الانتصار

السيد المرتضى


[ 2 ]

الانتصار المؤلف: الشريف المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي الموضوع: فقه عدد الأجزاء: واحد عدد الصفحات: 663 تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي المطبوع: 1000 نسخة التاريخ: شوال المكرم 1415 ه‍. ق مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة


[ 3 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المصطفى محمد، وعلى آله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين. وبعد، لا يخفى على الناظر إلى ما كتبه فقهاء الطائفة الإمامية الاثنا عشرية وجهابذتها في فقه الشريعة الاسلامية الدور المهم الذي مارسه هؤلاء المحققون في حفظ الدين من التلاعب والتغيير وصيانته من التحريف والتبديل. وببركة جهودهم المتوالية ومساعيهم الحثيثة في تفريع الفروع وإرجاعها إلى الأصول الأصلية في القرآن الكريم والسنة المعصومية الشريفة بقي هذا الدين الحنيف حيا في نفوس الناس رغم التغير الكبير الحادث في حياتهم على مر الأزمنة والعصور والذي صار سببا في ظهور مسائل جديدة واستحداث حوادث ووقائع تحتاج إلى معرفة نظر الشارع المقدس فيها. وقد هيأ الله عز شأنه في كل عصر وفترة زمنية من بهم يحفظ الدين وتدفع الشبهات وتحل المشكلات وتبين الوظائف الشرعية في شتى الفروع الحياتية ومختلف المسائل التي تعترض حياة الانسان الفردية والاجتماعية. ومن بين هؤلاء علم الهدى السيد أبو القاسم علي بن الحسين المعروف ب‍ ” الشريف المرتضى ” طيب الله رمسه من أعلام القرنين الرابع والخامس الهجري. وفضله أشهر من أن يذكر فهو الفقيه المحقق والأصولي المجدد والكلامي


[ 4 ]

المتضلع والأديب الماهر والمفسر المتبحر، صاحب التآليف الكثيرة والتصانيف العديدة في أنواع الفنون ومختلف العلوم. والكتاب الماثل بين يديك – عزيزنا القارئ – هو واحد من تلكم الآثار الشريفة التي سطرتها براعة هذا السيد الجليل، وقد سماه ب‍ ” الانتصار ” إنتصارا لفقه الإمامية وآرائهم وفتاواهم التي انفردوا بها وصارت سببا لتشنيع المخالفين في كونها مخالفة للاجماع وفاقد للدليل والبرهان، فانبرى لهم السيد قدس الله سره وذكر جميع الموارد التي انفردت بها الإمامية في الأحكام الشرعية وأوضح في ذلك حجة الإمامية وأدلتهم التي اعتمدوها في مذاهبهم الصائبة وأنظارهم الصحيحة فجزاه الله عن الاسلام وأهله أفضل الجزاء وأدومه. ولأهمية هذا الكتاب قررت مؤسستنا طبع الكتاب بتحقيق دقيق وتصحيح للمتن متين بعد مقابلته مع النسخ الخطية المتوفر وتخريج أقواله بما توفر لديها من مصادرها وإلحاقه بفهارس عامة تسهل على القارئ الوصول إلى ضالته في هذا الكتاب القيم. ولا يفوتنا أخيرا أن نتقدم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لفضيلة المحقق الشيخ علي الدباغ أيده الله وجميع الأخوة الذين ساهموا في تحقيق الكتاب. سائلين الله لهم ولنا المزيد من التوفيق في خدمة تراث الإمامية الخالد إنه خير موفق ومعين. مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة


[ 5 ]

ترجمة الشريف المرتضى


[ 6 ]

“… كان الشريف المرتضى أوحد أهل زمانه فضلا وعلما وكلاما وحديثا وشعرا وخطابة وجاها وكرما إلى غير ذلك… ” أعيان الشيعة 8: 214 نقلا عن الدرجات الرفيعة للسيد علي خان رحمه الله


[ 7 ]

ترجمة الشريف المرتضى بقلم: المحامي رشيد الصفار مع تعديل وإضافة منا بين يدي الترجمة الافاضة في ترجمة الشريف المرتضى أمر تقتضيه بديهة التعريف به، وتمليه طبيعة البحث للوقوف على جوانب هامة من عناصر شخصيته، تلك الشخصية اللامعة، الجامعة لخصال الخير، ومزايا العلم والأدب والفضل. فالشريف المرتضى عالم واسع المعرفة، غزير الاطلاع ملم بفنون جمة من الثقافة الاسلامية، والمعرفة الانسانية في عصر بلغت فيه الحضارة الاسلامية بشتى فروعها وأفانينها مبلغا عظيما من الرقي والازدهار في العلوم والفنون والآداب والفلسفة والشعر، حتى طبع القرن الرابع الهجري بطابع خاص، صنفت في خصائصه الكتب الكثيرة، وأفردت فيه المؤلفات الضخمة. والشريف المرتضى عاش في تلك الحقبة من ذلك الزمن الزاهر، الزاخر بالعلوم والمعارف والآداب. كان – رحمه الله – فقيه الإمامية ومتكلمها ومرجعها في ذلك العصر بعد وفاة أستاذه الجليل الفقيه المتكلم محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بابن المعلم، والمشهور بالشيخ المفيد بلا مدافع، ولنا من كتابه ” الشافي في الامامة ” أبلغ حجة على تعمقه في علم الكلام، وأوضح دلالة على براعته في فن الحجاج والمناظرة في كل المذاهب (1). أما في الفقه والأصول، ففي رسائله الوافرة ومسائله الجمة وكتبه النادرة خير مثال


(1) قال ابن الجوزي في المنتظم عند ترجمته للشريف المرتضى: ” إنه كان يناظر عنده في كل المذاهب ” راجع 8 / 120 منه.

[ 8 ]

على ما نقول (1). وأما في الأدب واللغة والتفسير والتاريخ والتراجم، فكتابه ” الأمالي ” المسمى: ” غرر الفوائد ودرر القلائد ” أسطع برهان على سعة معرفته في هاتيك الفنون. وليست بنا حاجة إلى التدليل على شدة عارضته في الشعر وتفننه في أغراضه وتفهمه لمعانيه ومقاصده، بعد تقديم ديوانه الضخم ” هذا ” الذي يضم بين دفتيه قرابة أربعة عشر ألف بيت من الشعر، فضلا عما جمعه ونظمه في أبواب خاصة، وأغراض مفردة مثل مجموعته في الشيب والشباب المسماة ” الشهاب “، وما جمعه ونظمه في طيف الخيال وصفة البرق، إلى غير ذلك. فالاسهاب في ترجمته محله غير هذه المقدمة، لما تتسم به ظروف هذا العصر من ميسم السرعة وطابع الاختصار، فالذي سنتعرض لذكره يكون مفتاحا لمصاريع واسعة، أو رمزا إلى مباحث مترامية الأطراف تطل على آفاق رحبة من مزايا هذا العالم المتكلم، والفقيه الأوحد، والفيلسوف الاسلامي البارع، والأديب الألمعي، والشاعر المفلق فللمتتبع مجال آخر، وكم ترك الأول للآخر! مولده: ولد الشريف المرتضى في دار أبيه بمحلة باب المحول في الجانب الغربي من بغداد ” الكرخ ” الواقعة بين نهر الصراة غربا، ونهر كرخايا شرقا ومحلة الكرخ جنوبا (2) في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع لله العباسي. نسبه وأسرته من أبيه وأمه: هو علي بن الشريف أبي أحمد الحسين نقيب الطالبيين بن موسى ” الأبرش ” بن


(1) سيأتي ذكر مصنفاته في أواخر هذه الترجمة.
(2) انظر الخارطة رقم (7) مقابل ص 198 من تاريخ بغداد في عهد العباسي: تأليف ” غي لسترنج ” – المطبعة العربية ببغداد -.

[ 9 ]

محمد ” الأعرج ” بن موسى ” أبي سبحة ” بن إبراهيم ” المرتضى ” بن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام. والده: هو الشريف أبو أحمد الحسين الملقب بالطاهر الأوحد ذي المناقب لقبه بذلك الملك بهاء الدولة البويهي لجمعه مناقب شتى ومزايا رفيعة جمة، فهو فضلا عن كونه علوي النسب، هاشمي الأرومة انحدر من تلك السلسلة الطاهرة فإنه كان نقيب الطالبيين وعالمهم وزعيمهم، جمع إلى رياسة الدين زعامة الدنيا لعلو همته وسماحة نفسه، وعظيم هيبته وجليل بركته. وإلى ذلك أشار ابن مهنا في ” عمدة الطالب ” بنقله عن الشيخ أبي الحسن العمري النسابة ” أن الشريف أبا أحمد أجل من وضع على رأسه الطيلسان وجر خلفه رمحا (أراد: أجل من جمع بينهما) وكان قوي المنة شديد العصبة، يتلاعب بالدول، ويتجرأ على الأمور ” (1). ويستفاد من هذا القول أن الشريف أبا أحمد كان بطل حرب وسياسة، فضلا عن كونه رجل علم وزعيم قوم. إلا أننا لم نقف له في التاريخ على أنه خاض حربا أو دخل معركة. فلهذه الملكات الحميدة والصفات المجيدة والهيبة الشديدة خشيه عضد الدولة البويهي ولأنه كان منحازا لابن عمه بختيار بن معز الدولة فحين قدم العراق قبض عليه في صفر سنة 369 ه‍ (2)، وحمله إلى قلعة بشيراز اعتقله فيها فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة سنة 373 ه‍، فأطلقه أبو الفوارس شرف الدولة بن عضد الدولة واستقدمه معه إلى بغداد فأكرمه وأعظمه وأعاد إليه نقابة الطالبيين – التي عزل عنها ووليها مرارا وقلده قضاء القضاة سنة 394 ه‍ زيادة إلى ولاية الحج والمظالم ونقابة الطالبيين وكان التقليد له بشيراز، وكتب له عهد على جميع ذلك ولقب بالطاهر الأوحد ذي المناقب فلم ينظر في قضاء القضاة لامتناع القادر بالله من الإذن له بذلك (3).


(1) كذا في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 192 ط النجف.
(2) المنتظم لابن الجوزي 7 / 198.
(3) المنتظم لابن الجوزي 7 / 226 و 227.

[ 10 ]

ويشير الشريف الرضي ابنه إلى قصة اعتقاله ويعلمه بموت عضد الدولة بالأبيات الشهيرة التي بعث بها إليه وهو في الاعتقال (1)، ومنها: أبلغا عني الحسين ألوكا * أن ذا الطود بعد بعدك ساخا والشهاب الذي اصطليت لظاه * عكست ضوءه الخطوب فباخا والفنيق الذي تدرع طول الأرض * خوى به الردى فأناخا وقد كان الشريف أبو أحمد سيدا مطاعا مهيبا، حسن التدبير سخيا، مواسيا لأهله ولغيرهم. قال أبو الحسن العمري النسابة (2): حدثني الشريف أبو الوفاء محمد بن علي بن محمد ملقطة (3) البصري، المعروف بابن الصوفي، قال: (وكان ابن عم جدي لحا) قال: احتاج أبي أبو القاسم علي بن محمد وكانت معيشته لا تفي بعياله فخرج في متجر ببضاعة نزرة، فلقى أبا أحمد الموسوي ” ولم يقل أبو الوفاء أين لقيه “، فلما رأى شكله خف على قلبه وسأله عن حاله، فتعرف بالعلوية والبصرية (4) وقال: خرجت في متجر لي فقال له – أي أبو أحمد الموسوي -: ” يكفيك من المتجر لقائي ” (5). قال العمري: فالذي استحسنت من هذه الحكاية قوله: يكفيك من المتجر لقائي “. وكان الشريف أبو أحمد كثير السعي في الاصلاح ميمون الوساطة، لذا كثرت سفاراته لبركة وساطته بين خلفاء بني العباس وملوك بني بويه والأمراء من بني حمدان وغيرهم. وتوفي الشريف المذكور بعد أن حالفته الأمراض وذهب بصره ببغداد سنة أربعمائة، ليلة السبت لخمس بقين من جمادى الأولى، ودفن في داره ثم نقل منها إلى


(1) راجع ديوان الشريف الرضي ط بيروت ص 206.
(2) عمدة الطالب ص 192 و 193 ط. النجف.
(3) في عمدة الطالب طبع بمبي ص 191 (بن مسلطة) بدل ” ملقطة.
(4) كان الشريف أبو أحمد بصريا.
(5) عمدة الطالب ص 192 و 193 ط. النجف.

[ 11 ]

مشهد الحسين بن علي عليهما السلام في كربلاء ودفن في تلك الروضة المقدسة عند جده إبراهيم بن الإمام موسى. وقبر إبراهيم هذا له مزار معلوم إلى عصرنا هذا في رواق الإمام الحسين عليه السلام مما يلي الرأس الشريف – بعد أن عمر سبعا وتسعين سنة، وقد رثته الشعراء بمرات كثيرة وممن رثاه ابنه المرتضى – صاحب الديوان – بالقصيدة التي مطلعها: ألا يا قوم للقدر المتاح * وللأيام ترغب عن جراحي والشريف الرضي أخوه بالقصيدة التي مطلعها: وسمتك حالية الربيع المرهم * وسقتك ساقية الغمام المرزم ومهيار الديلمي الكاتب بالقصيدة التي مطلعها: كذا تنقضي الأيام حالا على حال * وتنقرض السادات باد على تال وأبو العلاء المعري بالفائية المذكورة في سقط الزند التي مطلعها: أودى فليت الحادثات كفاف * مال المسيف وعنبر المستاف والأستاذ الجليل أبو سعد علي بن محمد بن خلف بالقصيدة التي مطلعها: يا برق حام على حياك وغاير * أن تستهل بغير أرض الحائر وبعث بهذه القصيدة إلى الشريف المرتضى فكتب إليه قصيدة على الروي نفسه والقافية، ومطلعها: هل أنت من وصب الصبابة ناصري * أو أنت من نصب الكآبة عاذري؟ هذا ما يتعلق بأبي المرتضى. أما والدته: فهي فاطمة بنت أبي محمد الحسن (أو الحسين) الملقب ب‍ (الناصر الصغير) ابن أحمد بن أبي محمد الحسن الملقب ب‍ (الناصر الكبير) أو ” الأطروش أو الأصم ” صاحب الديلم بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام (1) وهي والدة شقيقه الرضي، ويلقب الناصر الأصم


(1) جاء ذكر هذا النسب في كتاب ” أدب المرتضى ص 64 – 66 ” للأستاذ الفاضل الدكتور عبد الرزاق محيي الدين مع بعض الخلاف ولعله الأرجح، وقد جاء في ص 65 ذكر الحسن نقيب العلويين

[ 12 ]

ب‍ (الناصر للحق)، وكان شيخ الطالبيين، وعالمهم، وزاهدهم وشاعرهم، ملك بلاد الديلم والجبل، وجرت له حروب عظيمة مع السامانية وتوفي بطبرستان ” سنة 304 ” (1). وقد توفيت فاطمة بنت الناصر المذكورة – رحمها الله – في ذي الحجة سنة 385 ورثاها الشريف الرضي بالقصيدة التي مطلعها: أبكيك لو نقع الغليل بكائي * وأقول لو ذهب المقال بدائي


(الناصر الصغير) وقول المرتضى: شاهدته وكاثرته (كذا) وهو جدي الأدنى… ولعل قوله ” كاثرته ” مصحف عن ” كاشرته ” (بالشين) والمكاشرة هي المجاورة تقول جاري مكاشري أو بحذائي يكاشرني لأن المكاثرة (بالثاء) هي المغالبة ولا يريد المرتضى هذا المعنى، وقد ولي الناصر المذكور: النقابة سنة 362 وتوفي سنة 368 على ما ذكر في ” أدب المرتضى “. وقد جاء فيه – أي أدب المرتضى – ص 66 هامش: يقول المؤلف (أي الدكتور): يبدو أن لصاحب رياض العلماء رأيين مختلفين لعل ثانيهما يصحح الأول (الأول كون الناصر الأطروش إماميا والثاني كونه زيديا). أقول: والذي ذهب إليه المحققون أن أبا محمد الناصر الكبير صاحب الديلم هو من علماء الإمامية، وفي طليعتهم الشريف المرتضى نفسه في كتابه (شرح المسائل الناصرية) كما أورده محيي الدين نفسه في قول النجاشي وعنه نقل العلامة الحلي في الخلاصة وما ذهب إليه الشيخ البهائي أيضا، وقد بين المرتضى نزاهته ونزاهة جميع بنيه عن تلك العقيدة المخالفة لعقيدة أسلافهم. ولعل الخلط بين كونه زيدي المذهب تارة وإماميا تارة أخرى، جاء من تطابق الاسم واللقب وموضع الوفاة بينه وبين ” الحسن بن زيد ” من بني زيد بن الحسن السبط الذي قيل عنه إنه إمام الزيدية وهو الملقب ب‍ ” الداعي إلى الحق ” (لا الناصر للحق) وقد توفي أيضا بطبرستان سنة 250، وقام مقامه أخوه محمد بن زيد المدعو ب‍ (الداعي إلى الحق) أيضا. أما والد أم الشريفين الذي شاهده المرتضى ” وكاشره ” أي جاوره وهو أبو محمد الحسن أيضا والملقب ب‍ ” الناصر الصغير ” أو الأصغر لم يكن من الزيدية أيضا ومن زعم أن أحد هذين الناصرين من الزيدية فقد اشتبه عليه الداعي للحق بالناصر للحق – فتأمل. راجع ص 76 من مقدمة حقائق التأويل للشريف الرضي ط. النجف بقلم الشيخ الفاضل المحقق عبد الحسين الحلي. (1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ” 1 / 13 ” وهامش ص 76 من مقدمة حقائق التأويل المار ذكرها.

[ 13 ]

ألقابه وكنيته: اشتهر الشريف المرتضى بلقب السيد، والشريف، والمرتضى، وذي المجدين، وعلم الهدى، وأول من وسمه بهذا اللقب الأخير، هو الوزير أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الصمد سنة عشرين وأربعمائة، وسبب التسمية مذكورة في كتب التاريخ والتراجم فلتراجع (1). ويكنى بأبي القاسم. سماته الخلقية وصفاته الخلقية: كان الشريف – رحمه الله – ربع القامة نحيف الجسم أبيض اللون حسن الصورة. اشتهر بالبذل والسخاء والاغضاء من الحساد والأعداء، وقد مني بكثير من هؤلاء، وديوانه طافح بالشكوى منهم والايصاء بالتجاوز عنهم والكف عن مقارعتهم: تجاف عن الأعداء بقيا فربما * كفيت فلم تجرح بناب ولا ظفر ولا تبر منهم كل عود تخافه * فإن الأعادي ينبتون مع الدهر (2) إلا أن أعداءه ومناوئيه وحاسدي نعمته وصموه بالبخل وقلة الانفاق بهتانا وحسدا، وكل ذي نعمة محسود، وإنا لم نجد فيما كتب عنه في التراجم من وسمه بهذه الصفة المنزه عنها، إلا ما نقله بعض المؤرخين بروايات متضاربة وأسانيد مضطربة، ملخصها: أن أحد الوزراء – قيل هو محمد بن خلف – قد وزع ضريبة على الأملاك ببادوريا (3) وذلك لصرفها في حفر النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف


(1) راجع روضات الجنات للخونساري ص 383. ط الحجر.
(2) أورد هذين البيتين ياقوت في معجم الأدباء 13 / 257 وفيه ” بغيا ” مصحفة عن ” بقيا “، كما أوردهما الخونساري في الروضات ص 387 وفيها ” بنان ” مصحفة عن ” بناب “.
(3) بادوريا: طسوج من كورة الإستان بالجانب الغربي من بغداد، وهو اليوم محسوب من كورة نهر عيسى. قالوا: ما كان في شرقي الصراة فهو ” بادوريا ” وما كان في غربها فهو ” قطربل “. راجع مراصد الاطلاع لابن عبد الحق البغدادي طبعة الحلبي – مصر / 1954، ومعجم البلدان لياقوت الحموي 2 / 29 =

[ 14 ]

المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية، فوقع عليه من التقسيط عشرون درهما، فكتب المرتضى إلى الوزير يسأله إسقاط ذلك عنه، والقضية مذكورة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد يرويها أبو حامد أحمد بن محمد الأسفراييني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوما عند الوزير فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف، وزير؟ بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة، فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه وأجله ورفع منزلته… ثم دخل بعد ذلك عليه المرتضى أبو القاسم – رضي الله عنه – فلم يعظمه ذلك التعظيم، ولا أكرمه ذلك الاكرام، وتشاغل عنه برقاع يقرأها وتوقيعات يوقع بها، فجلس قليلا وسأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد: فتقدمت إليه وقلت: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون، وهو الأمثل الأفضل منهما، وإنما أبو الحسن (يعني الرضي) شاعر، قال: وكنت مجمعا على الانصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا ولم يبق عنده غيري، ثم سرد القصة وقضية الضريبة بما يشعر بالغض من منزلة المرتضى، هذا ما ذكره ابن أبي الحديد (1). والرواية تختلف بسندها ومتنها مع رواية صاحب عمدة الطالب (2) حيث أسندها إلى أبي إسحاق الصابي إبراهيم بن هلال الكاتب المشهور. قال: كنت عند الوزير أبي محمد المهلبي – وليس محمد بن خلف – ذات يوم، فدخل الحاجب واستأذنه للشريف المرتضى فأذن له، فلما دخل قام إليه وأكرمه وأجلسه معه في دسته، وأقبل عليه يحدثه حتى فرغ من حكايته ومهماته، ثم قام إليه وودعه وخرج فلم يكن ساعة حتى دخل عليه الحاجب واستأذن للشريف الرضي. ثم أورد القصة بفروق في المتن أيضا.


(1) وقد صحفت في ” أدب المرتضى ” للدكتور عبد الرزاق محيي الدين إلى ” بادرويا ” بتقديم الراء على الواو. راجع ص 83 منه طبعة المعارف ببغداد سنة / 1957. (1) شرح النهج 1 / 13.
(2) عمدة الطالب ص 198 ط. النجف.

[ 15 ]

فنحن نقف إزاء هذه الرواية المضطربة في متنها وسندها موقف الارتياب والاستغراب، فبينما نجد ابن أبي الحديد يسندها لأبي حامد الأسفراييني مع الوزير محمد ابن خلف، نجد رواية ابن مهنا صاحب العمدة مسندة إلى أبي إسحاق الصابي مع الوزير المهلبي مع فروق في المتن كما أسلفنا. فإذا علمنا أن الوزير المهلبي أبا أحمد الحسن بن محمد بن هارون – وزير معز الدولة البويهي – قد توفي سنة 352 ه‍ وهاتيك السنة هي قبل مولد المرتضى بثلاث سنين حيث كان مولده – رحمه الله – سنة 355 ه‍، هان علينا تفنيد الرواية بداهة. زيادة على ذلك أن الرواية الأولى تجعل الداخل الأول على الوزير هو الشريف الرضي بينما الرواية الثانية تجعله المرتضى. هذا ما يشير إما إلى اختلاق الرواية ووضعها من الأساس، أو إلى تحريفها أو المبالغة فيها على أقرب الاحتمالات لما سنوضحه قريبا. فالمرتضى في سعة عن التوسل بهذه الوسائل الركيكة التي لا تناسب منزلته ومقامه لدى الوزير ولدى الخلفاء أنفسهم لرفع هذه الضريبة اليسيرة، وذلك لما رزق من عزة في النفس وحظ وافر من الجاه زيادة على النعمة والثراء المصحوب بالبذل والسخاء الذي دلتنا عليه سيرته الحميدة وكرمه المعروف وبذله الفذ، حتى ليم على كثرة الانفاق والعطاء مرارا، فقال في ذلك مجيبا لهم قصائد مذكورة في هذا الديوان نذكر منها على سبيل الشاهد قوله من قصيدة حسنة: دعي منظري إن لم أكن لك رائعا * ولا تنظري إلا إلى حسن مخبري فإني وخير القول ما كان صادقا * لدي الفخر سباق إلى كل مفخر منها: وأعلم أن الدهر يعبث صرفه * بما شاء من مال البخيل المقتر منها: عذلت على تبذير مالي وهل ترى * نجمع إلا للجؤور المبذر؟ أفرقه من قبل أن حال دونه * رحيلي عنه بالحمام المقدر مضى قيصر من بعد كسرى وخليا الت‍ * لاعب في أموال كسرى وقيصر وغير ذلك مما سيأتي ذكره. وقد استفاض عنه إنفاقه على مدرسته العلمية التي تعهد بكفاية طلابها مؤونة


[ 16 ]

ومعاشا حتى أنه وقف قرية من قراه تصرف مواردها على قراطيس الفقهاء (1) والتلاميذ، وأنه كان يجري الجرايات والمشاهرات الكافية على تلامذته وملازمي درسه، مثل الشيخ الطوسي، فقد كان يعطيه اثني عشر دينارا في الشهر، ويعطي للقاضي عبد العزيز بن البراج ثمانية عشر دينارا وغيرهما، وذلك بفضل ما يرد عليه من دخل أملاكه الخاصة الذي قدر بأربعة وعشرين ألف دينار بالسنة (2) ولما يمتلكه من قرى وضياع قيل إنها ثمانون قرية بين بغداد وكربلاء، يجري خلالها نهر له، غرست الأشجار الوارفة على حافتيه فتهدلت غصونها بثمارها اليانعة، فكان ذلك الانعطاف يسهل على أصحاب السفن والسابلة العابرين قطف تلك الأثمار التي أباحها المرتضى لهم (3). وبعد هذا فالرواية إن لم تكن موضوعة ومفتعلة من أصلها، فهي محرفة، أو مبالغ فيها على أقرب الاحتمالات، لما رأيت من اختلال أسانيدها ومتونها. وعلى فرض القول بصحتها، فإن للشريف المرتضى مخرجا منها ومندوحة عنها، بحملها على محامل التعديل ومخارج التأويل. أفلا يحتمل أن يكون الشريف قد رأى بثاقب رأيه وسديد اجتهاده، أن ما القي عليه من ضريبة لحفر النهر، إنما هو من المصالح العامة التي يتحتم على الدولة القيام بها، والانفاق عليها؟ ولم يدر الشريف بدفعها عنه سوى دفع مظلمة أو إزالة ضرر، وكلاهما يجب أن يدفعا، كبيرين كانا أو صغيرين، وقد يكون السكوت عنهما يجر إلى مغارم، والرضا بهما يؤدي إلى مآثم، والكل محظور في الشريعة، والراضي بعمل قوم كالداخل معهم فيه. وقد ذكر صاحب روضات الجنات عن السيد نعمة الله الجزائري ما يفيد معنى ما ذكرناه وهذه صورته:


(1) جاء في ص 89 و 110 من كتاب أدب المرتضى لعبد الرزاق محيي الدين ” كاغد الفقراء ” مصحفة عن ” كاغد الفقهاء ” (2) معجم الأدباء لياقوت 13 / 154.
(3) روضات الجنات ص 383

[ 17 ]

” أقول: كأن الوزير فخر الملك لم يتحقق علو الهمة، فلذا عاب الأمر على الشريف المرتضى – رضي الله عنه – وإنما كان عليه غضاضة في ذلك الكتاب (يعني الكتاب الذي بعثه المرتضى إلى الوزير يسأله تخفيف الضريبة وإسقاطها)، لو كان سائلا لها من أموال الوزير، وما فعله الشريف عند التحقيق من علو الهمة: وذلك أنه دفع عن ملكه بدعة لو لم يتداركها لبقيت على ملكه، وربما وضعت من قدره لو بقيت عند أهل الأملاك وغيرهم، كما أنه ورد في الحديث: المؤمن ينبغي له الحرص على حيازة (لعلها حياطة) ماله الحلال، كي ينفقه في سبيل الطاعات. كما كانت عادة جده أبي طالب بن عبد المطلب، فإنه كان يباشر جبر ما انكسر من مواشيه وأنعامه، فإذا جاء الوافد إليه وهبها مع رعاتها له. وقد نقل عن الشريف – عطر الله مرقده – أنه اشترى كتبا قيمتها عشرة آلاف دينار أو أزيد، فلما حملت إليه وتصفحها رأى في ظهر كتاب منها مكتوبا: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك * إلى بيع أوراق بهن ضنين (1) فأمر بإرجاعها إلى صاحبها ووهبه الثمن. فأين همته هذه من الوزير الذي حمل إلى الرضي ألف دينار واستغنم ردها إليه؟ ” إنتهى قول السيد نعمة الله – رحمه الله -. فأما إعظام الوزير للشريف الرضي وتبجيله له أكثر من أخيه المرتضى، فواضح لكل من وقف على سيرة الشريفين، وعرف نفسية كل من الشخصين وسلوكهما ونزوعهما في الحياة. فالشريف كان ولا ريب ينزع إلى الخلافة ويمني نفسه بها، بل كان يترقبها صباحا ومساء، وكان يعتقد أنه سينالها ما بقي له جنان يخفق أو لسان ينطق بعد أمد قصير أو طويل.


(1) هكذا ورد البيت في روضات الجنات ص 577 وهو ضعيف ركيك سبق أن أوردنا أصله وهو مضمن في أبيات أبي علي أحمد بن سلك الفالي مع قصته في هذه المقدمة، ولعل هذه الرواية غير تلك، أو أن إحداهما منسوبة إليه، والغرض ثبوت إحداهما له.

[ 18 ]

أليس هو القائل: ما أنا للعلياء إن لم يكن * من ولدي ما كان من والدي ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ * سرير هذا الأصيد الماجد ثم أليس هو الذي يقول: لا هم قلبي بركوب العلا * يوما ولا بلت يدي بالسماح (1) إن لم أنلها باشتراط كما * شئت على بيض الظبا واقتراح أفوز منها باللباب الذي * يغني الأماني نيله والصراح منها: لا بد أن أركبها صعبة * وقاحة تحت غلام وقاح في حيث لا حكم لغير القنا * ولا مطاع غير داعي الكفاح متى أرى الأرض وقد زلزلت * بعارض أغبر دامي النواح وقوله يعني نفسه: فواعجبا مما يظن محمد * وللظن في بعض المواطن غدار يقدر أن الملك طوع يمينه * ومن دون ما يرجو المقدر أقدار لئن هو أعفى للخلافة لمه * لها طرر فوق الجبين وأطرار ورام العلا بالشعر والشعر دائبا * ففي الناس شعر خاملون وشعار وإني أرى زندا تواتر قدحه * ويوشك يوما أن يكون له نار ويرتقي به الأمر إلى أكثر من ذلك، حتى يسمي نفسه أمير المؤمنين، انظر إلى قوله يخاطب نفسه (2). هذا أمير المؤمنين محمد * كرمت مغارسه وطاب المولد أو ما كفاك بأن أمك فاطم * وأبوك حيدرة وجدك أحمد؟ يمسي ومنزل ضيفه ” لا يجتوى ” * كرما وبيت نضاره لا يقلد (3)


(1) في ديوان الشريف الرضي ط. بيروت ذات المجلد الواحد ” بل يدي ” بدل ” بلت يدي “.
(2) ديوان الشريف الرضي ط. بيروت ذات المجلد الواحد ص 314.
(3) جاء في الديوان ” يحتوي ” مصحفة عن ” يجتوى ” (على المجهول) واجتوى المكان: كره الإقامة فيه ويقلد: يغلق ومنه سمي الإقليد وهو المفتاح تقلد به الباب أي تغلق.

[ 19 ]

ولم يكن الشريف الرضي وحده معللا نفسه بهذه الآمال الجسام، وممنيها تلك الأمنيات العظام، بل نجد المخلصين له من أحبائه وأصحابه يتفرسون بن نيل تلك الرتب، والوصول إلى ذلك المرام ولو بعد حين، لذلك كتب إليه أبو إسحاق الصابي في هذا المعنى: أبا حسن لي في الرجال فراسة * تعودت منها أن تقول فتصدقا وقد خبرتني عنك أنك ماجد * سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى فوفيتك التعظيم قبل أوانه * وقلت، أطال الله للسيد البقا وأضمرت منه لفظة لم أبح بها * إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا فإن عشت أو إن مت فأذكر بشارتي * وأوجب بها حقا عليك محققا وكن لي في الأولاد والأهل حافظا * إذا ما اطمأن الجنب في موضع النقا ثم نرى الشريف يعد الصابي ببلوغ الآمال، إن ساعد الدهر (1) بقصيدة أيضا مذكورة في ديوانه، وأولها: سننت لهذا الرمح غربا مذلقا * وأجريت في ذا الهندواني رونقا ونظم الشريف في هذا المعنى والغرض كثير يزخر به ديوانه الضخم. فالشريف الرضي مع هذه الهمة العالية، والنفس الطامحة، والأنف الحمي، والقلب الجرئ واللسان المصلت كالسيف الصارم، كان في الحقيقة شبحا مخيفا، بل قنبلة مرصدة إزاء كيان ملك بني العباس لا يدرون متى تنفجر فتزعزع سلطانهم، وتعصف بدولتهم لذا يقول: متى أرى الزوراء مرتجة * تمطر بالبيض الظبا أو تراح يصيح فيها الموت عن ألسن * عن العوالي والمواضي فصاح فمن أجل ذلك نرى الوزراء والملوك، بل الخلفاء أنفسهم، يدارونه، مداراة من


(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ط. مصر 1 / 11 – 12 وقد جاء في ديوان الشريف الرضي 1 / 417. وفي عمدة الطالب طبع بمبي سنة 1318 ه‍ ص 174 أنه كان الرضي يرشح إلى الخلافة، وكان أبو إسحاق الصابي يطمعه فيها ويزعم أن طالعه يدل على ذلك.

[ 20 ]

تخشى سطوته وتحذر ثورته. فاحترام وزير شخصا يرى ذلك الشخص نفسه أعظم من الوزير وأرفع، وأجل وأمنع، ليس من الأمور الغريبة أو النوادر العجيبة! بينما نجد المرتضى – صاحب الديوان – منصرفا إلى العلم مشغولا بالدرس، عازفا عن بهرجة السلطة ومقامات السياسة – وإن كان ذا مكانة خطيرة فيها – زاهدا في المناصب أو الرئاسة، وأكثر الناس – ولا يخفى ذلك – في كل عصر ولا سيما منهم خدمة الدولة وأرباب السلطة يزهدون في الزاهدين، ويخشون سطوة الأشداء المجترئين. أما مسألة العلم، وتوقير العلماء فهي مسطورة في السطور، أو مكونة في الصدور. ميله إلى الزهد في الدنيا، وتهذيب النفس فيها: كان الشريف – رحمه الله – ميالا إلى الزهد في الدنيا راغبا عنها، ذاما لها، داعيا إلى الاعتبار فيها، سالكا سبيل أجداده الكرام، من جعلها مجازا للآخرة ومزادا لدار القرار لذا نجد ديوانه يفيض بالقصائد في ذم الدنيا والحث على الزهد فيها والاعتبار بتقلب أحوالها، وفناء نعيمها، ثم هو يصف مقابرها، ويرثي مقبوريها، ويدعو كذلك إلى تكميل النفس وتهذيبها، وغرس مواد العزة فيها بنبذ الحرص، وترك الطمع، والتحلي بجمال العلم وخصال الخير، فمن ذلك قوله في ذم الدنيا والحث على الزهد فيها: أفي كل يوم لي مني أستجدها * وأسباب دنيا بالغرور أودها ونفس تنزى ليتها في جوانح * لذي قوة يسطيعها فيردها تعامه عمدا وهي جد بصيرة * كما ضل عن عشواء بالليل رشدها إذا قلت يوما قد تناهى جماحها * تجانف لي عن منهج الحق بعدها منها: ولم أر كالدنيا تصد عن الذي * يود محبوها فيحسن صدها وتسقيهم منها الاجاج مصردا * فكيف بها لو طاب للقوم عدها؟ منها: وحب بني الدنيا الحياة مسيئة * بهم ثلمة في النفس أعوز سدها منها: سقى الله قلبا لم يبت في ضلوعه * هواها ولم يطرق نواحيه وجدها منها: تخفف من أزوادها مل ء طوقه * فهان عليه عند ذلك فقدها


[ 21 ]

وقال في الموعظة والاعتبار وهي قصيدة طويلة نذكر منها: لا تقربن عضيهة * إن العضاءة مخزيات واجعل صلاحك سرمدا * فالباقيات الصالحات في هذه الدنيا ومن * فيها لنا أبدا عظات إما صروف مقبلا * ت أو صروف مدبرات والذل موت للفتى * والعز في الدنيا حياة والذخر في الدارين إما * طاعة أو مأثرات وقال في الزهد، وهي قصيدة طويلة نذكر منها: قل للذي راح بعز واغتدا * يسحب منه مطرفا موردا صنيع من يطمع أن يخلدا * جمعت ما لا بد أن يبددا إن لم يزل في يومه زال غدا * يا جامعا لغيره محتشدا نضدت مالا هل نضدت أمدا؟ * سيان من سار يجر العددا ومن يظل واحدا منفردا * كلاهما مفارق ما وجدا وله في الوعظ: يقولون أسباب الحياة كثيرة * فقلت وأسباب المنون كثيرة وما هذه الأيام إلا مصائد * وأشراك مكروه لنا وغرور يسار بنا في كل يوم وليلة * فكم ذا إلى مالا نريد نسير وما الدهر إلا فرحة ثم ترحة * وما الناس إلا مطلق وأسير وله في الاعتبار هذه القصيدة الحسنة، نذكر منها: يا سائلي عن ذنوب الدهر آونة * اسمع فعندي أنباء وأخبار كل الرجال إذا لم يخشعوا طمعا * ولم تكدرهم الآمال أحرار


[ 22 ]

إن تضح داري في عمان نائية * يوما علي فبالخلصاء لي دار لو لم يكن لي جار من نزارهم * يحنو علي فمن قحطانهم جار وإن يضق خلق من صاحب سئم * فلم تضق بي في ذي الأرض أقطار منها: ما سرني أنني أحوي الغنى وبدا * في كف جاري إعسار وإقتار منها: لا بارك الله في دار اللئام ولا * سالت به عند جدب العام أمطار والخير كلفة هذا الخلق كلهم * والناس بالطبع والأخلاق أشرار وله غير ذلك قصائد ومقطوعات تجدها خلال الديوان. وهو مع زهده الشديد في الدنيا وتقشفه فيها، كان ذا مقام سياسي في الدولة خطير يفوق مقام أخيه الرضي بكثير، وذلك بفضل ما أوتي من أصالة الرأي ووفارة العلم والمال، مع عز العشيرة وكثرة الرجال وهذا ما سنتعرض لذكره بعد حين عند القول على منزلته الاجتماعية والسياسية في هذه المقدمة. شغفه بالعلم، مدرسته العلمية، خزانة كتبه: كان الشريف – رحمه الله – مشغوفا بالعلم منصرفا إليه بين دراسة وتدريس، محبا لتلامذته وملازميه، حتى أنه كان يجري عليهم الجرايات الشهرية، وقد مر عليك ذكر ذلك. وقد اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة تضم بين جدرانها ثلة من طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم الأخرى كعلم الفلك والحساب وغيره حتى سميت أو سماها دار العلم وأعد له مجلسا للمناظرات فيها. غير أن الذي هو جدير بالملاحظة والاعتبار، أن مجلس الشريف أو مدرسته العلمية – بتعبير أصح – كانت جامعة إنسانية تلم شتات كثير من طلاب العلم ومريديه من مختلف المذاهب والنحل، دون تفرقة بين ملة وملة أو مذهب ومذهب. وقد مرت عليك قصة اليهودي الذي درس عليه علم النجوم – أعني الفلك – كما لم تخف عليك أيضا اتصالاته الوثيقة بأبي إسحاق الصابي الكاتب المشهور *، وللمرتضى في رثائه قصيدة رائعة تعد من غرر قصائده ومطلعها:


[ 23 ]

ما كان يومك يا أبا إسحاق * إلا وداعي للمنى وفراقي (1) وهذا إن دل على شئ، فإنه يدل على رحابة صدر المرتضى وسعة أفقه وشريف نظرته الانسانية التي تعبر عن قلبه الشفيق الرحيم العطوف على هذه النفوس البشرية المعذبة بويلات العصبية الرعناء والطائفية البغيضة، والعنعنات الباطلة، المنبعثة من الجهل المطبق، وضيق الأفق المحدود، فالمرتضى كان له أسوة حسنة في جده الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام وأصحابه الأجلة، المرددين قول رب الخلق أجمعين: ” يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم “. أما شغف المرتضى بجمع الكتب وولعه باقتنائها فيكفينا أن نذكر أن خزانته ضمت ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته، على ما حصره وأحصاه صديقه أبو القاسم التنوخي (2). وقد قومت هذه الكتب بثلاثين ألف دينار على ما ذكره الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر، هذا بعد أن أهدى الشريف من هذه الكتب إلى الرؤساء والوزراء شطرا، وسيأتيك ذكر مؤلفاته الخاصة في فهرست كتبه. دراسته وشيوخه: تتلمذ المرتضى على كثير من علماء عصره في مختلف العلوم والفنون، فإنه درس


(1) هذه المرثية مثبتة في هذا الديوان، وهي تكذب ما نسبه إليه بعض الرواة دون مبالاة من أنه لما نقل إليه رثاء أخيه الشريف الرضي للصابي بالقصيدة المشهورة التي مطلعها: أرأيت من حملوا على الأعواد؟ * أرأيت يوم خبا ضياء النادي؟ قال الشريف المرتضى (على ما زعم) نعم ما حملوا إلا كلبا.
(2) راجع روضات الجنات ص 383 والتنوخي: هو أبو القاسم علي بن المحسن القاضي صاحب المرتضى وتلميذه، ولد بالبصرة سنة 365 ه‍ وولي القضاء بالمدائن، وكان متحفظا في الشهادة محتاطا صدوقا في الحديث توفي ” سنة 447 ” ودفن في داره بدرب التل، وقد كتب عنه الخطيب البغدادي وصلى على جنازته.

[ 24 ]

اللغة والمبادئ مع أخيه الشريف الرضي على الأديب الشاعر ابن نباتة (1) السعدي، وقرأ كلاهما الفقه والأصول على الشيخ الجليل محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد، وتتلمذ المرتضى في الشعر والأدب على أبي عبيد الله المرزباني، وأكثر رواياته في كتابه ” الأمالي ” عنه، ويروي كذلك فيه عن أبي القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا الدقاق وأبي الحسن علي بن محمد الكاتب (2). وله أساتذة وشيوخ غير هؤلاء أخذ عنهم الحديث والفقه والأصولين وغيرها من العلوم، نذكر منهم: المحدث الجليل الحسين بن علي بن بابويه القمي أخو الشيخ الصدوق رحمهما الله تعالى، وسهل بن أحمد الديباجي وأبو الحسن أحمد بن محمد بن عمران المعروف بابن الجندي البغدادي، وأبو الحسن أو (أبو الحسين) علي بن محمد الكاتب، وأحمد بن محمد بن عمران الكاتب، وغيرهم. عقيدته ومذهبه الكلامي: كان الشريف المرتضى – رحمه الله – يذهب في أصول عقائده مذهب سائر الشيعة الإمامية من قولهم: بتوحيد الله عز وجل، وعدله وامتناع صدور الظلم منه، وهم ينهجون بذلك منهج أغلب المعتزلة الذين يسمون أنفسهم بالعدلية أو أهل العدل، ويقولون: بنفي الصفات الالهية الزائدة على الذات، إذ يرون أن صفاته سبحانه هي عين ذاته، ويذهبون إلى أن تحسين الشئ أو تقبيحه أمر عقلي أي يدرك بالعقل كعلمنا


(1) هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر الشاعر السعدي وستأتي ترجمته، (وليس هو صاحب الخطب ابن نباتة الفرقي دفين ميافارقين المتوفى سنة 374) كما وهم صاحب روضات الجنات وغيره (راجع الروضات ص 383).
(2) هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار الكاتب (راجع معجم الأدباء 14 / 245)، وهو غير أحمد بن محمد بن عمران الكاتب كما لا يخفى.

[ 25 ]

بحسن الصدق النفع وقبح الكذب الضار وغيرهما من الأمور البديهية، وإن كانت بعض الأحكام التكليفية كالعبادات مثلا لا يمكن استقلال العقل بالحكم فيها بالحسن أو القبح إلا عن طريق الشرع، فما ورد الشرع بحسنه أو قبحه أمر لا مجال للعقل في تحسينه أ تقبيحه، فمرتبة العقل بعد مرتبة الشرع بلا جدال. ” فأجمعت الإمامية على أن العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع (أي المسموع من الشرع) وأنه غير منفك عن سمع ينبه الغافل على كيفية الاستدلال، وأنه لا بد في أول التكليف وابتدائه في العالم من رسول ” وإن من قرية إلا خلا فيها نذير ” ” وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا “، وخالفهم في جميع ذلك المعتزلة والخوارج والزيدية، وزعموا أن العقول تعمل بمجردها من السمع والتوقيف. إلا أن البغداديين من المعتزلة خاصة يوجبون الرسالة في أول التكليف ويخالفون الإمامية في علتهم لذلك ” (1). وذهبوا إلى أن الانسان المكلف محاسب على أعماله المكلف بها على قدر اختياره لها وقدرته عليها ” لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت “، ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها “. واتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه على الكفار خاصة، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والاقرار بفرائضه من أهل الصلاة. كما اتفقوا على أن من عذب بذنبه من هؤلاء لا يخلد في العذاب، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وهو التخليد في العذاب، وهو ما يعرف عندهم – أي المعتزلة – ب‍ ” الوعيد “. واتفقت الإمامية على أن مرتكب الكبائر من أهل المعرفة والاقرار لا يخرج بذلك عن الاسلام، وأنه مسلم وإن كان فاسقا بما فعله من الكبائر والآثام، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أن مرتكب الكبائر ممن ذكرناه فاسق ليس بمؤمن ولا كافر وهذا القول يعرف عندهم ب‍ ” المنزلة بين المنزلتين ” التي ميزت المعتزلة في أول أمرهم عن سائر فرق الاسلام، وأول من قال بهذه المقالة منهم هو واصل بن عطاء الغزال. ويذهب الإمامية في الامامة – بأجمعهم – إلى أنها بالنص الجلي على الأئمة الاثني


(1) راجع كتاب أوائل المقالات في المذاهب المختارات: للشيخ المفيد ص 44، ط. ايران.

[ 26 ]

عشر أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وقالوا بعصمتهم جميعا، وخالفهم في جميع ذلك المعتزلة، إلا ما نسب إلى إبراهيم بن سيار النظام من موافقتهم بذلك (1). والإمامية يختلفون مع المعتزلة في مسائل أخر، وكان ما ذكرناه أهمها، ويتفقون معهم في مسائل أخر غيرها، من قولهم بخلق القرآن، وإنه كلام الله محدث وليس بقديم، وقولهم إن الله تعالى لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وغير ذلك. إلا أن اشتراكهم مع المعتزلة في بعض المقالات والاعتقادات لا يبرر القول بأنهم منهم، فللمعتزلة آراء وعقائد يتشاركون بها مع كافة فرق الاسلام، ويتفردون عنهم بعقائد وآراء أخر، كما يتمايزون بعضهم عن بعض في كثير من الآراء. وعلى ذلك فالمرتضى لم يكن معتزليا ولا رأسا في الاعتزال، على ما يزعم الخطيب البغدادي، ولا فيه ميل أو تظاهر في الاعتزال أو هو داعية إليه على ما يذهب إليه ابن الجوزي وابن حزم الظاهري. قال الصفدي في الوافي بالوفيات نقلا عن الخطيب البغدادي قال – يعني الخطيب -: كتبت عنه – أي عن المرتضى – وكان رأسا في الاعتزال كثير الاطلاع والجدال. وقال ابن الجوزي في المنتظم 8 / 120: كان إماميا فيه ميل للاعتزال. وقال ابن حزم في الملل والنحل على ما نقله عنه صاحب روضات الجنات ص 387: ” ومن قول الإمامية كلها قديما وحديثا إن القرآن مبدل، زيد فيه ونقص ” حاشا علي بن الحسين بن موسى (يعني الشريف المرتضى). وكان إماميا فيه تظاهر بالاعتزال، ومع ذلك كان ينكر هذا القول وكفر من قال به، وكذلك صاحباه أبو يعلي الطوسي، وأبو القاسم الرازي. أقول: وأكثر الشيعة الإمامية على القول بتمام القرآن بلا زيادة ولا نقصان وهو ما بين الدفتين وهذا قول صادقهم. ويكفينا في الدلالة على خلاف الإمامية مع المعتزلة، أن نذكر أن للمرتضى نفسه


(1) راجع الملل والنحل للشهرستاني – بحث النظامية.

[ 27 ]

ولأستاذه الشيخ المفيد، ولتلامذته كالشيخ الطوسي وغيره كتبا ومناظرات مع رؤساء المعتزلة وأكابرهم كواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار النظام، والقاضي عبد الجبار بن أحمد وغيرهم (1). ويحسن بنا أن نأتي بجملة موجزة للوقوف على مجمل عقيدة المرتضى من بعض كتبه لتكون شاهد صدق على لحابة معتقده. يقول في كتابه ” إنقاذ البشر من الجبر والقدر ” (2): فأول ذلك نقول: إن الله ربنا، ومحمدا نبينا، والاسلام ديننا، والقرآن إمامنا، والكعبة قبلتنا، والمسلمين إخواننا، والعترة الطاهرة من آل الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وصحابته والتابعين لهم بإحسان، سلفنا وقادتنا، والمتمسكون بهديهم من القرون بعدهم جماعتنا وأولياؤنا، نحب من أحب الله، ونبغض من أبغض الله، ونوالي من والى الله ونعادي من عادى الله… مذهبه في الفقه والأصول: كان المرتضى – رحمه الله – أعرف الناس بالكتاب والسنة ووجوه التأويل في الآيات والروايات وموارد الاستدلال بهما، وأنه لما سد باب العمل بأخبار الآحاد – وهي في نظره من الأدلة الظنية التي لا توجب علما ولا عملا – اضطر إلى استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والأخبار المتواترة المحفوفة بقرائن العلم، وذلك يحتاج إلى فضل اطلاع على الأحاديث وإحاطة بأصول الأصحاب، ومهارة في علم التفسير واللغة وغيرها لاستنباط الأحكام، بينما يكون العامل بأخبار الآحاد في سعة من ذلك (3).


(1) راجع كتاب أوائل المقالات في المذاهب المختارات للشيخ المفيد، وكتاب الفصول المختارة للشريف المرتضى وهو تلخيص لكتاب أستاذه الشيخ المفيد المسمى ” العيون والمحاسن ” وهو من الكتب الممتعة حقا، وكتاب الشافي – في الامامة – للمرتضى في الرد على كتاب القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي المسمى بالمغني الكافي، فهو كاف لإيراد شواهد الخلاف بين القوم.
(2) ” ص 36 ” طبع النجف.
(3) روضات الجنات، ص 385.

[ 28 ]

وقد أثر عنه أنه أول من فتح أبواب التدقيق والتحقيق، واستعمل في الأدلة النظر الدقيق، وأوضح طريقة الإجماع واحتج بها في أكثر المسائل (1). وقد كان في جميع كتبه ورسائله أصوليا بحتا ومجتهدا صرفا، قليل التعلق بالأخبار، كثير الاستدلال بالأدلة العقلية المتفقة مع الكتاب والسنة، فلا غرو أن يكون من مجتهدي الفقهاء وفقهاء المجتهدين (2). أما مسلكه في تعليل الأخبار وتأويلها فيقول: اعلم: أن المعول فيما يعتقد، على ما تدل الأدلة عليه، من نفي وإثبات، فإذا دلت الأدلة على أمر من الأمور وجب أن نبني كل وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلي ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصه إن كان عاما، ونفصله إن كان مجملا ونوفق بينه وبين الأدلة من كل طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة. فإذا كنا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحته، المعلوم وروده، فكيف نتوقف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علما ولا تثمر يقينا؟! فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلة وأوجبته الحجج العقلية، وإن تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل، فليس غير الاطراح لها وترك التعريج عليها (3). ثم هو يفسر الأحاديث وما جاء من الأحكام فيما يتعلق بالمحللات والمحرمات تفسيرا يتفق مع المنطق السليم والعقل القويم، ذاكرا بأن لكل محرم علة ولكل محظور سببا،


(1) روضات الجنات ص 385.
(2) وليس معنى ذلك أنه كان يذهب إلى تفسير القرآن برأيه أو ” كان من طليعة المفسرين للقرآن الكريم بالرأي ” كما زعمه أو اخترعه الدكتور عبد الرزاق محيي الدين في كتابه ” أدب المرتضى ” في ” ص ب ” من المقدمة وفي مواضع أخر من الكتاب.
(3) أمالي المرتضى 2 / 350 تحقيق أبو الفضل إبراهيم – طبعة الحلبي.

[ 29 ]

ضاربا ما يقوله الغالية في تعليل بعض الأخبار عرض الجدار، انظر إلى قوله: فأما تحريم السمك الجري وما أشبهه فغير ممتنع، لشئ يتعلق بالمفسدة في تناوله كما نقول في سائر المحرمات، فأما القول بأن الجري نطق بأنه مسخ بجحده الولاية (1)، فهو مما يضحك منه ويتعجب من قائله والملتفت إلى مثله (2). براعته في المناظرة وعلم الكلام: كان الشريف المرتضى – رضي الله عنه – خليفة أستاذه العلامة الشيخ المفيد في علم الكلام وفن المناظرة، وكان مجلسه كمجلس شيخه المفيد يحضره أقطاب العلماء من كافة المذاهب، بل وسائر الملل، وقد مر عليك دراسة اليهودي عليه وكثرة اختلاف الصابي وتردده إليه وما قاله ابن الجوزي في أول الترجمة بأن المرتضى كان يناظر عنده في كل المذاهب، وهذا يدل على فضل اطلاعه على فوارق المذاهب ومواد الخلاف فيما بينهم. وهو مع ذلك كان محترما لدى جميعهم. معظما عندهم، إلا عند حساده ومناوئيه. ” فقد ذكر عن الشيخ أبي جعفر محمد بن يحيى بن مبارك بن مقبل (كذا ولعله معقل) الغساني الحمصي أنه قال: ما رأيت رجلا من العامة إلا وهو يثني عليه، وما رأيت من يبخسه حقه، وما رأيت إلا من يزعم أنه من طائفته ” (3). وقال عن الصفدي في الوافي بالوفيات: إنه كان فاضلا ماهرا، أديبا متكلما، له مصنفات على مذهب الشيعة، قال الخطيب (يعني البغدادي): كتبت عنه وكان رأسا في الاعتزال، كثير الاطلاع والجدال (4). وقال الثعالبي صاحب يتيمة الدهر: وقد انتهت الرياسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب، والفضل والكرم…
(5).


(1) يريد بالولاية: ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يرد ويسخف تخريفات الغالية من الشيعة في قولهم: إن الجري ممن عرضت عليه الولاية فجحدها، وهذا مما يضحك حقا.
(2) أمالي المرتضى 2 / 351.
(3) روضات الجنات ص 385.
(4) قد فندنا القول بكونه من المعتزلة في هذه المقدمة.
(5) تتمة اليتيمة 1 / 35 ط. إيران.

[ 30 ]

وقد سئل عنه فيلسوف المعرة أبو العلاء بعد أن حضر مجلسه فقال: يا سائلي عنه لما جئت أسأله * فإنه الرجل العاري عن العار لو جئته لرأيت الناس في رجل * والدهر في ساعة والأرض في دار وكان نصير الدين الطوسي الفيلسوف الرياضي المشهور يقول – إذا جرى ذكر المرتضى في درسه -: ” صلوات الله عليه “، ثم يلتفت إلى القضاة والمدرسين الحاضرين درسه، ويقول: كيف لا يصلى على المرتضى؟! (1). علمه باللغة وغريبها: العلم بغريب اللغة يدل على اطلاع واسع على لغة العرب بدراسة علومها ومعرفة لسانها في مختلف ديارها ومواطنها، وقد كان الشيخ عز الدين أحمد بن مقبل (كذا) (2) يقول: لو حلف إنسان أن السيد المرتضى كان أعلم بالعربية من العرب لم يكن عندي آثما، وكتابه الأمالي المعروف ب‍ ” غرر الفوائد ودرر القلائد ” يشتمل على محاسن فنون تكلم فيها في النحو واللغة والشعر والتفسير والكلام وغير ذلك، حتى أن شيخا من شيوخ الأدب بمصر قال فيه: والله إني استفدت من كتاب الغرر مسائل لم أجدها في كتاب سيبويه وغيره من كتب النحو (3). فسلفته: للمرتضى فلسفة إسلامية خاصة في تفسير الأشياء وظاهراتها تختلف عن تفسير كافة فلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية وقواعدها المنطقية المبنية على منطق أرسطو وإلهيات افلاطون ومغالطات بروتاغوراس، وغيرهم، هذا إذا فسرنا الفلسفة بأنها النظر العقلي في الأشياء، فهو يفسر ظواهر الكون وفعاليات الأحياء مستندا إلى ثلاث دعائم أساسية، هي السماع والعقل وجريان العادة، وأقصد بالسماع ما وردت به آية محكمة أو خبر صحيح، وبالعقل ما أثبتته الأدلة العقلية بالبرهان العقلي غير


(1 و 2 و 3) – روضات الجنات ص 385.

[ 31 ]

المستند على أوهام الفلاسفة وسفسطاتهم. فهو عندما يعوزه الدليل السمعي يلجأ إلى التعليل العقلي، فإن أعياه هذا ركن إلى القول بجريان العادة التي يسندها إلى الله تعالى، ويريد بالعادة ما نسميه بالسنة الكونية أو الناموس الطبيعي، سواء كان ذلك الناموس حياتيا يتعلق بالأحياء وفعالياتهم، أو كيميائيا حيويا ممتزجا، أو فيزيائيا صرفا. ففلسفته من لون خاص تمتزج فيها أحيانا الروحية مع المادية وتنفرد إحداهما عن الأخرى أحيانا أخر. ألا ترى إلى قوله في تفسير نزول الماء من السحارة (1) وهي ظاهرة طبيعية فيزيائية: فأما ما جربناه فنتكلم على العلة المفرقة بن الزئبق والماء، والذي يجب أن يعتمد في نقض الاستدلال من القائلين بذلك في الماء والسحارة أن يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل في الماء السكون والوقوف مع سد رأسها، فلا ينزل من أسفلها، وإذا فتحنا رأسها لم يفعل ذلك السكون فيجري الماء منها من الثقوب. والعادة حسبما استقريناه من فلسفته نوعان، نوع منها يكون ثابتا كأغلب النواميس الطبيعية والظواهر الكونية، كقانون الجذب الأرضي والمغناطيسية القطبية والظواهر الفيزيائية، كحرارة الشمس وآثارها، وحجر المغناطيس وفعله. ومنها ما يكون نسبيا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وهذه هي العادة المكتسبة أو المحلية غير المستقرة، فانظر إلى قوله بعد تعليله نزول الماء من السحارة مباشرة: وليس ينبغي أن ينكر أصحابنا خاصة أن يكون هذا بالعادة ونحن كلنا نقول: إن انجذاب الحديد إلى حجر المغناطيس إنما هو بالعادة وإلا فالمغناطيس وسائر


(1) السحارة: آلة يكون في رأسها ثقب واحد وفي أسفلها ثقوب كثيرة (تشبه رأس دوش الحمام)، إذا ملأناها بالماء ثم سددنا رأسها بالإبهام، لم ينزل الماء من الثقوب التي في أسفلها، وإذ أزلنا إبهامنا نزل الماء. ولا علة لذلك إلا أنها عند سد رأسها بالإبهام منعنا الهواء من أن يخلف في مكان الماء (راجع 2 / 322) من أمالي المرتضى – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – ط. الحلبي سنة 1373 ه‍ مع هامشها).

[ 32 ]

الأحجار سواء! وإن بالعادة وقع الشبع عند تناول الخبز واللحم، وارتفع عند غيرهما، والجنس واحد، وما تقول جماعتنا بالعادة أكثر من أن يحصى. ثم انظر إلى قوله: فإذا قيل لنا، فما طريقه العادة يجوز فيه الاختلاف. قلنا لهم: نحن نجوز ذلك ولا نمنع أن تختلف العادة فيه: كما لا نمنع أن يستمر في كل بلد وعند كل أحد، ولا يخرج هذا الحكم مع استمراره عن أن يكون مستندا إلى العادة (1) ثم يقول: وإذا أنكر الفلاسفة الملحدون تعليقنا ذلك بالعادة لجحدهم الصانع. ثم نراه يفيض بعد ذلك في تفسير العادة وتعليلها واختلاف آثارها باختلاف المكان والزمان فليراجع (2). رأيه في النفس وعدم تجردها: يرى المرتضى ذات الانسان واحدة، لا نفس له مجردة عنه ومفارقة له. وبذلك يفارق كافة الفلاسفة الاسلاميين ومن سبقهم من القائلين بتجرد النفس عن الجسد ومفارقتها له بعد فنائه. ويسمي فلسفة القائلين بذلك هذيانا (3). تأمل في قوله: والذي تهذي به الفلاسفة من أن النفس جوهر بسيط وينسبون الأفعال إليها مما لا محصول له، وبينا فساده في مواضع كثيرة من كتبنا، ودللنا على أن الفاعل المميز الحي الناطق هو الانسان الذي هو هذا الشخص المشاهد، دون جزء فيه، أو جوهر بسيط


(1) أمالي المرتضى 2 / 326 – 327.
(2) أمالي المرتضى 2 / 327 و 332 منه أيضا.
(3) أقول: تعرض أغلب الفلاسفة المتقدمين منهم والمتأخرين من المسلمين وغير المسلمين إلى ذكر النفس وصفاتها وأحوالها منهم أرسطو – من فلاسفة اليونان – له كتاب خاص بالنفس، ولابن سينا ولابن رشد وللخواجة نصير الدين الطوسي لكل رسالة فيها وللأخير رسالة قيمة سماها ” بقاء النفس، بعد فناء الجسد ” وقد وضع ملأ صدرا من فلاسفة المسلمين الالهيين المتأخرين كتابا ضخما سماه أسفار النفس تعرض في بحوث خاصة منه لها، ولكثير من فلاسفة اليونان والمسلمين وغيرهم بحوث مستفيضة فيها، وقد عزمنا بعون الله على وضع رسالة كبيرة في ذلك تتضمن رأي المرتضى – رضي الله عنه – ورأى غيره فيها.

[ 33 ]

يتعلق به، وليس هذا موضع بيان ذلك والكلام فيه (1). ثم يقول في شرحه وتعليقاته على بعض أبياته في طيف الخيال (2): ” الأرواح لا يصح عليها في الحقيقة التلاقي والتزاور، لكن الشعراء لما رأوا أن الأجساد في طيف الخيال لم تتلاق ولا تدانت نسبوا التلاقي إلى الأرواح، تعويلا على من جعل النفس لها قيام بنفسها، وأنها غير الجسد، وأن التصرف لها، فجرينا على هذه الطريقة وإن كان ذلك باطلا في التحقيق “. ثم نراه يزري بالفلاسفة ويذهب في تسخيفهم وتهجينهم إلى أبعد الحدود عند تعرضه لقولهم في المنامات ونسبتها إلى النفس بما يأتي: قوله في المنامات ” والأحلام “: يذهب المرتضى في تعليله المنامات وأسبابها مذهبا يتفق في بعض أقسامه مع رأي علماء الطبيعة المحدثين في ذلك، وينكر ما تقوله الفلاسفة في هذا الباب من نسبتهم المنامات إلى النفس وما تطلع عليه من عالم الغيب: انظر إلى قوله: ” فأما ما تهذي به الفلاسفة في هذا الباب، مما يضحك الثكلى لأنهم ينسبون ما صح من المنامات لما أعيتهم الحيل في ذكر سببه إلى أن النفس اطلعت إلى عالمها فأشرفت على ما يكون. وهذا الذي يذهبون إليه في حقيقة النفس غير مفهوم ولا مضبوط، فكيف إذا أضيف إليه الاطلاع على عالمها؟ وما هذا الاطلاع؟ وإلى أي شئ يشيرون بعالم النفس؟ ولم يجب أن تعرف الكائنات عن هذا الاطلاع؟! وكل هذا زخرفة ومخرقة، وتهاويل لا يتحصل منها شئ (3).


(1) طيف الخيال ص 39 طبعة عيسى الحلبي – مصر سنة 1374 ه‍.
(2) ص 83.
(3) أمالي المرتضى 2 / 395.

[ 34 ]

ثم هو ينكر ما يقول أصحاب الطبائع في المنامات ويفند آراءهم (1). ونحن لا نريد أن نعلق أو نبسط القول في هذه المقدمة الموجزة على ما يقوله في النفس إذ له ما يشير أو يصرح بوجود روح في الانسان بها قوام الجسد (2). كما أن له من القول في شعره ما يشعر ببقائها بعد تلاشي الجسد: ومن أين البقاء والجسم ترب * يتلاشى وإنما الروح روح (3)؟ إلا أننا لم نقف له على قول يبين لنا كنه تلك الروح أو صفاتها، والظاهر من كلامه المار أنها لم تكن جوهرا بسيطا مجردا تتعلق بالبدن في حياته، وتفارقه عند مماته، كما يقول الأكثرون، أو يصوره الفلاسفة الأقدمون، ولعلها مادة موجودة في البدن متى وجدت أسبغت عليه صفة الحياة، فإن اختلت أو فقدت، اتصف البدن بالممات، أو هي على الأصح نسمة من أمر الله كما عبر عنها القرآن الكريم – إن أريد بمعنى الروح – ذلك -. وعلى كل فليس في قول المرتضى ما يستفاد منه إنكار الروح أصلا، ولكنه ينكر ما يصوره الفلاسفة من أوصافها من الجوهرية والتجرد والبساطة… وما ينسبون إليها من أعمال، وليس في قوله هذا ما يستفاد منه إنكار البعث كما قد توهم أو يتوهم البعض إذ لا ملازمة بين إنكارها وإنكاره. وعسى أن نوفق إلى بسط القول في ذلك في مجال آخر إن شاء الله تعالى. رأيه في المنجمين: يذهب المرتضى إلى تخريف المنجمين وتسخيفهم، وإلى أنهم مشعوذون دجالون، وأن ما يقولون به من تأثيرات النجوم وسير الكواكب وأثر الطالع ونحس الأيام ويمنها، كل ذلك لا طائل تحته ولا حقيقة فيه، وقد كان يجب لو كان قد صح القول بالنجوم وأحكامها، أن تكون سلامة المنجمين أكثر ومصائبهم أقل، لأنهم يتوقون المحن


(1) الأمالي 2 / 393 و 394 و 395.
(2) الأمالي 1 / 12.
(3) الديوان، القسم الأول ص 188.

[ 35 ]

لعلمهم بها قبل كونها (1). قال المرتضى: كان بعض الرؤساء، بل الوزراء ممن كان فاضلا في الأدب والكتابة ومشغوفا بالنجوم، عاملا عليها، قال لي يوما – وقد جرى حديث يتعلق بأحكام النجوم، ورأى من مخايلي التعجب ممن يتشاغل بذلك، ويفني زمانه به -: أريد أن أسألك عن شئ في نفسي فقلت: سل عما بدا لك، قال: أريد أن تعرفني هل بلغ بك التكذيب بأحكام النجوم إلى ألا تختار يوما لسفر، ولبس ثوب جديد، وتوجه في حاجة؟ فقلت: قد بلغت ذلك والحمد لله وزيادة عليه، وما في داري تقويم، ولا أنظر فيه وما رأيت إلا خيرا (2). ثم يقول المرتضى: فأما إصابتهم في الأخبار عن الكسوفات واقتران الكواكب وانفصالها، فطريقه الحساب وتسيير الكواكب، وله أصول صحيحة، وقواعد سديدة، وليس كذلك ما يدعونه من تأثيرات الكواكب في الخير والشر والنفع والضر (3). والفرق بين الأمرين ظاهر معلوم هذا وللمرتضى مجالات في الفلسفة أخر أرجأنا البحث عنها والاسهاب فيها إلى فرصة أخرى ليست هذه المقدمة مما تستوجبها أو تستوعبها. بين المرتضى وأبي العلاء المعري: ذكر أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي صاحب الاحتجاج قال فيه (4): دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى – قدس الله روحه – فقال: أيها السيد، ما قولك في الكل؟ فقال السيد: ما قولك في الجزء؟ فقال: ما قولك في الشعري؟ فقال: ما قولك في التدوير؟ قال: ما قولك في عدم الانتهاء؟ فقال: ما قولك في التحيز والناعورة؟ فقال: ما قولك في السبع؟ فقال: ما قولك في الزائد البري (5) على السبع؟


(1) أمالي المرتضى 2 / 388.
(2) الأمالي 2 / 387.
(3) الأمالي 2 / 391.
(4) الاحتجاج طبع إيران – دار الطباعة – ص 259 – 260.
(5) كذا في الأصل ولعلها ” المربي؟ ” أي الزائد راجع: هامش ص 30 من كتاب ” أبو العلاء في بغداد للمرحوم العلامة طه الراوي.

[ 36 ]

فقال: ما قولك في الأربع؟ فقال: ما قولك في الواحد والاثنين؟ فقال: ما قولك في المؤثر؟ فقال: ما قولك في المؤثرات؟ فقال: ما قولك في النحسين؟ فقال: ما قولك في السعدين؟ فبهت أبو العلاء، فقال السيد – قدس الله روحه – عند ذلك: ألا كل ملحد ملهد، فقال أبو العلاء: من أين أخذته؟ قال: من كتاب الله عز وجل ” يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم “، فقام فخرج، فقال السيد: قد غاب عنا الرجل، وبعد هذا لا يرانا. فسئل السيد عن شرح هذه الرموز والاشارات، فقال: سألني عن الكل، وعنده الكل قديم، ويشير بذلك إلى عالم سماه العالم الكبير، فقال لي: ما قولك فيه؟ أراد أنه قديم فأجبته عن ذلك فقلت له: ما قولك في الجزء؟ لأن عندهم الجزء محدث، وهو متولد عن العالم الكبير، وهذا الجزء عندهم هو العالم الصغير.. وكان مرادي بذلك أنه إذا صح أن هذا العالم محدث، فذلك الذي أشاره إليه أن صح فهو محدث أيضا، لأن هذا من جنسه على زعمه، والشئ الواحد والجنس الواحد لا يكون بعضه قديما وبعضه محدثا. فسكت لما سمع ما قلته. وأما الشعرى، أراد أنها ليست من الكواكب السيارة فقلت له: ما قولك في التدوير؟ أردت أن الفلك في التدوير والدوران، والشعرى لا يقدح في ذلك. وأما عدم الانتهاء، أراد بذلك أن العالم لا ينتهي لأنه قديم، فقلت له: قد صح عندي التحيز والتدوير، وكلاهما يدلان على الانتهاء. وأما السبع، أراد بذلك النجوم السيارة التي هي عنده ذوات الأحكام، فقلت له: هذا باطل بالزائد البري (كذا) الذي يحكم فيه بحكم لا يكون ذلك الحكم منوطا بهذه النجوم السيارة التي هي الزهرة والمشتري والمريخ وعطارد والشمس والقمر وزحل. وأما الأربع، أراد بها الطبائع، فقلت له: ما قولك في الطبيعة الواحدة النارية يتولد منها دابة بجلدها تمس الأيدي (كذا)، ثم يطرح ذلك الجلد على النار، فتحرق الزهومات فيبقى الجلد صحيحا، لأن الدابة خلقها الله على طبيعة النار والنار لا تحرق النار. والثلج أيضا تتولد فيه الديدان وهو على طبيعة واحدة. والماء في البحر على طبيعتين


[ 37 ]

يتولد منه السموك والضفادع والحيات والسلاحف وغيرها. وعنده لا يحصل الحيوان إلا بالأربع فهذا مناقض بهذا. وأما المؤثر، أراد به زحل، فقلت له: ما قولك في المؤثرات؟ أردت بذلك أن المؤثرات كلهن عنده مؤثرات، فالمؤثر القديم كيف يكون مؤثرا؟ وأما النحسان، أراد بهما أنهما من النجوم السيارة، إذا اجتمعا يخرج من بينها سعد، فقلت له: ما قولك في السعدين إذا اجتمعا من بينهما نحس، هذا حكم أبطله الله تعالى، ليعلم الناظر أن الأحكام لا تتعلق بالمسخرات، لأن الشاهد يشهد، أن العسل والسكر إذا اجتمعا لا يحصل منهما الحنظل والعلقم، والحنظل والعلقم إذا اجتمعا لا يحصل منهما الدبس والسكر. هذا دليل على بطلان قولهم. أما قولي: ألا كل ملحد ملهد، أردت أن كل مشرك ظالم، لأن في اللغة، ألحد الرجل إذا عدل عن الدين، وألهد إذا ظلم – فعلم أبو العلاء ذلك وأخبرني عن علمه بذلك فقرأت: ” يا بني لا تشرك بالله… ” الآية. أقول: نحن نشك في صحة هذه المحاورة الفلسفية المنمقة، التي لم يذكر لنا الطبرسي عمن أخذها! وفي أي كتاب وجدها؟ وكتابه ” الاحتجاج ” أكثر أخباره مراسيل على ما ذكره غير واحد من المحققين (1). وقد ذهب إلى تفنيد هذه الرواية من قبل، العلامة المرحوم طه الراوي في كتابه ” أبو العلاء في بغداد ” وهاك تعليقه عليها: وهذه القصة تنادي على نفسها بالاختلاق – كما ترى – ومفتري هذه الحكاية يزعم أن السيد المرتضى حكم بعدم عودة أبي العلاء إلى مجلسه. فهل كان هذا الحكم قبل وقوع القصة السابقة (2) أو بعده؟ ثم إن القصة أشارت إلى أن السيد المرتضى حكم بإلحاد أبي العلاء مع أنا نعلم


(1) راجع 2 / 404 من كتاب الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ط. صيدا، وقول العلامة المجلسي فيه.
(2) يعني القصة التي ذكرها من اجتماع المعري بالمرتضى وتعصبه للمتنبي على ما ذكره ياقوت في معجم الأدباء 3 / 123 – 124 ط. مصر.

[ 38 ]

يقينا أن هذه التهمة لم تلصق بأبي العلاء إلا بعد رجوعه إلى المعرة، واعتكافه في منزله، وعلى الجملة فإن هذه الحكاية والتي سبقتها من واد واحد “. وأما الحكاية التي يشير إليها العلامة الراوي فهاك نصها مع تعليقه عليها أيضا: قال العلامة الراوي: وأما الحكاية التي اعتبرها بعض الفضلاء من أسباب رحلته عنها (يعني رحلة المعري عن بغداد) فليس في شعر أبي العلاء ولا نثره ما يشعر بها، أو يشير إليها، مما ينبئ بأن أبا العلاء نفسه لا يعرفها، وإنما هي من وضع الرواة ورواد النوادر وقد تلقفها الناس وتناقلوها من غير تمحيص. وهاك النص الذي جاء في ” معجم الأدباء للحموي “: كان أبو العلاء يتعصب للمتنبي ويزعم أنه أشعر المحدثين، ويفضله على بشار ومن بعده مثل أبي نؤاس وأبي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبي، ويتعصب عليه، فجرى يوما بحضرته ذكر المتنبي فتنقصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل… لكفاه فضلا. فغضب المرتضى وأمر فسحب برجله وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون ما أراد بذكر هذه القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكرها، فقيل: النقيب السيد أعرف. فقال: أراد قوله في هذه القصيدة: وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل وقد تتبعت جذور هذه الحكاية فلم أجد لها أصلا يعتمد عليه. وإن كثر ناقلوها فإنهم لم يذكروا لنا واحدا من شهود الحادثة. مع أنهم يزعمون أنها وقعت في مجلس السيد المرتضى وهو بحكم العادة يومئذ كان يزخر بطلاب العلم ورجال الفضل مما يشير إلى أنها مختلقة من أساسها. فلا أبو العلاء يعتبر الشريف ناقصا، ولا الشريف يحط من قدر أبي العلاء فيخرجه مهانا. ويظهر أن الذي ابتدع هذه الحكاية أراد أن يرفع من ذكاء الرجلين فحط من خلقيهما.


[ 39 ]

ومن أشهر ناقلي هذه القصة وأقدمهم – على ما نعلم – ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 ه‍، أي بعد قرنين وربع من حدوث القصة، ولم يذكر من سندها إلا قوله: ” نقلت من بعض الكتب “، وهو سند مبهم كل الابهام كما ترى. ونحن نعلم إن أبا العلاء رثى أبا أحمد الموسوي والد الشريف المرتضى قبيل مفارقته بغداد (1) بقصيدته المشهورة التي مطلعها: أودى فليت الحادثات كفاف * مال المسيف وعنبر المستاف منها: رغت الرعود وتلك هدة واجب * جبل هوى من آل عبد مناف وقد أثنى فيها على الشريف المرتضى وأخيه أطيب الثناء، فلا يصح بعد هذا أن يقال إن أبا العلاء يحط من قدر الشريف أو إن الشريف يحط من قدر أبي العلاء “. هذا وأمثاله مما يختلقه جماعة من الرواة ويضعونه – من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون – كثير. كما قد نسب إلى المرتضى من ذمه وإزرائه بأبي إسحاق الصابي عند ما نقل إليه نعيه ورثاء أخيه الشريف الرضي له – مع أنك وجدت – كما ذكرنا لك من قبل – رثاء المرتضى نفسه للصابي بتلك المرثية الرائعة التي تدمغ ما وضعه المبطلون وافتراه المفترون. هذا وللمرتضى مجلس ذكر أنه دخل عليه فيه أبو العلاء المعري فعثر برجل أحمق فقال لأبي العلاء: من هذا الكلب؟ فقال له أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما، وسمعه المرتضى واستدناه واختبره فوجده عالما مشبعا بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالا كثيرا (2). وقد مرت عليك الإشارة إلى القصيدة التي يرثي بها المعري أبا أحمد الموسوي والد الشريفين المرتضى والرضي ويثني بها عليهما والتي يقول فيها:


(1) فقد توفي أبو أحمد الموسوي والد السيد المرتضى في جمادى الأولى سنة 400 ه‍. وبرح أبو العلاء بغداد في شهر رمضان من تلك السنة.
(2) نسب أبو سعد عبد الكريم السمعاني المتوفى سنة 564 في كتابه القيم الأنساب هذه القصة لأبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي المتوفى سنة 383 وأنها حدثت في مجلس الصاحب بن عباد الوزير المتوفى سنة 385، وذلك أقرب إلى الصواب ” راجع ورقة 209 من الأنساب “.

[ 40 ]

أبقيت فينا كوكبين سناهما * في الصبح والظلماء ليس بخاف متأنقين وفي المكارم أرتعا * متألقين بسؤدد وعفاف قدرين في الارداء بل مطرين في ال‍ * أجداء، بل قمرين في الإسداف رزقا العلاء فأهل نجد كلما * نطقا الفصاحة مثل أهل دياف ساوى الرضي المرتضى وتقاسما * خطط العلا بتناصف وتصاف حلفا ندى سبقا وصلى الأطهر المر * ضي فيالثلاثة أحلاف أنتم ذوو النسب القصير فطولكم * باد على الكبراء والأشراف والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت * بأب عن الأسماء والأوصاف ويقول في آخرها: يا مالكي سرح القريض أتتكما * مني حمولة مسنتين عجاف لا تعرف الورق اللجين وإن تسل * تخبر عن القلام والخذراف وأنا الذي أهدى أقل بهارة * حسنا لأحسن روضة مئناف منزلته الاجتماعية والسياسية: كان الشريف رحمه الله مقربا لدى خلفاء بني العباس، أثيرا عندهم ومعظما، وذلك لما يتحلى به من كريم الصفات وعظيم الملكات، ولما تربطه بهم من وشائج النسب ووسائل القربى مع جليل المكانة والمنزلة عند الخاص والعام. لذا قلد نقابة الطالبيين وأمر الحج والمظالم وجميع ما كان لأخيه الرضي، وهي مناصب جد خطيرة، وذلك في يوم السبت الثالث من صفر سنة 406، وهي سنة وفاة أخيه الرضي في عهد الخليفة القادر بالله، وجمع الناس لقراءة عهده في الدار الملكية، وحضر فخر الملك ” الوزير أبو غالب محمد بن خلف ” والأشراف والقضاة والفقهاء. وكان العهد الذي عهده الخليفة القادر بالله هذا نصه: ” هذا ما عاهد (1) عبد الله أحمد القادر بالله أمير المؤمنين إلى علي بن الحسين بن


(1) كذا في المنتظم لابن الجوزي 7 / 276 ” ما عاهد “، ونقلها عنه الدكتور عبد الرزاق محيي الدين =

[ 41 ]

موسى العلوي، حين قربته إليه الأنساب الزكية، وقدمته لديه الأسباب القوية، واستظل معه بأغصان الدوحة الكريمة، واختص عنده بوسائل الحرمة الوكيدة فقلده الحج والنقابة وأمره بتقوى الله… “. وفي فاتحة هذا الديوان مرثية جيدة يرثي بها المرتضى هذا الخليفة القادر بالله المتوفى ” سنة 422 ه‍ “، ويذكر فجعته به وهلعه ببلوغ نعيه إليه، ثم يصفه بالعفاف والتقى ونقاوة الإزار ” وقد كان القادر يدعى راهب بني العباس (1) ويهنئ بها أيضا ابن الخليفة القائم لتوليه الخلافة عند أخذ البيعة له، وكان المرتضى أول من بايعه. فلهذه العلاقات الوثيقة والوشائج العريقة التي تربط المرتضى بالخلفاء، كان كثير الرفقة لهم شديد الاتصال بهم، يأنسون في أغلب الأمور برأيه، ويجعلون منه حافظ سرهم الأمين، ومشيرهم الناصح، وسفيرهم المصلح في أكثر ملماتهم وعظائم أمورهم إلى الملوك والوزراء وكافة عمال الدولة وطبقات الناس. فلا غرابة أن تكون دار المرتضى الوزر (2) المنيع والحصن الحصين يلجأ إليها الملوك والوزراء عندما تعروهم المحن ويحيق بهم البلاء على أثر الفتن الحادثة في ذلك العصر، وما أكثرها! فيحدثنا التاريخ بنزول الملك جلال الدولة في دار المرتضى – بدرب جميل – بعد أن تغيرت قلوب الجند عليه فشغبوا ونهبوا حتى اضطر الملك إلى نقل ولده وحرمه وما بقي من ثيابه وآلاته ودوابه وفرش داره إلى جانب الغربي ليلا، وذلك على أثر استيزار الوزير أبي القاسم [ ابن ماكولا ] ثم جرت مكاتبات بين العسكر والخليفة في شأنه، وكان الوسيط في عرض مطاليب هؤلاء هو الشريف المرتضى وذلك في ” سنة 424 ” (3). كما نجد فتن العيارين تشغل بال السلطان فيراسل المرتضى بإحضارهم إلى داره


في ” أدب المرتضى ” ص 107 كذلك والصحيح أن يقال ” هذا ما عهد به ” يقال عهد به إليه وعاهده على كذا. (1) راجع ذيل تجارب الأمم لأبي شجاع ط. مصر ص 207.
(2) الوزر (بفتحتين) الملجأ.
(3) المنتظم لابن الجوزي 7 / 72 – 74.

[ 42 ]

وأن يقول لهم: من أراد منكم التوبة قبلت توبته وأقر في معيشته، ومن أراد منكم خدمة السلطان استخدم مع صاحب البلد، ومن أراد الانصراف عن البلد كان آمنا على نفسه ثلاثة أيام… (1) وذلك في سنة 425. ويروي لنا التاريخ أيضا (2) أنه في ربيع الآخر سنة 427 نقل أبو القاسم ابن ماكولا الوزير بعد أن قبض عليه وسلم إلى ” المرتضى ” إلى دار المملكة فمرض ويئس منه، وراسل الخليفة في معنى أخيه قاضي القضاة أبي عبد الله ابن ماكولا، وقيل هو يعرف أمواله، فدفع عنه الخليفة، ثم إن الجند شغبوا على جلال الدولة وقالوا: إن البلد لا يحتملنا وإياك، فاخرج من بيننا فإنه أولى لك فقال: كيف يمكنني الخروج على هذه الصورة؟ أمهلوني ثلاثة أيام حتى آخذ حرمي وولدي وأمضي، فقالوا: لا نفعل، ورموه بآجرة في صدره فتلقاها بيده، وأخرى في كتفه، فاستجاش الملك الحواشي والعوام، وكان المرتضى والزينبي والماوردي عند الملك، فاستشارهم في العبور إلى الكرخ كما فعل في المرة الأولى، فقالوا: ليس الأمر كما كان وأحداث الموضع قد ذهبوا، وحول الغلمان خيمهم إلى ما حول الدار إحاطة بها، وبات الناس على أصعب خطة، فخرج الملك نصف الليل إلى زقاق غامض، فنزل إلى دجلة، وقعد في سميرية فيها بعض حواشيه فغرقوها تقديرا أنه فيها، ومضى الملك مستترا إلى ” دار المرتضى ” وبعث حرمه إلى دار الخليفة، ونهب الجند دار المملكة وأبوابها وساجها ورتبوا فيها حفظة، فكانت الحفظة تخربها نهارا وتنقل ما اجتمع من ذلك ليلا. فلا بدع أن يصيب المرتضى من جراء ذلك كثير من الأذى من رشاش تلك الحوادث وشظايا تلك الفتن التي قلما يسلم منها الوسطاء، أو يفلت منها المصلحون، وقد يجر عليهم ذلك أحيانا ارتياب الخليفة أو تغير قلبه لانقداح الشك فيه لعارض شبهة قد لا يكون لها أصل. فيحدثنا التاريخ: أن الوزير أبا القاسم المغربي (3) جمع الأتراك والمولدين ليحلفوا


(1) المنتظم 8 / 79.
(2) المنتظم ج 8 – حوادث سنة 427.
(3) هو أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسن المتوفى سنة 418 وزر لمشرف الدولة بعد أبي علي الرخجي. (المنتظم 8 / 32).

[ 43 ]

لمشرف الدولة البويهي، وكلف مشرف الدولة المرتضى ونظام الحضرتين أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، وجماعة من الشهود والحضور، فأحلفت طائفة من القوم، فظن الخلفة أن التحالف لنية مدخولة في حقه، فبعث من دار الخليفة من منع الباقين بأن يحلفوا، وأنكر على المرتضى والزينبي وقاضي القضاة حضورهم بلا إذن، واستدعوا إلى دار الخلافة، وسرح الطيار، وأظهر عزم الخليفة على الركوب وتأدى ذلك إلى مشرف الدولة وانزعج منه ولم يعرف السبب فيه، فبحث عن ذلك، إذ أنه اتصل بالخليفة هذا التحالف عليه، فترددت الرسائل باستحالة ذلك، وانتهى الأمر إلى أن حلف مشرف الدولة على الطاعة والمخالصة للخليفة… (1). وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد من الارتياب والشك الذي يمحوه استكشاف الحال بالاستجواب أو العتاب، بل قد يصل إلى أكثر من ذلك من الأضرار بالأنفس والأموال! أما ما كان يصيب المرتضى من فتن العامة وأمر الطغام، فشئ ليس بالأمر اليسير استقصاؤه، فيحدثنا التاريخ عن استفحال أمر العيارين وكبسهم لدور الناس نهارا، وفي الليل بالمشاعل والموكبيات، وكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره ويستخرجونها منه بالضرب كما يفعل المصادرون ولا يجد المستغيث مغيثا مع القتل والنهب حتى أحرقت ” دار المرتضى ” على الصراة وقلع هو باقيها وانتقل إلى درب جميل (2). كما نجد قبل ذلك في حوادث سنة 422 أن دار المرتضى تنقب فيخرج منها مرتاعا منزعجا، حتى جاد جيرانه من الأتراك فدافعوا عنه وعن حرمه وأحرقت إحدى سميريتيه على أثر فتن كانت تحدث بين السنة والشيعة (3). وهكذا نجد المرتضى يموج في خضم زاخر من تلك الأحداث والفتن التي لا يبتلى بها إلا رؤساء القوم وعليتهم، هذا إذا باخت آراء الخلفاء، وسفهت أحلام الملوك، وأساء الحاكمون استعمال السلطة، واختل الأمن وأخذ البرئ بذنب المسئ، وسقطت هيبة السلطان لتفريطه في أمور الرعية، وانهمك أرباب المملكة وولاة الأمور باللذات


(2) المنتظم ج 8 حوادث سنة 415.
(2) المنتظم ج 8 ص 22.
(3) المنتظم 8 / 55.

[ 44 ]

الشخصية، وارتفعت مراقبة الدين من قلوب المؤمنين، فلا محاسب ولا محاسب، فالأمر منذر حينذاك بخطر عظيم وشر عميم. ومع كل هذا فقد كان المرتضى – رحمه الله – في ذلك العصر المشحون بالفتن والشغب، والهم والنصب لا يخلو من ظرف ودعابة مع أصدقائه ومعاشريه بما لا يخرج عن حدود؟ الحشمة ومسالك الأدب، فقد اطلع يوما من روشنه فرأى المطرز (1) الشاعر قد انقطع شراك نعله وهو يصلحه فقال له: قدت ركائبك، وأشار إلى قصيدته التي أولها: سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبا * يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا (2) على عذبات الجزع من ماء تغلب * غزال يرى ماء القلوب له شربا إذا لم تبلغني إليكم ركائبي * فلا وردت ماء ولا رعت العشبا فقال مسرعا: أتراها ما تشبه مجلسك وخلعك وشربك، أشار بذلك إلى أبيات المرتضى التي منها (3): يا خليلي من ذؤابة قيس * في التصابي رياضة الأخلاق غنياني بذكرهم تطرباني * واسقياني دمعي بكأس دهاق وخذا النوم من جفوني فإني * قد خلعت الكرى على العشاق معاصروه وأصحابه: كان للشريف المرتضى بفضل ما أوتي من شرف العلم والنسب، وما تحلى به من زكاته الطبع والأدب، مع عزة النفس ووفارة المال وجميل الخصال، وسمو الرتبة وجليل


(1) المطرز: لقب أبي القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب الشاعر، وكان يسكن ناحية الدجاج، توفي في جمادى الآخرة ” سنة 439 ” (المنتظم 8 / 134).
(2) راجع معجم الأدباء لياقوت ج 13 ترجمة المرتضى تجد في هذا البيت وروايته تصحيفات (3) أول القصيدة: ما رأتني عيناك يوم الفراق * أخدع القلب بادكار التلاقي وهي قصيدة حسنة في واحد وأربعين بيتا يهنئ المرتضى خاله أبا الحسين أحمد بن الحسن الناصر بعيد الفطر وهي مثبتة في هذا الديوان.

[ 45 ]

المكانة، أصدقاء كثر جلهم من أهل العلم والأدب، والفضل والشرف ممن لا يمكننا الاتيان على ذكرهم جميعا، وسنكتفي بعرض أسماء قسم ممن ورد ذكرهم في الديوان من علية القوم ورؤسائهم، تاركين التعليق عليهم، أو الاسهاب في شرح أحوالهم، لأن ذلك لا يناسب هذه الترجمة الموجزة، ولأن أكثرهم، إما أن يكون مشهورا، أو ذكرت ترجمته بطيات الديوان، وهاك أهم من ورد ذكرهم في الديوان: فمن الخلفاء: الطائع لأمر الله، والقادر وابنه القائم بأمر الله، ثم ابنه ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن القائم بأمر الله. وكان المرتضى قد عاصر من الخلفاء أربعة هم: المطيع وكانت خلافته منذ سنة 334 إلى 363 وكان عمر الشريف المرتضى حين وفاة المطيع لم يتجاوز ثمانية أعوام، لذا لم يرد ذكره في الديوان. ثم ولي الخلافة الطائع إلى سنة 381 حيث وليها القادر إلى ” سنة 422 ” إذ وليها ابنه القائم وهو شاب، وللمرتضى في تهنئته في الخلافة ” سنة 422 ” وتعزيته بوفاة والده القادر قصيدة في أول هذا الديوان مرت الإشارة إليها وكان هذا الخليفة – القائم – آخر من عاصره المرتضى، حيث توفي المرتضى سنة 436 وبقي القائم إلى سنة 467. أما الملوك الوارد ذكرهم، فمنهم: بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة، وسلطان الدولة، وركن الدين جلال الدولة، ثم الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة. ومن الوزراء: الوزير أبو غالب محمد بن خلف، والوزير أبو علي الرخجي، والوزير أبو علي الحسن بن حمد، والوزير أبو سعد بن عبد الرحيم، والوزير أبو الفتح (كذا في الديوان ولعله ابن دارست وزير القائم) والوزير أبو الفرج محمد بن جعفر بن فسانجس، والوزير أبو طالب محمد بن أيوب بن سليمان البغدادي، والوزير أبو منصور بهرام بن مافنة وزير الملك أبي كاليجار وغيرهم. ومن النقباء: والده الشريف أبو أحمد الموسوي، وخاله الشريف أحمد بن الحسن الناصر، وأخوه الشريف أبو الحسن محمد الرضي، والشريف أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، والشريف نقيب النقباء أبو الحسن الزينبي، والشريف أبو الحسين بن


[ 46 ]

الشبيه [ العلوي ] وغيرهم. ومن الأمراء: الأمير أبو الغنائم محمد بن مزيد المقتول سنة 401، وعميد الجيوش أبو علي أستاذ هرمز المتوفى في هذه السنة أيضا، وأمير الأمراء أبو منصور بويه بن بهاء الدولة، والأمير أبو شجاع ” بكران بن بلفوارس ” (1)، والأمير عنبر الملكي المتوفى سنة 420، وأمير عقيل غريب بن مقفى المتوفى سنة 425، وغيرهم. من العلماء والقضاة والأدباء: أستاذه العلامة الشيخ المفيد المتوفى سنة 413، والشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد المتوفى سنة 419، وسعد الأئمة أبو القاسم وابنه معتمد الحضرة أبو محمد المتوفى سنة 417، وأبو الحسين بن الحاجب المتوفى سنة 428، وأبو إسحاق الصابي الكاتب المشهور المتوفى سنة 384، وأبو الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق الصابي المتوفى سنة 448، وابن شجاع الصوفي المتوفى سنة 423 وأبو الحسين الإقساسي العلوي الذي تولى إمارة الحج نيابة عن المرتضى مرارا وتوفي سنة 415 ورثاه المرتضى بالفائية التي مطلعها: عرفت ويا ليتني ما عرفت * فمر الحياة لمن قد عرف وأبو الحسين البتي أحمد بن علي الكاتب المتوفى سنة 403، والقاضي أبو القاسم عبد العزيز بن محمد العسكري القطان المتوفى سنة 458، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي المتوفى سنة 447، وأبو الحسن السمسمي تلميذ أبي علي الفارسي المتوفى سنة 415، والشاعر الظريف أبو بكر محمد بن عمر العنبري المتوفى سنة 412 الذي رثاه المرتضى بقصيدة مطلعها: أبا بكر تعرضت المنايا * لحتفك حين لا أحد منوع وغير هؤلاء كثير يجدهم المتصفح لهذا الديوان. تلامذته: لما كان الشريف المرتضى – كما أسلفنا – قد ضرب بسهم وافر من العلوم والآداب


(1) كذا ورد اسمه في نسخة ” ه‍ ” في الديوان وفي ذيل تجارب الأمم لأبي شجاع ص 389 =

[ 47 ]

وسائر المعارف الاسلامية المعروفة في ذلك العصر، لم يكن غريبا أن يصبح تلامذته ومريدوه وملازموا درسه والمختلفون إلى مجلسه والمستمعون إليه كثيرين، وأغلبهم علماء أفاضل خلفوا كتبا جليلة ورسائل نافعة لا يزال قسم منها باقيا إلى اليوم. وسنأتي على ذكر بعضهم مبتدئين بالأمثل فالأمثل منهم: 1 – شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي.
2 – أبو يعلى سلار (سالار) بن عبد العزيز الديلمي.
3 – أبو الصلاح تقي الدين بن النجم الحلبي.
4 – القاضي أبو القاسم عبد العزيز بن البراج.
5 – أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي.
6 – عماد الدين ذو الفقار محمد بن معبد الحسني.
7 – أبو عبد الله جعفر بن محمد الدوريستي.
8 – أبو الحسن سليمان بن الحسن الصهرشتي.
9 – أبو الحسن محمد بن محمد البصروي.
10 – أبو عبد الله بن التبان التباني.
11 – الشيخ أحمد بن الحسن النيسابوري.
12 – أبو الحسين الحاجب المعروف بابن أخت الأستاذ الفاضل.
13 – نجيب الدين أبو محمد الحسن بن محمد الموسوي.
14 – القاضي عز الدين عبد العزيز بن كامل الطرابلسي.
15 – القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي.
16 – المفيد الثاني أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين.
17 – الفقيه التقي بن أبي طاهر الهادي النقيب الرازي. 18 – محمد بن علي الحلواني.
19 – السيد أبو يعلي محمد بن حمزة العلوي.


= حوادث سنة 331 وفي نسخة ” س ” بكر بن أبي الفوارس.

[ 48 ]

20 – الفقيه أبو الفرج يعقوب بن إبراهيم البيهقي. مؤلفاته: أول من فهرس مؤلفات الشريف المرتضى هو تلميذه محمد بن محمد البصروي، حيث قدم القائمة التي كتبها إلى أستاذه ملتمسا الإجازة منه، فأجازه في شعبان سنة 417. ثم ذكر جانبا من مؤلفاته تلميذه الآخر الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب الفهرست ص 98 والنجاشي في رجاله ص 270 وابن شهر آشوب في معالم العلماء ص 69 كما وزع الشيخ آقا بزرك الطهراني أسماء تآليف الشريف المرتضى وبعض التفصيل عنها في موسوعته الكبرى ” الذريعة إلى تصانيف الشيعة “. ويلاحظ أن كثيرا من الأسماء وردت في المصادر محرفة أو مختصرة أو مغيرة بعض التغيير، مما أدى إلى الاشتباه عند الباحثين لآثار المرتضى. كما أن بعض الرسائل أو المسائل المذكورة في قائمة مؤلفاته هي جزء من كتبه أفردها بعض الناسخين فحسبها المنقبون أنها مستقلة كتبت برأسها. ونحن في هذا الثبت نحاول أن نجمع آثار الشريف المرتضى مع التنويه إلى ما يلزم التنويه عنه من الملاحظات على كلام من سبقنا، ونهتم بذكر ما هو مطبوع منها وعدد طبعاتها لو تكررت. 1 – ” إبطال العمل بأخبار الآحاد ” طبع بقم سنة 1405 في المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى.
2 – ” إبطال القياس “.
3 – ” أجوبة المسائل القرآنية “، أربع عشرة مسألة طبعت بقم سنة 1405 في المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى.
4 – ” أجوبة مسائل متفرقة من الحديث وغيره ” طبعت بقم سنة 1405 في المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى.
5 – ” أحكام أهل الآخرة “، طبع بإيران على الحجر سنة 1319 بهامش ” أمالي


[ 49 ]

المرتضى “، وطبع بالنجف سنة 1386 ضمن مجموعة رسائل الشريف المرتضى بتحقيق السيد أحمد الحسيني، وطبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى.
6 – ” الاعتراض على من يثبت حدود الأجسام “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى.
7 – ” أقاويل العرب في الجاهلية ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى ” 8 – ” الانتصار “، وسماه الطوسي وابن شهر آشوب ” الانفرادات في الفقه “، وهو هذا الكتاب الماثل بين يديك.
9 – ” إنقاذ البشر من القضاء والقدر ” أو ” إنقاذ البشر من الجبر والقدر ” أو ” إيقاظ البشر… “، طبع بطهران سنة 1350 وفي النجف سنة 1935 م، وطبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى.
10 – ” البرق ” وسماه الطوسي وابن شهر آشوب ” المرموق في أوصاف البروق “.
11 – ” تتبع الأبيات التي تكلم عليها ابن جني في إثبات المعاني للمتنبي “.
12 – ” تتمة أنواع الأعراض من جمع أبي رشيد النيسابوري “. 13 – ” تفسير الآيات المتشابهات في القرآن “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى.
14 – تفسير آية: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح “، وهو من فصول تكملة أمالي المرتضى وأفرد.
15 – ” تفسير آية: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم “، وهو من فصول تكملة أمالي المرتضى وأفرد.
16 – ” تفسير الخطبة الشقشقية “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى.
17 – ” تفسير القرآن الكريم “، نجز منه سورة الفاتحة و 125 آية من بداية سورة


[ 50 ]

البقرة.
18 – ” تفسير قصيدة السيد الحميري ” البائية المعروفة بالقصيدة المذهبة طبع بمصر سنة 1313 وطبع ببيروت سنة 1970 م بتحقيق الأستاذ محمد الخطيب.
19 – ” تفسير القصيدة الميمية من شعره “.
20 – ” تفضيل الأنبياء على الملائكة “، منتزع من تكملة أمالي المرتضى، طبع بالنجف سنة 1386 ضمن مجموعة رسائل الشريف المرتضى بتحقيق السيد أحمد الحسيني، وطبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى.
21 – ” تقريب الأصول ” لعله المطبوع بعنوان ” مقدمة في الأصول الاعتقادية “.
22 – ” تكملة الغرر والدرر “، وهو المعبر عنه بتكملة أمالي المرتضى، طبع بالقاهرة مع الأصل بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.
23 – ” تنزيه الأنبياء ” طبع في ايران على الحجر وفي النجف سنة 1352 و 1380، وعلى الأخيرة طبع بالأوفست مكررا.
24 – ” جمل العلم والعمل ” طبع بالنجف سنة 1386 بتحقيق السيد أحمد الحسيني وسنة 1387 بتحقيق المحامي رشيد الصفار، وطبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى.
25 – ” الجواب عن الشبهات في خبر الغدير “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى.
26 – ” جواب الكراجكي في فساد العدد ” لعله الذي سيذكر بعنوان ” الفرائض في قصر الرؤية… “. 27 – ” جواب الملحدة في قدم العالم من أقوال المنجمين “. 28 – ” جواز الولاية من جهة الظالمين “. 29 – ” الحدود والحقائق ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 30 – ” حكم الباء في آية: وامسحوا برؤوسكم “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى.


[ 51 ]

31 – ” الخطبة المقمصة “. 32 – ” الخلاف في أصول الفقه “. 33 – ” ديوان شعره “، طبع بالقاهرة في ثلاث مجلدات سنة 1958 م بتحقيق المحامي رشيد الصفار. 34 – ” الذخيرة “، وسمي على طرة نسخة مخطوطة منه ” ذخيرة العالم وبصيرة المعلم “، طبع أخيرا في مؤسستنا 35 – ” الذريعة إلى أصول الشريعة “، طبع بطهران في جزئين بتحقيق الدكتور أبو القاسم الكرجي. 36 – ” الرد على أصحاب العدد ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى، ولعله الذي سيأتي بعنوان ” الفرائض في قصر الرؤية… “. 37 – ” الرد على يحيى بن عدي النصراني في اعتراض دليل الموجد في حدوث الأجسام “. 38 – ” الرد على يحيى بن عدي النصراني فيما يتناهى “. 39 – ” الرد على يحيى بن عدي النصراني في مسألة سماها طبيعة الممكن “، وفي بعض المصادر ” طبيعة المسلمين “. 40 – الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة ” وفي بعض المصادر ” الآيات الباهرة… ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 41 – ” الشافي في الامامة ” طبع على الحجر في ايران سنة 1301 مع مختصره للشيخ الطوسي ” تلخيص الشافي ” وطبع في بيروت مؤخرا في أربعة أجزاء. 42 – شرح مسائل الخلاف “. 43 – ” الشهاب في الشيب والشباب “، طبع بمطبعة الجوائب سنة 1302. 44 – ” طيف الخيال ” طبع بمصر سنة 1374، طبع ببغداد سنة 1957 م بتحقيق الدكتور صلاح صبحي وبالقاهرة سنة 1381 بتحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي.


[ 52 ]

45 – ” عدم تخطئة العامل بخبر الواحد “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 46 – ” عدم وجوب غسل الرجلين في الطهارة “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 47 – ” علة امتناع علي من محاربة الغاصبين ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 48 – ” علة خذلان أهل البيت عليهم السلام ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 49 – ” علة مبايعة علي عليه السلام “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 50 – ” العمل مع السلطان ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى، وهو المذكور بعنوان ” جواز الولاية من جهة الظالمين “. 51 – ” غرر الفرائد ودرر القلائد ” وهو المعروف ب‍ ” أمالي المرتضى ” طبع على الحجر في ايران سنة 1273، وطبع بالقاهرة سنة 1325 وعليها بالأوفست في قم سنة 1403 وطبع بالقاهرة سنة 1954 بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم وعليها طبع بالأوفست في ايران وبيروت مكررا. 52 – ” الفرائض في قصر الرؤية وإبطال القول بالعدد ” وسماه بعض ” مختصر الفرائض.. ” أو ” نقض الرؤية… ” أو ” نقض الرواية… “. 53 – ” الفقه الملكي “. 54 – قول النبي: نية المؤمن خير من عمله ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 55 – ” الكلام على من تعلق بقوله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم “. 56 – ” ما تفرد به الإمامية “. 57 ” مجموعة في فنون من علم الكلام ” طبعت ببغداد سنة 1955 في سلسلة نفائس المخطوطات بتحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين، ولعلها من جملة مسائله


[ 53 ]

الموصوفة بالمفردات في علم الكلام. 58 – ” المحكم والمتشابه “، ذكره ابن شهر آشوب ونسبته إلى الشريف المرتضى مخدوشة طبع في ايران على الحجر. 59 – ” مسائل آيات “. 60 – ” مسائل أهل مصر الأولى ” خمس مسائل. 61 – ” مسائل أهل مصر الثانية ” تسع مسائل. 62 ” مسائل البادريات ” أربع وعشرون مسألة. 63 – ” المسائل التبانيات ” عشرة مسائل طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى. 64 – ” المسائل الجرجانية “. 65 – ” المسائل الحلبية الثانية ” ثلاث مسائل. 66 – ” المسائل الحلبية الثانية ” ثلاث مسائل. 67 – ” المسائل الحلبية الثالثة ” ثلاثون مسألة. 68 – ” مسائل الخلاف في الفقه ” لم يتمه. 69 – ” المسائل الدمشقية ” وهي ثلاثون مسألة تسمى ” المسائل الناصرية “. 70 – ” المسائل الرازية “، خمس عشرة مسألة، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى. 71 – ” المسائل الرسية الأولى “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 72 – ” المسائل الرسية الثانية ” طبعت بقم سنة 1405. 73 – ” المسائل الرمليات ” سبع مسائل. 74 – المسائل السلارية ” والظاهر أنها الواردة في بعض المصادر بعنوان ” أجوبة المسائل الديلمية “. 75 – ” المسائل الصيداوية “. 76 – ” المسائل الطبرية ” مائتان وسبع مسائل وطبعت بقم سنة 1405 ضمن


[ 54 ]

المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى، وهي فيها إحدى عشرة مسألة. 77 – ” المسائل الطرابلسية الأولى ” سبع عشرة مسألة. 78 – ” المسائل الطرابلسية الثانية ” عشرة مسائل وطبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى وهي فيها اثنا عشرة مسألة. 79 – ” المسائل الطرابلسية الثالثة ” خمس وعشرين مسألة وطبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى، وهي فيها ثلاث وعشرين مسألة. 80 – المسائل الطوسية “، ويقال لها ” المسائل البرمكية ” وهي خمس مسائل. 81 – ” المسائل المحمدية ” خمس مسائل. 82 – ” مسائل مفردات ” نحو مائة مسألة من فنون شتى. 83 – ” مفردات من أصول الفقه “. 84 – ” المسائل الموصليات الأولى “. 85 – ” المسائل الموصليات الثانية ” تسع مسائل وطبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى. 86 – ” المسائل الموصليات الثالثة “، مائة وعشرة مسائل وطبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى. 87 – ” مسائل الميافارقيات ” وهي مائة مسألة كما في فهرس البصروي وفي بعض الفهارس خمس وستون مسألة، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى، وهي فيها خمس وستون مسألة. 88 – ” المسائل الناصرية في الفقه ” طبعت ضمن الجوامع الفقهية سنة 1374، وهي غير ” المسائل الدمشقية “. 89 – المسائل الواسطية ” مائة مسألة. 90 – ” مسألة في الإجماع “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 91 – ” مسألة في الارادة “.


[ 55 ]

92 – ” مسألة في إرث الأولاد ” طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 93 – ” مسألة في الاستثناء “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 94 – ” مسألة في استلام الحجر “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 95 – ” مسألة في الاعتراض على أصحاب الهيولي “. 96 – ” مسألة في الامامة “، في دليل الصفات. 97 – ” مسألة في التأكيد “. 98 – ” مسألة في توارد الأدلة “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 99 – ” مسألة في التوبة “. 100 – ” مسألة في الحسن والقبح العقلي “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 101 – ” مسألة في خلق الأعمال “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 102 – ” مسألة في دليل الخطاب ” لعلها متحدة مع ” مسألة في الامامة “. 103 – ” مسألة في الرد على المنجمين ” طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 104 – ” مسألة في العصمة ” في تكملة أمالي المرتضى ” مسألة في عصمة الأنبياء ” لعلها هي هذه وأفردت طبعت بقم سنة 1405 في المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 105 – ” مسألة في قتل السلطان “، كذا في بعض الفهارس والظاهر أنها رسالته في ” جواز الولاية من قبل السلطان ” فحرف. 106 – ” مسألة في كونه تعالى عالما “.


[ 56 ]

107 – ” مسألة في المتعة “. 108 – ” مسألة فيمن يتولى غسل الإمام ” طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 109 – ” مسألة في المنامات “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 110 – ” مسألة في نفي الرؤية “، يريد رؤية الله تعالى، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى. 111 – ” مسألة في وجه التكرار في الآيتين “، طبعت بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 112 – ” المصباح في أصول الفقه ” لم يتمه. 113 – ” مقدمة في الأصول الاعتقادية ” طبعت ببغداد في المجموعة الثانية من نفائس المخطوطات بتحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين. 114 – ” المقنع في الغيبة ” طبع ببغداد في سلسلة نفائس المخطوطات رسالة عنوانها ” مسألة وجيزة في الغيبة ” لعلها هي المقنع، وطبع أيضا بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف بعنوان ” رسالة في الغيبة “. 115 – ” الملخص في الكلام ” لم يتمه. 116 – ” مناظرة الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم ” طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 117 – ” المنع من تفضيل الملائكة على الأنبياء “، طبع بالنجف سنة 1386 ضمن مجموعة رسائل الشريف المرتضى بتحقيق السيد أحمد الحسيني، وطبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 118 – ” الموضح عن وجه إعجاز القرآن ” ويسمى ” كتاب الصرفة “. 119 – ” نفي الحكم بعدم الدليل عليه “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 120 – ” النقص على ابن جني في الحكاية والمحكي “.


[ 57 ]

121 – ” نكاح أمير المؤمنين ابنته من عمر “، طبع بقم من دون تاريخ. 122 – ” وجه العلم بتناول الوعيد كافة الكفار “، طبع بقم سنة 1405 ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى. 123 – ” الوعيد “، لعله المذكور في فهرس البصروي بعنوان المسألة الثانية من ” المسائل الموصليات “: وفاته ومدفنه وعقبه: توفي المرتضى – رضي الله عنه – لخمس بقين من شهر ربيع الأول ” سنة 436 ” ببغداد، وصلى عليه ابنه في داره، ودفن فيها عشية ذلك اليوم، ثم نقل بعد ذلك إلى كربلاء ودفن بجوار أجداده عند قبر أبيه وأخيه الرضي وجده إبراهيم (1) ابن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام. قال النجاشي: ” وتوليت غسله ومعي الشريف أبو يعلي محمد بن الحسن الجعفري


(1) جاء في كتاب ” أدب المرتضى ” ص 76 – 77 للدكتور عبد الرزاق محيي الدين: أنهما (أي الرضي والمرتضى) دفنا في مقبرة جدهما الأعلى إبراهيم المجاب أقول: هذا رأي صاحب روضات الجنات على ما ذكر في ص 384 من كتابه، وربما ذهب إلى ذلك غيره، والذي عليه المحققون منهم صاحب عمدة الطالب – ابن مهنا – والسيد محسن الأمين العاملي – رحمه الله – (اللذين ذكر خلافهما لذلك محيي الدين نفسه في ذلك الصفحة 77 من كتابه) أن إبراهيم هذا المدعو بالمجاب والمسمى في كتب الأنساب بإبراهيم الأكبر هو صاحب أبي السرايا، قيل إنه أحد أئمة الزيدية وأنه مات ولم يعقب، وإنما العقب من أخيه إبراهيم المرتضى المدعو بإبراهيم الأصغر هذا وإن ورد ذكر نسب الشهيد السيد أحمد ابن هاشم بن علوي بن الحسين الغريقي في كتاب أعيان الشيعة للعلامة الأمين العاملي سالف الذكر، موصولا بإبراهيم المجاب (وقد ورد ذكره أنه لم يعقب) فهو اشتباه أو سهو وقد زاد السيد الأمين – رحمه الله – على ذلك بأن جعل إبراهيم المجاب هذا ابنا لمحمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر – عليهما السلام – وقد ورد في عمدة الطالب لابن مهنا أن محمد العابد هو أخو الابراهيمين الأكبر والأصغر ولم يكن أبا لأحدهما. راجع عمدة الطالب ص 185 ط. النجف وص 188 ط بمبي ونسب الغريقي في أعيان الشيعة 17 / 448 ط. ابن زيدون – دمشق. والغريقي المذكور هو دفين ” حي واسط ” والمعروف بالعقار (بالكاف المخففة الفارسية).

[ 58 ]

وسلار بن عبد العزيز “. ونقل عنه أنه قال عند وفاته: لئن كان حظي عاقني عن سعادتي * فإن رجائي واثق بحليم وإن كنت في زاد التقية والتقى * فقيرا فقد أمسيت ضيف كريم فأما أي دار من دوره توفي فيها ودفن بها ثم نقل عنها؟ فهذا ما لا يمكننا تعيينه لأن الدور التي استوطنها المرتضى على ما نعلم هي أربعة: أولها: دار أبيه وهي التي في محلة باب المحول في الجانب الغربي من بغداد، كما أشرنا إليه عند ذكر ولادته من هذه المقدمة. ثانيها: الدار التي تقع على الصراة التي أحرقت على أثر فتن حدثت سنة 416. ثالثها: داره بدرب جميل التي سكنها بعد أن أحرقت داره التي على الصراة سالفة الذكر وهذه الدار كان المرتضى مستوطنها سنة 424. رابعها: الدار التي بناها على شاطئ دجلة ولا نعرف أين موقع هذه الدور الآن بالضبط، كما لا نعلم هل سكن المرتضى غير هذه الدور أم لا! عسى أن نوفق لتحقيق ذلك في فرصة أخرى والله المعين. عقب المرتضى: قال ابن مهنا في عمدة الطالب (1): ” أعقب المرتضى من ابنه أبي جعفر محمد ابن علي المرتضى [ و ] من ولده، أبو القاسم علي بن الحسن الرضي بن محمد بن علي ابن أبي جعفر [ يعني محمدا ] بن علي المرتضى، النسابة، صاحب كتاب ديوان النسب وغيره، أطلق قلمه ووضع لسانه حيث شاء، كما طعن في آل أبي زيد العبيدليين نقباء الموصل، وهو شئ تفرد به ولم يذكره أحد سواه من النسابين وحدثني الشيخ النقيب تاج الدين بن معية الحسني (2)، قال: قال لي الشيخ علم الدين المرتضى علي بن


(1) ط النجف ص 195 – 196، و ط بمبي ص 193 – 194.
(2) معية (كسمية): تاج الدين أبو عبد الله محمد بن السيد جلال الدين أبي جعفر بن الحسين =

[ 59 ]

عبد الحميد بن فخار الموسوي: إنه انفرد بالطعن في نيف وسبعين بيتا من بيوت العلويين لم يوافقه على ذلك أحد (ثم قال) قال لي النقيب تاج الدين لا شك أنه تفرد بالطعن في بيوت العلويين فأما هذا المقدار فإنه يكتب في مشجرته التي سماها ” ديوان النسب من سمع به ولم يتحققه بعد إلا أنه تحقق فيه شيئا، (ولا يخفى) أن هذا اعتذار من النقيب عنه والله أعلم. وكان للنسابة ابن اسمه أحمد درج وانقرض (علي بن الحسن الرضي النسابة) (1) وانقرض بانقراضه الشريف المرتضى علم الهدى بن أبي أحمد الموسوي “. وكتب الأستاذ الدكتور حسين محفوظ في ذيل ما كتبه في فهرست كتب السيد المرتضى: إن للسيد بنتا، وكانت فاضلة جليلة تروي عن عمها السيد الرضي كتاب نهج البلاغة، ويروي عنها الشيخ عبد الرحيم البغدادي المعروف بابن الأخوة – على ما أورده القطب الراوندي في آخر شرحه على نهج البلاغة. وذكر الدكتور عبد الرزاق محيي الدين في كتابه ” أدب المرتضى ” (2) أن للمرتضى بنتين غير هذه وقد توفيتا في حياته، ولأخيه الرضي مرثيتان فيهما مذكورتان في ديوانه مطلع الأولة. لا لوم للدهر ولا عتابا * تغاب إن الجلد من تغابى


العلوي الحسني الديباجي الحلي، عالم أديب نسابة، له كتاب معرفة الرجال ونهاية الطالب في نسب آل أبي طالب، وهو شيخ بن مهنا صاحب عمدة الطالب، ومن شعره لما وقف على بعض أنساب العلويين ورأى قبح أعمالهم فكتب: يعز على أسلافكم يا بني العلا * إذا نال من أعراضكم شتم شاتم بنوا لكم مجد الحياة فمالكم * أسأتم إلى تلك العظام الرمائم أرى ألف بأن لا يقوم بهادم * فكيف ببان خلفه ألف هادم؟ توفي بالحلة سنة 776 وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي ودفن هناك. (الكنى والألقاب 1 / 402 – 403). (1) في الأصل (علي المرتضى النسابة) وهو من خطأ الناسخين وغفلة المصححين.
(2) أدب المرتضى ص 79.

[ 60 ]

والثانية: فلا تحسبن رزء الصغائر هينا * فإن وجى الاخفاف ينضي الغواربا تعقيب على عقب المرتضى: جاء في كتاب ” أدب المرتضى ” (1): أنجب المرتضى ولدا كناه ” أبا محمد ” وكان حريصا على تربيته تربية عالية ولكنه فيما ظهر لي (كذا يقول مؤلف الكتاب) لم يكن على شئ من العلم لأنه لم يذكر في تراجم أعلام الإمامية، وقد ذكره ابن خلكان بين المتوفين في حوادث 443 وأسماه أبا عبد الله الحسين، تزوج أبو محمد هذا في حياة أبيه فأعقب ولدا وظل عقب المرتضى يطرد من ابنه هذا حتى وصل إلى أبي القاسم النسابة صاحب كتاب ديوان النسب. ثم يقول مؤلف الكتاب: قال صاحب عمدة الطالب: والعقب للمرتضى من ابنه أبي محمد… (إنتهى قول صاحب أدب المرتضى). أقول: راجعنا كتب الأنساب ومنها التي أشار إليها مؤلف الكتاب وزعم أنه نقل عنها – وهي كتاب ” عمدة الطالب ” – فلم نجد للمرتضى ولدا بهذه الكنية وإنما الذي ذكر صاحب العمدة هو أبو جعفر محمد وهذا نص قوله (في العمدة ص 192 من الطبعة الهندية وص 195 من الطبعة النجفية): وأعقب المرتضى من ابنه أبي جعفر محمد [ الذي ] من ولده أبو القاسم النسابة [ وهو ] علي بن الحسن الرضي بن محمد بن علي بن ” أبي جعفر محمد بن علي المرتضى “. فمن أين جاءنا المؤلف بهذه الكنية لهذا الابن؟ وأغلب الظن أنها جاءته مما ورد في الديوان من قوله: وقال: يرثي والدة الشريف ” أبي محمد فتاه ” كما ألمع إلى ذلك مؤلف كتاب أدب المرتضى ” ص 72 ” من كتابه بقوله: ورثاؤه المتعدد لزوجته أم فتاه ” أبي محمد “.. الخ. وأنت ترى أن ” الفتى ” إذا أضيفت لا تطلق على الابن الصلبي مطلقا، فلا يقال لابن


(1) ص 78 ط المعارف ببغداد سنة 1957.

[ 61 ]

فلان أو ولده فتاه، بل يقال ابنه أو ولده، وقد جاء ذلك بصريح القرآن وفقه اللغة. قال الثعالبي في فقه اللغة: ولد كل بشر ابن وابنة، ولا يخفى عليك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: ” وإذ قال موسى لفتاه “، ” فلما جاوزا قال لفتاه “، ” امرأة العزيز تراود فتاها “، ” وقال لفتيانه “… ” ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء “… فليس المقصود بفتاه أنه كان ابنا لموسى عليه السلام ولم يكن يوسف ابنا لامرأة العزيز على التحقيق، كما لم يكن فتيانه أبناءه، ولا المراد بفتياتكم بناتكم قطعا بدليل قوله سبحانه: ” فانكحوهن بإذن أهلهن ” فالمراد من كل ذلك المملوك أو الخادم كما عليه إجماع المفسرين. فلا يمكننا والحالة هذه أن نستنتج من قوله في الديوان: يرثي والدة الشريف أبي محمد فتاه، لا أنها زوجته هي المرثية، ولا أن أبا محمد هو ابنها – ولعل لفظة ” فتاه ” جاءت مصحفة عن ” فتاة ” منصوبة على الحالية لا البدلية فكأنه يريد أن يقول وقد ماتت فتاة لم تبلغ من العمر أشدها والذي يرجح لدينا هذا الرأي قول المرتضى نفسه في القصيدة المشار إليها التي يرثي بها والدة الشريف أبي محمد: بلغت أشدي – لا بلغت – وجزته * وعاجلتها من أن تجوز أشدها (1) أما قوله وقد ذكره ابن خلكان… وأسماه أبا عبد الله الحسين. ثم يردف ذلك بقوله: تزوج أبو محمد هذا فأعقب… ومرة أخرى يسميه بالطاهر المرضي وذلك بناء على تلقيب المعري أبي العلاء له بالقصيدة التي يرثي بها أبا أحمد الموسوي – والد الشريفين – حيث يقول: حلفا ندى سبقا وصلى الأطهر ال‍ * مرضي فيالثلاثة أحلاف قيل هذا الأطهر هو ابن للمرتضى – بالاضافة إلى ما يسنده لابن خلكان من أن اسمه ” الحسين ” وكنيته ” أبو عبد الله ” – فيصبح لابن المرتضى هذا ثلاث كنى واسمان ولقب، وهي أبو محمد وأبو عبد الله واسمه الحسين (على ما ذكره مؤلف أدب


(1) راجع القصيدة ص 249 – القسم الأول من هذا الديوان – وقد ورد في ” أدب المرتضى ” قسم من هذه القصيدة ص 72.

[ 62 ]

المرتضى) وأبو جعفر واسمه محمد (على ما ذكره صاحب العمدة وهو العمدة). والأطهر المرضي على ما لقبه به أبو العلاء المعري واختاره (مؤلف أدب المرتضى). فهل ترى أكثر من هذا ما يدعو إلى الارتياب وعدم معرفة الصواب؟ فنحن وإن كنا لا نمنع – عقلا – أن يكون لشخص واحد عدة أسماء وكنى وألقاب ولكن لا نجوز ذلك بالنسبة لابن المرتضى المعروف بكنيته واسمه في ” عمدة الطالب ” وهو ” أبو جعفر محمد ” وما عدا ذلك مجرد احتمالات ضعيفة واستنتاجات مبهمة ليست من التحقيق أو الحقيقة في شئ. أما قوله ص 79 (1) ” وأنجب (يعني المرتضى) من البنات زينب وخديجة ” مسندا ذلك إلى روضات الجنات، فقول في غاية الغرابة – إذ اللاتي ذكرهن صاحب الروضات هن أخوات المرتضى لا بناته – ألا تفقه قوله: فولد أبو أحمد (يعني والد الشريفين) زينب، وعليا (يعني المرتضى) ومحمدا (يعني الرضي) وخديجة، أربعة أولاد، فأما علي، فهو الشريف لأجل…) (2).


(1) ” أدب المرتضى ” للدكتور عبد الرزاق محيي الدين مطبعة المعارف ببغداد سنة 1957.
(2) راجع روضات الجنات للخونساري ص 386 هذا مع العلم أن مؤلف كتاب أدب المرتضى يزعم في ص 2 من مقدمة كتابه أنه قد عرض الكتاب قبل نشره على جماعة من أعلام الفقه والحديث وأصول العقائد ممن لهم صلة بعمل المرتضى فأبدوا ملاحظات قيمة أثبتها في نهايته كما وردت بأقلامهم. أقول: قد سبرنا الكتاب وراجعنا نهايته فلم نجد لتلك الملاحظات أثرا، ولو عرض الكتاب عليهم حقا لما وقع المؤلف في كثير من المزالق والأخطاء التي أشرنا إلى جزء يسير منها في هذه المقدمة ولما فات أولئك الأعلام الخلط بين علم الرجال وعلم نقد الحديث الذي جعله المؤلف مرادفا له (راجع ص 35 أدب المرتضى) حتى نسب إلى ابن بابويه القمي أنه ألف أربعمائة كتاب في علم الحديث كما جاء في (ص 34 أدب المرتضى) في حين نعلم أن علم نقد الحديث هو مرادف للعلم المعروف باصطلاح أهل الحديث بعلم ” الدراية ” وعرفوه بالعلم الذي يبحث فيه عن سند الحديث (من حيث انقسامه إلى المتواتر والآحاد والمستفيض وغيرها) وعن متنه (من حيث التعلل أو التصحيف أو الظهور أو الصراحة وغيرها) وكيفية تحمله (من السماع والقراءة والاجازة وغيرها) وآداب نقله. فعلم الرجال جزء من علم نقد الحديث حتى أنهم فرقوا علم الرجال نفسه، وهو الموضوع لتشخيص الرواة ذاتا ووصفا عن موضوع =

[ 63 ]

منهج التحقيق لقد تم تحقيق هذا السفر العظيم عبر طي المراحل الآتية: 1 – المقابلة: وقد قوبل الكتاب مع عدة نسخ: أ – نسخة المكتبة الرضوية المرقمة (2234) وهي نسخة جيدة من حيث الضبط وقليلة الخطأ جدا، كما أنها نسخة كاملة ولم يسقط منها سوى الصفحة الأولى، كما أنها قديمة حيث تم الفراغ من تحريرها سنة (596) ه‍ ق، ولجودتها الفائقة جعلناها النسخة المعتمدة في التحقيق. ب – نسخة مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي المرقمة (3598)، وهي نسخة جيدة وقليلة الخطأ وكاملة وقديمة حيث تم الفراغ من كتابتها سنة (591) ه‍ ق، ورمزنا له برمز ” م ” إلا أن الأولى أقل خطأ منها. ج – نسخة من مكتبة ” گوهرشاد ” في مشهد المرقمة (1573) تم استنساخها سنة (1068) ه‍ ق، ورمزنا لها ب‍ ” أ “. د – نسخة المكتبة الرضوية المرقمة (7446) تم استنساخها سنة (1067) ه‍ ق، ورمزنا لها ب‍ ” ب “. ولم نذكر في هامش الكتاب الموارد المتيقنة الغلط.


= علم تاريخهم الذي يبحث عن أفعال الأشخاص ومولدهم ومماتهم دون النظر إلى جهة الرواية. فتأمل (راجع وجيزة البهائي وشرحها للسيد محمد علي المرعشي وغيرها من مقدمات هذا العلم) والله المستعان.

[ 64 ]

2 – الاستخراج: وتم في هذه المرحلة استخراج الآيات والروايات والأقوال عن مصادرها المذكورة فيها. ونذكر هنا أن بعض الأقوال لم نعثر عليها وذلك لعدم وجود الكتاب الذي نقل عنه السيد المرتضى، ككتاب ” اختلاف الفقهاء ” للطحاوي، حيث إن المطبوع منه ناقص وقد اعتمد عليه السيد المرتضى في نقل أقوال الفقهاء كثيرا، كما أن بعض الروايات لم نعثر عليها بعد الفحص الكثير إما لأن تلك الكتب لم تصل إلينا أو لم تطبع وإما لأن هذا الكتاب قد يكون هو المصدر الوحيد لذكر الخبر وبقية الكتب تنقل عنه.
3 – تقويم النص وتقطيعه: وتم في هذه المرحلة تمييز النسخ وإثبات الصحيح منها وإنزال الهوامش، كما تم تقطيع النص بصورة فنية لكي يسهل فهم المطلب على القارئ الكريم، فجعلنا رأس السطر لفرز الفروع الفقهية أو الأدلة وما شابه ذلك، والفارزة لتمييز الجمل، والنقطة لانتهاء المطلب. كما زينا الكتاب بعلامات الترقيم من الأقواس وعلامات الجمل المعترضة والنقطتين وعلامات الاستفهام والتعجب وما شابه ذلك.


[ 65 ]

الصفحة الأولى من النسخة المعتمدة


[ 66 ]

الصفحة الأخيرة من النسخة المعتمدة


[ 67 ]

الصفحة الأولى من نسخة (ألف)


[ 68 ]

الصفحة الأخيرة من نسخة (ألف)


[ 69 ]

الصفحة الأولى من نسخة (ب)


[ 70 ]

الصفحة الأخيرة من نسخة (ب)


[ 71 ]

الصفحة الأولى من نسخة (م)


[ 72 ]

الصفحة الأخيرة من نسخة (م)


[ 73 ]

الانتصار تأليف الشريف المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي البغدادي 355 – 436 هق تحقيق مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة


[ 75 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما يسر (1) من حق متبع وصرف من باطل مبتدع (2)، وأرشد إلى دلالة، وأبعد من ضلالة وجهالة، وصلاته على خير (3) الأنبياء وأفضلهم وأكرمهم (4) سيدنا محمد وعلى الأكارم المعالم من أهله الذين سلكوا منهاجه واتبعوا محاجة وحفظوا من التبديل والتغيير شريعته وبينوا مجملها وفسروا مشكلها وأقاموا دعامها وقربوا مرامها وسلامه وتحياته أما بعد: فإني ممتثل ما رسمته الحضرة السامية الوزيرية العميدية أدام الله سلطانها، وأعلا أبدا شأنها ومكانها من بيان المسائل الفقهية التي شنع بها على الشيعة الإمامية، وادعي عليهم مخالفة الإجماع وأكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدمين أو المتأخرين وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق ولا يوحش معه خلاف المخالف، وأن أبين (5) ذلك وأفصله وأزيل


(1) في ” ألف “: يسر لنا.
(2) في ” ألف “: مرتدع.
(3) في ” ب “: خير خلقه.
(4) في ” ألف “: وأكملهم.
(5) في ” ب “: أميز.

[ 76 ]

الشبهة (1) المعترضة فيه وهأنا ذا مبتدئا بذلك ومعتمدا من الايجاز والاختصار ما لا يخل بمهم وإن كان خارجا عن إكثار يفضي إلى إملال وإضجار وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وبه استعنت واعتصمت. ومما يجب تقديمه – فهو الأصل الذي عليه يتفرع ما نحن بسبيله ومنه يتشعب – أن الشناعة إنما تجب في المذهب الذي لا دليل عليه يعضده (2)، ولا حجة لقائله فيه فإن الباطل هو العاري من الحجج والبينات البري من الدلالات فأما ما عليه دليل يعضده وحجة تعمده فهو الحق اليقين ولا يضره الخلاف فيه وقلة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأول الاتفاق عليه وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحته وحجته القائدة له إليه لا عمن يوافقه فيه أو يخالفه. على أنه لا أحد من فقهاء الأمصار إلا وهو ذاهب إلى مذاهب تفرد بها مخالفوه كلهم على خلافها فكيف جازت الشناعة على الشيعة بالمذاهب التي تفردوا بها ولم يشنع على كل فقيه كأبي حنيفة والشافعي ومالك ومن تأخر عن زمانهم بالمذاهب التي تفرد بها؟ وكل الفقهاء على خلافه فيها، وما الفرق بين ما انفردت به الشيعة من المذاهب التي لا موافق لهم فيها وبين ما انفرد به أبو حنيفة أو الشافعي من المذاهب التي لا موافق له فيها؟ فإن قالوا: الفرق بين الأمرين: أن كل مذهب تفرد به أبو حنيفة فله موافق من فقهاء أهل الكوفة فيه، أو من السلف المتقدم وكذلك ما تفرد به الشافعي له فيه موافقون من أهل الحجاز من السلف، وليس كذلك الشيعة. قلنا: ليس كل مذهب تفرد به أبو حنيفة أو الشافعي يعلم أن أهل الكوفة


(1) في ” م “: الشبه.
(2) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.

[ 77 ]

أو أهل الحجاز أو السلف قائلون به وإن ادعى ذلك دون ما هو معلوم مسلم غير منازع فيه، فالشيعة أيضا تدعي وتروي أن مذاهبها التي انفردت بها هي مذاهب جعفر بن محمد الصادق ومحمد ابن علي الباقر وعلي بن الحسين زين العابدين (عليهم السلام) بل تروي هذه المذاهب عن أمير المؤمنين علي (1) (صلوات الله عليه) وتسندها إليه، فاجعلوا لهم من ذلك ما جعلتموه لأبي حنيفة وللشافعي وفلان وفلان، أو أنزلوهم على أقل الأحوال منزلة ابن حنبل وداود ومحمد بن جرير الطبري فيما انفردوا به فإنكم تعدونهم خلافا فيما انفردوا به، ولا تعدون الشيعة خلافا فيما انفردوا به وهذا ظلم لهم وتحيف عليهم. على أن من مذاهب أبي حنيفة التي استدركها بالقياس ما لا يمكنه أن يدعي أن له في القول بها سلفا من الصحابة ولا التابعين ولو شئنا لأشرنا إلى فروع كثيرة له بهذه الصفة فكيف لم تشنعوا عليه بأنه ذهب إلى ما لم يذهب إليه أحد قبله وشنعتم على الشيعة بمثل ذلك؟ فإن قالوا الفرق بين الأمرين: أن أبا حنيفة وإن تفرد بمذاهب قاده إليها القياس ولم يعلم سابق له إليها فإن تلك المسائل لم يجر لها في السلف ذكر ولا سبق لها حكم ولا خاض فيها أهل العلم فينعقد فيها إجماع أو خلاف، والشيعة انفردت بمذاهب تخالف ما علمنا إجماع السلف كلهم على خلاف قولهم فيها. قلنا: قد مضى أن دعواكم إجماعا متقدما على خلاف ما يقوله الشيعة عارية من برهان، وأن القوم يسندون مذاهبهم إلى جماعة من السلف يخرج قولهم وخلافهم في تلك المسألة من أن تكون إجماعا على خلاف مذاهبهم.


(1) في ” ألف ” و ” ب “: علي بن أبي طالب.

[ 78 ]

وبعد، فإذا سلم لكم ذلك على ما فيه فيجب أن تعذروا الشيعة خلافا فيما انفردوا به فيما يخالف مذاهب أبي حنيفة التي استدركها بالقياس، ولا سلف له فيها ولا إجماع تقدم عليها، وما نراكم تعدونهم خلافا في شئ مما انفردوا به ولا تنوعون (1) ذلك حسب ما أفضى (2) الكلام الآن إليه. على أنكم تعتدون بخلاف داود بن علي ومحمد بن جرير وابن حنبل في المسائل التي تفردوا بها وعندكم أن الإجماع السالف منعقد على خلافها وتناظرونهم عليها فألا أسقطتم الاعتداد بهم في الخلاف والمناظرة لهم في هذه المسائل كما فعلتم مع الشيعة؟ أو أجريتم الشيعة مجراهم في الاعتداد والمناظرة؟ فإن قالوا: لو كان ما يدعيه الشيعة في مذاهب الصادق والباقر عليهما السلام حقا لوجب أن نعلمه كما علموه، ويزول الخلاف فيه منا كما علمت الشيعة بمذاهب سلفنا من أبي حنيفة والشافعي وغيرهما ممن تقدمهما. قلنا: ليس يجب أن يعلم الأجانب والأباعد من مذهب العالم ما يعلمه أصحابه وخلصاؤه وملازموه ومؤانسوه، ولهذا لا نعلم كثيرا (3) من مذاهب أبي حنيفة وإنما يعلمها (4) أصحابه والمنتمون إليه فمن هو أخص بالصادق والباقر ” عليهما السلام ” من أصحابهما وشيعتهما أعلم بمذاهبهما ممن ليست له هذه الصفة معهما (عليهما السلام). على أنا لا نعلم كثيرا من المذاهب التي يدعيها مخالفونا مذهبا لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ونروي عنه ونحكي خلاف ما يروون ويحكون (5) فعذرهم في


(1) في ” ألف ” و ” ب “: يتوعون.
(2) في ” ألف ” و ” ب ” اقتضى.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: لا يعلم أكثرنا.
(4) في ” ألف ” و ” ب ” ما يعلمها وفي ” م ” مما يعلمه.
(5) في باقي النسخ: وضد ما يحكون.

[ 79 ]

أنا لا نعلم ذلك هو عذرنا في أن لم يعلموا المذاهب التي ندعيها ونحكيها عن أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ وعلماء أبنائه (صلوات الله عليهم)، فليعتذروا بما شاؤوا. ثم نقول لهم: كيف علمنا صحة ما تحكونه مذهبا لأبي حنيفة والشافعي، ولم نعلم ذلك في كل ما تدعونه مذهبا لأمير المؤمنين (عليه السلام)؟ ففرقكم بين الأمرين هو فرقنا بين العلم العام بمذاهب أبي حنيفة وأمثاله، ووقوع الاشتباه في كثير من مذاهب أئمتنا ” عليهم السلام “. وبعد فليس تجري مذاهب من قوله حجة في العلم بها مجرى مذاهب من ليس قوله بحجة. ولهذا لا نعرف مذاهب النبي (صلى الله عليه وآله) في كثير من أحكام الشريعة كما نعلم مذاهب كثير من أصحابه فيها، وكما نعلم مذاهب أبي حنيفة والشافعي في تلك المسائل، والعلة في ذلك ما أشرنا إليه. ثم يقال لمن يخالفنا: إذا كان الإجماع عندكم على ضربين: إجماع العلماء فيما لا مدخل للعامة فيه، والضرب الآخر: إجماع الأمة من عالم وعامي فألا راعيتم علماء (1) الشيعة في إجماع العلماء. وإجماع عامتهم في إجماع الأمة وهم داخلون تحت لفظ النصوص التي تفزعون في صحة الإجماع إليها؟ فإن قالوا خلافهم الخاص (2) معلوم لا ريب فيه، وإنما الكلام في أن الإجماع على خلاف ما ذهبوا إليه قد سبق فقد تقدم من الكلام على هذا الفصل ما فيه كفاية. وإن قالوا: إنما لا نعتد بهم في الإجماع لأنهم على بدع وضلالة (3) يخرج من اعتقدها من أن يعتد به في خلاف.


(1) في ” م “: إجماع العلماء.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: الحاضر.
(3) في باقي النسخ: وضلالات.

[ 80 ]

قلنا: لا تخرجوا عن قانون الكلام في فروع الفقه وتمزجوه بغيره مما يحوج إلى الكلام في أصول الديانات التي تستعفون أبدا من الخوض فيها وأكثركم والغالب عليكم ليس من رجالها، ولا تذكرونا في هذا الباب ما قد تركنا الالمام به مقاربة ومساهلة، فأنتم تعلمون أن الشيعة الإمامية تعتقد فيمن يخالفها في الأصول ما يمنع من أن يراعى قوله في إجماع المسلمين أو خلافه (1) وينتهون في ذلك إلى غايات بعيدة لا تنتهون فيهم إليها فإنكم إذا بلغتم الغاية اعتقدتم فيهم أنهم أصحاب بدع يكونون بها فساقا ولا ينتهون إلى الكفر، والفاسق عند أكثر القائلين بالاجماع لا يخرج بفسقه من أن يكون قوله خلافا في الشريعة، وهذا فصل الاضراب عن تحقيقه أعود إليكم وأسلم لكم فما فرج الامامي إلا في أن يعدل معه إلى هذا الضرب من الكلام فإنه يتسع له منه ما لا يتسع من الكلام على فروع الفقه. على أنه كيف لا يعد خلافا من جعل النبي (صلى الله عليه وآله) مذاهبهم حجة يرجع إليها ويعول عليها كالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في قوله ” صلى الله عليه وآله “: إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2) أو ليس قد ذهب كثير (3) من علماء المعتزلة ومحصليهم إلى أن إجماع أهل البيت خاصة وإن انفردوا عن باقي الأمة حجة يقطع بها؟ فمن إجماعهم حجة بشهادة الرسول


(1) في باقي النسخ: خلاف.
(2) روي حديث الثقلين بطرق عديدة جدا وبصيغ مختلفة، راجع مسند أحمد بن حنبل: ج 3 / 14 و 17 و 26 و 59، وصحيح مسلم: ج 4 / 1874 ح 37، وسنن الترمذي ج 5 / 662 و 663 ح 3786، وكنز العمال: ج 13 / 104 ح 36340.
(3) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.

[ 81 ]

(صلى الله عليه وآله) كيف لا يكون قولهم خلافا وجاريا مجرى قول بعض الفقهاء في أنه خلاف يعتد به؟ إن هذا لعجيب. ومما يجب علمه أن حجة الشيعة الإمامية في صواب جميع ما انفردت به أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي إجماعها عليه، لأن إجماعها حجة قاطعة ودلالة موجبة للعلم فإن انضاف إلى ذلك ظاهر كتاب الله جل ثناؤه أو طريقة أخرى توجب العلم وتثمر اليقين فهي فضيلة ودلالة تنضاف إلى أخرى وإلا ففي إجماعهم كفاية. وإنما قلنا: إن إجماعهم حجة لأن في إجماع الإمامية قول الإمام الذي دلت العقول على أن كل زمان لا يخلو منه، وأنه معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قول ولا فعل فمن هذا الوجه كان إجماعهم حجة ودليلا قاطعا. وقد بينا صحة هذه الطريقة في مواضع من كتبنا وخاصة في جواب مسائل أبي عبد الله ابن التبان (1)، وفي جواب مسائل أهل الموصل الفقهية (2) الواردة في سنة عشرين وأربعمائة، وفي غير هذين الموضعين من كتبنا، فإنا فرعنا ذلك وأشبعناه واستقصيناه وأجبنا عن كل سؤال يسأل عنه، وحسمنا كل شبهة تعترض فيه، وبينا كيف الطريق إلى العلم بأن قول الإمام المعصوم في جملة أقوال الإمامية، وكيف السبيل إلى أن نعرف مذاهبه ونحن لا نميز شخصه وعينه في أحوال غيبته، وأسقطنا عجب من يقول: من لا أعرفه كيف أعرف مذهبه. ولا فائدة في شرح ذلك هاهنا، لأن التشاغل في هذا الكتاب بغيره، ومن أراد التناهي في معرفة صحة هذا الأصل يرجع إلى حيث أرشدناه فإنه يجد ما يوفي


(1) رسائل المرتضى: ج 1 / 11.
(2) رسائل المرتضى ج 1 / 205.

[ 82 ]

على حاجته ويتجاوز قدر كفايته. وإذا كانت الجملة التي أشرنا إليها هي الحجة في جميع مذاهب الشيعة الإمامية في أحكام الفقه فعلى من شك في شئ من مذاهبهم وارتاب بصحته أن يسأل عن صحة ذلك، فإذا أقيمت فيه (1) عليه الحجة بالطريقة التي أشرنا إليها وجب زوال ريبه وحصول علمه، وبرئت عهدة القوم فيما ذهبوا إليه ببيان الحجة فيه والدلالة عليه، وما يضرهم بعد ذلك خلاف من خالفهم، كما لا ينفع وفاق من وافقهم، ولو اقتصرنا على هذه الجملة في تمام الغرض لكفينا وما افتقرنا إلى زيادة عليها. ولا احتجنا إلى تفصيل المسائل وتعيينها فإن الحجة في صحة الجميع واحدة، لكنا نفصل المسائل ونعينها ونبين ما فيه موافق الشيعة الإمامية من غيرهم وإن ظن مخالفوهم أنه لا موافق لهم فيها ثم نبين ما انفردوا به من غير موافق من مخالفيهم، ونضيف إلى هذه الطريقة التي أشرنا إليها في صحته على جهة الجملة ما لعله يمكن فيه أن يستدل (2) من ظاهر كتاب [ الله جل ثناؤه ] (3) أو طريقة توجب العلم، وكل ما تيسر من تقويته وتقريبه وتسهيل مرامه لتكون الفائدة بذلك أكثر وأغزر وعلى الله توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل


(1) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(2) في ” ب “: يستدل به.
(3) ساقط من ” ألف “.

[ 83 ]

كتاب الطهارة


[ 84 ]

كتاب الطهارة وما يتعلق بها مسألة [ 1 ] [ في الماء الكثير ] مما شنع به على الإمامية، وظن أنه لا موافق لهم فيه قولهم: إن الماء إذا بلغ كرا لم ينجس بما يحله من النجاسات، وهذا مذهب الحسن بن صالح بن حي وقد حكاه عنه في كتابه الموضوع لاختلاف الفقهاء أبو جعفر الطحاوي (1)، والحجة في صحة هذا المذهب الطريقة التي تقدمت الإشارة إليها دون موافقة ابن حي فإن موافقته (2) كمخالفته في أنها ليست بحجة وإنما ذكرنا وفاقه ليعلم أن الشيعة ما تفردت بهذا المذهب كما ظنوا، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة فيما أفردناه من الكلام على مسائل الخلاف (3)، ورددنا على كل مخالف لنا في هذه المسألة لنا بما يعم ويخص من أبي


(1) البحر الزخار: ج 2 / 33.
(2) في ” ألف “: موافقة ابن حي.
(3) هذا الكتاب من المفقودات.

[ 85 ]

حنيفة ومالك والشافعي (1) بما فيه كفاية وسلكنا معهم أيضا طريق القياس الذي هو صحيح على أصولهم، وبينا أن القياس إذا صح كان شاهدا لنا في هذه المسألة، وذكرنا ما يروونه وهو موجود في كتبهم وأحاديثهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا (2). فإن قيل: إن ابن حي يحدد الكر – على ما حكاه الطحاوي عنه – بما بلغ ثلاثة آلاف رطل (3) وأنتم تحددونه بألف ومائتي رطل بالمدني، قلنا ما ادعينا أن مذهب ابن حي يوافقنا من كل وجه وأنتم لم تعيبوا على الشيعة بتحديد الكر بالأرطال وإنما عبتم اعتبار الكر فيما لا ينجس. وبعد فإن تحديدنا الكر (4) بالأرطال التي ذكرناها أولى من تحديد ابن حي لأنا عولنا في ذلك على آثار (5) معروفة مروية وإجماع فرقة قد دل الدليل على أن فيهم الحجة، وابن حي لا يدري كيف حدد بثلاثة آلاف رطل ولا على ماذا اعتمد فيه على أن ابن حي يجب أن يكون عند أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي أحق بالعيب من الشيعة، لأن تحديد الشيعة أقرب إلى تحديد الشافعي من تحديد ابن حي لأن ما بين القلتين (6) – وهما حد الشافعي – وبين ألف رطل ومائتي رطل أقرب


(1) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 23 و 26، الشرح الكبير: ج 1 / 35 و 48، بداية المجتهد: ج 1 / 24 المحلى: ج 1 / 143 و 150، بدائع الصنائع: ج 1 / 71، البحر الزخار: ج 2 / 32 – 33 البحر الرائق: ج 1 / 75، أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 341، أحكام القرآن (للقرطبي): ج 13 / 42.
(2) أحكام القرآن للجصاص: ج 3 ص 340.
(3) البحر الزخار: ج 2 / 33، أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 341.
(4) ساقط من ” ألف ” و ” م “.
(5) الكافي: ج 3 ص 3 ح 6 تهذيب الأحكام: ج 1 ص 41 ح 52 الاستبصار: ج 1 ص 10 ح 4.
(6) تفسير القلة.

[ 86 ]

مما بين القلتين وثلاثة آلاف رطل، وإذا كان مذهب أبي حنيفة أن النجاسة تنجس القليل والكثير من الماء، فقول الشيعة على كل حال أقرب من قول ابن حي. (مسألة) [ 2 ] [ حكم سؤر الكلب ] ومما انفردت به الإمامية إيجابهم غسل الاناء من سؤر (1) الكلب ثلاث مرات، إحداهن بالتراب. لأن أبا حنيفة (2) لا يعتبر حدا في ذلك ولا عددا ويجريه مجرى إزالة سائر النجاسات. والشافعي يوجب سبع غسلات إحداهن بالتراب (3). ومالك لا يوجب غسل الاناء من سؤر الكلب ويقول إنه مستحب فإن فعله فليكن سبعا وهو مذهب داود (4). وذهب الحسن بن حي وابن حنبل إلى أنه يغسل سبع مرات والثامنة


(1) في ” ألف “: ولغ.
(2) المغني لابن قدامة: ج 1 / 45 المحلى: ج 1 / 113 بداية المجتهد: ج 1 / 31، نيل الأوطار: ج 1 / 42، بدائع الصنائع: ج 1 / 87، البحر الرائق: ج 1 / 129، المجموع ج 2 / 580 الهداية: ج 1 / 37.
(3) المغني لابن قدامة ج 1 / 45، المحلي: ج 1 / 112، مختصر المزني: ص 8 التنبيه: ص 23 بدائع الصنائع: ج 1 / 87 البحر الزخار: ج 2 / 20 – 21، البحر الرائق ج 1 / 128 مغني المحتاج: ج 1 / 83، الأم: ج 1 / 6، المجموع ج 2 / 580 الهداية ج 1 / 23، الوجيز: ج 1 / 9.
(4) المحلي: ج 1 / 112 و 113، الميزان (للشعراني): ج 1 / 105، البحر الرائق: ج 1 / 128 أحكام القرآن (للقرطبي): ج 13 / 45 المجموع: ج 2 / 580، المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 48.

[ 87 ]

بالتراب (1). وقد تكلمنا على هذه المسألة في مسائل الخلاف بما استوفيناه. وحجتنا فيما انفردنا به من إيجاب الثلاث: الإجماع من الطائفة المتقدم ذكره. ومما يجوز أن يحتج به على المخالف ما رووه وهو موجود في كتبهم ورواياتهم عن عبيد بن عمير عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات (2). وأيضا ما رواه أبو هريرة في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا (3)، وظاهر هذا الخبر يقتضي وجوب الثلاث، لأنه العدد الذي لم يجز (صلوات الله عليه وآله) الاقتصار على أقل منه. فأما قوله: أو خمسا أو سبعا فلا يخلو أن يكون المستفاد بدخول لفظة (أو) فيه للتخيير بين هذه الأعداد ويكون الكل واجبا على جهة التخيير أو يكون فيما زاد على الثلاث للتخيير من غير وجوب، ويكون الزيادة على الثلاث ندبا واستحبابا. والقسم الأول باطل لأن أحدا من الأمة لم يذهب إلى أن كل عدد من هذه الأعداد واجب كوجوب الآخر، والقائلون بسبع غسلات وإن أوجبوها


(1) المغني لابن قدامة: ج 1 / 45، الانصاف: ج 1 / 310، المجموع: ج 2 / 580 وهذه إحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى عنه أنه يذهب إلى ما ذهب إليه الشافي – فيما نقله المصنف عنه – راجع الانصاف ج 1 / 310 والعدة 25 وكشاف القناع: ج 1 / 182 والمجموع ج 2 / 580 والمحرر في الفقه ج 1 / 4.
(2) سنن الدارقطني: ج 1 / 66 ح 17 سنن البيهقي ج 1 / 242 وفيهما عن عبيد بن عمير عن أبي هريره.
(3) سنن الدارقطني: ج 1 / 65 ح 13 و 14، سنن البيهقي: ج 1 / 240.

[ 88 ]

فإنهم لا يجعلون الثلاث والخمس واجبات، ويجعلونه مخيرا (1) بينهن وبين السبع بل يوجبون السبع دون ما عداها فلم يبق إلا القسم الثاني وهو مذهبنا، فإذا قيل: كيف يقع التخيير بين واجب وندب؟ قلنا: لم نخير بين واجب وندب لأن الثلاث تدخل في الخمس وفي السبع، وإنما وقع التخيير بين الاقتصار على الواجب وهو الثلاث، وبين فعله وزيادة (2) عليه. (مسألة) [ 3 ] [ حكم سؤر الكافر ] ومما انفردت به الإمامية: القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكل كافر وخالف جميع الفقهاء في ذلك (3). وحكى الطحاوي عن مالك في سؤر النصراني والمشرك أنه لا يتوضأ به (4) ووجدت المحصلين من أصحاب مالك يقولون: إن ذلك على سبيل الكراهية لا التحريم (5) لأجل استحلالهم الخمر والخنزير وليس بمقطوع على نجاسته فكأن الإمامية منفردة بهذا المذهب.


(1) في ” ألف ” ولا يجعلونه متخيرا.
(2) في ” ألف ” و ” ب ” والزيادة.
(3) بدائع الصنائع ج 1 / 63 – 64، البحر الرائق: ج 1 / 126، الأم: ج 1 / 8، المبسوط (للسرخسي: ج 1 / 47، الانصاف: ج 1 / 345 النتف في الفتاوي: ج 1 / 12، تحفة الفقهاء: ج 1 / 53 المحلي ج 1 / 132.
(4) البحر الزخار: ج 2 / 12 المدونة الكبرى: ج 1 / 14.
(5) أحكام القرآن (للقرطبي): ج 13 / 44، الكافي: 16 التفريع ج 1 / 214.

[ 89 ]

ويدل على صحة ذلك مضافا إلى إجماع الشيعة عليه قوله جل ثناؤه: (إنما المشركون نجس) (1). فإذا قيل: لعل المراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين. قلنا: نحمله على الأمرين لأنه لا مانع من ذلك. وبعد فإن حقيقة هذه اللفظة تقتضي نجاسة العين في الشريعة وإنما تحمل على الحكم تشبيها ومجازا والحقيقة أولى باللفظ من المجاز. فإن قيل: فقد قال الله جل ثناؤه: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) (2) وهو عموم في جميع ما شربوا وعالجوه بأيديهم (3). قلنا: يجب تخصيص هذا الظاهر بالدلالة على نجاستهم، ونحمل هذه الآية على أن المراد بها طعامهم الذي هو الحبوب وما يملكونه دون ما هو سؤر أو ما عالجوه بأجسامهم على أن في طعام أهل الكتاب ما يغلب على الظن أن فيه خمرا أو لحم خنزير فلا بد من إخراجه مع هذا الظاهر، وإذا أخرجناه من هذا الظاهر لأجل النجاسة وكان سؤرهم على ما بيناه نجسا أخرجناه أيضا من الظاهر. (مسألة) [ 4 ] [ في ماء البئر ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن ماء البئر ينجس بما يقع فيها من


(1) التوبة: 28.
(2) المائدة: 5.
(3) في ” ألف “: بأبدانهم.

[ 90 ]

النجاسة وإن كان كرا وهو الحد الذي حدوا به الماء الذي لا يقبل النجاسة، ويطهر عندنا ماؤها بنزح بعضه. وهذا ليس بقول لأحد من الفقهاء لأن من لم يراع في الماء حدا إذا بلغ إليه لم ينجس بما يحله من النجاسات وهو أبو حنيفة لا يفصل في هذا الحكم بين البئر وغيرها كما فصلت الإمامية، ومن راعى حدا في الماء إذا بلغه لم يقبل النجاسة وهو الشافعي في اعتباره القلتين لم يفصل بين البئر وغيرها، والإمامية فصلت فانفردت بذلك (1) عن الجماعة. وعذر الإمامية فيما ذهبت إليه في البئر والفصل بينها وبين مياه الغدران والآنية هو ما تقدم من الحجة. ويعضد ذلك أنه لا خلاف بين الصحابة والتابعين في أن إخراج بعض ماء البئر يطهرها وإنما اختلفوا في مقدار ما ينزح، وهذا يدل على حكمهم بنجاستها على كل حال من غير اعتبار لمقدار (2) مائها وإن حكمها في أن إخراج بعض مائها يطهرها بخلاف حكم الأواني والغدران، ويمكن أن يكون الوجه في مخالفة حكم البئر فيما ذكرناه لأحكام الأواني والغدران أن نزح جميع ماء البئر يشق من وجهين: أحدهما: لبعده عن الأيدي، والآخر لأن ماءها يتجدد في كل حال مع النزح فيشق إخراج الجميع، والأواني لا يشق إراقة جميع مائها. وكذلك الغدران إذا كان ماؤها أقل من كر ألا ترى أن غسل الأواني لما تيسر بعد إخراج النجاسة وجب، ولما تعذر ذلك في البئر أسقط فلما خفف حكم البئر من الوجه الذي ذكرناه عن الأواني والغدران غلظ من وجه آخر وأسقط فيها (3) اعتبار مبلغ الماء في قلة أو كثرة لئلا


(1) في باقي النسخ: لذلك.
(2) في ” ألف “: مقدار.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: منها.

[ 91 ]

يجتمع تخفيفان ولمشقة اعتبار ذلك فيها لبعدها. (مسألة) [ 5 ] [ جلد الميتة إذا دبغ ] ومما ظن أن الإمامية منفردة به وشنع به عليها: القول بأن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ وهو مذهب أحمد بن حنبل (1)، فالشيعة غير منفردة به. والدليل على صحة ما ذهبت إليه من ذلك: مضافا إلى الطريقة المشار في كل المسائل إليها، قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) (2) وهذا تحريم مطلق يتناول أجزاء الميتة في كل حال، وجلد الميتة يتناوله اسم الموت لأن الحياة تحله وليس بجار مجرى العظم والشعر وهو بعد الدباغ يسمى جلد ميتة كما كان يسمى قبل الدباغ، فينبغي أن يكون حظر التصرف فيه لاحقا به. ويمكن أن يحتج على المخالفين بما هو موجود في كتبهم ورواياتهم من حديث عبد الله بن حكيم (3) أنه قال: أتانا كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل موته بشهر (4): ألا تنتفعوا من الميتة بأهاب ولا عصب (5). ولا يعارض هذا الخبر ما يروونه عنه (عليه السلام) من قوله أيما أهاب دبغ


(1) الانصاف: ج 1 / 86 البحر الزخار: ج 2 / 23 المحلى: ج 1 / 121 المغني لابن قدامة ج 1 / باب الآنية الحاوي للفتاوي ج 1 / 12 الفتاوي الكبرى ج 1 / 44 المحرر في الفقه: ج 1 / 6 العدة: 28.
(2) المائدة: 3.
(3) في المصدر: ” عكيم “.
(4) في ” ألف “: بشهرين.
(5) سنن البيهقي ج 1 / 14 – 15. يوجد في أبي داود والترمذي والنسائي.

[ 92 ]

فقد طهر (1)، لأن خبرهم عام اللفظ والخبر الذي احتججنا به خاص، فنبني العام على الخاص لكي نستعمل الخبرين ولا نطرح أحدهما. فإن قالوا: نحمل خبركم على تحريم الانتفاع بأهاب الميتة وعصبها قبل الدباغ. قلنا: هو تخصيص وترك للظاهر على كل حال على أنه لا معنى له لأن العصب يحرم الانتفاع به على كل حال قبل الدباغ وبعده وليس بجار مجرى الجلد. فإن عارضوا بما يروونه عنه (عليه السلام) من قوله وقد سئل عن جلود الميتة: دباغها طهورها (2). قلنا: إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها ورجعنا إلى ظاهر نص الكتاب على أنه يمكن حمله على أن المراد به ما حله الموت من المذكى وسمي ذلك ميتة على ضرب من التجوز، فليس ذلك بأبعد من قولهم في خبرنا: إن المراد به لا تنتفعوا بأهاب ولا عصب قبل الدباغ. فإن قيل: كيف تحملونه على ذلك وجلد المذكى طاهر قبل الدباغ؟ قلنا: عندنا أن جلود ما لا يؤكل لحمه من البهائم إذا ذكيت فلا يطهر جلودها إلا بالدباغ بخلاف جلد ما يؤكل لحمه فيكون المراد جلود ما مات بالذكاة مما لا يؤكل لحمه دباغها طهورها، وإن حملناه على جميع جلود المذكى مما يؤكل لحمه ومما لا يؤكل جاز لأن جلود ما أكل لحمه إذا ذكي وكان عليه نجاسة الدم فإذا دبغ زال ذلك عنه.


(1) سنن الدارقطني: ج 1 / 48 ح 24 سنن البيهقي: ج 1 / 16 كنز العمال ج 9 / 418 ح 26766.
(2) صحيح مسلم: ج 1 / 278 ح 106 و 107 سنن الدارقطني: ج 1 / 44 و 46 ح 10 و 14 سنن البيهقي: ج 1 / 17، كنز العمال: ج 9 / 418 ح 26761.

[ 93 ]

وقول بعضهم (1): أن الجلد لا يسمى أهابا بعد الدباغ وإنما يسمى بذلك قبل دبغه لا يلتفت إليه لأنه خارج عن اللغة والعرف. (مسألة) [ 6 ] [ الدم المعفو عنه في الصلاة ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن الدم الذي ليس بدم حيض تجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث، وما زاد على ذلك لا تجوز الصلاة فيه وفرقوا بين هذا (2) الدم في هذا الحكم وبين سائر النجاسات من بول وعذرة ومني، وحرموا الصلاة في قليل ذلك وكثيره. وكأن التفرقة بين الدم وبين سائر النجاسات في هذا الحكم هو الذي تفردوا به. فإن أبا حنيفة يعتبر مقدار الدرهم في جميع النجاسات (3) ولا يفرق بين بعضها وبين بعض، والشافعي لا يعتبر الدرهم في جميع النجاسات (4)، فاعتباره في بعضها هو التفرد. ويمكن القول بأن الشيعة غير منفردة بهذه التفرقة، لأن زفر كان يراعي في


(1) البحر الرائق: ج 1 / 100، الحاوي للفتاوى: ج 1 / 16.
(2) هذه الكلمة ساقطة من ” ألف “.
(3) بداية المجتهد ج 1 / 83، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 724، المحلى: ج 1 / 168، بدائع الصنائع: ج 1 / 79، الأصل: ج 1 / 35 – 37، البحر الرائق: ج 1 / 228، المبسوط: ج 1 / 60، اللباب: ج 1 / 51 – 52 الهداية: ج 1 / 35، النتف: ج 1 / 36، شرح فتح القدير: ج 1 / 177، كنز الدقائق: 15 – 16.
(4) المحلى: ج 1 / 169، بداية المجتهد: ج 1 / 83، بدائع الصنائع: ج 1 / 79، الهداية ج 1 / 35 المجموع: ج 3 / 133، المبسوط: ج 1 / 60، شرح فتح القدير: ج 1 / 177.

[ 94 ]

الدم أن يكون أكثر من درهم ولا يراعي مثل ذلك في البول بل يحكم بفساد الصلاة بقليله وكثيره (1)، وهذا نظير قول الإمامية. وروي عن الحسن بن صالح بن حي أنه كان يقول في الدم: إذا كان على الثوب منه مقدار الدرهم يعيد الصلاة، وإن كان أقل من ذلك لم يعد (2) وكان يوجب الإعادة في البول والغائط قليلهما وكثيرهما وهذا مضاه لقول الإمامية. وقد مضى في صدر هذا الكتاب (3) أن التفرد بما عليه حجة واضحة غير موحش وإجماع هذه الفرقة هو دليلها على صحة قولها. وقد استوفينا الكلام على صحة (4) هذه المسألة في كتابنا المفرد لمسائل الخلاف واحتججنا على المخالفين لنا في هذه المسألة بضروب من الاحتجاجات منها: قوله جل ثناؤه: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (5)، فجعل تعالى ذكره تطهير الأعضاء الأربعة مبيحا للصلاة فلو تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدل عليها الظاهر لأنه بخلافها ولا يلزم على هذا ما زاد على الدرهم وما عدا الدم من سائر النجاسات لأن الظاهر وإن لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم. وذكرنا أيضا ما يرويه المخالفون ويمضي في كتبهم عن أبي هريرة عن النبي


(1) حكي عنه في عدة كتب مثل قول الشافعي، راجع الهداية: ج 1 ص 35 وفتح القدير: ج 1 ص 177.
(2) الظاهر أنه نقله عنه الطحاوي في كتابه اختلاف الفقهاء، وإلا فالمنقول عنه في الكتب الفقهية تفصيل آخر.
(3) في ص 1 س قبل الأخير.
(4) ساقط من ” م “.
(5) المائدة 6.

[ 95 ]

(صلى الله عيه وآله) أنه قال: إذا كان الدم في الثوب أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة (1) وهذا تعليق للحكم بشرط متى لم يكن موقوفا عليه لم يؤثر. وبينا هناك أنه يمكن أن يكون الفرق بين دم الحيض وسائر الدماء أن حكم دم الحيض أغلظ بأنه (2) يوجب الغسل فلهذا خولف بينه وبين غيره. وقلنا أيضا: أنه يمكن أن يكون الفرق بين دم الحيض والنفاس إذا جمعنا بين دم الحيض والنفاس في هذه القضية أن البلوى بسائر الدماء أعم من البلوى بدم الحيض والنفاس، لأن سائر الدماء يخرج من جسم الصغير والكبير والذكر والأنثى والحيض والنفاس يختصان ببعض من ذكرنا. وأيضا فإن دم النفاس والحيض يختصان في الأكثر بأوقات معينة فيمكن التحرز منها (3) وباقي الدماء بخلاف ذلك. وإنما فرقنا بين الدم والبول والمني وسائر النجاسات في اعتبار الدرهم للاجماع المتقدم. ويمكن أن يكون الوجه فيه أن الدم لا يوجب خروجه من الجسد وضوء على اختلاف مواضعه والبول والعذرة والمني يوجب خروج كل واحد منها الوضوء، وفيها ما يوجب الغسل وهو المني فغلظت أحكامها من هذا الوجه على حكم الدم، ومن أراد الاستقصاء يرجع إلى حيث ما ذكرنا. (مسألة) [ 7 ] [ حكم المني ] ومما تفردت به الإمامية القول بأن المني نجس لا يجزئ فيه إلا الغسل، لأن


(1) سنن البيهقي ج 2 / 404.
(2) في ” ألف و ” ب “: لأنه.
(3) في ” ألف “: منهما.

[ 96 ]

أبا حنيفة وإن وافقه في نجاسته فعنده أنه يجزئ فرك يابسه (1)، والشافعي يذهب إلى طهارته (2). فأما ما حكي عن مالك من أنه يذهب إلى نجاسته ويوجب غسله (3) فليس ذلك بموافقة للشيعة الإمامية على الحقيقة، لأن مالكا لا يوجب غسل جميع النجاسات وإنما يستحب ذلك (4)، والإمامية توجب غسل المني فهي منفردة بذلك. وقد استوفينا أيضا الكلام على هذه المسألة في مسائل الخلاف ورددنا على كل مخالف لنا فيها بما فيه كفاية، ودللنا على نجاسة المني بقوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان) (5). وروي في التفسير أنه جل ثناؤه أراد بذلك أثر الاحتلام (6). والآية دالة من وجهين على نجاسة المني: أحدهما يوجب أن الرجز والرجس والنجس بمعنى واحد، بدلالة قوله جل ثناؤه:


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 84، المحلى ج 1 / 126، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 736، بدائع الصنائع: ج 1 / 84، الأصل: ج 1 / 61، البحر الرائق: ج 1 / 224، مجمع الأنهر: ج 1 / 59، الأشباه والنظائر: 166، الفتاوى الهندية: ج 1 / 44 كنز الدقائق: 15، اللباب: ج 1 / 51، الهداية: ج 1 / 34.
(2) بدائع الصنائع: ج 1 / 60، بداية المجتهد: ج 1 ص 84، المغني (لابن قدامة): ج 1 ص 736، المحلى: ج 1 ص 126.
(3) البحر الزخار: ج 2 ص 21، بداية المجتهد: ج 1 ص 84، البحر الرائق: ج 1 ص 224، المحلى: ج 1 ص 126 (4) التفريع: ج 1 / 198، المنتقى: ج 1 / 41، وحكي عنه أنه يوجب الغسل فيما نجاسته متيقنة والنضح فيما نجاسته مشكوكة، راجع الهداية: ج 2 ص 216 وبداية المجتهد: ج 1 / 87 وحكي عنه وجوب الغسل مطلقا كما في الكافي: 18، والمنتقى: ج 1 / 41.
(5) الأنفال: الآية 11.
(6) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 46.

[ 97 ]

(والرجز فاهجر) (1)، وأراد عبادة الأوثان. وفي موضع آخر: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) (2). والوجه الثاني: أنه تعالى أطلق عليه اسم التطهير والتطهير، لا يطلق في الشرع إلا لإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة. واحتججنا عليهم أيضا بما يروونه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إنما يغسل الثوب من الدم والبول والمني (3)، وهذا يقتضي وجوب غسله وما يجب غسله لا يكون إلا نجسا، والحجة الكبرى في نجاسته ووجوب غسله إجماع الإمامية على ذلك. (مسألة) [ 7 ] [ الاستنجاء من البول ] ومما انفردت به الإمامية: أن البول خاصة لا يجزي فيه الاستجمار بالحجر ولا بد من غسله بالماء مع وجوده، ولا يجري عندهم مجرى الغائط في جواز الاقتصار على الحجر. وليس هذا بمذهب لأحد من الفقهاء، لأن من يوجب الاستنجاء منهم (4) لا يفرق بين البول والغائط في جواز الاقتصار فيه على الحجر، ومن يسقط


(1) المدثر: 5.
(2) الحج: 30.
(3) سنن الدارقطني: ج 1 / 127 ح 1، سنن البيهقي: ج 1 / 14.
(4) بدائع الصنائع: ج 1 / 18، البحر الزخار: ج 2 / 48، 1 لام: ج 1 / 22، شرح فتح القدير: ج 1 / 187، مجمع الأنهر: ج 1 / 65، البحر الرائق: ج 1 / 241.

[ 98 ]

وجوب الاستنجاء كأبي حنيفة (1) يسقطه في الأمرين. وينبغي أن تكون الإمامية بهذا التفرد إلى جانب المدح أقرب منها إلى جانب العيب، لأن قولها الذي انفردت به أشبه بالتنزه عن النجاسة وأولى في إزالتها والعيب إلى من لم يوجب الاستنجاء جملة، وجوز أن يصلي المصلي وعين النجاسة على بدنه متوجه أقرب. وحجة الشيعة على مذهبها هذا: هي ما تقدم ذكره من إجماعها عليه وتظاهر الآثار في رواياتهم (2) به. ويمكن أن يكون الوجه في الفرق بين نجاسة البول ونجاسة الغائط أن الغائط قد لا يتعدى المخرج إذا كان يابسا، ويتعداه إذا كان بخلاف هذه الصفة ولا خلاف في أن الغائط متى تعدى المخرج فلا بد من غسله بالماء، والبول لأنه مائع جار لا بد من تعديه المخرج وهو في وجوب تعديه له أبلغ من رقيق الغائط فوجب فيه ما وجب فيما يتعدى المخرج من مائع الغائط ولا خلاف في وجوب غسل ذلك.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 141، بدائع الصنائع: ج 1 / 18، البحر الزخار: ج 2 / 48، البحر الرائق: ج 1 / 240، مجمع الأنهر: ج 1 / 64 – 65، النتف في الفتاوى: ج 1 / 25، كنز الدقائق: 16، اللباب: ج 1 / 54، الهداية ج 1 / 37، الفتاوى الهندية: ج 1 / 50.
(2) الكافي: ج 3 17 ح 8 التهذيب: ج 1 / 355 و 356، ح 25، 27 و 28، الوسائل: انظر باب 31 من أبواب أحكام الخلوة ج 1 / 247.

[ 99 ]

(مسألة) [ 9 ] [ كيفية غسل اليدين ] ومما انفردت به الإمامية الابتداء في غسل اليدين في الوضوء من المرافق والانتهاء إلى أطراف الأصابع، وفي أصحابنا (1) من يظن وجوب ذلك حتى أنه لا يجزي خلافه، وقد ذكرت ذلك في كتاب مسائل الخلاف، وفي جواب مسائل أهل الموصل الفقهية (2) أن الأولى أن يكون ذلك مسنونا ومندوبا إليه وليس بفرض حتم، فقد انفردت الشيعة على كل حال بأنه مسنون على هذه الكيفية، وباقي الفقهاء يقولون: هو مخير بين الابتداء بالأصابع وبين الابتداء بالمرافق (3). والحجة على صحة ما ذهبنا إليه: مضافا إلى الإجماع الذي ذكرناه أن الحدث إذا تيقن فلا يزول إلا بأمر متيقن، وما هو مزيل له بيقين أولى وأحوط مما ليس هذه صفته، وقد علمنا أنه إذا غسل من المرافق إلى الأصابع كان مزيلا للحدث عن اليدين بالاجماع واليقين وليس كذلك إذا غسل من الأصابع فالذي قلناه أحوط. ومما يجوز أن يحتج به على المخالف ما رووه كلهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه توضأ مرة مرة، ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (4) فلا يخلو من أن يكون ابتداء من المرافق أو انتهى إليها، فإن كان مبتدئا بالمرافق فيجب


(1) كالمفيد في المقنعة ص 43 – 44.
(2) رسائل المرتضى: ج 1 ص 213. (3) بدائع الصنائع: ج 1 / 22 المجموع: ج 1 / 394 المحلى: ج 2 / 49 تحفة الفقهاء ج 1 / 13.
(4) سنن ابن ماجة: ج 1 / 145 ح 419 سنن الدارقطني: ج 1 / 80 و 81 ح 4 و 6 سنن البيهقي ج 1 / 80، معرفة السنن (للبيهقي): ج 1 / 231.

[ 100 ]

أن يكون خلاف ما فعله غير مقبول. ولفظة مقبول يستفاد بها (1) في عرف الشرع أمران: أحدهما: الإجزاء، كقولنا: لا تقبل (2) صلاة بغير طهارة. والأمر الآخر: الثواب عليها، كقولنا إن الصلاة المقصود بها الرياء غير مقبولة بمعنى سقوط الثواب وإن لم يجب إعادتها. وقول المعتزلة: إن صلاة صاحب الكبيرة غير مقبولة لأنه لا ثواب عندهم عليها وإن كانت مجزية لا يجب إعادتها. ويجب حمل لفظة نفي القبول على الأمرين غير أنه إذا قام الدليل على أن من غسل يديه وابتدأ بأصابعه وانتهى إلى المرافق يجزئ وضوؤه بقي المعنى الآخر وهو نفي الثواب والفضل وهو مرادنا. وقد بينا في مسائل الخلاف وفي جواب أهل الموصل (3) إبطال استدلالهم بقوله تعالى: (إلى المرافق) (4) وأنه جل ثناؤه جعلها غاية لا ابتداء وقلنا: إن لفظة (إلى) قد تكون بمعنى الغاية، وقد تكون بمعنى (مع) وهي في الأمرين (5) حقيقة. واستشهدنا بقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) (6) وقوله جل وعز: (من أنصاري إلى الله) (7) وبقول أهل اللسان العربي: ولي فلان الكوفة إلى البصرة، والمراد بلفظه (إلى) في هذا كله معنى (مع)، واستشهدنا على ذلك بكثير من أشعار العرب


(1) في ” ألف ” و ” ب “: منها.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: لا يقبل الله.
(3) رسائل المرتضى: ج 1 ص 213 – 214.
(4) المائدة: 6.
(5) في ” ألف ” و ” ب “: الأمرين معا.
(6) النساء: 2.
(7) آل عمران: 52.

[ 101 ]

وأجبنا عن سؤال من يسأل فيقول: إذ احتملت لفظة (إلى) المعنيين معا فمن أين لكم أنها في الآية بمعنى (مع) دون ما ذكرناه من الغاية؟ بأن قلنا الآية استدلال المخالف علينا لا دليلنا عليه ويكفي في كسره أن نبين احتمال اللفظة للأمرين وأنها ليست بخالصة لأحدهما. وقلنا أيضا: لو كانت لفظة (إلى) في الآية تفيد الغاية لوجب الابتداء من الأصابع والانتهاء إلى المرافق ولم يجز خلافه، لأن أمره على الوجوب وقد أجمعوا على أن ذلك ليس بواجب، فثبت أن المراد باللفظة في الآية معنى ” مع “. مسألة [ 10 ] [ الترتيب بين اليدين ] ومما انفردت به الإمامية الآن وقد كان قولا للشافعي (1) قديما: القول بوجوب ترتيب اليد اليمنى في الطهارة على اليسرى لأن جميع الفقهاء في وقتنا هذا والشافعي في قوله الجديد لا يوجبون ذلك (2). والحجة على صحة هذا المذهب مضافا إلى الإجماع المتردد أنا قد دللنا على أن الابتداء في غسل اليدين بالمرافق هو الواجب أو المسنون الذي خلافه مكروه، وكل من قال من الأمة إن الابتداء بالأصابع والانتهاء إلى المرافق مكروه أو هو خلاف الواجب ذهب إلى وجوب ترتيب اليمنى على اليسرى في الطهارة، والفرق بين المسألتين خروج عن الإجماع.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 125 الشرح الكبير: ج 1 / 119 الهداية: ج 1 / 13.
(2) حلية العلماء: ج 1 / 127 مختصر المزني: 3 شرح الأزهار ج 1 / 90 بدائع الصنائع: ج 1 / 22 البحر الزخار: ج 2 / 59 البحر الرائق: ج 1 / 28 المجموع ج 1 / 382 الأم: ج 1 / 30 شرح فتح القدير: ج 1 / 31 الفتاوى الهندية: ج 1 / 8 تفسير الفخر الرازي ج 11 / 159.

[ 102 ]

ويمكن أيضا أن يحتج في ذلك عليهم بما يروونه من قوله (عليه السلام) وقد توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. فلا يخلو أن يكون قدم اليمنى أو أخرها، فإن كان قدمها وجب نفي إجزاء تأخيرها وإن كان أخرها وجب نفي إجزاء تقديمها، وليس هذا بقول لأحد من الأمة. وليس لهم أن يقولوا الإشارة في قوله (صلى الله عليه وآله) وقد توضأ مرة مرة – هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به إلى أفعال الوضوء دون صفاته وكيفياته وذلك أن الإشارة إذا أطلقت دخل تحتها الأفعال وكيفياتها لأن كيفياتها وصفاتها كالجزء منها، لأنه (عليه السلام) لو غسل وجهه على ضرب من التحديد، ثم قال: لا يقبل الله الصلاة إلا به لدل ذلك على وجوب الفعل وصفته. ولولا أن الأمر على ما قلناه لم يفرق النبي (صلى الله عليه وآله) بين وضوئه الأول والثاني والثالث. وقال في الثالث الذي اقتصر فيه على مرة واحدة: لا يقبل الله الصلاة إلا به، فلولا أن الإشارة إلى الصفات والكيفيات لكان الكل واحدا في أن الصلاة لا تقبل إلا به إن كانت الإشارة إلى الأفعال دون الكيفيات. على أن الشافعي (1) لا يتمكن من الطعن بذلك لأنه يستدل بهذا الخبر على وجوب ترتيب الطهارة في الأعضاء الأربعة ويراعي الكيفيات لأن الترتيب كيفية وصفة، فإن طعن علينا بهذا فهو طاعن على نفسه.


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 17، الأم: ج 1 / 30، مغني المحتاج: ج 1 / 54، المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 55، المجموع: ج 1 / 441، أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 360، المحلي: ج 2 / 66، تفسير الفخر الرازي ج 11 / 153، البحر الزخار: ج 2 / 58، بدائع الصنائع: ج 1 / 22، مختصر الزني: 3.

[ 103 ]

(مسألة) [ 11 ] [ حد مسح الرأس ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن الفرض مسح مقدم الرأس دون سائر أبعاضه من غير استقبال للشعر، والفقهاء كلهم يخالفون في هذه الكيفية ولا يوجبونها (1). ولا شبهة في أن الفرض عند الإمامية متعلق بمقدم الرأس (2) ولا يجزئ مع صحة هذا العضو سواه. فأما ترك استقبال الشعر فهو عند أكثرهم أيضا واجب ولا يجزئ سواه وفيهم من يرى أنه مسنون مرغب فيه، وعلى كل حال فالانفراد من الإمامية ثابت. والذي يدل على صحة مذهبهم في هذه المسألة: مضافا إلى طريقة الإجماع أنه لا خلاف في أن من مسح مقدم رأسه من غير استقبال للشعر مزيل للحدث، مطهر للعضو، وفي العدول عن ذلك خلاف، فالواجب فعل ما يتيقن به زوال الحدث وبراءة الذمة فهو الأحوط. (مسألة) [ 12 ] [ استئناف ماء جديد لمسح الرأس ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن مسح الرأس إنما يجب ببلة اليد، فإن


(1) بدائع الصنائع: ج 1 / 4، البحر الزخار: ج 2 / 63 – 64، البحر الرائق: ج 1 / 14 مجمع الأنهر: ج 1 / 11 تحفة الفقهاء: ج 1 / 9 – 10، الانصاف: ج 1 / 161 كشاف القناع: ج 1 / 98 المحرر: ج 1 / 12 شرح فتح القدير: ج 1 / 15 – 16 الفتاوى الهندية: ج 1 / 5 حلية العلماء: ج 1 / 122 – 123، الهداية ج 1 / 12 الكافي 22.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: بمقدم الرأس دون سائر أبعاضه.

[ 104 ]

استأنف ماء جديدا لم يجزئه، وحتى أنهم يقولون: إذا لم يبق في يده بلة أعاد الوضوء ولا يجب أن يقدر أن من وافق الشيعة في جواز التوضؤ بالماء المستعمل كمالك وأهل الظاهر (1) موافق لهم في هذه المسألة لأن من ذهب إلى أن الماء المستعمل مطهر يزول الحدث به إنما يجيز مسح الرأس ببلة اليد ولا يوجبه وهو مخير للمتوضئ بين أن يفعل ذلك وبين تجديد الماء والشيعة توجبه ولا تخيير فيه فالانفراد حاصل. والذي يدل على صحة هذا المذهب: مضافا إلى طريقة الإجماع أن ظاهر الأمر بحكم عرف الشرع يقتضي الوجوب والفور إلا أن يقوم دليل (2) ومن طهر يديه هو مأمور على الفور بتطهير رأسه فإذا جدد تناول الماء فقد ترك زمانا كان يمكن أن يطهر العضو فيه والفور يوجب عليه خلاف ذلك، فبظاهر الآية (3) على ما ترى يجب أن يمسح ببلة يده رأسه. ولا يلزم ذلك في اليدين مع الوجه، لأن المفروض في اليدين الغسل ولا يمكن ذلك ببلة اليد من تطهير الوجه، والفرض في الرأس هو المسح وذلك يتأتى ببلة تطهير اليدين، ولو لم يكن هذا الفرق ثابتا جاز أن نخرج اليدين بدليل ليس بثابت في الرأس.


(1) الميزان (للشعراني): ج 1 / 100، حلية العلماء: ج 1 / 82، بدائع الصنائع: ج 1 / 66 – 67، البحر الرائق: ج 1 / 96 – 97، أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 345، أحكام القرآن (للقرطبي): ج 13 / 48، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 18 الشرح الكبير: ج 1 / 14، بداية المجتهد: ج 1 / 28.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: دليل شرعي.
(3) المائدة: 6.

[ 105 ]

(مسألة) [ 13 ] [ مسح الأذنين في الوضوء ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن مسح الأذنين أو غسلهما غير واجب ولا مسنون وأنه بدعة، وباقي الفقهاء على خلاف ذلك (1)، وهذه المسألة أيضا مما تكلمنا عليه في مسائل الخلاف واستوفيناه. وحجتنا فيها: هي الإجماع الذي تقدم، ويمكن أن يقال: من المعلوم أنه إذا ترك مسح أذنيه فليس بعاص ولا مبدع عند أحد من الأمة، ومتى مسحهما كان عند الشيعة مبدعا عاصيا، والأحوط هجر ما يخاف المعصية في فعله ولا يخاف التبعة في تركه. مسألة [ 14 ] [ تعين مسح الرجلين في الوضوء ] ومما انفردت به الإمامية: القول بوجوب مسح الرجلين على طريق التضييق ومن غير تخيير بين الغسل والمسح على ما ذهب إليه الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري وأبو علي الجبائي (2)، وكأن إيجاب المسح تضييقا من غير بدل يقوم


(1) بدائع الصنائع: ج 1 / 23 البحر الزخار: ج 2 / 65 البحر الرائق: ج 1 / 26 مجمع الأنهر ج 1 / 16، الانصاف: ج 1 / 162 المحرر: ج 1 / 12 شرح فتح القدير: ج 1 / 24 الفتاوى الهندية: ج 1 / 7، حلية العلماء: ج 1 / 125 الهداية ج 1 / 13 الكافي 23 بداية المجتهد ج 1 / 14.
(2) البحر الزخار: ج 2 / 67 تحفة الفقهاء ج 1 / 11 شرح الأزهار: ج 1 / 89، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 121، الشرح الكبير: ج 1 / 117 بداية المجتهد ج 1 / 15 بدائع الصنائع: ج 1 / 5 تفسير الفخر الرازي: ج 11 / 161 أحكام القرآن (لابن العربي): ج 2 / 577، المجموع: ج 1 / 417.

[ 106 ]

مقامه هو الذي انفردت به في هذه الأزمنة لأنه قد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس رضي الله عنه وعكرمة وأنس وأبي العالية والشعبي وغيرهم (1). وهذه المسألة مما استقصينا الكلام عليها في مسائل الخلاف وبلغنا فيها أقصى الغايات وانتهينا في تفريع الكلام وتشعيبه إلى ما لا يوجد في شئ من الكتب غير أنا لا نخلي هذا الموضع من جملة كافية. والذي يدل على صحة مذهبنا في إيجاب المسح دون غيره: مضافا إلى الإجماع الذي عولنا في كل المسائل عليه قوله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (2) فأمر بغسل الوجوه وجعل للأيدي حكمها في الغسل بواو العطف، ثم ابتدأ جملة أخرى فقال: (وامسحوا برؤوسكم) فأوجب بالتصريح للرؤوس المسح وجعل للأرجل مثل حكمها بالعطف، فلو جاز أن يخالف بين حكم الأرجل والرؤوس في المسح جاز أن يخالف بين حكم الوجوه والأيدي في الغسل لأن الحال واحدة. وقد أجبنا عن سؤال من يسألنا فيقول: ما أنكرتم أن الأرجل إنما انجرت بالمجاورة لا لعطفها في الحكم على الرؤوس بأجوبة: منها: أن الإعراب بالمجاورة شاذ نادر ورد في مواضع لا يلحق بها غيرها، ولا يقاس عليها سواها بغير خلاف بن أهل اللغة، ولا يجوز حمل كتاب الله تعالى


(1) البحر الزخار: ج 2 / 69 و 97، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 120 الشرح الكبير: ج 1 / 116 و 117، المحلى: ج 2 / 56 تفسير الفخر الرازي: ج 11 / 161 أحكام القرآن (لابن العربي): ج 2 ص 577، المبسوط: ج 1 / 8.
(2) المائدة: 6.

[ 107 ]

على الشذوذ الذي ليس بمعهود ولا مألوف. ومنها أن الإعراب بالمجاورة عند من أجازه إنما يكون مع فقد حرف العطف، وأي مجاورة تكون مع وجود الحائل (1)؟ ولو كان ما بينه وبين غيره حائل مجاورا لكانت المفارقة مفقودة، وكل موضع استشهد به على الإعراب بالمجاورة مثل قولهم: جحر ضب خرب، وكبير أناس في بجاد مزمل، لا حرف (2) فيه حائل بين ما تعدى إليه إعراب من غيره للمجاورة. ومنها: أن الإعراب بالمجاورة إنما استعمل في الموضع الذي ترتفع فيه الشبهة ويزول اللبس في الأحكام، ألا ترى أن أحدا لا يشتبه عليه أن لفظة خرب من صفات الجحر لا الضب، وأن إلحاقها في الإعراب بها لا يوهم خلاف المقصود وكذلك لفظة (مزمل) لا شبهة في أنها من صفات الكبير لا صفة البجاد، وليس كذلك الأرجل لأنه من الجائز أن تكون ممسوحة كالرؤوس فإذا أعربت بإعرابها للمجاورة ولها حكم الأيدي في الغسل كان غاية اللبس والاشتباه، ولم تجر بذلك عادة القوم. ومنها ولم نذكر هذا الوجه في مسائل الخلاف -: أن محصلي أهل النحو ومحققيهم (3) نفوا أن يكونوا أعربوا بالمجاورة في موضع من المواضع وتأولوا: الجر في جحر ضب خرب على أنهم أرادوا خرب جحره، وكبير أناس في بجاد مزمل كبيره، ويجري ذلك مجرى مررت برجل حسن وجهه. وقد بينا أيضا في مسائل الخلاف بطلان قول من ادعى أن الغسل الخفيف يسمى مسحا – وحكي ذلك عن أبي زيد الأنصاري – (4) من وجوه كثيرة


(1) في ” ألف “: الفاصل.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: لا حرف عطف.
(3) تفسير الرازي: ج 11 / 161.
(4) المجموع: ج 1 / 420.

[ 108 ]

أقواها أن فائدة اللفظتين في الشريعة مختلفة وفي اللغة أيضا، وقد فرق الله تعالى في آية الطهارة (1) بين الأعضاء المغسولة والممسوحة، وفصل أهل الشرع بين الأمرين فلو كانتا متداخلتين لما كان كذلك، وحقيقة الغسل توجب جريان الماء على العضو وحقيقة المسح تقتضي إمرار الماء من غير جريان، فالتنافي بين الحقيقتين ظاهر، لأنه من المحال أن يكون الماء جاريا وسائلا وغير سائل ولا جار في حال واحدة. وقد بينا في مواضع كثيرة من كلامنا أن المسح يقتضي إمرار قدر من الماء بغير زيادة عليه، فلا يدخل أبدا في الغسل. ومن قوي ما أبطل هذه الشبهة أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس وكانت الرؤوس بلا خلاف فرضها المسح الذي ليس بغسل على وجه من الوجوه فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، لأن العطف مقتض للمسح وكيفيته. وقد بينا أيضا في مسائل الخلاف أن القراءة في الأرجل بالنصب (2) لا تقدح في مذهبنا وأنها توجب بظاهرها المسح في الرجلين كإيجاب القراءة بالجر، لأن موضع برؤوسكم موضع نصب بإيقاع الفعل، وهو قوله جل ثناؤه: (وامسحوا برؤوسكم) وإنما جرت الرؤوس بالباء الزائدة فإذا نصبنا الأرجل فعلى الموضع لا على اللفظ. وأمثلة ذلك في الكلام العربي أكثر من أن تحصى يقولون: لست بقائم ولا قاعد وأنشدوا:


(1) المائدة: الآية 6 (2) ممن قرأ بالنصب: علي وعبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية ونافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص، وممن قرأ بالخفض عكرمة والحسن وحمزة وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، راجع أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 245، وتفسير الفخر الرازي: ج 11 / 161، وأحكام القرآن (لابن العربي): ج 2 / 577.

[ 109 ]

معاوي إننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1) فنصبت على الموضع، ونظيره إن زيدا في الدار وعمرو فيرفع عمرو على موضع إن وما عملت فيه لأن ذلك موضع رفع، ومثله مررت بزيد وعمرا وذهبت إلى خالد وبكرا. وقال الشاعر: جئني بمثل بني بدر لقومهم * أو مثل أخوة منظور بن سيار (2) ولما كان معنى جئني هات واعطني واحضرني مثلهم جاز العطف بالنصب على المعنى وهذا أبعد مما قلناه في الآية. وبينا أن نصب الأرجل عطفا على الموضع أولى من أن نعطفها على الأيدي والوجوه لأن جعل التأثير في الكلام القريب أولى من جعله للبعيد، ولأن الجملة الأولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت وبطل حكمها باستئناف الجملة الثانية، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى أن يعطف عليها، ويجري ذلك مجرى قولهم: ضربت زيدا وعمرا وأكرمت خالدا وبشرا، أن رد بشر في الاكرام إلى خالد هو وجه الكلام الذي لا يجوز غيره ولا يسوغ رده إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه. على أن ذلك لو جاز لترجح ما ذكرناه ليتطابق معنى القراءتين ولا يتنافيان. وتحديد طهارة الرجلين لا يدل على الغسل كما ظنه بعضهم، (3) وذلك أن المسح فعل أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده كتحديد الغسل ولو صرح تعالى فقال: وامسحوا أرجلكم وانتهوا بالمسح إلى الكعبين لم يك منكرا.


(1) لعقبة بن حارث الأسدي، راجع لسان العرب: ج 10 / 120، والجامع للشواهد: ج 3 / 33.
(2) لم نعثر عليه.
(3) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 346.

[ 110 ]

فإن قالوا: تحديد اليدين لما اقتضى الغسل، فكذلك وجب تحديد طهارة الرجلين يقتضي ذلك. قلنا: لم نوجب في اليدين الغسل للتحديد بل للتصريح بغسلهما وليس ذلك في الرجلين وقولهم: عطف المحدود على المحدود أولى وأشبه بترتيب الكلام: ليس بمعتمد لأن الأيدي معطوفة وهي محدودة على الوجوه وليست في الآية محدودة فألا جاز عطف الأرجل وهي محدودة على الرؤوس التي ليست بمحدودة. وهذا الذي ذهبنا إليه أشبه بالترتيب في الكلام، لأن الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسولا محدودا وهما اليدان ثم استأنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدود معطوفة عليه دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود، وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود. فإن عارضوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من الأخبار التي يقتضي ظاهرها غسل الرجلين كروايتهم عنه (صلى الله عليه وآله) أنه توضأ مرة مرة وغسل رجليه وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (1). وفي خبر آخر: أحسنوا الوضوء وأسبغوا الوضوء (2). وفي خبر آخر ويل للأعقاب من النار (3).


(1) تقدم في ص 99.
(2) سنن أبي داود: ج 1 / 24 ح 97 صحيح مسلم: ج 1 / 214 ح 26، كنز العمال: ج 9 / 306 و 308 ح 26132 و 26148.
(3) سنن الترمذي ج 1 / 58 ح 41، سنن الدارقطني: ج 1 / 95 ح 1 و 2، سنن أبي داود: ج 1 / 24 ح 97، صحيح مسلم ج 1 / 214 و 215 ح 26 – 28 و 30.

[ 111 ]

وفي خبر آخر: أنه أمر بالتخليل بين الأصابع (1). فالكلام على ذلك أن جميع ما رووه أخبار آحاد لا توجب علما وأحسن أحوالها أن توجب الظن ولا يجوز أن يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة (2) بما يقتضي الظن. وبعد فهذه الأخبار معارضة بأخبار مثلها تجري مجراها في ورودها من طريق المخالفين لنا وتوجد في كتبهم وفيما ينقلونه عن شيوخهم، ونترك ذكر ما ترويه الشيعة (3) وتنفرد به في هذا الباب فإنه أكثر عددا من الرمل والحصى. ومتى عارضناهم بأخبارنا قالوا: ما نعرفها ولا رواها شيوخنا، ولا وجدت في كتبنا فليت شعري كيف يلزمونا أن نترك بأخبارهم ظواهر القرآن ونحن لا نعرفها ولا رواها شيوخنا ولا وجدت في كتبنا، ولا يجيزون لنا أن نعارض أخبارهم التي لا نعرفها بأخبارنا التي لا يعرفونها فهل هذا إلا محض التحكم؟ فمن أخبارهم ما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه بال على سباطة (4) قوم [ قائما ] (5) ومسح على قدميه ونعليه (6). وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمسح على رجليه (7).


(1) سنن ابن ماجة: ج 1 / 153 ح 447 و 448 سنن الدارقطني: ج 1 / 95 ح 2 و 3 سنن الترمذي: ج 1 / 56 و 57 ح 38 و 39 كنز العمال: ج 9 / 305 ح 26129.
(2) في (م): المعلوم.
(3) الكافي 6 ج 3 / 29 انظر باب مسح الرأس التهذيب: ج 1 / 63 و 64 ح 21 – 28 الاستبصار: ج 1 / 64 انظر باب وجوب المسح على الرجلين الوسائل: ج 1 / 294 انظر باب 25 من أبواب الوضوء.
(4) السباطة: الكناسة: المصباح المنير ص 319 مادة (سبط).
(5) الزيادة من (ألف) و (دم) والمصدر.
(6) تفسير التبيان: ج 3 / 452.
(7) التهذيب: ج 1 / 63 ح 22 الوسائل: ج 1 / 295 باب 25 من أبواب الوضوء ح 6.

[ 112 ]

وقد روي عنه أنه قال: إن كتاب الله تعالى أتى بالمسح، ويأبى الناس إلا الغسل (1). وروي عنه أيضا أنه قال: غسلتان ومسحتان (2). وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ما نزل القرآن إلا بالمسح (3). والأخبار الواردة من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وهي معارضة لأخبار الغسل، ومسقطة لحكمها، وقد بينا في مسائل الخلاف الكلام على هذه الأخبار بيانا شافيا. وقلنا: إن قوله (عليه السلام): ويل للأعقاب من النار مجمل لا يدل على وجوب غسل الاعقاب في الطهارة الصغرى دون الكبرى، ويحتمل أنه وعيد على ترك غسل الاعقاب في الجنابة. وقد روى قوم أن أجلاف الأعراب (4) كانوا يبولون وهم قيام فيترشش البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة، فكان ذلك سببا لهذا الوعيد (5). وقلنا أيضا: إن الأمر بإسباغ الوضوء وإحسانه لا يدل على وجوب غسل ولا مسح في الرجلين، وإنما يدل على الفعل الواجب من غير تقصير عنه ولا إخلال به، وقد علمنا أن هذا القول منه (صلوات الله عليه) غير مقتض وجوب غسل الرأس بدلا من مسحه، بل يقتضي فعل الواجب من مسحه من غير تقصير


(1) التهذيب: ج 1 / 63 ح 23 الوسائل: ج 1 / 295 باب 25 من أبواب الوضوء ح 7.
(2) التهذيب: ج 1 / 63 ح 25، الوسائل: ج 1 / 295 باب 25 من أبواب الوضوء ح 9.
(3) التهذيب: ج 1 63 ح 24، الوسائل: ج 1 / 295 باب 25 من أبواب الوضوء ح 8.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: العرب.
(5) لم نعثر عليه.

[ 113 ]

فكذلك الرجلان. وقلنا: أن الأمر بتخليل الأصابع لا بيان فيه على أنه تخليل لأصابع الرجلين أو اليدين ونحن نوجب تخليل أصابع اليدين، والقول محتمل لذلك فلا دلالة فيه على موضع الخلاف. ومما لم نذكر هناك أنه لا بد لجميع مخالفينا من ترك ظاهر ما يروونه من قوله ” صلوات الله عليه وآله “: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، لأن من أداه اجتهاده ممن يقول بالتخيير بين المسح والغسل ممن حكينا قوله لا بد من أن يكون مقبول الصلاة عندهم إذا أداه اجتهاده إلى المسح ومسح فلا بد من أن يكون في الخبر شرط وهو الاجتهاد فكأنه أراد لا يقبل الله الصلاة ممن أداه اجتهاده إلى وجوب الغسل دون غيره إلا به، وهذا ترك منهم للظاهر. وكذلك لا بد من أن يشترطوا إذا وجد الماء وتمكن من استعماله ولم يخف على نفس ولا عضو، لأنه متى لم يكن كذلك قبل الله جل ثناؤه صلاته وإن لم يفعل مثل ذلك الوضوء، وإذا تركوا الظاهر جاز لخصومهم أن يتركوه أيضا. على أنه لا فرق بين أن يعذروا من أداه اجتهاده إلى المسح على جهة التخيير من الحسن البصري وابن جرير الطبري والجبائي، ولم ينزلوهم منزلة من لا تقبل صلاته، وبين أن يعذروا الشيعة في إيجاب المسح دون غيره إذا أداهم اجتهادهم إلى ذلك أيضا، فليس اجتهادهم في هذا الموضع بأضعف من اجتهاد أصحاب التخيير. فإن قيل: إذا قبلتم الخبر وتأولتموه فلا بد من أن تخرجوا له وجها يسلم على أصولكم التي هي الصحيحة عندكم وأنتم لا ترون الاجتهاد فتشرطوه في هذا الخبر. قلنا: إنما قلنا ذلك دفعا لكم عن ظاهر الخبر وإخراجه من أن يكون حجة لكم، ويمكن إذا تبرعنا بقبوله أن يكون له تأويل صحيح على أصولنا وهو أن


[ 114 ]

الفائدة في قوله ” عليه السلام ” لا يقبل الله الصلاة إلا به وجوب هذا الوضوء ويجري مجرى قولنا: لا يقبل الله صلاة إلا بطهور والفائدة إيجاب الطهور، وقد يجب في بعض المواضع الوضوء على هذه الصفة عندنا بحيث يخاف من مسح رجليه على نفسه ولا يجد بدا من غسلهما للتقية، ولا فرق بين أن لا يتمكن من فعل الوضوء على الوجه المفروض وبين فقد (1) الماء أو الخوف على النفس من استعماله إما من عدو أو برد شديد، وإذا فرضنا أن من هذه حاله يخاف أيضا من أن يتيمم كخوفه من مسح قدميه جازت له الصلاة بغسل رجليه من غير مسح لهما، وجرى مجرى من حبس في موضع لا يقدر فيه على ماء يتوضأ به ولا تراب يتيمم به. (مسألة) [ 15 ] [ استئناف ماء جديد للرجلين ] ومما انفردت به الإمامية: وجوب مسح الرجلين ببلة اليدين من غير إستئناف ماء جديد لهما. وباقي الفقهاء أجمع (2) يخالفون في ذلك (3).


(1) في ” ألف “: تعذر.
(2) ساقط من ” ألف ” و ” م “.
(3) قد سبق أن الفقهاء يوجبون غسل الرجلين في الوضوء ولم يجيزوا المسح وهذا يستلزم لا محالة استئناف ماء جديد، فيمكن بنا هذه المسألة على تلك، ويمكن أن تبنى هذه المسألة على مسألة طهارة الماء المستعمل ونجاسته، كما فعل الشيخ (رحمه الله) في الخلاف، فإنه قال: إن باقي الفقهاء يقولون باستئناف الماء لأجل قولهم بنجاسة الماء المستعمل.

[ 115 ]

والذي يدل على صحة هذا المذهب مع الإجماع المتقدم المتكرر أن كل من أوجب في تطهير الرجلين المسح دون غيره أوجبه ببلة اليد، والقول بأن المسح واجب وليست البلة شرطا قول خارج عن الإجماع. وأيضا ما سلكناه في مسح الرأس بالبلة من أن المتوضي مأمور إذا مسح رأسه بتطهير رجليه على الفور، فإذا تشاغل بأخذ ماء جديد فقد عدل عن الفور وأخر إمتثال الأمر. (مسألة) [ 16 ] [ حد مسح الرجلين ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن مسح الرجل (1) هو من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند معقد الشراك، ووافقهم محمد بن الحسن (2) صاحب أبي حنيفة في أن الكعب ما ذكرناه وإن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع. والدليل على صحة هذا المذهب: مضافا إلى الإجماع الذي تقدم ذكره أن كل من أوجب من الأمة في الرجلين المسح دون غيره يوجب المسح على الصفة التي ذكرناها، وأن الكعب هو الذي في ظهر القدم، فالقول بخلاف ذلك خارج عن الإجماع. وأيضا فإن دخول الباء في الرؤوس يقتضي التبعيض، لأن هذه الباء إذا


(1) في ” ألف ” و ” م “: الرجلين.
(2) البحر الزخار: ج 2 / 67 شرح الأزهار: ج 1 / 29 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 124 الشرح الكبير: ج 1 / 142 بدائع الصنائع: ج 1 / 7 البحر الرائق ج 1 / 13 مجمع الأنهر: ج 1 / 11 شرح فتح القدير: ج 1 / 15 أحكام القرآن (لابن العربي): ج 2 / 579.

[ 116 ]

دخلت ولم تكن لتعدية الفعل إلى المفعول فلا بد لها من فائدة وإلا كان إدخالها عبثا، والفعل متعد بنفسه فلا حاجة به إلى حرف متعد، فلا بد من وجه يخرج إدخالها من العبث وليس ذلك إلا إيجاب التبعيض، وإذا وجب تبعيض طهارة الرؤوس فكذلك في الأرجل بحكم العطف، وكل من أوجب تبعيض طهارة الرجل (1) ولم يوجب استيفاء جميع العضو ذهب إلى ما ذكرناه. وقد بينا في مسائل الخلاف الكلام على هذه المسألة واستوفيناه، وأجبنا من يسأل فيقول: كيف قال: (إلى الكعبين) وعلى مذهبكم ليس في كل رجل إلا كعب واحد؟ بأن قلنا: إنه تعالى أراد رجلي كل متطهر وفي الرجلين كعبان على مذهبنا، ولو بني الكلام على ظاهره لقال: وأرجلكم إلى الكعاب، والعدول بلفظ (أرجلكم) إلى أن المراد بها رجلا كل متطهر أولى من حملها على كل رجل. وتكلمنا على تأويل أخبار (2) تعلقوا بها في أن الكعب هو الذي في جانب القدم بما يستغني ها هنا عن ذكره. (مسألة) [ 17 ] [ تكرير الغسل والمسح ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن المسنون في تطهير العضوين المغسولين وهما الوجه واليدان مرتان ولا تكرر في الممسوحين الرأس والرجلين،


(1) في باقي النسخ الرجلين.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 347.

[ 117 ]

والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، (1) إلا أن أبا حنيفة (2) يوافقنا في أن مسح الرأس خاصة مرة واحدة. ودليلنا على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتقدم أنا قد دللنا على أن فرض الرجلين المسح دون غيره وكل من أوجب مسحهما على هذا الوجه يذهب إلى أنه لا تكرار فيهما، وكذلك في طهارة الرأس. ويذهب أيضا إلى أن المسنون في العضوين المغسولين المرتان بلا زيادة والتفرقة بين هذه المسائل خروج عن الإجماع. ولك أن تقول: قد ثبت أن المرتين في المغسولين مسنون والزيادة على ذلك حكم شرعي فلا بد فيه من دليل شرعي ولا دليل فيه فإن كل شئ تعتمدونه في ذلك المرجع فيه إلى أخبار (3) آحاد لا يعمل بها على ما دللنا عليه في مواضع كثيرة. (مسألة) [ 18 ] [ المباشرة في الوضوء ] ومما انفردت الإمامية به: القول بوجوب تولي المتطهر وضوءه بنفسه إذا


(1) البحر الزخار ج 2 / 64 البحر الرائق: ج 1 / 26 المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 7 حلية العلماء: ج 1 / 124 بدائع الصنائع ج 1 / 22 مغني المحتاج: ج 1 / 59 الأم: ج 1 / 26 مختصر المزني 2، بداية المجتهد ج 1 / 13 المجموع ج 1 / 432 مجمع الأنهر: ج 1 / 15.
(2) حلية العلماء: ج 1 / 124 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 114، الشرح الكبير: ج 1 / 140 بدائع الصنائع ج 1 / 4 البحر الزخار: ج 2 / 65 البحر الرائق: ج 1 / 26 المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 7، مجمع الأنهر: ج 1 / 10 المجموع ج 1 / 432.
(3) سنن النسائي: ج 1 / 69 سنن ابن ماجة: ج 1 / 144 سنن أبي داود ج 1 / 26.

[ 118 ]

كان متمكنا من ذلك فلا يجزيه سواه. والفقهاء كلهم يخالفون في ذلك. (1) والدليل على صحة هذا المذهب مضافا إلى الإجماع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (2) فأمرنا بأن نكون غاسلين وماسحين والظاهر يقتضي تولي الفعل حتى يستحق التسمية، لأن من وضأه غيره لا يسمى غاسلا وماسحا على الحقيقة. وأيضا فإن الحدث متيقن ولا يزول إلا بيقين، وإذا تولى تطهير أعضائه زال الحدث بيقين، وليس كذلك إذا تولاه له غيره. (مسألة) [ 19 ] [ ناقضية النوم للوضوء ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول بأن النوم حدث ناقض للطهارة على اختلاف حالات النائم، وليس هذا مما انفردت به الإمامية، لأنه مذهب المزني (3) صاحب الشافعي.


(1) بدائع الصنائع: ج 1 / 23 البحر الزخار: ج 2 / 76 الانصاف: ج 1 / 165 كشاف القناع: ج 1 / 106 نيل الأوطار: ج 1 / 219 شرح الأزهار: ج 1 / 94 السيل الجرار: ج 1 / 88 مغني المحتاج: ج 1 / 61.
(2) المائدة 6.
(3) مختصر المزني: 3، حلية العلماء: ج 1 / 145 البحر الزخار: ج 2 / 88 المحلى: ج 1 / 223 المجموع: ج 2 / 17 عمدة القاري: ج 3 / 109 نيل الأوطار: ج 1 / 239 فتح الباري: ج 1 / 251 معرفة السنن (للبيهقي): ج 1 / 305.

[ 119 ]

وقد استقصينا هذه المسألة في الكلام على مسائل الخلاف ودللنا على صحتها بقوله جل ثناؤه: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة…) الآية، وقد نقل أهل التفسير (1) وأجمعوا على أن المراد إذا قمتم من النوم، وأن الآية قد خرجت على سبب يقتضي ما ذكرناه فكأنه تعالى قال وإذا قمتم إلى الصلاة من النوم، وهذا الظاهر يوجب الوضوء من كل نوم، وإجماع الإمامية أيضا حجة في هذه المسألة. وقد عارضنا المخالف لنا فيها بما يروونه في كتبهم وأحاديثهم من قوله (صلى الله عليه وآله): العين وكاء السه (2) فمن نام فليتوضأ، (3) واستوفينا ذلك بما لا طائل في ذكر جميعه هاهنا. مسألة [ 20 ] [ عدم ناقضية المذي والوذي للوضوء ] ومما انفردت الإمامية عن القول بأن المذي والوذي لا ينقضان الوضوء على كل حال، لأن مالكا وإن ذهب إلى أنهما لا ينقضان الوضوء متى خرجا على وجه يخالف العادة فإنه يذهب إلى نقض الطهر بهما إذا كانا معتادين (4)، فالانفراد من الإمامية ثابت على كل حال.


(1) تفسير الطبري: ج 6 / 72 تفسير العياشي: ج 1 / 297 الدر المنثور: ج 2 / 262.
(2) السه: الاست، الصحاح: ج 6 / 2233 مادة (سته).
(3) سنن ابن ماجة: ج 1 / 161 ح 477، سنن أبي داود: ج 1 / 52 ح 203، وسنن البيهقي: ج 1 / 118، سنن الدارقطني ج 1 / 161 ح 5، كنز العمال: ج 9 / 342 ح 26347.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 10 القوانين الفقهية: 31 المنتقى: ج 1 / 88 المجموع: ج 2 / 7 بداية المجتهد: ج 1 / 35 الكافي: 10 التفريع: ج 1 / 196، الهداية: ج 1 / 321.

[ 120 ]

ودليلهم على ذلك: بعد إجماعهم عليه أن نقض الطهر حكم شرعي لا محالة لا يجوز إثباته إلا بدليل شرعي، ولا دليل على أنهما ينقضان الوضوء، والرجوع إلى أخبار الآحاد في ذلك غير مغن لأنا قد بينا في مواضع أن أخبار الآحاد لا يعمل عليها في الشريعة. ويمكن أن يحتج على المخالفين بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وعلى آله) في ذلك من قوله: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (1). (مسألة) [ 21 ] [ ترتيب غسل الجنابة ] ومما انفردت به الإمامية القول بترتيب (2) غسل الجنابة وأنه يجب غسل الرأس ابتداء ثم الميامن ثم المياسر، وإنما كانت بذلك منفردة لأن الشافعي وإن وافقها في وجوب ترتيب الطهارة الصغرى فهو لا يوجب الترتيب في الكبرى (3)، وأبو حنيفة ومن وافقه يسقطون الترتيب في الطهارتين (4). دليلنا مضافا إلى الإجماع المتردد أن الجنابة إذا وقعت بيقين لم يزل


(1) سنن الترمذي ج 1 / 109 ح 74 مسند أحمد بن حنبل: ج 2 / 471 سنن ابن ماجة: ج 1 / 172 ح 515 سنن البيهقي: ج 1 / 117 كنز العمال: ج 9 / 331 ح 26285 جامع الأصول: ج 7 / 194 ح 5214.
(2) في ” ألف “: بوجوب ترتيب.
(3) حلية العلماء: ج 1 / 127 مغني المحتاج: ج 1 / 74 المجموع ج 2 / 184 الأم: ج 1 / 40 مختصر المزني: 5، الوجيز: ج 1 / 18.
(4) حلية العلماء: ج 1 / 127 بدائع الصنائع: ج 1 / 34 البحر الزخار: ج 2 / 107 البحر الرائق: ج 1 / 50 اللباب: ج 1 / 14 – 15 الهداية ج 1 / 16 الفتاوى الهندية: ج 1 / 13 – 14 تحفة الفقهاء: ج 1 / 28 – 29.

[ 121 ]

حكمها إلا بيقين، وقد علمنا أنه إذا رتب الغسل تيقن زوال حكم الجنابة وليس كذلك إذا لم يرتب. وأيضا فإن الصلاة واجبة في ذمته فلا تسقط إلا بيقين. ولا يقين إلا مع ترتيب الغسل. وأيضا فقد ثبت وجوب ترتيب الطهارة الصغرى ولا أحد أوجب الترتيب فيها على كل حال، ولم يشترط ذلك بالاجتهاد وإن شئت أن تقول: ولا أحد لم يعذر تارك الترتيب فيها إلا وهو موجب لترتيب غسل الجنابة فالقول بخلافه خروج عن الإجماع. (مسألة) [ 22 ] [ قراءة القرآن للجنب والحائض ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن الجنب والحائض يجوز أن يقرأ من القرآن ما شاءا إلا عزائم السجود وهي سجدة لقمان وسجدة الحواميم (1) وسورة النجم، وأقرأ باسم ربك الذي خلق وإنما كانت منفردة بذلك، لأن داود يبيحهما قراءة قليل القرآن وكثيره من غير إستثناء (2). ومالك يجوز للجنب أن يقرأ من القرآن الآية والآيتين، ويجيز للحائض والنفساء أن تقرأ من القرآن ما شاءتا (3).


(1) في ” ألف ” و ” م “: حم.
(2) المحلى: ج 1 / 80 المجموع: ج 2 / 158 البحر الزخار: ج 2 / 103 الميزان: ج 1 / 121.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 152، شرح فتح القدير: ج 1 / 148، بداية المجتهد: ج 1 / 50، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 134، المحلي: ج 1 / 78 البحر الزخار: ج 2 / 103، الميزان: ج 1 / 121.

[ 122 ]

وأبو حنيفة وأصحابه يحظرون على الجنب والحائض قراءة القرآن إلا أن يكون دون آية (1). فأما الشافعي فيمنعهما من قراءة القليل والكثير (2)، دليلنا على صحة ما ذكرنا الإجماع الذي تكرر وقوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) (3) وقوله تعالى: (إقرأ باسم ربك الذي خلق) (4) وظاهر عموم ذلك يقتضي حال الجنابة وغيرها. فإن ألزمنا قراءة السجدات قلنا: أخرجناها بدليل. ويمكن أن يكون الفرق بين عزائم السجود وغيرها أن فيها سجودا واجبا والسجود لا يكون إلا على طهر. (مسألة) [ 23 ] [ وقت التيمم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن التيمم إنما يجب في آخر وقت الصلاة وعند تضيقه، والخوف من فوت الصلاة متى لم يتيمم وإن قدمه على هذا الوقت لم يجزئه.


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 38 شرح معاني الآثار: ج 1 / 90 المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 152، المجموع: ج 2 / 158 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 135 المحلى: ج 1 / 78 بدائع الصنائع: ج 1 / 37 – 38 البحر الزخار: ج 2 / 103 البحر الرائق ج 1 / 199 الميزان: ج 1 / 121.
(2) سنن الترمذي: ج 1 / 236 المجموع: ج 2 / 158 الفتح الرباني: ج 2 / 122، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 135 البحر الزخار: ج 2 / 103 الميزان: ج 1 / 121، الوجيز: ج 1 / 18، مغني المحتاج: ج 1 / 72، نيل الأوطار: ج 1 / 283 – 284.
(3) المزمل: 20.
(4) العلق: 1.

[ 123 ]

وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، لأن أبا حنيفة يجوز تقديمه على دخول الوقت (1)، والشافعي لا يجوز ذلك، لكنه يجوزه في أول الوقت (2)، وأبو حنيفة يستحب تأخيره إلى آخر الوقت (3)، والشافعي يستحب تقديمه في أوله (4). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرر. وأيضا فالتيمم بلا خلاف إنما هو طهارة ضرورة، ولا ضرورة إليه إلا في آخر الوقت وما قبل هذه الحال لا يتحقق فيه ضرورة. وليس للمخالف أن يتعلق بظاهر قوله جل وعز (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (5)، وأنه لم يفرق بين أول الوقت وآخره، لأن الآية لو كان لها ظاهر يخالف قولنا جاز أن نخصه بما ذكرناه من الأدلة فكيف ولا ظاهر لها ينافي ما نذهب إليه، لأنه جل ثناؤه قال: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) (6) وأراد بلا خلاف إذا أردتم القيام إلى الصلاة ثم أتبع ذلك حكم العادم للماء الذي يجب عليه التيمم، فيجب على من تعلق بهذه الآية أن يدل على أن من كان في أول الوقت له أن يريد الصلاة ويعزم على القيام إليها فإنا


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 69 المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 109 المجموع: ج 2 / 243 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 235 التفسير الكبير (للرازي): ج 11 / 173 بدائع الصنائع: ج 1 / 54 البحر الزخار: ج 2 / 123 البحر الرائق: ج 1 / 156 كنز الدقائق: 10.
(2) الهداية (للحسني): ج 2 / 126 الأم: ج 1 / 46 مختصر المزني: 7 مغني المحتاج ج 1 / 105 الوجيز: ج 1 / 22 بداية المجتهد: ج 1 / 69 المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 109 المجموع: ج 2 / 243.
(3) بدائع الصنائع: ج 1 / 54 المحلي: ج 2 / 120 تفسير الفخر الرازي: ج 11 / 174 الهداية (للمرغيناني): (ج 1 / 26 الهداية (للأنصاري): 55 مجمع الأنهر: ج 1 / 43.
(4) مختصر المزني: بدائع الصنائع: ج 1 / 55 الأم: ج 1 / 46 تفسير الفخر الرازي: ج 11 / 174 مغني المحتاج ج 1 / 89.
(5) النساء: 43 المائدة 6.
(6) المائدة

[ 124 ]

نخالف في ذلك ونقول: ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في أول الوقت. وليس لهم أن يفصلوا بين حكم الجملتين ويقولوا: إن إرادة الصلاة شرط في الجملة الأولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده، وليست شرطا في الجملة الثانية التي ابتدؤها (وإن كنتم مرضى أو على سفر) (1) وذلك لأن الشرط الأول لو لم يكن شرطا في الجملتين معا لكان يجب على المريض والمسافر إذا أحدثا التيمم وإن لم يريدا الصلاة وهذا لا يقوله أحد. مسألة [ 24 ] [ حد الوجه في التيمم ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن مسح الوجه بالتراب في التيمم إنما هو إلى طرف الأنف من غير استيعاب له فإن باقي الفقهاء يوجبون الاستيعاب له (2). والإمامية وإن اقتصرت في التيمم على ظاهر الكف فلم تنفرد بذلك لأنه قد روي عن الأوزاعي (3) مثله. والذي يدل على ما ذكرناه: مضافا إلى الإجماع وقوله جل ثناؤه: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) (4) ودخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى


(1) المائدة: 6.
(2) اللباب: ج 1 / 31، المحلى ج 2 / 147 الهداية (للأنصاري): 52 المجموع ج 2 / 211 التفسير الكبير (للرازي): ج 11 / 172 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 257 بدائع الصنائع: ج 1 / 46، البحر الزخار: ج 2 / 124 البحر الرائق: ج 1 / 144 كشاف القناع: ج 1 / 98 كنز الدقائق 10.
(3) المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 107 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 245 المجموع ج 2 / 211 المحلى: ج 2 / 156 نيل الأوطار: ج 1 / 332.
(4) المائدة 6.

[ 125 ]

المفعول لا بد له من فائدة وإلا كان عبثا ولا فائدة بعد ارتفاع التعدية إلا التبعيض. وأيضا: فإن التيمم طهارة موضوعها التخفيف، فلا يجوز استيعاب الأعضاء فيها كاستيعابها في طهارة الاختيار، فلهذا كانت في عضوين، وكانت الطهارة الأخرى في أربعة. (مسألة) [ 25 ] [ أقل الطهر ] ومما يشتبه انفراد الإمامية به القول بأن أقل الطهر بين الحيضتين عشرة أيام. وقد روي من بعض الجهات عن مالك (1) مثل ذلك بعينه، وفي روايات آخر أنه لا يوقت (2). وعند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي أقل الطهر خمسة عشر يوما (3). دليلنا الإجماع المتقدم.


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 51 المجموع ج 2 / 380 أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 344 بدائع الصنائع: ج 1 / 40.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 51 شرح العناية (ضمن شرح فتح القدير): ج 1 / 155 أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 344 المجموع: ج 2 / 380 التفريع ج 1 / 206.
(3) الأم ج 1 / 67 الفتاوى الهندية: ج 1 / 37 الهداية ج 1 / 32 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 148، اللباب ج 1 / 45 المحلى: ج 2 / 200 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 323 بداية المجتهد: ج 1 / 51، المجموع: ج 2 / 375 شرح فتح القدير: ج 1 / 155 أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 344 بدائع الصنائع ج 1 / 40 البحر الزخار: ج 2 / 133 البحر الرائق: ج 1 / 207 – 208.

[ 126 ]

وأيضا فإن المدة التي ذهبنا إليها وهي عشرة أيام مجمع عليها، وعلى من ذهب إلى الزيادة عليها الدلالة، ولا حجة في ذلك تعتمد. وأيضا فإن قولنا أحوط للعبادات لأنا نوجب على المرأة عند مضي عشرة أيام على انقطاع الدم الصلاة والصوم وهم يراعون مضي خمسة عشر يوما، فقولنا أولى في الاحتياط للعبادة وأشد استظهارا فيها. (مسألة) [ 26 ] [ كفارة وطء الحائض ] ومما انفردت الإمامية به: إيجابها على من وطئ زوجته في أول الحيض أن يتصدق بدينار وفي وسطه نصف دينار وفي آخره ربع دينار. ومن عداهم يخالف في هذا الترتيب، لأن ابن حنبل وإن وافقهم في إيجاب الكفارة بالوطء في الحيض يذهب إلى أنه يجب أن يتصدق بدينار أو نصف دينار (1). وقال الشافعي في قوله القديم: يتصدق بدينار (2)، وفي القول الجديد يستغفر الله ولا كفارة تلزمه (3)، وبذلك قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وربيعة والليث بن سعد (4).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 323 الشرح الكبير: ج 1 / 317 المحلى ج 2 / 187 بداية المجتهد: ج 1 / 60 عارضة الأحوذي: ج 1 / 218 الهداية (للحسني): ج 2 / 72.
(2) المجموع: ج 2 / 359.
(3) عمدة القاري: ج 3 / 266 شرح النووي لصحيح مسلم: ج 3 / 204 بداية المجتهد: ج 1 / 60 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 351 سبل السلام: ج 1 / 105 المجموع: ج 2 / 359 البحر الزخار: ج 2 / 137 عارضة الأحوذي ج 1 / 218.
(4) الفتاوى الهندية: ج 1 / 39 الفتح الرباني: ج 2 / 157 المجموع: ج 2 / 360 و 361 بداية المجتهد: =

[ 127 ]

وحكى المزني عن محمد بن الحسن أنه قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار (1). ودليلنا: الإجماع المعتمد عليه في كل المسائل. ومما يعارضون به ما يروونه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من أتى أهله (2) وهي حائض فليتصدق بدينار أو نصف دينار (3). وليس لهم أن يحملوا ذلك على الاستحباب، لأن ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب، ولأنهم لا يستحبون هذا المبلغ المخصوص لأجل هذا الوطء، وإنما يستحبون الصدقة على الإطلاق، والخبر يقتضي خلاف ذلك. فإن قيل: الخبر الذي عارضتم به يقتضي التخيير بين دينار ونصف دينار. قلنا: يحتمل أن يريد بدينار إن وطئ في أول الحيض، وبنصفه إن وطئ في وسطه. ويمكن أن يكون الوجه في ترتيب هذه الكفارة أن الواطئ في أول الحيض لا مشقة عليه من ترك الجماع لقرب عهده به فغلظت كفارته والواطئ في آخره مشقته شديدة لتطاول عهده به فكفارته أنقص وكفارة الواطئ في نصف الحيض متوسطة بين الأمرين.


= ج 1 / 60 المغني لابن قدامة: ج 1 / 351 الشرح الكبير: ج 1 / 317 البحر الزخار: ج 2 / 137، البحر الرائق ج 1 / 197. (1) نقل عنه بعضهم التصدق بدينار، كابن حزم في المحلى: ج 2 ص 187.
(2) في ” ألف “: امرأته.
(3) سنن أبي داود: ج 1 / 69 سنن ابن ماجة: ج 1 / 210 ح 640، سنن النسائي: ج 1 / 153 و 188، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 / 230 و 237، سنن البيهقي: ج 1 / 314.

[ 128 ]

(مسألة) [ 27 ] [ وطء الحائض بعد انقطاع الدم ] ومما يظن انفراد الإمامية به القول بجواز أن يطئ الرجل زوجته إذا طهرت عن دم الحيض وإن لم تغتسل متى مست به الحاجة إليه ولم يفرقوا بين جواز ذلك في مضي أكثر الحيض أو أقله. ووافق الشيعة في ذلك داود (1) وقال بمثل قولها. وأبو حنيفة وأصحابه يجوزون له أن يطئها قبل أن تغتسل إذا انقطع دمها إن كان ذلك بعد مضي زمان أكثر الحيض، وإن كان فيما دون أكثر الحيض لم يجز له وطؤها إلا بأن تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كاملة (2). وقال الشافعي: ليس له أن يطئها حتى تغتسل على كل حال (3). دليلنا: الإجماع المتقدم، وقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) (4)، وقوله جل وعز (فأتوا حرثكم أنى شئتم) (5)، وعموم هذه الظواهر يتناول (6) موضع الخلاف. وأيضا قوله جل ثناؤه: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) (7)، ولا شبهة في أن


(1) المجموع: ج 2 / 370 البحر الزخار: ج 2 / 138.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 353 الشرح الكبير ج 1 / 316 شرح فتح القدير: ج 1 / 151 بداية المجتهد: ج 1 / 59 المحلى ج 2 / 173 المجموع: ج 2 / 370 البحر الزخار: ج 2 / 138 المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 208 الهداية ج 1 / 31 الهداية (للحسني): ج 2 / 69.
(3) الأم: ج 1 / 59، المجموع: ج 2 / 370، شرح النووي لصحيح مسلم: ج 3 / 205 بداية المجتهد: ج 1 / 59، البحر الزخار: ج 2 / 138، الهداية (للحسني): ج 2 / 69.
(4) المؤمنون: 5 و 6، المعارج: 29 و 30.
(5) البقرة: 223.
(6) في ” ألف “: يقتضي.
(7) البقرة: 222.

[ 129 ]

المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال وجعله جل ثناؤه انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه. وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مسائل الخلاف. وبلغنا غايته وذكرنا معارضتهم بالقراءة الأخرى في قوله جل ثناؤه: (حتى يطهرن) فإنها قرئت بالتشديد ومع التشديد فلا بد من أن يكون المراد بها الطهارة بالماء وأجبنا عنها. (مسألة) [ 28 ] [ أكثر النفاس ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن أكثر النفاس مع الاستظهار التام ثمانية عشر يوما، لأن باقي الفقهاء يقولون بخلاف ذلك، فيذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد إلى أن أكثره أربعون يوما (1). وذهب مالك والشافعي إلى أن أكثره ستون يوما (2). وحكى الليث أن في الناس من يذهب إلى أنه سبعون يوما (3).


(1) اللباب: ج 1 / 48 المبسوط (للسرخسي): ج 3، 149 و 210 الفتاوى الهندية: ج 1 / 37 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 358 الشرح الكبير: ج 1 / 368 سنن الترمذي: ج 1 / 258 المجموع: ج 2 / 524 المحلى ج 2 / 203 بداية المجتهد: ج 1 / 53 – 54 بدائع الصنائع: ج 1 / 41 البحر الزخار: ج 2 / 146 البحر الرائق: ج 1 / 220 الهداية: ج 1 / 34.
(2) مختصر المزني: ص 11 التنبيه: ص 22 المدونة الكبرى: ج 1 / 53 الهداية: ج 1 / 34 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 149 المحلى: ج 2 / 203 شرح فتح القدير: ج 1 / 166 المجموع: ج 2 / 524، المغني (لابن قدامة) ج 1 / 358 الشرح الكبير: ج 1 / 368 بداية المجتهد: ج 1 / 53 اختلاف الفقهاء (للمروزي): ص 38 البحر الزخار: ج 2 / 146.
(3) المبسوط: ج 3 / 149 المجموع: ج 2 / 524 بدائع الصنائع: ج 1 / 41، البحر الزخار ج 2 / 146.

[ 130 ]

وحكي عن الحسن البصري أن أكثر النفاس خمسون يوما (1). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد ذكره. وأيضا فإن النساء يدخلن في عموم الأمر بالصلاة والصوم، وإنما تخرج النفساء بالأيام التي راعتها الإمامية بإجماع الأمة على خروجها، وما زاد على هذه الأيام لا دليل قاطع يدل على إخراجها من العموم، والظاهر يتناولها. وأيضا فإن الأيام التي ذكرناها مجمع على أنها نفاس، وما زاد عليها لا يجوز إثباته نفاسا بأخبار الآحاد والقياس، لأن المقادير الشرعية كلها لا يجوز إثباتها إلا من طريق مقطوع به، وقد تكلمنا في هذه المسألة في جملة ما خرج لنا من مسائل الخلاف. (مسألة) [ 29 ] [ الترتيب في غسل الميت ] ومما انفردت به الإمامية: القول بوجوب ترتيب غسل الميت، وأن يبدأ برأسه (2) ثم بميامنه ثم بمياسره. والدليل على صحة ذلك: إجماع الفرقة المحقة على ما تقدم. وأيضا فقد ثبت وجوب ترتيب غسل الجنابة وكل من أوجب ذلك أوجب ترتيب غسل الميت، فالفرق (3) بين المسألتين يخالف إجماع الأمة.


(1) سنن الترمذي: ج 1 / 258 الشرح الكبير: ج 1 / 368 المجموع: ج 2 / 524 البحر الزخار: ج 2 / 146.
(2) في ” ألف “: بغسل رأسه.
(3) في ” ألف “: والفارق.

[ 131 ]

(مسألة) [ 30 ] [ وضع الجريدتين مع الميت ] ومما انفردت به الإمامية: استحبابهم أن يدرج مع الميت في أكفانه جريدتان خضراوان رطبتان من جرايد النخل طول كل واحدة عظم الذراع، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يعرفوه (1). دليلنا على ذلك الإجماع المتقدم ذكره. وقد روي من طرق معروفة أن سفيان الثوري سأل يحيى بن عبادة المكي عن التخضير فقال: إن رجلا من الأنصار هلك فأوذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: خضروا صاحبكم فما أقل المتخضرين يوم القيامة، قالوا: وما التخضير؟ قال: جريدة خضراء توضع من أصل اليدين إلى أصل الترقوة (2). وقد قيل: أن الأصل في الجريدة أن الله تعالى لما هبط آدم ” عليه السلام ” من الجنة إلى الأرض إستوحش وشكا ذلك إلى جبرئيل ” عليه السلام ” وسأله أن يسأل الله جل ثناؤه أن يؤنسه بشئ من الجنة، فأنزل الله جل وعلا عليه النخلة فعرفها وأنس بها (3) – ولذلك قيل: أن النخلة عمتكم، (4) لأنها كانت كالأخت لآدم ” عليه السلام “، فلما حضرته الوفاة قال لولده: اجعلوا معي من


(1) الأم: ج 1 / 366 اختلاف الفقهاء: ص 66 المجموع: ج 5 / 203 – 204 بدائع الصنائع: ج 1 / 307 – 308 البحر الزخار: ج 3 / 104.
(2) الكافي: ج 3 / 152 ح 2 من لا يحضره الفقيه: ج 1 / 145 ح 405 الوسائل ج 2 / 736 باب 7 من أبواب التكفين ح 3.
(3) المقنعة: 82 – 83 التهذيب: ج 1 / 326 ح 120 الوسائل ج 2 / 738 باب 7 من أبواب التكفين ح 10.
(4) المحاسن: 528 ح 768 الوسائل ج 17 / 113 باب 78 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1.

[ 132 ]

هذه النخلة شيئا في قبري فجعلت معه الجريدة، وجرت السنة بذلك. وليس ينبغي أن يعجب من ذلك فالشرائع المجهولة العلل لا يعجب منه، وما التعجب من ذلك إلا كتعجب الملحدين من الطواف بالبيت ورمي الجمار وتقبيل الحجر، ومن غسل الميت نفسه، وتكفينه مع سقوط التكليف عنه.


[ 133 ]

كتاب الصلاة


[ 134 ]

كتاب الصلاة (مسألة) [ 31 ] [ الصلاة في الإبريسم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الصلاة لا تجزي في الثوب إذا كان من إبريسم محض، لأن باقي الفقهاء يخالف في ذلك (1). والحجة لنا على ما ذهبنا إليه مضافا إلى إجماع الإمامية عليه أنه لا خلاف في تحريم لبس الإبريسم المحض على الرجال، وظاهر التحريم يقتضي فساد الأحكام المتعلقة بالمحرم جملة، ومن أحكام هذا اللبس المحرم صحة الصلاة فيجب أن يكون الصلاة به فاسدة، لأن من حكم لمنهي عنه يجب أن يكون فاسدا على ظاهر النهي إلا أن تمنع من ذلك دلالة. ونحن وإن كنا نذهب إلى أن النهي من طريق الوضع اللغوي لا يقتضي ذلك، فإنه للعرف (2) الشرعي يقتضيه، لأنه لا شبهة في أن الصحابة ومن تبعهم ما كانوا يحتاجون في الحكم بفساد الشئ وبطلان تعلق الأحكام الشرعية به إلى


(1) الأم: ج 1 / 91، المجموع: ج 3 / 180 عمدة القاري: ج 4 / 98، بداية المجتهد: ج 1 / 119.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: فإن العرف.

[ 135 ]

أكثر من ورود نهي الله تعالى أو رسوله (صلى الله عليه وآله)، ولهذا لما عرفوا نهيه (عليه السلام) عن عقد الربا حكموا بفساد العقد، وبأنه غير مجزئ، ولم يتوقف أحد منهم في ذلك على دليل سوى النهي، ولا قال أحد قط منهم النهي إنما اقتضى قبح الفعل، ويحتاج إلى دلالة أخرى على الفساد وعدم الإجزاء، وهذا عرف لا يمكن جحده. وأيضا فإن الصلاة في ذمة هذا المكلف بيقين. [ وينبغي أن يسقطها ] (1) بيقين مثله، وإذا صلى في الإبريسم المحض لا يعلم قطعا أن ذمته قد برئت كما يعلم ذلك في الثوب من القطن والكتان فيجب أن تكون الصلاة فيه غير مجزئة لعدم دليل الثقة (2) ببراءة الذمة. (مسألة) [ 32 ] [ الصلاة في وبر الأرانب والثعالب وجلودها ] ومما تفردت به الإمامية: بأن الصلاة لا تجوز في وبر الأرانب والثعالب ولا في جلودها وإن ذبحت ودبغت الجلود. والوجه في ذلك الإجماع المتردد ذكره، وما تقدم أيضا من أن الصلاة في الذمة بيقين فلا تسقط إلا بيقين، ولا يقين في سقوط صلاة من صلى في وبر أرنب أو ثعلب أو جلدهما.


(1) في ” ألف “: فلا تسقط إلا.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: البتة.

[ 136 ]

(مسألة) [ 33 ] [ النجاسة المعفو عنها في الصلاة ] ومما انفردت الإمامية به جواز صلاة من صلى وفي قلنسوته نجاسة أو تكته أو ما جرى مجراهما مما لا تتم الصلاة به على الانفراد. والوجه في ذلك الاتفاق المتقدم ذكره. ويمكن أن يقال أيضا: إن التكة لاحظ لها في إجزاء الصلاة ولا تصح الصلاة بها على انفراد فجرى وجودها مجرى عدمها، وكأنها من حيث لا تأثير لها في إجزاء الصلاة تجري مجرى ما ليس عليه من الثياب. فإذا ألزمنا ذلك في العمامة والرداء، وما جرى مجراهما مما لاحظ له في إجزاء الصلاة أسقطنا ذلك بأن العمامة والرداء يمكن أن يكون لهما حظ في ستر العورة، واستباحة الصلاة فهما وإن لم يسترا في بعض الأحوال فإنهما مما يتأتى فيه ستر العورة، وليس كذلك التكة وما يجري مجراها. مسألة [ 34 ] [ ما يجوز السجود عليه ] ومما انفردت به الإمامية: المنع من السجود في الصلاة على غير ما أنبتت الأرض، والمنع من السجود على الثوب المنسوج من أي جنس كان. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويجيزون السجود على كل طاهر من الأجناس كلها (1)، ومالك خاصة يكره الصلاة على الطنافس والبسط من


(1) الهداية: ج 1 / 50 الأم ج 1 / 114 المجموع ج 3 / 425، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 557، بداية المجتهد: ج 1 / 121.

[ 137 ]

الشعر والادم (1)، إلا أن ما أظنه ينتهي إلى أن الصلاة على ذلك غير مجزئة. والوجه فيما ذهبنا إليه: ما تردد من الإجماع، ثم دليل برائة الذمة. (مسألة) [ 35 ] [ وجوب قول حي على خير العمل في الأذان ] ومما انفردت به الإمامية: أن تقول في الأذان والإقامة بعد قول: (حي على الفلاح): حي على خير العمل. والوجه في ذلك: إجماع الفرقة المحقة عليه. وقد روت العامة (2) أن ذلك مما كان يقال في بعض أيام النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما ادعي أن ذلك نسخ ورفع، وعلى من ادعى النسخ الدلالة له، وما يجدها. (مسألة) [ 36 ] [ التثويب في الأذان ] ومما ظن انفراد الإمامية به: كراهية التثويب في الأذان ومعنى ذلك أن يقول في صلاة الصبح بعد قول (حي على الصلاة حي على الفلاح): الصلاة خير من النوم. وقد وافق على كراهية ذلك غير الإمامية من أصحاب أبي حنيفة، وقالوا:


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 75 بداية المجتهد: ج 1 / 121.
(2) سنن البيهقي: ج 1 / 424.

[ 138 ]

التثويب هو أن يقول بعد الفراغ من الأذان: حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين (1). واستدلوا على ذلك بأن قالوا: التثويب مأخوذ من العود إلى الشئ وإنما يعاد إلى شئ قد تقدم ذكره، وما تقدم أن الصلاة خير من النوم فيكون ذلك عودا إليه. وكان الشافعي يذهب إلى أن التثويب مسنون في أذان الصبح دون غيره (2)، وحكي عنه أنه قال في الجديد: هو غير مسنون (3). وقال النخعي: هو مسنون في أذان سائر الصلوات (4). والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من كراهيته، والمنع منه الإجماع الذي تقدم. وأيضا لو كان مشروعا لوجب أن يقوم دليل شرعي على ذلك ولا دليل عليه وإنما يرجعون إلى أخبار آحاد (5) ضعيفة، ولو كانت قوية لما أوجبت إلا الظن وقد دللنا في غير موضع على أن أخبار الآحاد لا توجب العمل كما لا توجب العلم. وأيضا فلا خلاف في أن من ترك التثويب لا ذم عليه، لأنه إما أن يكون


(1) المبسوط: ج 1 / 130 – 131، نصب الراية: ج 1 / 279 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 420، اللباب: ج 1 / 59 شرح فتح القدير: ج 1 / 212. (2) الأم: ج 1 / 85 مختصر المزني 12 التنبيه 27 الأشباه والنظائر: 540 المجموع: ج 3 / 97 بداية المجتهد: ج 1 / 109 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 420.
(3) بدائع الصنائع: ج 1 / 148 الأم: ج 1 / 85 مختصر المزني: 12 المجموع: 3 / 92.
(4) تفسير القرطبي: ج 6 / 228 المجموع ج 3 / 98.
(5) سنن ابن ماجة: ج 1 / 237 سنن الدارمي: ج 1 / 270 سنن الدارقطني: ج 1 / 243 صحيح البخاري: ج 1 / 158 مستدرك الحاكم: ج 1 / 422 كنز العمال: ج 8 / 356 ح 23246، و 23249، سنن البيهقي: 422 – 423.

[ 139 ]

مسنونا على مذهب بعض الفقهاء، أو غير مسنون على مذهب قوم آخرين منهم، وعلى كلا الأمرين لا ذم على تاركه، وما لا ذم في تركه ويخشى في فعله أن يكون معصية وبدعة فالأحوط في الشرع تركه. (مسألة) [ 37 ] [ ما يستحب افتتاح الصلاة به من التكبيرات ] ومما انفردت به الإمامية: القول باستحباب افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات يفصل بينهن بتسبيح وذكر لله جل ثناؤه مسطور، وأنه من السنن المؤكدة وليس أحد من باقي الفقهاء يعرف ذلك (1). والوجه في ذلك: إجماع الطائفة عليه. وأيضا فلا خلاف في أن الله جل ثناؤه قد ندبنا في كل الأحوال إلى تكبيره وتسبيحه واذكاره الجميلة، وظواهر آيات كثيرة من القرآن تدل على ذلك مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) (2)، فوقت افتتاح الصلاة داخل في عموم الأحوال التي أمرنا فيها بالأذكار.


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 68 المحلى: ج 3 / 232 – 233 المغني لابن قدامة ج 1 / 505 – 507 بداية المجتهد: ج 1 / 124 – 125.
(2) الاحزاب: 41 و 42.

[ 140 ]

(مسألة) [ 38 ] [ تكبيرة الاحرام ] ومما ظن انفراد الإمامية به ومالك (1) يوافقها عليه القول بأن الصلاة لا تنعقد إلا بقول المصلي ” الله أكبر “، وأن غير هذه اللفظة لا يقوم مقامها لأن الشافعي يذهب إلى أنها لا تنعقد إلا بقوله ” الله أكبر ” أو ” الله الأكبر ” ولا تنعقد بسوى ذلك من الألفاظ (2). وقال أبو حنيفة ومحمد: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم والتفخيم، ويجوز عندهما الاقتصار على مجرد الاسم وهو أن يقول (الله) ولا يأتي بصفة (3). وقال أبو يوسف: تنعقد بألفاظ التكبير مثل قوله: (الله أكبر) و (الله الأكبر) و (الله الكبير) ولا تنعقد بغير لفظ تكبير (4). وحكي عن الزهري أنه قال: تنعقد الصلاة بالنية فقط (5).


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 62 المبسوط: ج 1 / 36 الهداية: ج 1 / 47 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 505، الشرح الكبير: ج 1 / 505 عمدة القاري: ج 5 / 268 المحلى: ج 3 / 233 بداية المجتهد: ج 1 / 125، المجموع: ج 3 / 292 شرح النووي لصحيح مسلم: ج 4 / 96 الاستذكار: ج 2 / 137 شرح فتح القدير ج 1 / 246.
(2) الأم: ج 1 / 100 مختصر المزني: 14 مغني المحتاج: ج 1 / 151 المبسوط: ج 1 / 36 المحلى: ج 3 / 233 الهداية ج 1 / 47 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 505. (3) الأصل: ج 1 / 246 الفتاوى الهندية: ج 1 / 68 الاستذكار: ج 2 / 137 شرح فتح القدير: ج 1 / 246 المبسوط: ج 1 / 35 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 505 الهداية ج 1 / 47، شرح النووي لصحيح مسلم: ج 4 / 96، عمدة القاري: ج 5 / 268، اللباب: ج 1 / 70، بداية المجتهد ج 1 / 125.
(4) المبسوط: ج 1 / 35 اللباب ج 1 / 70 الأصل ج 1 / 14 شرح فتح القدير: ج 1 / 246 شرح النووي لصحيح مسلم: ج 4 / 96، الهداية: ج 1 / 47.
(5) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 506 عمدة القاري: ج 5 / 268 شرح النووي لصحيح مسلم ج 4 / 96.

[ 141 ]

دليلنا على ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرر. وأيضا فإن الصلاة في ذمته بيقين ولا تسقط إلا بيقين مثله ولا يقين في سقوطها عن الذمة إلا باللفظ الذي اخترناه. ومن الطريف أن مخالفينا يروون عن النبي (صلى إله عليه وآله) بلا خلاف بينهم أنه قال: مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم (1). ويروون عنه (صلوات الله عليه وآله) أنه قال: لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء (2) مواضعه، ثم يستقبل القبلة وهو يقول: الله أكبر (3)، وذلك كله صريح في أنه لا يجزئ إلا ما ذكرناه. وليس لأحد أن يقول: من جملة التكبير قولنا: الله الأكبر، والله الكبير، وذلك أن هذه اللفظة يجب صرفها إلى ما يسمى في عهد اللغة تكبيرا، ولا يعهد في ذلك إلا قولنا: الله أكبر دون سائر ما اشتق منه. (مسألة) [ 39 ] [ التكفير في الصلاة ] ومما ظن انفراد الإمامية به: المنع من وضع اليمين على الشمال في الصلاة


(1) سنن أبي داود: ج 1 / 16 سنن ابن ماجة: ج 1 / 101 سنن الدارمي: ج 1 / 175 مسند أحمد بن حنبل: ج 1 / 123 و 129 سنن الترمذي: ج 1 / 8 و ج 2 / 3، سنن البيهقي: ج 2 / 15، سنن الدارقطني: ج 1 / 359 – 361 من لا يحضره الفقيه: ج 1 / 23 الكافي: ج 3 / 69.
(2) في ” م “: الطهور.
(3) عمدة القاري ج 5 / 268.

[ 142 ]

لأن غير الإمامية يشاركها في كراهية ذلك. وحكى الطحاوي في إختلاف الفقهاء عن مالك أن وضع اليدين إحداهما على الأخرى إنما يفعل في صلاة النوافل من طول القيام وتركه أحب إلي (1). وحكى الطحاوي أيضا عن الليث بن سعد أنه قال: سبل (2) اليدين في الصلاة أحب إلي إلا أن يطيل القيام فيعيا فلا بأس بوضع اليمنى على اليسرى (3). وحجتنا على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم ذكره من إجماع الطائفة، ودليل سقوط الصلاة عن الذمة بيقين. وأيضا فهو عمل كثير في الصلاة خارج عن الأعمال المكتوبة فيها من الركوع والسجود والقيام، والظاهر أن كل عمل في الصلاة خارج عن أعمالها المفروضة أنه لا يجوز. (مسألة) [ 40 ] [ القراءة في الصلاة ] ومما انفردت الإمامية به: القول بوجوب القراءة في الركعتين الأوليين على التضييق وأنه مخير في الركعتين الأخريين بين القراءة والتسبيح لأن الشافعي وإن وافقها في إيجاب القراءة في الأوليين فإنه يوجبها أيضا على التضييق في


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 140 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 472 الهداية: ج 1 / 47 المجموع: ج 3 / 312، عمدة القاري: ج 5 / 279 شرح فتح القدير: ج 1 / 201 نيل الأوطار: ج 2 / 201 و 204.
(2) في باقي النسخ سدل.
(3) المدونة الكبرى: ج 1 / 74 نيل الأوطار: ج 2 / 204. المجموع: ج 3 / 311 عمدة القاري: ج 5 / 279.

[ 143 ]

الأخريين ولا يخير بينها وبين التسبيح (1). وقال مالك: تجب القراءة في معظم الصلاة، فإن كانت الصلاة ثلاث ركعات قرأ في اثنتين، وإن كانت أربعا قرأ في ثلاث (2). وقال أبو حنيفة: فرض القراءة في ركعتين من الصلاة، فإن قرأ في الأوليين وقعت عن فرضه، وإن تركها فيهما لزمه أن يأتي بهما في الأخريين (3). وقال الحسن البصري: تجب القراءة في ركعة واحدة (4). دليلنا على ما ذهبنا إليه الإجماع المتقدم وطريقة براءة الذمة. ويجوز أن نعارض مخالفينا ونلزمهم على أصولهم أن يرجعوا به على مذاهبهم وإن لم يكن على سبيل الاستدلال منا، بالخبر الذي يرويه رفاعة بن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما علم رجلا كيف يصلي قال له (عليه السلام): إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم إقرأ فاتحة الكتاب ثم اركع وارفع حتى تطمئن قائما وهكذا فاصنع في كل ركعة (5). وليس لهم أن يقولوا: فأنتم لا توجبون قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعات الصلاة، وظاهر الخبر يقتضي ذلك.


(1) الأم: ج 1 / 109، المهذب: ج 1 / 72 المجموع: ج 3 / 361، المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 18 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 252 عمدة القاري: ج 6 / 11 التفسير الكبير: ج 3 / 361 اختلاف العلماء: ص 41 حلية العلماء: ج 2 ص 87.
(2) بداية المجتهد: ج 1 / 128 المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 18 المجموع: ج 3 / 361 التفسير الكبير: ج 1 / 216 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 525.
(3) عمدة القاري ج 6 / 8 المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 18 الاستذكار: ج 2 / 170 بداية المجتهد: ج 1 / 129 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 525 المجموع: ج 3 / 361 التفسير الكبير: ج 1 / 216.
(4) المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 18 المجموع: ج 3 / 361 بداية المجتهد: ج 1 / 129، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 525.
(5) راجع سنن البيهقي: ج 2 / 372. وفيه: رفاعة بن رافع.

[ 144 ]

قلنا: هذا الخبر ليس بدليل لنا في هذه المسألة فيلزمنا أن يكون مطابقا للمذهب، وإنما أوردناه على سبيل الالزام والمعارضة، ثم لنا أن نقول: نحن نوجب الفاتحة في الركعات كلها لكن في الأوليين تضييقا، وفي الأخريين تخييرا، ودخول التخيير في الأخريين لا يخرج الفاتحة من أن تكون واجبة فيهما. ومما يمكن الاستدلال به في هذه المسألة قوله جل ثناؤه: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) (1) وظاهر هذا القول يقتضي عموم الأحوال كلها التي من جملتها أحوال الصلاة، ولو تركنا وظاهر الآية لقلنا: أن القراءة واجبة في الركعات كلها تضييقا لكن لما دل الدليل على جواز التسبيح في الأخريين قلنا بالتضييق في الأوليين والتخيير في الأخريين، والوجوب يعم الكل. (مسألة) [ 41 ] [ قول آمين في الصلاة ] ومما انفردت به الإمامية: إيثار ترك لفظة ” آمين ” بعد قراءة الفاتحة لأن باقي الفقهاء يذهبون إلى أنها سنة (2). دليلنا على ما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة على أن هذه اللفظة بدعة وقاطعة للصلاة، وطريقة الاحتياط أيضا لأنه لا خلاف في أنه من ترك هذه اللفظة لا يكون عاصيا، ولا مفسدا لصلاته، وقد اختلفوا فيمن فعلها، فذهبت الإمامية إلى أنه قاطع لصلاته والأحوط تركها.


(1) سورة المزمل: الآية: 20.
(2) المحلى: ج 3 ص 264، اللباب: ج 1 / 69 الأم ج 1 / 109، المجموع ج 3 / 368، الفتاوى الهندية: ج 1 / 74 المغني لابن قدامة: ج 1 / 528 شرح فتح القدير: ج 1 / 256، مغني المحتاج: ج 1 / 161، اختلاف العلماء: ص 41، سنن الترمذي: ج 2 / 28.

[ 145 ]

وأيضا فلا خلاف في أن هذه اللفظة ليست من جملة القرآن ولا مستقلة بنفسها في كونها دعاء وتسبيحا فجرى التلفظ بها مجرى كل كلام خارج عن القرآن والتسبيح. فإذا قيل: هي تأمين على كل دعاء سابق لها وهو قوله جل ثناؤه: (إهدنا الصراط المستقيم) (1). قلنا: الدعاء إنما يكون دعاء بالقصد، ومن يقرأ الفاتحة إنما قصده التلاوة دون الدعاء، وقد يجوز أن يعرى من قصد الدعاء ومخالفنا يذهب إلى أنها مسنونة لكل مصل من غير اعتبار قصده إلى الدعاء، وإذا ثبت بطلان استعمالها فيمن لم يقصد إلى الدعاء ثبت ذلك في الجميع لأن أحدا لم يفرق بين الأمرين. مسألة [ 42 ] [ قراءة العزائم في الصلاة ] ومما انفردت به الإمامية: المنع في صلاة الفريضة خاصة من القراءة بعزائم السجود وهي سجدة لقمان وسجدة الحواميم، وسجدة النجم واقرأ باسم ربك الذي خلق. وروي عن مالك أنه كان يكره ذلك (2)، وأجاز أبو حنيفة قراءة السجدات فيما يجهر فيه بالقراءة من الصلوات دون ما لا يجهر فيه (3)، وأجازه الشافعي في كل صلاة (4).


(1) سورة الحمد: الآية 5.
(2) عمدة القاري ج 7 / 112، المدونة الكبرى: ج 1 / 110.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 1 / 654 شرح فتح القدير: ج 1 / 470 – 471، عمدة القاري: ج 7 / 112.
(4) المحلى: ج 5 / 109، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 654 عمدة القاري: ج 7 / 112.

[ 146 ]

والوجه في المنع من ذلك مع الإجماع المتكرر أن في كل واحدة من هذه السور سجودا واجبا محتوما، فإن سجده كان زائدا في الصلاة، وإن تركه كان مخلا بواجب. فإن قيل: السجود إنما يجب عند قراءة الموضع المخصوص من السور التي فيها ذكر السجود، وأنتم تمنعون من قراءة كل شئ من السورة (1). قلنا إنما منع أصحابنا من قراءة السورة وذلك اسم يقع على الجميع ويدخل فيه موضع السجود، وليس يمتنع أن يقرأ البعض الذي لا ذكر فيه للسجود إلا أن قراءة بعض سورة في الفرائض عندنا لا يجوز فامتنع ذلك لوجه آخر. (مسألة) [ 43 ] [ وجوب السورة في الصلاة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بوجوب قراءة سورة تضم إلى الفاتحة في الفرائض خاصة على من لم يكن عليلا ولا معجلا لشغل أو غيره وأنه لا يجوز قراءة بعض سورة في الفريضة ولا سورتين مضافتين إلى الحمد في الفريضة وإن جاز ذلك في السنة، ولا إفراد كل واحدة من سورة والضحى وألم نشرح عن صاحبتها، وكذلك إفراد سورة الفيل عن لإيلاف (2). والوجه في ذلك مع الإجماع المتردد طريقة اليقين ببراءة الذمة، وأما قراءة بعض سورة فإنما لا يجزئ متى (3) لم يكن له عذر في ترك قراءة السورة الثانية بكمالها،


(1) في ” ألف و ” ب “: السور.
(2) في ” ألف “: لإيلاف قريش.
(3) في ” ألف ” و ” م “: فإنها لا تجزي من.

[ 147 ]

فأما صاحب العذر فكما يجوز له أن يترك قراءة جميع السور الثانية فيجوز أن يترك بعضها، لأنه ليس ترك البعض بأكثر من ترك الكل. والوجه في المنع من إفراد السورة التي ذكرناها أنهم يذهبون إلى أن سورة الضحى وألم نشرح سورة واحدة، وكذلك الفيل ولايلاف، فإذا اقتصر على واحدة كان قارئا بعض سورة. (مسألة) [ 44 ] [ العدول من سورة إلى أخرى ] ومما انفردت به الإمامية: حظر الرجوع عن سورة الاخلاص وروي (1) قل يا أيها الكافرون أيضا إذا ابتدأ بها، وإن كان له أن يرجع عن كل سورة إلى غيرها. والوجه في ذلك: مع الإجماع الذي مضى أن شرف هاتين السورتين وعظم ثواب فاعلهما لا يمنع أن يجعل لهما هذه المزية، وهي المنع من الرجوع من كل واحدة بعد الابتداء بها. (مسألة) [ 45 ] [ رفع اليدين في تكبيرات الصلاة ] ومما انفردت به الإمامية: القول بوجوب رفع اليدين في كل تكبيرات الصلاة، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه والثوري لا يرون رفع اليدين بالتكبير إلا في


(1) الكافي: ج 3 / 317 باب قراءة القرآن ح 25.

[ 148 ]

الافتتاح للصلاة. (1). وروي عن مالك أنه قال: لا أعرف رفع اليدين في شئ من تكبيرات الصلاة (2)، وروي عنه خلاف ذلك (3). وقال الشافعي: يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه منه، ولا يرفع بعد ذلك في سجود ولا في قيامه منه (4). والحجة فيما ذهبنا إليه: طريقة الإجماع وبراءة الذمة. وقد روى مخالفونا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه رفع في كل خفض ورفع في السجود (5) وادعوا أن ذلك نسخ ولا حجة لهم على صحة هذه الدعوى. فإن استدلوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: كفوا أيديكم في الصلاة (6). وفي خبر آخر: اسكنوا في الصلاة (7)، أو بما يرويه البراء ابن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 14 نيل الأوطار: ج 2 / 193 المجموع: ج 3 / 400 المحلى: ج 4 / 87، المغني (لابن قدامة) ج 1 / 497 سنن الترمذي: ج 2 / 37 عمدة القاري: ج 5 / 272 اختلاف العلماء: ص 48 حلية العلماء: ج 2 / 96.
(2) و (3) المدونة الكبرى: ج 1 / 68 المحلى: ج 4 / 87 المجموع ج 3 / 400 عمدة القاري: ج 5 / 272، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 497 اختلاف العلماء: ص 48 سنن الترمذي: ج 2 / 37 حلية العلماء: ج 2 / 96 فتح الباري ج 2 / 220 نيل الأوطار: ج 2 / 193 الاشراف: ج 1 / 74.
(4) الأم: ج 1 / ص 90 و 104 المجموع: ج 3 / 304 – 305 و 399 و 446 المحلى: ج 4 / 87 نيل الأوطار: ج 2 / 193 سنن الترمذي ج 2 / 37.
(5) صحيح مسلم: ج 1 / 292 الموطأ ج 1 ص 76 سنن أبي داود: ج 1 / 221 وصحيح البخاري: ج 1 / 187.
(6) شرح النووي لصحيح مسلم: ج 3 / 3.
(7) صحيح مسلم 1 / 322 ح 119، سنن البيهقي: ج 2 / 280.

[ 149 ]

ثم لم يعد (1). فالجواب أن هذه كلها أخبار آحاد لا توجب علما، وقد بينا أن العمل في الشريعة بما لا يوجب العلم غير جائز، وبعد فيجوز أن يريد بالأمر بكف الأيدي قبضها عن الأفعال الخارجة عن أعمال الصلاة ونحمل قوله: لم يعد على أنه لم يعد إلى رفع يديه في ابتداء الركعة فإن ذلك مما لا ينكرونه بلا خلاف. (مسألة) [ 46 ] [ ذكر الركوع والسجود ] ومما ظن انفراد الإمامية به: القول بإيجاب التسبيح في الركوع والسجود، لأن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي يوجبون ذلك، (2) وإنما يسقط وجوبه باقي الفقهاء المشهورين كأبي حنيفة والشافعي ومالك (3). والذي يدل على وجوبه: بعد إجماع الطائفة كل آية من القرآن اقتضت بظاهرها الأمر بالتسبيح وعموم الظاهر يقتضي دخول أحوال الركوع والسجود فيه، ومن أخرج هذه الأحوال منه فيحتاج إلى دليل، وأيضا طريقة براءة الذمة التي تكرر ذكرها. ومخالفونا يروون عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لما نزل (فسبح


(1) سنن أبي داود: ج 1 / 200 سنن البيهقي: ج 2 / 76.
(2) المحلى: ج 3 / 260 المجموع: ج 3 / 414 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 543 اختلاف العلماء: ص 41، عمدة القاري: ج 6 / 70.
(3) الفتاوى الهندية: ج 1 / 74 المجموع: ج 3 / 414 الأم: ج 1 / 115 المهذب: ج 1 / 75 المدونة الكبرى: ج 1 / ص 72 الشرح الكبير: ج 1 / 543 عمدة القاري: ج 6 / 70 اختلاف العلماء ص 41.

[ 150 ]

باسم ربك العظيم) (1) قال (عليه السلام): اجعلوها في ركوعكم، ولما نزل سبح اسم ربك الأعلى) (2) قال عليه السلام: اجعلوها في سجودكم (3) وظاهر الأمر على الوجوب. (مسألة) [ 47 ] [ الجلوس بعد رفع الرأس من السجدة الثانية ] ومما يظن انفراد الإمامية به، والشافعي (4) يوافقها فيه: إيجابهم على من رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى أن يجلس جلسة قبل نهوضه إلى الثانية، وإنما لا يوجب هذه الجلسة باقي الفقهاء كأبي حنيفة ومالك ومن عداهما (5). والحجة لنا: بعد إجماع الطائفة طريقة براءة الذمة وأن من لم يفعل ذلك لم يتيقن سقوط الصلاة عن ذمته، وقد روى مخالفونا كلهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يجلس هذه الجلسة (6).


(1) سورة الواقعة: الآية 96.
(2) سورة الأعلى: الآية 1.
(3) سنن ابن ماجة: ج 1 / 287 سنن أبي داود: ج 1 / 230 سنن البيهقي: ج 2 / 86 تفسير ابن كثير: ج 4 / 499.
(4) الأم ج 1 / 116 – 117 المجموع: ج 3 / 440 الهداية: ج 1 / 51 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 529، بداية المجتهد: ج 1 / 140.
(5) الفتاوى الهندية: ج 1 / 75 المجموع: ج 3 / 444 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 529، الهداية ج 1 / 51، المدونة الكبرى: ج 1 / 72 – 73 بداية المجتهد: ج 1 / 140.
(6) صحيح البخاري: ج 1 / 208 – 209، سنن النسائي: ج 2 / 234.

[ 151 ]

(مسألة) [ 48 ] [ في التشهد ] ومما ظن انفراد الإمامية به: إيجاب التشهد الأول في الصلاة. وقد وافقنا على ذلك الليث بن سعد وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه (1). وقال أبو حنيفة:: التشهدان معا غير واجبين (2). وقال الشافعي: الثاني واجب والأول غير واجب (3). دليلنا: الإجماع المتردد، وطريقة براءة الذمة، وأيضا فهذه حال هو فيها مندوب إلى ذكر الله تعالى وتعظيمه، والصلاة على نبيه (صلى الله عليه وآله) لدخولها في عموم الآيات المقتضية لذلك مثل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (4) وكل من أوجب الصلاة على النبي (عليه السلام) في هذه الحال أوجب التشهد الأول. ومما يلزمونه أنهم يروون عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يتشهد التشهدين جميعا (5)، ورووا كلهم عنه (عليه والسلام) أنه قال: صلوا كما


(1) المجموع: ج 3 / 450 المغن (لابن قدامة): ج 1 / 571 عمدة القاري: ج 6 / 107 البداية: ج 1 / 132.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 / 76 البداية ج 1 / 132 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 571 المحلى ج 3 / 270، المجموع: ج 3 / 450 عمدة القاري: ج 6 / 106.
(3) الأم: ج 1 / 117 – 118، المجموع: ج 3 / 450 البداية ج 1 / 132، المغني (لابن قدامة): ج 1 / 571، عمدة القاري: ج 6 / 106.
(4) سورة الاحزاب: الآية 56.
(5) سنن الدارمي: ج 1 / 256 سنن البيهقي: ج 2 / 129 كنز العمال: ج 7 / 477 – 478.

[ 152 ]

رأيتموني أصلي (1). مسألة [ 49 ] [ في القنوت ] ومما يظن انفراد الإمامية به: القول بأن القنوت في كل صلاة والدعاء فيه بما أحب الداعي مستحب وهو قول الشافعي لأن الطحاوي حكى عنه في كتاب الاختلاف أن له أن يقنت في الصلوات كلها عند حاجة المسلمين إلى الدعاء (2). والحجة لنا: مضافا إلى إجماع الطائفة قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) (3). فإذا قيل: القنوت هاهنا هو القيام الطويل. قلنا: المعروف في الشريعة أن هذا الاسم يختص الدعاء في الصلاة (4) ولا يعرف من إطلاقه سواه وبعد فإنا نحمله على الأمرين. مسألة [ 50 ] [ الدعاء في غير القنوت ] ومما يظن انفراد الإمامية به وهو مذهب مالك (5): جواز الدعاء في الصلاة


(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 5 / 53 صحيح البخاري: ج 1 154 و 162 – 163 سنن الدارقطني: ج 1 / 346 سنن البيهقي: ج 2 / 345.
(2) الأم: ج 1 / 130 و 238 المجموع: ج 3 / 494 المحلي: ج 4 / 145 – 146 المبسوط: ج 1 / 165 بداية المجتهد: ج 1 / 134.
(4) ساقط من (ألف) و (م).
(3) سورة البقرة: الآية 238.
(5) المدونة الكبرى: ج 1 / 102 المجموع: ج 3 / 471.

[ 153 ]

المكتوبة أين شاء المصلي منها. وحكى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا بأس بالدعاء في الصلاة المكتوبة في أولها ووسطها وآخرها (1) وقال ابن القاسم: كان مالك يكره الدعاء في الركوع ولا يرى به بأسا في السجود (2). والحجة لنا: إجماع طائفتنا وظاهر أمر الله تعالى بالدعاء مثل قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) (3) وقوله تعالى: (أدعوني أستجب لكم) (4). مسألة [ 51 ] [ رد السلام في الصلاة ] ومما يظن انفراد الإمامية به: رد السلام في الصلاة بالكلام وقد وافق في ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري (5) إلا أن الشيعة تقول: يجب أن يقول المصلي في رد السلام مثل ما قاله المسلم: سلام عليكم ولا يقول: وعليكم السلام. وذهب الشافعي إلى أن المصلي يرد السلام بالإشارة دون الكلام (6). وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن رد السلام بكلام فسدت صلاته وإن رده بإشارة أساء (7).


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 103.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 102.
(3) سورة الاسراء: الآية 110.
(4) سورة المؤمن: الآية 60.
(5) المجموع: ج 4 / 104 – 105 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 711.
(6) المجموع: ج 4 / 104 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 711.
(7) اللباب ج 1 / 84 الهداية: ج 1 / 64 شرح فتح القدير: ج 1 / 358 المجموع: ج 4 / 105.

[ 154 ]

وقال الثوري: لا يرد السلام حتى يفرغ من الصلاة (1). والحجة لنا: إجماع الطائفة. فإذا قيل: هو كلام في الصلاة قلنا: ليس كل كلام في الصلاة خارج عن القرآن محظورا لأن الذكر (2) كلام ولم يدخل تحت الحظر. ويمكن أن يقال: إن لفظة سلام عليكم من ألفاظ القرآن ويجوز للمصلي أن يتلفظ بها تاليا للقرآن وناويا لرد السلام إذ لا تنافي بين الأمرين. مسألة [ 52 ] [ تسليم المنفرد والمأموم ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن المنفرد أو الإمام يسلم تسليمة واحدة مستقبل القبلة وينحرف بوجهه قليلا إلى يمينه وإن كان مأموما سلم تسليمتين واحدة عن يمينه وأخرى عن شماله إلا أن تكون جهة شماله خالية من أحد فيقتصر على التسليم عن يمينه ولا يترك التسليم على جهة يمينه على كل حال وإن لم يكن في تلك الجهة أحد. وهذا الترتيب لا يذهب إلى مثله أحد من الفقهاء لأن مالكا يذهب إلى أن الإمام يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه والمنفرد والمأموم يسلمان يمينا وشمالا (3) وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي يذهبون إلى أن يسلم (4) على كل


(1) المجموع: ج 4 / 105.
(2) في باقي النسخ: الدعاء.
(3) المدونة الكبرى: ج 1 / 143 – 144 بداية المجتهد: ج 1 / 134 المحلى: ج 4 / 131 – 132 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 588 المجموع: ج 3 / 482 شرح فتح القدير: ج 1 / 278.
(4) في (ألف) و (م): السلام.

[ 155 ]

حال يمينا وشمالا (1) فالانفراد من الإمامية بذلك الترتيب ثابت. والحجة لنا: الإجماع المتكرر ذكره. مسألة [ 53 ] [ السهو المفسد للصلاة ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأنه لا سهو في الركعتين الأوليين من كل صلاة فرض ولا سهو في صلاة الفجر والمغرب وصلاة السفر لأن باقي الفقهاء يخالف في ذلك (2). والحجة على ذلك: إجماع الطائفة. ويمكن أن يكون الوجه فيه تأكد الأوليين من كل صلاة وكذلك المغرب والفجر لأن القصر لا يلحق الأوليين وإنما يلحق الأخريين والمغرب والفجر لا يلحقهما أيضا قصر فلذلك وجب من كل سهو يعرض في الأوليين وفي الصلاتين المذكورتين الإعادة. مسألة [ 54 ] [ الشك في عدد الركعات ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن من شك فلم يدر كم صلى اثنتين أو


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 76 الباب 6 ج 1 / 74 المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 30 الأصل: ج 1 ص 10 شرح فتح القدير: ج 1 / 278 الأم: ج 1 / 122 المجموع: ج 3 / 473 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 588 المحلي: ج 4 / 131.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 134 بداية المجتهد: ج 1 / 199 المجموع: ج 4 / 116 شرح فتح القدير: ج 1: 448 المحلي: ج 4 / 160 الفتاوى الهندية: ج 1 / 126 – 127 المغني (لابن قدامة):

[ 156 ]

ثلاثا واعتدل في ذلك ظنه فإنه يبني على الأكثر وهي الثلاث فإذا سلم صلى ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس مقام ركعة واحدة فإن كان الذي بنى عليه هو الصحيح كان ما صلاه نافلة وإن كان ما أتى به الثلاث كانت الركعة جبرانا لصلاته وكذلك القول فيمن شك فلا يدري أصلي ثلاثا أم أربعا. ومن شك بين اثنتين وثلاث وأربع بنى أيضا على الأكثر فإذا سلم صلى ركعتين من قيام وركعتين من جلوس حتى إن كان بناؤه على الصحيح فالذي فعله نافلة وإن كان الذي صلاه اثنتين كانت الركعتان من قيام جبرانا لصلاته وإن كان الذي صلاه ثلاثا فالركعتان من جلوس وهي مقام واحدة جبران صلاته. وباقي الفقهاء يوجبون البناء على اليقين وهو النقصان ويوجبون في هذا الموضع سجدتي السهو ويقولون: إن كان ما بنى عليه من النقصان هو الصحيح فالذي أتى به تمام صلاته وإن كان بنى على الأقل وقد صلى على الحقيقة الأكثر كان ذلك له نافلة (1). والحجة فيما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، ولأن الاحتياط أيضا فيه، لأنه إذا بنى على النقصان لم يأمن أن يكون قد صلى على الحقيقة الأزيد فيكون ما أتى به زيادة في صلاته. فإذا قيل: وإذا بنى على الأكثر كان كما تقولون لا يأمن أن يكون إنما فعل الأقل فلا ينفع ما فعله من الجبران لأنه منفصل من الصلاة وبعد التسليم.


ج 1 / 658 – 659. (1) اللباب: ج 1 / 95 المحلى: ج 4 / 160 – 161 المدونة الكبرى: ج 1 / 135 – 136 بداية المجتهد: ج 1 / 198 – 199 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 674 الفتاوى الهندية: ج 1 / 131 اختلاف العلماء: ص 51 نيل الأوطار: ج 3 / 139 المجموع ج 4 / 113 حلية العلماء ج 2 / 136.

[ 157 ]

قلنا: ما ذهبنا إليه أحوط على كل حال، لأن الاشفاق من الزيادة في الصلاة لا يجري مجرى الاشفاق من تقديم السلام في غير موضعه، لأن العلم بالزيادة في الصلاة مبطل لها على كل حال. (مسألة) [ 55 ] [ إمامة الفاسق ] ومما ظن انفراد الإمامية به: منعهم من الائتمام في الصلاة بالفاسق، ومالك يوافقهم في هذه المسألة، (1) وباقي الفقهاء يجيزون الائتمام في الصلاة بالفاسق (2)، دليلنا الإجماع المتكرر، وطريقة اليقين ببراءة الذمة، وأيضا قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (3) وتقديم الإمام في الصلاة ركون إليه لأن إمامة الصلاة معتبر فيها الفضل والتقدم فيما يعود إلى الدين، ولهذا رتب فيها من هو أقرأ وأفقه وأعلم، والفاسق ناقص فلا يجوز تقديمه على من خلا من نقصه.


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 83 – 84 بدائع الصنائع: ج 1 / 156 فتح العزيز: ج 4 / 330 المجموع: ج 4 / 253 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 22 شرح فتح القدير: ج 1 / 305.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 / 84 بداية المجتهد: ج 1 / 147 – 148 المجموع: ج 4 / 253 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 21 – 22 المحلى: ج 4 / 210 بدائع الصنائع: ج 1 / 156 شرح فتح القدير: ج 1 / 304 فتح العزيز: ج 4 / 330.
(3) سورة هود: الآية 113.

[ 158 ]

(مسألة) [ 56 ] [ إمامة ولد الزنا ] ومما ظن انفراد الإمامية به: كراهية إمامة ولد الزنا في الصلاة وقد شارك الإمامية غيرهم في ذلك. وذكر الطحاوي في كتاب الخلاف بين الفقهاء أن مالكا كان يكره إمامة ولد الزنا (1). وحكى عن الشافعي أنه قال: أكره أن ينصب من لا يعرف أبوه إماما (2). وحكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا غيره أحب إلينا (3) إلا أنهم وإن كرهوا ذلك فإن الصلاة خلفه عندهم مجزئة. والظاهر من مذهب الإمامية أن الصلاة خلفه غير مجزئة، والوجه في ذلك والحجة له: الإجماع المتقدم وطريقة براءة الذمة. (مسألة) [ 57 ] [ أمامة الأبرص والمجذوم والمفلوج ] ومما انفردت الإمامية به كراهية إمامة الأبرص والمجذوم والمفلوج، والحجة فيه: إجماع الطائفة. ويمكن أن يكون الوجه في منعه نفار النفوس عمن هذه حاله والعزوف عن مقاربته. ولأن المفلوج ومن أشبهه من ذوي العاهات ربما لم يتمكنوا من استيفاء أركان الصلاة.


(1) المحلى: ج 4 / 211 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 59 المجموع: ج 4 / 290.
(2) الأم: ج 1 / 166، المجموع: ج 4 / 290، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 59.
(3) اللباب: ج 1 / 79 الفتاوى الهندية: ج 1 / 85 بدائع الصنائع: ج 1 / 156 شرح فتح القدير: ج 1 / 304 المجموع ج 4 / 290 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 59 النتف ج 1 / 95.

[ 159 ]

(مسألة) [ 58 ] [ صلاة الضحى والتنفل بعد طلوع الشمس ] ومما انفردت به الإمامية كراهية صلاة الضحى وإن التنفل بالصلاة بعد طلوع الشمس إلى وقت زوالها محرم إلا في يوم الجمعة خاصة. والوجه في ذلك: الإجماع المتقدم وطريقة الاحتياط فإن صلاة الضحى غير واجبة عند أحد ولا حرج في تركها، وفي فعلها خلاف بل تكون بدعة ويلحق به إثم فالأحوط العدول عنها. (مسألة) [ 59 ] [ ترتيب صلاة الإحدى والخمسين ] ومما انفردت الإمامية به ترتيب صلاة الإحدى والخمسين في اليوم والليلة على الوجه الذي رتبوه وبينوه، لأن باقي الفقهاء لا يعرف ذلك الترتيب (1). والحجة فيه إجماع الطائفة عليه، وليس يمكن أن يدعى عليهم أنهم أبدعوا فيما يزيدونه من هذه النوافل، لأن الصلاة خير موضوع والزيادة فيه مستحسنة غير منكرة. (مسألة) [ 60 ] [ مسافة التقصير ] ومما انفردت الإمامية به تحديدهم السفر الذي يجب فيه التقصير في


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 212، إرشاد الساري: ج 2 / 228، الهداية: ج 1 / 66، الوجيز ج 1 / 53، اللباب: =

[ 160 ]

الصلاة ببريدين – والبريد أربع فراسخ – والفرسخ ثلاثة أميال فكأن المسافة أربعة وعشرين ميلا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: مسير ثلاثة أيام بلياليهن، وهو قول الثوري وابن حي (1). وقال مالك: ثمانية وأربعون ميلا، فإن لم تكن أميال فمسير يوم وليلة للبغل وهو قول الليث (2). وقال الأوزاعي يوم تام (3). وقال الشافعي ستة وأربعون ميلا بالهاشمي (4). والحجة في ذلك إجماع الطائفة. وأيضا فإن الله تعالى علق سقوط فرض الصيام على المسافر بكونه مسافرا في قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) (5)، ولا خلاف بين الأمة في أن كل سفر أسقط فرض الصيام ورخص في الافطار فهو بعينه موجب لقصر الصلاة وإذا كان الله تعالى قد علق ذلك في الآية باسم السفر فلا شبهة في أن اسم السفر يتناول المسافة التي حددنا السفر بها فيجب أن يكون الحكم تابعا لها.


ج 1 / 90 – 91، الأم: ج 1 / 139 المغني (لابن قدامة): ج 1 / 762 الفتاوى الهندية: ج 1 / 112 – 113. (1) المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 235 بداية المجتهد: ج 1 / 171 المجموع: ج 4 / 325 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 92 شرح فتح القدير ج 2 / 2 – 3 عمدة القاري ج 7 / 119 اختلاف العلماء: ص 45 حلية العلماء: ج 2 / 193.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 119 المبسوط (للسرخسي): ج 1 / 235 المجموع: ج 4 / 325 مواهب الجليل: ج 2 / 140 بداية المجتهد: ج 1 / 171.
(3) و (4) المغني (لابن قدامة) ج 2 / 92 المجموع: ج 4 / 325 المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 235 عمدة القاري: ج 7 / 119.
(5) سورة البقرة: الآية 184.

[ 161 ]

ولا يلزم على ذلك أدنى ما يقع عليه هذا الاسم من فرسخ أو ميل لأن الظاهر يقتضي ذلك لو تركنا معه (1) لكن الدليل والاجماع أسقطا اعتبار ذلك ولم يسقطاه فيما اعتبرناه من المسافة وهو داخل تحت الاسم. (مسألة) [ 61 ] [ نية المسافر الإقامة ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن المسافر يلزمه التقصير ما لم ينو المقام في البلد الذي يدخله عشرة أيام فصاعدا، وإذا نوى ذلك وجب عليه الإتمام لأن من عداهم من الفقهاء يخالف في ذلك. فأبو حنيفة وأصحابه والثوري يقولون: إنه إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوى أقل من ذلك قصر (2). وقال الشافعي ومالك وهو قول سعيد بن المسيب والليث: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم (3). وقال الأوزاعي: إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم (4). وروي عن ابن حي أنه قال: إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو


(1) في ” ألف ” و ” ب ” معه الدليل.
(2) المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 236 عمدة القاري: ج 7 / 116 بداية المجتهد: ج 1 / 173 المجموع: ج 4 / 364 مجمع الأنهر: ج 1 / 162 اللباب ج 1 / 106 الفتاوى الهندية: ج 1 / 129 المحلى: ج 5 / 22 اختلاف العلماء: ص 45 حلية العلماء: ج 2 / 199.
(3) الأم: ج 1 / 183 المدونة الكبرى: ج 1 / 119 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 132 – 133 المجموع: ج 4 / 364 بداية المجتهد: ج 1 / 173 المحلى ج 5 / 23.
(4) عمدة القاري: ج 7 / 116 المحلى ج 5 / 22 المجموع: ج 4 / 364.

[ 162 ]

منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة ما لم يقم به عشرا، فإن أقام به عشرا أو بغيره من سفره أتم الصلاة (1). وهذه موافقة من ابن حي لنا على بعض الوجوه، لأنه اعتبر العشر فيما نقوله وفيما لا نقول به، وكيف يجوز أن يعتبر العشر في دخول المسافر إلى مصره الذي فيه أهله ووطنه، وهو بدخوله إليه قد خرج من أن يكون مسافرا، وإنما يعتبر مدة الإقامة فيمن هو مسافر، والمشقة التي يتبعها التقصير زائلة عمن عاد إلى وطنه وحصل بين أهله. فأما الحجة على أن التحديد الذي ذكرنا أولى من غيره: فهو الإجماع المتكرر. (مسألة) [ 62 ] [ لو أتم المسافر صلاته ] ومما يظن انفراد الإمامية به: القول بأن من تمم الصلاة في السفر يجب عليه الإعادة إن كان متعمدا على كل حال وإن كان أتم (2) ناسيا أعاد ما دام في الوقت، وبعد خروج الوقت لا إعادة عليه. وأكثر الفقهاء يخالفون في ذلك لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: أن قعد في الاثنين قدر التشهد مضى في صلاته، وإن لم يقعد فصلاته فاسدة (3). وقال الثوري: إذا قعد في الاثنين لم يعد (4).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 2 / 133 المجموع ج 4 / 365 المحلى: ج 5 / 23 عمدة القاري: ج 7 / 116.
(2) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(3) اللباب ج 1 / 106، المبسوط (للسرخسي): ج 1 ص 239، المحلى: ج 4 / 264، الفتاوى الهندية: ج 1 / 139 المغني (لابن قدامة) ج 2 / 107 الهداية ج 1 / 80 – 81 شرح فتح القدير: ج 2 / 6 – 7.
(4) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 253.

[ 163 ]

وقال ابن حي إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان منه الشئ اليسير، فإذا طال ذلك في سفره وكثر لم يعد (1) وهذه موافقة منه للشيعة على بعض الوجوه. وقال حماد بن أبي سليمان: إذا صلى أربعا أعاد (2)، وهذا وفاق للشيعة لأن ظاهر قوله يقتضي التعمد دون النسيان. وقال الحسن البصري: إذا افتتح الصلاة على أنه يصلي أربعا أعاد، وإن نوى أن يصلي أربعا بعد أن افتتح الصلاة بنية أن يصلي ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزأته صلاته (3). وقال مالك إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه. وقال: ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم أنه لا يجزي (4)، فإن كان مالك أراد بإيجاب الإعادة ما دام في الوقت وإسقاطها مع خروجه حال النسيان فهو موافق للإمامية وما أظنه أراد ذلك، وظاهر الكلام يقتضي التعمد. والحجة في مذهبنا: الإجماع المتقدم وأيضا فإن فرض السفر الركعتان فيما كان في الحضر أربعا، وليس ذلك برخصة، وإذا كان الفرض كذلك فمن لم يأت به على ما فرض وجبت عليه الإعادة.


(1) عمدة القاري: ج 7 / 133.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 2 / 107.
(3) عمدة القاري: ج 7 / 133.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 121 المحلى: ج 4 / 265 المبسوط (للسرخسي) ج 1 / 239، عمدة القاري: ج 7 / 133.

[ 164 ]

فإن قيل: القرآن يمنع مما ذكرتم، لأنه تعالى قال: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) (1) ورفع الجناح يدل على الإباحة لا على الوجوب. قلنا: هذه الآية غير متناولة لقصر الصلاة في عدد الركعات، وإنما المستفاد منها التقصير في الأفعال من الإيماء وغيره، لأنه تعالى علق القصر بالخوف، ولا خلاف في أنه ليس من شرط القصر في عدد ركعات الصلاة الخوف، وإنما الخوف شرط في الوجه الآخر وهو الأفعال في الصلاة لأن صلاة الخوف قد أبيح فيها ما ليس مباحا مع الأمن. (مسألة) [ 63 ] [ من سفره أكثر من حضره ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن من سفره أكثر من حضره كالملاحين والجمالين ومن جرى مجراهم لا تقصير عليهم، لأن باقي الفقهاء لا يراعون ذلك. والحجة على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وأيضا فإن المشقة التي تلحق المسافر هي الموجبة للتقصير في الصوم والصلاة، ومن ذكرنا حاله ممن سفره أكثر من حضره لا مشقة عليه في السفر، بل ربما كانت المشقة في الحضر لاختلاف العادة، (2) وإذا لم يكن عليه مشقة فلا تقصير.


(1) سورة النساء: الآية 101.
(2) في ” ألف “: لأنه خلاف للعادة.

[ 165 ]

(مسألة) [ 64 ] [ العدد الذي تنعقد به الجمعة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الجمعة لا تنعقد إلا بحضور خمسة الإمام أحدهم، لأن أبا حنيفة وأصحابه والليث يقولون: إنها تنعقد بثلاثة سوى الإمام (1). وروي عن أبي يوسف اثنان سوى الإمام، وبه قال الثوري (2). وقال ابن حي إن لم يحضر الإمام إلا رجل واحد فخطب عليه وصلى به الجمعة أجزأتهما (3). واعتبر الشافعي أربعين رجلا (4). والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتقدم ذكره. واعتبار أبي حنيفة ومن وافقه أقل ما يقع عليه اسم جماعة وأنه ثلاثة، وأن الجمعة مشتقة من الاجتماع والجماعة ليس بشئ لأنه يلزم عليه أن يكون الإمام في الثلاثة، لأن اسم الجماعة حاصل. ويلزم عليه أيضا ما قاله أبو يوسف، لأن الاثنين في الشريعة جماعة مثل


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 148 الهداية ج 1 / 83 اللباب: ج 1 / 111، المجموع: ج 4 / 504 المحلى: ج 5 / 46 المبسوط (للسرخسي) ج 2 / 24 شرح فتح القدير: ج 2 / 31 بداية المجتهد: ج 1 / 161، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 172.
(2) الهداية: ج 1 / 83 اللباب: ج 1 / 111 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 24 المحلى: ج 5 / 46 شرح فتح القدير ج 1 / 31 بداية المجتهد: ج 1 / 153 النتف: ج 1 / 92.
(3) المجموع: ج 4 / 504 المحلى: ج 5 / 46 الاستذكار: ج 2 / 324.
(4) النتف ج 1 / 92 الاستذكار: ج 2 / 324 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 25 الأم ج 1 / 190، المجموع ج 4 / 502 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 172 بداية المجتهد: ج 1 / 161 شرح فتح القدير: ج 2 / 31 المحلى ج 5 / 46.

[ 166 ]

الثلاثة، فيلزم عليه قول ابن حي، لأن الواحد مع الإمام جماعة. وبعد فالجمعة وإن اشتقت الاجتماع، فالمعول في عدد الجماعة وحصرها على دليل مقطوع به دون الاشتقاق وقد بينا ذلك. (مسألة) [ 65 ] [ ما يقرأ في الصلوات يوم الجمعة وليلتها ] ومما انفردت به الإمامية: استحباب أن يقرأ ليلة الجمعة بسورة الجمعة وسبح في المغرب، وفي العشاء الآخرة، وفي صلاة الغداة بالجمعة والمنافقين، وكذلك في صلاة الجمعة المقصورة، وفي الظهر والعصر إذا صلاهما من غير قصر. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1) إلا أن الشافعي يوافق الإمامية في استحباب السورتين في صلاة الجمعة خاصة (2). والحجة في ذلك إجماع الطائفة، ولأنه أحوط. من حيث إنه لا خلاف في أنه إذا قرأ ما ذكرناه أجزأه، ولم يفعل مكروها وليس كذلك إذا عدل عنه. مسألة [ 66 ] [ الجماعة في نوافل رمضان ] ومما ظن انفراد الإمامية به: المنع من الاجتماع في صلاة نوافل شهر رمضان وكراهية ذلك.


(1) اللباب ج 1 / 111 الفتاوى الهندية: ج 1 / 149 المبسوط (للسرخسي) ج 2 / 36 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 189 بداية المجتهد: ج 1 / 167.
(2) الأم: ج 1 / 205 مغني المحتاج: ج 1 / 290 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 189 شرح فتح القدير: ج 2 / 129 فتح العزيز: ج 4 / 584.

[ 167 ]

وأكثر الفقهاء يوافقهم على ذلك، لأن المعلى روى عن أبي يوسف أنه قال: من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في شهر رمضان فأحب إلي أن يصلي في بيته. وكذلك قال مالك (1) قال وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون، ولا يقومون مع الناس (2). وقال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام النبي صلى الله عليه وآله) إلا في بيته (3). وقال الشافعي: صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أحب إلي (4)، وهذا كله حكاه الطحاوي في كتاب الاختلاف، فالموافق للإمامية في هذه المسألة أكثر من المخالف. والحجة لها: الإجماع المتقدم، وطريقة الاحتياط، فإن المصلي للنوافل في بيته غير مبدع ولا عاص بالاجماع، وليس كذلك إذا صلاها في جماعة. ويمكن أن يعارضوا في ذلك بما يروونه عن عمر بن الخطاب من قوله وقد رأى اجتماع الناس في صلاة نوافل شهر رمضان: بدعة ونعمت البدعة (5) فاعترف بأنها بدعة وخلاف السنة، وهم يروون عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (6).


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 222 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 800 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 144، شرح فتح القدير: ج 1 / 408 عمدة القاري: ج 7 / 178.
(2) المجموع: ج 4 / 35.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 144.
(4) المجموع: ج 4 / 5 المغني (لابن قدامة) ج 1 / 800 عمدة القاري: ج 7 / 178.
(5) صحيح البخاري: ج 3 / 58 موطأ مالك: ج 1 / 144.
(6) سنن ابن ماجة: ج 1 / 16 و 18 ح 42 و 46 مسند أحمد بن حنبل: ج 3 / 310 سنن أبي داود: ج 4 / 201 سنن الدارمي: ج 1 / 44 و 69 كنز العمال: ج 1 / 221.

[ 168 ]

(مسألة) [ 67 ] [ كيفية نوافل رمضان ] ومما انفردت به الإمامية: ترتيب نوافل شهر رمضان، على أن يصلي في كل ليلة منه عشرين ركعة، منها ثمان بعد المغرب واثنتا عشرة ركعة بعد العشاء الآخرة، فإذا كان في ليلة تسع عشرة صلى مائة ركعة، ويعود في ليلة العشرين إلى الترتيب الذي تقدم، ويصلي في ليلة إحدى وعشرين مائة وفي ليلة اثنتين وعشرين ثلاثين ركعة، منها ثمان بعد المغرب والباقي بعد صلاة العشاء الآخرة، ويصلي في ليلة ثلاث وعشرين مائة، وفيما بقي من الشهر في كل ليلة ثلاثين ركعة على الترتيب الذي ذكرناه. ويصلي في كل يوم جمعة من الشهر عشر ركعات، أربع منها صلاة أمير المؤمنين ” عليه السلام ” وصفتها أن يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وسورة الاخلاص خمسين مرة، وركعتين من صلاة فاطمة ” عليها السلام ” وصفتها أن يقرأ في أول ركعة الحمد مرة وإنا أنزلناه في ليلة القدر مائة مرة، وفي الثانية الحمد مرة وسورة الاخلاص مائة مرة. ثم يصلي أربع ركعات صلاة التسبيح، وتعرف بصلاة جعفر الطيار عليه السلام وصفتها معروفة. ويصلي في ليلة آخر جمعة من الشهر عشرين ركعة من صلاة أمير المؤمنين ” صلوات الله عليه ” المتقدم وصفها، وفي ليلة آخر سبت من الشهر عشرين ركعة من صلاة فاطمة ” عليها السلام ” وقد مضى وصفها فيكمل له بذلك ألف ركعة. وهذا الترتيب لا يعرفه باقي الفقهاء، لأن أبا حنيفة وأصحابه والشافعي يذهبون إلى أن نوافل شهر رمضان عشرون ركعة في كل ليلة سوى الوتر (1).


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 214، المجموع: ج 4 / 32، فتح المعين: ص 33، الاستذكار: ج 2 / 335.

[ 169 ]

وقال مالك: تسع وثلاثون ركعة بالوتر، والوتر ثلاث ركعات (1). وحجتنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، ولأن الذي اعتبرناه زيادة على عددهم والزيادة تقتضي الخير والاحتياط فيه أيضا. (مسألة) [ 68 ] [ وجوب صلاة العيدين ] ومما يظن انفراد الإمامية به: القول بأن صلاة العيدين واجبتان على كل من وجبت عليه صلاة الجمعة وبتلك الشروط، لأن أبا حنيفة يذهب إلى وجوبهما (2) كما تقول الإمامية. والشافعي يقول: أنهما ليسا بواجبتين (3). دليلنا على ما ذهبنا إليه: الإجماع المتقدم وطريقة الاحتياط أيضا. (مسألة) [ 69 ] [ تكبيرات صلاة العيدين ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن تكبير صلاة العيدين في الأولى سبع وفي الثانية خمس من جملتهن تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، لأن أبا حنيفة وأصحابه يذهبون إلى أنهن


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 222 بداية المجتهد: ج 1 / 214.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 37 عمدة القاري: ج 6 / 273 المجموع ج 5 / 3 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 223.
(3) الأم: ج 1 / 240 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 223 المجموع: ج 5 / 3 عمدة القاري: ج 6 / 273.

[ 170 ]

خمس في الأولى وأربع في الثانية من جملتهن تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع (1). وقال مالك: والشافعي سبع في الأولى وخمس في الأخرى، وقال الشافعي: لا يعتد بتكبيرة الافتتاح والركوع (2). وروي عن مالك أنه يعتد في الركعة (3) بتكبيرة الافتتاح من جملة التكبيرات سبع (4). فإن كان مالك يعتد بتكبيرة الركوع أيضا فهو موافق أيضا للإمامية، وإلا فالانفراد ثابت. دليلنا على ما ذهبنا إليه: الإجماع المتقدم. (مسألة) [ 70 ] [ محل القراءة في صلاة العيدين ] ومما انفردت به الإمامية به: إيجاب القراءة في كل ركعة من صلاة العيدين قبل التكبيرات الزوائد: لأن أبا حنيفة وأصحابه يوجبون القراءة في الأولى بعد التكبير وفي الثانية قبل التكبير (5)، فكأنه يوالي بين القراءتين، وقال مالك


(1) المبسوط (للسرخسي) ج 2 / 38 الفتاوى الهندية: ج 1 / 150 بداية المجتهد: ج 1 / 222 المحلى: ج 5 / 83 اللباب: ج 1 / 116، الهداية: ج 1 / 86 شرح فتح القدير: ج 2 / 43، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 239.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 169، المحلى ج 5 / 83 المجموع ج 5 / 19 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 238، شرح فتح القدير: ج 1 / 43 الأم: ج 1 / 209 و ج 2 / 38 بداية المجتهد ج 1 / 222 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 38.
(3) في ” م ” الركعة الأولى.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 169 بداية المجتهد: ج 1 / 222.
(5) اللباب: ج 1 / 116 الهداية: ج 1 / 86 المجموع: ج 5 / 20، النتف: ج 1 / 100، المحلى: ج 5 / 83، =

[ 171 ]

والشافعي: يبدأ في الركعتين معا بالتكبيرات (1) فانفراد الإمامية واضح. والحجة لها: الإجماع المتقدم، وطريقة الاحتياط، فإن الذي تذهب إليه الإمامية يجوز عند الجماعة إذا أدى إليه الاجتهاد: وما يقوله مخالفها لا يجوز عند الإمامية على حال من الأحوال، فالاحتياط فيما تذهب إليه الإمامية واضح. (مسألة) [ 71 ] [ القنوت في صلاة العيدين ] ومما انفردت به الإمامية: إيجابهم القنوت بين كل تكبيرتين من تكبيرات العيد لأن باقي الفقهاء لا يراعي ذلك. والحجة فيه: إجماعها، ولأنه أيضا لا يقين (2) ببراءة ذمته من صلاة العيد إلا بما ذهبنا إليه من القنوت، ولا بد من يقين ببراءة الذمة من الواجب. (مسألة) [ 72 ] [ تكبيرات الفطر والأضحى ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن على المصلي التكبير في ليلة الفطر وابتداؤه من دبر صلاة المغرب إلى أن يرجع الإمام من صلاة العيد، فكأنه


= شرح فتح القدير: ج 2 / 43 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 237 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 38 – 39، الفتاوى الهندية: ج 1 / 150. (1) المدونة الكبرى: ج 1 / 169، بداية المجتهد: ج 1 213، الأم: ج 1 / 236، المجموع: ج 5 / 20 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 237 فتح العزيز: ج 5 / 46.
(2) في ” ألف ” و ” م “: لا يوقن.

[ 172 ]

عقيب أربع صلوات أولاهن المغرب من ليلة الفطر وأخراهن صلاة العيد. وفي عيد الأضحى يجب التكبير على من كان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة، أولاهن صلاة الظهر من يوم العيد. ومن كان في غير منى من أهل سائر الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات، أولاهن صلاة الظهر من يوم العيد. وباقي الفقهاء يخالف في ذلك. أما التكبير في عيد الفطر عقيب الصلوات فلا يعرفونه، وإنما اختلفوا في التكبير في طريق المصلي إلى الصلاة. فروي عن أبي حنيفة أنه يكبر يوم الأضحى ويجهر في ذهابه إلى المصلى ولا يكبر يوم الفطر (1). وقال مالك والأوزاعي: يكبر في خروجه إلى المصلى في العيدين جميعا (2) وقال مالك: يكبر في المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطع التكبير، ولا يكبر إذا رجع (3). وقال الشافعي: أحب إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام، وفي موضع آخر: حتى يفتتح الإمام الصلاة (4). واختلفوا في تكبيرة الأضحى، فقال أبو حنيفة: من صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر (5).


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 150 اللباب ج 1 / 115 و 118، المجموع: ج 5 / 41 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 231.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 167 بداية المجتهد: ج 1 / 225 – 226 المجموع: ج 5 / 42، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 231، فتح العزيز: ج 5 / 14.
(3) المدونة الكبرى: ج 1 / 167 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 230.
(4) الأم: ج 1 / 241 المجموع: ج 5 / 30.
(5) المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 42 – 43 اللباب: ج 1 / 118 الهداية ج 1 / 87 عمدة القاري ج 6 / 293 شرح فتح القدير: ج 2 / 48، المجموع: ج 5 / 40، المحلى: ج 5 / 91، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 246.

[ 173 ]

وقال أبو يوسف ومحمد والثوري: إلى آخر أيام التشريق (1). وقال مالك والشافعي: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق (2) والحجة لنا: ما تقدم من الإجماع وطريقة الاحتياط. وقوله تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) (3) يدل على أن التكبير أيضا واجب في الفطر. (مسألة) [ 73 ] [ وجوب صلاة الكسوف والخسوف ] ومما انفردت به الإمامية: القول بوجوب صلاة كسوف الشمس والقمر ويذهبون إلى أن من فاتته هذه الصلاة وجب عليه قضاؤها. وباقي الفقهاء يخالف في ذلك (4). والحجة على مذهبنا: إجماع الطائفة، ويمكن أن يعارض المخالفون بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله إن الشمس والقمر


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 152 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 43 بداية المجتهد ج 1 / 226 المجموع: ج 5 / 40 المحلى ج 5 / 91 عمدة القاري: ج 6 / 293 شرح فتح القدير ج 2 / 49.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 172، بداية المجتهد: ج 1 / 226 الأم: ج 1 / 241 المجموع: ج 5 / 33 – 34، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 246 عمدة القاري: ج 6 / 293.
(3) سورة البقرة: الآية 185.
(4) المغني (لابن قدامة): ج 2 / 280 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 75، المجموع: ج 5 / 43 – 44 بداية المجتهد: ج 1 / 203 شرح فتح القدير: ج 1 / 432.

[ 174 ]

[ آيتان ] (1) لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة (2)، وأمره (عليه السلام) على الوجوب. (مسألة) [ 74 ] [ كيفية صلاة الكسوف ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن صلاة الكسوف عشر ركعات وأربع سجدات. وقال أبو حنيفة وأصحابه. إنها ركعتان على هيئة الصلاة المعروفة (3)، وقال مالك والليث والشافعي: أربع ركعات في أربع سجدات (4). دليلنا إجماع الطائفة، ولأن ما ذهبنا إليه يحتوي على ما قالوه ويزيد عليه، وما ذهبوا إليه بخلاف ذلك. (مسألة) [ 75 ] [ حكم الصلاة على الطفل إذا مات ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن الأطفال ومن جرى مجراهم ممن لم


(1) الزيادة من ” ألف ” و ” م ” والمصدر.
(2) صحيح البخاري: ج 2 / 42، سنن ابن ماجة: ج 1 / 401 ح 1263، كنز العمال: ج 8 / 429.
(3) اللباب: ج 1 / 119، الفتاوى الهندية: ج 1 / 152، المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 74، شرح فتح القدير: ج 2 / 52، المجموع: ج 5 / 62، المحلى: ج 5 / 96، بداية المجتهد: ج 1 / 251.
(4) المجموع: ج 5 / 62 بداية المجتهد: ج 1 / 215 الأم: ج 1 / 245 المغني (لابن قدامة): ج 5 / 275 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 74 المحلى: ج 5 / 98 سبل السلام: ج 2 / 75.

[ 175 ]

يكلف في نفسه الصلاة، ولا كلف غيره تمرينه عليها لا يجب الصلاة عليه إذا مات، وحدوا من يصلى عليه من الصغار بأن يبلغ ست سنين فصاعدا. والحجة في ذلك: إجماع الطائفة، ولأن الصلاة على الأموات حكم شرعي وقد ثبت بيقين فيمن نوجب الصلاة عليه، ولا يقين ولا دليل فيمن نخالف فيه. (مسألة) [ 76 ] [ تكبيرات صلاة الجنازة ] ومما ظن انفراد الإمامية به: القول بخمس تكبيرات في صلاة الجنازة. وكان ابن أبي ليلى (1) يوافق الإمامية على ذلك. وروي عن حذيفة بن اليمان وزيد ابن أرقم أن تكبيرات الجنازة خمس (2)، ولعمري إن باقي الفقهاء يخالف الإمامية في ذلك (3). والحجة فيما ذهبنا إليه: الإجماع وطريقة الاحتياط فإن الذي تذهب إليه الإمامية يدخل فيه ما ذهب إليه مخالفوها وهو أحوط. وقد روى مخالفونا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كبر خمسا (4).


(1) عمدة القاري: ج 8 / 22 بداية المجتهد: ج 1 / 240.
(2) المجموع ج 5 / 231 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 393 عمدة القاري: ج 8 / 23 المحلى: ج 5 / 124، بداية المجتهد: ج 1 / 241.
(3) الأم: ج 1 / 270 مختصر المزني: ص 38 مغني المحتاج: ج 1 / 341 بداية المجتهد: ج 1 / 240 – 241، المجموع: ج 5 / 231 المحلى: ج 5 / 124 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 392 – 393 عمدة القاري: ج 8 / 22 – 23.
(4) سنن النسائي: ج 4 / 72 سنن أبي داود: ج 3 / 210 ح 3197 سنن الدارقطني: ج 2 / 73 ح 6 – 8 سنن ابن ماجة ج 1 / 482 ح 1505 سنن البيهقي: 4 / 36.

[ 176 ]

فإذا قيل بإزاء ذلك أنه (عليه السلام) كبر أربعا (1). قلنا: هذه الرواية تحتمل أنه كبر أربعا سمعن وجهر بهن وأخفى الخامسة، وخبر الخمس غير محتمل. على أنه لا تنافي بين الخبرين، لأنه من روى أنه كبر أربعا لم يفصح بأنه ما زاد عليها، ومن كبر خمسا فقد كبر أربعا. (مسألة) [ 77 ] [ التسليم في صلاة الجنازة ] ومما انفردت به الإمامية: إسقاط السلام من صلاة الجنازة وأنه إذا كبر الخامسة خرج من الصلاة بغير تسليم. وباقي الفقهاء يخالف في ذلك، لأن أبا حنيفة وأصحابه يذهبون إلى أنه يسلم عن يمينه وعن يساره (2). وقال مالك: يسلم الإمام واحدة ويسمع من يليه، ويسلم من خلفه (3) واحدة في أنفسهم، وإن أسمعوا من يليهم فلا بأس (4). وقال الثوري: يسلم عن يمينه تسليمة خفيفة (5). وقال ابن حي: يسلم عن يمينه وعن شماله تسليما يخفيه ولا يجهر به، وقال (1) نصب الراية ج 2 / 267.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 / 164 عمدة القاري: ج 8 / 123، المجموع: ج 5 / 243 بداية المجتهد: ج 1 / 242.
(3) في ” ألف ” و ” م “: وراءه.
(4) المجموع: ج 5 / 244 عمدة القاري: ج 8 / 123.
(5) المغني (لابن قدامة): ج 2 / 349 المجموع: ج 5 / 244 اختلاف العلماء: ص 64.


[ 177 ]

الشافعي مثل قول ابن حي في العدد والمنع من الجهر (1). والحجة على ما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة، وأيضا فإن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف لأنه قد حذف منها الركوع والسجود وهما أوكد من التسليم فغير منكر أن يحذف التسليم.


(1) الأم: ج 1 / 270، مختصر المزني ص 38 المجموع ج 5 / 240 بداية المجتهد ج 1 / 242 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 349.

[ 179 ]

كتاب الصيام


[ 180 ]

[ كتاب الصيام ] (مسألة) [ 78 ] [ وقت النية لصوم التطوع ] ومما ظن انفراد الإمامية به: القول بأن صوم التطوع يجزئ نيته بعد الزوال لأن الثوري يوافق في ذلك، ويذهب إلى أن صوم التطوع إذا نواه في آخر النهار أجزأه وهو أحد قولي الشافعي أيضا (1)، وباقي الفقهاء يمنعون من ذلك ويقولون: إذا نوى التطوع بعد الزوال لم يجزئه (2). دليلنا: الإجماع الذي تقدم، وقوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) (3) وكل ظاهر لقرآن أو سنة يقتضي الأمر بالصوم والترغيب فيه لا إختصاص له بزمان دون غيره فهو يتناول ما بعد الزوال وقبله، ولا يلزم على ذلك صوم الفرض لأنه لا يجزئ عندنا إلا بنية قبل الزوال لأنا أخرجناه بدليل ولا دليل فيما عداه.


(1) المجموع: ج 6 / 303 المحلى ج 6 / 172 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 30 – 31 شرح فتح القدير: ج 2 / 241 عمدة القاري: ج 10 / 303. (2) بداية المجتهد: ج 1 / 303. المجموع: ج 6 / 303 المحلى: ج 6 / 171 – 173 شرح فتح القدير ج 2 / 241، عمدة القاري: ج 10 / 303 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 30 – 31.
(3) سورة البقرة: الآية 184.

[ 181 ]

وأقوى ما تعلقوا به أن ما مضى من النهار قبل النية لا يكون فيه صائما فكيف يتغير (1) باستئناف النية؟ والجواب عن ذلك أن ما مضى يلحق في الحكم بما يأتي كما يقولون كلهم فيمن نوى التطوع قبل الزوال. فإن فرقوا بين الأمرين بعد الزوال وقبله بأن قبل الزوال مضى أقل العبادة وبعده مضى أكثرها، والأصول تفرق بين القليل والكثير في هذا الحكم كمن أدرك الإمام بعد الركوع وقبله. قلنا: إذا كانت العبادة قد مضى جزء منها وهو خال من هذه النية وأثرت النية المستأنفة حكما في الماضي فلا فرق بين القلة والكثرة في هذا المعنى لأن القليل كالكثير في أنه وقع خاليا، وألحقناه من طريق الحكم بالباقي، لأن تبعيض الصوم غير ممكن، وإذا أثرت النية فيما صاحبته من الزمان وما يأتي بعده فلا بد من الحكم بتأثيرها في الماضي لأنه يوم واحد لا يلحقه تبعيض، وقد جوزوا كلهم أن يفتتح الرجل الصلاة منفردا، ثم يأتم به بعد ذلك مؤتم فيكون جماعة، ولم يفرقوا بين أن يمضي الأكثر أو الأقل. وجوز الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء أن يفتتح الصلاة منفردا ثم ينقلها إلى جماعة فيصير لها حكم الجماعة ولم يفرقوا بين مضي الأكثر أو الأقل (2)، ولا يلزم على ما قلناه أن تكون النية في آخر جزء من اليوم، لأن محل النية يجب أن تكون بحيث يصح وقوع الصوم بعده بلا فصل، وذلك غير متأت في آخر جزء. ولا يعترض ما ذهبنا إليه روايتهم عن النبي (عليه السلام) قوله: لا صيام لمن


(1) في ” ألف “: يتعين.
(2) مختصر المزني: ص 23 الفتاوى الهندية: ج 1 / 66 – 67.

[ 182 ]

لم يبيت الصيام من الليل (1) لأنه أولا خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في الشريعة. ولأنا نحمله على الفضل والكمال، كما قال (عليه السلام): لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (2)، ولا صدقة وذو رحم محتاج (3). وقد قيل: أنه محمول على الصوم الذي يثبت في الذمة مثل قضاء شهر رمضان وصوم النذور والكفارات. (مسألة) [ 79 ] [ كفاية نية واحدة لشهر رمضان ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن نية واحدة في أول شهر رمضان تكفي للشهر كله، ولا يجب تجديد النية لكل يوم، ومالك (4) يوافق على هذا المذهب وإن خالف باقي الفقهاء فيه (5). والحجة في ذلك إجماع الطائفة، وأيضا فإن النية تؤثر في الشهر كله لأن حرمته حرمة واحدة، كما أثرت في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه.


(1) سنن الدارقطني: ج 2 / 172 – 173 سنن الترمذي ج 3 / 108 سنن البيهقي: ج 4 / 202.
(2) كنز العمال: ج 7 / 650 سنن البيهقي: ج 3 / 111 و 174 الجامع الصغير: ج 2 / 203.
(3) عوالي اللئالي: ج 2 / 73.
(4) الكافي: ص 120 مقدمات ابن رشد: ص 183 التفريع: ج 1 / 303 المجموع ج 6 / 302 حلية العلماء ج 3 / 186.
(5) المجموع ج 6 / 302.

[ 183 ]

(مسألة) [ 80 ] [ صوم يوم الشك ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن في صوم يوم الشك فضلا وأنه مستحب بعد أن ينوي أنه من شعبان. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، لأن الشافعي يكره صيام يوم الشك، إلا أن يوافق عادة للصائم (1). وأبو حنيفة يقول: أنه إن نوى به التطوع لم يكره، وإن نواه عن رمضان كره (2)، إلا أنه لا يثبت فيه الفضيلة التي تذهب إليها الإمامية. وقال أحمد بن حنبل: إن كان صحو كره، وإن كانت السماء متغيمة لم يكره (3). والذي يدل على مذهبنا: إجماع الطائفة. وطريقة الاحتياط لأنه إن كان من شهر رمضان أجزأه عندنا، وإن كان من شعبان نفعه ثوابه ولم يضره. ويعارضون بما يروونه عن أمير المؤمنين ” صلوات الله عليه ” لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من شهر رمضان (4)، وكل خبر (5) يروونه متضمنا للنهي عن صيام يوم الشك يمكن حمله على


(1) الأم: ج 2 / 94 المحلى ج 6 / 235 شرح فتح القدير: ج 2 / 244 اختلاف العلماء: ص 73.
(2) الفتاوى الهندية ج 1 / 199 المجموع: ج 6 / 404 المحلى ج 6 / 235 عمدة القاري: ج 10 / 273، اختلاف العلماء: ص 74 (3) المجموع: ج 6 / 403 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 4 شرح فتح القدير: ج 2 / 244، اختلاف العلماء: ص 73 عمدة القاري: ج 10 / 273.
(4) سنن البيهقي: ج 4 / 212.
(5) نصب الراية: ج 2 / 440.

[ 184 ]

النهي عن صومه بنية الفرض. وأي فرق في كراهية صوم يوم الشك بين أن تجري به عادة أو يصومه منفردا؟ وأي فرق بين يوم الشك وما قبله من أيام شعبان؟ لولا اتباع الهوى. (مسألة) [ 81 ] [ شهادة النساء في الهلال ] ومما انفردت به الإمامية: أن الصيام لا تقبل فيه شهادة النساء. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1). والحجة لنا إجماع الطائفة. وأيضا فإن الصيام من الفروض المتأكدة فيجوز أن لا تقبل فيه شهادة النساء تأكيدا وتغليظا، فإن شهادتهن لم تسقط إلا من حيث التغليظ. (مسألة) [ 82 ] [ لو ارتمس الصائم أو تعمد الكذب ] ومما انفردت به الإمامية وإن وافقها فيه على بعض من الوجوه قوم من الفقهاء (2) – إفسادهم الصوم بالارتماس في الماء واعتماد الكذب على الله تعالى وعلى رسوله (عليه السلام)، وإيجابهم بذلك ما يجب في اعتماد الأكل والشرب.


(1) اللباب: ج 1 / 164 الهداية: ج 1 / 121 – 122، الفتاوى الهندية: ج 1 / 195، المدونة الكبرى: ج 1 / 194 بداية المجتهد ج 1 / 295 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 7.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 45، الشرح الكبير: ج 3 / 45.

[ 185 ]

وقد قال الأوزاعي: إن الكذب والغيبة يفطران (1). وروي أن خمسا يفطرن الصائم منها الغيبة والنميمة (2). وحكي عن مالك كراهية الارتماس في الماء (3). والحجة فيما ذهبوا إليه: إجماع الطائفة، وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة من الصوم. ويمكن أن يكون الوجه في المنع من الارتماس أن الماء يصل معه إلى الجوف لا محالة من المخارق التي لا يمكن ضبطها، فجعل ما هو الغالب في حكم الواقع. مسألة [ 83 ] [ حكم تعمد البقاء على الجنابة للصائم ] ومما انفردت الإمامية به من فقهاء الأمصار كلهم – وقد روي عن أبي هريرة (4) وفاقهم فيه، وحكي أيضا أن الحسن بن صالح بن حي كان يستحب (5) لمن أصبح جنبا في شهر رمضان أن يقضي ذلك اليوم (6) بعينه وكان يفرق بين صوم التطوع وبين صوم الفرض في هذا الباب -: إيجابهم على من أجنب في ليلة شهر رمضان وتعمد البقاء إلى الصباح من غير اغتسال القضاء والكفارة، وفيهم من يوجب القضاء دون الكفارة، ولا خلاف بينهم في أنه


(1) المجموع ج 6 / 356.
(2) نصب الراية: ج 2 / 483 كنز العمال: ج 8 / 497 ح 23813.
(3) المجموع: ج 6 / 347 فتح العزيز ج 6 / 380.
(4) الأم: ج 2 / 97 الفتاوى الهندية: ج 1 / 200 المجموع: ج 6 / 308 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 75 – 76 عمدة القاري: ج 11 / 4.
(5) في (ألف) و (ب): يقول يستحب.
(6) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 76 عمدة القاري: ج 11 / 6.

[ 186 ]

إذا غلبه النوم ولم يتعمد البقاء على الجنابة إلى الصباح لا شئ عليه. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتكرر. ومما يعارض المخالفون به ما يروونه عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من أصبح جنبا في شهر رمضان فلا يصومن يومه (1). وليس لهم أن يحملوا هذا الخبر على من أصبح مجامعا مخالطا لأنه بخلاف لفظ الخبر وترك لظاهره ولو أراد ذلك لقال (عليه السلام) من أصبح مجامعا والجماع إذا كان مفسدا للصوم فلا معنى لإضافته إلى الصباح لأنه في النهار كله مفسد لصوم وإنما يليق بقوله (عليه السلام) من أصبح جنبا من استمر على حكم الجنابة الواقعة قبل الصباح. ولا يعارض هذا الخبر ما يروونه عن عائشة إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك (2) وفي بعض الألفاظ: وذلك في شهر رمضان (3). لأنا نتأول هذا الخبر على أن المراد به ما وقع من غير اعتماد. وليس لهم إن يقولوا: إن الحكم الجنابة لا ينافي الصوم بدلالة أنه قد يحتلم نهارا ويؤخر اغتساله ولا يفسد بذلك صومه. وذلك أنا لم نوجب على المعتمد للبقاء على الجنابة إلى الصباح الغسل لأجل المنافاة بين الجنابة والصوم بل لأنه اعتمد لأن يكون جنبا في نهار الصوم وليس كذلك من احتلم نهارا واستمر على حاله لأن كونه جنبا في هذه الأحوال من غير اعتماد.


(1) موجود في الأم ج 2 / 97 وعمدة القاري: ج 11 / 4 حديث من أصبح.
(2) صحيح البخاري: ج 3 / 38 سنن أبي داود: ج 2 / 312 سنن الدارمي: ج 2 / 13 سنن الترمذي: ج 3 / 149.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 3 ص 56.

[ 187 ]

ولأن بقاءه على الجنابة الواقعة عن الاحتلام بالنهار ليس بأكثر من حصول الجنابة في النهار والجنابة إذا وقعت بالليل وتمكن من إزالتها فاعتمد البقاء عليها إلى النهار فقد اعتمد لأن يكون جنبا بالنهار فاختلف الموضعان. مسألة [ 84 ] [ حكم الاستنماء في الصوم ] ومما انفردت الإمامية به القول بإيجاب القضاء والكفارة على من اعتمد (1) استنزال الماء الدافق بغير جماع لأن باقي الفقهاء يخالفون في ذلك (2). وقد روي عن مالك أنه كان يقول: كل إفطار بمعصية يوجب الكفارة (3) واستنزال الماء في شهر رمضان معصية بغير شبهة. دليلنا: الإجماع المتردد وطريقة الاحتياط وبراءة الذمة. مسألة [ 85 ] [ حكم المضمضة في الصوم ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن من تمضمض لطهارة فوصل الماء إلى جوفه لا شئ عليه من قضاء ولا غيره وإن فعل لك لغير طهارة من تبرد بالماء أو غيره ففيه القضاء خاصة لأن هذا الترتيب والتفصيل لا يعرفه باقي الفقهاء


(1) في (ألف) (ب): تعمد.
(2) الأم: ج 2 / 101 المجموع: ج 6 / 342 اللباب: ج 1 / 165 الفتاوي الهندية: ج 1 / 200 المحلي: ج 6 / 185.
(3) المدونة الكبرى: ج 1 / 220 – 221 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 56 شرح فتح القدير: ج 2 / 256.

[ 188 ]

لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: إن كان ذاكرا لصومه فعليه القضاء وإن كان ناسيا فلا قضاء عليه (1). وقال ابن أبي ليلى: لا قضاء عليه وإن كان ذاكرا لصومه (2). وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: إذا توضأ لصلاة مكتوبة فدخل الماء حلقه فلا شئ عليه وإن توضأ لصلاة تطوع فعليه القضاء (3). وهذا فيه بعض الشبه لمذهبنا. وقال الأوزاعي: لا شئ عليه (4). وللشافعي قولان: أحدهما: أنه إذا تمضمض ورفق ولم يبالغ فدخل الماء إلى جوفه أنه لا يفطر (5) والقول الآخر: إنه يفطره (6) ولا يختلف قوله في أنه إذا وصل إلى الجوف عن مبالغة فإنه يفطر. وقال الحسن بن صالح بن حي: إن توضأ للفريضة أو لصلاة سنة فدخل حلقه من الماء شئ في الثلاث فليس عليه قضاء وما دخل بعد الثلاث فعليه القضاء (7) وهذا نظير قول الإمامية. والحجة في مذهبنا: الإجماع المتكرر ويمكن أن نتعلق في ذلك بقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (8) وكل الحرج أن يأمرنا بالمضمضة


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 202 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 66 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 44 المجموع: ج 6 / 327.
(2) المجموع: ج 6 / 327 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 67. (3) المجموع: ج 6 / 327.
(4) المغني (لابن قدامة) ج 3 / 44 الشرح الكبير: ج 3 / 44.
(5) المجموع: ج 6 / 327 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 66 الشرح الكبير: ج 3 / 44 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 44.
(6) الأم، ج 2 / 101 مختصر المزني: ص 58 المجموع: ج 6 / 326 – 327 فتح العزيز: ج 6 / 393.
(7) المحلي: ج 6 / 215 البحر الزخار: ج 3 / 253.
(8) سورة الحج: الآية 78.

[ 189 ]

والاستنشاق في الصوم ويلزمنا القضاء إذا سبق الماء إلى أجوافنا من غير اعتماد ولا يلزم على ذلك التبرد بالمضمضة لأن ذلك مكروه في الصوم والامتناع منه أولى فلا حرج عليه فيه. (مسألة) [ 86 ] [ لو تبين طلوع الفجر بعد تناول المفطر ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من تسحر ثم بان له أنه كان أكل بعد طلوع الفجر على ضربين: إن كان أكل ولم يتأمل الفجر ولم يراعه فعليه قضاؤه، وإن كان رصده وراعاه فلم يره فلا قضاء عليه لأن باقي الفقهاء يخالفون في هذا التفصيل فيوجب أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث والشافعي القضاء على كل حال (1). وقال مالك: إن كان الصوم تطوعا مضى فيه ولا شئ عليه، وإن كان واجبا فعليه قضاؤه (2). وقال عطاء والحسن البصري: لا قضاء عليه (3). وإنما كانت الإمامية منفردة بهذه المسألة، لأن من أوجب القضاء من الفقهاء أوجبه بلا تفصيل، وكذلك من أسقطه. والحجة في مذهبنا إجماع الطائفة، ويمكن أن يتعلق فيه بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان.


(1) الفتاوى الهندية ج 1 / 202 الهداية ج 1 / 29، المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 54 المجموع: ج 6 / 309 شرح فتح القدير: ج 2 / 290، اختلاف العلماء: ص 69.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 191 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 75 المجموع ج 6 / 309.
(3) المجموع ج 6 / 309 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 74.

[ 190 ]

فإذا قيل: ذلك محمول على رفع الإثم. قلنا: هذا تخصيص بغير دليل فإن ألزمنا أن نسقط القضاء بهذا الخبر عمن لم يرصد الفجر. فرقنا بين الأمرين بأن من رصد الفجر فلم يره قد تحرز (1) بغاية جهده وإمكانه، وليس كذلك من لم يراعه. (مسألة) [ 87 ] [ الصيام في السفر ] ومما ظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق متقدم القول بأن من صام شهر رمضان في السفر يجب عليه الإعادة، لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: إن الصوم في السفر أفضل من الافطار (2). وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحب إلينا [ من الافطار ] (3) لمن قوي عليه (4). وقال الشافعي: هو مخير بين الصوم والافطار، والصوم أفضل (5). وروي عن ابن عمر أن الفطر أفضل (6). وروي عن أبي هريرة أنه إن صامه (7) في السفر لم يجزئه، وعليه أن يصومه في


(1) في ” ألف ” و ” ب ” تحرى.
(2) الهداية ج 1 / 126 بداية المجتهد: ج 1 / 306 المجموع: ج 6 / 265.
(3) ساقط من ” ألف “.
(4) الجامع لأحكام القرآن (للجصاص) ج 2 / 280 المدونة الكبرى: ج 1 / 201 بداية المجتهد: ج 1 / 306 المجموع: ج 6 / 265 سنن الترمذي: ج 3 / 90 المغني (لابن قدامة) ج 3 / 34.
(5) المجموع: ج 6 / 261 و 265 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 34 شرح فتح القدير: ج 2 / 372 – 373.
(6) سنن البيهقي: ج 4 / 245 الترهيب والترغيب: ج 2 / 134 – 135.
(7) في ” ألف “: إن من صام.

[ 191 ]

الحضر، (1) وهذا هو مذهب الإمامية بعينه. والحجة لقولنا: الإجماع المتكرر. وأيضا قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) (2)، فأوجب تعالى القضاء بنفس السفر، ومن ادعى ضميرا في الآية وهو لفظة (فأفطر) فهو تارك للظاهر من غير دليل. فإن قيل: فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) (3) ولا تضمروا (فحلق). قلنا: هكذا يقتضي الظاهر ولو خلينا وإياه لم نضمر شيئا لكن أضمرناه بالاجماع ولا إجماع ولا دليل يقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه. ويعارضون بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله الصائم في السفر كالمفطر في الحضر (4). فإن قيل: معنى الخبر أن الصائم في السفر الذي يعتقد أن الفطر لا يجوز له كالمفطر في الحضر الذي يعتقد أن الصوم لا يجب عليه. قلنا: هذا تخصيص للظاهر بغير دليل، والظاهر أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر في سائر الأحكام التي من جملتها لزوم القضاء. على أن هذا تأويل منهم فاسد، لأن أحدا من المسلمين لا يسوي بين من صام في السفر واعتقد أن الفطر لا يجوز له وبين المفطر في الحضر الذي يعتقد أن الصوم غير واجب عليه، لأن الاعتقاد الأول طريقه الاجتهاد عندهم وفيه بعض العذر لمعتقده. والاعتقاد الثاني بخلاف ذلك، وربما كان كفرا. فإن استدلوا بما رواه أنس من أنهم كانوا يسافرون مع النبي (صلى الله


(1) البحر الزخار: ج 3 / 231، أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 214، المجموع: ج 6 / 264.
(2) سورة البقرة: الآية 184.
(3) سورة البقرة: الآية 196.
(4) سنن النسائي: ج 4 / 183، سنن البيهقي: ج 4 / 244.

[ 192 ]

عليه وآله) في رمضان فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم لا يعيب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء (1). وبما روي أن حمزة بن عمر الأسلمي أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن الصوم في السفر، فقال ” عليه وآله السلام “: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر (2). قلنا لهم: نحمل هذه الأخبار على صوم التطوع، فإن التطوع بالصوم في السفر عندنا جائز أو نحمله على صوم نذر معين، ونعارض هذه الأخبار بما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله [ من قوله ] (3) ليس من البر الصيام في السفر. (مسألة) [ 88 ] [ صيام المريض ] ومما انفردت به الإمامية أن المريض الذي أبيح له بالاجماع الفطر في شهر رمضان متى تكلف الصوم لم يجزئه ووجب عليه القضاء لأن باقي الفقهاء يخالفون في ذلك، ولا يوجبون عليه القضاء (4). والحجة في هذه المسألة: هي الحجة في المسألة الأولى من الإجماع والآية التي تلوناها (5) وبينا الكلام فيها فلا معنى لإعادته.


(1) صحيح البخاري: ج 3 / 44، سنن أبي داود: ج 2 / 316، سنن البيهقي: ج 4 244.
(2) صحيح البخاري: ج 3 / 43 سنن البيهقي: ج 4 / 242.
(3) ساقط من (ألف) و (ب).
(4) اختلاف العلماء: ص 67.
(5) في ” ألف “: ذكرناها.

[ 193 ]

(مسألة) [ 89 ] [ لو تعذر الصوم لكبر ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من بلغ من الهرم إلى حد يتعذر معه الصوم وجب عليه الافطار بلا كفارة ولا فدية، وإن كان من ذكرنا حاله لو تكلف الصوم لتم له لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها والضرر العظيم كان له أن يفطر ويكفر عن كل يوم بمد من الطعام. وهذا التفصيل لا يعرفه باقي (1) الفقهاء، فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا في الشيخ الذي لا يطيق الصيام يفطر ويطعم في كل يوم نصف صاع من حنطة (2). وقال الثوري: يطعم ولم يذكر المبلغ (3). وقال الشافعي: يفطر ويطعم في كل يوم مدا (4). وقال مالك: لا أرى عليه إطعاما فإن فعل فحسن، وكذلك قال ربيعة (5). والحجة في مذهبنا: إجماع الطائفة. ومما يجوز أن يستدل به على أن الشيخ الذي لا يطيق الصيام ويجوز له الافطار من غير فدية، قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (6)، وإذا لم


(1) في ” ألف ” و ” ب “: لا نعرفه لباقي.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 / 207 المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 100 المجموع: ج 6 / 259 الشرح الكبير: ج 3 / 16.
(3) عمدة القاري: ج 1 / 51 الشرح الكبير: ج 3 / 16.
(4) الأم: ج 2 / 104 الشرح الكبير: ج 3 / 16، عمدة القاري: ج 11 / 51 – 52.
(5) المدونة الكبرى: ج 1 / 210 – 211، المجموع: ج 6 / 256 و 259 المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 100، الشرح الكبير: ج 3 / 16 عمدة القاري: ج 11 / 51.
(6) سورة البقرة: الآية 286.

[ 194 ]

يكن في وسع الشيخ الصوم خرج من الخطاب به ولا فدية عليه إذا أفطر، لأن الفدية إنما تكون عن تقصير وإذا لم يطق الشيخ الصوم فلا تقصير وقع منه. ويدل على أن من أطاق من الشيوخ الصوم لكن بمشقة شديدة يخشى منها المرض يجوز له أن يفطر ويفدي، قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) (1) ومعنى الآية أن الفدية تلزم مع الافطار. وكأن الله تعالى خير في ابتداء الأمر بهذه الآية للناس كلهم بين الصوم وبين الافطار والفدية ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (2) وأجمعوا على تناول هذه الآية لكل من عدا الشيخ الهرم ممن لا يشق عليه الصوم، ولم يقم دليل على أن الشيخ إذا خاف الضرر دخل في هذه الآية، فهو إذن تحت حكم الآية الأولى التي تناولته كما تناولت غيره ونسخت عن غيره وبقيت فيه، فيجب أن تلزمه الفدية إذا أفطر لأنه مطيق للصوم. (مسألة) [ 90 ] [ حكم من أفطر يوما نذر صومه ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من نذر صوم يوم بعينه فأفطره لغير عذر وجب عليه قضاؤه، ومن الكفارة ما يجب على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا بلا عذر. وباقي الفقهاء يخالف في ذلك ولا يوجبون الكفارة (3).


(1) سورة البقرة: الآية 184.
(2) سورة البقرة: الآية 185.
(3) اختلاف العلماء: ص 68.

[ 195 ]

دليلنا الإجماع المتردد وطريقة الاحتياط وبراءة الذمة. ومخالفونا إذا كانوا يذهبون إلى القياس كيف ذهب عليهم أن حكم النذر في الوجوب حكم يوم من شهر رمضان؟ فكيف افترقا في وجوب الكفارة على المفطر فيهما؟ فإن قالوا: لأن النذر وجب عليه بسبب من جهته، وصوم [ يوم من شهر ] (1) رمضان وجب عليه ابتداء. قلنا: وأي تأثير لهذا الفرق في سقوط الكفارة؟ وقد علمنا أنهما مع الافتراق فيما ذكرتم ينقضي صومه ويفسده في النذر، كل ما أفسده في صوم شهر رمضان، وأحكام الصومين كلها غير مختلفة وإن افترقا من الوجه الذي ذكرتم. (مسألة) [ 91 ] [ حكم من أفطر في قضاء رمضان ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن من نوى من الليل صيام يوم بعينه قضاء عن شهر رمضان فتعمد الافطار فيه لغير عذر، وكان إفطاره بعد الزوال وجب عليه كفارة، وهي إطعام عشرة مساكين وصيام يوم بدله، وإن لم يقدر على الاطعام أجزأه أن يصوم ثلاثة أيام عن ذلك، وإن كان إفطاره في هذا اليوم قبل الزوال كان عليه قضاء اليوم ولا كفارة عليه. وباقي الفقهاء لا يعرفون هذا التفصيل، ولا يوجبون هاهنا كفارة بل قضاء يوم فقط (2).


(1) ساقط من ” ألف ” و ” م “.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 ص 216.

[ 196 ]

والحجة لمذهبنا: الإجماع الذي يتكرر، وطريقة الاحتياط وبراءة الذمة. (مسألة) [ 92 ] [ كفارة الافطار في رمضان ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن كفارة الافطار في شهر رمضان على سبيل التعمد عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وأنها على التخيير لا الترتيب. وقد روي عن مالك التخيير بين هذه الثلاث (1) كما تقول الإمامية، وعند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي أنها مرتبة ككفارة الظهار (2). والذي يدل على صحة مذهب الإمامية: الإجماع المتكرر. ويعارض المخالفون بما رواه ابن جريح عن الزهري، ورواه أيضا مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر من أفطر في شهر رمضان أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا (3). وليس لأحد أن يحمل لفظة أو في الخبر على الواو كما قال تعالى: (مائة ألف أو يزيدون) (4) لأن ذلك مجاز، والكلام على ظاهره. ولا له أن يدعي


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 218 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 65 بداية المجتهد: ج 1 / 315 المحلى: ج 6 / 197 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 71 عمدة القاري: ج 11 / 33. الفتاوى الهندية: ج 1 / 215 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 71 الأم ج 2 / 103 المغني (لابن قدامة) ج 3 / 65 المحلى ح 6 / 197 بداية المجتهد ج 1 / 315.
(3) مسند أحمد بن حنبل: ج 2 / 273 سنن البيهقي: ج 4 / 225 سنن الدارقطني: ج 1 / 243 و 252 سنن ابن ماجة: ج 1 / 534.
(4) سورة الصافات: الآية 147.

[ 197 ]

حذفا في الخبر، ويكون تقدير الكلام أو صيام شهرين إن تعذر عليه العتق لأن الظاهر لا يقتضي الحذف. ونحن مع الظاهر وليس للمخالف أن يتعلق بما روي عنه عليه السلام من قوله: من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر (1)، لأن المعنى في ذلك التسوية بينهما في جنس الكفارة لا في كيفيتها من ترتيب أو تخيير، ولا إشكال في أن كفارة المظاهر من جنس كفارة المفطر في شهر رمضان، وإنما الخلاف في الكيفية من ترتيب أو تخيير. ولا تعلق لهم أيضا بما يروى عنه عليه السلام من قوله وقد جاءه رجل فقال: أفطرت في رمضان، فقال ” عليه السلام ” أعتق رقبة (2)، وذلك أن من قال بالتخيير يذهب إلى أنه مأمور بكل واحدة من الكفارات، فلم يلزمه عليه السلام من عتق الرقبة إلا ما هو واجب في هذه الحال، ولم يقل له: أعتق رقبة فإنه لا يجزئك سواها، كما لم يقل له أنت مخير بينها وبين غيرها، فظاهر الخبر إذن لا حجة فيه علينا. (مسألة) [ 93 ] [ قضاء الصوم عن الميت ] ومما ظن انفراد الإمامية به -: ولها فيه موافق سنذكره القول بأن الصوم يقضى عن الميت، كأنا فرضنا رجلا مات وعليه أيام من شهر رمضان لم يقضها بغير عذر فيتصدق عنه لكل يوم بمد من طعام، فإن لم يكن له مال صام عنه وليه، فإن كان له وليان فأكبرهما.


(1) سنن البيهقي: ج 4 / 229.
(2) صحيح مسلم (بشرح النووي): ج 7 / 226 – 227.

[ 198 ]

وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يرون أنه يصام عن الميت بل يتصدق عنه (1). وحكي عن أبي ثور أنه يصام عن الميت في قضاء رمضان، وفي النذر (2) وهذه موافقة للإمامية. والحجة للإمامية الإجماع المتكرر، وقد طعن على ما نقوله بقوله تعالى: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) (3) وأن ذلك ينفي أن يكون سعي غيره له، وبما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث (4) (5) ولم يذكر فيه الصوم عنه. والجواب عن ذلك أن الآية إنما يقتضي أن لا ثواب للانسان إلا بسعيه، ونحن لا نقول أن الميت يثاب بصوم الحي. وتحقيق القول في هذا الموضع: أن من مات وعليه صوم فقد جعل الله تعالى هذه الحال له سببا في وجوب صوم على وليه وسماه قضاء، لأن سببه التفريط المتقدم، والثواب على الحقيقة في هذا الفعل لفاعله دون الميت. فإن قيل: فما معنى قولهم: صام عنه، إذا كان لا يلحقه وهو ميت ثواب، ولا حكم لأجل هذا العمل. قلنا: معنى ذلك أنه صام وسبب صومه تفريط الميت، ولأنه حصلت به


(1) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 82 – 83 الشرح الكبير: ج 3 / 82 اختلاف العلماء: ص 68، المصنف: ج 4 / 237.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 82 – 83 اختلاف العلماء: 68.
(3) سورة النجم: الآية 39.
(4) سنن أبي داود: ج 3 / 117، سنن البيهقي: ج 6 / 278.
(5) في ” ألف ” بعدها: صدقة جارية، وولد صالح يترحم عنه، وعلم ينتفع به.

[ 199 ]

علقة، قيل: عنه من حيث كان التفريط المتقدم سببا في لزوم هذا الصوم. فأما الخبر الذي رووه فمحمول أيضا على هذا المعنى، وأن المؤمن ينقطع بعد موته عمله فلا يلحقه ثواب ولا غيره، والذي ذهبنا إليه يخالف ذلك. وخبرهم هذا يعارض بما يروونه عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1). وفي خبر آخر أن امرأة جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: إنه كان على أمي صوم شهر رمضان أفأقضيه عنها؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أرأيت لو كان على أمك دين أكنت تقضينه؟ قالت: نعم قال (صلى الله عليه وآله): فدين الله أحق أن يقضى (2). وبما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله في صوم النذر أنه أمر وليه أن يصوم عنه (3). (مسألة) [ 94 ] [ الأماكن التي يجوز الاعتكاف فيها ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الاعتكاف لا ينعقد إلا في مسجد صلى فيه إمام عدل بالناس الجمعة وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الكوفة ومسجد البصرة.


(1) صحيح البخاري: ج 3 / 46 سنن أبي داود: ج 3 / 237 صحيح مسلم: ج 2 / 803.
(2) صحيح البخاري: ج 3 / 46 مسند أحمد: ج 1 / 224 و 227 سنن أبي داود: ج 3 / 237 سنن البيهقي: ج 4 / 255.
(3) سنن الترمذي: ج 4 / 117 صحيح البخاري ج 8 / 177 سنن أبي داود: ج 3 / 237 سنن البيهقي: ج 4 / 256 – 257.

[ 200 ]

وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: يجوز الاعتكاف في كل مسجد جماعة (1)، وبذلك قال الثوري، وفي إحدى الروايتين عن مالك.
(2) وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا يعتكف أحد إلا في مسجد الجامع وفي رحاب المساجد التي يجوز الصلاة فيها.
(3) وذهب حذيفة إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله ومسجد إبراهيم الخليل عليه السلام.
(4) والحجة لنا مضافا إلى الإجماع طريقة الاحتياط وبراءة الذمة، لأن من أوجب على نفسه اعتكافا بنذر يجب أن يتيقن براءة ذمته منه مما وجب عليه، ولا يحصل له اليقين إلا بأن يعتكف في المواضع التي عيناها، ولأن الاعتكاف حكم شرعي ويرجع في مكانه إلى الشرع، ولا خلاف في الأمكنة التي عيناها مشروعة فيه، ولا دليل على جوازه فيما عداها، ولا اعتراض على ما قلناه بقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) (5) لأن هذا اللفظ مجمل، ولفظ المساجد هاهنا ينبئ عن الجنس لا عن الاستغراق، ولا منافاة بينه وبين مذهبنا.


(1) في ” ألف ” صلي فيه جماعة.
(2) اللباب ج 1 / 176 الهداية: ج 1 / 132 المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 115 المدونة الكبرى: ج 1 / 225 الفتاوى الهندية: ج 1 / 211 المجموع ج 6 / 483 بداية المجتهد: ج 1 / 324 شرح فتح القدير: ج 2 / 308 عمدة القاري: ج 11 / 142 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 121 و 124.
(3) بداية المجتهد: ج 1 / 324 اختلاف العلماء: ص 76، عمدة القاري ج 11 / 142.
(4) المحلى: ج 5 / 194، بداية المجتهد: ج 1 / 324 المجموع: ج 6 / 483 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 124، شرح فتح القدير: ج 2 / 308 عمدة القاري: ج 11 / 141، المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 115.
(5) سورة البقرة: الآية 187.

[ 201 ]

ويجوز أن يكون وجه تخصيص هذه المساجد الأربعة لتأكد حرمتها وفضلها وشرفها على غيرها. (مسألة) [ 95 ] [ كفارة جماع المعتكف ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن المعتكف إذا جامع نهارا كان عليه كفارتان، وإذا جامع ليلا كفارة واحدة. وإن أكره زوجته وهي معتكفة نهارا كان عليه أربع كفارات، وإن أكرهها وهي معتكفة ليلا كان عليه كفارتان، والكفارة هي التي تلزم المجامع نهارا في شهر رمضان. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يلزمون مفسد اعتكافه شيئا سوى القضاء (1). وذهب الزهري والحسن إلى أنه إن وطئ في الاعتكاف لزمته الكفارة (2). وهذا القول يوافق من وجه قول الإمامية، إلا أننا ما نظنهما أنهما كانا يذهبان إلى أن الكفارة تلزم في الوطء بالليل كما ذهبت الإمامية إليه، دليلنا الإجماع المتقدم وطريقة الاحتياط، ولأن المعتكف قد لزمه حكم من أفسد اعتكافه بلا خلاف، وإذا فعل ما ذكرناه برئت ذمته بيقين وبلا خلاف، وليس كذلك إذا قضى ولم يكفر.


(1) المحلى: ج 5 / 192، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 142 – 143، شرح فتح القدير: ج 2 / 313 الشرح الكبير: ج 3 / 142 – 143.
(2) بداية المجتهد: ج 1 / 328، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 143، الشرح الكبير: ج 3 / 143.

[ 202 ]

(مسألة) [ 96 ] [ أقل الاعتكاف ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام. ومن عداهم من الفقهاء يخالفون في ذلك، لأن أبا حنيفة والشافعي يجوزان أن يعتكف يوما واحدا (1). وقال مالك: لا اعتكاف أقل من عشرة أيام، (2) دليلنا على ما ذهبنا إليه: الإجماع المتكرر، وأيضا فإن مقادير أزمنة العبادات لا تعلم إلا بالنص وطريقة العلم وما تقوله الإمامية من الزمان مستند إلى ما هذه صفته، وما يقوله مخالفها يستند إلى طريقة الظن، والظن لا مجال له فيما جرى هذا المجرى. فتعلق مالك بأن النبي (عليه السلام) اعتكف في العشر الأواخر (3) ليس بشئ لأن اعتكافه (عليه السلام) عشرة أيام لا يدل على أنه لا يجزي أقل منها. وتعلق من حده بيوم (4) أو أقل من ذلك بقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وأن الظاهر يتناول الزمان الطويل والقصير غير صحيح، لأن الاعتكاف اسم شرعي. ومن ذهب إلى أنه ما انتقل في الشرع وأنه اسم للبث المقصود بالعبادة


(1) شرح فتح القدير: ج 2 / 307 المحلى ج 5 / 180 المجموع ج 6 / 489 و 491، عمدة القاري: ج 11 / 140.
(2) بداية المجتهد: ج 1 / 325 المحلى: ج 5 / 180.
(3) صحيح البخاري: ج 3 / 62 صحيح مسلم: ج 2 / 830 سنن أبي داود ج 2 / 445.
(4) في ” ألف و ” ب “: بيوم واحد.

[ 203 ]

يجعل له شروطا شرعية تراعى في إجراء الاسم عليه فلا بد من الرجوع إلى الشرع في الاسم أو في شروطه، والله تعالى نهى عن المباشرة مع الاعتكاف، فمن أين لهم أن ما يكون في أقل من ثلاثة أيام يتناوله هذا الاسم وتحصل له الشروط الشرعية فلا دلالة إذن في هذا الظاهر. (مسألة) [ 97 ] [ إستظلال المعتكف ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن المعتكف ليس له إذا خرج من المسجد أن يستظل بسقف حتى يرجع إليه. والثوري (1) يوافق الإمامية في ذلك. وحكى عنه الطحاوي في كتاب الاختلاف أن المعتكف لا يدخل تحت سقف إلا أن يكون ممره فيه، فإن دخل فسد اعتكافه (2). وباقي الفقهاء يجيزون له الاستظلال بالسقف (3). والحجة للإمامية الإجماع المتقدم وطريقة الاحتياط واليقين بأن العبادة ما فسدت إلا بيقين ولا يقين إلا باجتناب ما ذكرناه. (مسألة) [ 98 ] [ خروج المعتكف لعيادة مريض أو تشييع جنازة ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن للمعتكف أن يعود المريض ويشيع


(1) المجموع: ج 6 / 536.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 248.
(3) المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 117، المجموع: ج 6 / 536.

[ 204 ]

الجنازة وهو مذهب الحسن بن حي (1)، وإنما خالف فيه باقي الفقهاء (2) وروي عن الثوري أنه أجاز له عيادة المريض (3). والحجة للإمامية الإجماع المتقدم، وأيضا فإن تشييع الجنازة والصلاة على الميت من فروض الكفايات وعيادة المرضى من السنن المؤكدة المفضلة، والاعتكاف لا يمنع من العبادات. (مسألة) [ 99 ] [ حكم ما لو باع المعتكف أو اشترى ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول بأن ليس للمعتكف أن يبيع ويشتري ويتجر، ومالك (4) يوافق الإمامية في ذلك وإن كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي يجيزون للمعتكف التجارة والبيع والشراء (5). والحجة للإمامية الإجماع المتقدم، لأن من اجتنب التجارة صح اعتكافه ولم يفسد بيقين وليس كذلك من أتجر.


(1) المحلى: ج 5 / 190 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 137 الشرح الكبير: ج 3 / 137.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 / 212 المدونة الكبرى: ج 1 / 229 المبسوط (للسرخسي) ج 3 / 118 المجموع: ج 6 / 510 – 512 المحلى: ج 5 / 190 – 192 عمدة القاري: ج 11 / 145.
(3) المحلى ج 5 / 190 اختلاف العلماء: ص 76 سنن الترمذي: ج 3 / 168 عمدة القاري: ج 11 / 145.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 229 المجموع: ج 6 / 535 المحلى: ج 5 / 192.
(5) اللباب: ج 1 / 176 المبسوط ج 3 / 121 الهداية ج 1 / 133 المجموع ج 6 / 535 الأم: ج 2 / 105 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 147 الشرح الكبير: ج 3 / 147 المحلى: ج 5 / 192.

[ 205 ]

كتاب الزكاة


[ 206 ]

[ كتاب الزكاة ] (مسألة) [ 100 ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن الزكاة لا تجب إلا في تسعة أصناف: الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم، ولا زكاة فيما عدا ذلك. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1)، وحكي عن ابن أبي ليلى والثوري وابن حي أنه ليس في شئ من الزروع زكاة إلا الحنطة والشعير والتمر والزبيب (2) وهذه موافقة للإمامية. وأبو حنيفة وزفر يوجبان العشر في جميع ما أنبتت الأرض إلا الحطب والقصب والحشيش (3).


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 2 – 4 المجموع: ج 5 / 456 بداية المجتهد: ج 1 / 260 – 261 الهداية: ج 1 / 109 المحلى ج 5 / 210 – 211 الفتاوى الهندية: ج 1 / 186 الأم: ج 2 / 34 – 36 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 549 – 550 عمدة القاري: ج 8 / 260.
(2) المجموع: ج 5 / 456 المغني (لابن قدامة) ج 2 / 550 المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 4 بداية المجتهد: ج 1 / 260 اختلاف العلماء ص 117.
(3) اللباب: ج 1 / 150 الفتاوى الهندية: ج 1 / 186 الهداية ج 1 / 209 المبسوط (للسرخسي)، ج 3 / 2، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 550 المجموع: ج 5 / 456 المحلى: ج 5 / 211 بداية المجتهد: ج 1 / 260، عمدة القاري: ج 8 / 260.

[ 207 ]

وأبو يوسف ومحمد يقولان: لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية ولا شئ في الخضروات (1). وقال مالك: الحبوب كلها فيها الزكاة وفي الزيتون (2). وقال الشافعي إنما تجب فيما ييبس ويقتات ويذخر مأكولا، ولا شئ في الزيتون (3). والذي يدل على صحة مذهبنا مضافا إلى الإجماع أن الأصل براءة الذمة من الزكوات وإنما يرجع إلى الأدلة الشرعية في وجوب ما يجب منها، ولا خلاف فيما أوجبت الإمامية الزكاة فيه وما عداه فلم يقم دليل قاطع على وجوب الزكاة فيه فهو باق على الأصل. وقوله تعالى (ولا يسألكم أموالكم) (4) والمعنى أنه لا يوجب حقوقا في أموالكم لأنه تعالى لا يسألنا أموالنا إلا على هذا الوجه وهذا الظاهر يمنع من وجوب حق في الأموال فما أخرجناه منه فهو بالدليل القاطع وما عداه باق تحت الظاهر. فإن تعلقوا بقوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) (5) وأنه عام في جميع الزروع وغيرها مما ذكره في الآية. فالجواب عنه أنا لا نسلم أن قوله تعالى: (وآتوا حقه) يتناول العشر أو


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 2 المحلى: ج 5 / 211 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 549.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 348 – 349 بداية المجتهد: ج 1 / 260 – 261 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 549 و 553 الشرح الكبير ج 2 / 550 اختلاف العلماء ص 117.
(3) الأم ج 2 / 34 المجموع: ج 5 / 493 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 549 – 550 الشرح الكبير: ج 2 / 550 بداية المجتهد: ج 1 / 260 – 261.
(4) سورة محمد: الآية 36.
(5) سورة الأنعام: الآية 141.

[ 208 ]

نصف العشر المأخوذ على سبيل الزكاة، فمن ادعى تناوله لذلك فعليه الدلالة. وعند أصحابنا أن ذلك يتناول ما يعطي المسكين والفقير والمجتاز (1) وقت الحصاد من الحفنة والضغث، فقد رووا ذلك عن أئمتهم عليهم السلام. فمنه ما روي عن أبي جعفر ” عليه السلام ” في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: ليس ذلك الزكاة ألا ترى أنه تعالى قال: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (2). وهذه نكتة منه عليه السلام مليحة لأن النهي عن السرف لا يكون إلا فيما ليس بمقدر، والزكاة مقدرة. وروي عن أبي عبد الله ” عليه السلام ” أنه قيل له: يا ابن رسول الله وما حقه؟ قال: يناول منه المسكين والسائل (3)، والأحاديث بذلك كثيرة. ويكفي احتمال اللفظ له. وإن كان يقوي هذا التأويل أن الآية يقتضي أن يكون العطاء في وقت الحصاد، والعشر المفروض في الزكاة لا يكون في تلك الحال لأن العشر مكيل ولا يؤخذ إلا من مكيل، وفي وقت الحصاد لا يكون مكيلا ولا يمكن كيله، وإنما يكال بعد جفافه وتذريته وتصفيته، فتعليق العطاء بتلك الحال لا يليق إلا بما ذكرناه. ويقوي أيضا هذا التأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من النهي عن الحصاد والجذاذ بالليل (4)، والجذاذ هو صرام النخل وإنما نهى ” عليه السلام ” عن ذلك لما فيه من حرمان المساكين ما ينبذ إليهم من ذلك. وما يقوله قوم في هذه الآية من أنها مجملة فلا دليل لهم فيها ليس بصحيح


(1) في ” ألف “: المجتازين.
(2) سورة الأنعام: الآية 141.
(3) تفسير العياشي: ج 1 / 379 وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب زكاة الغلات ج 6 / 138.
(4) تفسير العياشي: ج 1 / 377، 379، 380، سنن البيهقي: ج 4 / 133.

[ 209 ]

لأن الاجمال هو مقدار الواجب لا الموجب فيه. فإن قيل: قد سماه الله تعالى حقا، وذلك لا يليق إلا بالواجب. قلنا: قد يطلق اسم الحق على الواجب والمندوب إليه، وقد روى جابر أن رجلا قال: يا رسول الله هل علي حق في إبلي سوى الزكاة؟ فقال عليه السلام: نعم تحمل عليها وتسقي من لبنها (1). فإن قالوا ظاهر قوله تعالى: (وآتوا حقه) يقتضي الوجوب وما ذكرتموه ليس بواجب. قلنا: إذا سلمنا أن ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب كان لنا طريقان من الكلام: أحدهما: أن نقول: أن ترك ظاهر من الكلام ليسلم ظاهر آخر له كترك ذلك الظاهر ليسلم هذا، وأنتم إذا حملتم الأمر على الوجوب هاهنا تركتم تعلق العطاء بوقت الحصاد، ونحن إذا حملنا الأمر في الآية على الندب يسلم لنا ظاهر تعلق العطاء بوقت الحصاد، وليس أحد الأمرين إلا كصاحبه وأنتم المستدلون بالآية فخرجت من أن تكون دليلا لكم. والطريق الآخر: أنا لو قلنا بوجوب هذا العطاء في وقت الحصاد وإن لم يكن مقدرا بل موكولا إلى اختيار المعطي لم نقل (2) بعيدا من الصواب. فإن تعلقوا بقوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) (3) وأن المراد بالنفقة هاهنا الصدقة بدلالة قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (4) يعني لا يخرجون زكاتها. فالجواب عن ذلك أن اسم النفقة لا يجري على الزكاة إلا مجازا، ولا يعقل


(1) لم نعثر عليه.
(2) في ” ألف ” يكن.
(3) البقرة: الآية 267.
(4) سورة التوبة: الآية 34.

[ 210 ]

من إطلاق لفظ الانفاق إلا ما كان في المباحات وما جرى مجراها. ثم لو سلمنا ظاهر العموم لجاز تخصيصه ببعض الأدلة التي ذكرناها. فإن قيل: كيف تدعون إجماع الإمامية وابن الجنيد يخالف في ذلك ويذهب إلى أن الزكاة واجبة في جميع الحبوب التي تخرجها الأرض وإن زادت على التسعة الأصناف التي ذكرناها (1)؟ وروي في ذلك أخبارا كثيرة عن أئمتكم ” عليهم السلام ” (2) وذكر أن يونس (3) كان يذهب إلى ذلك. قلنا: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد ولا يونس وإن كان يوافقه، والظاهر من مذهب الإمامية ما حكيناه. وقد تقدم إجماع الإمامية وتأخر عن ابن الجنيد ويونس. والأخبار التي تعلق ابن الجنيد بها الواردة من طريق الشيعة الإمامية معارضة بأظهر وأكثر وأقوى منها من رواياتهم (4) المعروفة المشهورة. ويمكن حملها بعد ذلك على أنها خرجت مخرج التقية، فإن الأكثر من مخالفي الإمامية يذهبون إلى أن الزكاة واجبة في الأصناف كلها، وإنما يوافق الإمامية منهم الشاذ النادر. ومما يقوي مذهبنا في هذه المسألة أن الذرة والعدس وكثيرا من الحبوب الخارجة من الحنطة والشعير والتمر كانت معروفة بالمدينة وأكنافها، وما نقل أحد من أهل السير عن أحد ممن بعثه النبي صلى الله عليه وآله لأخذ الصدقة أنه


(1) مختلف الشيعة: الزكاة / 180.
(2) الكافي: ج 3 / 510 – 512 تهذيب الأحكام: ج 4 / 74 – 65 وسائل الشيعة: باب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج 6 / 39 – 41.
(3) لا يوجد كتابه لدينا.
(4) الكافي: ج 3 / 497 تهذيب الأحكام: ج 4 / 2 – 6 من لا يحضره الفقيه ج 2 / 13 – 14 وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب زكاة الغلات ج 6 / 120.

[ 211 ]

أخذ في جملة ما أخذ عدسا ولا ذرة، كما رووا، وعينوا الحنطة والشعير والتمر فدل ذلك على أنه خارج عن أصناف ما يؤخذ منه الزكاة. (مسألة) [ 101 ] [ الزكاة في عروض التجارة ] ومما ظن انفراد الإمامية به نفي الزكاة عن عروض التجارة وقد وافقهم في ذلك داود بن علي وهو قول ابن عباس – رحمه الله – فيما رووه (1) عنه (2). وأبو حنيفة وأصحابه يوجبون في عروض التجارة الزكاة إذا بلغت قيمتها النصاب، وهو قول الثوري والأوزاعي وابن حي والشافعي (3). وقال مالك: إن كان إنما يبيع العرض بالعرض فلا زكاة حتى يقبض ماله وإن كان يبيع بالعين والعرض فإنه يزكي (4). وقال الليث: إذا ابتاع متاعا للتجارة فبقي عنده أحوالا فليس عليه إلا زكاة واحدة (5). دليلنا على صحة هذه المسألة: كل شئ دللنا به على أن الزكاة لا تجب فيما عدا الأصناف التسعة التي عيناها، وعروض التجارة خارجة عن تلك


(1) في ” ب ” و ” م “: رواه الحراني عنه.
(2) المجموع ج 6 / 47 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 622 المحلى: ج 5 / 235. اللباب: ج 1 / 148 – 149 الفتاوى الهندية: ج 1 / 179 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 190 – 191، الأم: ج 2 / 46 – 47 المجموع: ج 6 / 47 المحلى: ج 5 / 233 بداية المجتهد: ج 1 / 278 اختلاف العلماء: / 109، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 622.
(4) المدونة الكبرى ج 1 / 254 – 255 المحلى ج 5 / 233 بداية المجتهد: ج 1 / 278 المجموع: ج 6 / 47.
(5) لم نعثر عليه.

[ 212 ]

الأصناف فالطريقة تتناولها. ويمكن أن يعارضوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة (1). وعموم هذا الخبر يقتضي نفي الصدقة عما هو معرض للتجارة وعما ليس بمعرض لها، لأنه عليه السلام لم يفصل بينهما، وإذا ثبت نفي الصدقة عن العبد والفرس وإن كانا للتجارة ثبت فيما عداهما من العروض لأن أحدا لم يفصل بين الأمرين. وأيضا فإن أصول الشريعة تقتضي أن الزكوات إنما تجب في الأعيان لا الأثمان، وعروض التجارة عندهم إنما تجب في أثمانها لا أعيانها، وذلك مخالف لأصول الشريعة. فإن تعلقوا بقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (2) وهذا عموم يدخل فيه العروض (3). فالجواب عن ذلك أن أكثر ما في هذه الآية أن يكون لفظها عموما والعموم معرض للتخصيص، ونحن نخص هذا العموم ببعض ما تقدم من أدلتنا. على أن مخالفينا لا بد لهم من ترك هذا الظاهر في عروض التجارة، لأنهم يضمرون في تناول هذا اللفظ لعروض التجارة أن يبلغ قيمتها نصاب الزكاة، وهذا ترك للظاهر وخروج عنه ولا فرق بينهم فيه وبيننا إذا حملنا اللفظة في الآية على الأصناف التي أجمعنا على وجوب الزكاة فيها، وإذا قمنا في ذلك مقامهم وهم المستدلون بالآية بطل استدلالهم.


(1) صحيح البخاري: ج 2 / 149 صحيح مسلم: ج 2 / 675 – 676 سنن أبي داود: ج 2 / 108 ح 1595، سنن ابن ماجة: ج 1 / 579 ح 1812 سنن الترمذي ج 3 / 23 – 24 سنن النسائي: ج 5 / 35 – 36، سنن البيهقي: ج 4 / 117.
(2) سورة التوبة: الآية 103. (3) في ” م “: وأن عموم القول يتناول عروض التجارة.

[ 213 ]

وبمثل هذا الكلام ونبطل تعلقهم بقوله تعالى (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (1) ويمكن في هذه الآية أن يقال أنها خرجت مخرج المدح لهم بما فعلوه لا على سبيل إيجاب الحق في أموالهم، لأنه تعالى قال: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (2) فأخرج الكلام كله مخرج المدح لهم بما فعلوه، وليس في إيجاب الله تعالى في أموالهم حقا معلوما مدح لهم ولا ما يوجب الثناء عليهم، فعلم أن المعنى ويعطون من أموالهم حقا معلوما للسائل والمحروم، وما يفعلونه من ذلك ليس بلازم أن يكون واجبا بل قد يكون نفلا ومتطوعا، فقد يمدح الفاعل على ما يتطوع به كما يمدح على فعل ما يجب عليه. ولا تعلق لهم بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) (3) لأن اسم الزكاة اسم شرعي ونحن لا نسلم أن في عروض التجارة زكاة فيتناولها الاسم فعلى من ادعى ذلك أن يدل عليه. ولا تعلق لهم بما يروى عنه عليه السلام من قوله: حصنوا أموالكم بالصدقة (4)، وأن لفظة الأموال يدخل تحتها عروض التجارة، وذلك أنه ليس في الظاهر أنا نحصن كل مال بصدقة منه، وليس يمتنع أن نحصن أمول التجارة وما لا يجب فيه الزكاة بالصدقة مما يجب فيه الزكاة.


(1) سورة الذاريات: الآية 19.
(2) سورة الذاريات: الآية 17 – 19.
(3) سورة النور: الآية 56 سورة المجادلة: الآية 13، سورة المزمل: الآية 20.
(4) كنز العمال ج 6 / 293، عوالي اللئالي: ج 1 / 353.

[ 214 ]

(مسألة) [ 102 ] [ زكاة النقدين ] ومما انفردت به الإمامية نفي الزكاة عن الذهب والفضة على اختلاف أحوالهما إلا أن يكون درهما أو دينارا مضروبا منقوشا. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويوجبون الزكاة في جميع الأحوال (1) إلا الشافعي فإنه لا يوجب الزكاة في الحلي المصاغ على أظهر قوليه.
(2) دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة ما قدمنا ذكره أيضا من أن الأصل براءة الذمة، ولم يقم دليل قاطع على أن ما عدا الدراهم والدنانير من المصوغات وغيرها يجب فيه الزكاة ونحن على حكم الأصل. فإن تعلقوا بالأخبار (3) التي وردت في إيجاب الزكاة على الذهب والفضة على الإطلاق فهذه أولا: كلها أخبار آحاد نعارضها بالأخبار الواردة بأنه لا زكاة إلا في الدراهم والدنانير (4) على أنا نحمل تلك الأخبار العامة على أن المراد بها الدراهم والدنانير لأنهما من فضة وذهب. (مسألة) [ 103 ] [ إذا بلغت الإبل خمسا وعشرين ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الإبل إذا بلغت خمسا وعشرين ففيها


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 191 – 192 اللباب: ج 1 / 148 فتح العزيز: ج 6 / 20 – 21.
(2) الأم: ج 2 / 41 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 603 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 192.
(3) دعائم الاسلام: ص 248. (4) المصنف: ج 4 / 82 ح 7048 و 7049، والكافي: ج 3 / 517 – 518، وتهذيب الأحكام: ج 4 / 8.

[ 215 ]

خمس شياه، لأن باقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويوجبون في خمس وعشرين ابنة مخاض (1)، دليلنا الإجماع المتقدم. فإن قيل قد خالفها أبو علي بن الجنيد في ذلك وقال: إن في خمس وعشرين ابنة مخاض فإن لم تكن في الإبل فابن لبون فإن لم يكن فخمس شياه فإن زادت على خمس وعشرين واحدة ففيها ابنة مخاض (2). قلنا: إجماع الإمامية قد تقدم ابن الجنيد وتأخر عنه وإنما عول ابن الجنيد في هذا المذهب على بعض الأخبار المروية عن أئمتنا (عليهم السلام) (3) ومثل هذه الأخبار لا يعول عليها ويمكن أن يحمل ذكر بنت المخاض وابن اللبون في خمس وعشرين على أن ذلك على سبيل القيمة ما هو الواجب من خمس شياه وعندنا أن القيم يجوز أخذها في الصدقات. مسألة [ 104 ] [ لو زادت الإبل عن مائة وعشرين ] ومما ظن انفراد الإمامية به وقد وافقها غيرها من الفقهاء فيه قولهم: إن الإبل إذا بلغت مائة وعشرين ثم زادت فلا شئ عليه في زيادتها حتى تبلغ مائة وثلاثين فإذا بلغتها ففيها حقة واحدة وابنتا لبون وأنه لا شئ في الزيادة ما بين العشرين والثلاثين. وهذا مذهب مالك (4) بعينه.


(1) الأم: ج 2 / 5 الهداية: ج 1 / 98 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 150 فتح العزيز ج 5 / 318.
(2) مختلف الشيعة: ص 175.
(3) الكافي: ج 3 / 531 ح 1 تهذيب الأحكام: ج 4 / 22 ح 4 الاستبصار: ج 2 / 20 ح 4.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 307 بداية المجتهد: ج 1 / 267 المجموع: ج 5 / 400 المغني (لابن قدامة): ج 2 / 445 فتح العزيز: ج 5 / 320 عمدة القاري: ج 9 / 20.

[ 216 ]

والشافعي يذهب إلى أنها إذا زادت واحدة على مائة وعشرين كان فيها ثلاث بنات لبون (1). وعند أبي حنيفة وأصحابه فيما زاد على مائة وعشرين إنه تستقبل الفريضة ويخرج من كل خمسة زائدة على العشرين شاة فإذا بلغت الزيادة خمسا وعشرين أخرج ابنة مخاض (2). والذي يدل على صحة مذهبنا: بعد الإجماع المتردد أن الأصل هو براءة الذمة من الزكاة، وقد اتفقنا على ما يخرج من الإبل إذا كانت مائة وعشرين واختلفت الأمة فيما زاد على العشرين فيما بينها وبين الثلاثين، ولم يقم دليل قاطع على وجوب شئ ما بينها وبين العشرين إلى أن تبلغ الزيادة ثلاثين فيجب فيها حقة وابنتا لبون عندنا وعند الشافعي ومالك (3). وعند أبي حنيفة تجب حقتان وشاتان (4)، فقد أجمعنا على وجوب الزكاة في مائة وثلاثين، ولم نجمع على وجوب شئ في الزيادة فيما بين العشرين والثلاثين، ولم يقم دليل قاطع فيجب أن يكون على الأصل. فإذا ذكرت الأخبار (5) المتضمنة أن الفريضة إذا زادت على عشرين ومائة تعاد الفريضة إلى أولها في كل خمس شاة، أو الخبر (6) المتضمن أنها إذا بلغت


(1) الأم: ج 2 / 5 – 6 بداية المجتهد: ج 1 / 267 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 151 عمدة القاري: ج 9 / 20.
(2) اللباب: ج 1 / 139 الفتاوى الهندية ج 1 / 177 المبسوط للسرخسي: ج 2 / 151 عمدة القاري: ج 9 / 20 بداية المجتهد: ج 1 / 267 فتح العزيز: ج 5 / 319 – 320. (3) المجموع ج 5 / 400 بداية المجتهد: ج 1 / 267 عمدة القاري: ج 9 / 20.
(4) الفتاوى الهندية: ج 1 / 277 بداية المجتهد: ج 1 / 267، المجموع: ج 5 / 400.
(5) سنن البيهقي: ج 6 / 92 – 93.
(6) كنز العمال: ج 6 / 315 – 316 سنن البيهقي: ج 4 / 91 – 92 المستدرك (للحاكم): ج 1 / 393 – 394.

[ 217 ]

مائة وإحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون. فجوابنا عن ذلك أن هذه كلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا تقتضي قطعا ونعارضها بما رووه عن طرقهم ووجد في كتبهم أنه وجد في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما زاد شئ دون ثلاثين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ابنتا لبون وحقة (1). فأما ما يعارض ما رووه من روايات أصحابنا عن أئمتنا (2) ” عليهم السلام ” فأكثر من أن يحصى، وإنما عارضناهم بما يعرفونه ويألفونه. (مسألة) [ 105 ] [ وجوب دفع الزكاة إلى الامامي ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن الزكاة لا تجزئ إلا إذا انصرفت إلى إمامي ولا تسقط عن الذمة بدفعها إلى مخالف. والحجة في ذلك: مضافا إلى الإجماع أن الدليل قد دل على أن خلاف الإمامية في أصولهم كفر وجار مجرى الردة، ولا خلاف بين المسلمين في أن المرتد لا تخرج إليه الزكاة.


(1) سنن أبي داود: ج 2 / 96 سنن الدار قطني: ج 2 / 116 ح 4 سنن البيهقي: ج 4 / 91 – 92، كنز العمال: ج 6 / 315.
(2) الكافي: ج 3 / 532 ح 1 تهذيب الأحكام: ج 4 / 20.

[ 218 ]

(مسألة) [ 106 ] [ عدم إجزاء الدفع إلى الفاسق ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الزكاة لا تخرج إلى الفساق وإن كانوا معتقدين الحق، وأجاز باقي الفقهاء أن تخرج إلى الفساق وأصحاب الكبائر (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة أيضا، لأن إخراجها إلى من ليس بفاسق مجزئ بلا خلاف، وإذا أخرجها إلى الفاسق فلا يقين ببراءة الذمة منها. ويمكن أن يستدل على ذلك بكل ظاهر من قرآن (2) أو سنة (3) مقطوع عليها يقتضي النهي عن معونة الفساق والعصاة وتقويتهم وذلك كثير. (مسألة) [ 107 ] [ أقل ما يعطى الفقير من الزكاة ] ومما انفردت به الإمامية القول بأنه لا يعطى الفقير الواحد من الزكاة المفروضة أقل من خمسة دراهم. ويروي أن الأقل درهم واحد (4). وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، ويجيزون إعطاء القليل والكثير من غير تحديد (5).


(1) اللباب: ج 1 / 153 – 157.
(2) سورة المائدة: آية 2.
(3) وسائل الشيعة: باب 7 من أبواب الأمر والنهي ج 11 ح 3 ص 415.
(4) جمل العلم والعمل ج 3 ص 79، مختلف الشيعة: كتاب الزكاة ص 185 س 38. (5) المدونة الكبرى: ج 2 / 54، المجموع: ج 6 / 202.

[ 219 ]

وحجتنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وطريقة الاحتياط وبراءة الذمة أيضا. (مسألة) [ 108 ] [ حكم من فر من الزكاة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من فر بدراهم أو دنانير من الزكاة فسبكها أو أبدل في الحول جنسا بغيره هربا من وجوب الزكاة فإن الزكاة تجب عليه إذا كان قصده بما فعله الهرب منها، وإن كان له غرض آخر سوى الفرار من الزكاة فلا زكاة عليه. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يوجبون على من ذكرناه الزكاة وإن كان قصده الهرب منها (1). وروي عن مالك وبعض التابعين أن عليه الزكاة (2). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة. فإن قيل: قد ذكر أبو علي بن الجنيد أن الزكاة لا تلزم الفار منها ببعض ما ذكرناه (3). قلنا: الإجماع قد تقدم ابن الجنيد وتأخر عنه، وإنما عول ابن الجنيد على أخبار رويت عن أئمتنا عليهم السلام (4)، تتضمن أنه لا زكاة عليه وإن فر بماله، وبإزاء تلك الأخبار مما هو أظهر منه وأقوى وأولى وأوضح طريقا تتضمن أن


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 166 المجموع: ج 5 / 468، مختصر المزني: ص 46.
(2) بداية المجتهد: ج 1 / 264 فتح العزيز: ج 5 / 492 المجموع: ج 5 / 468.
(3) مختلف الشيعة: كتاب الزكاة ص 173 س 38.
(4) من لا يحضره الفقيه: ج 2 / 17 ح 28.

[ 220 ]

الزكاة تلزمه (1). ويمكن حمل ما تضمن من الأخبار أنها لا تلزمه على التقية، فإن ذلك مذهب جميع المخالفين، ولا تأويل للأخبار التي وردت بأن الزكاة تلزمه إذا فر منها إلا إيجاب الزكاة، فالعمل بهذه الأخبار أولى. (مسألة) [ 109 ] [ في أن حول صغار الماشية مستقل عن حول أمهاتها ] ومما يظن انفراد الإمامية به القول: بأن السخال والفصلان والعجاجيل لا تضم إلى أمهاتها في الزكاة وإن بلغ عدد الأمهات النصاب، وسواء كانت هذه السخال متولدة عن هذه الأمهات التي في ملك صاحبها أو كانت مستفادة من جهة أخرى، لأن النخعي والحسن البصري يذهبان إلى مثل ما تذهب إليه الإمامية، ولا يجعلان حول الكبار حولا للصغار (2). وأبو حنيفة وأصحابه يضمون المستفاد إلى الأصل على كل حال ويزكونه بحول الأصل (3). والشافعي يضم إلى الأصل ما تولد منه خاصة بعد أن يبلغ الأصل النصاب (4). والحجة لمذهبنا الإجماع المتردد، وأيضا فإن الأصل براءة الذمة من الحقوق ولم يثبت بيقين وعلم قاطع أن في السخال زكاة مع الأمهات وإنما تضم إليها في الحول.


(1) تهذيب الأحكام: ج 4 / 94، الاستبصار: ج 2 / 40.
(2) المجموع: ج 5 / 374، بدائع الصنائع: ج 1 / 31، شرح فتح القدير: ج 1 / 504.
(3) الفتاوى الهندية: ج 1 / 248 الهداية: ج 1 / 101 المجموع: ج 5 / 373. (4) المجموع: ج 5 / 374 المغني لابن قدامة ج 2 / 470 – 471.

[ 221 ]

ويمكن أن نعارض المخالف بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (1)، وظاهر هذا الخبر يوجب أن المستفاد لا يضم إلى الأصل ويجعل أصل الحول حولا له، بل لا بد في المستفاد إذا كان من الجنس الذي تجب فيه الزكاة أن يستأنف له حول على استقبال حصوله (2) في الملك. وليس لهم أن يحتجوا بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: ويعد صغيرها وكبيرها (3)، ولم يفرق بين أحوالها، وذلك أن المراد بهذا الخبر أنه يعد الصغير والكبير إذا حال عليهما الحول لأنه لا خلاف في أن الحول معتبر، ومعنى الصغير والكبير هاهنا ليس المراد به ما نقص في سنه عن الحد الذي تجب فيه الزكاة، وإنما المراد الصغير والكبير مما بلغ سن الزكاة، ويجوز أن يراد بالصغير والكبير ها هنا العالي المنزلة والمنخفض المنزلة والكريم وغير الكريم فقد يكون في المواشي الكرائم وغير الكرائم. (مسألة) [ 110 ] [ دفع الزكاة إلى الهاشمي ] ومما يظن انفراد الإمامية به القول: بأنه يجوز أن يأخذ الهاشمي من زكاة الهاشمي، وإنما حرم على بني هاشم زكاة من عداهم من الناس، وقد وافقهم في ذلك أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فيما رواه عنه ابن سماعة. وحكى عنه أن


(1) مسند أحمد: ج 1 / 148 سنن أبي داود: ج 2 / 100 ذيل ح 1573، سنن الترمذي: ج 3 / 25 ح 631، سنن ابن ماجة: ج 1 / 517 ح 1792 سنن البيهقي: ج 4 / 95 كنز العمال: ج 6 / 331.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: استقلال بحصوله.
(3) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 153.

[ 222 ]

الزكاة من بني هاشم تحل لبني هاشم ولا يحل لهم ذلك من غيرهم (1). والحجة فيما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة ويمكن أن يقوي ذلك بأن الصدقة إنما حرمت عليهم تنزيها وتعظيما. وفي الأخبار الواردة (2) بحظر الصدقة عليهم ما يقتضي التنزيه والصيانة عما فيه مذلة وغضاضة، وهذا المعنى مفقود في بعضهم مع بعض. (مسألة) [ 111 ] [ جواز أخذ الهاشمي الزكاة إذا حرم الخمس ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الصدقة إنما تحرم على بني هاشم إذا تمكنوا من الخمس الذي جعل لهم عوضا عن الصدقة فإذا حرموه حلت لهم الصدقة. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (3). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد ويقوي هذا المذهب تظاهر الأخبار (4) بأن الله تعالى حرم الصدقة على بني هاشم وعوضهم بالخمس عنها فإذا سقط ما عوضوا به لم تحرم عليهم الصدقة.


(1) عمدة القاري: ج 9 / 81.
(2) سنن البيهقي: ج 7 / 32 – 33.
(3) المجموع: ج 6 / 167 و 168 و 227 عمدة القاري: ج 8 / 287 أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 132 المغني لابن قدامة ج 7 / 318 نيل الأوطار: ج 4 / 231 و 237.
(4) تفسير العياشي: ج 2 / 64 و 65.

[ 223 ]

(مسألة) [ 112 ] [ عتق المملوك من مال الزكاة ] ومما ظن انفراد الإمامية به إجازتهم أن يشترى من مال الزكاة المملوك فيعتق، ويقولون: إنه متى استفاد المعتق مالا ثم مات فماله لأهل الزكاة لأنه اشتري من مالهم. وقد روي عن مالك وأحمد بن حنبل مثل هذا القول الذي حكيناه (1). وروي عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: أعتق من زكاتك (2). فأما باقي الفقهاء من أبي حنيفة والشافعي وغيرهما فعندهم أنه لا يجوز العتق من الزكاة.
(3) دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وقوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) إلى قوله تعالى: (وفي الرقاب) (4) وهذا نص صريح في جواز عتق الرقبة من الزكاة. فإن قيل المراد بقوله تعالى: (وفي الرقاب) المكاتبون، فإن الفقهاء كلهم (5) يجيزون أن يعطى المكاتب من مال الزكاة إلا مالكا (6). قلنا نحمله على المكاتب وعلى من يبتاع فيعتق، لأنه لا تنافي بين الأمرين، وظاهر القول يقتضي الكل.


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 299 بداية المجتهد: ج 1 / 286 عمدة القاري: ج 9 / 45.
(2) عمدة القاري: ج 9 / 45.
(3) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 124.
(4) سورة التوبة: الآية 60.
(5) عمدة القاري ج 9 / 44.
(6) المدونة الكبرى: ج 1 / 299، عمدة القاري: ج 9 / 45.

[ 224 ]

(مسألة) [ 113 ] [ تكفين الميت وقضاء الدين عنه من الزكاة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الزكاة يجوز أن يكفن منها الموتى ويقضى بها الدين عن الميت. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك كله (1) والحجة لأصحابنا مضافا إلى إجماعهم قوله تعالى في آية وجوه الصدقة: (وفي سبيل الله وابن السبيل) (2)، ومعنى سبيل الله الطريق إلى ثوابه والوصلة إلى التقرب إليه، ولما كان ما ذكرناه متقربا إلى الله تعالى وموصلا إلى الثواب جاز صرفه فيه. فإذا قيل أن المراد بقوله تعالى (وفي سبيل الله) ما ينفق في جهاد العدو. قلنا: كل هذا مما يوصف بأنه سبيل الله تعالى وإرادة بعضه لا تمنع من إرادة بعض آخر. وقد روى مخالفونا عن ابن عمر أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله، فقال ابن عمر: إن الحج من سبيل الله فاجعلوه فيه (3). وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الحج والعمرة من سبيل الله (4). وقال محمد بن الحسن في الجامع (5) الكبير في رجل أوصى بماله في سبيل الله


(1) المغني (لابن قدامة) ج 2 / 527.
(2) سورة التوبة: آية 60.
(3) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 127. (4) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 127.
(5) في ” ألف ” و ” م “: السير.

[ 225 ]

تعالى أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به (1) وكل هذا يدل على أن هذا الاسم لا يختص بجهاد العدو. (مسألة) [ 114 ] [ ما يجب فيه الخمس وكيفية قسمته ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الخمس واجب في جميع المغانم والمكاسب ومما استخرج من المعادن والغوص والكنوز ومما فضل من أرباح التجارات والزراعات والصناعات بعد المؤنة والكفاية في طول السنة على اقتصاد. وجهات قسمته هو أن يقسم هذا الخمس على ستة أسهم ثلاثة منها للإمام القائم مقام الرسول (عليهما السلام) وهي سهم الله تعالى وسهم رسوله ” عليه السلام ” وسهم ذوي القربى، ومنهم من لا يخص الإمام بسهم ذي القربى ويجعله لجميع قرابة الرسول ” عليه السلام ” من بني هاشم، فأما الثلاثة الأسهم الباقية فهي ليتامى آل محمد عليهم السلام ومساكينهم وأبناء سبيلهم ولا تتعداهم إلى غيرهم ممن استحق هذه الأوصاف. ويقولون: إذا غنم المسلمون شيئا من دار الكفر بالسيف قسم الغنيمة الإمام على خمسة أسهم، فجعل أربعة منها بين من قاتل على ذلك وجعل السهم الخامس على ستة أسهم، ثلاثة منها له عليه السلام، وثلاثة للأصناف الثلاثة من أهله من أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم. وخالف سائر الفقهاء في ذلك وقالوا كلهم أقوالا خارجة عنه (2).


(1) لم نعثر عليه.
(2) المجموع ج 19 / 369 و 373 أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 60 – 62 المبسوط (للسرخسي) ج 10 / 8.

[ 226 ]

والحجة فيه: الإجماع المتكرر. فإن قيل: هذا المذهب يخالف ظاهر الكتاب، لأن الله تعالى قال: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) (1) وعموم الكلام يقتضي أن لا يكون ذو القربى واحدا وعموم قوله تعالى: (واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2) يقتضي تناوله لكل من كان بهذه الصفات ولا يختص ببني هاشم. قلنا: ليس يمتنع تخصيص ما ظاهره العموم بالأدلة على أنه لا خلاف بين الأمة في تخصيص هذه الظواهر، لأن ذا القربى عام وقد خصوه بقربى النبي (عليه السلام) دون غيره، ولفظ اليتامى والمساكين وابن السبيل عام في المشرك والذمي والغني والفقير، وقد خصه الجماعة ببعض من له هذه الصفة. على أن من ذهب من أصحابنا إلى أن ذا القربى هو الإمام القائم مقام الرسول عليه السلام خاصة، وسمي بذلك لقربه منه نسبا وتخصصا، الظاهر معه لأن قوله تعالى (ذي القربى) لفظ وحدة ولو أراد تعالى الجمع لقال: ولذوي القربى فمن حمل ذلك على الجماعة فهو مخالف للظاهر. فإن قيل: فمن حمل ذا القربى في الآية على جميع ذوي القرابات من بني هاشم يلزمه أن يكون ما عطف على ذلك من اليتامى والمساكين وابن السبيل هم غير الأقارب لأن الشئ لا يعطف على نفسه. قلنا: لا يلزم ذلك لأن الشئ وإن لم يعطف على نفسه فقد يعطف صفة على أخرى والموصوف واحد، لأنهم يقولون جاءني زيد العاقل والظريف والشجاع، والموصوف واحد، وقال الشاعر:


(1) سورة الأنفال: الآية 41.
(2) سورة الأنفال: الآية 41.

[ 227 ]

إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (1) والصفات كلها لموصوف واحد وكلام العرب مملوء في نظائر ذلك. (مسألة) [ 115 ] [ مقدار الصاع ] ومما انفردت به الإمامية أن الصاع تسعة أرطال بالعراقي. وخالف سائر الفقهاء في ذلك. فقال أبو حنيفة ومحمد وابن أبي ليلى والثوري وابن حي: الصاع ثمانية أرطال بالعراقي (2). وقال أبو يوسف والشافعي الصاع خمسة أرطال وثلث (3). وقال شريك بن عبد الله الصاع أقل من ثمانية أرطال وأكثر من سبعة (4). والدليل على صحة مذهبنا بعد إجماع الطائفة أن من أخرج تسعة أرطال فلا خلاف في براءة ذمته، وليس كذلك من أخرج دون ذلك، وإذا وجب حق في الذمة بيقين فيجب سقوطه عنها بيقين، ولا يقين إلا فيما ذهبنا إليه.


(1) الجامع للشواهد: ج 1 / 182.
(2) اللباب: ج 1 / 160، الهداية: ج 1 / 117، بدائع الصنائع: ج 2 / 73، المنهل العذب: ج 9 / 223 فتح العزيز: ج 6 / 195، مجمع الأنهر: ج 1 / 229.
(3) مجمع الأنهر: ج 1 / 229، المغني (لابن قدامة): ج 2 / 657، الوجيز: ج 1 / 99.
(4) لم نعثر عليه.

[ 228 ]

(مسألة) [ 116 ] [ أقل ما يعطى الفقير من الفطرة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه لا يجوز أن يعطى الفقير الواحد أقل من صاع وإن جاز أن يعطى أكثر من ذلك. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1). والحجة لنا فيه: بعد الإجماع المتردد، اليقين ببراءة الذمة وحصول الإجزاء، وليس ذلك إلا فيما نذهب إليه دون غيره. وأيضا فكل من قال: إن الصاع تسعة أرطال ذهب إلى ما ذكرناه فالتفرقة بين المسألتين خلاف الإجماع. (مسألة) [ 117 ] [ وجوب دفع الفطرة عن الضيف ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من أضاف غيره طول شهر رمضان يجب عليه إخراج الفطرة عنه. والحجة فيه الإجماع المتردد. وليس لهم أن يقولوا: الضيف لا يجب عليه نفقته فلا يجب عليه فطرته، لأنا ليس نراعي في وجوب الفطرة وجوب النفقة، بل نراعي من يعوله سواء كان ذلك وجوبا أو تطوعا.


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 359، الفتاوى الهندية: ج 1 / 187 – 188.

[ 229 ]

(مسألة) [ 118 ] [ شروط المستحق للفطرة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الفطرة لا يجوز أن تعطى المخالف لها ولا الفاسق وإن كان موافقا. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). وقد تقدم الكلام على نظير هذه المسألة في باب الزكاة (2) فلا معنى لإعادته.


(1) المجموع ج 6 / 186 و 217، المغني (لابن قدامة) ج 2 / 691، الفتاوي الهندية ج 1 / 188.
(2) في ص 217 و 218 مسألة 105 و 106.

[ 231 ]

كتاب الحج


[ 232 ]

كتاب الحج (مسألة) [ 119 ] [ الوقوف بالمشعر ] ومما انفردت الإمامية به: القول بوجوب الوقوف بالمشعر الحرام وأنه ركن من أركان الحج، جار مجرى الوقوف بعرفة في الوجوب. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبه واحد منهم (1). دليلنا بعد الإجماع المتردد قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) (2) والأمر على الوجوب، ولا يجوز أن يوجب ذكر الله تعالى فيه إلا وقد أوجب الكون فيه، ولأن كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف. فإن قالوا: نحمل ذلك على الندب قلنا: هو خلاف الظاهر ويحتاج إلى دلالة. وأيضا فإن من وقف بالمشعر وأدى سائر أركان الحج سقط الحج عن ذمته بلا خلاف، وليس كذلك إذا لم يقف به. فإن قيل هذه الآية تدل على وجوب الذكر، وأنتم لا توجبونه وإنما توجبون


(1) المغني لابن قدامة: ج 3 / 144 تفسير القرطبي ج 2 / 425.
(2) سورة البقرة: الآية: 198.

[ 233 ]

الوقوف مثل عرفة. قلنا: لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية. وبعد فإن الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص والذكر جميعا، وإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر وبقي الآخر يتناوله الظاهر وتقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله فيه. فإن قيل الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب لأنه إنما يراد له ومن أجله فإذا ثبت أن الذكر مستحب فكذلك الكون. قلنا: لا نسلم أن الكون في ذلك المكان تابع للذكر لأن الكون عبادة مفردة عن الذكر والذكر عبادة أخرى فإحداهما لا تتبع الأخرى كما لم يتبع الذكر لله تعالى في عرفات الكون في ذلك المكان والوقوف به لأن الذكر مستحب، والوقوف بعرفات واجب بلا خلاف. على أن الذكر إن لم يكن واجبا فشكر الله تعالى على نعمه واجب على كل حال، وقد أمر جل وعز بأن نشكره عند المشعر، فيجب أن يكون الكون بالمشعر واجبا، كما أن الفعل الذي أمرنا بإيقاعه عنده واجب. فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر وإن كان محلا للذكر وإن عطف الشكر على الذكر. قلنا: الظاهر بخلاف ذلك، لأن عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوي حكمهما في المحل وغيره، وجرى ذلك مجرى قول القائل: إضرب زيدا في الدار وقيده في أن الدار محل للفعلين معا.


[ 234 ]

(مسألة) [ 120 ] [ لو فات الوقوف بعرفة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من فاته الوقوف بعرفة وأدرك الوقوف بالمشعر الحرام يوم النحر فقد أدرك الحج. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والحجة لنا بعد الإجماع المتقدم أنا قد دللنا على وجوب الوقوف بالمشعر، وكل من قال من الأمة كلها بوجوب ذلك قال: أن الوقوف به إذا فات الوقوف بعرفة يتم معه الحج، والتفرقة بين المسألتين خلاف إجماع المسلمين. (مسألة) [ 121 ] [ الاحرام قبل الميقات ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن الاحرام قبل الميقات لا ينعقد، وقد شاركها في كراهية ذلك مالك والشافعي (2) إلا أنهما لا ينتهيان إلى نفي انعقاده. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والشعبي وابن حي إلى أن أفضل الاحرام أن


(1) المجموع: ج 8 / 102 – 103، بداية المجتهد: ج 1 / 349 المنهل العذب: ج 1 / 41 – 42 اختلاف العلماء: ص 90.
(2) المحلى: ج 7 / 78 عمدة القاري: ج 9 / 136 بداية المجتهد: ج 1 / 337 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 215 الشرح الكبير: ج 3 / 222، الأم ج 2 / 139 المجموع ج 7 / 200 و 251، المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 166.

[ 235 ]

تحرم من دويرة أهلك (1). دليلنا بعد الإجماع الذي يمضي أن معنى (ميقات) في الشريعة هو الذي يتعين ولا يجوز التقدم عليه مثل مواقيت الصلاة، فتجويز التقدم على الميقات يبطل معنى هذا الاسم. وأيضا فلا خلاف في أنه إذا أحرم من الميقات انعقد حجه، وليس كذلك إذا أحرم قبله، وينبغي أن يكون من انعقاد إحرامه على يقين. فإن عارض المخالف بما يروونه عن أمير المؤمنين عليه السلام وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) (2) إن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك (3)، فالجواب أن هذا خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا توجب عملا كما لا توجب علما، ثم ذلك محمول على من منزله دون الميقات، فعندنا أن من كان كذلك فميقاته منزله. فإن اعترضوا بما يروونه عن أم سلمة (رضي الله عنها) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من أحرم من بيت المقدس غفر الله له ذنبه (4). وفي خبر آخر من أهل بعمرة أو حجة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وجبت له الجنة (5).


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 221 الهداية: ج 1 / 136 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 166، بدائع الصنائع: ج 2 / 164 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 222.
(2) سورة البقرة: الآية 196. (3) سنن البيهقي: ج 5 / 30 المجموع: ج 7 / 199 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 167، المحلى: ج 7 / 85، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 215 الشرح الكبير: ج 3 / 222.
(4) سنن ابن ماجة: ج 2 / 999 سنن البيهقي: ج 5 / 30، الترغيب والترهيب: ج 2 / 190 الفتح الرباني: ج 11 / 111.
(5) سنن البيهقي: ج 5 / 30، الترغيب والترهيب ج 2 / 190.

[ 236 ]

فالجواب عنه بعد أنه خبر واحد يمكن حمله على أن من عزم على ذلك ونواه وقصد من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام (1)، وقد يسمى القاصد إلى الأمر باسم الفاعل له والداخل فيه، وهذا أكثر في اللسان العربي من أن يحصى. (مسألة) [ 122 ] [ الاحرام في غير أشهر الحج ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة لم ينعقد إحرامه. والشافعي يوافق الإمامية في أن إحرامه بالحج لا ينعقد، لكنه يذهب إلى أنه ينعقد له عمرة (2). وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وابن حي أنه: إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج انعقد إحرامه ولزمه (3). وقد روي عن أبي حنيفة مع ذلك كراهيته (4). والحجة لنا إجماع الطائفة وأيضا قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) (5)، ومعنى ذلك وقت الحج أشهر معلومات، لأن الحج نفسه لا يكون أشهرا، والتوقيت في الشريعة يدل على اختصاص الموقت بذلك الوقت وأنه لا يجزئ في


(1) في ” ألف ” و ” ب “: إلى المسجد الحرام غفر الله له.
(2) المجموع: ج 7 / 144 مختصر المزني: ص 63، الوجيز ج 1 / 113 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 224، الشرح الكبير: ج 3 / 224 المحلى: ج 7 / 66، بداية المجتهد: ج 1 / 338.
(3) المجموع: ج 7 / 144 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 224 الشرح الكبير: ج 3 / 223، المحلى: ج 7 / 66، بداية المجتهد: ج 1 / 338، أحكام القرآن: ج 1 / 300.
(4) مجمع الأنهر: ج 1 / 264.
(5) سورة البقرة: الآية 197.

[ 237 ]

غيره. وأيضا فقد ثبت أن من أحرم في أشهر الحج انعقد إحرامه بالحج بلا خلاف، وليس كذلك من أحرم قبل ذلك، فالواجب إيقاع الاحرام في الزمان الذي يحصل العلم بانعقاده فيه. فإن تعلق المخالف بقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (1) فظاهر ذلك يقتضي أن الشهور كلها متساوية في جواز الاحرام فيها. فالجواب أن هذه آية عامة تخصصها بقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) ونحمل لفظة الأهلة على أشهر الحج خاصة على أن أبا حنيفة لا يمكنه التعلق بهذه الآية، لأن الله تعالى قال: (مواقيت للناس والحج) والاحرام عنده ليس من الحج (2)، وبعد فتوقيت العبادة يقتضي جواز فعلها بغير كراهية، وعند أبي حنيفة وأصحابه أنه مكروه تقديم الاحرام على أشهر الحج. وقد أجاب بعض الشافعية (3) عن التعلق بهذه الآية بأن قال: قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) أي لمنافعهم وتجاراتهم، ثم قال: (والحج) فاقتضى ذلك أن يكون بعضها لهذا وبعضها لهذا، وهكذا نقول، ويجري ذلك مجرى قوله: هذا المال لزيد وعمرو، وأن الظاهر يقتضي اشتراكهما فيه. وهذا ليس بمعتمد، لأن الظاهر من قوله تعالى: (للناس والحج) يقتضي أن يكون جميع الأهلة على العموم لكل واحد من الأمرين، وليس كذلك قولهم:


(1) سورة البقرة: الآية 189.
(2) تفسير الرازي: ج 5 / 177.
(3) لم نعثر عليه.

[ 238 ]

المال لزيد وعمرو، لأنه لا يجوز أن يكون جميع المال لكل واحد منهما، فوجب الاشتراك لهذه العلة، وجرت الآية مجرى أن تقول هذا الشهر أجل لدين فلان ودين فلان، في أنه يقتضي كون الشهر كله أجلا للدينين جميعا، ولا ينقسم كانقسام المال فوجب الاشتراك لهذه العلة. (مسألة) [ 123 ] [ حج التمتع ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله تعالى على كل من نأى عن المسجد الحرام لا يجزئه مع التمكن سواه، وصفته أن يحرم من الميقات بالعمرة، فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت سبعا وسعى بين الصفا والمروة سبعا، ثم أحل من كل شئ أحرم منه، فإذا كان يوم التروية عند زوال الشمس أحرم بالحج من المسجد الحرام وعليه دم المتعة، فإن عدم الهدي وكان واجدا لثمنه تركه عند من يثق به من أهل مكة حتى يذبح (1) طول ذي الحجة فإن لم يتمكن من ذلك أخره إلى أيام النحر من العام القابل، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه كان عليه صوم عشرة أيام قبل يوم (2) التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة، فمن فاته ذلك صام ثلاثة أيام من أيام التشريق، وباقي العشرة إذا عاد إلى أهله. وخالف باقي الفقهاء في ذلك كله إلا أنهم اختلفوا في الأفضل من


(1) في ” ألف ” و ” ب “: يذبح عنه.
(2) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.

[ 239 ]

ضروب الحج، فقال أبو حنيفة: وزفر القران أفضل من التمتع والإفراد (1). وقال أبو يوسف: التمتع بمنزلة القران وهو قول ابن حي (2). وكره الثوري أن يقال: بعضها أفضل من بعض.
(3) وقال مالك والأوزاعي: الإفراد أفضل (4). وللشافعي قولان: أحدهما: إن الإفراد أفضل (5)، والآخر: أن التمتع أفضل وهو قول: أحمد بن حنبل وأصحاب الحديث (6). دليلنا الإجماع المتردد، ويمكن أن يستدل أيضا على وجوب التمتع بأن الدليل قد دل على وجوب الوقوف بالمشعر، وأنه مجزئ في تمام الحج عن الوقوف بعرفة إذا فات، وكل من قال بذلك أوجب التمتع بالعمرة إلى الحج فالقول بوجوب أحدهما دون الآخر خروج عن إجماع المسلمين. ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) (7)، وأمره تعالى على الوجوب والفور فلا يخلو من أن يأتي بهما على الفور بأن يبدأ


(1) اللباب: ج 1 / 192 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 25 مجمع الأنهر: ج 1 / 287 المجموع: ج 7 / 152، أحكام القرآن: ج 1 / 285 تفسير القرطبي: ج 2 / 389 المحلى: ج 7 / 110 عمدة القاري: ج 9 / 184.
(2) المجموع: ج 7 / 152. (3) اختلاف العلماء: ص 80 ونقل عنه كثير منهم أن القرآن أفضل راجع: المغني (لابن قدامة): ج 3 / 233 والشرح الكبير: ج 3 / 233 وعمدة القاري: ج 9 / 184.
(4) المدونة الكبرى: ج 2 / 120، تفسير القرطبي: ج 2 / 387 بداية المجتهد: ج 1 / 348 المجموع: ج 7 / 152 المحلى: ج 7 / 110.
(5) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 233، الشرح الكبير: ج 3 / 233، المحلى: ج 7 / 110 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 25 تفسير القرطبي: ج 2 / 387 شرح فتح القدير: ج 2 / 409.
(6) بداية المجتهد: ج 1 / 349 مسائل أحمد بن حنبل: ص 124، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 232 تفسير القرطبي: ج 2 / 387، الشرح الكبير: ج 3 / 232، عمدة القاري: ج 9 / 184.
(7) سورة البقرة: الآية 196.

[ 240 ]

بالحج ويثني بالعمرة، أو يبدأ بالعمرة ويثني بالحج، أو يحرم بالحج والعمرة معا، والأول يفسد بأن أحدا من الأمة لا يوجب على من أحرم بالحج مفردا أن يأتي عقيبه بلا فصل بالعمرة. والقسم الأخير باطل لأن عندنا أنه لا يجوز أن يجمع في إحرام واحد بين الحج والعمرة كما لا يجمع في إحرام واحد بين حجتين أو عمرتين، فلم يبق إلا وجوب القسم الأخير وهو التمتع الذي ذهبنا إليه. فإن قيل: قد نهى عن هذه المتعة مع متعة النساء عمر بن الخطاب (1) وأمسكت الأمة عنه راضية بقوله. قلنا: نهي من ليس بمعصوم عن الفعال لا يدل على قبحه، والامساك عن النكير لا يدل عند أحد من العلماء على الرضا إلا بعد أن يعلم أنه لا وجه له إلا الرضا، وقد بينا ذلك وبسطناه في كثير من كتبنا. وبعد فإن الفقهاء والمحصلين من مخالفينا حملوا نهي عمر عن هذه المتعة على وجه الاستحباب لا على الحظر، وقالوا في كتبهم المعروفة المخصوصة بأحكام القرآن (2) إن نهي عمر يحتمل أن يكون لوجوه منها أنه أراد أن يكون الحج في أشهر المخصوصة به والعمرة في غير تلك الشهور، ومنها: إنه أحب عمارة البيت وإن يكثر زواره في غير الموسم، ومنها أنه أراد إدخال المرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم، ورووا في تقوية هذه المعاني أخبارا موجودة في كتبهم لا معنى للتطويل بذكرها. وفيهم من حمل نهي عمر عن المتعة على فسخ الحج إذا طاف له قبل يوم


(1) سنن البيهقي: ج 7 / 206، موطأ مالك: ج 1 / 344، كنز العمال: ج 16 / 519.
(2) تفسير القرطبي: ج 2 / 388.

[ 241 ]

النحر، وقد روي عن ابن عباس رحمه الله أنه كان يذهب إلى جواز ذلك (1) وأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان أمر أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج من كان منهم لم يسق هديا ولم يحل هو عليه السلام لأنه كان ساق الهدي (2)، وزعموا أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) وهذا التأويل الثاني بعيد من الصواب، لأن فسخ الحج لا يسمى متعة، وقد صارت هذه اللفظة بعرف الشرع مخصوصة بمن ذكرنا حاله وصفته. وأما التأويل الأول فيبطله قوله: أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، وتشدده في ذلك وتوعده يقتضي أن لا يكون القول خرج مخرج الاستحباب على أن نهيه عن متعة النساء كان مقرونا بنهيه عن متعة الحج، فإن كان النهي عن متعة الحج استحبابا فالمتعة الأخرى كذلك. (مسألة) [ 124 ] [ الجدال في الحج وكفارته ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الجدال الذي منع منه المحرم بقوله تعالى: (ولا جدال في الحج) (3) هو الحلف بالله صادقا أو كاذبا وأنه إن جادل وهو محرم صادقا مرة أو مرتين فليس عليه كفارة وليستغفر الله تعالى، فإن جادل ثلاث مرات صادقا فما زاد فعليه دم شاة، فإن جادل مرة واحدة كاذبا فعليه دم شاة، وإن جادل مرتين كاذبا فدم بقرة، فإن جادل ثلاث مرات كاذبا


(1) تفسير الرازي: ج 10 / 50 – 51 المغني لابن قدامة: ج 7 / 572.
(2) صحيح البخاري: ج 2 / 177 سنن البيهقي ج 5 / 23.
(3) سورة البقرة: الآية 197.

[ 242 ]

فعليه دم بدنة. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1). والحجة لنا: إجماع الطائفة عليه، ولأن اليقين ببراءة الذمة في قولنا دون قولهم. فإن قيل: ليس في لغة العرب أن الجدال هو الحلف. قلنا: ليس ينكر أن يقتضي عرف الشريعة ما ليس في وضع اللغة على أن الجدال إذا كان الخصومة والمراء والمنازعة، وهذه أمور تستعمل للدفع والمنع والقسم بالله تعالى قد يفعل لذلك ففيه معنى المنازعة والخصومة. (مسألة) [ 125 ] [ حكم الجماع قبل التلبية ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من جامع بعد الاحرام وقبل التلبية لا شئ عليه. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (2). والحجة فيه: إجماع الطائفة عليه. والوجه فيه أن التلبية عندهم بها يتم انعقاد الاحرام، فإذا لم تحصل فما انعقد، وما فعله كأنه رجوع عن الاحرام قبل تكامله لا أنه نقض له بعد انعقاده، ويجب على هذا إذا أراد الاحرام أن يستأنفه ويلبي فإن الاحرام الأول قد رجع فيه.


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 308.
(2) المغني لابن قدامة: ج 3 / 315.

[ 243 ]

(مسألة) [ 126 ] [ حكم الجماع قبل الوقوف بالمشعر ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من وطئ عامدا في الفرج قبل الوقوف بالمشعر فعليه بدنة والحج من قابل، ويجري عندهم مجرى من وطئ قبل الوقوف بعرفة، وإن وطئ بعد الوقوف بالمشعر لم يفسد حجه وكان عليه بدنة. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: إن وطئ قبل الوقوف بالمشعر لم يفسد حجه (1) والشافعي يقول: أنه يفسد غير أنه يقول إن وطئ بعد وقوفه بالمشعر وقبل التحليل الأول يفسد أيضا حجه (2)، ونحن لا نقول ذلك، فالانفراد بما ذكرناه صحيح. دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتردد، أنه قد ثبت وجوب الوقوف بالمشعر، وأنه ينوب في تمام الحج عن الوقوف بعرفة عمن لم يدركه، وكل من قال بذلك أوجب بالجماع قبله فساد الحج ولم يفسده بالجماع بعده، فالتفرقة بين الأمرين خلاف إجماع الأمة. فإن اعترضوا بما يروونه عن النبي (عليه السلام) أنه قال: من وقف بعرفة فقد تم حجه (3). وفي خبر آخر: الحج عرفة (4). فالجواب أن هذه أخبار آحاد وهي معارضة بما رويتموه عن النبي (صلى


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 245 اللباب: ج 1 / 202 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 119 المجموع: ج 7 / 414 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 315، الشرح الكبير ج 3 / 315.
(2) الأم: ج 2 / 218 المجموع: ج 7 / 387 و 414 شرح فتح القدير: ج 2 / 240 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 315.
(3) سنن البيهقي: ج 5 / 116.
(4) كنز العمال: ج 5 / 63 و 64 سنن البيهقي: ج 5 / 173.

[ 244 ]

الله عليه وآله) أنه قال لعروة بن مضرس بالمزدلفة: من وقف معنا هذا الموقف وصلى معنا هذه الصلاة، وقد كان قبل ذلك وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهارا فقد تم حجه (1). فشرط في تمام الحج الوقوف بالموقفين. ويمكن حمل الخبرين اللذين رووهما على أن معظم الحج عرفة، ومعنى تم حجه قارب التمام، وهذا نظير قوله ” عليه السلام ” إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة فقد تمت صلاته (2). (مسألة) [ 127 ] [ حكم من أفسد حجه بالجماع ] ومما انفردت به الإمامية ولها في بعضه موافق القول بأن من وطئ عامدا زوجته أو أمته فأفسد بذلك حجه يفرق بينهما فلا يجتمعان إلى أن يعود إلى المكان الذي وقع عليها فيه من الطريق، وإذا حجا من قابل فبلغا ذلك المكان فرق بينهما ولم يجتمعا حتى يبلغ الهدي محله. وقال الشافعي والثوري: إن من وطئ زوجته وأفسد بذلك حجه ثم حج بها من قابل فبلغا الموضع الذي وطئها فيه فرق بينهما (3). وهذا شطر ما قالته الإمامية. وروي عن مالك وسفيان مثل ذلك.
(4).


(1) سنن البيهقي: ج 5 / 116.
(2) كنز العمال: ج 7 / 487 ح 19909.
(3) المجموع: ج 7 / 399 و 415، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 378، الشرح الكبير: ج 3 / 319، بداية المجتهد: ج 1 / 387، شرح فتح القدير: ج 2 / 455، المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 119، فتح العزيز: ج 7 / 476.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 454، بداية المجتهد: ج 1 / 359، المحلى: ج 7 / 191، المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 118 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 378 المجموع: ج 7 / 415 شرح فتح القدير: ج 2 / 240.

[ 245 ]

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يفرق بينهما بحال من الأحوال (1). دليلنا: الإجماع المتردد وأيضا فإن ذلك ينهى ويزجر عن فعل مثله فكأنه عقوبة على جنايته. وقد روى مخالفونا عن عمر وعبد الله بن عباس أنهما قالا: إذا وطئ الرجل زوجته فقضيا من قابل وبلغا الموضع الذي وطئها فيه فرق بينهما (2) ولم يعرف لهما مخالف. (مسألة) [ 128 ] [ التظليل للمحرم ] ومما ظن انفراد الإمامية به ولهم فيه موافق: القول بأن المحرم لا يجوز أن يستظل في محمله من الشمس إلا عن ضرورة، وذهبوا إلى أنه يفدي بذلك إذا فعله بدم. ووافق مالك (3) في كراهية ذلك، إلا أننا ما نظن أنه يوجب في فعله شيئا. وباقي الفقهاء على خلاف في ذلك (4). والحجة فيه إجماع الطائفة المحقة، والاحتياط لليقين بسلامة إحرامه وبراءة ذمته.


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 119 المحلى ج 7 / 190 بداية المجتهد: ج 1 / 387 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 379 الشرح الكبير: ج 3 / 319 شرح فتح القدير: ج 2 / 240 المجموع: ج 7 / 415.
(2) كنز العمال: ج 5 / 259 سنن البيهقي: ج 5 / 167 و 168 المحلى: ج 7 / 190 المجموع ج 7 / 387.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 286 الشرح الكبير: ج 3 / 279 المجموع: ج 7 / 267، شرح فتح القدير: ج 2 / 349.
(4) سنن البيهقي: ج 5 / 70 المجموع: ج 7 / 267، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 286.

[ 246 ]

(مسألة) [ 129 ] [ نكاح المحرم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من تزوج امرأة وهو محرم عالما بأن ذلك محرم عليه بطل نكاحه ولم تحل له المرأة أبدا. وهذا مما لم يوافق فيه أحد من الفقهاء، لأن الشافعي ومالكا (1) وإن أبطلا نكاح المحرم، وجوز ذلك أبو حنيفة (2) فإنهما لا يقولان: إنه إذا فعل ذلك على بعض الوجوه حرمت عليه المرأة أبدا. دليلنا الإجماع المتردد. ويمكن أن نقول للشافعي ومالك الموافقين لنا في تحريم نكاح المحرم إذا ثبت فساد نكاح المحرم باتفاق بيننا، وثبت أن ما صح فساده أو صحته في أحكام الشريعة لا يجوز تغير أحواله باجتهاد أو استفتاء مجتهد، لأن الدليل قد دل على فساد الاجتهاد الذي يعنونه في الشريعة، فلم يبق إلا أن الفاسد يكون أبدا كذلك، والصحيح يكون على كل حال كذلك، وإذا ثبتت هذه الجملة وجدنا كل من قال من الأمة: إن نكاح المحرم أو إنكاحه فاسد على كل وجه، ومن كل أحد يذهب إلى ما فصلناه من أنه إذا فعل ذلك عالما به بطل نكاحه ولم تحل له المرأة أبدا، لأن أحدا من الأمة لم يفرق بين الموضعين والفرق بينهما خروج عن إجماع الأمة.


(1) المجموع: ج 7 / 288 و 290 المدونة الكبرى: ج 1 / 371 – 372 المحلى: ج 7 / 199 بداية المجتهد: ج 1 / 344 عمدة القاري: ج 10 / 195، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 312 الشرح الكبير ج 3 / 312.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 312، الشرح الكبير: ج 3 / 312، بداية المجتهد: ج 1 / 344 عمدة القاري: ج 10 / 195 المجموع: ج 7 / 288.

[ 247 ]

فإن عارضونا بما يروونه من أن النبي (صلى الله عليه وآله) نكح ميمونة وهو محرم (1)، فالجواب أنه خبر واحد ويعارضه أخبار كثيرة رووها أنه (عليه السلام) تزوجها وهو حلال (2). وقد قيل: يمكن أن يتأول خبر ميمونة على أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي كان محرما، فلما رآه قلد الهدي اعتقد أنه محرم. وأيضا فيحتمل أن يكون أراد به تزوجها في الشهر الحرام، والعرب تسمي من كان في الشهر الحرام بأنه محرم. واستشهدوا بقول الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما (3) ولم يكن عاقد الاحرام بلا خلاف وإنما كان في الشهر الحرام. ومما يمكن الاستدلال به على أصل المسألة أن النكاح سبب لاستباحة الوطء بيقين، ولا يقين في أن عقد المحرم للنكاح سبب في الاستباحة فواجب تجنبه. (مسألة) [ 130 ] [ لو جامع الحاج ناسيا ] ومما ظن انفراد الإمامية به وهو أحد قولي الشافعي (4): أن من وطئ ناسيا


(1) صحيح البخاري: ج 3 / 19 سنن أبي داود: ج 2 / 169 سنن الترمذي: ج 3 / 202 ح 843 و 844، سنن البيهقي: ج 7 / 210.
(2) سنن الترمذي: ج 3 / 203 ح 845 سنن أبي داود: ج 2 / 169، سنن البيهقي: ج 7 / 210.
(3) لسان العرب: ج 4 / 139 مادة حرم.
(4) المجموع: ج 7 / 394 المبسوط (للسرخسي): ج 2 / 121 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 317، الشرح الكبير: ج 3 / 317، فتح العزيز: ج 7 / 478، شرح فتح القدير: ج 2 / 241، بداية المجتهد: ج 1 / 386.

[ 248 ]

لم يفسد ذلك حجه ولا كفارة عليه. وذهب أبو حنيفة إلى أنه مع النسيان يفسد الحج وفيه الكفارة، وهو أحد قولي الشافعي (1). دليلنا الإجماع المتردد. ويجوز أن يعارضوا بما يروونه عن النبي (عليه السلام) من قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (2)، ومعلوم أنه لم يرد رفع هذه الأفعال وإنما أراد رفع أحكامها. فإن حملوا ذلك على رفع الإثم وهو حكم. قلنا: هذا تخصيص بغير دليل، على أن رفع الإثم عن الخاطئ مستفاد من قوله تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) (3)، وحمل كلامه تعالى على فائدة ولم تستفد أولى. (مسألة) [ 131 ] [ لو قتل المحرم صيدا ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن المحرم إذا قتل صيدا متعمدا كان عليه جزاءان، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (4).


(1) اللباب: ج 1 / 207 الفتاوى الهندية: ج 1 / 244 المبسوط (للسرخسي) ج 2 / 121، الهداية ج 1 / 165 فتح العزيز: ج 7 / 478 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 336 الشرح الكبير: ج 3 / 317.
(2) سنن ابن ماجة: ج 1 / 659 سنن الدارقطني: ج 4 / 170 ح 33، سنن البيهقي: ج 7 / 356 كنز العمال: ج 12 / 174 المستدرك على الصحيحين: ج 2 / 198.
(3) سورة الاحزاب: الآية 5.
(4) الأم: ج 2 / 182 – 207 مختصر المزني: ص 71 المجموع: ج 7 / 438 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 96، المحلى: ج 7 / 15 عمدة القاري: ج 10 / 161 اللباب: ج 1 / 206، بداية المجتهد: ج 1 / 346.

[ 249 ]

والحجة فيه: إجماع الطائفة، وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة، لأنه لا خلاف في أنه بالقتل قد وجب لله تعالى في ذمته حق، وإذا فعل ما ذكرناه سقط ذلك الحق بيقين، وليس كذلك إن اقتصر على جزاء واحد. ويمكن أن يقال: قد ثبت أن من قتل صيدا ناسيا يجب عليه الجزاء والعمد أغلظ من النسيان في الشريعة، فيجب أن يتضاعف الجزاء عليه مع العمد. (مسألة) [ 132 ] [ لو صاد المحرم في الحرم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن المحرم إذا صاد في الحرم تضاعف عليه الفدية. والوجه في ذلك بعد إجماع الطائفة المحقة أنه قد جمع بين وجهين يقتضي على كل واحد منهما الفداء وهو الصيد مع الاحرام، ثم إيقاعه في الحرم، ألا ترى أن المحرم إذا صاد في غير الحرم يلزمه الفدية، والحلال إذا صاد في الحرم لزمته الفدية، فاجتماع الأمرين يوجب اجتماع الجزاءين. (مسألة) [ 133 ] [ لو كسر المحرم بيض النعام ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من كسر بيض نعام وهو محرم وجب عليه أن يرسل فحولة الإبل في إناثها بعدد ما كسر فما نتج من ذلك كان هديا للبيت، فإن لم يجد ذلك فعليه لكل بيضة شاة، فإن لم يجد فإطعام عشرة مساكين، فإن لم يجد صام لكل بيضة ثلاثة أيام.


[ 250 ]

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن البيض مضمون بقيمته (1). وقال مالك: يجب في البيضة عشر قيمة الصيد (2). وقال داود والمزني: لا شئ في البيض (3). دليلنا بعد إجماع الطائفة أن اليقين ببراءة الذمة بعد العلم باشتغالها لا يحصل إلا بما ذكرناه، وأيضا فهو أحوط في منفعة الفقراء فيجب أن يكون أولى. فإن عارضوا بما يروونه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في بيض النعامة ثمنها (4). قلنا: هذا خبر واحد، ويجوز أن يكون لفظة (ثمنها) محمولة على الجزاء، فإن الجزاء والبدل في الشرع يجوز وصفهما بالثمن، لأنه في مقابلة المثمن ويكون تقدير الكلام: في بيض النعامة الجزاء الذي قررته الشريعة، وهو ما ذكرناه. (مسألة) [ 134 ] [ لو اضطر إلى أكل ميتة أو لحم صيد ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن من اضطر إلى أكل ميتة أو لحم صيد وجب أن يأكل الصيد ويفديه ولا يأكل الميتة. وأبو يوسف يوافق في


(1) الوجيز: ج 1 / 127 مغني المحتاج: ج 1 / 525 مختصر المزني: 72، الأم: ج 2 / 197.
(2) المدونة الكبرى: ج 2 / 437 بداية المجتهد: ج 1 / 350 الجامع لأحكام القرآن: ج 6 / 311 المجموع: ج 7 / 333، المحلى: ج 7 / 233 فتح العزيز: ج 7 / 486.
(3) المحلى: ج 7 / 233، المجموع: 7 / 318 الفتح الرباني: ج 11 / 251.
(4) سنن الدارقطني: ج 2 / 250 ح 64، سنن البيهقي: ج 5 / 208، كنز العمال: ج 5 / 38.

[ 251 ]

ذلك لأنه قال: يذبح الصيد ويأكله ويفديه، وهو أحد قولي الشافعي (1). وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: يأكل الميتة ولا يأكل الصيد (2). دليلنا إجماع الطائفة. وأيضا فإن الصيد له فداء في الشريعة يسقط إثمه وليس كذلك الميتة ولأن في الناس من يقول: إن الصيد ليس بميتة وإنه مذكى وأكله مباح، والميتة متفق على حظرها. وربما رجحوا الميتة على الصيد بأن الحظر في الصيد ثبت من وجوه، منها: تناوله، ومنها: قتله، ومنها أكله، وكل ذلك محظور وليس في الميتة إلا حظر واحد وهو الأكل. وهذا ليس بشئ، لأنا لو فرضنا أن رجلا غصب شاة ثم وقذها وضربها حتى ماتت ثم أكلها لكان الحظر هاهنا من وجوه كما ذكرتم في الصيد وأنتم مع ذلك لا تفرقون بين أكل هذه الميتة وبين غيرها عند الضرورة وتعدلون إليها عن أكل الصيد. (مسألة) [ 135 ] [ كيفية كفارة جزاء الصيد ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن كفارة الجزاء على الترتيب دون التخيير ومثاله: أنهم يوجبون في النعامة مثلا بدنة فإن لم يجد أطعم ستين مسكينا فإن لم يقدر صام شهرين متتابعين. ورويت الموافقة للإمامية عن ابن عباس وابن سيرين وأنهما قالا: ذلك على


(1) بداية المجتهد: ج 1 / 344 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 293.
(2) بداية المجتهد: ج 1 344.

[ 252 ]

الترتيب فلا يجوز أن يطعم مع القدرة على إخراج المثل ولا أن يصوم مع القدرة على الاطعام (1)، وباقي الفقهاء يقولون: إن ذلك على التخيير (2). دليلنا: إجماع الطائفة. فإن قيل: ظاهر القرآن يخالف مذهبكم، لأنه تعالى قال: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) (3) ولفظة أو تقتضي التخيير. قلنا: ندع الظاهر للدلالة كما تركنا ظاهر إيجاب الواو للجمع وحملناها على التخيير في قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (4) ويكون معنى ” أو كذا ” إذا لم تجد الأول. (مسألة) [ 136 ] [ تكرر جماع المحرم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الجماع إذا تكرر من المحرم تكررت الكفارة سواء كان ذلك في مجلس واحد أو في أماكن كثيرة وسواء كفر عن الأول أو لم يكفر. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فقال أبو حنيفة: إذا جامع مرارا في مقام واحد فعليه كفارة واحدة وإن كان ذلك في أماكن فعليه لكل مرة كفارة (5).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 543 الشرح الكبير: ج 3 / 331.
(2) المدونة الكبرى: ج 2 / 191 و 233 اختلاف العلماء: ص 97 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 543، الشرح الكبير: ج 3 / 331.
(3) سورة المائدة: الآية 95.
(4) سورة النساء: الآية 3.
(5) بداية المجتهد: ج 1 / 386 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 523 الشرح الكبير: ج 3 / 342.

[ 253 ]

وقال أحمد عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الأول. وقال الثوري مثل ذلك (1). وقال مالك والشافعي إذا جامع مرارا فعليه كفارة واحدة (2). دليلنا الإجماع المتردد. وأيضا طريقة اليقين ببراءة الذمة. وليس لهم أن يقولوا: أن الجماع الأول أفسد الحج والثاني لم يفسده، وذلك أن الحج وإن كان قد فسد بالأول فحرمته باقية ولهذا وجب المضي فيه فجاز أن تتعلق الكفارة بما يستأنف من ذلك. (مسألة) [ 137 ] [ في التلبية ] ومما انفردت به الإمامية به القول: بوجوب التلبية وعندهم أن الاحرام لا ينعقد إلا بها. لأن أبا حنيفة وإن وافق في وجوب التلبية فعنده أن الاحرام ينعقد بغيرها من تقليد الهدي وسوقه مع نية الاحرام (3). وقال مالك والشافعي: التلبية ليست بواجبة، ويصح الدخول في الاحرام بمجرد النية (4).


(1) فتح العزيز: ج 7 / 473.
(2) المجموع: ج 7 / 407 الوجيز: ج 1 / 126 مغني المحتاج: ج 1 / 522، فتح العزيز: ج 7 / 473، المغني (لابن قدامة): ج 3 / 523 الشرح الكبير: ج 3 / 342، بداية المجتهد: ج 1 / 386.
(3) المجموع: ج 7 / 225، فتح العزيز: ج 7 / 202، بداية المجتهد: ج 1 / 350.
(4) المدونة الكبرى: ج 1 / 367 الوجيز: ج 1 / 117، المجموع: ج 7 / 246 المحلى: ج 7 / 94 – 95 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 257 فتح العزيز: ج 7 / 202 بداية المجتهد: ج 1 / 350 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 138 الشرح الكبير ج 3 / 264.

[ 254 ]

دليلنا الإجماع المتردد ولأنه إذا لبى دخل في الاحرام وانعقد بلا خلاف، وليس كذلك إذا لم يلب. ويمكن الاستدلال على ذلك بأن فرض الحج مجمل في القرآن، وفعل النبي عليه السلام إذا ورد في مورد البيان كان واجبا، لأن بيان الشئ في حكمه، وقد روى الناس كلهم أن النبي صلى الله عليه وآله لبى لما أحرم (1) فيجب بذلك وجوب التلبية. ويقوي ذلك ما رووه عنه (عليه السلام) من قوله خذوا عني مناسككم، ورووا عنه (عليه السلام) أنه قال: أتاني جبرئيل عليه السلام فقال: مر أصحابك بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج (2). ورووا عنه عليه السلام أنه قال لعائشة: أنفضي رأسك وامتشطي واغتسلي ودعي العمرة وأهلي بالحج (3)، والاهلال التلبية، والأمر على الوجوب. فإن خالفوا في أن المراد بالاهلال التلبية، وادعوا أن المراد بها الاحرام كان ذلك واضح البطلان، لأن اللغة تشهد بما ذكرناه وكل أهل العربية قالوا: استهل الصبي: إذا رفع صوته عند الولادة صارخا (4) قالوا: ومثله إستهلال الحج الذي هو رفع الصوت بالتلبية، وكذلك استهلال السماء بالمطر إنما هو صوت وقعه على الأرض.


(1) سنن البيهقي: ج 5 / 44.
(2) صحيح مسلم: ج 2 / 943 سنن أبي داود ج 2 / 201 سنن النسائي: ج 5 / 270، سنن البيهقي: ج 5 / 125.
(3) الموطأ: ج 1 / 334 سنن ابن ماجة ج 2 / 975 سنن الترمذي: ج 3 / 191 سنن أبي داود: ج 2 / 163، سنن البيهقي: ج 5 / 42 كنز العمال: ج 5 / 31.
(4) صحيح البخاري: ج 3 / 4.

[ 255 ]

(مسألة) [ 138 ] [ طواف الزيارة ] ومما انفردت الإمامية به: القول: بأن من طاف طواف الزيارة فقد تحلل من كل شئ كان به محرما إلا النساء فليس له وطؤهن إلا بطواف آخر متى فعله حللن له، وهو الذي يسمونه طواف النساء. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). فإذا قيل هذا هو طواف الصدر، وعند أبي حنيفة أنه واجب ومن تركه لغير عذر كان عليه دم (2)، وللشافعي في أحد قوليه مذهب يوافق به أبا حنيفة في أنه واجب (3). قلنا: من أوجب طواف الصدر وهو طواف الوداع، فإنه لا يقول: إن النساء يحللن به، بل يقول: إن النساء حللن بطواف الزيارة، فانفرادنا بذلك صحيح. والحجة لنا الإجماع المتردد، ولأنه لا خلاف أن النبي (صلى الله عليه وآله) فعله وقد روي عنه (عليه السلام): خذوا عني مناسككم، وروي أيضا عنه أنه (عليه السلام) قال: من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف (4)، وظاهر الأمر الوجوب. فإن قالوا: لو كان هذا الطواف واجبا لأثر في التحلل. قلنا: يؤثر عندنا في التحلل على ما شرحناه، وإنما يلزم هذا الكلام أبا


(1) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 469.
(2) المغني (لابن قدامة) ج 3 / 469، المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 41.
(3) الأم ج 2 / 180 الوجيز: ج 1 / 123 المجموع: ج 8 / 254 و 284 مغني المحتاج: ج 1 / 510 الفتاوى الهندية: ج 1 / 246 عمدة القاري: ج 10 / 95.
(4) سنن الترمذي: ج 3 / 282، كنز العمال: ج 5 / 59.

[ 256 ]

حنيفة. وكذلك إن قالوا: كان يجب أن يلزم المكي، لأنه يلزم عندنا المكي إذا أراد التحلل وإتيان النساء. (مسألة) [ 139 ] [ استلام الركن اليماني ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من السنة المؤكدة استلام الركن اليماني وتقبيله. ووافق الشافعي في استلامه دون تقبيله، وقال: إذا وضع يده عليه قبل يده ولم يقبله (1). وقال أبو حنيفة: ليس استلام الركن اليماني من السنة ولا تقبيله (2). وقال مالك: يستلمه ويضع يده على فيه ولا يقبلها (3). وروي عن جابر وابن الزبير وأنس أنهم قالوا: من السنة استلام الأركان كلها (4). دليلنا الإجماع المتردد، ويمكن معارضتهم بالأخبار التي رووها أن النبي (صلى الله عليه وآله) استلم الركن اليماني وركن الحجر (5) فهي كثيرة.


(1) مختصر المزني: ص 67 المجموع: ج 8 / 35 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 395 الشرح الكبير: ج 3 / 384.
(2) فتح العزيز: ج 7 / 319 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 394 الشرح الكبير: ج 3 / 385 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 49، الفتاوى الهندية: ج 1 / 226.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 395 الشرح الكبير: ج 3 / 384 فتح العزيز: ج 7 / 320 شرح النووي: ج 5 / 390.
(4) المجموع: ج 8 / 34 و 58 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 49 بداية المجتهد: ج 1 / 354 عمدة القاري: ج 9 / 255 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 394 الشرح الكبير: ج 3 / 386.
(5) سنن الترمذي: ج 3 / 213 سنن أبي داود: ج 2 / 176 سنن الدارقطني: ج 2 / 255 سنن البيهقي ج 5 / 76 كنز العمال: ج 5 / 179 و 180.

[ 257 ]

(مسألة) [ 140 ] [ لو جرح المحرم صيدا ] ومما ظن انفراد الإمامية به وقد ذهب إليه مالك (1) القول بأن من رمى صيدا وهو محرم فجرحه وغاب الصيد ولم يعلم هل مات أو اندملت جراحته فعليه فداؤه. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (2). والحجة لنا إجماع الطائفة، ولأن فيما ذهبنا إليه الاحتياط واليقين ببراءة الذمة. فإذا قيل: يجوز أن تكون الجراحة اندملت، قلنا: يجوز أن تكون ما اندملت وانتهت إلى الاتلاف فالأظهر والأحوط ما ذهبنا إليه. (مسألة) [ 141 ] [ لو تلوط المحرم أو أتى بهيمة أو امرأة في دبرها ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن المحرم إذا تلوط بغلام أو أتى بهيمة أو أتى امرأة في دبرها فسد حجه وعليه بدنة وأن ذلك جار مجرى الوطء في القبل. والشافعي (3) يوافق في ذلك وأبو حنيفة وأصحابه يقولون إنه لا يفسد الحج (4).


(1) المدونة الكبرى: ج 1 / 433.
(2) المدونة الكبرى: ج 1 / 433 الأم ج 2 / 207 المجموع: ج 7 / 435 فتح العزيز: ج 7 / 508 مغني المحتاج: ج 1 / 527.
(3) الأم: ج 2 / 218 المجموع: ج 7 / 419.
(4) الفتاوى الهندية: ج 1 / 244 شرح فتح القدير ج 2 / 240، المجموع ج 7 / 421 فتح العزيز: =

[ 258 ]

دليلنا الإجماع المتردد. وأيضا فقد ثبت أن ذلك كله يوجب الحد، وكل ما (1) أوجب به الحد أفسد به الحج، والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. ويمكن أن يقال لهم قد اتفقنا على أن ما ذكرناه أغلظ من الوطء في القبل، لأن وطء الغلام لا يستباح بحال ولا وطء البهيمة، والوطء في القبل يجوز إستباحته في حال فكيف يجوز أن يفسد الحج الأخف ولا يفسده الأغلظ؟ فإن قالوا: لو تعلق بالوطء في الدبر فساد الحج لتعلق به وجوب المهر، قلنا: هكذا نقول. (مسألة) [ 142 ] [ الاشتراط في الحج ] ومما ظن أن الإمامية تفردت به: أن المحرم إذا اشترط فقال عند دخوله في الاحرام فإن عرض لي عارض يحبسني فحلي حيث حبستني، جاز له أن يتحلل عند العوائق من مرض وغيره بغير دم، وهذا أحد قولي الشافعي (2). وذهب أبو حنيفة وأصحابه وباقي الفقهاء إلى أن وجود هذا الشرط كعدمه (3). دليلنا الإجماع المتقدم، ويعارضون بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لضباعة بنت الزبير: حجي واشترطي وقولي: اللهم فحلي حيث


= ج 7 / 471 بدائع الصنائع: ج 2 / 216 اللباب: ج 1 / 202 المغني (لابن قدامة) ج 3 / 316، الشرح الكبير: ج 3 / 316. (1) في ” ألف ” و ” م “: من.
(2) الوجيز: ج 1 / 130 المجموع ج 8 / 353 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 243، الشرح الكبير: ج 3 / 231.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 244، الشرح الكبير: ج 3 / 231.

[ 259 ]

حبستني (1) ولا فائدة لهذا الشرط إلا التأثير في ما ذكرناه من الحكم. فإن احتجوا بعموم قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله فإن احصرتم فما استيسر من الهدي) (2) قلنا: نحمل ذلك على من لم يشترط. (مسألة) [ 143 ] [ رمي الجمار ] ومما ظن انفراد الإمامية به وهو مذهب الشافعي (3) القول بأن رمي الجمار لا يجوز إلا بالأحجار خاصة دون غيرها من الأجسام كلها. وقال أبو حنيفة يجوز بكل شئ من جنس الأرض كالزرنيخ والنورة والكحل، فأما الذهب والفضة والخشب فلا يجوز (4). وقال أهل الظاهر يجوز بكل شئ (5). دليلنا الإجماع المتردد وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة (6) لأنه لا خلاف في إجزاء الرمي بالحجر وليس كذلك غيره.


(1) سنن ابن ماجة: ج 2 / 979، سنن الدارقطني: ج 2 234 سنن البيهقي: ج 5 / 221 و 222، كنز العمال: ج 5 / 122.
(2) سورة البقرة: الآية 196.
(3) الأم: ج 2 / 213 مختصر المزني: ص 68 الوجيز ج 1 / 122 فتح العزيز: ج 7 / 397 المجموع: ج 8 / 186.
(4) الفتاوى الهندية: ج 1 / 233 المبسوط (للسرخسي): ج 4 / 66 الهداية: ج 1 / 147 فتح العزيز: ج 7 / 398 المغني (لابن قدامة): ج 3 / 446 الشرح الكبير ج 3 / 451 شرح فتح القدير: ج 2 / 177.
(5) المغني (لابن قدامة): ج 3 / 446 الشرح الكبير: ج 3 / 451.
(6) قوله: ” ببراءة الذمة ” ليس في ” ألف ” و ” م “.

[ 260 ]

ويجوز أن نعارض مخالفينا في هذه المسألة بما يروونه عن الفضل بن العباس أنه قال: لما أفاض رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عرفة وهبط وادي محسر قال: أيها الناس عليكم بحصى الخذف (1)، والأمر على الوجوب. وتفرقة أبي حنيفة بين الذهب والفضة والخشب، وبين الزرنيخ والكحل باطلة، لأن الكحل وإن كان مستحيلا من جوهر الأرض فإن استحالته قد سلبته إطلاق اسم الأرض عليه فإن أجاز الرمي به وإن لم يسم أرضا، لأنه من جوهر الأرض، فالخشب كله والذهب والفضة مستحيل من جوهر الأرض. (مسألة) [ 144 ] [ الخذف بحصى الجمار ] ومما انفردت به الإمامية القول: بوجوب الخذف بحصى الجمار، وهو أن يضع الرامي الحصاة على إبهام يده اليمنى ويدفعها بظفر الإصبع (2) الوسطى، ولم يراع أحد من الفقهاء ذلك (3). والذي يدل على ما قلناه: إجماع الطائفة، ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) في أكثر الروايات أمر بالخذف (4)، والخذف كيفية في الرمي مخالفة لغيرها.


(1) سنن البيهقي ج 5 / 126.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: إصبعه.
(3) المغني لابن قدامة: ج 3 / 445.
(4) سنن البيهقي: ج 5 / 128، كنز العمال: ج 5 / 218.

[ 261 ]

كتاب النكاح


[ 262 ]

كتاب النكاح (مسألة) [ 145 ] [ الزنا بذات بعل ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من زنا بامرأة ولها بعل حرم عليه نكاحها أبدا وإن فارقها زوجها، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1). والحجة لنا إجماع الطائفة. وأيضا فإن إستباحة التمتع بالمرأة لا يجوز إلا بيقين، ولا يقين في إستباحة من هذه صفته فيجب العدول عنها إلى من يتيقن إستباحة التمتع به بالعقد. فإن قالوا: الأصل الإباحة ومن ادعى حظرا فعليه دليل يقتضي العلم بالحظر. قلنا: الإجماع الذي أشرنا إليه يخرجنا عن حكم الأصل. وبعد: فإن جميع مخالفينا ينتقلون عن حكم الأصل في العقول بأخبار الآحاد، وقد ورد من طرق الشيعة في حظر من ذكرناه أخبار معروفة (2)


(1) المدونة الكبرى: ج 2 / 278، المحلى: ج 9 / 475، بداية المجتهد: ج 2 / 37 و 42 الفتاوى الهندية: ج 1 / 280، الهداية: ج 1 / 194 – 195.
(2) لم نعثر على رواية بهذا المضمون، وقد أشار صاحب الوسائل إلى قول السيد المرتضى هذا في الانتصار راجع وسائل الشيعة: ج 14 / 332 ح 10.

[ 263 ]

فيجب على ما يذهبون إليه أن ينتقل عن الإباحة. فإن استدلوا بظواهر آيات القرآن مثل قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) (1) بعد ذكر المحرمات، وبقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (2). قلنا كل هذه الظواهر يجوز أن يرجع عنها بالأدلة كما رجعتم أنتم عنها في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، والاجماع الذي ذكرناه يوجب الرجوع لأنه مفض إلى العلم. والأخبار التي روتها الشيعة لو انفردت عن الإجماع لوجب عند خصومنا أن يخصوا بها كل هذه الظواهر لأنهم يذهبون إلى تخصيص ظواهر القرآن بأخبار الآحاد. وليس لهم أن يقولوا هذه أخبار لا نعرفها ولا رويناها فلا يجب العمل بها. قلنا: شروط الخبر الذي يوجب العمل عندكم قائمة في هذه الأخبار فابحثوا عن رواتها وطرقها لتعلموا ذلك، وليس كل شئ لم تألفوه وترووه لا حجة فيه، بل الحجة فيما حصلت له شرائط الحجة من الأخبار. ولو لم يكن في العدول عن نكاح من ذكرناه إلا الاحتياط للدين لكفى، لأن نكاح من هذه حاله مختلف فيه ومشكوك في إباحته فالتجنب له أولى، وقد رويتم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك


(1) سورة النساء: الآية 24.
(2) سورة النساء: الآية 3.
(3) سنن البيهقي: ج 5 / 335، الجامع الصغير: ج 2 / 15.

[ 264 ]

(مسألة) [ 146 ] [ الزنا بالمرأة في العدة ] ومما انفردت الإمامية به القول: بأن من زنا بامرأة وهي في عدة من بعل له فيها عليها رجعة حرمت عليه بذلك ولم تحل له أبدا. والحجة لأصحابنا في هذه المسألة الحجة التي قبلها، والكلام في المسألتين واحد فلا معنى لتكراره. (مسألة) [ 147 ] [ العقد على المرأة في العدة عالما ] ومما انفردت به الإمامية القول: أن من عقد على امرأة وهي في عدة مع العلم بذلك لم تحل له أبدا وإن لم يدخل بها، والكلام في هذه المسألة كالكلام في المسألتين المتقدمتين. (مسألة) [ 148 ] [ العقد على المرأة في العدة جاهلا ] ومما ظن انفراد الإمامية به أن من عقد على امرأة وهي في عدة وهو لا يعلم فدخل بها فرق بينهما ولم تحل له أبدا. وقد روي وفاق الإمامية في ذلك عن مالك والأوزاعي والليث بن سعد (1)، وقال مالك والليث لا تحل له أبدا


(1) المحلى: ج 9 / 479.

[ 265 ]

ولا بملك اليمين (1). [ والحجة في هذه المسألة مثل الحجة في المسائل المتقدمة سواء ] (2). (مسألة) [ 149 ] [ لو تلوط بغلام فأوقبه ] ومما انفردت الإمامية به أن من تلوط بغلام فأوقب لم تحل له أم الغلام ولا أخته ولا بنته أبدا. وحكي عن الأوزاعي وابن حنبل أن من تلوط بغلام يحرم عليه تزويج بنته له (3) (4). والطريقة في هذه المسألة كالطريقة فيما تقدمها من المسائل. (مسألة) [ 150 ] [ لو طلق المرأة تسع تطليقات ] ومما انفردت به الإمامية أن من طلق امرأته تسع تطليقات للعدة ينكحها بينهن رجلان، ثم تعود إليه حرمت عليه أبدا، وهذه المسألة نظير لما تقدمها.


(1) المصدر السابق.
(2) ساقط من ” ألف ” و ” م “.
(3) كلمة ” له ” ساقطة من ” ألف ” و ” م “.
(4) المجموع: ج 16 / 221، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 484، الشرح الكبير: ج 7 / 482 عمدة القاري: ج 20 / 102.

[ 266 ]

(مسألة) [ 151 ] [ الزنا بالعمة أو الخالة ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن من زنا بعمته أو خالته حرمت عليه بناتهما على التأبيد، وأبو حنيفة يوافق في ذلك، ويذهب إلى أنه من زنا بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها، وحرمت المرأة على أبيه وابنه، وهو أيضا قول الثوري والأوزاعي (1). وخالف باقي الفقهاء كلهم في ذلك ولم يحرموا بالزنا الأم والبنت (2). دليلنا كل شئ احتججنا به في تحريم المرأة على التأبيد إذا كانت ذات بعل (محرم) على من زنا بها. ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) (3)، ولفظة النكاح تقع على الوطء والعقد معا، فكأنه تعالى قال: لا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم (4) ولا تطأوا ما وطئهن، وكل من حرم بالوطء في الزنا المرأة على الابن (5) حرم بنتها وأمها عليهما جميعا. والاحتجاج في هذا الموضع بما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله الحرام لا يحرم الحلال (6) غير صحيح، لأنه خبر واحد، ولأنه مخصوص


(1) بداية المجتهد: ج 2 / 37 الهداية: ج 1 / 192 فتح القدير: ج 2 / 365 شرح فتح القدير: ج 3 / 126، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 482.
(2) المدونة الكبرى: ج 4 / 127 – 128 الأم: ج 5 / 136 المهذب: ج 2 / 43 الاشراف: ج 2 / 101 سنن البيهقي: ج 7 / 168 شرح فتح القدير: ج 3 / 126 الهداية ج 1 / 192.
(3) سورة النساء: الآية 22.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: آباؤكم من النساء.
(5) في ” ألف ” و ” م “: الابن والأب.
(6) سنن البيهقي: ج 7 / 169 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 482 المجموع: ج 16 / 221.

[ 267 ]

بإجماع. ويحمل على مواضع منها أن الوطء في الحيض وهو حرام لا يحرم ما هو مباح من المرأة ومنها إذا زنا بامرأة فله أن يتزوجها، ومنها إن وطء الأب لزوجة ابنه التي دخل بها أو وطء الابن لزوجة أبيه وهو حرام لا يحرم تلك المرأة على زوجها ولا يجعل هذا الحرام ذلك الحلال حراما. (مسألة) [ 152 ] [ حرمة المرأة باللعان ] ومما ظن انفراد الإمامية به أن من لاعن امرأته لم تحل له أبدا، وقد وافق الإمامية في ذلك الشافعي وزفر وأبو يوسف ومالك وقالوا: إن فرقة اللعان مؤبدة (1). وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن الملاعن إذا أكذب نفسه وجلد الحد له أن يتزوجها (2). دليلنا: الإجماع المتردد.، ويعارضون بما يروونه عن النبي (عليه السلام) من قوله: المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (3)، وقوله (عليه السلام) لعويمر حين فرق بينه وبين زوجته: باللعان لا سبيل لك عليها (4). وإذا قيل: معنى ذلك لا سبيل لك عليها في هذه الحال، قلنا: هذا تخصيص بغير دليل.


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 7 / 43 – 44، بداية المجتهد: ج 2 / 132 المحلى: ج 10 / 146.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 7 / 44.
(3) سبل السلام ج 3 / 192 تفسير النيسابوري (بحاشية الطبري): ج 5 / 15، سنن البيهقي ج 7 / 410، صحيح البخاري ج 2 / 108 صحيح مسلم: ج 1 / 490 سنن أبي داود ج 1 / 306 سنن الدارقطني ج 2 / 406.
(4) نصب الراية ج 3 / 250 سنن أبي داود ج 1 / 306.

[ 268 ]

(مسألة) [ 153 ] [ نكاح المتعة ] ومما شنع به على الإمامية وادعي تفردها به وليس الأمر على ذلك إباحة نكاح المتعة وهو النكاح المؤجل. وقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأقوال، منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ” عليه السلام ” وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود (رضي الله عنهما) ومجاهد وعطاء، وأنهم يقرأون (فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن) (1). وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير وابن جريح أنهم كانوا يفتون بها (2)، فادعاؤهم الاتفاق على حظر المتعة باطل. والحجة لنا سوى إجماع الطائفة على إباحتها، أشياء: منها أنه قد ثبت بالأدلة الصحيحة أن كل منفعة لا ضرر فيها في عاجل ولا آجل مباحة بضرورة العقل، وهذه صفة نكاح المتعة فيجب إباحته بأصل العقل. فإن قيل: من أين لكم نفي المضرة عن هذا النكاح في الآجل والخلاف في


(1) تفسير الطبري: ج 5 / 9 و 130 تفسير مجمع البيان: ج 3 / 32 تفسير القرطبي: ج 5 / 130 تفسير ابن كثير: ج 1 / 474 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 571 شرح النووي (صحيح مسلم): ج 9 / 179، صحيح الترمذي: ج 3 / 430 تفسير الرازي: ج 10 / 50 و 52 نصب الراية: ج 3 / 176 و 182.
(2) نيل الأوطار: ج 6 / 135 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 571 شرح النووي: ج 9 / 179 نصب الراية: ج 3 / 181، تفسير مجمع البيان: ج 3 / 32 الجامع لأحكام القرآن: ج 5 / 130 تفسير الطبري: ج 5 / 10 تفسير ابن كثير: ج 1 / 474.

[ 269 ]

ذلك؟ قلنا: من ادعى ضررا في الآجل فعليه الدليل، ولا دليل قاطعا يدل على ذلك. ومنها أنه لا خلاف في إباحة هذا النكاح في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) بغير شبهة ثم ادعى تحريمها من بعد ونسخها ولم يثبت النسخ وقد ثبت الإباحة بالاجماع فعلى من ادعى الحظر والنسخ الدلالة. فإن ذكروا الأخبار التي رووها في أن النبي (صلى الله عليه وآله) حرمها ونهى عنها (1). فالجواب عن ذلك أن كل هذه الأخبار إذا سلمت من المطاعن والتضعيف أخبار آحاد، وقد ثبت أنها لا توجب عملا في الشريعة، ولا يرجع بمثلها عما علم وقطع عليه، على أن هذه الأخبار كلها قد طعن أصحاب الحديث ونقاده على رواتها وضعفوهم، وقالوا في كل واحد منهم ما هو مسطور، لا معنى للتطويل بإيراده. وبعد، فهذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة (2) في استمرار إباحتها والعمل بها حتى ظهر من نهي عمر عنها ما ظهر. ومنها قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن


(1) سنن ابن ماجة: ج 2 / 631، سنن أبي داود: ج 2 / 226 – 227 صحيح البخاري: ج 7 / 16 سنن الترمذي: ج 3 / 429 الموطأ: ج 2 / 542.
(2) تفسير النيسابوري: (بهامش الطبري): ج 5 / 17 – 18، تفسير لباب التأويل (الخازن): ج 2 / 50، تفسير القرطبي ج 5 / 130، تفسير ابن كثير: ج 1 / 475، تفسير الرازي ج 10 / 50 تفسير الطبري: ج 5 / 9 مسند أحمد: ج 4 / 436، صحيح مسلم: ج 1 / 535 البخاري: ج 7 / 16، الترمذي: ج 3 / 430.

[ 270 ]

فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) (1) ولفظ الاستمتاع والتمتع وإن كان واقعا في الأصل على الالتذاذ والانتفاع فبعرف الشرع قد صار مخصوصا بهذا العقد المعين لا سيما إذا أضيف إلى النساء، ولا يفهم من قول القائل متعة النساء إلا هذا العقد المخصوص دون التلذذ والمنفعة كما أن لفظ الظهار إختص بعرف الشرع بهذا الحكم المخصوص وإن كانت لفظة ظهار في اللغة مشتركة غير مختصة، وكأنه تعالى قال: فإذا عقدتم عليهن هذا العقد المخصوص فآتوهن أجورهن، وقد كنا قلنا في بعض ما أمليناه قديما أن تعليقه تعالى وجوب إعطاء المهر بالاستمتاع دلالة على أن هذا العقد المخصوص دون الجماع، لأن المهر إنما يجب بالعقد دون الجماع. ويمكن اعتراض ذلك بأن يقال: إن المهر إنما يجب دفعه بالدخول وهو الاستمتاع. والذي يجب تحقيقه والتعويل عليه أن لفظة (استمتعتم) لا تعدو وجهين: أما أن يراد بها الانتفاع والالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللغة أو العقد المؤجل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع، ولا يجوز أن يكون المراد هو الوجه الأول لأمرين: أحدهما: أنه لا خلاف بين محصلي من تكلم في أصول الفقه في أن لفظ القرآن إذا أورد وهو محتمل لأمرين: أحدهما: وضع أهل اللغة والآخر: عرف الشريعة: أنه يجب حمله على عرف الشريعة، ولهذا حملوا كلهم لفظ صلاة وزكاة وصيام وحج على العرف الشرعي دون اللغوي. والأمر الآخر: أنه لا خلاف في أن المهر لا يجب بالالتذاذ، لأن رجلا


(1) سورة النساء: آية 24.

[ 271 ]

لو وطئ امرأة ولم يلتذ بوطئها، لأن نفسه عافتها وكرهتها، أو لغير ذلك من الأسباب لكان دفع المهر واجبا وإن كان الالتذاذ مرتفعا، فعلمنا أن لفظة الاستمتاع في الآية إنما أريد بها العقد المخصوص دون غيره. ومما يبين ما ذكرناه ويقويه قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) (1) والمعنى على ما أجمع عليه أصحابنا وتظاهرت به الروايات عن أئمتهم عليهم السلام أن تزيدها في الأجر وتزيدك في الأجل (2). وما يقوله مخالفونا من أن المراد بذلك رفع الجناح في الابراء أو النقصان أو الزيادة في المهر أو ما يستقر بتراضيهما من النفقة ليس بمعول عليه، لأنا نعلم أن العفو والابراء مسقط للحقوق بالعقول، ومن الشرع ضرورة لا بهذه الآية، والزيادة في المهر إنما هي كالهبة، والهبة أيضا معلومة لا من هذه الآية، وأن التراضي مؤثر في النفقات وما أشبهها معلوم أيضا، وحمل الآية والاستفادة بها ما ليس بمستفاد قبلها ولا معلوم هو الأولى، والحكم الذي ذكرناه مستفاد بالآية غير معلوم قبلها فيجب أن يكون أولى. ومما يمكن معارضة المخالف به الرواية المشهورة أن عمر خطب الناس ثم قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلالا أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج (3)، فاعترف بأنها كانت على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) حلالا، وأضاف النهي والتحريم إلى نفسه، فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي نسخها ونهى عنها أو أباحها في وقت مخصوص دون غيره على ما يدعون لأضاف عمر التحريم إليه عليه السلام دون نفسه.


(1) سورة النساء: آية 24.
(2) تفسير مجمع البيان: ج 3 / 32 تفسير الرازي ج 10 / 50 و 51، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 572.
(3) سنن البيهقي: ج 7 / 206، أحكام القرآن (للجصاص): 2 / 152.

[ 272 ]

فإن قيل: من المستبعد أن يقول: ذلك عمر، ويصرح بأنه حرم ما أحله النبي (عليه السلام) فلا ينكره عليه منكر. قلنا: قد أجبنا عن هذا السؤال في جملة جواب المسائل الطرابلسيات (1)، وقلنا: أنه لا يمتنع أن يكون السامعون لهذا القول من عمر انقسموا إلى معتقد للحق، بري من الشبهة، خارج عن حد (2) العصبية غير أنه لقلة عدده وضعف بطشه لم يتمكن من إظهار الانكار بلسانه فاقتصر على إنكار قلبه. وقسم آخر – وهم الأكثرون عددا – دخلت عليهم الشبهة الداخلة على مخالفينا في هذه المسألة واعتقدوا أن عمر إنما أضاف النهي إلى نفسه وإن كان الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الذي حرمها تغليظا وتشديدا وتكفلا وتحققا. وقسم آخر اعتقدوا أن ما أباحه الله تعالى في بعض الأوقات إذا تغيرت الحال فيه وأشفق من ضرر في الدين يلحق في الاستمرار عليه جاز أن ينهى عنه بعض الأئمة، وعلى هذا الوجه حمل الفقهاء نهي عمر عن متعة الحج، وقد تقدم ذكر ذلك. على أنه لا خلاف بين الفقهاء في أن المتمتع لا يستحق رجما ولا عقوبة، وقال عمر في كلامه: لا أؤتى بأحد تزوج متعة إلا عذبته بالحجارة ولو كنت تقدمت فيها لرجمت (3)، وما أنكر – مع هذا – عليه ذكر الرجم والعقوبة أحد فاعتذروا في ترك النكير لذلك بما شئتم فهو العذر في ترك النكير للنهي عن المتعة.


(1) لا يوجد كتابه لدينا.
(2) في (ألف) و (م) حيز.
(3) تفسير النيسابوري بهامش الطبري: ج 5 / 17 تفسير الرازي: ج 9 / 51 تفسير القرطبي: ج 5 / 132 راجع صحيح مسلم: كتاب الحج: 145.

[ 273 ]

وفي أصحابنا من استدل على أن لفظة (استمتعتم) تنصرف إلى هذا النكاح المؤجل دون المؤبد بأنه تعالى سمى العوض عليه أجرا ولم يسم العوض عن النكاح المؤبد بهذا الاسم في القرآن كله بل سماه نحلا وصداقا وفرضا. وهذا غير معتمد لأنه تعالى قد سمى العوض عن النكاح المؤبد في غير هذا الموضع بالأجر في قوله تعالى: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) (1) وفي قوله تعالى: (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن) (2). فإن قيل: كيف يصح حمل لفظة (استمتعتم) على النكاح المخصوص وقد أباح الله تعالى بقوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) (3) النكاح المؤبد بلا خلاف؟ فمن خصص ذلك بعقد المتعة خارج عن الإجماع. قلنا: قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) (4) يبيح العقد على النساء والتوصل بالمال إلى استباحتهن ويعم ذلك العقد المؤبد والمؤجل ثم خص العقد المؤجل بالذكر فقال: (فما استمتعتم به منهن) (5) والمعنى فمن نكحتموه منهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة لأن الزيادة في الأجر والأجل لا تليق إلا بالعقد المؤجل. فإن قيل: الآية مجملة لقوله تعالى: (محصنين غير مسافحين) ولفظة الاحصان تقع على أشياء مختلفة من العفة والتزويج وغير ذلك.


(1) سورة الممتحنة: آية 10.
(2) سورة النساء: آية 25.
(3) و (4) و (5) سورة النساء: آية 24.

[ 274 ]

قلنا: الأولى إن تكون لفظة محصنين محمولة على العفة والتنزه عن الزنا لأنه في مقابلة قوله تعالى: (غير مسافحين) والسفاح: الزنا بغير شبهة ولو حملت اللفظة على الأمرين من العفة والاحصان الذي يتعلق به الرجم لم يكن بعيدا. فإن قيل: كيف نحمل لفظة الاحصان في الآية على ما يقتضي الرجم، وعندكم أن المتعة لا تحصن؟ قلنا: قد ذهب بعض أصحابنا إلى أنها تحصن. وبعد فإذا كانت لفظة (محصنين) تليق بالنكاح المؤبد رددنا ذلك إليه، كما أنا (1) رددنا لفظة الاستمتاع إلى النكاح المؤجل لما كانت تليق به، فكأنه تعالى أحل النكاح على الإطلاق وابتغاءه بالأموال ثم فصل منه المؤبد بذكر الاحصان والمؤجل بذكر الاستمتاع. وقد استدل المخالفون في حظر المتعة بقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (2)، قالوا: والمنكوحة متعة ليست بزوجة من وجوه: لأنها لا ترث ولا تورث، والله تعالى يقول: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم… ولهن الربع مما تركتم) (3). وأيضا لو كانت زوجة لوجب أن تعتد عند وفاة المستمتع بها أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) (4). وأيضا فلو كانت زوجة لبانت بالطلاق بظواهر الكتاب.


(1) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(2) سورة المؤمنون: آية 5 – 7.
(3) سورة النساء: آية 12.
(4) سورة البقرة: آية 234.

[ 275 ]

وأيضا لو كانت زوجة للحقها الايلاء واللعان والظهار وللحق بها الولد. وأيضا لو كانت زوجة لوجب لها السكنى والنفقة وأجرة الرضاع وأنتم تذهبون إلى خلاف ذلك. وأيضا لو كانت زوجة لأحلت المطلقة ثلاثا للزوج الأول بظاهر قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره) (1). فيقال لهم في ما تعلقوا به أولا ليس فقد الميراث علامة على فقد الزوجية، لأن الزوجة الذمية والأمة والقاتلة لا يرثن ولا يورثن وهن زوجات على أن من مذهبنا أن الميراث قد يثبت في المتعة إذا لم يحصل شرط في أصل العقد بانتفائه، ونستثني المتمتع بها مع شرط نفي الميراث من ظواهر آيات الميراث كما استثنيتم الذمية والقاتلة. فأما ما ذكروه ثانيا فهم يخصون الآية التي تلوها في عدة المتوفى عنها زوجها لأن الأمة عندهم زوجة وعدتها شهران وخمسة أيام، وإذا جاز تخصيص ذلك بالدليل خصصنا المستمتع بها بمثله. وأما ما ذكروه ثالثا فالجواب عنه أن في الزوجات من تبين بغير طلاق كالملاعنة والمرتدة والأمة المبيعة والمالكة لزوجها وظواهر الكتاب غير موجبة لأن كل زوجة يقع بها طلاق وإنما يتضمن ذكر أحكام الطلاق إذا وقع مثل قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) (2). وقوله تعالى: (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) (3). فإن قالوا: الزوجية تقتضي جواز لحوق الطلاق بالزوجة، ومن ذكرتم من


(1) سورة البقرة: آية 230.
(2) سورة الطلاق: آية 1.
(3) سورة البقرة: آية 231 و 232.

[ 276 ]

البائنات بغير طلاق، قد كان يجوز أن يلحقهن حكم الطلاق. قلنا: الطلاق إنما يحتاج إليه في النكاح المؤبد لأنه غير موقت، والنكاح الموقت لا يفتقر إلى الطلاق، لأنه ينقطع حكمه بمضي الوقت. فإذا قيل: وإن لم يفتقر الموقت إلى الطلاق في وقوع الفرقة، ألا جاز أن تطلق قبل انقضاء الأجل المضروب فيؤثر ذلك فيما بقي من مدة الأجل؟ قلنا: قد منعت الشريعة من ذلك، لأن كل من أجاز النكاح الموقت وذهب إلى الاستباحة به يمنع من أن يقع فرقة قبله بطلاق، فالقول بالأمرين خلاف الإجماع. والذي ذكروه رابعا جوابه أن الولد يلحق بعقد المتعة ومن ظن خلاف ذلك علينا فقد أساء بنا الظن والظهار أيضا يقع بالمتمتع بها وكذلك اللعان. على أنهم لا يذهبون إلى وقوع اللعان بكل زوجة، لأن أبا حنيفة يشترط في اللعان أن يكون الزوجان جميعا غير كافرين ولا عبدين، وعنده أيضا أن الأخرس لا يصح قذفه ولا لعانه (1). وعند أبي حنيفة أيضا أن ظهار الذمي لا يصح (2). على أنه ليس في ظواهر القرآن ما يقتضي لحوق الظهار واللعان بكل زوجة وكذلك الايلاء، وإنما في الآيات الواردات بهذه الأحكام بيان حكم من ظاهر أو لا عن أو آلى فلا تعلق للمخالف بذلك.


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 515، المجموع: ج 17 / 433، المحلى: ج 10 / 144، المبسوط (للسرخسي): ج 7 / 40 المغني (لابن قدامة): ج 9 / 6.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 8 / 556، المبسوط (للسرخسي): ج 6 / 227 الفتاوى الهندية: ج 1 / 505 – 506.

[ 277 ]

وأما الايلاء فإنما لم يلحق المتمتع بها، لأن أجل المتعة ربما كان دون أربعة أشهر وهو الأجل المضروب في الايلاء. فأما أجل المتعة إن كان زائدا على ذلك فإنما لم يدخل هذا العقد الايلاء لأن الله تعالى قال: (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم) (1) (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) (2) فعلق حكم من لم يراجع بالطلاق، ولا طلاق في المتعة فلا إيلاء يصح فيها، وهذا الوجه الأخير يبطل دخول الايلاء في نكاح المتعة طالت مدتها أو قصرت. والجواب عما ذكروه، خامسا أن الشيعة تذهب إلى أنه لا سكنى للمتمتع بها بعد انقضاء الأجل، ولا نفقة لها في حال حملها، ولها أجرة الرضاع إن لم يشترط عليها في ابتداء العقد رضاع الولد والكفالة به، ويخصصون قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (3). كما خصصت الجماعة ذلك فيمن خلع زوجته على أن تنفق على نفسها في أحوال حملها وتتكفل بولدها واتفقا على ذلك. والجواب عما ذكروه سادسا أن المعمول (4) عليه والأظهر من المذهب أن المتمتع بها لا تحلل المطلقة ثلاثا للزوج الأول، لأنها تحتاج أن (5) تدخل في مثل ما خرجت منه ونخصص بالدليل قوله تعالى: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) (6)، كما خصصنا كلنا هذه الآية وأخرجنا منها من عقد ولم يقع منه


(1) سورة البقرة: آية 226.
(2) سورة البقرة: آية 227.
(3) سورة الطلاق آية 6.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: المعول.
(5) في ” ألف ” و ” ب “: إلى أن.
(6) سورة البقرة: آية 230.

[ 278 ]

وطء للمرأة. وأخرجنا أيضا منها الغلام الذي لم يبلغ الحلم وإن وطئ، ومن جامع دون الفرج فتخصيص هذه الآية مجمع عليه. (مسألة) [ 154 ] [ نكاح عمة الزوجة أو خالتها ] ومما انفردت الإمامية به: إباحتهم أن تتزوج (1) المرأة على عمتها وخالتها بعد أن يستأذنهما وترضيا به، ويجوزون أن يتزوج بالعمة وعنده بنت أخيها وإن لم ترض بنت الأخ. وكذلك يجوز عندهم أن يعقد على الخالة وعنده بنت أختها من غير رضا بنت الأخت، وحكي عن الخوارج (2) إباحة تزويج المرأة على عمتها وعلى خالتها. والحجة: بعد الإجماع المتقدم قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) (3) وكل ظاهر في القرآن يبيح العقد على النساء بالإطلاق. فإن احتجوا بما يروى عنه ” عليه السلام ” من قوله: لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها (4). فالجواب أنه خبر واحد ونحمله على الحظر إذا لم يكن منهما رضا وهو


(1) في ” ألف “: تزوج.
(2) نيل الأوطار: ج 6 / 148 فتح الباري: ج 9 / 161 عمدة القاري: ج 20 / 107 المجموع: ج 16 / 225.
(3) سورة النساء: آية 24.
(4) سنن البيهقي: ج 7 / 165 – 166 جامع الأصول: ج 12 / 158 – 159 صحيح البخاري: ج 7 / 15 سنن أبي داود: ج 2 / 224 سنن الترمذي: ج 3 / 432 سنن الدارمي: ج 2 / 136 مسند أحمد: ج 1 / 78، 372 و: ج 2 / 179، 189 سنن النسائي: ج 6 / 97.

[ 279 ]

معارض بأخبار كثيرة في الإباحة مع الاستئذان والرضا (1). (مسألة) [ 155 ] [ نكاح الكتابيات ] ومما انفردت به الإمامية: حظر نكاح الكتابيات، وباقي الفقهاء يجيزون ذلك (2). دليلنا بعد الإجماع المتقدم قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) (3)، ولا شبهة في أن النصرانية مشركة، وقوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) (4)، وبين الزوجين عصمة لا محالة، وقوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) (5) والظاهر من ذلك نفي التساوي في سائر الأحكام التي من جملتها المناكحة. فإن عارضونا بقوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (6). فالجواب أنا نشرط في ذلك الاسلام بالأدلة المتقدمة. فإذا قيل: لا معنى لذلك، وقد أغنى عنه قوله تعالى: (والمحصنات من


(1) الكافي: ج 5 / 424 باب المرأة تزوج على عمتها أو خالتها.
(2) الهداية: ج 1 / 193، الفتاوى الهندية: ج 1 / 281 مختصر المزني: ص 169، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 500 المبسوط (للسرخسي): ج 5 / 38 سنن البيهقي: ج 7 / 170 – 173.
(3) سورة البقرة: آية 221.
(4) سورة الممتحنة: آية 10.
(5) سورة الحشر: آية 20.
(6) سورة المائدة: آية 5.

[ 280 ]

المؤمنات). قلنا: قد يجوز قبل ورود هذا أن يفرق الشرع بين المؤمنة التي لم تكن قط كافرة وبين من كانت كافرة ثم آمنت، ففي بيان ذلك والجمع بين الأمرين في الإباحة فائدة. فإن قيل: إذا شرطتم في آية الإباحة ما ليس في الظاهر وصارت مجازا، فأي فرق بينكم في ذلك وبيننا إذا عدلنا عن ظواهر الآيات التي احتججتم بها، وخصصناها بالكافرات المرتدات والحربيات؟ قلنا: الفرق بيننا وبينكم أنكم تعدلون عن ظواهر آيات كثيرة، ونحن نعدل عن ظاهر آية واحدة، فمذهبنا أولى. (مسألة) [ 156 ] [ إعارة الفروج ] ومما شنع به على الإمامية: تجويزهم إعارة الفروج وأن الفرج يستباح بلفظ العارية. وتحقيق هذه المسألة أنا ما وجدنا فقيها منهم أفتى بذلك ولا أودعه مصنفا له ولا كتابا، وإنما يوجد في أحاديثهم أخبار نادرة تتضمن إعارة الفروج في المماليك (1). وقد يجوز – إذا صحت تلك الأخبار وسلمت من القدح والتضعيف – أن يكون عبر بلفظ العارية عن النكاح، لأن في النكاح معنى العارية من حيث كانت إباحة للمنافع مع بقاء العين على ملك مالكها، ونكاح الأمة يجري هذا المجرى، لأن الرجل إذا أنكح أمته غيره فإنما أباحه


(1) التهذيب: ج 7 / 246 ح 21، الاستبصار: ج 3 / 141 ح 2 باب 91.

[ 281 ]

الانتفاع بها مع بقاء ملك الجارية عليه. فإن قيل: أفتجوزون إستباحة الفرج بلفظ العارية؟ قلنا: ليس في الأخبار التي أشرنا إليها أن لفظة العارية من الألفاظ التي ينعقد بها النكاح، وإنما تضمنت أنه يجوز للرجل أن يعير فرج مملوكته لغيره فنحمل لفظ العارية هاهنا على أن المراد بها النكاح من حيث الاشتراك في المعنى، كما قال: يجوز للرجل أن يبيح مملوكته لغيره على معنى أنه يعقد عليها عقد النكاح الذي فيه معنى الإباحة، ولا يقتضي ذلك أن النكاح ينعقد بلفظ الإباحة. على أن أبا حنيفة وأصحابه لا يجب أن يشنعوا بذلك وهم يجيزون أن ينعقد النكاح بلفظ الهبة والبيع (1)، فليس الشناعة في العدول عن زوجيني نفسك إلى بيعيني نفسك أو هبي لي نفسك بأدون من الشناعة في أعيريني نفسك. (مسألة) [ 157 ] [ الشهادة في النكاح ] ومما ظن انفراد الإمامية به وشنع عليهم لأجله: القول بأن الشهادة ليست بشرط في النكاح، وقد وافق داود (2) في ذلك. وقال مالك: إذا لم يتواصوا بالكتمان صح النكاح وإن لم يحضروا الشهود (3).


(1) بداية الهداية: ج 2 / 5 فتح الباري ج 9 / 164 المبسوط (للسرخسي): ج 5 / 61.
(2) نيل الأوطار: ج 6 / 127.
(3) شرح فتح القدير: ج 3 / 110 بدائع الصنائع: ج 2 / 252 تبيين الحقائق: ج 2 / 98، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 339، نيل الأوطار: ج 6 / 127 المبسوط (للسرخسي): ج 5 / 30 – 31.

[ 282 ]

وباقي الفقهاء جعلوا الشهادة في النكاح شرطا (1)، والحجة لقولنا إجماع الطائفة المحقة، وأيضا فإن الله تعالى أمر بالنكاح في مواضع كثيرة من الكتاب ولم يشرط بالشهادة، ولو كانت شرطا لذكرت. على أن أبا حنيفة عنده أن كل زيادة في القرآن توجب النسخ (2)، فلو زاد الشهادة لكان ذلك نسخا للكتاب، والكتاب لا ينسخ بأخبار الآحاد. ومما يمكن أن يعارض المخالف به ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله إن النساء عندكم عوار أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله (3)، وليس هاهنا كلام يستباح به فرج المرأة غير قول المزوج: قد زوجت وقول المتزوج: قد تزوجت، وظاهر هذا الكلام يقتضي أن الاستباحة حصلت بهذا الكلام بلا شرط زائد من شهادة ولا غيرها. فإن قيل: إنما أراد بكلمة الله قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) (4) وما جرى مجراه من الألفاظ المبيحة للعقد على النساء. قلنا: تحليل الفرج لم يحصل بهذا القول، ولو كان حاصلا به لاستغنى عن العقد والايجاب والقبول في الإباحة، وإنما آيات القرآن استفيد منها الإذن فيما يقع به التحليل والاباحة وهو العقد والايجاب والقبول. فإن احتجوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل (5).


(1) روضة الطالبين: ج 7 / 45 المهذب: ج 2 / 40 الأم: ج 5 / 19 فتح القدير: ج 2 / 352، تبيين الحقائق: ج 2 / 98 مجمع الأنهر: ج 1 / 320 بدائع الصنائع ج 2 / 252 نيل الأوطار: ج 6 / 126 – 127 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 339 المبسوط (للسرخسي): ج 5 / 30.
(2) المحصول: ج 1 / 564.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 5 / 59.
(4) سورة النور آية 32.
(5) سنن البيهقي: ج 7 / 124 – 126 نصب الراية: ج 3 / 167 نيل الأوطار: ج 6 / 118 و 125.

[ 283 ]

فالجواب عنه أن هذا خبر واحد وهو مع ذلك مطعون في طريقه. والزهري قد أنكره (1) ومداره عليه وفي تضعيفه وجوه كثيرة لا نطول بذكرها ومع ذلك فإن النفي داخل في اللفظ على النكاح، والمراد حكمه وليس هم بأن يحملوه على نفي الصحة والإجزاء بأولى منا إذا حملناه على نفي الفضل والكمال، وأجريناه مجرى قوله عليه السلام: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (2)، ولا صدقة وذو رحم محتاج (3). (مسألة) [ 158 ] [ نكاح المرأة بغير ولي ] ومما يقدر من لا اختبار له انفراد الإمامية به وما انفردوا به (4): جواز عقد المرأة التي تملك أمرها على نفسها بغير ولي. وهذه المسألة يوافق فيها أبو حنيفة ويقول: أن المرأة إذا عقلت وكملت زالت من الأب الولاية عليها في بضعها، ولها أن تزوج نفسها، وليس لوليها الاعتراض عليها إلا إذا وضعت نفسها في غير كفؤ (5). وقال أبو يوسف ومحمد: يفتقر في النكاح إلى الولي لكنه ليس بشرط فيه،


(1) راجع: الجوهر النقي (هامش البيهقي): ج 7 / 126 تحفة الأحوذي: ج 4 / 231 نصب الراية: ج 3 / 185 نيل الأوطار: ج 6 / 119 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 338.
(2) و (3) تقدمت الإشارة إليهما.
(4) ليست في ” ألف ” و ” ب “.
(5) اختلاف العلماء: ص 121 البحر الرائق ج 3 / 117 تحفة الفقهاء: ج 1 / 152 مجمع الأنهر: ج 1 / 332 بداية المجتهد: ج 2 / 10 فتح الباري: ج 9 / 178 المجموع: ج 16 / 149 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 337 فتح القدير: ج 2 / 291، 292.

[ 284 ]

فإذا زوجت المرأة نفسها فعلى الولي إجازة ذلك (1). وقال مالك: المرأة المقبحة (2) الذميمة لا يفتقر نكاحها إلى الولي، ومن كان بخلاف هذه الصفة افتقر إلى الولي (3). وقال داود: إن كانت بكرا افتقر نكاحها إلى الولي وإن كانت ثيبا لم يفتقر (4). دليلنا على ما ذهبنا إليه: بعد إجماع الطائفة، قوله تعالى: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) (5) فأضاف عقد النكاح إليها والظاهر أنها تتولاه، وأيضا قوله تعالى: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) (6) فأضاف تعالى التراجع وهو عقد مستقل إليهما، والظاهر أنهما يتوليانه. وأيضا قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) (7) فأباح فعلها في نفسها من غير اشتراط الولي. ولا يجوز للمخالف أن يحمل اشتراط المعروف على تزويج الولي لها، وذلك أنه تعالى إنما رفع الجناح عنها في فعلها بنفسها بالمعروف، وعقد الولي عليها لا يكون فعلا منها في نفسها. وأيضا فقوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم


(1) البحر الرائق: ج 3 / 117، اختلاف العلماء: / 121، مجمع الأنهر: ج 1 / 332 المجموع: ج 16 / 149، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 337 نيل الأوطار: ج 6 / 119، تحفة الفقهاء ج 1 / 152.
(2) في ” ألف “: القبيحة.
(3) المدونة الكبرى: ج 4 / 16، نيل الأوطار: ج 6 / 119 بداية المجتهد ج 2 / 10 المحلى: ج 9 / 457، المجموع: ج 16 / 149.
(4) المجموع: ج 16 / 149.
(5) و (6) سورة البقرة: آية 230.
(7) سورة البقرة: آية 234.

[ 285 ]

بالمعروف) (1) فأضاف العقد إليهن، ونهى الأولياء عن معارضتهن، والظاهر أنهن يتولينه. ويمكن أن يعارض المخالف أيضا بما يروونه عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ليس للولي مع الثيب أمر (2). وأيضا ما رواه ابن عباس عنه (عليه السلام) أنه قال: الأيم أحق بنفسها من وليها (3)، فمن يخالفنا في هذه المسألة يدعي أن وليها أحق بها من نفسها. وأيضا ما روي من أن النبي (صلى الله عليه وآله) خطب إلى أم سلمة رحمة الله عليها فقالت ليس أحد من أوليائي حاضرا، فقال عليه السلام: ليس أحد من أوليائك حاضرا أو غائبا إلا ويرضى بي، ثم قال لعمر بن أبي سلمة وكان صغيرا قم فزوجها. فتزوج (4) النبي بغير ولي (5). فإن احتج المخالف بما روي عنه (عليه السلام) من قوله: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل (6). فالجواب عنه أن هذا الخبر مطعون عليه مقدوح فيه بما هو مذكور في الكتب، ويمكن حمله إذا كان صحيحا على الأمة إذا تزوجت بغير إذن مولاها، فإن لفظة (الولي) و (المولى) بمعنى واحد في اللغة، وقد ورد في بعض


(1) سورة البقرة آية 232.
(2) جامع الأصول: ج 12 / 140 سنن الدارقطني: ج 3 / 239 ح 66 نصب الراية: ج 3 / 194.
(3) الحجة على أهل المدينة: ج 3 / 136 سنن الدارقطني: ج 3 / 239 ح 65 نصب الراية: ج 3 / 182، جامع الأصول: ج 12 / 140.
(4) في باقي النسخ: فتزوجها.
(5) سنن ابن ماجة: ج 1 / 605 ح 1897 سنن البيهقي: ج 7 / 125 سنن الدارمي: ج 2 / 137 سنن أبي داود: 2 / 229 ح 2083.
(6) المغني (لابن قدامة): ج 7 / 338 المبسوط (للسرخسي): ج 5 / 11 جامع الأصول: ج 12 / 139، نصب الراية: ج 3 / 184 بداية المجتهد: ج 2 / 11، نيل الأوطار: ج 6 / 118 الحجة على أهل المدينة: ج 3 / 136.

[ 286 ]

الروايات في هذا الخبر أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها (1). فإن قيل: في الخبر ما يمنع من حمله على الأمة وهو فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها، والمهر لا يكون للأمة بل للمولى. قلنا: يجوز أن يضاف إليها وإن كانت لا تملك للعلقة التي بينه وبينها، وإن كانت ملكا للمولى، كما قال عليه السلام: من باع عبدا وله مال (2) فأضاف المال إلى العبد وإن كان للمولى. وليس لهم أن يحتجوا بما روي من أنه لا نكاح إلا بولي (3)، لأن المرأة إذا زوجت نفسها فذلك نكاح بولي، لأن الولي هو الذي يملك الولاية للعقد، ومن ادعى أن لفظة (ولي) لا تقع إلا على ذكر متعد (4)، لأنها تقع على الذكر والأنثى فيقال رجل ولي وامرأة ولي كما يقال فيهما: وصي. (مسألة) [ 159 ] [ ولاية الجد ] ومما انفردت به الإمامية: أن لولاية الجد من قبل الأب على الصغيرة رجحانا على ولاية الأب عليها، فإذا حضر أب وجد فاختار كل واحد منهما


(1) المحلى: ج 9 / 474 وفيه مولاها.
(2) الموطأ: ج 2 / 611 البخاري ج 3 / 151 صحيح مسلم: ج 3 / 1173 سنن البيهقي: ج 6 / 5 مسند أحمد ج 2 / 9 و ج 3 / 301 سنن النسائي: ج 7 / 297.
(3) مسند أحمد: ج 1 / 250 و ج 4 / 394، 413، سنن الترمذي: ج 3 / 411 سنن البيهقي: ج 7 / 124 – 126 سنن ابن ماجة: ج 1 / 605 سنن الدارمي: ج 2 / 137 سنن الدارقطني: ج 3 / 219 المستدرك للحاكم: ج 2 / 170.
(4) في ” م “: مبعد.

[ 287 ]

رجلا لنكاحها كان إختيارا الجد مقدما على اختيار الأب،. وإن سبق الأب إلى العقد لم يكن للجد اعتراض عليه. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والحجة لنا فيه: إجماع الطائفة، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك أن الجد قد كانت له ولاية على الأب لما كان صغيرا، ولم يكن للأب ولاية على الجد قط. (مسألة) [ 160 ] [ دفع المهر للزوجة ] ومما ظن انفراد الإمامية به ولم ينفردوا وله تحقيق نحن نوضحه أن الرجل إذا تزوج امرأة على صداق تقرر بينهما ثم قدم منه إليها شيئا ودخل بها فإنه لا شئ للمرأة سوى ما قبضته، وليس لها أن تطالب بزيادة عليه. وهذا توهم علينا، لأن المهر المتقرر الذي ينعقد به النكاح بينهما متى دخل بها فقد وجب كاملا، وإذا كانت قد قبضت بعضه فلها أن تطالب بالباقي، إلا أنه ليس لها أن تمنع نفسها حتى توفي المهر، وإن كان ذلك لها قبل الدخول. والأخبار الواردة في كتب أصحابنا (2) التي أوهمت ما قدمنا ذكره محمولة على أحد أمرين: أحدهما: ما ذكرناه من أنه لا شئ بقي لها يجوز أن تمنع نفسها حتى تستوفيه. والأمر الآخر: أن تكون امرأة ما قررت لنفسها مع زوجها مهرا ودفع


(1) فتح الباري: ج 9 / 187، 191 المجموع: ج 16 / 168 – 169، تحفة الفقهاء: ج 1 / 149 – 150.
(2) التهذيب: ج 7 / 361 ح 27 الاستبصار: ج 3 / 224 ح 11، وسائل الشيعة: باب 3 من أبواب المهور ج 15 ص 13.

[ 288 ]

الزوج إليها شيئا فرضيت به، ومكنته من الدخول بها (1) فلا شئ لها بعد ذلك لأنها لو لم ترض بما قبضت لما مكنت من الدخول بها فهذا هو الوجه في المسألة. (مسألة) [ 161 ] [ إذن البنت في النكاح ] ومما يظن انفراد الإمامية به قبل الاختبار: القول بأنه ليس للأب أن يزوج بنته البكر البالغة إلا بإذنها. وأبو حنيفة يوافق في ذلك (2). وقال مالك والشافعي: للأب أن يزوجها بغير إذنها (3). وقال الليث بن سعد لا يزوجها بغير رضاها إلا الأب وحده دون الجد وغيره (4)، وقال الشافعي: ويزوجها الجد أيضا بغير إذنها (5). دليلنا الإجماع المتردد. ومما يجوز أن يعارض المخالفون به ما يروونه عن النبي (6) (صلى الله عليه وآله) قوله: لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا إجبار


(1) الكلمة ساقطة من باقي النسخ.
(2) الحجة على أهل المدينة: ج 3 / 126، المغني (لابن قدامة): ج 7 / 565 المجموع: ج 16 / 149 فتح الباري: ج 9 / 193 المحلى ج 9 / 459.
(3) المدونة: ج 4 / 5 فتح الباري: ج 9 / 193، المحلى: ج 9 / 459 المجموع: ج 16 / 149 – 168 المغني (لابن قدامة): ج 7 / 380 الأم: ج 5 / 15 – 16 المهذب: ج 2 / 37 مغني المحتاج: ج 3 / 164.
(4) فتح الباري ج 9 / 193.
(5) المهذب ج 2 / 37 المحلى: ج 9 / 459 فتح الباري: ج 9 / 193.
(6) في باقي النسخ: عن أبي هريرة عن.

[ 289 ]

عليها (1)، والمراد باليتيمة هاهنا البكر البالغة لوقوع الاتفاق على أن السكوت لا يكون إذنا من غيرها، والصغيرة لا اعتبار بإذنها. فإن قيل: المراد باليتيمة في الخبر التي لا أب لها فيزوجها غير الأب. قلنا: لا تسمى الكبيرة يتيمة من حيث فقدت أباها لقوله عليه السلام: لا يتم بعد احتلام (2) وإنما تسمى يتيمة لانفرادها عن الأزواج. قال الشاعر: إن القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى (3) فسماهن يتامى بعد البلوغ لانفرادهن عن الأزواج، وبعد فإذا كانت اليتيمة من لا أب لها فينبغي أن لا يزوج من لا أب لها جدها بلا إذنها بموجب الخبر، وقد أجاز الشافعي تزويج الجد لها بغير إذنها، وإذا منع الخبر من ذلك في الجد منع في الأب، لأن أحدا من الأمة لم يفصل بين الأمرين. وأيضا ما رووه عنه عليه السلام من قوله: الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها (4). (مسألة) [ 162 ] [ مقدار الصدق ] ومما ظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق: القول بأنه لا حد لأقل الصداق،


(1) بداية المجتهد: ج 2 / 7 سنن الدارقطني: ج 3 / 241 ح 74 نقلا بالمعنى.
(2) سنن البيهقي: ج 6 / 57.
(3) تهذيب اللغة: ج 14 ص 340 لسان العرب: ج 12 ص 645 نحوه.
(4) سنن النسائي: ج 6 / 85 سنن ابن ماجة: ج 1 / 601، سنن الترمذي: ج 3 / 416 الموطأ: ج 2 / 3، صحيح مسلم: ج 2 / 1037 سنن أبي داود: ج 2 / 313 سنن الدارقطني: ج 3 / 241 ح 72 جامع الأصول: ج 12 / 140.

[ 290 ]

وأنه يجوز بالقليل والكثير. والشافعي يقول بذلك (1). وقال مالك وأبو حنيفة أقل الصداق ما تقطع فيه اليد (2)، والذي تقطع فيه اليد عند مالك ثلاثة دراهم (3)، وعند أبي حنيفة عشرة دراهم (4) فإن أصدقها أقل من عشرة دراهم كمل لها عشرة عند أبي حنيفة وأبي يوسف (5)، وعند زفر يسقط المسمى ويجب لها مهر المثل (6). وقال النخعي: أقل الصداق أربعون درهما (7). وقال سعيد بن جبير: خمسون درهما (8). دليلنا بعد إجماع الطائفة قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن) (9). وقوله في موضع آخر: (فآتوهن أجورهن) (10) والقليل يقع عليه الاسم كالكثير فيجب إجزاؤه. ومما يعارضون به ما يروونه عنه ” عليه السلام ” من استحل بدرهمين فقد


(1) المحلى: ج 9 / 496 بداية المجتهد: ج 2 / 20، 22 تحفة الفقهاء: ج 1 / 136 الترمذي: ج 3 / 421.
(2) المدونة الكبرى: ج 2 / 223 و 224 نيل الأوطار: ج 6 / 167، 168 سنن الترمذي: ج 3 / 421، بداية المجتهد: ج 2 / 20، 22، المحلى: ج 9 / 495.
(3) بداية المجتهد ج 2 / 442.
(4) البحر الرائق ج 3 / 152 فتح القدير: ج 2 / 435 سنن الترمذي: ج 3 / 421 تحفة الفقهاء: ج 1 / 136.
(5) تحفة الفقهاء: ج 1 / 136 نيل الأوطار: ج 6 / 167 سنن الترمذي: ج 3 / 421 شرح فتح القدير: ج 3 / 208.
(6) تحفة الفقهاء: ج 1 / 136.
(7) المغني (لابن قدامة): ج 8 / 4 نيل الأوطار: ج 6 / 168.
(8) المحلى: ج 9 / 495 المغني (لابن قدامة): ج 8 / 4، نيل الأوطار: ج 6 / 168.
(9) سورة النساء: آية 4.
(10) سورة النساء: آية 24، الطلاق: آية 6.

[ 291 ]

استحل (1)، وقوله: لا جناح على امرئ أصدق امرأة صداقا قليلا كان أو كثيرا (2). (مسألة) [ 163 ] [ لو جعل المهر شيئا من القرآن ] ومما يجري مجرى المسألة المتقدمة قول الإمامية: إنه يجوز أن يكون المهر تعليم شئ من القرآن، والشافعي يوافق في ذلك (3)، وباقي الفقهاء يخالفون فيه (4). والحجة: إجماع الطائفة. وأيضا فقد بينا أن الصداق يجوز أن يكون قليل المنفعة وكثيرها، والتعليم له قيمة فهو نفع وإن قل. ويعارضون بما يروونه من أن امرأة جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فوهبت نفسها له، فقال عليه السلام: ما لي في النساء من حاجة، فقام رجل من أصحابه: زوجنيها يا رسول الله، فقال عليه السلام أمعك شئ؟ فقال: لا – إلى أن قال -: أمعك شئ من القرآن؟ قال: نعم، فقال عليه السلام: زوجتكها بما معك من القرآن (5)، والمعنى لتعلمها شيئا مما معك من القرآن. فإن قيل: أراد زوجتك لفضيلتك بما معك من القرآن. قلنا: يبطل ذلك من وجهين: أحدهما أنه عليه السلام لم يطلب في الحال الشرف والفضل، وإنما طلب


(1) نيل الأوطار: ج 6 / 167.
(2) المحلى: ج 9 / 500.
(3) عمدة القاري: ج 20 / 139، المغني (لابن قدامة) ج 8 / 8 نيل الأوطار: ج 6 / 172.
(4) نيل الأوطار: ج 6 / 172 عمدة القاري: ج 20 / 139.
(5) بداية المجتهد: ج 2 / 21.

[ 292 ]

ما (1) يكون مهرا، وكلامه عليه السلام لا يليق إلا بالمهر. والآخر أنه قال: زوجتك بما معك من القرآن، وهذه الباء تقتضي البدل والعوض، ولو أراد الفضيلة لقال لما معك من القرآن. (مسألة) [ 164 ] [ أكثر المهر ] ومما انفردت به الإمامية أنه لا يتجاوز بالمهر خمسمائة درهم جيادا قيمتها خمسون دينارا فما زاد على ذلك رد إلى هذه السنة وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (2). والحجة بعد إجماع الطائفة أن قولنا: مهر يتبعه أحكام شرعية وقد أجمعنا على أن الأحكام الشرعية تتبع ما قلنا به إذا وقع العقد عليه، وما زاد عليه لا إجماع على أن يكون مهرا، ولا دليل شرعيا فيجب نفي الزيادة. (مسألة) [ 165 ] [ جواز المتعة على أكثر من أربع ] ومما انفردت الإمامية به القول: بأن للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع في


(1) في ” ألف “: طلب منها ما.
(2) كشاف القناع: ج 5 / 101 المهذب: ج 2 / 55، مختصر المزني: ج 4 / 16 و 17 سنن الترمذي: ج 3 / 421 عمدة القاري: ج 20 / 139، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 8 المحلى ج 9 / 500، نيل الأوطار: ج 6 / 167.

[ 293 ]

عقد المتعة، وأنه لا حد في ذلك، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. والحجة فيه إجماع الطائفة ونبني ذلك على القول بإباحة المتعة فنقول كل من أباح نكاح المتعة يجوز الجمع بين أكثر من أربع في هذا النكاح فالتفرقة بين المسألتين خلاف إجماع المسلمين. ويمكن أن يكون الوجه فيه أن نكاح الدوام يلزم فيه السكنى والنفقة ويشق التزام ذلك فيما لا حصر له من العدد، فحصر بعدد مخصوص ولا نفقة ولا سكنى للمتمتع بها فجاز أن لا ينحصر عدد من يجمع في هذا العقد. (مسألة) [ 166 ] [ وطء المرأة في الدبر ] ومما شنع به على الإمامية ونسبت إلى التفرد به وقد وافق فيه غيرها القول بإباحة وطء النساء في غير فروجهن المعتادة للوطء، وأكثر الفقهاء يحظرون ذلك (1). وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف عن مالك أنه قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أن وطء المرأة في دبرها حلال، ثم قرأ: (نساؤكم حرث لكم) (2) الآية (3). وقال الطحاوي في كتابه هذا: حكى لنا محمد بن عبد الله بن الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي (عليه السلام) في تحريمه ولا تحليله شئ،


(1) المجموع: ج 16 / 420.
(2) سورة البقرة: الآية 223.
(3) نيل الأوطار: ج 6 / 203.

[ 294 ]

والقياس أنه حلال (1). والحجة في إباحة ذلك إجماع الطائفة. وأيضا قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) ومعنى أنى شئتم كيف شئتم، وفي أي موضع شئتم وآثرتم ولا يجوز حمل لفظة (أنى) هاهنا على الوقت، لأن لفظة (أنى) تختص الأماكن وقلما تستعمل في الأوقات، واللفظة المختصة بالوقت أيان شئتم، ولا فرق بين قولهم ألق زيدا أنى كان وأين كان في عموم الأماكن. على أنا لو سلمنا أن الوقت مراد بهذه اللفظة حملناها على الأمرين معا من الأوقات والأماكن. فأما من ادعى أن المراد بذلك إباحة وطء المرأة من جهة دبرها في قبلها بخلاف ما تكرهه اليهود من ذلك فهو تخصيص لظاهر القرآن بغير دليل، والظاهر متناول لما قالوه ولما قلناه. فأما الطعن على هذه الدلالة بأن الحرث لا يكون إلا بحيث النسل وقد سمى الله تعالى النساء حرثا فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل فليس بشئ، لأن النساء وإن كن لنا حرثا فقد أبيح لنا وطؤهن بلا خلاف في غير موضع الحرث كالوطء دون الفرج وما أشبهه، ولو كان ذكر الحرث يقتضي ما ذكروه لتنافي أن يقول لنا: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) من قبل أو دبر، وقد علمنا أن ذلك صحيح غير متناف. ولا يمكن الاستدلال على إباحة ما ذكرناه بما تعلق به قوم فيها من قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) (2)، وقالوا: لا يجوز أن يدعو إلى التعوض عن الذكران بالأزواج إلا


(1) سبل السلام: ج 3 / 138، نيل الأوطار ج 6 / 201 و 202.
(2) سورة الشعراء: آية 165 و 166.

[ 295 ]

وقد أباح منهن الوطء مثل ما يلتمس من الذكران. وكذلك قالوا في قوله تعالى: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) (1)، وإن القول يقتضي أن في بناته المعنى المطلوب من الذكران. وذلك أنه لا حجة في هذا الضرب من الكلام، لأنه غير ممتنع أن يذمهم بأتيان الذكران من حيث لهم عنه عوض بوطء النساء وإن كان في الفروج المعهودة لاشتراك الأمرين في الاستمتاع واللذة، وقد يغني الشئ عن غيره وإن لم يشاركه في جميع صفاته إذا اشتركا في الأمر المقصود، ولو صرح بما قلناه حتى يقول: أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) من الوطء في القبل لكان صحيحا، لأنه عوض ومغن عما يلتمس من الذكران.


(1) سورة هود: آية 78.

[ 297 ]

كتاب الطلاق


[ 298 ]

كتاب الطلاق (مسألة) [ 167 ] [ الاشتراط في الطلاق ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الطلاق لا يقع مشروطا وإن وجد شرطه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1) وأوقعوا الطلاق عند وقوع شرطه الذي علقه المتلفظ به. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: بعد إجماع الطائفة أن تعليق الطلاق بالشرط غير مسنون والمشروع في كيفية الطلاق غيره فيجب أن لا يتعلق به حكم الفرقة، لأن الفرقة حكم شرعي، والشرع هو الطريق إليه، وإذا انتفى الدليل الشرعي انتفى الحكم الشرعي. فإن قيل: وما الدليل على أن الطلاق المشروط غير مشروع؟ قلنا: لا شبهة في أن الله تعالى ما شرع لمريد الطلاق أن يعلقه بشرط ربما حصل ذلك وربما لم يحصل وهو من ثبوته وفقده على غرر وكيف يسوغ لقاصد إلى أمر فعل ما لا يطابق غرضه وما يجوز معه أن لا يحصل مراده، وإنما شرع له أن يتلفظ بالتطليقة الواحدة في الطهر الذي لا جماع فيه وأن يقول: أنت طالق، وهذا مما لا يخفى على متأمل.


(1) المجموع: ج 17 / 152.

[ 299 ]

على أن ثبوت الزوجية متيقن فلا ينتقل عنه إلى التحريم إلا بيقين، ولا يقين في الطلاق المشروط. (مسألة) [ 168 ] [ الشهادة في الطلاق ] ومما انفردت الإمامية به القول: بأن شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق ومتى فقد لم يقع الطلاق، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والحجة لنا بعد إجماع الطائفة قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم) إلى قوله: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم) (2) فأمر تعالى بالاشهاد، وظاهر الأمر في عرف الشرع يقتضي الوجوب فليس لهم أن يحملوا ذلك ها هنا على الاستحباب، فلا يخلو قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) من أن يكون راجعا إلى الطلاق، كأنه قال: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأشهدوا، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالامساك. ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة لأنها ليست هاهنا شيئا يوقع ويفعل وإنما هو العدول عن الرجعة، وإنما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة وظاهر الأمر يقتضي الوجوب، ولا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة، لأن أحدا


(1) مقدمات ابن رشد: ج 1 / 382، المدونة الكبرى: ج 2 / 419.
(2) سورة الطلاق: الآية 1 – 2.

[ 300 ]

لا يوجب فيها الاشهاد وإنما هو مستحب فيها فثبت أن الأمر بالاشهاد راجع إلى الطلاق. فإن قيل: كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما؟ قلنا: إذا لم يلق إلا بالطلاق وجب عوده إليه مع بعد وقرب. فإن قيل: أي فرق بينكم في حملكم هذا الشرط على الطلاق وهو بعيد منه في اللفظ وذلك مجاز وعدول عن الحقيقة، وبيننا إذا حملنا الأمر بالاشهاد هاهنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام؟ قلنا: حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع بلا دليل، ورد الشرط إلى ما بعد عنه إذ لم يلق بما قرب ليس بعدول عن حقيقة ولا استعمال توسع وتجوز، والقرآن والخطاب كله مملوء من ذلك. قال الله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه (1) والتسبيح وهو متأخر في اللفظ لا يليق إلا بالله تعالى دون رسوله (عليه وآله السلام). (مسألة) [ 169 ] [ ألفاظ الطلاق ] ومما انفردت الإمامية به: أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ واحد وهو قوله أنت طالق ولا يقع بفارقتك وسرحتك ولا باعتدي وحبلك على غاربك وبخلية وبرية وبتة وبتلة وكل لفظ ما عدا ما ذكرناه. واختلف الفقهاء في ألفاظ الطلاق. فقال أبو حنيفة: لفظ الطلاق الصريح ما تضمن الطلاق خاصة والباقي


(1) سورة الفتح: الآية 8 و 9.

[ 301 ]

كنايات ويقع الطلاق بها مع النية (1). وقال الشافعي: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح وباقي الألفاظ كنايات لا يقع الطلاق بها إلا مع مقارنة النية لها ويقع من ذلك ما ينويه، وقسم الكنايات إلى قسمين: ظاهرة نحو قوله: خلية وبرية وبتة وباين وبتلة وحرام، والكنايات الباطنة نحو قوله: اعتدي واستبرئي رحمك وتقنعي وحبلك على غاربك (2). وقال مالك: الكنايات الظاهرة إذا لم ينو بها شيئا وقع الطلاق الثلاث وإن نوى واحدة أو اثنتين فإن كانت المرأة غير مدخول بها كان على ما نواه وإن كانت مدخولا بها وقعت الثلاث على كل حال. وأما الكنايات الباطنة فقال في كلمتين منها وهي قوله: اعتدي واستبرئي رحمك: إن لم ينو بها شيئا وقعت تطليقة رجعية وإن نوى شيئا كان على ما نواه. ومالك يجعل الكنايات الظاهرة وهاتين الكلمتين من صريح الطلاق (3). والحجة لما نذهب إليه: بعد إجماع الطائفة أن الطلاق يتبعه حكم شرعي لا يثبت إلا بأدلة الشرع، ولا خلاف في وقوعه باللفظة التي ذكرناها وما عداها من الألفاظ لم يقم دليل على وقوعه بها، فيجب نفي وقوعه لأن الحكم الشرعي لا بد من نفيه إذا انتفى الطريق إليه. وأيضا فإن ألفاظ القرآن كلها واردة بلفظ الطلاق، مثل قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) (4) وما أشبه ذلك، وطلقتم مشتق من لفظ الطلاق دون غيره من الألفاظ فينبغي أن لا يتعلق الحكم إلا بهذه اللفظة.


(1) بدائع الصنائع: ج 3 / 101 عمدة القاري: ج 20 / 238، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 263.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 8 / 263 عمدة القاري: ج 20 / 238.
(3) عمدة القاري: ج 20 / 238، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 272.
(4) سورة الطلاق: الآية 1.

[ 302 ]

فإن قيل: معنى طلقتم فارقتم، والفراق قد يكون بألفاظ مختلفة. قلنا: هذا خلاف الظاهر، لأن لفظ (طلقتم) مشتق من حدث فيه طاء ولام وقاف، كما أن (ضرب) (1) مشتق من حدث فيه ضاد وراء وباء، ومن فعل ما فيه معنى الضرب لا يقال: ضرب وكذلك لا يقال فيمن فعل ما فيه معنى الطلاق: طلق. فإن قيل: لفظة الطلاق شرعية. قلنا: معاذ الله هذه لفظة لغوية معروفة في خطاب أهل اللغة وإنما يتبعها أحكام شرعية لا تعرف في اللغة. (مسألة) [ 170 ] [ النية في الطلاق ] ومما انفردت الإمامية به اعتبارهم في اللفظ بالطلاق النية وأن المتلفظ بذلك إذا لم ينو الطلاق بعينه فلا حكم في الشريعة لكلامه. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (2) ويذهبون إلى أن ألفاظ الطلاق الصريحة لا تفتقر إلى النية، وإنما يفتقر إلى النية كنايات الطلاق. والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أن الفرقة الواقعة بين الزوجين حكم شرعي ولا تثبت الأحكام الشرعية إلا بأدلة شرعية، وقد علمنا أنه إذا تلفظ بالطلاق ونواه فإن الفرقة الشرعية تحصل بلا خلاف بين الأمة وليس كذلك إذا لم ينو ولا دليل من إجماع ولا غيره يقتضي حصول الفرقة من غير نية.


(1) في باقي النسخ: لفظ ضرب.
(2) تحفة الفقهاء: ج 1 / 182 نيل الأوطار: ج 6 / 235 و 245.

[ 303 ]

فإن ذكروا في ذلك أخبارا يروونها (1) فكلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا وهي معارضة بأخبار ترويها الشيعة (2) تتضمن أن الطلاق بغير نية لا حكم له ولا تأثير. ومما يمكن أن يعارضوا به ما يروونه عن النبي عليه السلام من قوله: الأعمال بالنيات (3) وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى (4)، والمراد أن الأحكام إنما تثبت للأعمال في الشريعة بالنيات لأن من المعلوم أن بالنيات لا تدخل العمل في أن يكون عملا، وإذا كان الفرقة بين الزوجين من أحكام الطلاق الصحيح، وقد نفى النبي عليه وآله السلام الأحكام الشرعية عما لم تصاحبه النية من الأعمال فوجب أن لا يقع طلاق لا نية معه. وبمثل هذه الطرق نعلم أن طلاق المكره لا يقع، فإن الشافعي ومالكا والأوزاعي يوافقوننا في أنه لا يقع (5)، وإنما يخالف فيه أبو حنيفة وأصحابه (6)، لأنا إذا كنا قد دللنا على أن الطلاق يفتقر إلى النية والاختيار والمكره والمجبر لا نية له في الطلاق وإنما أكره على لفظه فيجب أن لا يقع طلاقه. ويمكن أن يعارضوا زائدا على ما ذكرناه بما رووه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان


(1) المجموع: ج 17 / 97.
(2) الكافي ج 6 / 62 ح 1، 2، 3.
(3) التهذيب: ج 4 / 186 باب 44 من كتاب الصيام ح 1.
(4) سنن البيهقي: ج 7 / 341، صحيح البخاري: ج 1 / 4 ح 1، مسند أحمد: ج 1 / 25، سنن ابن ماجة: ج 2 / 1413 ح 4227.
(5) المحلى ج 10 / 203 نيل الأوطار: ج 6 / 236 تحفة الفقهاء: ج 1 / 195 عمدة القاري: ج 20 / 250 المغني (لابن قدامة): ج 8 / 259 المجموع ج 17 / 66.
(6) المجموع: ج 17 / 67 المغني (لابن قدامة) ج 8 / 259 عمدة القاري: ج 20 / 250 المحلى: ج 10 / 203 نيل الأوطار: ج 6 / 236 تحفة الفقهاء ج 1 / 195.

[ 304 ]

وما استكرهوا عليه (1)، وإنما المراد لا محالة أحكام هذه الأمور المتعلقة بها. فإن قيل: المراد به رفع الإثم. قلنا: نحمله على الأمرين لأنه لا تنافي بينهما. وأيضا بما روته عائشة من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (2)، وفسر أبو عبيد القاسم بن سلام الاغلاق هاهنا بالاكراه (3). وبمثل ما ذكرناه أيضا يعلم أن طلاق السكران غير واقع، ووافقنا في ذلك ربيعة والليث بن سعد وداود (4)، وخالف باقي الفقهاء وقالوا: إن طلاق السكران يقع (5). وإنما قلنا: إن أدلتنا تتناول (6) السكران، لأن السكران لا قصد له ولا إيثار، وقد بينا أن الطلاق يفتقر إلى الايثار والاختيار. وعلى مثل ما ذكرناه نعتمد في أن طلاق الغضبان الذي لا يملك إختياره لا يقع، وإن خالف باقي الفقهاء في ذلك (7).


(1) سنن ابن ماجة ج 1 / 659، ب 16.
(2) سنن البيهقي: ج 7 / 357 و ج 10 / 61.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 8 / 259.
(4) اختلاف العلماء ص 144 المغني (لابن قدامة): ج 8 / 256 عمدة القاري: ج 20 / 251 المجموع: ج 17 / 62 المحلى ج 10 / 210، نيل الأوطار: ج 6 / 235، 236، 237.
(5) المدونة الكبرى: ج 6 / 29، الأم: ج 5 / 235، المحلى: ج 10 / 209 عمدة القاري: ج 20 / 251، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 255، تحفة الفقهاء: ج 1 / 195، اختلاف العلماء: ص 144، نيل الأوطار: ج 6 / 236، بدائع الصنائع: ج 3 / 99.
(6) في ” ألف ” و ” ب “: لا تتناول. وكلا النسختين صحيحتان لأن على نسخة المتن المقصود: إن الأدلة التي أبطلنا بها الطلاق بلا نية تتناول السكران، وعلى النسخة الأخرى المقصود: إن أدلة صحة الطلاق لا تتناول السكران.
(7) المجموع: ج 17 / 68.

[ 305 ]

فإن استدلوا بما يروونه عنه عليه السلام من قوله: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق (1)، والهزل ما لا نية فيه وقد جعله النبي (عليه السلام) في الطلاق مثل الجد. قلنا: هذا أيضا خبر واحد. وقد دللنا على أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في الشريعة ثم نقول: إذا سلمناه إن الهزل ليس هو الذي لا يقصد ولا يعتمد ولا نية لصاحبه، وإنما هو الفعل الذي ليس الغرض فيه صحيحا موافقا للحكمة، فإن اللاعب بالشطرنج وما جرى مجراها يسمى هازلا غير جاد، وإن كان ناويا قاصدا من حيث كان غرضه غير حكمي فكأنه أراد أن طلق وغرضه بالطلاق الذي قصده ونواه إضحاك ضاحك أو إرضاء من لا يجب إرضاؤه. فإن الطلاق يقع ويكون في حكم الجد في الوقوع واللزوم وإن كان هزلا من حيث فقد الغرض الحكمي. فإن قيل: فيجب إذا سمعنا متلفظا بالطلاق على الشرائط التي يقترحونها إذا ادعى أنه لم ينو الطلاق بقلبه (2) أن نصدقه! قلنا كذلك نقول، فإن كان صادقا فيما قال فلا تبعة عليه وإن كان كاذبا في نفي النية فقد أثم وحرج، وعلى الظاهر أنه لم يطلق كما لو طلق مسرا من (3) كل أحد ولم يقف على حاله سواه فإنه يكون مطلقا فيما بينه وبين الله تعالى وعلى الظاهر غير مطلق. فإن قيل: فما تقولون فيمن تلفظ بالطلاق ثم مات ولم يدر هل نوى أو لم ينو؟


(1) سنن البيهقي: ج 7 / 341.
(2) ليس في ” ب “.
(3) في باقي النسخ: سرا.

[ 306 ]

قلنا: إذا سمعنا تلفظه بالطلاق ولا إكراه ولا أمارة لنفي الاختيار فالظاهر أنه وقع عن إيثار ونية، وإنما يخرج عن هذا الظاهر إذا قال لنا: ما نويت الطلاق وأنكر النية ودفعها، فأما إذا مات عقيب القول فهو مطلق على الظاهر محكوم عليه في الشريعة بالفرقة. (مسألة) [ 171 ] [ طلاق الحائض ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الطلاق في الحيض لا يقع، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1) وذهبوا إلى وقوعه إلا ابن علية فإنه روي عنه أن الطلاق في الحيض لا يقع (2). والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أنه لا خلاف في أن الطلاق في الحيض بدعة ومعصية وإن اختلف في وقوعه، لأن الله تعالى قال (فطلقوهن لعدتهن) (3) وفسروا ذلك بالطهر الذي لا جماع فيه، وإذا ثبت أن الطلاق في الحيض بدعة ومخالف لما أمر الله تعالى بإيقاع الطلاق عليه ثبت أنه لا يقع لأنا قد بينا أن النهي بالعرف الشرعي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء. وأيضا فإن الطلاق حكم شرعي بغير شبهة ولا سبيل إلى إثبات الأحكام الشرعية إلا بأدلة شرعية، وقد ثبت بالاجماع أنه إذا طلق في طهر مع باقي الشرائط وقعت الفرقة ولم يثبت مثل ذلك في طلاق الحيض فيجب نفي وقوعه.


(1) نيل الأوطار: ج 6 / 221 – 226.
(2) المجموع: ج 17 / 78، نيل الأوطار: ج 6 / 224.
(3) سورة الطلاق: الآية 1.

[ 307 ]

ويمكن أن نورد عليهم على سبيل المعارضة بما يروونه من أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك فردها عليه ولم يره شيئا (1)، وهذا صريح في عدم وقوعه وتأثيره. فإن قالوا: المراد بذلك لم يره إثما أو لم يره طلاقا بائنا. قلنا الظاهر من لفظة (شئ) مع النفي عدم التأثيرات كلها، ولو أراد ما ذكرتم لعدل عن هذه العبارة إلى أن يقول: لم يره إثما، أو بائنا، على أنا نحمل ذلك على ما قلتم، وقلنا: لأن اللفظ إذا احتمل للكل حمل على جميعه. ونعارض أيضا بما يروونه من أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر أبيه: مره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء (2)، وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) ظاهره الوجوب، وإذا أمر بالمراجعة وأوجبها دل على أن الطلاق لم يقع. فإن قيل: إذا كان الطلاق في الحيض لا يقع فأي معنى لقوله عليه السلام مره فليراجعها، والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق سبق؟ قلنا: معنى فليراجعها أي: يردها إلى منزله ولا يفارقها، فإن ابن عمر كان فارقها واعتزلها لما طلقها في الحيض، وظن أن طلاقه واقع فأخبره النبي صلى الله عليه وآله بأن قوله غير مؤثر، وأن الطلاق لم يقع وأمره بالعود إلى ما كان عليه. وقد يقول أحدنا لمن تلفظ بما ظن أنه طلاق واقع وليس هو على الحقيقة كذلك رد زوجتك إليك وراجعها ولا تفارقها وليس هناك طلاق واقع. فإن قيل: أي فرق بين ترككم ظاهر قوله فليراجعها الذي لا يفيد إلا


(1) المحلى: ج 10 / 167، المجموع: ج 17 / 132.
(2) المدونة الكبرى: ج 2 / 422 نيل الأوطار: ج 6 / 122 المحلى ج 10 / 164.

[ 308 ]

الرجعة بعد الطلاق وبين تركنا ظاهر الايجاب في قوله مره فليراجعها، وحملنا ذلك على الاستحباب ليسلم ظاهر لفظ الرجعة؟ قلنا: الفرق بين الأمرين أن ظاهر الأمر في الشريعة الوجوب وحمله على غيره مجاز وليس ظاهر لفظة (رجوع) يقتضي وقوع الطلاق قبلها، لأنا قد بينا أنه قد يقال لمن لم يطلق وأخرج امرأته واعتزلها ظنا أنه قد طلق ردها وراجعها وأعدها وذلك حقيقة غير مجاز. (مسألة) [ 172 ] [ الطلاق الثلاث ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1). وقد روي أن ابن عباس رحمه الله وطاووسا يذهبان إلى ما تقوله الإمامية (2) وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف أن الحجاج بن أرطاة كان يقول: ليس الطلاق الثلاث بشئ (3). وحكى في هذا الكتاب عن محمد ابن إسحاق أن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة (4). دليلنا بعد الإجماع المتردد أن ندل على أن المشروع في الطلاق إيقاعه


(1) تبيين الحقائق: ج 2 / 213 الفتح الرباني: ج 16 / 7 سنن النسائي: ج 6 / 145 سنن البيهقي: ج 7 / 336 اختلاف العلماء: ص 133، الأم: ج 5 / 165، مجمع الأنهر: ج 1 / 39 – 400، المجموع: ص 17 و 130، المبسوط: (للسرخسي): ج 6 / 88، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 243 و 404.
(2) المحلى: ج 10 / 168، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 243، اختلاف العلماء: ص 133.
(3) لا يوجد لدينا كتابه.
(4) لا يوجد لدينا كتابه.

[ 309 ]

متفرقا. وقد وافقنا مالك وأبو حنيفة على أن الطلاق الثلاث في الحال الواحدة محرم مخالف للسنة إلا أنهما يذهبان مع ذلك إلى وقوعه (1)، وذهب الشافعي إلى أن الطلاق الثلاث في الحال الواحدة غير محرم (2). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: (الطلاق مرتان) (3) ولم يرد بذلك الخبر لأنه لو أراده لكان كذبا وإنما أراد الأمر فكأنه قال: طلقوا مرتين، ويجري مجرى قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) (4)، والمراد يجب أن تؤمنوه، والمرتان لا تكونان إلا واحدة بعد أخرى، ومن جمع الطلاق في كلمة واحدة لا يكون مطلقا مرتين، كما أن من أعطى درهمين دفعة واحدة لم يعطهما مرتين. فإن قيل: العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق، مثاله إذا قال له علي مائة درهم مرتان، وإذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق مثاله: أدخل الدار مرتين أو ضربت مرتين، والعدد في الآية عقيب اسم لا فعل. قلنا قد بينا أن قوله تعالى: (الطلاق مرتان) معناه طلقوا مرتين، فالعدد مذكور عقيب فعل لا اسم. فإن قيل: إذا ثبت وجوب تفريق الطلاق فلا فرق بين أن يكون في طهر واحد أو طهرين وأنتم لا تجوزون تفريقه في طهر واحد. قلنا: إذا ثبت وجوب التفريق فكل من أوجبه يذهب إلى أنه لا يكون إلا


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 352، مجمع الأنهر: ج 1 / 399، الاشراف: ج 2 / 131، اختلاف العلماء: 133، المجموع: ج 17 / 130 المبسوط (للسرخسي): ج 6 / 88 بداية المجتهد: ج 2 / 69.
(2) بداية المجتهد: ج 2 / 69، الأم: ج 5 / 183، المجموع: ج 17 / 130.
(3) سورة البقرة: آية 229.
(4) سورة آل عمران: آية 97.

[ 310 ]

في طهرين. فإن قيل: فإذا كان الثلاث لا يقع، فأي معنى لقوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (1)، وإنما المراد أنك إذا خالفت السنة في الطلاق وجمعت بين الثلاث وتعديت ما حده الله تعالى لم تأمن أن تتوق نفسك إلى المراجعة فلا تتمكن منها. قلنا: قوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) مجمل غير مبين، فمن أين لكم أنه أراد ما ذكرتم؟ والظاهر غير دال على الأمر الذي يحدثه الله تعالى والأشبه بالظاهر أن يكون ذلك الأمر الذي يحدثه الله تعالى متعلقا بتعدي حدود الله، لأنه تعالى قال: (تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (2) ويشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدثه تعالى من عقاب يعجله في الدنيا على من تعدي حدوده، وهذا أشبه مما ذكروه، وأقل الأحوال أن يكون الكلام يحتمله فيسقط تعلقهم. وقد قيل: إن قوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) متعلق بالنهي عن إخراجهن من بيوتهن لئلا يبدو له في المراجعة، وهذا أيضا مما يحتمله الكلام، فمن أين لهم أن المراد ما ذكروه؟ وقد تعلقوا في أن الطلاق الثلاث في حال واحدة ليس ببدعة بما رواه سهل ابن سعد الساعدي قال: لاعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين الزبير العجلاني وزوجته فلما تلاعنا قال الزوج إن أمسكتها فقد كذبت عليها هي طالق ثلاثا، فقال النبي (عليه وآله السلام) لا سبيل لك عليها (3).


(1) و (2) سورة الطلاق: آية 1.
(3) سنن البيهقي: ج 7 / 328.

[ 311 ]

وموضع الاستدلال منه أن العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه فطلق ثلاثا فبين له النبي (عليه وآله السلام) حكم الوقت وأنه ليس له أن يطلق فيه ولم يبين له حكم العدد، ولو كان ذلك العدد محرما وبدعة لبينه. والجواب: أنه لا دلالة للشافعي في هذا الخبر، لأن الفرقة بلعان الزوج قد كانت واقعة عنده، وإنما تلفظ بالطلاق الثلاث بعد ما بانت منه فلم يكن لقوله حكم. فإن قال: فألا أنكر النبي (صلى الله عليه وآله) على العجلاني التلفظ بالثلاث في وقت واحد؟ قلنا: فألا أنكر (عليه السلام) عليه اعتقاده أن طلاقه يؤثر بعد اللعان؟ والعذر في ترك إنكاره هذا هو العذر في ترك إنكار ذاك. على أن خبر العجلاني وما أشبهه من الأخبار خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا وهو معارض بأخبار كثيرة تتضمن أن إيقاع التطليقات الثلاث في الحال الواحدة بدعة وخلاف السنة. فإن احتج من يذهب إلى أن الطلاق الثلاث يقع وإن كان بدعة بما روي في حديث ابن عمر من أنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله): أرأيت لو طلقتها ثلاثا، فقال (عليه السلام) إذن عصيت ربك وبانت منك امرأتك (1). فالذي يبطل ذلك أنه لا تصريح في قوله أرأيت لو طلقتها ثلاثا بأنني كنت أفعل ذلك بكلمة واحدة وحالة واحدة، ويجوز أن يكون مراده أنني لو طلقتها ثلاثا في ثلاثة أطهار تخللها المراجعة فلا شبهة في أن من طلق امرأة ثلاثا في ثلاثة أطهار أنه يسمى مطلقا ثلاثا.


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 6 / 5.

[ 312 ]

فإذا قيل لا فائدة على هذا الوجه في قوله (عليه السلام): إذن عصيت ربك وبانت منك امرأتك. قلنا يحتمل ذكر المعصية أمرين: أحدهما أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعلم من زوجة ابن عمر خيرا وبرا يقتضيان المعصية بفراقها. والأمر الآخر: أنه مكروه للزوج أن يخرج نفسه من التمكن من مراجعة المرأة، لأنه لا يدري كيف يتقلب قلبه، وربما دعته الدواعي القوية إلى مراجعتها، فإذا أخرج أمرها من يده ربما هم بالمعصية، ومن أبان زوجته بالتطليقات الثلاث في الأطهار الثلاثة والمراجعة في خلال ذلك فهو محرم لها على نفسه حتى تنكح زوجا غيره، ووجه كراهية ذلك له ما ذكرناه. وجواب ثان في تأويل الخبر وهو أن نحمل قوله (عليه السلام) بانت زوجتك على أنها إذا خرجت من العدة بانت، فإن المطلق ثلاثا بلفظ واحد يقع منه تطليقة واحدة على الصحيح من مذهبنا، فإذا طلقها بكلمة واحدة ثلاثا وخرجت من العدة بانت منه، وإنما عصى ربه لأنه أبدع بالجمع بين التطليقات الثلاث في الحال الواحدة. فإن تعلقوا أيضا بما رووه من أن عبد الرحمن طلق امرأته تماضر ثلاثا (1). فجوابه أنه يجوز أن يكون طلقها في أطهار ثلاثة مع مراجعة تخللت، وليس في ظاهر الخبر أنه طلقها بلفظ واحد أو حالة واحدة. وهذه الطريقة التي سلكناها يمكن أن تنصر (2) في جميع أخبارهم التي يتعلقون بها مما يتضمن وقوع طلاق ثلاث فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كله ونهجناه فلا معنى للتطويل بذكر جميع الأخبار.


(1) تفسير القرطبي: ج 18 / 152.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: تطرد.

[ 313 ]

على أن أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم تقتضي أن الطلاق الثلاث لا يقع. منها ما رواه ابن سيرين أنه قال: حدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وآله بأن يراجعها (1). وبما رواه الحسن قال: أتي عمر برجل قد طلق امرأته ثلاثا بفم واحد فردها عليه ثم أتي بعد ذلك برجل آخر طلق امرأته ثلاثا بفم واحد فأبانها منه، فقيل له: إنك بالأمس رددتها عليه، فقال: خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران (2). وروي عن ابن عباس رحمه الله أنه كان يقول: أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر وصدر من إمارة عمر طلاق الثلاث واحدة ثم جعلها عمر بعد ذلك ثلاثا (3). وروى عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله عليه السلام كيف طلقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثا، قال: أفي مجلس واحد؟ قال: نعم، قال (عليه السلام): إنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت، قال: فراجعها (4) والأخبار المعارضة لأخبارهم أكثر من أن تحصى. (مسألة) [ 173 ] [ الطلاق بعد الطلاق ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن الطلاق بعد الطلاق وإن كان في


(1) سنن البيهقي: ج 7 / 331 و 334.
(3) المجموع: ج 17 / 131.
(2) سنن البيهقي ج 7 / 336.
(4) سنن البيهقي: ج 7 / 339 المجموع ج 17 / 131.

[ 314 ]

طهرين أو طهر واحد لا يقع إلا بعد تخلل المراجعة بجماع. والفقهاء كلهم يخالفون في ذلك، لأن أبا حنيفة وإن جعل ذلك بدعة فإنه يذهب إلى وقوعه ولزومه (1). والحجة لنا: بعد إجماع الطائفة إنا قد دللنا على أن إيقاع الطلاق بعد الطلاق من غير مراجعة بدعة وخلاف للسنة، وقد بينا أن التحريم في الشرع يتبعه الفساد ونفي الأحكام الشرعية. وأيضا فإن من طلق على الترتيب الذي ذكرناه وقع طلاقه، وآثر، ومن أتبع الطلاق بالطلاق من غير مراجعة لا إجماع عليه ولا دليل على وقوع طلاقه فيجب أن يحكم بنفيه. فإن قيل كيف تذهبون إلى أن المطلق ثلاثا بكلمة واحدة يقع من طلاقه واحدة وهو مبدع مخالف للسنة، وعندكم أن البدعة لا يلحقها حكم شرعي؟ قلنا: إنما أبدع من جمع بين الثلاث في ضم قوله ثلاثا إلى قوله أنت طالق فألغينا من كلامه ما هو خلاف السنة وهو قوله ثلاثا وأسقطنا حكمه وأوجبنا وقوع تطليقة واحدة، لأنه بقوله أنت طالق متلفظ بلفظ الطلاق المسنون فيه فيجب إذا تكامل باقي الشرائط أن تقع واحدة، وجرى ذلك مجرى أن يقول أنت طالق، ويتبع ذلك بلفظ لا تأثير له مثل قوله: وقام زيد ودخلت الدار، وقد علمنا أنه لو أتبع ذلك بشئ مما ذكرناه لم يخرج لفظه بالطلاق من أن يكون واقعا وإن أتبعه بهذيان لا حكم له. فإذا قيل لم يسن له أن يقول لها أنت طالق ثم يقول ثلاثا فيجب أن لا يقع طلاقه.


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 349، البحر الرائق: ج 4 / 55 فتح القدير: ج 2 / 161، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 482 – 483، المحلى: ج 10 / 251 اختلاف العلماء: ص 152 – 153.

[ 315 ]

قلنا، ولم يسن له أن يقول لها: أنت طالق ثم يشتمها ومع ذلك لو فعل خالف السنة ووقع طلاقه، لأنا قد بينا أنه ما خالف السنة فيما وقع به الطلاق. وإنما خالفها في غيره، ومخالفونا يوقعون الطلاق باللفظ الذي خولفت به السنة. (مسألة) [ 174 ] [ تعيين المطلقة ] ومما انفردت به الإمامية قولهم: إن الطلاق لا يقع إلا بالتعيين والتمييز، فإذا قال الرجل لأربع نسوة: إحداكن طالق فكلامه لغو لا حكم له في الشريعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وعثمان البتي والليث: إذا لم ينو واحدة بعينها حين قال فإنه يختار أيتهن شاء فيوقع الطلاق عليها والباقيات نساؤه (1). وقال مالك: إذا لم ينو واحدة بعينها طلق عليه جميع نسائه (2). وقال الشافعي: إذا قال لامرأتيه طالق إحداكما طالق ثلاثا منع منهما حتى يبين، فإن قال: لم أرد هذه كان إقرارا منه بالأخرى (3). والحجة لنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتكرر، وأيضا فإن الطلاق حكم شرعي، وقد ثبت وقوعه ولزومه مع التعيين، ولا دليل قاطع على وقوعه مع الجهالة فيجب نفي وقوعه. وأيضا فلا خلاف في أن المشروع في الطلاق تسمية المطلقة والإشارة إليها بعينها ورفع الجهالة عنها، وإذا لم يفعل ذلك فقد تعدى المشروع، وقد بينا أن


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 / 358، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 139، 429.
(2) المجموع: ج 17 / 250 المغني (لابن قدامة): ج 8 / 429.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 8 / 429.

[ 316 ]

الفساد تابع لما خالف الشرع. ومذهب مالك أبعد من مذهب الجماعة ” لأنه إنما طلق واحدة وإن كانت لا بعينها فكيف يطلق عليه جميع نسائه؟ وقول غيره من الفقهاء في هذه المسألة أقرب إلى الصواب. (مسألة) [ 175 ] [ تعليق الطلاق بجزء من المرأة ] ومما انفردت به الإمامية: أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة أي جزء كان لا يقع فيه الطلاق. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر إذا علق الطلاق بما يعبر به عن جملة البدن مثل الرأس والجسد واليدين أو عن جزء شائع مثل ربعك أو نصفك وقع الطلاق ولا يقع بما عدا ذلك (1). وقال الشافعي: إذا علقه بكل بعض من أبعاضها مثل يدك أو رجلك أو شعرك أو غير ذلك من الابعاض وقع الطلاق ووافقه على ذلك ابن أبي ليلى وزفر ومالك والليث وابن حي (2). دليلنا على ما ذهبنا إليه: بعد إجماع الطائفة أن تعليق الطلاق ببعضها ليس من الألفاظ المشروعة في الطلاق فيجب أن لا يقع. وأيضا فإن الطلاق حكم شرعي، وقد ثبت أنه إذا علقه بها وكملت


(1) تحفة الفقهاء: ج 1 / 195 بداية المجتهد: ج 2 / 86 – 87، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 140.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 6 / 89، تحفة الفقهاء: ج 1 / 195 المغني (لابن قدامة) ج 8 / 564 بداية المجتهد: ج 2 / 86.

[ 317 ]

الشرائط وقع، ولم يثبت أنه إذا علقه ببعضها وقع، والحكم الشرعي يجب نفيه بانتفاء دليل شرعي عليه. ومما يمكن أن يستدل به قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) (1) فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله اسم النساء، واليد والرجل لا يتناولهما هذا الاسم بغير شبهة. وفرق أبو حنيفة بين الرقبة والرأس والفرج وبين اليد والرجل، لأنهم يقولون عنده كذا وكذا رأسا من العبيد والإماء وكذا كذا رقبة وكذا كذا فرجا غير صحيح، لأن جميع ما ذكروه مجاز واستعارة، وكلامنا على الحقائق، ولأن اليد قد يعبر بها أيضا عن جميع البدن لأنهم رووا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال على اليد ما أخذت حتى ترده (2) وأراد به الجملة وقال الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب) (3)، وقال تعالى: (فبما كسبت أيديكم) (4) وإنما أراد الجملة دون البعض.


(1) سورة الطلاق: الآية 1.
(2) سنن ابن ماجة: ج 2 / 802 ح 2400 سنن البيهقي: ج 6 / 90.
(3) سورة المسد: الآية 1.
(4) سورة الشورى: الآية 30.

[ 319 ]

كتاب الظهار


[ 320 ]

كتاب الظهار (مسألة) [ 176 ] [ النية في الظهار ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الظهار لا يثبت حكمه إلا مع القصد والنية. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يعتبروا النية فيه (1)، ومنع الليث بن سعد والمزني وداود من وقوع ظهار السكران (2)، وأجازه باقي الفقهاء (3). وكل شئ احتججنا به في أن النية معتبرة في الطلاق فهو حجة هاهنا فلا معنى لإعادته. (مسألة) [ 177 ] [ شرائط الظهار ] ومما انفردت به الإمامية: أن الظهار لا يقع إلا على طهر لا جماع فيه بمحضر


(1) البحر الزخار: ج 4 / 228.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 / 506 المحلى ج 10 / 54.
(3) المحلى ج 10 / 54.

[ 321 ]

من شاهدين فمتى اختل شرط مما ذكرناه لم يقع ظهار، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أن الظهار حكم شرعي، وإنما يثبت في الموضع الذي يدل الشرع على ثبوته فيه، وإذا وقع مقارنا (2) للشروط التي ذكرناها لا خلاف بين الأمة في لزوم حكمه، وليس كذلك إذا إختل بعض هذه الشروط لأنه لا دليل شرعي على لزومه مع فقد الشروط التي اعتبرناها فيجب نفي وقوعه. (مسألة) [ 178 ] [ الاشتراط في الظهار ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن الظهار لا يقع بيمين ولا مشروطا بأي شرط كان، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (3). والحجة لنا في هذه المسألة الحجة التي تقدمتها بلا فصل فلا معنى للتكرار. (مسألة) [ 179 ] [ اعتبار التعيين في الظهار ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الظهار لا يثبت حكمه مع الجهالة ولا بد


(1) البحر الزخار: ج 4 / 231.
(2) في ” ألف “: موافقا.
(3) البحر الزخار: ج 4 / 229 و 231.

[ 322 ]

فيه من التعيين والتمييز إما بالإشارة أو التسمية، ومن قال لنسائه إحداكن علي كظهر أمي لا حكم لقوله. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. والحجة لنا: بعد الإجماع المتردد أن الظهار حكم شرعي وقد ثبت بالاتفاق أنه يقع مع التعيين ولم يثبت أنه واقع مع الجهالة. (مسألة) [ 180 ] [ لفظ الظهار ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الظهار لا يقع إلا بلفظ الظهر ولا يقوم مقامها تعليقه بجزء من أجزاء الأم أو عضو منها أي عضو كان. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قال أنت علي كيد أمي أو كرأسها وذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا، فإن قال: كبطنها أو كفخذها وما أشبه ذلك كان مظاهرا، لأنه يجري مجرى الظهر في أنه لا يحل له النظر إليه (1). وقال ابن القاسم: قياس قول مالك أنه يكون مظاهرا بكل شئ من الأم (2). وقال الثوري والشافعي إذا قال: أنت علي كرأس أمي أو كيدها فهو مظاهر لأن التلذذ بذلك منها محرم عليه (3).


(1) مجمع الأنهر: ج 1 / 455 – 456 البحر الرائق: ج 4 / 106 فتح القدير: ج 3 / 228 الأشراف لابن المنذر: ص 75، تحفة الفقهاء: ج 1 / 211، المغني (لابن قدامة): ج 8 / 564.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 / 423.
(3) الأشراف: ص 75 الأم ج 5 / 263، مغني المحتاج: 3 / 353.

[ 323 ]

والحجة لنا بعد إجماع الطائفة ما تقدم من أن الظهار حكم شرعي وقد ثبت وقوعه ولزومه إذا علق بالظهر ولم يثبت ذلك في باقي الأعضاء، وأيضا فإن الظهار مشتق من لفظة الظهر، فإذا علق باليد وما أشبهها بطل الاسم المشتق من الظهر ولم يجز إجراؤه (1). فإذا قيل: في اليد معنى الظهر. قلنا: الاتفاق في معنى التحريم لا يوجب أن تكون اليد ظهرا، والاسم مشتق من الظهر دون غيره. (مسألة) [ 181 ] [ لو جامع المظاهر ] ومما يظن انفراد الإمامية به: القول بأن من ظاهر ثم جامع قبل أن يكفر لزمته كفارتان، ووافق الإمامية في ذلك الزهري وقتادة (2)، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوجبوا كفارة واحدة (3). دليلنا: الإجماع المتردد واعتبار اليقين ببراءة الذمة، فإن ذلك لا يحصل إلا مع الكفارتين دون الواحدة. فإن قيل: إذا كانت الكفارة إنما تلزم بالعود وهو إمساكها زوجة والمقام على إستباحة التمتع بها دون الجماع بدلالة قوله تعالى: (من قبل أن يتماسا) (4) فبالعود تلزم كفارة واحدة، والجماع لا يوجب كفارة أخرى.


(1) في باقي النسخ: إجزاؤه.
(2) شرح فتح القدير: ج 4 / 88، المحلى: ج 10 / 55.
(3) نصب الراية: ج 3 / 346 – 247 تحفة الفقهاء: ج 1 / 215.
(4) سورة المجادلة: الآية 3 و 4.

[ 324 ]

قلنا: الواجب بحكم الظهار إذا وقع العود الكفارة، فإذا جامع قبل أن يكفر لا يمتنع أن تلزمه كفارة أخرى عقوبة.


[ 325 ]

كتاب الايلاء


[ 326 ]

كتاب الايلاء مسألة [ 182 ] [ لفظ الايلاء ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الايلاء لا يكون إلا باسم الله تعالى دون غيره، ولو قال: إن قربتك فلله علي صوم أو صلاة لم يكن موليا. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا قال: إن قربتك فلله علي صلاة لا يكون موليا (1)، وقال زفر ومحمد ومالك وابن حي والشافعي: هو مول (2)، وإذا قال لله علي صوم كان موليا في قولهم جميعا. والحجة لنا: بعد إجماع الطائفة أن الايلاء يتعلق به حكم شرعي، وقد علمنا تعلقه في الموضع الذي نتفق عليه ولم يدل دليل على ثبوت حكمه في موضع الخلاف فيجب نفي ثبوته. (مسألة) [ 183 ] [ القصد في الايلاء ] ومما انفردت الإمامية به: أن الايلاء لا يقع في حال الغضب الذي لا يضبط


(1) المجموع: ج 17 / 293.
(2) المدونة الكبرى: ج 3 / 84 الأم: ج 5 / 265.

[ 327 ]

الانسان معه نفسه ولا مع الاكراه، ولا بد فيه من القصد، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والحجة لنا: ما تقدم في كتاب الطلاق وأنه لا يقع مع الغضب والاكراه. (مسألة) [ 184 ] [ لو حلف أن لا يقرب زوجته ] ومما ظن انفراد الإمامية به أن من حلف أن لا يقرب زوجته وهي مرضع خوفا من أن تحمل فينقطع لبنها فيضر ذلك بولدها لا يكون موليا. وخالف في ذلك باقي الفقهاء (2). وروي عن الأوزاعي موافقة الإمامية (3). وقال مالك: لا يكون موليا، لأنه أراد صلاح ولده ولم يرد بالامتناع من الجماع الاضرار بالمرأة (4). والحجة لنا: بعد إجماع الطائفة أن انعقاد الايلاء حكم شرعي وقد ثبت انعقاده في موضع الاتفاق ولم يثبت في موضع الخلاف وإنعقاده حكم شرعي فيجب نفيه بنفي الدليل الشرعي. فإن احتجوا بعموم قوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) (5). فالجواب أن العموم يخص بالدليل، وبعد فالآية تقتضي وجوب التربص


(1) البحر الزخار: ج 4 / 241.
(2) لم نعثر عليه.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المدونة الكبرى: ج 3 / 89.
(5) سورة البقرة: الآية 226.

[ 328 ]

فيمن آلى، ونحن نمنع من كون من قال للمرضعة: لا أقربك في الرضاع موليا فالاسم لا يتناوله. فإن قيل: هذا يوجب أن لا ينعقد الإيلاء في مصلحة للرجل أو لزوجته أو لولده على كل حال في غير الرضاع أيضا. قلنا: كذلك نقول وإليه نذهب.


[ 329 ]

مسائل كتاب اللعان


[ 330 ]

مسائل اللعان (مسألة) [ 185 ] [ لفظ المعان ] ومما كان الإمامية منفردة به فإن جمهور الفقهاء على خلافه (1) القول: بأن الرجل إذا قال لامرأته: يا زانية وما جرى مجرى ذلك لا يوجب اللعان بينهما وإنما يكون قاذفا، والذي يوجب اللعان أن يقول: رأيتك تزنين ويضيف الفاحشة منها إلى مشاهدته أو ينفي ولدا أو حملا، ووافق مالك والليث في هذه الجملة (2). والحجة لنا: إجماع الطائفة. وأيضا فإن اللعان يتعلق به أحكام شرعية، فالطريق إلى إثبات ما يوجبه أدلة الشرع، وقد ثبت في الموضع الذي ذكرناه بالاتفاق أنه يوجب اللعان ولم يثبت ذلك فيما عداه فيجب نفي إيجابه للعان. (مسألة) [ 186 ] [ لو قذف امرأته الخرساء أو الصماء ] ومما انفردت الإمامية به: أن من قذف امرأته وهي خرساء أو صماء


(1) اختلاف الفقهاء (للمروزي): ص 196.
(2) بداية المجتهد: ج 2 / 125، المجموع: ج 17 / 391 المدونة الكبرى: ج 3 / 110.

[ 331 ]

لا تسمع شيئا فرق بينهما وأقيم عليه الحد ولم تحل له أبدا ولا لعان بينهما. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قذف الأخرس امرأته لم يحد ولم يلاعن (1). وقال الأوزاعي: إذا قذف امرأته وهي خرساء لحق به ولدها ولا حد عليه ولا لعان (2). وقال مالك والشافعي: يلاعن الأخرس إذا قذف امرأته بالإشارة (3). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد، وإنما وجبت الفرقة والحد على الزوج إذا قذف زوجته وهي خرساء، لأن الذي يسقط الحد عن الزوج اللعان، والملاعنة للخرساء لا تصح. وقال الأوزاعي: إن الولد يلحق بمن قذف امرأته وهي خرساء صحيح لأن اللعان إذا لم يصح وقوعه بينهما لخرس المرأة فالولد لاحق به، وأما نفيه الحد عنه فغلط منه، قاذف ولم يبطل عنه الحد اللعان (4) فالحد لازم فيه. (مسألة) [ 187 ] [ لولا عن زوجته وجحد ولدها ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من لاعن زوجته وجحد ولدها ثم


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 7 / 42، المجموع: 17 / 434 – 435 عمدة القاري: ج 20 / 291، بداية المجتهد: ج 2 / 128.
(2) لم نعثر عليه.
(3) عمدة القاري: ج 20 / 291 المدونة الكبرى: ج 3 / 117 بداية المجتهد ج 2 / 128، الأم: ج 5 / 286، المبسوط (للسرخسي): ج 7 / 42.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: حد اللعان.

[ 332 ]

رجع بعد ذلك فأقر بالولد فإنه يضرب حد المفتري ويورث الولد منه ولا يورث هو من ذلك الولد ويورث من هذا الولد أخوته من قبل أمه ولا يورث منه أخوته من جهة أبيه، ولست أعرف موافقا للإمامية من مخالفيها في هذه المسألة (1). والدليل على صحة هذا المذهب الإجماع المتردد، وأيضا فإن الاحتياط فيه، لأن إقراره بالولد بعد نفيه يغلب الظن بأن القصد به الطمع في الميراث، فإذا حرم الميراث كان ذلك صارفا عن هذا المقصد، ومقتضيا أن الاقرار بعد الجحود مع حرمان الميراث إنما هو لتحري الحق والصدق دون غيره.


(1) كشاف القناع: ج 6 / 327 الأم: ج 5 / 115 – 117 الأشراف: ق 85 المغني (لابن قدامة): ج 9 / 29، 34.

[ 333 ]

مسائل كتاب العدة وأكثر الحمل


[ 334 ]

[ مسائل كتاب العدد وأكثر الحمل ] (مسألة) [ 188 ] [ عدة الآيسة والصغيرة ] ومما يظن انفراد الإمامية به: القول بأن الآيسة من النساء من المحيض إذا كانت في سن من لا تحيض لا عدة عليها متى طلقت، وكذلك من لم تبلغ المحيض إذا لم يكن مثلها من تحيض لا عدة عليها. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويوجبون العدة على الآيسة من المحيض وعلى التي لم تبلغه على كل حال (1) وعدة هؤلاء عندهم الأشهر. وهذا المذهب ليس بمذهب لجميع الإمامية وإن كان فيهم (2) من يذهب إليه ويعول على أخبار آحاد في ذلك لا حجة فيها فليس بمذهب لجميع الإمامية فيلحق بما أجمعوا عليه. والذي أذهب أنا إليه أن على الآيسة من المحيض والتي لم تبلغه العدة على كل حال من غير مراعاة للشرط الذي حكيناه عن أصحابنا. والذي يدل على صحة هذا المذهب قوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض


(1) البحر الزخار: ج 4 / 220.
(2) مختلف الشيعة: كتاب الطلاق ص 611 س 11..

[ 335 ]

من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن) (1) وهذا صريح في أن الآيسات من المحيض واللائي لم يبلغن عدتهن الأشهر على كل حال، لأن قوله تعالى: (واللائي لم يحضن) معناه واللائي لم يحضن كذلك. فإن قيل: كيف تدعون أن الظاهر يقتضي إيجاب العدة على ما ذكرتم على كل حال، وفي الآية شرط وهو قوله تعالى: (إن ارتبتم)؟ قلنا: أول ما نقوله: أن الشرط المذكور في الآية لا ينفع أصحابنا، لأنه غير مطابق لما يشرطونه وإنما يكون نافعا لهم الشرط لو قال تعالى: إن كان مثلهن لا تحيض في اليائسات وفي اللائي لم يبلغن المحيض إذا كان مثلهن تحيض وإذا لم يقل تعالى ذلك وقال: (إن ارتبتم) وهو غير الشرط الذي يشرطه أصحابنا، فلا منفعة لهم به. وليس يخلو قوله تعالى: (إن ارتبتم) من أن يريد به ما قال جمهور المفسرين وأهل العلم بالتأويل من أنه تعالى أراد به إن كنتم مرتابين في عدة هؤلاء النساء وغير عالمين بمبلغها، فقد رووا ما يقوي ذلك من أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكرناه من فقد العلم، فروى مطرف (2) عن عمرو بن سالم قال قال أبي بن كعب يا رسول الله إن عددا من عدة النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله عز وجل (واللائي يئسن من المحيض) إلى قوله: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (3) فكان سبب نزول هذه الآية الارتياب الذي ذكرناه. ولا يجوز أن يكون الارتياب بأنها آيسة أو غير آيسة لأنه تعالى قد قطع في


(1) سورة الطلاق: الآية 4.
(2) تفسير ابن كثير: ج 4 / 381.
(3) سورة الطلاق: الآية 4.

[ 336 ]

الآية على اليائس من المحيض بقوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض)، والمشكوك في حالها، والمرتاب في أنها تحيض أو لا تحيض لا تكون آيسة، والمرجع في وقوع الحيض منها أو ارتفاعه إليها وهي المصدقة على ما تخبر به فيه (1)، فإذا أخبرت بأن حيضها قد ارتفع قطع عليه، ولا معنى للارتياب مع ذلك. وإذا كان الحيض المرجع فيه إلى النساء ومعرفة الرجال به مبنية على إخبار النساء وكانت الريبة المذكورة في الآية منصرفة إلى اليأس من المحيض، فكان يجب أن يقول تعالى: إن ارتبتن أو إن ارتبن لأنه حكم يرجع إلى النساء ويتعلق بهن فهن المخاطبات به، فلما قال الله تعالى (إن ارتبتم) فخاطب الرجال دون النساء علم أن المراد هو الارتياب في العدة ومبلغها. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الارتياب هاهنا إنما هو بمن تحيض أو لا تحيض ممن هو في سنها على ما يشرطه بعض أصحابكم؟ قلنا: هذا يبطل بأنه لا ريب في سن من يحيض مثلها من النساء أو لا يحيض، لأن المرجع فيه إلى العادة. ثم إذا كان الكلام مشروطا فالأولى أن نعلق الشرط بما لا خلاف فيه دون ما فيه الخلاف. وقد علمنا أن من شرط وجوب الاعلام بالشئ والاطلاع عليه فقد العلم ووقوع الريب ممن يعلم بذلك ويطلع عليه، فلا بد إذن من أن يكون ما علقنا نحن الشرط به وجعلنا الريبة واقعة فيه مرادا، وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يعلق الشرط بشئ آخر مما ذكروه أو غيره، لأن الكلام يستقل بتعلق الشرط بما ذكرنا أنه لا خلاف فيه ولا حاجة به بعد الاستقلال إلى أمر آخر، ألا ترى أنه لو استقل بنفسه لما جاز اشتراطه، فكذلك إذا استقل مشروطا بشئ لا خلاف فيه فلا يجب تجاوزه ولا تخطيه إلى غيره.


(1) ليس في ” ألف ” و ” ب “.

[ 337 ]

(مسألة) [ 189 ] [ عدة الحامل لو طلقت ] ومما يظن أن الإمامية مجمعة عليه ومنفردة به القول بأن عدة الحامل المطلقة أقرب الأجلين، وتفسير ذلك أن المطلقة إذا كانت حاملا ووضعت قبل مضي الأقراء الثلاثة فقد بانت بذلك وإن مضت الأقراء الثلاثة قبل أن تضع حملها بانت بذلك أيضا. وقد بينا في جواب المسائل الواردة من أهل الموصل الفقهية (1) أنه ما ذهب جميع أصحابنا إلى هذا المذهب ولا أجمع العلماء منا عليه، وأكثر أصحابنا يفتي بخلافه، ويذهب إلى أن عدة من ذكرنا حالها وضعها الحمل (2) وأن من ذهب إلى خلاف ما نصرناه إنما عول على خبر يرويه زرارة بن أعين عن أبي جعفر ” عليه السلام ” (3)، وقد بينا أنه ليس بحجة توجب العلم، وسلمناه مع ذلك وتأولناه واستوفينا هناك من الكلام ما لا طائل في إعادته هاهنا. وفي الجملة: إذا كانت هذه المسألة مما لا (4) يجمع أصحابنا عليها ويختلفون فيها فهي خارجة عما بنينا هذا الكتاب عليه. فإن قيل فما حجتكم على كل حال على أن عدة المطلقة إذا كانت حاملا هي وضعها للحمل دون الأقراء؟ فإن احتججتم بقوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (5) عورضتم بعموم قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن


(1) رسائل المرتضى: ج 1 / 186.
(2) مختلف الشيعة كتاب الطلاق: ص 618 س 27.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 3 / 509 ح 1.
(4) في ” ألف “: لم.
(5) سورة الطلاق: الآية 4.

[ 338 ]

بأنفسهن ثلاثة قروء) (1). فالجواب عن ذلك أنه لا خلاف بين العلماء في أن آية وضع الحمل عامة في المطلقة وغيرها وأنها ناسخة لما تقدمها، ومما يكشف عن ذلك أن قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) (2) إنما هو في غير الحوامل، فإن (3) من استبان حملها لا يقال فيها: لا يحل لها أن تكتم ما خلقه الله تعالى في رحمها، وإذا كانت هذه خاصة في غير الحوامل لم تعارض آية الوضع وهي عامة في كل حامل من مطلقة وغيرها. (مسألة) [ 190 ] [ عدة الحامل المتوفى عنها زوجها ] ومما انفردت به الإمامية: أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين، وتصوير هذه المسألة أن المرأة إذا كانت حاملا فتوفي عنها زوجها ووضعت حملها قبل أن تنقضي العدة أربعة أشهر وعشرة أيام لم تنقض بذلك عدتها حتى تمضي أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن مضت عنها أربعة أشهر وعشرة أيام ولم تضع حملها لم يحكم لها بانقضاء العدة حتى تضع الحمل فكان العدة تنقضي بأبعد هذين الأجلين مدة إما مضي الأشهر أو وضع الحمل. وهذه المسألة يخالف فيها الإمامية جميع الفقهاء في أزماننا هذه (4) إلا أن الفقهاء يحكون في كتبهم ومسائل خلافهم خلافا قديما فيها، وأن أمير المؤمنين


(1) و (2) سورة البقرة: الآية 228.
(2) في ” ألف ” لأن.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: زماننا هذا.

[ 339 ]

” صلوات الله عليه ” وعبد الله بن عباس (رحمة الله عليهما) كانا يذهبان إلى مثل ما تفتي به الإمامية الآن فيها (1). والحجة للإمامية: الإجماع المتردد في هذا الكتاب. وأيضا فإن العدة عبادة يستحق فيها الثواب، وإذا بعد مداها زادت مشقتها وكثر الثواب عليها ومن وضعت حملها عقيب وفاة زوجها لا مشقة عليها في العدة، وإذا مضت عليها أربعة أشهر وعشرة أيام كانت المشقة أكثر والثواب أوفر فقولنا أولى من قولهم. فإن احتجوا بظاهر قوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (2)، وأنه عام في المتوفى عنها زوجها وغيرها عارضناهم بقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) (3)، وأنه عام في الحامل وغيرها. ثم لو كانت آيتهم التي ذكروها عامة الظاهر جاز أن نخصها بدليل وهو إجماع الفرقة المحقة الذي قد بينا أن الحجة فيه. (مسألة) [ 191 ] [ أقل زمان لعدة الطلاق ] ومما انفردت الإمامية به القول: بأن أقل ما يجوز أن ينقضي به عدة المطلقة التي تعتد بالأقراء ما زاد على ستة وعشرين يوما بساعة أو دونها. مثال ذلك أن يكون طلقها زوجها وهي طاهر فحاضت بعد طلاقه


(1) تفسير القرطبي: ج 3 / 174 تفسير ابن كثير: ج 4 / 381 تفسير الرازي: ج 30 / 35 المغني (لابن قدامة): ج 9 / 110 عمدة القاري: ج 20 / 304 المبسوط (للسرخسي): ج 6 / 31.
(2) سورة الطلاق: الآية 4.
(3) سورة البقرة: الآية 234.

[ 340 ]

لها (1) بساعة، فتلك الساعة إذا كانت في الطهر فهي محسوبة لها قرء واحدا، ثم حاضت ثلاثة أيام وهو أقل الحيض وطهرت بعدها عشرة أيام وهو أقل الطهر، ثم حاضت بعد ذلك ثلاثة أيام وطهرت بعدها عشرة أيام، ثم حاضت فعند أول قطرة تراها من الدم فقد بانت، وباقي الفقهاء يخالف في ذلك. أما الشافعي وإن كان قوله في القرء أنه الطهر مثل قولنا واحتسب أيضا للمرأة بالطهر الذي يقع فيه الطلاق حسب ما نذهب إليه فإنه يذهب إلى أن أقل الطهر عنده خمسة عشر يوما (2) فأقل ما تنقضي به العدة على مذهبه اثنان وثلاثون يوما ولحظتان (3). مثال ذلك أن يطلقها في آخر جزء من أجزاء طهرها ثم تحيض فيحصل لها قرء بذلك، ثم تحيض يوما وليلة وهو أقل الحيض عنده (4)، ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو أقل الطهر عنده، ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر يوما، ثم يبتدئ بها الحيض لحظة واحدة فتنقضي عدتها باثنين وثلاثين يوما ولحظتين. فأما أبو يوسف ومحمد فإنهما ذهبا إلى أن أقل ما يمكن أن تنقضي به العدة تسعة وثلاثون يوما ولحظة واحدة، (5) لأنه يطلقها في آخر جزء من الطهر فتحيض عقيبه بثلاثة أيام وهو أقل الحيض عندهما (6)، ثم تطهر خمسة عشر يوما


(1) في ” ألف و ” ب “: بعد طلاقها.
(2) و (3) الأم: ج 1 / 64 و: ج 5 / 210، المحلى: 10 / 273.
(4) سنن الترمذي ج 1 / 228.
(5) المحلى: ج 10 / 273.
(6) المبسوط (للسرخسي): ج 3 / 148، أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 338 – 339.

[ 341 ]

وهو أقل الطهر عندهما (1) ثم تحيض ثلاثة أيام ثم تطهر خمسة عشر يوما ثم تحيض ثلاثة أيام ثم تطهر لحظة واحدة. وأبو حنيفة يذهب إلى أن أقل ما تنقضي به العدة ستون يوما ولحظة واحدة (2)، لأنه يعتبر أكثر الحيض وأقل الطهر، وأكثر الحيض عنده عشرة أيام (3) فكأنه يطلقها في آخر أجزاء الطهر ثم تحيض عشرة أيام وتطهر خمسة عشر يوما ثم تحيض عشرة أيام وتطهر خمسة عشر يوما ثم تحيض عشرة أيام، ثم تطهر لحظة واحدة. والحجة لما ذهبنا إليه: بعد إجماع الفرقة المحقة عليه أن الله تعالى أمر المطلقة بالتربص ثلاثة أقراء، والصحيح عندنا أن القرء المراد في الآية هو الطهر دون الحيض. وصح أيضا أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأقل الطهر عشرة أيام، وقد دللنا في باب الحيض في هذا الكتاب (4) على أن أقل الطهر هو عشرة أيام، ودللنا فيما كنا أمليناه من مسائل الخلاف (5) المفرد (6) على أن أقل الحيض ثلاثة أيام ولم يبق إلا أن ندل على أن القرء هو الطهر. والذي يدل على ذلك بعد الإجماع المتكرر أن لفظة القرء في وضع اللغة مشتركة بين الحيض والطهر، وقد نص القوم (7) على ذلك في كتبهم، ومما يوضح صحة الاشتراك أنها مستعملة في الأمرين بغير شك ولا دفاع، وظاهر الاستعمال للفظة بين شيئين يدل على أنها حقيقة في الأمرين إلى أن يقوم دليل


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 344.
(2) و (3) المحلى: ج 10 / 273.
(4) في ص 125.
(5) لا يوجد كتابه لدينا.
(6) في ” ألف ” و ” ب ” المفردة.
(7) القاموس المحيط: ج 1 / 24.

[ 342 ]

يقهر على أنها مجاز في أحدهما. وإذا ثبت أنها حقيقة في الأمرين فلو خلينا والظاهر لكان يجب انقضاء عدة المطلقة بأن يمضي عليها ثلاثة أقراء من الحيض والطهر معا لوقوع الاسم على الأمرين، غير أن الأمة أجمعت على أنها لا تنقضي إلا بمرور ثلاثة أقراء من أحد الجنسين إما من الطهر أو الحيض، وإذا ثبت ذلك وكانت الأطهار التي نعتبرها تسبق ما يعتبره أبو حنيفة وأصحابه، لأنه إذا طلقها وهي طاهر انقضت عدتها عندنا، وعند الشافعي بدخولها في الحيضة الثالثة، وعندهم تنقضي بانقضاء الحيضة الثالثة، وإذا سبق ما نعتبره لما يعتبرونه والاسم يتناوله وجب انقضاء العدة به. فأما الشافعي وإن وافقنا في هذه الجملة فقولنا: إنما كان أولى من قوله، لأنه يذهب إلى أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما وذلك عندنا باطل، فلهذا الوجه اختلف قولنا فيما تنقضي به العدة. فإن قيل: قد ذهب بعض أهل اللغة (1) إلى أن القرء مشتق من الجمع من قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته وقرأته أيضا بالهمز، وذهب آخرون (2) إلى أن المراد به الوقت، واستشهدوا بقول أهل اللغة: اقرأ الأمر: إذا حان وقته، فإن كان الأصل الجمع فالحيض أحق به، لأن معنى الاجتماع لا يوجد إلا في الحيض دون الطهر، وإن كان الأصل الوقت فالحيض أيضا أحق به لأن الوقت إنما يكون وقتا لما يتجدد ويحدث، والحيض هو الذي يتجدد والطهر ليس بمتجدد بل هو الأصل ومعناه عدم الحيض. فالجواب أن أهل اللغة قد نصوا على أن القرء من الأسماء المشتركة بين الطهر والحيض، وأنها من الألفاظ الواقعة على الضدين، ومن لا يعرف ذلك


(1) النهاية (لابن الأثير): ج 4 / 30 أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 365.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 / 364، المغني (لابن قدامة): ج 9 / 82.

[ 343 ]

لا يكلم فيما طريقه اللغة، وهذا القدر كاف في بطلان السؤال. ومما قيل: إن معنى الإجماع حاصل في حال الطهر، لأن الدم يجتمع في حال الطهر ويرسله الرحم في زمان الحيض، فأما الوقت فقد يكون للطهر والحيض معا وليس أحدهما بالوقت أخص من الآخر. وقولهم: إن الحيض حادث والطهر ليس بحادث وإنما هو ارتفاع الحيض، والحيض أشبه بالوقت من الطهر ليس بشئ، لأن الوقت يليق بكل متجدد من حدوث أمر وارتفاع أمر، ألا ترى أن الحمى توقت بوقت وهي حادثة وارتفاعها وزوالها يوقتان بوقت من حيث كانا متجددين، فإن قيل: ظاهر القرآن يقتضي وجوب استيفاء المعتدة لثلاثة أقراء كوامل وعلى قولكم الذي شرحتموه لا تستوفي ثلاثة أقراء وإنما يمضي عليها قرءان وبعض الثالث، ومن ذهب إلى أن القرء الحيض يذهب إلى أنها تستوفي ثلاث حيض كوامل. فالجواب أن كل من ذهب إلى أن القرء هو الطهر يذهب إلى أنه يعتد (1) بالطهر الذي وقع فيه الطلاق، ولا أحد من الأمة يجمع بين القول بأن القرء هو الطهر وأنه لا بد من ثلاثة أقراء كوامل، فلما سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي إكمال الأقراء الثلاثة لجاز الرجوع عن هذا الظاهر بهذه الدلالة (2). ومما يجاب به أيضا أن القرء في اللغة اسم لما اعتيد إقباله وما اعتيد إدباره، لأنهم يقولون: اقرأ النجم إذا طلع واقرأ: إذا غاب، والأقراء المذكور في الآية هو اسم لإدبار الأطهار، فعلى ما ذكرناه يحصل للمعتدة إدبار ثلاثة أطهار فتستوفي على ذلك أقراء ثلاثة.


(1) في ” ألف ” و ” ب “: أنها تعتد.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: الأدلة.

[ 344 ]

ومما قيل أيضا: أن القرء إذا كان من أسماء الزمان عبر باسم الثلاثة منه عن الاثنين وبعض الثالث كما قال تعالى: (الحج أشهر معلومات)، (1) وأشهر الحج شهران وبعض الثالث. وأيضا فإن من كتب كتابا جاز أن يقول: لثلاث خلون وإن كان قد مضى يومان وبعض الثالث وكذلك يقول: لثلاث بقين وإن كان قد بقي يومان وبعض الثالث. ويمكن أن يقال في ذلك: مجاز، وحمل الآية على الحقيقة أولى، فالجواب الأول الذي اعتمدناه أولى. فإن استدلوا على أن القرء هو الحيض، بأن الصغيرة والآيسة من المحيض ليستا من ذوات الأقراء بلا خلاف، وإن كان الطهر موجودا فيهما، ويقال للتي تحيض: إنها من ذوات الأقراء، فدل ذلك على أن القرء هو الحيض. فالجواب عنه أن القرء اسم للطهر الذي يتعقبه الحيض وليس باسم لما لا يتعقبه حيض، فالصغيرة والآيسة ليس لهما قرء، لأنه لا طهر لهما يتعقبه حيض. فإن استدلوا بما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله لفاطمة بنت أبي حبيش دعي الصلاة أيام أقرائك (2)، وهذا لا شبهة في أن المراد به الحيض دون الطهر. والجواب عنه أن أخبار الآحاد غير معمول بها في الشريعة، وبعد فيعارض هذا الخبر بقوله (عليه السلام) في خبر ابن عمر إنما السنة أن تستقبل بها الطهر ثم تطلقها في كل قرء تطليقة (3)، فقد ورد الشرع باشتراك هذا الاسم بين الطهر والحيض.


(1) سورة البقرة: الآية 197.
(2) سنن أبي داود: ج 1 ص 72 ح 280.
(3) سنن الدارقطني: ج 4 / 31 ح 84، نصب الراية: ج 3 / 220.

[ 345 ]

(مسألة) [ 192 ] ومما يظن انفراد الإمامية به القول: بأن الاحداد لا يجب على المطلقة وإن كانت بائنا، والاحداد هو أن تمتنع المرأة من الزينة بالكحل والامتشاط والخضاب ولبس المصبوغ والمنقوش وما جرى مجرى ذلك من ضروب الزينة. وقد وافق الإمامية في ذلك قول الشافعي الجديد ومالك والليث بن سعد (1) وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: على المطلقة المبتوتة من الاحداد مثل ما على المتوفى عنها زوجها (2). دليلنا إجماع الطائفة المحقة. وأيضا فإن الاحداد حكم شرعي، والأصل انتفاء الأحكام الشرعية، فمن أثبتها كان عليه الدليل، وإنما أوجبنا الاحداد على المتوفي عنها زوجها وخرجنا عن حكم الأصل بدليل ليس هو هاهنا ثابتا. (مسألة) [ 193 ] [ أكثر الحمل ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن أكثر مدة الحمل سنة واحدة، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فقال الشافعي: أكثر الحمل أربع سنين (3). وقال الزهري والليث وربيعة: أكثره سبع سنين (4).


(1) بداية المجتهد: ج 2 ص 132، المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 178 المجموع: ج 18 ص 181، 185.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 ص 533 بداية المجتهد: ج 2 ص 132 المبسوط (للسرخسي) ج 6 ص 32.
(3) الشرح الكبير: ج 9 ص 86 المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 116 بداية المجتهد ج 2 ص 387.
(4) المغني (لابن قدامة) ج 9 ص 116، الشرح الكبير: ج 9 ص 87.

[ 346 ]

وقال أبو حنيفة: أكثره سنتان (1)، وقال الثوري والبتي: أكثره سنتان (2). وعن مالك ثلاث روايات إحداها مثل قول الشافعي أربع سنين والثاني (3) خمس سنين والثالث (4) سبع سنين (5). واعلم أن الفائدة في تحديد أكثر الحمل أن الرجل إذا طلق زوجته فأتت بولد بعد الطلاق لأكثر من ذلك الحد لم يلحقه، وهذا حكم مفهوم لا بد من تحقيقه. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: بعد الإجماع المتردد أنا نرجع في تحديد الحمل إلى نصوص وتوقيف وإجماع وطرق علمية، ولا نثبته من طريق الظن ومخالفونا يرجعون فيه إما إلى أخبار آحاد توجب الظن أو إلى طرق اجتهادية لا توجب العلم وأكثر ما فيها الظن فتحديدنا أولى. وأيضا فإنه لا خلاف في أن السنة مدة الحمل وإنما الخلاف فيما زاد عليها، فصار ما ذهبنا إليه مجمعا على أنه حمل، وما زاد عليه إذا كان لا دليل عليه نفينا كونه حملا، لأن كونه حملا يقترن به إثبات حكم شرعي والأحكام الشرعية تحتاج في إثباتها إلى الأدلة الشرعية. فإن قالوا: نراعي في هذه اللفظة العادة. قلنا: العادة والعهد فيما قلنا دون ما قالوه، لأنا لا نعهد حملا يكون أربع سنين ولا سبع سنين، وإنما يدعي ذلك من قوله ليس بثابت.


(1) الشرح الكبير: ج 9 ص 86 المغني (لابن قدامة) ج 9 ص 116.
(2) المصدر السابق.
(3) في ” ألف ” و ” م “: والثانية.
(4) في ” ألف ” و ” م ” والثالثة.
(5) بداية المجتهد: ج 2 ص 387، المغني (لابن قدامة) ج 9 ص 116، المجموع: ج 18 ص 125، الشرح الكبير: ج 9 ص 86.

[ 347 ]

فإن قالوا قد روى الشافعي أن ابن عجلان ولد لأربع سنين (1). قلنا: إنما عمل في ذلك على ظنه وحسن اعتقاده في الراوي، ومثل هذا لا يجوز بالظنون وهو معارض بما يروونه عن عائشة أنها كانت تقول: أكثر الحمل سنتان (2). وروى سليم بن عباد قال: كانت عندنا بواسط امرأة بقي الحمل في جوفها خمس سنين (3)، وإذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها، وثبت ما حددنا به أكثر الحمل.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 116.
(2) المصدر السابق.
(3) لم نعثر عليه.

[ 349 ]

كتاب الأيمان والنذور والكفارات


[ 350 ]

مسائل الأيمان والنذور والكفارات (مسألة) [ 194 ] [ اليمين على معصية ] ومما انفردت به الإمامية أن من حلف بالله تعالى أن يفعل قبيحا أو يترك واجبا لم ينعقد يمينه ولم تلزمه كفارة إذا فعل ما حلف أنه لا يفعله أو لم يفعل ما حلف أنه يفعله، ومن عدا الإمامية يوجبون على من ذكرناه الحنث والكفارة. دليلنا الإجماع المتردد. وأيضا فإن انعقاد اليمين حكم شرعي بغير شبهة، وقد علمنا بالاجماع انعقاد اليمين إذا كانت على طاعة أو مباح، وإذا تعلقت بمعصية فلا إجماع ولا دليل يوجب العلم على انعقادها، فوجب نفي انعقادها لانتفاء دليل شرعي عليه. وأيضا فإن معنى انعقاد اليمين أن يجب على الحالف فعل ما حلف أنه يفعله، أو يجب عليه أن لا يفعل ما حلف أنه لا يفعله، ولا خلاف أن الحكم مفقود في اليمين على المعصية، لأن الواجب عليه أن لا يفعلها فكيف تنعقد يمين يجب عليه أن لا يفي بها وأن يعدل عن موجبها؟ فإن قيل: ليس معنى انعقاد اليمين ما ادعيتم بل معناه وجوب الكفارة متى خالف أو حنث. قلنا: هذا غير صحيح، لأن وجوب الكفارة وحكم الحنث يتبعان (1) انعقاد


(1) في باقي النسخ: إنما يتبعان.

[ 351 ]

اليمين، لأنا إنما نلزمه الكفارة لأجل خلافه ليمين انعقدت فكيف نفسر الانعقاد بلزوم الكفارة وهو مبني عليه وتابع له؟ والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه أن الله تعالى أمرنا بأن نحفظ أيماننا ونقيم عليها بقوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) (1)، وبقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (2)، فاليمين المنعقدة هي التي يجب حفظها والوفاء بها، ولا خلاف أن اليمين على المعصية بخلاف ذلك، فيجب أن تكون غير منعقدة، فإذا لم تنعقد فلا كفارة فيها. وأيضا فإن من حلف أن يفعل معصية ثم لم يفعلها هو [ بأن لم يفعلها ] (3) مطيع لله تعالى فاعل لما أوجبه عليه فكيف يجب عليه كفارة فيما أطاع الله تعالى فيه وأدى الواجب به؟ وإنما وجبت الكفارة على من أثم بمخالفة يمينه وحنث لتحط عنه الكفارة الإثم والوزر. فإن قيل: فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من حلف على شئ فرأى ما هو خير منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه (4). قلنا: هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا يقتضي قطعا، وإنما تثبت الأحكام بما يقتضي العلم ولنا من أخبارنا (5) التي نرويها عن أئمتنا عليهم السلام ما لا يحصى من المعارضة مما يتضمن التصريح بسقوط الكفارة.


(1) سورة المائدة: الآية 89.
(2) سورة المائدة: الآية 1.
(3) ساقط من ” ب “.
(4) سنن الدارمي: ج 2 ص 186 سنن ابن ماجة: ج 1 ص 681 سنن البيهقي ج 10 ص 32، الموطأ: ج 2 ص 478 سنن أبي داود ج 2 ص 109 المستدرك: ج 4 ص 301، سنن النسائي: ج 2 ص 144، صحيح البخاري: ج 2 ص 995 صحيح مسلم: ج 2 ص 48.
(5) الاستبصار: ج 4 ح 3 – 5 ص 41 – 42، التهذيب: ج 8 ح 35 – 37 ص 284، الكافي: ج 7 ص 443.

[ 352 ]

ويعارض هذا الخبر بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث عمر أنه قال: وليأت الذي هو خير وكفارتها تركها (1)، يعني ” عليه السلام ” ترك المعصية – لأن الكفارة لما كانت لإزالة الإثم وترك المعصية إذا كان واجبا فلا إثم عليه فيه، فقد قام مقام الكفارة. ونحن نستعمل الخبرين المرويين عنه عليه السلام فنحمل قوله: وليكفر على الاستحباب والندب، والمخالف لنا لا يمكنه على مذهبه استعمال الخبر المتضمن سقوط الكفارة، وأن كفارتها تركها. (مسألة) [ 195 ] [ لو حلف بالطلاق أو الظهار أو العتق أو الصدقة ] ومما انفردت به الإمامية: أن القائل إذا قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو هي علي كظهر أمي أو عبدي حر أو مالي صدقة لم يكن كل ذلك يمينا يلزم فيها الحنث والكفارة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقالوا: متى حنث لزمه والظهار (2) والعتق (3). وقال أبو حنيفة: إذا حلف بصدقة جميع ماله ثم حنث فعليه أن يتصدق بجميعه (4)، وقال الشافعي: يجب عليه إذا حنث كفارة يمين (5)، وقال مالك: يخرج عن ماله الثلث إذا حنث (6).


(1) سنن أبي داود: ج 2 ص 116 سنن ابن ماجة: ج 1 ص 682.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: الطلاق والظهار.
(3) أحكام القرآن (للجصاص) ج 2 / 295.
(4) بداية المجتهد: ج 1 ص 447.
(5) بداية المجتهد ج 1 ص 446 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 113.
(6) بداية المجتهد: ج 1 ص 447.

[ 353 ]

وقد روي موافقة الشيعة عن ابن عباس (رحمه الله) وطاووس والشعبي وأنه لا شئ على من حلف بذلك ثم حنث (1). أما الدلالة على أن الطلاق والظهار لا يقعان مشروطين، فقد تقدم في هذا الكتاب (2)، وأما العتق والصدقة ففي أصحابنا من يفتي بأنه إن أخرج ذلك القول مخرج اليمين كان لغوا باطلا لا حكم له، وإن أخرجه مخرج النذر كان له حكم النذر ووجب عليه العتق والصدقة إذا كان ما علقه به من الشرط وهذا غير صحيح لأن النذر عند جميع أصحابنا من شرطه أن يقول الناذر: لله تعالى علي كذا إن كان كذا، فإذا قال عبدي حر إن كان كذا أو مالي صدقة وقصد النذر دون اليمين فلا يكون ناذرا إلا أن يقول لله علي صدقة مالي وعتق عبدي، فإن لم يقل ذلك لم يكن ناذرا كما لا يكون حالفا. والدليل على أن ذلك ليس بيمين ولا يلزم فيه حنث إجماع الطائفة وإجماعهم حجة. وأيضا فلا خلاف في أن الحالف بغير الله تعالى عاص مخالف لما شرع من كيفية اليمين فإذا كان انعقاد اليمين حكما شرعيا لم يقع بالمعصية المخالفة للمشروع، وأيضا فإن الأصل براءة الذمة من الحقوق، ومن أثبت ذلك كان عليه الدليل. فإن احتج أبو حنيفة بقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) (3) الآية، وأنه تعالى ذمهم على مخالفة نفس ما عاهدوا عليه. فالجواب أنا لا نسلم أن ذلك عهد فمن ادعى أن له حكم العهد فعليه


(1) لم نعثر عليه.
(2) في ص 298 و 321.
(3) سورة التوبة: الآية 75.

[ 354 ]

الدلالة (1)، وبعد فإن أكثر أصحابنا يقولون أن قوله على عهد الله ليس بيمين. (مسألة) [ 196 ] [ كفارة مخالفة العهد ] ومما انفردت به الإمامية أن القائل إذا قال: علي عهد الله أن لا أفعل محرما ففعله، أو أن أفعل طاعة فلم يفعلها أو ذكر شيئا مباحا ليس بمعصية ثم خالف أنه يجب عليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وهو مخير بين الثلاث، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. فعند أبي حنيفة ومالك أن هذا القول يمين يجب فيه ما يجب في حنث اليمين (2). وقال الشافعي: إن نوي بذلك اليمين كان يمينا، ومتى لم ينو لم يكن يمينا (3). دليلنا إجماع الطائفة المحقة. وإن شئت أن تقول قد ثبت أن من حلف على أن يفعل فعلا هو معصية أنه يجب عليه أن لا يفعله ولا كفارة تلزمه، وكل من قال بسقوط الكفارة عمن ذكرناه قال: فيمن عاهد الله تعالى ثم نكث، أن الكفارة التي ذكرناها تلزمه، ولا أحد من الأمة يفرق بين المسألتين، فمن فرق بينهما خالف الإجماع.


(1) في ” ألف ” و ” م “: إقامة الدلالة.
(2) اختلاف العلماء (للمروزي): ص 217.
(3) اختلاف العلماء (للمروزي): ص 217، المجموع: ج 18 / 23.

[ 355 ]

(مسألة) [ 197 ] [ لو حنث ناسيا أو مكرها ] ومما يظن أن الإمامية انفردت به – وللشافعي (1) فيه قولان: أحدهما موافق للإمامية – أن من حلف بالله تعالى أن لا يدخل دارا أو لا يفعل شيئا ففعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه، وألزمه باقي الفقهاء الكفارة (2) إلا على أحد قولي الشافعي الذي ذكرناه. دليلنا على صحة ما ذكرناه وذهبنا إليه: الإجماع المتكرر. وأيضا قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) (3). فإذا قيل: الجناح هو الإثم. قلنا: قد يعبر به في القرآن والشريعة عن الإثم وعن كل ثقل فيجب حمله على الأمرين ما لم يقم دلالة. وأيضا فإن النسيان والاكراه يرفعان التكليف العقلي فكيف لا يرفعان التكليف السمعي؟ وأيضا فإن الكفارة وضعت في الشريعة لإزالة الإثم المستحق، وقد سقط الإثم عن الناسي بلا خلاف فلا كفارة عليه. وأيضا فإن الفعل المحلوف عليه يتعذر بالاكراه والنسيان كما يتعذر بفقد القدرة، فكما يرتفع التكليف مع فقد القدرة، فكذلك يرتفع مع الاكراه وفقد


(1) الشرح الكبير: ج 11 ص 184 – 185، بدية المجتهد: ج 1 ص 434 المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 289.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 174 – 176 البحر الزخار: ج 5 ص 242.
(3) سورة الاحزاب: الآية 5.

[ 356 ]

العلم، وكما أن من حلف على أن يفعل شيئا وفقد قدرته عليه لا يلزمه كفارة. فكذلك من حلف أنه يفعله فأكره على أن لا يفعله أو سلب علمه فيجب أيضا أن لا تلزمه الكفارة لارتفاع التمكن على الوجهين معا. ويمكن أن يعارض المخالفون في هذه المسألة بما رووه وهو ظاهر في كتبهم ورواياتهم عن ابن عباس (رحمه الله) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تعالى تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1). وليس لهم أن يحملوا الخبر على إثم الخطأ والنسيان دون حكمهما، لأن الواجب حمله عليهما معا إلا أن تقوم دلالة، ألا ترى أن رفع الخطأ والنسيان نفسهما لا يمكن أن يراد بالخبر، وإنما المراد ما يرجع إلى الخطأ والنسيان من حكم وإثم، وليس حملهما على أحدهما بأولى من الآخر فيجب حمله عليهما. (مسألة) [ 198 ] [ لو حلف على الترك حينا ] ومما يجوز أن يظن بالامامية الانفراد به: أن من حلف أن لا يكلم زيدا حينا وقع على ستة أشهر، وقد وافق الإمامية أبو حنيفة (2) في ذلك، والشافعي يذهب إلى أن الحين يقع على الأبد (3)، وقال مالك: الحين سنة واحدة (4). والذي يجب تحقيقه أن هذا القائل إذا كان عني (5) بالحين زمانا بعينه فهو


(1) سنن البيهقي: ج 7 ص 356 و ج 8 ص 235، سنن ابن ماجة: ج 1 ص 659.
(2) الفتاوى الهندية: ج 2 ص 105.
(3) المجموع: ج 18 ص 103 المغني (لابن قدامة) ج 11 ص 302.
(4) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 302 المجموع: 18 ص 104.
(5) في ” ألف “: نوى.

[ 357 ]

على ما نواه، وإن أطلق القول عاريا من نية كان عليه (1) ستة أشهر. دليلنا على صحة مذهبنا الإجماع المتردد. وإذا كان اسم الحين يقع على أشياء مختلفة فيقع على الزمان كما في قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (2) وإنما أراد زمان الصباح والمساء كله. ورأيت بعض متقدمي شيوخ (3) أصحاب أبي حنيفة يحمل هذه الآية على أن المراد بها ساعة واحدة فكأنه قال سبحانه ساعة تمسون وساعة تصبحون (4). وهذا غلط فاحش منه لا يخفى. ومما يقع عليه أيضا اسم الحين أربعون سنة قال الله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (5)، فذكر المفسرون (6) أنه تعالى أراد أربعين سنة. ويقع أيضا اسم الحين على وقت مبهم. قال الله تعالى: (ومتعناهم إلى حين) (7). ويقع على ستة أشهر، قال الله تعالى: (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) (8). وروي عن ابن عباس (رحمه الله): أن المراد بذلك ستة أشهر (9)، وقال


(1) في باقي النسخ: على.
(2) سورة الروم: الآية 17.
(3) ساقط من باقي النسخ.
(4) أحكام القرآن (للجصاص) ج 3 ص 182.
(5) سورة الانسان: الآية 1.
(6) أحكام القرآن (للجصاص) ج 3 ص 182.
(7) سورة يونس: الآية 98.
(8) سورة إبراهيم: الآية 25.
(9) المجموع ج 18 ص 104 أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 183.

[ 358 ]

غير ابن عباس: سنة (1). ومع اشتراك اللفظ لا بد من دلالة في حمله على البعض، ولما نقلت الإمامية عن أئمتها (عليهم السلام) أنه ستة أشهر، وأجمعوا عليه كان ذلك حجة في حمله على ما ذكرناه. وأبو حنيفة مع اعترافه باحتمال اللفظ للمعاني المختلفة كيف حمله على ستة أشهر بغير دليل مرجح؟ واللفظ يحتمل ذلك ويحتمل غيره، وكذلك مالك، وأما الشافعي فهو أعذر منهما، لأنه لما رأى الاشتراك حمله على التأبيد. مسائل النذر (مسألة) [ 199 ] [ لفظ النذر ] ومما انفردت الإمامية به: أن النذر لا ينعقد إلا بأن يقول الناذر: لله علي كذا وكذا بهذا اللفظ، فإن خالف هذه الصيغة وقال علي كذا وكذا ولم يقل: لله عز وجل لم ينعقد نذره. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (2)، وقد روي عن الشافعي وأبي ثور (3) موافقة الإمامية في ذلك. دليلنا على ما ذهبنا إليه: الإجماع الذي تكرر. وأيضا فلا خلاف في أنه إذا


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 182 المجموع: ج 18 ص 104.
(2) المجموع: ج 8 ص 451.
(3) الهداية: ج 2 ص 86.

[ 359 ]

قال باللفظ الذي ذكرناه يكون ناذرا، وإنعقاد النذر حكم شرعي لا بد فيه من دليل شرعي، وإذا خالف ما ذكرناه فلا دليل على انعقاده ولزوم الحكم به. وأيضا فإن الأصل براءة الذمة من حكم النذر، فمن ادعى مع اللفظ المخالف لقولنا وجوبه في الذمة فعليه الدليل. (مسألة) [ 200 ] [ نذر المعصية ] ومما كان (1) الإمامية منفرد به أن النذر لا يصح في معصية ولا بمعصية، ولا تكون المعصية فيه سببا ولا مسببا، فأما كون المعصية سببا فمثاله: أن ينذر أنه إن شرب خمرا أو ارتكب قبيحا أعتق عبده، ومثال كون المعصية مسببا أن يعلق بما يبلغه من غرضه أن يشرب خمرا أو يرتكب قبيحا. والشافعي: يوافق الشيعة في أن نذر المعصية لا كفارة فيه، (2) وما كان عندي أنه يوافقنا في إبطال كون المعصية سببا حتى قال لي (3) بعض شيوخ الشافعية: أن الشافعي يوافقنا أيضا في ذلك (4). والدلالة على قولنا بعد إجماع الطائفة أن لزوم النذر حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي، وقد علمنا أن السبب أو المسبب إذا لم يكن معصية انعقد النذر ولزم الناذر حكمه بلا خلاف فمن ادعى ذلك في المعصية فعليه الدلالة.


(1) في باقي النسخ: كانت.
(2) المجموع: ج 8 ص 452.
(3) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(4) بداية المجتهد: ج 1 ص 442، المغني (لابن قدامة) ج 11 ص 334.

[ 360 ]

وأيضا فمعنى قولنا في انعقاد النذر أنه يجب على الناذر فعل ما أوجبه على نفسه، وإذا علمنا بالاجماع أن المعصية لا تجب في حال من الأحوال علمنا أن النذر لا ينعقد في المعصية. ويجوز أن يعارض المخالفون بالخبر الذي يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله أنه قال: لا نذر في معصية (1) ولم يفرق بين أن تكون المعصية سببا أو مسببا. (مسألة) [ 201 ] [ كفارة النذر ] ومما انفردت به الإمامية: أن من خالف النذر حتى فات فعليه كفارة وهي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وهو مخير في ذلك، فإن تعذر عليه الجميع كان عليه كفارة يمين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبوا هذه الكفارة (2). دليلنا على صحة ما ذهبنا: إليه الإجماع المتردد وإن شئت أن تبنيه على بعض المسائل المتقدمة، فتقول: كل من ذهب إلى أن قول القائل: مالي صدقة أو امرأتي طالق إن كان كذا أنه لا شئ يلزمه وإن وقع الشرط أوجب عنده (3) الكفارة على من لم يف بنذره والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. وإن شئت أن تقول: كل من منع انعقاد النذر على معصية أو بمعصية على


(1) نصب الراية: ج 3 ص 300 صحيح مسلم: ج 2 ص 45.
(2) المجموع: ج 8 ص 460.
(3) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.

[ 361 ]

كل حال أوجب هذه الكفارة فيمن فوت نفسه نذره. ولا يلزم على ذلك أن الشافعي يوافق في بطلان النذر المتعلق بالمعصية لأنه لا يمنع منه على كل حال ويشرطه بالاجتهاد وهو يجوز لمن أدى اجتهاده على خلافه أو استفتى من هذه حاله خلاف مذهبه، ونحن لا نجوز خلاف مذهبنا على كل حال، وقد شرطنا أن من منع ذلك على كل حال قد أوجب الكفارة، وهذا ما لا يوجد مع الشافعي. (مسألة) [ 202 ] [ لو نذر سعيا إلى مشهد ] ومما يظن أن الإمامية انفردت به: القول بأن من نذر سعيا إلى مشهد من مشاهد النبي (عليه وآله السلام) أو أمير المؤمنين ” عليه السلام ” أو أحد من الأئمة (عليهم السلام) أو نذر صياما أو صلاة فيه أو ذبيحة لزمه الوفاء به. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1) إلا أنه قد روي عن الليث بن سعد أنه قال: متى حلف الرجل أن يمشي إلى بيت الله عز وجل ونوى بذلك مسجدا من المساجد أن ذلك يلزمه (2) (3). دليلنا: الإجماع الذي تكرر، وأيضا قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (4) وهذا عقد فيه طاعة لله عز وجل وقربة.


(1) المجموع: ج 8 ص 477.
(2) سنن البيهقي: ج 10 ص 78.
(3) في ” ألف ” و ” ب ” لزمه ذلك.
(4) سورة المائدة: الآية 1.

[ 362 ]

وليس لهم أن يقولوا: قد أوجب على نفسه جنسا لا يجب مثله في العبادات، لأن السعي قد يجب إلى بيت الله الحرام وفي مواضع الصلاة والصيام والذبح لا شبهة فيه. ويعارضون بما يروى عنه (عليه السلام) من قوله: من نذر أن يطيع الله فليطعه (1). (مسألة) [ 203 ] [ الاشتراط في النذر ] ومما كأن الإمامية منفرد به: أن النذر لا ينعقد حتى يكون معقودا بشرط متعلق (2)، كأن يقول: لله علي إن قدم فلان أو كان كذا أن أصوم أو أتصدق، ولو قال: لله علي أن أصوم أو أتصدق من غير شرط يتعلق به لم ينعقد نذره. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (3)، إلا أن أبا بكر الصيرفي وأبا إسحاق المروزي (4) ذهبا إلى مثل ما تقوله الإمامية. دليلنا على صحة ذلك الإجماع الذي تردد وأيضا إن معنى النذر في القرآن يكون متعلقا بشرط، ومتى لم يتعلق بشرط لم يستحق هذا الاسم، وإذا لم يكن ناذرا إذا لم يشترط ولم يلزمه الوفاء، لأن الوفاء إنما يلزم متى ثبت الاسم والمعنى. فأما استدلالهم بقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) وبقوله: (وأوفوا بعهد الله


(1) صحيح البخاري ج 2 ص 991 نصب الراية: ج 3 ص 300 سنن البيهقي: ج 10 ص 75 بداية المجتهد: ج 1 ص 442.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: متعلق به.
(3) المجموع: ج 8 ص 458.
(4) المجموع: ج 8 ص 458.

[ 363 ]

إذا عاهدتم) (1)، وبما روي عنه ” عليه السلام ” من قوله: من نذر أن يطيع الله فليطعه فليس بصحيح. أما الآية فإنا لا نسلم أنه مع التعري من الشرط يكون عقدا. وكذلك لا نسلم لهم أن مع الخلو من الشرط يكون عهدا، والآيتان تناولتا ما يستحق اسم العقد والعهد فعليهم أن يدلوا على ذلك. وأما الخبر (2) عن النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه أمر بالوفاء بما هو نذر على الحقيقة، ونحن نخالف في أنه يستحق هذه التسمية مع فقد الشرط فليدلوا عليه. وأما استدلالهم بقول جميل: فليت رجالا فيك قد نذروا دمي * وهموا بقتلي يابثين لقوني (3) وبقول عنترة: الشاتمي عرضي ولم أشتمهما * والناذرين إذا لقيتهما دمي (4) وأن الشاعرين أطلقا اسم النذر مع عدم الشرط. فمن ركيك الاستدلال لأن جميلا ما حكى لفظ نذرهم وإنما أخبر عن أعدائه بأنهم نذروا دمه فمن أين لهم أن نذرهم الذي أخبر عنه لم يكن مشروطا؟ وكذلك القول في بيت عنترة على أن قوله: إذا لقيتهما [ أو إذا لم ألقهما ] (5) دمي [ على اختلاف الرواية ] (6) دمي هو الشرط، فكأنهم قالوا: إذا لقيناه


(1) سورة النحل: الآية 91.
(2) في ” ألف “: الخبر المروي.
(3) ديوان جميل بثينة: ص 93.
(4) ديوان عنترة بن شداد: 18 المعلقات العشرة: معلقة عنترة بن شداد ص 159.
(5) و (6) ما بين المعقوفات ساقط من ” ألف ” و ” ب “.

[ 364 ]

قتلناه فنذروا قتله والشرط فيه اللقاء له. مسائل الكفارات وقد مضى في صدر هذا الكتاب الكلام في المسائل التي تنفرد بها الإمامية في كفارة واطئ امرأته في الحيض (1) وفي باب الصوم أيضا فيمن تعمد أن يبقى جنبا من ليل شهر رمضان إلى نهاره (2)، وفي نظائر هذه المسألة من باب الصوم فوجب (3) فيها من الكفارة ما لا يوجبه أكثر الفقهاء، وقد بيناها في باب مسائل الصوم وفي كفارة الجنايات في الحرم (4)، ولا فائدة في إعادة ما مضى وإنما نذكر ما لم يتقدم ذكره. (مسألة) [ 204 ] [ لو وطئ أمته حائضا ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن من وطئ أمته وهي حائض أن عليه أن يتصدق بثلاثة أمداد من طعام على ثلاث مساكين. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (5). دليلنا بعد الإجماع المتردد، أنا قد علمنا أن الصدقة بر وقربة وطاعة لله تعالى فهي داخلة تحت قوله تعالى: (افعلوا الخير) (6) وأمره بالطاعة فيما


(1) تقدم في ص 126.
(2) تقدم في ص 185.
(3) في ” ألف: يوجب.
(5) المغني (لابن قدامة) ج 1 ص 350 – 352.
(4) تقدم في ص 249.
(6) سورة الحج: الآية 77.

[ 365 ]

لا يحصى من الكتاب وظاهر الأمر يقتضي الايجاب في الشريعة فينبغي أن تكون هذه الصدقة واجبة بظاهر القرآن، وإنما يخرج بعض ما يتناوله هذه الظواهر عن الوجوب ويثبت له حكم (1) الندب بدليل قاد إلى ذلك ولا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظاهر. (مسألة) [ 205 ] [ لو نام عن صلاة العشاء ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من نام عن صلاة العشاء الآخرة حتى يمضي النصف الأول من الليل وجب عليه أن يقضيها إذا استيقظ وأن يصبح صائما كفارة عن تفريطه، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.
(2) دليلنا على صحة قولنا: بعد الإجماع الذي يتردد الطريقة التي ذكرناها (3) قبل هذه المسألة بلا فصل من قوله تعالى (وافعلوا الخير) وأمره جل وعز بالطاعة على الترتيب الذي بيناه. (مسألة) [ 206 ] [ لو جزت المرأة شعرها ] ومما انفردت به الإمامية: أن على المرأة إذا جزت شعرها كفارة قتل الخطأ


(1) ساقط من ” ألف “.
(2) لم نعثر عليه.
(3) في ” ألف “: سلكناها.

[ 366 ]

عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين فإن خدشت وجهها حتى تدميه كان عليها كفارة يمين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. ودليلنا ما تقدم ذكره ولا معنى لإعادته. (مسألة) [ 207 ] [ لو شق ثوبه في موت ولده ] ومما انفردت به الإمامية: أن من شق ثوبه في موت ولده له أو زوجته كان عليه كفارة يمين. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). دليلنا على صحة مذهبنا: ما ذكرناه فيما تقدم في المسألتين المتقدمتين بلا فصل. (مسألة) [ 208 ] [ لو تزوج بذات بعل ] ومما انفردت به الإمامية: أن من تزوج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم بذلك أن عليه أن يفارقها ويتصدق بخمسة دراهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. والدليل على ذلك: ما تقدم ذكره.


(1) المجموع: ج 5 ص 307.

[ 367 ]

(مسألة) [ 209 ] [ عتق ولد الزنا في الكفارة ] ومما يظن أن الإمامية انفردت به: القول بأن ولد الزنا لا يعتق في شئ من الكفارات. وقد روى وفاقها عن عبد الله بن عمر وعطاء والشعبي وطاووس (1)، وباقي الفقهاء يخالفون ذلك (2). دليلنا: بعد إجماع الطائفة قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (3) وولد الزنا يطلق عليه هذا الاسم. وقد رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا خير في ولد الزنا لا في لحمه ولا في دمه ولا في جلده ولا في عظمه ولا في شعره ولا في بشره ولا في شئ منه (4) وإجزاؤه في الكفارة وإسقاط الحكم به عن الجاني ضرب كثير من الخير وقد نفاه الرسول (صلى الله عليه وآله). فإن تعلقوا بظاهر من قوله تعالى: (فتحرير رقبة) (5)، قلنا: نخص ذلك بدليل كما خصصنا كلنا أمثاله بدليل. (مسألة) [ 210 ] [ لو أفطر في صوم التتابع لمرض ] ومما يظن انفراد الإمامية به القول: بأن من أفطر لمرض في صوم التتابع بنى


(1) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 372. (2) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 272.
(3) سورة البقرة: الآية 267.
(4) لم نعثر عليه.
(5) سورة النساء: الآية 92، والمجادلة: الآية 3.

[ 368 ]

على ما تقدم ولم يلزمه الاستيناف، وقد وافق الإمامية على هذا أحد قولي الشافعي وله في هذه المسألة قولان: أحدهما أن يستأنف مثل قول باقي الفقهاء، والآخر أنه لا يستأنف (1). دليلنا الإجماع المتردد، وأيضا فإن المرض عذر ظاهر لسقوط الفروض، وقد علمنا أنه لو أفطر لغير عذر للزمه الاستئناف ولم يجز له البناء، فلا يجوز أن يكون مثل ذلك حكمه مع العذر، لأن المعذور لا بد أن يخالف حكمه حكم من لا عذر له. والقوم يفرقون بين المرض والحيض في هذا الحكم ولا فرق بينهما عند التأمل لأن لكل واحد منهما عذرا لا يقدر على دفعه والانفكاك منه. (مسألة) [ 211 ] [ لو أفطر في صوم التتابع لغير عذر ] ومما انفردت الإمامية به: القول بأن من صام من شهر الثاني يوما أو أكثر من صيام الشهرين المتتابعين وأفطر من غير عذر كان مسيئا وجاز له أن يبني على ما تقدم من غير إستئناف، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. دليلنا بعد الإجماع الذي يتكرر قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (2)، وقوله تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم) (3)، وقد علمنا أن إلزام (4) من ذكرناه الاستئناف مشقة شديدة وحرج عظيم.


(1) المجموع: ج 17 ص 373.
(2) سورة الحج: الآية 78.
(3) سورة النساء: الآية 28.
(4) في ” ألف “: في إلزام.

[ 369 ]

كتاب مسائل العتق والتدبير والكتابة


[ 370 ]

كتاب مسائل العتق والتدبير والكتابة (مسألة) [ 212 ] [ القصد في العتق ] ومما انفردت به الإمامية أن العتق لا يقع إلا بقصد إليه وتلفظ به ولا يقع مع الغضب الشديد الذي لا يملك معه الاختيار ولا مع الاكراه ولا في السكر ولا على جهة اليمين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). دليلنا بعد الإجماع من الطائفة كل شئ دللنا به على أن الطلاق لا يقع مع هذه الوجوه التي ذكرناها، وقد تقدم. وإن شئت أن تقول: كل من قال من الأمة بأن الطلاق لا يقع على هذه الوجوه قال بمثله في العتق والتفرقة بين المسألتين خلاف الإجماع. فإن قيل: فأنتم تجيزون أن يقع العتق مشروطا مثل أن تقول إن شفاني الله من مرضي فعبدي حر والتدبير والمكاتبة عتق مشروط أيضا. قلنا: إنما أنكرنا أن يقع على جهة اليمين، مثل أن يقول: إن دخلت الدار وفعلت كذا فعبدي حر، وما أنكرنا أن يقع مشروطا في النذور والقربات.


(1) اختلاف العلماء (للمروزي): ص 175.

[ 371 ]

(مسألة) [ 213 ] [ ولاء المعتق ] ومما انفردت به الإمامية أن الولاء للمعتق إنما يثبت في العتق الذي ليس بواجب بل على سبيل التبرع، فأما إذا كان العتق في أمر واجب ككفارة الظهار أو قتل أو إفطار في شهر رمضان أو نذر أو ما أشبه ذلك من جهات الواجب فإن الولاء يرتفع فيه والمعتق سائبة لا ولاء للمعتق عليه. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). دليلنا بعد الإجماع الذي يتردد أن الولاء حكم شرعي، والأصل انتفاء الأحكام الشرعية وإنما تثبت بالأدلة القاهرة، وقد علمنا ثبوت الولاء في عتق المتبرع، ولم يقم دليل على ثبوته في العتق الواجب فيجب أن يكون على الأصل في انتفائه. (مسألة) [ 214 ] [ لو علق العتق بعضو ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن مولى إذا علق العتق بعضو من أعضاء عبده أي عضو كان لم يقع عتقه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فذهب أبو حنيفة إلى أنه إن علق العتق بعضو يعبر به عن الجملة كالرأس والفرج وقع العتق وإلا لم يقع.


(1) المجموع: ج 16 ص 42.
(2) البحر الزخار: ج 5 ص 193.

[ 372 ]

وذهب الشافعي إلى أن العتق يقع إذا علق بكل عضو من (1) يد أو رجل وغير ذلك (2). دليلنا الإجماع المتردد، وأيضا فإن وقوع العتق حكم شرعي ولا يجوز إثباته إلا بدليل قاطع وقد علمنا أن حكم العتق يثبت إذا علق بالجملة ولم يقم دليل على ثبوته إذا علق بالاعضاء فيجب أن ينفيه. (مسألة) [ 215 ] [ اعتبار القربة في العتق ] ومما انفردت به الإمامية: أن العتق لا يقع إلا إذا كان لوجه الله والقربة إليه ولم يقصد به غير ذلك من الوجوه مثل الاضرار أو ما يخالف القربة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (3). والدلالة على صحة مذهبنا: بعد إجماع الطائفة المحقة أن العتاق حكم شرعي ولا يثبت إلا بدليل شرعي، ولا دليل على وقوعه مع نفي القربة. (مسألة) [ 216 ] [ عتق الكافر ] ومما انفردت به الإمامية: أن من أعتق عبدا كافرا لا يقع عتقه وخالف


(1) في ” ألف “: من أعضائه من.
(2) البحر الزخار: ج 5 / 193. (3) المصدر السابق.

[ 373 ]

باقي الفقهاء في ذلك (1). والدليل على صحة مذهبنا: ما مضى في المسألتين المتقدمتين. وأيضا فإن في جعل الكافر حرا تسليطا له على مكاره أهل الدين والايمان وذلك لا يجوز. (مسألة) [ 217 ] [ العبد بين شريكين ] ومما انفردت به الإمامية: أن العبد إذا كان بين شريكين أو أكثر من ذلك فأعتق أحد الشركاء نصيبه انعتق ملكه من العبد خاصة فإن كان هذا المعتق موسرا طولب بابتياع حصص شركائه، فإذا ابتاعها انعتق جميع العبد وإن كان المعتق معسرا وجب أن يستسعى العبد في باقي ثمنه فإذا أداه عتق جميعه، فإن عجز العبد عن التكسب والسعاية كان بعضه عتيقا وبعضه رقيقا وخدم ملاكه بحساب رقه وتصرف في نفسه بحساب ما انعتق منه وخالف باقي الفقهاء في هذه الجملة: فقال أبو حنيفة: إذا أعتق أحد الشريكين عتق نصيبه ولشريكه ثلاث خيارات إن كان موسرا: إن شاء أعتق وإن شاء استسعى وإن شاء ضمن، وإن كان معسرا سعى العبد ولم يرجع على المعتق (2). وقال ابن أبي ليلى: يعتق كله وهو قول أبي يوسف ومحمد (3) وإن كان


(1) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 262 أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 425.
(2) الفتاوى الهندية: ج 2 ص 9 مجمع الأنهر: ج 1 ص 524 الجوهرة: ج 2 ص 129 اختلاف العلماء: ص 225 بداية المجتهد: ج 2 ص 396 – 397، المبسوط (للسرخسي): ج 7 ص 103 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 242.
(3) بداية المجتهد: ج 2 ص 396 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 242.

[ 374 ]

موسرا ضمن، وإن كان معسرا سعى العبد وهو قول الثوري والحسن بن صالح ابن حي (1). وحكى أبو يوسف عن ربيعة في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما لم يجز عتقه، فإن أعتقه الآخر فقد تم عتقهما (2). وقال مالك والشافعي إذا أعتقه أحدهما وهو موسر فقد عتق كله وضمن فإن كان معسرا كان نصيبه رقيقا يتصرف فيه (3). وقال عثمان البتي لا شئ على المعتق إلا أن يكون جارية رائعة (4) تراد للوطء فيضمن ما أدخل على صاحبه من الضرر (5). وحكى الطحاوي عن قوم أنهم قالوا: يعتق العبد كله ويضمن المعتق من شركائه موسرا كان أو معسرا (6). ومن تأمل هذه الأقاويل المختلفة وجد قول الإمامية – كثرهم الله – على ترتيبه منفردا عنها. والدلالة على صحة مذهبنا: الإجماع الذي يتكرر، ثم أن القول بنفوذ العتق في نصيب المعتق لا بد منه لأنه يتصرف في ملكه وتعديه إلى ملك غيره لا يجوز لأن من لا يملك شيئا لا يجوز تصرفه فيه وتبعيض العتق الذي بنيت هذه المسألة عليه لا بد منه.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 242 اختلاف العلماء: ص 225، الأشراف (لابن المنذر): 305.
(2) الجوهرة: ج 2 ص 129، مجمع الأنهر: ج 1 ص 524.
(3) المدونة الكبرى: ج 7 ص 37 – 39، الأشراف (لابن المنذر): ص 305، اختلاف العلماء: ص 225، بداية المجتهد: ج 2 ص 396 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 242.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: رائعة.
(5) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 242.
(6) لا يوجد كتابه لدينا.

[ 375 ]

وأما الشافعي فقد صرح به فيما حكاه عنه، وكذلك أبو حنيفة أيضا في إثبات الخيارات للشريك إلا أنا إذا قلنا لأبي حنيفة: أرأيت إذا كان المعتق معسرا أو عجز العبد عن السعاية والتكسب فكيف يكون الحال؟ فلا بد له عند ذلك من القول بمثل ما قلناه. وأما الشافعي فيلزمه أن يقال له إنما يجوز أن يكون بعضه رقيقا وبعضه حرا إذا فقدت الحيلة في حريته إما بتضمين المعتق إن كان موسرا أو بسعاية العبد إن كان المعتق معسرا لا سيما وأنتم كلكم تروون عن النبي (عليه السلام) أنه قال من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه كله من ملكه فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه (1). وتروون أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من أعتق شركا له في عبد فهو حر كله (2) وظاهر هذا الخبر يقتضي ما حكيناه عن أبي يوسف ومحمد وذلك باطل عندنا وعند الشافعي فثبت أنه عليه السلام أراد استحقاق التوصل إلى الحرية بكل سبب. فإن استدل الشافعي بما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله من أعتق شقصا له في عبده، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه حصتهم وأعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق ورق عليه مارق (3). فالجواب أن هذا الخبر واحد وإن كنا لا نعرفه ولا ندري عدالة راويه وقد


(1) صحيح البخاري: ج 3 ص 190 الجامع للأصول: ج 9 ص 47 بداية المجتهد: ج 2 ص 397، نصب الراية: ج 3 ص 282 سنن أبي داود: ج 4 ص 32 سنن الترمذي: ج 3 ص 630 سنن ابن ماجة ج 2 ص 1288، سنن الدارقطني: ج 2 ص 477.
(2) صحيح البخاري: ج 3 / 189 الجامع للأصول: ج 9 / 46.
(3) نصب الراية: ج 3 ص 283.

[ 376 ]

بينا في غير موضع أن أخبار الآحاد العدول لا تقبل في أحكام الشريعة. وإنما يصلح أن يحتج بهذا الخبر الشافعي على أبي حنيفة لأنهما مشتركان في قبول أخبار الآحاد. وأبو حنيفة يجيب عن هذا الخبر بأن يقول: إن العبد رقيق إلى أن يؤدي بالسعاية ما عليه، كما أنه كذلك إلى أن يعتقه صاحبه. ولنا على ما نذهب إليه أن نتأول ذلك على من عجز عن السعاية من العبيد فإنه يبقى بعضه رقيقا لا محالة، وهذا التأويل أولى من تأويل أبي حنيفة لأنه لو أطلق عليه اسم الرق إلى أن يسعى لجاز بيعه وهبته وعنده لا يجوز ذلك. مسائل في التدبير (مسألة) [ 218 ] [ القصد في التدبير ] ومما انفردت به الإمامية أن التدبير لا يقع إلا مع قصد إليه واختيار له، ولا يقع على غضب ولا إكراه ولا سكر ولا على جهة اليمين، وتكون القربة إلى الله تعالى هي المقصودة به دون سائر الأغراض، وخالف باقي الفقهاء في هذه المسائل (1). والدلالة على صحة مذهبنا فيها كلها: ما قدمناه في باب العتاق وشروطه، وأنه لا يقع على هذه الوجوه التي قلنا أنه لا يقع عليها، والطريقة في الأمرين واحدة.


(1) البحر الزخار: ج 5 ص 209.

[ 377 ]

(مسألة) [ 219 ] [ بيع المدبر ] ومما انفردت الإمامية به أن قسموا بيع المدبر فقالوا إن كان ذلك التدبير تطوعا وتبرعا جاز له بيعه على كل حال في دين وغير دين، كما يجوز له الرجوع في وصيته وإن كان تدبيره عن وجوب لم يجز بيعه ومعنى ذلك أن يكون قد نذر مثلا إن برئ من مرضه أو قدم غائبه أن يدبر عبده ففعل ذلك واجبا لا تبرعا، وما وجدنا أحدا من الفقهاء فصل هذا التفصيل وأطلقوا جواز البيع على كل حال أو المنع منه على كل حال. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بيعه وهو قول ابن أبي ليلى وسائر أهل الكوفة والحسن بن صالح بن حي (1). وقال مالك: لا يجوز بيع المدبر فإن باع مدبرة فأعتقها المشتري فالعتق جائز وينتقض التدبير والولاء للمعتق، وكذلك إن وطئها فحملت منه صارت أم ولد فبطل التدبير (2). وقال الأوزاعي: لا يباع المدبر إلا من نفسه أو من رجل يعجل عتقه، وولاءه لمن اشتراه ما دام الأول حيا، فإذا مات الأول رجع الولاء إلى ورثته (3) وقال الليث: أكره بيع المدبر، فإن باعه وأعتقه المشتري جاز بيعه وولاءه


(1) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 47 بداية المجتهد: ج 2 ص 422 الفتاوى الهندية: ج 2 ص 37 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 316.
(2) المدونة الكبرى ج 3 ص 304 – 305 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 47 – 48 بداية المجتهد ج 2 ص 422 الموطأ: ج 2 ص 814.
(3) بداية المجتهد: ج 2 ص 422 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 48.

[ 378 ]

لمن أعتقه (1). وقال عثمان البتي والشافعي: يجوز بيع المدبر من حاجة ومن غير حاجة (2). فما في الجماعة من قسم تقسيم الإمامية فصارت المسألة انفرادا. دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد الإجماع الذي يتردد أن التدبير إذا كان على سبيل النذر فهو واجب عليه لازم له فلا يجوز الرجوع فيه ولا الفسخ له وليس كذلك التبرع لأنه لا سبب له يقتضيه. (مسألة) [ 220 ] [ تدبير الكافر ] ومما انفردت به الإمامية أن تدبير الكافر لا يجوز وقد مضى الكلام في نظير هذه المسألة لما دللنا على أن عتق الكافر لا يجوز (3) فإن التدبير ضرب من العتق. (مسألة) [ 221 ] [ تدبير الشرك نصيبه ] ومما انفردت به الإمامية أن من دبر نصيبه من عبد ثم مات انعتق نصيبه. والقول في نصيب شريكه كالقول فيمن أعتق عتقا منجزا حقه من


(1) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 48. (2) المغني (لابن قدامة) ج 12 ص 316 بداية المجتهد: ج 2 ص 422، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 48.
(3) في ص 372 مسألة 216.

[ 379 ]

عبد، وتلك القسمة التي ذكرناها في عتق الشقص هي ثابتة هاهنا، والدلالة على المسألتين واحدة. (مسألة) [ 222 ] [ المال الذي يخرج منه المدبر ] ومما انفردت الإمامية به أنهم قسموا التدبير وقالوا إن كان عن وجوب فهو من رأس المال، وإن كان عن تطوع فهو من الثلث. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك وما وجدنا لهم هذه القسمة، لأن أبا حنيفة وأصحابه والثوري ومالكا والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي قالوا بالإطلاق وأن المدبر يكون من الثلث (1). وقال زفر والليث بن سعد: المدبر من جميع المال وهو قول مسروق وإبراهيم النخعي (2). وروي عن الشعبي أن شريحا كان يقول: المدبر من الثلث (3). فبان بحكاية هذه الأقوال انفراد لقول الإمامية إذا قسموا. والدلالة على صحة قولهم: بعد إجماع الطائفة أنه إذا كان واجبا جرى مجرى الديون في خروجه من أصل المال، وإذا كان تبرعا وتطوعا فهو كالوصية بما يتبرع به الموصي والقسمة واجبة.


(1) الفتاوى الهندية: ج 2 ص 37 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 308 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 49.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 308 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 49.
(3) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 49.

[ 380 ]

فإن استدلوا بالخبر الذي يرويه نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدبر من الثلث (1). فالجواب عنه أن هذا خبر واحد لا نعرفه وأنتم تنفردون به، ونعارضه بأخبار لنا كثيرة موجودة في الكتب (2)، ولو قلنا به على ما فيه لحملناه على تدبير التطوع والتبرع دون الوجوب. (مسألة) [ 223 ] [ تعليق التدبير بعضو ] ومما انفردت به الإمامية أن التدبير متى علق بعضو من الأعضاء لم يكن تدبيرا ولا كان له حكم، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك والشافعي (3) إذا ذهب إلى أن العتق إذا تعلق بأي عضو كان من الأعضاء وقع، يجب أن يذهب في التدبير إلى مثله، وأبو حنيفة (4) إذا ذهب إلى أن العتق يقع متى تعلق بعضو يعبر به عن الجملة مثل الرأس أو الفرج يجب أن يقول في التدبير مثل ذلك. والذي دللنا به في مسائل العتق من أن العتق لا يقع متى علق بعضو من الأعضاء هو بعينه دليل في التدبير في هذه المسألة.


(1) سنن ابن ماجة ج 2 ص 840 كنز العمال: ج 10 ص 330.
(2) نصب الراية: ج 3 ص 285.
(3) و (4) تقدما في ص 271 مسألة 214.
(5) في ” ألف “: وكل دليل.

[ 381 ]

(مسألة) [ 224 ] [ مكاتبة الكافر ] ومما انفردت به الإمامية: أنه لا يجوز أن يكاتب العبد الكافر وأجاز باقي الفقهاء ذلك (1). وقد دللنا على نظير هذه المسألة في مسائل العتق والتدبير (2)، وما دللنا به هناك هو دليل في هذا الموضع. ويمكن أن يستدل على ذلك أيضا بقوله تعالى (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) (3) فلا يخلو المراد بالخير أن يكون المال أو الصناعة وحسن التكسب على ما قاله الفقهاء أو المراد به الخير الذي هو الدين والأيمان، ولا يجوز أن يراد بذلك المال ولا التكسب لأنه لا يسمى الكافر والمرتد إذا كانا مثريين (4) أو متكسبين خيرين، ولا أن فيهما خيرا ويسمى ذو الإيمان والدين خيرا وإن لم يكن موسرا ولا متكسبا، فالحمل على ما ذكرناه أولى ولو تساوت المعاني في الاحتمال لوجب الحمل على الجميع. (مسألة) [ 225 ] [ المكاتبة المطلقة والمشروطة ] ومما انفردت به الإمامية أن المكاتب إذا شرط على مكاتبه أنك متى بقي


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 322.
(2) في ص 372 مسألة 216، وص 378 مسألة 220.
(3) سورة النور: الآية 33.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: موسرين.

[ 382 ]

عليك من مال مكاتبتي شئ رجعت رقا كان هذا الشرط صحيحا ماضيا وإن اشترط عليه أنه متى أدى بعضا وبقي بعض عتق منه بقدر ما أدى وبقي رقيقا بقدر ما بقي عليه كان ذلك أيضا جائزا وإن لم يشرطه (1) شيئا من ذلك وأطلق الكتابة وأدى المكاتب البعض وبقي البعض كان رقيقا بقدر ما بقي عليه وحرا [ فيما نقد من أدائه ] (2). وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وابن شبرمة والبتي ومالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد المكاتب عبد ما بقي عليه درهم لا يعتق إلا [ بجميع الكتابة ] (3) (4)، وروي عن الثوري أنه قال: إذا أدى المكاتب النصف أو الثلث من مكاتبته فأحب أن لا يرد إلى الرق (5). وروي عن الشعبي أنه قال: كان عبد الله وشريح يقولان في المكاتب: إذا أدى الثلث فهو غريم (6). وروي عن عبد الله بن مسعود أيضا أنه (7) إذا أدى المكاتب قيمة رقبته فهو غريم (8). والذي يدل على صحة مذهبنا: إجماع الطائفة وإن شئت أن تقول كل


(1) في باقي النسخ: يشترط.
(2) في ” ألف ” و ” م “: بقدر أدائه وفي ” ب ” بقدر ما أداه.
(3) في باقي النسخ: إذا أدى جميع مال الكتابة.
(4) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 350 وص 408 472 اختلاف العلماء: ص 228، 229، الأشراف (لابن المنذر): ص 205 المدونة الكبرى: ج 7 ص 86 الأم: ج 7 ص 382.
(5) اختلاف العلماء: ص 228، الأشراف (لابن المنذر): ص 205. (6) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 326.
(7) في ” ألف ” و ” ب “: أنه قال.
(8) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 350 الأشراف (لابن المنذر): ص 205 اختلاف العلماء ص 228.

[ 383 ]

من قال: إن عتق الكافر لا يصح ولا يقع يقول بما ذكرناه في هذه المسألة، فالتفرقة بين المسألتين خلاف إجماع الأمة. وقد دللنا (1) على أن عتق الكافر لا يصح ولا يقع. ويمكن أن يعتمد أيضا على أن الكتابة عقد يتعلق بالشرط الذي يرتضيان به فيجب أن يكون بحسب ما يشترطان ويتراضيان عليه، وإذا أطلق الكتابة وجعل الرقبة بإزاء المال فكل ما نقص عن المال يجب نقصانه من الرقبة. (مسألة) [ 226 ] [ في بيع أمهات الأولاد ] ومما انفردت به الإمامية القول: بجواز بيع أمهات الأولاد بعد وفاة أولادهن، ولا يجوز بيع أم الولد وولدها حي، وهذا هو موضع الانفراد، فإن من يوافق الإمامية في جواز بيع أمهات الأولاد يخالفها في التفصيل الذي ذكرناه. وقد روت العامة وحكى أصحاب الخلاف القول بجواز بيع أم الولد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ” صلوات الله عليه ” وعبد الله بن عباس وجابر ابن عبد الله وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير والوليد بن عقبة وسويد بن غفلة وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن سيرين وأبي الزبير وعبد الملك بن يعلى وهو قول أهل الظاهر (2). وخالف باقي الفقهاء في ذلك ومنعوا من بيعهن (3).


(1) في ص 372 مسألة 216.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 13 ص 5 بداية المجتهد: ج 2 ص 424. شرح فتح القدير: ج 4 ص 326.
(3) سبل السلام: ج 3 ص 12 المبسوط (للسرخسي): ج 13 ص 5.

[ 384 ]

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) (1) وهذا عام في أمهات الأولاد وغيرهن. فإن قيل: قد أجمعنا على أن قوله تعالى (وأحل الله البيع) مشروط بالملك فإن بيع ما لا يملكه لا يجوز. قلنا: الملك باق في أم الولد بلا خلاف، لأن وطئها مباح له ولا وجه لإباحته إلا ملك (2) اليمين. ويدل أيضا على ذلك أنه لا خلاف في جواز عتقها بعد الولد ولو لم يكن الملك باقيا لما جاز العتق، وكذلك يجوز مكاتبتها وأن يأخذ سيدها ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها، وهذا يدل على بقاء الملك. وكذلك أجمعوا على أن قاتلها لا تجب عليه الدية وإنما يجب عليه قيمتها. فإن قالوا: إن بقاء الملك لا يدل على جواز البيع بل لا يمتنع أن يبقى الملك وهو ناقص كملك الشئ المرهون هو (3) باق للراهن وإن لم يجز بيعه. قلنا: إذا سلمتم بقاء الملك. فبقاؤه يقتضي استمرار أحكامه، وإذا ادعيتم فيه النقصان طولبتم بالدلالة ولن تجدوها، على أنا لو سلمنا نقصان الملك تبرعا لجاز أن نحمله على أنه لا يجوز بيعها مع بقاء ولدها، وهذا ضرب من النقصان في الملك. ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) (4)، وقد علمنا أن للمولى أن يطئ أم ولده وإنما يطئها بملك اليمين، لأنه لا عقد هاهنا، وإذا جاز أن يطئها بالملك جاز له أن


(1) سورة البقرة: الآية 275.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: بملك.
(3) في ” ألف “: و ” ب “: فهو.
(4) سورة المؤمنون: الآية 5 و 6 سورة المعارج: الآية 29 و 30.

[ 385 ]

يبيعها، كما جاز له مثل ذلك في سائر جواريه. ومما يشهد لما ذكرناه أن بيع أمهات الأولاد كان مستعملا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) متعارفا طول أيام أبي بكر حتى نهى عمر عن ذلك فامتنع منه اتباعا له، وإنما نهى عن ذلك لمصلحة [ زعم أنه ] (1) رآها، كنهيه عن متعة الحج وإلزامه المطلق ثلاثا بلفظ واحد تحريم زوجته عليه وإغرامه أنس ابن مالك وديعة هلكت في ماله إلى مسائل كثيرة خالف فيها جميع الأمة وما الخلاف عليه في بيع أمهات الأولاد إلا كالخلاف عليه في سائر المسائل التي ذكرنا بعضها. ومما يقوي أن نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد كان لرأي اختاره هو ما روي عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: جاء شاب إلى عمر فقال: إن أمي اشتراها عمي فهو يعقلها وينظرها وأنا ضاربه ضربة أدخل منها النار، فقال عمر هذا فساد، فرأى يومئذ أن يعتقن (2) فلو لم يكن بيع أم الولد جائزا لكان عمر يفسخ شراء عم الغلام للجارية ويردها إلى أبي الغلام. ومما يمكن إيراده على سبيل المعارضة – فإنه وارد من طريق الآحاد التي لا يجوز الاحتجاج بها فيما طريقه العلم، وإنما يصح لأصحابنا أن يعارضوا بها لأن خصومنا يرون العمل بأخبار الآحاد – ما رواه أبو داود سليمان بن أشعث السجستاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن خطاب بن صالح مولى الأنصار عن أمه عن سلامة بنت معقل قالت: قدم بي عمي في الجاهلية فباعني من الحباب بن عمر فولدت له عبد الرحمن ثم هلك فقالت امرأته: الآن تباعين في دينه، فأتيت


(1) ساقط من باقي النسخ.
(2) لم نعثر عليه.

[ 386 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبرته فقال (صلى الله عليه وآله) لأخيه أبي اليسر كعب بن عمر: اعتقوها، فإذا سمعتم برقيق قدم علي فأتوني أعوضكم منها فعوضهم مني غلاما (1). فلو عتقت أم الولد بموت سيدها لما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) الوارث بعتقها ولما ضمن له العوض عنها، ولقال له: قد عتقت بموت سيدها وليس لكم بيعها. ومما يمكن ذكره أيضا على سبيل المعارضة ما رواه عطاء وأبو الزبير وابن أبي نجيح كلهم عن جابر بن عبد الله قال: بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر، فلما كان أيام عمر نهانا (2). وعن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3).، وعن إبراهيم بن مهاجر قال: سمعت ابن غفلة يقول: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد عمر إلى أن نهى (4) عنه (5). وعن عبيدة السلماني عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ” صلوات الله عليه ” قال: كان من رأيي ورأي عمر أن لا تباع أمهات الأولاد وقد رأيت أن يبعن (6)


(1) الجامع للأصول: ج 9 ص 50 نصب الراية ج 3 / 288. (2) نصب الراية: ج 3 / 289 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 493 بداية المجتهد: ج 2 ص 425 سبل السلام: ج 3 ص 12. شرح فتح القدير: ج 4 ص 326.
(3) كنز العمال: ج 10 ص 346.
(4) في ” ألف ” و ” م “: نهانا.
(5) لم نعثر عليه.
(6) كنز العمال: ج 10 ص 346.

[ 387 ]

وعن محمد بن سيرين عن عمر بن مالك الهمداني عن عمر قال: إن أسلمت وعفت عتقت، وإن كفرت وفجرت رقت (1). وفي هذا الخبر دليل على أن نهيه عن بيعها كان على سبيل الاستحباب لأنها لو عتقت بموت السيد لما منع فجورها من عتقها. وروى الأجلح عن زيد بن وهب قال: أصاب ابن عم لنا جارية فولدت منه بنتا وماتت البنت فأتينا عمر فقصصنا عليه القصة فقال: هي جاريتك فإن شئت فبعها (2). وعن الحكم عن زيد بن وهب عن عمر نحوه (3). وأما اعتراض من يعترض على ما ذكرناه في الرواية عن جابر وأبي سعيد الخدري من أننا كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي (صلى الله عليه وآله) فينا حي لا يرى بذلك بأسا (4) بأن يقول: ليس في ذلك دليل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان عالما بذلك ولم ينكره وقد يجوز أن يكون في حياته (عليه السلام) ما لا يعرفه. فليس بشئ مرضي لأن احتجاج الرجلين بأن بيع أمهات الأولاد كان في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) خرج مخرج الإخبار بأنه كان عالما بذلك وإلا فلا فائدة في أن يجري في أيامه ما لا يعرفه. ولو ساغ هذا التأويل لقيل لهما: هذا التخريج الذي خرجه الخصوم فلما لم يقل ذلك دل على أنهما إنما خبرا بأن ذلك جرى وهو (عليه السلام) يعرفه ويبلغه فلا ينكره. وقد تعلق من امتنع من بيع أمهات الأولاد بأشياء:


(1) كنز العمال: ج 10 ص 344 ح 29737.
(2) لم نعثر عليه.
(3) لم نعثر عليه.
(4) كنز العمال: ج 10 ص 345 ح 29739 و 346 ح 29741 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 841 ج 257.

[ 388 ]

منها: أن ولد هذه الأمة حر لا محالة وهو كالجزء منها فحريته متعدية إليها. ومنها: ما رواه عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيما رجل ولدت منه أمته فهي معتقة عن دبر منه (1). وعن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله) نحوه (2). وعن سعيد بن المسيب قال: أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بعتق أمهات الأولاد، وأن لا يبعن ولا يستسعين (3). وبما روي عنه (عليه السلام) في مارية حين ولدت منه أنه قال: أعتقها ولدها (4). وادعوا أيضا إجماع الصحابة على عتقها في أيام عمر بن الخطاب، والاجماع حجة. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: ولم زعمتم أن حرية الولد تتعدى إلى الأم؟ ومن مذهبكم أن الأم لا تتبع الولد في الأحكام وإنما يتبعها الولد، فإذا أعتقت الأمة عتق ما في بطنها، وليس إذا عتق ما في بطنها عتقت. وأيضا فلو كان الولد هو الموجب لحريتها لعتقت في الحال ولم يتأخر ذلك إلى موت السيد. على أن أصحاب الشافعي لا يصح أن يتعلقوا بهذه الطريقة لأن الشافعي يذهب إلى أن من اشترى امرأته وهي أمة وقد كانت حملت منه ووضعت عنده


(1) كنز العمال: ج 10 ص 328.
(2) كنز العمال ج 10 ص 328 ح 29656.
(3) نصب الراية: ج 13 ص 288.
(4) بداية المجتهد: ج 2 ص 425 المبسوط (للسرخسي): ج 7 ص 149 شرح فتح القدير: ج 4 ص 326 وص 227.

[ 389 ]

ولدا عتق ولده منها، ولم تسر الحرية من الولد إليها بل تكون أمة حتى تحمل منه وهي في ملكه. (1) فأما ما روي عن عكرمة عن ابن عباس فإن حفاظ الحديث (2) ونقاده قطعوا على أنه كذب لا أصل له، وكذلك الخبر الذي روي عن سعيد بن المسيب. ويوضح ذلك ما رواه أشعث عن سالم بن أبي عروة القرشي عن ابن عباس أنه كان يجعل أمهات الأولاد من أنصباء أولادهن (3)، فلو كان عند ابن عباس في ذلك أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتضمن العتق والحرية لما جعلهن من أنصباء أولادهن، وقد رووا عن ابن عباس أنه قال في أم الولد: إنما هي كبعيرك أو فرسك (4). وعن سعيد بن مسروق عن عكرمة في أم الولد قال: قال عمر تعتق (5) فلو كان عكرمة على ما ذكر في الخبر الأول روى عن ابن عباس عتقها عن النبي (عليه وآله السلام) لما أسنده إلى عمر بل كان ينسبه إلى النبي (عليه وآله السلام). وعن نافع قال: قال رجلان لابن عمر: تركنا عبد الله بن الزبير يبيع أمهات الأولاد، فقال ابن عمر: لكن أبي عمر كان يقول: أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة له وهي حرة إذا مات (6). وعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحوه (7)، فلو كان ابن عمر روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنها تعتق


(1) مختصر المزني ص 332.
(2) في ” ألف ” و ” م “: حفاظ أصحاب الحديث.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 492.
(5) لم نعثر عليه.
(6) جامع الأصول: ج 9 ص 50.
(7) نصب الراية: ج 3 ص 288.

[ 390 ]

بموته لجعل عتقها منسوبا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يجعله إلى عمر. وروي عن زيد بن وهب الجهني قال: مات رجل عن أم ولد فأمر الوليد ابن عقبة ببيعها، فقال ابن مسعود إن كنتم لا بد فاعلين فاجعلوها من نصيب ابنها تعتق (1). فلو كان في ذلك أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) لما خفي على ابن مسعود ولا على الوليد بن عقبة وهو أمير الكوفة من قبل عثمان بن عفان حتى يقضي ببيعها بمحضر من الصحابة، ولما قال أمير المؤمنين ” عليه السلام ” قد كان من رأيي ورأي عمر أن لا يبعن، وقد رأيت الآن أن يبعن، ولكان عبد الله بن الزبير لا يبيعهن طول (2) ولايته على الحرمين والعراق من غير أن ينكره أصحابه عليه. وعن القاسم بن الفضل بن معدان عن محمد بن زياد قال: كانت جدتي أم ولد لعثمان بن مظعون وأراد ابن عثمان بيعها بعد موت أبيه فأتت عائشة فقالت: إن ابن عثمان يريد بيعي فلو كلمتيه فوضعني موضعا صالحا وقد كنت ولدت من أبيه فقالت لها: إذهبي إلى عمر فإنه يعتقك، فأتت عمر فأرسل إلى ابن عثمان بن مظعون قال: أردت بيع هذه؟ فقال: نعم، قال ليس لك ذلك هي حرة (3). وفي هذا دليل على أن عائشة وابن عثمان بن مظعون كانا يريان بيعها وأنه لم يكن عندهما في ذلك أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) ولذلك أجاز بيعها أمير المؤمنين (عليه السلام) وجابر وابن عباس وابن الزبير وأبو سعيد الخدري والوليد بن عقبة وغيرهم


(1) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 494.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: في طول.
(3) سنن البيهقي: ج 10 ص 345.

[ 391 ]

على أن هذه الأخبار التي تعلقوا بها وما أشبهها أخبار آحاد لا توجب علما ولا يقينا، وأكثر ما توجبه مع السلامة التامة الظن ولا يجوز الرجوع عن الأدلة التي قدمناها مما يوجب العلم اليقين (1). وهي معارضة بما ذكرنا بعضه وأغفلنا معظمه من رواياتهم المتضمنة لجواز بيع أمهات الأولاد (2). فأما ما تختص به الشيعة الإمامية في هذا الباب من الأخبار (3) فهي أكثر من أن يحصى، وإنما عارضناهم بما يروونه وينقلونه وهو موجود في كتب أخبارهم. على أنه يمكن – إذا سلمنا صحة الخبر الأول والثاني – أن يكون المعنى فيه إنها تعتق إذا كان مولاها قد علق عتقها بوفاته وهذا مما لا شبهة فيه. فأما ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) في أم إبراهيم ولده أنه قال: أعتقها ولدها فهو أيضا من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم وهم يروونه عن أبي بكر بن أبي سبرة وهو عند نقاد أصحاب الحديث من الكذابين، ويرويه ابن أبي سبرة عن الحسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس وهو عندهم من الضعفاء المطعون في روايتهم، وهو معارض بكل ما تقدم ولا بد فيه من ترك ظاهره لأن ولدها لو كان أعتقها لعتقت في الحال، وقد أجمعنا على خلاف ذلك. ويحتمل أن يكون النبي (عليه وآله السلام) علق عتقها بولادتها فلما حصلت الولادة التي هي السبب في العتق قال (عليه السلام): أعتقها ولدها. وهذا التأويل أولى من تأويلهم لأنهم يجعلون المسبب الذي هو العتق متأخرا عن السبب


(1) في ” ألف ” و ” ب “: واليقين.
(2) سنن البيهقي: ج 10 ص 347 – 348.
(3) الكافي: ج 6 ص 191 باب أمهات الأولاد، انظر الباب.

[ 392 ]

الذي هو الولادة، وتأويلنا يقتضي أن يكون المسبب بعد السبب بلا فصل. وقد تأول هذا الخبر أيضا قوم على أن المراد به أن ولدها يدعو إلى عتقها وما دعا إلى غيره جاز أن يجعل كأنه واقع عنده. فأما ما ادعوه من الإجماع فقد بينا أن الخلاف في هذه المسألة متقدم ومتأخر، وأن بيع أمهات الأولاد كان في أيام النبي (عليه السلام) وأبي بكر إلى أن نهى عمر، فكيف يدعى الإجماع في هذه المسألة والخلاف فيها أظهر من الشمس؟ وقد رووا عن الأجلح عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عدي في رجل مات وعليه دين وليس له إلا أم ولد قال: تستسعي في الدين (1). وعن ابن مسعود قال: تعتق من نصيب ولدها (2). وعن الشعبي وإبراهيم النخعي قال: يجزئ عتق أم الولد عن الرقبة الواجبة (3). وعن حماد بن زيد عن أيوب وابن عون أن ذا قرابة لمحمد بن سيرين توفي وترك أم ولد له حبلى فأرسل محمد بن سيرين إلى عبد الملك بن يعلى وهو قاضي البصرة فأمره عبد الملك أن يجعل عتقها من نصيب ولدها (4). وفي ذلك كله دليل على أن الخلاف ما زال في الأعصار المتقدمة والمتأخرة إلى وقتنا.


(1) لم نعثر عليه.
(2) المغني (لابن قدامة) م: ج 12 ص 494.
(3) لم نعثر عليه.
(4) لم نعثر عليه.

[ 393 ]

كتاب الصيد


[ 394 ]

كتاب الصيد (والذبائح والأطعمة والأشربة واللباس) (مسألة) [ 227 ] [ الصيد بالجوارح ] ومما انفردت به الإمامية الآن وإن وافقها في ذلك قول أقوام حكي قديما: القول: بأن الصيد لا يصح إلا بالكلاب المعلمة دون الجوارح كلها من الطيور وذوات الأربع كالصقر والبازي والشاهين وما أشبههن من ذوات الأربع كعناق الأرض والفهد وما جرى مجراهما، ولا يحل عندهم أكل ما قتله غير الكلب المعلم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1) وأجروا كل ما علم من الجوارح من الطيور وذوات الأربع مجرى الكلاب في هذا الحكم. وذكر أبو بكر أحمد بن علي الرازي الفقيه في كتابه المعروف بأحكام القرآن عن نافع قال: وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب عليه السلام قال لا يصلح أكل ما قتلته البزاة (2). وروي أيضا عن ابن جريح عن نافع قال قال عبد الله بن عمر: ما أمسك


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 313.
(2) المصدر السابق.

[ 395 ]

من الطير البزاة وغيرها فما أدركت ذكاته فذكيته فهو لك وإلا فلا تطعمه (1). وروى سلمة بن علقمة عن نافع: أن عليا ” عليه السلام ” كره ما قتلته الصقور (2). وروي عن مجاهد: أنه كان يكره صيد الطير ويقول مكلبين إنما هي الكلاب (3) (4). وذكر أبو بكر الرازي أن بعض العلماء حمل مكلبين على الكلاب خاصة وبعضهم حمل ذلك على الكلاب وغيرها (5). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) (6) الآية، وهذا نص صريح على أنه لا يقوم مقام الكلاب في هذا الحكم غيرها، لأنه تعالى لو قال وما علمتم من الجوارح ولم يقل: مكلبين لدخل في الكلام كل جارح من ذي ناب وظفر ولما أتى بلفظة مكلبين وهي تخص الكلاب خاصة، لأن المكلب هو صاحب الكلاب بلا خلاف بين أهل اللغة (7) علمناه، أنه لم يرد بالجوارح جميع ما يستحق هذا الاسم وإنما أراد بالجوارح من الكلاب خاصة ويجري ذلك مجرى قولهم:


(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) في ” ألف “: و ” ب “: الكلاب خاصة.
(4) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 313 – 314.
(5) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 / 314.
(6) سورة المائدة: الآية 4.
(7) الصحاح: ج 1 ص 213 تاج العروس: ج 1 ص 461 معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص 133، لسان العرب: ج 1 ص 722، القاموس: ج 1 ص 125.

[ 396 ]

ركب القوم نهارهم * مبقرين أو محمرين فإنه لا يحتمل وإن كان اللفظ الأول عام الظاهر إلا على ركوب البقر والحمارات، فإن قيل: دلوا على أن مكلبين إنما أراد به صاحب الكلاب، وما أنكرتم أن يريد به المضرى للجارح الممرن له والمجرى، فيدخل فيه الكلب وغيره. قلنا: ليس ينبغي أن يتكلم فيما طريقه اللغة من لا يعرف موضوع أهلها ولا يعرف عن أحد من أهل اللغة العربية أن المكلب هو المغرى أو المضرى بل يقولون وقد نصوا في كتبهم عليه: أن المكلب هو صاحب الكلاب قال النابغة الذبياني: سرت عليه من الظلماء سارية * تزجي الشمال عليه جامد البرد فارتاع من صوت كلاب فبات له * طوع الشوامت من خوف ومن صرد (1) وفسر أهل اللغة أنه أراد بكلاب صاحب الكلاب مكلب واحد. وذكر صاحب كتاب الجمهرة: أن المكلب صاحب الكلاب (2)، وأنشد قول الشاعر: ضرا أحست نبأة من مكلب وما ذكر في هذا الباب أكثر من أن يحصى. وقد ذكر في تصريف ما ينبني من الكاف واللام والباء أن المكلب هو المضرى والمعلم (3) وقد فتشنا سائر كتب أهل اللغة فما وجدنا أحدا منهم ذكر ذلك.


(1) ديوان النابغة الذبياني: ص 21 – 22.
(2) جمهرة اللغة: ج 1 ص 326.
(3) لم نعثر عليه.

[ 397 ]

ومن اغتر بقولهم فلان كلب على كذا وتكلب على كذا فغير متأمل، لأن الكلب هاهنا هو العطش والكلب عندهم هو العطشان، ولا يقول أحد منهم: كلب للطائر الجارح إذا علمه وأضراه لأن هذه لفظة مستعملة من لفظ الكلاب فكيف تستعمل في غيرها؟ وإذا قيل: قد قالوا: أسير مكلب. قلنا: من قال ذلك فقد فسره وقال: معنى مكلب مشدود بالكلب الذي هو القد، ولما كان الأسير المشدود بالقد الذي هو الكلب قيل مكلب وما أنكرنا أن يكون المكلب في موضع من المواضع يستعمل في غير الكلاب وإنما أنكرنا أن يكون المكلب هو المعلم والمغرى والمضرى. على أنا لو سلمنا هذه اللفظة وأنها قد استعملت في التعليم والتمرين فذلك مجاز، والمعنى الذي ذكرنا استعمالها فيه حقيقة وحمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز. على أن قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح) يغني عن أن يكرر ويقول معلمين، لأن من حمل لفظة (مكلبين) على التعليم لا بد من أن يلزمه التكرار، وإذا جعلنا ذلك مختصا بالكلاب أفاد، لأنه بيان، لأن هذا الحكم يتعلق بالكلاب دون غيرها، ولو أبدلنا في الآية لفظة مكلبين بمعلمين لما حسنت، فكيف تحمل على معناها ولو صرحنا بها لكان الكلام قبيحا؟ ويدل أيضا على ما ذهبنا إليه أن الجارح غير الكلب إذا صاد صيدا فقتله فقد حله الموت، وكل حيوان يحله الموت فهو ميتة ويستحق هذا الاسم في الشريعة إلا أن تقوم دلالة شرعية على ذكاته فلا يجري عليه حينئذ اسم الميتة وإن حله الموت، فإن ادعوا ذكاة ما حله الموت من صيد البازي والفهد وما أشبههما فعليهم الدلالة ولا يتمكنون من دلالة وإنما يفزعون إلى خبر واحد أو قياس وما فيهما ما يوجب العلم فيترك له ظاهر القرآن.


[ 398 ]

(مسألة) [ 228 ] [ لو أكل الكلب من صيده ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن الكلب إذا أكل من الصيد نادرا أو شاذا وكان الأغلب أنه لا يأكل حد الأكل من ذلك الصيد وإن كثر أكله منه وتكرر فإنه لا يؤكل منه. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم فلا يؤكل، ويؤكل صيد البازي وإن أكل، وهو قول الثوري (1). وقال مالك والأوزاعي والليث يؤكل وإن أكل الكلب منه (2). وقال الشافعي: لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي مثله (3). وإنما كان هذا انفرادا لأن من قال من الفقهاء أنه يؤكل من الصيد وإن أكل منه لم يشترط ما شرطناه من الأقل والأغلب بل أطلق فصار الذي شرطناه انفرادا في هذه المسألة. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه أن أكل الكلب من الصيد إذا تردد وتكرر دل على أنه غير معلم والتعليم شرط في إباحة صيد الكلب بلا خلاف، وبدلالة قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح) وإذا تتابع أكل الكلب من الصيد دل على أنه غير معلم فلا يحل أكل صيده


(1) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 65، المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 8، 11، بداية المجتهد: ج 1 ص 478.
(2) بداية المجتهد: ج 1 ص 479 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 65.
(3) اختلاف الفقهاء: ج 1 / 65، المبسوط (للسرخسي): ج 11 ص 223 بداية المجتهد: ج 1 ص 478، المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 11.

[ 399 ]

ولأنه إذا توالى أكله منه لا يكون ممسكا له على صاحبه، بل يكون ممسكا له على نفسه. وقول المخالف لنا: إن الكلب متى أكل يخرج من أن يكون معلما ليس بشئ، لأن الأكل إذا شذ وندر لم يخرج به من أن يكون معلما، ألا ترى أن العاقل منا قد يقع منه الغلط فيما هو عالم به ومحسن له على سبيل الشذوذ من صياغة (1) وكتابة وغيرهما ولا يخرج عن كونه عالما، فالبهيمة مع فقد العقل بذلك أحق. وتفرقة من فرق من القوم بين البازي وجوارح الطير وبين الكلب بأن الطائر لا يقبل التعليم في ترك الأكل مما يصيده وأنه يكفي في كونها معلمة مع أنها مستوحشة غير آنسة أن تألف صاحبها وتجيبه إذا دعاها، والكلب مستأنس فلا يكفي في كونه معلما أن يدعى فيجيب ويألف صاحبه فلا بد من أن يكون تعليمه إنما هو لترك الأكل. غير صحيحة، لأن البازي كما جاز أن يقهر ويمرن على ما يخالف طبعه من الاستئناس وإجابة دعاء صاحبه جاز أيضا أن يمرن ويعلم ترك الأكل لما يمسكه فيعتاد ذلك ويفارق به طباعه كما فارق في الوجه الأول. وأما الكلاب فليس كلها مستأنسة وفيها المتوحش أيضا فلم لا يكون علامة كونها معلمة هي أن تأنس بنا وندعوها فتجيب؟ ومعلوم ضرورة أن إجابة داعيها ليس هو بشئ لها وإنما تعلمه وتمرن عليه فألا أجروها مجرى جوارح الطير في أن أكلها مما تمسكه ليس مخرجا لها من التعليم وهذا كله من القوم حدس وخبط.


(1) في ” ألف ” و ” ب “: صناعة.

[ 400 ]

(مسألة) [ 229 ] مما يحرم لحمه من حيوان البر والبحر ومما انفردت به الإمامية تحريم أكل الثعلب والأرنب والضب ومن صيد البحر السمك الجري والمارماهي والزمار وكل ما لا فلس له من السمك. وخالف باقي الفقهاء في ذلك إلا أنه روي عن أبي حنيفة وأصحابه موافقتنا في الثعلب خاصة. (1) وروي عنهم أيضا كراهية أكل الضب (2). ورووا كلهم في خبر معروف رواه الأعمش قال: نزلنا أرضا كثيرة الضباب وأصابتنا مجاعة فطبخنا منها وإن القدر لتغلي بها إذ جاءنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ما هذا؟ قلنا: ضباب أصبناها، فقال (عليه وآله السلام) إن أمة من بني إسرائيل مسخت وأرانا في تلك الأرض وإنا أخشى أن تكون هذه منها فاكفوها (3). وهذا الخبر يقتضي كما نراه أن الضب مع تحريمه مسخ، وهو قول الإمامية لأنهم يعدون الضب من جملة المسوخ التي هي الفيل والأرنب والدب والعقرب والضب والعنكبوت والجري والوطواط والقرد والخنزير، ولا يزال مخالفوهم إذا سمعوا منهم ذكر هذه المسوخ التي ما اعتمدوا في أنها مسوخ إلا على الرواية تضاحكوا منهم واستهزؤا بهم ونسبوهم إلى الغفلة وبعد الفطنة وهم يروون عن طرقهم وعن رجالهم مثل ما عجبوا منه بعينه والله المستعان. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد وإن شئت أن تبني


(1) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 67.
(2) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 74 سنن أبي داود: ج 3 ص 353، المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 81 شرح معاني الآثار: ج 4 ص 200.
(3) شرح معاني الآثار: 4 ص 197.

[ 401 ]

هذه المسألة على مسألة تحريم صيد البازي وما أشبهه من جوارح الطير فعلت فقلت كل من حرم صيد جوارح الطير حرم ما عددناه، والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. فإن استدل المخالف بقوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) (1)، وظاهر هذه الآية يقتضي أن جميع صيد البحر حلال، وكذلك صيد البر إلا على المحرم خاصة. أو استدل بما لا يزال يستدل به على أن أصل المنافع التي لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا على الإباحة وعلى من حظر شيئا من ذلك الدليل. فالجواب أن قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) لا يتناول ظاهره الخلاف في هذه المسألة لأن الصيد مصدر صدت وهو يجري مجرى الاصطياد الذي هو فعل الصائد وإنما يسمى الوحش وما جرى مجراه صيدا مجازا وعلى وجه الحذف لأنه محل للاصطياد فسمي باسمه، وإذا كان كلامنا في تحريم لحم المصيد (2) فلا دلالة في إباحة الصيد، لأن الصيد غير المصيد. فإن قيل: قوله تعالى: (وطعامه متاعا لكم وللسيارة) يقتضي أنه أراد المصيد دون الصيد، لأن لفظة (الطعام) لا تليق إلا بما ذكرناه دون المصدر. قلنا: لو سلمنا أن لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر لكان لنا أن نقول قوله تعالى وطعامه يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقا في الشريعة لاسم الطعام، لأن ما هو محرم في الشريعة لا يسمى بالإطلاق فيها طعاما كالميتة والخنزير، فمن ادعى في شئ مما عددنا تحريمه أنه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك فإنه يتعذر عليه.


(1) سورة المائدة: الآية 96.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: الصيد.

[ 402 ]

وقد روي عن الحسن البصري في قوله تعالى: (وطعامه) أنه أراد به البر والشعير والحبوب التي تسقى بذلك الماء (1)، وحمل أكثر المفسرين لفظة البحر على كل ماء كثير من عذب وملح، (2) وإذا حمل على الحبوب سقطت المسألة. فأما الجواب عن قولهم إن الأصل الإباحة فهو كذلك إلا أنا نرجع عن حكم الأصل بالأدلة القاطعة وقد ذكرناها. (مسألة) [ 230 ] لو وجد سمكة لا يعلم ذكاتها ومما انفردت به الإمامية أن من وجد سمكة على ساحل بحر أو شاطئ نهر ولم يعلم هل هي ميتة أو ذكية فيجب أن يلقيها في الماء فإن طفت على ظهرها فهي ميتة، وإن طفت على وجهها فهي ذكية، فإن أبا حنيفة (3) وإن وافقنا في أن السمك الطافي على الماء لا يؤكل، فإنه لا يعتبر هذا الاعتبار الذي ذكرناه. ويجب على هذا الاعتبار أن يقول أصحابنا في السمك الطافي على الماء: إنه ليس بمحرم على الإطلاق، بل يعتبرونه بما ذكرناه، فإن وجدوه طافيا على ظهره أو وجهه عملوا بحسب ذلك. دليلنا الإجماع المتردد، وإن شئت أن تبني هذه المسألة على بعض المسائل المتقدمة لها وأن أحدا من المسلمين ما فرق بين الأمرين.


(1) لم نعثر عليه.
(2) أحكام القرآن (للجصاص) ج 2 / 478.
(3) اختلاف الفقهاء: (للطحاوي): ج 1 ص 76 أحكام القرآن (للقرطبي) ج 6 ص 318 التفسير الكبير (للرازي) ج 12 ص 98.

[ 403 ]

(مسألة) [ 231 ] [ ذبائح أهل الكتاب ] ومما انفردت الإمامية به أن ذبائح أهل الكتاب محرمة لا يحل أكلها ولا التصرف فيها، لأن الذكاة ما لحقتها، وكذلك صيدهم وما يصيدونه بكلب أو غيره. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). دليلنا على صحة ما ذكرناه: الإجماع المتردد، وأيضا قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) (2) وهذا نص في موضع الخلاف، لأن من ذكرناه من الكفار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا ولا سنة فهم لا يسمون على ذبائحهم، ولو سموا لكانوا مسمين لغير الله تعالى لأنهم لا يعرفون الله تعالى لكفرهم على ما دللنا عليه في غير موضع، وهذه الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم. فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يحل ذبائح (3) الصبي لأنه غير عارف بالله تعالى. قلنا: ظاهر الآية يقتضي ذلك وإنما أدخلناه فيمن يجوز ذبائحه (4) بدليل. ولأن الصبي وإن لم يكن عارفا فليس بكافر ولا معتقد أن إلهه غير من يستحق العبادة على الحقيقة وإنما هو خال من المعرفة فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح وتلفظ بالتسمية وهذا كله غير موجود في الكفار. فإن اعترض علينا بقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين


(1) المبسوط (للسرخسي) ج 12 ص 5 و: ج 11 ص 246.
(2) سورة الأنعام: الآية 121.
(3) في ” ألف “: لا تحل ذباحة.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: تجوز ذباحته.

[ 404 ]

أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) (1) وادعي أن الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب. فالجواب عن ذلك أيضا أن أصحابنا يحملون قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) على ما يذكرونه (2) مما يؤكل من حبوب وغيرها، وهذا تخصيص لا محالة، لأن ما صنعوه طعاما من ذبائحهم يدخل تحت اللفظ ولا يجوز إخراجه إلا بدليل. فإذا قلنا: تخصيصه بقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، قيل لنا: ليس أنتم بأن تخصوا آيتنا بعموم آيتكم أولى منا إذا خصصنا الآية التي تعلقتم بها بعموم ظاهر الآية التي استدللنا بها. والذي يجب أن يعتمد في الفرق بين الأمرين أنه قد ثبت وجوب التسمية على الذبيحة وأن من تركها عامدا لا يكون مذكيا ولا يجوز أكل ذبيحته على وجه من الوجوه وكل من ذهب إلى هذا المذهب من الأمة يذهب إلى تخصيص قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وأن ذبائحهم لا تدخل تحته والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. ولا يلزم على ما ذكرناه أن أصحاب أبي حنيفة (3) يوافقونا على وجوب التسمية وإن لم يخصصوا بالآية الأخرى لأنا اشترطنا إيجاب التسمية مع الذكر على كل حال. وعند أصحاب أبي حنيفة أنه جائز أن يترك التسمية من أداه اجتهاده إلى ذلك، أو استفتى من هذه حاله، والإمامية يذهبون إلى أن التسمية مع الذكر لا تسقط في حال من الأحوال.


(1) سورة المائدة: الآية 5.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: يملكونه.
(3) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 62.

[ 405 ]

فإن قيل: على هذه الطريقة التي نعتمدها من الجمع بين المسألتين ما أنكرتم أن لمن خالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم ويقول قد ثبت أن التسمية غير واجبة أو يشير إلى مسألة قد دل الدليل على صحتها عنده، ثم يقول وكل من ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. قلنا: الفرق بينهما ظاهر لأنا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحتها ونفي الشبهة عنها ومخالفنا إذا بنى على مسألة مثل أن التسمية غير واجبة أو غير ذلك من المسائل لا يمكنه أن يصحح ما بنى عليه ولا أن يورد حجة قاطعة، والمحنة بيننا وبين من تعاطى ذلك، ونحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحتها بما لا يمكن دفعه وهذا على التفصيل يخرجه الاعتبار الاختبار. (مسألة) [ 232 ] [ استقبال القبلة عند الذبح ] ومما انفردت به الإمامية القول: بإيجاب استقبال القبلة عند الذبح مع إمكان ذلك، وخالف باقي الفقهاء في وجوبه وأنه شرط في الذكاة (1). دليلنا بعد الإجماع المتردد والطريقة التي تقدم نظيرها وهي أن من ذبح غير مستقبل القبلة عامدا قد أتلف الروح وحل الموت في الذبيحة وحلول الموت يوجب أن يكون ميتة إلا أن تقوم دلالة على حصول الذكاة فلا يستحق هذا الاسم، ومن ادعى دلالة شرعية على ذلك كان عليه إقامتها ولن يجدها، ولم يبق بعد ذلك إلا كونها ميتة وداخلة تحت قوله تعالى: (حرمت عليكم


(1) المغني لابن قدامة: ج 3 ص 453 – 454 وفيه: استحباب توجيه الذبيحة إلى القبلة.

[ 406 ]

الميتة) (1). وأيضا فإن الذكاة حكم شرعي، وقد علمنا أنه إذا استقبل القبلة وسمى اسم الله تعالى يكون مذكيا باتفاق، وإذا خالف ذلك لم يتيقن كونه مذكيا فيجب الاستقبال والتسمية ليكون بيقين مذكيا. (مسألة) [ 233 ] [ في العقيقة ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول بوجوب العقيقة وهي الذبيحة التي تذبح عن المولود ذكرا كان أو أنثى. وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقال الشافعي ومالك: مستحبة (2)، وقال أبو حنيفة ليست بمستحبة (3)، وحكي عن الحسن البصري القول بوجوبها وهو مذهب أهل الظاهر (4) وهذه موافقة للإمامية. دليلنا بعد الإجماع المتردد أن العقيقة نسك وقربة بلا خلاف وإيصال منفعة إلى المساكين وتدخل في عموم قوله تعالى (وافعلوا الخير) (5) وما أشبه هذه الآية من الأمر بالطاعات والقربات، وظاهر الأمر في الشريعة يقتضي الوجوب. فإن قيل: على الاستدلال بقوله تعالى: (وافعلوا الخير) في هذا الموضع


(1) سورة المائدة: الآية 3.
(2) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 89 – 90.
(3) بداية المجتهد: ج 1 ص 484 الفتاوى الهندية: ج 5 ص 362 المغني (لابن قدامة) ج 11 ص 120.
(4) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 120.
(5) سورة الحج: الآية 77.

[ 407 ]

وأشباهه من المسائل التي استدللنا بهذا العموم فيها: ما أنكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له، ومحال أن يوجب الله تعالى علينا ما لا يصح أن نفعله، وإذا لم يصح إيجاب الجميع وليس البعض بذلك أولى من البعض بطل الاستدلال بالآية. قلنا: لا شبهة في أن إيجاب ما لا يتناهى لا يصح غير أنا نفرض المسألة فنقول: قد ثبت أن من عق دفعة واحدة عن ولده يكون فاعلا لخير وفعل المرة صحيح غير محال فيجب تناول الآية له، وهكذا نفرض في كل مسألة. وموضع استدلالنا بعموم هذه الآية على وجوب شئ من العبادات والقربات وأن نعين على ما يصح تناول الايجاب له ثم ندخله في عموم الآية. ويمكن أن نذكر للمخالف على سبيل المعارضة بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في المولود: أهريقوا عنه دما (1)، وفي خبر آخر يعق عن الغلام شاتان (2). وعن عائشة أنها قالت: أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة (3). وروي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله) عق عن الحسن والحسين صلى الله عليهما كبشا كبشا (4) فجمع عليه السلام في إيجاب


(1) سنن البيهقي: ج 9 ص 299 سنن الترمذي: ج 4 ص 98 صحيح البخاري: ج 7 ص 109 سنن أبي داود: ج 3 ص 106 سنن الدارمي: ج 2 ص 81 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1056، جامع الأصول: ج 8 ص 314.
(2) جامع الأصول: ج 8 ص 315 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1056 سنن الدارمي: ج 2 ص 81، سنن أبي داود: ج 3 ص 105، سنن الترمذي: ج 4 ص 98، سنن البيهقي ج 9 ص 301.
(3) سنن البيهقي: ج 9 ص 301، 303، سنن الترمذي: ج 4 ص 96، سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1056، جامع الأصول: ج 8 ص 316.
(4) سنن ابن داود: ج 3 ص 107، جامع الأصول: ج 8 ص 316، سنن البيهقي: ج 9 ص 302.

[ 408 ]

العقيقة بين القول والفعل. وليس لهم أن يتعلقوا بما يروونه عن النبي (عليه وآله السلام) من قوله: ليس في المال حق سوى الزكاة (1). وبما روي عنه ” عليه وآله السلام ” من قوله: من أحب أن ينسك عن المولود فلينسك عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة (2) فعلق ذلك بالمحبة، وما كان واجبا لا يعلق بالمحبة. وبما يروونه عن فاطمة صلوات الله عليها قالت: يا رسول الله أعق عن ابني الحسن؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إحلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة (3)، ولو كانت واجبة لأمرها (عليها السلام) بها. والجواب عن ذلك كله أن هذه أخبار آحاد تنفردون بها ولا نعرف عدالة رواتها ولا صفاتهم وبإزائها من الأخبار التي تقدمها ننفرد برواياتها ما لا يحصى وما تنفردون أيضا بروايته ما قد ذكرنا بعضه. ولو عدلنا عن هذا كله وسلمت هذه الأخبار من كل قدح وجرح أوجبت غالب الظن أليس من مذهبنا أن أخبار الآحاد لا توجب العمل في الشريعة بها؟ وإنما جاز لنا أن نعارضهم بأخبار الآحاد، لأنهم بأجمعهم يذهبون إلى وجوب العمل بأخبار الآحاد. ثم نستظهر متبرعين بذكر تأويل هذه الأخبار. أما الخبر الأول فلا دلالة لهم فيه، لأنه نفي أن يكون في المال حق سوى الزكاة والعقيقة عند من أوجبها تجب في ذمة الوالدين لا في المال.


(1) سنن ابن ماجة: ج 1 ص 570.
(2) مسند أحمد: ج 2 ص 182 – 183، جامع الأصول: ج 8 ص 314.
(3) سنن البيهقي: ج 9 ص 304.

[ 409 ]

وأما الخبر الثاني فلا حجة فيه، لأنه إنما علق الفضل في ذلك بالمحبة لا الأصل والفضل في أن يعق بشاتين وقد تجزئ الواحدة ويجري مجرى ذلك قول القائل من أحب أن يصلي فليصل في المساجد وفي الجماعات، وإنما يريد الفضل وإن كان أصل الصلاة واجبا. وأما الخبر الثالث فغير ممتنع أن يكون عليه السلام عتق عنه أو عزم على أن يتولى ذلك فعدل عن أمرها بذلك إلى قربة أخرى لهذه العلة. (مسألة) [ 234 ] الطعام الذي عالجه الكافر ومما انفردت به الإمامية أن كل طعام عالجه الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم ممن يثبت كفرهم بدليل قاطع فهو حرام لا يجوز أكله ولا الانتفاع به، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). وقد دللنا على هذه المسألة في كتاب الطهارة (2)، حيث دللنا على أن سؤر الكفار نجس، لا يجوز الوضوء به، واستدللنا بقوله تعالى: (إنما المشركون نجس) (3) واستقصيناه فلا معنى لإعادته.


(1) الأم: ج 2 ص 231 المدونة الكبرى: ج 2 ص 67 بداية المجتهد: ج 1 ص 470.
(2) تقدم في ص 89.
(3) سورة التوبة: الآية 28.

[ 410 ]

(مسألة) [ 235 ] لحوم الحمر الأهلية ومما انفردت الإمامية به وإن كان الفقهاء رووا عن ابن عباس (1) (رحمه الله) موافقتها في ذلك تحليل لحوم الحمر الأهلية، وحرمها سائر الفقهاء (2) وانتهوا في ذلك إلى أن ابن أبي القسم روى عن مالك أن الحمار الوحشي إذا تأنس وصار يعمل عليه كما يعمل على الحمار الأهلي فإنه لا يؤكل، (3) وإن خالف مالك سائر الفقهاء في ذلك. دليلنا بعد الإجماع المتردد أن الأصل فيما فيه منفعة ولا مضرة فيه الإباحة، ولحوم الحمر الأهلية بهذه الصفة فإن ادعوا مضرة آجلة من حيث الحظر لها والنهي عنها فإنهم يفزعون إلى أخبار آحاد ليست حجة في مثل ذلك وهي معارضة بأمثالها. ويمكن أيضا أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) (4) الآية. فإن احتجوا عليه بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) (5)، وأنه تعالى أخبر أنها للركوب والزينة، لا للأكل. قلنا لهم: قوله تعالى: أنها للركوب والزينة لا يمنع أن يكون لغير ذلك، ألا


(4) الشرح الكبير: ج 11 ص 65 المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 65 بداية المجتهد: ج 1 ص 490، المحلى: ج 7 ص 407 جامع الأصول: ج 8 ص 292.
(2) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 64 المغني (لابن قدامة) ج 11 ص 65.
(3) المدونة الكبرى: ج 2 ص 64 اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ج 1 ص 64.
(4) سورة الأنعام: الآية 145.
(5) سورة النحل: الآية 8.

[ 411 ]

ترى إلى قول القائل: قد أعطيتك هذا الثوب لتلبسه لا يمنع من جواز بيعه له، وهبته والانتفاع به من وجوه شتى. ولأن المقصود بالخيل والحمير الركوب والزينة، وليس أكل لحومها مقصودا فيها. ثم أنه لا يمنع من الحمل على الحمير والخيل، وإن لم يذكر الحمل وإنما خص الركوب والزينة بالذكر. وأكثر الفقهاء (1) يجيزون أكل لحوم الخيل، ولم يمنع تضمن الآية ذكر الركوب والزينة خاصة من أكل لحوم الخيل وكذلك الحمير. فإن استدلوا بما يروونه عن ابن عباس (رحمه الله) أنه قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن لحوم الحمر وأمر بلحوم الخيل أن تؤكل (2). وأيضا بما رواه خالد بن الوليد قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) في خيبر فقال عليه السلام: لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم الحمر الأهلية وبغالها (3). وبما يرويه أنس عن النبي (عليه السلام) أنه نهى عن لحوم الحمر، وقال أنها نجس (4). فالجواب عن ذلك أن هذه أخبار آحاد والعمل بها في الشريعة عندنا غير جائز، ولا يجوز مع ذلك أن يرجع بها عن ظاهر الكتاب ونعارضها بالأخبار التي ترويها الإمامية (5) ما لا يحصى.


(1) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 77.
(2) نصب الراية: ج 4 ص 198.
(3) مسند أحمد ج 4 ص 89 – 90.
(4) صحيح البخاري: ج 7 ص 124 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1066 سنن الدارمي ج 2 ص 87.
(5) مسائل علي بن جعفر: ص 177 ح 325 – 327.

[ 412 ]

ومما يرويه مخالفوها ما رواه غالب بن الحسن قال: قلت: يا رسول الله لم يبق من مالي إلا حمر، فقال (صلى الله عليه وآله): أطعم أهلك من سمين مالك، فإني إنما نهيت عن حوالي القرى (1)، وهذا لا محالة معارض لأخبارهم كلها. ثم يمكن أن يقال في تلك الأخبار: إن سبب النهي عن لحوم الحمر الأهلية هو لأجل الظهر وقلته في ذلك الزمان. كما أنه (عليه السلام) نهى عن لحوم الخيل (2) لهذه العلة (3). وقد روي عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: نهي عن لحوم الحمر لئلا يقل الظهر (4) فقوى هذا التأويل هذه الرواية. فأما الخبر الذي تضمن أنها رجس فالرجس والرجز والنجس واحد في الشريعة ولا محصل من أهل الشريعة يذهب إلى أن الحمار الأهلي نجس العين. (مسألة) [ 236 ] لحوم البغال ومما انفردت به الإمامية: تحليل لحوم البغال. وباقي الفقهاء على حظر ذلك (5)، وروي عن الحسن البصري أنه ذهب إلى إباحة لحوم البغال (6) وهذه موافقة للإمامية.


(1) سنن البيهقي: ج 9 ص 331 جامع الأصول: ج 8 ص 290.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 332.
(3) جامع الأصول: ج 8 ص 292 سنن أبي داود ج 3 ص 356.
(4) سنن البيهقي: ج 9 ص 330 جامع الأصول: ج 8 ص 291.
(5) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 66.
(6) المجموع: ج 9 ص 8.

[ 413 ]

وكل شئ دللنا به على إباحة لحوم الحمر الأهلية فهو بعينه دليل على إباحة لحوم البغال. وأيضا فقد دللنا على إباحة لحوم الحمر الأهلية، وكل من أباح لحومها أباح لحوما لبغال، والتفرقة بين المسألتين خروج عن الإجماع. (مسألة) [ 237 ] ذكاة الجنين ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الجنين الذي يوجد في بطن أمه بعد ذكاتها على ضربين إن كان كاملا – وعلامة كماله أن ينبت شعره إن كان من ذوات الشعر أو يظهر وبره إن كان من ذوات الأوبار – فإنه يحل أكله، وذكاة أمه ذكاة له، وإن لم يبلغ الحد الذي ذكرناه وجب أن يذكى ذكاة مفردة إن خرج حيا، وإن لم يخرج حيا فلا يؤكل. وإنما كان هذا انفرادا لأن الشافعي ومن وافقه يذهب إلى أن ذكاة الجنين ذكاة أمه على كل حال (1)، وأبو حنيفة ومن وافقه يذهب إلى أن الجنين له ذكاة مفردة على كل حال (2). دليلنا الإجماع المتردد. وإن شئت أن تبني على بعض المسائل المتقدمة مثل وجوب التسمية على كل وجه أو وجوب استقبال القبلة وإن أحدا من الأمة لم يفرق بين المسألتين. وليس لهم أن يحتجوا علينا بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله من


(1) الأم: ج 2 ص 233 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 85 المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 51.
(2) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 85 المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 52.

[ 414 ]

قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه (1) ولم يفرق بين الكامل من الأجنة وغير الكامل. وبما يروونه أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سئل عن البقرة والشاة تذبحان ويوجد في بطنهما جنين أنأكله أو نلقيه؟ فقال: كلوا إن شئتم (2) ولم يفصل كما فصلت الإمامية. قلنا: إن الكلام قد مضى في أن أخبار الآحاد ليست حجة في الشرع، وأن هذا مما ينفرد به المخالفون، وبإزائه ما يروونه الإمامية في ذلك. ولو سلمنا ذلك لكان لنا أن نقول في الخبر الأول: لا يخلو من أن يكون تأويله على ما تأوله الشافعي عليه من أن المراد أن ذكاة الجنين هي ذكاة أمه، وأنه يصير له حكم الذكاة لذكاتها، وإن كان كذلك حملناه على الجنين الكامل الذي قد نبت عليه الشعر والوبر، وخصصنا عمومه بأدلتنا التي ذكرناها. أو يكون التأويل على ما تأوله أبو حنيفة من أن ذلك على سبيل التشبيه، وإنما المراد بالخبر أن ذكاة الجنين مثله ويماثل ذكاة أمه في الذبح فيحمل ذلك على الجنين الذي يخرج من بطن أمه حيا، وذكاة ما خرج حيا كذلك واجبة كذكاة الأم. ويقوي تأويل الشافعي وإن كنا قد بينا تخريج مذهبنا على تأويل أبي حنيفة أن لفظ الجنين مشتق من الاجتنان وهو الاستتار، وهو إنما يسمى بهذا الاسم في حال كونه في بطن أمه، وإذا ظهر زال عنه استحقاق هذا الاسم على الحقيقة وسمي بذلك مجازا من حيث كان جنينا قبل حال ظهوره، فكيف


(1) سنن أبي داود: ج 3 ص 103 سنن الدارمي ج 2 ص 84 سنن البيهقي: ج 9 ص 335 – 336.
(2) سنن البيهقي: ج 9 ص 335 سنن أبي داود: ج 3 ص 104، التهذيب ج 9 ص 81 ذيل حديث 80، الكافي: ج 6 ص 334 – 335.

[ 415 ]

يجوز أن يكون المراد أن الجنين إذا خرج حيا ذكي كما تذكى أمه وهو لا يستحق هذا الاسم بعد خروجه؟ فالأشبه أن يكون المراد أن ذكاة أمه تتعدى إليه في الحكم وهو جنين في البطن. ومن وجه آخر وهو أن تخصيص الأم بالذكر لا بد له من فائدة، وإذا حمل على أن ذكاتها ذكاة لجنينها أفاد هذا التخصيص، وإذا حمل على أن المراد أن الجنين يذبح إذا خرج حيا كما يفعل بأمه لم يفد هذا التخصيص بالأم، لأن غير الأم من الذبائح كلها كالأم في هذا المعنى فلا معنى للتخصيص. فإن قيل: قد روي هذا الخبر بالنصب ومع النصب لا بد من التشبيه فكأنه قال: ذكاة الجنين كذكاة أمه، فلما سقط الكاف تعدى الفعل إلى لفظ ذكاة فانتصب. قلنا: قد بينا أن حمل الخبر على التشبيه يتخرج على مذهبنا فما علينا في النصب إلا مثل ما علينا بالرفع. على أن أصحاب الشافعي قد أجابوا عن رواية النصب بعد أن دفعوا ظهورها واشتهارها ومساواتها للرواية بالرفع بأن قالوا: أن النصب يمكن أن يكون وجهه أن التقدير: ذكاة الجنين بذكاة أمه أو في ذكاة أمه، فلما أسقط حرف الجر وجب النصب فلم يخلص النصب للتشبيه على كل حال. فأما الخبر الآخر الذي يتضمن كلوا إن شئتم فإنا نحمله على الجنين الذي قد تكامل وأشعر وأوبر ونترك عموم الظاهر بالأدلة. (مسألة) [ 238 ] مما يحرم أكله من الذبيحة ومما انفردت به الإمامية تحريم أكل الطحال والقضيب والخصيتين


[ 416 ]

والرحم والمثانة، ويكرهون الكليتين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والدليل على صحة ما ذهبوا إليه: الإجماع الذي تردد، وإن شئت أن تبني هذه المسألة على بعض المسائل المتقدمة التي عليها دليل ظاهر، وأن أحدا من الأمة ما فرق بين المسألتين.


(1) المجموع: ج 9 ص 69 – 70.

[ 417 ]

كتاب الأشربة


[ 418 ]

(مسألة) [ 239 ] [ حرمة الفقاع ] ومما انفردت به الإمامية القول: بتحريم الفقاع وأنه جار مجرى الخمر في جميع الأحكام من حد شاربها ورد شهادته وفي نجاسته، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. والدلالة الإجماع المتردد وإن شئت أن تبني هذه المسألة على بعض ما تقدم من المسائل التي فيها ظاهر كتاب الله تعالى فعلت. ومما يعارض به المخالفون ما يروونه (1) عن ثقاتهم ورجالهم من تحريم الفقاع لأن الذي ترويه الشيعة (2) ويختص به من الروايات في هذا الباب يمكنهم أن يقولوا: إنا لا نعرف هؤلاء ولا نثق بروايتها. فمن ذلك ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة عن دراج أبي السمح، وروى الساجي صاحب كتاب اختلاف


(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 232 سنن البيهقي ج 8 ص 292.
(2) الكافي: ج 6 ص 422 انظر باب الفقاع الوسائل ج 17 ص 287 انظر باب 27 من أبواب الأشربة المحرمة.

[ 419 ]

الفقهاء، قال حدثنا سليمان بن داود، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه واجتمعا على أن دراجا قال: أن عمر بن الحكم حدثنا عن أم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) أن ناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليعلمهم الصلاة والسنن والفرائض، فقالوا يا رسول الله أن لنا شرابا نعمله من القمح والشعير، فقال ” عليه السلام “: الغبيراء؟ فقالوا: نعم، قال (عليه السلام): لا تطعموه. قال الساجي في حديثه قال ” عليه السلام ” ذلك ثلاثا. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ثم لما كان بعد ذلك بيومين ذكروها له عليه السلام فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم، قال عليه السلام: لا تطعموها، فلما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عليه السلام أيضا، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم، قال لا تطعموها قالوا: فإنهم لا يدعونها، فقال ” عليه السلام ” ومن لم يتركها فاضربوا عنقه (1). وروى أبو عبيد أيضا، عن ابن أبي مريم عن محمد بن جعفر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الغبيراء فنهى (عليه السلام) عنها وقال: لا خير فيها (2). وقال زيد بن أسلم والاسكركة هي، وهذا الاسم يخص الفقاع به، يعني الاسكركة في لغة العرب (3). قال ابن الرومي وهو ممن لا يطعن عليه في علم اللغة العربية، وكان مشهورا بالتقدم فيها. ويروى عنه أنه قال لبعض رواته: وقد عمل ابن الرومي


(1) مسند أحمد: ج 6 ص 427 سنن البيهقي: ج 8 ص 292.
(2) عوالي اللآلي ج 1 ص 317.
(3) الموطأ: ج 2 ص 845 لسان العرب ج 4 ص 376.

[ 420 ]

قصيدة: الق بها أبا العباس ثعلبا، فإن رد عليك شيئا من الإعراب فيها فألقني به، وإن رد عليك شيئا من اللغة فلا ولا كرامة ولا يتجاسر مع أبي العباس ثعلب على هذا القول إلا متقدم أو متناه في علم اللغة. وأبيات ابن الرومي: اسقني الاسكركة الصنبر في جغضلفونه * واجعل الفيجن فيه يا خليلي بغصونه إنه مصفاة أعلاه ومسك لبطونه (1) وأراد بالاسكركة: الفقاع، والجغضلفون الكوز الذي يشرب فيه الفقاع والصنبر البارد، والفيجن: الشراب. وقد روى أصحاب الحديث من طرق معروفة، أن قوما من العرب سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الشراب المتخذ من القمح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيسكر؟ قالوا: نعم، فقال ” عليه السلام “: لا تقربوه (2).، ولم يسأل ” عليه السلام ” في الشراب المتخذ من الشعير عن الاسكار بل حرم ذلك على الإطلاق، وحرم الشراب الآخر إذا كان مسكرا، فدل ذلك على أن الغبيراء محرمة بعينها كالخمر. وقد روى أصحاب الحديث من العامة في كتبهم المشهورة أن عبد الله الأشجعي كان يكره الفقاع (3). وقال أحمد بن حنبل: وكان ابن المبارك يكرهه (4). وقال أحمد حدثنا أبو عبد الله المدائني قال: كان مالك بن أنس يكره الفقاع، ويكره أن يباع في الأسواق، وكان يزيد بن هارون يكرهه (5).


(1) لم نعثر عليه.
(2) سنن أبي داود: ج 3 ص 328 سنن البيهقي: ج 8 ص 292 مسند أحمد: ج 4 ص 232.
(3) غوالي اللئالي: ج 1 ص 318.
(4) لم نعثر عليه. (5) لم نعثر عليه.

[ 421 ]

قال أحمد: حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي عن ضمرة قال: الغبيراء التي نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عنها هي الفقاع (1). وقال أبو هاشم الواسطي: الفقاع نبيذ الشعير، فإذا نش فهو خمر (2). وقال زيد بن أسلم: الغبيراء التي نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها هي الاسكركة (3). وقال أبو موسى: الاسكركة خمر الحبشة (4). وإذا كانت هذه رواياتهم وأقوال شيوخهم ومتقدمي أصحاب حديثهم فما المانع لهم من تحريم الفقاع وهم يقبلون من أخبار الآحاد ما هو أضعف مما ذكرناه؟ وكيف يستحسنون الشناعة على الشيعة الإمامية في تحريم الفقاع ومالك بن أنس وهو شيخ الفقهاء وأصحاب الحديث ينهى عنه وعن بيعه. وكذلك ابن المبارك، ويزيد بن هارون وهما شيخا أصحاب الحديث؟ ولولا العصبية واتباع الهوى نعوذ بالله منهما. (مسألة) [ 240 ] [ عدم تجدد حرمة الخمر ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الخمر محرمة على لسان كل نبي وفي كل كتاب نزل، وأن تحريمها لم يكن متجددا، وخالف باقي الفقهاء في ذلك


(1) غوالي اللئالي: ج 1 ص 318.
(2) لم نعثر عليه.
(3) الموطأ: ج 2 ص 485 لسان العرب: ج 4 ص 376.
(4) أوجز المسالك: ج 13 ص 354.

[ 422 ]

وذهبوا إلى أنها متجددة التحريم (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة فإنهم لا يختلفون فيما ذكرناه ولك أيضا أن تبني هذه المسألة على بعض المسائل المتقدمة التي فيها ظاهر كتاب الله أو ما أشبهه، ويبين لك أن أحدا من المسلمين ما فرق بين المسألتين، وأن التفرقة بينهما خلاف الإجماع. فإن عورضنا بما يروونه من الأخبار (2) الواردة بتجديد تحريم الخمر وذكر أسباب تحريمها فجوابنا (3) أن جميع ما روي في تجديد تحريمها أخبار آحاد ضعيفة لا توجب علما ولا عملا ولا يترك ما ذكرناه من الأدلة القاطعة بمثل هذه الأخبار. فأما ما يدعيه اليهود والنصارى من تحليل أنبيائهم لها فكذب منهم عليهم كما كذبوا على أنبيائهم في كل شئ كذبهم المسلمون فيه، ولا حجة فيما يدعيه هؤلاء المبطلون المعروفون بالكذب. (مسألة) [ 241 ] [ إنقلاب الخمر خلا ] عند الإمامية إذا انقلبت الخمر خلا بنفسها أو بفعل آدمي إذا طرح فيها ما تنقلب فيه إلى الخل حلت. وخالف الشافعي ومالك في ذلك (4).


(1) لم نعثر عليه.
(2) لم نعثر عليه.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: فجوابنا على ذلك. (4) الهداية: ج 4 ص 113.

[ 423 ]

وأبو حنيفة لا يخالف الإمامية فيما حكيناه، إلا أنه يزيد عليهم فيقول فيمن ألقى خمرا في خل فغلب عليها حتى لا يوجد طعم الخمر: أنه بذلك يحل، (1) وعند الإمامية أن ذلك لا يجوز، ومتى لم تنقلب الخمر إلى الخل لم يحل. فكأنهم انفردوا من أبي حنيفة بأنهم امتنعوا مما أجازه على بعض الوجوه، وإن وافقوه على انقلاب الخمر إلى الخل، فجاز لذلك ذكره هذه المسألة في الانفرادات. دليلنا: بعد الإجماع المتردد أن التحريم إنما يتناول ما هو خمر وما انقلب خلا فقد خرج من أن يكون خمرا، ولأنه لا خلاف في إباحة الخل، واسم الخل يتناول ما هو على صفة مخصوصة، ولا فرق بين أسباب حصوله عليها. ويقال لأصحاب أبي حنيفة: أي فرق بين غلبة الخل على الخمر في تحليلها وبين غلبة الماء عليها أو غيره من المائعات أو الجامدات حتى لا يوجد لها طعم ولا رائحة؟ فإن فرقوا بين الأمرين بأن الخمر تنقلب إلى الخل ولا تنقلب إلى غيره من المائعات أو الجامدات. قلنا: كلامنا فيها على الانقلاب، والخمر إذا ألقيت في الخل الكثير فما انقلبت في الحال (2) بل عينها باقية. وكذلك هي في الماء فما الفرق بين أن يلقى فيها ما يجوز أن ينقلب إليه وبين ما لا ينقلب إليه إذا كانت في الحال موجودة لم تنقلب؟


(1) الفتاوى الهندية: ج 1 ص 45.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: في الحال إلى الخل.

[ 424 ]

(مسألة) [ 242 ] [ شرب بول ما يؤكل لحمه ] ومما يظن قبل التأمل انفراد الإمامية به القول بتحليل شرب أبوال الإبل، وكل ما أكل لحمه من البهائم أما للتداوي أو لغيره، وقد وافق الإمامية في ذلك مالك والثوري وزفر (1). وقال محمد بن الحسن في البول خاصة مثل قولنا، وخالف في الروث (2). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي: بول ما أكل لحمه نجس. وروثه أيضا كنجاسة ذلك مما لا يؤكل لحمه (3). والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتردد أن الأصل فيما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه في العقل الإباحة، وعلى من ذهب إلى الحظر دليل شرعي ولن يوجد ذلك في بول ما يؤكل لحمه، لأنهم إنما يعتمدون على أخبار آحاد وقد بينا أن أخبار الآحاد إذا سلمت من المعارضات والقدح لا يعمل بها في الشريعة، ثم أخبارهم هذه معارضة بأخبار (4) ترويها ثقاتهم ورجالهم تتضمن الإباحة، وسيجئ الكلام في تفصيل هذه الجملة. وأيضا فإن بول ما يؤكل لحمه طاهر غير نجس، وكل من قال بطهارته جوز شربه، ولا أحد يذهب إلى طهارته والمنع من شربه. والذي يدل على طهارته أن الأصل الطهارة والنجاسة هي التي يحتاج فيها إلى دليل شرعي، ومن طلب


(1) المجموع: ج 2 ص 549، بداية المجتهد: ج 1 ص 82.
(2) المجموع ج 2 ص 549.
(3) الفتاوى الهندية: ج 1 ص 46 بداية المجتهد ج 1 ص 82 المجموع: ج 2 ص 549.
(4) يأتي التعرض لها عن قريب.

[ 425 ]

ذلك لم يجده. ومما يجوز أن نعارض به مخالفينا في هذه المسألة ما يروونه عن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ما أكل لحمه فلا بأس ببوله (1). وبما يروونه أيضا عن حميد عن أنس أن قوما من عرينة قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة فاستوخموها فانتفخت أجوافهم، فبعثهم النبي عليه وآله السلام إلى لقاح الصدقة ليشربوا من أبوالها (2). وأيضا فإن النبي (صلى الله عليه وآله) طاف بالبيت راكبا على راحلته في جميع الروايات (3) ويدا الراحلة ورجلاها لا تخلو من بولها وروثها أيضا، هذا هو الأغلب الأظهر فلو كان ذلك نجسا لنزه النبي (صلى الله عليه وآله) المسجد عنه. فإن قيل قوله (عليه السلام): لا بأس به لا يدل على الطهارة وإنما يقتضي خفة حكمه عن غيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال مثل هذه اللفظة فيما لا شبهة في طهارته وإباحته. قلنا: لا يجوز أن تحمل هذه اللفظة إلا على الطهارة والاباحة، لأن أهل الشريعة ما جرت عادتهم بأن يقولوا فيما حظره ثابت: إنه لا بأس به، على أن بعض النجاسات قد يكون أخف حكما من بعض، ولا يقال فيه: لا بأس، وإنما لا يجوز أن تدخل هذه اللفظة في المجمع على طهارته وإباحته، لأن العادة جرت بدخولها فيما هو مباح طاهر على اختلاف فيه ودخول شبهة في حكمه. فإن قالوا في حديث العرنيين إنه (عليه السلام) إنما أباحهم شرب أبوال


(1) سنن الدارقطني: ج 1 ص 128، سنن البيهقي: ج 2 ص 202.
(2) سنن الترمذي: ج 1 ص 106، جامع الأصول: ج 8 ص 332 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1158.
(3) الكافي: ج 4 ص 429 باب نوادر الطواف ح 16، الوسائل: ج 9 ص 492 انظر باب 81 من أبواب الطواف.

[ 426 ]

الإبل في حال الضرورة على سبيل التداوي كما تحل الميتة مع الضرورة. قلنا: لو كان في حال المرض يبيح الأبوال لأباحها في أوقاتنا هذه وأبو حنيفة (1) يمنع من ذلك وإنما يجيزه أبو يوسف والشافعي (2) وإذا بطل اعتراض أبي حنيفة فالذي يبطل اعتراض أبي يوسف والشافعي وجهان: أحدهما أن النبي (صلى الله عليه وآله) لو كان أباح ذلك لضرورة لوقف عليه وبين إختصاصه بالضرورة. والوجه الثاني ما روي عنه (عليه السلام) من قوله: إن الله عز وجل لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم (3). ولهذا الذي ذكرناه تأول قوم قوله تعالى: (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (4)، على أن المنافع هاهنا هي المكاسب (5). فإن قالوا: ما أبيح في حال الاضطرار لم يتناوله هذا الخبر الذي رويتموه، لأنه إنما يقتضي نفي الشفاء عما تحريمه ثابت، وما تدعو إليه الضرورة لا يكون حراما بل مباحا. قلنا: الظاهر يقتضي نفي الشفاء عما حرم في سائر الأوقات، وتخفيف التحريم في حالة دون أخرى عدول عن الظاهر. فإن قيل: معنى الخبر أن شفاؤكم ليس بمقصور على المحرمات بل في المباحات لكم مندوحة. قلنا: هذا أيضا تخصيص للخبر وعدول عن ظاهره. فإن احتج علينا مخالفونا في نجاسة البول بما يروونه عن النبي (صلى الله


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 24 ص 9.
(2) المجموع: ج 2 ص 549.
(3) سنن البيهقي: ج 10 ص 5 باب النهي عن التداوي بالمسكر، كنز العمال: ج 10 ص 52 – 53. ح 28319 و 28327.
(4) سورة البقرة: الآية 219.
(5) تفسير الرازي: ج 6 ص 49.

[ 427 ]

عليه وآله) من قوله: إنما يغسل الثوب من البول والدم والمني (1)، وأنه عام في سائر الأبوال وما يؤمر بغسله وجوبا لا يكون إلا نجسا، وما هو نجس لا يجوز شربه. وبما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما كان يمشي في النميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول (2)، وهذا عام في جميع الأبوال. وبما يروونه عنه عليه السلام: استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه (3). فيقال لهم: قد مضى أن أخبار الآحاد ليست بحجة في الشريعة إذا خلت من المعارضات، ثم أخباركم هذه معارضة بما تروونه من طرقكم (4) وقد ذكره بعضكم. فأما ما نرويه (5) نحن من طرقنا فما لا يحصى كثرة. وإذا سلمنا هذه الأخبار ولم نعارضها بما يسقط الاحتجاج بها كان لنا أن نحمل الخبر الأول على ما هو نجس من الأبوال كبول الانسان وبول ما لا يؤكل لحمه ووجب هذا التخصيص لمكان الأدلة التي ذكرناها. والشافعي لا يمكنه الاستدلال بهذا الخبر، لأنه لا يوجب غسل المني، لأنه عنده طاهر (6)، ولا بد له أيضا من تخصيص لفظة البول، لأنه يرى أن بول الرضيع لا يجب غسله.


(1) سنن الدارقطني: ج 1 ص 127.
(2) مسند أحمد: ج 5 ص 39 سنن ابن ماجة: ج 1 ص 125، سنن البيهقي: ج 2 ص 412.
(3) سنن الدارقطني: ج 1 ص 127 – 128.
(4) تقدم بعض ذلك في ص 35.
(5) الكافي: ج 3 ص 57، التهذيب: ج 1 ص 246 – 247، الوسائل: ج 2 ص 1009.
(6) المجموع: ج 2 ص 553.

[ 428 ]

فأما أبو حنيفة فلا بد له من تخصيص أيضا وحمله على الدم والبول الكثيرين، لأنه لا يوجب غسل القليلين (1) منهما (2)، لأنه يرى أن بول الرضيع طاهر، ويعدل عن ظاهره أيضا، لأنه لا يوجب غسل المني وإنما يوجب فركه، فقد أجمعنا كلنا على تخصيص هذا الخبر. ويقال لهم في الخبر الثاني قد روي هذا الخبر على خلاف ما حكيتم لأنه روي أنه كان لا يتنزه من بوله (3). وروي أيضا أنه كان لا يستبرئ من البول (4)، والاستبراء من البول يختص ببوله لا بول غيره. وليس لهم أن يخالفوا في ذلك، فيقولوا: إن الاستبراء هو التباعد، وقد يلزمه التباعد والتنزه عن بوله وبول غيره، ولهذا يقال: إستبرأت الأمة: إذا تباعدت عنها لتعرف براءة رحمها. وذلك أن الاستبراء لا معتبر فيه بأصل وضع اللغة إذا كان في عرف الشرع قد استقر على فائدة مخصوصة، فقد علمنا أن القائل إذا قال: فلان لا يستبري من البول أو استبرأ من البول لا يفهم عنه إلا بوله دون بول غيره. على أن ظاهر الخبر لو كان عاما على ما رووه لوجب تخصيصه بالأدلة التي ذكرناها. على أن في هذا الخبر ما يقتضي الاختصاص ببول ما لا يؤكل لحمه، لأنه يتضمن الوعيد وذكر العذاب، وعند من خالفنا أن مسائل الاجتهاد لا يستحق فيها الوعيد. فإن قالوا: لم يلحق الوعيد من حيث لم يتنزه فقط بل من حيث لم يتنزه


(1) في ” ألف “: القليل.
(2) الفتاوى الهندية: ج 1 ص 45.
(3) صحيح مسلم: ج 1 ص 305 باب الدليل على نجاسة البول.
(4) سنن النسائي: ج 4 ص 106 باب وضع الجريدة على القبر.

[ 429 ]

عن البول مع اعتقاده نجاسته، ومن فعل ذلك يلحقه الوعيد لا محالة. قلنا: هذا عدول عن الظاهر، وبعد فهذا التأويل يسقط استدلالكم بالخبر، لأن تقدير الكلام على هذا التأويل أنه يعذب لأنه كان لا يتنزه من البول مع اعتقاده نجاسته وهذا لا يدل على نجاسة كل بول، وإنما يدل على خطأ من أقدم على ما يعتقد قبحه ولم يجتنب ما يعتقد نجاسته، لأن الفاعل لذلك في حكم من فعل القبيح، فأين دليلكم على نجاسة جميع الأبوال وهو المقصود في المسألة؟ على أن في الخبر اختلالا ظاهرا، لأنه يتضمن أنهما يعذبان وما يعذبان على كبير وذلك كالمتناقض، لأن العذاب لا يكون إلا على الكبائر وما ليس بكبير فلا عذاب على فاعله عند من جعل في المعاصي كبائر وصغائر من غير إضافة. ولا يصح أيضا على مذهب القائلين بالإرجاء، لأنهم يعتقدون أن جميع المعاصي كبائر، وأنه يستحق العذاب على كل شئ منها، ومن ذهب إلى هذا المذهب لا ينفي اسم الكبير عن شئ من المعاصي، وإنما يقول على سبيل الاضافة: هذه المعصية أصغر من تلك، فأما مع الانفراد بالذكر، فالكل عنده كبائر. وأما الخبر الأخير الذي تعلقوا به فكلامنا عليه كالكلام في الخبر الذي تقدمه بلا فصل فلا معنى لإعادته. (مسألة) [ 243 ] [ لبس الحرير ] ومما انفردت به الإمامية أنه يجوز لبس الثوب الحرير إذا كان في خلاله شئ من القطن أو الكتان وإن لم يكن غالبا.


[ 430 ]

وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1)، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى جواز لبس الحرير إذا كان سداه أو اللحمة من القطن أو الكتان ولم يجزه إذا كانت اللحمة أكثر.
(2) وحكى الطحاوي عن الشافعي أنه أباح لبس قباء محشو بقز، قال لأن القز باطن (3). والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتردد أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما نهى عن لبس الحرير (4)، وهذا الاسم إنما يتناول ما كان محضا دون ما إختلط بغيره، والثوب الذي فيه قطن أو كتان ليس بحرير محض، فجاز لبسه والصلاة فيه. وإذا ذهبوا إلى أن الثوب الذي لحمته قطن وسداه حرير يجوز لبسه لأنه ليس بحرير محض، فكذلك ما كان بعضه قطنا وإن لم يكن جميع اللحمة. فإن قيل: هذا يقتضي أنه لو كان في الثوب خيط واحد من قطن أو كتان جاز لبسه. قلنا: ظاهر النهي عن لبس الحرير المحض يقتضي ذلك إلا أن يمنع منه مانع غيره، والأولى أن يكون الخيط أو الخيطان غير معتد بهما ولا أثر لمثلهما، فأما إذا كان معتدا بمثله مثل أن يكون له نسبة إلى الثوب كخمس أو سدس أو عشر فإنه يخرجه من أن يكون محضا. والعجب كله من قول الشافعي: في حشو القباء الحرير المحض الذي يتناوله بلا شبهة نهي النبي صلى الله عليه وآله، وأي تأثير لكون الحشو باطنا غير


(1) البحر الزخار: ج 5 / 356.
(2) اللباب: ج 4 ص 157 – 158.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 1 ص 628 الشرح الكبير: ج 1 ص 473.
(4) سنن الترمذي: ج 4 ص 217 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1187 وص 1189.

[ 431 ]

ظاهر؟ أولا يرى أن بطانة الجبة إذا كانت حريرا محضا لم يجز لبسها وإن كانت البطانة لا تظهر للعين كظهور الظهارة؟ وهذا بعد شديد. (مسألة) [ 244 ] [ جلد الميتة إذا دبغ ] ومما كأن الإمامية منفردة به: أن جلود الميتة من جميع الحيوان لا تطهر بالدباغ، وقد وردت لهم رواية ضعيفة (1) بجواز اتخاذ جلود الميتة ما لم تكن كلبا أو خنزيرا بعد الدباغ آنية، وإن كانت الصلاة فيها لا تجوز، والمعمول على الأول. وخالف الشيعة جميع الفقهاء (2) إلا أحمد بن حنبل فقد حكى عنه أن الميتة لا تطهر بالدباغ (3). دليلنا بعد الإجماع المتردد قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) (4)، والتحريم يجب أن يتناول كل بعض من أبعاض الميتة حلته الحياة ثم فارقته، والجلد بهذه الصفة بعد الدباغ وقبله فيجب أن يحرم الانتفاع به بعد الدباغ، لأن اسم الميتة يتناوله. ومما يجوز أن يذكر على سبيل المعارضة لهم ما رووه وسطروه في كتبهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب (5)،


(1) الفقيه: ج 1 ص 9 ح 15 باب المياه وطهرها ونجاستها.
(2) المجموع: ج 1 ص 215، 216.
(3) سنن الترمذي: ج 4 ص 222، المجموع: ج 1 ص 217.
(4) سورة المائدة: الآية 3.
(5) مسند أحمد: ج 4 ص 310 – 311، سنن البيهقي ج 1 ص 14 سنن ابن ماجة ج 2 ص 1194 سنن الترمذي: ج 4 ص 222.

[ 432 ]

وعموم هذا الخبر يقتضي تحريم الانتفاع بها بعد الدباغ. وقول بعضهم: إن اسم الاهاب يختص بالجلد قبل الدباغ ولا يستحقه بعده (1) غلط مفحش، لأن الاهاب اسم للجلد في الحالين وغير مختص بأحدهما، ولو جاز أن يدعى في الاهاب إختصاص جاز أن يدعى في الجلد مثل ذلك. فإن اعترضوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد سئل عن جلود الميتة فقال (عليه وآله السلام) دباغها طهورها (2). وفي خبر آخر أيما إهاب دبغ فقد طهر (3). كان جوابنا أن هذه أخبار آحاد لا يعمل بها في الشريعة، ثم بإزائها ما رويتموه عن النبي (صلى الله عليه وآله) (4) من النهي عن ذلك، وما رويناه من الأخبار (5) التي لا تحصى في هذا المعنى. ولو لم يبطل هذين الخبرين إلا ظاهر القرآن لكفى، وقد يجوز أن يحمل الخبران على الخصوص وأن يريد بقوله (عليه وآله السلام): أيما إهاب دبغ فقد طهر المذكى دون الميت.


(1) البحر الرائق ج 1 / 100، الحاوي للفتاوي: ج 1 / 16. (2) سنن البيهقي: ج 1 ص 17، سنن الدارمي: ج 2 ص 86.
(3) مسند الشافعي: ج 1 / 26 رقم 57، المصنف (لعبد الرزاق) ج 1 / 63 ح 190.
(4) سنن البيهقي: ج 1 ص 15.
(5) الكافي: ج 6 ص 453 الفقيه: ج 1 ص 264، التهذيب: ج 2 ص 207، الاستبصار: ج 1 ص 385، الوسائل: ج 2 ص 266.

[ 433 ]

كتاب مسائل البيوع والربا والصرف (مسألة) [ 245 ] [ خيار الحيوان ] ومما انفردت به الإمامية أن الخيار يثبت للمتبايعين في بيع الحيوان خاصة ثلاثة أيام وإن لم يشترط (1). وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن الحيوان كغيره لا يثبت فيه الخيار إلا بأن يشترط (1). دليلنا: الإجماع المتردد. ويمكن أيضا أن يكون الوجه في ثبوت هذا الخيار في الحيوان خاصة أن العيوب فيه أخفى والتغابن فيه أقوى، ففسخ فيه ولم يفسخ في غيره. وليس للمخالف أن يقول: كيف يثبت بين المتبايعين خيار من غير أن يشترطاه وذلك أنه إذا جاز أن يثبت خيار المجلس من غير اشتراط جاز أيضا أن يثبت الخيار الذي ذكرناه وإن لم يشرطه.


(1) الأم: ج 3 ص 75 المجموع: ج 9 ص 174 الشرح الكبير: ج 4 ص 69 عمدة القاري ج 11 ص 225.

[ 434 ]

(مسألة) [ 246 ] [ خيار الشرط ] ومما ظن انفراد الإمامية به ولهم فيه موافق: القول بأن للمتبايعين أن يشترطا من الخيار أكثر من ثلاثة أيام بعد أن يكون مدة محدودة، ووافقهم في ذلك ابن أبي ليلى ومحمد وأبو يوسف والأوزاعي وجوزوا أن يكون الخيار شهرا أو أكثر كالأجل (1). وقال مالك: يجوز على حسب ما تدعو الحاجة إليه في الوقوف على المبيع وتأمل حاله (2). وحكي عن الحسن بن حي أنه قال: إذا اشترى الرجل الشئ فقال له البايع: إذهب فأنت فيه بالخيار فهو بالخيار أبدا حتى يقول: قد رضيت (3). وذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنه لا يجوز أن يشرط الخيار أكثر من ثلاث أيام فإن فعل فسد البيع وهو قول الشافعي (4). ودليلنا على ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد. وأيضا فإن خيار الشرط إنما وضع لتأمل حال المبيع، وقد تختلف أحوال تأمله في الطول والقصر فجاز أن يزيد على الثلاث كما جاز أن ينقص عنها، ولا يلزم على ذلك أن يثبت بلا انقطاع، لأن ذلك ينقض الغرض بالبيع.


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 13 ص 41، اللباب ج 2 ص 13 بداية المجتهد ج 2 ص 226، المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 96.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 96 بداية المجتهد ج 2 ص 226.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 96.
(4) الهداية: ج 3 ص 27 اللباب: ج 2 ص 12 المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 96 المبسوط (للسرخسي): ج 13 ص 41 بداية المجتهد: ج 2 ص 226 و 227.

[ 435 ]

فإن اعترض المخالف بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أنه قال: الخيار ثلاث (1). فالجواب عن ذلك أن هذا خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يعمل عليها في الشريعة وبإزائه الأخبار (2) الواردة بجواز الخيار أكثر من ثلاثة أيام، ولأن قوله (عليه السلام) الخيار ثلاثة أيام لا يمنع من زيادة عليها، كما لم يمنع من نقصان عنها. فإذا قيل: زيادة خيار الشرط على الثلاثة غرر، ودخول الغرر في البيع لا يجوز يفسدها. قلنا: وثبوته في الثلاثة أيضا غرر، لأنه لا يدري في هذه المدة أيحصل له البيع أو لا يحصل، ومع ذلك فقد جاز البيع مع ثبوت هذا الغرر. (مسألة) [ 247 ] [ شراء العبد الآبق ] ومما انفردت به الإمامية: القول بجواز شراء العبد الآبق مع غيره، ولا يشتري وحده إلا إذا كان بحيث يقدر عليه المشتري. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا إلى أنه لا يجوز بيع الآبق على كل حال إلا ما روي عن عثمان البتي أنه قال: لا بأس ببيع الآبق والبعير الشارد وإن هلك فهو من مال المشتري (3)، وهذا كالموافقة للإمامية، إلا أنه لم يشترط


(1) كنز العمال: ج 4 ص 144 سنن البيهقي ج 5 ص 274 سنن الدارمي ج 2 ص 251 سنن الدارقطني ج 3 ص 56.
(2) التهذيب: ج 7 / 23 الوسائل ج 12 / 355 انظر باب 8 من أبواب الخيار.
(3) المجموع: ج 9 ص 284 المبسوط (للسرخسي) ج 13 ص 10 المحلى ج 8 ص 391 بداية المجتهد: =

[ 436 ]

أن يكون معه في الصفقة غيره كما شرطت الإمامية. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرر. ومعول مخالفينا في منع بيعه على أنه بيع غرر، وأن نبينا (عليه السلام) نهى عن بيع الغرر (1)، وربما عولوا على أنه مبيع غير مقدور على تسليمه فلا يصح بيعه كالسمك في الماء والطير في الهواء. وهذا ليس بصحيح، لأن هذا البيع يخرجه من أن يكون غررا لانضمام غيره إليه، كبيع الثمرة الموجودة بعضها، والمتوقع وجود باقيها. وهذا هو الجواب عن قياسهم، وإن كنا قد بينا أن القياس لا مدخل له في الشريعة، لأنه لا يمكن تسليم جميع الثمرة التي وقع عليها العقد في وقت الصفقة وإن كان العقد جائزا. فإن قيل: نحن نخالف في ذلك، ولا نجوز أن نبيع ثمرة معدومة مع موجودة. قلنا: أما مالك فإنه يوافقنا على هذا الموضع (2)، وحجتنا على من خالفنا فيه أنه لا خلاف في أن طلع النخلة التي لم تؤبر داخل في البيع (3) معها، وإن كان في الحال معدوما فكيف يجوز أن يدعي أن بيع معدوم وموجود لا يجوز؟!


= ج 2 ص 156 المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 293 الوجيز ج 1 ص 134 عمدة القاري: ج 11 ص 264 فتح الباري: ج 4 ص 284 شرح فتح القدير: ج 5 ص 99 (1) صحيح مسلم: ج 3 ص 1153 سنن الترمذي: ج 3 ص 532 سنن الدارقطني: ج 3 ص 15 مسند أحمد ج 1 ص 302 سنن الدارمي: ج 2 ص 251 سنن النسائي: ج 7 ص 262 الموطأ ج 2 ص 664 سنن أبي داود: ج 3 ص 254 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 739، السنن الكبرى: ج 5 ص 338 دعائم الاسلام: ج 2 ص 21 عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 45. (2) لم نعثر عليه.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: المبيع.

[ 437 ]

(مسألة) [ 248 ] [ بيع الفقاع ] ومما انفردت به الإمامية القول: بتحريم بيع الفقاع وابتياعه، وكل الفقهاء يخالفون في ذلك (1)، وقد روي عن مالك كراهية بيع الفقاع (2). دليلنا الإجماع المتردد. وأيضا إن شئت نبني هذه المسألة على تحريمه، فنقول: قد ثبت تحريمه وحظر شربه، وكل من حظر شربه حظر ابتياعه وبيعه، والتفرقة بين الأمرين خروج عن إجماع الأمة. (مسألة) [ 249 ] [ لو باع من دون قبض أو اقباض ] ومما انفردت به الإمامية: أن من ابتاع شيئا معينا بثمن معين ولم يقبضه ولا قبض ثمنه وفارقه البايع بعد العقد ليمضي وينقد له الثمن فالمبتاع أحق به ما بينه وبين ثلاثة أيام، فإن مضت ثلاثة أيام ولم يحضر المبتاع الثمن كان البائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وباعه من غيره، وإن شاء طالبه بالثمن على التعجيل والوفاء، وليس للمبتاع على البائع في ذلك خيار ولو هلك المبيع في مدة الأيام الثلاثة كان من مال المبتاع دون البائع فإن هلك بعد الثلاثة الأيام كان من مال البائع. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (3) ولم يقل أحد منهم بهذا الترتيب الذي


(1) لم نعثر عليه.
(2) البيان والتحصيل: ج 18 ص 550 – 551.
(3) لم نعثر عليه.

[ 438 ]

رتبناه. دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد. وإنما قلنا: إن المبتاع أحق به ما بينه وبين ثلاثة أيام، لأنه بالابتياع واشتراط أن ينقد الثمن الذي مضى في إحضاره قد ملك وعليه تعجيل الثمن، فإذا لم يحضره في هذه المدة المضروبة فكأنه رجع عن الابتياع ولم يف بالشرط الذي شرطه من تعجيل الثمن، وصار البائع بالخيار إن شاء فسخ وإن شاء طالب بالثمن. وإنما جعلنا المبيع إذا هلك في الأيام الثلاثة من مال المبتاع، لأن العقد قد ثبت بينهما. وقد حكي عن مالك أنه كان يقول في الدابة إذا حبسها البائع حتى يقبض الثمن فهلكت: فهي من مال المشتري وذلك إن كان بيعا على النقد، فإن كان على غير النقد فهو من مال البائع (1). وهذا موافقة للإمامية من بعض الوجوه، وقد قلنا: أنه إن هلك بعد الثلاثة كان من مال البائع لأنه بتأخير الثمن عنه قد صار أملك به وأحق بالتصرف فيه وإن هلك فمن ماله. (مسألة) [ 250 ] [ لو أطلق مدة خيار الشرط ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من ابتاع شيئا وشرط الخيار ولم يسم وقتا ولا أجلا مخصوصا بل أطلقه إطلاقا فإن له الخيار ما بينه وبين ثلاثة أيام ثم لا خيار له بعد ذلك.


(1) لم نعثر عليه.

[ 439 ]

وباقي الفقهاء يخالفونهم في ذلك لأن أبا حنيفة يذهب إلى أنه إذا شرط الخيار إلى غير مدة معلومة فالبيع فاسد فإن أجازه في الثلاثة جاز عند أبي حنيفة خاصة، وإن لم يجزه حتى مضت الثلاثة أيام لم يكن له أن يجيزه (1). وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يجيز بعد الثلاثة (2). وقال مالك إن لم يجعل للخيار وقتا معلوما جاز وجعل له من الخيار مثل ما يكون في تلك الساعة (3). وقال الحسن بن صالح بن حي: إذا لم يعين أجل الخيار كان له الخيار أبدا (4). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرر. ويمكن أن يكون الوجه مع إطلاق الخيار في صرفه إلى ثلاثة أيام أن هذه المدة هي المعهودة المعروفة في الشريعة، لأن يضرب (5) الخيار فيها، والكلام إذا أطلق وجب حمله على المعهود المألوف. (مسألة) [ 251 ] [ خيار العيب ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من ابتاع أمة فوجد بها عيبا ما عرفه من


(1) المجموع: ج 9 ص 225 بداية المجتهد: ج 2 ص 208 البحر الزخار: ج 4 ص 348 الهداية: ج 3 ص 27، الفتاوى الهندية: ج 3 ص 38 – 39.
(2) الفتاوى الهندية: ج 3 ص 38 – 39 الهداية: ج 3 ص 27 النتف: ج 1 ص 446 البحر الزخار: ج 4 ص 348.
(3) فتح العزيز: ج 8 ص 312 المجموع: ج 9 ص 225، بداية المجتهد: ج 2 ص 208 المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 107 و 125.
(4) المحلى: ج 8 ص 373 بداية المجتهد: ج 2 ص 207 – 208، البحر الزخار: ج 4 ص 348.
(5) في ” ألف ” و ” ب ” وهامش المعتمدة: يصرف.

[ 440 ]

قبل بعد أن وطئها لم يكن له ردها، وكان له أرش العيب، إلا أن يكون عيبها من حبل فله ردها مع الوطء، ويرد معها إذا وطئها نصف عشر قيمتها. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب الشافعي إلى أنه إذا ابتاع أمة ثيبا فوطئها ثم أصاب بها عيبا فله ردها ولا مهر عليه (1). وقال ابن أبي ليلى: يردها بالعيب ويرد معها المهر لأجل الوطء، وقد روي ذلك عن عمر (2). وذهب الزهري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يملك الرد بالعيب، بل يمسكها ويأخذ الأرش (3). وانفراد الإمامية بالقول الذي ذكرناه ظاهر. دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد. وليس يجري وطء الثيب مجرى وطء البكر، لأن وطء البكر فيه إتلاف لجزء منها، وليس كذلك الثيب. ويمكن أن يكون الفرق بين الحمل وبين غيره من العيوب أن الحمل أفحش العيوب وأعظمها، فجاز أن يغلظ حكمه على باقي العيوب. (مسألة) [ 252 ] [ في استثناء بعض المبيع ] ومما ظن انفراد الإمامية به وقد وافقها فيه غيرها القول بجواز أن يبيع الانسان الشاة أو البعير ويشترط رأسه أو جلده أو عضوا من أعضائه، وروى ابن وهب


(1) المبسوط (للسرخسي) ج 13 ص 95 بداية المجتهد: ج 2 ص 197 المغني (لابن قدامة) ج 4 ص 88.
(2) بداية المجتهد: ج 2 ص 197 المبسوط (للسرخسي) ج 13 ص 95 الشرح الكبير: ج 4 ص 88.
(3) المغني (لابن قدامة) ح 4 ص 88 الشرح الكبير: ج 2 ص 197. بداية المجتهد: ج 2 ص 197.

[ 441 ]

عن مالك القول بجواز أن يستثني جلدها (1). وهو موافقة للإمامية. وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا باع شاة فاستثنى منها ثلثا أو ربعا أو نصفا أو فخذا أو كبدا أو صوفا أو شعرا أو كراعا فإنه إن إستثنى ثلثا أو ربعا أو نصفا فلا بأس بذلك، وإن إستثنى جلدا أو رأسا، فإن كان مسافرا فلا بأس به، وإن كان حاضرا فلا خير فيه (2). وهذه الرواية أيضا موافقة للإمامية في السفر ولسنا نعرف فرقا بين السفر والحضر في هذا الموضع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز ذلك البتة وهذا قول الثوري (3). وقال الشافعي: لا يجوز أن يبيع الرجل الشاة ويستثني منها جلدا ولا غيره في سفر ولا حضر (4). دليلنا على ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد، ولأن هذا العقد يقع عليه اسم البيع باستثنائه فيجب أن يدخل في عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع) (5). وليس يمكن أن يدعى في ذلك جهالة فإن الأعضاء متميزة منفردة من غيرها وليس يجري مجرى غيرهما مما يقع فيه الاشتراك والاختلاط. (مسألة) [ 253 ] في الربا ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه لا ربا بين الولد ووالده، ولا بين الزوج


(1) المدونة الكبرى: ج 4 ص 294.
(2) المدونة الكبرى: ج 4 ص 293.
(3) الفتاوى الهندية: ج 3 ص 130.
(4) الشرح الكبير: ج 4 ص 31 – 32 المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 214.
(5) سورة البقرة: الآية 275.

[ 442 ]

وزوجته، ولا بين الذمي والمسلم ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأثبتوا الربا بين كل من عددناه (1). وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت من الموصل (2) تأولت الأخبار التي يرويها أصحابنا المتضمنة لنفي الربا بين من ذكرناه على أن المراد بذلك وإن كان بلفظ الخبر – معنى الأمر كأنه قال: يجب أن لا يقع بين من ذكرناه ربا، كما قال تعالى: (ومن دخله كان آمنا) (3)، وكقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (4). وقوله عليه السلام: العارية مردودة والزعيم غارم (5) ومعنى ذلك كله معنى الأمر والنهي وإن كان بلفظ الخبر. فأما العبد وسيده فلا شبهة في نفي الربا بينهما، لأن العبد لا يملك شيئا، والمال الذي في يده مال لسيده، ولا يدخل الربا بين الانسان ونفسه، ولهذا ذهب أصحابنا إلى أن العبد إذا كان لمولاه شريك فيه حرم الربا بينه وبينه. واعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن، وأن الله تعالى حرم الربا على كل متعاقدين، وقوله تعالى: (لا تأكلوا الربا) (6)، وهذا الظاهر يدخل تحته الوالد وولده، والزوج والزوجة. ثم لما تأملت ذلك رجعت عن هذا المذهب لأني وجدت أصحابنا مجمعين على نفي الربا بين من ذكرناه وغير مختلفين فيه في وقت من الأوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنه حجة، ويخص بمثله ظواهر الكتاب، والصحيح


(1) المجموع: ج 9 ص 391 – 392.
(2) رسائل المرتضى: المجموعة الأولى ص 181.
(3) سورة آل عمران: الآية 97.
(4) سورة البقرة: الآية 197.
(5) غوالي اللآلي: ج 1 ص 310 ح 21.
(6) سورة آل عمران: الآية 130.

[ 443 ]

نفي الربا بين من ذكرناه. وإذا كان الربا حكما شرعيا جاز أن يثبت في موضع دون آخر كما يثبت في جنس دون جنس وعلى وجه دون وجه، فإذا دلت الأدلة على تخصيص من ذكرناه وجب القول بموجب الدليل. ومما يمكن أن يعارض ظواهره من ظاهر الكتاب أن الله تعالى قد أمر بالاحسان والانعام، مضافا إلى ما دلت عليه العقول من ذلك، وحد الاحسان إيصال النفع لا على وجه الاستحقاق إلى الغير مع القصد إلى كونه إحسانا، ومعنى الاحسان ثابت فيمن أخذ من غيره درهما بدرهمين، لأن من أعطى الكثير بالقليل وقصد به إلى نفعه به فهو محسن إليه، وإنما أخرجنا من عدا من إستثنيناه من الوالد وولده والزوج وزوجته بدليل قاهر تركنا له الظواهر وهذا ليس مع المخالف في المسائل التي خالفنا فيها. فظاهر أمر الله تعالى بالاحسان في القرآن في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (وأحسن كما أحسن الله إليك) (1) وقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) (2) يعارض للآيات التي ظاهرها عام في تحريم الربا، فإذا قالوا نخصص آيات الاحسان لأجل آيات الربا، قلنا: ما الفرق بينكم وبين من خصص آيات الربا بعموم آيات الأمر بالاحسان؟ وهذه طريقة إذا سلكت كانت قوية.


(1) سورة القصص: الآية 77.
(2) سورة النحل: الآية 90.

[ 444 ]

(مسألة) [ 254 ] في الصرف ومما انفردت به الإمامية القول بجواز أن يبتاع الانسان من غيره متاعا أو غيره نقدا أو نسيئة معا على أن يسلف البائع شيئا أو يقرضه مالا إلى أجل أو يستقرض منه، وأنكر ذلك باقي الفقهاء وحظروه (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد، ولأن الله تعالى أحل البيع بالإطلاق، وهذا البيع الذي أشرنا إليه داخل في جملة الظاهر، والقرض أيضا جائز واشتراطه في عقد البيع غير مفسد له. ولسنا ندري من أي جهة حظر المخالفون ذلك وإنما يرجعون إلى الظنون والحسبان التي لا يرجع في الشرع إلى مثلها، ولا خلاف بينهم في أنه لو لم يكن يشرط القرض عند عقد البيع ثم رأى بعد ذلك أن يقرضه كان ذلك جائزا، وأي فرق بين أن يشرطه أو لا يشرطه؟ (مسألة) [ 255 ] في الصرف ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه يجوز أن يكون للانسان على غيره مال مؤجل فيتفقا على تعجيله بأن ينقصه من مبلغه ولا يشبه ذلك تأخير الأموال عن آجالها بزيادة فيها لأن ذلك محظور لا محالة.


(1) لم نعثر عليه.

[ 445 ]

وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك وسووا بين الأمرين في التحريم. دليلنا على ما ذهبنا إليه: الإجماع المتقدم ذكره، وأيضا فإن تصرف الانسان فيما يملكه مباح بالعقل والشرع، وقد علمنا أن الدين المؤجل له مالك يصح تصرفه فيه فيجوز له أن ينقص منه كما يجوز له الابراء منه ومن عليه أيضا هذا الدين هو مالك للتصرف في ماله فله أن يقدمه، كما له أن يؤخره إلى أجله، ولا خلاف في أنه لو قبضه بعضه وأبرأه من الباقي من غير اشتراط لكان ذلك جائزا فأي فرق في جواز ذلك بين الاشتراط ونفيه؟


[ 447 ]

كتاب الشفعة


[ 448 ]

كتاب الشفعة (مسألة) [ 256 ] [ ما يثبت فيه حق الشفعة ] ومما انفردت به الإمامية إثباتهم حق الشفعة في كل شئ من المبيعات من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان إن كان ذلك مما يحتمل القسمة أو لا يحتملها. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأجمعوا على أنها لا تجب إلا في العقارات والأرضين دون العروض والأمتعة والحيوان (1)، وقد روي عن مالك خاصة أنه قال: إذا كان طعام أو بربين شريكين فباع أحدهما حقه أن لشريكه الشفعة (2). ثم إختلف أبو حنيفة والشافعي فقال أبو حنيفة: تجب الشفعة فيما يحتمل القسمة، ولا ضرر في قسمته وفيما لا يحتملها (3)، وأسقط الشافعي الشفعة عما لا يحتمل القسمة ويلحق الضرر بقسمته (4).


(1) المجموع: ج 14 ص 299 و 307 و 308.
(2) لم نعثر عليه.
(3) المجموع: ج 14 ص 307 و 308 المغني (لابن قدامة) ج 5 ص 469.
(4) المغني (لابن قدامة) ج 5 ص 469 المجموع: ج 14 ص 307.

[ 449 ]

دليلنا على صحة مذهبنا: إجماع الإمامية على ذلك فإنهم لا يختلفون فيه. ويمكن أن يعارض المخالفون في هذه المسألة بكل خبر. ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في إيجاب الشفعة مطلقا كروايتهم عنه ” عليه السلام ” أنه قال: الشفعة فيما لم يقسم (1). وأيضا ما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) من قوله: الشفعة في كل شئ (2). والأخبار في ذلك كثيرة جدا. ومما يمكن أن يعارضوا به أن الشفعة عندكم إنما وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع، وهذا المعنى موجود في جميع المبيعات من الأمتعة والحيوان. فإذا قالوا: حق الشفعة إنما يجب خوفا من الضرر على طريق الدوام، وهذا المعنى لا يثبت إلا في الأرضين والعقارات دون العروض. قلنا: في الأمتعة ما يبقى على وجه الدهر مثل بقاء العراص (3) والأرضين كالياقوت وما أشبهه من الحجارة والحديد فيدوم الاستضرار بالشركة فيه وأنتم لا توجبون فيه الشفعة. وبعد فإن إزالة الضرر الدائم أو المنقطع واجبة في العقل والشرع، وليس وجوب إزالتها مختصا بالمستمر دون المنقطع، فلو كان التأذي بالشركة في العروض منقطعا على ما ادعيتم لكانت إزالته واجبة على كل حال. فأما علة الشافعي في وجوب الشفعة بما على الشريك من الضرر بأجرة القاسم متى طلب القسمة فينتقض بالعروض، لأن هذا المعنى ثابت فيها.


(1) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 834 و 835، سنن البيهقي: ج 6 ص 102، صحيح البخاري: ج 3 ص 114 و 183، كنز العمال: ج 7 ص 7 سنن أبي داود: ج 3 ص 285، سنن الدارقطني: ج 4 ص 232، المصنف لعبد الرزاق: ج 8 ص 79، مسند أحمد: ج 3 ص 296.
(2) كنز العمال: ج 7 ص 6، سنن البيهقي: ج 6 ص 110.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: الاعراض.

[ 450 ]

وربما ضم إلى هذه العلة أن القسمة تؤدي إلى الضرر من حيث يحتاج الشريك أن يحدث ميزابا في حصته ثانيا بعد أن كان واحدا وكذلك البالوعة وما أشبههما. وهذا ليس بشئ، لأن الشفعة قد تجب فيما لا يحتاج فيه إلى شئ من ذلك، كالعراص الخالية من أبنية والحصص التي متى قسمت كان في كل واحدة منها كل ما يحتاج إليه من ميزاب وبالوعة وغير ذلك فبطلت هذه العلة أيضا. (مسألة) [ 257 ] [ حكم الشفعة لو تعدد الشركاء ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الشفعة إنما تجب إذا كانت الشركة بين اثنين، فإذا زاد العدد على الاثنين فلا شفعة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوجبوا الشفعة بين الشركاء قل أو كثر عددهم (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة. وأيضا فإن حق الشفعة حكم شرعي والأصل انتفاؤه، وإنما أوجبناه بين الشريكين لإجماع الأمة فانتقلنا بهذا الإجماع عن حكم الأصل ولم ينقلنا فيما زاد على الاثنين ناقل فيجب أن يكون في ذلك على حكم الأصل. فإن قيل: أليس قد وردت رواياتكم التي تختصون بها عن أئمتكم عليهم السلام أن الشفعة تجب على عدد الرجال (2)، وهذا يدل على أن


(1) المحلى: ج 9 ص 98 المجموع: ج 14 ص 326 و 345 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 523 المدونة الكبرى: ج 5 ص 406 اللباب: ج 2 ص 116 مغني المحتاج: ج 2 ص 305 الشرح الكبير: ج 5 ص 490، البحر الزخار: ج 5 ص 9 شرح فتح القدير: ج 7 ص 414.
(2) الفقيه: ج 3 ص 77 التهذيب: ج 7 ص 166 الاستبصار ج 3 ص 117 الوسائل: ج 17 ص 322.

[ 451 ]

الشفعة تثبت فيما زاد على الاثنين. وروي عن أبي عبد الله ” عليه السلام ” أنه قال قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن (1)، ولفظ الشركاء تقع على أكثر من الاثنين. قلنا: هذه كلها أخبار آحاد وما لا يوجب علما من الأخبار ليس بحجة ولا تثبت به الأحكام الشرعية على ما بيناه في غير موضع. ويمكن تأويل ظواهر هذه الأخبار بأن نحمل قوله: الشفعة على عدد الرجال أنها إنما تجب بالشركة وسواء زادت سهام أحد الشريكين على سهام الآخر أو نقصت فالمعتبر إنما هو بالشركاء لا بمبالغ سهامهم، ونحمل لفظ (الرجال) على الشركاء في الأملاك الكثيرة لا في ملك واحد، ويجوز حمل هذه اللفظة على الشريكين في ملك واحد على أحد وجهين: أما على قول من يجعل أقل الجمع الاثنين أو على سبيل المجاز كما قال تعالى (فإن كان له إخوة) (2). وتأويل الخبر الثاني داخل فيما ذكرناه. فأما الخبر الذي وجد في روايات أصحابنا (3) أنه إذا سمح بعض الشركاء بحقوقهم من الشفعة فإن لمن لم يسمح بحقه على قدر حقه فيمكن أن يكون تأويله أن الوارث لحق الشفعة إذا كانوا جماعة فإن الشفعة عندنا تورث متى سمح بعضهم بحقه كانت المطالبة لمن لم يسمح، وهذا لا يدل على أن الشفعة في الأصل تجب لأكثر من شريكين. فإن قيل: قد ادعيتم إجماع الإمامية وابن الجنيد يخالف في هذه المسألة


(1) التهذيب: ج 7 ص 164 الكافي: ج 5 ص 280 الوسائل: ج 17 ص 319.
(2) سورة النساء: الآية 11.
(3) لم نعثر عليه.

[ 452 ]

ويوجب الشفعة مع زيادة الشركاء على اثنين (1). وأبو جعفر بن بابويه يوجب الشفعة في العقار فيما زاد على الاثنين، وإنما يعتبر الاثنين في الحيوان خاصة (2) على ما حكيتموه عنه في جواب مسائل أهل الموصل التسع الفقهية (3). قلنا: إجماع الإمامية قد تقدم الرجلين فلا اعتبار بخلافهما، وقد بينا في مواضع من كتبنا أن خلاف الإمامية إذا تعين في واحد أو جماعة معروفة مشار إليها لم يقع به اعتبار. (مسألة) [ 258 ] [ الشفعة للكافر ] ومما يظن انفراد الإمامية به القول: بأنه لا شفعة لكافر على مسلم. وأكثر الفقهاء يوجبون الشفعة للكافر، ولا يفرقون بينه وبين المسلم (4). وقد حكي عن ابن حي أنه قال: لا شفعة للذمي في أمصار المسلمين التي ابتدأها المسلمون، لأنهم لا يجوز لهم سكناها ولا تملكها ولهم الشفعة في القرى (5). وانفراد قول الإمامية عن قول ابن حي باق، إلا أنه قد حكي عن


(1) المختلف: ص 403 من كتاب الشفعة.
(2) الفقيه: ج 3 ص 46.
(3) رسائل المرتضى: المجموعة الأولى ص 176.
(4) المجموع: ج 14 ص 303 و 314 الفتاوى الهندية ج 5 ص 161 اللباب: ج 2 ص 110، المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 168 عمدة القاري: ج 12 ص 75 الشرح الكبير: ج 5 ص 543 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 551، المحلى: ج 9 ص 94.
(5) شرح فتح القدير: ج 7 ص 436 عمدة القاري: ج 12 ص 75، المجموع: ج 14 ص 314، المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 551.

[ 453 ]

الشعبي وأحمد بن حنبل أنهما أسقطا شفعة الذمي على المسلم (1)، وهذه منهما موافقة للإمامية. والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتكرر ذكره قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) (2)، ومعلوم أنه تعالى إنما أراد لا يستوون في الأحكام، والظاهر يقتضي العموم إلا ما أخرجه دليل قاهر. فإن قيل: أراد في النعيم والعذاب بدلالة قوله (أصحاب الجنة هم الفائزون) (3). قلنا: قد بينا في الكلام على أصول الفقه (4) أن تخصيص إحدى الجملتين لا يقتضي تخصيص الأخرى وإن كانت لها متعقبة. ومما يمكن الاستدلال به أن الأصل انتفاء الشفعة عن المبيعات، لأن حق الشفعة حكم شرعي، ولما ثبت حق الشفعة للمسلم على الكافر وللكفار بعضهم على بعض أثبتناه بدليله وبقي الباقي على حكم الأصل. ومما يمكن أن نعارض به مخالفينا في هذه المسألة ما رووه ووجد في كتبهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: لا شفعة لكافر (5)، وفي خبر آخر: لا شفعة لذمي على مسلم (6).


(1) مسائل أحمد: ص 203 المجموع: ج 14 ص 303 و 314 المحلى: ج 9 ص 94 عمدة القاري: ج 12 ص 75 فتح العزيز: ج 11 ص 400 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 551 الشرح الكبير: ج 5 / 543.
(2) و (3) سورة الحشر: الآية 20.
(4) الذريعة: ج 1 ص 303.
(5) سنن البيهقي: ج 6 ص 108.
(6) كنز العمال: ج 7 ص 10 المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 93.

[ 454 ]

(مسألة) [ 259 ] [ سقوط حق الشفعة ] ومما ظن انفراد الإمامية به: أن حق الشفعة لا يسقط إلا بأن يصرح الشفيع بإسقاط حقه، ولا يكون مسقطا بكفه في حال علمه عن الطلب. وهذا القول أحد أقوال الشافعي الأربعة لأن له أقوالا أربعة: أحدهما: أن طلب الشفعة يجب على الفور (1)، وثانيها: أنه قد يثبت إلى ثلاثة أيام (2). وثالثها: أنه يجب على التأبيد إلى أن يصرح بالعفو (3)، وهذا وفاق الشيعة، ورابعها: أنه ثابت إلى أن يعفو أو يعرض بالعفو (4). وحكي أيضا عن شريك أنه قال: إذا علم فلم يطلب فهو أيضا على شفعته (5)، وهذا أيضا موافقة للإمامية. وباقي الفقهاء على خلاف ذلك، لأن أبا حنيفة وأصحابه وابن حي يذهبون إلى أنه متى لم يطلبها مكانه بطلت شفعته (6).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 477 بداية المجتهد: ج 2 ص 285 المجموع ج 14 ص 312 – 313 و 319.
(2) الشرح الكبير: ج 5 ص 474، المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 478 بداية المجتهد: ج 2 ص 285، المحلى ج 9 ص 90 المجموع ج 14 ص 312 – 313 و 319، الأم: ج 4 ص 7 و ج 7 ص 109، الوجيز: ج 1 ص 220 فتح العزيز: ج 11 ص 490.
(3) الشرح الكبير: ج 5 ص 473 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 478، المجموع: ج 14 ص 319، الوجيز: ج 1 ص 220 فتح العزيز ج 11 ص 490، الأم: ج 4 ص 7 و ج 7 ص 109.
(4) المجموع ج 14 ص 319.
(5) المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 118.
(6) المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 477، بداية المجتهد: ج 2 ص 285 المحلى: ج 9 ص 89 – 90 المجموع: ج 14 ص 313.

[ 455 ]

وقال الحسن بن زياد: إذا شهد أنه على شفعته ولم يقم بها ما بينه وبين أن يصل إلى القاضي فقد أبطل شفعته (1)، قال الحسن: وأما أبو حنيفة فقال: ثلاثة أيام (2)، وروى محمد عن أبي حنيفة أنه على شفعته أبدا بعد الشهادة (3)، وقال محمد: إذا تركها بعد الطلب شهرا بطلت (4) وقال أبو يوسف إذا أمكنه أن يطلب عند القاضي أو يأخذه ولم يفعل بطلت (5). وقال ابن أبي ليلى: إذا علم بالبيع فهو بالخيار ثلاثا (6)، وقال الشعبي يوما (7). وقال البتي ثلاثا (8). وقال مالك إذا علم بالشراء فلم يطالب حتى طال بطلت، والسنة ليست بكثيرة. وله أن يأخذ وهذا في الحاضر، فأما الغائب فلا تبطل شفعته (9). وقال الثوري: إذا لم يطلبها أياما بطلت شفعته (10)، وذكر المعافي، عنه ثلاثة


(1) المجموع: ج 14 ص 313 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 477 المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 118.
(2) المحلى: ج 9 ص 90.
(3) بداية المجتهد: ج 2 ص 285 المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 118، المحلى: ج 9 ص 89.
(4) المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 118، المحلى: ج 9 ص 90.
(5) المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 118.
(6) الشرح الكبير: ج 5 ص 474 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 478، المبسوط (للسرخسي): ج 14 ص 117.
(7) المحلى: ج 9 ص 90.
(8) لم نعثر عليه.
(9) الشرح الكبير: ج 5 ص 473 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 478 بداية المجتهد: ج 2 ص 285، المحلى ج 9 ص 90 المدونة الكبرى: ج 5 ص 404 و 418، الموطأ: ج 2 ص 715، المجموع: ج 14 ص 314 فتح الرحيم: ج 2 ص 123 أسهل المدارك ج 3 ص 41 عمدة القاري: ج 12 ص 73، فتح العزيز: ج 11 ص 491 البحر الزخار: ج 5 ص 12.
(10) الشرح الكبير: ج 5 ص 474 المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 478 المبسوط (للسرخسي): ج 14. ص 117، المحلى: ج 9 ص 90.

[ 456 ]

أيام (1). وقال الأوزاعي والليث وعبد الله بن الحسن والشافعي: إذا لم يطلب حين علم بطلت (2). وقد تقدم بياننا أقوال الشافعي المختلفة في هذه المسألة، وإن كان هذا القول الذي ذكرناه آنفا أظهرها. وقال الشعبي: من بيعت شفعته وهو شاهد لم ينكر فلا شفعة له (3). والذي يدل على صحة مذهبنا الإجماع المتكرر، ويمكن أن يقوى ذلك بأن الحقوق في أصول الشريعة، وفي العقول أيضا لا تبطل بالامساك عن طلبها، فكيف خرج حق الشفعة عن أصول الأحكام العقلية والشرعية، ألا ترى أن من لم يطلب وديعته أو لم يطالب بدينه فإن حقه ثابت لا يبطل بالتغافل (4) عن الطلب. فإذا قالوا هذه حقوق غير متجددة وحق الشفعة متجدد. قلنا: نفرضه متجددا، لأن من حل له أجل دين فقد تجدد له حق ما كان مستمرا، ومع هذا لو أخر المطالبة لم يبطل الحق. وكذلك من مات له قريب واستحق في الحال ميراثه وعلم بذلك ثم لم يطالب بالميراث من هو في يده لم يبطل الحق، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. فإن قيل: هذا الذي تذهبون إليه يؤدي إلى الإجحاف بالمشتري، لأن المدة إذا تطاولت لم يتمكن المشتري من التصرف في المبيع وهدمه وبنيانه وتغييره لأن الشفيع إذا طالبه بالشفعة أمره بإزالة ذلك، وهذا ضرر داخل على المشتري.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 478.
(2) المغني (لابن قدامة) ج 5 ص 477.
(3) لم نعثر عليه.
(4) في ” ألف ” بالامساك.

[ 457 ]

قلنا: يمكن أن يحترز المشتري من هذا الضرر بأن يعرض المبيع على الشفيع ويبذل تسليمه إليه فهو بين أمرين: إما أن يتسلم أو يترك بشفعته فيزول الضرر عن المشتري بذلك، وإذا فرط فيما ذكرناه وتصرف من غير أن يفعل ما أشرنا إليه فهو المدخل للضرر على نفسه. فإن قيل: كيف تدعون أنه ليس في الأصول الشرعية حق يجب على الفور ويسقط بالتأخير، وحق الرد بالعيب يجب على الفور ومتى تأخر بطل؟ قلنا: المعنى في حق الرد بالعيب أنه ربما كان في تأخيره إبطال له من حيث تخفى أمارات العيب فلا تظهر فتقع الشبهة في وجود العيب فلزمت المبادرة إلى الرد لهذا المعنى وذلك غير موجود في حق الشفعة لأنه يجب بعقد البيع وذلك مما لا يجوز أن يتغير ولا يخفى في وقت ويظهر في آخر. (مسألة) [ 260 ] [ شفعة الوقوف ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن لإمام المسلمين وخلفائه المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين أو على المساجد ومصالح المسلمين، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصي وولي له أن يطالب بشفعته. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والدلالة على صحة مذهبنا الإجماع المتردد. ويمكن أن يقال للمخالف على سبيل المعارضة له الشفعة إذا كانت إنما وجبت لدفع الضرر فأولى الأشياء بأن يدفع عنها الضرر حقوق الفقراء ووجوه القربات.


(1) لم نعثر عليه.

[ 458 ]

فإن قالوا: الوقوف لا مالك لها فيدفع الضرر عنه بالمطالبة بشفعته. قلنا: إذا سلم أنه لا مالك لها فهاهنا منتفع بها ومستضر بما يعود إلى المشاركة فيها وهم أهل الوقف (1) ومصالح المسلمين أيضا يجب من دفع الضرر عنها مثل ما يجب من دفع الضرر عن الآدميين.


(1) في ” ألف ” و ” ب “: الوقوف.

[ 459 ]

كتاب فيه مسائل شتى


[ 460 ]

كتاب فيه مسائل شتى من الهبات والاجارات والوقوف والشركة والرهن والسير وغير ذلك (مسألة) [ 261 ] [ الرجوع في الهبة ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن من وهب شيئا لغيره غير قاصد به ثواب الله تعالى ووجهه جاز له الرجوع فيه ما لم يتعوض عنه ولا فرق في ذلك بين الأجنبي وذي الرحم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك: فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا وهب لذي رحم محرم لم يرجع. وإن وهب لامرأته لم يرجع، وكذلك المرأة لزوجها، وإن وهب لأجنبي رجع إن شاء ما لم يثب عنها أو يزيد الشئ في نفسه (1). وذكر هشام عن محمد عن أبي حنيفة إذا علم الموهوب له المملوك من


(1) بداية المجتهد: ج 2 ص 359 الأم ج 4 ص 61 المحلى: ج 9 ص 127 سبل السلام: ج 3 ص 90، اللباب: ج 2 ص 122 المبسوط (للسرخسي) ج 12 ص 49 و 54 – 55 عمدة القاري: ج 13 ص 143 تبين الحقائق: ج 5 ص 95 بدائع الصنائع ج 6 ص 132 الفتاوى الهندية ج 4 ص 386 – 387 فتح الباري ج 5 ص 216 فتح القدير ج 7 ص 130.

[ 461 ]

القرآن أو الخبر فله أن يرجع فيه (1)، وقال محمد: لا يرجع (2)، قال محمد: وكذلك لو كان كافرا وأسلم أو كان عليه دين فأداه الموهوب له (3). وقال الحسن عن زفر إن علمها الموهوب له القرآن أو الكتابة أو المشط فحذقت ذلك فله أن يرجع فيها (4). وقال أبو يوسف لا يرجع (5). وقال عثمان البتي في الرجل يعطي الرجل العطية لا يبين أنه مستغرر فعطيته جائزة وليس له أن يرجع فيها (6). وقال مالك: من نحل ولدا له نحلا أو أعطاه عطاء ليس بصدقة فله أن يقبضها إن شاء ما لم يستحدث الولد دينا من أجل العطاء، فإذا صار عليه الديون لم يكن لأبيه أن يقبض من ذلك شيئا. وكذلك إذا زوج الفتاة بذلك المال أو كانت جاريته فتزوجت بذلك فليس للأب أن يقبض من ذلك شيئا (7). وقال مالك: والأمر المجمع عليه عندنا في بلدنا أن الهبة إذا تغيرت عند الموهوب له بالثواب بزيادة أو نقصان فإن على الموهوب له أن يعطي الواهب قيمتها يوم قبضها (8). وقال في الواهب يكون لورثته مثل ما كان له من الثواب إن اتبعوه (9)


(1) المحلى: ج 9 ص 127 المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 279.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 279.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 279.
(4) لم نعثر عليه.
(5) لم نعثر عليه.
(6) لم نعثر عليه.
(7) بداية المجتهد: ج 2 ص 359 المحلى ج 9 ص 127 المغني (لابن قدامة) ج 6 ص 270.
(8) الأم: ج 4 ص 61.
(9) لم نعثر عليه.

[ 462 ]

وروى الثوري عن ابن أبي ليلى قال: للواهب أن يرجع في هبته دون القاضي (1) وعند أصحاب أبي حنيفة لا يرجع إلا بنقصانها ويرد الموهوب له (2). وقال الثوري كقول أصحاب أبي حنيفة في جميع ذلك (3). وقال الأوزاعي: لا يرجع فيما وهب لمولى ولا تابع له ولا لذي رحم ولا لامرأة ولا السلطان لمن دونه ويرجع فيما سوى ذلك فإن كانت الهبة قد نمت وزادت عند صاحبها فقيمتها يوم وهبها وترجع المرأة فيما وهبت لزوجها (4). وقال الحسن بن حي: إذا لم يرد بالهبة ثواب الدنيا لم يرجع إذا قبض ولا يرجع فيما وهب لذي رحم محرم. وإن وهب لغير ذي رحم محرم يريد بها ثواب الدنيا فله أن يرجع فيها (5). وقال الليث: إذا وهب [ لذي رحم محرم فإن وهب ] (6) للثواب رجع فيها مثل قول مالك، ولا ترجع المرأة فيما وهبت لزوجها إلا أن يكون سألها أن تهب له ثم طلقها مكانه أو بعد ذلك بيوم أو نحوه (7). وقال الشافعي: لا يرجع في الهبة إلا الوالد فيما وهبه لولده (8).


(1) الأم: ج 4 ص 62.
(2) لم نعثر عليه.
(3) لم نعثر عليه.
(4) لم نعثر عليه.
(5) لم نعثر عليه.
(6) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(7) لم نعثر عليه. (8) الهداية ج 3 ص 227 الأم: ج 4 ص 61 المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 270 و 295 الوجيز: ج 1 ص 249 مختصر المزني: ص 134 كفاية الأخيار: ج 1 ص 201 المجموع: ج 15 ص 382 – 384، السراج الوهاج: ص 308 مغني المحتاج: ج 2 ص 401 عمدة القاري: ج 13 ص 143 بدائع الصنائع: ج 6 ص 132 فتح الباري: ج 5 ص 215.

[ 463 ]

وقال داود بن علي: كل من وهب شيئا لغيره لم يجز له الرجوع فيه، ولا فرق في ذلك بين البعيد والقريب (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتردد أنا قد علمنا بإجماع من الأمة ولا اعتبار بداود، فإن الإجماع قد تقدمه وسبقه بأن عقد الهبة وإن قارنه القبض غير مانع من الرجوع وإنما إختلفوا في موضع جواز الرجوع، فذهب قوم إلى أن الرجوع إنما يجوز مع ذوي الأرحام دون الأجانب وذهب آخرون إلى أنه يجوز من الأجانب دون ذوي الأرحام، وذهبت الإمامية إلى أنه يجوز في المواضع كلها فقد بان بالاتفاق على أن قبض الهبة غير مانع من الرجوع على كل حال. فمن ادعى أنه مانع من الرجوع في موضع دون آخر فعليه الدليل الشرعي باختصاص ذلك الموضع بهذا الحكم ولا دليل لمن خصص موضعا من المواضع دون آخر، لأن تعويلهم على أخبار آحاد وقياس يقتضي الظن وما لا معول على مثله في ثبوت الأحكام الشرعية فثبت بهذا الاعتبار جواز الرجوع في المواضع كلها وأن ليس بعضها بذلك أحق من بعض. فإن قالوا: لو جاز الرجوع في الهبة لجاز في البيع وفي سائر العقود. قلنا سائر العقود ما أجمعت عليه الأمة على جواز الرجوع فيها على الجملة، وإنما إختلفوا في التفصيل وعقد الهبة قد بينا الإجماع على سبيل الجملة على جواز الرجوع فيه وإنما إختلفوا في مواضعه. فإن احتج المخالف بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: الراجع في هبته كالراجع في قيئه [ والقي حرام ] (2) (3) وبلفظ آخر الراجع في هبته


(1) لم نعثر عليه.
(2) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(3) صحيح البخاري: ج 3 ص 215 سنن البيهقي ج 6 ص 180 سنن أبي داود ج 3 ص 291 سنن، =

[ 464 ]

كالكلب يعود في قيئه (1). فالجواب عن ذلك أن هذه كلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا تثبت بمثلها الأحكام. وهذا الخبر معارض بأخبار كثيرة يروونها عن النبي (صلى الله عليه وآله) من جواز الرجوع في الهبة (2)، وإذا سلم هذا الخبر على ما فيه فالمراد به الاستقذار لا التحريم لأن ذلك مستهجن مستقذر، ألا ترى أن الكلب لا تحريم عليه. فأما الخبر الآخر الذي لا يتضمن ذكر الكلب فهو وإن كان مطلقا يرجع إلى الكلب لأن الألف واللام يحملان على العهد، وليس هاهنا جنس يعهد منه الرجوع في قيئه إلا الكلب فلا فرق بين أن يقول كالعائد في قيئه وبين أن يقول كالكلب يعود في قيئه. على أنا لو حملنا لفظة (العائد) على الجنس والعموم لدخل فيه الكلب لا محالة فلا يجوز حمل العود على التحريم، لأن ذلك لا يتأتى في الكلب فلا بد من حمله على الاستقذار والاستهجان وهو متأت في كل عائد. فإن قيل: كيف يجوز أن يجتمع جواز الرجوع في الهبة مع القول بأنها تملك بالقبض؟ قلنا: غير ممتنع اجتماعهما كما أن المبيع إذا شرط فيه الخيار مدة معلومة كان مملوكا بالعقد، وإن كان حق الرجوع فيه ثابتا.


= ابن ماجة: ج 2 ص 797 صحيح مسلم: ج 3 ص 266، سنن الترمذي: ج 3 ص 592، فتح الباري: ج 5 ص 211، تحفة الأحوذي: ج 4 ص 523 مسند أحمد: ج 1 ص 250 و 280 و 291 و 339 و 342 و 345 و ج 2 ص 182. (1) سنن أبي داود: ج 3 ص 291 سنن البيهقي ج 6 ص 180 صحيح البخاري: ج 3 ص 215 مسند أحمد ج 1 ص 217 و 291 و ج 2 ص 208 و 430 و 492.
(2) سنن الدارقطني: ج 3 ص 43 – 44 سنن ابن ماجة ج 2 ص 798 سنن البيهقي ج 6 ص 181 و 182.

[ 465 ]

فإن قالوا: الملك مع ثبوت حق الخيار ناقص أو غير مستقر. قلنا: فنحن نقول في ملك الموهوب مع ثبوت حق الرجوع مثل ما تقولونه حرفا بحرف. (مسألة) [ 262 ] [ الهبة في مرض الموت ] ومما انفردت به الإمامية أن من وهب شيئا في مرضه الذي مات فيه إذا كان عاقلا مميزا تصح هبته ولا يكون من ثلثه بل يكون من صلب ماله. وخالف باقي الفقهاء فيه وذهبوا إلى أن الهبة في مرض الموت محسوبة من الثلث (1). دليلنا الإجماع المتردد، ولأن تصرف العاقل في ماله جائز وما تعلق للورثة بماله وهو حي حق فهبته جائزة، ولذلك صح بلا خلاف نفقته جميع ماله على نفسه في مأكل ومشرب. فإن قيل: أي فرق بين الهبة في المرض والوصية في المرض؟ قلنا: الهبة حكمها منجز في الحال وما تعلق في حال الحياة حق لوارث بمال المورث (2)، والوصية حكمها موقوف على الوفاة، وبعد الوفاة يتعلق حق الورثة بمال المورث (3) فوجب أن تكون محسوبة من الثلث.


(1) المجموع: ج 15 ص 441 بداية المجتهد ج 2 ص 322 المغني (لابن قدامة) ج 6 ص 524 الشرح الكبير: ج 6 ص 315 – 316 المبسوط (للسرخسي) ج 12 ص 102.
(2) في ” ألف ” وهامش المعتمدة: الموروث.
(3) في هامش المعتمدة: الموروث.

[ 466 ]

مسألة (1) [ 263 ] [ ضمان الصناع ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الصناع كالقصار والخياط ومن أشبههما ضامنون للمتاع الذي يسلم إليهم إلا أن يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفعه أو تقوم بينة بذلك وهم أيضا ضامنون لما جنته أيديهم على المتاع بتعد وغير تعد، وسواء كان الصانع مشتركا أو غير مشترك. ومعنى الاشتراك هو أن يستأجر الأجير على عمل في الذمة فيكون لكل أحد أن يستأجره ولا يختص به بعضهم دون بعض، ومعنى الأجير المنفرد وهو من استؤجر للعمل مدة معلومة فيختص المستأجر بمنفعته تلك المدة ولا يصح لغيره استيجاره فيها. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان على الأجير المشترك إلا فيما جنته يداه (2). وقال زفر: لا ضمان عليه فيما جنت يداه أيضا إلا أن يخالف (3). وقال أبو يوسف ومحمد وعبيد الله بن الحسن: يضمن إلا ما لا يستطاع الامتناع منه كالحريق وموت الشاة واللصوص الغالبين (4) وقال الثوري: يضمن في


(1) في (ألف) و (ب) في الإجارات.
(2) اللباب: ج 2 ص 41 و 43 المبسوط (للسرخسي): ج 15 ص 81 الهداية: ج 2 ص 244 المجموع: ج 15 ص 109 بداية المجتهد: ج 2 ص 251 المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 106 الشرح الكبير: ج 6 ص 135 شرح فتح القدير: ج 8 ص 625.
(3) المجموع: ج 15 ص 100 المبسوط (للسرخسي): ج 15 ص 83 المغني (لابن قدامة) ج 6 ص 106 شرح فتح القدير: ج 8 ص 63.
(4) اللباب: ج 2 ص 93 المحلي: ج 8 ص 202 المجموع: ج 15 ص 109 شرح فتح القدير: ج 7 =

[ 467 ]

اللصوص أيضا. وقال مالك: يضمن القصار إلا أن يأتي أمر من الله تعالى مثل الحريق والسرق والضياع إذا قامت عليه بينة ويضمن قرض الفأر إذا لم تقم بينة وإذا قامت بينة أنه قرض الفأر من غير تضييع لم يضمن. وقال الأوزاعي: لا يضمن القصار من الحريق والأجير المشترك ضامن إذا لم يشترط له أنه لا ضمان عليه (3). وقال الحسن بن حي: من أخذ الأجر فهو ضامن تبرأ أو لم يتبرأ ومن أعطى الأجر فلا ضمان عليه وإن شرط، ولا يضمن الأجير المشترك من عدو حارب أو موت (4). وهذا القول من ابن حي كأنه موافق للإمامية لأنه إن عني به الأجير المشترك والخاص فهو موافق لهم وإن كان يعني المشترك دون الخاص فهو خلاف إلا أنه مخالف للإمامية على كل حال بقوله: ومن أعطى الأجير فلا ضمان عليه وإن شرط، لأن عندنا إن شرط كان الضمان عليه بالشرط وإن أعطي الأجر. وقال الليث: الصناع كلهم ضامنون لما أفسدوا أو هلك عندهم (5). وهذا أيضا كموافقة للإمامية إذا أراد بالصناع من كان مشتركا وخاصا.


= ص 207 الفتاوى الهندية: ج 4 ص 500 المبسوط (للسرخسي) ج 15 ص 80 – 81 بداية المجتهد: ج 2 ص 251. (1) لم نعثر عليه.
(2) بداية المجتهد: ج 2 ص 251 المغني (لابن قدامة) ج 6 ص 106 مختصر المزني ص 127.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المغني (لابن قدامة) ج 6 ص 106.
(5) لم نعثر عليه.

[ 468 ]

وللشافعي قولان: أحدهما يضمن والآخر لا يضمن إلا ما جنت يده (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد. وأيضا فإن من خالفنا في هذه المسألة على تباين أقوالهم يرجعون فيها إلى ما يقتضي الظن من قياس أو خبر واحد ونحن نرجع إلى ما يقتضي العلم فقولنا أولى على كل حال. ومما يمكن أن يعارضوا به لأنه موجود في رواياتهم وكتبهم ما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (2)، وهذا يقتضي ضمان الصناع على كل حال وإذا خصصوه احتاجوا إلى دليل ولا دليل لهم على ذلك. (مسألة) (3) [ 462 ] [ بيع الوقف ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من وقف وقفا جاز له أن يشترط أنه إن احتاج إليه في حال حياته كان له بيعه والانتفاع بثمنه، والقول أيضا: بأن الوقف متى حصل له من الخراب بحيث لا يجدي نفعا جاز لمن هو وقف عليه بيعه


(1) الأم: ج 4 ص 40، مختصر المزني: ص 127،، بداية المجتهد: ج 2 ص 251، المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 106 و 118 و 129، الشرح الكبير: ج 6 ص 136، المجموع: ج 15 ص 96 و 100، شرح فتح القدير: ج 8 ص 63.
(2) سنن أبي داود: ج 3 ص 296،: سنن الدارمي: ج 2 ص 264، مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 8 و 12 و 13 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 802، سنن الترمذي: ج 3 ص 566، سنن البيهقي: ج 6 ص 95، المستدرك (للحاكم): ج 2 ص 13.
(3) في ” ألف “: في الوقوف.

[ 469 ]

والانتفاع بثمنه، وإن أرباب الوقف متى دعتهم ضرورة شديدة إلى ثمنه جاز لهم بيعه ولا يجوز لهم ذلك مع فقد الضرورة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يجيزوا اشتراط الواقف لنفسه ما أجزناه ولا بيع الوقف على حال من الأحوال إلا ما رواه بشر عن أبي يوسف في سنة تسع وسبعين أنه إن جعل الواقف الخيار لنفسه في بيع الوقف، وإن يجعل ذلك في وقف أفضل منه فهو جائز، وإن مات قبل أن يختار إبطاله مضى الوقف على سبيله (1). وقال أبو يوسف بعد ذلك: لا يجوز الاستثناء في إبطال الوقف والوقف جائز نافذ (2). دليلنا اتفاق الطائفة، ولأن كون الشئ وقفا تابع لاختيار الواقف وما يشرطه فيه، فإذا شرط لنفسه ما ذكرناه كان كسائر ما يشرطه. وليس لهم أن يقولوا: هذا شرط ينقض كونه وقفا وحبيسا (3) وخارجا من ملكه وليس كذلك باقي الشروط لأنه لا تنافي بينها وبين كون ذلك وقفا مثله. قلنا: ليس ذلك يناقض كونه وقفا، لأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله، ومتى مات قبل العود نفذ أيضا نفوذا تاما، وهذا حكم ما كان مستفادا قبل عقد الوقف، فكيف يكون ذلك نقضا لحكمه وقد بينا أن الحكم باق؟ فإن قيل: لو جاز دخول هذا الشرط في الوقف لجاز دخول مثله في العتق.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 195.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 12 ص 41 – 42.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: وحبسا.

[ 470 ]

قلنا: هذا قياس، وقد بينا أن القياس لا يصح إثبات الأحكام الشرعية به. وبعد فالفرق بين العتق والوقف أن العتق عندنا لا يجوز دخول شئ من الشروط فيه، وليس كذلك الوقف لأن الشرائط تدخله مثل أن يقول: هذا وقف على فلان، فإن مات فعلى فلان وما جرى هذا المجرى، وإذا دخلته الشروط جاز دخول الشرط الذي ذكرناه. فإن قيل: فقد خالف أبو علي بن الجنيد فيما ذكرتموه وذكر أنه لا يجوز للواقف أن يشرط لنفسه بيعه له على وجه من الوجوه. وكذلك فيمن هو وقف عليه أنه لا يجوز أن يبيعه (1). قلنا: لا اعتبار بابن الجنيد وقد تقدمه إجماع الطائفة وتأخر أيضا عنه وإنما عول في ذلك على ظنون وحسبان وأخبار (2) شاذة لا يلتفت إلى مثلها. فأما إذا صار الوقف بحيث لا يجدي نفعا أو ادعت أربابه الضرورة إلى ثمنه لشدة فقرهم، فالأحوط ما ذكرناه من جواز بيعه لأنه إنما جعل لمنافعهم فإذا بطلت منافعهم منه فقد إنتقض الغرض فيه ولم يبق منفعة فيه إلا من الوجه الذي ذكرناه. (مسألة) (3) [ 265 ] [ تراضي الشريكين بتفاوت الريح ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن المشتركين مع تساوي ماليهما إذا


(1) مختلف الشيعة: ص 489.
(2) الفقيه ج 4 ص 242 الكافي ج 7 ص 37 التهذيب ج 9 ص 130 الاستبصار: ج 4 ص 97، الوسائل ج 13 ص 303.
(3) في ” ألف “: في الشركة.

[ 471 ]

تراضيا بأن يكون لأحدهما من الربح أكثر مما للآخر جاز ذلك، وكذلك إذا تراضيا بأنه لا وضيعة على أحدهما، أو أن عليه من الوضيعة أقل مما على الآخر جاز أيضا. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال الشافعي: لا يجوز أن يشترطا تساويا في الربح مع التفاضل في المال ولا تفاضل في الربح مع التساوي في المال وإن شرطا ذلك فسدت الشركة (1)، وأبو حنيفة أجاز التفاضل في الربح وإن كان رأس المال متساويا (2). وقال مالك: إذا كان رأس المال من عند أحدهما الثلث، ومن الآخر الثلثين، على أن العمل نصفان فالربح نصفان فلا خير في هذه الشركة، ولا يجوز عنده التفاضل، في الربح مع التساوي في رؤوس الأموال (3). وقالت الجماعة: إن الوضيعة على قدر المالين، وشرط الفضل باطل (4). دليلنا الإجماع المتكرر، وأيضا أن الشركة بحسب ما يشترط فيها، فإذا اشترطا التفاضل في الربح أو في الوضيعة وجب جواز ذلك، وأبو حنيفة يجيز اشتراط التفاضل في الربح فلزمه جواز مثل ذلك في الوضيعة. فإن قيل: إنما فسد اشتراط الفضل في الوضيعة لأنه يجري مجرى قول أحدهما لصاحبه: ما ضاع من مالك فهو علي وهذا فاسد لا محالة.


(1) المجموع: ج 14 ص 69 فتح العزيز: ج 10 ص 425 بداية المجتهد: ج 2 ص 250 الشرح الكبير: ج 5 ص 115 شرح فتح القدير: ج 5 ص 397.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 11 ص 156 – 157، اللباب: ج 2 ص 73، الفتاوى الهندية: ج 2 ص 320، المجموع: ج 14 ص 71 فتح العزيز: ج 10 ص 426، الشرح الكبير: ج 5 ص 115، البحر الزخار: ج 5 ص 92.
(3) المدونة الكبرى: ج 5 ص 43 و 59 الشرح الكبير: ج 5 ص 115.
(4) المبسوط (للسرخسي): ج 1 ص 154 و 156.

[ 472 ]

قلنا: مثال ما نحن فيه هو أن يقول: ما هلك من هذه البضاعة مع تساوينا فيها فهو من مالي ومالك إلا أني قد سمحت ورضيت بأن يكون من مالي خاصة فلا مانع من ذلك، ويلزم أبا حنيفة إذا أجرى التفاضل في الوضيعة مجرى قول أحدهما لصاحبه: ما هلك من مالك فهو علي أن لا يجوز التفاضل في الربح لأنه يجري مجرى أن يقول له: ما أستفيده من الربح في كذا وكذا فهو لك وإذا جاز أحد الأمرين جاز الآخر. (مسألة) [ 266 ] [ ما تصح فيه الشركة ] ومما انفردت به الإمامية: أن الشركة لا تصح إلا في الأموال ولا تصح بالأبدان والأعمال، ومتى اشترك اثنان في عمل كصناعة علق ونساجة ثوب وما أشبه ذلك لم يثبت بينهما شركة، وكان لكل واحد منهما أجرة عمله خاصة وإن لم يتميز عملاهما لأجل الاختلاط كان الصلح بينهما، وإذا دفع رجل إلى تاجر مالا ليتجر به على أن الربح بينهما لم ينعقد بذلك شركة وكان صاحب المال بالخيار إن شاء أعطاه ما شرطه له وإن شاء منعه منه وكان له عليه أجرة مثله في تجارته. وكذلك إذا أعطى الانسان غيره ثوبا ليبيعه وشرط له فيه سهما من الربح فهو بالخيار إن شاء أمضى شرطه وإن شاء رجع فيه، وكان عليه في بيع الثوب أجرة مثله في البيع. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز شركة الأبدان والصناعات اتفقت أو اختلفت عملا في موضعين أو موضع واحد،


[ 473 ]

ولا يجوز في الاصطياد والاحتطاب ونحوهما (1). وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: كل ما يجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة، وما لا يجوز فيه الوكالة لا تجوز فيه الشركة، وما جازت فيه الشركة من الصناعات نحو الخياطة والقصارة، فإنه سواء عملا جميعا أو أحدهما فما حصل من فضل فهو بينهما نصفان (2). وقال مالك: تجوز الشركة على أن يحتطبا ويصطادا إذا كان يعملان جميعا في موضع واحد، وكذلك إذا اشتركا في صيد البزاة أو الكلاب إذا كان الكلب أو البازي بينهما نصفين. وقال مالك: لا يجوز الشركة بين حداد وقصار وإنما تجوز في صناعة واحدة يعملان جميعا فيها في موضع، فإن عملا في موضعين أو كانتا صناعتين لم تجز الشركة بينهما. وقال مالك: يجوز أن يشترك المعلمان في تعليم الصبيان إذا كانا في مجلس واحد، فإن تفرقا في مجلسين فلا خير فيه (3). وقال الحسن بن حي والليث: شركة الأبدان جائزة في الأعمال (4). وقال الليث: وإن مرض أحدهما لم يكن للمريض شئ من عمل الصحيح، إلا أن يشاء الصحيح أن يشركه في عمله (5).


(1) اللباب: ج 2 ص 75 – 76 المبسوط (للسرخسي) ج 11 ص 154 و 216 بداية المجتهد: ج 2 ص 252 الشرح الكبير: ج 5 ص 185، الفتاوى الهندية: ج 2 ص 328، المحلى: ج 8 ص 123، المغني (لابن قدامة): ج 5 ص 111 البحر الزخار: ج 5 ص 94 شرح فتح العزيز: ج 1 ص 414.
(2) المبسوط (للسرخسي) ج 11 ص 216.
(3) المدونة الكبرى: ج 5 / 42 و 49 و 51 بداية المجتهد: ج 2 / 252 المحلى ج 8 / 123 المغني (لابن قدامة): ج 5 / 113 الشرح الكبير: ج 5 / 187 البحر الزخار: ج 5 / 94 فتح العزيز ج 10 ص 414.
(4) لم نعثر عليه.
(5) لم نعثر عليه.

[ 474 ]

وقال الشافعي: لا تجوز الشركة إلا بالدراهم والدنانير ويختلط المالان (1). وهذا يدل على أنه لا يجيز الشركة في الأبدان، إلا أنه ليس ينتهي في ذلك إلى ما تقوله الإمامية من أن العمل لا يدخل في الشركة منفردا ولا مجتمعا. دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد، ولأن معول من يخالفنا في هذه المسائل التي ذكرناها كلها على الظنون والحسبان والرأي والاجتهاد ومرجعنا فيما نذهب إليه فيها إلى توقيف فما قلناه أولى. (مسألة) [ 267 ] [ حكم ولد الحيوان المرهون ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن من رهن حيوانا حاملا فأولاده خارجون عن الرهن، فإن حمل الحيوان في الارتهان كان أولاده رهنا مع أمهاته. وخالف باقي الفقهاء في ذلك. فقال أبو حنيفة: إذا ولدت المرهونة بعد الرهن دخل ولدها في الرهن، وكذلك اللبن والصوف وثمرة النخل والشجر. وهو قول الثوري والحسن بن حي (2). وقال مالك: ما حدث من ولد فهو رهن، وليست الثمرة الحادثة رهنا مع الأصل (3).


(1) المجموع: ج 14 / 72، الوجيز: ج 1 / 187، المغني (لابن قدامة): ج 5 / 111، الشرح الكبير: ج 5 / 186، بداية المجتهد: ج 2 / 252 المبسوط (للسرخسي): ج 11 / 154، فتح العزيز: ج 10 / 414، البحر الزخار: ج 5 / 94، شرح فتح القدير: ج 5 / 405.
(2) اللباب: ج 2 ص 11، المبسوط (للسرخسي): ج 21 ص 75 عمدة القاري ج 13 ص 73، بدائع الصنائع: ج 6 ص 139 بداية المجتهد: ج 2 ص 299، النتف: ج 1 ص 604.
(3) المدونة الكبرى: ج 5 ص 301، بداية المجتهد: ج 2 ص 299، المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 435، =

[ 475 ]

وقال الليث: إذا كان الدين حالا دخلت الثمرة في الرهن، فإن كان إلى أجل فالثمرة لصاحب الأصل. وروي عنه أنها لا تدخل فيه إلا أن تكون موجودة يوم الرهن (1). وقال الشافعي: لا يدخل الولد ولا الثمرة الحادثة في الرهن (2)، ومن تأمل هذه الأقوال على إختلافها علم أن قول الشيعة منفرد عنها. والذي يدل على صحته الطريقة التي ذكرناها في المسألة التي قبل هذه بلا فصل. (مسألة) [ 268 ] [ إجارة العين المستأجرة ] ومما انفردت به الإمامية القول بجواز أن يؤجر الانسان شيئا بمبلغ بعينه فيؤاجره المستأجر بأكثر منه إذا اختلف النوعان كأنه إستأجره بدينار فإنه يجوز له أن يؤاجره بأكثر من قيمة الدينار من الحنطة والشعير وما أشبه ذلك، وكذلك يجوز أن يستأجره بدينار ويؤاجر بثلاثين درهما، لأن الربا لا يدخل مع اختلاف النوع، وهذا متى لم يحدث فيما إستأجره حدثا يصلحه به فإن زاد فيه


= المجموع ج 13 ص 299 فتح العزيز: ج 10 ص 148 الشرح الكبير: ج 4 ص 440 عمدة القاري: ج 14 ص 73. (1) لم نعثر عليه.
(2) الأم ج 3 ص 163، مختصر المزني: 98 الوجيز: ج 1 ص 164، فتح العزيز: ج 10 ص 148، النتف: ج 1 ص 604، المغني (لابن قدامة): ج 4 ص 435 الشرح الكبير: ج 4 ص 440 المبسوط (للسرخسي): ج 21 ص 75، المحلى: ج 8 ص 91، عمدة القاري: ج 13 ص 73 بدائع الصنائع: ج 6 ص 139، بداية المجتهد: ج 2 ص 299.

[ 476 ]

ما فيه نفع ومصلحة جاز أن يؤاجره بأكثر مما إستأجره على كل حال من غير تخصيص. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز للمستأجر أن يؤجر ما إستأجره قبل القبض، ويجوز بعد القبض، فإن آجر بأكثر تصدق بالفضل إلا أن يكون أصلح فيه شيئا أو بنى فيه بناء وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن حي (1). وقال مالك والبتي والليث والشافعي: لا بأس بأن يؤاجره بأكثر ولا يتصدق بشئ (2). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتردد أن المستأجر مالك للمنافع، وقد أجازت الشريعة ملك المنافع، فجرى مجرى ملك الأعيان في جواز التصرف فيها فللمالك أن يتصرف في ملكه بحسب إختياره من زيادة أو نقصان، والأصل في العقول والشريعة جواز تصرف المالك في ملكه إلا أن يمنع مانع ولا مانع هاهنا فيما ذكرناه. (مسألة) (3) [ 269 ] [ حكم المحاربين ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن من حارب الإمام العادل وبغى عليه وخرج عن التزام طاعته يجري مجرى محارب النبي (صلى الله عليه وآله) وخالع


(1) المحلى: ج 8 ص 197 و 198 المجموع ج 15 ص 60 و 61 المغني (لابن قدامة): ج 6 ص 54 و 55.
(2) المغني (لابن قدامة) ج 6 ص 55 المجموع ج 15 ص 61.
(3) في ” ألف ” و ” ب ” في السير.

[ 477 ]

طاعته في الحكم عليه بالكفر وإن إختلف أحكامهما من وجه آخر في المدافنة والموارثة وكيفية الغنيمة من أموالهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهب المحصلون منهم والمحققون إلى أن محاربي الإمام العادل فساق تجب البراءة منهم وقطع الولاية لهم من غير انتهاء إلى التكفير (1). وذهب قوم من حشوية أصحاب الحديث إلى أن الباغي مجتهد وخطؤه يجري مجرى الخطأ في سائر مسائل الاجتهاد (2). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة، وأيضا فإن الإمام عندنا يجب معرفته وتلزم طاعته كوجوب المعرفة بالنبي (صلى الله عليه وآله) ولزوم طاعته وكالمعرفة بالله تعالى، فكما أن جحد تلك المعارف والتشكيك فيها كفر فكذلك هذه المعرفة. وأيضا فقد دل الدليل على وجوب عصمة الإمام من كل القبائح وكل من ذهب إلى وجوب عصمته ذهب إلى تكفير الباغي عليه والخالع لطاعته والتفرقة بين الأمرين خلاف إجماع الأمة. فإن قيل: لو كان من ذكرتم بالغا إلى حد الكفر لوجب أن يكون مرتدا وأن تكون أحكامه أحكام المرتدين، واجتمعت الأمة على أن أحكام الباغي تخالف أحكام المرتد، وكيف يكون مرتدا وهو يشهد الشهادتين، ويقوم بالعبادات؟ قلنا: ليس يمتنع أن يكون الباغي له حكم المرتد في الانسلاخ عن الإيمان واستحقاق العقاب العظيم، وإن كانت أحكامه الشرعية في مدافنته وموارثته


(1) أحكام القرآن (للجصاص) ج 3 ص 403.
(2) المغني (لابن قدامة) ج 10 ص 67.

[ 478 ]

وغير ذلك تخالف أحكام المرتد، كما كان الكافر الذمي مشاركا للحربي في الكفر والخروج عن الإيمان وإن اختلفت أحكامهما الشرعية. فأما إظهار الشهادتين فليس بدال على كمال الإيمان، ألا ترى أن من أظهرهما وجحد وجوب الفرائض والعبادات لا يكون مؤمنا بل كافرا؟ وكذلك إقامة بعض العبادات من صلاة وغيرها، ومن جحد أكثر العبادات وأوجبها من طاعة إمام زمانه ونصرته لم ينفعه أن يقوم بعبادة أخرى من صلاة وغيرها. فأما ما يذهب إليه قوم من غفلة الحشوية من عذر الباغي وإلحاقه بأهل الاجتهاد. فمن الأقوال البعيدة من الصواب ومن المعلوم ضرورة أن الأمة أطبقت في الصدر الأول على ذم البغاة على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ومحاربيه والبراءة منهم، ولم يقم لهم أحد في ذلك عذرا، وهذا المعنى قد شرحناه في كتبنا وفرعناه وبلغنا فيه النهاية، وهذه الجملة هاهنا كافية. فإن اعترض المخالف على ما ذكرناه بالخبر الذي يرويه معمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن الحكم الغفاري عن عديسة بنت أهبان بن صيفي قالت: جاء علي (عليه السلام) إلى أبي فقال: ألا تخرج معنا؟ قال ابن عمك وخليلك أمرني إذا اختلف الناس أن اتخذ سيفا من خشب (1). أو بالخبر الذي يروى عن أبي ذر (رحمة الله عليه) أنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف بك إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قال: قلت ما اختار الله لي ورسوله، قال: تلحق، أو قال: عليك بمن أنت منه، قال قلت: أفلا آخذ بسيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذن، قال: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: إلزم بيتك، قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال: فإن خفت


(1) سنن الترمذي: ج 4 ص 490 سنن ابن ماجة ج 2 ص 130 جامع الأصول (لابن الأثير) ج 10 ص 395.

[ 479 ]

أن يبهرك شعاع السيف فألق رداك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك (1). قلنا: هذان الخبران وأمثالهما لا يرجع بهما عن المعلوم المقطوع بالأدلة عليه وهي معارضة بما هو أظهر منها وأقوى وأولى من وجوب قتال الفئة الباغية ونصرة الحق ومعونة الإمام العادل. ولو لم يرو في ذلك إلا ما رواه الخاص والعام والولي والعدو من قوله (صلى الله عليه وآله) حربك يا علي حربي وسلمك سلمي (2)، وقد علمنا أنه عليه السلام لم يرد أن نفس هذه الحرب تلك، بل أراد تساوي الأحكام، فيجب أن تكون أحكام محاربيه هي أحكام محاربي النبي (صلى الله عليه وآله) إلا ما خصه الدليل، وما روي أيضا من قوله: اللهم انصر من نصره واخذل من خذله، ولأنه (3) ” عليه السلام ” لما استنصر في قتال أهل الجمل وصفين والنهروان أجابته الأمة بأسرها ووجوه الصحابة وأعيان التابعين وسارعوا إلى نصرته ومعونته، ولم يحتج أحد عليه بشئ مما تضمنه هذان الخبران الخبيثان الضعيفان على أن الخبر الأول قد روي على خلاف هذا الوجه، لأن زهرم بن الحارث قال: قال لي أهبان: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أهبان أما أنك إن بقيت بعدي فسترى في أصحابي إختلافا، فإن بقيت إلى ذلك اليوم فاجعل سيفك يا أهبان من عراجين (4).


(1) كنز العمال: ج 11 ص 113 سنن أبي داود: ج 4 ص 101 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1308 جامع الأصول (لابن الأثير): ج 10 ص 394.
(2) المناقب (للخوارزمي): ص 76 ينابيع المودة: ص 83 ميزان الاعتدال: ج 1 ص 35.
(3) كنز العمال: ج 13 / 113 و 158 مشكل الآثار (للطحاوي): ج 2 ص 308، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 119.
(4) كنز العمال: ج 11 ص 197.

[ 480 ]

وقد يجوز أن يريد ” عليه السلام ” بالاختلاف الذي يرجع إلى القول والمذاهب دون المقاتلة والمخارجة. على أن هذا الخبر ما منع من قتال أهل الردة عند بغيهم ومجاهرتهم (1) فهو أيضا غير مانع من قتال كل باغ وخارج عن طاعة الإمام. وأما الخبر الثاني فمما يضعفه أن أبا ذر (رحمة الله عليه) لم يبلغ إلى وقعة أحجار الزيت، لأن ذلك إنما كان مع محمد بن عبد الله بن الحسن في أول أيام المنصور، وأبو ذر (رحمه الله) مات في أيام عثمان فكيف يقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف بك في وقت لا يبقى إليه؟ على أن أبا ذر (رحمه الله) كان معروفا بإنكار المنكر بلسانه وبلوغه فيه أبعد الغايات والمجاهرة في إنكاره وكيف يسمع من الرسول (صلى الله عليه وآله) ما يقتضي خلاف ذلك. (مسألة) [ 270 ] [ سب النبي ] ومما كأن الإمامية منفردة به: القول: بأن من سب النبي (صلى الله عليه وآله) مسلما كان أو ذميا قتل في الحال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه: من سب النبي (صلى الله عليه وآله) أو عابه، وكان مسلما فقد صار مرتدا، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل (2).


(1) في ” ألف “: ومحاربتهم.
(2) المحلى: ج 11 ص 410 و 415.

[ 481 ]

وقال ابن القسم عن مالك من شتم النبي (صلى الله عليه وآله) من المسلمين قتل ولم يستتب، ومن شتم النبي عليه السلام من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم (1). وهذا القول من مالك مضاه لقول الإمامية. وقال الثوري: الذمي يعزر (2). وذكر عن ابن عمر أنه يقتل (3). وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك فيمن سب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالا: هي ردة يستتاب، فإن تاب نكل به وإن لم يتب قتل قالا يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة ولم يذكرا فرقا بين المسلم والذمي (4). وقال الليث في المسلم يسب النبي (عليه وآله السلام): إنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه، وكذلك اليهودي والنصراني (5) وهذه موافقة للإمامية. وقال الشافعي: ويشرط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله عز وجل أو محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه، أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت ذمته (6) قال الطحاوي: فهذا من الشافعي يدل على أنه إذا لم يشرط لم


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 85 المحلى ج 11 ص 415.
(2) المحلى: ج 11 ص 415 أحكام القرآن (للجصاص) ج 3 ص 85.
(3) المحلى: ج 11 ص 415.
(4) أحكام القرآن (للجصاص) ج 3 ص 85 المحلى ج 11 ص 410.
(5) المحلى ج 11 ص 415، أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 85.
(6) المصدر السابق.

[ 482 ]

يستحل دمه بذلك (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: بعد الإجماع المتردد أن سب النبي (صلى الله عليه وآله) وعيبه والوقيعة فيه ردة من المسلم بلا شك والمرتد يقتل. وأما الذمي وإن لم يكن بذلك مرتدا، لأن حقيقة الردة هي الكفر بعد الإيمان، والذمي ما كان مؤمنا فصار كافرا، بل كفره متقدم، لكن هذا وإن لم يكن منه ردة فهو خرق للذمة واستخفاف بالشريعة ووضع منها ومن أهلها وببعض هذا يبرأ من الذمة التي حقن بها دمه فحينئذ يكون دمه مباحا من الوجه الذي ذكرناه. فأما ما يستدل به أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين المسلم والذمي في هذه المسألة من روايتهم عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: السام عليك، قالت ففهمتها، فقلت عليكم السام واللعنة، فقال (صلى الله عليه وآله): مهلا يا عائشة فإن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال النبي (عليه وآله السلام) قد قلت: وعليكم (2). قال المخالف لنا: ولو كان هذا الدعاء من المسلم لصار مرتدا يقتل ولم يقتله النبي (عليه وآله السلام) بذلك. وما يستدلون به أيضا ما رواه شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت النبي (عليه وآله السلام) بشاة مسمومة فأكل منها فجيئ بها فقيل: ألا نقتلها؟ فقال: لا.
(3)


(1) لا يوجد كتابه لدينا.
(2) صحيح البخاري: ج 8 ص 14، مسند أحمد ج 6 ص 199.
(3) سنن البيهقي: ج 10 ص 11 سنن أبي داود: ج 4 ص 173 ح 4308 صحيح البخاري ج 3 ص 214 مسند أحمد: ج 3 ص 218 مع اختلاف في الألفاظ.

[ 483 ]

قال المحتج: ولا خلاف بين المسلمين أن من فعل مثل ذلك بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو ممن ينتحل الاسلام أنه مرتد يقتل. فالجواب عنه: أن هذه أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا يعترض بها على مدلول الأدلة وهي معارضة بأخبار كثيرة تقتضي قتل من هذه صفته مثل ما رووه عن أبي يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن ابن عمر أن رجلا قال له: إني سمعت راهبا سب النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم العهد على هذا (1) ولم ينكر أحد على ابن عمر هذا القول فدل على وقوع الرضا به. فأما إبدال السلام بالسام فليس بصريح في سب ولا شتم، ولو وقع من مسلم أو ذمي ما اقتضى القتل. وأما الشاة المسمومة فيجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) اعتقد أن اليهودية ما علمت بأنها مسمومة فقد يجوز أن لا تكون بذلك عالمة. وقد يجوز أيضا لو كانت عالمة وقاصدة أن يكون (عليه وآله السلام) رأى درأ القتل عنها مع استحقاقها لضرب من المصلحة فله (عليه السلام) مثل ذلك وإنما كلامنا في الاستحقاق للقتل، والمسلم كاليهودي في هذا الباب سواء.


(1) أحكام القرآن (للجصاص): ج 3 ص 85.

[ 485 ]

كتاب مسائل القضاء والشهادات وما يتصل بذلك


[ 486 ]

كتاب مسائل القضاء والشهادات وما يتصل بذلك (مسألة) [ 271 ] [ حكم الحاكم بعلمه ] ومما ظن انفراد الإمامية به وأهل الظاهر يوافقونها فيه القول بأن للإمام والحكام من قبله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير إستثناء، وسواء علم الحاكم ما علمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك، وقد حكي أنه مذهب لأبي ثور (1). وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء وبعده، فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا القذف خاصة وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه، فإن علمه بعد القضاء حكم (2). وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء من ذلك بعلمه وهو قول سوار (3).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 400 الشرح الكبير: ج 11 ص 424، المحلى: ج 9 ص 427.
(2) بداية المجتهد: ج 2 ص 508، المبسوط (للسرخسي): ج 16 ص 105 المحلى: ج 9 ص 427، المغني (لابن قدامة): ج 11 ص 400 الشرح الكبير ج 11 ص 425.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 16 ص 105.

[ 487 ]

وقال الحسن بن حي: يقضي بعلمه قبل القضاء بعد أن يستحلفه في حقوق الناس وفي الحدود لا يقضي بعد القضاء إذا علمه حتى يشهد معه في الزنا ثلاثة وفي غيره رجل آخر (1). وقال الأوزاعي في الإمام يشهد هو ورجل آخر على قذف رجل آخر إنه يحده هو (2). وقال شريح: ارتفعوا إلى إمام فوقي وأنا أشهد بذلك.
(3) وقال مالك: لا يقضي بعلمه في سائر الحقوق حتى يكون شاهدان سواه وفي الزنا أربعة غيره (4). وقال الليث: لا يحكم في حقوق الناس بعلمه حتى يكون معه شاهدا آخر فيقضي بشهادته وشهادة الشاهد الآخر معه (5). وقال الشافعي: يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي الحدود قولان لأنه يقبل رجوع المقر (6). وقال ابن أبي ليلى فيمن أقر عند القاضي في مجلس الحكم بدين: فإن القاضي لا ينفذ ذلك حتى يشهد معه آخر والقاضي شاهد. ثم قال بعد ذلك: إذا ثبت قوله في الأصول عنده أنفد عليه القضاء (7). فإن قيل: كيف تستجيزون ادعاء الإجماع من الإمامية في هذه المسألة.


(1) المصدر السابق.
(2) لم نعثر عليه.
(3) المحلى: ج 9 ص 427.
(4) المصدر السابق.
(5) المبسوط: ج 16 ص 105.
(6) بداية المجتهد: ج 2 ص 507.
(7) المحلى: ج 9 ص 427.

[ 488 ]

وأبو علي بن الجنيد يصرح بالخلاف فيها، ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شئ من الحقوق ولا الحدود (1)؟ قلنا: لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة، وقد تقدم إجماعهم ابن الجنيد وتأخر عنه، وإنما عول ابن الجنيد فيها على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطؤه ظاهر. وكيف يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم بالعلم وهم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم لفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليهما) بفدك لما ادعت أنه نحلها إياها؟ ويقولون: إذا كان عالما بعصمتها وطهارتها وأنها لا تدعي إلا حقا فلا وجه لمطالبتها بإقامة البينة لأن البينة لا وجه لها مع القطع بالصدق، وكيف خفى على ابن الجنيد هذا الذي لا يخفى على أحد؟ أو ليس قد روت الشيعة الإمامية كلها ما هو موجود في كتبها ومشهور في رواياتها أن النبي (صلى الله عليه وآله) ادعى عليه أعرابي سبعين درهما عن ناقة باعها منه، فقال (عليه السلام): قد أوفيتك، فقال الأعرابي: إجعل بيني وبينك رجلا حكما يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أحكم بيننا، فقال للأعرابي: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته ثمنها، فقال للأعرابي: ما تقول؟ قال لم يوفني فقال لرسول الله: (صلى الله عليه وآله): ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ قال: لا، فقال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لأحاكمن هذا الرجل إلى رجل


(1) المختلف: ص 696.

[ 489 ]

يحكم فينا بحكم الله عز وجل فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي ابن أبي طالب ومعه الأعرابي، فقال ” عليه السلام ” مالك يا رسول الله؟ فقال يا أبا الحسن: أحكم بيني وبين هذا الأعرابي، فقال عليه السلام: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال ما تقول يا رسول الله؟ قال قد أوفيته ثمنها فقال يا أعرابي: أصدق رسول الله فيما قال؟ قال: لا ما أوفاني، فأخرج ” عليه السلام ” سيفه فضرب عنقه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لم فعلت ذلك يا علي؟ فقال: يا رسول الله نحن نصدقك على أمر الله ونهيه وأمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عز وجل ولا نصدقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي وإني قتلته لأنه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله فيما قال؟ فقال لا ما أوفاني شيئا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصبت يا علي فلا تعد إلى مثلها ثم التفت إلى القرشي وكان قد تبعه فقال هذا حكم الله لا ما حكمت به (1). وروت الشيعة أيضا عن ابن جريح عن الضحاك عن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من منزل عائشة فاستقبله أعرابي ومعه ناقة فقال: يا محمد أتشتري هذه الناقة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) نعم بكم تبيعها يا أعرابي؟ قال بمائتي درهم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ناقتك خير من هذا، قال: فما زال النبي (صلى الله عليه وآله) يزيد حتى اشترى الناقة بأربعمائة درهم، قال: فلما دفع النبي (عليه السلام) إلى الأعرابي الدراهم ضرب الأعرابي يده إلى زمام الناقة، وقال الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة. قال: فأقبل رجل فقال النبي (ص): أترضى بالشيخ المقبل؟


(1) الفقيه: ج 3 ص 105 ح 3425، ورواه في الوسائل ج 18 ص 200 ح 1.

[ 490 ]

قال نعم يا محمد، فلما دنا قال النبي (صلى الله عليه وآله): إقض بيني وبين الأعرابي قال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال الأعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال الرجل القضية فيها واضحة يا رسول الله وذلك أن الأعرابي طلب البينة، فقال له النبي (عليه السلام): اجلس فجلس ثم أقبل رجل آخر فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ قال نعم فلما دنا قال له النبي: إقض فيما بيني وبين الأعرابي، قال: نعم تكلم يا رسول الله، قال النبي (صلى الله عليه وآله): الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال الأعرابي: لا بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فإن كان لمحمد شئ فيلقم البينة، فقال الرجل: القضية فيها واضحة يا رسول الله لأن الأعرابي يطلب البينة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اجلس حتى يأتي الله بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحق. قال: فأقبل علي ” عليه السلام ” فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أترضى بالشاب المقبل؟ قال: نعم، فلما دنا قال يا أبا الحسن إقض بيني وبين الأعرابي، قال: تكلم يا رسول الله فقال النبي (صلى الله عليه وآله): الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال الأعرابي: بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال علي (عليه السلام) خل بين الناقة وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال الأعرابي: ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البينة. فدخل علي ” عليه السلام ” منزله، فاشتمل على قائم سيفه ثم أتى، فقال خل بين الناقة وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البينة قال: فضربه (عليه السلام) ضربة فأجتمع أهل الحجاز على أنه رمى برأسه وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضوا، فقال النبي


[ 491 ]

(عليه والسلام): ما حملك يا علي على هذا؟ فقال يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء ولا نصدقك على أربعمائة درهم (1). وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (رحمه الله) – وقد روى هذين الخبرين في كتابه المعروف بمن لا يحضره الفقيه هذان الخبران غير مختلفين، لأنهما في قضيتين، وكانت هذه القضية قبل القضية التي ذكرناها قبلها (2). وقد روت الشيعة أيضا في كتبها خبر أمير المؤمنين علي ” عليه السلام ” مع شريح قاضيه في درع طلحة بن عبيد الله لما قال ” عليه السلام “: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ومطالبة شريح بالبينة على ذلك وإحضاره عليه السلام الحسن ابنه ” عليه السلام ” وقنبرا غلامه، وقوله (عليه السلام) لشريح أخطأت ثلاث مرات (3). ورووا أيضا حديث خزيمة ثابت ذي الشهادتين لما شهد للنبي (صلى الله عليه وآله) على الأعرابي وقال النبي (صلى الله عليه وآله): كيف شهدت بذلك وعلمته؟ قال: من حيث علمت أنك رسول الله (4). فمن يروي هذه الأخبار مستحسنا لها ومعولا عليها كيف يجوز أن يشك في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه؟ لو لا قلة تأمل ابن الجنيد. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: زائدا على الإجماع المتردد قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (5)، وقوله تعالى:


(1) الفقيه: ج 3 ص 106 ح 3426.
(2) الفقيه: ج 3 ص 108 ذيل ح 3426.
(3) الوسائل: ج 18 ص 194 ح 6، الفقيه: ج 3 ص 109 ح 3428.
(4) الفقيه: ج 3 ص 108 ح 3427 الوسائل: ج 18 ص 201 ح 3.
(5) سورة النور: الآية 2.

[ 492 ]

(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1)، فمن علمه الإمام سارقا أو زانيا قبل القضاء أو بعده فواجب عليه أن يقضي فيه بما أوجبته الآية من إقامة الحد (2)، وإذا ثبت ذلك في الحدود فهو ثابت في الأموال لأن من أجاز ذلك في الحدود أجازه في الأموال، ولم يجزه أحد من الأمة في الحدود دون الأموال. فإن قيل: لم زعمتم أنه أراد بقوله: الزانية والزاني والسارق والسارقة من علمتموه كذلك دون أن يكون أراد من أقر عندكم بالسرقة أو الزنا أو شهد عليه الشهود. قلنا: من أقر بالزنا أو شهد عليه الشهود لا يجوز أن يطلق القول (3) بأنه زان، وكذلك السارق وإنما حكمنا فيهما بالأحكام المخصوصة اتباعا للشرع، وإن جوزنا أن يكونا ما فعلا شيئا من ذلك، والزاني في الحقيقة من فعل الزنا وعلم منه ذلك وكذلك السارق فحمل الآيتين على العلم أولى من حملهما على الشهادة والاقرار. فإن احتجوا بما يروى عن النبي (عليه السلام) أنه قال: لو اعطي الناس بدعاويهم (4) لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (5). وأخبر عليه السلام أن المدعي لا يعطى بغير بينة. فالجواب أن هذا أولا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، ثم إذا سلمناه قلنا علم الحاكم أقوى البينات، وإذا جعلنا البينة الاقرار أو الاشهاد من


(1) سورة المائدة: الآية 38.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: الحدود.
(3) في ” ألف ” القول عليه.
(4) في ” ألف ” و ” ب ” بدعواهم.
(5) كنز العمال: ج 6 ص 190 ح 15296 و 15297 سنن البيهقي ج 10 ص 252 مع اختلاف يسير في الألفاظ.

[ 493 ]

حيث أبانت عن الأمر وكشفت فأقوى منها العلم اليقين. فأما من فرق بين ما علمه وهو حاكم وبين ما علمه وهو على خلاف ذلك. وقوله: إن الذي علمه وهو غير حاكم لا اعتداد به، لأن علمه في حال لا ينفذ حكمه فيها فباطل، لأن العدل إذا شهد أمضى الحاكم شهادته، وإن جوز أن يكون تحملها في حال فسقه، وكذلك تقبل شهادة العدل البالغ وإن جوز أن يكون قد تحملها في حال طفوليته. فإن قيل: لو جاز للحاكم أن يحكم بعلمه لكان في ذلك تزكية لنفسه. قلنا: التزكية حاصلة للحاكم بتولية الحكم له، وليس ذلك بتابع لإمضاء الحكم فيما علمه. ثم هذا لازم في إجازتهم حكم الحاكم بعلمه في غير الحدود، لأنه تزكية لنفسه، ولا يختلفون أيضا في أنه يقبل منه جرحه لشاهده وإسقاط شهادته ولا يكون ذلك تزكية لنفسه. فإن قالوا: إذا حكم بعلمه فقد عرض نفسه للتهمة وسوء الظن به. قلنا: وكذلك إذا حكم بالبينة والاقرار فهو معرض نفسه للتهمة ولا يلتفت إلى ذلك لوقوع التهمة في غير موضعها، لأن قبول الشهادة والسكون إلى عدالة الشاهد مما يجوز أن تقع في مثله التهمة. ووجدت لابن الجنيد كلاما في هذه المسألة غير محصل لأنه لم يكن في هذا ولا إليه ورأيته يفرق بين علم النبي (صلى الله عليه وآله) بالشئ وبين علم خلفائه وحكامه (1). وهذا غلط منه، لأن علم العالمين بالمعلومات لا يختلف، فعلم كل واحد بمعلوم بعينه كعلم كل عالم به، وكما أن الإمام أو النبي إذا شاهدا رجلا يزني أو يسرق


(1) المختلف: ص 697.

[ 494 ]

فهما عالمان بذلك علما صحيحا، فكذلك من علم مثل ما علماه من خلفائهما والتساوي في ذلك موجود. ووجدته يستدل على بطلان الحكم بالعلم بأن يقول: وجدت الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقا أبطلها فيما بينهم وبين الكفار والمرتدين كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح، ووجدنا الله تعالى قد أطلع رسوله (صلى الله عليه وآله) على من كان يبطن الكفر ويظهر الاسلام، فكان يعلمه ولم يبين (عليه السلام) أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم (1). وهذا غير معتمد، لأنا أولا: لا نسلم له أن الله تعالى قد أطلع النبي (عليه وآله السلام) على مغيب (2) المنافقين وكل من كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر من أمته. فإن استدل على ذلك بقوله تعالى (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) (3) فهذا لا يدل على وقوع التعريف وإنما يدل على القدرة عليه، ومعنى قوله: (ولتعرفنهم في لحن القول) أي: ليستقر ظنك أو وهمك من غير ظن ولا يقين. ثم لو سلمنا على غاية مقترحة أنه (عليه وآله السلام) قد اطلع على البواطن لم يلزم ما ذكره، لأنه غير ممتنع أن يكون تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح إنما يختص بمن أظهر كفره وردته دون من أبطنها وأن تكون المصلحة التي يتعلق بها التحريم والتحليل اقتضت ما ذكرناه.


(1) المختلف: ص 697.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: معايب.
(3) سورة محمد: الآية 30.

[ 495 ]

فلا يجب على النبي (عليه وآله السلام) أن يبين أحوال من أبطن الردة والكفر لأجل هذه الأحكام التي ذكرناها لأنها لا تتعلق بالمبطن وإنما تتعلق بالمظهر، وليس كذلك الزنا، وشرب الخمر والسرقة، لأن الحد في هذه الأمور يتعلق بالمبطن والمظهر على سواء، وإنما يستحق بالفعلية التي يشترك فيها المعلن والمسر (1). (مسألة) [ 272 ] [ تشاح الخصمين لدى الحاكم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الخصمين إذا ابتدرا الدعوى بين يدي الحاكم، وتشاحا في الابتداء بها وجب على الحاكم أن يسمع من الذي عن يمين خصمه ثم ينظر في دعوى الآخر، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يذهبوا إلى مثل ما حكيناه (2). دليلنا على صحة ذلك: إطباق الطائفة عليه، ولأن من خالف ما ذكرناه إنما اعتمد على الرأي والاجتهاد دون النص والتوقيف، ومثل ذلك الرجوع فيه إلى التوقيف أولى وأحرى. ووجدت ابن الجنيد لما روى عن ابن محبوب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى أن يتقدم صاحب اليمين في المجلس بالكلام (3)، قال ابن الجنيد: يحتمل أن يكون أراد


(1) في ” ألف ” و ” ب “: المستر.
(2) الحاوي ج 16 / 279.
(3) الفقيه: ج 3 ص 14 ح 3240 الوسائل: ج 18 ص 160 ح 2.

[ 496 ]

بذلك المدعي، لأن اليمين مردودة إليه، قال ابن الجنيد: إلا أن ابن محبوب فسر ذلك في حديث رواه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو قاض فكن عن يمينه يعني يمين الخصم (1). وهذا تخليط من ابن الجنيد لأن التأويلات إنما تدخل بحيث تشكل الأمور، ولا خلاف بين القوم أنه إنما أراد يمين الخصم دون اليمين التي هي القسم، وإذا فرضنا المسألة في نفسين تبادرا الكلام بين يدي القاضي وتناهياه وأراد كل واحد منهما أن يدعي على صاحبه فهما جميعا مدعيان، كما أنهما جميعا مدعى عليهما فبطلت المزية والتفرقة التي توهمها ابن الجنيد. (مسألة) [ 273 ] [ شهادة ذوي القرابات ] ومما انفردت الإمامية به في هذه الأعصار وإن روي لها وفاق قديم: القول بجواز شهادات ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا من غير استثناء لأحد، إلا ما يذهب إليه بعض أصحابنا (2) معتمدا على خبر (3) يرويه من أنه لا يجوز شهادة الولد على الوالد وإن جازت شهادته له ويجوز شهادة الوالد لولده وعليه. وقد رويت موافقة الإمامية في ذلك عن عمر بن الخطاب وشريح والزهري وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري والشعبي وأبي ثور، وروى الساجي أن


(1) المختلف: ص 699.
(2) المختلف: ص 699.
(3) الفقيه: ج 3 ص 42 ح 3286 الوسائل ج 18 ص 271 ح 6.

[ 497 ]

أياس بن معاوية أجاز شهادة رجل لأبيه وأخذ يمين الطالب (1). وكل من أجاز شهادة الأب للابن والابن للأب أجاز شهادة الأخ لأخيه وكل ذي قرابة لقرابته. وقد روي جواز شهادة الأخ لأخيه عن شريح وابن سيرين والنخعي والشعبي وعطاء وقتادة وعبد الله بن الحسن وعثمان البتي وعمر بن عبد العزيز والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء على ذلك (2). وإنما خالف فيه الأوزاعي، فذهب إلى أن شهادة الأخ لأخيه لا تقبل وإن كان عدلا (3). وحكي عن مالك أنه قال: إن شهد له في غير النسب قبلت، وإن شهد في النسب لم تقبل، فإن كانا أخوين من أم فادعى أحدهما أخا من أب وشهد له أخوه لم تقبل (4). وإذا جاز شهادة الأقارب في النسب بعضهم لبعض فالأولى جواز ذلك في الرضاع، لأن كل من ذهب إلى أحد الأمرين ذهب إلى الآخر ولم يفرق أحد بين المسألتين. دليلنا على ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد. وأيضا قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (5)، فشرط تعالى العدالة ولم يشرط سواها، ويدخل في عموم


(1) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 65، الشرح الكبير: ج 12 ص 72، المحلى: ج 9 ص 415 و 416، بداية المجتهد ج 2 ص 501 المجموع: ج 20 ص 234 أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 ص 509.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 69 الشرح الكبير ج 12 ص 75 المحلى: ج 9 ص 415 و 416. بداية المجتهد: ج 2 ص 500، الهداية على البداية ج 3 / 123.
(3) بداية المجتهد: ج 2 ص 500 المحلى: ج 9 ص 416 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 / 225.
(4) الشرح الكبير: ج 12 ص 75 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 69.
(5) سورة الطلاق: الآية 2.

[ 498 ]

هذا القول ذو القرابات كلهم، وقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) (1) يدل أيضا على هذه المسألة. فأما اعتماد المخالفين على الأخبار التي يروونها في هذا الباب، كخبر يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده (2)، فمما لا يصح الاعتماد عليه لأن كل هذه الأخبار إذا سلمت من القدح كانت آحادا توجب الظن ولا تنتهي إلى العلم، ولا يجوز أن نرجع إلى ما يوجب الظن وا ينتهي إلى العلم عن ظواهر الكتاب الموجبة للعلم. على أن الساجي قد قال في هذا الخبر: إن هذه رواية غير ثابتة عند أهل النقل (3)، وراوي هذا الخبر عن الزهري يزيد بن أبي زياد، وحكى الساجي أن شعبة قال: إن يزيد كان رفاعا (4)، أي يرفع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ما لا أصل له، وضعف هذا الحديث من وجوه معروفة وقدح في رواية. وأما اعتماده في المنع من شهادة الأقارب على التهمة التي تلحق لأجل النسب فغير صحيح لأنه يلزم على ذلك أن لا تقبل شهادة الصديق لصديقه ولا الجار لجاره لأن التهمة متطرقة. وأيضا فإن العدالة مانعة من التهمة وحاجزة عنها. وحكي عن الشافعي في المنع من شهادة الوالد لولده والولد لوالده أنه قال: الولد جزء من أبيه فكأنه يشهد لنفسه إذا شهد لما هو بعضه (5).


(1) سورة البقرة: الآية 282.
(2) الحاوي: ج 17 / 164.
(3) المصدر السابق.
(4) تهذيب التهذيب: ج 11 ص 288.
(5) سنن البيهقي: ج 10 ص 201 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 195.

[ 499 ]

وهذا غير محصل، لأن الولد وإن كان مخلوقا من نطفة أبيه، فليس ببعض له على الحقيقة، بل لكل واحد منهما حكم يخالف حكم صاحبه، وكذلك استرقوا الولد برق أمه وإن كان الأب حرا وحرروه بحرية الأم وإن كان الأب عبدا، ولم يسر حكم كل واحد منهما إلى صاحبه. (مسألة) [ 274 ] [ شهادة العبيد ] ومما اتفق عليه الإمامية إلا من شذ من جملتهم وسنتكلم عليه القول بأن شهادة العبيد لساداتهم إذا كان العبيد عدولا مقبولة وتقبل أيضا على غيرهم ولهم ولا تقبل على ساداتهم وإن كانوا عدولا. وقد روي عن أنس موافقة الإمامية في قبول شهادة العبيد العدول وهو قول الليث وأحمد بن حنبل وداود وأبي ثور (1). وروي عن الشعبي أنه قال: تقبل فيما قل من الحقوق ولا يقبل فيما كثر (2). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، ولا اعتبار بمن شذ أخيرا عنها، وظواهر آيات الشهادة في الكتاب مثل قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (3) وهو عام في العبيد إذا كانوا عدولا وغيرهم.


(1) الشرح الكبير: ج 12 ص 65، المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 70 المحلى: ج 9 ص 413، فتح الباري: ج 5 ص 267 صحيح البخاري: ج 3 ص 266 اختلاف الفقهاء: (للمروزي): ص 283، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 188.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 71، الشرح الكبير: ج 12 ص 65، فتح الباري: ج 5 ص 267، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 188. (3) سورة الطلاق: الآية 2.

[ 500 ]

ولا يلتفت إلى ما يروى (1) مما يخالف هذه الظواهر من الطرق الشيعة ولا الطرق العامية وإن كثرت، لأنها تقتضي الظن ولا تنتهي إلى العلم، وهذه الظواهر التي ذكرناها توجب العلم ولا يرجع عنها بما يقتضي الظن، وهذه الطريقة هي التي يجب الرجوع إليها والتعويل عليها، وهي مزيلة لكل شعب في هذه المسألة. ولو كنا ممن يثبت الأحكام بالاستدلالات لكان لنا أن نقول: إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل شهادته على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في روايته عنه فلأن تقبل شهادته على غيره أولى. وكان أبو علي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمتنع من شهادة العبد وإن كان عدلا، ولما تكلم على ظواهر الآيات في الكتاب التي تعم العبد والحر ادعى تخصيص الآيات بغير دليل، وزعم أن العبد من حيث لم يكن كفوا للحر في دمه وكان ناقصا عنه في أحكامه لم يدخل تحت الظواهر (2). وقال أيضا: إن النساء قد يكن أقوى عدالة من الرجال ولم تكن شهادتهن مقبولة في كل ما يقبل فيه شهادة الرجال (3). وهذا منه غلط فاحش، لأنه إذا ادعى أن الظواهر إختصت بمن تتساوى أحكامه في الأحرار كان عليه الدليل، لأنه ادعى ما يخالف الظواهر ولا يجوز رجوعه في ذلك إلى أخبار الآحاد التي يرويها لأنا قد بينا ما في ذلك. فأما النساء: فغير داخلات في الظواهر التي ذكرناها مثل قوله تعالى: (ذوي عدل منكم) (4)، وقوله تعالى: (شهيدين من رجالكم) (5) فما أخرجنا النساء


(1) التهذيب: ج 6 ص 242 – 249 الوسائل ج 18 ص 255 و 277 و 278.
(2) المختلف: ص 720.
(3) المختلف: ص 721.
(4) سورة الطلاق: الآية 2.
(5) سورة البقرة: الآية 282.

[ 501 ]

من هذه الظواهر لأنهن ما دخلن فيها، والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف ويحتاج في إخراجهم إلى دليل. (مسألة) [ 275 ] [ شهادة ولد الزنا ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن شهادة ولد الزنا لا تقبل وإن كان على ظاهر العدالة. وقد روي موافقة الإمامية في الأقوال القديمة، فروى الساجي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: لا تقبل شهادة ولد الزنا (1)، وروى الطبري والساجي عن عبد الله بن عمر مثل ذلك (2). وحكى الطبري عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والليث بن سعد أن شهادته في الزنا لا تجوز، وقال مالك: ولا فيما أشبهه من الحدود (3). دليلنا على ذلك: إجماع الطائفة عليه. فإن قيل: أليس ظواهر الآيات التي احتججتم بها تقتضي قبول شهادة ولد الزنا إذا كان عدلا فكيف إمتنعتم من قبول شهادته مع العدالة وهو داخل في ظواهر الآيات؟ قلنا: هذا موضع لطيف لا بد من تحقيقه، وقد حققناه في مسألة أمليناها


(1) المصنف (لابن أبي شيبة): ج 5 / 414.
(2) لم نعثر عليه. (3) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 230 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 73 الشرح الكبير: ج 12 ص 69 المحلى: ج 9 ص 430 الهداية على البداية: ج 3 ص 125.

[ 502 ]

قديما (1) في الخبر (2) الذي يروي بأن ولد الزنا لا يدخل الجنة، وبسطنا القول فيها، لأن ولد الزنا لا يتعدى إليه ذنب من خلق من نطفته وله حكم نفسه فما المانع من أن يكون عدلا مرضيا؟ والذي نقوله: أن طائفتنا مجمعة على أن ولد الزنا لا يكون نجيبا ولا مرضيا عند الله تعالى، ومعنى ذلك أن يكون الله تعالى قد علم فيمن خلق من نطفة زنا أن لا يختار هو الخير والصلاح. فإذا علمنا بدليل قاطع عدم نجابة ولد الزنا وعدالته وشهد وهو مظهر للعدالة مع غيره لم يلتفت إلى ظاهره المقتضي لظن العدالة به، ونحن قاطعون على خبث باطنه وقبح سريرته فلا تقبل شهادته، لأنه عندنا غير عدل ولا مرضي. فعلى هذا الوجه يجب أن يقع الاعتماد دون ما تعلق به أبو علي بن الجنيد (رحمه الله) لأنه قال: إذا كنا لا نقبل شهادة الزاني والزانية كان ردنا لشهادة من هو شر منهما أولى، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: في ولد الزنا أنه شر الثلاثة (3) (4). وهذا غير معتمد، لأن الخبر الذي رواه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، ولا يرجع بمثله عن ظواهر الكتاب الموجبة للعلم. وإذا كان معنى قوله (صلى الله عليه وآله): إنه شر الثلاثة من حيث لم


(1) رسائل المرتضى: ج 3 ص 131 – 132.
(2) سنن البيهقي: ج 10 ص 58، كنز العمال: ج 5 332 ح 13089، بحار الأنوار: ج 5 ص 285 و 287 ح 4 و 5 و 9 و 10 و 11 و 15.
(3) المختلف: ص 718.
(4) سنن البيهقي ج 10 ص 57 و 58 و 59، مسند أحمد: ج 2 ص 311، سنن أبي داود: ج 4 ص 29 ح 3963، كنز العمال: ج 5 ص 332 ح 13088 و 13090 ورويت بعض الروايات بهذا النص في كتب الشيعة انظر بحار الأنوار: ج 5 ص 285 ح 5.

[ 503 ]

تقبل شهادته أبدا وقبلت شهادة الزانيين إذا تابا، فقد كان يجب على ابن الجنيد أن يبين من أي وجه لم تقبل شهادته على التأبيد وكيف كان أسوأ حالا في هذا الحكم من الكافر الذي تقبل شهادته بعد التوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان، ويبين كيف لم تقبل شهادته مع إظهار العدالة والصلاح والنسك والعبادة وأنه بذلك داخل في ظواهر آيات قبول الشهادة وما شرع في ذلك ولا اهتدى له، والوجه هو ما نبهنا عليه الموافق للقول بالعدل. (مسألة) [ 276 ] [ شهادة الأعمى ] ومما يظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق القول: بأن شهادة الأعمى إذا كان عدلا مقبولة على كل حال، ولا فرق بين أن يكون ما علمه وشهد به كان قبل العمى أو بعده. ووافق الإمامية في ذلك مالك والليث، وقالا: تجوز شهادة الأعمى على ما علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والاقرار ونحوهما، وإن شهد على زنا حد للقذف ولم تقبل شهادته (1). ووافق الإمامية في قبول شهادة الأعمى أيضا داود بن علي (2). وقال أبو حنيفة ومحمد لا تجوز شهادة الأعمى بحال، وهو قياس قول ابن


(1) المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 61 الشرح الكبير: ج 12 ص 67 المحلى: ج 9 ص 433 المبسوط (للسرخسي): ج 16 ص 129 فتح الباري ج 5 ص 264، اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ج 1 ص 189 أحكام القرآن (للجصاص) ج 1 ص 498.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 ص 498 المبسوط (للسرخسي) ج 16 ص 129 المحلى: ج 9 ص 433.

[ 504 ]

شبرمة (1). وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي ما علمه قبل العمى جاز شهادته، به وما علمه في حال العمى لم يجز أن يشهد به (2). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه زائدا على إجماع الطائفة ظواهر الكتاب التي تلوناها واستدللنا بها على جواز شهادة العبيد وغيرهم، لأن الأعمى داخل في هذه الظواهر ولا يمنع عماه من كونها متناولة له. ومعول من خالفنا في هذه المسألة على أن الأعمى تشتبه عليه الأصوات فلا يحصل له العلم اليقين ولأنهم يظنون أن الادراك بالسمع لا يحصل عنده من العلم الضروري ما يحصل عند الادراك بالبصر. وهذا غلط فاحش، لأن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والأشخاص، فلو منع الاشتباه في الأصوات من العلم الضروري لمنع في إدراك البصر، والادراك بالسمع كالإدراك بالبصر لأنهما طريقان إلى العلم الضروري للعاقل مع زوال اللبس، وقد يتعذر زوال اللبس بالسمع كما يتعذر ذلك بالإدراك بالبصر، ألا ترى أن الضرير يعرف زوجته ووالديه وأولاده ضرورة وإن كان طريق معرفته إدراك السمع، ولا يدخل عليه شك في ذلك كله، ولو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطء امرأته لتجويزه أن تكون غير من عقد عليها.


(1) فتح الباري: ج 5 ص 264 المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 61 الشرح الكبير: ج 12 ص 67، المحلى: ج 9 ص 433، المبسوط (للسرخسي): ج 16 ص 121 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 188.
(2) الشرح الكبير: ج 12 ص 68 اختلاف الفقهاء (للطحاوي: ج 1 ص 188 المحلى: ج 9 ص 433، المبسوط (للسرخسي): ج 16 ص 129 الهداية على البداية: ج 3 ص 171، المغني (لابن قدامة): ج 12 ص 62.

[ 505 ]

وقد استدل على ما ذكرناه أيضا بأن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) كن يحدثن ويخاطبن من وراء حجاب مع فقد مشاهدتهن. وقد كانت الصحابة تروي عنهن الأخبار وتسند إليهن ما يروونه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). واعتذار من يخالفنا في هذا الموضع بأن باب الخبر أوسع من باب الشهادة لا يغني شيئا، لأنه لا يحل لأحد أن يخبر عن غيره إلا على سبيل التعيين لا سيما في رواية عن النبي (صلى الله عليه وعلى آله) ويعول في ذلك على الظن دون اليقين، وإذا كانت الصحابة تروي عن الأزواج بأعيانهن ما سمعوه منهن من الأخبار فذلك يدل على أنهم علموهن وميزوهن بالسماع. فإن استدل المخالف بقوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير) (1). فالجواب عنه أن الآية مجملة لم تتضمن ذكر ما لا يستوون فيه، وادعاء العموم فيما لم يذكر غير صحيح، وظواهر آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها البصير إذا كان عدلا، لأن قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (2) (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (3) يدخل فيه الأعمى كدخول البصير. (مسألة) [ 277 ] [ شهادة الصبيان ] ومما يظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق: القول بقبول شهادة الصبيان


(1) سورة فاطر الآية 19.
(2) سورة الطلاق: الآية 2.
(3) سورة البقرة: الآية 282.

[ 506 ]

في الشجاج والجراح إذا كانوا يعقلون ما يشهدون به ويؤخذ بأول كلامهم ولا يؤخذ بآخره. وقد وافق الإمامية في ذلك عبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى والزهري ومالك وأبو الزناد (1)، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يجيزوا شهادة الصبيان في شئ (2). والمعتمد في هذه المسألة على إطباق الطائفة، وهو مشهور من مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3) ” عليه السلام ” وقد روى ذلك عنه الخاص والعام والشيعي وغير الشيعي وهو موجود في كتب مخالفينا. ورووا كلهم أن أمير المؤمنين عليه السلام قضى في ستة غلمان وقعوا في الماء فغرق أحدهم فشهد ثلاثة غلمان على غلامين أنهما غرقا الغلام وشهد الغلامان على الثلاثة أنهم غرقوه، فقضى عليه السلام بدية الغلام أخماسا على الغلامين ثلاثة أخماس الدية لشهادة الثلاثة عليهما وعلى الثلاثة بخمسي الدية لشهادة الغلامين عليهم (4). وليس لأحد أن يقول لو قبلت شهادة الصبيان في بعض الأمور لقبلت في جميعها كسائر العدول. قلنا: غير ممتنع أن توجب المصلحة قبول شهادة الصبيان في موضع دون


(1) المحلى: ج 9 ص 420 – 421 المجموع: ج 20 ص 251، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 189 – 190 أحكام القرآن (للجصاص): ج 1 ص 496 المبسوط (للسرخسي): ج 16 ص 136، فتح الباري: ج 5 ص 277.
(2) المدونة الكبرى: ج 5 ص 154.
(3) المحلى: ج 9 ص 420.
(4) الفقيه: ج 4 ص 116 ح 5233 الكافي: ج 7 ص 284 ح 6 التهذيب: ج 10 ص 239 ح 3 الارشاد (للشيخ المفيد): ص 118.

[ 507 ]

موضع كما أنها أوجبت قبول شهادة النساء في بعض المواضع دون بعض، ولم يلزم أن تكون النساء في كل المواضع مقبولات الشهادات من حيث قبلت شهادتهن في بعضها.


[ 509 ]

مسائل الحدود والقصاص والديات


[ 510 ]

مسائل الحدود والقصاص والديات (وما يتصل بذلك) (مسألة) [ 278 ] [ حد اللواط ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن حد اللوطي (1) إذا أوقع الفعل فيما دون الدبر بين الفخذين مائة جلدة للفاعل والمفعول به إذا كانا معا عاقلين بالغين لا يراعى في جلدهما وجود الاحصان، كما روعي في الزنا، فأما الايلاج في الدبر فيجب فيه القتل من غير مراعاة أيضا للاحصان فيه، والإمام مخير في القتل بين السيف وضرب عنقه به وبين أن يلقي عليه جدارا يتلف نفسه بإلقائه أو بأن يلقيه من جدار أو جبل على وجه تتلف معه نفسه بإلقائه أو يرميه بالأحجار حتى يموت. وقد انفردت الإمامية انفرادا صحيحا ولا موافق لها في هذا، فإنه وإن روي عن مالك والليث بن سعد في المتلوطين أنهما يرجمان أحصنا أو لم يحصنا (2)


(1) في ” ألف “: الواطئ.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 160 الشرح الكبير: ج 10 ص 175 المحلى: ج 11 ص 382، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 158.

[ 511 ]

فهذه لعمري موافقة للإمامية من بعض الوجوه ولم يفصلا هذا التفصيل الذي شرحناه وما أظنهما يوجبان على من لم يكن فعله في نفس الدبر جلدا ولا غيره. وقال أبو حنيفة في اللوطي: إنه يعزر ولا يحد (1). وقال البتي وأبو يوسف ومحمد وابن حي والشافعي: إن اللواط بمنزلة الزنا (2) وراعوا فيه الاحصان الذي يراعونه في الزنا (2). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد، وقد ظهر من مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام القول بقتل اللوطي (3) وفعله حجة. ومما يذكر على سبيل المعارضة للمخالف أنهم كلهم يروون عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من وجدتموه على عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول (4). وقد روي أنه كان يذهب إليه مع أمير المؤمنين عليه السلام أبو بكر وابن عباس (5)، ولم يظهر خلاف عليهم هناك.


(1) الشرح الكبير: ج 10 ص 176، المبسوط (للسرخسي): ج 9 ص 77 المحلى: ج 11 ص 382 الهداية على البداية: ج 2 ص 102، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 158.
(2) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 158 المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 161 الشرح الكبير: ج 10 ص 176 المبسوط (للسرخسي) ج 9 ص 77.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 160 و 161 الشرح الكبير: ج 10 ص 175 و 176 المبسوط (للسرخسي) ج 9 ص 79 المحلى: ج 11 ص 380.
(4) سنن الترمذي: ج 4 ص 57 ح 1456 سنن ابن ماجة: ح 2561 ج 2 ص 856، سنن الدارقطني: ج 3 ص 124 ح 140 كنز العمال: ج 5 ص 338 ح 13118، سنن البيهقي: ج 8 ص 231، سنن أبي داود: ج 4 ص 158 ح 4462.
(5) الشرح الكبير: ج 10 ص 175 و 176، المبسوط (للسرخسي): ج 9 ص 78 و 79، المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 160 و 161، المحلى: ج 11 ص 380 و 381.

[ 512 ]

وربما قوى هذا المذهب بأن يقال: قد علمنا أن الحدود إنما وضعت في الشريعة للزجر عن فعل الفواحش والجنايات فكل ما كان الفعل أفحش كان الزجر أقوى ولا خلاف في أن اللواط أفحش من الزنا والكتاب ينطق بذلك فيجب أن يكون الزجر عنه أقوى، وليس هذا بقياس لكنه ضرب من الاستدلال. وربما قوى بأن اللواط أفحش من الزنا بأنه إصابة لفرج لا يستباح إصابته بحال، وليس كذلك الزنا. وعذر أبي حنيفة كأنه أوسع من عذر الشافعي وأبي يوسف ومحمد لأن أبا حنيفة يدعي أنه لم يعين (1) في الشريعة على دلالة تقتضي وجوب الحد على اللوطي، وكلما لا حد فيه من الجنايات ففيه التعزير، والشافعي ومن وافقه من أبي يوسف ومحمد يجرون اللواط مجرى الزنا في جميع الأحكام، فياليت شعري من أين لهم ذلك؟ وكيف حكموا فيه بحكم الزنا، واسم الزنا لا يتناوله في الشرع؟ فإن قالوا اسم الزنا وإن لم يتناوله فاسم الفاحشة عام في اللواط والزنا. قلنا: إنما علق النبي (صلى الله عليه وآله) الأحكام المخصوصة باسم الزنا فما لم يقع عليه هذا الاسم المعين لم يتعلق به الأحكام واسم الفاحشة وإن عم اللواط فهو يعم الزنا والسرقة وكل القبائح فيجب أن يجعل لجميع هذه الجنايات أحكام الزنا لأن اسم الفاحشة يقع عليها، قال الله تعالى: (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (2) وإنما أراد جميع القبائح والمعاصي.


(1) في ” ألف “: وهامش المعتمدة: يعثر.
(2) سورة الأعراف: الآية 33.

[ 513 ]

(مسألة) [ 279 ] [ حد السحق ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن البينة إذا قامت على امرأتين بالسحق جلدت كل واحدة منهما مائة جلدة مع فقد الاحصان ووجوده فإن قامت البينة عليهما بتكرير هذا الفعل منهما وإصرارهما عليه كان للإمام قتلهما كما يفعل باللوطي. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبوا شيئا مما أوجبناه (1). دليلنا ما تقدم من إجماع الطائفة فلا خلاف بينهم في ذلك، وأيضا فلا خلاف في أن هذا فعل فاحش قوي الحظر (2) يجري مجرى اللواط، وكل شئ كان أزجر عنه فهو أولى، وثبوت الحد فيه أزجر عنه وأدعى إلى الامتناع منه. وإنما يرجع مخالفونا في نفي الحد عن هذا الموضع إلى الرأي والاجتهاد وقد بينا أنه لا رجوع إلى مثلها في الشريعة وإنما الرجوع إلى النص والتوقيف. (مسألة) [ 280 ] [ حكم إتيان البهيمة ] ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن من نكح بهيمة وجب عليه التعزير بما هو دون الحد من الزنا وتغريم ثمن البهيمة لصاحبها. وقد روي عن الأوزاعي إيجاب الحد على من أتى البهيمة (3)، وقال باقي الفقهاء: لا حد على من أتى البهيمة ولا تعزير (4).


(1) المجموع: ج 20 ص 28.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: الخطر.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المصنف: ج 7 ص 366.

[ 514 ]

والمعتمد في ذلك على إجماع الطائفة. ويمكن أن يعارضوا بما يروونه هم عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهمية (1)، وإذا كان هذا موجودا في رواياتهم فقد انضم إلى ما ترويه الشيعة (2) وهو كثير. (مسألة) [ 281 ] [ لو زنا أو لاط بميت ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من نكح امرأة ميتة أو تلوط بغلام ميت فإن حكمه في العقوبة والحد حكم من فعل ذلك بالحي. ولسنا نعرف موافقا من باقي الفقهاء للإمامية في ذلك، وإن كانوا مخطئين لفاعله مبدعين له، إلا أنه ما عرفنا أنهم يوجبون عليه من الحد ما يوجبون على فاعل ذلك بالحي (3). والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أن هذا فعل فيه شناعة وبشاعة في الشريعة وتمثيل بالأموات، وكلما زجر عنه وباعد عن فعله فهو أولى.


(1) سنن البيهقي: ج 8 ص 233 سنن الترمذي: ج 4 ص 56 ح 1455 كنز العمال ج 5 ص 338 ح 13121، مسند أحمد: ج 1 ص 269 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 856 ح 2564 سنن أبي داود ج 4 ص 159 ح 4464.
(2) الكافي: ج 7 ص 204 الفقيه ج 4 ص 47 التهذيب ج 10 ص 60 الاستبصار: ج 4 ص 222.
(3) المجموع: ج 20 ص 30.

[ 515 ]

(مسألة) [ 282 ] [ في الاستمناء ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من استمنى بيده وجب عليه أن يضرب بالدرة على يده الضرب الشديد حتى تحمر. ولم يعرف باقي الفقهاء ذلك (1). والحجة لنا ما تقدم ذكره في المسألة التي تقدمت هذه المسألة. (مسألة) [ 283 ] [ في القيادة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من قامت عليه البينة بالجمع بين النساء والرجال أو الرجال والغلمان للفجور وجب أن يجلد خمسا وسبعين جلدة ويحلق رأسه ويشهر في البلد الذي يفعل فيه ذلك، وتجلد المرأة إذا جمعت بين الفاجرين لكنها لا يحلق رأسها ولا تشهر، ولم يعرف باقي الفقهاء ذلك ولا سمعنا عنهم ولا منهم، والحجة لنا فيه إجماع الطائفة وأن ذلك أزجر وأدعى إلى مجانبة هذا الفعل القبيح الشنيع.


(1) المجموع: ج 20 ص 31.

[ 516 ]

(مسألة) [ 284 ] [ حكم الزاني المحصن ] ومما ظن انفراد الإمامية وأهل الظاهر يوافقونهم فيه القول: بأنه يجمع على الزاني المحصن بين الجلد والرجم يبدأ بالجلد ويثني بالرجم وداود مع أهل الظاهر يوافقونهم على ذلك (1)، وخالف باقي الفقهاء وقالوا: لا يجتمع الجلد والرجم بل يقتصر في المحصن على الرجم (2). دليلنا إجماع الطائفة. وأيضا لا خلاف في استحقاق المحصن الرجم وإنما الخلاف في استحقاقه الجلد، والذي يدل على استحقاقه إياه قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (3) والمحصن يدخل تحت هذا الاسم فيجب أن يكون مستحقا للجلد، وكأنه تعالى قال: اجلدوهما لأجل زناهما، وإذا كان الزنا علة في استحقاق الجلد وجب في المحصن كما وجب في غيره واستحقاقه الرجم غير مناف لاستحقاقه للجلد، لأن اجتماع الاستحقاقين لا يتنافى. وليس يمكنهم أن يدعوا دخول الجلد في الرجم كما يدعون دخول المسح في الغسل لأن من المفهوم أنه متميز منه وغير داخل فيه. فإن قالوا: هذه الآية محمولة على الابكار. قلنا: هذا تخصيص بغير دليل. فإن عولوا في تخصيصه على ما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه


(1) بداية المجتهد: ج 2 ص 469 المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 124 الشرح الكبير ج 10 ص 157.
(2) المجموع: ج 20 ص 7.
(3) سورة النور: الآية 2.

[ 517 ]

قال فإن اعترفت فارجموها (1) ولم يذكر الجلد. قلنا: هذا أولا خبر واحد غاية حاله إذا سلم من كل قدح أن يوجب الظن، وأخبار الآحاد لا تخص بها ظواهر الكتاب الموجبة للعلم. وإذا سلمناه فليس فيه أكثر من خلو الخبر من ذكر الجلد، وذلك لا يسقط وجوبه، ألا ترى أنهم كلهم يدفعون استدلال من استدل على أن الشهادة في النكاح ليست بواجبة بأن يقول: إن الله تعالى ذكر النكاح في مواضع من الكتاب ولم يذكر الشهادة ولا شرطها بأن يقولوا عدم ذكر الشهادة في آيات النكاح لا يدل على أنها ليست بواجبة، وما سبيل المحتج بذلك إلا كسبيل من قال: إن الوضوء ليس بواجب، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (2) ولم يذكر الوضوء ولم يشرطه هاهنا ولم يدل نفي اشتراطه على نفي وجوبه. فإن احتج المخالف بما رواه قتادة عن سمرة عن الحسن بن محمد أن جابرا قال كنت فيمن رجم ماعزا ولم يجلده رسول الله صلى الله عليه وآله (3). فالجواب عن ذلك أن هذا أيضا خبر واحد لا يخصص به ظواهر الكتاب الموجبة للعلم. وقد طعن في هذا الخبر بأن قتادة دلسه وقال عن سمرة ولم يقل: حدثني. وبعد فإن هذه شهادة بنفي ولا يتعلق إلا بعلمه، كأنه قال: لم أعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جلده وفقد علمه بذلك لا يدل على أنه لم


(1) صحيح البخاري: ج 8 ص 208 سنن الترمذي: ج 4 ص 39 ح 1433 سنن البيهقي: ج 8 ص 219، كنز العمال ج 5 ص 334 ح 13102 وفي الجميع: فإن اعترفت فارجمها.
(2) سنن الترمذي ج 1 ص 334 ح 177 سنن ابن ماجة: ج 1 ص 228 ح 698.
(3) كنز العمال: ج 5 ص 438 ح 13544 المغني (لابن قدامة) ج 10 ص 125 الشرح الكبير ج 10 ص 157.

[ 518 ]

يكن، وغير ممتنع أن يجلده من حيث لا يعلم. وظاهر الخبر أن جابرا عني بقوله كنت فيمن رجم ماعزا ولم يجلده رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما أراد لم يجلده في المجلس الذي رجم فيه، لأنه قال: كنت فيمن رجم ولم يجلده النبي (صلى الله عليه وآله) ولو كان قصده إلى نفي الجلد على كل حال لم يكن لقوله: كنت فيمن رجم معنى ألا ترى أن رجلا لو قال: ما أكل عمرو الطعام وهو يريد منذ ثلاثة أيام لم يجز أن يقوي قوله فأني كنت معه طول البارحة فلم يطعم وإنما يحسن هذا القول منه إذا كان يريد نفي أكله مدة ملازمته له. وقد قيل: إن غاية ما في الخبر أن ظاهره يقتضي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما باشر جلده بنفسه وذلك لا يدل على أنه لم يأمر غيره بجلده. والقول في الخبر الذي يرويه نافع عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله) رجم اليهوديين ولم يجلدا (1) يجري مجرى الكلام في هذا الخبر. على أن هذا الخبر الذي رووه معارض بما يروونه هم عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم (2)، وهذا يعارض رواياتهم ويسقط الرجوع عن ظاهر الكتاب بها، وإذا كان هذا موجودا في رواياتهم فما ترويه الشيعة (3) من ذلك لا يحصى كثرة من اجتماع الجلد والرجم.


(1) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 854 ح 2556، سنن الترمذي: ج 4 ص 43 ح 436، مسند أحمد ج 2 ص 7.
(2) سنن البيهقي: ج 8 ص 210، كنز العمال: ج 5 ص 437 ح 13509، سنن أبي داود: ج 4 ص 144 ح 4415 سنن الترمذي: ج 4 ص 41 ح 1434، سنن ابن ماجة: ج 2 ص 852 ح 2550، سنن الدارمي: ج 2 ص 181، مسند أحمد: ج 3 ص 476.
(3) التهذيب: ج 10 ص 4 و 5 و 7 ح 12 و 13 و 14 و 16 و 20، الاستبصار: ج 4 ص 200 و 201 و 203 ح 3 و 4 و 12، الوسائل: ج 18 ص 348 و 349 ح 7 و 8 و 9 و 15.

[ 519 ]

(مسألة) [ 285 ] [ تكرار الزنا ] ومما انفردت به الإمامية: القول بأن الحر البكر إذا زنا فجلد ثم عاد فجلد ثم عاد الثالثة فجلد أنه إن عاد الرابعة قتله الإمام، والعبد يقتل في الثامنة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يقولوا بشئ منه (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة، وأيضا فقد علمنا أن إيجاب القتل على من عاود إلى الرابعة أزجر وأدعى إلى تجنب ذلك وما هو أزجر من القبائح فهو أولى. ولأننا أيضا قد علمنا أن معاود الزنا بعد الجلد لا تكون حاله في الجرأة على الله والتجاسر على معصيته حاله في الأولى والثانية، بل لا بد من أن يكون كالمتهاون والمستصغر للمعاصي فمن المحال أن يكون عقابه عقاب الأول لفرق ما بينهما من فحش الذنب وعظمه وتأكده. فإن قالوا: لو استحق البكر القتل في الرابعة للحق البكر بالثيب. قلنا: الفرق بينهما أن المحصن يقتل في الأولى، ومن ليس بمحصن يقتل في الرابعة. فإن عولوا على ما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله لا يحل دم امرئ مسلم إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل النفس التي حرم الله (2)، والمعاود للزنا في الرابعة ليس بواحد منهم. قلنا: هذا خبر واحد لا يوجب علما وعملا ولا تثبت بمثله الأحكام


(1) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 197.
(2) سنن البيهقي: ج 8 ص 19 و 194، مسند أحمد: ج 1 ص 61 كنز العمال: ج 1 ص 92 ح 381، 399، سنن الدارمي: ج 2 ص 171 مع اختلاف يسير.

[ 520 ]

ويعارضه من الأخبار (1) المتضمنة للقتل في الرابعة ما هو أولى منه وأوكد، وقد يستحق القتل في الشريعة جماعة لم يدخلوا تحت لفظ هذا الخبر فغير ممتنع مثل ذلك فيمن ذكرناه. (مسألة) [ 286 ] [ تكرار شرب الخمر ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن شارب الخمر المحدود في الأولى والثانية يقتل في الثالثة، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبوا عليه قتلا في معاودة شرب الخمر على وجه من الوجوه (2). والطريقة في نصرة هذه المسألة هي الطريقة في النصرة التي قبلها بلا فصل، فلا معنى لتكرار ذلك. (مسألة) [ 287 ] [ حد شارب الفقاع ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن شارب الفقاع يحد حد شارب الخمر وتجري أحكامهما مجرى واحدا، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (3). والحجة لنا: بعد إجماع الطائفة أنه قد ثبت تحريم شرب الفقاع بما دللنا


(1) الكافي: ج 7 ص 191 ح 1، التهذيب: ج 10 ص 27 و 37 ح 86 و 129، الاستبصار: ج 4 ص 212 ح 1، الوسائل: ج 18 ص 387 ح 1.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 197.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 326 – 327 و 341.

[ 521 ]

عليه في هذا الكتاب (1)، وكل من حرمه أوجب فيه حد الخمر والتفرقة بين الأمرين خلاف إجماع الأمة. (مسألة) [ 288 ] [ معنى الاحصان ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الاحصان الموجب في الزاني الرجم هو أن يكون له زوجة أو ملك يمين يتمكن من وطئها متى شاء من غير حائل عن ذلك بغيبة أو مرض منها أو حبس دونه سواء كانت الزوجة حرة أو أمة ملية أو ذمية، لأن هذه الصفات إذا ثبتت فهو مستغن بالحلال عن الحرام، ونكاح المتعة عندنا لا يحصن على أصح الأقوال لأنه غير دائم ومعلق بأوقات محدودات، وفرقوا بين الغيبة والحيض، لأن الحيض لا يمتد وربما إمتدت الغيبة، ولأنه قد يتمتع من الحائض بما دون موضع الحيض وليس كذلك الغائبة. وقد خالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه الاحصان أن يكونا حرين مسلمين بالغين قد جامعها وهما بالغان (2). وروي عن أبي يوسف أن المسلم يحصن النصرانية ولا تحصنه (3)، وروي عنه أيضا أن النصراني إذا دخل بامرأته النصرانية ثم أسلما أنهما محصنان بذلك الدخول (4).


(1) في ص 348.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 128 و 130 الشرح الكبير: ج 10 ص 161 بداية المجتهد ج 2 ص 470 المجموع: ج 20 ص 16 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 139.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 9 ص 41 اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ج 1 ص 139.
(4) المصدر السابق.

[ 522 ]

وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال قال ابن أبي ليلى إذا زنا اليهودي والنصراني بعد ما أحصنا فعليهما الرجم (1). وقال أبو يوسف وبه نأخذ (2). وقال مالك: تحصن الأمة الحر ويحصن العبد الأمة (3) الحرة ولا تحصن الحرة العبد، وتحصن اليهودية والنصرانية المسلم وتحصن الصبية الرجل وتحصن المجنونة العاقل، ولا يحصن الصبي المرأة، ولا يحصن العبد الأمة إذا جامعها في حال الرق، ثم أعتقا لم يكونا محصنين بذلك الجماع حتى يجامعها بعد العتق (4). وقال مالك: إذا تزوجت الحرة خصيا وهي لا تعلم أنه خصي فوطئها ثم علمت أنه خصي فلها أن تختار فراقه ولا يكون ذلك الوطء إحصانا (5). وقال الثوري: لا يحصن بالنصرانية ولا المملوكة (6) (7). وقال الأوزاعي في العبد تحته حرة: إذا زنا فعليه الرجم، فإذا كانت تحته أمة فأعتق ثم زنا فليس عليه الرجم حتى ينكح غيرها. وقال في الجارية التي لم تحصن أنها تحصن الرجل والغلام الذي لم يحتلم لا يحصن المرأة، ولو تزوج امرأة فإذا هي أخته من الرضاعة فهذا إحصان (8).


(1) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 139.
(2) المصدر السابق.
(3) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(4) بداية المجتهد: ج 2 ص 470 المجموع: ج 20 ص 15 اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 139.
(5) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 139.
(6) الشرح الكبير: ج 10 ص 162، المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 129، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 139.
(7) في ” ألف ” و ” ب “: ولا اليهودية ولا المملوكة.
(8) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 127 الشرح الكبير: ج 10 ص 160، المحلى: ج 11 ص 239، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 139 و 140.

[ 523 ]

وقال الحسن بن حي: لا يكون محصنا بالكافرة ولا الأمة ولا يحصن إلا بالحرة المسلمة، وتحصن المشركة بالمسلم، ويحصن المشركان كل واحد منهما لصاحبه (1) وقال الليث في الزوجين المملوكين: لا يكونان محصنين حتى يدخل بها بعد عتقهما، فإن تزوج امرأة في عدتها فوطئها ثم فرق بينهما فهذا إحصان. وقال: في النصرانيين: لا يكونان محصنين حتى يدخل بها بعد إسلامهما (2). وقال الشافعي: إذا دخل بامرأته وهما كافران فهذا إحصان (3). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: بعد إجماع الطائفة أن الاحصان اسم شرعي تحته حكم شرعي بغير شبهة، ولا خلاف في أن الحر المسلم إذا كان عنده زوجة كذلك يتمكن من وطئها بغير مانع عنه فإنه محصن. وادعى من خالفنا الاحصان في مواضع أخر خالفناهم فيها فعليهم الدلالة الشرعية على ذلك، وإنما يرجعون فيه إلى الآراء والظنون وبمثل ذلك لا تثبت الأحكام الشرعية. فإن قالوا: أيضا أنتم تدعون ثبوت حكم الاحصان في موضع الخلاف مثل إحصان المملوكة والذمية. قلنا: دليلنا على لحوق هذا الحكم في تلك المواضع التي فيها الخلاف هو إجماع الطائفة المبني على العلم اليقين دون الظن، فكأن موضع الوفاق لنا عليه دليل إجماع الطائفة مضافا إلى إجماع الأمة، والمواضع التي يدعي مخالفنا ثبوت الاحصان فيها ونحن ننفيه دليلنا على نفيه أنه حكم شرعي ولا دليل شرعي


(1) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 140.
(2) فتح الباري: ج 12 ص 118 اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ج 1 ص 140.
(3) المغني (لابن قدامة) ج 1 ص 129 الشرح الكبير: ج 10 ص 162 المبسوط (للسرخسي): ج 9 ص 39 بداية المجتهد: ج 2 ص 470 المجموع ج 2 ص 16 الهداية شرح البداية: ج 2 ص 98، اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 140.

[ 524 ]

يقتضي ثبوته، وما ندعي ثبوت الاحصان فيه ويخالفوننا في ثبوته نرجع (1) إلى دليل إجماع الطائفة. (مسألة) [ 289 ] [ الزنا بذات محرم ] ومما انفردت به الإمامية أن من زنى بذات محرم ضربت عنقه محصنا كان أو غير محصن، ومن عقد على واحدة منهن وهو عارف برحمه منها فوطئها استحق ضرب العنق وحكمه حكم الواطئ لهن بغير عقد. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة والثوري: فيمن عقد على ذات محرم ووطئ إنه لا يحد ويعزر (2). وقال أبو يوسف ومحمد: يحد إذا علم بتحريمها عليه (3). وقال مالك: يحد ولا يلحق نسب الولد به وإن لم تعلم هي بذلك، وإن كانت هي قد علمت وهو لا يعلم ألحقت به الولد وأقيم عليه الحد (4). وقال ابن شبرمة من أقر أنه تزوج امرأة في عدتها وهو يعلم أنها محرمة


(1) في ” ألف ” و ” ب “: في ثبوته.
(2) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 153، المغني (لابن قدامة): ج 1 ص 152، الشرح الكبير: ج 10 ص 186 المبسوط (للسرخسي): ج 9 ص 85 المحلى: ج 11 ص 253 الهداية على البداية: ج 2 ص 102.
(3) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 151 المغني (لابن قدامه): ج 10 ص 152، الشرح الكبير: ج 10 ص 186 المبسوط (للسرخسي): ج 9 ص 85 المحلى: ج 11 ص 253 الهداية على البداية: ج 2 ص 102.
(4) اختلاف الفقهاء (للطحاوي): ج 1 ص 153.

[ 525 ]

ضربته ما دون الحد، وكذلك المتمتع (1). وقال الأوزاعي في الذي يتزوج بالمجوسية والخامسة والأختين: إن كان جاهلا ضرب مائة وألحق به الولد، وإن كان متعمدا رجم ولا يلحق به الولد (2). وقال الحسن بن حي: فيمن تزوج امرأة في العدة وهو لا يعلم أنها لا تحل له أو ذات محرم منه: أقيم عليه الحد إذا وطئ وهو قول الشافعي (3). قال الشافعي: وإن ادعى الجهالة بأن لها زوجا أو أنها في عدة حلف ودرئ عنه الحد (4). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة، ولأن تغليظ الحد أزجر عن الفعل المحدود عليه. ومما يمكن أن يعارض به ما هو موجود في رواياتهم عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من وقع على ذات رحم له فاقتلوه، (5) ولم يفرق بين أن يقع عليها بنكاح أو غيره. ولا يجوز أن يحمل هذا الخبر على أن المراد به أنه إذا وقع عليها وهو معتقد لإباحة الفعل لأن الخبر عام وتخصيصه يحتاج إلى دليل، ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) اختص ذوات المحارم والأجانب فيما ذكروه كذوات المحارم، لأن من وقع على أجنبية محرمة، واعتقد إباحة وقوعه عليها كان بذلك كافرا على كل حال. ومما يوجد في رواياتهم حديث البراء في رجل تزوج امرأة أبيه، قال أبو بردة: فأمرني النبي (صلى الله عليه وآله) أن أقتله (6).


(1) اختلاف الفقهاء: ج 1 ص 153.
(2) و (3) و (4) المصدر السابق.
(5) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 856 ح 2564 مسند أحمد: ج 1 ص 300 سنن الترمذي: ج 4 ص 62 ح 1462 سنن البيهقي: ج 8 ص 234 و 237 كنز العمال: ج 5 ص 339 ح 13122 و 13125.
(6) كنز العمال: ج 16 ص 516 و 517 ح 45697 و 45698 و 45703 مسند أحمد: ج 4 ص 292 سنن =

[ 526 ]

وقول أبي حنيفة إن الحدود تسقط بالشبهات، وإنه إن عقد على ذات محرم مع العلم بحالها كان هذا عقدا بشبهة (1)، طريف لأنه لا شبهة في هذا العقد إذا فرضنا أنه عالم بأنها ذات محرم، لأن الحد إنما يبطل بشبهة ترجع إلى الفاعل وهو اعتقاده إباحة الوطء أو لشبهة تعود إلى المفعول به، وهو أن يكون في الموطوءة ملك أو شبهة ملك أو لشبهة في الفعل بأن يختلف في إباحته ولم يوجد أحد هذه الأمور هاهنا. فإذا قال: هاهنا شبهة عقد، قيل: العقد لم يبح الوطء ولم يزل الحكم عن تحريمه فلا يكون شبهة في سقوط الحد. (مسألة) [ 290 ] [ لو زنا الذمي بمسلمة ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن الذمي إذا زنى بالمسلمة ضربت عنقه وأقيم على المسلمة الحد إن كانت محصنة جلدت ثم رجمت، وإن كانت غير محصنة جلدت مائة جلدة، وما نعرف موافقا لنا من باقي الفقهاء في ذلك (2). والوجه في صحة قولنا زائدا على إجماع الطائفة أن هذا الفعل من الذمي خرق للذمة وامتهان للاسلام وجرأة على أهله، ولا خلاف في أن من خرق الذمة كان مباح الدم. فإن قيل: كيف يقتل من لم يكن قاتلا؟


= أبي داود: ج 4 ص 157 ح 4457 سنن الدارمي: ج 2 ص 153 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 869 ح 2607. (1) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 152 الشرح الكبير: ج 10 ص 186.
(2) المجموع: ج 20 ص 19.

[ 527 ]

قلنا: كما نقتله مع الاحصان وليس بقاتل ويقتل المرتد وليس بقاتل. وبعد فإذا جاز أن يتغلظ في الشريعة حكم زنا في المحصن حتى يلحق بأخذ النفس فما المنكر من أن يتغلظ أيضا زنا الذمي بالمسلمة حتى يلحق بوجوب تناول النفس. (مسألة) [ 291 ] [ لو زنا بامرأة إكراها ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من غصب امرأة على نفسها ووطئها مكرها لها ضربت عنقه محصنا كان أو غير محصن، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وأيضا إن من المعلوم أن هذا الفعل أفحش وأشنع في الشريعة وأغلظ من الزنا مع التراضي فيجب أن يكون الحد فيه أغلظ وأزجر. (مسألة) [ 292 ] [ حكم من زنا بجارية أبيه أو ابنه ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من زنا بجارية أبيه جلد الحد، وإن زنا الأب بجارية ابنه أو بنته لم يجلد الحد لكنه يعزر بحسب ما يراه السلطان. ولم يعرف باقي الفقهاء ذلك (2).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 159.
(2) المغني (لابن قدامة) ج 10 ص 156 – 157.

[ 528 ]

والوجه في صحة قولنا: زائدا على إجماع الطائفة أنه غير ممتنع أن تكون حرمة الأبوة وما عظمه الله تعالى من شأنها يقتضي إسقاط الحد في هذا الموضع، كما أسقطنا الحد في قتل رجل لابنه، وإذا كانت المصلحة لا يمتنع أن تقتضي ما ذكرناه، وأجمعت الطائفة عليه وفي إجماعها الحجة، وظهرت الروايات فيها به وجب العمل عليه. (مسألة) [ 293 ] [ حد السارق ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن السارق يجب قطع يده من أصول الأصابع وتبقى له الراحة والابهام وفي الرجل يقطع من صدر القدم ويبقى له العقب. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا كلهم إلى أن قطع اليد من الرسغ والرجل من المفصل من غير تبقية قدم (1)، وذهب الخوارج إلى أن القطع من المرفق (2)، وروي عنهم أنه من أصل الكتف (3)، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتردد أن الله تعالى أمر بقطع يد السارق بظاهر الكتاب (4) واسم اليد يقع على هذا العضو من أوله إلى آخره، ويتناول كل بعض منه، ألا ترى أنهم يسمون كل من عالج شيئا بأصابعه أنه فعل


(1) المجموع: ج 20 ص 97.
(2) لم نعثر عليه.
(3) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 ص 421.
(4) سورة المائدة: الآية 38.

[ 529 ]

شيئا بيده، قال الله تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) (1) كما يقولون فيمن عالج شيئا براحته: إنه قد فعل بيده، وآية الطهارة (2) تتضمن التسمية باليد إلى المرافق. فإذا وقع اسم اليد على هذه المواضع كلها، وأمر الله تعالى بقطع يد السارق ولم ينضم إلى ذلك بيان مقطوع عليه في موضع القطع وجب الاقتصار على أقل ما يتناوله الإسم، لأن القطع والاتلاف محظور عقلا، فإذا أمر الله تعالى به ولا بيان وجب الاقتصار على أقل ما يتناوله الاسم. وأقل ما يتناوله الاسم ومما وقع الخلاف فيه هو ما ذهبت الإمامية إليه. فإن قيل: هذا يقتضي أن يقتصر على قطع أطراف الأصابع ولا يوجب أن يقطع من أصولها. قلنا: الظاهر يقتضي ذلك والاجماع منع منه. فإن احتج المخالف بما يروونه من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قطع من الكوع (3). قلنا: هذا [ خبر واحد ] (4) ما ثبت على وجه يوجب اليقين وإنما هو من أخبار الآحاد، ويعارضه ما رويناه (5) مما يتضمن خلاف ذلك وقد روى الناس كلهم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قطع من الموضع الذي ذكرناه (6) ولم نعرف له مخالفا في الحال ولا منازعا له.


(1) سورة البقرة: الآية 79.
(2) سورة المائدة: الآية 6.
(3) سنن البيهقي: ج 8 ص 270.
(4) ساقط من ” ألف ” و ” ب “.
(5) الكافي: ج 7 ص 222، الفقيه: ج 4 ص 64 ح 5115، التهذيب: ج 10 ص 102 و 103 ح 15 و 16 و 17، الوسائل: ج 18 ص 489.
(6) كنز العمال: ج 5 ص 522 ح 13923 و 13925، المحلى: ج 11 ص 357 تفسير العياشي: ج 1 ص 318 ح 103 الوسائل: ج 18 ص 491 ح 6.

[ 530 ]

(مسألة) [ 294 ] [ تكرار السرقة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من سرق ما يبلغ نصاب القطع من حرز قطعت يمينه من الموضع الذي ذكرناه فإن سرق ثانية قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة بعد قطع رجله اليسرى خلد في الحبس إلى أن يموت أو يرى الإمام رأيه، فإن سرق في الحبس من حرز ما هو نصاب القطع ضربت عنقه. وليس لأحد من باقي الفقهاء هذا التفصيل لأن الشافعي يقول: إذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى، وإذا سرق ثالثة قطعت يده اليسرى (1). وأبو حنيفة يذهب إلى أن رجله اليسرى تقطع في الثانية، وفي الثالثة يحبس (2)، فكأن أبا حنيفة قد ساوانا في إيجابه في الثالثة الحبس دون القطع إلا أنه يخالفنا في إيجاب القتل عليه متى سرق بعد ذلك. وقوله أقرب إلى أقوالنا على كل حال، وانفرادنا بالترتيب الذي رتبناه ظاهر. ومما يمكن أن يعارضوا به أن قتل السارق موجود في رواياتهم لأنهم يروون عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قتل السارق في الخامسة (3). وقد روى مخالفونا في كتبهم أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعمر بن


(1) المغني (لابن قدامة): ج 10 ص 271، الشرح الكبير: ج 10 ص 294، بداية المجتهد: ج 2 ص 489، المجموع: ج 20 ص 103، الهداية على البداية: ج 2 ص 126.
(2) الهداية على البداية: ج 2 ص 126.
(3) سنن أبي داود: ج 4 ص 142 ح 4410 سنن البيهقي: ج 8 ص 272، جامع الأصول (لابن الأثير): ج 4 ص 322 ح 1890، سنن الدارقطني: ج 3 ص 180 ح 289.

[ 531 ]

عبد العزيز قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه (1). وقد روى من يخالفنا في قتل السارق إذا تكررت سرقته أخبارا (2) معروفة فكيف ينكرون علينا ما هو موجود في رواياتهم؟ ومن يتأول تلك الأخبار على أنه يجوز أن يكون القتل فيهما للقود لا للسرقة تارك للظاهر بعيد للتأويل والظاهر يقضي عليه ويبطل قوله. (مسألة) [ 295 ] [ لو اشترك جماعة في السرقة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه إذا اشترك نفسان أو جماعة في سرقة ما يبلغ النصاب من حرز قطع جميعهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (3). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد. وأيضا قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (4) والظاهر يقتضي أن القطع إنما وجب بالسرقة المخصوصة وكل واحد من الجماعة يستحق هذا الاسم فيجب أن يستحق القطع.


(1) المغني (لابن قدامة) ج 10 ص 271 الشرح الكبير ج 10 ص 294.
(2) سنن البيهقي ج 8 ص 272 سنن أبي داود: ج 4 ص 142 ح 4410 جامع الأصول (لابن الأثير): ج 4 ص 322 ح 1890 و 1891 كنز العمال: ج 5 ص 383 و 538 و 555 ح 13861 و 13934.
(3) المجموع: ج 20 ص 83.
(4) سورة المائدة: الآية 38.

[ 532 ]

” مسألة ” [ 296 ] [ لو ضرب امرأة فألقت حملها ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من ضرب امرأة فألقت نطفة كان عليه ديتها عشرون دينارا. فإن ألقت علقة فأربعون دينارا فإن ألقت مضغة فستون دينارا. فإن ألقته عظما مكتسيا لحما فثمانون دينارا فإن ألقت جنينا لم ينفخ فيه الروح فمائة دينار. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يعرفون الترتيب الذي ذكرناه (1). دليلنا على صحة ذلك: إجماع الطائفة، وأنه غير ممتنع أن تتعلق المصلحة بما ذكرناه فإن الأحكام تابعة للمصالح وإن امتنعوا من جواز تعلق المصلحة بالترتيب الذي رتبناه طولبوا بالدليل على امتناعهم فإنهم لا يجدونه، وإذا أقروا بجواز تعلق المصلحة به فلا بد من ذلك. قلنا: إذا أجمعت الطائفة على هذه الأحكام وانتشرت في رواياتها وأحاديثها (2) وجب القول بها، وعلى أقل الأحوال سقط التعجب الشديد منكم والشناعة وأنكم تكثرون العجب من أقوالنا هذه ولا وجه يقتضيه إلا الهوى. ” مسألة ” [ 297 ] [ لو أفزع رجلا في حال الجماع ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من أفزع رجلا وهو مخالط لزوجته حتى


(1) المجموع: ج 19 ص 57.
(2) الكافي: ج 7 ص 342 الفقيه: ج 4 ص 75 ح 1 التهذيب ج 10 ص 281 و 282 و 283 و 285 ح 2 و 3 و 4 و 5 و 9 الارشاد (للشيخ المفيد): ص 119، الوسائل: ج 19 ص 237.

[ 533 ]

عزل الماء عنها لأجل إفزاعه إياه فعليه عشر دية الجنين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يرضوا بالخلاف حتى عجبوا منه وشنعوا به. والطريقة التي ذكرناها في المسألة المتقدمة لهذه بلا فصل هي الحجة في المسألتين ومزيلة للتعجب منهما. ” مسألة ” [ 298 ] [ لو اشترك جماعة في القتل ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الاثنين أو ما زاد عليهما من العدد إذا قتلوا واحدا فإن أولياء الدم مخيرون بين أمور ثلاثة: أحدها أن يقتلوا القاتلين كلهم ويؤدوا فضل ما بين دياتهم ودية المقتول إلى أولياء المقتولين، والأمر الثاني أن يتخيروا واحدا منهم فيقتلوه ويؤدي المستبقون ديته إلى أولياء صاحبهم بحساب أقساطهم من الدية فإن اختار أولياء المقتول أخذ الدية كانت على القاتلين بحسب عددهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وإن اختلفت أقوالهم. فقال معاذ بن جبل وابن الزبير وداود بن علي: إن الجماعة لا تقتل بواحد ولا الاثنان بواحد (1). وقال باقي الفقهاء من أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ومن عداهم: إن الجماعة إذا اشتركت في القتل قتلت بالواحد (2) غير أنهم لم يذهبوا إلى


(1) المجموع: ج 18 ص 369 المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 366 الشرح الكبير: ج 9 ص 334 بداية المجتهد: ج 2 ص 432.
(2) بداية المجتهد: ج 2 ص 432 الشرح الكبير: ج 9 ص 334 المجموع ج 18 ص 369، المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 366.

[ 534 ]

ما ذهبت الإمامية إليه من تحمل دية من زاد على الواحد ودفعها إلى أولياء المقتولين وهذا موضع الانفراد. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، ولأن ما ذكرناه أشبه بالعدل، لأن الجماعة إنما أتلفت نفسا واحدة فكيف تؤخذ النفوس الكثيرة بالنفس الواحدة؟ وإذا اتبعنا في قتل الجميع بالواحد الروايات (1) المتظاهرة الواردة بذلك فلا بد فيما ذكرته الإمامية من الرجوع بالدية. وكلامنا في هذه المسألة مع من أنكر قتل الجماعة بواحد من داود بن علي ومن وافقه من معاذ (2) وابن الزبير ومع باقي الفقهاء الذين ذهبوا إلى قتل الجماعة بواحد من غير أن يلتزم دية لورثة المقتولين. والذي يدل على الفصل الأول زائدا على إجماع الطائفة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) (3) ومعنى هذا أن القاتل إذا علم أنه إن قتل قتل كف عن القتل، وكان ذلك أزجر له عنه، وكان داعيا إلى حياته وحياة من هم بقتله، فلو أسقطنا القود في حال الاشتراك سقط هذا المعنى المقصود بالآية، وكان من أراد قتل غيره من غير أن يقتل به شارك غيره في قتله فسقط القود عنهما. ومما يمكن معارضة من ذهب إلى هذا المذهب به ما يروونه ويوجد في كتبهم في خبر أبي شريح الكعبي من قوله عليه السلام فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيارين (4)، إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية (5)، ولفظة (من) يدخل تحته


(1) الكافي: ج 7 ص 283، الفقيه ج 4 ص 111 و 115 و 116 و 5217 و 5230 و 5232، التهذيب: ج 10 ص 217 و 218 ح 1 و 2 و 3 و 4 و 5، الاستبصار: ج 4 ص 281، الوسائل: ج 19 ص 29.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: معاذ بن جبل.
(3) سورة البقرة: الآية 179.
(4) في ” ألف ” وهامش المعتمدة خيرتين.
(5) سنن الدارقطني: ج 3 ص 96 ح 55 سنن البيهقي: ج 8 ص 52 مسند أحمد: ج 6 ص 385، سنن أبي داود: ج 4 ص 172 ح 4504، سنن الترمذي: ج 4 ص 21 ح 1406.

[ 535 ]

الواحد والجماعة دخولا واحدا. ويمكن أن يستدل أيضا على من خالف في قتل الجماعة بواحد بقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1)، والقاتلون إذا كانوا جماعة فكلهم معتد فيجب أن يعاملوا بمثل ما عاملوا به القتيل. فإن قالوا الله تعالى يقول: (النفس بالنفس) (2) (والحر بالحر) (3)، وهذا ينفي أن يؤخذ نفسان بنفس وحران بحر. قلنا: المراد بالنفس والحر هاهنا الجنس لا العدد، فكأنه تعالى قال: إن جنس النفوس تؤخذ بجنس النفوس، وكذلك جنس الأحرار، والواحد والجماعة يدخلون في ذلك. فإن قيل: إذا اشتركت الجماعة في القتل فليس كل واحد من الجماعة منهم قاتلا وليس يجوز أن يقتل من ليس بقاتل. قلنا: كل واحد من الجماعة قاتل في حال الاشتراك ويطلق عليه هذا الاسم، فكيف ظننتم أنا لا نطلق أن كل واحد قاتل؟ فإذا قالوا فالقاتل لا بد له من مقتول فكيف يقولون في الجماعة؟ قلنا: مقتول الجماعة واحد وإن كان القتلة جماعة وكل واحد من القاتلين هو قاتل للنفس التي قتلها القاتل الآخر، ويجري ذلك مجرى جماعة حملوا جسما فكل واحد منهم حامل ومحمول الجماعة واحد وهو الجسم، وكذلك مقتول الجماعة المشتركين في القتل واحد، وإن كان فعل أحدهم غير فعل صاحبه، كما كان حمل كل واحد من حاملي الجسم غير حمل صاحبه وفعله غير فعله، وإن


(1) سورة البقرة: الآية 194.
(2) سورة المائدة: الآية 45.
(3) سورة البقرة: 178.

[ 536 ]

كان المحمول واحدا، وبيان هذه الجملة أن القتل إذا كان على ما ذكرناه في مواضع كثيرة من كلامنا هو نقض البنية التي لا تبقي الحياة مع نقضها، وكان نقض هذه البنية قد يفعله الواحد منا منفردا وقد يشترك الجماعة في نقض بنية الحياة فيكونون كلهم ناقضين لها ومبطلين الحياة، وهذا هو معنى القتل، فثبت أنه قد وجد من كل واحد من الجماعة معنى القتل وحقيقته فيجب أن يسمى قاتلا. ووجدت لبعض من نصر هذا المذهب أعني القول بجواز قتل الجماعة بالواحد كلاما سأل فيه نفسه فقال: إذا كان كل واحد من الجماعة قاتلا فينبغي أن يكون كل واحد منهم قاتلا لنفس غير النفس التي قتلها صاحبه. وأجاب عن هذا الكلام بأن قال: كل واحد من الجماعة قاتل لكنه ليس بقاتل نفس كما أن الجماعة إذا أكلت رغيفا فكل واحد منهم آكل لكن ليس بآكل رغيف (1). وهذا غلط من هذا القائل، لأن كل واحد من الجماعة إذا اشتركوا في القتل قاتل كما قال، فلا بد أن يكون قاتل نفس فكيف يكون قاتلا وما قتل نفسا؟ غير أن النفس التي قتلها واحد من الجماعة هي النفس التي قتلها شركاؤه فالنفس واحدة والقتل مختلف كما قلناه في الجسم المحمول. وليس كذلك الرغيف لأن الجماعة إذا أكلت رغيفا فكلهم أكل، وليس كل واحد منهم آكل رغيف وإنما أكلت الجماعة الرغيف وكل واحد منهم إنما أكل بعضه لأن الرغيف يتبعض النفس لا تتبعض، كما أن حمل الجسم الثقيل لا يتبعض فما يحمله كل واحد من الجماعة هو الذي يحمله الآخر، وكذلك يجب أن يكون من قتله واحد من الجماعة إذا اشتركوا في القتل


(1) لم نعثر عليه.

[ 537 ]

هو الذي قتله كل واحد منهم. وتحقيق هذا الموضع ليس من عمل الفقهاء، ولا مما يهتدون إليه لفقد علمهم بأصوله فلا يجب أن يتعاطوه فيفتضحوا. فإن قيل: قد ثبت أن الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب لم يلزم كل واحد منهم القطع وإن كان كل واحد منهم إذا انفرد بسرقته لزمه القطع فأي فرق بين ذلك وبين القتل مع الاشتراك؟ قلنا: الذي نذهب إليه وإن خالفنا فيه الجماعة إنه إذا اشترك نفسان في سرقة شئ من حرز وكان قيمة المسروق ربع دينار فصاعدا فإنه يجب عليهما القطع معا، فقد سوينا بين القتل والقطع وإنما ينبغي أن يسأل عن الفرق بين الأمرين من فرق بينهما. فإن قالوا: لما لم يجب على كل واحد من الجماعة إذا اشتركوا في قتل الخطأ دية كاملة لم يجب عليهم قصاص كامل. قلنا: الدية تتبعض فيمكن تقسيطها عليهم، والقصاص لا يتبعض. فأما الكلام على من شاركنا من الفقهاء في قتل الجماعة بالواحد وانفرادنا عنه بذلك الترتيب الذي رتبناه فهو أنا نقول: هذه الجماعة إنما قتلت نفسا واحدة وإن اشتركوا في قتلها، وإذا أخذت الأنفس الكثيرة بتلك النفس على ما ورد به الشرع فلا بد مما ذكرناه من رد الدية على أولياء المقتولين حتى تخلص نفس واحدة بنفس واحدة، ويسلم مع ذلك جواز قتل الجماعة بواحدة. فإن قالوا: نرى من مذهبكم هذا عجبا لأنكم توجبون قتل الجماعة بالواحد وتذهبون إلى أن هذا القتل مستحق لا محالة. وإذا كان قتلا مستحقا كيف يجوز أن يؤخذ بإزائه دية؟ أو ليس قتل الواحد بالواحد لما كان مستحقا لم يكن فيه دية تعود على أحد؟ قلنا: هذا القتل وإن كان مستحقا بمعنى أنه يحسن من ولي الدم أن يطالب


[ 538 ]

به فغير ممتنع أن يكون الشرط في حسنه ما ذكرناه من إعطاء الدية، وأن تكون المصلحة اقتضت الترتيب الذي ذكرناه، فوجوه المصالح غير مضبوطة ولا محدودة. والزجر والردع عن قتل الجماعة للواحد على سبيل الاشتراك ثابت، لأنه لا فرق في زجر الجماعة عن الاشتراك في قتل الواحد بين أن يقتل به ولا دية راجعة على أحد وبين أن يقتل به مع رجوع الدية على الوجه الذي ذكرناه، أنه متى علم أنه متى قتل قتل واستحق القتل مع الانفراد والاشتراك كان ذلك أزجر له عن القتل. فإن احتج من نفى قتل الجماعة بالواحد بما يروونه عن جويبر عن الضحاك أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا يقتل اثنان بواحد (1). وهذا الخبر إذا سلم من كل قدح وتضعيف لا يرجع بمثله عن الأدلة الموجبة للعلم، وقد ضعفه أهل النقل وطعنوا على رواته، مع أن الضحاك روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) مرسلا. وقد تأوله قوم على أن المراد به أنه لا يقتل اثنان بواحد إذا كان أحدهما خاطئا. ومما يقوي المذهب الذي إختصصنا به أنه لا خلاف في أن الواحد إذا قتل جماعة لم يكافئ دمه دماءهم حتى يكتفي بقتله عن جماعتهم بل يقتل بواحد منهم وتجب الدية للباقين فيجب في الجماعة إذا قتلت واحدا مثل هذا الاعتبار حتى يكونوا متى قتلوا به عاد على أولياء الباقين (2) الدية المأخوذة من قاتل الجماعة بالواحد، لأن دم الواحد لا يكافئ دم الجماعة ولا ينوب منابها فكذلك يجب في دم الجماعة والواحد.


(1) الحاوي: ج 12 / 27.
(2) في ” ألف ” و ” ب “: المقتولين.

[ 539 ]

(مسألة) [ 299 ] [ قتل المرأة ] ومما انفردت به الإمامية: أن الرجل إذا قتل المرأة عمدا واختار أولياؤها الدية كان على القاتل أن يؤديها إليهم وهي نصف دية الرجل فإن اختار الأولياء لقود وقتل الرجل بها كان لهم ذلك على أن يؤدوا إلى ورثة الرجل المقتول نصف الدية ولا يجوز لهم أن يقتلوه إلا على هذا الشرط. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبوا على من قتل الرجل بالمرأة شيئا من الدية (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد، ولأن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل بل هي على النصف منها فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالناقصة أن يرد فضل ما بينهما. (مسألة) [ 300 ] [ تعاون الجماعة في القتل ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الثلاثة إذا قتل أحدهم وأمسك الآخر وكان الثالث عينا لهم حتى فرغوا أنه يقتل القاتل ويحبس الممسك أبدا حتى يموت وتسمل عين الناظر لهم. وقد روي عن ربيعة الرأي أنه يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت (2) وهذه موافقة للإمامية


(1) المجموع: ج 18 ص 354.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 477 الشرح الكبير: ج 9 ص 343 المجموع: ج 18 ص 383 و 384.

[ 540 ]

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أمسك رجلا حتى قتله آخر إن القود على القاتل دون الممسك ويعزر الممسك. وقال ابن وهب عن مالك إذا أمر الرجل عبده أن يقتل رجلا وقتله، فإن كان العبد أعجميا قتل السيد، وإن كان غير أعجمي قتل العبد (2). وقال ابن القاسم عن مالك في الممسك للرجل حتى يقتله غيره أن عليهما جميعا القصاص لأن الماسك قد أراد قتله، وقال الليث بمثل قول مالك (3). وقال الليث فإن أمسكه ليضربه فقتله قتل القاتل وعوقب الآخر. وقال الليث: لو أمر غلامه أن يقتل رجلا فقتله قتلا جميعا به (4). وحكى المزني عن الشافعي أنه يقتل الذابح دون الممسك، كما يجلد (5) الزاني دون الممسك (6). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد، وأيضا فإنا نرجع في الترتيب الذي ذكرناه إلى نص وتوقيف ومخالفنا يرجع إلى وظن ورأي وحسبان وكيف يجوز أن يقتل الممسك وليس بقاتل؟ ومما يمكن أن يعارضوا به ما رووه وهو موجود في كتبهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: فيمن قتل غيره وأمسك الآخر: إنه يقتل القاتل ويصبر


(1) الشرح الكبير: ج 9 ص 344، المجموع: ج 18 ص 383، المحلى: ج 10 ص 512، المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 478.
(2) لم نعثر عليه.
(3) المحلى: ج 10 ص 512 الشرح الكبير ج 9 ص 344 المجموع ج 18 ص 383 و 384، المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 477.
(4) لم نعثر عليه.
(5) في ” ألف ” و ” ب “: يحد.
(6) المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 478، الشرح الكبير: ج 9 ص 344، المحلى: ج 10 ص 512.

[ 541 ]

الصابر (1)، وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام معناه يحبس الممسك، لأن الصبر في اللغة الحبس (2). فإن احتجوا بما يروونه عن عمر بن الخطاب أنه قتل تسعة بواحد ثم قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم (3) أي: تعاون، والامساك معاونة للقتل لا محالة فينبغي أن يستحق به القتل. قلنا: هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ولا يرجع بمثله عن الأدلة الموجبة للعلم. ومعنى المتمالي في الخبر هو المشاركة في القتل والتعاون عليه، وإذا كان الممسك ليس بشريك في القتل فلا يجوز أن يستحق القتل. فإن قيل: الممسك والذابح تعاونا على القتل فلزمهما القود، كما لو جرحاه جميعا فمات. قلنا: الممسك غير معاون على القتل ولا شريك فيه، وإنما هو ممكن من الفعل والتمكين لا يتعلق به حكم الفعل الممكن منه، ألا ترى أن من أمسك امرأة حتى زنى بها غيره لا يلزمه حكم الزنا الذي هو الحد. على أن الجارحين لو انفرد كل واحد منهما بالفعل لزمهما (4) القود وكذلك إذا شارك، والممسك لو انفرد بالامساك لم يلزمه القود فلم يلزم مع المشاركة. فإن قيل: قد اتفقنا على أن المحرم إذا أمسك صيدا فقتله آخر أن الضمان يلزم كل واحد منهما وأي فرق بين ذلك وبين إمساك الآدمي للقتل؟ قلنا: إنما لزمه ضمان الصيد بالامساك، لأن الصيد مضمون باليد، ألا ترى أنه لو أمسكه فمات في يده لزمه ضمانه وبالامساك قد حصلت له عليه يد،


(1) كنز العمال: ج 15 ص 10 ح 39839 سنن البيهقي: ج 8 ص 51 سنن الدارقطني: ج 3 ص 140.
(2) سنن البيهقي: ج 8 ص 51.
(3) سنن الدارقطني ج 3 ص 202 ح 360 الموطأ: ج 2 ص 871 ح 13 سنن البيهقي: ج 8 ص 40. (4) في ” ب “: لزمهم.

[ 542 ]

والآدمي لا يضمن باليد، لأنه لو أمسكه حتى مات في يده لم يلزمه ضمانه، وكذلك إذا أمسكه فقتله آخر. (مسألة) [ 301 ] [ لو قطع رأس الميت ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من قطع رأس ميت فعليه مائة دينار لبيت المال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتكرر. وإذا قيل: كيف يلزمه دية وغرامة، وهو ما أتلف عضوا لحي؟ قلنا: لا يمتنع أن يلزمه ذلك على سبيل العقوبة لأنه قد مثل بالميت بقطع رأسه فاستحق العقوبة بلا خلاف، فغير ممتنع أن تكون هذه الغرامة من حيث كانت مؤلمة له، وتألمه يجري مجرى العقوبة ومن جملتها. (مسألة) [ 302 ] [ المعتاد لقتل أهل الذمة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من كان معتادا لقتل أهل الذمة مدمنا لذلك، فللسلطان أن يقتله بمن قتل منهم إذا اختار ذلك ولي الدم ويلزم أولياء الدم فضل ما بين دية المسلم والذمي، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يعرفوه (2).


(1) لم نعثر عليه.
(2) لم نعثر عليه.

[ 543 ]

دليلنا على صحته الإجماع المتردد، ولأن ولي الدم للذمي إذا اختار قتل المسلم فقد أخذ نفسا كاملة بنفس ناقصة فلا بد إذا من أداء الفضل بين القيمتين كما قلناه في المرأة والرجل. فإن قيل: فأنتم تمنعون أن يقتل المسلم بالكافر وقد أجزتموه هاهنا. قلنا: نحن نمنع من ذلك فيمن لم يكن معتادا للقتل فأما المعتاد له والمصر عليه فغير ممتنع أن يختلف حكمه، وأن يستحق ما لا يستحقه من لم يكن لذلك معتادا. (مسألة) [ 303 ] [ لو ادعى قتل شخص عمدا وادعى آخر قتله خطأ ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من وجد مقتولا فجاء رجلان فقال: أحدهما: أنا قتلته عمدا، وقال الآخر: أنا قتلته خطأ، أن أولياء المقتول مخيرون بين الأخذ للمقر بالعمد وبين الأخذ للمقر بالخطأ، وليس لهم أن يقتلوهما جميعا، ولا أن يلزموهما جميعا الدية، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). والذي يدل على صحة ما قلناه: الطريقة المتكررة، ولأننا نسند ما نذهب إليه في هذه المسألة إلى نص وتوقيف، ويرجع المخالف لنا إلى الظن والحسبان. (مسألة) [ 304 ] [ لو اعترف بقتل شخص عمدا ودفعه آخر عن اعترافه ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه إذا وجد مقتول فجاء رجل فاعترف


(1) لم نعثر عليه.

[ 544 ]

بقتله عمدا، ثم جاء آخر فتحقق بقتله ودفع الأول عن اعترافه ولم تقم بينة على أحدهما أن القتل يدرأ عنهما معا، ودية هذا المقتول تكون من بيت المال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). وطريقتنا في نصرة هذه المسألة هي الطريقة في نصرة المسألة التي قبلها بلا فصل. (مسألة) [ 305 ] [ دية ولد الزنا ] ومما انفردت به الإمامية القول بأن دية ولد الزنا ثمانمائة درهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (2). والحجة لنا بعد الإجماع المتردد: أنا قد بينا أن من مذهب هذه الطائفة أن ولد الزنا لا يكون قط طاهرا ولا مؤمنا بإيثاره واختياره وإن أظهر الإيمان، وهم على ذلك قاطعون وبه عاملون، وإذا كانت هذه صورته عندهم فيجب أن تكون ديته دية الكفار من أهل الذمة للحوقه في الباطن بهم. فإن قيل: كيف يجوز أن يقطع على مكلف أنه من أهل النار وفي ذلك منافاة للتكليف؟ وولد الزنا إذا علم أنه مخلوق من نطفة الزاني فقد قطع على أنه من أهل النار فكيف يصح تكليفه؟ قلنا: لا سبيل لأحد إلى القطع على أنه مخلوق من نطفة الزنا، لأنه يجوز أن يكون هناك عقد أو شبهة عقد أو أمر يخرج به من أن يكون زانيا فلا يقطع


(1) لم نعثر عليه.
(2) المجموع: ج 19 ص 40 و 51 – 52.

[ 545 ]

أحد على أنه على الحقيقة ولد الزنا، فأما غيره فإنه إذا علم أن أمه وقع عليها هذا الوطئ (1) من غير عقد ولا ملك يمين ولا شبهة، فالظاهر في الولد أنه ولد الزنا، والدية معمول فيها على ظاهر الأمور دون باطنها. (مسألة) [ 306 ] [ دية أهل الكتاب والمجوس ] ومما انفردت به الإمامية: القول: بأن دية أهل الكتاب والمجوس الذكر منهم ثمانمائة درهم والأنثى أربعمائة درهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه وعثمان البتي والثوري والحسن بن حي وداود: إن دية الكافر مثل دية المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي سواء (2). وقال مالك دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وديات نسائهم على النصف من ذلك (3). وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث الدية، ودية المجوسي ثمانمائة درهم (4)، والمرأة على النصف. وهذه موافقة من مالك والشافعي للإمامية في


(1) في ” ألف ” و ” ب “: الوطء.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 527 الشرح الكبير: ج 9 ص 521 المجموع: ج 19 ص 53، المحلى: ج 10 ص 348 بداية المجتهد: ج 2 ص 447، الهداية على البداية: ج 4 ص 178 سنن الترمذي: ج 4 ص 26.
(3) المبسوط (للسرخسي): ج 26 ص 84 المجموع: ج 19 ص 52 و 53 المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 527 و 530 الشرح الكبير: ج 9 ص 521 و 523 بداية المجتهد: ج 2 ص 447 الهداية على البداية: ج 4 ص 178.
(4) الشرح الكبير: ج 9 ص 523 المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 530، المبسوط (للسرخسي): ج 26 ص 84، الهداية على البداية: ج 4 ص 178، بداية المجتهد: ج 2 ص 447.

[ 546 ]

المجوسي خاصة وإنما انفردوا بغير ذلك. وحكي عن أحمد بن حنبل أنه ذهب إلى أن المسلم إذا قتل يهوديا أو نصرانيا خطأ لزمه نصف الدية وإن قتله عمدا لزمه كمال الدية (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد وأنه قد ثبت أن المؤمن لا يقتل بالكافر وكل من قال من الأمة: بأن المؤمن لا يقتل بالكافر، قال: بأن ديته دون ديته، وإن إختلفوا في المبلغ، فإذا ثبت أن ديته ناقصة عن دية المسلم، فالكلام بيننا في مبلغ هذا النقصان وبين من وافقنا في جملة النقصان وإن خالف في التفصيل، وإذا كنا نرجع في أن النقصان على ما ذكرناه إلى طريق يوجب العلم، فقولنا: أولى ممن عول في هذا النقصان على ما يوجب الظن من قياس أو خبر واحد. وإن احتج المخالف بقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) (2)، ثم قال: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) (3) وظاهر الكلام يقتضي أن الدية واحدة. قلنا: لا شبهة في أن ظاهر الكلام لا يقتضي التسوية في مبلغ الدية وإنما يقتضي التساوي في وجوب الدية على سبيل الجملة، ودية الذمي عندنا وإن نقصت عن دية المسلم تسمى في الشريعة دية، ألا ترى أنه غير ممتنع أن يقول القائل من قتل مسلما فعليه دية ومن قتل مسلمة فعليه دية، وإن اختلفت الديتان في المبلغ إذا تساويا في كونهما ديتين. ومما يمكن أن يحتج به لصحة ما نذهب به: أن الأصل في العقول براءة الذمة من الدية وسائر الحقوق، وقد ثبت أنا إذا ألزمنا المسلم في قتل اليهودي


(1) المجموع: ج 19 ص 53 سنن الترمذي: ج 4 ص 26.
(2) و (3) سورة النساء: الآية 92.

[ 547 ]

ثمانمائة درهم فقد ألزمناه ما لا شك في لزومه، وما زاد على ذلك من ثلث أو نصف أو مساواة لدية المسلم هو بغير يقين مع الخلاف فيجب أن يثبت ما ذكرناه من المبلغ لأنه اليقين دون ما عداه. فإن احتجوا بما رواه عمر وبن حزم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في النفس مائة من الإبل (1) وهذا يقتضي أن يكون ذلك في كل نفس. قلنا: هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ولا يجوز أن يرجع به عما ذكرناه من الأدلة الموجبة للعلم. وهو أيضا معارض بأخبار نرويها كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) يتضمن بعضها (2) أن الدية النصف وبعضها (3) أن الدية الثلث، فإذا تعارضت الأخبار سقطت. على أن ظاهر هذا الخبر يقتضي أن المرأة مساوية للرجل في الدية، وقد خالفنا بينهما بالدليل، وكذلك الذمي عندنا. (مسألة) [ 307 ] [ لو قتل الذمي مسلما ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الذمي إذا قتل مسلما عمدا دفع الذمي إلى أولياء المقتول، فإن اختاروا قتله تولى السلطان ذلك منه، وإن اختاروا استرقاقه كان رقا لهم، وإن كان له مال فهو لهم كما يكون مال العبد


(1) الموطأ: ج 2 ص 849 ح 1، سنن البيهقي: ج 8 ص 73.
(2) سنن البيهقي: ج 8 ص 101 مسند أحمد ج 2 ص 183 و 224 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 883 ح 2644، كنز العمال: ج 15 ص 53 و 54 و 57 ح 40056 و 20060 و 40072 و 40073، سنن الترمذي: ج 4 ص 25 ح 1413. (3) كنز العمال: ج 15 ص 140 ح 40428، سنن البيهقي: ج 8 ص 101.

[ 548 ]

لمولاه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يعرفوا شيئا منه (1). دليلنا على ما ذهبنا إليه الإجماع المتقدم. وأيضا أن قتل الذمي للمسلم غليظ شديد قد هتك به حرمة الذمة فلا يجوز أن يكون عقوبته كعقوبة من لم ينته إلى ذلك، وإذا كان لا بد من التغليظ في جزائه فغير منكر أن ينتهي التغليظ إلى الحد الذي ذكرناه إذا تظاهرت (2) به الرواية واجتمعت الطائفة عليه. (مسألة) [ 308 ] [ حكم الشجاج ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن في الشجاج التي هي دون الموضحة مثل الخارصة والدامية والباضعة والسمحاق دية مقدرة، ففي الخارصة وهي الخدش الذي يشق الجلد بعير واحد، وفي الدامية وهي التي تصل إلى اللحم ويسيل منها الدم بعيران. وفي الباضعة وهي التي تقطع اللحم وتزيد في الجناية على الدامية ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق وهي التي تقطع اللحم حتى تبلغ إلى الجلدة الرقيقة المتغشية للعظم أربعة أبعرة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والشافعي ليس في ما دون الموضحة من الشجاج أرش مقدر وإنما فيه حكومة (3).


(1) لم نعثر عليه.
(2) في ” ألف ” و ” ب ” تظافرت.
(3) المبسوط (للسرخسي) ج 26 ص 84 و 81 الهداية على البداية: ج 4 ص 182 المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 658 الشرح الكبير ج 9 ص 619.

[ 549 ]

وقال الحسن بن حي في السمحاق أربع من الإبل (1)، وهذه موافقة للإمامية. دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد، ولأنا نرجع في هذه التقديرات إلى روايات وطرق العلم ويرجع المخالف إلى الرأي والظن. (مسألة) [ 309 ] [ في لطمة الوجه ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن في لطمة الوجه، إذا احمر موضعها دينارا واحدا ونصفا، فإن أخضر أو اسود ففيها ثلاثة دنانير وأرشها في الجسد النصف من أرشها في الوجه بحساب ما ذكرناه، وما أعرف موافقا من باقي الفقهاء في ذلك (2). والوجه في نصرة هذه المسألة: ما تقدم في أمثالها.


(1) لم نعثر عليه (2) المغني (لابن قدامة): ج 9 ص 665.

[ 551 ]

كتاب الفرائض والمواريث والوصايا


[ 552 ]

كتاب الفرائض والمواريث والوصايا وما يتعلق بذلك إعلم أن المسائل التي تنفرد بها الإمامية في هذا الباب يدور أكثرها ومعظمها على أصول نحن نبين الكلام فيها ونستوفيه وهي الكلام في العصبة والعول والرد، وإذا بان أن الحق في هذه الأصول معنا دون مخالفينا بنيت المسائل الكثيرة في الفرائض عليه واستغنينا عن التطويل بتعيين الكلام في المسائل مع رجوعهن إلى أصل واحد وقد أحكمناه. (فصل في الكلام على العصبة) إعلم أن مخالفينا في هذا الباب يذهبون في ذلك إلى ما لم يقم به حجة من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع، ويعولون في هذا الأصل الجليل على أخبار (1) آحاد ضعيفة لو سلمت من كل قدح ومخالفة لنص الكتاب وظاهره على ما نستدل عليه ومعارضة بأمثالها لكانت غاية أمرها أن توجب الظن الذي قد بينا في غير موضع أن الأحكام الشرعية لا تثبت بمثله.


(1) يأتي التعرض لها ولمناقشتها خلال المبحث.

[ 553 ]

وادعاء الإجماع على قولهم في التعصيب غير ممكن مع الخلاف المعروف المسطور فيه سالفا وآنفا لأن ابن عباس (رحمة الله عليه) كان يخالفهم في التعصيب، ويذهب إلى مثل مذهب الإمامية ويقول فيمن خلف ابنة وأختا أن المال كله للابنة دون الأخت. ووافقه في ذلك جابر بن عبد الله (1) وحكى الساجي أن عبد الله بن الزبير قضى أيضا بذلك، وحكى الطبري مثله (2)، ورويت موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي في رواية الأعمش عنه (3) وذهب داود بن علي الاصفهاني إلى مثل ما حكيناه ولم يجعل الأخوات عصبة مع البنات (4) فبطل ادعاء الإجماع مع ثبوت الخلاف متقدما ومتأخرا، والذي يدل على صحة مذهبنا وبطلان مذهب مخالفينا في العصبة: بعد إجماع الطائفة الذي قد بينا أنه حجة قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) (5) وهذا نص في موضع الخلاف، لأن الله تعالى صرح بأن للرجال من الميراث نصيبا، وأن للنساء أيضا نصيبا ولم يخص موضعا دون موضع، فمن خص في بعض المواريث بالميراث الرجال دون النساء فقد خالف ظاهر هذه الآية. وأيضا فإن توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة من أحكام الجاهلية، وقد نسخ الله تعالى بشريعة نبينا (عليه وآله السلام) أحكام الجاهلية، وذم من أقام عليها واستمر على العمل بها بقوله تعالى: (أفحكم


(1) المغني (لابن قدامة) ج 7 ص 6 الشرح الكبير ج 7 ص 52 المحلى: ج 9 ص 256 المبسوط (للسرخسي) ج 29 ص 157.
(2) المحلى ج 9 ص 256 المجموع ج 16 ص 82.
(3) لم نعثر عليه.
(4) بداية المجتهد ج 2 ص 372.
(5) سورة النساء: الآية 7.

[ 554 ]

الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما) (1). وليس لهم أن يقولوا إننا نخص الآية التي ذكرتموها بالسنة، وذلك أن السنة التي لا تقتضي العلم القاطع لا نخص بها القرآن، كما لا ننسخه بها، وإنما يجوز بالسنة أن نخص أو ننسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين، ولا خلاف في أن الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علما، وأكثر ما تقتضيه غلبة الظن. على أن أخبار التعصيب معارضة بأخبار (2) كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة، وأنه بالقربى والرحم، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظواهر الكتاب. فاعتماد المخالفين في العصبة على حديث رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقسم المال على أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت فلأولى ذكر قرب (3) (4). وهذا خبر لم يروه أحد من أصحاب الحديث إلا من طريق ابن طاوس، ولا رواه ابن طاوس إلا عن أبيه عن ابن عباس ولم يقل ابن عباس فيه سمعت ولا حدثنا.


(1) سورة المائدة: الآية 50.
(2) الكافي: ج 7 ص 75 ح 1 التهذيب: ج 9 ص 267 ح 15، الاستبصار: ج 4 ص 170 ح 3، الوسائل: ج 17 ص 431 تفسير العياشي: ج 2 ص 71 و 72 ح 84 و 85 و 86، سنن البيهقي: ج 6 ص 258، سنن الدارقطني: ج 4 ص 70 ح 11.
(3) في ” ب ” وهامش المعتمدة: أقرب.
(4) مسند أحمد: ج 1 ص 313، سنن أبي داود: ج 3 ص 122 ح 2898، سنن ابن ماجة: ج 2 ص 915 ح 2740، كنز العمال: ج 11 ص 4 ح 30373، جامع الأصول (لابن الأثير): ج 10 ص 379 ح 7401.

[ 555 ]

وطاوس يسنده تارة إلى ابن عباس في رواية وهب ومعمر (1)، وتارة أخرى يرويه عنه الثوري وعلي بن عاصم، عن أبيه (2) مرسلا غير مذكور فيه ابن عباس. فيقول الثوري وعلي بن عاصم عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم هو مختلف اللفظ، لأنه يروي فما أبقت الفرائض فلأولى ذكر (3)، وروي أيضا فلأولى عصبة قرب (4). وروي أيضا: فلأولى عصبة ذكر (5)، وفي رواية أخرى فلأولى رجل ذكر عصبة (6)، واختلاف لفظه والطريق واحد يدل على ضعفه. وقد خالف ابن عباس الذي يسند هذا الخبر إليه ما اجتمع متقبلوا هذا الخبر عليه في توريث الأخت بالتعصيب إذا خلف الميت ابنة وأختا على ما قدمناه وحكيناه عنه، وراوي هذا الخبر إذا خالف معناه كان فيه ما هو معلوم. ثم إذا تجاوزنا عن ذلك من أين لهم أن معنى العصبة المذكورة في الخبر هو ما يذهبون إليه؟ وليس في اللغة العربية لذلك شاهد ولا في العرف الشرعي. فأما اللغة فإن الخليل بن أحمد قال في كتاب العين (7): إن العصبة مشتقة


(1) سنن ابن ماجة ج 2 ص 915 ح 2740 مسند أحمد: ج 1 ص 313 و 325 سنن الدارقطني: ج 4 ص 70 و 71 ح 11 و 13، صحيح البخاري: ج 8 ص 187، سنن الدارمي: ج 2 ص 368 سنن الترمذي: ج 4 ص 418 ح 2098.
(2) لم نعثر عليه.
(3) مسند أحمد: ج 1 ص 313 سنن أبي داود: ج 3 ص 122 ح 2898 سنن الدارقطني: ج 4 ص 70 ح 10.
(4) لم نعثر عليه.
(5) رواه في التهذيب: ج 9 ص 260 س 2 الوسائل: ج 17 ص 432 ح 5.
(6) مسند أحمد: ج 1 ص 325، سنن ابن ماجة: ج 2 ص 915 ح 2740، كنز العمال: ج 11 ص 4 ح 30373 و 30374.
(7) العين: مادة (عصب) ج 1 ص 308.

[ 556 ]

من الأعصاب وهي التي تصل بين أطراف العظام، ولما كانت هي الواصلة بين المتفرق من الأعضاء حتى التأمت، وكان ولد البنات أولادا للجد، كما أن أولاد الابن ولد للجد والجد جد للجميع كان البنات في جميع ولدهن إلى الجد، وضم الأهل والقبيلة المنسوبة إلى الجد كالبنين وكانوا جميعا كالأعصاب التي تجمع العظام وتلائم الجسد، فوجب أن يسموا جميعا عصبة. وذكر أبو عمرو غلام ثعلب قال قال ثعلب قال ابن الأعرابي: العصبة جميع الأهل من الرجال والنساء (1)، فإن هذا هو المعروف المشهور في لغة العرب، وإن الكلالة ما عدا الوالدين والولد من الأهل. فإذا كانت اللغة على ما ذكرناه فهي شاهد بضد ما يذهب إليه مخالفنا في العصبة. وليس هاهنا عرف شرعي مستقر في هذه اللفظة، لأن الاختلاف واقع في معناها لأن في الناس من يذهب إلى أن العصبة إنما هي القرابة من جهة الأب. وفيهم من يذهب فيها إلى أن المراد بها قرابة الميت من الرجال الذين اتصلت قرابتهم به من جهة الرجال كالأخ والعم دون الأخت والعمة، ولا يجعل الرجال الذين اتصلت قرابتهم من جهة النساء عصبة كأخوة الميت لأمه وفيهم من جعل العصبة مأخوذة من التعصب والرايات والديوان والنصرة ومع هذا الاختلاف لا إجماع يستقر على معناها. على أنهم يخالفون لفظ هذا الحديث الذي يروونه لأنهم يعطون الأخت مع البنت بالتعصيب وليست برجل ولا ذكر كما تضمنه لفظ الحديث. فإن قالوا: نخص هذا اللفظ إذا ورثنا الأخت مع البنت. قلنا: ما الفرق بينكم إذا خصصتموه ببعض المواضع، وبيننا إذا فعلنا في تخصيصه مثل فعلكم، فجعلناه مستعملا فيمن خلف أختين لأم وابن أخ وابنة أخ لأب


(1) لم نعثر عليه.

[ 557 ]

وأم وأخا لأب؟ فإن الأختين من الأم فرضهن الثلث وما بقي فلأولى ذكر قرب وهو الأخ من الأب وسقط ابن الأخ وبنت الأخ، لأن الأخ أقرب منهما. وفي موضع آخر وهو أن يخلف الميت امرأة وعما وعمة وخالا وخالة وابن أخ أو أخا، فللمرأة الربع وما بقي فلأولى ذكر وهو الأخ أو ابن الأخ وسقط الباقون. ثم يقال لهم: من أي وجه كانت الأخت مع البنت عصبة؟ فإن قالوا: من حيث عصبها أخوها. قلنا: فألا جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين ويكون أبوها هو الذي يعصبها. وإذا كان الابن أحق بالتعصيب من الأب فالأب أحق بالتعصيب من الأخ، وأخت الابن أحق بالتعصيب كثيرا من أخت الأخ. وكذلك يلزمهم أن يجعلوا العمة عند عدم العم عصبة فيما توجه لإنجازه وفعله. فإن قالوا: البنت لا تعقل عن أبيها. قلنا: والأخت أيضا لا تعقل فلا تجعلوها عصبة مع البنات. فإن تعلقوا بما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه أعطى الأخت مع البنت (1). قلنا: هذا حديث لو صح وبرئ من كل قدح لكان مخالفا لنص الكتاب، لأن الله تعالى قال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (2) فنص على القربى وتداني الأرحام سبب في استحقاق الميراث والبنت أقرب من الأخت وأدنى رحما.


(1) كنز العمال: ج 11 ص 6 ح 30385 صحيح البخاري: ج 8 ص 189 سنن البيهقي ج 6 ص 233.
(2) سورة الأنفال: الآية 57.

[ 558 ]

وخبرهم الذين يعولون عليه في توريث الأخت مع البنت رواه الهذيل بن شرحبيل أن أبا موسى الأشعري (1) سئل عن رجل ترك بنتا وابنة ابن وأختا من أبيه وأمه، فقال: لابنته النصف وما بقي فللأخت. وبخبر يرويه الأسود بن يزيد قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأعطى البنت النصف، والأخت النصف ولم يورث العصبة شيئا (2). فأما الخبر الأول فقد قدح أصحاب الحديث في روايته وضعفوا رجاله وقيل: أن هذيل بن شرحبيل مجهول ضعيف. ولو زال هذا القدح لم يكن فيه حجة، لأن أبا موسى ليس في قضائه بذلك حجة، ولأنه ما أسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله). وكذلك القول: في خبر معاذ. وليس في قولهم أنه كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجة، لأنه قد يكون على عهده ما لا يعرفه، ولو عرفه لا نكره. وقد إمتنع من توريث الأخت مع البنت من هو أقوى من معاذ، وهو أولى بأن يتبع وهو ابن عباس. وفي حديث معاذ أيضا ما يقتضي بطلان قول من يذهب إلى أن الأخت تأخذ بالتعصيب مع البنت، لأنه قال: ولم يورث العصبة شيئا لأنها لو كانت عصبة في هذا الموضع لم يقل ذلك، بل كان يقول: ولم يورث باقي العصبة شيئا. وليس يجوز أن يستدل على أن الأخت لا ترث مع البنت بقوله تعالى: (إن


(1) سنن أبي داود: ج 3 ص 120 ح 2890، سنن الدارقطني: ج 4 ص 79 و 80 ح 38 و 41، جامع الأصول (لابن الأثير): ج 10 ص 372 ح 7376، صحيح البخاري: ج 8 ص 188، سنن ابن ماجة: ج 2 ص 909 ح 2721، سنن الترمذي: ج 4 ص 415 ح 2093.
(2) سنن أبي داود: ج 3 ص 121 ح 2893، سنن الدارمي: ج 2 ص 346، سنن الدارقطني: ج 4 ص 82 ح 48، صحيح البخاري: ج 8 ص 188 و 189، سنن البيهقي ج 6 ص 233.

[ 559 ]

امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) (1) فشرط في توريث الأخت فقد الولد فيجب أن لا تعطي الأخت مع البنت لأنها ولد، وذلك أنه تعالى إنما شرط في هذا الفرض المخصوص للأخت فقد الولد، وليس ذلك بمانع من أن ترث مع فقد هذا الشرط بسبب آخر، فإن تعليق الحكم بشرط لا يدل على ارتفاعه مع فقد الشرط على ما بيناه في كتاب أصول الفقه (2). ويمكن أن يقال أيضا لمخالفينا في هذه المسألة: إن الإناث لا يرثن بالتعصيب مع فقد إخوتهن على رأي من ذهب إلى التوريث بالتعصيب، ألا ترى أن البنات وبنات الابن لا يرثن بالتعصيب إذا انفردن، فلو ورثت الأخت بالتعصيب إذا انفردت لكانت بنت الابن أولى من الأخت بما فضل من فرض البنات. وإذا كنا قد دللنا على بطلان الميراث بالعصبة فقد بطل كل ما بينه مخالفونا من المسائل في الفرائض على هذا الأصل وهي كثيرة ولا حاجة بنا إلى تفصيلها وتعيين الكلام في كل واحد منها، لأن إبطالنا الأصل الذي يبنى عليه هذه المسائل قد أغنى وكفى. فمن هذه المسائل أن يخلف الرجل بنتا وعما فعند المخالف أن للبنت النصف والباقي للعم بالعصبة، وعندنا أنه لاحظ للعم والمال كله للابنة بالفرض والرد. وكذلك لو كان مكان العم ابن عم، وكذلك لو كان مكان البنت ابنتان. ولو خلف الميت عمومة وعمات أو بني عم وبنات عم فمخالفنا يورث الذكور من هؤلاء دون الإناث لأجل التعصيب، ونحن نورث الذكور والإناث.


(1) سورة النساء: الآية 176.
(2) الذريعة: ج 1 ص 406.

[ 560 ]

ومسائل التعصيب لا تحصى كثرة. وحجتنا على صحة ما نذهب إليه في هذه المسائل كلها: ما بينا صحته من إبطال التعصيب والتوريث به. فإن قيل: إذا كنتم تستدلون على أن العمات يرثن مع العمومة، وبنات العم يرثن مع بني العم وما أشبه ذلك من المسائل بقوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) (1) الآية ففي هذه الآية حجة عليكم في موضع آخر، لأنا نقول لكم: ألا ورثتم العم أو ابن العم مع البنت بظاهر هذه الآية، وكيف خصصتم النساء دون الرجال بالميراث في بعض المواضع وخالفتم ظاهر الآية؟ فألا ساغ لمخالفكم مثل ما فعلتموه! قلنا: لا خلاف في أن قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) الآية، أن المراد به مع الاستواء في القرابة والدرج ألا ترى أنه لا يرث ولد الولد ذكورا كانوا أو إناثا مع الولد لعدم التساوي في الدرجة والقرابة، وإن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء. وإذا كانت القرابة والدرجة مراعاتين فالعم أو ابنه لا يساوي البنت في القربى والدرجة وهو أبعد منها كثيرا. وليس كذلك العمومة والعمات وبنات العم وبنو العم، لأن درجة هؤلاء واحدة وقرباهم (2) متساوية والمخالف يورث الرجال منهم دون النساء، فظاهر الآية حجة عليه وفعله مخالف لها، وليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الإشارة إليها وهذا واضح فليتأمل.


(1) سورة النساء: الآية 7.
(2) في ” ألف ” ومرتبتهم.

[ 561 ]

فصل في العول إعلم أن العول في اللغة العربية اسم للزيادة والنقصان وهو يجري مجرى الأضداد، وإنما دخل هذا الاسم في الفرائض في الموضع الذي ينقص فيه المال عن السهام المفروضة فيه فيدخل هاهنا النقصان، ويمكن أن يكون دخوله لأجل الزيادة، لأن السهام زادت على مبلغ المال، وإذا أضيف إلى المال كان نقصانا، وإذا أضيف إلى السهام كان زيادة. والذي تذهب إليه الشيعة الإمامية أن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدم ذوو السهام المؤكدة من الأبوين والزوجين على البنات، والأخوات من الأم على الأخوات من الأب والأم أو من الأب، وجعل الفاضل عن سهامهم لهن. وذهب ابن عباس (رحمه الله) إلى مثل ذلك، وقال به أيضا عطاء بن أبي رباح (1). وحكى الفقهاء من العامة هذا المذهب عن محمد بن علي بن الحسين الباقر (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين) ومحمد بن الحنيفة (رضي الله عنه)، وهو مذهب داود بن علي الاصبهاني (2). وقال باقي الفقهاء: أن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قسم بينهم على قدر


(1) أحكام القرآن (للقرطبي): ج 5 ص 79، المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 25، الشرح الكبير: ج 7 ص 68 و 69 المحلى: ج 9 ص 263، المجموع: ج 16 ص 94، المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 161، بداية المجتهد: ج 2 ص 376.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 25، الشرح الكبير: ج 7 ص 68 و 69، المحلى: ج 9 ص 263، المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 161.

[ 562 ]

سهامهم، كما يفعل في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها (1). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة عليه، فإنهم لا يختلفون فيه، وقد بينا أن إجماعهم حجة. وأيضا فإن المال إذا ضاق عن السهام كامرأة ماتت وخلفت بنتين وأبوين وزوجا، والمال يضيق عن الثلثين والسدسين والربع فنحن بين أمور: أما ندخل النقصان على كل واحد من هذه السهام أو ندخله على بعضها، وقد أجمعت الأمة على أن البنتين هاهنا منقوصتان بلا خلاف، فيجب أن يعطى الأبوان السدسين والزوج الربع، ونجعل ما بقي للابنتين، ونخصهما بالنقص لأنهما منقوصتان بالاجماع، ومن عداهما ما وقع إجماع على نقصه من سهامه ولا قام دليل على ذلك، فظاهر الكتاب يقتضي أن له سهما معلوما فيجب أن نوفيه إياه ونجعل النقص لاحقا بمن أجمعوا على نقصه. طريقة أخرى: ومما يدل أيضا على ذلك: أنا إذا نقصنا جميع ذوي السهام وأعطينا كل واحد منهم بعض ما تناوله النص خصصنا ظواهر كثيرة وصرفناها عن الحقيقة إلى المجاز، وإذا نقصنا أحدهم عدلنا فيما يخص هذا المنقوص وحده عن الظاهر والحقيقة وبقينا ما عداه على ظاهره وحقيقته، وإذا كان التخصيص والانصراف عن الحقيقة إنما يفعل للضرورة فقليله أولى من كثيره. ولا معتبر بما يفعله مخالفونا من تسميتهم ما هو خمس في الحقيقة ربعا، وما هو أقل من السدسين بأنه سدسان ولا بالثمن عن التسع وما أشبه ذلك لأنهم يسمون الشئ بغير إسمه الموضوع له، وخرجوا عن موجب اللغة. ولم يبق إلا أن يقال لنا: كلامكم يقتضي أن نقصان بعض السهام


(1) لم نعثر عليه.

[ 563 ]

المذكورة أولى من إدخال النقص على الجميع فلم خصصتم من ذكرتموه من البنات والأخوات بالنقصان دون من عداهن؟ وما الفرق بينكم وبين من جعل النقص داخلا على غير من ذكرتم وفي سهام من خصصتموه بالنقصان. والجواب أن كل من أوجب نقص أحد المسمين دون جميعهم خص بالنقصان من عيناه دون غيره، والقول: بأن النقص داخل على البعض الذي هو غير من عيناه وخصصناه بالنقصان قول يخرج عن الإجماع. فأما اعتماد من نفى العول من أصحابنا وغيرهم على أن الزوج والزوجة كانت لكل واحد منهما فريضة فحطا إلى دونها، وكذلك الأبوان حطا من فريضة إلى فريضة أخرى والبنات والأخوات لم يهبطا من فريضة إلى أخرى فدخول النقص على من لم يلحقه نقص أولى من دخوله على من نقص فليس بشئ وإنما هو دعوى محضة. وإذا قيل لهم: ولم إذا كان الأمر على ما حكيتموه وجب ما ظننتموه ولو عكس عاكس ذلك عليكم، فقال: دخول النقص على الزوجين والأبوين دلالة على ضعف حكمهما وامتناع دخول النقص على البنات والأخوات أمارة لقوة نصيبهما، فإدخال العول على الضعيف أولى من القوي ولم يجدوا فرقا صحيحا. وهم يروون هذا الترجيح عن ابن عباس (1) (رحمه الله)، وإذا صح عنه فلا حجة فيه لما أشرنا إليه. والمعتمد في نفي العول على ما قررناه. وليس يشبه ما يقولونه في العول الديون إذا كانت على الميت ولم تف تركته بالوفاء بها، فإن الواجب القسمة للمال على أصحاب الديون بحسب ديونهم من غير إدخال النقص على بعضهم وذلك أن أصحاب الديون مستوون في وجوب استيفاء أموالهم من تركة الميت، وليس لأحد مزية على الآخر في ذلك، فإن


(1) سنن البيهقي: ج 6 ص 253 كنز العمال ج 11 ص 27 ح 30489.

[ 564 ]

اتسع المال لحقوقهم إستوفوها، وإن ضاق تساهموه وليس كذلك مسائل العول، لأنا قد بينا أن بعض الورثة أولى بالنقص من بعض، وأنهم غير مستويين كاستواء أصحاب الديون فافترق الأمران. ومما يمكن أن يفرق به بين العول والدين إذا ضاقت التركة عنه أن الديون ربما اتسعت أموال الميت لاستيفائها منها، وليس كذلك العول لأن الحقوق متعلقة بأجزاء مسماة لا يجوز أن تستوفي قط من مال واحد مع كثرة ولا قلة وكيف تشبه الديون بالعول؟ وفي أصحابنا من ذهب إلى أن البنت إنما جعل لها النصف مع الأبوين، وجعل للابنتين الثلثان أيضا معهما، فإذا انفردت البنت الواحدة أو الابنتان عن الأبوين تغير هذا الفرض. وهذا إنما ارتكبوه فرارا من العول حتى لا يجتمع في امرأة ماتت وخلفت بنتين وأبوين وزوجا الثلثان والسدسان والربع. وقد بينا في مسألة أمليناها مفردة (1) وتكلمنا فيها على شئ أخطأ فيه الفضل بن شاذان في المواريث بطلان هذه الشبهة، وأن الله تعالى جعل للبنت الواحدة النصف بالإطلاق على كل حال وللبنتين الثلثين على كل حال، وأن قوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) (2) كلام مبتدأ لا يتعلق بما تقدم. وقلنا أيضا: كيف يجوز أن يريد أن للواحدة النصف وللبنتين الثلثين مع الأبوين، وهو تعالى يقول: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد)، وأشبعنا ذلك واستوفيناه. على أنهم لا يتمكنون من مثل هذا في امرأة خلفت زوجا وأخوين من أم وأختا من أب وأم، لأن هذه المسألة فيها نصف وهو حق الزوج، وثلث وهو


(1) رسائل الشريف المرتضى: المجموعة الثالثة ص 257.
(2) سورة النساء: الآية 11.

[ 565 ]

حق الأخوين من الأم، ونصف وهي حق الأخت من الأب والأم، فلا بد من مذهب المخالف في العول ونقصان الجميع أو إفراد الأخت من الأب والأم بالنقصان، وليس لهم أن يقولوا إنما جعل للأخت النصف إذا انفردت، وذلك لأن الله تعالى شرط في استحقاقها هذا النصف نفي الولد، والظاهر يقتضي أنها تستحق ذلك مع فقد الولد على كل حال، وإنما نقول: أن الباقي هاهنا للأخت لدليل اقتضى العدول عن الظاهر فيجب أن يقولوا بمثل ذلك في ميراث البنت والبنتين مع الأبوين وفقدهما، وإنا إنما ندخل النقص على البنات مع دخولهن تحت الظاهر بدليل اقتضى ذلك. فأما قول بعض أصحابنا محتجا على صحة ما ذهبنا إليه من إدخال النقص على البنات بأنه لو كان مكان البنت أو البنتين ابن أو بنون ما كان لهم إلا ما بقي، والبنت ليست بأحسن حالا من الابن، فيجب أن يكون لها ما بقي فليس بمعتمد، لأن الابن ليس من ذوي السهام المنصوص عليها في موضع من المواضع، وليس كذلك البنت والبنتان. فأما دعوى المخالف أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان يذهب إلى العول في الفرائض، وأنهم يروون عنه ذلك، وأنه (عليه السلام) سئل وهو على المنبر عن بنتين وأبوين وزوجة، فقال (عليه السلام) بغير روية: صار ثمنها تسعا (1) فباطلة، لأننا نروي عنه (صلوات الله عليه) (2) خلاف العول ووسائطنا إليه النجوم الزاهرة من عترته كزين العابدين والباقر والصادق


(1) سنن الدارقطني: ج 4 ص 68 ح 5 سنن البيهقي: ج 6 ص 253 الوسائل: ج 17 ص 429 ح 14.
(2) الكافي: ج 7 ص 79 ح 2 الفقيه: ج 4 ص 254 ح 5600 التهذيب: ج 9 ص 247 ح 2 و 3، الوسائل ج 17 ص 423 و 424 ح 9 و 11 و 14 علل الشرايع: ص 568 ح 2.

[ 566 ]

والكاظم صلوات الله عليهم، وهؤلاء عليهم السلام أعرف بمذهب أبيهم صلوات الله عليه ممن نقل خلاف ما نقلوه، وابن عباس (رحمه الله) ما تلقى إبطال العول في الفرائض إلا عنه (صلوات الله عليه). ومعولهم في الرواية عنه (عليه السلام) أنه كان يقول بالعول عن الشعبي والحسن بن عمارة والنخعي. فأما الشعبي فإنه ولد في سنة ست وثلاثين. والنخعي ولد في سنة سبع وثلاثين، وقتل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) سنة أربعين فكيف تصح روايتهما عنه؟ والحسن بن عمارة ضعيف عند أصحاب الحديث، ولما ولي المظالم قال سليمان بن مهران الأعمش ظالم ولي المظالم (1). ولو سلم كل ما ذكرناه من كل قدح وجرح لم يكونوا بإزاء من ذكرناه من السادة والقادة الذين رووا عنه (عليه السلام) إبطال العول. فأما الخبر المتضمن أن ثمنها صار تسعا، فإنما رواه سفيان عن رجل لم يسمه والمجهول لا حكم له، وما رواه عنه (عليه السلام) أهله أولى وأثبت. وفي أصحابنا من يتأول هذا الخبر إذا صح على أن المراد به أن ثمنها صار تسعا عندكم أو أراد الاستفهام وأسقط حرفه، كما أسقط في مواضع كثيرة. ووجدت بعض من يشار إليه (2) في علم الفرائض يلزم من نفي العول فيقول له: ما تقول في زوج وأخوين من أم؟ فإن قال: للزوج النصف وللأم الثلث وللأخوين الثلث عالت الفريضة. فيقال له: لا ينبغي أن تكلم من لا تعرف مذهبه، وللزوج عندنا في هذه الفريضة النصف وللأم الباقي ولاحظ للأخوين من الأم فإن الأخوة عندنا


(1) تهذيب الكمال: ج 6 ص 275.
(2) لم نعثر عليه.

[ 567 ]

لا يرثون مع الأم في موضع من المواضع. وقال أيضا من تقدمت الإشارة إليه (1) يقال لمن نفى العول: ما تقولون في زوج وأخت لأب وأم وأخت لأب؟ فإن قالوا للزوج النصف وللأخت للأب والأم النصف وتسقط الأخت للأب، قيل: ولم صارت الأخت للأب والأم مقدمة على الأخت للأب وهما يرثان مرة بالفرض ومرة بالتعصيب؟ فيقال له: إنما جعلنا للزوج النصف وللأخت للأب والأم النصف الآخر، لأن الأخت للأب والأم إذا اجتمعت مع أخت لأب سقطت الأخت للأب وورثت جميع المال الأخت للأب والأم فالأخت للأب والأم مقدمة على الأخت للأب كما أن الأخ للأب والأم مقدم على الأخ للأب. ثم قال هذا الذي أشرنا إليه (2): يقال لمن نفى العول ولم يقل بالقياس: إذا لم يكن عندكم ما فرض لذوي السهام عاما في كل المسائل، فمن أين قلتم في زوج وأختين لأب وأم: للزوج النصف وللأختين النصف؟ فإن قالوا قلنا: بالاجماع في فرض الزوج، ثم قال: لا إجماع في ذلك. فالجواب غير ما حكاه عنا لأنا نقول في هذه المسألة أن الأختين منقوصتان مما فرض لهما من السهام بلا خلاف فيجب أن تنقصا والزوج غير مجمع على وجوب نقصه فيجب أن يكون سهامه موفرة. وإن شئت أن تقول ليس يمكن العمل بعموم الظواهر في هذه المسألة، لأنه محال أن يكون لمال واحد نصف وثلثان فنحن بين أمرين: بين أن ننقص الزوج والأختين كما فعل أصحاب العول وبين أن ينقص إما للزوج أو الأختين فلو نقصنا الزوج والأختين معا لكنا عادلين عن الظاهر في سهام الزوج والظاهر في سهام الأختين، وإذا أنقصنا الأختين دون الزوج فإنما عدلنا


(1) لم نعثر عليه.
(2) لم نعثر عليه.

[ 568 ]

عن ظاهر واحد، وحملنا الآخر على حقيقته، والعدول عن ظاهر واحد أولى من العدول عن اثنين. وليس لأحد أن يقول: فاعدلوا عن ظاهر الزوج وبقوا ظاهر الأختين، لأن كل من أوجب العدول في هذه المسألة عن بعض الظواهر دون بعض أوجب العدول فيمن عيناه. وإذا كنا قد بينا فساد القول بالعول فقد أبطلنا بذلك كل ما يبنى عليه من المسائل وهي كثيرة ولا حاجة بنا إلى تعيين جميعها وتفصيله مع إبطال الأصل الذي يرجع إليه. فصل في العول بوجوب الرد عندنا: أن الفاضل عن فرض ذوي السهام من الورثة يرد على أصحاب السهام بقدر سهامهم، ولا يرد على زوج ولا زوجة، كمن خلف بنتا وأبا فللبنت بالتسمية النصف وللأب بالتسمية السدس وما بقي بعد ذلك وهو ثلث المال رد عليهما بقدر أنصبائهما فللبنت ثلاثة أرباعه وللأب ربعه فيصير المال مقسوما على أربعة أسهم للبنت ثلاثة أسهم من أربعة وللأب سهم من أربعة. وقال أهل العراق: إن الفاضل من السهام إذا لم يكن هناك عصبة رد على أصحاب السهام بقدر سهامهم إلا على الزوجين (1).


(1) لم نعثر عليه.

[ 569 ]

وروى مخالفونا ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وبه قال الثوري والشعبي والنخعي (1) ولم يرد ابن مسعود (2) أيضا على ولد الأم مع الأم ولا على الجدة (3) مع ذي رحم له سهم ولا على بنات الابن مع البنت ولا على أخت لأب مع أخت لأب وأم. وذهب زيد بن ثابت إلى أن الفاضل من السهام لبيت المال، وبه قال الشافعي ومالك وداود وكثير من أهل الحجاز (4). ومن تأمل هذا الموضع علم أن الإمامية منفردة فيه عمن وافقها في الرد من أهل العراق وغيرهم لأن أولئك راعوا العصبة والإمامية لا تراعيها، وترد على كل حال، والوجوه إذا تؤملت عرفت موضع انفراد الإمامية. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في هذه المسألة: إجماع الطائفة، وقد بينا أنه حجة. ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (5)، فدل على أن من هو أولى بالرحم وأقرب به أولى بالميراث، وقد علمنا أن قرابة الميت وذوي رحمه أولى بميراثه من المسلمين وبيت المال، وأصحاب السهام أيضا غير الزوج والزوجة أقرب إلى الميت من عصبته


(1) المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 46، الشرح الكبير: ج 7 ص 75 المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 192.
(2) الشرح الكبير: ج 7 ص 75، المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 192 المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 46.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: الجد.
(4) بداية المجتهد: ج 2 ص 381، الشرح الكبير: ج 7 ص 76، المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 46 و 47، المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 193.
(5) سورة الأنفال: الآية 75.

[ 570 ]

فوجب أن يكون فاضل السهام إليهم مصروفا. فإن قيل: لم يقع التصريح في الآية بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث. قلنا: اللفظ يحتمل الميراث وغيره فنحمله بحكم العموم على جميع ما يحتمله، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل. ومما يمكن أن يعارض به الخصوم في رواياتهم التي يتأولونها (1) وتوجد في كتبهم ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: المرأة تحوز ميراث ثلاثة عتيقها ولقيطها وولدها (2)، فأخبر أنها تحوز جميع ميراث بنيها (3)، ولا يجوز جميعه إلا بالرد عليها دون التسمية. ومما يمكن أن يعارضوا به أيضا ما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه ولذريتها من بعدها (4)، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها الجميع إلا بالتسمية والرد. ومما يمكن أيضا أن يعارضوا به ما يروونه عن سعد أنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله): إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا بنتي أفأوصي بمالي كله؟ قال لا، قال: فبالنصف؟ قال: لا، قال: فبالثلث؟ قال الثلث، والثلث كثير، (5). ووجه الدلالة من الخبر أنه قال: ليس يرثني إلا بنتي ولم ينكر عليه النبي (صلى الله


(1) في ” ألف ” يتناولونها.
(2) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 916 ح 2742 مسند أحمد: ج 3 ص 490 و ج 4 ص 107، سنن الترمذي: ج 4 ص 429 ح 2115 سنن الدارقطني: ج 4 ص 89 ح 68، سنن أبي داود: ج 3 ص 125 ح 2906.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: بنتها.
(4) سنن أبي داود: ج 3 ص 125 ح 2907، جامع الأصول (لابن الأثير): ج 10 ص 374 ح 7380، سنن الدارمي: ج 2 ص 364، سنن البيهقي: ج 6 ص 259.
(5) صحيح البخاري: ج 4 ص 3، سنن البيهقي ج 6 ص 269 و ج 7 ص 467.

[ 571 ]

عليه وآله). وروي هذا الخبر بلفظ آخر وهو أنه قال أفأوصي بثلثي مالي والثلث لبنتي؟ قال لا قال: أفأوصي بنصف مالي والنصف لبنتي؟ قال: لا، قال: أفأوصي بثلث مالي والثلثان لبنتي؟ قال: الثلث والثلث كثير (1)، فدل ذلك على أن البنت قد ترث الثلثين. واحتج المخالف لنا في الرد بقوله تعالى: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) (2) فجعل للأخت النصف إذا مات أخوها ولا ولد له ولم يردها (3) عليه، فدل على أنها لا تستحق أكثر من النصف بحال من الأحوال. والجواب عن ذلك أن النصف إنما وجب لها بالتسمية، ولأنها أخت والزيادة إنما تأخذها لمعنى آخر وهو للرد بالرحم، وليس يمتنع أن ينضاف سبب إلى آخر، مثال ذلك: الزوج إذا كان ابن عم ولا وارث معه فإنه يرث النصف بالزوجية والنصف الآخر عندنا لأجل القرابة، وعند مخالفينا لأجل العصبة، ولم يجب إذا كان الله تعالى قد سمى النصف مع فقد الولد أن لا يزاد عليه بسبب آخر. وبمثل هذا الجواب نجيبهم إذا قالوا: إن الله تعالى جعل للبنت الواحدة النصف فلا يجوز أن يزاد على ذلك، لأنا قد بينا أن النصف تستحقه بالتسمية والباقي تستحقه بسبب آخر وهو الرد، فاختلف السببان. واعلم أن المسائل التي تنفرد بها في الرد كثيرة لا معنى للتطويل


(1) سنن الترمذي: ج 4 ص 430 ح 2116 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 903 ح 2708 صحيح البخاري: ج 8 ص 187 الموطأ ج 2 ص 763 ح 4 سنن البيهقي: ج 6 ص 268.
(2) سورة النساء: الآية 176.
(3) في ” ألف ” و ” ب ” يزدها.

[ 572 ]

بذكرها، وإذا كنا قد بينا صحة أصولنا في الرد وما يبني عليه وكل مسألة تفرعت على هذه الأصول مردودة إليها ومبنية عليها فلا حاجة إلى تكلف أعيان المسائل كلها، كما لم نفعل ذلك في باب العصبات وباب العول. المسألة المعروفة بالمشركة وهي زوج وأم وأخوان من أم وإخوة لأب وأم، فعند الإمامية: أن للزوج النصف، وللأم باقي المال بالتسمية والرد، وليس للإخوة والأخوات حظ في هذا الميراث. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن للزوج النصف وللأم السدس ولولد الأم الثلث. وأسقطوا الأخوة من الأب والأم وهو مذهب أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري، وإحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد، وهو أيضا مذهب داود بن علي الاصفهاني (1). وقال مالك والشافعي: الثلث بين جميع الأخوة والأخوات بالسوية ذكورهم وإناثهم فيه سواء. وروي هذا القول عن عمر وعثمان، وبه قال سعيد ابن المسيب والزهري (2). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة عليه، وأيضا فإن الأم في حيازة الميراث تجري مجرى الأب ولا يرث الأخوة والأخوات مع واحد منهما


المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 22 الشرح الكبير: ج 7 ص 64 أحكام القرآن (للقرطبي): ج 5 ص 79 المجموع: ج 16 ص 101 بداية المجتهد: ج 2 ص 373 و 374، المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 154.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 29 ص 154، الشرح الكبير: ج 7 ص 64 المجموع: ج 16 ص 101، المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 22 بداية المجتهد: ج 2 ص 373، أحكام القرآن (للقرطبي): ج 5 ص 79.

[ 573 ]

فإذا أخذت الأم السدس بالتسمية فإن الباقي يكون ردا عليها، لأنها أقرب رحما من الأخوة والأخوات، وإذا كنا نرد على الأقرب فهي أقرب من كل الأخوة. فإن قيل لنا: لو سقط من هذه الفريضة الأم وبقي زوج وأخوان من أم وإخوة من أب وأم كيف قولكم فيها؟ قلنا: للزوج النصف وللأخوين من الأم الثلث والباقي للإخوة من الأب والأم. وإنما قلنا بذلك لأن النصف للزوج بظاهر الكتاب، وكذلك الأخوان من الأم والأخوة من الأب والأم لا تسمية لهم فهم يأخذون ما يبقى. فإن قيل: كيف ينقص حظ الأخوة من الأب والأم عن حظ الأخوة للأم وقد ساووهم في القرابة من جهة الأم ونزلوا منزلتهم؟ وزيادتهم عليهم بالقرابة من جهة الأب إن لم يزدهم تأكيدا لم تنقصهم. قلنا: القياس في الشرع مطرح والاعتبار فيه بالنصوص، وقد بينا أن الأمر على ما ذكرناه. ثم لا اعتبار بما ذكروه على أن ما ذكروه ينتقض بامرأة خلفت زوجا وأما وأخا لأم وعشرين إخوة لأب وأم لأنهم يذهبون إلى أن للزوج النصف وللأم السدس وللأخ من الأم السدس كاملا والسدس الباقي بين الأخوة للأب والأم وحظ كل واحد منهم أقل كثيرا من حظ الأخ للأم مع تساويهم في قرابة الأم فعلم أنه لا اعتبار بما ذكروه. (مسألة) [ 310 ] [ لو خلف الميت أبوين وزوجا أو زوجة ] ومما ظن انفراد الإمامية به ولهم فيه موافق متقدم أن الميت إذا خلف أبوين وزوجا أو زوجة أنه يبدأ بإخراج حق الزوج أو الزوجة وما يبقى بعد ذلك


[ 574 ]

فللأم منه الثلث من الأصل لا تنقص منه، وما بقي بعد حق الزوج أو الزوجة وحق الأم فهو للأب، فإن كان ميتا خلف زوجة وأبا وأما فللزوجة الربع وللأم الثلث وللأب ما بقي وهو خمسة أسهم من اثني عشر سهما، ولو خلف الميت زوجا وأبوين فللزوج النصف ثلاثة أسهم من ستة وللأم الثلث سهمان وللأب سهم واحد. وقد روي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يقول هذا القول بعينه وشريح وأنهما لم يرجعا عنه. وروي عن ابن سيرين مثل قول ابن عباس في امرأة وأبوين وخالفه في زوج وأبوين، فأعطى الأم في زوج وأبوين ثلث ما بقي (1). وقال باقي الفقهاء المتقدمون والمتأخرون بخلاف ذلك، وقالوا: إن للأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب (2). والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في هذه المسألة: الإجماع المتردد. وأيضا فإن الله تعالى قال: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) (3) فأوجب لها صريحا ثلث أصل المال، لأن إطلاق قولنا ثلث أو نصف أو سدس يقتضي أن يكون من أصل المال دون بعض من أبعاضه، ألا ترى أنه تعالى لما جعل للزوج النصف مع فقد الولد، والربع مع وجوده، وللزوجة الربع مع فقده والثمن مع وجوده، وكذلك كل من سمى له سهما كالبنت الواحدة والبنتين لم يفهم أحد من العلماء أن ذلك المسمى إلا من


(1) أحكام القرآن (للقرطبي) ج 5 ص 57 المغني (لابن قدامة) ج 7 ص 21 بداية المجتهد ج 2 ص 371 الشرح الكبير ج 7 ص 25 المجموع: ج 16 ص 73 المبسوط (للسرخسي) ج 29 ص 146 المحلى: ج 9 ص 260.
(2) البحر الزخار: ج 6 / 345.
(3) سورة النساء: الآية 11.

[ 575 ]

أصل المال دون بعضه، فكيف يجوز أن يفهم من قوله تعالى: (فلامه الثلث) أنه ثلث ما بقي وذلك بخلاف جميع ظواهر القرآن؟ وأيضا فإن الله تعالى جعل للأم مع فقد الولد سهما مسمى وهو الثلث ولم يعين للأب سهما مسمى في هذا الموضع بل كان له ما بقي، إلا أن الذي يبقى في هذه المسألة الثلثان بالاتفاق لأنه هو السهم الذي لا بد أن يستحقه الأب، فإذا دخل الزوج والزوجة على الأبوين كانا داخلين على من له فرض مسمى وهو الأم، وعلى من ليس له سهم مسمى وهو الأب فيجب أن لا ينقص صاحب السهم المسمى وهو الأم عن سهمه، ويكون النقصان داخلا على من له ما يبقى وهو الأب كما يكون له الزيادة، ألا ترى أن الزوج والزوجة لا ينقصان من تسمية سهامهما، فالأم لاحقة بهما لتسمية سهمهما، ولو جاز أن يدخل النقصان على الأم مع تعيين سهمها جاز ذلك في الزوج والزوجة، ولأن الأم إنما تنقص بالولد والأخوة ولم يوجدوا في هذه المسألة. فإن قيل: قوله تعالى: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) إنما المراد به إذا لم يرثه غير أبويه ولا خلاف أن الميت إذا ورثه أبواه من غير وارث سواهما فإن للأم الثلث. قلنا: الظاهر بخلاف ذلك، لأن قوله تعالى: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) إيجاب للأم الثلث مع فقد الولد على كل حال، ولم يذكر أنه لا وارث غيرهما، كما لم يذكر أن له وارثا غيرهما، وإذا لم يذكر كل ذلك حملناه على إطلاقه مع فقد الوارث ووجوده. ووجدت بعض من نصر هذه المسألة خاصة من المخالفين (1) في الفرائض يستدل على أن للأم الثلث كاملا لا ثلث ما بقي، بقوله تعالى: (وورثه أبواه


(1) لم نعثر عليه.

[ 576 ]

فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس) (1) قال هذا المحتج: يدل على أنها ترث مع فقد الأخوة الثلث ومع الأخوة السدس وفي ذلك بطلان قول من جعل لها ثلث الباقي عن فرض الزوج وهو سدس المال لما يقتضي من التسوية بين حالها إذا كان إخوة أو لم يكن إخوة، وقد فرق الله تعالى بين حالتها فجعل لها مع الأخوة السدس ومع فقد الأخوة الثلث، كما فرق بين حال الزوجين فجعل لهما مع فقد الولد مثلي ما لهما مع الولد فلما لم يجز أن يعطيا مع فقد الولد ما فرض لهما مع الولد دل أنه لا يجوز أن تعطى الأم مع غير الولد والأخوة ما جعل لها مع الأخوة والولد إذا كان الله تعالى قد فرق بين حالتهم جميعا. وفي التسوية بينهما مخالفة للظاهر وما هو إلا قريب. فإن قال قائل: لما كان الأبوان يرثان بمعنى واحد وهو الولادة وكانا في درجة واحدة شابها الابن والبنت اللذين يرثان بالولادة، فوجب أن لا تفضل الأنثى منهم على الذكر إذا تساويا في درجة. قلنا: هذا قياس وإن كان غير صحيح وبالقياس لا تثبت عندنا الأحكام الشرعية، ثم لو لزم ذلك للزم أن يرث الأبوان مع الولد للذكر مثل حظ الأنثيين ولا تساوي بينهما لاستوائهما في الدرج والولادة، وللزم مثله أيضا في الأخوة والأخوات من الأم والجد والجدة إذا استووا في الدرجة. واحتج ابن علية في هذه المسألة وتبعه في ذلك أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي (2) بأن للأب وللأم إذا لم يكن معهما غيرهما فللأم الثلث وللأب الثلثان، وإذا دخل عليهما من استحق بعض المال وجب أن يرجعا إلى ما كان لهما في الأصل كشريكين كان بينهما مال لأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه فإن


(1) سورة النساء: الآية 11.
(2) أحكام القرآن (للجصاص): ج 2 ص 83.

[ 577 ]

استحق مستحق نصف هذا المال، فالواجب أن يقسم ما بقي من المال على ما كان لهما في الأصل، لصاحب الثلث ثلث ما بقي ولصاحب الثلثين ثلثا ما بقي. وقد قوى أبو بكر الرازي هذا الاحتجاج بأن قال: أن الله تعالى جعل عند انفراد الأبوين بالميراث للأم الثلث وللأب الثلثين كما جعل مثل ذلك للابن والبنت في قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) (1)، وللأخ والأخت في قوله تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) (2) ثم لما سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما وأخذا نصيبهما كان الباقي بين الابن والبنت على ما كان عليه قبل دخولهما، وكذلك بين الأخ والأخت، وهذا يقتضي في مسألة الأبوين أن يكون إذا أخذ الزوج والزوجة نصيبهما وجب أن يكون ما كان للأبوين على ما استحقاه في الأصل قبل دخول الزوجين (3). وهذا احتجاج ركيك مبني على فساد، لأن الله تعالى إذا فرض للأم الثلث عند انفراد الأبوين بالميراث ولم يسم للأب شيئا فأعطيناه ما بقي وكان الثلثين اتفاقا، لأنه السهم المعين، وإذا كان فرض الأم الثلث في كل موضع وقد بينا أن الظاهر يقتضي أنه الثلث من أصل المال وجب أن نعطيها الثلث كاملا من المال مع الداخل وفقد الداخل، ويكون للأب ما بقي كائنا ما كان. ولا يشبه ذلك الشريكين، فإن الشريكين في المال لكل واحد منهما نصفه فإذا استحق مستحق من المال شيئا أعطينا كل واحد من الشريكين النصف بعد الخارج لتساويهما في السهام. وقد بينا أن سهم الأم مذكور في القرآن، وسهم الأب غير معين، وإنما له


(1) و (2) سورة النساء: الآية 176.
(3) أحكام القرآن (للجصاص) ج 2 ص 83.

[ 578 ]

ما بقي بعد فرض الأم، ولا يشبه ذلك ما ذكره الرازي في الابن والبنت والأخ والأخت، لأن الله تعالى قد صرح في نصيب من ذكره بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، فينبغي أن تكون القسمة على ذلك مع الانفراد والاجتماع ولم يصرح في الأبوين بأن للأب مع الانفراد الثلثين، فافترق الأمران ولا وجه للجمع بينهما. (مسألة) [ 311 ] [ من يرث مع الأبوين ] ومما انفردت به الإمامية أنه لا يرث مع الوالدين ولا مع أحدهما أحد سوى الولد والزوج والزوجة. وذهب فقهاء العامة إلى خلاف ذلك، وورثوا الأخوة والأخوات مع الأم على بعض الوجوه (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: بعد إجماع الطائفة الذي يتكرر قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (2)، وقد علمنا أن الوالدين أقرب إلى الميت من إخوته، لأنهم يتقربون إليه بهما، والوالدان يتقربان بنفوسهما. وأيضا فإن الله تعالى جعل للوالدين حقا عاليا ثم أهبطهما عنه في بعض الأحوال ولم يفرق بين الأب والأم في ذلك، وكما أن الأخوة والأخوات لا يرثون شيئا مع الأب كذلك يجب أن لا يرثوا مع الأم.


(1) راجع أحكام القرآن (للجصاص) ج 2 ص 82.
(2) سورة الأنفال: الآية 75.

[ 579 ]

(مسألة) [ 312 ] [ لو خلف الميت أبوين وبنتا ] ومما انفردت به الإمامية أنهم ذهبوا فيمن يموت ويخلف والديه وبنته أن للبنت النصف وللأبوين السدسين وما يبقى يرد عليهم على حساب سهامهم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن للبنت النصف وللأم السدس وللأب ما يبقى وهو الثلث (1). دليلنا على صحة قولنا الإجماع المتردد، ولأن الأبوين لهما السدسان بظاهر الكتاب وللبنت النصف بظاهره أيضا، ويبقى السدس فيجب أن يكون مردودا على الجماعة بقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) فكيف يجوز هذا الباقي للأب وإنما له السدس مع الولد؟ فإذا قالوا: بالخبر المتضمن لذكر العصبة، فقد تقدم (2) من الكلام في ذلك ما فيه كفاية، ولأن خبرهم إذا صح يقتضي أن تبقي الفرائض شيئا وهاهنا ما أبقت الفرائض شيئا بل قد إستوفى النص جميع المال. (مسألة) [ 313 ] [ لو خلف الميت ابنتين وأحد الأبوين وابن ابن ] ومما انفردت به الإمامية أنهم يذهبون فيمن ترك ابنتيه وأحد أبويه وابن ابن أن للبنتين الثلثين ولأحد الأبوين السدس وما يبقى فهو رد على البنتين


(1) لم نعثر عليه.
(2) لم نعثر عليه

[ 580 ]

وأحد الأبوين وليس لابن الابن شئ. وخالف سائر الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن السدس الباقي من هذه الفريضة لابن الابن (1). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة المتردد أن أحد الأبوين أقرب إلى الميت من ابن ابنه، والقربى مراعاة في الميراث فكيف يجوز أن يرث البعيد مع القريب؟ ولأن مخالفينا يعولون في ذلك على الخبر الذي يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله): ما أبقت الفرائض فلأولى ذي عصبة ذكر (2)، وقد أسلفنا (3) من الكلام في إبطال هذا الخبر ما فيه كفاية. ثم لو كان صحيحا لكان الأب بأن يكون هو الأولى بالميراث من ابن الابن، فلو راعينا التعصيب الذي يراعونه لكان الأب أحق من ابن الابن به. (مسألة) [ 314 ] [ حجب الأم ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس الأخوة من الأم خاصة، وإنما يحجبها عنه الأخوة من الأب والأم أو من الأب. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن الأخوة من الأم يحجبون كما تحجب الأخوة من الأب والأم (4).


(1) لم نعثر عليه (2) التهذيب: ج 9 ص 260 س 2 الوسائل: ج 17 ص 432 ح 5.
(3) لم نعثر عليه.
(4) لم نعثر عليه.

[ 581 ]

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع الذي قد تكرر. فإذا احتج علينا بظاهر قوله تعالى: (فإن كان له إخوة فلامه السدس) (1) وأن الاسم يتناول الأخوة من الأم خاصة كما يتناول الأخوة من الأب والأم. قلنا: هذا العموم نرجع عن ظاهره بالاجماع فإنه لا خلاف بين الطائفة في هذا. وقول من يقول من أصحابنا (2) كيف يجوز أن يحجبها الأخوة من الأم وهم في كفالتها ومؤنتها؟ ليس بعلة في سقوط الحجب، وإنما إتبعوا في ذلك لفظ الرواية فإنهم يروون عن أئمتهم (عليهم السلام) أنهم لا يحجبونها لأنهم في نفقتها ومؤونتها (3). (مسألة) [ 315 ] [ من يرث مع الولد ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأنه لا يرث مع الولد ذكرا كان أو أنثى أحد إلا الوالدان والزوج والزوجة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وجعلوا للإخوة والأخوات والعمومة وأولادهم نصيبا مع البنات (4). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: بعد الإجماع المتردد أنه لو جاز أن يرث أحد ممن ذكرناه مع البنات لجاز أن يرث مع البنين، لأن اسم الولد


(1) سورة النساء: الآية 11. (2) التهذيب ج 9 ص 285 ح 14 الوسائل: ج 17 ص 455 ح 5.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المجموع: ج 16 / 28.

[ 582 ]

يتناول الجميع، ولأن قربى البنت كقربى الابن. وما يعولون عليه من الخبر في العصبة قد تقدم (1) الكلام عليه وبيان ما فيه. (مسألة) [ 316 ] [ في الحبوة ] ومما انفردت به الإمامية القول: أن الولد الذكر الأكبر يفضل دون سائر الورثة بسيف أبيه وخاتمه ومصحفه. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. والذي يقوى في نفسي أن التفضيل للأكبر من الذكور بما ذكروه إنما هو بأن يخص بتسليمه إليه وتحصيله في يده دون باقي الورثة وإن احتسب بقيمته عليه، وهذا على كل حال انفراد من الفقهاء لأنهم لا يوجبون ذلك ولا يستحبونه وإن كانت القيمة محسوبة عليه. وإنما قوينا ما بينا وإن لم يصرح به أصحابنا، لأن الله تعالى يقول: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (2)، وهذا الظاهر يقتضي مشاركة الأنثى للذكر في جميع ما يخلفه الميت من سيف ومصحف وغيرهما، وكذلك ظاهر آيات ميراث الأبوين والزوجين يقتضي أن لهم السهام المذكورة في جميع تركة الميت، فإذا خصصنا الذكر الأكبر بشئ من ذلك من غير احتساب بقيمته عليه تركنا هذه الظواهر. وأصحابنا لم يجمعوا على أن الذكر الأكبر مفضل بهذه الأشياء من غير


(1) لم نعثر عليه.
(2) سورة النساء: الآية 11.

[ 583 ]

احتساب بالقيمة، وإنما عولوا على أخبار (1) رووها تتضمن تخصيص الأكبر بما ذكرناه من غير تصريح باحتساب عليه أو بقيمته، وإذا خصصناه بذلك اتباعا لهذه الأخبار واحتسبنا بالقيمة عليه فقد سلمت ظواهر الكتاب مع العمل بما أجمعت عليه الطائفة من التخصيص له بهذه الأشياء فذلك أولى. ووجه تخصيصه بذلك مع الاحتساب بقيمته عليه أنه القائم مقام أبيه والساد مسده فهو أحق بهذه الأمور من النسوان والأصاغر للرتبة والجاه. (مسألة) [ 317 ] [ حجب الولد من هو أهبط منه ] ومما انفردت به الإمامية أن ولد الصلب يحجب من كان أهبط منه، ولا فرق في ذلك بين كونه ذكرا أو أنثى. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن لولد الولد نصيبا مع بنات الصلب (2). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة أن الذكر من ولد الصلب إنما يحجب من هو أسفل منه، لأنه ولد صلب ولقرابته القريبة من الميت وهذا ثابت في الذكر والأنثى، فلو جاز أن يرث ولد الولد مع ولد الصلب إذا كان أنثى جاز مثل ذلك في الذكر.


(1) الكافي: ج 7 ص 85 الفقيه: ج 4 ص 346 و 347 ح 5746 و 5747 التهذيب: ج 9 ص 275 و 276 ح 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 9، الاستبصار: ج 4 ص 144، الوسائل: ج 17 ص 439.
(2) المجموع: ج 16 / 81.

[ 584 ]

(مسألة) [ 318 ] [ إرث الزوج ] ومما انفردت به الإمامية أن الزوج يرث المال كله إذا لم يكن وارث سواه فالنصف بالتسمية والنصف الآخر بالرد وهو أحق بذلك من بيت المال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا كلهم إلى أن النصف له والنصف الآخر لبيت المال (1). والحجة لنا في ذلك: إجماع الطائفة عليه. فإذا قيل: كيف يرد على من لا قرابة له ولا نسب وإنما يرث بسبب؟ وإنما يرد على ذوي الأرحام ولو جاز أن يرد على الزوج لجاز أن يرد على الزوجة حتى تورث جميع المال إذا لم يكن وارث سواها. قلنا: الشرع ليس يؤخذ قياسا وإنما يتبع فيه الأدلة الشرعية، وليس يمتنع أن يرد على من لم يكن ذا رحم وقرابة إذا قام الدليل على ذلك. وأما الزوجة فقد وردت رواية (2) شاذة بأنها ترث المال كله إذا انفردت كالزوج، ولكن لا معول على هذه الرواية ولا تعمل الطائفة بها، وليس يمتنع أن يكون للزوج مزية في هذا الحكم على الزوجة، كما كانت له مزية عليها في تضاعف حقه على حقها.


(1) المبسوط: (للسرخسي) ج 29 / 192 – 194.
(2) الفقيه: ج 4 ص 263 ح 5613 التهذيب: ج 9 ص 295 ح 16 الاستبصار ج 4 ص 150 ح 5، الوسائل: ج 17 ص 515 و 516 ح 6 و 9.

[ 585 ]

(مسألة) [ 319 ] [ إرث الزوجة من رباع المتوفى ] ومما انفردت به الإمامية: أن الزوجة لا تورث من رباع المتوفى شيئا بل تعطى بقيمته حقها من البناء والآلات دون قيمة العراص. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يفرقوا بين الرباع وغيرها في تعلق حق الزوجات (1). والذي يقوى في نفسي أن هذه المسألة جارية مجرى المسألة المتقدمة في تخصيص الأكبر من الذكور بالمصحف والسيف وأن الرباع وإن لم تسلم إلى الزوجات فقيمتها محسوبة لها. والطريقة في نصرة ما قويناه: هي الطريقة في نصرة المسألة الأولى وقد تقدم بيان ذلك. ويمكن أن يكون الوجه في صد الزوجة عن الرباع أنها ربما تزوجت وأسكنت هذه الرباع من كان ينافس المتوفى أو يغبطه أو يحسده فيثقل ذلك على أهله وعشيرته فعدل بها عن ذلك على أجمل الوجوه. (مسألة) [ 320 ] [ إرث الأخوة من الأب ] ومما انفردت به الإمامية: أنه لا يرث مع الأخت للأب والأم أحد من الأخوة والأخوات للأب خاصة، كما لا يرثون مع الأخ للأب والأم.


(1) المجموع: ج 16 / 70 و 71.

[ 586 ]

وخالف باقي الفقهاء في ذلك فورثوا الأخت من الأب مع الأخت من الأب والأم (1). دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الطائفة، وأيضا ما منع من ميراث ولد الأب خاصة مع الذكور من ولد الأب والأم يمنع من ميراثه مع الإناث، لأن اسم الولد شامل لهم وتأكد القرابة ثابت في الجميع فلا وجه للتفرقة بينهم. (مسألة) [ 321 ] [ إرث بني الأخوة ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن بني الأخوة يقومون عند فقد آبائهم مقامهم عند مقاسمة الجد ومشاركته، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. وحجتنا على ذلك: إجماع الطائفة. ولا اعتراض لهم علينا بأن الجد أقرب إلى الميت من ابن أخيه لأنهم لا يراعون في الميراث القربى، ولأن ابن الأخ قد ورث من سمى الله تعالى له سهما في النص، وليس كذلك الجد فهو أقوى سببا منه، والمعول على إجماع الطائفة ولا علة للأحكام الشرعية نعرفها أكثر من المصلحة الدينية على سبيل الجملة من غير معرفة تفصيل ذلك.


(1) المغني (لابن قدامة): ج 7 / 14 – 15.

[ 587 ]

(مسألة) [ 322 ] [ إرث الملاعن لو أقر بالولد ] ومما انفردت به الإمامية: أن من لاعن زوجته وفرق الحاكم بينهما الفرقة المؤبدة إن عاد بعد ذلك وأقر بالولد وأكذب نفسه لا يورث من الولد، بل يورث الولد منه، ولا يورث هذا الراجع، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (1). وقد بينا الكلام في هذه المسألة في باب اللعان من هذا الكتاب (2) فلا معنى لإعادته. (مسألة) [ 323 ] [ إرث المسلم للكافر ] ومما انفردت به الإمامية: عن أقوال باقي الفقهاء في هذه الأزمان القريبة وإن كان لها موافق متقدم الزمان القول: بأن المسلم يرث الكافر وإن لم يرث الكافر المسلم. وقد روى الفقهاء في كتبهم موافقة الإمامية على هذا المذهب عن سيدنا زين العابدين علي بن الحسين ومحمد بن الحنفية عليهما السلام وعن مسروق وعبد الله بن معقل المزني وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان (3).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 7 / 127.
(2) تقدم في ص 261.
(3) الشرح الكبير: ج 7 ص 160 المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 166، المنتقى (للباجي): ج 6 ص 250، المحلى: ج 9 ص 304، بداية المجتهد: ج 2 ص 381، المبسوط (للسرخسي): ج 30 ص 30، المجموع: ج 16 ص 58.

[ 588 ]

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا إلى أن كل واحد من المسلم والكافر لا يرث صاحبه (1). دليلنا: بعد إجماع الطائفة المتردد جميع ظواهر آيات المواريث، لأن قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (2) يعم الكافر والمسلم، وكذلك آية ميراث الأزواج والزوجات والكلالة وظواهر هذه الآيات كلها تقتضي أن الكافر كالمسلم في الميراث، فلما أجمعت الأمة على أن الكافر لا يرث المسلم أخرجناه بهذا الدليل الموجب للعلم ونفي ميراث المسلم للكافر تحت الظاهر كميراث المسلم للمسلم. ولا يجوز أن يرجع عن هذا الظاهر بأخبار الآحاد التي يروونها، لأنها توجب الظن ولا يخص بها ولا يرجع عما يوجب العلم من ظواهر الكتاب ولأن أكثرها مطعون على رواته مقدوح فيهم، ولأنها معارضة بأخبار كثيرة يرويها أيضا مخالفونا، وتوجد في كتبهم، ولأن أكثرها له تأويل يوافق مذهبنا. وتفصيل هذه الجملة أن مخالفنا في هذه المسألة يعول على خبر يرويه الزهري عن علي بن الحسين عليه السلام عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (3). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله (صلى الله


(1) البحر الزخار: ج 6 / 367.
(2) سورة النساء: الآية 11.
(3) صحيح البخاري: ج 8 ص 194 سنن أبي داود ج 3 ص 125 ح 2909 سنن الترمذي ج 4 ص 423 ح 2107 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 911 ح 2729 سنن الدارمي: ج 2 ص 371.

[ 589 ]

عليه وآله): أنه لا يتوارث أهل ملتين (1). وعن عامر الشعبي عن النبي (عليه وآله السلام) نحوه (2). وعن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: مضت السنة أن لا يرث المسلم الكافر (3). ولم يورث عمر بن الخطاب الأشعث بن قيس عن عمته اليهودية (4). وقال الزهري: كان المسلم لا يرث الكافر في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وعهد أبي بكر وعمر وعثمان، فلما ولي معاوية ورث المسلم من الكافر وأخذ بذلك الخلفاء حتى قام عمر بن عبد العزيز فراجع السنة الأولى (5). وكل هذه الأخبار إذا سلمت من القدوح والجروح إنما توجب الظن دون العلم اليقين، ولا يجوز أن يرجع بها ولا بشئ منها عما يوجب العلم من ظواهر كتاب الله تعالى. فأما خبر أسامة فمقدوح فيه، لأن أسامة تفرد به عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وتفرد به أيضا عنه عمرو بن عثمان. وتفرد به علي بن الحسين (عليه السلام) عن عمرو، وتفرد به الزهري عن علي بن الحسين (عليه السلام) وتفرد الراوي بالحديث مما يوهنه ويضعفه لوجوه معروفة. وقد روى هذا الحديث بعينه الزهري، وقال: عن عمرو بن عثمان (6) ولم


(1) سنن أبي داود: ج 3 ص 125 ح 2911 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 912 ح 2731، سنن الدارقطني: ج 4 ص 72 و 75 ح 16 و 25 سنن البيهقي: ج 6 ص 218.
(2) سنن الدارمي: ج 2 ص 369.
(3) لم نعثر عليه.
(4) الموطأ: ج 2 ص 519 ح 12، سنن البيهقي: ج 6 ص 218 و 219، كنز العمال: ج 11 ص 29 و 74 30494 و 30670، سنن الدارمي: ج 2 ص 369 و 370.
(5) المصنف (لابن أبي شيبة) ج 7 / 384.
(6) لم نعثر عليه.

[ 590 ]

يذكر علي بن الحسين (عليه السلام) واختلاف الرواية أيضا فيه مما يضعفه. ومما يضعف هذا الخبر أن علي بن الحسين (عليهما السلام) كان يورث المسلم من الكافر بلا خلاف فلو روى فيه سنة لما خالفها. وروى أحمد بن حنبل عن يعقوب عن أبيه عن صالح عن الزهري أن علي ابن الحسين (عليه السلام) أخبره أن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد قالا: لا يرث المسلم الكافر (1) من غير أن يسنداه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا الاختلاف والاضطراب في رواية الخبر دالان على ضعفه. وأما حديث عمرو بن شعيب فإن الحفاظ لا يثبتونه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ويذكرون أنه من قول عمر بن الخطاب وعمرو بن شعيب مضعف عند أصحاب الحديث. ومما يوهنه أيضا تفرده عن أبيه، وتفرد أبيه عن جده وتفرد جده به عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعمرو بن شعيب ما لقى عبد الله بن عمر الذي هو جده وإنما يرسل عنه. وأما خبر الشعبي عن النبي (صلى الله عليه وآله) فهو مرسل. وقول سعيد بن المسيب: إنه سنة لا حجة فيه، لأن ذلك خبر عن اعتقاده ومذهبه، ويجوز أن يريد به أنه من سنن عمر بن الخطاب لا النبي (عليه وآله السلام) وما يسنه غير النبي (عليه وآله السلام) ممن ذكرناه يجوز أن يكون خطأ، كما يجوز أن يكون صوابا. وكان مذهب سعيد بن المسيب توريث المسلم من الكافر، فكيف يجوز أن يكون عنده في خلاف ذلك سنة؟ على أن هذه الأخبار معارضة مقابلة بما يروونه مخالفونا، ويوجد في كتبهم،


(1) لم نعثر عليه.

[ 591 ]

مثل الخبر الذي يرويه عمرو بن أبي حكيم عن عبد الله بن بريدة أن أخوين إختصما إلى يحيى بن يعمر يهودي ومسلم فورث المسلم منهما. وقال حدثني أبو الأسود الدؤلي أن رجلا حدثه أن معاذا قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: الاسلام يزيد ولا ينقص فورث المسلم (1)، ونظائر هذا الخبر موجودة كثيرة في رواياتهم (2)، فأما روايات الشيعة في ذلك فمما لا يحصى (3). وأما الخبر المتضمن لنفي التوارث بين أهل ملتين فنحن نقول بموجبه لأن التوارث تفاعل وهو مقتضي أن يكون كل واحد منهما يرث صاحبه وإذا ذهبنا إلى أن المسلم يرث الكافر والكافر لا يرثه فما أثبتنا بينهما توارثا. وربما عول بعض المخالفين لنا في هذه المسألة على أن المواريث ثبتت (4) على النصرة والموالاة، بدلالة قوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) (5) فقطع بذلك الميراث بين المسلم المهاجر وبين المسلم الذي لا يهاجر إلى أن نسخ ذلك بانقطاع الهجرة بعد الفتح، وكذلك يرث الذكور من العصبة دون الإناث لنفي العقل والنصرة عن النساء، وكذلك لا يرث القاتل ولا العبد لنفي النصرة. وهذا ضعيف جدا لأنا أولا (6) لا نسلم أن المواريث ثبتت (7) على النصرة


(1) سنن أبي داود: ج 3 ص 126 ح 2912، جامع الأصول (لابن الأثير): ج 10 ص 368 ح 7362.
(2) سنن أبي داود: ج 3 ص 126 ح 2913.
(3) الكافي: ج 7 ص 142، الفقيه: ج 4 ص 334 التهذيب: ج 9 ص 365 – 368 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 11 و 12 و 14، الاستبصار: ج 4 ص 189 – 192 ح 1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 11 و 12 و 14، الوسائل: ج 17 ص 374.
(4) في ” ب “: بنيت.
(5) سورة الأنفال: الآية 72.
(6) ساقط من (ألف) و (ب). (7) في (ألف) و (ب) بنيت.

[ 592 ]

والموالاة والمعونة، لأن النساء يرثن والأطفال ولا نصرة هاهنا، وعلة ثبوت المواريث غير معلومة على التفصيل، وإن كنا نعلم على سبيل الجملة أنها للمصلحة. وبعد فإن النصرة مبذولة من المسلم للكافر في الواجب وعلى الحق كما أنها مبذولة للمسلم بهذا الشرط. (مسألة) [ 324 ] [ إرث المطلقة في مرض الموت ] ومما انفردت به الإمامية: أن المطلقة المبتوتة في المرض ترث المطلق لها إذا مات في مرضه ذلك ما بين طلاقها وبين سنة واحدة بشرط أن لا تتزوج فإن تزوجت فلا ميراث لها. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يعتبروا فيه ما اعتبرناه، لأن أبا حنيفة وأصحابه يذهبون إلى أنه إذا طلق امرأته ثلاثا في مرضه ثم مات من مرضه وهي في العدة فإنها ترثه، فإن مات بعد انقضاء العدة لم ترثه، فإن صح من مرضه ثم مات لم ترثه (1). وقال الحسن عن زفر: إن صح من مرضه ثم مرض ثم مات في مرضه وهي في العدة ورثته أيضا، وقول الثوري والأوزاعي مثل قول زفر، وكذلك قول الحسن بن حي (2).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 221 الشرح الكبير: ج 7 ص 184 المحلى: ج 10 ص 220 المجموع: ج 16 ص 64.
(2) المبسوط (للسرخسي): ج 6 ص 157 المحلى ج 10 ص 219 الشرح الكبير ج 7 ص 179 المغني (لابن قدامة) ج 7 ص 219.

[ 593 ]

وقال مالك: إذا طلق امرأته وهو مريض قبل الدخول بها كان لها نصف المهر والميراث ولا عدة عليها، فإن تزوجت عشرة أزواج كلهم طلق في المرض فإنها ترث جميعهم إذا ماتوا قبل أن يصحوا من المرض (1). وذكر الليث أن ابن شبرمة سأل ربيعة عن المريض يطلق امرأته، فقال: ترثه ولو تزوجت بعشرة أزواج (2). وقال مالك: فإن صح من مرضه (3) ثم مات بعد ذلك لم ترثه وهو قول الليث (4). وقال الشافعي: لا ترث المبتوتة وإن مات وهي في العدة (5)، وأجمعوا على أن المرأة لو ماتت لم يرثها، فبان بهذا الشرح أن الإمامية منفردة بقولها. والذي يدل على صحته: الإجماع المتكرر الذي قد بينا أن فيه الحجة، وأيضا فإن الأغلب والأظهر أن الرجل إنما يطلق (6) امرأته في مرضه هربا من أن ترثه فإذا حكم لها بأنها ترثه مدة سنة كان ذلك كالصارف له عن هذا الفعل. (مسألة) [ 325 ] [ إرث الخنثى ] ومما انفردت به الإمامية: أن من أشكلت حاله من الخناثى في كونه ذكرا


(1) المحلى: ج 10 ص 222.
(2) المصدر السابق.
(3) في ” ألف ” و ” ب “: مرضه صحة معروفة.
(4) لم نعثر عليه. (5) الشرح الكبير: ج 7 ص 181 المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 217 المبسوط (للسرخسي): ج 6 (6) في ” ألف “: يبت.

[ 594 ]

أو أنثى اعتبر حاله بخروج البول، فإن خرج من الفرج الذي يكون للرجال خاصة ورث ميراث الرجال، وإن كان خروجه مما يكون للنساء خاصة ورث ميراث النساء، وإن بال منهما معا نظر إلى الأغلب والأكثر منهما فعمل عليه وورث به، فإن تساوى ما يخرج من الموضعين ولم يختلف اعتبر بعدد الأضلاع، فإن اتفقت ورث ميراث الإناث، وإن اختلفت ورثت ميراث الرجال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وقالوا فيه أقوالا مختلفة كلها تخالف قول الشيعة في ذلك، لأن أبا حنيفة وإن كان قد روي عنه اعتبار البول كما تعتبره الإمامية فإنه يذهب إلى أنه متى خرج البول من الفرجين جميعا ورثه بأحسن أحواله، فإن كان أحسن أحواله أن يكون ذكرا أعطاه ذلك، وإن كان أحسن أحواله أن يكون أنثى أعطاه ذلك (1). والشافعي يعطي الخنثى ميراث امرأة ويوقف بقية المال حتى يتضح أمره (2). وأقوال الجميع إذا تأملت علم أنها خارجة عن أقوال الإمامية ومنفردة. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد، وأيضا فإن باقي الفقهاء عولوا عند إشكال الأمر وتقابل الأمارات على رأي وظن وحسبان، وعولت الإمامية فيما يحكم به في الخنثى على نصوص (3) وشرع محدود، فقولها على كل حال أولى.


(1) المبسوط (للسرخسي): ج 30 ص 92.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 115 الشرح الكبير: ج 7 ص 149.
(3) من لا يحضره الفقيه: باب 166 ميراث الخنثى ج 4 ص 237 وسائل الشيعة: باب 2 من أبواب ميراث الخنثى ج 17 ص 575.

[ 595 ]

(مسألة) [ 326 ] [ حكم مال المفقود ] ومما انفردت به الإمامية القول: بأن المفقود يحبس ماله عن ورثته قدر ما يطلب في الأرض كلها أربع سنين، فإن لم يوجد بعد انقضاء هذه المدة قسم المال بين ورثته. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وقالوا فيه أقوالا مختلفة، فذهب بعضهم في مال المفقود أنه يوقف ماله سبعين سنة من يوم فقد ثم يقسم بين الأحياء من ورثته (1). وقال الآخرون: يوقف تمام مائة وعشرين سنة (2)، وأقوالهم مختلفة في هذا الباب، تخالف كلها ما ذهبت إليه الإمامية. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: بعد الإجماع المتردد أن من خالفها يعول فيما ذهب إليه على القياس والظن، وقد بينا أن ذلك لا مدخل له في الأحكام الشرعية. (مسألة) [ 327 ] [ إرث القاتل خطأ ] ومما يظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق: قولها بأن القاتل خطأ يرث المقتول لكنه لا يرث من الدية. ووافق الإمامية على هذا المذهب عثمان البتي، وذهب إلى أن قاتل الخطأ يرث، ولا يرث قاتل العمد (3).


(1) المغني (لابن قدامة): ج 7 / 207. (2) المصدر السابق.
(3) أحكام القرآن (للقرطبي): ج 5 ص 66.

[ 596 ]

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يرث قاتل عمد ولا خطأ إلا أن يكون صبيا أو مجنونا فلا يحرم الميراث (1). وقال ابن وهب عن مالك لا يرث القاتل من دية من قتله شيئا ولا من ماله فإن قتله خطأ لم يرث من ديته ويرث من سائر ماله وهو قول الأوزاعي (2) وهذا كما تراه موافقة للإمامية. وقال ابن شبرمة: لا يرث قاتل الخطأ (3). وقال الثوري: لا يرث القاتل من مال المقتول ولا من ديته (4). وحكى المزني عن الشافعي أنه قال: إذا قتل الباغي العادل أو العادل الباغي لا يتوارثان، لأنهما قاتلان (5). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد. ويدل أيضا عليه ظواهر آيات المواريث كلها مثل قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) (6). فإذا عورضنا بقاتل العمد فهو مخرج بدليل قاطع لم يثبت مثله في قاتل خطأ. ويمكن أن يقوي ذلك أيضا بأن قاتل الخطأ معذور غير مذموم ولا مستحق للعقاب، فلا يجب أن يحرم من الميراث الذي يحرمه العامد على سبيل العقوبة. فإن احتج المخالف بقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة


(1) المجموع: ج 16 ص 61 أحكام القرآن (للقرطبي): ج 1 ص 456.
(2) بداية المجتهد: ج 2 ص 389، المبسوط (للسرخسي): ج 30 ص 47، أحكام القرآن (للقرطبي): ج 1 ص 456، المجموع: ج 16 ص 61.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 162، الشرح الكبير: ج 7 ص 219.
(5) الشرح الكبير: ج 7 ص 220، المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 163.
(6) سورة النساء: الآية 11.

[ 597 ]

ودية مسلمة إلى أهله) (1) فلو كان القاتل وارثا لما وجب عليه تسليم الدية. فالجواب عن ذلك أن وجوب تسليم الدية على القاتل إلى أهله لا يدل على أنه لا يرث ما هو دون الدية من تركته، لأنه لا تنافي بين الميراث وبين تسليم الدية، وأكثر ما في ذلك أن لا يرث من الدية التي يجب عليه تسليمها شيئا وإلى هذا نذهب. (مسألة) [ 328 ] [ لو خلف الميت مالا وأبوين مملوكين ] ومما انفردت به الإمامية القول أن من مات وخلف مالا وأبا مملوكا وأما مملوكة فإن الواجب أن يشتري أبوه وأمه من تركته ويعتق عليه ويورث باقي التركة. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (2)، وقد روي عن ابن مسعود في أن الرجل إذا مات وترك أبا مملوكا أنه يشتري من تركته ويعتق (3). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد، ولأن قولها أيضا مفض إلى قربة وعبادة وهو العتق فهو أولى. (مسألة) [ 329 ] [ الوصية للوارث ] ومما ظن انفراد الإمامية به: ما ذهبوا إليه من أن الوصية للوارث جائزة


(1) سورة النساء: الآية 92.
(2) المغني (لابن قدامة): ج 7 / 130.
(3) المغني (لابن قدامة): ج 7 ص 130 الشرح الكبير: ج 7 ص 222.

[ 598 ]

وليس للوارث ردها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء وإن كان الجمهور والغالب على خلافه (1). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك: بعد الإجماع المتردد قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) (2) وهذا نص في موضع الخلاف. وأيضا قوله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين) (3) وهذا عام في الأقارب والأجانب فمن خصص به الأجانب دون الأقارب فقد عدل عن الظاهر بغير دليل. وأيضا فإن هذا إحسان إلى أقاربه وقد ندب الله سبحانه إلى كل إحسان عقلا وسمعا ولم يخص بعيدا من قريب بذلك، ولا فرق بين أن يعطيهم في حياته من ماله وفي مرضه وبين أن يوصي بذلك لأنه إحسان إليهم وفعل مندوب إليه. فإن قالوا: فإن الآية منسوخة بآية المواريث وبما يروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طرق مختلفة من أنه لا وصية لوارث. فالجواب عن ذلك أن النسخ بين الخبرين إنما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما ولا تنافي بين آية المواريث وآية الوصية والعمل بمقتضاهما جميعا جائز سائغ، فكيف يجوز أن يدعي في آية المواريث أنها ناسخة لآية الوصية مع فقد التنافي؟ فأما الأخبار المروية في هذا الباب فلا اعتبار (4) بها لأنها إذا سلمت من


(1) البحر الزخار: ج 6 / 308.
(2) سورة البقرة: الآية 180.
(3) سورة النساء: الآية 11.
(4) في ” ألف ” و ” ب “: اعتراض.

[ 599 ]

كل قدح وجرح وتضعيف كانت تقتضي الظن ولا تنتهي إلى العلم اليقين، ولا يجوز أن ينسخ بما يقتضي الظن كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين، وإذا كنا لا نخصص كتاب الله تعالى بأخبار الآحاد فالأولى أن لا ننسخه بها، وقد بينا ذلك في كتابنا في أصول الفقه وبسطناه (1). ومعول القوم على خبر يرويه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عثمان عن عمرو بن خارجة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يجوز لوارث وصية (2). وعلى خبر يرويه إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي إمامة الباهلي قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول في خطبته عام حجة الوداع: ألا أن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث (3). وعلى خبر يرويه إسحاق بن إبراهيم الهروي عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار، عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا وصية لوارث (4). فأما خبر شهر بن حوشب فهو عند نقاد الحديث مضعف كذاب، ومع ذلك فإنه تفرد به عن عبد الرحمن بن عثمان وتفرد به عبد الرحمن عن عمرو بن


(1) الذريعة: ج 1 / 461.
(2) مسند أحمد: ج 4 ص 186 و 187 و 238، سنن البيهقي: ج 6 ص 264، كنز العمال: ج 16 ص 614 ح 46058 سنن الدارمي ج 2 ص 419، سنن الترمذي: ج 4 ص 434 ح 2121 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 905 ح 2712.
(3) سنن البيهقي: ج 6 ص 264، كنز العمال: ج 16 ص 614 ح 46057، سنن أبي داود: ج 3 ص 114 ح 2870 سنن الترمذي: ج 4 ص 433 ح 2120 سنن ابن ماجة: ج 2 ص 905 ح 2713، مسند أحمد: ج 5 ص 267.
(4) سنن الدارقطني: ج 4 ص 97 ح 90، كنز العمال: ج 16 ص 615 ح 46062.

[ 600 ]

خارجة، وليس لعمرو بن خارجة عن النبي (صلى الله عليه وآله) إلا هذا الحديث، ومن البعيد أن يخطب النبي (صلى الله عليه وآله) في الموسم بأنه لا وصية لوارث فلا يرويه عنه المطيفون به من أصحابه، ويرويه أعرابي مجهول وهو عمرو بن خارجة، ثم لا يرويه عن عمرو إلا عبد الرحمن، ولا يرويه عن عبد الرحمن إلا شهر بن حوشب وهو ضعيف متهم عند جميع الرواة. فأما حديث أبي أمامة فلا يثبت وهو مرسل، لأن الذي رواه عنه شرحبيل ابن مسلم وهو لم يلق أبا أمامة ورواه عن شرحبيل إسماعيل بن عياش وحده وهو ضعيف. وحديث عمرو بن شعيب (1) أيضا مرسل، وعمرو ضعيف لا يحتج بحديثه. وحديث جابر أسنده أبو موسى الهروي وهو ضعيف متهم في الحديث، وجميع من رواه عن عمرو بن دينار لم يذكروا جابرا ولم يسندوه. وما روي عن ابن عياش لا أصل له عند الحفاظ. وراوية حجاج بن محمد عن ابن جريح عن عطاء الخراساني – وعطاء الخراساني ضعيف ولم يلق ابن عياش وإنما أرسله عنه. وربما تعلق بعض المخالفين بأن الوصية للوارث إيثار لبعضهم على بعض وذلك مما يكسب العداوة والبغضاء بين الأقارب، ويدعو إلى عقوق الموصي وقطيعة الرحم. وهذا ضعيف جدا، لأنه إن منع من الوصية للأقارب ما ذكروه منع من تفضيل بعضهم على بعض في الحياة بالبر والاحسان لأن ذلك يدعو إلى الحسد والعداوة ولا خلاف في جوازه وكذلك الأول.


(1) سنن ابن ماجة: ج 12 ص 912 ح 2731 سنن أبي داود ج 3 ص 125 ح 2911 سنن الدارقطني: ج 4 ص 75 ح 25 مسند أحمد ج 2 ص 195 سنن البيهقي: ج 6 ص 218 كنز العمال: ج 11 ص 18 ح 30440

اترك تعليقاً