما الرحمة فليست رقة القلب كما ظنه السائل لكنه فعل النعم والاحسان يدل على ذلك ان من أحسن الى غيره وأنعم عليه يوصف بأنه رحيم به وان لم تعلم منه رقة قلب عليه بل وصفهم بالرحمة من لا يعهدون منه رقة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك لان مشقة النعمة والفضل والاحسان على من لارقة عنده أكثر منها على الرقيق القلب وقد علمنا أن من رق قلبه لو امتنع من الافضال والاحسان لم يوصف بالرحمة وإذا أنعم وصف بذلك فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه على أنه لا يمتنع أن يكون معنى الرحمة في الاصل ما ذكرتم ثم انتقل بالتعارف الى ما ذكرناه كنظائره وقد وصف الله القرآن بانه هدى ورحمة من حيث كان نعمة ولا يتأتى في القرآن ما ظنوه وانما وصفت رقة القلب بانها رحمة لانها مما


(1) – قلت – هذا الجواب لا يتمشى الا على مذهب المعتزلة الذين يجوزون على الباري جل شأنه أن يقع في ملكه ما لا يريد.. أما على مذهب أهل السنة فلا يصح لانه لو خلقهم للاجتماع على الايمان لم يفترقوا فيه

[ 53 ]

تجاوره الرحمة التي هي النعمة في الاكثر وتوجد عنده فحل محل وصف الشهوة بانها محبة لما كانت توجد عندها المحبة في الاكثر وليست الرحمة مختصة بالعفو بل تستعمل في ضروب النعم وصنوف الاحسان ألا ترى انا نصف المنعم علي غيره المحسن إليه بالرحمة وان لم يسقط عنه ضررا ولم يتجاوز له عن زلة وانما سمى العفو عن الضرر وما جرى مجراه رحمة من حيث كان نعمة لان النعمة باسقاط الضرر تجري مجرى النعمة بايصال النفع فقد بان بهذه الجملة معنى الآية وبطلان ما ضمنه السائل سؤاله.. فان قيل إذا كانت الرحمة هي النعمة وعندكم أن نعم الله شاملة للخلق أجمعين فاي معنى لاستثناء من رحم من جملة المختلفين ان كانت النعمة هي الرحمة وكيف يصح اختصاصها بقوم دون قوم وهي عندكم شاملة عامة.. قلنا لا شبهة في ان نعم الله شاملة للخلق أجمعين غير ان في نعمه أيضا ما يختص بها بعض العباد إما لاستحقاق أو لسبب يقتضي الاختصاص فإذا حملنا قوله تعالى الا من رحم ربك على النعمة بالثواب فالاختصاص ظاهر لان النعمة به لا تكون الا مستحقة فمن استحق الثواب بأعماله وصل الى هذه النعمة ومن لم يستحقه لم يصل إليها وان حملنا الرحمة في الآية على النعمة بالتوفيق للايمان واللطف الذي وقع بعده فعل الايمان كانت هذه النعمة أيضا مختصة لانه تعالى انما لم ينعم على سائر المكلفين بها من حيث لم يكن في معلومه تعالى أن لهم توفيقا وان في الافعال ما يختارون عنده الايمان فاختصاص هذه النعم ببعض العباد لا يمنع من شمول نعم أخر كما أن شمول تلك النعم لا يمنع من اختصاص هذه [ تأويل خبر ].. روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مما أدرك الناس من كلام النبوة الاولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت وفي هذه الخبر وجوه من التأويل ثلاثة.. أحدها أن يكون معناه إذا علمت أن العمل لله عزوجل وأنت لاتستحيي من الناظرين اليك ولا تتخوفهم أن ينسبوك فيه الى الرياء صنعت ما شئت لان فكرك فيهم ومراقبتك لهم يقطعانك عن استيفاء شروط عملك ويمنعانك من القيام بحدود حقوقه وإذا اطرحت الفكر توفرت على استيفاء عملك.. والوجه الثاني ان من لم يستحي من المعاير والمخازي والفضائح صنع ما شاء والظاهر ظاهر أمر والمعنى معنى تغليظ وانكار مثل


[ 54 ]

قوله تعالى (اعملوا ما شئتم) وقوله عز وجل (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وهذا نهاية التغليظ والزجر والاخبار عن كبر الذنب واطراح الحياء ويجري مجرى قولهم بعد أن فعل فلان كذا فليفعل ما يشاء وبعد أن أقدم على كذا فليقدم على ما شاء والمعنى المبالغة في التعظيم لما ارتكبه وقبح ما اقترفه.. والوجه الثالث أن يكون معنى الخبر إذا لم تفعل ما تستحيي منه فافعل ما شئت فكأن المعنى إذا لم تفعل قبيحا فافعل ما شئت لانه لاضرب من ضروب القبائح الا والحياء يصاحبه ومن شأن فاعله إذا قرع به أن يستحي منه فمتى جانب الانسان ما يستحي منه في أفعاله فقد جانب سائر القبائح وما عدا القبيح من الافعال فهو حسن ويجري هذا مجرى خبر عن نبينا عليه الصلاة السلام فيما أظنه أن رجلا جاءه فاسترشده الي خصلة يكون فيها جماع الخير فقال عليه الصلاة والسلام أشترط عليك أن لا تكذبني ولن أسألك ما وراء ذلك فهان على الرجل ترك الكذب خاصة والمعاهدة على اجتنابه دون سائر القبائح وشرط على نفسه ذلك فلما انصرف جعل كل ماهم بقبيح يفكر ويقول أرأيت لو سألني عنه النبي ما كنت قائلا له لانني ان صدقته افتضحت وان كذبته نقضت العهد بيني وبينه فكان ذلك سببا لاجتنابه لسائر القبائح وهكذا معني الخبر الذي تأولناه لان في اجتناب ما يستحيي منه اجتنابا لسائر القبائح [ تأويل خبر آخر ].. روى محمد بن الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام قال (1) كان قد كثر على مارية القبطية أم ابراهيم في ابن عم لها قبطي كان يزورها ويختلف إليها فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام خذ هذا السيف وانطلق به فان وجدته عندها فاقتله قلت يا رسول الله أكون في أمرك كالسكة المحماة أمضى لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال النبي عليه الصلاة والسلام بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فأقبلت متوشحا بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلما أقبلت نحوه علم اني أريده فأتى نخلة فرقي إليها ثم رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا انه أجب أمسح


(1) – قلت – في النفس من هذا الحديث أشياء وفي عبارته ركة وفي سياقه اضطراب ولم يتيسر لنا حين النظر فيه الكشف عنه والوقوف على حقيقته وأغلب الظن انه موضوع لا أصل له

[ 55 ]

ما له مما للرجال قليل ولا كثير فغمدت السيف ورجعت الى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت.. [ قال المرتضى ] رضي الله عنه في هذا الخبر أحكام وغريب ونحن نبدأ بأحكامه ثم نتلوه بغريبه.. فأول ما فيه أن لقائل ان يقول كيف يجوز أن يأمر الرسول بقتل رجل على التهمة بغير بينة ولا ما يجري مجراها.. والجواب عن ذلك ان القبطي جاز أن يكون من أهل العهد الذين أخذ عليهم أن تجري عليهم أحكام المسلمين وأن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام تقدم إليه بالانتهاء عن الدخول الى مارية فخالف وأقام على ذلك وهذا نقض للعهد وناقض العهد من أهل الكفر مؤذن بالمحاربة والمؤذن بها مستحق للقتل.. فأما قوله بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب – فانما عني به رؤية العلم لا رؤية البصر لأنه لا معنى في هذا الموضع لرؤية البصر فكأنه عليه الصلاة والسلام قال بل الشاهد يعلم ويصح له من وجه الرأي والتدبير ما لا يصح للغائب ولو لم يقل ذلك لوجب قتل الرجل على كل حال وانما جاز منه عليه الصلاة والسلام أن يخير بين قتله والكف عنه ويفوض الى أمير المؤمنين عليه السلام من حيث لم يكن قتله من الحدود والحقوق التي لا يجوز العفو عنها ولا يسع الا اقامتها لأن ناقض العهد ممن الى الامام القائم بأمر المسلمين إذا قدر عليه قبل التوبة أن يقتله وان يمن عليه.. ومما فيه أيضا من الاحكام اقتضاؤه ان مجرد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقتضي الوجوب لأنه لو اقتضى ذلك لما حسنت مراجعته ولا استفهامه وفي حسنها ووقوعها موقعها دلالة على أنه لا يقتضي ذلك.. ومما فيه أيضا من الاحكام دلالته على أنه لا بأس بالنظر الى عورة الرجل عند الامر ينزل ولا يوجد من النظر إليها بد إما لحد يقام أو لعقوبة تسقط لان العلم بأنه أمسح أجب لم يكن الا عن تأمل ونظر وانما جاز النظر والتأمل لتبيين هل هو ممن يكون منه ما قرف به أم لا والواجب على الامام فيمن شهد عليه بالزنا وادعى انه مجبوب أن يأمر بالنظر إليه وتبيين أمره وبمثله أمر النبي عليه الصلاة والسلام في قتل مقاتلة بني قريظة لأنه أمر أن ينظروا الى مؤتزر كل من أشكل عليهم أمره فمن وجدوه قد أنبت قتلوه ولولا جواز النظر الى العورة عند الضرورة لما قامت شهادة الزنا لأن من رأى رجلا مع امرأة واقعا عليها ولم يتأمل أمرهما حق


[ 56 ]

التأمل لم تصح شهادته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة وقد سأله عمن وجد مع امرأته رجلا أيقتله فقال لا حتى يأتي بأربعة شهداء ولو لم يكن للشهداء إذا حضروا تعمد النظر الى عورتيهما لإقامة الشهادة كان حضورهم كغيبتهم ولم تقم شهادة الزنا لأن من شرطها مشاهدة العضو في العضو كالميل في المكحلة.. فان قيل كيف جاز لأمير المؤمنين الكف عن القتل ومن أي جهة آثره لما وجده أجب وأي تأثير لكونه أجب فيما استحق به القتل وهو نقض العهد.. قلنا انه عليه الصلاة والسلام لما فوض إليه الامر في القتل والكف كان له أن يقتله على كل حال وان وجده أجب لان كونه بهذه الصفة لا يخرجه من نقض العهد وانما آثر الكف الذي كان إليه ومفوضا إلى رأيه لازالة التهمة والشك الواقعين في أمر مارية ولأنه أشفق من أن يقتله فيحقق الظن ويلحق بذلك العار فرأى عليه السلام ان الكف أولى لما ذكرناه.. وأما غريب الحديث فقوله شغر برجله يريد رفعها وأصله في الوصف إذا رفع رجله للبول فأما نكاح الشغار فبالكسر وقد قيل الشغار بالفتح وهو أن يزوج الرجل من هو ولي لها من بنت أو أخت غيره على أن يزوجه بنته أو أخته بغير مهر وكان أحد العرب في الجاهلية يقول للآخر شاغرني أي زوجني حتى أزوجك وأظنه مأخوذا من الشغر الذي هو رفع الرجل لان النكاح فيه معنى الشغر فسمي هذا العقد شغارا ومشاغرة لافضائه في كل واحد من لتزويجين الى معني الشغر وصار اسما لهذا النكاح كما قيل في الزنا سفاح لان الزانيين يتسافحان الماء أي يسكبانه والماء هو النطفة.. ويمكن أن يكون أيضا الماء الذي يغتسلان به فكني بذلك عن الزنا ثم صار اسما له وعلما عليه.. ومن الشغر الذي هو رفع الرجل قول زياد لابنة معاوية وكانت عند ابنه وافتخرت يوما عليه وتطاولت فشكاها الى أبيه زياد فدخل عليها بالدرة يضربها ويقول لها أشغرا وفخرا.. وأما قول الفرزدق شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكار.. فانه من غريب شعره وفسره قال – شغارة – أنها ترفع رجليها بالبول وقوله – تقذ الفصيل برجلها – أي تركله وتدفعه عن الدنو الى الرضاع ليتوفر اللبن على الحلب أو أراد بتقذه أي تبالغ في إيلامه وضربه ومنه الموقوذة فاما قوله – فطارة لقوادم الابكار – فالفطر


[ 57 ]

هو الحلب بثلاث أصابع والقوادم هي الاخلاف وانما خص الابكار بذلك لان صغر أخلافها يمنع من حلبها ضبا – والضب – هو الحلب بالاصابع الاربع كلها فكأنه لا يمكن فيهالقصر أخلافها الا الفطر ومعنى البيت تعييره نساء جرير بأنهن راعيات وذلك مما تعير به العرب النساء ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت كم عمة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت علي عشاري كنا نحاذر أن تضيع لقاحنا ولها إذا سمعت دعاء يسار ثم تلا ذلك بقوله شغارة.. [ قال المرتضى رحمة الله عليه ] وعندي أن قوله شغارة كناية عن رفع رجلها للزنا وهو أشبه أن يكون مراده في هذا الموضع ألا ترى انه قد وصفها بالوله وترك حفظ اللقاح عند سماعها دعاء يسار – ويسار – اسم راع فكأنه قد وصفها بالوله الى الزنا والاسراع إليه وترك حفظ ما استحفظته من اللقاح فالأشبه أن يكون قوله شغارة مع كونه عقيب البيت الذي ذكرناه محمولا على ما أشرنا إليه.. فاما قولهم ذهبوا شغر بغر فليس من هذا في شئ وانما يراد به انهم ذهبوا مفرقين مشتتين ومثله ذهبوا عباديد وشعاليل وشعارير وأيادي سبأكل ذلك بمعنى واحد.. وأما قوله – فإذا انه أجب – فيعني به المقطوع الذكر لأن الجب هو القطع ومنه بعير أجب إذا كان مقطوع السنام وقد ظن بعض من تأول هذا الخبر أن الا مسح ههنا هو القليل لحم الالية كالارصع والأرسح والازل وهذا غلط لان الوصف بذلك لا معنى له في هذا الخبر وانما أراد تأكيد الوصف له بانه أجب والمبالغة فيه لان قوله أمسح يفيد انه مصطلم الذكر ويزيد على معنى اجب زيادة ظاهرة.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانى قال حدثني القاسم بن الحسن الوراق قال حدثنا سليمان بن داود الطوسي قال حدثنا سوار بن عبد الله القاضي عن الأصمعي قال دخلت على الرشيد في الليل فتذاكرنا أحوال القمر فقلت العرب تقول للقمر إذا كان ابن ليلة ما أنت ابن ليلة قال رضاع سخيله حل أهلها برميله.. قيل له فما أنت ابن ليلتين قال حديث أمتين بكذب ومين.. قيل له ما أنت ابن ثلاث قال قليل اللباث. وقيل أيضا حديث فتيات غير جد مؤتلفات.. قيل له فما أنت ابن أربع قال عتمة أم ربع وقيل عتمة أم الربع غير جائع ولا مرضع.. قيل له فما أنت ابن (8 – أمالي)


[ 58 ]

خمس قال عشاء خلفات قعس ويقال حديث وأنس ويقال سر ومس.. قيل له فما أنت ابن ست قال سروبت ويقال تحدث وبت.. قيل فما أنت ابن سبع قال دلجة ضبع وقيل هدى لأنس ذي الجمع وقيل حديث جمع وقيل يضفر في النسع وقيل يلتقط في الجزع.. قيل فما أنت ابن ثمان قال قمر أضحيان.. قيل فما أنت ابن تسع قال منقطع الشسع وقيل يضفر في الجزع وقيل يلتقط في الجزع وقيل الودع وقيل عشية أهل جمع.. قيل فما أنت ابن عشر قال ثلث الشهر وقيل مخنق الفجر وقيل أؤديك إلى الفجر وقيل أبا در الفجر.. قيل فما أنت ابن احدى عشرة قال اطلع عشاء وأرى بكرة وقيل وأغيب بسحرة.. قيل فما أنت ابن اثنتي عشرة قال مؤنق للبشر للبدو والحضر.. قيل فما أنت ابن ثلاث عشرة قال قمر باهر يعشي له الناظر.. قيل له فما أنت ابن أربع عشرة قال مقتبل الشباب أضئ مدجنات السحاب وقيل مضئ للسحاب.. قيل فما أنت ابن خمس عشرة قال تم الشباب وانتصف الحساب.. قيل فما أنت ابن ست عشرة قال ناقص الخلق بالغرب والشرق.. قيل فما أنت ابن سبع عشرة قال أمكنت المقتفر القفرة.. قيل فما أنت ابن ثماني عشرة قال قليل البقاء سريع الفناء.. قيل فما أنت ابن تسع عشرة قال بطئ الطلوع بين الخشوع.. قيل فما أنت ابن عشرين قال أطلع بسحرة وأضئ بالبهرة وقيل أهجر بالبهرة.. قيل فما أنت ابن احدى وعشرين قال كالقبس يرى بالغلس.. قيل فما أنت ابن اثنين وعشرين قال لاأطلع الا ريث ما أرى.. قيل فما أنت ابن ثلاث وعشرين قال أطلع في قتمة ولا أجلو الظلمة.. قيل فما أنت ابن أربع وعشرين قال لا قمر ولا هلال.. قيل فما أنت ابن خمس وعشرين قال دنا الأجل وانقطع الأمل.. قيل فما أنت ابن ست وعشرين قال دنا ما دنا فلا يرى منى الا شفا.. قيل فما أنت ابن سبع وعشرين قال أطلع بكرا ولا أرى ظهرا.. قيل فما أنت ابن ثمان وعشرين قال أسبق شعاع الشمس.. قيل فما أنت ابن تسع وعشرين قال ضئيل صغير فلا يراني الا البصير.. قيل فما أنت ابن ثلاثين قال هلال مستبين.. قال الأصمعي ثم قلت للرشيد يقال انه لا يحفظ هذا الحديث من الرجال الا عاقل وقال خذه علي قلت هات فأعاده حتى بلغ الي قيل له ما أنت ابن ثمان قال قمر


[ 59 ]

أضحيان.. قوله اما رضاع سخيله أراد تصغير سخله والمعني ان القمر يبقي بقدر ما ينزل قوم فتضع شاتهم سخلة ثم ترضعها ويرتحلون فبقاؤه في الأفق بمقدار هذا الزمان.. وقوله حل أهلها برميله فأظن ان المعني فيه الاخبار عن قلة اللباث وسرعة الانتقال لأن الرمل ليس بمنزل مقام للقوم لأنهم كانوا يختارون في منازلهم جلد الأرض وهضبها والأماكن التي لا تستولي السيول عليها فخص الرملية لهذا المعنى.. وقوله حديث أمتين بكذب ومين يريد أن بقاؤه قليل بمقدار ما تلقي الأمة الأمة فتكذب لها حديثا ثم يفترقان.. وقوله حديث فتيات غير جد مؤتلفات يريد انه يبقى بقاء فتيات اجتمعن على غير ميعاد فتحادثن ساعة ثم انصرفن غير مؤتلفات.. وقوله عتمة أم الربع يقال عتمت إبله أذا تأخرت عن العشاء.. وقوله أم ربع يعني الناقة وهو تأخير حلبها يريد أن بقاءه بمقدار ما تحلب ناقة لها ولد ولدته في أول الربيع وهو أول النتاج والولد في هذا الوقت يسمى ربعا إذا كان ذكرا فان كان أنثى قيل ربعة فان كان في آخر النتاج قيل هبع للذكر وللانثى هبعة.. وقوله عشاء خلفات قعس فالخلفات اللواتي قد استبان حملهن واحدها خلفة وهي واحدة المخاض ولا واحد للمخاض من لفظها وانما قال عشاء خلفات لانها لا تعشى الى أن يغيب القمر في هذه الليلة والقعساء الداخلة الظهر الخارجة البطن.. وقوله سر وبت يريد انه لا يبقى الا بقدر ما يبيت الانسان ثم يسير.. وقوله قمر أضحيان أي ضاح وبارز ويقال قمر أضحيان بالتنوين فيهما جميعا وقمر أضحيان بالاضافة ومنه قيل ليلة أضحيانة أذا كانت نقية البياض.. وقوله منقطع الشسع أراد أنه يبقى بقدر ما يبقى شسع من قد يمشى به حتى ينقطع.. وقوله يلتقط في الجزع أي انه مضئ أبلج لو انقطعت مخنقة فتاة فيها شذور مفصلة بجزع ما ضاع منها شئ لضيائه وبقائه.. وقوله أضئ بالبهرة يعنى لصفائه وسط الليل لأن بهرة الشئ وسطه.. وقوله أمكنت المقتفر القفرة فالمقتفر الذي يتبع الآثار وقفرته موضعه الذي يقصده (مجلس آخر 7) [ ان سأل سائل ] عن قوله تعالى (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى


[ 60 ]

وأضل سبيلا) فقال كيف يجوز أن يكونوا في الآخرة عميا وقد تظاهر الخبر عن الرسول بان الخلق يحشرون كما بدئوا سالمين من الآفات والعاهات قال الله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) وقال الله تعالى (وكما بدأكم تعودون) وقال عزوجل (فبصرك اليوم حديد).. الجواب يقال في هذه الآية أربعة أوجه.. أحدها أن يكون العمي الاول انما هو عن تأمل الآيات والنظر في الدلالات والعبر التي أراها الله تعالى المكلفين في أنفسهم وفيما يشاهدون ويكون العمي الثاني هو عن الايمان بالآخرة والاقرار بما يجازى به المكلفون فيها من ثواب أو عقاب.. وقد قال قوم ان الآية متعلقة بما قبلها من قوله تعالى (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله) إلى قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) ثم قال بعد ذلك (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) يعني في هذه النعم وعن هذه العبر فهو في الآخرة أعمى أي هو عما غيب عنه من أمر الآخرة أعمى ويكون قوله في هذه كناية عن النعم لا عن الدنيا.. ويقال ان ابن عباس سأله سائل عن هذه الآية فقال له اتل ما قبلها فنبهه على التأويل الذي ذكرناه.. والجواب الثاني من كان في هذه يعني الدنيا أعمى عن الايمان بالله والمعرفة بما أوجب الله عليه المعرفة به فهو في الآخرة أعمى عن الجنة والثواب بمعنى أنه لا يهتدي إلى طريقهما ولا يوصل اليهما أو عن الحجة إذا سئل وأوقف ومعلوم ان من ضل عن معرفة الله تعالى والايمان به يكون يوم القيامة منقطع الحجة مفقود المعاذير.. والجواب الثالث أن يكون العمى الاول عن المعرفة والايمان والثاني بمعنى المبالغة في الاخبار عن عظم ما يناله هؤلاء الكفار الجهال بالله من الخوف والغم والحزن الذي أزاله الله عن المؤمنين العارفين بقوله (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ومن عادة العرب ان تسمى من اشتد همه وقوى حزنه أعمى سخين العين ويصفون المسرور بأنه قرير العين قال الله تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).. والجواب الرابع أن يكون العمى الأول يكون عن الايمان والثاني هو الآفة في العين على سبيل العقوبة كما قال الله تعالى (ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت


[ 61 ]

بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) ومن يجيب بهذا الجواب يتأول قوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) على ان المعنى فيه الاخبار عن الاقتدار وعدم المشقة في الاعادة كما أنها معدومة في الابتداء ويجعل ذلك نظيرا لقوله تعالي (وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) ويتأول قوله (فبصرك اليوم حديد) على ان معناه الاخبار عن قوة المعرفة وان الجاهل بالله في الدنيا يكون عارفا به في الآخرة والعرب تقول فلان بصير بهذا الأمر وزيد أبصر بكذا من عمرو ولا يريدون ابصار العين بل العلم والمعرفة ويشهد بهذا التأويل قوله تعالى (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) أي كنت غافلا عما أنت الآن عارف به فلما كشفنا عنك الغطاء بان أعلمناك وجعلنا في قلبك المعرفة عرفت وعلمت فأما الخبر الذي يدعى رؤيته فهو خبر واحد ولا حجة في مثله وإذا عرف لفظه ربما أمكن تأوله على ما يطابق هذا الجواب ومن ذهب الى الأجوبة الأول يجعل العمى الأول والثاني معا غير الآفة في العين فان عورض بقوله تعالى (ونحشره يوم القيامة أعمى) نؤله بالعمى عن الثواب أو عن الحجة وقال في قوله لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ان معناه انني كنت بصيرا في اعتقادي وظني من حيث كنت أرجو الهداية إلى الثواب وطريق الجنة والمحصل من هذه الجملة انه لا يجوز أن يراد بالعمى الأول والثاني جميعا الآفة في العين لانه يؤدي الى ان كل من كان مكفوف البصر في الدنيا من مؤمن وكافر وطائع وعاص يكون كذلك في الآخرة وهذا باطل وبمثله يبطل أن يراد بلفظه أعمى الثانية المبالغة بمعنى أفضل من فلان ويبطله أيضا أن العمى الذي هو الخلقة لا يتعجب منه بلفظة افعل وانما يقال ما أشد عماه ولا يجوز أن يراد بالعمى الأول عمى العين والثاني العمي عن الثواب أو الجنة أو الحجة لانا نعلم ان فيمن عميت عينه في الدنيا من يستحق الثواب ويوصل إليه ولا يجوز أن يراد بالأول والثاني العمى عن المعرفة والايمان لا على طريق المبالغة والتعجب ولا على غير ذلك لانا نعلم ان الجهال بالله تعالى المعرضين في الدنيا عن معرفته لا يجوز أن يكون في الآخرة كذلك فضلا أن يكونوا على أبلغ من هذه الحالة لان المعارف في الآخرة ضرورية يشترك فيها جميع الناس فلم يبق


[ 62 ]

بعد الذي أبطلناه الا ما دخل في الأجوبة وعلى الأجوبة الثلاثة الأول إذا أريد بأعمى الثانية المبالغة والتعجب كان في موضعه لأن عمى القلب وضلاله يتعجب منه بلفظة أفعل وان لم يجر ذلك في عمى الجارحة.. ولمن أجاب بالجواب الرابع أن لا يجعل قوله تعالى فهو في الآخرة أعمى لفظة تعجب بل يجعله إخبارا عن عماه من غير تعجب وان عطف عليه بقوله وأضل سبيلا ويكون تقدير الكلام ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وهو أضل سبيلا.. فان قيل ولم أنكرتم التعجب من الخلق بلفظة أفعل.. قلنا قد قال النحويون في ذلك ان الالوان والعيوب لا يتعجب منها بلفظة التعجب وانما يعدل فيها الى أشد وأظهر وما جري مجراهما.. قالوا لأن العيوب والألوان قد ضارعت الأسماء وصارت خلقة كاليد والرجل ونحو ذلك فلا يقال ما أسوده ولا أعوره كما لا يقال ما أيداه وما أرجله بل يقال ما أشد سواده كما يقال ما أشد يده ورجله.. واعتلوا بعلة أخرى قالوا ان الفعل من الألوان والعيوب على افعل وافعال نحو احمر واعور واحول واحوال والتعجب لا يدخل فيما زاد على ثلاثة أحرف من الأفعال ألا ترى أنه لا يدخل في انطلق واستخرج ودحرج لزيادته على ثلاثة أحرف.. فان قيل لهم فقد قالوا عورت عينه وحولت قالوا هذا منقول من افعل وهو في الحكم زائد على ثلاثة أحرف يدل على ذلك صحة الواو فيه كما صحت في اسود واحمر ولولا أنه منقول لاعتلت الواو فقلت عارت وحالت كما قيل خاف وهاب.. وحكى عن الفراء في ذلك جوابان. أحدهما ان أفعل في التعجب فيه زيادة على وصف قبله إذا قال القائل أفضل وأجمل فهو أزيد في الوصف من جميل وفاضل ولم يقولوا ما أبيض زيدا لئلا يسقط التزيد ولا يكون قبل أبيض وصف يزيد أبيض عليه يخالف لفظه لفظه كما خالف أفضل وأجمل فاضلا وجميلا فلما فاتهم في أبيض وأحمر علم التزيد أدخلوا عليه ما يبين الزيادة فيه وقالوا ما أظهر حمرة زيد وما أشد سواد عمرو لان أظهر يزيد على ظاهر وأشد يزيد على شديد.. والجواب الآخر أن التعجب مبني على زيادة يصلح أن يتقدمها نقص وتقصير عن بلوغ التناهي فقالوا ما أعلم زيدا ليدلوا على زيادة علمه لأنهم في قولهم عالم وعليم لم يبلغوا في التناهي مبلغ أعلم ولم يقولوا ما أبيض زيدا لان البياض لا تأتي


[ 63 ]

منه زيادة بعد نقص فعدلوا الى التعجب بأشد وما جرى مجراها وهذا الجواب ليس بسديد لأن الالوان قد تأتي فيها الزيادة بعد نقص وقد تدخل فيها المفاضلة ألا ترى ان ما حله قليل من أجزاء البياض يكون أنقص حالا في البياض مما حله الكثير من الأجزاء.. والجواب الأول الذي حكيناه عن الفراء أصوب وان كان ما قدمناه عن البصريين هو المعتمد.. وقد أنشد بعضهم معترضا على ما ذكرناه قول الشاعر يا ليتني مثلك في البياض أبيض من أخت بني اباض (1).. وأنشدوا أيضا قول الشاعر أما الملوك فأنت اليوم الامهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ فأما البيت الأول فان أبا العباس المبرد حمله على الشذوذ وقال ان الشاذ النادر لا يطعن في المعمول عليه والمتفق على صحته ويجوز أيضا أن يقال في البيت الثاني مثل ذلك وقد قيل في البيت الثاني ان أبيض فيه ليس هو للمفاضلة وانما هو أفعل الذي مؤنثه فعلاء كقولهم أبيض وبيضاء ويجرى ذلك مجرى قولهم هو حسن القوم وجها وشريفهم خلقا فكان الشاعر قال ومبيضهم فلما أضافه انتصب ما بعده لتمام الاسم وهذا أحسن من حمله على الشذوذ.. ويمكن فيه وجه آخر وهو ان أبيض في البيت وان كان في الظاهر عبارة عن اللون فهو في المعنى كناية عن اللؤم والبخل فحمل لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ ولو انه أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة لما جاز أن يتعجب بلفظة أفعل والذي جوز تعجبه بهذه اللفظة ما ذكرناه.. فأما قول المتنبي أبعد بعدت بياضا لا بياض له لأنت أسود في عيني من الظلم فقد قيل فيه ان قوله لأنت أسود في عيني كلام تام ثم قال من الظلم أي من جملة الظلم


(1) – أنشد – اللغويون البيت بلفظ جارية في درعها الفضفاض * أبيض من أخت بني اباض – ودرع فضفاض – واسعة وجارية فضفاض ممتلئة

[ 64 ]

كما يقال حر من أحرار ولؤم من لئام أي من جملتهم.. قال الشاعر وأبيض من ماء الحديد كأنه شهاب بدا والليل داج عساكره كأنه قال وأبيض كائن من ماء الحديد وقوله من ماء الحديد وصف لأبيض وليس يتصل به كاتصال من بافضل في قولك هو أفضل من زيد ولفظة من في بيت المتنبي مرفوعة الموضع فانها وصف لأسود وإذا أريد المفاضلة والتعجب كانت منصوبة الموضع بأسودكما يقال زيد خير منك فمنك في موضع نصب بخير كأنه قال قد خارك بخيرك أي فضلك في الخير وهذا التأويل يمكن أن يقال في قول الشاعر * أبيض من أخت بني اباض * ويحمل على انه أراد من جملتها ومن قومه ولم يرد التعجب وتأويله على هذا الوجه أولى من حمله على الشذوذ فأما قول المتنبي * أبعد بعدت بياضا لا بياض له * فالمعنى الظاهر للناس فيه انه أراد لا ضياء له ولا نور ولا اشراق من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضي الأجل وهذا لعمري معنى ظاهر الا أنه يمكن فيه معنى آخر وهو ان يريد انك بياض لالون بعده لأن البياض آخر الألوان في الشعر فجعل قوله لا بياض له بمنزلة لالون بعده وانما سوغ ذلك له أن البياض هو الآتي بعد السواد فلما نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لان يكون بعده لون.. وقد اختلف القراء في فتح الميم وكسرها من قوله تعالى (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) فقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو بفتح الميمين وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بكسر الميم فيهما جميعا وفي رواية حفص لا يكسرهما وكسر أبو عمرو الاولى وفتح الاخيرة ولكل وجه.. أما من ترك امالة الجميع فان قوله حسن لان كثيرا من العرب لا يميلون هذه الفتحة.. وأما من أمال الجميع فوجه قوله انه ينحو بالالف نحو الياء ليعلم أنها تنقلب الى الياء.. وأما قراءة أبي عمرو بامالة الاولى وفتح الثانية فوجه قوله انه جعل الثانية افعل من كذا مثل أفضل من فلان فإذا جعلها كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة لان آخرها إنما هو من كذا وانما تحسن الامالة في الاواخر وقد حذف من أفعل الذي هو للتفضيل الجار والمجرور جميعا


[ 65 ]

وهما مرادان في المعنى مع الحذف وذلك نحو قوله تعالى (فانه يعلم السر وأخفى) المعنى وأخفى من السر فكذلك قوله تعالى (وأضل سبيلا) فكما أن هذه لا يكون الاعلى أفعل من كذا فكذلك المعطوف عليه [ تأويل خبر ].. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال تفئ الارض أفلاذ كبدها مثل الاصطوان من الذهب والفضة فيجئ القاتل فيقول في مثل هذا قتلت ويجئ القاطع الرحم فيقول في مثل هذا قطعت رحمي ويجئ السارق فيقول في مثل هذا قطعت يدي ثم يتركونه ولا يأخذون منه شيئا.. معنى – تفئ – أي تخرج ما فيها من الذهب والفضة وذلك من علامات قرب الساعة.. وقوله تفئ تشبيه واستعارة من حيث كان اخراجا واظهارا وكذلك تسمية مافى الارض من الكنوز كبدا تشبيها بالكبد التي في بطن البعير وغيره وللعرب في هذا مذهب معروف.. قال مرة بن محكان (1) السعدي في قدر نصبها للاضياف لها أزيز يزيل اللحم إزمله عن العظام إذا ما استحمشت غضبا ترمي الصلاة بنبل غير طائشة وفقاأذا آنست من تحتها لهبا فوصفها بالغضب تشبيها واستعارة.. فأما – الازيز – فهو الغليان والعرب تقول لجوفه أزيز مثل أزيز المرجل – والازمل – الصوت – واستحمشت – أي غضبت يقال حمشه


(1) – محكان – بفتح أوله واسكان ثانيه من المماحكة وهي الملاحاة ورجل محكان عسر الخلق لجوج فان كان محكان اسمه فهو من قبيل تسميتهم بسارق وظالم وان كان لقبا له فلعله انما لقب به لسوء في أخلاقه: وكان يقال لمرة أبو الاضياف لمحبته لهم واكرامه اياهم وفي هذه القصيدة يقول لزوجته وقلت لما غدوا أوصى قعيدتنا غذي بنيك فلن تلقيهم حقبا ادعي أباهم ولم أقرف بأمهم وقد هجمت ولم أعرف لهم نسبا أنا ابن محكان أخوالي بنو مطر أنمي إليهم وكانوا معشرا نجبا وقتله صاحب شرطة مصعب بن الزبير ولا عقب له – وصلاة – في بيتي الأصل جمع صال وهو المستدفئ بالنار – ونبلها – كناية عما يتطاير من القدر من الماء لشدة الغليان (9 – أمالي)

[ 66 ]

أي أغضبه.. وقال النابغة الجعدي في معنى الاستعارة سألتني بأناس هلكوا شرب الدهر عليهم وأكل فوصف الدهر بالاكل والشرب تشبيها واستعارة.. وقال قوم معنى الببت شرب أهل الدهر بعدهم وأكلوا.. واختلف أهل اللغة في الافلاذ.. فقال يعقوب بن السكيت الفلذ لا يكون الا للبعير وهو قطعة من كبده ولا يقال فلذ الشاة ولا فلذ البقرة ويقال اعطني فلذا من الكبد وفلذة من الكبد.. قال أعشى باهلة تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر – الغمر – القدح الصغير.. قال يعقوب ولا يقال اعطني حزة من السنام ولا من اللحم وانما الحزة في الكبد خاصة فإذا أرادوا ذلك من السنام واللحم قالوا اعطني حذية من لحم وهي القطعة الصغيرة وفلقة من سنام.. وقال الطوسي عن أبي عبيد عن الاصمعي قال يقال اعطني حذية من لحم وحزة من لحم إذا كانت مقطوعة طولا فإذا كانت مجتمعة قلت اعطني بضعة من لحم وهبرة من لحم وذرة من لحم.. ومثل هذا الحديث قوله (وأخرجت الأرض أثقالها) معناه أخرجت ما فيها من الكنوز.. وقال قوم عني به الموتى وأنها أخرجت موتاها فسمي الله تعالى الموتى أثقالا تشبيها بالحمل الذي يكون في البطن لأن الحمل يسمى ثقلا قال تعالى (فلما أثقلت).. والعرب تقول ان للسيد الشجاع ثقلا على الارض فإذا مات سقط عنها بموته ثقل.. قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا أبعدا بن عمرو من آل الشريد حلت به الارض أثقالها معناه انه لما مات حل عنها بموته ثقل لسودده وشرفه.. وقال قوم معنى حلت زينت موتاها به وهو مأخوذ من الحلية.. وقال الشمردل اليربوعي يرثى أخاه وحلت به أثقالها الارض وانتهى لمثواه منها وهو عف شمائله.. وروى أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب قال قال زهير بن ابي سلمى المزني بيتا ثم أكدى ومر به النابغة الذبياني فقال له يا أبا أمامة أجز قال ماذا قال تزال الارض إمامت خفا وتحيا ما حييت بها ثقيلا


[ 67 ]

نزلت بمستقر العز منها……… فماذا قال فأكدى والله النابغة أيضا وأقبل كعب بن زهير وهو غلام فقال له أبوه أجز يا بني فقال ماذا فانشده البيت الأول ومن الثاني قوله بمستقر العز منها.. فقال كعب * فتمنع جانبيها أن يزولا * فقال زهير أنت والله ابني وانما خص الكبد من بين ما يشتمل عليه البطن لانه من أطايب الجزور.. والعرب تقول أطايب الجزور السنام والملحاء والكبد.. [ قال المرتضى ] رضي الله عنه واني لأستحسن قول الخنساء وقد قيل لها ما مدحت أخاك حتى هجوت أباك.. فقالت جاري أباه فأقبلا وهما يتعاوران ملآءة الحضر حتى إذا نزت القلوب وقد لزت هناك العذر بالعذر (1) وعلا هتاف الناس أيهما قال المجيب هناك لا أدري برزت صحيفة وجه والده ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه لولا جلال السن والكبر وهما وقد برزا كأنهما صقران قد حطا إلى وكر ويقال انه قيل لأبي عبيدة ليس هذه الابيات في مجموع شعر الخنساء فقال أبو عبيدة العامة أسقط من أن يجاد عليها بمثل ذلك.. ولعمري انها قد بلغت في مدح أخيها من غير إزراء على أبيها النهاية لانها جعلت تقدم أبيها له عن قدرة منه على المساواة وعن غير تقصير منه وأنه أفرج له عن السبق معرفة بحقه وتسليما لكبره وسنه.. وكأن الخنساء نظرت في هذا المعنى الى قول زهير فشج بها الأماعز فهي تهوى هوى الدلو أسلمها الرشاء


(1) – قولها – نزت القلوب أي طمحت وتاقت الى معرفة السابق من نزا ينزو إذا وثب. وقولها – لزت العذر بالعذر – أي قرنت العذر بالعذر

[ 68 ]

فليس لحاقه كلحقا إلف ولا كنجائها منه نجاء يقدمه إذا احتفلت عليه تمام السن منه والذكاء ويشبه أن يكون الكميت أخذ من الخنساء قوله في مخلد بن يزيد بن المهلب ما إن أرى كأبيك أدرك شأوه أحد ومثلك طالبا لم يلحق يتحاذيان له فضيلة سنه وتلوت بعد مصليا لم تسبق إن تنزعا وله فضيلة سنه فبمثل شأو أبيك لم يتعلق ولئن لحقت به على ما قد مضى من بعد غايته فاحج وأخلق ويشبه هذا المعنى.. قول المؤمل بن أميل الكوفي المحاربي يمدح المهدي في حياة المنصور لئن فت الملوك وقد توافوا اليك من السهولة والوعور لقد فات الملوك أبوك حتى بقوا من بين كاب أو حسير وجئت وراءه تجري حثيثا وما بك حيث تجري من فتور وقال الناس مامن ذين إلا بمنزلة الخليق من الجدير فإن سبق الكبير فأهل سبق له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدا كبير فقد خلق الصغير من الكبير.. ومن هذا المعنى قول الشاعر جياد جرت في حلبة فتفاضلت على قدر الاسنان والعرق واحد ومما له بهذا المعنى بعض الشبه وان لم يذكر فيه السن وتفضيل الكبر.. قول زهير هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا


[ 69 ]

.. وروي انه عرضت على جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي جارية شاعرة فاراد أن يبلوها فقال لها قولي في معنى بيتي زهير اللذين ذكرناهما فقالت بلغت أو كدت يحيا أو لحقت به فنلتما خالدا في شأو مستبق لكن مضى وتلى يحيي فأنت له تال تعللت دون الركض بالعنق ومن أحسن ما قيل في المساواة والمقاربة وهو داخل في هذا المعنى مناسب له.. قول عباد بن شبل إذا اخترت من قوم خيار خيارهم فكل بني عبد المدان خيار جروا بعنان واحد فضل بينهم بأن قيل قد فات العذار عذار.. وقول الكميت مصل أباه له سابق بأن قيل فات العذار العذارا ومثله قول العتابي وهو مليح جدا كما تقاذف جرد في أعنتها سبقا بآذانها مرا وبالعذر.. وأول من سبق الى هذا زهير في قوله يصف مطايرة البازي للقطاة ومقاربته لها دون السماء وفوق الارض قدرهما عند الذنابي فلا فوت ولا درك.. وقد لحظ أبو نواس هذا المعنى في قوله يمدح الفضل بن الربيع ويذكر مقاربته لأبيه في المجد والسودد ثم جري الفضل فانثني قدما دون مداه من غير ترهيق فقيل راشا سهما يراد به الغاية والنصل سابق الفوق (1) ويشاكل ذلك قول البحتري في ابن أبي سعيد الثغري


(1) – راش – السهم ألزق عليه الريش – والنصل – حديدة السهم – والفوق – موضع الوتر من السهم.. يقول ان أباه سابق عليه من غير قصور منه

[ 70 ]

جد كجد أبي سعيد إنه ترك السماك كأنه لم يشرف قاسمته أخلاقه وهي الردا للمعتدي وهي الندا للمعتف وإذا جرى من غاية وجريت من اخرى التقى شأواكما في المنصف ويشبهه أيضا قوله وإذا رأيت شمائل ابني صاعد أدت إليك شمائل ابني مخلد كالفرقدين إذا تأمل ناظر لم يعل موضع فرقد عن فرقد فأما قول الخنساء – يتعاوران ملاءة الحضر – فهي تعني بالملاءة الغبار فان عدي بن الرقاع كأنه نظر إليها في قوله يصف حمارا وأتانا يتعاوران من الغبار ملاءة بيضاء محدثة هما نسجاها تطوي إذا وطئا مكانا جاسيا وإذا السنابك أسهلت نشراها وهذا المعنى وان كان هو معنى الخنساء بعينه فقد زاد في استيفائه عليها زيادة ظاهرة صار من أجلها بالمعنى أحق منها.. وقد ابتدأ بهذا المعنى رجل من بني عقيل فقال من قصيدة يثيران من نسج التراب عليهما قميصين أسمالا ويرتديان (مجلس آخر 8) [ ان سأل سائل ].. عن قوله تعالى (وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) فقال كيف وصف الدم بانه كذب والكذب من صفات الاقوال لا من صفات الاجسام وأي معنى لوصفه الصبر بانه جميل ومعلوم ان صبر يعقوب على فقد ابنه يوسف لا يكون الا جميلا ولم ارتفع


[ 71 ]

الصبر وما المقتضي لرفعه.. الجواب يقال له أما كذب فمعناه مكذوب فيه وعليه فمثل قولهم هذا ماء سكب وشراب صب يريدون مسكوبا ومصبوبا ومثله أيضا قولهم ماء غور ورجل صوم وامرأة نوح.. قال الشاعر تظل جيادهم نوحا عليهم مقلدة أعنتها صفونا أراد بقوله نوحا أي نائحة عليهم.. ومثله ما لفلان معقول يريدون عقلا وما له على هذا الأمر مجلود يريدون جلدا.. قال الشاعر حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا وأنشد أبو العباس لثعلب قد والذي سمك السماء بقدرة بلغ العزاء وأدرك المجلود.. وقال الفراء وغيره يجوز في النحو بدم كذبا بالنصب على المصدر لأن جاؤا فيه معنى كذبوا كذبا كما قال تعالى (والعاديات ضبحا) فنصب ضبحا على المصدر لأن العاديات بمعنى الضابحات وانما كان دما مكذوبا فيه لأن اخوة يوسف عليه السلام ذبحوا سخلة ولطخوا قميص يوسف بدمها وجاؤا أباهم بالقميص وادعوا أكل الذئب له فقال لهم يعقوب عليه السلام يا بني لقد كان هذا الذئب رفيقا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه قالوا بل قتله اللصوص قال فكيف قد قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قيمصه أحوج منهم الى قتله.. وقد قيل انه كان في قميص يوسف ثلاث آيات حين قد قميصه من دبر وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا وحين جاؤا عليه بدم كذب فتنبه أبوه على ان الذئب لو أكله لخرق قميصه.. وأما وصف الصبر بأنه جميل فلأن الصبر قد يكون جميلا وغير جميل وانما يكون جميلا إذا قصد به وجه الله وفعل للوجه الذي وجب فلما كان في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صح وصفه بذلك وقد قيل انه اراد صبرا لاشكوى فيه ولا جزع ولو لم يصفه بذلك لظن مصاحبة الشكوى والجزع له وأما ارتفاع قوله فصبر جميل فقد قيل ان المعنى وشأني صبر جميل أو الذي أعتقده صبر جميل.. وقال قطرب معناه فصبري صبر جميل.. وأنشدوا


[ 72 ]

شكا إلي جملي طول السرى يا جملي ليس إلي المشتكا صبر جميل فكلان مبتلى معناه فليكن منك صبر جميل.. وقد روي ان في قراءة ابي فصبرا جميلا بالنصب وذلك يكون على الاغراء والمعنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا.. قال ذو الرمة ألا إنما مي فصبرا بلية وقد يبتلي الحر الكريم فيصبر.. وقال الآخر أبى الله أن يبقى لحي بشاشة فصبرا على ما شاءه الله لي صبرا [ تأويل خبر ] في الحديث ان قيس بن عاصم.. قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا سيد أهل الوبر فقلت يا رسول الله ما المال الذي ليست علي فيه تبعة من طالب ولا ضيف فقال عليه الصلاة والسلام نعم المال أربعون والكثر ستون وويل لأصحاب المئين الا من أعطى الكريمة ومنح الغزيرة ونحر السمينة فأكل وأطعم القانع والمعتر.. وفي رواية أخرى الا من أعطى من رسلها وأطرق فحلها وأفقر ظهرها ومنح غزيرتها وأطعم القانع والمعتر فقلت يا رسول الله ما أكرم هذه الاخلاق وأحسنها انه لا يحل بالوادي الذي فيه إبلي من كثرتها فقال فكيف تصنع في العظيمة قلت أعطى البكر وأعطي الناب قال فكيف تصنع في المنحة قلت اني لأمنح المائة قال كيف تعطي الطروقة قلت يغدو الناس بابلهم فلا يورع رجل عن جمل يخطمه فيمسكه ما بدا له حتى يكون هو الذي يرده وفي الرواية الأخرى قال فكيف تصنع في الاطراق قال يغدو الناس فمن شاء أن يأخذ برأس بعير فيذهب به قال فكيف تصنع في الإفقار قلت اني لافقر الناقة المدرة والضرع الصغيرة قال فكيف تصنع في المنيحة قلت اني لأمنح في السنة المائة قال فمالك أحب اليك أم مال مواليك قلت لا بل مالي قال فان مالك ما أكلت فأفنيت وأعطيت فأمضيت.. وفي الرواية الأخرى ولبست فأبليت وسائره لمواليك قلت لا جرم والله لئن رجعت لأقلن عددها فلما حضره الموت جمع بنيه فقال يا بني خذوا عني فانكم لن تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم مني لا تنوحوا علي فان رسول


[ 73 ]

الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه أحد وقد سمعته ينهي عن النياحة وكفنوني في ثيابي التي كنت أصلى فيها وسودوا أكابركم فانكم إذا سودتم أكابركم لم يزل لأبيكم فيكم خليفة وإذا سودتم أصاغركم هان أكابركم على الناس وزهدوا فيكم وأصلحوا عيشكم فان فيه غني عن طلب الى الناس وإياكم والمسألة فانها آخر كسب المرء وإذا دفنتموني فاخفوا قبري عن بكر بن وائل فقد كانت بيننا خماشات في الجاهلية فلا آمن سفيها منهم أن يأتي أمرا يدخل عليكم عيبا في أبيكم.. فاما قوله صلى الله عليه وسلم – الكثر ستون – فمعناه الكثير تقول العرب نسأل الله الكثر ونعوذ به من القل أي نسأله الكثير ونعوذ به من القليل.. قال الشاعر فإن الكثر أعياني قديما ولم أقتر لدن أني غلام .. وقال آخر وقد يقصر القل الفتي دون همه وقد كان لولا القل طلاع أنجد – والكريمة – يعني بها كرائم ماله – وأمنح الغزيرة – أي أعطيها من يحلبها ويردها ومن ذلك الحديث والعارية موداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم فالمنحة الناقة أو الشاة يدفعها الرجل إلى من يحلبها وينتفع بلبنها ثم يردها عليه – والزعيم – الكفيل ويقال له أيضا القبيل والصبير والجميل ومنه قوله تعالى (وأنا به زعيم).. قال الشاعر فلست بآمر فيها بسلم ولكني علي نفسي زعيم.. وقال آخر قلت كفى لك رهن بالرضا فازعمي يا هند قالت قد وجب معناه اكفلي ويروي فاقبلي من القبيل الذي هو الكفيل أيضا.. وقال الفراء القانع هو الذي يأتيك فيسألك فان أعطيته قبل – والمعتر – الذي يجلس عند الذبيحة ويمسك عن السؤال فكأنه يعرض في المسألة ولا يصرح بها يقال قنع الرجل قناعة إذا رضي وقنع قنوعا إذا سأل.. فأما قوله – لا جرم – فقال قوم معنى جرم كسب وقال في قوله تعالى (لا جرم أن لهم النار) أن لا رد على الكفار ثم ابتدأ فقال جرم ان لهم النار (10 – أمالي)


[ 74 ]

بمعنى كسب قولهم ان لهم النار.. وقال الشاعر نصبنا رأسه في رأس جذع بما جرمت يداه وما اعتدينا أي بما كسبت.. وقال آخرون معني جرم حق وتأول الآية بمعنى حقق قولهم أن لهم النار.. وأنشدوا ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن تغضبا أراد حققت فزارة.. وروى الفراء فزارة بالنصب على معنى أكسبت الطعنة فزارة الغضب.. وقال الفراء لا جرم في الاصل مثل لابد ولا محالة ثم استعملته العرب في معنى حقا وجاءت فيه بجواب الأيمان فقالوا لا جرم لأقومن كما قالوا والله لأقومن وفيها لغات يقال لا جرم ولا جرم بضم الجيم وتسكين الراء ولا جر بحذف الميم ولا ذا جرم (1).. قال الشاعر إن كلابا والذي لا ذا جرم لأهدرن اليوم هدرا في النعم


(1) – قلت وفي أن بعد لا جرم وجهان.. الفتح وهو الغالب نحو لا جرم أن الله يعلم فالفتح عند سيبويه على أن جرم فعل ماض معناه وجب وأن وصلتها فاعل أي وجب أن الله يعلم ولا صلة زائدة للتوكيد ورده الفراء بان لا لا تزاد في أول الكلام وعلله في المغني بأن زيادة الشئ تفيد اطراحه وكونه أول الكلام يفيد الاعتناء به وجوابه ما أجاب به الفارسي عن القول بزيادة لا في لا أقسم من أن القرآن كالسورة الواحدة.. وقال المرادي وجرم عند سيبويه بمعنى حق ولا رد لما قبلها والوقف على لا وأن وما بعدها في موضع الفاعل والفتح عند الفراء على أن لا جرم مركبة من حرف واسم بمنزلة لا رجل في التركيب ومعناهما بعد التركيب لابد أو لا محالة ومن أو في بعدهما مقدرة أي لابد من أن الله يعلم أو لا محالة في أن الله يعلم ونقل عن الفراء أن لا جرم بمنزلة حقا وأصل جرم من الجرم بمعنى الكسب.. والكسر على ما حكاه الفراء عن العرب من أن بعضهم ينزلها منزلة اليمين فيقول لا جرم لآتينك ولا جرم لقد أحسنت ولا جرم إنك ذاهب بكسر إن

[ 75 ]

هدر المغني ذي الشقاشق اللهم والناب – الناقة الهرمة وجمعها نيب ومثلها الشارف.. قال الشاعر لا أفتأ الدهر أبكيهم بأربعة ما اجترت النيب أو حنت إلي بلد ويقال للبعير أيضا إذا كبر عود ولأنثى عودة.. قال الشاعر عود على عود من القدم الاول يموت بالترك ويحيا بالعمل وهذا من أبيات المعاني ومعناه بعير عود على طريق متقادم وسمى الطريق بأنه عود لتقادمه تشبيها بالبعير.. وقوله – يموت بالترك ويحيي بالعمل – أراد أنه إذا سلك وطرق ظهرت أعلامه وظهرت طرقه واهتدى سالكه لسلوكه ولم يضل عن قصده فكان هذا كالحياة له وإذا لم يسلك طمست آثاره وانمحت معالمه فلم يهتد فيه راكب لقصد وكان ذلك كالموت له فأما – الخماشات – فهي الجنايات والجراحات.. قال ذو الرمة يذكر الحمار والأتن رباع لها مذ أورق العود عنده خماشات ذحل ما يراد امتثالها يريد بقوله ما يراد امتثالها أي ما يراد اقتصاصها يقال أمثلني من هذا الرجل واقدني واقصني بمعنى واحد.. فأما قوله – لا يورع – أي لا يحبس ولا يمنع ويقال ورعت الرجل توريعا إذا منعته وكففته والورع هو الرجل المتحرج المانع نفسه مما تدعوه إليه يقال ورع ورعا ورعة.. قال لبيد أكل يوم هامتي مقزعه لا يمنع الفتيان من حسن الرعه ويقال ما ورع أن فعل كذا وكذا أي ما كذب فأما الورع بالفتح فهو الجبان وأما – الطروقة – فهي التي قد حان لها أن تطرق وهي الحقة وقوله في الرواية الأخرى – الا من أعطى من رسلها – فالرسل اللبن – والافقار – هو أن يركبها الناس ويحملهم على ظهورها مأخوذ من فقار الظهر – والاطراق – للفحول هو أن يبذلها لمن ينزيها على اناث ابله وذكر الاطراق في هذه الرواية أحب الى من الطروقة لأنه قد تقدم من قوله انه يعطي الناب والبكر والضرع والمائة فلا معنى لاعادة ذكر الطروقة وقوله في الجواب – تغدو الناس


[ 76 ]

فلا يورع رجل عن جمل يخطمه فيمسكه ما بدا له ثم يرده – لا يحتمل غير الاطراق ولا يليق بمعنى الطروقة.. وكان قيس بن عاصم شريفا في قومه حليما ويكنى أبا على وكان الأحنف بن قيس يقول انما تعلمت الحلم (1) من قيس بن عاصم أوتي بقاتل ابنه فقال رعبتم الفتى وأقبل عليه وقال يا بني نقصت عددك وأوهنت ركنك وفتت في عضدك وأشمت عدوك وأسأت بقومك خلوا سبيله وما حل حبوته ولا تغير وجهه.. وقال ابن الاعرابي قيل لقيس بماذا سدت قومك فقال بثلاث بذل الندى وكف الأذى ونصر الولي.. وذكر المدائني قال كان قيس بن عاصم يقول لبنيه اياكم والبغي فما بغى قوم قط إلا قلوا وذلوا.. وكان الرجل من بنيه يظلمه بعض قومه فينهي اخوته أن ينصروه وقيس بن عاصم هو الذي حفز الحوفزان بن شريك الشيباني بطعنة في يوم جدود (2)


(1) – قلت وبالأحنف هذا يضرب المثل فيقال أحلم من الأحنف وسئل هل رأيت أحلم منك قال نعم وتعلمت منه الحلم قيل ومن هو قال قيس بن عاصم المنقرى حضرته يوما وهو محتب يحدثنا إذ جاؤا بابن له قتيل وابن عم له كتيف فقالوا ان هذا قتل ابنك هذا فلم يقطع حديثه ولا نقض حبوته حتى إذا فرغ من الحديث التفت إليهم فقال أين ابني فلان فجاءه فقال يا بني قم إلى ابن عمك فاطلقه والى أخيك فادفنه والى أم القتيل فاعطها مائة ناقة فانها غريبة لعلها تسلو عنه ثم اتكأ على شقه الأيسر وأنشأ يقول إنى امرؤ لا يعترى خلقي دنس يفنده ولا أفن من منقر من بيت مكرمة والغصن ينبت حوله الغصن خطباء حين يقوم قائلهم بيض الوجوه مصاقع لسن لا يفطنون لعيب جارهم وهم لحسن جواره فطن وهو شاعر فارس شجاع حليم كثير الغارات مظفر في غزواته أدرك الجاهلية والاسلام فساد فيهما وله وفادة على النبي صلى الله عليه وسلم (2) قوله يوم جدود جدود بالفتح موضع في أرض بني تميم وكان من حديث ذلك اليوم ان الحارث بن شريك كانت بينه وبين بني يربوع موادعة ثم هم بالغدر بهم فجمع

[ 77 ]

فسمي الحارث الحوفزان.. وقال سوار بن حيان المنقري في ذلك ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا وحمران قسرا أنزلته رماحنا يعالج غلا في ذراعيه مقفلا وفي يوم جدود يقول قيس بن عاصم جزا الله يربوعا بأسوإ سعيها إذا ذكرت في النائبات أمورها ويوم جدود قد فضحتم ذماركم وسالمتم والخيل تدمي نحورها ستحطم سعد والرباب أنوفكم كما حز في أنف القضيب جريرها – القضيب – الناقة المقتضبة الصعبة.. وفي قيس يقول عبدة بن الطبيب (1)


بني شيبان وبني ذهل واللهازم وقيس بن ثعلبة وتيم الله بن ثعلبة وغيرهم ثم غزا بني يربوع فنذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب بن شريك فنادى في قومه بني جعفر بن ثعلبة من بني يربوع فوادعه وأغار الحارث بن شريك على بني مقاعس واخوتهم بني ربيع فلم يجيبوهم فاستصرخوا بني منقر فركبوا حتى لحقوا بالحارث بن شريك وبكر بن وائل وهم قائلون في يوم شديد الحر فما شعر الحوفزان الا بالأهتم بن سمي بن سنان بن خالد ابن منقر واسم الأهتم سنان وهو واقف على رأسه فوثب الحوفزان إلى فرسه فركبه وقال لأهتم من أنت فانتسب وقال هذه منقر فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمت بكر بن وائل وخلوا ما كان في أيديهم وتبعهم بنو منقر بين قتل وأسر فأسر الأهتم حمران وقصد قيس بن عاصم الحوفزان ولم يكن له همة غيره والحارث على فرس له قارح يدعي الزبد وقيس على مهر فخاف قيس أن يسبقه الحارث فحفزه بالرمح في أسته فحفز به الفرس فجاء فسمى الحوفزان وأطلق قيس أموال بني مقاعس وبني ربيع وسباياهم وأخذ أموال بكر ابن وائل وأساراهم وانتقضت طعنة قيس على الحوفزان بعد سنة فمات [ 1 ] قوله يقول عبدة بن الطبيب.. قلت سبب هذه الأبيات ان عبدة وقيسا كان بينهما لحاء فهجره قيس بن عاصم ثم حمل عبدة دما في قومه ثم خرج يسأل فيما تحمله فجمع

[ 78 ]

عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما سلام أمرئ جللته منك نعمة إذا زار عن شحط بلادك سلما فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما [ قال المرتضي رضى الله عنه ].. ذاكرني بعض الاصدقاء بقول أبي دهبل الجمحي وهو يعني ناقته وأبرزتها من بطن مكة عندما أصات المنادي بالصلاة فأعتما (1) وسألني إجازة هذا البيت بأبيات تنضم إليه وأجعل الكناية فيه كأنها كناية عن امرأة لا عن ناقة فقلت في الحال فطيب رياها المقام وضوأت بإشراقها بين الحطيم وزمزما


ابلا ومر به قيس بن عاصم وهو يسأل في تمام الدية وقال فيم يسأل عبدة فأخبر فساق إليه الدية كاملة من ماله وقال قولوا له ليستنفع بما صار إليه وليسق هذه الى القوم فقال عبدة أما والله لولا أن يكون صلحي إياه بعقب هذا الفعل عارا علي لصالحته ولكني أنصرف الى قومي ثم أعود فأصالحه ومضى بالابل ثم عاد فوجد قيسا قد مات فوقف على قبره وأنشد الابيات (1) قوله وأبرزتها من بطن مكة الخ هو من أبيات حسان أولها ألا علق القلب المتيم كلما لجاجا ولم يلزم من الحب ملزما خرجت بها من بطن مكة بعدما أصات المنادي بالصلاة وأعتما فما نام من راع ولا ارتد سامر من الحي حتى جاوزت بي يلملما ومرت ببطن البيت تهوي كأنما تبادر بالإدلاج نهبامقسما أجازت على البزواء والليل كاسر جناحين بالبزواء وردا وأدهما الخ الابيات فقال له موسى بن يعقوب ما كنت الا على الريح فقال يا أبن أخي ان عمك كان إذا هم فعل وهي الحاجة

[ 79 ]

فيا رب إن لقيت وجها تحية فحي وجوها بالمدينة سهما تجافين عن مس الدهان وطال ما عصمن عن الحناء كفا ومعصما وكم من جليد لا يخامره الهوى شنن عليه الوجد حتى تتيما أهان لهن النفس وهي كريمة وألقى اليهن الحديث المكتما تسفهت لما أن وقفت بدارها وعوجلت دون الحلم أن تتحلما فعجت تقرى دارسا متنكرا وتسأل مصروفا عن النطق أعجما ويوم وقفنا للوادع وكلنا يعد مطيع الشوق من كان أحز ما نصرت بقلب لا يعنف في الهوى وعين متى استمطرتها قطرت دما وكان أبو دهبل من شعراء قريش وممن جمع الى الطبع التجويد واسمه وهب بن زمعة بن أسيد بن أحيحة بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب وكان اسم جمح تيما واسم أخيه زيدا وهما ابنا عمرو بن هصيص واستبقا إلى غاية فمضى تيم عن الغاية فقيل جمح تيم فسمي جمح ووقف عليها زيد فقيل سهم زيد فسمي سهما.. فأما كنيته فهي مشتقة من الدهبلة وهي المشي الثقيل يقال دهبل الرجل دهبلة إذا مشى ثقيلا.. أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني قال حدثني محمد بن ابراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال قيل لأبي عمرو بن العلاء ما يجعبك من شعر أبي دهبل الجمحي فقال قوله يا عمر حم فراقكم عمرا وعزمت منا النأي والهجرا يا عمر شيخك وهو ذو شرف يرعى الزمام ويكرم الصهرا والله ما أحببت حبكم لا ثيبا خلقت ولا بكرا إن كان هذا السحر منك فلا ترعي علي وجددي السحرا


[ 80 ]

إحدى بني أود كلفت بها حملت بلا ترة لنا وترا وترى لها دلا إذا نطقت تركت بنات فؤاده صعرا كتساقط الرطب الجني من الأقناء لا نثرا ولا نزرا ومقالة فيكم عركت لها جنبي أريد بها لك العذرا ومريد سركم عدلت به عما يحاول معدلا وعرا قالت يقيم لنا لنجزيه يوما فخيم عندها شهرا ما إن اقيم لحاجة عرضت إلا لأبلي فيكم عذرا وإذا هممت برحلة جزعت وإذا أقمنا لم تفد نقرا (1) إني لارضى ما رضيت به وأرى لحسن حديثكم شكرا وروى أبو عمر الشيباني لأبي دهبل يا ليت من يمنع المعروف يمنعه حتى تذوق رجال غب ما صنعوا وليت رزق رجال مثل نائلهم قوت كقوت ووسع كالذي وسعوا ويروي.. ضيق كضيق ووسع كالذي اتسعوا وليت للناس خطا في وجوههم تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا وليت ذا الفحش لاقا فاحشا أبدا ووافق الحلم أهل الحلم فاتدعوا ولأبي دهبل في قتل الحسين بن علي عليه السلام تبيت النشاوى من أمية نوما وبالطف قتلى ما ينام حميمها وما ضيع الإسلام إلا عصابة تأمر نوكاها ودام نعيمها


(1) النقر بالكسر ما نقر ونقب من الخشب والحجر ونحوهما كالنواة.. والمعنى لم تفد شيئا

[ 81 ]

وصارت قناة الدين في كف ظالم إذا مال منها جانب لا يقيمها وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن ابراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى قال روى أبو عمرو الشيباني لأبي دهبل قال ويقال انها للمجنون أأترك ليلى ليس بيني وبينها سوى ليلة إني إذا لصبور هبوني إمرأ منكم أضل بعيره له ذمة إن الذمام كبير وللصاحب المتروك أعظم حرمة علي صاحب من أن يضل بعير عفى الله عن ليلى الغداة فإنها إذا وليت حكما على تجور وروى أبو عمرو الشيباني لأبي دهبل وقد رواه أبو تمام في الحماسة له أقول والركب قد مالت عمائمهم وقد سقى القوم كأس النشوة السهر يا ليت أنى بأثوابى وراحلتي عبد لأهلك طول الدهر مؤتجر إن كان ذا قدر يعطيك نافلة منا ويحرمنا ما أنصف القدر وأخبرنا المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال مثل قول أبي دهبل ولو تركونا لاهدى الله أمرهم فلم يلحموا قولا من الشر ينسج (9)


(1) قوله ولو تركونا لاهدى الله أمرهم الخ هو من أبيات حسان قالها أبو دهبل في امرأة من قومه يقال لها عمرة كانت امرأة جزلة يجتمع الرجال عندها لانشاد الشعر والمحادثة وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها وكانت هي أيضا محبة له وكان أبو دهبل من أشراف بني جمح وزعمت بنو جمح أنه تزوجها بعد وزعم غيرهم انه لم يصل إليها ولم يجر بينهما حلال ولا حرام وكانت عمرة تتقدم عليه في حفظ ما بينهما وكتمانه فضمن ذلك لها فجاء نسوة كن يتحدثن إليها فذكرن لها شيئا من أمر أبي دهبل وقلن قد علق امرأة قالت وما ذاك قلن ذكر أنه عاشق لك وانك عاشقة له فرفعت مجلسها ومجالسة الرجال ظاهرة وضربت حجابا بينهم وبينها وكتبت إلى أبي دهبل تعذله وتخبره (11 – أمالي)

[ 82 ]

لأ وشك صرف الدهر تفريق بيننا و * ل يستقيم الدهر والدهر أعوج قول العجاج لرؤبة ابنه يشكوه لما استطال عمره وتمنى موته لما رآني أرعشت أطرافي استعجل الدهر وفيه كافي يخترم الإلف عن الألاف.. قال ومثله


بما بلغها من سوء صنيعه فعند ذلك يقول تطاول هذا الليل ما يتبلج وأعيت غواشي عبرتي ما تفرج وبت كئيبا ما أنام كأنما خلال ضلوعي جمرة تتوهج فطورا أمنى النفس من عمرة المنى وطورا إذا مالج بي الحزن انشج لقد قطع الواشون ما كان بيننا ونحن الى أن يوصل الحبل أحوج رأوا غرة فاستقبلوها بالبهم فراحوا على ما لا نحب وأدلجوا وكانوا أناسا كنت آمن غيبهم فلم ينههم حلم ولم يتحر جوا هم منعونا ما نحب وأوقدوا علينا وشبوا نار صرم تأجج ولو تركونا لاهدى الله سعيهم ولم يلحموا قولا من الشر ينسج لأوشك صرف الدهر يفرق بيننا وهل يستقيم الدهر والدهر أعوج عسى كربة أمسيت فيها مقيمة يكون لنا مهنا نجاة ومخرج فيكبت أعداء ويخذل آلف له كبد من لوعة الحب تنضج وقلت لعباد وجاء كتابها لهذا وربي كانت العين تخلج وخططت في ظهر الحصير كأنني أسير يخاف القتل ولهان ملفج فلما التقينا لجلجت في حديثها ومن آية الصرم الحديث الملجلج وانى لمحجوب عشية زرتها وكنت إذا ما زرتها لا أعرج وأعى على القول والقول واسع وفي القول مستن كثير ومخرج

[ 83 ]

عدمت ابن عم لا يزال كأنه وإن لم تراه منطو لي على وتر (1) يعين على الدهر والدهر مكتف وإن أستعنه لا يعني على الدهر [ قال المرتضى رضي الله عنه ].. ومثل الجميع قوله أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إلى كم يكون العتب في كل ساعة وكم لا تملين القطيعة والهجرا رويدك إن الدهر فيه كفاية لتفريق ذات البين فانتظري الدهرا (مجلس آخر 9) [ ان سأل سائل ] ما وجه التكرار في سورة الكافرين وما الذي حسن عادة النفى لكونه عابدا ما يعبدون وكونهم عابدين ما يعبد وذكر ذلك مرة واحدة يغني.. وما وجه التكرار في سورة الرحمن لقوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان).. الجواب يقال له قد ذكر ابن قتيبة في معنى التكرار في سورة الكافرون وجها وهو أن قال القرآن لم ينزل دفعه واحدة وانما كان نزوله شيئا بعد شئ والأمر في ذلك ظاهر فكأن المشركين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له استلم بعض أصنامنا حتى نؤمن بك ونصدق بنبوتك فأمره الله تعالى بأن يقول لهم (لا أعبد ما تعبدون ولا أنا عابد ما عبدتم) ثم غبروا مدة من الزمان وجاؤه فقالوا له اعبد بعض آلهتنا واستلم بعض أصنامنا يوما أو شهرا أو حولا لنفعل مثل ذلك بالهك فأمره الله تعالى بأن يقول لهم (ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أبعد)


(1) قوله وان لم تراه الخ ان قال قائل لم لم يحذف الألف من تراه للجازم.. فجوابه انها ثبتت ضرورة أو هي اشباع والحرف الأصلي حذف للجازم وقيل هي أصلية بناء على قول من يجزم المعتل بحذف الحركة المقدرة ويقر حرف العلة على حاله ومثل البيت قوله هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهجو ولم تدعى

[ 84 ]

أي ان كنتم لا تعبدون إلهي الا بهذا الشرط فانكم لا تعبودنه أبدا.. وقد طعن بعض الناس على هذا التأويل بأن قال انه يقتضي شرطا وحذفا لا يدل عليه ظاهر الكلام وهو ما شرطه في قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد قال وإذا كان ما نفاه عن نفسه من عبادته ما يعبدون مطلقا غير مشروط فكذلك ما عطفه عليه وهذا الطعن غير صحيح لانه لا يمتنع اثبات شرط بدليل وان لم يكن في ظاهر الكلام ولا يمتنع عطف المشروط على المطلق بحسب قيام الدلالة.. وعن هذا السؤال ثلاثة اجوبة كل واحد منها اوضح مما ذكره ابن قتيبة.. اولها ما حكى عن أبي العباس ثعلب انه قال انما حسن التكرار لأن تحت كل لفظة معنى ليس هو تحت الأخرى وتلخيص الكلام قل يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون الساعة وفي هذه الحال ولا أنتم عابدون ما أعبد في هذه الحال أيضا واختص الفعلان منه ومنهم بالحال.. وقال من بعد ولا أنا عابد ما عبدتم في المستقبل ولا أنتم عابدون ما أعبد فيما تستقبلون فاختلف المعاني وحسن التكرار في اختلافها ويجب ان تكون السورة على هذا مختصة بمن المعلوم انه لا يؤمن.. وقد ذكر مقاتل وغيره أنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد والمستهزئون هم العاصى بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن المطلب والاسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس.. والجواب الثاني وهو جواب الفراء أن يكون التكرار للتأكيد كقول المجيب مؤكدا بلى بلى والممتنع مؤكدا لا لا.. ومثله قول الله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون).. وأنشد الفراء وكائن وكم عندي لهم من صنيعة أيادي ثنوها علي وأوجبوا.. وأنشد أيضا كم نعمة كانت لكم كم كم وكم.. وأنشد أيضا نعق الغراب ببين لبني غدوة كم كم وكم لفراق لبني ينعق.. وقال آخر


[ 85 ]

أردت لنفسي بعض الأمور فأولي لنفسي أولي لها.. والجواب الثالث وهو أغربها أنني لا أعبد الأصنام التي تعبدونها ولا أنتم عابدون ما أعبد أي أنتم غير عابدين الله الذي أنا عابده إذ أشركتم به واتخذتم الاصنام وغيرها معبودة من دونه أو معه وانما يكون عابدا له من أخلص له العبادة دون غيره وأفرده بها وقوله ولا أنا عابد ما عبدتم أي لست أعبد عبادتكم وما في قوله ما عبدتم في موضع المصدر كما قال تعالى (والأرض وما طحاها ونفس وما سواها) أراد طحيه إياها وتسويته لها وقوله تعالى (ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) يريد بفرحكم مر حكم.. قال الشاعر يا ربع سلامة بالمنحنى بخيف سلع جادك الوابل إن تمس وحشا فبما قد ترى وأنت معمور بها آهل أراد فبرؤيتك معمورا آهلا.. ومعنى قوله ولا أنتم عابدون أي لستم عابدين عبادتي على نحو ما ذكرناه فلم يتكرر الكلام الا لاختلاف المعاني.. وتلخيص ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للكفار لا أعبد آلهتكم ومن تدعونه من دون الله ولا أنتم عابدون الهي وان زعمتم انكم عابدون إلهي فأنتم كاذبون إذ كنتم من غير الجهة التي أمركم بها تعبدونه فأنا لا أعبد مثل عبادتكم ولا أنتم ما دمتم على ما أنتم عليه تعبدون مثل عبادتي.. فان قيل أما اختلاف المعبودين فلا شبهة فيه فما الوجه في اختلاف العبادة.. قلنا انه صلى الله عليه وسلم كان يعبد من يخلص له العبادة ولا يشرك به شيئا وهم يشركون فاختلفت عباداتهما ولأنه أيضا كان يتقرب الي معبوده بالأفعال الشرعية التي تقع على وجه العبادة وهم لا يفعلون تلك الأفعال ويتقربون بأفعال غيرها يعتقدون جهلا أنها عبادة وقربة.. فان قيل ما معنى قوله تعالى (لكم دينكم ولي دين) وظاهر هذا الكلام يقتضي اباحتهم المقام على أديانهم.. قلنا في هذا ثلاثة أجوبة.. أولها ان ظاهر الكلام وان كان ظاهره اباحة فهو وعيد ومبالغة في النهي والزجر كما قال تعالى (اعملوا ما شئتم).. وثانيها انه أراد لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فحذف الجزاء لدلالة الكلام عليه..


[ 86 ]

وثالثها انه أراد لكم جزاؤكم ولي جزائي لان نفس الدين هو الجزاء.. قال الشاعر إذا ما لقونا لقيناهم ودناهم مثل ما يقرضونا.. فأما التكرار في سورة الرحمن فانما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة فكلما ذكر نعمة أنعم بها قرر عليها ووبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم احسن اليك بأن خولتك الأموال ألم أحسن اليك بأن خلصتك من المكاره ألم أحسن اليك بأن فعلت بك كذا وكذا فيحسن منه التكرير لاختلاف ما يقرره به وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم.. قال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا وهمام بن مرة قد تركنا عليه القشعمان من النسور (1) على أن ليس عدلا من كليب إذا طرد اليتيم عن الجزور على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير علي أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب إذا رجف العضاه من الدبور على أن ليس عدلا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب غداة بلابل الأمر الكبير على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خام جار المستجير.. وقالت ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحمير


(1) – قلت القشعمان مرفوع بالابتداء وخبره قوله عليه مقدما والجملة في موضع النصب على الحال وتقديره وعليه فحذف الواو لان الهاء في عليه تربط الكلام بأوله ويروى عليه القشعمين بالنصب ووجهه أن يكون منصوبا بقوله تركنا

[ 87 ]

لنعم الفتى ياتوب كنت ولم تكن لتسبق يوم كنت فيه تحاول ونعم الفتى يا توب كنت إذا التقت صدور الاعالي واستشال الأسافل ونعم الفتى يا توب كنت لخائف أتاك لكي يحمي ونعم المحامل ونعم الفتى يا توب جارا وصاحبا ونعم الفتى يا توب حين تناضل لعمري لأنت المرء أبكي لفقده بجد ولو لامت عليه العواذل لعمري لانت المرء أبكي لفقده ويكثر تسهيدي له أوائل لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ولو لام فيه ناقص العقل جاهل لعمري لانت المرء أبكي لفقده إذا كثرت بالملحمين البلابل أبا لك ذم الناس ياتوب كلما ذكرت أمور محكمات كوامل فلا يبعدنك الله ياتوب إنما لقيت حمام الموت والموت عاجل ولا يبعدنك الله يا توب إنها كذاك المنايا عاجلات وآجل ولا يبعدنك الله يا توب والتقت عليك الغوادي المدجنات الهواطل فخرجت في هذه الابيات من تكرار الى تكرار لاختلاف المعاني التي عددتها على نحو ما ذكرناه.. وقال الحارث بن عباد وكان قاضي العرب قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال ثم كرر قوله قربا مربط النعامة في أبيات كثيرة من القصيدة للمعنى الذي ذكرناه.. وقالت ابنة عم للنعمان بن بشير ترثي زوجها وحدثني أصحابه أن مالكا أقام ونادى صحبه برحيل وحدثني أصحابه أن مالكا ضروب بنصل السيف غير نكول


[ 88 ]

وحدثني أصحابه أن مالكا خفيف على الحداث غير ثقيل وحدثني أصحابه أن مالكا جواد بما في الرحل غير بخيل وحدثني أصحابه أن مالكا صروم كماضي الشفرتين صقيل وهذا المعنى أكثر من أن نحصيه وهذا هو الجواب عن التكرار في سورة المرسلات بقوله عزوجل (ويل يومئذ للمكذبين).. فان قيل إذا كان الذي حسن التكرار في سورة الرحمن ما عدده من الآيات ومن نعمه فقد عدد في جملة ذلك ما ليس بنعمة وهو قوله (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) وقوله (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن).. فكيف يحسن أن يقول بعقب هذا (فبأي آلاء ربكما تكذبان) وليس هذا من الآلاء والنعم.. قلنا الوجه في ذلك أن فعل العقاب وان لم يكن نعمة فذكره ووصفه والانذار به من أكبر النعم لأن في ذلك زجرا عن ما يستحق به العقاب وبعثا على ما يستحق به الثواب فانما أشار تعالى بقوله فبأي آلاء ربكما تكذبان بعد ذكر جهنم والعذاب فيها الى نعمة يوصفها والانذار بعقابها وهذا مما لا شبهة في كونه نعمة [ قال المرتضى رضى الله عنه ].. وكما أنه في الجاهلية وقبل الاسلام وفي ابتدائه قوم يقولون بالدهر وينفون الصانع وآخرون مشركون يعبدون غير خالقهم ويستنزلون الرزق من غير رازقهم أخبر الله عنهم في كتابه وضرب لهم الأمثال وكرر عليهم البينات والاعلام فقد نشأ بعد هؤلاء جماعة ممن يتستر باظهار الاسلام ويحقن باظهار شعائره والدخول في جملة أهله دمه وماله زنادقة ملحدون وكفار مشركون فمنعهم عز الاسلام عن المظاهرة وألجأهم خوف القتل الى المساترة وبلية هؤلاء على الاسلام وأهله أعظم وأغلظ لأنهم يدغلون في الدين ويموهون على المستضعفين بجاش رابط ورأي جامع فعل من قد أمن الوحشة ووثق بالأنسة بما يظهره من لباس الدين الذي هو منه على الحقيقة عار وبأثوابه غير متوار.. كما حكى ان عبد الكريم بن أبي العوجا قال لما قبض عليه محمد بن سليمان وهو والي الكوفة من قبل المنصور وأحضره للقتل وأيقن


[ 89 ]

بمفارقة الحياة لئن قتلتموني لقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة.. والمشهورون من هؤلاء الوليد بن يزيد بن عبد الملك. والحمادون حماد الراوية. وحماد ابن الزبرقان. وحماد عجرد. وعبد الله بن المقفع. وعبد الكريم بن أبي العوجا. وبشار بن برد. ومطيع بن إياس. ويحيى بن زياد الحارثي. وصالح بن عبد القدوس الازدي. وعلي بن خليل الشيباني وغير هؤلاء ممن لم نذكره وهم وإن كان عددهم كثيرا فقد أقلهم الله وأذلهم وأرذلهم بما شهدت به دلائله الواضحة وحججه اللائحة على عقولهم من الضعف وآرائهم من السخف ونحن نذكر من أخبار كل واحد ممن ذكرناه وتهمته في دينه نبذة ونومئ فيها إلى جملة كافية والذي دعانا إلى التشاغل بذلك وان كانت عنايتنا بغيره أقوى مسألة من نرى اجابته ونؤثر موافقته فتكلفناه له من أجله مع انه غير خال من فائدة ينفع علمها ويتأدب بروايتها وحفظها.. أما الوليد فكان مشهورا بالالحاد متظاهرا بالعناد غير محتشم في اطراح الدين أحدا ولا مراقب فيه بشرا وفي الحديث انه ولد لأخي أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم غلام فسموه الوليد فقال النبي عليه الصلاة والسلام سميتموه بأسماء فراعنتكم ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد لهو شر على هذه الأمة من فرعون على قومه قال الأوزاعي فسألت الزهري عنه فقال ان استخلف الوليد بن يزيد وإلا هو الوليد بن عبد الملك.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن ابراهيم قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك قد عزم على أن يبني فوق البيت الحرام قبة يشرب عليها الخمور ويشرف على الطواف فقال بعض الحجبة لقد رأيت المجوسي البناء فوق الكعبة وهو يقدر مواضع أركان القبة فلم تمس تلك الليلة حتى وافي الخبر بقتل الوليد.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني عبد الله بن يحيى العسكري عن أبي اسحاق الطلحي قال أخبرني أحمد بن ابراهيم بن اسماعيل عن أبي العالية قال أخبرني بعض أهل العلم قال قال يزيد بن الوليد وهو الملقب بالناقص لما ولى نشدت الله رجلا سمع شيئا من الوليد الا أخبر به فقام ثور بن يزيد فقال اشهد لسمعته وهو يقول إسقيانى وابن حرب واسترانا بإزار (12 – أمالي)


[ 90 ]

واتركا من طلب الجنة يسعى في خسار ساسوس الناس حتى يركبوا دين الحمار وأخبرنا المرزباني قال أخبرني ابن خالد النخاس قال حدثنا محمد بن مكحول قال نشر الوليد بن يزيد يوما المصحف وكان خطه كأنه أصابع وجعل يرميه بالسهام ويقول يذكرني الحساب ولست أدري أحقا ما يقول من الحساب فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي [ قال الشريف المرتضى رضى الله عنه ].. ويله من هذه الجراءة على الله ويلا طويلا وما أقدر الله أن يمنعه طعامه وشرابه وحياته وما أولاه اللعين بأليم العذاب وشديد العقاب لولا ما تتم به المحنة وينتظم به التكليف من تأخير المستحق من الثواب والعقاب وتبعيدهما من أحوال الطاعات والمعاصي.. أخبرنا أبو عبيد الله المزرباني قال حدثني أحمد بن كامل قال كان الوليد بن يزيد زنديقا وانه افتتح المصحف يوما فرأى فيه (وأستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فاتخذ المصحف غرضا ورماه حتى مزقه بالنبل وهو يقول أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد فإن لاقيت ربك يوم حشر فقل يا رب خرقني الوليد وأما حماد الراوية فكان منسلخا من الدين وزاريا على أهله مدمنا لشرب الخمور وارتكاب الفجور.. وقال أبو عمرو الجاحظ كان منقذ بن زياد الهلالي ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحفص بن أبي ودة وقاسم بن زنقطة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الراوية وحماد بن الزبرقان ووالبة بن الحباب وعمارة بن حمزة بن ميمون ويزيد بن الغيض وجميل بن محفوظ المهلبي وبشار بن برد المرعث وأبان اللاحقي يجتمعون على الشرب وقول الشعر ويهجو بعضهم بعضا وكل منهم متهم في دينة.. وعمل يونس بن أبي فروة كتابا في مثالب العرب وعيوب الاسلام


[ 91 ]

بزعمه وصار به إلى ملك الروم فأخذ منه مالا.. وقال أحمد بن يحيى النحوي قال رجل يهجو حماد الراوية نعم الفتى لو كان يعرف ربه ويقيم وقت صلاته حماد بسطت مشافره الشمول فأنفه مثل القدوم يسنها الحداد وابيض من شرب المدامة وجهه فبياضه يوم الحساب سواد لا يعجبنك بزه ولسانه إن المجوس يرى لها أسباد وكان حماد مشهورا بالكذب في الرواية وعمل الشعر واضافته الى الشعراء المتقدمين ودسه في أشعارهم حتى ان كثيرا من الرواة قالوا قد افسد الشعر لانه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل ما يشاكل طريقته (1) فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم


(1) قوله يدخل في شعر كل رجل ما يشاكل طريقته الخ فمن ذلك ان المهدي سأل المفضل الضبي عن سبب افتتاح زهير قصيدته دع ذاوعد القول في هرم خير البداة وسيد الحضر ولم يتقدم له قبل ذلك قول فما الذي أمر نفسه بتركه فقال له المفضل إني توهمته كان مفكرا في شئ من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما انت فيه من الفكر وعد القول في هرم فامسك عنه ودعى حمادا فسأله فقال ليس هكذا قال زهير وأنشده لمن الديار بقنة الحجر أقوين مذحجج ومذدهر قفر بمندفع النحائت من ضفوى ألات الضال والسدر دع ذا الخ فاستحلفه المهدي فأقر أنه هو الذي ادخلها في شعر زهير فأمر المهدي ان من اراد شعرا محدثا فليأخذه من حماد ومن اراد رواية صحيحة فليأخذها من المفضل.. وقال له الوليد بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الرواية فقال بأني اروي لكل شاعر تعرفه أو سمعت به ثم اروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لا تعرفه ولم تسمع به ثم لا أنشد شعرا لقديم ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث فقال ان هذا لعلم

[ 92 ]

وهذا الفعل منه وان لم يكن دالا على الالحاد فهو فسق وتهاون بالكذب في الرواية .. وأما حماد بن الزبرقان فهذه طريقته في التخرم والتهتك.. أخبرنا أبو الحسن علي ابن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الاشنانداني قال دعا حماد بن الزبرقان أبا الغول النهشلي الى منزله وكانا يتقارضان فانتهره أبو الغول فلم يزل المفضل به حتى أجابه وانطلق معه فلما رجع الى المفضل قال ما صنعت أنت وحماد قال اصطلحنا على أن لا آمره بالصلاة ولا يدعوني الى شرب الخمر.. ثم أنشد المفضل قوله * نعم الفتى لو كان يعرف ربه * وذكر الابيات التي تقدمت في الرواية الأخرى منسوبة الى هجا حماد الراوية.. فأما. حماد عجرد فشهرته في الضلالة كشهرة الحمادين وكان يرمي مع ذلك بالتثنية.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني علي بن عبد الله الفارسي قال أخبرني أبي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن عبد الله بن سعد قال حدثني السرى عن الصباح الكوفي قال دخلت على بشار بالبصرة فقال لي يا أبا علي أما إني قد أوجعت صاحبكم وبلغت منه يعني حماد عجرد فقلت بماذا يا أبا معاذ فقال بقولى فيه يا ابن نهيا رأس على ثقيل واحتمال الرأسين خطب جليل فادع غيرى إلى عبادة ربين فإني بواحد مشغول فقلت لم أدعه في عماه ثم قلت له قد بلغ حمادا هذا الشعر وهو يرويه على خلاف هذا قال فما يقول قلت يقول فادع غيري إلى عبادة ربين فإني عن واحد مشغول


وأبيك كبير فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال كثيرا ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الاسلام فامتحنه فأنشده حتى ضجر فوكل به من سمع منه ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلين فأمر له بمائة ألف درهم واسم أبيه ميسرة (*)

[ 93 ]

فلما سمعه أطرق وقال أحسن والله ابن الفاعلة ثم قال انني لا أحتشمك فلا تنشد أحدا هذين البيتين وكان إذا سئل عنهما بعد ذلك قال ما هما لي.. وأخبرنا المزرباني قال أخبرني علي بن هارون عن عمه يحيي بن علي عن عمر بن شبة قال حدثني خلاد الأرقط قال بشار بلغني ان رجلا كان يقرأ القرآن وحماد ينشد الشعر فاجتمع الناس على القارئ فقال حماد علام تجتمعون فو الله لما أقول أحسن مما يقول فمقته الناس على هذا.. وروى ابن شبة عن أبي عبيدة قال كان حماد عجرد يعير بشارا بالقبح لأنه كان عظيم الجسم مجدورا طويلا جاحظ العينين قد تغشاهما لحم أحمر فلما قال حماد فيه والله ما الخنزير في نتنه بربعه في النتن أو خمسه بل ريحه أطيب من ريحه ومسه ألين من مسه ووجهه أحسن من وجهه ونفسه أفضل من نفسه وعوده أكرم من عوده وجنسه أكرم من جنسه فقال بشار ويلي على الزنديق لقد نفث بما في صدره قيل وكيف ذاك قال ما أراد لزنديق الا قول الله تعالى (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) فأخرج الجحود بها مخرجا هجائي وهذا خبث من بشار وتغلغل شديد.. وأول من جعل نفي الالحاد تأكيدا للوصف به وأخرج ذلك مخرج المبالغة مساور الوراق في حماد عجرد فقال لو أن ماني وديصانا وعصبتهم جاؤا إليك لما قلناك زنديق أنت العبادة والتوحيد مذخلقا وذا التزندق نيرنج مخاريق.. فأما ابن المقفع (1) فان جعفر بن سليمان روى عن المهدي انه قال ما وجدت كتاب


(1) اسم ابن المقفع روزبة قبل الاسلام وعبد الله بعده والمقفع اسمه المبارك ولقب بالمقفع لان الحجاج بن يوسف ضربه ضربا فتقفعت يده ورجل متقفع اليدين أي متشنجهما وقيل هو المقفع بكسر الفاء لعمله القفعة بفتح القاف وسكون الفاء والقفعة شئ يشبة الزنبيل بلا عروة وتعمل من خوص ليس بالكبيرة.. وقال الليث القفعة تتخذ من خوص مستديرة يجتنى فيها الرطب ونحوه

[ 94 ]

زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع.. روى بن شبة قال حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار للمجوس بعد ان أسلم فلمحه وتمثل يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى وبك الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود وإنني قسما اليك مع الصدود لأميل وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد وقال الاخفش والصحيح انه يرثي بها ابن أبي العوجا رزئنا أبا عمر وولا حي مثله فلله ريب الحادثات بمن وقع فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ذوى خلة ما في انسداد لها طمع لقد جر نفعا فقدنا لك أننا أمنا على كل الرزايا من الجزع قال ثعلب البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير.. وأخبرني علي بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه قال حدثنا خالد بن خداش قال كان الخليل بن أحمد يحب أن يرى عبد الله بن المقفع وكان ابن المقفع يحب ذلك فجمعهما عباد بن عباد المهلى فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن فقيل للخليل كيف رأيت عبد الله قال ما رأيت مثله وعلمه أكثر من عقله وقيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل قال ما رأيت مثله وعقله أكثر من علمه قال المغيرة فصدقا أدى عقل الخليل الخليل الى ان مات أزهد الناس وجهل ابن المقفع أداه الى ان كتب أمانا لعبد الله بن علي فقال فيه ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته فاشتد ذلك على المنصور جدا وخاصة أمر البيعة.. وكتب الى سفيان بن معاوية المهلبي وهو أمير البصرة من قبله بقتله فقتله وكان ابن المقفع مع قلة دينه جيد الكلام فصيح العبارة له حكم وأمثال مستفادة.. من ذلك ما روي من أن يحيى بن زياد الحارثي


[ 95 ]

كتب إليه يلتمس معاقده الإخاء والاجتماع على المودة والصفاء فأخر جوابه فكتب إليه كتابا آخر يسترثيه فكتب إليه عبد الله ان الإخاءرق فكرهت ان أملك رقي قبل ان أعرف حسن كنهك.. وكان يقول ذلل نفسك بالصبر على الجار السوء والعشير السوء والجليس السوء فان ذلك لا يكاد يخطئك.. وكان يقول إذا نزل بك أمر مهم فانظر فان كان مما له حيلة فلا تعجز وان كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع.. ودعاه عيسى ابن علي للغداء فقال أعز الله الأمير لست يومي للكرام أكيلا قال ولم قال لانى مزكوم والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار.. وكتب الى بعض اخوانه أما بعد فتعلم العلم ممن هو أعلم به منك وعلمه من أنت أعلم به منه فانك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت.. وقال لبعض الكتاب إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة فان ذلك هو العي الأكبر.. وقال لآخر عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة.. وقيل له ما البلاغة فقال التي إذا سمعها الجاهل ظن انه يحسن مثلها.. وقال لا تحدث من تخاف تكذيبه ولا تسأل من تخاف منعه ولا تعد ما لا تريد إنجازه ولا تضمن ما لا تثق بالقدرة عليه ولا ترج ما تعنف برجائه ولا تقدم على ما تخاف العجز عنه.. وقال لبعض اخوانه إذا صاحبت ملكا فاعلم انهم ينسبونك الى قلة الوفاء فلا تشعرن قلبك استبطاءه فانه لم يشعر أحد قلبه إلا ظهر على لسانه ان كان سخيفا وعلى وجهه ان كان حليما.. وكان يقول ان مما سخا بنفس العالم عن الدنيا علمه بان الأرزاق لم يقسم فيها على قدر الأخطار.. وأما ابن أبي العوجا فقد ذكر ما روى من اعترافه بدسه في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث مكذوبة وروى انه رأى عدلا قد كتب عليه آية الكرسي فقال لصاحبه لم كتبت هذا عليه فقال لئلا يسرق فقال قد رأينا مصحفا سرق.. ولبشار فيه قل لعبد الكريم يا بن أبي العو جاء بعت الإسلام بالكفر موقا لا تصلي ولا تصوم فإن صمت فبعض النهار صوما دقيقا لا تبالي إذا أصبت من الخمر عتيقا ألا تكون عتيقا


[ 96 ]

ليت شعرى غداة حليت في الجند حنيفا حليت أم زنديقا فأما بشار بن برد فروى المازنى قال قال رجل لبشار أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك يذهب الى انه ثنوى فقال بشار ان هذا اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة.. قال المبرد ويروي ان بشارا كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأى ابليس في الامتناع عن السجود وروى له النار مشرقة والأرض مظلمة والنار معبودة مذ كانت النار وروى بعض أصحابه قال كنا إذا حضرت الصلاة نقوم إليها ويقعد بشار فنجعل حول ثوبه ترابا لننظر هل يصلى فنعود والتراب بحاله ولم يقم الى الصلاة.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني علي بن عبد الله الفارسى قال أخبرني أبي قال حدثني ابن مهرويه عن أحمد بن خلاد قال حدثني أبي قال كنت أكلم بشارا وأرد عليه سوء مذهبه بميله الى الالحاد فكان يقول لا أعرف الا ما عاينت أو عاينه معاين فكان الكلام يطول بيننا فقال ما أظن الأمر يا أبا مخلد الا كما يقال انه خذلان ولذلك أقول طبعت على ما في غير مخير هواي ولو خيرت كنت المهذبا أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد وغيب عنى أن أنال المغيبا وأصرف عن قصدي وعلمي مبصر وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا قال الجاحظ كان بشار صديقا لواصل بن عطاء الغزال قبل أن يظهر مذاهبه المكروهة وكان بشار مدح واصل بن عطاء وذكر خطبته التي نزع منها الراء وكانت على البديهة فقال تكلف القوم والأقوام قد حفلوا وحبروا خطبا ناهيك من خطب فقام مرتجلا تغلى بداهته كمرجل القين لما حف باللهب وجانب الراء لم يشعر به أحد قبل التصفح والإغراق في الطلب


[ 97 ]

.. ومثل ذلك قول بعضهم في واصل ويجعل البر قمحا في تكلمه وجانب الراء حتى احتال للشعر ولم يقل مطرا والقول يعجله فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر فلما أظهر بشار مذاهبه هتف به واصل فقام بذكره وتكفيره وقعد فقال بشار فيه مالي أشايع غزالا له عنق كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا عنق الزرافة ما بالي وبالكم تكفرون رجالا أكفروا رجلا فلما تتابع على واصل ما يشهد بالحاده قال عند ذلك أما لهذا الأعمى الملحد أما لهذا المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله على مضجعه أو في يوم حفلة ثم كان لا يتولى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي (1) فعدل واصل بن عطاء من الضرير إلى الأعمى ومن الكافر الى الملحد ومن المرعث الى المشنف ومن بشار إلى أبي معاذ ومن الفراش الى المضجع.. وزاد قوم فقالوا ومن أرسلت الى دسست ومن يبقر الى يبعج ومن داره الى منزله ومن المغيرية الى الغالية والأول أشبه بان يكون مقصودا وما ذكر ثانيا فقد يتفق استعماله من غير عدول عن استعمال الراء.. فأما قوله لا يتولى ذلك الا عقيلي فلأن بشارا كان مولى لهم وذكره بني سدوس لأن بشار كان ينزل فيهم فأما لقب بشار بالمرعث فقد قيل فيه ثلاثة أقوال. أحدها انه لقب بذلك لبيت قاله وهو قال ريم مرعث فاتر الطرف والنظر


(1) وسئل عثمان البري كيف كان يصنع واصل في العدد وكيف كان يصنع بعشرة وعشرين وأربعين وكيف كان يصنع بالقمر والبدر ويوم الاربعاء وشهر رمضان وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الاول وربيع الآخر وجمادي الآخرة ورجب فقال مالي فيه قول الا ما قال صفوان ملقن ملهم فيما يحاوله جم خواطره جواب آفاق (13 – أمالي)

[ 98 ]

لست والله نائلي قلت أو يغلب القدر.. والقول الثاني انه كان لبشار ثوب له جيبان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فكان إذا أراد لبسه يضمه عليه ضما من غير ان يدخل رأسه فيه فشبه استرسال الجيبين وتدليهما بالرعاث وهي القرطة فقيل المرعث.. وقال أبو عبيدة انما سمي المرعث لانه كان يلبس في صباه رعاثا وهذا هو القول الثالث.. وكان بشار مقدما في الشعر جدا حتى ان كثيرا من الرواة يلحقه بمن تقدم عصره عليه من المجودين.. وأخبرنا المرزباني عن محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن الحسن اليشكري قال قيل لأبي حاتم من أشعر الناس قال الذي يقول ولها مبسم كغر الأقاحي وحديث كالوشي وشي البرود نزلت في السواد من حبة القلب ونالت زيادة المستزيد عندها الصبر عن لقاى وعندي زفرات يأكلن صبرا الجليد يعنى بشارا قال كان يقدمه على جميع الناس ولما قال بشار بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الناى والعود فبلغ المهدى ذلك فوجد عليه وكان سبب قتله (مجلس آخر 10) فأما مطيع بن إياس الكناني فأخبرنا أبو عبيد الله المزرباني عن علي بن هارون عن عمه يحيى بن علي عن أبي أيوب المدنى عن أحمد بن ابراهيم الكاتب قال أخبرني أبي قال رأيت بنتا لمطيع بن إياس قد اتى بها في أول أيام الرشيد فأقرت بالزندقة وقراءتها وتابت وقالت هذا شئ علمنيه أبي فقبل الرشيد توبتها وردها الى أهلها.. وقال محمد بن داود بن الجراح في أخبار مطيع بن إياس انه كان يرمى بالزندقة.. روى انه


[ 99 ]

لما حضرته الوفاة أحاط به أهل بيته فأقبلوا يقولون له قل يا مطيع لا إله إلا الله فلا يقول حتى صارت نفسه في ثغرة نحره تنفس ثم أهوى إلى الكلام فقالوا له قل لا إله إلا الله فتكلم كلاما ضعيفا فتسمعوا له فإذا هو يقول لهف نفس على الزمان وفي أي زمان دهتني الأزمان حين جاء الربيع واستقبل الصيف وطاب الطلاء والريحان قال المرزباني وهذا الحديث يرويه الهيثم بن عدي ليحيى بن زياد.. فأما يحيى بن زياد فهو يحيى بن زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي الكوفي وزياد بن عبيد الله هو خال أبي العباس السفاح ويكني يحيى أبا الفضل وكان يعرف أبا الفضل وكان يعرف بالزنديق وكانوا إذا وصفوا إنسانا بالظرف قالوا هو أضرف من الزنديق يعنون يحيى لانه كان ظريفا وهذا المعنى قصد أبو نواس بقوله تيه مغن وظرف زنديق قال الصولي وانما قال ذلك لان الزنديق لا يدع شيئا ولا يمتنع عما يدعي إليه فنسبه الى الظرف لمساعدته على كل شئ وقلة خلافه.. وروي انه قيل ليحيى بن زياد وهو يجود بنفسه قل لا إله إلا الله فقال لم يبق إلا القرط والخلاخل ثم أغمي عليه فلما أفاق أعيد عليه القول فقال وبازل تغلي به المراجل وروى محمد بن يزيد قال قال مطيع بن إياس يرثي يحيى بن زياد وكانا جميعا مرميين بالخروج عن الملة يا أهل بكوا لقلبي القرح وللدموع الهوامل السفح راحوا بيحيى إلى مغيبه في القبر بين التراب والصفح راحوا بيحيى ولو تساعدني ال أقدار لم يبتكر ولم يرح


[ 100 ]

يا خير من يحسن البكاء له اليوم ومن كان أمس للمدح قد ظفر الحزن بالسرور وقد أديل مكروهنا من الفرح ولمطيع يرثيه أنظر إلى الموت كيف بادهه والموت مقدامة على البهم لو قد تدبرت ما صنعت به قرعت سنا عليه من ندم فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ما بعد يحيى للرزء من ألم وأما صالح بن عبد القدوس فكان متظاهر بمذاهب الثنوية ويقال ان أبا الهذيل العلاف ناظره فقطعه ثم قال له على أي شئ تعزم يا صالح فقال أستخير الله وأقول بالاثنين فقال أبو الهذيل فأيهما استخرت لا أم لك.. وروى ان أبا الهذيل ناظره في مسألة مشهورة في الامتزاج الذي ادعوه بين النور والظلمة فأقام عليه الحجة فانقطع وأنشأ يقول أبا الهذيل هداك الله يا رجل فأنت حقا لعمري معضل جدل وروى انه رؤى يصلي صلاة تامة الركوع والسجود فقيل له ما هذا ومذهبك معروف قال سنة البلد وعادة الجسد وسلامة الآهل والولد.. ويقال انه لما أراد المهدى قتله على الزندقة رمي إليه بكتاب قال له اقرأ هذا قال وما هو قال كتاب الزندقة قال صالح أو تعرفه أنت يا أمير المؤمنين إذا قرأته قال لا قال أفتقتلني على ما لا تعرف قال فاني أعرفه قال صالح فقد عرفته ولست بزنديق وكذلك اقرؤه ولست بزنديق.. وذكر محمد بن يزيد المبرد قال ذكر بعض الرواة ان صالحا لما نوظر فيما قذف به من الزندقة بحضرة المهدي قال له المهدي ألست القائل في حفظك ما أنت عليه رب سر كتمته فكأني أخرس أو ثني لساني خبل ولو أني أبديت للناس علمي * لم يكن لي في غير حبسي أكل قال صالح فاني أتوب وأرجع فقال له هيهات ألست القائل


[ 101 ]

والشيخ لا يترك عاداته حتى يواري في ثرى رمسه إذا ارعوى عاوده جهله كذى الضنا عاد إلى نكسه ثم قدم فقتل ويقال انه صلبه على الجسر ببغداد ومن شعره وهو في الحبس خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها فلسنا من الاحياء فيها ولا الموتى إذا دخل السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا فان حسنت لم تأت عجلى وأبطأت وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى طوى دوننا الأخبار سجن ممنع له حارس تهدى العيون ولا يهدى قبرنا ولم ندفن ونحن بمعزل عن الناس لا نخشى فنغشى ولا نغشى الا أحد يأوى لاهل محلة مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا [ قال المرتضى رضى الله عنه ].. وأظن ان ابن الجهم لحظ قول صالح فنغشى ولا نغشى في قوله يصف الحبس بيت يجدد للكريم كرامة ويزار فيه ولا يزور ويحمد وأما علي بن الخليل فقد ذكر محمد بن داود قال كان علي بن الخليل وهو مولى يزيد بن مزيد الشيباني ويكنى أبا الحسن وهو كوفي متهم بالزندقة فطلبه الرشيد عند قتله الزنادقة فاستتر طويلا ثم قصد الرقة وبها الرشيد فمدحه ومدح الفضل بن الربيع.. روى انه لما قعد الرشيد للمظالم بالرقة حضر شيخ حسن الهيئة والخظاب معه قصيدة فأشار بها فأمر الرشيد بأخذهامنه فقال يا أمير المؤمنين أنا أحسن قراءة لها من غيري فأذن لي في قراءتها ففعل فقال اني شيخ كبير ولا آمن الاضطراب إذا قمت فان رأيت أن تأذن لي في الجلوس فعلت فقال له اجلس فجلس ثم أنشأ يقول


[ 102 ]

يا خير من وخدت بأرحله نجب الركاب بمهمه جلس تطوى السباسب في أزمتها طي التجار عمائم البرس لما رأتك الشمس طالعة سجدت لوجهك طلعة الشمس خير الخلائق أنت كلهم في يومك الماضي وفي أمس وكذاك لا تنفك خيرهم تمسي وتصبح فوق ما تمسي من عصبة طابت أرومتها أهل العفاف ومنتهى القدس فوق النجوم فروع نبعتهم ومع الحضيض منابت الغرس إني رحلت اليك من فزع (1) كان التوكل عنده ترسي ما ذاك إلا أنني رجل أصبو إلى بقر من الانس بقر أو انس لا قرون لها يقتلن بالتطويل والحبس وأجاذب الفتيان بينهم صهباء مثل مجاجة الورس للماء في حافاتها حبب نظم كطي صحائف الفرس والله يعلم في بريته ما إن أضعت إقامة الخمس


(1) قوله اني رحلت اليك الخ في غير الاصل اني اليك لجأت من هرب قد كان شردني ومن لبس واخترت حكمك لا أجاوزه حتى أوسد في ثرى رمسي لما استخرت الله في مهل يممت نحوك رحلة العنس كم قد قطعت اليك مدرعا ليلا بهيم اللون كالنقس ان هاجني من هاجس جزع كان التوكل عنده ترسي وفي سائر الرواية اختلاف يسير

[ 103 ]

فقال له هارون من أنت قال علي بن الخليل الذي يقال انه زنديق قال أنت آمن وكتب الى حمدويه ألا يعرض له.. ومن تركنا ذكره من هؤلاء أكثر مما ذكرنا وانما اعتمدنا بهذه الثلبة أشهر وأمره فيها أظهر وأوردنا مع ذلك قليلا من كثير وجملة من تفصيل.. وإذا كنا قد ذكرنا جملة من أخبار أهل الضلالة والمنقادين بالجهالة حسب سؤلنا فنحن نتبعها بشئ من أخبار أهل التوحيد والعدل وملح حكاياتهم ومستحسن ألفاظهم ليعلم الفرق بين من ربحت بيعته وبين من خسرت صفقته فقد سئلنا أيضا ذلك.. أعلم ان أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام وخطبه وانها تتضمن من ذلك مالا مزيد عليه ولا غاية وراءه ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه انما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الاصول.. وروى عن الأئمة من أبنائه عليهم السلام من ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة ومن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ونتاج للعقول العقيمة ونحن نقدم على ما نريد ذكره شيئا مما روي عنهم في هذا الباب.. فمن ذلك ما روى عن أمير المؤمين علي عليه السلام وهو يصف الله تعالى.. بمضادته بين الاشياء علم ان لا ضد له وبمقارنته بين الامور علم ان لا قرين له ضاد النور بالظلمة والخشونة باللين واليبوسة بالبلل والصرد بالحرور مؤلف بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها.. وروى عنه عليه السلام انه سئل بم عرفت ربك فقال بما عرفني به قيل وكيف عرفك قال لا تشبهه صورة ولا يحس بالحواس ولا يقاس بقياس الناس.. وقيل له عليه السلام كيف يحاسب الله الخلق قال كما يرزقهم فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه فقال كما يرزقهم ولا يرونه.. وسأله رجل فقال أين كان ربك قبل أن يخلق السماء والارض فقال أين سؤال عن مكان وكان الله ولا مكان.. وروى عن أبي عبيد الله الصادق عليه السلام انه سأله محمد الحلبي فقال له هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم رآه بقلبه فاما ربنا جل جلاله فلا تدركه أبصار الناظرين ولا تحيط به اسماع السامعين.. وروى صفوان بن يحيى قال دخل أبو قرة المحدث على أبي الحسن الرضا عليه السلام فسأله عن أشياء من


[ 104 ]

الحلال والحرام والاحكام والفرائض حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة إنا روينا أن الله قسم الكلام والرؤية فقسم لموسي عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم الرؤية فقال الرضا عليه السلام فمن المبلغ عن الله الى الثقلين الجن والانس انه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شئ أليس محمد نبيا صادقا قال بلى قال وكيف يجئ رجل الى الخلق جميعا فيخبرهم انه جاء من عند الله يدعوهم إليه بأمره ويقول لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شئ ثم يقول سأراه بعيني وأحيط به علما ألا تستحيون ما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.. قال أبو قرة فانه يقول ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى.. قال عليه السلام ما بعد هذه الآية يدل على ما رأى حيث يقول ما كذب الفؤاد ما رأى يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى فقال لقد رأى من آيات ربه الكبرى وآيات الله غير الله وقد قال الله تعالى ولا يحيطون به علما فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم فقال أبو قرة فأكذب بالرؤية فقال الرضا عليه السلام إن القرآن كذبها وما أجمع عليه المسلمون انه لا يحاط به علما ولا تدركه الابصار وليس كمثله شئ.. وأتى أعرابي أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام فقال أرأيت ربك حين عبدته فقال لم أكن لأعبد شيئا لم أره فقال كيف رأيته فقال لم تره الابصار بالمشاهدة والعيان بل رأته القلوب بحقائق الايمان لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس معروف بالآيات منعوت بالعلامات لا يجوز في أقضيته هو الله الذي لا اله الا هو فقال الاعرابي الله أعلم حيث يجعل رسالاته.. وروي ان شيخا حضر صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء من الله تعالى وقدر قال له نعم يا أخا أهل الشام والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة الا بقضاء من الله وقدر فقال الشامي عند الله أحتبس عناي يا أمير المؤمنين وما أظن ان لي أجرا في سعي إذا كان الله قضاه علي وقدره فقال له عليه السلام ان الله قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون وعلى مقامكم وأنتم مقيمون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين ولا عليها مجبرين فقال الشامي


[ 105 ]

كيف ذاك والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا فقال له عليه السلام ويحك يا أخا أهل الشام لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حاكما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر من الله والنهي ولما كان المحسن أولى بثواب الاحسان من المسيئ والمسيئ أولى بعقوبة الذنب من المحسن تلك مقالة عبدة الاوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية هذه الامة ومجوسها ان الله أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا وكلف يسيرا وأعطى على القليل كثيرا ولم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا ولم يكلف عسيرا ولم يرسل الانبياء لعبا ولم ينزل الكتب لعباده عبثا ولا خلق السموات والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.. قال الشامي فما القضاء والقدر الذي كان مسيرنا بهما وعنهما قال الأمر من الله بذلك والحكم ثم تلا (وكان أمر الله قدرا مقدروا) فقام الشامي فرحا مسرورا لما سمع هذا المقال وقال فرجت عنى فرج الله عنك يا أمير المؤمنين وجعل يقول أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم الحساب من الرحمن غفرانا أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا جزاك ربك بالإحسان إحسانا وروى ان أبا حنيفة النعمان بن ثابت قال دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله فسلمت عليه وقمت من عنده ورأيت ابنه موسى في دهليزه قاعدا في مكتبه وهو صغير السن فقلت له أين يحدث الرجل عندكم إذا أراد ذلك فنظر الي ثم قال يتجنب شطوط الانهار ومسقط الثمار وأفناء الدور والطرق النافذة والمساجد ويضع ويرفع بعد ذلك حيث شاء قال فلما سمعت هذا القول نبل في عيني وعظم في قلبي فقلت له جعلت فداك ممن المعصية فنظر الي ثم قال اجلس حتى أخبرك فجلست فقال ان المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعا فان كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله. وان كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بانصاف عبده الضعيف. وان كانت من العبد وحده فعليه وقع الامر واليه توجه النهي (14 – أمالي)


[ 106 ]

وله حق العقاب والثواب ووجبت الجنة والنار قال فلما سمعت ذلك قلت ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.. وقد نظم هذا المعنى شعرا فقيل لم تخل أفعالنا اللاتى نذم بها إحدى ثلاث خلال حين نأتيها إما تفرد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنا حين ننشيها أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها أو لم يكن لإلهي في جنايتها ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها وأحد من تظاهر من المتقدمين بالقول بالعدل والحسن بن أبي الحسن البصري واسم أبيه يسار من أهل ميسان مولى لبعض الانصار وكان اسم أمه خيرة مملوكة لام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ويقال ان أم سلمة كانت تأخذ الحسن إذا بكي فتسكته بثديها فكان يدر عليه فيقال ان الحكمة التي أوتيها الحسن من ذلك وبلغ الحسن من السن تسعا وثمانين سنة فمن تصرحيه بالعدل ما روى عن أبي الجعد قال سمعت الحسن يقول من زعم ان المعاصي من الله جاء يوم القيامة مسودا وجهه ثم تلا (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة).. وقال داود بن أبى هند سمعت الحسن يقول كل شئ بقضاء (1) الله وقدر الا المعاصي.. وكان الحسن رباع الفصاحة بليغ المواعظ


(1) – قوله سمعت الحسن يقول من زعم ان المعاصي من الله جاء يوم القيامة مسودا وجهه الى قوله سمعت الحسن يقول كل شئ بقضاء وقد الا المعاصي.. أقول هذا مذهب المعتزلة وطوائف أخر من المتكلمين والواجب في هذا الباب الرجوع الى ما في كتاب الله وسنة رسوله ونبذ ما سواهما وعدم الخوض في هذا الباب قال تعالى (انا كل شئ خلقناه بقدر) وفى الصحيح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة هذا لفظ الموطأ وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا أحتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفى رواية أنت

[ 107 ]

كثير العلم وجميع كلامه من الوعظ وذم الدنيا أو جله مأخوذ لفظا ومعنى أو معنى دون لفظ من كلام أمير المؤمين علي بن أبي طالب عليه السلام فهو في ذلك القدوة والغاية.. فمن ذلك قوله عليه السلام شيئان أحدهما مأخوذ من الآخر أحدهما أكثر شئ في الدنيا والآخر أقل شئ في الدنيا العبر والاعتبار.. وقوله عليه السلام مثل الدنيا والآخرة مثل المشرق والمغرب متى ازددت من أحدهما قربا ازددت من الآخر بعدا.. وقوله شتان بين عملين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته وعمل تذهب مؤنته ويبقي أجره.. وقوله في وصف الدنيا ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب من صح فيها أمن ومن فرط فيها ندم ومن استغنى فتن ومن افتقر حزن.. ومن قول له في كلام يا أيها الذام للدنيا والمغتر بغرورها متى استذمت اليك بل متى غرتك أبمضاجع آبائك من الثرى أم بمنازل أمهاتك من البلا كم مرضت بكفيك وكم عالجت بيديك تبتغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الاطباء مثلت لك بهم الدنيا نفسك وبمصرعهم مصرعك [ قال المرتضى رضى الله عنه ].. وهذا باب إن


آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الارض فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شئ واصطفاه على الناس برسالته وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الالواح فيها تبيان كل شئ قال نعم قال افتلومني على أمر قدر قبل ان أخلق وفي الحديث الذي في آخره هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.. قال الايمان ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره وفي رواية كله وفي أخرى حلوه ومره وقال ابن القيم والمخاصمون في القدر نوعان أحدهما من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كالذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا والثاني من ينكر قضاءه وقدره السابق والطائفتان خصماء الله قال عوف من كذب بالقضاء فقد كذب بالاسلام ان الله تبارك وتعالى قدر أقدارا وخلق الخلق بقدر وقسم الآجال بقدر وقسم الارزاق بقدر وقسم البلاء بقدر وقسم العافية بقدر وأمر ونهي (*)

[ 108 ]

ولجناه اغترفنا من ثبج بحرز آخر أو شؤبوب غمام ماطر وكل قول في هذا الباب لقائل إذا أضيف إليه أو قويس به كان كاظافة القطرة الي الغمرة أو الحصاة الى الحرة فانما أشرنا إليه اشارة وأومأنا إليه ايماء.. ثم نعود الى ما كنا فيه.. روى ان اعرابيا سمع كلام الحسن البصري فقال المؤمن فصيح إذا لفظ نصيح إذا وعظ.. وروى ان الحسن تلا يوما (انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال) ثم قال ان قوما غنوا في المطارف العتاق والعمائم الرقاق يطلبون الامارات ويضيعون الامانات يتعرضون للبلاء وهم منه في عافية حتى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفة وظلموا من تحتهم من أهل الذمة أهزلوا دينهم واسمنوا براذينهم ووسعوا دورهم وضيقوا قبورهم ألم ترهم قد جددوا الثياب وأخلقوا الدين تبكي يمين أحدهم على شماله ويأكل من غير ماله طعامه غصب وخدمته سخرة يدعو بحلو بعد حامض وبحار بعد بارد ورطب بعد يابس حتى إذا أخذته الكظة تجشأ من البشم ثم قال يا جارية هاتي حاطوما يعني هاضوما يهظم الطعام يا أحمق لا والله لن تهضم الا دينك أين جارك أين يتيمك أين مسكينك أين ما أوصاك الله به.. وذكر يوما الحجاج فقال أتانا أعيمش أخيفش له جميمة يرجلها وأخرج الينا بنانا قصارا والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله فقال بايعوني فبايعناه ثم رقى هذه الاعواد ينظر الينا بالتصغير وننظر إليه بالتعظيم يأمرنا بالمعروف ويجتنبه وينهانا عن المنكر ويرتكبه.. وروى عيسى بن عمر قال قال الحسن ان هذه القلوب طلعة فاقدعوها فانكم ان تطيعوها تنزع بكم الى شر غاية وحادثوا هذه النفوس فانها سريعة الدثور قال عيسى بن عمر فحدثت بذلك أبا عمرو بن العلاء فعجب من فصاحته.. وكان يقول في بعض كلامه ما يشاء ان ترى أحدهم أبيض بضا يملخ في الباطل ملخا ينفض مذرويه ويقول ها أنا ذا فاعرفوني قال – والبض – هو الرخص اللحم وليس هو من البياض على ما يظنه قوم لأنه قد تكون الرخاصة مع الادمة وأما قوله – يملخ – فان الملخ هو التثني والتكسر يقال ملخ الفرس إذا لعب.. قال رؤبة يصف مغترم التجليح ملاخ الملق


[ 109 ]

– والمذروان – فرعا الاليتين.. قال عنترة أحولي تنفض استك مذرويها لتقتلني فها أنا ذا عمارا.. هذا قول أبو عبيد وقال ابن قتيبة (1) ردا عليه ليس المذروان فرعي الاليتين حسب بل هما الجانبان من كل شئ تقول العرب جاء فلان يضرب أصدريه ويضرب عطفيه وينفض مذروية وهما منكباه.. وذكر انه سمع رجلا من فصحاء العرب يقول قنع الشيب مذروية يريد جابني رأسه وهما فرداه وانما سميا بذلك لانهما يذريان أي يشيبان والذري الشيب قال وهذا أصل الحرف ثم استعير للمنكبين والاليتين والطرفين من كل شئ.. قال أمية بن أبي عائذ الهذلي يذكر قوما على عجس هتافه المذروين زوراء مضجعة في الشمال أراد قوسا ينبض طرفاها.. قال فلا معنى لوصف الرجل الذي ذكر الحسن بأنه يحرك اليته ولا من شأنه أن يبذخ وينبه على نفسه ويقول ها أنا ذا فاعرفوني ان يحرك أليته وانما أراد أنه يضرب عطفيه وهذا مما يوصف به المرخ المختال وربما قالوا جاءنا ينفض مذرويه إذا تهدد وتوعد لأنه إذ تكلم وحرك رأسه نفض قرون فوديه وهما مذرواه.. قال رضي الله عنه ليس الذي ذكره أبو عبيد بعيد لان من شأن المختار الذي يزهي بنفسه أن يهتز ويتثنى فتتحرك أعطافه وأعضاه ومذرواه من جملة ما يهتز ويتحرك لانهما بارزان


(1) – قلت قال ابن سيدة عن الجرمازي رانفة كل شئ ناحيته والمذرى طرف الألية وهما المذروان وقيل المذروان أطراف الأليتين وليس لهما واحد وقال أبو عبيدة وهو أجود القولين لانه لو كان لهما واحد فقيل مذرى لقيل في التثنية مذريان وأنشد أحولي تنفض استك مذرويها لتقتلني فها أنا ذا عمارا متى ما نلتقي فردين ترجف روانف أليتيك وتستطارا قلت قوله لقيل مذريان علة ذلك ان المقصور إذا كان على أربعة أحرف يثنى بالياء على كل حال نحو مقلى ومقليان وشذ في تثنية ألية أليان ومثلها خصية وخصيان وقيل هما تثنية ألي وخصي المذكرين وذكرت خصية استطرادا فليتنبه لذلك

[ 110 ]

من جسمه فيظهر فيهما الاهتزاز وانما خص المذروين بالذكر مع ان غيرهما يتحرك ايضا على طريق التقبيح على لهذا المختال والتهجين لفعله وقول ابن قتيبة ليس من شأن من يبذخ ان يحرك اليتيه ليس بشئ لان الأغلب من شأن المختال البذاخ الاهتزاز وتحريك الاعطاف على ان هذا يلزمه فيما قاله لانه ليس من شأن كل متوعد ان يحرك رأسه وينفض مذرويه فإذا قال ان ذلك في الاغلب والاكثر فهذا مثله.. وكان الحسن يقول يا ابن آدم جمعا جمعا سرطا سرطا جمعا في وعاء وشدا في وكاء وركوب الذلول ولبس اللين حتى قيل مات فافضى والله الى الآخرة فطال حسابه.. وكان يقول مسكين ابن آدم مكتوم الاجل مكنون العلل أسير جوع صريع شبع ان من تؤلمه البقة وتقتله الشرقة لبادي الضعف فريسة الحتف.. وكان يقول ما أطال أحد الامل الا أساء العمل وما أساء العمل الاذل.. وكتب الى عمر بن عبد العزيز اما بعده فان طول البقاء الي فنا فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى والسلام.. وكان يقول إذا رأيت رجلا ينافس في الدنيا فنافسه في الآخرة.. وسأله رجل ما حالك فقال له بأشد حال ما حال من أمسى وأصبح ينتظر الموت ولا يدري ما يفعل الله به.. وكان يقول يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان يكتبان عملك فأملل ما شئت فأكثرأ وأقلل.. وفي خبر آخر وكل بك ملكان كريمان ريقك مدادهما ولسانك قلمهما.. روى أبو بكر الهذلي قال لما قدم عمر بن هبيرة واليا على العراق نزل واسطا وبعث الى الشعبي والى الحسن البصري فقال لهما ان يزيد بن عبد الملك عبد أخذ الله ميثاقه وانتجبه لخلافته وقد أخذ بنواصينا وأعطيناه عهودنا ومواثيقنا وصفقة أيدينا فوجب علينا السمع والطاعة له وانه بعثني الى عراقكم غير سائل إياه الا انه لا يزال يبعث الينا في القوم نقتلهم وفي الضياع نقبضها أو في الدور نهدمها فنوليه من ذلك ما ولاه الله فما تريان فتأمل الشعبي فقال قولا فيه بعض اللين وأما الحسن فانه قال له يا عمر اني أنهاك عن الله ان تتعرض له فان الله مانعك من يزيد وما يمنعك يزيد من الله إنه يوشك أن ينزل اليك ملك من السماء فيستنزلك من سريرك ويخرجك من سعة قصرك الى ضيق قبرك ثم لا يوسعه عليك الا عملك ان هذا السلطان انما جعل ناصرا لدين الله فلا تركبوا دين الله وعباد الله بسلطانه تذلونهم به فانه لا طاعة لمخلوق في


[ 111 ]

معصية الخالق عز وجل.. وذكر عن الشعبي انه قال كان والله الحسن أكرمنا عليه.. وروى أبو بكر بن عياش قال قال مسلمة بن عبد الملك للحسن عظني فقال إذا نزلت عن المنبر فاعمل بما تكلمت به فقال عظني فقال أوليت قط فقال نعم قال فما كنت تحب ان يؤتى اليك فأته الى من وليته.. وعن ثابت البناني قال قال رجل للحسن آخذ عطاي أم أدعه حتي آخذه من حسناتهم يوم القيامة فقال له قم ويحك خذ عطاءك فان القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة.. وولد للحسن غلام فهناه بعض أصحابه فقال الحسن نحمد الله على هبته ونستزيده من نعمه ولا مرحبا ممن ان كنت غنيا أذهلني وان كنت فقيرا أتعبني لا أرضي بسعيي له سعيا ولا بكدي له في الحياة كدا أشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي وأنا في حال لا يصل الى من همه حزن ولا من فرحه سرور.. وكان الحسن يقول لو لم يكن من شؤم الشراب الا انه جاء الى أحب خلق الله الى الله فأفسده فكان ينبغي للعاقل أن يتركه يعنى العقل.. وعزي جارا له يهوديا فقال جزاك الله عن مصيبتك بأعظم ما جازى به أحدا من أهل ملتك وهذا تخلص منه مليح لأنه لم يدع له بالثواب الذي لا يستحقه الكفار وأراد بالجزاء العوض الذي يستحقه الكافر مع استحقاق العقاب.. وكان يقول ليس للفاسق المعلن بالفسق غيبة ولا لاهل الاهواء والبدع غيبة ولا للسلطان الجائر غيبة.. وقال في قوله تعالى (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) قال العلم (وفي الآخره حسنة) قال الجنة.. وخرج الحسن في جنازة معها نوائح فقال له رجل ما ترى يا أبا سعيد هذا وهم الرجل بالرجوع فقال له الحسن ان كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا أسرع ذلك في دينك.. وذكرت عنده الدنيا فقال أحلام نوم أو كضل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع وكان يتمثل اليوم عندك دلها وحديثها وغدا لغيرك كفها والمعصم وعن أبي عبيدة قال لما فرغ الحجاج من قصر واسط نادى في الناس أن يخرجوا فيدعوا له بالبركة فخرج الناس وخرج الحسن فاجتمع عليه الناس فخاف أهل الشام


[ 112 ]

على نفسه أن يقتلوه فرجع وهو يقول قد نظرنا يا أخبث الاخبثين وأفسق الافسقين أما أهل السماء فمقتوك وأما أهل الارض فغروك ثم قال أبى الله تعالي للميثاق الذي أخذه على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه ثم انصرف فبلغ الحجاج ذلك فقال يا أهل الشام وهم حوله آلله أيقومن عبيد من عبيد أهل البصرة ويتكلم في بما يتكلم ولا يكون عند أحد منكم تغيير ولا نكير قالوا ومن ذلك أصحلك الله اسقنا دمه فقال على به وأمر بالنطع والسيف فأحضر ووجه إليه فلما دنا الحسن من الباب حرك شفتيه والحاجب ينظر إليه فلما دخل قال له الحجاج ههنا وأجلسه قريبا من فرشه وقال له ما تقول في علي وعثمان قال أقول قول من هو خير منى عند من هو شر منك قال فرعون لموسى ما بال القرون الاولى قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى علم علي وعثمان عند الله فقال له الحجاج أنت سيد العلماء يا أبا سعيد ثم دعا بغالية فغلف بها لحيته فلما خرج الحسن اتبعه الحاجب فقال يا أبا سعيد لقد دعاك لغير هذا الذي فعل بك ولقد أحضر السيف والنطع فلما أقبلت رأيتك قد حركت شفتيك بشئ فما قلت قال قلت يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا ولي نعمتي ويا إلهي وإله آبائى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب ارزقني مودته واصرف عني أذاه ومعرته ففعل ربي عز وجل ذلك.. وكان الحسن يقول ما زال النفاق مقموعا حتى عمم هذا عمامة وقلد سيفا.. وروى أبو بكر الهذلي ان رجلا قال للحسن يا أبا سعيد ان الشيعة تزعم انك تبغض عليا فأكب يبكي طويلا ثم رفع رأسه فقال لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهما من مرامي الله عز وجل على عدوه رباني هذه الأمة ذو شرفها وفضلها وذو قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم قريبة لم يكن بالنومة عن أمر الله ولا بالغافل عن حق الله ولا بالسروقة من مال الله أعطى القرآن عزائمه فيما له وعليه فأشرف منها على رياض مؤنقة واعلام بينة ذلك ابن أبي طالب يا لكع.. وكان الحسن إذا أراد أن يحدث في زمن بني أمية عن أمير المؤمنين قال قال أبو زينب.. وشهد الحسن جنازة فقال أن أمرا هذا أوله لينبغي أن يحذر منه وأن أمرا هذا آخره لينبغي أن يزهد فيه.. وعن حميد الطويل قال خطب رجل إلى الحسن ابنته وكنت السفير بينهما فرضيته وأراد أن يزوجه فأثنيت


[ 113 ]

عليه ذات يوم وقلت وأزيدك يا أبا سعيد فان له خمسين ألفا قال أقلت له خمسون ألفا ما اجتمعت من حلال قلت يا أبا سعيد انه والله ما علمته إلا ورعا مسلما فقال إذا كان جمعها من حلال فقد ضن بها على حق لا يجرى بيني وبينه صهر أبدا.. وقيل لعلي ابن الحسين عليه السلام قال الحسن البصري ليس العجب ممن هلك كيف هلك وانما العجب ممن نجى كيف نجى فقال عليه السلام أنا اقول ليس العجب ممن نجى كيف نجى انما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله.. وأتى عليه السلام يوما الحسن البصري وهو يقص عند الحجر فقال أترضى يا حسن نفسك للموت قال لا قال فعملك للحساب قال لا قال فثم دار للعمل غير هذه الدار قال لا قال فلله في أرضه معاذ غير هذا البيت قال لا قال فلم تشغل الناس عن الطواف (مجلس آخر 11) وممن تظاهر بالقول بالعدل واشتهر به واصل بن عطاء الغزال ويكنى أبا حذيفة وقيل انه مولى بني ضبة وقيل مولى بني مخزوم وقيل مولى بن هاشم وروى انه لم يكن غزالا وانما لقب بذلك لأنه كان يكثر الجلوس في الغزالين وقيل انه كان يكثر الجلوس في الغزالين عند رضيع له يعرف بأبي عبد الله الغزال (1) وذكر المبرد ان واصلا كان يلزم الغزالين ليعرف المتعففات من النساء ليصرف صدقته اليهن ولقب بذلك كما لقب أبو مسلمة حفص بن سليمان بالخلال وهو وزير أبي العباس السفاح ولم يكن خلالا وانما كان منزلة بالكوفة بقرب الخلالين وكان يجلس عندهم فسمي خلالا ومثله أبو علي الحرمازي مولى لبني هاشم وانما لقب بذلك لانه كان ينزل في بني الحرماز وابراهيم بن يزيد الخوزي وليس بخوزي ولكنه كان ينزل بمكة بشعب الخوز وأبو سعيد المقبري لانه نزل المقابر.. وكان واصل ألثغ في الراء قبيح اللثغة فكان يخلص من كلامه الراء


(1) قلت وأبو عبد الله هذا مولى لقطن الهلالي ومثل ذلك أبو مالك السدي اشتهر بالسدي لأنه كان يبيع الخمر في سدة المسجد (15 – أمالي)

[ 114 ]

يعدل عنها في سائر محاوراته وقد ذكرنا طرفا من ذلك في أخبار بشار بن برد.. وذكر أبو الحسن البردعي المتكلم أن انسانا سأل عمرو بن عبيد أو غيره عن شئ في القدر بحضرة واصل بن عطاء فتكلم السائل بشئ أغضب عمرا فأجابه عمرو بجواب لم يرضه واصل فقال له واصل إياك وأجوبة الغضب فانها مندمة والشيطان يكون معها وله في تضاعيفها همزة وقد أوجب الله جل وعز على نبيه أن يستعيذ من همزات الشيطان وأن يكونوا معه بقوله أعوذ بك من همزات الشياطين إلى خاتم الآية وقلما شاهدت أحدا تثبت في جوابه وما ينطق به لسانه فيلحقه اللوم.. قال البردعي أنظر الى واصل كيف كلم عمرا فأخرج الراء من كلامه فقال موضع والشيطان يحضرها يكون معها وقد أوجب الله تعالى على نبيه ولم يقل أمره وقال وأن يكونوا معه بدلا من أن يحضروه ثم قال الى خاتم الآية ولم يقل الى آخر الآية.. [ قال المرتضى رضى الله عنه ] ومما لم يذكره البردعى انه عدل عن افتتاح الآية من أجل الراء أيضا لان أولها وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ولولا قصده الى العدول لكان ذكرها واجبا من ابتدائها لا سيما وفي ابتدائها تعليم وتوقيف على كيفية دعائه والاستعاذة به.. وقيل إن رجلا قال له كيف تقول أسرج الفرس قال ألبد الجواد.. وقال له آخر كيف تقول ركب فرسه وجر رمحه قال استوى على جواده وسحب عامله.. وذكر أبو الحسين الخياط أن واصلا كان من أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله ومولده سنة ثمانين ومات سنة احدى وثلاثين ومائة.. وكان واصل ممن لقى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وصحبه وأخذ عنه وقال قوم انه لقي أباه محمدا عليه السلام وذلك غلط لأن محمد توفي سنة ثمانين أو احدى وثمانين وواصل ولد في سنة ثمانين.. وواصل هو أول من أظهر المنزلة بين المنزلتين لأن الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال كانت الخوارج تسمهم بالكفر والشرك.. والمرجئة تسمهم بالايمان وكان الحسن وأصحابه يسمونهم بالنفاق فأظهر واصل القول بأنهم فساق غير مؤمنين ولا كفار ولا منافقين.. وكان عمرو بن عبيد من أصحاب الحسن وتلاميذه فجمع بينه وبين واصل ليناظره فيما أظهر من القول بالمنزلة بين المنزلتين فلما اتفقوا على الاجتماع ذكر أن واصلا


[ 115 ]

أقبل ومعه جماعة من أصحابه الى حلقة الحسن وفيها عمرو بن عبيد جالس فلما نظر الى واصل وكان في عنقه طول واعوجاج قال أرى عنقا لا يفلح صاحبها فسمع ذلك واصل فلما سلم عليه قال له يا بن أخي ان من عاب الصنعة عاب الصانع للتعلق الذي بين الصنعة والصانع فقال له عمرو بن عبيد يا أبا حذيفة قد وعظت فأحسنت ولن أعود الي مثل الذي كان منى وجلس واصل في الحلقة وسئل أن يكلم عمرا فقال واصل لعمرو لم قلت من أتى كبيرة من أهل الصلاة استحق اسم النفاق فقال عمرو لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) فكان كل فاسق منافقا إذ كانت ألف المعرفة ولامها موجودتين في الفاسق فقال له واصل أليس قد وجدت الله تعالى يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وأجمع أهل العلم على أن صاحب الكبيرة استحق اسم ظالم كما استحق اسم فاسق فألا كفرت صاحب الكبيرة من أهل الصلاة بقول الله تعالى (والكافرون هم الظالمون) فعرف بألف ولام التعريف اللتين في قوله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) كما قال في القاذف (وأولئك هم الفاسقون) فسميته منافقا لقوله تعالى (ان المنافقون هم الفاسقون) فأمسك عمرو ثم قال له واصل يا أبا عثمان أي ما أولى أن تستعمل في أسماء المحدثين من أمتنا ما اتفق عليه أهل الفرق من أهل القبلة أو ما اختلفوا فيه فقال عمرو بل ما اتفقوا عليه أولى فقال له واصل ألست تجد أهل الفرق على اختلافهم يسمون صاحب الكبيرة فاسقا ويختلفون فيما عدا ذلك من أسمائه لأن الخوارج تسميه مشركا فاسقا والشيعة تسيمه كافر نعمة فاسقا.. [ قال المرتضي رضى الله عنه ] يعني بالشيعة الزيدية.. والحسن يسميه منافقا فاسقا والمرجئة تسميه مؤمنا فاسقا فاجتمعوا على تسميته بالفسق واختلفوا فيما عدا ذلك من أسمائه فالواجب أن يسمى بالاسم الذي اتفق عليه وهو الفسق لاتفاق المختلفين عليه ولا يسمى بما عدا ذلك من الأسماء التي اختلف فيها فيكون صاحب الكبيرة فاسقا ولا يقال فيه انه مؤمن ولا منافق ولا مشرك ولا كافر فهذا أشبه بأهل الدين فقال له عمرو ابن عبيد ما بيني وبين الحق عداوة والقول قولك فليشهد على من حضر أني تارك


[ 116 ]

للمذهب الذي كنت أذهب إليه من نفاق صاحب الكبيرة من أهل الصلاة قائل بقول أبى حذيفة في ذلك وأني قد اعتزلت مذهب الحسن في هذا الباب فاستحسن الناس هذا من عمرو.. وقيل إن اسم الاعتزال اختص بهذه الفرقة لاعتزالهم مذهب الحسن بن ابي الحسن في تسيمة مرتكب الكبيرة من اهل الصلاة بالنفاق وحكي غير ذلك.. وقيل ان قتادة بعد موت الحسن البصري كان يجلس مجلسه وكان هو وعمرو ابن عبيد جميعا رئيسين متقدمين في أصحاب الحسن فجرت بينهما نفرة فاعتزل عمرو مجلس قتادة واجتمع عليه جماعة من أصحاب الحسن فكان قتادة إذا جلس مجلسه سأل عن عمرو وأصحابه فيقول ما فعل المعتزلة فسموا بذلك.. [ قال المرتضي رضى الله عنه ] أما ما ألزمه واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد أولا فسديد لازم وأما ما كلمه به ثانيا فغير واجب ولا لازم لأن الاجماع وان لم يوجد في تسمية صاحب الكبيرة بالنفاق وغير ذلك من الأسماء كما وجد في تسميته بالفسق فغير ممتنع أن يسمى بذلك لدليل غير الاجماع ووجود الاجماع في الشئ وان كان دليلا على صحته فليس فقده دليلا على فساده.. وواصل انما ألزم عمرا أن يعدل عن التسمية بالنفاق للاختلاف فيه ويقتصر على التسمية بالفسق للاتفاق عليه وهذا باطل ولو لزم ما ذكره للزمه أن يقال قد اتفق أهل الصلاة على استحقاق صاحب الكبيرة من أهل القبلة الذم والعقاب ولم يتفقوا على استحقاقه التخليد في العقاب أو نقول انهم اجتمعوا على استحقاقه العقاب ولم يجمعوا على فعل المستحق به فيجب القول بما اتفقوا عليه ونفى ما اختلفوا فيه فإذا قيل استحقاقه للخلود أو فعل المستحق به من العقاب وان لم يجمعوا عليه فقد علم بدليل غير الاجماع.. قيل له مثل ذلك فيما عول عليه وبطل على كل حال أن يكون الاختلاف في القول دليلا على وجوب الامتناع منه وهذا ينتقض بمسائل كثيرة ذكرها يطول على أن المقدمة التي قدمها لا تشبه ما ألزم عليها لأن الاجماع أولى من الاختلاف فيما يتعارض ويتقابل والاجماع والاختلاف في الموضع الذي كلم عليه واصل عمرا في مكانين لأن الاجماع هو على تسميته بالفسق والاختلاف هو في تسميته بما عداه من الأسماء فلا تعارض بينهما.. وله أن يأخذ بالاجماع في موضعه ويعول فيما الاختلاف


[ 117 ]

فيه على دلالة غير الاجماع لأن فقد الاجماع من القول لا يوجب بطلانه.. وحكي أن واصلا كان يقول أراد الله من العباد أن يعرفوه ثم يعملوا ثم يعلموا قال الله تعالى (يا موسى إني أنا الله) فعرفه نفسه ثم قال (اخلع نعليك) فبعد ان عرفه نفسه أمره بالعمل قال والدليل على ذلك قوله تعالى (والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) يعنى صدقوا (وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) علموا وعملوا وعلموا.. وروى المبرد قال حدثت أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فاحسوا بالخوارج وكانوا قد اشرفوا على العطب فقال واصل لأهل الرفقة ان هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم فقالوا شأنك قال الخوارج له ما أنت وأصحابك قال مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويقيموا حدوده فقالوا قد أجرناكم قال فعلمونا أحكامه فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول قد قبلت أنا ومن معي قالوا فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا قال لهم ليس ذلك لكن قال الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فأبلغونا مأمننا فساروا بأجمعهم حتى بلغو الأمن.. وحكى أن محمدا وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن كانا ممن دعاهما واصل الى القول بالعدل فاستجابا له وذلك لما حج واصل ودعا الناس بمكة والمدينة.. وحكى أبو القاسم البلخي أن عبد الله قال لابنه محمد كل خصالك محمودة إلا قولك بالقدر قال يا أبت فهو شئ أقدر على تركه فورد الكلام على رجل عاقل فقال لاعاتبنك عليه أبدا.. [ قال المرتضي رضى الله عنه ] قال أبو القاسم يقول ان كنت أقدر على تركه فهو قولي وان كنت لا أقدر عليه فلم تعاتبني على شئ لا أقدر عليه.. فأما عمرو بن عبيد فيكنى أبا عثمان مولى لبني العدوية من بني تميم قال الجاحظ هو عمرو بن عبيد بن باب وباب نفسه من سبي كابل من سبي عبد الرحمن بن سمرة وكان باب مولى لبني العدوية قال وكان عبيد شرطيا وكان عمرو متزهدا فكانا إذا اجتازا معا على الناس قالوا هذا شر الناس أبو خير الناس فيقول عبيد صدقتم هذا ابراهيم وأنا تارخ.. قال علي بن الجعد هو عبيد بن باب وكان بوابا للحكم بن أيوب قال وكان باب مكاريا له دكان معروف يقال له دكان باب وكان فارسيا وللفرزدق معه خبر مشهور تركنا ذكره لشهرته وفحش فيه.. وذكر أبو الحسين


[ 118 ]

الخياط أن مولد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء جميعا سنة ثمانين قال ومات عمرو بن عبيد في سنة مائة وأربع وأربعين وهو ابن أربع وستين سنة.. روى أن عمرا استأذن على المنصور فدخل عليه الربيع فقال له بالباب رجل قال إني عمرو بن عبيد وكانت على المنصور جبة يمانية مخففة فقال ويلك يا ربيع عمرو بالباب قال نعم قال هات لي قميصا أبيض فأتاه به فألقاه عليه ثم قال رد من خلفي فغط الجبة وذرر علي قال الربيع ولم أكن أرى أحدا يوقره المنصور حتى رأيت عمرو بن عبيد فدخل عليه رجل آدم مربوع الكدنة بين عينيه أثر السجود حسن الأدب حسن اللسان كأنه لم يزل مع الملوك في توقيره للخليفة وإعظامه إياه قال فسلم عليه فاجتذبه المنصور ليجلس معه فأبا وطرح نفسه بين يديه فسائله وأحفى به فلما أراد عمرو القيام قال له عظ يا أبا عثمان وأوجز قال له ان ما في يدك لست بوارثه عن أحد وانما هو شئ صار اليك وقد كان في يد غيرك قبلك ولو دام لك لبقي في يد الأول والسلام.. وروى الأصمعي قال قال مطر الوارق لعمرو بن عبيد إني لأرحمك مما تقول الناس فيك فقال عمرو أتسمعني أقول فيهم شيئا قال لا قال فاياهم فارحم.. وقال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد لم لا تأخذ مني فتقضي دينا ان كان وتصل رحمك فقال له عمرو أما دين فليس علي وأما صلة رحمي فلا يجب علي وليس عندي قال فما يمنعك أن تأخذ مني قال يمنعني انه لم يأخذ أحد من أحد شيئا إلا ذل له وأنا والله أكره أن أذل لك.. ويقال إن ابن لهيعة أتى عمرو بن عبيد في المسجد الحرام فسلم عليه وجلس إليه وقال له يا أبا عثمان ما تقول في قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) فقال ذلك في محبة القلوب التي لا يستطيعها العبد ولم يكلفها فأما العدل بينهن في القسمة من النفس والكسوة والنفقة فهو مطبق لذلك وقد كلفه بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل) فيما تطيقون (فتذروها كالمعلقة) بمنزلة من ليست أيما ولا ذات زوج وقال ابن لهيعة هذا والله هو الحق.. ويقال إن عمرو بن عبيد أتى يونس بن عبيد يعزيه عن ابن له فقال له ان أباك كان أصلك وان ابنك كان فرعك وان امرأ ذهب أصله وفرعه لحري أن لا يطول بقاؤه.. وقيل ان عبد الله بن عبد الأعلى أخذ هذا المعنى فقال


[ 119 ]

صحبتك قبل الروح إذ أنا نطفة تصان فما يبدوا لعين مصونها أرى المرء دينا للمنايا ومالها مطال إذا حلت بنفس ديونها فماذا بقاء الفرع من بعد أصله ستلقى الذي لاقى الأصول غصونها وأول من سبق الى هذا المعنى امرؤ القيس في قوله فبعض اللوم عاذلتي فإني ستغنيني التجارب وانتسابي إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي وأخذ ذلك لبيد في قوله فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب لعلك تهديك القرون الأوائل فإن لم تجد من دون عدنان والدا ودون معد فلتزعك العواذل وأخذه أيضا في قوله تود ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ونظر إليه محمود الوارق وابراهيم بن العباس الصولي.. فأما محمود ففى قوله إذا ما انتسبت إلى آدم فلم يك بينكما من أب وجازت سنوك بك الأربعين وصرت الى الجانب الأجنب ودب البياض خلال السواد فأصبحت في شبه الأشهب وكيف تؤمل طول الحياة إذا كان حلمك لم يعزب وأما ابراهيم ففي قوله نعى نفسي إلي أبى وخبر أين منقلبي بموعظة رآها في أبيه كما رأيت أبي وكأن أبا نواس لحظ هذا المعنى في قوله


[ 120 ]

وما الناس إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق (مجلس آخر 12) قال روى أن عمرو بن عبيد دخل على معاوية بن عمر الغلابي وهو يجود بنفسه فقال له ان الله تعبدك في حال الصحة بالعمل بجوارحك وقبلك ووضع عنك في هذه الحال عمل الجوارح ولم يكلفك الا العمل بقلبك فاعطه بقلبك ما يجب له عليك.. وروي أن قوما اجتمعوا الى عمرو بن عبيد فتذاكروا السخاء فأكثروا في وصفه وعمرو ساكت فسألوه ما عنده فقال ما أصبتم صفته ان السخي من جاد بماله تبرعا وكف عن أموال الناس تورعا.. وذكر اسحاق بن المفضل الهاشمي إنى لعلى باب المنصور يوما والى جنبي عمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار فنزل عن حماره ثم دفع البساط برجله وجلس دونه فالتفت الي عمارة فقال لا تزال بصرتكم ترمينا منها بأحمق فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع وهو يقول أبو عثمان عمرو بن عبيد قال فو الله ما دل على نفسه حتى أرشد إليه فاتكأه يده ثم قال له أجب أمير المؤمنين جعلت فداك فمر متوكئا عليه فالتفت الى عمارة فقلت ان الرجل الذي استحمقته قد ادخل وتركنا فقال كثيرا ما يكون ذلك فأطال اللبث ثم خرج الربيع وهو متوكى عليه والربيع يقول يا غلام حمار أبي عثمان فما برح حتى أتى بالحمار فأقره على سرجه وضم إليه نشر ثوبه واستودعه الله فأقبل عمارة على الربيع فقال لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل ما لو فعلتموه بولي عهدكم لقضيتم ذمامه قال فما غاب عنك مما فعل به أكثر وأعجب قال عمارة فان اتسع لك الحديث فحدثنا فقال الربيع ما هو إلا أن سمع الخليفة بمكانه فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودا ثم انتقل إليه والمهدي معه عليه سواده وسيفه ثم أذن له فلما دخل عليه سلم بالخلافة فرد عليه وما زال يدنيه حتى أتكأ فخذه


[ 121 ]

وتحفى به ثم سأله عن نفسه وعن عياله يسميهم رجلا رجلا وامرأة امرأة ثم قال يا أبا عثمان عظنا فقال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر) ومر فيها الى آخرها وقال ان ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد قال فبكا بكاء شديدا كأنه لم يسمع تلك الآيات الا تلك الساعة ثم قال زدنى فقال ان الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها واعلم أن هذا الأمر الذي صار اليك انما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى اليك وكذلك يخرج منك الى من هو بعدك وأني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة قال فبكا أشد من بكائه الأول حتى رجف جنباه.. وفي رواية أخرى انه لما انتهى الى آخر السورة قال يا أمير المؤمنين ان ربك لبالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم فاتق الله فان من وراء بابك نيرانا تأجج من الجور ما يعمل فيها بكتاب الله ولا بسنة رسوله فقال يا أبا عثمان إنا لنكتب إليهم في الطوامير نأمرهم بالعمل بالكتاب فان لم يفعلوا فما عسى أن نصنع فقال له مثل أذن الفأرة يجزيك من الطوامير الله أتكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها وتكتب إليهم في حاجة الله فلا ينفذونها والله لو لم ترض من عمالك إلا رضى الله إذا لتقرب اليك من لا نية له فيه.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه رجعنا الى نسق الحديث فقال له سليمان ابن مجالد رفقا بأمير المؤمنين فقد أتعبته منذ اليوم فقال له بمثلك ضاع الأمر وانتشر لاأبا لك وماذا خفت على أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله.. وفي رواية أخرى ان سليمان بن مجالد لما قال له ذلك رفع عمرو رأسه فقال له من أنت فقال أبو جعفر أو لا تعرفه يا أبا عثمان قال لا ولا أبالي أن لا أعرفه فقال هذا أخوك سليمان بن مجالد فقال هذا أخو الشيطان ويلك يا بن مجالد خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته يا أمير المؤمنين ان هؤلاء اتخذوك سلما لشهواتهم فأنت كالأخذ بالقرنين وغيرك يحلب فاتق الله فانك ميت وحدك ومحاسب وحدك ومبعوث وحدك ولن يغني عنك هؤلاء من ربك شيئا فقال له المنصور يا أبا عثمان أعنى بأصحابك أستعن بهم فقال له اظهر الحق يتبعك أهله قال بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب اليك كتابا قال قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه قال فبماذا أجبته (16 – أمالى)


[ 122 ]

قال أو لست قد عرفترأيى في السيف أيام كنت تختلف الينا وإني لا أراه قال أجل ولكن تحلف ليطمئن قلبي قال لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية قال له أنت الصادق البار وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على زمانك فقال لا حاجة لي فيها فقال المنصور والله لتأخذنها قال والله لا أخذتها فقال له المهدي يحلف أمير المؤمنين وتحلف فترك المهدي وأقبل على المنصور فقال من هذا الفتى فقال هذا ابني محمد وهو المهدى وهو ولي العهد فقال والله لقد سميته اسما ما استحقه بعمل وألبسته لبوسا ما هو من لبوس الأبرار ولقد مهدت له أمرا امتع ما يكون به أشغل ما تكون عنه ثم التفت إلى المهدي فقال نعم يا بن أخي إذا حلف أبوك حلف عمك لان أباك أقدر على الكفارة من عمك قال المنصور يا أبا عثمان هل من حاجة قال نعم قال ما هي قال ألا تبعث الي حتى آتيك (1) قال إذا لا نلتقي قال عن حاجتي سألتنى ثم ودعه ونهض فلما ولى اتبعه بصرة وأنشأ يقول كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وروى أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها وعمرو لا يعرفه فقال لعمرو أليس قد جعل الله لك عينين قال بلى قال ولم قال لأنظر بهما في ملكوت السموات والأرض فاعتبر قال وجعل لك فما قال نعم قال ولم قال لأذوق الطعوم وأجيب الداعي ثم عدد عليه الحواس كلها ثم قال وجعل لك قلبا قال نعم قال ولم قال لتؤدى إليه الحواس ما أدركته فيميز بينها قال فأنت لم يرض لك ربك


(1) وروى من غير هذا الوجه فقال له ترفع هذا الطيلسان عنى فرفع وكان أمر المنصور أن يطرح عليه عند دخوله فقال له لا تدع إتياننا قال نعم لا يضمني واياك بلد الا أتيتك وان بدت لى حاجة اليك سألتك ولا تدعني حتى آتيك قال إذا لا تأتينا أبدا فلما ولو للخروج اتبعهم المنصور بصره ثم قال كلكم يمشي رويد كلكم حابل صيد غير عمرو بن عبيد

[ 123 ]

تعالى ان خلق لك خمس حواس حتى جعل لها اماما ترجع إليه يرضى لهذا الخلق الذين حشى بهم العالم أن لا يجعل لهم اماما يرجعون إليه فقال له عمرو ارتفع حتى ننظر في مسألتك وعرفه ثم دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتى اختلفوا.. وروى أبو عبيدة قال دخل عمرو بن عبيد على سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة فقال له سليمان أخبرني عن صاحبك يعني الحسن يزعم أن عليا عليه السلام قال إنى وددت أني كنت آكل الحشف بالمدينة ولم أشهد مشهدى هذا يعني يوم صفين فقال له عمرو بن عبيد لم يقل هذا لانه ظن ان أمير المؤمنين شك ولكنه يقول ود انه كان يأكل الحشف بالمدينة ولم تكن هذه الفتنة قال فقوله في عبد الله بن العباس يفتينا في القملة والقميلة وطار بأموالنا في ليلة فقال له فكيف يقول هذا وابن عباس لم يفارق عليا حتى قتل وشهد صلح الحسن عليه السلام وأي مال يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة على الى الأموال وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كل خمس ويرشه وقالوا انه كان يقيل فيه فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة هذا باطل.. قال الجاحظ نازع رجل عمرو بن عبيد في القدر فقال له عمرو ان الله تعالى قال في كتابه ما يزيل الشك عن قلوب المؤمنين في القضاء والقدر قال تعالى (فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) ولم يقل لسنألنهم عما قضيت عليهم أو قدرته فيهم أو أردته منهم أو شئته لهم أو ليس بعد هذا الأمر الا الاقرار بالعدل والسكوت عن الجور الذي لا يجوز على الله تعالى.. قال خلاد الأرقط حدثني زميل عمرو بن عبيد قال سمعته في الليلة التي مات فيها يقول اللهم ان كنت تعلم انه لم يعرض لي أمران قط أحدهما لك فيه رضا والآخر لي فيه هوى الا قدمت رضاك على هواى فاغفر لى (1).. ومر أبو جعفر المنصور على


(1) وقال اسماعيل بن مسلمة أخو القضبي رأيت الحسين بن أبي جعفر بعبادان في المنام فقال لي يعقوب ويونس بن أبي عبيد في الجنة فقلت فعمرو بن عبيد فقال في النار ثم رأيته في الليلة الثانية والثالثة كذلك فقلت له في الثالثة فعمرو بن عبيد فقال في النار كم أقول لك

[ 124 ]

قبره بمران وهو موضع على ليال من مكة على طريق البصرة (1) وأنشأ يقول صلى الإله عليك من متوسد قبرا مررت به على مران قبرا تضمن مؤمنا متخشعا عبد الأله ودان بالفرقان وإذا الرجال تنازعوا في شبهة فصل الخطاب بحكمة وبيان فلو ان هذا الدهر أبقى صالحا أبقا لنا عمرا أبا عثمان فأما أبو الهذيل العلاف فهو محمد بن الهذيل بن عبيد الله بن محكول العبدى.. وقال أبو القاسم البلخي هو من موالى عبد القيس ولد في سنة أربع وثلاثين ومائة.. وقال أبو الحسن الخياط ولد سنة احدى وثلاثين ومائة وقيل انه توفي في أول أيام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومأتين وكان سنة مائة سنة.. قال البرذعي لحق أبا الهذيل في آخر عمره خرف إلا أنه لم يكن يذهب عليه معرفة المذهب والقيام بحجته وكف بصره قبل وفاته.. وأخذ أبو الهذيل الكلام عن عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء.. وقيل ان أبا الهذيل في حداثته بلغه أن رجلا يهوديا قدم البصرة وقطع جماعة من متكلميها فقال لعمه يا عم أمض بي الى هذا اليهودي حتى أكلمه فقال له عمه يا بني كيف تكلمه وقد عرفت خبره وانه قطع مشايخ المتكلمين فقال لابد من أن تمضي بي إليه فمضى به قال فوجدته يقرر الناس على نبوة موسى عليه السلام فإذا اعترفوا له بها قال نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نجتمع على ما تدعونه فتقدمت إليه فقلت أسألك أم تسألني فقال بل أسألك فقلت ذاك اليك فقال لي أتعترف بأن موسى نبي صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك فقلت له ان كان موسى الذي تسألني عنه هو الذي بشر بنبيي وشهد بنبوته وصدقه فهو نبي صادق وان كان غير من وصفت فذلك شيطان لا أعترف بنبوته فورد عليه ما لم يكن في حسابه ثم قال لي أتقول ان التوراة حق فقلت هذه المسألة تجري مجرى الأولى ان كانت هذه التوراة التي تسألني عنها هي التي تتضمن


(1) قوله على طريق البصرة وقيل بين مكة والمدينة وهو بفتح الميم

[ 125 ]

البشارة بنبيي عليه الصلاة والسلام فتلك حق وان لم تكن كذلك فليست بحق ولا أقربها فبهت وأفحم ولم يدر ما يقول ثم قال لي أريد أن أقول لك شيئا بيني وبينك فظننت أنه يقول شيئا من الخير فتقدمت إليه فسارني وقال أمك كذا وكذا وأم من علمك ولا يكنى وقدر أني أثب به فيقول وثبوا بي وشغبوا على فأقبلت على من كان في المجلس فقلت أعزكم الله ألستم قد وقفتم على مسألته إياي وعلى جوابي له فقالوا نعم قلت أفليس عليه أن يرد جوابي أيضا قالوا بلى قلت لهم فانه لما سارني شتمني بالشتم الذي يوجب الحد وشتم من علمني وانما ظن أني اثب عليه فيدعي أننا واثبناه وشغبنا عليه وقد عرفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني فأخذته الأيدي من كل جهة فخرج هاربا من البصرة.. وعن أبي العيناء قال قال أبو الهذيل ما معنى الخسف فقلت أن تنقلب الأرض أعلاها أسفلها فقال إن لا يكن هذا اليوم بالأرض فانه لبالناس.. وقال أبو الهذيل قال لي المعذل بن غيلان العبدي وكان من سادات عبد القيس وكان يجتمع إليه أهل النظر يا أبا الهذيل ان في نفسي شيئا من قول القوم في الاستطاعة فبين لي ما يذهب بالريب عنى فقال خبرني عن قول الله عزوجل (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم انهم لكاذبون) هل يخلو من أن يكون أكذبهم لأنهم مستطيعون الخروج وهم يكذبون فيقولون لسنا نستطيع ولو استطعنا لخرجنا معكم فأكذبهم الله تعالى على هذا الوجه أو يكون على وجه آخر يقول انهم لكاذبون أي ان أعطيتهم الاستطاعة لم يخرجوا فتكون معهم الاستطاعة على الخروج ولا يخروجون ولا يكون الخروج وعلى كل حال قد كانت الاستطاعة على الخروج ولا يكون الخروج ولا نعقل للآية معنى ثالثا غير الوجهين اللذين ذكرناهما.. حكى سليمان الرقي ان أبا الهذيل لما ورد سر من رأى نزل في غرفة الى أن يطلب له دارا تصلح له قال فمررت به فقلت له يا أبا الهذيل أتنزل في مثل هذا المنزل فأنشدني يقولون زين المرء يامي رحله ألا إن زين الرحل يامي راكبه وعن أبي مجالد قال رأيت رجلا وقد سأل أبا الهذيل وهو في الوراقين بقصر وضاح


[ 126 ]

فقال له من جمع بين الزانيين فقال له يا بن أخي أما بالبصرة فانهم يقولون القوادون ولا أحسب أهل بغداد يخالفونهم على هذا القول فما تقول أنت قال فخجل الرجل وسكت.. وقال أبو الهذيل قلت لرجل ممن ينفي الحركة ولم يسمه وزعم قوم انه الأصم خبرني عن قول الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وذكر القاذف فقال فاجلدوه ثمانين جلدة فأيهما أكثر فقال حد الزاني قلت بكم قال بعشرين قلت فحدثني عن الجلد أهو يد الجلاد قال لا قلت أفهو السوط قال لا قلت فهو ظهر المجلود. قال لا قلت أفهو الانفراج الذي بين السوط وظهر المجلود قال لا قلت أفثم شئ غير هذا يقال هو الجلد قال لا قلت فانما تقول أن لا شئ أكثر من لا شئ بعشرين فانقطع.. وقال أبو الهذيل قلت لمجوسي ما تقول في النار قال بنت الله قلت فالبقر قال ملائكة الله قص أجنحتها وحطها الى الأرض يحرث عليها فقلت فالماء قال نور الله قلت فما الجوع والعطش قال فقر الشيطان وفاقته قلت فمن يحمل الأرض قال بهمن الملك قلت فما في الدنيا شر من المجوس أخذوا ملائكة الله فذبحوها ثم غسلوها بنور الله ثم شووها ببنت الله ثم دفعوها إلى فقر الشيطان وفاقته ثم سلحوها على رأس بهمن أعز ملائكة الله فانقطع المجوسي وخجل مما لزمه.. ودخل أبو الهذيل يوما على الحسن بن سهل بفم الصلح وعنده فتى قد رفع مجلسه فقال أبو الهذيل من هذا الفتى الذي قد رفعه الأمير لنوفيه بمعرفته حقه قال رجل من أهل النجوم قال من أهل صناعة الحساب أم الأحكام قال الأحكام قال ذلك عمل يبطل أفنسأله قال سل فأخذ أبو الهذيل تفاحة من بين يديه وقال آكل هذه التفاحة أم لا قال تأكلها فوضعها أبو الهذيل وقال لست آكلها قال فتعيدها إلى يدك وأعيد النظر فوضعها وأخذ غيرها فقال له الحسن لم أخذت غيرها قال لئلا تقول لي لا تأكلها فآكلها خلافا عليه فيقول قد أصبت في المسألة الأولى (1).. وقال النعمان المناني يوما لأبي الهذيل دل على


(1) وحكى انه لقى صالح بن عبد القدوس وقد مات له ولد وهو شديد الجزع عليه فقال له أبو الهذيل لا أعرف لجزعك عليه وجها إذا كان الانسان عندك كالزرع

[ 127 ]

حدوت العالم بغير الحركة والسكون فقال له أبو الهذيل مثلك مثل رجل قال لخصمه احضر معي الى القاضي ولا تحضر بينتك.. وذكر محمد بن الحميم صاحب الفراء قال رأيت أبا الهذيل وقد جاء الى الديوان في أيام المأمون فسأل سهل بن هرون بن راهيون أن يكتب له كتابا في حاجة الى حفصويه صاحب الجيش ونهض أبو الهذيل فأملى على سهل بن هرون إن الضمير إذا سألتك حاجة لأبي الهذيل خلاف ما أبدي فإذا أتاك لحاجة فامدد له حبل الرجاء بمخلف الوعد وألن له كنفا ليحسن ظنه في غير منفعة ولا رفد حتى إذا طالت شقاوة جده ورجا الغنى فأجبه بالرد وان استطعت له المضرة فاجتهد فيما يضر بأبلغ الجهد وانظر كلامي فيه فارم به خلف الثريا منك في البعد وكذاك فافعل غير محتشم إن جئت أسأل في أبي الهندي [ قال المرتضى رضي الله عنه ] ويشبه هذا المعنى ما أخبرنا به أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا أبو العيناء قال كان لي صديق فجائني يوما فقال لي أريد الخروج الى فلان العامل وأحببت أن تكون معي إليه وسيلة وقد سألت من صديقه فقيل لي أبو عثمان الجاحظ وهو صديقك فأحب أن تأخذ لي كتابه إليه بالعناية قال فصرت الى الجاحظ فقال لى في أي شئ جاء أبو عبد الله فقلت مسلما


قال صالح يا أبا الهذيل انما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك فقال له كتاب الشكوك ما هو يا صالح قال هو كتاب قد وضعته من قرأه يشك فيما كان حتى يتوهم انه لم يكن ويشك فيما لم يكن حتى يتوهم انه قد كان فقال له أبو الهذيل فشك أنت في موت ابنك واعمل على انه لم يمت وان كان قد مات وشك أيضا في قراءته كتاب الشكوك وان كان لم يقرأه

[ 128 ]

وقاضيا لحق وفي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا وكذا فقال لا تشغلنا الساعة عن المحادثة فاني في غدا أوجه اليك بالكتاب فلما كان من الغد وجه الي بالكتاب فقلت لابني وجه هذا الكتاب الى فلان ففيه حاجته فقال لى ان أبا عثمان بعيد الغور فينبغي أن تفضه وتنظر ما فيه ففعل فإذا في الكتاب كتابي اليك مع من لا أعرفه وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه فان قضيت جاجته لم أحمدك وان رددته لم أذممك فلما قرأت الكتاب مضيت من فوري الى الجاحظ فقال يا أبا عبد الله قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب فقلت أو ليس موضع نكرة فقال لا هذه علامة بيني وبين الرجل فيمن اعتني به فقلت لا والله ما رأيت رجلا أعلم بطبعك وما حلت عليه من هذا الرجل أعني صاحب الحاجة أعلمت انه لما قرا الكتاب قال اعط أم الجاحظ عشرة آلاف وأم من يسأله فقلت ما هذا أتشتم صديقنا فقال هذه علامتي فيمن أشكره.. وفي رواية أخرى ان أبا العيناء سلم الكتاب الي صاحب الحاجة وقال له فض الكتاب فقال انه مختوم فقال طينة فهو من ظنه.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وأظن ان أبا العيناء تنبه على فض الكتاب وقراءته بخبر طرفة بن العبد والمتلمس الضبعي وذاك أنهما وفدا على عمرو بن هند ونادماه واحتظيا به ثم أفضى الامر الى ان هجاه كل واحد منهما (1) وعرض به بالشعر


(1) قوله أفضى الأمر الى ان هجاه كل واحد منهما أما طرفة فهجاه بأبياته المشهورة فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثا حول قبتنا تخور.. ومنها أيضا قسمت الدهر في زمن رخي كذاك الحكم يقصد أو يجور وسبب علمه بهجو طرفة بن العبد إياه انه نظر يوما الى كشح عبد عمرو بن مرثد فقال لقد أبصر طرفة حسن كشحك وتمثل ولا خير فيه غير أن له غني وان له كشحا إذا قام أهضما وهو من أبيات هجا بها طرفة عبد عمرو فغضب وقال لقد قال للملك أقبح من هذا قال عمرو وما الذي قال فندم عبد عمرو لأن طرفة كان ابن عمه وأبي أن يسمعه فقال أسمعنيه وطرفة آمن فأنشده القصيدة

[ 129 ]

المشهور فحنق عليهما وهم بقتلهما ثم أشفق من ذلك وأراد قتلهما بيد غيره وكان على طرفة أحنق فعلم انه ان قتله هجاه المتلمس فكتب لهما كتابا الى البحرين وقال لهما إني قد كتبت لكما بصلة فاشخصا لقبضها فخرجها من عنده والكتابان في أيديهما فمرا بشيخ جالس على ظهر الطريق متكشفا يتبرز ومعه كسرة خبز يأكل منها ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه فقال أحدهما لصاحبه ما رأيت أعجب من هذا الشيخ فسمع الشيخ مقالته فقال وما ترى من عجب ادخل طيبا واخرج خبيثا واقتل عدوا وان أعجب مني لمن يحمل حتفه بيده وهو لا يدري فأوجس المتلمس في نفسه خيفة وارتاب بكتابه فلقيه غلام من أهل الحيرة فقال له أتقرأ يا غلام قال نعم ففض خاتم كتابه ودفعه الى الغلام فقرأه فإذا فيه إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه واصلبه حيا فأقبل على طرفة فقال له تعلمن والله لقد كتب فيك مثل هذا فادفع كتابك الى الغلام يقرأه عليك فقال كلا ماكان ليجسر على قومي بمثل هذا ولم يلتفت الى قول المتلمس فألقى المتلمس كتابه في نهر الحيرة وقال قذفت بها بالثني من جنب كافر كذلك أقنو كل قط مضلل رضيت لها بالماء لما رأيتها يحول بها التيار في كل جدول


وأما المتلمس فذكر ابن السكيت في شرح ديوان طرفة انه هجاه بقصيدة منها ألك السدير وبا رق ولك الخورنق وروى أبو الفرج الأصبهاني من طريقه عن ابن السكيت انه هجاه بأبيات منها قولا لعمرو بن هند غير متئب يا أخنس الأنف والأضراس كالعدس ملك النهار وأنت الليل مومسة ماء الرجال على فخذيك كالقرس لو كنت كلب قنيص كنت ذا جدد تكون إربته في آخر المرس أراد بالقرس القريس وهو الجامد والقنيص القانص والقنيص أيضا الصيد والاربة العقدة والمرس الحبل أي هو أخس الكلاب فقلادته أخس القلائد.. وقال ابن الكلبي هذا الشعر لعبد عمرو بن عمار يهجو به الأبيرد الغساني وبسببه قتل عبد عمرو(17 – أمالي)

[ 130 ]

– كافر – نهر بالحيرة – وأقنو – أقتني – والقط – الكتاب – والتيار – معظم الماء وكثرته.. وقال المتلمس أيضا من مبلغ الشعراء عن أخويهم نبأ فتصدقهم بذاك الأنفس أودى الذين علق الصحيفة منهما ونجا حذار حبائه المتلمس ألقى صحيفته ونجت كوره وجناء مجمرة المناسم عرمس عيرانة طبخ الهواجر لحمها فكأن نقبتها أديم أملس أطريفة بن العبد إنك حائن أبساحة الملك الهمام تمرس ألق الصحيفة لا أبا لك إنه يخشى عليك من الحباء النقرس – النقرس – ههنا الداهية الدهماء ومضى طرفة بكتاب الى البحرين فأمر به المعلى ابن حنش العبدي فقتل.. فقال المتلمس عصانا فما لاقي رشادا وإنما تبين في أمر الغوي عواقبه فأصبح محمولا على ظهرآلة تمج نجيع الجوف منه ترائبه فإلا تجللها يعالوك فوقها وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه ولحق المتلمس ببلاد الشام وهجا عمرا وبلغه أن عمرا يقول لان وجده بالعراق ليقتلنه.. فقال آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس (1)


(1) قال البغدادي والبيت من شواهد سيبويه على أن نصب حب على نزع الخافض أي على حب العراق والبيت بالخطاب لعمرو بن هند يقول له حلفت لا تتركني بالعراق ولا تطعمني من حبه والحال أن الحب لا يبقى ان أئبقيته بل يسرع إليه الفساد ويأكله السوس فالبخل به قبيح وهذا على طريق الاستهزاء والسخرية وبعده لم تدري بصر بما بالبيت من قسم ولا دمشق إذا ديس الكراديس

[ 131 ]

وجرى المثل بصحيفة المتلمس فقال الفرزدق يذكر الشعراء الذين أورثوه أشعارهم وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو يزيد وذو القروح وجرول وأخو بني قيس وهن قتلنه ومهلهل الشعراء ذاك الأول يعني بالنوابغ النابغة الذبياني والجعدي ونابغة بني شيبان ويعني بأبي يزيد المخبل السعدي وجرول هو الحطئية وذو القروح أمرؤ القيس وأخو بني قيس طرفة ومعنى قوله – وهن قتلنه – يعني القصائد التي هجا بها عمرو بن هند.. ويقال ان صاحب هذه القصة هو النعمان بن المنذر وذلك أشبه بقول طرفة أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر وكان النعمان بعد عمرو بن هند وقد مدح طرفة المتلمس في النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله فيشبه أن تكون القصة مع النعمان (مجلس آخر 13) وكان أبو سهل بشر بن المعتمر من وجوه أهل الكلام ويقال ان جميع معتزلة بغداد كانوا من مستجيبيه.. وقال أبو القاسم البلخي انه من أهل بغداد وقيل من أهل الكوفة وذكر الجاحظ انه كان أبرص.. حكى انه كان يوما في مجلسه وعنده أصحابه ومعه مجبر يسألهم ويقول أنتم تحمدون الله على إيمانكم وهم يقولون نعم فيقول لهم فكأنه يحب أن يحمد على ما لم يفعل وقد ذم ذلك في كتابه فيقولون له انما ذم من أحب أن يحمد على ما لم يفعل ممن لم يعن عليه ولم يدع إليه وهو يشغب عليهم إذ أقبل ثمامة بن أشرس فقال بشر للمجبر قد سألت القوم وأجابوك وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة


وبصرى مدينة بالشام يقول لا تدري كثرة الطعام الذي ببصري وبدمشق والكراديس اكداس الطعام ومن هنا يعلم أن الخطاب لعمرو لا للنعمان كما يأتي

[ 132 ]

فقال له هل يجب عليك أن تحمد الله على الايمان قال لا بل هو يحمدني عليه لانه أمرني به ففعلته وأنا أحمده على الأمر به والتقوية عليه والدعاء إليه فانقطع المجبر فقال بشر شبعت فسهلت.. قال الجاحظ وكان بشر يقع في أبي الهذيل وينسبه الى النفاق فقال وهو يصف أبا الهذيل لأن يكون لا يعلم وهو عند الناس يعلم أحب إليه من أن يعلم ويكون عند الناس لا يعلم ولأن يكون من السفلة وهو عند الناس من العلية أحب إليه من أن يكون من العلية وهو عند الناس من السفلة ولأن يكون نبيل المنظر سخيف المخبر أحب إليه من أن يكون نبيل المخبر سخيف المنظر وهو بالنفاق أشد عجبا منه بالاخلاص ولباطل مقبول أحب إليه من حق ومدفوع.. ولبشر أشعار كثيرة يحتج فيها على أصحاب المقالات وذكر الجاحظ انه لم ير أحدا أقوى على المخمس والمزدوج مما قوى عليه بشر وانه كان في ذلك أكثر وأقدر من أبان اللاحقي وهو القائل إن كنت تعلم ما أقو ل وما تقول فانت عالم أو كنت تجهل ذا وذاك فكن لاهل العلم لازم أهل الرياسة من ينازعهم رياستهم فظالم سهرت عيونهم وأنت عن الذي قاسوه حالم لا تطلبن رياسة بالجهل أنت لها مخاصم لولا مقامهم رأيت الدين مضطرب الدعائم فأما أبو اسحاق ابراهيم بن سيار النظام فانه كان مقدما في العلم بالكلام حسن الخاطر شديد التدقيق والغوص على المعاني وإنما أداه الى المذاهب الباطلة التي تفرد بها واستشنعت منه تدقيقه وتغلغله.. وقيل انه مولى الزياديين من ولد العبيد وان الرق جرى على أحد آبائه.. وقيل للنظام ما الاختصار فقال الذي اختصاره فساد.. وقال لرجل أتعرف فلانا المجوسي فقال نعم ذاك الذي حلق وسط رأسه كما يفعل اليهودي فقال النظام لا مجوسيا عرفت ولا يهوديا وصفت.. قال الجاحظ وذكر النظام عبد


[ 133 ]

الوهاب الثقفي فقال هو أحلى من أمن بعد خوف وبرء بعد سقم وخصب بعد جدب وغنا بعد فقر وطاعة المحبوب وفرج المكروب ومن الوصل الدائم مع الشباب الناعم وللنظام شعر كثير صالح فمنه يا تاركي جسدا بغير فؤاد أسرفت في الهجران والإبعاد إن كان يمنعك الزيارة أعين فادخل علي بعلة العواد كيما أراك وتلك أعظم نعمة ملكت يداك بها منيع قيادي إن العيون على القلوب إذا جنت كانت بليتها على الاجساد.. وله توهمه طرفي فآلم خده فصار مكان الوهم من نظري أثر وصافحه قلبي فآلم كفه فمن صفح قلبي في أنامله عقر ومر بقلبي خاطرا فجرحته ولم أر جسما قط يجرحه الفكر يمر فمن لين وحسن تعطف يقال به سكر وليس بسكر ويقال ان أبا العتاهية قال أنشدت النظام شعرا إذا هم النديم له بلحظ تمشت في محاسنه الكلوم فقال ينبغي أن ينادم هذا أعمى.. [ قال المرتضى رضي الله عنه ] وأبيات النظام تتضمن معنى بيت أبي العتاهية ولسنا ندري أيهما أخذ من صاحبه والنظام يكرر هذا المعنى كثيرا في شعره فمن ذلك قوله رق فلو بزت سرابيله علقه الجو من اللطف يجرحه اللحظ بتكراره ويشتكي الإيماء بالطرف وحكى ان أبا النظام جاء به وهو حدث الى الخليل بن أحمد ليعلمه فقال له الخليل يوما ليمتحنه وفي يده قدح زجاج يا بني صف لي هذه الزجاجة فقال أبمدح أم بذم فقال


[ 134 ]

بمدح قال نعم تريك القذى وتقيك الأذى ولا تستر ما ورى قال فذمها قال سريع كسرها بطئ جبرها قال فصف هذه النخلة وأمومأ الى نخلة في داره فقال أبمدح أم بذم قال بمدح قال حلو مجتناها باسق منتهاها ناضر أعلاها قال فذمها قال هي صعبة المرتقى بعيدة المجتنى محفوفة بالأذى فقال الخليل يا بني نحن الى التعلم منك أحوج.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وهذا بلاغة من النظام حسنة لان البلاغة هي وصف الشئ ذما أو مدحا بأقصى ما يقال فيه.. وشبيه بهذا المعنى خبر لبيد المشهور في هجائه البقلة التي امتحن بهجائها واختبر بذمها فقال فيها أبلغ ما يقال في مثلها وذلك أن عمارة وأنسا وقيسا والربيع بني زياد العبسيين (1) وفدوا على النعمان بن المنذر ووفد عليه العامريون بنو أم البنين وعليهم أبو عامر بن مالك جعفر بن كلاب وهو ملاعب الأسنة وكان العامريون ثلاثين رجلا وفيهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ غلام له ذؤابة وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان ويكثر الجلوس عنده ويتقدم على من سواه وكان يدعى الكامل لشطاطه وبياضه وكماله فضرب النعمان قبة على أبي براء وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل فكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فافتخروا يوما بحضرته فكان العبسيون يغلبون العامريين وكان الربيع إذا خلى بالنعمان طعن فيهم وذكر معائبهم ففعل ذلك مرارا لعداوته لبني جعفر لانهم كانوا أسروه فصد النعمان عنهم حتى


(1) قوله العبسيين هم اخوة وأبوهم زياد العبسي وكل واحد منهم قد رأس في الجاهلية وقاد جيشا وأمهم فاطمة بنت الخرشب الانمارية إحدى المنجبات وهي التي سئلت أي بنيك أفضل فقالت الربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثم قالت ثكلتهم ان كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها.. وسئلت عنهم أيضا فقالت في عمارة لا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف وقالت في الربيع لا تعد مآثره ولا يخشى في الجهل بوادره وقالت في أنس إذا عزم أمضى وإذا سئل أرضى وإذا قدر أغضى وكان لكل واحد منهم لقب فكان عمارة يقال له الوهاب وكان الربيع يقال له الكامل وقيس يقال له الجواد وأنس يقال له أنس الحفاظ وكان عمارة آلى على نفسه أن لا يسمع صوت أسير ينادي في الليل إلا افتكه

[ 135 ]

نزع القبة عن أبي براء وقطع النزل ودخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم فخرجوا من عنده غضابا وهموا بالانصراف ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدو بابلهم فيرعاها فإذا أمسى انصرف بها فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع فقال لهم ما كنتم تتناجون فكتموه وقالوا له اليك عنا فقال خبروني فلعل لكم عندي فرجا فزجروه فقال والله لا أحفظ لكم متاعا ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع فقالوا له خالك غلبنا على الملك وأصد عنا (1) وجهه فقال هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك فأزجر به زجرا ممضا مؤلما لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا فقالوا له وهل عندك ذلك قال نعم قالوا فاننا نبلوك بشتم هذه البقلة وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض تدعى النزبة فاقتلعها من الأرض وأخذها بيده وقال هذه البقلة النزبة التفلة الرذلة التي لا تذكي نارا ولا تؤهل دارا ولا تستر جارا عودها ضئيل وفرعها ذليل وخيرها قليل بلدها شاسع ونبتها خاشع وآكلها جائع والمقيم عليها قانع أقصر البقول فرعا وأخبثها مرعا وأشدها قلعا فحربا لجارها وجدعا فالقوا بي أخا بني عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس وأتركه من أمره في لبس فقالوا له نصبح ونرى فيك رأينا فقال لهم عامر انظروا الى غلامكم هذا فان رأيتموه نائما فليس أمره بشئ انما تكلم بما جرى على لسانه وان رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلا يكدم وسطته حتى أصبح فلما أصبحوا قالوا أنت والله صاحبه فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع الى جانبه فذكروا للنعمان حاجتهم فاعترض الربيع في كلامهم فقام لبيد وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء فمثل بين يديه ثم قال


قوله وأصد عنا.. قال الزجاج في كتاب فعلت وأفعلت في باب الصاد صدني الرجل عن الأمر واصدنى والمعنى واحد

[ 136 ]

يا رب هيجا هي خير من دعه إذ لا تزال هامتي مقزعه نحن بني أم البنين الأربعة ونحن خير عامر بن صعصعه المطعمون الجفنة المدعده والضاربون الهام تحت الخيضعه مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه إن استه من برص ملمعه وإنه يدخل فيها إصبعه يدخلها حتى يوارى أشجعه كأنه يطلب شيئا ضيعه فلما فرغ لبيد التفت النعمان الي الربيع يرمقه شزرا وقال كذلك أنت فقال كذب والله ابن الحمق اللئيم فقال النعمان أف لهذا الطعام لقد خبثت على طعامي فقال الربيع أبيت اللعن أما إني قد فعلت بأمه لا يكني وكانت في حجره فقال لبيد أنت لهذا الكلام أهل أما انها من نسوة غير فعل وأنت المرء قال هذا في يتيمته.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وجدت في رواية أخرى أما انها من نسوة فعل وانما قال ذلك لانها كانت من قوم الربيع فنسبها الى القبيح وصدقه عليها تهجينا له ولقومه فأمر الملك بهم جميعا فأخرجوا وأعاد على أبي براء القبة وانصرف الربيع الى منزله فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به وأمره بالانصراف الى أهله فكتب إليه إني قد تخوفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد ولست برائم حتى تبعث الي من يجردني ليعلم من حضرك من الناس إني لست كما قال فأرسل إليه انك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا ولا قادرا على رد ما زلت به الألسن فالحق بأهلك ثم كتب إليه النعمان في جملة أبيات جوابا عن أبيات كتبها إليه الربيع (1) مشهورة


(1) قوله ثم كتب إليه النعمان في جملة أبيات جوابا عن أبيات كتبها إليه الربيع مشهورة أبيات الربيع هي لئن رحلت جمالي إن لي سعة ما مثلها سعة عرضا ولا طولا بحيث لو وزنت لخم بأجمعها لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا

[ 137 ]

قد قيل ذلك إن حقا وإن كذبا فما اعتذراك من شئ إذا قيلا وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا محمد بن الحسن بن دايد قال أخبربا أبو حاتم عن أبي عبيدة وأخبرنا به أيضا المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال أخبرنا محمد بن زياد بن زيان عن الكلبي عن عبد الله بن مسلم البكائي وكان قد أدرك الجاهلية وفي حديث كل واحد زيادة على الآخر ولم نأت بجميع الخبر على وجهه بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه وأوردنا ما أوردنا منه بألفاظه.. [ قال المرتضي رضى الله عنه ] أما قوله – نحن بني أم البنين الأربعة – فانه نصب على المدح والعرب تنصب على المدح والذم جميعا.. وأم البنين هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن صعصعة وكانت تحت مالك بن جعفر بن كلاب ولدت منه عامر بن مالك ملاعب الأسنة وطفيل بن مالك فارس قرزل وهو أبو عامر بن الطفيل وقرزل فرس كانت له.. وربيعة بن مالك أبا لبيد وهو ربيع المقترين.. ومعاوية بن مالك معود الحكام وانما سمى معود الحكام بقوله أعود مثلها الحكام بعدى إذا ما الحق في الأشياء نابا وولدت عبيدة الوضاح فهؤلاء خمسة وقال لبيد أربعة لأن الشعر لم يمكنه من ذلك (1)


ترعى الروائم أحرار البقول بها لا مثل رعيكم ملحا وغاسولا فابرق بأرضك يا نعمان متكئا مع النطاسي يوما وابن نوفيلا وأبيات النعمان هي شرد برحلك عنى حيث شئت ولا تكثر على ودع عنك الأقاويلا فقد ذكرت به والركب حامله وردا يعلل أهل الشام والنيلا فما انتفاؤك عنه بعد ما جزعت هوج المطى به أبراق شمليلا قد قيل ذلك إن حقا وإن كذبا فما اعتذارك من شئ إذا قيلا فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة وانشر بها الطرف إن عرضا وإن طولا (1) قوله إن لبيد انما قال أربعة وهم خمسة لضرورة الشعر هذا قول الفراء وهو(18 – أمالي)

[ 138 ]

.. وأما – الجفنة المدعدعة – فهي المملوأة.. وأما – الخيضعة – فان الأصمعي يذكر أن لبيدا قال تحت الخضعة يعني الجلبة فسوتة الرواة.. وقيل أن الخيضعة أصوات وقع السيوف والخيضعة أيضا البيضة التي تلبس على الرأس والخيضعة الغبار والقول يحتمل كل ذلك.. وأما – أبيت اللعن – فان أبا حاتم قال سألت الأصمعى عنه فقال معناه أبيت أن تأتي من الأمور ما تلعن عليه.. وأما – الأشاجع – فهي العروق والعصب الذي على ظهر الكف وقد روى أكل يوم هامتي مقزعة – والقزع – تساقط بعض الشعر والصوف وبقاء بعضه يقال كبش أقزع ونعجة قزعاء فأما الجاحظ فهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب مولى لأبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقيمي وذكر المبرد انه ما رأى أحرص على العلم من ثلاثة الجاحظ والفتح بن خاقان واسماعيل بن اسحاق القاضي.. فأما الجاحظ فانه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره أي كتاب كان.. وأما الفتح بن خاقان فانه كان يحمل الكتاب في خفه فإذا قام بين يدي المتوكل للبول أو للصلاة أخرج الكتاب للنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريده ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه الى أن يأخذ مجلسه.. وأما اسمعيل بن اسحاق فإنى ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه.. قال البلخي تفرد


قول فارغ والصواب كما قال ابن عصفور في الضرائر لم يقل إلا أربعة وهم خمسة على جهة الغلط وانما قال ذلك لان أباه كان مات وبقى أعمامه وهم أربعة وهو مسبوق بالسهيلي فانه قال وانما قال الأربعة لان أباه كان قد مات قبل ذلك لا كما قال بعض الناس وهو قول يعزى الى الفراء انه قال انما قال أربعة ولم يقل خمسة من أجل القوافي فيقال له لا يجوز للشاعر أن يلحن لاقامة وزن الشعر فكيف بان يكذب لاقامة الوزن وأعجب من هذا انه استشهد به على تأويل فاسد تأوله في قوله سبحانه (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وقال أراد جنة واحدة وجاء بلفظ التثنية لنتفق رؤس الآي أو كلاما هذا معناه فصمي صمام ما أشنع هذا الكلام وأبعده عن العلم وفهم القرآن وأقل هيبة قائله من أن يتبوء مقعده من النار

[ 139 ]

الجاحظ بالقول بان المعرفة طباع وهي مع ذلك فعل العبد على الحقيقة وكان يقول في سائر الأفعال انها تنسب الى العباد على أنها وقعت منهم طباعا وانما وجبت بارادتهم وليس بجائز أن يبلغ أحد ولا يعرف الله تعالى والكفار عنده بين معاند وبين عارف وقد استغرقه حبه لمذهبه وشغفه به وإلفه وعصبيته فهو لا يشعر بما عنده من المعرفة بخلافه (1).. وكان الجاحظ ملازما لمحمد بن عبد الملك الزيات وكان منحرفا عن أحمد بن أبي دؤاد للعداوة التي كانت بين أحمد ومحمد فلما قبض على محمد الزيات هرب الجاحظ فقيل له لم هربت فقال خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور يريد ما صنع بمحمد بن عبد الملك من إدخاله تنورا فيه مسامير كان هو صنعه ليعذب الناس فيه فعذب به حتى مات.. وروى انه أتى بالجاحظ بعد موت ابن الزيات وفي عنقه سلسلة وهو مقيد في قميص سمل فلما نظر إليه ابن أبي دؤاد قال والله ما علمتك إلا متناسيا للنعمة كفورا للصنيعة معدنا للمساوي وما قصرت باستصلاحي لك ولكن الايام لا تصلح منك لفساد طويتك ورداءة دخلتك وسوء اختيارك وغالب طبعك فقال الجاحظ خفض عليك أيدك الله فو الله لان يكون لك الأمر على خير من أن يكون لي عليك ولأن اسئ وتحسن أحسن في الأحدوثة عنك من أن احسن وتسئ ولأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل بك من الانتقام مني فقال ابن أبي دؤاد قبحك الله فو الله ما علمتك إلا كثيرا تزويق اللسان وقد جعلت بيانك امام قلبك ثم اضطغنت فيه النفاق والكفر يا غلام صر به الى الحمام وأمط عنه الأذى فاخذت عنه السلسلة والقيد وادخل الحمام وحمل إليه تخت من ثياب وطويلة وخف فلبس ذلك ثم أتاه فصدره في مجلسه ثم أقبل عليه وقال هات الآن حديثك يا أبا عثمان.. وقال المبرد سمعت الجاحظ يقول احذر من تأمن فانك حذر ممن تخاف.. وقال الجاحظ قلت لأبي يعقوب


(1) وروي عن أبي عمرو انه جرى ذكر الجاحظ في مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى فقال أمسكوا عن ذكر الجاحظ فانه غير ثقة.. قال الأزهري وكان الجاحظ روى عن الثقات ما ليس من كلامهم وكان قد أوتى بسطة في لسانه وبيانا في خطابه ومجالا واسعا في فنونه غير ان أهل العلم والمعرفة ذموه وعن الصدق دفعوه..

[ 140 ]

الخزيمي الشاعر من خلق المعاصي قال الله قلت فمن عذب عليها قال الله قلت فلم قال لاأدري والله.. وكان الجاحظ يقول ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي الكلام عذب ينابيعه إذا حاور سدد سهم الصواب الى غرض المعنى.. وقال لا تكلم العامة بكلام الخاصة ولا الخاصة بكلام العامة.. وقال سوار بن أبي شراعة كنت عند الجاحظ فرآني أكتب خطا رديا في ورق ردى متقارب السطور فقال لي ما أحسبك تحب ورثتك فقلت وكيف ذاك قال لاني أراك تسئ بهم فيما تخلفه.. وذكر أبو العباس المبرد قال سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه أنت والله أحوج إلى هوان من كريم الى إكرام ومن علم الى عمل ومن قدرة الى عفو ومن نعمة الى شكر.. وقال المبرد قال لي الجاحظ يوما أتعرف مثل قول اسمعيل بن القاسم ولا خير فيمن لا يوطن نفسه على نائبات الدهر حين تنوب فقلت نعم قول كثير ومنه أخذ فقلت لها يا عز كل مصيبة إذا وطنت يوما لها النفس ذلت وروى يموت بن المزرع لخاله عمرو بن بحر الجاحظ في الجماز يهجوه نسب الجماز مقصور إليه منتهاه تنتهي الأحساب بالناس ولا يعدو قفاه يتحاجى من أبو الجماز فيه كاتباه ليس يدري من أبو الجماز إلا من يراه أخبرنا المرزباني قال أخبرنا علي بن هرون قال أنشدني وكيع قال أنشدني أبو العيناء قال أنشدني الجاحظ لنفسه في الخضاب زرت فتاة من بني هلال فاستعجلت إلي بالسؤال مالي أراك قاني السبال كأنما كرعت في جريال


[ 141 ]

ما يبتغي مثلك من أمثالي تنح قدامي ومن حيالي.. [ قال المرتضي رضى الله عنه ] قوله – كأنما كرعت في جريال – مليح قوى ولا يشبه شعر الجاحظ للينه وضعف كلامه.. وذكر أبو العيناء قال حدثني ابراهيم بن رياح قال أنشدني الجاحظ يمدحني بدا بي حين أثرى بإخوانه ففلل عنهم شباة العدم وذكره الحزم ريب الزما ن فبادر بالعرف قبل الندم قال ابراهيم فذاكرت بها أحمد بن أبي دؤاد فقال قد أنشدنيهما يمدحني بهما ثم لقيت محمد بن الجهم فقال قد أنشدنيهما يمدحني بهما وقال يموت بن المزرع سمعت خالي الجاحظ يقول لاأعرف شعرا يفضل قول أبي نواس ودار ندامي عطلوها وأذلجوا بها اثر منه جديد ودارس مساحب من جبر الزقاق على الثرى واضغاث ريحان جني ويابس حبست بها صحبي فجددت عهدهم وإني على أمثال تلك لحابس ولم أدر من هم غير ما شهدت به بشرقي ساباط الديار البسابس أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ويوما له ويوم الترحل خامس تدار علينا الراح في عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها مهى تدريها بالقسى الفوارس فللخمر ما زرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس قال الجاحظ فأنشدتها أبا شعيب القلال فقال يا أبا عثمان لو نقر هذا الشعر لطن قلت ويلك ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت.. أخذ أبو نواس قوله ولم أدر من هم غير ما شهدت به بشرقي ساباط الديار البسابس من أبي خراش الهذلي


[ 142 ]

ولم أدر من ألقي عليه رداءه سوى أنه قد سل عن ماجد محض ويقال ان أبا خراش أول من مدح من لا يعرفه وذاك أن خراش بن أبي خراش أسر هو وعروة بن مرة فطرح رجل من القوم رداءه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة بن مرة ونجاه فلما تفرغوا له قال أفلت مني ويقال بل رآه في الأسر رجل من بني عمه فألقى عليه رداءه ليجيره به وقال له النجاء ويلك فقال أبو خراش في ذلك حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض فأقسم لا أنسى قتيلا رزئته بجانب قوسى ما مشيت على الارض على أنها تعفو الكلوم وإنما نوكل بالأذنى وإن جل ما يمضي ولم أدر من ألقي عليه رادءه سوى أنه قد سل عن ماجد محض وأخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن ابراهيم بن شهاب قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن عمر البرذعي المتكلم قال صرت الى منزل الجاحظ في أول ما قدمت من بلدي وقد اعتل علته التي فلج فيها فاستأذنت عليه فخرج الى خارج من منزله فقال لي يقول لك وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل فانصرفت عنه.. وذكر يموت بمن المزرع قال وجه المتوكل في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة وقد سأله الفتح ذلك فوجده لافضل فيه فقال لمن أراد حمله ما يصنع بامرء ليس بطائل ذي شق مائل ولعاب سائل وفرج بائل وعقل زائد ولون حائل.. وذكر المبرد قال سمعت الجاحظ يقول أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما على ست وتسعون.. وقال يوما لمتطبب يشكو إليه علته قد اصطلحت الاضداد على جسدي ان أكلت باردا أخذ برجلي وان أكلت حارا أخذ برأسي وتوفي في سنة خمس وخمسين ومائتين


[ 143 ]

(مجلس آخر 14) [ تأويل آية ] (ليس البر أن تولوا وجوهم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الى قوله هم المتقون) سأل سائل فقال كيف ينفي كون تولية الوجوه الى الجهات من البر وانما يفعل ذلك في الصلاة وهي بر لا محالة وكيف خبر عن البر بمن والبر كالمصدر ومن اسم محض وعن أي شئ كنى بالهاء في قوله تعالى (وآتى المال على حبه) وما المخصوص بأنها كناية عنه وقد تقدمت أشياء كثيرة وعلى أي شئ ارتفع الموفون وكيف نصب الصابرين وهم معطوفون على الموفين وكيف وحد الكناية في موضع وجمعها في آخر فقال من آمن وآتى المال وأقام الصلاة ثم قال والموفون والصابرين يقال له فيما.. ذكرته أولا جوابان. أحدهما انه أراد تعالى ليس الصلاة هي البر كله ولكنه عدد ما في الآية من ضروب الطاعات وصنوف الواجبات فلا تظنوا أنكم إذا توجهتم الى الجهات بصلاتكم فقد أحرزتم البر بأسره وحزتموه بكماله بل يبقى عليكم بعد ذلك معظمه وأكثره.. والجواب الثاني أن النصارى لما توجهوا الى المشرق واليهود الى بيت المقدس واتخذوا هاتين الجهتين قبلتين واعتقدوا في الصلاة إليها انهما بر وطاعة خلافا على الرسول عليه الصلاة والسلام أكذبهم الله في ذلك وبين أن ذلك ليس من البر إذ كان منسوخا بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي تلزم الأسود والأبيض والعربي والعجمي وأن البر هو ما تضمنته الآية.. فأما إخباره بمن ففيه وجوه ثلاثة. أولها أن يكون البر ههنا البار أو ذا البر وجعل أحدهما في مكان الآخر والتقدير ولكن البار من آمن بالله ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا) يريد غائرا ومثل قول الشاعر ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار أراد انها مقبلة مدبرة.. ومثله تظل جيادهم نوحا عليهم مقلدة أعنتها صفونا أراد نائحة عليهم.. ومثله قول الشاعر


[ 144 ]

هريقى من دموعهم سجاما ضباع وجاوبي نوحا قياما.. والوجه الثاني أن العرب قد تخبر عن الاسم بالمصدر والفعل وعن المصدر بالاسم فأما إخبارهم عن المصدر بالاسم فقوله تعالى (ولكن البر من آمن بالله) وقول العرب انما البر الذي يصل الرحم ويفعل كذا وكذا وأما إخبارهم عن الاسم بالمصدر والفعل فمثل قول الشاعر لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ند فجعل أن تنبت وهو مصدر خبرا عن الفتيان. والوجه الثالث أن يكون المعنى ولكن البر بر من آمن فحذف البر الثاني وأقام الأول مقامه كقوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل) أراد حب العجل.. قال الشاعر وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب ارأد كخلالة أبي مرحب.. وقال النابغة وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل أراد على مخافة وعل وتقول العرب بنو فلان يطؤهم الطريق أي أهل الطريق.. وحكى عن بعضهم أطيب الناس الزبد أي أطيب ما يأكل الناس الزبد وكذلك قولهم حسبت صياحي زيدا أي صياح زيد.. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى (ليس على الأعمى حرج) أي ليس على من أكل مع الأعمى حرج وفي قوله تعالى (رابعهم كلبهم) وذكروا أنه كان راعيا تبعهم.. فأما ما كنى عنه بالهاء في قوله تعالى (وآتى المال على حبه ذوي القربى) ففيه وجوه أربعة. أولها أن تكون الهاء راجعة على المال الذي تقدم ذكره ويكون المعنى وآتى المال على حب المال وأضيف الحب الى المفعول ولم يذكر الفاعل كما يقول القائل أشتريت طعامي كاشتراء طعامك والمعنى كاشترائك طعامك. والوجه الثاني أن تكون الهاء راجعه الى من آمن بالله فيكون المصدر مضافا الى الفاعل ولم يذكر المفعول لظهور المعني ووضوحه. والوجه الثالث أن ترجع الهاء إلى الايتاء الذي دل عليه آتى والمعنى واعطي المال على حب الاعطاء ويجري ذلك مجرى قول القطامي


[ 145 ]

هم الملوك وأبناء الملوك لهم والآخذون به والساسة الأول فكنى بالهاء عن الملك لدلالة قوله وأبناء الملوك عليه.. ومثله قول الشاعر إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف أراد جرى الى السفه الذي دل ذكر السفيه عليه. والوجه الرابع أن تكون الهاء راجعة الى الله لأن ذكره تعالى قد تقدم فيكون وآتى المال على حب الله ذوي القربى واليتامى.. فان قيل وأي فائدة في ذلك وقد علمنا الفائدة في إيتاء المال مع محبته والضن به وان العطية تكون أشرف وأمدح فما الفائدة فيما ذكرتموه وما معنى محبة الله والمحبة عندكم هي الارادة والقديم لا يصح أن يراد.. قلنا أما المحبة عندنا فهي الارادة إلا أنهم يستعملونها كثيرا مع حذف متعلقها مجازا وتوسعا فيقولون فلان يحب زيدا إذا أراد منافعة ولا يقولون زيدا يريد عمرا بمعنى انه يريد منافعة لأن التعارف جرى في استعمال الحذف والاختصار في المحبة دون الارادة وان كان المعنى واحدا.. وقد ذكر أن لقولهم زيد يحب عمرا مزية على قولهم يريد منافعه لأن اللفظ الأول يبنئ عن أنه لا يريد إلا منافعه وانه لا يريد شيئا من مضاره والثاني لا يدل على ذلك فجعلت له مزية وعلى هذا المعنى نصف الله بأنه يحب أولياءه المؤمنين من عباده والمعنى فيه انه يريد لهم ضروب الخير من التعظيم والاجلال والنعم فأما وصف أحدنا بانه يحب الله فالمعنى فيه انه يريد تعظميه وعبادته والقيام بطاعته ولا يصح المعنى الذي ذكرناه في محبة بعضهم بعضا لاستحالة المنافع عليه تعالى ومن جوز عليه تعالى الانتفاع لا يصح أيضا أن يكون محبا له على هذا المعنى لانه باعتقاده ذلك فيه قد خرج من أن يكون عارفا به فمحبته في الحقيقة لا تتعلق به ولا تتوجه إليه كما تقول في أصحاب التشبيه لانهم إذا عبدوا من اعتقدوه إلها فقد عبدوا غيره الله تعالى.. فأما الفائدة في اعطاء المال مع محبة الله فهي ظاهرة لأن اعطاء المال متى قارنته ارادة وجه الله وعبادته وطاعته استحق به الثواب ومتى لم يقترن به ذلك لم يستحق الفاعل به ثواب وكان ضائعا وتأثير ما ذكرناه أبلغ من تأثير حب المال والضن به لأن المحب للمال الضنين به متى بذله وأعطاه ولم يقصده به الطاعة والعبادة (19 – أمالي)


[ 146 ]

والقربة لم يتسحق به شيئا من الثواب وانما يؤثر حبه للمال في زيادة الثواب متى حصل ما ذكرناه من قصد القربة والعبادة ولو تقرب بالعطية وهو غير ضنين بالمال ولا محب له لا يستحق الثواب وهذا الوجه لم نسبق إليه في هذه الآية وهو أحسن ما قيل فيها.. وقد ذكر وجه آخر وهو أن يكون الهاء راجعة إلى من من آمن أيضا وينتصب ذوي القربى بالحب ولا يجعل لآتي منصوبا لوضوح المعنى ويكون تقدير الكلام وأعطى المال في حال حبه ذوي القربى واليتامى على محبته إياهم وهذا الوجه ليس فيه مزية في باب رجوع الهاء التي وقع عليها السؤال وانما يتبين مما تقدم بتقدير انتصاب ذوي القربى بالحب وذلك غير ما وقع السؤال عنه والأجوبة الأول أقوى وأولى.. فأما قوله (والموفون بعهدهم) ففي رفعه وجهان. أحدهما أن يكون مرفوعا على المدح لأن النعت إذا طال وكثر رفع بعضه ونصب بعضه على المدح ويكون المعنى وهم الموفون بعهدهم قال الزجاج هذا أجود الوجهين.. والوجه الآخر أن يكون معطوفا على من آمن ويكون المعنى ولكن ذا البر وذوي البر المؤمنون والموفون بعدهم.. فأما نصب الصابرين ففيه وجهان. أحدهما المدح لأن مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينهما بالمدح والذم ليمزجوا الممدوح أو المذموم ويفردوه فيكون غير متبع لأول الكلام من ذلك قول الخرنق بنت بدر بن هفان لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبين معاقد الأزر فنصبت ذلك على المدح وربما رفعوهما جميعا على أن يتبع آخر الكلام ومنهم من ينصب النازلين ويرفع الطيبين وآخرون يرفعون النازلين وينصبون الطيبين والوجه في النصب والرفع ما ذكرناه.. ومن ذلك قول الشاعر أنشده الفراء إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل وذات اللجم فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح.. وأنشد الفراء أيضا


[ 147 ]

فليت التي فيها النجوم تواضعت علي كل غث منهم وسمين غيوث الحيا في كل محل ولزبة أسود الشرا يحمين كل عرين ومما نصب على الذم قوله سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور (1)


(1) قوله سقوني الخمر هو من جملة أبيات لعروة بن الورد أولها أرقت وصحبتي بمضيق عمق لبرق من تهامة مستطير سقى سلمى وأين ديار سلمى إذا كانت مجاورة السدير إذا حلت بأرض بنى على وأهلي بين زامرة وكير ذكرت منازلا من أم وهب محل الحي أسفل من نقير وأحدث معهدا من أم وهب معرسنا بواد بني النضير وقالوا ما تشاء فقلت ألهو الى الإصباح آثر ذي أثير بآنسة الحديث رضاب فيها بعيد النوم كالعنب العصير ومنها أطعت الآمرين بصرم سلمى وطاروا في بلاد اليستعور أي تفرقوا حيث لا يعلم ولا يهتدي لمواضعهم.. وقال ابن بري معنى البيت ان عروة كان سبى امرأة من بني عامر يقال لها سلمى ثم تزوجها فمكثت عنده زمانا وهو لها شديد المحبة ثم انها استزارته أهلها فحملها حتى انتهى بها إليهم فلما أراد الرجوع أبت أن ترجع معه وأراد قومها قتله فمنعتهم من ذلك ثم انه اجتمع به أخوها وابن عمها وجماعة فشربوا خمرا وسقوه وسألوه عن طلاقها فطلقها فلما صحا ندم على ما فرط منه ولهذا يقول بعد البيت سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور ألايا ليتني عاصيت طلقا وجبارا ومن لي من أمير طللق أخوها وجبار ابن عمها وقيل هما اخوه هو وابن عمه والأمير هو المستشار وقيل ان أهلها طلبوا منه فدائها فقال له أخوه طلق وابن عمه جبار والله لئن قبلت ما أعطوك لا نفتقر أبدا وأنت على النساء قادر متى شئت وكان قد سكر فأجاب إلى فدائها فلما صحا ندم فشهدوا عليه بالفداء فلم يقدر على الامتناع واليستعور في البيت السابق على وزن

[ 148 ]

.. والوجه الآخر في نصب الصابرين أن يكون معطوفا على ذوي القربى ويكون المعنى وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين.. قال الزجاج وهذا لا يصلح إلا أن يكون الموفون رفعا على المدح للمضمرين لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد العطف على الموصول وكان يقوي الوجه الأول.. وأما توحيد الذكر في موضع وجمعه في آخر فلان من آمن لفظه لفظ الوحدة وان كان في المعنى للجمع فالذكر الذي أتى بعده موحدا يجرى على اللفظ وما جاء من الوصف بعد ذلك على سبيل الجمع مثل قوله تعالى والموفون والصابرين فعلى المعنى.. وقد اختلفت قراءة القراء السبعة في رفع الراء ونصبها من قوله تعالى (ليس البر) فقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص ليس البر بنصب الراء.. وروى هبيرة عن حفص عن عاصم انه كان يقرأ بالنصب والرفع وقرأ الباقون البر بالرفع والوجهان حسنان لأن كل واحد من الاسمين اسم ليس وخبرها معرفة فإذا اجتمعا في التعريف تكافأ في جواز كون أحدهما اسما والآخر خبرا كما تتكافأ النكرات وحجة من رفع البر أنه لا يكون البر الاسم لشبهه الفاعل أولى لأن ليس يشبه الفعل وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده ألا ترى أنك إذا قلت قام زيد فان الاسم يلي الفعل وتقول ضرب غلامه زيد فيكون التقدير في الغلام التأخير فلولا ان الفاعل أخص بهذا الموضع لم يجز هذا كما لم يجز في الفاعل ضرب غلامه زيدا حيث لم يجز في الفاعل تقدير التأخير كما جاز في المفعول به لوقوع الفاعل موقعه المختص به وحجة من نصب البر أن يقول كون الاسم أن وصلتها أولى تشبيها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر فكأنه اجتمع مضمر ومظهر والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر


يفتعول ولم يأت على هذا البناء غيره وهو موضع قبل حرة المدينة كثير العضاة موحش لا يكاد يدخله أحد والرواية المشهورة في البيت الشاهد سقوني النسأ ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور والنسأ بالفتح الشراب المزيل للعقل وبه فسر ابن الاعرابي البيت هنا ورواية سيبويه الخمر كما مر

[ 149 ]

[ قال المرتضى ] حدثنا أبو القاسم عبد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي الكاتب قرأة عليه قال أملي علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال أخبرنا ابن الاعرابي قال قال ابن الكلبي لما كان بعد يوم الهباءة جاور قيس بن زهير العبسي النمر بن قاسط فقال لهم إني قد جاورتكم واخترتكم فزوجوني امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر في حسب وجمال فزوجوه ظبية بنت الكيس النمري وقال لهم إن في خلالا ثلاثا إني غيور وإني فخور وإني آنف ولست أفخر حتى أبدأ ولا أغار حتى أرى ولا آنف حتى أظلم فأقام فيهم حتى ولد له فلما أراد الرحيل عنهم قال إني موصيكم بخصال وناهيكم عن خصال عليكم بالأناة فان بها تنال الفرصة وتسويد من لا تعابون بتسويده وعليكم بالوفاء فان به يعيش الناس وباعطاء من تريدون اعطاءه قبل المسألة ومنع من تريدون منعه قبل الالحاح وإجارة الجار على الدهر وتنفيس المنازل عن بيوت الأيامي وخلط الضيف بالعيال وأنهاكم عن الرهان فان به ثكلت مالكا أخي والبغي فانه قتل زهيرا أبي وعن الاعطاء في الفضول فتعجزوا عن الحقوق وعن الاسراف في الدماء فان يوم الهباءة ألزمني العار ومنع الحرم إلا من الأكفاء فان لم تصيبوا لها الأكفاء فان خير مناكحها القبور أو خير منازلها واعلموا إني كنت ظالما مظلوما ظلمني بنو بدر فقتلهم مالكا أخي وظلمتهم بأن قتلت من لا ذنب له.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه أما قوله – أنهاكم عن الرهان – فأراد المراهنة في سباق الخيل وذلك أن قيس بن زهير راهن حذيفة بن بدر الفزاري على فرسيه داحس والغبراء وفرسي حذيفة الخطار والحنفاء.. وقال بعض بني فزارة بل قرزل والحنفاء وكان قيس كارها لذلك وانما هاجه بينهما بعض بني عبد الله بن غطفان وقيل رجل من بني عبس والخبر في شرح ذلك مشهور ثم وقع الاتفاق على السباق وجعلوا الغاية من (1) واردات الى ذات الأصاد وجعلوا القصبة في يده رجل من بني ثعلبه بن سعد يقال له حصين وبيد رجل


(1) – الوردات.. هضبات صغار قريبة من جبلة.. وذات الاصاد بكسر أوله وبالدال المهملة على وزن فعال موضع ببلاد بني فزارة حكاه البكري في معجمه

[ 150 ]

من بني العشراء من بني فزارة وملئوا البركة ماء وجعلوا السابق أول الخيل يكرع فيها ثم ان حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الذى أرسلت الخيل فيه ينظران إليها والى خروجها فلما أرسلت عارضاها فقال حذيفة خدعتك يا قيس فقال قيس ترك الخداع من أجري من مائة يعني من مائة غلوة فأرسلها مثلا ثم ركضا ساعة فجعلت خيل حذيفة تتقدم خيل قيس فقال حذيفة سبقت يا قيس جري المذكيات علاب فأرسلها مثلا.. – المذكيات – المسان من الخيل.. وروى غلاء كما يتغالى بالنبل ثم ركضا ساعة فقال حذيفة انك لا تركض مركضا سبقت خيلك فقال قيس رويد يعلون الجدد فأرسلها مثلا.. وروي يعدون الجدد أي يتعدين الجدد الى الوعث وقد كان بنو فزارة أكمنوا بالثنية كمينا لينظروا فان جاء داحس سابقا مسكوه وصدروه عن الغاية فجاء داحس سابقا فأمسكوه ولم يعرفوا الغبراء وهي خلفه مصلية حتى مضت الخيل وأسهلت من الثنية ثم أرسلوه فتمطر في آثارها فجعل يبدرها فرسا فرسا حتى انتهوا الى الغاية مصليا وقد طرح الخيل غير الغبراء ولو تباعدت الغاية سبقها فاستقبلتها بنو فزارة فلطموها ثم صدوها عن الركية ثم لطموا داحسا وقد جاء متواليين ثم جاء حذيفة وقيس في آخر الناس وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم ولطموا فرسهم وجرى من الخلف في أخذ السبق ما قد شرحته الرواة.. وقد قيل في بعض الرواياة ان الرهان والسبق كان بين حمل بن بدر وبين قيس وفي ذلك يقول قيس شعرا كما لا قيت من حمل بن بدر وإخوته على ذات الإصاد وهم فخروا علي بغير فخر وردوا دون غايته جوادي وقد دلفوا الي بفعل سوء فألفوني لهم صعب القياد وكنت إذا منيت بخصم سوء دلفت له بداهية نآد ثم ان قيسا أغار على عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله فبلغ بنوا فزارة فهموا بالقتال فحمل الربيع بن زياد العبسى دية عوف بن بدر مائة عشراء متلية.. ويقال ان قيسا قتل ابنا لحذيفة يقال له مالك كان حذيفه أرسله يطلب منه السبق فطعنه فدق صلبه وان الربيع بن


[ 151 ]

زياد حمل ديته مائة عشراء فسكن الناس عن القتال ثم ان مالك بن زهير نزل موضعا يقال له اللقاطة قريبا من الحاجر ونكح امرأة يقال لها مليكة بنت حارثة من بني غراب من فزارة فبلغ ذلك حذيفة بن بدر فدس إليه فرسانا فقتلوه وكان الربيع بن زياد العبسي مجاورا لحذيفة بن بدر وكانت تحت الربيع معاذة بنت بدر فلما وقف على الخبر قال نام الخلي ولم أغمض حار من سيئ النبأ الجليل الساري من مثله تمشي النساء حواسرا وتقوم معولة مع الأسحار من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار (1) يجد النساء حواسرا يندبنه يضربن أوجههن بالأسحار قد كن يخبأن الوجوه تسترا فاليوم حين بدون للنظار أفبعد مقتل مالك بن زهير (2) ترجو النساء عواقب الأطهار ما إن أرى في قتله لذوي الحجى إلا المطي تشد بالأكوار


(1) قوله * فليأت نسوتنا بوجنهاري * قال المرزوقي إني لا تعجب من أبي تمام مع تكلفه رم جوانب ما اختاره من الأبيات كيف ترك قوله فليأت نسوتنا وهي لفظة شنيعة جدا وأصلحه المرزوقي بقوله وليأت ساحتنا قال التفتازاني وأنا أتعجب من جار الله كيف لم يورده على هذا الوجه وحافظ على الشاعر دراية مع زعمه ان القراء يقرؤن القرآن برأيهم وأنا أتعجب من انشاد صاحب المعنى هذا البيت يعنى قول الربيع بن ضبع ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من جماعنا وطرا أورده هنا مع انه أشنع من بيت الحماسة وأفحش ولقد كان في غنية بما أورده من الكتاب والسنة (2) – هكذا رواية البيت وفيه إقواء كما حكاه ابن قتيبة في الشعر والشعراء وأورده شاهدا.. وقال ولو كان ابن زهيرة لاستوي البيت

[ 152 ]

ومجنبات ما يذقن عذوفة يقذفن بالمهرات والأمهار ومساعرا صدأ الحديد عليهم فكأنما طلي الوجوه بقار فأما خبر مقتل زهير بن جذيمة العبسى أبي قيس فاختلف الرواة في سببه فيقال إن هوازن بن منصور كانت تؤتي الأتاوة زهير بن جذيمة ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد فهم أذل من يد في رحم فأتت عجوز من هوازن الى زهير بن جذيمة بسمن في نحي فاعتذرت إليه وشكت السنين اللواتي تتابعت على الناس فذاقه فلم يرض طعمه فدعها أي دفعها بقوس في يده عطل في صدرها فسقطت فبدت عورتها فغضبت من ذلك هوازن وحقدته الى ما كان في صدرها من الغيظ وكانت يومئذ قد أمرت بنو عامر ابن صعصعة أي كثرت فآلي جعفر بن كلاب فقال والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو يقتل.. وفي ذلك يقول خالد بن جعفر أريغوني إراغتكم فإني وحذفة كالشجي تحت الوريد – حذفة – اسم فرس خالد مقربة أواسيها بنفسي وألحفها ردائي في الجليد لعل الله يمكنني عليها جهارا من زهير أو أسيد فإما تثقفوني فاقتلوني فمن أثقف فليس إلى خلود.. ويقال بل كان السبب في ذلك أن زهير بن جذيمة لما قتل في غنى من قتل بابنه شاس وافى عكاظ فلقيه خالد بن جعفر بن كلاب وكان حدثا فقال يا زهير أما آن لك أن تشتفي وتكف يعني مما قتل بشاس فأغلظ له زهير وحقره فقال خالد اللهم أمكن يدي هذه الشعراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة ثم أعنى عليه فقال زهير اللهم أمكن يدي هذه البياض الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا فقال قريش هلكت والله يا زهير قال أنتم والله الذين لا علم لهم ثم أجمع خالد بن جعفر على قصد زهير فقتله اأتفق نزول زهير بالقرب من أرض بني عامر وكانت تماضر بنت عمرو بن الشريد أمراة زهير بن


[ 153 ]

جذيمة وأم ولده فمر به أخوها الحارث بن عمرو بن الشريد فقال زهير لبنيه ان هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه فقالت أخته لبنيها أيزوركم خالكم فتوثقوه وقالت له انه ليريبني أكبينانك وقروبك والا كبينان الغم والقروب السكوت فلا يأخذن فيك ما قال زهير فانه رجل بيذارة غيذارة شنوءة.. قال الأثرم – البيذارة – الكثير الكلام – والغيذارة – السيئ الخلق ثم حلبوا له وطبا وأخذوا عليه يمينا ألا يخبر عليهم ولا ينذر بهم أحدا فخرج الحارث حتى أتي بني عامر فقعد الى شجرة يجتمع إليها بنو عامر فألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون ثم قال أيتها الشجرة الذليلة اشربي من هذا اللبن فانظري ما طعمه فقال قوم هذا رجل مأخوذ عليه وهو يخبركم خبرا فذاقوا اللبن فوجدوه حلو لم يقرص بعد فقالوا انه يخبرنا ان مطلبنا قريب فركب خالد بن جعفر بن كلاب ومعه جماعة وكان راكبا فرسه حذفة فلقوا زهيرا فاعتنق خالد زهيرا وخرا عن فرسيهما ووقع خالد فوق زهير ونادى يا بني عامر اقتلوني والرجل واستغاث زهير ببنيه فأقبل إليه ورقاء ابن زهير يشتد بسيفه فضرب خالدا ثلاث ضربات فلم تغن شيئا وكان على خالد درعان قد ظاهر بينهما ثم ضرب جندح رأس زهير فقتله ففي ذلك يقول ورقاء بن زهير رأيت زهيرا تحت كلكل خالد فأقبلت أسعى كالعجول ابادر فشلت يميني يوم أضرب خالدا ويمعني منه الحديد المظاهر فيا ليت أني يوم ضربة خالد ويوم زهير لم تلدني تماضر فأما خبر الهباءة فان بني عبس وبنى فزارة لما التقوا الى جنب جفر الهباءة في يوم قائظ فاقتتلوا ولخبرهم شرح طويل معروف استجار حذيفة ومن معه بجفر الهباءة ليتبرد فيه فهجم عليه القوم فقال حذيفة يا بني عبس فأين العود وأين الأحلام فضرب حمل بن بدر بين كتفيه وقال اتق مأثور القول بعد اليوم فأرسلها مثلا وقتل قرواش بن هني حذيفة ابن بدر وقتل الحارث بن زهير حملا وأخذ منه ذا النون سيف مالك بن زهير أخيه وكان حمل بن بدر أخذه من مالك بن زهير يوم قتل فقال قيس في ذلك تعلم إن خير الناس ميت على جفر الهباءة لا يريم (20 – أمالي)


[ 154 ]

ولولا ظلمه ما زلت أبكى عليه الدهر ما طلع النجوم ولكن الفتى حمل بن بدر بغى والبغي مرتعه وخيم أظن الحلم دل على قومي وقد يستجهل الرجل الحليم ومارست الرجل ومارسوني فمعوج على ومستقيم وقال قيس أيضا شفيت النفس من حمل بن بدر وسيفي من حذيفة قد شفاني فإن أك قد بردت بهم غليلي فلم أقطع بهم إلا بناني (مجلس آخر 15) [ تأويل آية ] ان سأل سائل عن قوله تعالى (مثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) فقال أي وجه لتشبيه الذين كفروا بالصائح الناعق بالغنم والكلام يدل على ذمهم ووصفهم بالغفلة وقلة التأمل والتمييز والناعق بالغنم قد يكون مميزا متأملا محصلا.. يقال له في هذه الآية خمسة أجوبة. أولها أن يكون المعنى مثل واعظ الذين كفروا والداعي لهم الى الايمان والطاعة كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تعقل معنى دعائه وانما تسمع صوته ولا تفهم غرضه والذين كفروا بهذه الصفة لانهم يسمعون وعظ النبي صلى الله عليه وسلم وإنذاره فينصرفون عن قبول ذلك ويعرضون عن تأمله فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه لاشتراكهما في عدم الانتفاع به وجائز أن يقوم قوله تعالى (والذين كفروا) مقام الواعظ والداعى لهم كما تقول العرب فلان خافك خوف الأسد والمعنى كخوفه من الأسد فأضاف الخوف الى الأسد وهو في المعنى مضاف الى الرجل قال الشاعر فلست مسلما ما دمت حيا على زيد بتسليم الأمير


[ 155 ]

أراد بتسليمي على الأمير ونظائر ذلك كثيرة.. والجواب الثاني أن يكون المعنى ومثل الذين كفروا كمثل الغنم التي لا تفهم نداء الناعق فأضاف الله تعالى المثل الثاني الى الناعق وهو في المعنى مضاف الى المنعوق به على مذهب العرب في قولها طلعت الشعرى وانتصب العود على الحرباء والمعنى وانتصب الحرباء على العود وجاز التقديم والتأخير لوضوح المعنى.. وأنشد الفراء إن سراجا لكريم مفخره تجلى به العين إذا ما تجهره معناه تجلى بالعين فقدم وأخر.. وأنشد الفراء كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم المعنى كما كان الرجم فريضة الزنا.. وأنشد أيضا وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل في ذي المطارة عاقل أراد ما تزيد مخافة وعل على مخافتي ومثله كأن لون أرضه سماؤه أراد كأن لون سمائة أرضه ومثله ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع (1) أراد مدخل رأسه الظل.. وقال الراعي


(1) قال سيبويه فوجه الكلام في هذا انه على سعة الكلام قال كراهية الانفصال وإذا لم يكن في الجر فحد الكلام الناصب مبدوء به.. وقال الشنتمري الشاهد فيه اضافة مدخل الى الظل ونصب الرأس به على الاتساع والقلب وكان الوجه أن يقول مدخل رأسه الظل لأن الرأس هو الداخل في الظل والظل المدخل فيه ولذلك سماه سيبويه الناصب في تفسير البيت فقال الوجه أن يكون الناصب مبدوء به. والمعنى وصف هاجرة قد ألجأت النيران الى كنسها فترى الثور مدخل رأسه في ظل كناسه لما يجد من شدة الحر وسائره بارز للشمس

[ 156 ]

فصبحته كلام الغوث يوسدها يستوضحون يرون العين كالأثر يريد أنهم يرون الأثر كالعين.. وقال أبو النجم قبل دنو الأفق من جوزائه فقلب.. وقال العباس بن مرادس فديت بنفسه نفسي ومالي ولا آلوه إلا ما يطيق أراد فديت بنفسي نفسه.. وقال ابن مقبل ولا تهيبني الموماة أركبها إذا تجاوبت الأصداء بالسحر أراد لا أتهيب الموماة وهذا كثير جدا. والجواب الثالث أن يكون المعنى ومثل الذين كفروا ومثلنا أو مثلهم ومثلك يا محمد كمثل الذي ينعق أي مثلهم في الإعراض ومثلك في الدعاء والتنبيه والارشاد كمثل الناعق بالغنم فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول.. ومثله قوله تعالى (جعل لكم سرابيل تقيكم الحر) أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر الحر من البرد.. وقال أبو ذؤيب عصيت إليها القلب إني لتمرها مطيع فما أذري أرشد طلابها أراد أرشد أم غي فاكتفي بذكر الرشد لوضوح الأمر. والجواب الرابع أن يكون المراد ومثل الذين كفروا في دعائهم للأصنام التي يعبدونها من دون الله وهي لا تعقل ولا تفهم ولا تضر ولا تنفع كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة والدعاء والنداء ينتصبان على هذا الجواب بينعق وإلا توكيد للكلام ومعناها الالقاء. قال الفرزدق هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم وضحوا بلحم من محل ومحرم والمعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم. والجواب الخامس أن يكون المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم لأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها كمثل الداعي الذي ينعق بالغنم ويناديها فهي تسمع دعاء ونداء ولا تفهم معنى كلامه فشبه من يدعوه الكفار من المعبودات دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب ولا تفهمه ولا نفع عندها فيه ولا


[ 157 ]

مضرة وهذا الجواب يقارب الذي قبله وان كانت بينهما مزية ظاهرة لأن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء ولا النداء جملة ويجب أن يكون مصروفا الى غير الغنم وما أشبهها مما يسمع وان لم يفهم وهذا الجواب يقتضي ضرب المثل بما يسمع الدعاء والنداء وان لم يفهمهما والأصنام من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة يجب أن يكون داعيها ومناديها أسوء حالا من منادي الغنم ويصح أن يصرف الى الغنم وما أشبهها مما يشارك في السماع ويخالف في الفهم والتمييز.. وقد اختلف الناس في ينعق فقال أكثرهم لا يقال نعق ينعق إلا في الصياح بالغنم وحدها. وقال بعضهم نعق ينعق بالغنم والابل والبقر والأول أظهر في كلام العرب.. قال الأخطل يهجو جريرا فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا ويقال أيضا نعق الغراب ونغق بالغين المعجمة (1) إذا صاح من غير أن يمد عنقه ويحركها فإذا مدها وحركها ثم صاح قيل نعب ويقال أيضا نعب الفرس ينعب وينعب نعبا ونعيبا ونعبانا وهو صوته ويقال فرس منعب أي جواد وناقة نعابة إذا كانت سريعة [ تأويل خبر ] روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه الى طعام دعوا له فإذا بالحسين عليه السلام وهو صبى يلعب مع صبية في السكة فاستنتل رسول الله صلى الله عليه وسلم امام القوم فطفق الصبي يفر مرة ههنا ومرة ههنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت فاس رأسه وأقنعه فقبله وقال أنا من حسين وحسين منى أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط.. ومعنى – استنتل – تقدم يقال استنتل الرجل استنتالا وابرنثأ ابرنثاء وابرنذع


(1) قوله نعق الغراب ونغق بالغين المعجمة يعنى ان نعق ونغق بالمهملة والمعجمة سواء وعلى هذا بعض أهل اللغة.. قال الزمخشري والغين أعلى.. وقال الأزهري نعيق الغراب ونعاقه ونغيقه ونغاقه مثل نهيق الحمار ونهاقه ولكن الثقاة من الأئمة يقولون كلام العرب نغق الغراب بالغين المعجمة ونعق الراعي بالشاة بالعين المهملة ولا يقال في الغراب نعق ويجوز نعب وهذا هو الصحيح (*)

[ 158 ]

ابرنذاعا إذا تقدم هكذا ذكره ابن الانباري.. ووجدت بعض المتقدمين في علم اللغة يحكي في كتاب له قال يقول استنتلت الأمر استنتالا إذا استعددت له واستنتل الرجل تفرد من القوم ويقال استنتل أشرف والمعاني متقاربة والخبر يليق بكل واحد منها.. وحكى هذا الرجل الذي ذكرناه في كتابه في أبرنثأ وابرنذع أيضا انه من الاستعداد فأما – السكة – فهي المنازل المصطفة والنخل المصطف ومعنى – طفق – ما زال.. قال الشاعر طفقت تبكي وأسعدها وكلانا ظاهر الكمد وفاس الرأس طرف القمحدوة المشرف على القفا ومعنى – أقنعه – رفعه هكذا ذكر ابن الانباري.. وقال غيره يقال أقنع ظهره اقناعا إذا طاطاه ثم رفعه برفق فأما – الاسباط – فأصلها في ولد اسحاق عليه السلام كالقبائل في بني اسماعيل.. وقال ابن الانباري هم الصبية والصبوة بالياء والواو معا.. حدثنا أبو القاسم عبد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن أحمد الحكيمي قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد ابن يحيى ثعلب قال أخبرنا ابن الاعرابي انه قيل لابنة الخس ما مائة من المعز قالت مويل يشف الفقر من ورائه مال الضعيف وحرفة العاجز قيل لها فما مائة من الضأن قالت قرية لا حمى بها قيل فما مائة من الابل قالت بخ جمال ومال ومنى الرجال قيل لها فما مائة من الخيل قالت طغي عند من كانت ولا توجد قيل فما مائة من الحمر قالت عازبة الليل وخزى المجلس لا لبن فيحلب ولا صوف فيجز ان ربط عيرها أدلى وان أرسل ولى.. وبهذا الاسناد عن ابن الاعرابي قال قيل لابنة الخس والخص والخسف كل ذلك يقال ما أحسن شئ قالت غادية في أثر سارية في نفخاء قاوية قال – بنخاء – أرض مرتفعة لأن النبات في موضع مشرف أحسن وقالوا أيضا نخفاء أي رابية ليس بها رمل ولا حجارة قال والجمع النفاخي ونبت الرابية أحسن من نبت الأودية لان السيل يصرع الشجر فيقذفه في الأودية ثم يلقي عليه الدمن [ قال المرتضى ] رضي الله عنه ومما يدل أن نبت الرابية أحسن قول الأعشى


[ 159 ]

ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل (1).. وقال كثير فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها (2)


(1) قوله ما روضة الخ بعده يضاحك الشمس منها كوكب شرق معذر بعميم النبت مكتهل يوما بأطيب منها نشر رائحة ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وهي قصيدة مشهورة وأوردنا هذين البيتين لارتباطهما بالبيت قوله – الحزن – بالفتح وزاي اسم موضع وهو في الأصل ضد السهل – ومسبل – سائل – وهطل – متتابع – ويضاحك – يميل معها حيث مالت – وكوكب – معظم الزهر وكوكب كل شئ معظمه – وشرق – ريان – وعميم – طويل – ومكتهل – ظاهر النور – والأصل – جمع أصيل وهو العشي (2) قوله فما روضة الخ بعده وهو جواب ما بأطيب من أردان عزة موهنا إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها حكى أنه دخل كثير على سكينة بنت الحسين رضى الله عنهما فقالت له أخبرني يا بن أبي جمعة عن قولك في عزة وأنشدته البيتين ثم قالت له وهل على الأرض زنجية منتنة الابطين توقد بالمندل الرطب نارها إلا طاب ريحها ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب وروي من غير هذا الوجه انه خرج يوما من عند عبد الملك فاعترضته عجوز معها نار في روثة فقالت من أنت قال صاحب عزة فقالت أنت القائل فما روضة الى آخر البيتين قال نعم قالت ويحك إذا أوقد بالمندل الرطب على هذه الروثة وبخرت به أمك العجوز الشعثاء كانت كذلك فهلا قلت كما قال امرؤ القيس ألم ترياني الى آخر البيت فناولها مطرف خز كان معه وقال استري علي ذلك وهذه الحكاية نقلها شمس الدين ابن خلكان في تاريخه ثم قال ان بعض مشايخ الأدب قال ليس على كثير شئ فان قوله

[ 160 ]

فخصا الحزن للمعنى الذي ذكرنا.. وبهذا الاسناد عن ابن الاعرابي قال العرب تقول جاءنا بطعام لا ينادي وليده.. إذا جاء بطعام كثير لا يراد فيه زيادة ووقع في أمر لا ينادي وليده يقول لا تدعي إليه الصبيان ولا يستعان إلا بكبار الرجال فيه.. [ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه وفي ذلك قولان آخر ان أحدهما عن الأصمعي قال أصله من الشدة تصيب القوم حتى تذهل المرأة عن ولدها فلا تناديه لما هي فيه ثم صار مثلا لكل شدة ولكل أمر عظيم والقول الآخر عن الكلابي قال أصله من الكثرة والسعة فإذا أهوى الوليد الى شئ لم يزجر عنه حذر الافساد لسعة ما هم فيه ثم صار مثلا لكل كثرة قال الفراء وهذا القول يستعان به في كل موضع يراد به الغاية وأنشد لقد شرعت كفا يزيد بن مزيد شرائع جود لا ينادي وليدها.. وبالاسناد الذي تقدم عن ابن الاعرابي قال دخل ودقة الأسدي على معن بن زائدة الشيباني فقال إن رأيت أكرمك الله أن تضعني من نفسك بحيث وضعت نفسي من رجائك فانك قد بلغت حالا لو أعتقني الله فيها بكرمك من تنصف الرجال بعدك لم يكن كثيرا وإني قد قدمت الرجاء وأحسنت الثناء ولزمت الحفاظ ثم أنشأ يقول يا معن إنك لم تنعم على أحد فشاب نعماك تنغيص ولا كدر فانظر إلي بطرف غير ذي مرض فربما صح لي من طرفك النظر أيام وجهك لي طلق يخبرني إذا سكت بما تخفي ويضمر ومن هواك شفيع لي يغفلني وإن نأيت وإن قلت بي الذكر قد كنت أثرت عندي مرة أثرا فقد تقارب يعفو ذلك الأثر فاجبر بفضلك عظما كنت تجبره واجمع بفعلك ما قد كاد ينتشر


* إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها * نعت للروضة المذكورة انتهى وهذا جيد لو لم يطلب كثير من العجوز الستر فانه عرفنا بذلك انه ما أراد إلا المعنى المعترض فيكون هذا تصحيحا لا بيان قصده

[ 161 ]

ما نازع العسر في اليسر مذ علقت كفى بحبلك إلا ظفر اليسر وقد خشيت وهذا الدهر ذو غير بأن يدال لطوال الجفوة العسر وأن ما كان من عسر وميسرة فإن حظك فيه الحمد والشكر فقال معن أو ما كنا اعطيناك شيئا قال لا قال أما الذهب والفضة فليسا عندنا ولكن هات تختا من ثيابي يا غلام فدفعه إليه وقد كانت تحمل إليه بابن عياش وحبيب بن بديل فاعطاهما معه تختين وقال غرمتني يا ودقة تختي ثياب.. [ قال المرتضى ] رضي الله عنه وكان معن بن زائدة جوادا شجاعا شاعرا ويكنى أبا الوليد وهو معن بن زائدة بن عبد الله ابن زائدة بن مطر بن شريك عن عمرو بن مطر وهو أخو الحوفزان بن شريك وكان معن من أصحاب أبن هبيرة فلما قتل رثاه معن قال ألا إن عينا لم تجد يوم واسط عليك بجاري دمعها لجمود عشية قام النائحات وشققت جيوب بأيدي مأتم وخدود فإن تمس مهجور الجناء فطالما أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهد بلى كل من تحت التراب بعيد أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني يوسف بن يحيى المنجم عن أبيه قال حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو زيد بن الحكم بن موسى قال حدثني أبي قال كان معن بن زائدة من أصحاب يزيد بن عمرو بن هبيرة وكان مستترا حتى كان يوم الهاشمية فانه حضر وهو معتم متلثم فلما نظر الى القوم وقد وثبوا على المنصور تقدم وأخذ بلجام بغلته ثم جعل يضربهم بالسيف قدامه فلما أفرجوا له وتفرقوا عنه قال له من أنت ويحك قال أنا طلبتك معن بن زائدة فلما انصرف المنصور حباه وكساه ورتبه ثم قلده اليمن فلما قدم عليه من اليمن قال له هيه يا معن تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم على أن قال لك معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا على شرف بنو شيبان (21 – أمالي)


[ 162 ]

إن عد أيام الفعال فإنما يوماه يوم ندى ويوم طعان فقال كلا يا أمير المؤمنين ولكن أعطيته على قوله ما زلت يوم الهاشمية معلنا بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقاله من وقع كل مهند وسنان فقال له أحسنت يا معن.. وفي خبر آخر انه دخل على المنصور فقال له ويلك ما أظن ما يقال فيك من ظلمك لأهل اليمن واعتسافك إياهم إلا حقا قال وكيف ذلك يا أمير المؤمنين قال بلغني انك أعطيت شاعرا كان يلزمك ألفي دينار وهذا من السرف الذي لا شئ مثله فقال يا أمير المؤمنين انما أعطتيه من فضول ما لي وغلات ضياعي وفضلات رزقي وكففته عن عرضي وقضيت الواجب من حقه علي وقصده الى وملازمته لي قال فجعل أبو جعفر ينكت بقضيب في يده الأرض ولم يعاود القول.. وأخبرنا المرزباني قال أخبرني علي بن يحيى عن عبد الله بن أبي سعد الوراق عن خالد بن يزيد بن وهب ابن جرير عن عبد الله بن محمد المعروف بمنقار من أهل خراسان وكان من ولاة الرشيد قال حدثني معن بن زائدة قال كنا في الصحابة سبعمائة رجل فكنا ندخل على المنصور في كل يوم فقلت للربيع اجعلني من آخر من يدخل عليه فقال لي لست بأشرفهم فتكون من أولهم ولا بأخسهم نسبا فتكون من آخرهم وان مرتبتك لتشبه نسبك قال فدخلت على المنصور ذات يوم وعلى دراعة فضفاضة وسيف حنفي أقرع بنعله الأرض وعمامة قد أسدلتها من قدامي وخلفي فسلمت عليه وخرجت فلما صرت عند الستر صاح بي يا معن صيحة أنكرتها فلبيته فقال ادن الي فدنوت منه فإذا به قد نزل عن فراشه الى الأرض وجثى على ركبتيه واستل عمودا من بين فراشين واستحال لونه وبدت أوداجه وقال إنك لصاحبي يوم واسط لا نجوت ان نجوت مني قال قلت يا أمير المؤمنين تلك نصرتي لباطلهم فكيف نصرتي لحقك قال فقال لي كيف قلت فأعدت عليه القول فما زال يستعيدني حتى رد العمود الى مستقره واستوى متربعا واسفر لونه وقال يا معن ان باليمن هناة فقلت يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم رأي وهو أول من أرسلها مثلا فقال


[ 163 ]

أنت صاحبي فاجلس قال فجلست وأمر الربيع كل من كان في الدار فخرج وخرج الربيع فقال ان صاحب اليمن قدهم بالمعصية واني أريد أن أخذه أيسرا ولا يفوتني شئ من ماله قلت ولني اليمن وأظهر إنك قد ضممتني إليه وأمر الربيع أن يزيح علتى في كل ما أحتاج إليه ويخرجني في يومي هذا لئلا ينتشر الخبر قال فاستل عهدا من بين فراشين فوقع فيه أسمي وناولنيه ثم دعا الربيع فقال يا ربيع إنا ضممنا معنا الى صاحب اليمن فأزح علته فيما يحتاج إليه من السلاح والكراع ولا يمس إلا وهو راحل قال ثم ودعني فودعته وخرجت الى الدهليز فلقينى أبو الوالي فقال يا معن أعزز علي أن تضم الى ابن أخيك قال فقلت له أن لا غضاضة على الرجل يضمه سلطانه الى ابن أخيه وخرجت الى اليمن فأتيت الرجل فأخذته أسيرا وقرأت عليه العهد وقعدت في مجلسه.. روى عمر بن شبة قال اجتمع معن بن زائدة مع ابن أبى عاصية وابن أبي حفصة والضمرى فقال لينشدني كل واحد منكم أمدح بيت قاله في فأنشده ابن أبي حفصة مسحت ربيعة وجه معن سابقا لما جرى وجرى ذوو الأحساب فقال له معن الجواد يعثر فيمسح وجهه من الغبار والعثار وغيرهما.. وأنشده الضمري أنت امرؤ شأنك المعالي وذكر معروفك الربيع ويروي ودون معروفك الربيع بشأنك الحمد تشتريه يشيعه عنك ما يشيع فقال له ما أحسن ما قلت إلا أنك لم تسمني ولم تذكرني فمن شاء انتحله.. فأنشده ابن أبي عاصية شعرا إن زال معن بني شريك لم يزل لندى إلى بلد بغير مسافر ففضله عليهم.. وروى انه أتى معن بن زائدة بثلاثمائة أسير فأمر بضرب أعناقهم فقال له شاب منهم يا أخا شيبان نناشدك الله أن تقتلنا عطاشا فقال اسقوهم ماء فلما شربوا قالوا يا أخا شيبان نناشدك الله أن تقتل أضيافك فقال اطلقوهم.. وذكر أحمد بن كامل أن الخوارج قتلت معن بن زائدة بسجستان في سنة إحدى وخمسين ومائة.. وروى


[ 164 ]

أن عبد الله بن طاهر كان يوما عند المأمون فقال له يا أبا العباس من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم قال أمير المؤمنين أعرف بهذا مني قال قل على كل حال قال عبد الله أشعرهم الذي يقول في معن بن زائدة أيا قبر معن كنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا أيا قبر معن كيف واريت جوده وقد كان منه البر والبحر مترعا بلى قد وسعت الجود والجود ميت ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا والأبيات للحسين بن مطير الأسدي وهي تزيد على هذا المقدار وأولها ألما علي معن فقولا لقبره سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا.. ومنها فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا فلما مضى معن مضى الجود وانقضي واصبح عرنين المكارم أجدعا (مجلس آخر 16) [ تأويل آية ] ان سأل سائل فقال ما الوجه في قوله تعالى (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق) وفي موضع آخر (وقتلهم الأنبياء بغير حق) وظاهر هذا القول يقتضي ان قتلهم قد يكون بحق.. وقوله تعالى (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به).. وقوله (ان الذي رفع السموات بغير عمد ترونها).. وقوله (ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا).. وقوله (يسألون الناس إلحافا). والسؤال عن هذه الآيات كلها من وجه واحد وهو الذي تقدم. الجواب اعلم أن للعرب فيما جرى هذه المجرى من الكلام عادة معروفة ومذهبا مشهورا عند من تصفح كلامهم وفهم عنهم مرادهم بذلك المبالغة في النفي وتأكيده.. فمن ذلك


[ 165 ]

قولهم فلان لا يرجي خيره ليس يريدون أن فيه خيرا لا يرجي وانما غرضهم انه لا خير عنده على وجه من الوجوه.. ومثله قلما رأيت مثل هذا الرجل وانما يريدون ان مثله لم ير قليلا ولا كثيرا.. وقال أمرؤ القيس على لا حب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود الديافي (1) جرجرا يصف طريقا.. وأراد بقوله لا يهتدي بمناره انه لا منار له فيهتدي به – والعود – المسن من الابل – والديافي – منسوب الى دياف وهي قرية بالشام معروفة – وسافه – شمه وعرفه.. – والجرجرة – مثل الهدير.. وانما أرادان العود إذا شمه عرفه فاستبعده.. وذكر ما يلحقه فيه من المشقة فجرجر لذلك.. وقال ابن أحمر لا يفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها يجحر أراد ليست بها أهوال فيفزع الأرنب.. وقال النابغة يحفه جانبا نيق وتتبعه مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد أراد ليس بها رمد فتكتحل له.. وقال امرؤ القيس أيضا وصم حوام ما يقيم من الوجى كأن مكان الردف منه على رال يصف حوافر فرسه.. وقوله – ما يقين من الوحي – يريد الحفا ويقين أي يتوقين يقال وقي الفرس هاب المشى فأراد انه لا وجي بحوافره فيتهيبن الأرض من أجله – والرال – فرخ النعام وشبه إشراف عجزه بعجز الرال.. وقال الآخر لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر (2)


(1) – قوله الديافي.. الرواية المشهورة النباطي (2) – قوله لا يغمز الساق من أين الخ شطر هذا البيت الأول محذوف العجز وعجزه محذوف الصدر والرواية الصحيحة لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا يعض على شرسوفه الصفر لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يزال أمام القوم يقتفر

[ 166 ]

أراد ليس بساقيه أين ولا وصب فيغمزهما من أجلهما.. وقال سويد بن أبي كاهل من اناس ليس من أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء الجزع لم يرد إن في أخلاقهم فحشا آجلا ولا جزعا غير سيئ وانما أراد نفي الفحش والجزع عن أخلاقهم.. ومثل ذلك قولهم فلان غير سريع الى الخنا وهم يريدون انه لا يقرب الخنا لا نفى الاسراع حسب.. وقال الفرزدق وهو يهجو جعفر بن كلاب ويعيرهم بقتلى منهم أصيبوا في حروبهم فحملت النساء هؤلاء القتلى حتى أتين بهم الحي ولم تأت عير أهلها كالتي أتت به جعفرا يوم الهضيبات عيرها أتتهم بعير لم تكن هجرية ولا حنطة الشام المزيت خميرها


قوله – لا يتأرى – أي لا يتحبس ويتلبث يقال تأرى بالمكان إذا أقام فيه أي لا يلبث لادراك طعام القدر وجملة يرقبه حال من المستتر في يتأرى يمدحه بان همته ليس في المطعم والمشرب وانما همته في طلب المعالي فليس يرقب نضج ما في القدر إذا هم بأمر له شرف بل يتركها ويمضي – والشرسوف – طرف الضلع – والصفر – دويبة مثل الحية تكون في البطن تعترى من به شدة الجوع.. قال في النهاية في حديث لا عدوي ولا هامة ولا صفر إن العرب كانت تزعم ان في البطن حية يقال لها الصفر تصيب الانسان إذا جاع وتؤذيه فأبطل الاسلام ذلك وقيل أراد به النبي صلى الله عليه وسلم النسئ الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وهو تأخير المحرم الى صفر ويجعلونه صفر هو الشهر الحرام فأبطله انتهى.. ولم يرد الشاعر ان في جوفه صفرا لا يعض على شراسيفه وانما أراد انه لا صفر في جوفه فيعض يصفه بشدة الخلق وصحة البنية.. وقوله – لا يغمز الساق – لا يحنيها يصف جلده وتحمله للمشاق – والأين – الأعياء – والوصب – الوجع – والاقتفار – بتقديم القاف على الفاء اتباع الآثار.. وفي الصحاح وقفرت آثاره أقفره بالضم أي قفوته واقتفرت مثله وأنشد هذا البيت ورواه أبو العباس في شرح نوادر أبي زيد يقتفر بالبناء للمجهول ومعناه انه يفوت الناس فيتبع ولا يلحق

[ 167 ]

يعني أن الغير انما تحمل التمر والطعام الى الحي فحملت عير هؤلاء القتلى وقوله – لم تكن هجرية – أي لم تحمل التمر وذلك لكثرة التمر بهجر ثم قال ولا حنطة الشام المزيت خميرها ولم يرد ان هناك حنطة ليس في خميرها زيت لكنه أراد أنها لم تحمل تمرا ولا حنطة ثم وصف الحنطة بما يجعل في خميرها من الزيت وعلى هذا تأويل الآيات التي وقع السوأل عنها لانه تعالى لما قال (ويقتلون النبيين بغير حق) دل على أن قتلهم لا يكون ألا بغير حق ثم وصف القتل بما لابد أن يكون عليه من الصفة وهي وقوعه على خلاف الحق وكذلك (من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) وقوله تعالى (الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) وجهه أيضا انه لو كان هناك عمد لرأيتموه فإذا نفي رؤية العمد نفي وجود العمد كما قال لا يهتدي لمناره أي لا منار له من حيث علم أنه لو كان له منار لا هتدى به فصار نفي الاهتداء بالمنار نفيا لوجوده المنار.. وقوله تعالى (ولا تكونوا أول كافر به) تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر وهو أبلغ من أن يقول ولا تكفروا به ويجرى مجرى قولهم فلان لا يسرع الى الخنا وقلما رأيت مثله إذا أرادوا به تأكيد نفي الخنا ونفي رؤية مثل المذكور وكذلك قوله تعالى (لا يسألون الناس إلحافا) اي لا مسأله تقع منهم ومثل الأول (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) والفائدة ان كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا فصار نفي الثمن القليل نفيا لكل ثمن وهذا واضح بحمد الله ومنه (باب ذكر شئ من أخبار المعمرين وأشعارهم ومستحسن كلامهم) أحد المعمرين الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن جلد بن مالك بن أدد المذحجي ومذحج هي أم مالك بن أدد نسب ولد مالك إليها وانما سميت مذحج لانها ولدت على أكمة تسمي ذحجا واسمها مدلة بنت ذي هميجشان.. قال أبو حاتم السجستاني جمع الحارث بن كعب بنيه لما حضرته الوفاة فقال يا بني قد أتى على ستون ومائة سنة ما صافحت بيميني يمين غادر ولا قنعت نفسي بخلة فاجر ولا صبوت بابنة عم ولا كنة ولا طرحت عندي مومسة قناعها ولا بحت لصديقي بسر وإني لعلى دين شعيب النبي عليه السلام وما


[ 168 ]

عليه أحد من العرب غيري وغير أحيد بن خزيمة وتميم بن مرة فاحفظوا وصيتى موتوا على شريعتي.. إلهكم فاتقوه يكفيكم المهم من أموركم ويصلح لكم أعمالكم وإياكم ومعصيته لا يحل بكم الدمار ويوحش منكم الديار.. يا بني كونوا جميعا ولا تفرقوا فتكونوا شيعا وان موتا في عز خير من حياة في ذل وعجز وكل ما هو كائن كائن وكل جميع الى تباين.. الدهر ضربان فضرب رخاء وضرب بلاء واليوم يومان فيوم حبرة ويوم عبرة والناس رجلان فرجل معك ورجل عليك.. وزوجوا الأكفاء وليستعملن في طيبهن الماء وتجنبوا الحمقاء فان ولدها الى أفن يكون.. ألا انه لا راحة لقاطع القرابة وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم وآفة العدد اختلاف الكلمة التفضيل بالحسنة بقي السيئة والمكافأة بالسيئة الدخول فيها والعمل السوء يزيل النعماء وقطيعة الرحم تورث الهم وانتهاك الحرمة يزيل النعمة وعقوق الوالدين يعقب النكد ويمحق العدد ويخرب البلد والنصيحة تجر الفضيحة والحقد يمنع الرفد ولزوم الخطيئة يعقب البلية وسوء الرعة يقطع أسباب المنفعة والضغائن تدعو الى التباين ثم أنشأ يقول أكلت شبابي فأفنيته وأفنيت بعد دهري دهورا ثلاثة أهلين صاحبتهم فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا قليل الطعام عسير القيام قد ترك الدهر خطوى قصيرا أبيت أراعي نجوم السما أقلب أمري بطونا ظهورا قوله – ولا صبوت بابنة عم ولا كنة – الصبوة هي رقة القلب والكنة امرأة أخ الرجل وامرأة ابن أخيه – وأما المومسة – فهي الفاجرة البغي وأراد بقوله انها لم تطرح عنده قناعها أي لم تبتذل عنده وتتبسط وكما تفعل مع من يريد الفجور بها وقوله – فيوم حبرة ويوم عبرة – فالحبرة الفرح والسرور والعبرة تكون من ضد ذلك لان العبرة لا تكون إلا من أمر محزن مؤلم – وأما الأفن – فهو الحمق يقال رجل أفين إذا كان أحمق ومن أمثالهم وجد ان


[ 169 ]

الرقين (1) يعطي على أفن الأفين أي وجدان المال يغطي حمق التحمق وواحد الرقين رقة وهي الفضة.. وأما قوله – النصيحة تجر الفضيحة – فيشبه أن يكون معناه أن النصيح إذا نصح لمن لا يقبل نصيحته ولا يصغي الى موعظته فقد افتضح عنده لانه أفضى إليه بسرة وباح بمكنون صدره فأما – سوء الرعة – فانه يقال فلان حسن الرعة والتورع أي حسن الطريقة ومن المعمرين المشهورين المتسوغر وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر وانما سمى المستوغر ببيت قاله وهو ينش الماء في الربلات منها نشيش الرضف في اللبن الوغير – الربلات – واحدها ربلة بفتح وربلة بتسكينها وهي كل لحمه غليظة هكذا ذكره ابن دريد – والرضف – الحجارة المحماة.. وفي الحديث كأنه على الرضف – واللبن الوغير – لبن يلقي فيه حجارة محماة ثم يشرب أخذ من وغيرة الظهيرة وهي أشد ما يكون من الحر ومنه وغر


(1) قوله وجد ان الرقين الى قوله رقة هذا غير كاف في إيضاحه وأصل رقة ورق فحذف الفاء وعوض عنها هاء التأنيث وجمعت جمع المذكر السالم على طريق الحمل لأن جمع السلامة خاص بالعقلاء وحمل عليه أربعة أنواع. أحدها أسماء جموع لم تستوفي الشروط وهي أولو وعالمون وعشرون وبابه الى التسعين. والنوع الثاني جموع تكسير وهي بنون وآخرون وأرضون وسنون وبابه وهو كل اسم ثلاثى حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسر ومن هذا النوع رقة ورقين أصله ورق كما قدمنا آنفا ثم حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولكل منطوق من هذه الشروط مفهوم يخرج فلا يجمع هذا الجمع والنوعان الآخران الملحقان وهما جموع شروط لم تستوف الشروط كأهلون ووابلون وما سمى به من الجمع السالم نحو الزيدون علما وكذلك ما ألحق به كعليون.. وقوله الأفين هو فعيل بمعنى مفعول أي مأفون والأفن بالتحريك ضعف الرأي وقد أفن الرجل وأفنه الله يأفنه أفنا وأصله النقص يقال أفن الفصيل ما في ضرع أمه إذا أنفده(22 – أمالي)

[ 170 ]

صدر فلان يوغر وغرا إذا التهب من غيض أو حقد.. وقال أصحاب الأنساب عاش المستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين وأدرك الاسلام أو كاد يدرك أوله.. وقال ابن سلام كان المستوغر قديما وبقي بقاء طويلا حتى قال ولقد سئمت من الحياة وطولها وعمرت من عدد السنين مئينا مائة أتت من عبدها مائتان لي وازددت من عدد الشهور سنينا هل قد بقي إلا كما قد فاتنا يوم يكر وليلة تحدونا وهو القائل إذا ما المرء صم فلم يكلم وأودى سمعه إلا ندايا ولاعب بالعشي بني بنيه كفعل الهر يحترش العظايا يلاعبهم وودوا لو سقوه من الذيفان مترعة ملايا فلا ذاق النعيم ولا شرابا ولا يسقي من المرض الشفايا أراد بقوله – فلم يكلم – أي لم يسمع ما يكلم به فاختصر ويجوز أن يريد أنه لم يكلم الناس من استماعه وأعرض عن خطابه لذلك.. وقوله – وأودى سمعه إلا ندايا – أراد أن سمعه هلك إلا أنه يسمع الصوت العالي الذي ينادي به.. وقوله – ولاعب بالعشي بني بنيه – لانه مبالغة في وصفه بالهرم والخرف وانه قد تناها الى ملاعبة الصبيان وأنسهم به ويشبه أن يكون خص العشي بذلك لانه وقت رواح الصبيان الى بيوتهم واستقرارهم فيها.. وقوله – يحترش العظايا – أي يصيدها والاحتراش أن يقصد الرجل الى جحر الضب فيضربه بكفه ليحسبه الضب أفعي فيخرج إليه فيأخذه يقال حرشت الضب واحترشته ومن أمثالهم هذا أجل من الحرش يضرب عند الأمر يستعظم ويتكلم بذلك على لسان الضب.. قال ابن دريد قال الضب لابنه اتق الحرش قال وما الحرش قال إذا سمعت حركة بباب الجحر فلا تخرج فسمع يوما وقع المحفار فقال يا أبة هذا الحرش فقال هذا أجل من الحرش فجعل مثلا للرجل إذا سمع الشئ الذي هو أشد مما كان يتوقعه


[ 171 ]

– والذيفان – السم – والعظايا – جمع عظاية وهي دويبة (1) صغيرة وأحد المعمرين دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم بن الخفاف بن قضاعة بن مالك بن مرة بن مالك بن حمير.. قال أبو حاتم عاش دويد بن زيد أربعمائة وستة وخمسين سنة.. قال ابن دريد لما حضرت دويد بن زيد الوفاة وكان من المعمرين قال ولا يعد العرب معمرا إلا من عاش مائة وعشرين سنة فصاعدا قال لبنيه أوصيكم بالناس شرا لا ترحموا لهم عبرة ولا تقيلوهم عثرة قصروا الأعنة وطولوا الأسنة واطعنوا شزرا واضربوا هبرا وإذا أردتم المحاجزة فقبل المناجزة والمرء يعجز لا محالة بالجد لا بالكد التجلد ولا التبلد والمنية ولا الدنية ولا تأسوا على فائت وان عز فقده ولا تحنوا على ظاعن وان ألف قربه ولا تطمعوا فتطبعوا ولا تهنوا فتخرعوا ولا يكن لكم المثل السوء ان الموصين بنو سهوان إذا مت فارحبوا خط مضجعي ولا تضنوا على برحب الأرض وما ذلك بمؤد الى روحا ولكن حاجة نفس خامرها الاشفاق ثم مات.. قال أبو بكر بن دريد في حديث آخر انه قال أليوم يبني لدويد بيته يا رب نهب صالح حويته ورب قرن بطل أرديته ورب غيل حسن لويته ومعصم مخضب ثنيته لو كان للدهر بلى أبليته


(1) قوله والعظاية دويبة صغيرة الخ أهل العالية يقولون عظاءة وتميم يقولون عظاية والجمع عندهم جميعا العظاء.. قال سيبويه الذين قالوا عظاءة بنوه على العظاء وإلا فقد كان حكمه أن يعتل لأن بعدها الهاء والهاء لازمة.. قال أبو علي فأما قوله * ولاعب بالعشي بني بنيه * الخ فعلى الضرورة ألا ترى ان بعد هذا البيت يلاعبهم ولو ظفروا سقوه كؤس السم مترعة ملايا.. وقال أبو حاتم العظاية مثل الأصبع صحراء غبراء تكون فترا وشبرا وثلثا وهي سم عامتها ومنها ذوات لا تضر شيئا وهي التي في الحشوش تبرق ولا تقتل ولكن الأوزاع تقتل يطلب بقتلهن الأجر

[ 172 ]

أو كان قرنى واحدا كفيته ومن قوله ألقى على الدهر رجلا ويدا والدهر ما أصلح يوما أفسدا يصلح ما أفسده اليوم غدا قوله – اطعنوا شزرا واضربوا هبرا – معنى الشزر أن يطعنه من احدى ناحيتيه يقال فتل الحبل شزرا إذا فتله على الشمال والنظر الشزر نظر بمؤخر العين.. وقال الأصمعي نظر الى شزرا إذا نظر إليه من عن يمينه وشماله وطعنه شزرا كذلك.. وقوله هبرا قال ابن دريد يقال هبرت اللحم أهبره هبرا إذا قطعته قطعا كبار أو الاسم الهبرة والهبرة وسيف هبار وهابر واللحم هبير ومهبور – والمحالة – الحيلة.. وقوله – بالجد لا بالكد – أي يدرك الرجل حاجته وطلبته بالجد وهو الحظ والبخت ومنه رجل مجدود وإذا كسرت الجيم فهو الانكماش في الأمر.. وقوله – التجلد ولا التبلد – أي تجلدوا ولا تبلدوا.. وقوله – فتطبعوا – أي تدنسوا والطبع الدنس ويقال طبع السيف يطبع طبعا إذا ركبه الصدي.. قال ثابت قطنة العتكي لا خير في طمع يدني إلى طبع وعفة من قوام العيش تكفيني.. وقوله – ولا تهنوا فتخرعوا – فالو هن الضعف والخرع والخراعة اللين ومنه سميت الشجرة الخروع للينها.. وقوله – ان الموصين بنو سهوان – فالموصون جمع موصي وبنو سهوان ضربه مثلا أي لا تكونوا ممن تقدم إليهم فسهوا وأعرضوا عن الوصية وقالوا انه يضرب هذا المثل للرجل الموتر دمه ومعناه ان الذين يحتاجون أن يوصوا بحوائج اخوانهم هم الذين يسهون عنه لقلة عنايتهم بها وأنت غير غافل ولا ساه عن حاجتي.. وقوله – فارحبوا – أي اوسعوا والرحب السعة – والروح – الراحة.. وقوله في الشعر – ورب غيل – فالغيل الساعد الممتلئ – والمعصم – موضع السوار من اليد ومن المعمرين زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب حلوان بن عمران بن


[ 173 ]

الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير.. قال أبو حاتم عاش زهير بن جناب مائتي سنة وعشرين سنة وواقع مائتي وقعة وكان سيدا مطاعا عاش شريفا في قومه ويقال كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه كان سيد قومه وشريفهم وخطيبهم وشاعرهم ووافدهم الى الملوك وطبيبهم والطب كان في ذلك الزمان شرف وجازى قومه والجزاة الكهان وكان فارس قومه وله البيت فيهم والعدد منهم.. وأوصى بنيه فقال با بني قد كبرت سني وبلغت حرسا من دهري فأحكمتني التجارب والأمور تجربة واختبار فاحتفظوا عني ما أقول وعوه إياكم والخوار عند المصائب والتواكل عند النوائب فان ذلك داعية للغم وشماتة للعدو وسوء ظن بالرب وإياكم أن تكونوا للاحداث مغترين ولها آمنين ومنها ساخرين فانه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا ولكن توقعوها فانما الانسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة فمقصر دونه ومجاوز لموضعه وواقع عن يمينه وشماله ثم لابد انه مصيبه.. قوله – حرسا من دهري – يريد طويلا منه والحرس من الدهر الطويل.. قال الراجز في سنية عشنا بذاك حرسا * السنية المدة من الدهر – والتواكل – أن يكل القوم أمرهم الى غيرهم من قولهم رجل وكل إذا كان لا يكفي نفسه ويكل أمره الى غيره ويقال رجل وكلة تكلة – والغرض – كلما نصبته للرمي – وتعاوره – أي تداوله.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وقد ضمن ابن الرومي في معنى قول زهير بن جناب الانسان في الدهر غرض تعاوره الرماة فمقصر دونه ومجاوز له وواقع عن يمينه وعن شماله ولا بد أن يصيبه أبياتا فأحسن كل الاحسان وهي كفى بسارج الشيب في الرأس هاديا لمن قد اضلته المنايا لياليا أمن بعد إبداء المشيب مقاتلي لرامي المنايا تحسبيني ناجيا غدا الدهر يرميني فتدنو سهامه لشخصي وأخلق أن يصبن سواديا وكان كرامي الليل يرمي ولا يرى فلما أضاء الشيب شخصي رمانيا أما البيت الأخير فانه أبدع فيه وأغرب وما علمت أنه سبق الى معناه لأنه جعل الشباب كالليل الساتر على الانسان الحاجز بينه وبين من أراد رميه لظلمته والشيب مبديا لمقاتله


[ 174 ]

هاديا الى اصابته لضوئه وبياضه وهذا في نهاية حسن المعنى.. وأراد بقوله رماني أصابني ومثله قول الشاعر فلما رمى شخصي رميت سواده ولابد أن يرمى سواد الذي يرمي وكان زهير بن جناب على عهد كليب وائل ولم يكن في العرب أنطق من زهير ولا أوجه منه عند الملوك وكان لسداد رأيه يسمى كاهنا ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى رزاح بن ربيعة فسمع زهير بعض نسائه تتكلم بما لا يجوز للمرأة أن تتكلم به عند زوجها فنهاها فقالت له اسكت وإلا ضرتبك بهذا العمود فو الله ما كنت أراك تسمع شيئا ولا تعقله فقال عند ذلك ألا يال قومي لا أرى النجم طالعا ولا الشمس إلا حاجتي بيميني معزبتي عند القفا بعمودها تكون نكيري أن أقول ذريني أمينا على سر النساء وربما أكون على الأسرار غير أمين فللموت خير من حداج موطأ مع الظعن لا يأتي المحل لحيني وهو القائل أبني إن أهلك فقد أورثتكم مجدا بنيه وتركتكم أرباب سا دات زنادكم وريه من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه فلقد رحلت البازل الكوماء ليس لها وليه وخطبت خطبة حازم غير الضعيف ولا العييه فالموت خير للفتى فليهلكن وبه بقيه من أن يري الشيخ البجا ل إذا يهادي بالعشيه


[ 175 ]

وهو القائل ليت شعري والدهر ذو حدثان أي حين منيتي تلقاني أسبات على الفراش خفات أم بكفي مفجع حران وقال حين مضت له مائتا سنة من عمره لقد عمرت حتى ما أبالي أحتفي في صباحي أم مساء وحق لمن أتت مائتان عاما عليه أن يمل من الثواء قوله – معزبتي – يعني أمرأته يقال معزبة الرجل وحليلته وزوجته كل ذلك امرأته.. وقوله – أمينا على سر النساء – السر خلاف العلانية والسر أيضا النكاح قال الحطيئة ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع (1) وقال أمرؤ القيس ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي وكلام زهير يحتمل الوجهين جميعا لانه إذا كبر وهرم تتهيبه النساء أن تتحدث بحضرته بأسرارهن تهاونا به أو تعويلا على ثقل سمعه وكذلك هرمه وكبره يوجبان كونه أمينا على نكاح النساء لعجزه عنه.. وقوله – حداج موطأ – الحداج مركب من مراكب النساء والجمع أحداج وحدوج – والظعن – والأظعان الهوادج والظعينة المرأة في الهودج ولا تكون ظعينة حتى تكون في هودج والجمع ظعائن وانما خبر عن هرمه وأن موته خير من كونه مع الظعن في جملة النساء.. وقوله – زنادكم وريه – الزناد جميع زند وزندة وهما عودان يقدح بهما النار ففي أحدهما فروض وهي تغث فالتي فيها الفروض هي الأنثى والذي يقدح بطرفه هو الذكر ويسمى الزندة الأب والزندة الأم وكنى بزنادكم وريه عن بلوغهم مأربهم تقول العرب وريت بكم زنادي أي بلغت بكم ما أحب من النجح


(1) قوله أنف الأنف من كل شئ أوله يقول يؤثرون جارهم بالطعام على أنفسهم فيأكل صفوة طعامهم قبلهم

[ 176 ]

والنجاة ويقال للرجل الكريم وارى الزناد – وأما التحية – فهي الملك فكأنه قال من كل ما نال الفتى قد نلته إلا الملك.. وقيل التحية ههنا الخلود والبقاء – والبازل – الناقة التي بلغت تسع سنين فهي أشد ما تكون ولفظ البازل في الناقة والجمل سواء – والكوماء – العظمية السنام – والولية – برذعة تطرح على ظهر البعير تلي جلده – والبجال – الذي يبجله قومه ويعظمونه.. وقوله – يهادي بالعشية – أي يماشيه الرجال فيسندونه لضعفه والتهادى المشي الضعيف.. وقوله – أسبات – فالسبات سكون الحركة ورجل مسبوت – والخفات – الضعف أيضا يقال خفت الرجل إذا أصابه ضعف من مرض أو جوع – والمفجع – الذي فجع بولد له أو قرابة – والحران – العطشان الملتهب وهو ههنا المحزون على قتلاه.. ومما يروي لزهير بن جناب إذا ما شئت أن تسلوا جبيبا فكثر دونه عدد الليالي فما سلى حبيبك مثل ناء ولا أبلى جديدك كابتذال (مجلس آخر 17) ومن المعمرين ذو الأصبع العدواني واسمه حرثان بن محرث بن الحارث بن ربيعة ابن وهب بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عتاب بن يشكر بن عدوان وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن غيلان بن مضر.. وانما سمى الحارث عدوان لأنه عدى على أخيه فهم فقتله وقيل بل فقأ عينه وقيل ان اسم ذو الأصبع محرث بن حرثان وقيل حرثان بن حويرث وقيل حرثان بن حارثة ويكنى أبا عدوان وسبب لقبه بذي الأصبع أن حية نهشت أصبعه فشلت فسمي بذلك ويقال انه عاش مائة وسبعين سنة.. وقال أبو حاتم انه عاش ثلاثمائة سنة وهو أحد حكام العرب في الجاهلية وذكر الجاحظ أنه كان أثرم وروى عنه لا يبعدن عهد الشباب ولا لذاته ونباته النضر


[ 177 ]

لولا أولئك ما حفلت متى عوليت في حرج إلى قبري هزئت أثيلة أن رأت هرمي وأن انحنى لتقادم ظهرى وكان لذي الأصبع بنات أربع فعرض عليهم أن يزوجهن فأبين وقلن خدمتك وقربك أحب الينا ثم أشرف عليهن يوما من حيث لا يرينه فقلن لتقل كل واحدة منا ما في نفسها فقالت الكبرى ألا هل أراها مرة وضجيعها أشم كنصل السيف عين مهند عليم بأدواء النساء وأصله إذا ما انتمى من أهل سري ومحتدي ويروى من سر أهلي ومن أصل سري ومحتدي فقلن لها أنت تريدين ذا قرابة قد عرفته ثم قالت الثانية ألا ليت زوجي من أناس أولى عدي حديث شباب طيب الثوب والعطر ويروي أولى غنى لصوق بأكباد النساء كأنه خليقة جان لا ينام على وتر ويروي لا ينام على هجري فقلن لها أنت تريدين فتى ليس من أهلك ثم قالت الثالثة ألا ليته يكسي الجمال نديه له جفنة تشقى بها المعز والجزر له حكمات الدهر من غير كبرة تشين فلا وان ولا ضرع غمر فقلن لها أنت تريدين سيدا شريفا وقلن للرابعة قولي فقالت لا أقول فقلن لها يا عدوه الله علمت ما في أنفسنا ولا تعليمنا ما في نفسك فقالت زوج من عود خير من قعود فمضت مثلا فزوجهن أربعهن وتركهن حولا ثم أتى الكبرى فقال يا بنية كيف ترين زوجك قالت خير زوج يكرم الحلية ويعطي الوسيلة قال فما مالكم قال خير مال الابل نشرب ألبناها جرعا ويروي جزعا بالزاي المجعمة ونأكل لحمانها مزعا وتحملنا وضعفتنا معا فقال يا بنية زوج كريم ومال عميم ثم أتى الثانية فقال يا بنية كيف زوجك قالت خير (23 – أمالي)


[ 178 ]

زوج يكرم أهله وينسى فضله قال وما مالكم قالت البقر تألف الفناء وتملأ الاناء وتودك السقاء ونساء مع نساء فقال حظيت ورضيت ثم أتى الثالثة فقال يا بنية كيف زوجك قالت لا سمح بذر ولا بخيل حكر قال فما مالكم قالت المعز قال وما هي قالت لو انا نولدها فطما ونسلخها أدما ويروى أدما بالفتح لم نبغ بها نعماء فقال لها جذوة مغنية ويروى جدوة ثم أتى الصغرى فقال كيف زوجك قالت شر زوج يكرم نفسه ويهين عرسه قال فما مالكم قالت شر مال قال وما هو قالت الضأن جوف لا يشبعن وهيم لا ينقعن وصم لا تسمعن وأمر مغويتهن يتبعن فقال أبوها أشبه أمرأ بعض بزه فمضت مثلا.. أما قول إحدى بناته في الشعر – أشم – فالشمم ارتفاع أرنبة الأنف وورودها ويقال رجل أشم وامرأة شماء وقوم شم.. قال حسان بن ثابت بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأوف من الطراز الأول الشمم الارتفاع في كل شئ ويحتمل أن يكون حسان أراد بشم الأنوف ما ذكرناه من ورود الأرنبة لأن ذلك عندهم دليل العتق والنجابة ويجوز أن يريد بذلك الكناية عن نزاهتهم وتباعدهم عن دنايا الأمور ورذائها وخص الأنوف بذلك لأن الحمية والغضب والأنف يكون فيها ولم يرد طول أنفهم وهذا أشبه بأن يكون مراده لانه قال بيض الوجوه ولم يرد اللون في الحقيقة وانما كنى بذلك عن نقاء أعراضهم وجميل أخلاقهم وأفعالهم وما يقول القائل جائني فلان بوجه أبيض وقد بيض فلان وجهي بكذا وكذا وانما يعني ما ذكرناه.. وقول المرأة أشم كنصل السيف يحتمل الوجهين أيضا وقول حسان من الطراز الأول أي أفعالهم أفاعل آبائهم وسلفهم وأنهم لم يحدثوا أخلاقا مذمومة لا تشبه نجارهم وأصولهم.. وقولها – عين مهند – أي هو المهند بعينه كما يقال هذا بعينه وعين الشئ نفسه وعلى الرواية الأخرى غير مهند أي ليس هو السيف المنسوب الى الهند في الحقيقة وانما هو يشبهه في مضائه.. وقولها – من سر أهلي – أي من أكرمهم وأخلصهم يقال فلان في سر قومه أي في صميمهم وشرفهم وسر الوادي أطيبه ترابا – والمحتد – الأصل.. وقول الثانية – أولى عدي – فان معناه أن يكون لهم أعداء لأن من لا عدو له هو الفسل الرذل الذي لا خير عنده والكريم الفاضل من الناس وهو


[ 179 ]

المحسد المعادي.. وقولها – لصوق بأكباد النساء – يعني في المضاجعة ويحتمل أن يكون أرادت في المحبة وكنت بذلك عن شدة محبتهن له وميلهن إليه وهو أشبه.. وقولها – كأنه خليقة جان – أي كأنه حية للصوقه والجان جنس من الحيات فخففت لضرورة الشعر.. وقول الثالثة – يكسي الجمال نديه – فالندي هو المجلس.. وقولها – له حكمات الدهر – تقول قد أحكمته التجارب وجعلته حكميا – والضرع – الضعيف – والغمر – الذى لم يجرب الأمور.. وقول – الكبرى – ويكرم الحليلة ويعطي الوسيلة – فالحليلة هي امرأة الرجل والوسيلة الحاجة.. وقولها – نشرب ألبانها جرعا – فالجرع جمع جرعة وهو الماء القليل يبقى في الاناء.. وقولها – مزعا – المزعة البقية من دسم ويقال ما له جرعة ولا مزعة هكذا ذكره ابن دريد الضم في جرعة ووجدت غيره يكسرها فيقول جرعة وإذا كسرت فينبغي أن يكون نشرب ألبانها جرعا وتكسر المزعة أيضا ليزدوج الكلام فنقول ونأكل لحمانها مزعا قال المزعة من الشحم بالكسر هي القطعة من الشحم والمزعة أيضا من الريش والقطن وغير ذلك كالمزقة من الخرق والتمزيع التقطيع والتشقيق ويقال انه ليكاد يتمزع من الغيظ ومزع الصبي في عدوه يمزع مزعا إذا أسرع .. وقوله – مال عميم – أي كثير.. وقول الثانية – تودك السقاء – من الودك الذي هو الدسم – وقول الثالثة – نولدها فطما – الفطم جمع فطيم وهو المقطوع من الرضاع.. وقولها – نسلخها أدما – الأدم جمع إدام وهو الذي يؤكل تقول لو انا فطمناها عند الولادة لسلخناها للأدم من الحاجة لم نبغ بها نعما وفي الرواية الأخرى أدمأ من الأديم.. وقوله – جذوة مغنية – فالجذوة القطعة.. وقول الصغرى – جوف لا يشبعن – الجوف جمع جوفاء وهي العظيمة الجوف – والهيم – العطاش ولا ينقعن أي لا يروين.. ومعنى قولها – وأمر مغويتهن يتبعن – لأن القطيع من الضأن يمر على قنطرة فتزل واحدة فتقع في الماء فيقعن كلهن إتباعا لها والضأن يوصف بالبلادة.. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا أبن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال ابن دريد وأخبرنا العكلي عن أبي خالد عن الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي قال لما قدم عبد الملك بن مروان


[ 180 ]

الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير دعا الناس على أخذ فرائضهم فأتيناه فقال ممن القوم فقلنا من جديلة فقال جديلة عدوان قلنا نعم فتمثل عبد الملك عذير الحي من عدوا ن كانوا حية الأرض (1) بغى بعضهم بعضا فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادا ت والموفون بالقرض ومنهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي ومنهم من يجير النا س في السنة والفرض ثم أقبل على رجل كنا قدمناه أمامنا جسيم وسيم فقال أيكم يقول هذا الشعر فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه يقوله ذو الأصبع فتركني وأقبل على ذاك الجسيم فقال وما كان اسم ذو الأصبع فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه حرثان فأقبل عليه وتركني فقال لم سمى ذا الأصبع فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه نهشته حية في اصبعه فأقبل عليه وتركني فقال من أيكم كان فقال لاأدري فقلت أنا من خلفه من بني ناج فأقبل على الجسيم فقال كم عطاؤك قال سبعمائة ثم أقبل علي فقال كم عطاؤك قلت أربعمائة فقال


(1) اختلف في العذير فمنهم من جعله مصدرا بمعنى العذر وهو مذهب سيبويه ومنهم من جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم والمعنى عنده هات عذرك واحضر عاذرك وامتنع أن يجعله بمعنى العذر لأن فعيلا لا ينبني على المصدر إلا في الأصوات نحو الصهيل والنهيق والنبيح والأولى مذهب سيبويه لأن المصدر يطرد وضعه موضع الفعل بدلا منه لانه اسمه ولا يطرد ذلك في اسم الفاعل وقد جاء فعيل في غير الصوت كقولهم وجب القلب وجيبا إذا اضطرب.. والمعنى يصف ما كان من تفرق عدوان بن عمرو بن سعد بن قيس عيلان وتشتتهم في البلاد مع كثرتهم وعزتهم في البلاد لكثرة ساداتهم وبغي بعضهم على بعض فيقول من يعذرهم في فعلهم أو من يعذرني منهم.. وقوله كانوا حية الأرض أي كانوا يتقي منهم لكثرتهم وعزتهم كما يتقي من الحية المنكرة

[ 181 ]

يا بن الزعيزعة حط عن عطاء هذا ثلاثمائة وزدها في عطاء هذا فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة وفي رواية أخرى أنه لما قال من أيكم كان فقال لا أدري فقلت أنا من بني ناج الذي يقول فيهم الشاعر فأما بنو ناج فلا تذكرونهم ولا تتبعن عينيك من كان هالكا إذا قلت معروفا لتصلح بينهم يقول رهيب لا أسلم ذلكا ويروى ما أحاول فأضحى كظهر العودجب سنامه تحوم عليه الطير أحدب باركا وقد رويت هذه الأبيات لذي الأصبع أيضا ومن أبيات ذي الأصبع السائرة قوله أكاشر ذا الضغن المبين منهم وأضحك حتى يبدوا الناب أجمع وأهدنه بالقول هدنا ولو يرى سريرة ما أخفى لبات يفزع ومعنى أهدنه أسكنه ومن قوله أيضا إذا ما الدهر جر على أناس حوادثه أناخ بآخرينا ويروى شراشره فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا ومعنى – الشراشر – ههنا الثقل يقال ألقى عليه شراشره وجراميزه أي ثقله ومن قوله ذهب الذين إذا رأوني مقبلا هشوا إلي ورحبوا بالمقبل وهم الذين إذا حملت حمالة ولقيتهم فكأنني لم أحمل ومن قوله وهي المشهورة لي أبن عم على ما كان من خلق مختلفان فأقليه ويقليني أزرى بنا أننا شالت نعامتنا فخالني دونه وخلته دوني (1)


(1) يقال أزرى به إذا قصر وزري عليه إذا عابه.. وقوله شالت نعامتنا أي تفرق

[ 182 ]

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عنى ولا أنت دياني فتخزوني (1) إني لعمرك ما بابي بذي غلق عن الضيوف ولا خيري بممنون ولا لساني على الأذني بمنطلق بالفاحشات ولا أغضي على الهون ماذا علي وإن كنتم ذوي رحم ألا أحبكم إن لم تحبوني


أمرنا واختلف يقال عند اختلاف القوم شالت نعامتهم وزف رالهم والرال فرخ النعام وقيل يقال شالت نعامتهم إذا جلوا عن الموضع والمعنى تنافرنا فصرت لا أطمئن إليه ولا يطمئن الي ويقال ألقوا عصاهم إذا سكنوا واطمأنوا.. وقال الزمخشري شالت نعامتهم أي تفرقوا وذهبوا لأن النعامة موصوفة بالخفة وسرعة الذهاب والهرب ويقال أيضا خفت نعامتهم وزف رالهم وقيل النعامة جماعة القوم (1) قوله أفضلت ضمن فضلت معنى تجاوزت في الفضل فلهذا تعدى بعن ولولا التضمين لقال أفضلت علي لأنه من قولهم أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلا وأفضل هذه تتعدى بعلى لانها بمعنى الانعام أو انه من قولهم أعطى وأفضل إذا زاد على الواجب وأفضل هذة أيضا تتعدى بعلى يقال أفضل على كذا أي زاد عليه فضله ومراده من ذكر التضمين ان عن ليست بمعنى على خلافا لابن السكيت ولابن قتيبة ومن تبعهما فانهم قالوا عن نائبة عن على والأولى أن يكون أفضل من قولهم افضل الرجل ذا صار ذا فضل في نفسه فيكون معناه ليس لك فضل تنفرد به عني وتحوزه دوني فيكون لتضمنه معنى الانفراد تعدى بعن فتأمل – والديان – القيم بالأمر المجازي به وتخزونى تسوسنى سياسة وتخزوني بالخاء والزاى المعجمتين مضارع خزاه خزوا بالفتح ساسه وقهره وملكه وأما الخزي بالكسر وهو الهوان والذل فالفعل منه كرضى ويحتمل تخزوني الرفع ويكون التقدير ولا أنت مالكي فتسوسني ويحتمل النصب والفتحة حينئذ مقدرة كما في قوله * أبي الله أن أسموا بأم ولا أب * وليس بضرورة يقول لله ابن عمك الذى ساواك في الحسب وماثلك في الشرف فليس لك فضل تنفرد به عنه ولا أنت مالك أمره فتتصرف به على حكمك ومراده بابن العم نفسه فلذلك رد الاخبار بلفظ المتكلم

[ 183 ]

يا عمر إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني فأنتم مشعر زيد علي مائة فأجمعوا أمركم طرا وكيدوني لا يخرج القسر مني غرمأبية ولا ألين لمن لا يبتغي ليني قوله – شالت نعامتنا – معناه تنافرنا فصرت لا أطمئن إليه ولا يطمئن الي يقال شالة نعامة القوم إذا أجلو عن الموضع.. وقوله – لاه ابن عمك – قال قوم أراد لله ابن عمك.. وقال ابن دريد أقسم بالله ابن عمك.. وقوله – عنى – أي علي – والديان – الذي يلي أمره ومعنى – فتخزوني – أي تسوسوني – والهون – الهوان.. وقوله – أضربك حتى تقول الهامة اسقوني – قال الأصمعي العطش في الهامة فأراد أضربك في ذلك الموضع أي على الهامة حتى تعطش وقال آخرون ان العرب تقول ان الرجل إذا قتل خرجت من رأسه هامة تدور حول قبره وتقول اسقوني اسقوني فلا تزال كذلك حتى يؤخذ بثاره وهذا باطل ويجوز أن يعنيه ذو الأصبع على مذاهب العرب.. وقوله – لا يخرج القسر مني غير مأبية – والقسر القهر أي ان أخذت قسرا لم أزده إلا إباء ومن المعمرين معد يكرب الحميري من آل ذي رعين.. قال ابن سلام وقال معد يكرب الحميري وقد طال عمره أراني كلما أفنيت يوما أتاني بعده يوم جديد يعود بياضه في كل فجر ويأبى لي شبابي ما يعود ومن المعمرين الربيع بن ضبع الفزاري ويقال انه بقى الى أيام بني أمية وروى أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له يا ربيع أخبرني ما أدركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب الماضية فقال أنا الذي أقول ها انا ذا آمل الخلود وقد أدرك عقلي ومولدي حجرا فقال عبد الملك قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي قال وأنا القائل إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد ذهب اللذاذة والفتاء


[ 184 ]

قال قد رويت هذا من شعرك وأنا غلام وأبيك يا ربيع لقد طلبك جد غير عاثر ففصل لي عمرك قال عشت مائتي سنة في فترة عيسى وعشرين ومائة في الجاهلية وستين سنة في الاسلام.. قال أخبرني عن فتية من قريش متواطئ الأسماء قال سل عن أيهم شئت قال أخبرني عن عبد الله بن العباس قال فهم وعلم وإعطاء جذم ومقرى ضخم قال أخبرني عن عبد الله بن عمر قال حلم وطول كظم وبعد من ظلم قال فأخبرني عن عبد الله بن جعفر قال ريحانة طيب ريحها لين مسها قليل على المسلمين ضرها قال فاخبرني عن عبد الله بن الزبير قال جبل وعر ينحدر منه الصخر قال لله درك يا ربيع ما أعرفك بهم قال قرب جواري وكثر استخباري.. [ قال المرتضي ] رضي الله عنه ان كان هذا الخبر فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له انما كان في أيام غفلته لا في أيام ولايته لأن الربيع يقول في الخبر عشت في الاسلام ستين سنة وعبد الملك ولي في سنة خمس وستين من الهجرة فان كان صحيحا فلابد مما ذكرناه فقد روى أن الربيع أدرك أيام معاوية ويقال ان الربيع لما بلغ مائتي سنة قال ألا أبلغ بني بني ربيع فأشرار البنين لكم فداء بأني قد كبرت ودق عظمي فلا تشغلكم عني النساء فإن كنائني لنساء صدق وما آلا بني ولا أساؤا إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء وأما حين يذهب كل قر فسربال خفيف أو رداء إذ عاش الفتى مائتين (1) عاما فقد ذهب اللذاذة والفتاء


(1) قوله مائتين عاما كان الوجه حذف النون وخفض عام إلا أنها شبهت للضرورة بالعشرين ونحوها مما يثبت نونه وينصب ما بعده.. وصف في البيت هرمه وذهاب مروءته ولذته وروى أودى بدل ذهب بمعنى انقطع وهلك والفتاء مصدر الفتى وروى تسعين عاما ولا ضرورة فيه على هذا وهي رواية لا أصل لها يعلم من الأبيات ومن ترجمة صاحبها

[ 185 ]

وقال حين بلغ مائتين وأربعين سنة أصبح مني الشباب قد حسرا إن ند عني فقد ثوى عصرا ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من جماعنا وطرا ها أنا ذا آمل الخلود وقد أدرك عصرى ومولدي حجرا أبا امرئ القيس هل سمعت به هيهات هيهات طال ذا عمرا (1) اصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا من بعد ما قوة أسر بها أصبحت شيخا أعالج الكبرا قوله – عطاء جذم – أي سريع وكل شئ تسرعت فيه فقد جذمته وفي الحديث إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاجذم أي أسرع – والمقري – الاناء الذي يقري فيه.. وقوله – فما آلا بني ولا أساؤا – أي لم يقصروا والآلي المقصر (مجلس آخر 18) ومن المعمرين أبو الطمحان القيني واسمه حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين قال أبو حاتم عاش مائتي سنة فقال في ذلك حنتني حانيات الدهر حثى كأني خاتل يدنو لصيد قصير الخطو يسحب من رآني ولست مقيدا أني بقيد


وروى التخيل بدل اللذاذة والتخيل التكبر وعجب المرء بنفسه وروى بدله المسرة والمروءة أيضا والفتى الشاب وقد فتى بالكسر يفتي بالفتح فتى فهو فتى السن بين الفتاء (1) قوله طال ذا عمرا هو تعجب أي ما أطول هذا العمر(24 – أمالي)

[ 186 ]

ويروي قريب الخطو.. قال أبو حاتم حدثني عدة من أصحابنا أنهم سمعوا يونس بن حبيب ينشد هذين البيتين وينشد أيضا تقارب خطو رجلك يا سويد وقيدك الزمان بشر قيد وهو القائل وإنى من القوم الذين هم هم إذا مات منهم ميت قام صاحبه نجوم سماء كلما غاب كوكب بدى كوكب تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه وما زال منهم حين كان مسودا تسير المنايا حيث سارت ركائبه ومعنى البيتين الأولين يشبه قول أوس بن حجر (1) إذا مقرم منا ذرى حد نابه تخمط فينا ناب آخر مقرم ولطفيل الغنوي مثل هذا وهو كواكب دجن كلما انقض كوكب بدى وانجلت عنه الدجنة كوكب وقد أخذ الخزيمي هذا المعنى فقال إذا قمر منا تغور أو خبا بدا قمر في جانب الافق يلمع ومثل ذلك خلافة أهل الأرض فينا وراثة إذا مات منا سيد قام صاحبه ومثله إذا سيد منا مضي لسبيله أقام عمود الدين آخر سيد وكأن مزاحما العقيلي نظر الي قول أبي الطمحان


(1) – أوس بن حجر بفتحتين وليس في أسماء الأشخاص على هذا البناء غير هذا

[ 187 ]

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم في قوله وجوه لو ان المذلجين اعتشوا بها صدعن الدجى حتى ترى الليل ينجلي ويقارب ذلك قول حجية بن المضرب الكندي أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت لنورهم الشمس المضيئة والبدر وأنشد محمد بن يحيى الصولي في معنى بيتي أبي الطمحان من البيض الوجوه بني سنان لو أنك تستضئ بهم أضاءوا هم حلوا من الشرف المعلي ومن كرم العشيرة حيث شاءوا فلو أن السماء دنت لمجد ومكرمة دنت لهم السماء وأبو الطمحان القائل إذا كان في صدر ابن عمك إحنة فلا تستثرها سوف يبدو دفينها وهو القائل إذا شاء راعيها استقى من وقيعة كعين الغراب صفوها لم يكدر – والوقيعة – المستنقع في الصخرة للماء ويقال للماء إذا زل من صخرة فوقع في بطن أخرى ماء الوقائع وأنشد لذي الرمة ونلنا سقاطا من حديث كأنه جنا النحل ممزوجا بماء الوقائع ويقال للماء الذي يجري على الصخر ماء الحشرج وللماء الذي يجري بين الحصى والرمل ماء المفاصل وأنشدوا لأبي ذؤيب مطافيل أبكار حديث نتاجها تشاب بماء مثل ماء المفاصل وأنشد أبو محلم السعدي لأبي الطمحان بني إذا ما سامك الذل قاهر عزيز فبعض الذل أبقى وأحرز


[ 188 ]

ولا تحم من بعض الامور تعززا فقد يورد الذل الطويل التعزز وهذان البيتان يرويان لعبد الله بن معاوية الجعفري.. وروى لأبي الطمحان أيضا في مثل هذا المعنى يا رب مظلمة يوما لطيت بها تمضي على إذا ما غاب نصارى حتى إذا ما انجلت عني غيابتها وثبت فيها وثوب المخدر الضاري ومن المعمرين عبد المسيح بن بقيلة الغساني وهو عبد المسيح بن عمرو بن قيس ابن حيان بن بقيلة وبقيلة اسمه ثعلبة وقيل الحارث وانما سمي بقيلة لأنه خرج في بردين أخضرين على قومه فقالوا له ما أنت إلا بقيلة فسمي لذلك.. وذكر الكلبي وأبو مخنف وغيرهما انه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة وأدرك الاسلام فلم يسلم وكان نصرانيا وروى ان خالد بن الوليد لما نزل على الحيرة وتحصن منه أهلها أرسل إليهم ابعثوا الي رجلا من عقلائكم وذوي أنسابكم فبعثوا إليه بعبد المسيح بن بقيلة فأقبل يمشي حتى دنا من خالد فقال أنعم صباحا أيها الملك قال قد أغنانا الله عن تحيتك فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ قال من ظهر أبي قال فمن أين خرجت قال من بطن أمي قال فعلام أنت قال على الأرض قال ففيم أنت قال في ثيابي قال أتعقل لا عقلت قال أي والله وأقيد قال ابن كم أنت قال ابن رجل واحد قال خالد ما رأيت كاليوم قط إني أسأله عن الشى وينحو في غيره قال ما أجبتك إلا عما سألت فاسأل عما بدا لك قال أعرب أنتم أم نبط قال عرب استنبطنا ونبط استعربنا قال فحرب أنتم أم سلم قال بل سلم قال فما هذي الحصون قال بنيناها للسفيه نحذر منه حتى يجئ الحليم فينهاه قال كم أتى لك قال خمسون وثلاثمائة سنة قال فما أدركت قال أدركت سفن البحر في السماوة في هذا الجرف ورأيت المرأة تخرج من الحيرة وتضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفا حتى تأتي الشام ثم قد أصبحت خرابا يبابا وذلك دأب الله في العباد والبلاد قال ومعه سم ساعة يقلبه في كفه فقال له خالد ما هذا في كفك قال هذا السم قال ما تصنع به قال ان كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته وان كانت الأخرى لم أكن أول من


[ 189 ]

ساق إليهم ذلا وبلاء أشربه فأستريح من الدنيا فإنما بقى من عمري اليسير قال خالد هاته فأخذه ثم قال بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شئ فشربه فتجللته غشية ثم ضرب بذقنه في صدره طويلا ثم عرق فأفاق كأنما نشط من عقال فرجع ابن بقيلة الى قومه فقال جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم فان هذا أمر مصنوع لهم فصالحوهم على مائة ألف درهم وأنشأ يقول أبعد المنذرين أرى سواما يروح بالخورنق والسدير أبعد فوارس النعمان أرعى مراعي نهر مرة فالحفير تحاماه فوارس كل قوم مخافة ضيغم عالي الزئير فصرنا بعد هلك أبي قبيس كمثل الشاء في اليوم المطير يريد أبا قابوس فصغر ويروي كمثل المعز تقسمنا القبائل من معد علانية كأيسار الجزور نؤدي الخرج بعد خراج كسرى وخرج بني قريظة والنصير كذاك الدهر دولته سجال فيوم من مساة أو سرور ويروى ان عبد المسيح لما بني بالحيرة قصره المعروف بقصر بني بقيلة قال لقد بنيت للحدثان قصرا لو أن المرء تنفعه الحصون طويل الرأس أقعس مشمخرا لانواع الرياح به أنين ومما يروي لعبد المسيح بن بقيلة والناس أبناء علات فمن علموا أن قد أقل فمجفو ومحقور وهم بنون لام إن رأ وانشبا فذاك بالغيب محفوظ ومحقور وهذا يشبه قول أوس بن حجر بني أم ذي المال الكثير يرونه وإن كان عبدا سيد الام جحفلا


[ 190 ]

وهم لمقل المال أولاد علة وإن كان محضا في العمومة مخولا وذكر أن بعض المشايخ أهل الحيرة خرج الى ظهرها يختط ديرا فلما احتفر موضع الأساس وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت فدخله فإذا رجل على سرير من رخام وعند رأسه كتابة أنا عبد المسيح بن بقيلة حلبت الدهر أشطره حياتي ونلت من المنى فوق المزيد وكافحت الامور وكافحتني ولم أحفل بمعضلة كؤد وكذت أنال في الشرف الثريا ولكن لا سبيل إلى الخلود ومن المعمرين النابغة الجعدي واسمه قيس بن عبد (1) الله بن عدس بن ربيعة ابن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ويكني أبا ليلى.. وروى أبو حاتم السجستاني قال كان النابغة الجعدي أسن من النابغة الذبياني والدليل على ذلك قوله تذكرت والذكرى تهيج على الجوى ومن حاجة المحزون أن يتذكرا نداماي عند المنذر بن محرق أرى اليوم منهم ظاهر الارض أقفرا كهول وفتيان كان وجوههم دنانير مما شيف في أرض قيصرا فهذا يدل على أنه كان عند المنذر بن محرق والنابغة الذبياني كان مع النعمان بن المنذر ابن محرق.. قوله – شيف – يعني جلى والمشوف المجلو.. ويقال ان النابغة غبر ثلاثين سنة لا يتكلم ثم تكلم بالشعر ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة بأصبهان وكان ديوانه بها وهو الذي يقول فمن يك سائلا عني فإني من الفتيان أيام الخنان


(1) قوله اسمه قيس اختلف في اسمه فقيل قيس كما هنا وقيل عبد الله بن قيس وقيل حبان بن قيس بن عمرو بن عدس بن ربيعة وانما سمى النابغة لأنه قال الشعر في الجاهلية ثم أقام مدة نحو ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فيه فسمي النابغة

[ 191 ]

– أيام الخنان – أيام كانت للعرب قديمة هاج بها فيهم (1) مرض في أنوفهم وحلوقهم مضت مائة لعام ولدت فيه وعشر بعد ذاك وحجتان فأبقى الدهر والايام مني كما أبقى من السيف اليماني تفلل وهو مأثور جراز إذا اجتمعت بقائمه اليدان وقال أيضا في طول عمره لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا ثلاثة أهلين أفنيتهم وكان الإله هو المستآسا – المستآس – المستعاض.. وروى عن هشام بن محمد الكلبي انه عاش مائة وثمانين سنة.. وروى ابن دريد عن أبي حاتم في موضع آخر ان النابغة الجعدي عاش مائتي سنة وأدرك الاسلام وروى له قالت أمامة كم عمرت زمانة وذبحت من عتر على الاوثان – العتيرة – شاة تذبح لاصنامهم في رجب في الجاهلية ولقد شهدت عكاظ قبل محلها فيها كنت أعد ملفتيان والمنذر بن محرق في ملكه وشهدت يوم هجائن النعمان وعمرت حتى جاء أحمد بالهدي وقوارع تتلى من القرآن ولبست مل إسلام ثوبا واسعا من سيب لا حرم ولا منان وله أيضا في طول عمره المرء يهوى أن يعيش وطول عيش قد يضره


(1) قوله هاج بها فيهم.. الخ المعروف ان الخنان على وزن غراب زكام يأخذ الابل في مناخرها وتموت منه.. وقال الأصمعي كان الخنان داء يأخذ الابل في مناخرها وتموت منه وكانت أيام الخنان على عهد المنذر بن ماء السماء وكانوا يؤرخون بها

[ 192 ]

تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره وتتابع الأيام حتى لا يرى شيئا يسره كم شامت بي إن هلكت وقائل لله دره ويروي ان النابغة الجعدي يفتخر ويقول أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال عليه الصلاة والسلام أين المظهر يا أبا ليلى قلت الجنة يا رسول الله فقال أجل ان شاء الله ثم أنشدته فلا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورده الأمر أصدرا فقال عليه الصلاة والسلام لا يفضض الله فاك.. وفي رواية أخرى لا يفضض فوك فيقال ان النابغة عاش عشرين ومائة سنة لم يسقط له سن ولا ضرس وفي رواية أخرى قال فرأيته وقد بلغ الثمانين ترف غروبه وكان كلما سقطت له ثنية تنبت له أخرى مكانها وهو أحسن الناس ثغرا – ترف – معنى تبرق وكأن الماء يقطر منها.. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه ومما يشاكل قول الجنة في جواب قول النبي صلى الله عليه وسلم أين المظهر يا أبا ليلى وان كان يتمضمض العكس من معناه ما روي من دخول الأخطل على عبد الملك بن مروان مستغيثا من فعل الجحاف السلمي وانه أنشده لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة إلى الله منها المشتكى والمعول فإن لم تغيرها قريش بمثلها يكن عن قريش مستماز ومزحل (1)


(1) قوله يكن عن قريش الخ سبب هذين البيتين ان بني تغلب رهط الأخطل قتلوا عمير بن الحباب السلمي فاتفق ان قدم الأخطل على عبد الملك بن مروان والجحاف ابن حكيم السلمي جالس عنده فأنشده ألا سائل الجحاف هل هو ثائر بقتلى أصيبت من سليم وعامر فخرج الجحاف مغضبا يجر مطرفه فقال عبد الملك للأخطل ويحك أغضبته وأخلق

[ 193 ]

فقال عبد الملك الى أين يا ابن اللخناء فقال الى النار فقال لو قلت غيرها قطعت لسانك.. فقوله الى النار تخلص حسن على البديهة كما تخلص الجعدي بقوله الى الجنة وأول قصيدة الجعدي الذي ذكرنا منها الأبيات خليلي غضا ساعة وتهجرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا ولا تسألا إن الحياة قصيرة فطيرا لروعات الحوادث أو قرا وإن كان أمر لا تطيقان دفعه فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل إذا ما الشئ ولى وأدبرا لوى الله علم الغيب عن ما سواءه ويعلم منه ما مضى وتأخرا وفيها يقول وجاهدت حتى ماحس ومن معي سهيلا إذا ما لاح ثم تغورا


ان يجلب عليك وعلى قومك شرا فكتب الجحاف عهدا لنفسه من عبد الملك ودعا قومه للخروج معه فلما حصل بالبشر قال لقومه قصتي كذا فقاتلوا عن أحسابكم أو موتوا فأغاروا على بني تغلب بالبشر وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ثم قال الجحاف يجيب الأخطل أبا مالك هل لمتنى إذ حضضتني على الثأر أم هل لامني فيك لائمي متى تدعني أخرى أجبك بمثلها وأنت امرؤ بالحق لست بقائم فقدم الأخطل على عبد الملك فأنشده لقد أوقع الجحاف البيتين.. وروي من غير هذا الوجه ان عبد الملك دخل عليه الجحاف بن حكيم السلمي فقال عبد الملك أتعرف هذا يا أخطل قال ومن هو قال الجحاف فقال الأخطل ألا سائل الجحاف البيتين حتى فرغ من القصيدة وكان الجحاف يأكل رطبا فجعل النوى يتساقط من يده غيظا فأجابه فقال بلى سوف نبكيهم بكل مهند ونبكي عميرا بالرماح الشواجر ثم قال يا ابن النصرانية ما ظننتك تجترئ على بمثل هذا ولو كنت مأسورا لك فحم الأخطل خوفا فقال عبد الملك أنا جار لك منه فقال يا أمير المؤمنين هبك أجرتني(25 – أمالي)

[ 194 ]

يريد إني كنت بالشام وسهيل لا يكاد يرى هناك وهذا بيت معين وفيها يقول ونحن أناس لا نعود خيلنا إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا وننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الطعن حتى نحسب الجون أحمرا وليس بمعروف لنا أن نردها صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا أخبرنا المرزباني قال أنشدنا علي بن سيلمان الأخفش قال أنشدنا أحمد بن يحيى قال أنشدنا محمد بن سلام وغيره للنابغة الجعدي تلوم علي هلك البعير ظعينتي وكنت على لوم العواذل زاريا ألم تعلمي أني رزئت محاربا فمالك منه اليوم شيئا ولا ليا ومن قبله ما قد رزئت بوحوح وكان ابن أمي والخليل المصافيا فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد فما يبقي من المال باقيا


منه في اليقظة فمن يجيرني منه في النوم ثم قام الجحاف ومشى يجر ثوبه وهو لا يعقل حتى دخل بيتا الديوان فقال للكاتب اعطني طومارا من طوامير العهود فأتاه بطومار وليس فيه كتاب فخرج الى أصحابه من القيسية فقال ان أمير المؤمنين ولاني صدقات بكر وتغلب فلحقه زهاء ألف فارس فسار حتى أتى الرصافة ثم قال لمن معه ان الأخطل قد أسمعني ما علمتم ولست بوال فمن أحب أن يغسل عنه العار فليصحبني فاني قد آليت ان لا أغسل رأسي حتى أوقع ببني تغلب فرجعوا غير ثلاثمائة فسار ليلته فصبح الرحوب وهو ماء لبني جشم بن بكر رهط الأخطل فصادف عليه جماعة كثيرة من تغلب فقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ الأخطل وعليه عباءة وسخة فظنوه عبدا وسئل فقال أنا عبد فخلوا سبيله فخشى أن يراه من يعرفه فرمي بنفسه في جب فلم يزل فيه حتى انصرفت القيسية فنجا وقتل أبوه غوث وأسرف الجحاف في القتل وشق البطون عن الأجنة وفعل أمرا عظيما فقدم الأخطل على عبد الملك وأنشده لقد أوقع الجحاف الخ

[ 195 ]

فتي كان فيه ما يسر صديقه علي أن فيه ما يسوء الأعاديا ويروي فتى تم فيه ما يسر أشم طويل الساعدين سميدع إذا لم يرح للمجدأ صبح غاديا – السميدع – السيد.. ومما يروي له أيضا عقيلية أو من هلال بن عامر بذي الرمث من وادي المياه خيامها إذا ابتسمت في الليل والليل دونها أضاء دجى الليل البهيم ابتسامها وذكر الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال سئل الفرزدق بن غالب عن الجعدي فقال صاحب الخلقان يكون عنده خمار فواف بألف دينار ومطرف بدينار.. قال الأصمعي وصدق الفرزدق بينا النابغة في كلام أسهل من الزلال وأشد من الصخر إذ لان فذهب ثم أنشد له سمالك هم ولم تطرب وبت ببث ولم تنصب وقالت سليمي أرى رأسه كناصية الفرس الأشهب وذلك من دفعات المنون ففيئي اليك ولا تعجبي أتين علي إخوة سبعة وعدن علي ربع الأقرب ثم يقول بعدها فأدخلك الله برد الجنا ن جذلان في مدخل طيب فلان كلامه حتى لو ان أبا الشمقمق قال هذا كان رديا ضعيفا.. قال الأصمعي وطريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان ألا ترى الى حسان بن ثابت كان علية في الجاهلية والاسلام فلما أدخل شعره في باب الخير من مراثي النبي عليه الصلاة والسلام وحمزة وجعفر وغيره لان شعره


[ 196 ]

(مجلس آخر 19) مسألة تتعلق بما ذكرناه ان سأل سائل فقال كيف يصح ما أوردتموه من تطاول الأعمار وامتدادها وقد علمتم ان كثيرا من الناس ينكر ذلك ويحيله ويقول انه لا قدرة عليه ولا سبيل إليه وفيهم من ينزل من انكاره درجة فيقول انه وان كان جائزا من طريق القدرة والامكان فانه مما يقطع على انتفائه لكونه خارقا للعادات وان العادات إذا وثق الدليل بأنها لا تنخرق إلا على سبيل الابانه والدلالة على صدق نبي من الأنبياء علم ان جميع ما روي من زيادة الأعمار على العادة باطل مصنوع لا يلتفت الى مثله. الجواب قيل له أما من أبطل تطاول الأعمار من حيث الإحالة وأخرجه من باب الامكان فقوله ظاهر الفساد لانه لو علم ما العمر في الحقيقة وما المقتضي لدوامه إذا دام وانقطاعه إذا انقطع علم من جواز امتداده ما علمنا والعمر هو استمرار كون من يجوز أن يكون حيا وغير حي حيا وان شئت ان تقول هو استمرار الحي الذي لكونه على هذه الصفات ابتداء حيا وانما شرطنا الاستمرار لانه يتعذر ان يوصف من كان حالة واحدة حيا بان له عمرا بل لابد من أن يراعوا في ذلك ضربا من الامتداد والاستمرار وان قل وشرطنا أن يكون ممن يجوز أن يكون غير حي أو يكون لكونه حيا ابتداء لئلا يلزم عليه القديم تعالى لانه تعالى جلت عظمته ممن لا يوصف بالعمر وان استمر كونه حيا وقد علمنا ان المختص بفعل الحياة هو القديم تعالى وفيما تحتاج إليه الحياة من البنية والمعاني ما يختص به عز وجل ولا يدخل إلا تحت مقدوره كالرطوبة وما يجري مجراها فمتى فعل القديم تعالى الحياة وما يحتاج إليه من البنية وهي مما يجوز عليه البقاء وكذلك ما تحتاج إليه فليست تنتفي إلا بضد يطرأ عليها أو بضد ينفي ما يحتاج إليه والأقوى أنه لا ضد لها في الحقيقة وانما ادعى قوم بانه ما يحتاج إليه ولو كان للحياة على الحقيقة لم تحل بما قصدناه في هذا الباب فمهما لم يفعل القديم تعالى ضدها أو ضد ما تحتاج إليه ولا نقض منا ناقض بنية الحي استمر كون الحي حيا ولو كانت الحياة لا تبقى على مذهب من رأى ذلك لكان ما قصدناه صحيحا لانه تعالى قادر على أن يفعلها حالا فحالا ويوالي


[ 197 ]

بين فعلها وفعل ما تحتاج إليه فيستمر كون الحي حيا فأما ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان وعلو السن وتناقض بنية الانسان فليس مما لابد منه وانما جرى الله تعالى العادة بان يفعل ذلك عند تطاول الزمان ولا إيجاب هناك ولا تأثير للزمان على وجه من الوجوه وهو تعالى قادر على أن يفعل ما أجرى العادة بفعله إذا ثبتت هذه الجملة ثبت ان تطاول العمر ممكن غير مستحيل وانما اتي من أحال ذلك من حيث اعتقد ان استمرار كون الحي حيا موجب على طبيعة وقوة لهما مبلغ من المادة متى انتهت إليه انقطعتا واستحال أن تدوما ولو أضافوا ذلك الي فاعل مختار متصرف لخرج عندهم من باب الإحالة.. فأما الكلام في دخول ذلك في العادة وخروجه عنها فلا شك في ان العادة قد جرت في الأعمار بأقدار متفاوتة تعد الزيادة عليها خارقة للعادة إلا أنه قد ثبت ان العادة قد تختلف في الأوقات وفي الأماكن أيضا ويجب أن يراعى في العادة اضافتها إلى من هي عادة له في المكان والوقت وليس يمتنع أن يقل ما كانت العادة جارية به على تدريج حتى يصير حدوثه خارقا للعادة بغير خلاف وأن يكثر الخارق للعادة حتى يصير حدوثه غير خارق لها على خلاف فيه وإذا صح ذلك لم يمتنع أن تكون العادات في الزمان الغابر كانت جارية بتطاول الأعمار وامتدادها ثم تناقص ذلك على تدريج ثم صارت عادتنا الآن جارية بخلافه وصار ما بلغ مبلغ تلك الأعمار خارقا للعادة وهذه جملة فيما أردناه كافيه (باب في الجوابات الحاضرة المستحسنة التي تسميها قوم المسكتة) اعلم ان أجوبة المحاورة والمناظرة انما تستحسن وتؤثر إذا جمعت مع الصواب سرعة الحضور فكم من جواب أتى بعد لأي وبعد تقاعس لم يكن له في النفوس موقع ولا حل من القلوب محل الحاضر السريع وان كان المتثاقل أعرق في نسب الاصابة وآخذ بأطراف الحجة ولهذا قيل أحسن الناس جوابا وأحضرهم قريش ثم العرب وان الموالي تأتي أجوبتها بعد فكرة وروية.. وقد مدح الجواب الحاضر بكل لسان فقال صحار العبدي لمعاوية بن أبي سفيان وقد سأله عن البلاغة فقال أن يصيب فلا يخطئ ويسرع


[ 198 ]

فلا يبطئ ثم اختصر ذلك فقال لا يخطئ ولا يبطئ.. ولطول الفكرة والاعراق في الروية مذهب وأوان لا يحمد فيها التسرع والتعجل كما لا يحمد في أوان السرعة التثاقل والتأيد وانما تحمد السرعة في أجوبة المحاورة والمناظرة وتراد الفكرة والروية للآراء المستخرجة والأمور المستنبطة التي على الانسان فيها مهلة وله في تأملها فسحة ولا عيب عليه معها في اطالة التأمل واعادة التصفح ولهذا قال الأحنف بصفين أغبوا الرأي فان ذلك يكشف لكم عن محضه.. وقال عبد الله بن وهب الراسبي لما أراده الخوارج على الكلام حين عقدوا له لاخير في الرأي الفطير والكلام القضيب.. وشوور ابن التؤام الرقاشى فأمسك عن الجواب وقال ما أحب الخبز إلا بائتا.. فأما قولهم ثلاث يعرفن في الأحمق سرعة الجواب وكثرة الالتفات والثقة بكل أحد فمحمول على اسراعه بالجواب عند الرأي والمشاورة والأحوال التي يستحب فيها التأيد والتثبت أو على الاسراع من غير تحصيل ولا ضبط وذلك مذموم لا إشكال فيه ثم نعود الى ما قصدناه.. روي ان بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألته متى يعرف الانسان ربه فقال إذا عرف نفسه.. وقال له عليه الصلاة والسلام رجل إني أكره الموت فقال ألك مال قال نعم قال قدم مالك فان قلب كل امرء عند ماله.. وقال يهودي لأمير المؤمنين عليه السلام ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه فقال عليه السلام انما اختلفنا عنه لا فيه ولكنكم ما جفت أقدا مك من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال انكم قوم تجلهون.. وروى أنه عليه السلام لما فرغ من دفن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن خبر السقيفة فقيل له إن الانصار قالت منا أمير ومنكم أمير فقال عليه السلام فهل لا ذكرت الأنصار قول النبي صلى الله عليه وسلم نقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم فكيف يكون الأمر فيهم والوصاة بهم.. وقال له عليه السلام ابن الكواء يا أمير المؤمنين كم بين السماء والأرض قال دعوة مستجابة.. وقيل له ما طعم الماء فقال طعم الحياة.. وقيل له كم بين المشرق والمغرب قال مسير يوم للشمس.. وأثنى عليه رجل وكان متهما فقال أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك. وكان عليه السلام إذا طراه رجل قال اللهم انك أعلم بي منه وأنا أعلم منه بنفسي فاغفر لي ما لا يعلم.. أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني


[ 199 ]

عبد الواحد بن محمد الحصيني قال حدثني أبو علي أحمد بن اسماعيل قال حدثني أيوب ابن الحسين الهاشمي قال قدم على الرشيد رجل من الأنصار يقال له نفيع وكان عريضا قال فحضر باب الرشيد يوما ومعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وحضر موسى بن جعفر عليه السلام على حمار له فتلقاه الحاجب بالبشر والاكرام وأعظمه من كان هناك وعجل له الاذن فقال نفيع لعبد العزيز من هذا الشيخ قال أو ما تعرفه قال لا قال هذا شيخ آل أبي طالب هذا موسى بن جعفر فقال ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير إما لئن خرج لأسوأنه فقال له عبد العزيز لا تفعل فان هؤلاء أهل بيت قل ما تعرض لهم أحد في خطاب إلا وسموه بالجواب سمة يبقى عارها عليه مدى الدهر قال فخرج موسى بن جعفر عليه السلام فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ثم قال له من أنت قال يا هذا ان كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب الله بن اسماعيل ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله وان كنت تريد البلد فهو الذي فرض الله على المسليمن وعليك ان كنت منهم الحج إليه وان كنت تريد المفاخرة فو الله ما رضى مشركوا قومي مسلمي قومك أكفاء لهم حتى قالوا يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش وان كنت تريد الصيت والاسم فنحن الذين أمر الله تعالى بالصلاة علينا في الصلواة الفرائض بقول اللهم صل على محمد وآل محمد ونحن آل محمد خل عن الحمار قال فخلى عنه ويده ترتعد وانصرف بخزي فقال له عبد العزيز ألم أقل لك.. ويقال ان معاوية استشار الأخنف بن قيس في عقد البيعة لابنه يزيد فقال له أنت أعلم بليله ونهاره.. وقال أحمد بن يوسف لأبي يعقوب الخزيمي مدحك لمحمد بن منصور أجود من مراثيك فيه فقال كنا نعمل للرجاء واليوم للوفاء وبينهما بون.. ودخل مطيع بن إياس على الهادي في حياة المهدي فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقيل له مه فقال بعد أمير المؤمنين.. وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب وكان جيد الجواب حاضره فقال أنا خير لك من أخيك فقال عقيل ان أخي آثر دينه على دنياه وأنك آثرت دنياك على دينك فأخي خير لنفسه منك وأنت خير لي منه.. وقال له يوما ان فيكم لشبقا يا بني هاشم فقال هو منا في الرجال ومنكم في النساء.. وقال له


[ 200 ]

يوما وقد دخل عليه هذا عقيل عمه أبو لهب فقال عقيل هذا معاوية عمته حمالة الحطب وعمة معاوية أم جميل بنت حرب بن أمية وكانت امرأة أبي لهب.. وقال له يوما يا أبا يزيد أين ترى عمك أبا لهب فقال له عقيل إذا دخلت النار فانظر عن يسارك تجده مفترشا عمتك فانظر أيهما أسوأ حالا الناكح أم المنكوح.. وقال له ليلة الهرير بصفين يا أبا يزيد أنت معنا الليلة قال ويوم بدر كنت معكم.. وقيل لسعيد بن المسيب وقد كف ألا تقدح عينك قال حتى أفتحها على من.. ودخل معن بن زائدة على المنصور فقال له كبرت يا معن قال في طاعتك قال وانك لتتجلد قال على أعدائك قال وان فيك لبقية قال هي لك.. وقال عبيد الله بن زياد لمسلم بن عقيل والله لأقتلنك قتلة يتحدث بها بعدك فقال مسلم أشهد أنك لا تدع سوء القتلة ولؤم المقدرة لأولى بهما منك.. وقال رجل لعمرو بن العاص لأتفرغن لك قال إذا وقعت في الشغل.. وقال معاويه لعمرو ابن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق الى من أوصى بك أبوك فقال ان أبي اوصى الي ولم يوص بي.. وقال عبيد الله بن زياد بن ظبيان لابنه وقد حضرته الوفاة قد أوصيت بك فلانا فالفه بعدي فقال يا أبت إذا لم يكن للحي الا وصية الميت فالحي هو الميت.. وقال الوليد بن يزيد لابن الرقاع العاملي أنشدني بعض قولك في الخمر فأنشده كميت إذا شجت وفي الكأس وردة لها في عظام الشاربين دبيب فقال له شربتها ورب الكعبة فقال ابن الرقاع لئن كان نعتي لها بذلك رأبك لقد رابني معرفتك بها.. ولما أتى معاوية نعي الحسن بن علي عليهما السلام بعث الى ابن عباس وهو لا يعلم الخبر فقال ما جاءك خبر من المدينة قال لا قال أتانا نعي الحسن وأظهر سرورا فقال ابن عباس إذا لا تنسأ ولا يسد حفرتك قال احسبه قد ترك صبية صغارا قال كلنا كان صغيرا وكبر قال وأحسبه قد بلغ سنا قال مثل مولده لا يجهل قال معاوية وقال قائل انك أصبحت سيد قومك قال أما وأبو عبد الله الحسين بن علي حي فلا فلما كان من غدأتى يزيد بن معاوية ابن عباس وهو في المسجد يعزي فجلس بين يديه جلسة المعزي وأظهر حزنا وغما فلما انصرف اتبعه ابن عباس بصره وقال إذا ذهب آل حرب


[ 201 ]

ذهب حلم قريش.. وروى ان وفودا دخلت على عمر بن عبد العزيز فأراد فتى منهم الكلام فقال عمر ليتكلم أكبركم فقال الفتى ان قريشا لترى فيها من هو أسن منك فقال له تكلم يا فتى.. وروى محمد بن سلام الجمحي قال أنشد كثير عبد الملك بن مروان شعرا على ابن أبي العاص دلاص حصينة أجاد المسدي نسجها فأذالها فقال له هلا قلت كما قال الأعشى وإذا تكون كتبية ملمومة شهباء يخشي الذائدون نهالها كنت المقدم غير لابس جنة بالسيف تضرب معلما أبطالها فقال له انه وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم.. ويشبه ذلك ما روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لقى ذا الرمة فقال أنشدني قصيدتك ما بال عينك منها الدمع ينسكب كأنه من كلى مفربة سرب فأنشده إياها فلما بلغ الى قوله تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب فقال له عمرو بن العلاء قول الراعي أحسن مما قلت تراها إذا قام في غرزها كمثل السفينة أو أوقر ولا تعجل المرء عند النزو ل وهن بركبته أبصر فقال ذو الرمة ان الراعي وصف ناقة ملك وأنا وصفت ناقة سوقة.. وحكى الصولي انه سمع ذا الرمة ينشد بيته الذي حكيناه فقال سقط والله الرجل فأما الغرز فهو للناقة مثل الركاب للدابة وهو نسع مضفور.. وقوله – تصغي – يريد تميل رأسها كأنها تسمع ليست بنفور بل مؤدبة مقومة – والكور – الرحل.. وقد اخذ هذا المعنى أبو نواس فأحسن نهاية الاحسان فقال يصف الناقة في مدحه للخصيب بن عبد الحميد (26 – أمالي)


[ 202 ]

فكأنها مصغ لتسمعه بعض الحديث بإذنه وقر فلم يرض بان وصفها بالاصغاء حتى وصفها بالوقر وهو الثقل في الاذن لان الثقيل السمع يكون اصغاؤه وميله الى جهة الحديث أشد واكثر.. [ قال المرتضى ] رضي الله عنه واني لأستحسن القصيدة التي من جملتها البيت الذي أوردناه لأبي نواس لانها دون العشرين بيتا وقد نسب في أولها ثم وصف الناقة بأحسن وصف ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه حاجته كل ذلك بطبع يتدفق ورونق يترقرق وسهولة مع جزالة والقصيدة يا منة امتنها السكر ما ينقضي مني لها الشكر أعطتك فوق مناك من قبل قد كن قبل مرامها وعر يثني اليك بها سوالفه رشأ صناعة عينه السحر ظلت حميا الكأس تنشطنا حتى تهتك بيننا الستر في مجلس ضحك السرور به عن ناجذيه وحلت الخمر.. أما قوله – حلت الخمر – فيحتمل أن يريد به انما وصفه من طيب الموضع وتكامل السرور به وحضور المأمول فيه صار مقتضيا لشرب الخمر وملجئا الى تناولها ورافعا للحرج فيها على مذهب الشعراء في المبالغة ويكون فائدة وصفها بانها حلت المبالغة في وصف الحال بالحسن والطيب.. ويحتمل أن يكون عقد على نفسه وآلى ألا يتناول الخمر إلا بعد الاجتماع مع محبوبه وكان الاجتماع معه مخرجا عن يمينه على مذهب العرب في تحريم الخمر على نفوسهم الى أن يأخذوا بثأرهم ويجري ذلك مجرى قول الشنفرى حلت الخمر وكانت حراما وبلاي ما ألمت تحل (1)


(1) نسبة القصيدة التي منها هذا البيت الى الشنفري وانه رثى بها خاله تأبط شرا غير صحيحة لأن الشنفري مات قبل تأبط شرا ورثاه تأبط شرا بأبيات مشهورة وممن رواها أبو الفرج الأصبهاني وابن الانباري وأولها

[ 203 ]

.. ويحتمل ان يريد بحلت نزلت وأقامت من الحلول الذي هو المقام لا من الحلال فكأنه وصف بلوغ جميع آرابه وحضور فنون لذاته وانها تكاملت بحلول الخمر التي فيها جميع اللذات وهذا الوجه وان لم يشر إليه أحد ممن تقدم في تفسير هذا البيت فالقول يحتمله ولا مانع من أن يكون مرادا وقد قيل انه أراد أستحللنا الخمر لسكرنا وفقدنا العقول التي كنا نمتنع لها من الحرام والوجوه المقدمة أشبه وأقرب الى الصواب والله أعلم ولقد تجوب بي الفلاة إذا صار النهار وقالت العفر أراد – بصام – وقف وذلك وصف له بالامتداد والطول – والعفر – الظباء اللواتي في ألوانها حمرة يخالطها كدرة – وقالت – من القائلة وهي وقت نصف النهار لا من القول شدنية رعت الحما فأتت ملء الحبال كأنها قصر – الشدنية – من الابل منسوبة الى شدن موضع باليمن يقال لملكه ذو شدن تثني علي الحاذين ذا خصل تعماله الشذران والخطر – الحاذ – مؤخر الفخذ – والشذران – رفع الناقة ذنبها من المرح – والخطران – معروف من خطر يخطر – وتعماله – أي عمله أما إذا رفعته شامذة فتقول رنق فوقها نسر يعني – بشامذة – أي مبالغة في رفع ذنبها ويقال – رنق – الطائر إذا نشر جناحيه طائرا من غير تحريك أما إذا وضعته خافضة فتقول أرخى دونها ستر وتسف أحيانا فتحسبها مترسما يقتاده إثر معنى – تسف – أي تدني رأسها من الأرض – والمترسم – متتبع الرسم ومتأمله ومعنى – يقتاده – أي هو معنى بطلب الأثر وموكل بتتبعه.. ويقال أثر وأثر وإثر ثلاث لغات


على الشنفري صوب الغمام ورائح غزير الكلى وصيب الماء باكر ولأن تأبط شرا ليس بخال للشنفري

[ 204 ]

وقد وهم الصولي في تفسير هذا البيت لأنه قال ان أبا نواس جمع الأثر آثارا ثم جمع الآثار أثرا ثم خفف فقال إثر وليس يحتاج الى ما ذكره مع ما أوردناه وانما ذهب عليه أنه يقال في الأثر إثر فإذا قصرت لها الزمام سما فوق المقادم ملطم حر فكأنها مصغ لتسمعه بعض الحديث بأذنه وقر تبري لانقاض أضر بها جذب البري فخدودها صفر معنى – تبري – تنبري أي تعرض لهذه الانقاض – والانقاض – جميع نقض وهو البعير الذي قد أهزله السفر والكد – والبري – جمع برة وهي الحلقة التي تكون في أنف البعير يذلل فيها يرمي اليك بها بنو أمل عتبوا فأعتبهم بك الدهر أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا فكلاكما بحر لا تقعدا بي عند مدى أملي شيئا فما لكما به عذر ويحق لي إذ صرت بينكما أن لا يحل بساحتي فقر (مجلس آخر 20) ثم نعود الى ما كنا آخذين فيه من ذكر مستحسن الجوابات.. روى أن رجلا نظر الى كثير الشاعر وهو راكب وأبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام يمشي فقيل له أتركب وأبو جعفر يمشي فقال هو أمرنى بذلك وأنا بطاعته في الركوب أفضل مني في عصياني إياه بالمشي.. وروى ان دعاة خراسان صاروا الى أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقالوا له أردنا ولد محمد بن علي فقال أولئك بالسراة ولست بصاحبكم فقالوا لو


[ 205 ]

أراد الله بنا خيرا كنت صاحبنا فقال المنصور بعد ذلك لأبي عبد الله اردت الخروج علينا فقال نحن ندل عليكم في دولة غيركم فكيف نخرج عليكم في دولتكم.. وقال عبد الملك بن مروان لنصيب هل لك في الشراب فقال له نصيب الشعر مفلفل واللون مرمد وانما قربني اليك عقلي فهبه لي.. وقال مروان بن محمد الملقب بالحمار لحاجبه وقد ولي منهزما كر عليهم بالسيف فقال لا طاقة لي بذلك فقال والله لئن لم تفعل لأسوءنك فقال وددت انك تقدر على ذلك.. وقال يحيى بن خالد لشريك علمنا مما علمك الله يا أبا عبد الله فقال له شريك إذا عملتم بما تعلمون علمناكم ما تجهلون.. وقال المأمون لمحمد بن عمران بلغني انك بخيل فقال ما أجمد في حق ولا أذوب في باطل.. وقيل لأبي دؤاد الايادي ونظر الى بنته تسوس فرسه أهنتها يا أبا دؤاد فقال أهنتها بكرامتي كما أكرمتها بهواني.. ومثل ذلك قول اعرابي لحقه ذل على باب السلطان أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولن تكرم النفس التي لا تهينها ودخل عمارة بن حمزة على المنصور فجلس مجلسه الذي كان يجلس فيه فقام رجل فقال مظلوم يا أمير المؤمنين فقال من ظلمك فقال عمارة غصبني ضيعتي فقال المنصور قم يا عمارة فاقعد مع خصمك فقال عمارة ما هو لي بخصم فقال له كيف قال ان كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها وان كانت لي فهي له ولا أقوم من مجلس شرفني به أمير المؤمنين لأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة.. وقال هشام بن عبد الملك لرجل في الكعبة سلني حاجتك فقال لا أسأل في بيت الله غير الله.. وهرب سليمان بن عبد الملك من الطاعون فقيل له ان الله تعالى يقول (قل لن ينفعكم الفرار ان فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) فقال ذلك القليل نطلب.. وقيل ان الجعد بن درهم جعل في قارورة ترابا وماء فاستحال دودا وهوام وقال لأصحابه إني خلقت ذلك لاني كنت سبب كونه فبلغ ذلك جعفر بن محمد عليه السلام فقال ليقل كم هو وكم الذكران منه والأناث ان كان خلقه وكم وزن كل واحدة منهن وليأمر التي تسعي الى هذا الوجه أن ترجع الى غيره فانطلق وهرب.. وقال المأمون للفضل بن سهل إني أخاف عليك أقواما يعادونك فلا تركب الى إلا في جيش فقال الفضل ما أخاف غيرك فان أمنتني


[ 206 ]

من نفسك لم يضرني انسان.. وقيل لأبي ثور ما تقول في حماد بن زيد بن درهم وحماد ابن سلمة بن دينار فقال بينهما في العلم كقيمة ما بين أبويهما من الصرف.. وأراد المأمون تقبيل السواد وجلس يناظر العمال على ذلك فقام إليه رجل من الدهاقين فقال يا أمير المؤمنين ان الله ولاك علينا بالأمانة فلا تقبلنا فأضرب عن ذلك.. وقال رجل لابن عباس زوجني فلانة وكانت يتيمة في حجره فقال لا أرضاها لك لانها تتشرف فقال الرجل قد رضيت أنا فقال ابن عباس الآن لا أرضاك لها.. ويشبه هذا الخبر من وجه ما رواه المدائني قال أرسل عمر بن عبد العزيز رجلا من أهل الشام وأمره أن يجمع بين إياس بن معاوية المري وبين القاسم بن ربيعة الجوشني من بني عبد الله ابن غطفان فيولي القضاء أنفذهما فقدم الرجل البصرة فجمع بينهما فقال إياس للشامي أيها الرجل سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن وابن سيرين فمن أشارا عليك بتوليته فوله وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين ولم يكن إياس يأتيهما فعلم القاسم انه ان سألهما أشارا به فقال للشامي لا تسأل عني ولا عنه فو الذى لا إله إلا هو ان إياسا أفضل مني وأفقه وأعلم بالقضاء فان كنت عندك ممن يصدق انه لينبغي أن تقبل مني وان كنت كاذبا فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب فقال إياس للشامي انك جئت برجل فأقمته على شفير جهنم فافتدى نفسه من النار أن تقذفه فيها بيمين حلفها كذب فيها يستغفر الله منها وينجو مما يخاف فقال الشامي أما إذ فطنت لهذا فاني أوليك فاستقضاه (1).. ولما أمضى معاوية بيعة ولده يزيد جعل الناس يقرظونه فقال يزيد لأبيه ما ندري


(1) قوله فاستقضاه وفي غير الأصل بعد ان استقضاه فلم يزل على القضاء مدة ثم هرب ولما ولي القضاء دخل عليه الحسن البصري فبكى إياس وقال يا أبا سعيد بلغني ان القضاة ثلاثة رجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة فقال الحسن ان فيما قضى الله تعالى في النبي داود ما يرد قول مولاي ثم قرأ قوله تعالى (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) فحمد سليمان ولم يذم داود

[ 207 ]

أنخدع الناس أم يخدعوننا فقال يا بني من خدعته فتخادع لك ليخدعك فقد خدعته.. وسمع عبد الملك بن مروان ليلة قبض وهو يجود بنفسه وقد سمع صوت قصار يقول ياليتني كنت غسالا أعيش بما أكسب يوما بيوم فبلغ ذلك أبا حازم فقال الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه.. وقال الواثق للجاحظ يا مانوي فقال لو كان الذي أضفتني إليه عبدك ما قدرت على بيعه لكثرة عيوبه فكيف أكون على دينه.. وقال ابن عباس للخوارج وقد أرسله أمير المؤمنين إليهم نشدتكم الله أيما أعلم بالتأويل والتنزيل علي أم أنتم فقالوا علي فقال أليس تدرون لعل الذي حكم به فيكم بفضل علمه على مالا تعلمون فرجع أكثرهم.. وقال عتيبة بن أبي سفيان لعبد الله بن عباس ما منع علي بن أبي طالب أن يجعلك أحد الحكمين فقال أما والله لو بعثني لاعترضت مدارج أنفاسه أطير إذا أسف (1) وأسف إذا طار ولعقدت له عقدا لا تنتقض مريرته ولا يدرك طرفاه ولكنه سبق قدر ومضى أجل والآخرة خير لأمير المؤمنين من الدنيا.. وقال أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام لكثير أمتدحت عبد الملك بن مروان فقال له لم أقل له يا امام الهدى انما قلت يا شجاع والشجاع حية ويا أسد والأسد كلب ويا غيث والغيث موات فتبسم أبو جعفر عليه السلام.. وقالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها يحيي بن طلحة ما رأيت ألأم من أصحابك إذا أيسرت لزموك وإذا أعسرت تركوك فقال هذا من كرمهم يأتوننا في حال القوة منا عليهم ويفارقوننا في حال الضعف منا عنهم.. وقيل لابراهيم النخعي متى جئت قال حيث احتيج الي.. ورؤي رجل يصلي صلاة خفيفة فقال له ما هذه الصلاة فقال صلاة ليس فيها رياء.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال تزعم الرواة ان قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى الى أثاث لم ير مثله والآت لم يسمع بمثلها فأراد أن يرى الناس عظم ما فتح ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور يرتقي إليها بسلاليم وإذا الحصين بن المنذر بن الحارث


(1) قوله أطير إذ أسف يقال أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه وقيل طار على الارض دانيا منها حتى كادت رجلاه يصلانه

[ 208 ]

ابن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم والحصين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم أخو قتيبة قال لقتيبة أتأذن لي في معاتبته قال لا ترده فانه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له وكان عبد الله يضعف وكان قد تسور حائطا الى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحصين وقال أمن الباب دخلت يا أبا ساسان فقال أجل أسن عمك عن تسور الحيطان قال رأيت هذه القدور قال هي أعظم من أن لا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل ولا عيلان ولو رآها سمي شعبان ولم يسم عيلان فقال له يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل تجر خصاها تبتغي من تحالف قال أعرفه وأعرف الذي يقول وخيبة من يخيب علي غني وباهلة بن يعصر والرباب قال أفتعرف الذي يقول كأن فقاح الأزد حول بن مسمع وقد عرقت أفواه بكر بن وائل قال أعرفه وأعرف الذي يقول فقوم قتيبة أمهم وأبوهم ولولا قتيبة أصبحوا في مجهل قال أما الشعر فأراك ترويه ولكن هل تقرأ من القرآن شيئا قال نعم أقرأ منه الكثير الطيب (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فأغضبه فقال والله لقد بلغني أن امرأة الحصين حملت وهي حبلى من غيره قال فما تحرك الشيخ من هيئته الأولى ثم قال على رسله وما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال ابن الحصين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله فقال لا يبعد الله غيرك.. ولقى شريك النمري رجلا من بني تميم فقال له التميمي يعجبني من الجوارح البازي فقال له شريك وخاصة إذا صاد القطا أراد التميمي بقول البازي قول جرير أنا البازي المطل علي نمير أتيح من السماء له انصبابا


[ 209 ]

وأراد شريك بقوله إذا صاد القطا قول الطرماح تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت سبل المكارم ضلت.. وساير شريك النميري عمر بن هبيرة الفزاري على بغلة فجاوزت بغلته برذون عمر فقال له عمر أغضض من لجامها فقال شريك انها مكتوبة فقال عمر ما أردت ذاك قال شريك ولا أنا أردته ظن.. شريك ان عمر أراد بقوله اغضض من لجامها قول جرير فغض الطرف انك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا (1) وعنى شريك بقوله مكتوبة قوله لا تأمنن فزاربا خلوت به علي قلوصك واكتبها بأسيار (2) يعني – باكتبها – شدها.. وأنشد أبو تمام الطائي أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي يمدحه فيها فلما بلغ الى قوله في حلم أحنف في شجاعة عامر في جود حاتم في ذكاء إياس (3) فقال له الكندي وكان حاضرا ما صنعت شيئا قال وكيف قال لأن شعراء دهرنا قد


(1) وهو من قصيدة مشهورة لجرير بن عطية الخطفي يهجو بها الراعي النميري وقومه ويقال لهذه القصيدة الفاضحة والدامغه.. ومرت امرأة ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها فقالت قبحكم الله يا بني نمير ما قبلتم قول الله عز وجل (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) ولا قول الشاعر * فغض الطرف إنك من نمير * الخ (2) قوله اكتبها باسيار أي شد حيائها أي اختمه باسيار جمع سير وذلك لأن بني فزارة يرمون بغشيان الابل (3) الرواية المعروفة اقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس – عمرو – يعنى به عمرو بن معد يكرب – وإياس – يعني به إياس بن معاوية قاضيا كان بالبصرة يوصف بالذكاء وكان من قوم يظنون الشئ فيكون كما يظنون حتى شهر أمرهم في ذلك(27 – أمالي)

[ 210 ]

تجاوزوا بالممدوح من كان قبله ألا ترى الي قول ابي العكوك في أبي دلف رجل أبر علي شجاعة عامر بأسا وغير في محيا حاتم فأطرق الطائي ثم رفع رأسه وأنشد لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا شرودا في الندى والباس (1) فالله قد ضرب الاقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس


(1) قوله لا تنكروا الى آخر البيتين أي لا تنكروا قولي أقدامه كاقدام عمرو وذكاؤه كذكاء إياس وهو أذكى منه لأن الله تعالى قد شبه نوره بما هو أقل منه إذا كان المشبه به من أبلغ ما يعرفه الناس ضوء فقال مثل نوره كمشكاة وهي الكوة ليست بنافذة وأصحاب التفسير يزعمون ان أصلها حبشي وأما لفظها فيدل على انها عربية من شكوت والنبراس المصباح ويقال انه ليس بعربي.. وكان أبو تمام أنشد أحمد بن المعتصم هذه القصيدة وليس فيها البيتان أعني قوله لا تنكروا والبيت الذي بعده فقال يعقوب ابن اسحاق الكندي وكان يخدم أحمد الأمير أكبر من كل شئ ممن شبهته به فعمل هذه البيتين وزادهما في القصيدة من وقته فعجب أحمد وجميع من حضر من فطنته وذكائه وأضعف جائزته.. وروى انه لما مدح الخليفة بهذه القصيدة قال له الوزير أتشبه أمير المؤمنين باجلاف العرب فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد البيتين فقال الوزير للخليفة أي شئ طلبه فاعطه فانه لا يعيش اكثر من اربعين يوما لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكرة وصاحب هذا لا يعيش الا هذا القدر فقال له الخليفة ما تشتهي قال أريد الموصل فاعطاه إياها فتوجه إليها وبقى هذه المدة ومات وهذه القصة لا صحة لها أصلا وروى من غير هذا الوجه ان أبا تمام لما مدح محمد بن عبد الملك الزيات الوزير بقصيدته التي منها ديمة سمحة القياد سكوب مستغيث بها الثرى المكروب لو سعت بقعة لا عظام أخرى لسعى نحوها المكان الجديب

[ 211 ]

وقال ابن هبيرة لأبي دلامة وكان مولى لبني أمية لما ظهرت المسودة لاتخذن لك منهم عبدا صالحا يخدمك فلما علت كلمتهم وفشت دعوتهم قال أبو دلامة ليت الله قيض لي منهم مولى صالحا أخدمه.. وقال يحيى بن خالد لعبد الملك بن صالح الهاشمي ان خصالك كاملة سوى حقد فيك فقال أنا خزانة تحفظ الخير والشر.. وقد نظر ابن الرومي الى هذا المعنى في وقوله وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض فحيث ترى حقدا على ذي أشاءة فثم ترى شكرا علي حسن القرض إذا الارض أدت ربع ما انت زارع من البذر فيها فهي ناهيك من أرض.. وقال الحجاج للحطيط الخارجي ما تقول في عبد الملك بن مروان قال ما أقول في رجل أنت خطيئة من خطاياه قال فهل هممت بي قط قال نعم ولكن حال بيننا بين وقدر وقد أعطيت الله عهدا ان سألتني لأصدقنك ولأن خليت عني لأطلبنك ولأن عذبتني لأصبرن لك فأمر بقتله.. أما – البين – فهي الأرض الواسعة قال ابن مقبل بسرو حمير أبوال البغال بها أني تسديت وهنا ذلك البينا (1)


قال له ابن الزيات يا أبا تمام انك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسنا على بهي الجواهر في أجياد الكواعب وما يدخر لك شئ من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة وكان بحضرته فيلسوف فقال له ان هذا الفتى يموت شابا فقيل له ومن أين حكمت عليه بذلك فقال رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت به ان النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده وكذا كان لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة (1) قوله – بسرو حمير – قال الصاغاني والرواية من سرو حمير لا غير – وتسديت – بفتح التاء على ارادة الخيال ويروى بكسرها وكسر كاف ذلك على ارادة ليلى صاحبة الخيال المذكورة في البيت قبله وهو لم تسر ليلى ولم تطرق لحاجتها من اهل ريمان إلا حاجة فينا (*)

[ 212 ]

.. وقيل لأبي العتاهية لما قال عتب ما للخيال حين بينى ومالي خرجت من العروض فقال أنا أكبر من العروض.. وقال عبد الملك بن مروان للهيثم ابن الأسود ما مالك قال قوام من العيش وغني عن الناس فقيل له لم لم تخبر به فقال ان كان كثيرا حسدني وان كان قليلا ازدرانى.. واغتاب الأعمش رجلا من أصحابه فطلع الرجل على هئية ذلك فقال له رجل من أصحابه قل له ما قلته حتى لا يكون غيبة فقال له الأعمش قل له أنت حتى تكون نميمة.. وقال معاوية لعمرو بن العاص هل غششتني مذ نصحتني قال لا قال بلى يوم أشرت علي بمبازرة علي وأنت تعلم من هو قال عمرو دعاك رجل عظيم الخطر الى المبارزة فكنت من مبارزته على إحدى الحسنيين إما أن قتلته فقتلت قتال الأقران وازددت شرفا الى شرفك وخلوت بملكك وإما أن قتلك فتعجل مرافقة الشهداء والصديقين والصالحين قال معاوية لهذه أشد على من الأولى فقال عمرو فكنت في جهادك في شك فتتوب منه الساعة قال دعني منك الآن.. وقيل لأحنف بن قيس وقد رأى مسيلمة الكذاب كيف هو فقال ما هو بنبي صادق ولا بمتنبئ حاذق.. وروى المبرد قال قال زياد لأبي الأسود الدؤلي لولا انك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا قال ان كنت تريدني للصراع فليس عندي وان كنت تريد رأيي وعقلي فهما أوفر ما كانا.. وكان أبو الأسود حاضر الجواب جيد الكلام مليح البادرة.. وروى عن الشعبي انه قال قاتل الله أبا الأسود ما كان أعف أطرافه وأحضر جوابه دخل على معاوية بالنخيلة فقال له معاوية أكنت ذكرت للحكومة قال نعم قال فما كنت صانعا قال كنت أجمع ألفا من المهاجرين وأبنائهم وألفا من الأنصار وأبنائهم ثم أقول يا معشر من حضر أرجل من المهاجرين أحق أم رجل من الطلقاء فلعنه معاوية وقال الحمد لله الذي كفاناك.. وقد روي ان أبا الأسود طلب بأن يكون في الحكومة وقال لأمير المؤمنين في وقت الحكمين يا أمير المؤمنين لا ترض بأبي موسى فاني قد عجمت الرجل وبلوته فحلبت أشطره فوجدته قريب القعر مع انه يمان وما أدري ما يبلغ نصحه فابعثني فانه لا يحل عقدة إلا عقدت له أشد منها وانهم قد رموك بحجر الأرض فان


[ 213 ]

قيل انه لا صحبة لي فاجعلني ثاني اثنين فليس صاحبهم إلا من تعرف وكان في الخلاف عليهم كالنجم فأبى عليه السلام.. وروى محمد بن يزيد النحوي ان أبا الاسود كان شيعيا وكانوا يرمونه بالليل فإذا أصبح شكا ذلك فشكاهم مرة فقالوا ما نحن نرميك ولكن الله يرميك فقال كذبتم لو كان الله يرميني ما أخطأني.. وقال لهم يوما يا بني قشير ما في العرب أحب للي طول بقاء منكم قالوا ولم ذاك قال لأنكم إذا ركبتم أمرا علمت انه غي فاجتنبه وإذا اجتنبتم أمرا علمت انه رشد فاتبعته فنازعوه الكلام فأنشأ يقول يقول الأرذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا أحبهم لحب الله حتى أجئ إذا بعثت على هويا فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا فقالوا له أشككت يا أبا الأسود فقال ألم تسمعوا الله تعالى يقول (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) أفترون الله شك.. أما قوله – هويا – فانه لغة هذيل يقولون ذلك في كل مقصور (1) مثل التقى والهوى والعصى.. قال أبو ذؤيب الهذلي سبقوا هوي وأعنقوا لسبيلهم فتخرموا ولكل جنب مصرع.. وروى ان أبا الأسود دخل على معاوية فقال له أصبحت جميلا يا أبا الأسود فلو علقت تميمة تدفع العين عنك فقال أبو الأسود


(1) قوله يقولون ذلك في كل مقصور وأما غيرهم فيبقى الفتحة لتدل على الف المقصور كمصطفى بفتح الفاء جمع مصطفى بالقصر وأما مصطفى بكسر الفاء فانه جمع مصطف بالنقص وتسلم ألف التثنية من القلب ياء اتفاقا كمسلماي إذ لا موجب لقلبها وقول أبي الأسود هوي أصله هواي فقلبت الألف ياء وأدغمها في ياء المتكلم ولا يختص قلب ألف المقصور ياء بلغة هذيل بل حكاها عيسى بن عمر عن قريش وحكاها الواحدي في البسيط عن طئ

[ 214 ]

أفنى الشباب الذي فارقت بهجته كر الجديدين من آت ومنطلق لم يتركا لي في طول اختلافهما شيئا أخاف عليه لدغة الحدق.. وروى انه دخل يوما السوق يشتري ثوبا فقال له رجل هلم أقاربك في هذا الثوب فقال ان لم تقاربني باعدتك ثم قال له بكم هو قال انما اعطيت به كذا كذا قال انما تخبرني عما فاتك.. وروى انه كان ماشيا في طريق فقال له راكب الطريق الطريق فقال له عن الطريق تعدلني.. ومرض أبو الأسود فقيل هو أمر الله فقال ذاك أشد له.. وقيل ان امرأة أبي الأسود خاصمته الى زياد في ولدها فقالت أيها الأمير ان هذا يريد ان يغلبني على ولدي وقد كان بطني له وعاء وثدي له سقاء وحجري له فناء فقال أبو الأسود بهذا تريدين أن تغلبيني على ابني فو الله لقد حملته قبل أن تحميله ووضعته قبل أن تضعيه فقالت ولا سوأ إنك حملته خفيفا وحملته ثقيلا ووضعته شهوة ووضعته كرها فقال له زياد انها امرأة عاقلة يا أبا الأسود فادفع ابنها إليها فاخلق أن تحسن أدبه.. وقال رجل لأبي الأسود أنت والله ظرف لفظ وظرف علم ووعاء حلم غير انك بخيل فقال وما خير ظرف لا يمسك ما فيه.. وسلم عليه اعرابي يوما فقال أبو الأسود كلمة مقولة فقال له أتأذن في الدخول قال وراءك أوسع لك قال فهل عندك شئ قال نعم قال اطعمني قال عيالي أحق منك قال ما رأيت ألأم منك قال نسيت نفسك.. وسأله رجل شيئا فمنعه قال ما أصبحت حاتميا فقال بلى قد أصبحت حاتمكم من حيث لا تدري أليس حاتم الذي يقول أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر (1)


(1) قلت ولهذا البيت حكاية عجيبة وقعت بين الأصمعي وأحد ولد حاتم.. قال الأصمعي دفعت الى رجل من ولد حاتم بن عبد الله فسألته القرى فقال القرى والله كثير ولكن لا سبيل إليه فقلت ما أحسب عندك شيئا فأمر بالجفان فأخرجت مكرمة بالثريد عليها وذر اللحم وإذا هو جاد في المنع فقلت والله ما أشبهت أباك حيث يقول وأبرز قدري بالفناء قليلها يرى غير مضنون به وكثيرها

[ 215 ]

(مجلس آخر 21) أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا أبو عبد الله ابراهيم بن محمد بن عرفة النحوي قال لما ولى سليمان بن عبد الملك اتى بيزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج في جامعة وكان رجلا دميما تقتحمه العين فلما رآه سليمان قال لعن الله امرأ أجرك رسنك وولى مثلك فقال يا أمير المؤمنين رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر على مقبل لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما استحقرت فقال له سليمان أين ترى الحجاج أيهوى في النار أم قد استقر فقال يا أمير المؤمنين لا تقل كذا ان الحجاج قمع لكم الأعداء ووطأ لكم المنابر وزرع لكم الهيبة في قلوب الناس وبعد فانه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك وشمال أخيك الوليد فضعه حيث شئت.. وروى ان خالد بن صفوان فاخر رجلا من بني عبد الدار الذين يسكنون اليمامة فقال له العبدري من أنت فقال أنا خالد ابن صفوان بن الأهتم فقال له العبدري أنت خالد كمن هو خالد في النار وأنت ابن صفوان وقال الله تعالي (كمثل صفوان عليه تراب) وأنت ابن الأهتم والصحيح خير من الأهتم فقال له خالد بن صفوان يا أخا بني عبد الدار أتتكلم وقد هشمتك هاشم وأمتك بنو أمية وخزمتك بنو مخزوم وجمحتك بنو جمح فأنت عبد دارهم تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا فقام العبدري محموما.. وتقدم الأشعث بن قيس الى شريح فقال له الأشعث تعلمني بك يا ابن أم شريح لقد عهدتك وان شأنك لشوين فقال له شريح أنت امرء تعرف النعمة في غيرك وتنساها في نفسك.. وروى أبو العيناء عن العتبي قال دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وعنده الحطيئة فلما مثل بين يديه قال اليك فررت منك ومن زياد ولم أحسب دمي لكما حلالا


فقال إلا أشبهه في ذلك فقد أشبهته في قوله اماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر فأنا والله مانع مبين فرحلت عنه

[ 216 ]

فإن يكن الهجاء أحل قتلي فقد قلنا لشانئكم وقالا ترى الغر الجحاجح من قريش إذا ما الأمر في الحدثان غالا قياما ينظرون إلى سعيد كأنهم يرون به هلالا فقال له الحطيئة هذا والله أيها الأمير الشعر لا ما نعلل به منذ اليوم يا غلام قدمت أمك الحجاز فقال لا ولكن قدمه أبي.. أراد الحطيئة بقوله قدمته أمك فقد وقعت بها وكنت مني وأراد الفرزدق بقوله ولكن قدمه أبي أي وقع بأمك فكنت أنت منه.. ويشبه ذلك ما روى ان الفرزدق كان ينشد شعره يوما والناس حوله إذ مر به الكميت بن زيد الأسدي فقال له الفرزدق كيف ترى شعري قال حسن بسن فقال له الفرزدق أيسرك إني أبوك قال أما أبي فلا أريد به بدلا ولكن يسرني أن لو كنت أمي فقال الفرزدق اكتم هذه على عمك يا بن أخي فما مر بي مثلها.. وقيل ان عبد الملك بن مروان ظفر برجل من بني مخزوم زبيري الرأي فقال له لما حضر مجلسه أليس قد ردك الله على عقبيك فقال الرجل أو من رد اليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه فوجم عبد الملك.. وقال موسى بن عيسى بن موسى لشريك يا أبا عبد الله عزلوك عن القضاء وما رأينا قاضيا عزل فقال شريك هم الملوك يخلعون ويعزلون فعرض بان أباه خلع من ولاية العهد.. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ان المفضل الضبي الرواية وهب لبعض جيرانه أيام الأضحى أضحية فلما لقيه قال كيف وجدت أضحيتك قال ما وجدت لها دما يعرض بقول الشاعر ولو ذبح الضبى بالسيف لم تجد من اللؤم للضبي لحما ولا دما.. وروى عن المأمون انه قال ما أعياني جواب أحد قط مثل جوابه ثلاثة. أحدهم أم الفضل بن سهل فإني عزيتها عن ابنها وقلت لئن جزعت على الفضل لأنه ولدك فها أناذا ابنك مكانه فقالت وكيف لا أجزع على من جعل مثلك لى ولدا.. والثاني رجل حضرته يزعم انه نبي الله موسى فقلت له ان الله تعالى أخبرنا عن موسى أنه يدخل يده في جيبه ويخرجها بيضاء من غير سوء فقال متى فعل ذلك أليس بعد أن لقى فرعون


[ 217 ]

فاعمل كما عمل فرعون حتى أعمل كما عمل موسى. والثالث ان جماعة من أهل الكوفة اجتمعوا الى يشكون عاملها فقلت ارضوا بواحد أسمع منه فرضوا برجل منهم فقال في العامل وأكثر فقلت له كذبت بل هو العفيف الورع العدل فذهب أصحابه يتكملون فسكتهم ثم قال صدقت يا أمير المؤمنين هو كما ذكرت فواس بين رعيتك في العدل فصرفته عنهم.. ودخل عدي بن حاتم بن عبد الله الطائى على معاوية فقال له معاوية ما فعل الطرفات أبي طالب قدم بنيك وأخر بنيه فقال عدي بل ما أنصفته أنا أن قتل وبقيت.. وكتب رجل الى صديق له يقترض منه شيئا فأجابه يشكو ضيق حاله فكتب إليه إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وان كنت صادقا فجعلك الله كاذبا وان كنت معذورا فجعلك الله ملوما وان كنت ملوما فجعلك الله معذورا.. وسمع الأحنف رجلا يقول ما أحلم معاوية فقال لو كان حليما ما سفه الحق.. ووصفه رجل عند الشعبي بالحلم فقال الشعبى ويحك وهل أغمد سيفه وفي قلبه على أحد شئ.. وقال زياد لرجل حضره أين منزلك فقال وسط البصرة قال فما لك من الولد قال تسعة فقيل لزياد ان داره أقصى البصرة عند المقابر وله ابن واحد فقال الرجل دارى بين أهل الدنيا والآخرة فهي وسط البصرة وكان لي عشر بنين فقدمت تسعة منهم فهم لي وبقى واحد لا أدرى أهو لي أم أنا له.. وقال رجل لابن سيرين إني وقعت فيك فاجعلني في حل فقال ما أحب ان أحلك مما حرم الله عليك.. وخطب الحجاج يوم جمعة فأطال فقال له رجل ان الصلاة لا تنتظرك وان الله لا يعذرك فأمر به فحبس فجاءه أهله وشهدوا أنه مجنون فقال ان أقر بالجنون أطلقته فقيل له اعترف بذلك وتخلص فقال والله لا أقول ان الله ابتلاني وقد عافاني.. وحدث الحسن البصري بحديث فقال رجل يا أبا سعيد عمن فقال وما تصنع بعمن أما أنت فقد نالتك عظته وقامت عليك حجته.. وقيل لعبد الله بن جعفر ونظر إليه يماكس في درهم فقيل له تماكس في درهم وأنت تجود بما تجود به فقال ذاك مالي جدت به وهذا عقلي بخلت به.. وروى ان أبا العيناء محمد بن القاسم اليمامي حدث بعض الزبيريين بفضائل أهله فقال له (28 – أمالي)


[ 218 ]

الزبيري أتجلب التمر الى هجر فقال له أبو العيناء نعم إذا أجدبت أرضها وعام نخلها.. وكان أبو العيناء من أحضر الناس جوابا وأجودهم بديهة وأملحهم نادرة.. وحكى عن أبي العيناء قال لما دخلت على المتوكل دعوت له وكلمته فاستحسن خطابي وقال لي يا محمد بلغني ان فيك شرا فقلت يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن باحسانه والمسئ باساءته فقد زكي الله تعالى وذم فقال في التزكيه (نعم العبد إنه أواب) وقال في الذم (هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم) فذمه الله تعالى حتى قذفه وقد قال الشاعر إذا أنا بالمعروف لم أثن دائبا ولم أذمم الجبس اللئيم المذمما ففيم عرفت الخير والشر باسمه وشق لي الله المسامع والفما وان كان الشر كفعل العقرب تلسع النبي والذمي بطبع لا يتميز فقد صان الله تعالى عبدك عن ذلك.. وروى انه قال له يوما إني لأفرق من لسانك ان الشريف فروقة ذو إحجام وان اللئيم ذو إمنة وإقدام.. وقال له يوما وقد دخل عليه اشتقتك والله يا أبا العيناء فقال له يا سيدي انما يشتد الشوق على العبد لأنه لا يصل الى مولاه فأما السيد فمتى أراد عبده دعاه.. وروى أنه قال له يوما ما بقي أحد في مجلسي إلا اغتابك وذمك عند ما جرى ذكرك غيري فقال أبو العيناء إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبانا على لئامها.. وذكر أبو العيناء قال قال لي المتوكل كيف ترى داري هذه فقلت رأيت الناس بنو دورهم في الدنيا وأمير المؤمنين جعل الدنيا في داره.. وقال أبو العيناء قال لي المتوكل من أسخى من رأيت ومن أبخل من رأيت فقلت ما رأيت أسخى من أحمد بن أبي دؤاد ولا أبخل من موسى بن عبد الملك قال وكيف وقفت على بخله فقال رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد ويعتذر من الاحسان كما يعتذر من الاساءة فقال أجئت الى من اطرحته فسخيته والى من أمسكته فبخلته فقلت يا أمير المؤمنين ان الصدق ما هو في موضع من المواضع أنفق منه بحضرتك والناس يغلطون فيمن ينسبونه الى السخاء فإذا نسب الناس


[ 219 ]

السخاء الى البرامكة فانما ذلك من سخاء أمير المؤمنين الرشيد وإذا نسبوا الحسن بن سهل وأخاه الفضل الى السخاء فانما ذلك سخاء أمير المؤمنين المأمون وإذا نسبوا أحمد بن أبي دؤاد الى السخاء فذاك سخاء أمير المؤمنين المعتصم وإذا نسبوا الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى الى السخاء فانما هو سخاؤك فما بال هؤلاء القوم لا ينسبون الى السخاء قبل صحبتهم الخلفاء قال لي صدقت وسري عنه.. وقال له المتوكل ما أشد عليك من ذهاب البصر فقال له فقد رؤيتك مع اجماع الناس على جمالك.. وقال له يوما أريدك لمجالستي قال لا أطيق ذلك وما أقول هذا جهلا بمالي في هذا المجلس من الشرف ولكن أنا رجل محجوب والمحجوب تختلف اشارته ويخفى عليه إيماؤه ويجوز علي أن أتكلم بكلام غضبان ووجهك راض وبكلام راض ووجهك غضبان ومتى لم أميز بين هاتين هلكت فقال صدقت.. وروى انه قال له لولا إنك ضرير لنادمتك فقال ان أعفيتني من رؤية الأهلة وقراءة نقش الخاتم فإني أصلح.. وقال له المتوكل ما تقول في ابن مكرم والعباس ابن رستم فقال هما الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما قال بلغني إنك تودهما فقال لقد ابتعت الضلال بالهدى والعذاب بالمغفرة.. وقال له يوما ان سعيد بن عبد الملك يضحك منك فقال ان الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون.. وقال أبو العيناء قال لي المنصور ما أحسن الجواب فقلت ما أسكت المبطل وحير المحق.. وقيل لأبي العيناء ابراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب فقال ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.. ورآه رزقان وهو يضاحك نصرانيا فقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء فقال أبو العيناء لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين.. وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولى قال أخبرنا أبو العيناء قال كان سبب اتصالي بأحمد بن أبي دؤاد ان قوما من أهل البصرة عادوني وادعوا علي دعاوى كثيرة منها إنى رافضي فاحتجت الى ان خرجت عن البصرة الى سر من رأى وألقيت نفسي على ابن أبي دؤاد وكنت نازلا في داره أجالسه كل يوم وبلغ القوم خبري فشخصوا نحوي الى سر من رأى فقلت له القوم قد قدموا من البصرة يدا علي فقال يد الله فوق أيديهم فقلت ان لهم مكرا فقال ويمكرون ويمكر الله


[ 220 ]

والله خير الماكرين فقلت هم كثيرون قال كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله فقلت له لله در القاضي هو والله كما قال الصموت الكلابي لله درك أي جنة خائف ومتاع دنيا أنت للحدثان متخمط تطأ الرجال غلبة وطء الفنيق دوارج القردان ويكبهم حتى كأن رؤسهم مأمومة تنحط للغربان ويفرج الباب الشديد رتاجه حتى يصير كأنه بابان وقال لابنه الوليد اكتب هذه الأبيات فكتبها بين يديه.. قال الصولى حفظي عن أبي العيناء الصموت الكلابي على انه رجل وقال وكيع حفظي انها للصموت الكلابية على انها امرأة.. ودخل أبو العيناء على الحسن بن سهل فأثنى عليه فأمر له بعشرة آلاف درهم وقال والله ما استكثر كثيرك أيها الأمير ولا استقل قليلك قال وكيف ذاك قال لا استكثر كثيرك لانك أكثر منه ولا استقل قليلك لانه أكثر من كثير غيرك.. وقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان يوما اعذرني فاني مشغول فقال إذا فرغت لم أحتج اليك.. وقال له يوما قد تبينت فيك الغضب يا أبا عبد الله فقال له قد أجل الله قدرك من غضبي انما يغضب الرجل على من دونه فأما على من فوقه فلا ولكن أحزنني تقصيرك فسميت حزني غضبا.. ويقال ان صاعد بن مخلد كان من أحسن من أسلم دينا وأكثرهم صلاة وصدقة فصار الى بابه أبو العيناء مرات كثيرة بعقب اسلامه فحجب فقيل له هو مشغول في صلاته فقال أبو العيناء لكل جديد لذة.. ودخل يوما الى أبي الصقر بن بلبل في وزراته فقال له يا أبا عبد الله ما أخرك عنا فقال سرق حماري فقال وكيف سرق قال لم أكن مع الذي سرقه فأخبر بما كان قال هلا اكتريت أو استعرت أو اشتريت قال قعد بي عن الشراء نشبي وكرهت منة العواري وذلة المكارى فوهب له حمارا ووصله.. وأدناه أبو الصقر يوما ورفعه فقال تدنيني حتى كأني بعضك وتبعدني حتى كأني ضدك.. وقال يوما لعبد الله بن سليمان وقد رفعه أيضا الى كم ترفعني ولا ترفع بي رأسا.. وقال له يوما وقد سأله عن حاله أنا معك مغبوط الظاهر


[ 221 ]

محروم الباطن.. ويقال ان أبا علي البصير قال لأبي العيناء وكانت بينهما ملاحاة معروفة في أي وقت ولدت فقال له قبل طلوع الشمس فقال أبو علي لذلك خرجت شحاذا سائلا لأنه الوقت الذي يستثير فيه السؤال.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو العيناء قال ما رأيت قط أحسن شاهدا عند حاجة من أبن عائشة قلت له يوما كان أبو عمرو المخزومي يصلك ثم جفاك فقال فإن تنأ عنا لا تضرنا وإن تعد تجدنا علي العهد الذي كنت تعلم وقال والله لا أدرى لمن هذا البيت فقلت ان ابن سلام روى عن يونس ان الفرزدق لما قال تصرم منى ود بكر بن وائل وما خلت دهري ودهم يتصرم قوارص تأتيني فيحتقرونها وقد يملأ القطر الإناء فيفعم وقد كان نزل عليهم حين هرب من زياد فقال جرير بن خرقاء العجلي يجيبه لقد بوأتك الدار بكر بن وائل وردت لك الأحشاء إذ أنت مجرم ليالي تمنى أن تكون حمامة بمكة يغشاها الشتا والمحرم فإن تنأ عنا لا تضرنا وإن تعد تجدنا علي العهد الذي كنت تعلم فقال ابن عائشة أنت والله يا بني ممن ستصدق في العلم مخائله وتكثر عليه دلائله.. وقال أبو العيناء يوما لأبي الصقر بن بلبل وهو زائر أنت والله تقرب منا إذا احتجنا اليك وتبعد منا إذا احتجت الينا.. [ قال المرتضي ] رضي الله عنه وهذا يشبه قول ابراهيم بن العباس الصولي ولكن الجواد أبا هشام وفي العهد مأمون المغيب بطي عنك ما استغنيت عنه وطلاع عليك من الخطوب ولعله مأخوذ منه فليس ينكر ذلك لانهما وان اجتمعا في زمان واحد في بعض الأوقات فان أبا العيناء بقى بعد ابراهيم زمانا طويلا لأن ابراهيم توفي في سنة ثلاث وأربعين


[ 222 ]

ومائتين وأبا العيناء سنة أثنين أو ثلاث وثمانين ومائتين وما حكيناه عنه من الكلام قاله لأبي الصقر في وزارته وكانت بعد وفاة ابراهيم بن العباس الصولي بزمان طويل.. ويشبه بيتا ابراهيم أن يكونا مأخوذين من قول أوس بن حجر وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعظلا ولابراهيم بن العباس ما يقارب هذا المعنى أيضا وهو أسد ضار إذا هيجته وأب بر إذا ما قدرا يعلم الأبعد إن اثرى ولا يعلم الأدنى إذا ما أفتقرا ويشبه أن يكون هذا مأخوذا من قول الفقعسي إذا افتقر المرار لم ير فقره وإن أيسر المرار أيسر صاحبه ومما يشبه قول أبي العيناء بعينه قول ابراهيم بن العباس أيضا فتى غير محجوب عن الغنى عن صديقه ولا مظهر البلوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت.. وقال المتنخل الهذلى أبو مالك قاصر فقره علي نفسه ومشيع غناه وهذا البيت الذي رويناه للهذلي من جملة أبيات يرثي بها المتنخل أباه وقيل يرثي أخاه لعمرك ما إن أبو مالك بوان ولا بضعيف قواه (1)


(1) قوله ما إن أبو مالك يورده النحويون على ان الباء تزاد بعد ما النافية المكفوفة بان اتفاقا وهذا يدل على انه لا اختصاص لزيادة الباء في خبر ما الحجازية.. وقوله لعمرك ما إن أبو مالك الخ اللام لام الابتداء وفائدتها توكيد مضمون الجملة وعمرك بالفتح بمعنى حياتك مبتدأ خبره محذوف أي قسمي وجملة ما إن أبو مالك جواب القسم.. وأبو مالك

[ 223 ]

ولا بألد له نازع يغازي أخاه إذا ما نهاه فمعنى – نازع – أي خلق سوء – ويغازي – أي يلاحى ويشار ولكنه هين لين كعالية الرمح عرد نساه (1) – العرد – الشديد يقال وتر عرد وعرند بالنون أي شديد – والنسا – عرق معروف إذا سدته سدت مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه معنى – سدته – من المساودة التي هي المساررة والسواد هو السرار أيضا كأنه قال إذا ساررته طاوعك وساعدك.. وقال قوم انه من السيادة فكأنه قال إذا كنت فوقه سيدا له أطاعك ولم يحسدك وان وكلت إليه شيئا كفاك وقوم ينشدونه إذا سسته سست مطواعة


هو أبو الشاعر واسمه عويمر لأن المتنخل اسمه مالك بن عويمر ولم يصب ابن قتيبة في كتاب الشعراء في زعمه انه يرثي أخاه أبا مالك عويمرا – ووان – اسم فاعل من وني ونيا وونيا من بابي تعب ووعد بمعنى ضعف وفتر وروى بدله واه وهو أيضا اسم فاعل من وهي من باب وعد بمعنى ضعف وسقط – والقوى – جمع قوة خلاف الضعف.. قال في الصحاح ورجل شديد القوى أي شديد أسر الخلق يريد ان أباه كان جلدا شهما لا يكل أمره الى أحد ولا يؤخره لعجزه الى وقت آخر (1) قوله كعالية الرمح الخ – عالية الرمح – ما دخل في السنان إلى ثلثه.. ومعنى كونه لينا كعالية الرمح انه إذا دعي أجاب بسرعة كعالية الرمح فانه إذا هز الرمح اضطرب وانهز للينه بخلافه من الأخشاب فانه لا يتحرك طرفها إذا هزت لصلابتها ويبسها.. وقوله عرد نساه – العرد – بفتح العين وسكون الراء المهملتين الشديد والضمير لأبى مالك – والنسا -.. قال الأصمعي بالفتح مقصور عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر فإذا سمنت الدابة انفلقت فخذاها بلحمتين عظيمتين وجرى النسا بينهما واستبان وإذا هزلت الدابة اضطربت الفخذان وما جت الربلتان وخفى النسا وإذا قالوا انه لشديد النسا فانما يراد به النسا نفسه.. وقال السكري أراد غليظ موضع النسا

[ 224 ]

ولم أجد ذلك في رواية (1) ألا من ينادي أبا مالك أفي أمرنا هو أم في سواه أبو مالك قاصر فقره علي نفسه ومشيع غناه (مجلس آخر 22) [ تأويل آية ].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وان يزوا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) الى غافلين.. فقال ما الجواب عن هذه الآية على ما يطابق العدل فان ظاهرها كأنه مخالف.. الجواب قيل له في هذه الآية وجوه منها ما ابتدأناه فيها ومنها ما سبقنا به فحررناه واخترنا فيه من المطاعن وأجبنا عما لعله يعترض فيه من الشبه.. أولها أن يكون عنى بذلك صرفهم عن ثواب النظر في الآيات وعن العز والكرامة الذين يستحقهما من أدى الواجب عليه في آيات الله وأدلته وتمسك بها والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة ويحتمل أن تكون معجزات


(1) قوله ولم أجد ذلك في رواية قلت هذه الرواية التي لم يرها المؤلف أثبتها أبو تمام صاحب الحماسة في مختار أشعار القبائل – وسسته – من سست الرعية سياسة – والمطواع – الكثير الطوع أي الانقياد والتاء لتأكيد المبالغة وعلى هذا التفسير اقتصر السكري وهذا البيت يروى للمتنخل كما تقدم ورواه في مختار أشعار القبائل لذي الأصبع العدواني مع بيتين آخرين وهما وما إن أسيد أبو مالك بوان ولا بضعيف قواه ولكنه هين لين كعلية الرمح عرد نساه فان سسته سست مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه – وأسيد – بفتح الهمزة وكسر السين المهملة

[ 225 ]

الأنبياء خاصة وهذا التأويل يطابقه الظاهر لأنه تعالى قال (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) فبين ان صرفهم عن الآيات مستحق بتكذيبهم ولا يليق ذلك إلا بما ذكرناه.. وثانيها أنه أراد أن يصرفهم تعالى عن زيادة المعجزات التي يظهرها الأنبياء عليهم السلام بعد قيام الحجة لما تقدم من آياتهم ومعجزاتهم لانه تعالى انما يظهر هذا الضرب من المعجزات إذا علم انه يؤمن عنده من لم يؤمن بما تقدم من الآيات وإذا علم خلاف ذلك لم يظهرها وصرف الذين علم من حالهم أنهم لا يؤمنون عنها ويكون الصرف على أحد وجهين إما بأن لا يظهرها جملة أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم.. فإذا قيل وما الفرق فيها ذكرتموه بين ابتداء المعجزات وبين زيادتها.. قلنا الفرق بينهما أن المعجز الأول يجب اظهاره لإزالة العلة في التكليف ولانابه نعلم صدق الرسول المؤدي الينا ما فيه لطفنا ومصلحتنا فإذا كان التكليف يوجب تعريف المصالح والإلطاف لتزاح العلة وكان لا سبيل الى معرفتها على الوجه الذي يكون عليه لطفا إلا من قبل الرسول وكان لا سبيل الى العلم بكونه رسولا إلا من جهة المعجز وجبت بعثة الرسول وتحميله ما فيه مصلحتنا من الشرائع واظهار المعجز على يده لتعلق هذه الأمور بعضها ببعض ولا فرق في هذا الموضع بين ان يعلم المبعوث إليهم الرسول أو بعضهم يطيعون ويؤمنون وبين أن لا يعلم ذلك في وجوب البعثة وما يجب وجوبها لان تعريف المصالح مما يقتضيه التكليف العقلي الذي لا فرق في حسنه بين ان يقع عنده الايمان أو لا يقع وليس هذه سبيل ما يظهره من المعجزات بعد قيام الحجة بما تقدم منها لانه متى لم ينتفع بها منتفع ويؤمن عندها من لم يؤمن لم يكن في اظهارها فائدة وكانت عبثا فافترق الأمران.. فان قيل كيف يطابق هذا التأويل قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) ومعلوم أن صرفهم عن الآيات لا يكون مستحقا بذلك.. قلنا يمكن أن يكون قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) لم يرد به تعليل قوله تعالى سأصرف بل يكون كالتعليل لما هو أقرب إليه في ترتيب الكلام وهو قوله تعالى (وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) لأن من كذب بآيات الله وغفل عن تأملها والاهتداء (29 – أمالي)


[ 226 ]

بنورها ركب الغي واتخذه سبيلا وحاد عن الرشد وضل ضلالا بعيدا ورجوع لفظة ذلك الى ما ذكرناه أشبه بالظاهر من رجوعها الى قوله سأصرف لان رجوع اللفظ في اللغة الى أقرب المذكورين إليه أولى.. ويمكن أن يكون قوله تعالى كذبوا بلفظ الماضي المراد به الاستقبال ويكون وجهه أن التكذيب لما كان معلوما منهم لو أظهرت لهم الآيات جعل كأنه قال ذلك بانه متى أظهرنا لهم آياتنا كذبوا ويجري ما ذكرناه أولا مجرى قوله تعالى (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) في انه بلفظ الماضي والمعنى الاستقبال.. وثالثها أن يكون معنى سأصرف عن آياتي أي لا أوتيها من هذه صفته وإذا صرفهم عنها فقد صرفها عنهم وكلا اللفظتين تفيد معنى واحدا.. وليس لأحد أن يقول هل لا قال سأصرف آياتى عن الذين يتكبرون والآيات ههنا هي المعجزات التي تختص بها الأنبياء.. فان قيل فأي فائدة في قوله على سبيل التعليل ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وأي معنى لتخصيصه الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وهلا تؤتى الآيات والمعجزات إلا الأنبياء دون غيرهم وان كان ممن لا يتكبر.. قلنا لخروج الكلام مخرج التعليل على هذا التأويل وجه صحيح لأن من كذب بآيات الله لا يؤتي معجزاته لتكذيبه وكفره وان كان قد يكون غير مكذب ويمنع من اتيانه الآيات علة أخرى والتكبر والبغي بغير الحق مانع من إتيان الآيات وان منع غيره ويجري هذا مجرى قول القائل أنا لا أود فلانا لغدره ولا يلزم إذا لم يكن غادرا أن يوده لانه ربما خلا من الغدر وحصل على صفة أخرى تمنع من مودته ويجوز أيضا أن تكون الآية خرجت على ما يجري مجرى السبب وأن يكون بعض الجهال اعتقد في ذلك الوقت جواز ظهور المعجزات على يد الكفار فأكذبهم الله تعالى بذلك.. ورابعها أن يكون المراد بالآيات العلامات التي يجعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين ليدل بها الملائكة على الفرق بين المؤمن والكافر فيفعلوا بكل واحد منهما ما يستحقه من التعظيم والاستخفاف كما تأول أهل الحق الطبع والختم الذين ورد بهما القرآن على أن المراد بهما العلامة المميزة بين الكافر والمؤمن ويكون سأصرف عنها أي أعدل بها عنهم وأخص بها المؤمنين المصدقين بآياتي وأنبيائي وهذا التأويل يشهد له أيضا قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا


[ 227 ]

عنها غافلين) فيكون صرفهم عن هذه الآيات كالمستحسن لتكذيبهم واعراضهم عن آياته تعالى.. وخامسها أن يريد تعالى إني أصرف من رام المنع من أداء آياتي وتبليغها لان من الواجب على الله تعالى أن يحول بين من رام ذلك وبينه ولا يمكن منه لانه ينقض الغرض في البعثة ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) فتكون الآيات ههنا القرآن وما جرى مجراه من كتب الله تعالى التي يحملها الرسل والصرف وان كان متعلقا في الآية بنفس الآيات فقد يجوز أن يكون المعنى متعلقا بغيرها مما هو يتعلق بها فإذا ساغ أن تعلقه بالثواب والكرامة المستحقين على التمسك بالآيات ساغ أن يعلقه بما يمنع من تبليغها وأدائها وإقامة الحجة بها وعلى هذا التأويل لا يجعل قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) راجعا الى ما صرف بل يرد الى ما هو قبله بلا فصل من قوله تعالى (وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) على ما بيناه في الوجه الثاني من تأويل هذه الآية.. وسادسها أن يكون الصرف ههنا الحكم والتسمية والشهادة ومعلوم ان من شهد على غيره بالانصراف عن شئ فجائز أن يقول صرفه عنه كما يقال أكفره وكذبه وفسقه وكما قال عز من قائل (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) أي شهد عليها بالانصراف عن الحق والهدى وكقوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وهذا التأويل يطابقه قوله تعالى (ذلك بانهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) لان الحكم عليهم بما ذكرنا من التسمية يوجب تكذيبهم وغفلتهم عن آيات الله واعراضهم عنها.. وسابعها انه تعالى علم ان الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق سيصرفون عن النظر في آياته والايمان بها إذا أظهرها على أيدى رسله جاز أن يقول سأصرف عن آياتي فيريد سأظهر ما ينصرفون بغير اختيارهم عنه ويجري ذلك مجرى قولهم سأبخل فلانا وأخطئه أي أسأله ما يبخل ببذله وأمتحنه بما يخطئ فيه ولا يكون المعنى إنى أفعل فيه البخل والخطأ والآيات على هذا الوجه جائز أن تكون المعجزات دون سائر الأدلة الدالة على الله تعالى وجائز أن تكون جميع الأدلة ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) غير راجع الى قوله تعالى سأصرف بل الى ما قدمنا ذكره لتصح الفائدة.. وثامنها أن يكون الصرف ههنا معناه المنع من ابطال الآيات والحجج


[ 228 ]

والقدح فيها بما يخرجها عن أن تكون أدلة وحججا فيكون تقدير الكلام إني بما أؤيد من حججي وأحكمه من آياتي وبيناتي صارف للمكذبين المبطلين عن القدح في الآيات والدلالات ومانع لهم مما كانوا لولا هذا الإحكام والتأييد يعترضونه ويغتنمونه من تمويههم الحق ولبسه بالباطل ويجرى هذا مجرى قول أحدنا قد منع فلان أعداءه بأفعاله الكريمة وطرائقه الممدوحة وأخلاقه المهذبة وصرفهم عن ذمة وأخرس ألسنتهم عن الطعن عليه وانما يريد المعنى الذي ذكرناه.. فان قيل أليس في المبطلين من طعن على آيات الله تعالى وأورد الشبهة فيها مع ذلك.. قلنا لم يرد الله تعالى الصرف عن الطعن الذي لا يؤثر ولا يشتبه على من أحسن النظر وانما أراد ما قدمناه وقد يكون الشئ في نفسه مطعونا عليه وان لم يطعن عليه طاعن كما قد يكون بريا من الطعن وان طعن فيه بما لم يؤثر فيه ألا ترى ان قولهم فلان قد أخرس أعداءه من ذمه ليس يراد به انه منعهم عن التلفظ بالذم وانما المعنى انه لم يجعل للذم عليه طريقا ومجالا ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى ذلك بأنهم كذبوا يرجع الى ما قبله بلا فصل ولا يرجع الى قوله سأصرف.. وتاسعها ان الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام وأمته إهلاك عدوهم قال (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) وأراد عزوجل أن يهلكهم ويصطلمهم ويجتاحهم على طريق العقوبة لهم بما كان منهم من التكذيب بآيات الله تعالى والرد لحججه والمروق عن طاعته وبشر من وعده بهذه الحال من المؤمنين بالوفاء بها وهو تعالى إذا أهلك هؤلاء الجبارين المتبكرين واصطلمهم فقد صرفه عن آياته من حيث اقتطعهم عن مشاهدتها والنظر فيها بانقطاع التكليف عنهم وخروجهم عن صفات أهله وهذا الوجه يمكن أن يقال فيه ان العقوبة لا تكون إلا مضادة للاستخفاف والاهانة كما ان الثواب لابد أن يكون مقترنا بالتبجيل والتعظيم وإماتة الله تعالى للأمم وما يفعله من بوار واهلاك لا يقرن إليه ما لابد أن يكون مقترنا الى العقاب من الاستخفاف ولا يخالف ما يفعله تعالى بأوليائه على سبيل الامتحان والاختبار فكيف يصح ما ذكرتموه ويمكن أن يجاب عن ذلك بان يقال لا يمتنع أن يضم الله الى ما يفعله بهؤلاء الكفار المتجبرين من الاهلاك اللعن والذم والاستخفاف ويأمرنا باهلاكهم


[ 229 ]

وقتلهم على وجه الاستخفاف والنكال ويضيف الله تعالى ذلك إليه من حيث وقع بأمره وعن أذنه.. فان قيل ما معنى قوله تعالى (يتكبرون في الأرض بغير الحق) كأن في التكبر ما يكون بالحق.. قلنا في هذا وجهان. أحدهما أن يكون ذلك على سبيل التأكيد والتغليظ والبيان على أن الكبر لا يكون إلا بغير الحق وان هذه صفة له لازمة غير مفارقة ويجري ذلك مجري قوله تعالى (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) وقوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق) ولم يرد تعالى الا المعنى الذي ذكرناه ومثله قوله تعالى (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) ولم يرد النهي عن الثمن القليل دون الكثير بل أراد به تأكيد القول بان كل ثمن يؤخذ عنها يكون قليلا بالاضافة إليها ويكون المتعوض عنها مغبونا مبخوسا خاسر الصفقة. والوجه الآخر ان في التكبر ما يكون ممدوحا بان من تكبر وتنزه عن الفواحش والدنايا وتباعد عن فعلها وتجنب أهلها يكون مستحقا للمدح سالكا لطريق الحق والتكبر المذموم هو الواقع على وجه النخوة والبغي والاستطالة على ذوي الضعف والفخر عليهم والمباهاة لهم ومن كان بهذه الصفة فهو مجانب للتواضع الذي ندب الله إليه وأرشد الى الثواب المستحق عليه ويستحق بذلك الذم والمقت ولهذا شرط تعالى أن يكون التكبر بغير الحق في قوله تعالى في هذه السورة (قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) يحتمل أيضا هذين الوجهين الذين ذكرناهما فان أريد به البغي المكروه الذي هو الظلم وما أشبهه كان قوله بغير الحق تأكيدا واخبارا عن انه بهذه صفته وان أريد بالبغي الطلب وذلك أصل في اللغة كان الشرط في موضعه لان الطلب قد يكون بالحق وبغير الحق.. فان قيل فما معنى قوله تعالى (وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) وهل الرؤية ههنا العلم والادراك بالبصر وهب انها يمكن أن تكون في قوله تعالى (وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها) محمولة على رؤية البصر لان الآيات والأدلة مما تشاهد كيف تحمل الرؤية الثانية على العلم وسبيل الرشد انما هي طريقة ولا يصح أن يرجع بها الى المذاهب والاعتقادات التي لا يجوز عليها رؤية البصر فلابد إذا من أن يكون المراد به رؤية العلم ومن علم طريق الرشد


[ 230 ]

لا يجوز أن ينصرف عنه الى طريق الغي لأن العقلاء لا يختارون مثل ذلك.. قلنا الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه. أحدها أن يكون المراد بالرؤية الثانية رؤية البصر ويكون السبيل المذكور في الآية هي الأدلة والآيات لانها مما يدركه بالبصر ويسمى سبيل الرشد من حيث كانت وصلة الى الرشد وذريعة الى حصوله ويكون سبيل الغي هو الشبهات والمخاريق التي ينصبها المبطلون والمدغلون في الدين فيوقعوا بها الشبهة على أهل الايمان وتسمى بانها سبيل الغي وان كان النظر فيها لا يوجب حصول الغي من حيث كان المعلوم ممن تشاغل بها واغتر بأهلها أنه يصير الى الغي. والوجه الثاني أن يكون المراد بالرؤية العلم إلا أن العلم لا يتناول كونها سبيلا للرشد وكونها سبيلا للغي بل يتناولها لا من هذا الوجه ألا ترى أن كثيرا من المبطلين يعلمون مذاهب أهل الحق واعتقاداتهم وحججهم إلا أنهم يجهلون كونها صحيحة مفضية الى الحق فيتجنبونها وكذلك يعلمون مذاهب المبطلين واعتقاداتهم الباطلة إلا أنهم يجهلون كونها باطلة ويعتقدون صحتها بالشبهة فيصيرون إليها وعلى هذا الوجه لا يجب أن يكون الله تعالى وصفهم بالغي وترك الحق مع العلم به. والوجه الثالث أن يكونوا عالمين بسبيل الرشد والغي ومميزين بينهما إلا أنهم للميل الى أعراض الدنيا والذهاب مع الهوى والشبهات يعدلون عن الرشد الى الغي ويجحدون ما يعلمون كما أخبر الله سبحانه عن كثير من أهل الكتاب بانهم يجحدون الحق وهم يعلمونه ويستيقنونه.. فان قيل فما معنى قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) والتكذيب لا يكون في الحقيقة الا في الأخبار دون غيرها.. قلنا التكذيب قد يطلق على الأخبار وغيرها ألا ترى انهم يقولون فلان يكذب بكذا إذا كان يعتقد بطلانه كما يقولون يصدق بكذا وكذا إذا كان يعتقد صحته ولو صرفنا التكذيب ههنا الي أخبار الله تعالى التي تضمنتها كتبه الواردة على أيدي رسله جاز فتكون الآيات ههنا هي الكتب المنزلة دون سائر المعجزات.. فان قيل فما معنى ذمه تعالى (ذلك بأنهم كانوا عن آياتنا غافلين) والغفلة على مذهبكم من فعله لانها السهو وما جرى مجراه مما ينافي العلوم الضرورية ولا تكليف على الساهي فكيف يذم بذلك.. قلنا المراد ههنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة


[ 231 ]

وكذلك يعلمون مذاهب المبطلين واعتقاداتهم الباطلة إلا أنهم يجهلون كونها باطلة ويعتقدون صحتها بالشبهة فيصيرون إليها وعلى هذا الوجه لا يجب أن يكون الله تعالى وصفهم بالغي وترك الحق مع العلم به. والوجه الثالث أن يكونوا عالمين بسبيل الرشد والغي ومميزين بينهما إلا أنهم للميل الى أعراض الدنيا والذهاب مع الهوى والشبهات يعدلون عن الرشد الى الغي ويجحدون ما يعلمون كما أخبر الله سبحانه عن كثير من أهل الكتاب بانهم يجحدون الحق وهم يعلمونه ويستيقنونه.. فان قيل فما معنى قوله تعالى (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) والتكذيب لا يكون في الحقيقة الا في الأخبار دون غيرها.. قلنا التكذيب قد يطلق على الأخبار وغيرها ألا ترى انهم يقولون فلان يكذب بكذا إذا كان يعتقد بطلانه كما يقولون يصدق بكذا وكذا إذا كان يعتقد صحته ولو صرفنا التكذيب ههنا الي أخبار الله تعالى التي تضمنتها كتبه الواردة على أيدي رسله جاز فتكون الآيات ههنا هي الكتب المنزلة دون سائر المعجزات.. فان قيل فما معنى ذمه تعالى (ذلك بأنهم كانوا عن آياتنا غافلين) والغفلة على مذهبكم من فعله لانها السهو وما جرى مجراه مما ينافي العلوم الضرورية ولا تكليف على الساهي فكيف يذم بذلك.. قلنا المراد ههنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة


[ 231 ]

ووجه التشبيه أنهم لما أعرضوا عن تأمل آيات الله تعالى والانتفاع بها أشبهت حالهم حال من كان ساهيا غافلا عنها فأطلق عليهم هذا القول كما قال تعالى (صم بكم عمي) على هذا المعنى ولهذا يقول الانسان لمن يستبطئه ويصفه بالاعراض عن التأمل والتبين أنت ميت وراقد لا تبصر ولا تسمع وما أشبه ذلك وكل هذا واضح بحمد الله وكرمه واحسانه (تم الجزء الأول ولله الحمد من كتاب أمالي السيد المرتضي) (ويليه الجزء الثاني وأوله تأويل خبر ان سأل سائل الخ..) (والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)

اترك تعليقاً