العدة في أصول الفقه

الشيخ الطوسي ج 1


[ 1 ]

العدة في الاصول الفقه تأليف لشيخ الطائفة: أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله 385 – 460 ه‍ الجزء الاول تحقيق محمد رضا الانصاري


[ 2 ]

الطبعة الاولى ذو الحجة 1417 ه‍. المطبعة ستاره – قم


[ 3 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة على خير خلقه محمد، وآله الطيبين. قد سألتم أيدكم الله، املاء مختصر في أصول الفقه، يحيط بجميع أبوابه على وجه الاختصار والايجاز (1)، على ما تقتضيه مذاهبنا، وتوجبه اصولنا فان من صنف في هذا الباب سلك كل قوم منهم المسالك التي اقتضاها (2) أصولهم، ولم يصنف أحد (3) من أصحابنا في هذا المعنى، إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله (4) في المختصر الذي له في أصول


[ 4 ]

الفقه (1) ولم يستقصيه وشذ منه أشياء يحتاج إلى إستدراكها، وتحريرات غير ما حررها فإن (2) سيدنا الاجل المرتضى (3) قدس الله روحه (4) وإن كثر في أماليه، وما يقر عليه، شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه، ويجعل ظهرا يستند إليه. وقلتم: إن هذا فن من العلم، لابد من شدة الاهتمام به، لان ] الشريعة كلها مبنية عليه ولا يتم العلم بشئ منها من دون إحكام أصولها، ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكيا ومقلدا، ولا يكون عالما وهذا منزلة يرغب أهل الفضل عنها. وأنا مجيبكم إلى ما سألتم عنه، مستعينا بالله وحوله وقوته وأسأله أن يعني (5) على ما يقرب من ثوابه ويبعد من عقابه. وأقدم (6) في أول الكتاب فصلا يتضمن ماهية أصول الفقه وإنقسامها وكيفية ترتيب أبوابها وتعلق بعضها ببعض، حتى أن الناظر إذا نظر فيه وقف على الغرض المقصود بالكتاب وتبين من أوله إلى آخره (7). والله تعالى الموفق للصواب.


[ 5 ]

الباب الاول


[ 7 ]

فصل [ 1 ] (في ماهية أصول الفقه وإنقسامها وكيفية ترتيب أبوابها) أصول الفقه هي أدلة الفقه، وإذا (1) تكلمنا في هذه الادلة فقد نتكلم فيما تقتضيه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الاقسام على طريق الجملة وليس يلزم على ذلك (2) أن تكون الادلة الموصلة إلى فروع الفقه الكلام فيها كلاما في اصول الفقه (3) لان هذه الادلة (6) أدلة على تعيين المسائل والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل وليس المراد بذلك، مالا يتم العلم بالفقه الا معه لانه لو كان كذلك لزم أن يكون الكلام في حدوث الاجسام، وإثبات الصانع، والعلم بصفاته، وايجاب عدله، وتثبيت الرسالة، وتصحيح النبوة، كلاما في اصول الفقه، لان العلم به لا يتم من دون العلم بجميع ذلك، وذلك لا يقوله أحد، فعلم بهذه الجملة، ان المراد بهذه العبارة ما قلناه. والاصل في هذه الاصول الخطاب، أو ما كان طريقا إلى اثبات الخطاب، أو ما كان الخطاب طريقا إليه. فأما الخطاب فهو الكلام الواقع على بعض الوجوه وليس كل كلام خطابا،


[ 8 ]

وكل خطاب كلام. والخطاب يفتقر في كونه كذلك إلى ارادة المخاطب، لكونه خطابا لمن هو خطاب له ومتوجه إليه، لانه قد يوافق الخطاب في جميع صفاته من وجود وحدوث، وصيغة، وترتيب ما ليس بخطاب، فلا بد من أمر زائد، وهو ما قلناه. والكلام في الخطاب، كلام في بيان أدلة الكتاب، والسنة وذلك ينقسم خمسة أقسام: أحدها: الكلام في الاوامر والنواهي. والثانى: الكلام في العموم والخصوص. والثالث: الكلام في المطلق والمقيد. والرابع: الكلام في المجمل والمبين. والخامس: الكلام في الناسخ والمنسوخ. أما ما هو طريق إلى اثبات الخطاب من هذه الطرق، فهو قسم واحد وهو الكلام في الاخبار، وبيان أقسامها. وأما ما الخطاب طريق إليه، فهو أيضا قسم واحد، وهو الكلام في أحكام الافعال. وألحق قوم بهذا القسم الكلام في الاجماع، والقياس، والاجتهاد، وصفة المفتى والمستفتي، والحظر، والاباحة. وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا، لان الاجماع عندنا إذا اعتبرناه، من حيث كان فيه معصوم، لا يجوز عليه الخطأ، ولا يخلو الزمان منه، وطريق ذلك العقل دون السمع، فهو خارج عن هذا الباب. وأما القياس والاجتهاد (1) فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما،


[ 10 ]

ونحن نبين ذلك فيما بعد، ونبين أيضا ما عندنا في صفة المفتى والمستفتي. وأما الكلام في الحظر والاباحة، فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل أيضا (1)، فهو – أيضا – خارج من هذا الباب. والاولى في تقديم هذه الاصول الكلام في الاخبار، وبيان أحكامها، وكيفية


[ 11 ]

أقسامها، لانها الطريق إلى اثبات الخطاب. ثم الكلام في أقسام الخطاب. ثم الكلام في الافعال لانها متأخرة عن العلم بالخطاب. ثم الكلام في تتبع ما عده المخالف أصلا وليس منه. ولما كان المبتغى (1) بهذه الاصول العلم، فلا بد من أن نبين فصلا يتضمن بيان حقيقته، و (2) الفرق بينه وبين الظن وغيره، وما يصح من ذلك أن يكون مطلوبا، وما لا يصح. ولا بد أيضا من بيان ما لا يتم العلم الا به: من حقيقة النظر، وشرايط الناظر، وما يجب أن يكون عليه، وبيان معنى الدلالة، وسائر متصرفاته، واختلاف العبارة عنه. ولما كان الاصل في هذا الباب الخطاب، وكان ذلك كلاما فلا بد من بيان فصل يتضمن معنى الكلام، وبيان الحقيقة منه والمجاز، وانقسام انواعه. ولما كان الكلام صادرا من متكلم، فلا بد من بيان من يصح الاستدلال بكلامه ومن لا يصح، ويدخل في ذلك الكلام فيما يجب أن يعرف من صفات الله تعالى وما لا يجب، وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصفات الائمة القائمين مقامه الذين يجرى قولهم مجرى قوله عليه السلام. ونحن نبين جميع ذلك في أبوابه على غاية من الاختصار حسب ما تقتضيه الحاجة، ونتقصر (3) فيما نذكره على الاشارة إلى ذكر ما ينبغى أن يعتمد عليه، ويحصل العلم به دون أن يقرن (4) ذلك بالادلة المفضية إليه، لان لشرح ذلك موضعا غير هذا، والمطلوب من هذا الكتاب بيان ما يختصه من تصحيح اصول الفقه التي ذكرناها، وبيان الصحيح منها والفاسد، ان شاء الله تعالى.


[ 12 ]

فصل [ 2 ] (في بيان حقيقة العلم، وأقسامه، ومعنى الدلالة، وما يتصرف منها) حد العلم ما اقتضى سكون النفس. وهذا الحد أولى من قول من قال: (انه اعتقاد للشئ على ما هو به، مع سكون النفس) لان الذى يبين به العلم من غيره من الاجناس هو سكون النفس، دون كونه اعتقادا، لان الجهل أيضا اعتقاد، وكذلك التقليد. ولا يبين أيضا بقولنا: (للشئ على ما هو به) لانه يشاركه فيه التقليد أيضا، إذا كان معتقده على ما هو به. والذى يبين به هو سكون النفس، فينبغي أن نقتصر (1) عليه، وليس من حيث ان ما اقتضى سكون النفس لا يكون الا اعتقادا للشئ على ما هو به، ينبغى أن يذكر في الحد. كما انه لا بد من أن يكون عرضا، وموجودا، ومحدثا، وحالا في المحل، ولا يجب ذكر ذلك في الحد من حيث لا يبين به، فكذلك ما قلناه. ولا يجوز أن يحد العلم بانه المعرفة، لان المعرفة هي العلم بعينه، ولا (2) يجوز


[ 13 ]

أن يحد الشى بنفسه. ولا يجوز أن يحد بانه اثبات، لان الاثبات في اللغة هو الايجاب (1)، ولاجل ذلك يقولون: (أثبت السهم في القرطاس) أي: أوجبته (2) فيه. ويعبر أيضا في الخبر عن وجوب الشئ كما يقال في المجبرة (3) انهم مثبتة. ثم ان ذلك ينتقض بالتقليد، لانه أيضا إثبات للشئ على ما هو به، ان اريد بهذه اللفظة الاعتقاد، وان اريد بها العلم فقد حد الشئ بنفسه. والعلوم على ضربين: ضروري، ومكتسب. فحد الضرورى ما كان من فعل غير العالم به، على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشك أو شبهة. وهذا الحد أولى مما قاله بعضهم من أنه: (ما لا يمكن العالم به دفعه عن نفسه بشك أو شبهة إذا انفرد) (4) * لان ذلك تحرز ممن (5) اعتقد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان زيدا في الدار، ثم شاهده، فانه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه، و (6) مع هذا فهو اكتساب.


[ 14 ]

وهذا لا يصح عندنا، لان العلم بالبلدان، والوقائع، وما جرى مجراهما، هذا الحد موجود فيه، وعند كثير من أصحابنا مكتسب قطعا، وعند بعضهم هو على الوقف، فلا يصح ذلك على الوجهين معا. على ان ذلك انما يصح على مذهب من يقول ببقاء العلوم، فأما من قال ان العلم لا يبقى فلا معنى لهذا الكلام عنده، لانه لا يبقى وقتين، فيصح طرو الشبهة في ذلك أو الشك، فيعتبر صحة انتفائه بهما أولا، وانما يتجدد حالا بعد حال، اللهم الا أن يراد بذلك انه لا يصح أن يمنع منه ابتداءا، فان اريد به ذلك فذلك يوجد في العلم الاستدلالي الذى لم يقارنه الضرورى (1) *، لانه في حال حصول العلم أيضا لا يمكنه دفعه عن نفسه، وإن لم يكن ضروريا. وانما يصح أن يدخل الشبهة أو الشك عليه فيمنعا من وجود مثله في الثاني، أو يدخلا في طريقه قبل حصوله، فيمنعا من توليده، فأما حال حصوله فلا يصح على حال، فعلم بذلك ان الصحيح ما قلناه. اللهم [ الا ] أن يراد بذلك ما أمكن ذلك فيه على وجه، فان اريد ذلك كان صحيحا على مذهبه، ولا يصح ذلك على مذهبنا، لما قلناه من العلم الحاصل بالبلدان والوقايع. والعلوم الضرورية على ضربين: ضرب منهما: يحصل في العاقل ابتداءا (2) *، وهو مثل العلم بان الموجود لا يخلو من أن يكون قديما أو غير قديم، وان الجسم الواحد لا يخلو من أن يكون في مكان أو لا يكون فيه، وان الذات لا بد من أن يكون على صفة أو لا يكون عليها، وتعلق


[ 15 ]

الكتابة بالكاتب، والبناء بالبانى، وما يجرى مجرى ذلك مما يعد (1) في كمال العقل، وهى كثيرة. والضرب الثاني: ما يقف على شرط، وهو العلم بالمدركات، لان العلم بها ضروري، الا أنه واقف على شرط، وهو الادراك مع ارتفاع اللبس، وهذا العلم واجب حصوله مع الشرط الذى ذكرناه في العاقل، لانه مما يدخل به في كونه كامل العقل، ومتى لم يحصل، أخل ذلك بكمال عقله. وزاد قوم في هذا القسم الذى يقف على شرط – وان لم يكن ذلك واجبا – العلم بالصنائع عند الممارسة، والعلم بالحفظ عند الدرس. ولنا في ذلك نظر، ليس هذا موضع الكلام فيه. وذكروا فيه أيضا العلم بمخبر الاخبار المتواترة ونحن نبين ما عندنا فيها (2) عند الكلام في الاخبار ان شاء الله تعالى. وأما العلم المكتسب: فحده أن يكون فعل من العالم به، وهذا الحد أولى من حد من قال إنه: (ما أمكن العالم به دفعه عن نفسه لشبهة في دليله، أو طريقه إذا انفرد)، لان ذلك لا يصح على مذهبنا، على ما قلناه من العلم باخبار البلدان والوقايع. والعلم المكتسب على ضربين: أحدهما: لا يقع إلا متولدا عن نظر في دليل. والاخر يفعله العالم في نفسه ابتداءا. فالقسم الاول على ثلاثة أضرب: أحدها: أن ينظر في شئ فيحصل له العلم بغيره، نحو نظرنا في الحوادث لنعلم ان لها محدثا، وهذا الوجه يختص العقليات، لانها الطريق إلى اثبات ذوات


[ 16 ]

الاشياء، دون الشرعيات التى هي طريق إلى اثبات أحكامها. وثانيها: أن ينظر في حكم لذات، فيحصل له العلم بصفة لها، وذلك نحو نظرنا في صحة الفعل من زيد، فيحصل لنا العلم بانه قادر. وهذا أولى مما قاله قوم: من انه ينظر في شئ فيحصل له العلم بغيره، ومثل ذلك بالنظر في فعل زيد، فيحصل له العلم بانه قادر. وانما قلنا انه أولى، لان الذى يدل على كونه قادرا، صحة الفعل منه على وجه دون وقوعه، فتمثيله بما قلناه أولى. والضرب الثالث: أن ينظر في حكم لذات، فيحصل لنا العلم بكيفية صفة لها، نحو نظرنا في جواز العدم على بعض الذوات، فيحصل لنا العلم بانها محدثة. وهذا الذى ذكرناه أولى مما قاله قوم من انا ننظر في صفه لذات، فيحصل لنا العلم بصفة اخرى لها، لان جواز العدم ليس هو صفة، وانما هو حكم من أحكامها، وكونها محدثة ليس أيضا بصفة، وانما هو كيفية في الوجود، فعلم بذلك ان ما قلناه أولى. ومثاله في الشرعيات: ان ننظر في أن شيئا منها واجب، فيحصل لنا العلم بأن له جهة وجوب. وأما الضرب الثاني من العلوم المكتسبة التى تحصل من غير نظر: فهو ما يفعله المنتبه من نومه، وقد سبق له النظر في معرفة الله تعالى، فحينئذ يعقل (1) العلم عند ذكره الادلة. وطريق النظر في الوجوه الثلاثة، التى قدمنا ذكرها. وقال قوم: في العلوم التى تقع عن نظر ما يسمى استدلالا، وهو ما يكون المستدل به غير المستدل عليه. ومنه ما يسمى اكتسابا فقط، واطلاق الاكتساب على جميع ذلك لا خلاف فيه.


[ 17 ]

ولا يمتنع أن يسمى أيضا جميع ذلك استدلالا، وانما يختص بتسميته الاكتساب ما يفعله ابتداءا، على ما بيناه عند الانتباه، فان ذلك لا يجوز أن يسمى استدلالا. ومن حق العلوم المكتسبة أن تتأخر عن الضرورية، لانها فرع عليها، أو كالفرع. وأما الظن: فعندنا وان لم يكن أصلا في الشريعة تستند الاحكام إليه (1)، فانه تقف أحكام كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين، ونحو جهات القبلة، وما يجرى مجراها، فلا بد أن نذكر (2) حده. وحده: (ما قوى عند الظان كون المظنون على ما ظنه، ويجوز مع ذلك كونه على خلافه). وهذ أولى مما قاله قوم من انه: (ما أوجب كون من وجد في قلبه ظنا) (3)، لانه بهذا (4) لا يبين (5) من غيره، لانه يحتاج بعد إلى تفسير، فالاولى ما ذكرناه. وبما قلناه يبين من العلم، لان العالم لا يجوز كون ما علمه على خلافه. وكذلك به يتميز من الجهل، لان الجاهل يتصور نفسه بصورة العالم فلا يجوز خلاف ما اعتقده، وان كان يضطرب عليه حاله فيما (6) يجهله، من حيث لم يكن ساكن النفس، ولانه اعتقاد لا على ما هو (7) * به، وليس كذلك الظن.


[ 18 ]

وأما المقلد (1) *: فان كان يحسن الظن بمن قلده (2) * فهو سيظن أن الامر على ما قلده فيه. وإذا قلد من لا يجوز عليه الخطأ، فكذلك لا يجوز كون ما قلده فيه على خلاف ما قلده. وإذا قلد من لا يقوى في ظنه حال ما قلده فيه ففارق الظن، لان ذلك يكون قد سبق إلى اعتقاد لا مزية لكونه على ما اعتقده، أو على خلافه (3)، فقد فارق حال الظن. وأما الشاك: فهو الخالى من اعتقاد الشئ على ما هو به، ولا على ما هو به مع خطوره بباله، وتجويزه كل واحدة من الصفتين عليه. وأما الدلالة: فهى ما أمكن الاستدلال بها على ما هي دالة (4) عليه، الا أنها لا تسمى بذلك الا إذا قصد فاعلها الاستدلال. وانما قلنا ذلك لان ما لا يمكن الاستدلال به، لا يكون دلالة ألا ترى ان طلوع الشمس من مشرقها لا يكون دلالة على النبوة، لانه لا يمكن ذلك فيها من حيث كان ذلك معتادا، وطلوعها من مغربها يكون دلالة، لامكان ذلك فيه. وأثر اللص لا يسمى دلاله، وان أمكن الاستدلال به عليه، من حيث لم يقصد بذلك استدلال (5) عليه، وان سمى ذلك دلالة على بعض الوجوه، فعلى ضرب من


[ 19 ]

المجاز، لانه لو كان حقيقة لوصف بانه دال وذلك لا يقوله أحد، لانا نعلم انه يجتهد في اخفاء أمره، وان لا يعلم به، فكيف يجوز وصفه بأنه دال !، وتستعمل هذه اللفظة في العباره عن الدلالة، ولهذا يقول أحد الخصمين لصاحبه أعد دلالتك، وانما يريد به كيفية عبارتك عنها، وذلك مجاز. وانما استعير ذلك من حيث كان السامع لذلك إذا تأمله كان أقرب إلى معرفة المدلول عليه، كما انه عند النظر في الدلالة كذلك. وتوصف الشبهة بانها دلالة مجازا، ولهذا يقال دلالة المخالف. ومن حق الدلالة أن تكون معلومة للمستدل بها على الوجه الذى تدل على ما تدل عليه، حتى يمكنه الاستدلال بها، ولا فرق بين أن يعلم ذلك ضرورة أو استدلالا. ولا يجب في الادلة أن تكون موجودة، ولاجل ذلك صح الاستدلال (1) * بمجئ الشجرة، وحنين الجذع على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبكلامه على الاحكام، وان كان ذلك كله معدوما. ولا يجب في الادلة أن يعلم بدلالة اخرى، ويجوز ذلك فيها الا أنها لا بد أن تنتهي إلى دلالة يعلم صفتها ضرورة، والا أدى إلى ما لا يتناهى من الادلة. والدال: هو من فعل الدلالة، لانه مشتق منها، فجرى في ذلك مجرى الضارب في أنه مشتق من الضرب، وعلى هذا يصح أن يقال: ان الله تعالى دلنا على كذا، فهو دال، وكذلك (2) النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلنا على كذا وكذا فهو دال. وقد يتجوز في ذلك فيعبر به عن الدلالة فيقولون: قول الله تعالى، وقول النبي (3) دال على كذا وكذا من الاحكام، وان كان الدال في الحقيقة هو الله تعالى والرسول على ما بيناه،


[ 20 ]

وكذلك يتجوز في العبادة عن الدلالة. والدليل: هو الدال في الاصل قال الشاعر: إذا الدليل استاف أخلاف الطرق (1) فوصف الدال على الطريق بانه دليل، من حيث فعل أشياء استدل بها على الموضع المقصود. وقد يتجوز في ذلك فيستعمل في الدلالة، فيقولون في الاجسام انه دليل على خالقها، وبأن القرآن دليل على الاحكام، ولا يمتنع أن يقال أيضا انه حقيقة فيهما (2) *. والمدلول: هو الذى نصبت له الدلاله ليستدل (3) بها، وهو المكلف، وقد يتجوز بذلك في المدلول عليه فيقولون: هذا مدلول الدلالة، وذلك مجاز. والمدلول عليه: هو ما يؤدى النظر في الدلالة إلى العلم به. والمستدل: هو الناظر، ولا يسمى بذلك الا إذا فعل الاستدلال. والمستدل به: هو الدلالة بعينها، ولا يسمى بذلك قبل الاستدلال بها. والمستدل عليه: هو المدلول عليه بعينه، غير أنه لا يسمى بذلك قبل حصول الاستدلال. والنظر ينقسم إلى: تقليب الجارحة الصحيحة نحو المرئى طلبا لرؤيته.


[ 21 ]

وإلى معنى الانتظار. وإلى معنى التعطف والرحمة. وإلى معنى الفكر. والواجب من ذلك هو الفكر (1) *. والناظر يعلم نفسه ناظرا ضرورة، ويفصل بين هذا الحال وبين سائر صفاته من كونه معتقدا، وظانا، ومريدا، وغير ذلك من الصفات. ومن شرط الناظر أن يكون عالما بالدليل على الوجه الذى يدل على ما يدل عليه، حتى يصح أن يولد نظره العلم. ولاجل ذلك نقول: ان من لا يعلم صحة الفعل من زيد لا يعلمه قادرا، ومن لا يعلم وقوع الفعل محكما منه، لا يمكنه أن يستدل على كونه عالما، لما لم يكن عالما بالجهة التى لكونه عليها يدل، ولهذا نقول: ان من لا يعلم ان قوله تعالى: ” وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة ” (2) كلام الله، وان الله تعالى لا يجوز عليه القبيح، ولا التعمية والالغاز في الكلام، لا يمكنه الاستدلال به على وجوب الصلوة ولا الزكوة، ولذلك ألزمنا المجبرة أن لا يمكنهم الاستدلال بكلام الله تعالى من حيث جوزوا (3) * عليه القبائح كلها. وكذلك من لا يعلم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق، وانه لا يجوز عليه الكذب، ولا التعمية، والالغاز في الكلام، لا يصح له أن يستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم على شئ من الاحكام. وهذه العلوم التى ذكرناها، شرط في توليد النظر للعلم، لا في صحة وجوده، لان


[ 22 ]

من اعتقد الدليل، أو ظنه على الوجه الذى يدل – وان لم يكن عالما به – جاز منه فعل النظر، وان لم يولد (1) * العلم. وإنما قلنا انه متى لم يكن عالما، لا يولد نظره العلم، لانه إذا لم يكن عالما بالدليل على الوجه الذى يدل عليه، جوز ألا (2) يكون دليلا (3) على الوجه الذى يدل، فكيف يجوز حصول العلم عن الدليل مع تجويز ما قلناه فيه ؟ والنظر في الدليل من الوجه الذى يدل يوجب العلم، لانه يكثر بكثرته، ويقل بقلته، ولانه يقع العلم عنده مطابقا لما يطلبه بالدليل، ألا ترى ان من نظر في صحة العقل من زيد لا يصح أن يقع له العلم بان عمرا قادر، وكذلك من نظر في أحكام الفعل، لا يصح أن يقع له العلم بالهندسة وغيرها، فعلم بوجوب هذه المطابقة انه متولد عن (4) النظر. والنظر لا يولد الجهل (5) * على وجه، لانه لو ولده لم يخل أن يكون النظر في الدليل يولده، أو النظر في الشبهة. ولا يجوز أن يولد النظر في الدليل الجهل، لانا قد بينا ان النظر في الدليل يولد العلم، ولا يجوز في شئ أن يولد الشئ وضده. ولو ولد النظر في الشبهة الجهل، لكان يجب كل من نظر فيها أن يولد له الجهل، كما ان كل من نظر في الدليل ولد له العلم. ونحن نعلم انا ننظر في شبه (6) المخالفين فلا يتولد لنا


[ 23 ]

الجهل، ولانه لو كان شئ من النظر يولد الجهل، لادى إلى قبح كل نظر لان الانسان لا يفرق بين النظر الذى يولد العلم، والنظر الذى يولد الجهل، ولا بين الدليل والشبهة، وانما يعلم كون الدليل دليلا إذا حصل له العلم بالمدلول، فاما قبل حصوله، فلا يعلمه دليلا. وما أدى إلى قبح كل نظر، ينبغى أن يحكم بفساده لانا نعلم ضرورة حسن نظر كثير من أمر الدين والدنيا معا. والنظر الذى ذكرناه لا يصح إلا من كامل العقل (1) *، فلا بد أن نبين ماهية العقل. والعقل: هو مجموع علوم إذا حصلت كان الانسان عاقلا، مثل أن يجب أن يعلم المدركات إذا أدركها وارتفع عنها اللبس، وأن يعلم أن الموجود لا يخلو من قدم أو حدوث، وأن المعلوم لا يخلو من وجود أو عدم، ويعلم وجوب كثير من الواجبات، وحسن كثير من المحسنات، مثل وجوب رد الوديعة، وشكر النعمة، وحسن الاحسان، ويعلم قبح كثير من المقبحات، مثل الظلم المحض، والكذب العارى من نفع ودفع ضرر، والعبث وغير ما عددناه، ويعلم تعلق الفعل بالفاعل (2) * وقصد المخاطبين، ويمكنه معرفة ما يمارسه من الصنايع، ويمكنه أيضا معرفة مخبر الاخبار، وغير ذلك. فإذا حصلت هذه العلوم فيه كان كامل العقل يصح منه الاستدلال على الله تعالى، وعلى صفاته، وعلى صدق الانبياء عليهم السلام. ووصفت هذه العلوم التى ذكرناها بالعقل لوجهين: أحدهما: انه لما كان العلم بقبح كثير من المقبحات صارفا له عن فعلها، وعلمه


[ 24 ]

بوجوب (1) كثير من الواجبات، داعيا له إلى فعلها، وصارفا عن الاخلال بها، سمى عقلا تشبيها بعقال الناقة الذي يمنعها (2) من السير. والثانى: انه لما كانت العلوم الاستدلالية لا تثبت الا مع ثبوت هذه العلوم، سميت عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة، ولاجل ما قلناه لا يصح وصف القديم تعالى بانه عاقل، لان هذا المعنى لا يصح فيه. وأما الامارة فليست موجبة للظن، بل يختار الناظر فيها عندها الظن ابتداءا، لانا نعلم انه ينظر جماعة كثيرة في امارة واحدة من جهة واحده، فلا يحصل لجميعهم الظن، فلو كانت مولدة لوجب ذلك، كما يجب ذلك في الدليل، ألا ترى ان الجماعة إذا نظرت في الدليل من الوجه الذى يدل، حصل لجميعهم العلم، ولم يحصل لبعضهم دون بعض، وليس كذلك الظن.


[ 25 ]

فصل [ 3 ] (في ذكر أقسام افعال المكلف) أفعال المكلف (1) * إذا كان عالما بها، أو متمكنا من العلم بها، وهو غير ساه عنها، ولا ملجأ إليها (2) *، لا تخلو من أن تكون حسنة أو قبيحة، وانما قلنا ذلك لان فعل الساهي والنائم لا يوصف بذلك. وقال قوم: يوصف بذلك إذا كان فيه جهة الحسن أو القبح. فالحسن على ضربين: ضرب منه: ليس له صفة زائدة على حسنه، وذلك يوصف بأنه مباح، إذا دل فاعله على حسنه، ويوصف – أيضا – في الشرع بأنه حلال وطلق وغير ذلك.


[ 26 ]

والضرب الاخر: له صفة زائدة على حسنه، وهو على ضربين: أحدهما: أن يستحق المدح بفعله، ولا يستحق الذم بتركه (1) *، فيوصف بأنه مرغب فيه، ومندوب إليه، ونفل، وتطوع، وهذا الضرب إذا تعدى إلى الغير سمى بأنه احسان وانعام. والضرب الثاني: هو ما يستحق الذم بتركه، وهو أيضا على ضربين: أحدهما: انه متى لم يفعله بعينه استحق الذم، وذلك مثل رد الوديعة، والصلوات المعينة المفروضة، فيوصف بأنه واجب مضيق. والضرب الثاني: هو ما إذا لم يفعله، ولا ما يقوم مقامه استحق الذم، فيوصف بانه واجب مخير فيه، وذلك نحو الكفارات في الشريعة، واداء الصلوات في الاوقات المخير فيها، وقضاء الدين من أي درهم شاء، وما شاكل ذلك. ومن الواجب ما يقوم فعل الغير مقامه (2) *، وذلك نحو الجهاد والصلاة على الاموات، ودفنهم، وغسلهم، ومواراتهم، فيوصف بانه فرض على الكفاية. وأما القبيح: فلا ينقسم انقسام الحسن، بل هو قسم واحد، وهو كل فعل يستحق فاعله الذم على بعض الوجوه، ويوصف في الشرع بانه محظور، ومحرم إذا دل فاعله عليه أو اعلمه. وفي الافعال ما يوصف بأنه مكروه، وان لم يكن قبيحا، وهو كل فعل كان الاولى تركه واجتنابه، وان لم يكن قبيحا يستحق بفعله الذم، فيوصف بانه مكروه. وفي افعال الشريعة ما يوجب على غير فاعلها حكما، كفعل الطفل، والمجنون، وما أشبههما، فانه يلزم المكلف أن يأخذ من مال الطفل والمجنون عوض ما أتلفه ويرده على صاحبه، ويأخذ الزكاة مما يجب فيه من جملة ماله عند من قال بذلك.


[ 27 ]

وفي الافعال ما يوجب على فاعلها أحكاما، وذلك على أقسام: منها: قولهم (أن الصلاة باطلة)، فمعناه انه يجب علينا (1) اعادتها. وقولهم: (ان الشهادة باطلة) انه لا يجوز للحاكم تنفيذ الحكم عندها، وإذا قالوا: (انها صحيحة) معناه انه يجوز تنفيذ الحكم عندها. وقول من قال: (ان الوضوء بالماء المغصوب غير جائز) انه يجب عليه اعادته ثانيا بماء مطلق، وعند من قال: (انه جائز) معناه انه وقع موقع الصحيح. وقولهم: (ان البيع صحيح) معناه ان التمليك وقع به، وقولهم: (انه فاسد) خلاف ذلك، وانه لا يصح التملك به، ولا استباحة التصرف به. وهذه الالفاظ إذا تؤملت رجع (2) * معناها إلى ما قدمناه من الاقسام، غير ان لها فوائد في الشريعة تكشف عن أسباب أحكامها. فهذه الجملة كافية في هذا الفصل. واذ قد بينا ما أردناه من حقيقة العلم، والنظر، والدليل، وصفة الناظر، وغير ذلك، وحقيقة الافعال، فلا بد من أن نبين حقيقة الكلام ونشرح أقسامه، وما ينقسم إليه من حقيقة أو مجاز. ثم نبين الاسماء اللغوية، والعرفية، والشرعية، وكيفية ترتيبها. فإذا فعلنا ذلك بينا صفات من يصح أن يستدل بخطابه ومن لا يصح. ثم نشرع فيما ذكرناه من ترتيب الاصول على ما قدمنا القول فيه ان شاء الله تعالى.


[ 28 ]

فصل [ 4 ] (في حقيقة الكلام، وبيان أقسامه، وجملة من أحكامه، وترتيب الاسماء) حقيقة الكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة، إذا وقع ممن يصح منه، أو من قبيله (1) * الافادة، وهو على ضربين: مهمل، ومفيد. فالمهمل: هو الذى لم يوضع ليفيد في اللغة شيئا. والمفيد على ضربين: ضرب منهما: له معنى صحيح وان كان لا يفيد فيما وضع له، (2) * وذلك نحو أسماء الالقاب وغيرها. والضرب الثاني: يفيد فيما وضع له. وهو على ضربين: حقيقة، ومجاز. فحد الحقيقة: ما افيد به ما وضع في اللغة، ومن حقه أن يكون لفظه منتظما


[ 29 ]

لمعناه من غير زيادة، ولا نقصان، ولا نقل إلى غير موضعه، وذلك مثل قوله تعالى: ” ولا تقتلوا النفس التى حرم الله لا بالحق ” (1) إلى ما شاكل ذلك من الحقائق. وأما المجاز: فهو ما افيد به ما لم يوضع له في اللغة، ومن حقه أن يكون لفظه لا ينتظم معناه، اما بزيادة، أو نقصان (2) *، أو بوضعه في غير موضعه. والمجاز الذى دخلته الزيادة نحو قوله تعالى: ” ليس كمثله شئ ” (3) لان معناه ليس مثله شئ، فالكاف زائدة. والمجاز بالنقصان، نحو قوله تعالى: ” وسئل القرية ” (4) ” واسئل العير ” (5)، لان معناه واسئل أهل القرية، وأهل العير، فحذف ذلك اختصارا ومجازا، ونحو قوله تعالى: ” إلى ربها ناظرة ” (6) * على تأويل من قال إلى ثواب ربها ناظرة. و ” جاء ربك ” (7) لان معناه، وجاء أمر ربك، وما أشبه ذلك. والمجاز الثالث، نحو قوله تعالى: ” وأضلهم السامري ” (8) فنسبة إليه من حيث دعاهم، وان كانوا هم ضلوا في الحقيقة، لا انه فعل فيهم الضلال. ويجب حمل الحقيقة على ظاهرها، ولا يتوقع في ذلك دليل يدل على ذلك. والمجاز لا يجوز حمله عليه، الا ان يدل دليل على كونه مجازا.


[ 30 ]

والحقيقة إذا عقلت فائدتها، فيجب حملها على ما عقلت من فائدتها (1) * أين وجدت، ولا يخص به موضع دون آخر، ويطرد ذلك فيها الا لمانع من سمع أو عرف أو غير ذلك، الا أن يكون وضعت (2) لتفيد في معنى جنس دون جنس، فحينئذ يجب أن يخص ذلك الجنس به نحو قولهم: (خل) انه يفيد الحموضة في جنس مخصوص، وقولهم: (بلق) يفيد إجتماع اللونين في جنس دون جنس. وعلى هذا المعنى يقال ان الحقايق يقاس عليها. واما المجاز فلا يقاس عليه وينبغى أن يقر حيث استعمل، ولذلك لا يقال: (سل الحمير) ويراد مالكها كما قيل: (واسئل القرية)، واريد أهلها، لان ذلك لم يتعارف فيه. والحقيقة لا يمتنع أن يقل استعمالها فتصير كالمجاز، مثل قولنا (الصلاة) في الدعاء وغير ذلك. وكذلك لا يمتنع في المجاز أن يكثر استعماله فيصير حقيقة بالعرف (3) نحو قولنا: (الغائط) في الحدث المخصوص، وقولنا: (دابة) في الحيوان المخصوص، وما هذا حكمه، حكم له بحكم الحقيقة. والمفيد من الكلام لا يكون الا جملة من اسم واسم، أو فعل واسم، وما عداهما ما لا يفيد الا بتقدير واحد من القسمين فيه ولاجل ذلك قلنا يا زيد في النداء انما يفيد لان معنى (يا) ادعوا فصار معنى هذا الحرف معنى الفعل، فلاجل ذلك أفاد. وينقسم (4) ذلك إلى أقسام: إلى الامر وما معناه معنى الامر (5) من السؤال، والطلب والدعاء.


[ 31 ]

وإلى النهى. وإلى الخبر، ويدخل في ذلك الجحود، والقسم، والامثال، والتشبيه وما شاكله، والاستخبار، والاستفهام، والتمنى [ والترجى ] (1) شبيه بالاخبار. هذا ما قسمه أهل اللغة، وطول كثير من الفقهاء في اقسام الكلام. وقال قوم: (2) الاصل في ذلك كله الخبر، لان الامر معناه معنى الخبر، لان معناه اريد منك أن تفعل وذلك خبر، والنهى معناه اكره منك الفعل وذلك أيضا خبر، وكذلك القول في سائر الاقسام. والاسامى المفيدة على ضربين: اما أن تكون مفيدة لعين واحدة، أو تفيد أكثر من ذلك، فما أفاد الفائدة في عين واحدة فهو أسماء الاجناس. وما أفاد أكثر من ذلك على ضربين: أحدهما: نحو قولنا: (لون) فانه لا يفيد في عين واحدة، بل يفيد في أعيان فائدة واحدة. والضرب الثاني: يفيد معاني مختلفة وهو جميع الاسماء المشتركة نحو قولنا: (قرؤ) و (جون) و (عين)، وغير ذلك. وفي الناس من دفع ذلك وقال: ليس في اللغة إسم واحد لمعنيين مختلفين. وهذا خلاف حادث لا يلتفت إليه، لان الظاهر من مذهب أهل اللغة خلافه. ويدخل على الجمل (3) حروف تغير معانيها وتحدث فيها فوائد لم تكن قبل


[ 32 ]

ذلك وهى كثيرة قد ذكرها أهل اللغة ولا نحتاج إلى ذكر جميعها، ونحن نذكر منها ما له تعلق بهذا الباب. فمنها: (الواو) فذهب قوم إلى انها توجب الترتيب، وهو المحكى عن الفراء وأبى عبيدة، واحتج كثير من الفقهاء به (1). والصحيح انها لا تفيد الترتيب بمقتضى اللغة (2)، ولا يمتنع أن يقال انها تفيد ذلك بعرف الشرع، بدلالة ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال لمن خطب فقال: (من يطع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقد هدى ومن يعصهما فقد غوى) ” بئس خطيب القوم أنت ” فقال: يا رسول الله، كيف أقول ؟ فقال عليه السلام قل: ” ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ” (3). فلولا الترتيب لما كان لهذا الكلام معنى، ولكان يفيد قوله: ” ومن يعصهما ما أفاد ” ومن يعص الله ورسوله ” عند من قال بانها تفيد الجمع، وقد علمنا خلاف ذلك. ومنها ان القائل إذا قال لزوجته التى لم يدخل بها ” أنت طالق وطالق “، لا


[ 33 ]

خلاف بين الفقهاء انه لا يقع الا طلقة واحدة (1)، فلو كانت الواو تفيد الجمع لجرى مجرى قوله: (أنت طالق تطليقتين) (2). وقد علمنا خلاف ذلك. وقال قوم (3): ان الواو تفيد الجمع والاشتراك (4) * وهو الظاهر في اللغة نحو قولهم: ” رأيت زيدا وعمرا ” ومعناه رأيتهما، وتستعمل بمعنى استئناف جملة من الكلام، وان لم تكن معطوفة على الاول في الحكم نحو قوله تعالى: ” والراسخون في العلم يقولون آمنا به ” (5) على قول من قال ان المراد به الاخبار عن الراسخين بانهم يقولون آمنا به، لا أنهم يعلمون تأويل ذلك. وقد تستعمل بمعنى (أو)، كقوله تعالى في وصف الملائكة: ” اولى أجنحة مثنى وثلث ورباع ” (6)، وكقوله: ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع ” (7)، والمراد بذلك أو. والاشبه في ذلك أن يكون مجازا لانه لا يطرد في كل موضع. ومنها: (الفاء) ومعناها الترتيب والتعقيب (8) *، نحو قول القائل: ” رأيت زيدا فعمرا، فانه يفيد ان رؤيته له عقيب رؤيته لزيد مع انه بعده، ولذلك ادخل الفاء في جواب الشرط لما كان من حق الجزاء أن يلحق (9) بالشرط من غير تراخ. وقلنا: ان قوله


[ 34 ]

تعالى: ” انما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ” (1) ان ظاهر الكلام يقتضى كون المكون عقيب كن لموضع الفاء، وهذا يوجب ان كن محدثة، لان ما تقدم المحدث بوقت واحد لا يكون قديما، وذلك يدل على حدوث الكلام بالضد مما يتعلقون به (2) *. وذهب المرتضى رحمه الله إلى أنها تفيد الترتيب، وخالف في أنها تفيد التعقيب من غير تراخ، بل قال: ذلك موقوف على الدليل ويجب التوقف فيه، وخالف في جميع ما يمثل به في هذا الباب. وأما (ثم): فانها تفيد الترتيب والتراخى، فهى مشاركة للفاء في الترتيب وتضادها في التراخي. وقد استعملت (ثم) بمعنى (الواو) في قوله تعالى: ” فالينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ” (3) لان معناه والله شهيد، وذلك مجاز. وأما (بعد): فانها تفيد الترتيب من غير تراخ ولا تعقيب. وأما (إلى) فهى للحد، وقد يدخل الحد في المحدود تارة، وتارة لا يدخل، فهو موقوف على الدليل، وان كان الاقوى انه لا يدخل فيه. وأما (من): فلها (4) أربعة أقسام: أحدها: التبعيض، نحو قولهم: (أكلت من الخبز واللحم)، يعنى أكلت بعضهما، ونحو قولهم: (هذا باب من حديد، وخاتم من فضة) لان المراد به أنه من هذا الجنس. وثانيها: معنى ابتداء الغاية، نحو قولهم: (هذا الكتاب من فلان إلى فلان)، أي


[ 35 ]

ابتداء غايته منه، وعلى هذا حمل قوله تعالى: ” نودى من شاطئ الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى ” (1) فان (2) معناه ان ابتداء النداء كان من الشجرة، فذلك دليل على حدوث النداء. وثالثها: أن تكون زائدة مثل قولهم: (ما جائنى من أحد) معناه ما جائنى أحد. ورابعها: أن تبين تبيين الصفة، نحو قوله تعالى: ” فاجتنبوا الرجس من الاوثان ” (3) معناه فاجتنبوا (4) الرجس الذى هو الاوثان، ذكر ذلك أبو على الفارسى النحوي (5). وقال بعضهم: ان معناها في جميع المواضع ابتداء الغاية، وأنكر ما عدا ذلك من الاقسام وأما (الباء): فتستعمل على وجهين: أحدهما: التبعيض، وهو إذا استعملت في موضع الذي (6) يتعدى الفعل إلى المفعول به بنفسه، ولاجل هذا قلنا ان قوله تعالى: ” وامسحوا برؤسكم ” (7) يقتضى المسح ببعض الرأس، لانه لو كان المراد مسح الرأس كله لقال: (امسحوا رؤسكم) لان الفعل يتعدى بنفسه إلى الرؤس. والثانى: أن تكون للالصاق، وهو إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول بنفسه


[ 36 ]

مثل قولهم: (مررت بزيد)، لانه لو قال: (مررت زيدا) لم يكن كاملا. وأما (أو): فالاصل فيها التخيير كقولهم: (جالس الحسن أو ابن سيرين). وعلى هذا حملت آية الكفارة (1). وتستعمل بمعنى الشك، كقول القائل: (أكلت كذا أو كذا)، ورأيت فلانا أو فلانا، الا أن هذا القسم لا يجوز في كلام الله تعالى. وقد تستعمل بمعنى (الواو) كما قال تعالى: ” وارسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ” (2) وانما أراد به ويزيدون. وقد تستعمل بمعنى الابهام، مثل قول القائل: (فعلت كذا وكذا) إذا كان عالما بما فعله، وانما يريد ابهامه على المخاطب به. وأما (في): فانها تفيد الظرف نحو قولهم: (زيد في الدار)، وان استعملت في غير ذلك (الموضع) (3) فعلى ضرب من المجاز. واذ قد بينا ان الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز فلا بد من اثباته، لان في الناس من دفع أن يكون في الكلام مجاز أصلا (4). وهذا قول شاذ لا يلتفت إليه، لان من


[ 37 ]

المعلوم من دين أهل اللغة ان استعمالهم لفظة الحمار في البليد، والاسد في الشجاع مجاز دون الحقيقة. وكذا قوله تعالى: ” ان الذين يؤذون الله ” (1) بمعنى يؤذون أولياء الله، ” و: جاء ربك ” (2) بمعنى جاء أمر ربك، وقوله: ” واسئل القرية ” (3) بمعنى أهل القرية، ان كل ذلك مجاز. فان دفع ذلك استعمالا، فما ذكرناه دلالة عليه. وان قال: لا أدفعه استعمالا الا أنى أقول إنه حقيقة، كان مخالفا لاستعمال أهل اللغة واطلاقهم، ويحتج عليه بالرجوع إلى الكتب المصنفة في المجاز (4). والوجه الذى يستعمل عليه المجاز كثير و (لا) ينضبط، وقد ذكر بعضه في الكتب. ولا يجوز أن يكون مجاز ولا حقيقة له، وانما قلنا ذلك لما بيناه من ان المجاز هو ما استعمل في غير ما وضع له، وإذا لم يكن له حقيقة لم يثبت هذا المعنى فيه. ويجوز


[ 38 ]

أن تكون حقيقة ولا مجاز لها. ومن حق الحقيقة أن يعلم المراد بها بظاهرها، ومن حق المجاز أن يعلم المراد به بدليل غير الظاهر، والله تعالى قد خاطب بالمجاز كما خاطب بالحقيقة، وكذلك الرسول عليه وآله السلام، ومن دفع ذلك لا يلتفت إلى قوله، وليس ذلك بمؤدى إلى الحاجة، لان الله تعالى استعمل ذلك على عادة العرب في خطابها في استعمال الحقيقة والمجاز، كما استعمل الاطالة تارة والايجاز اخرى، كما استعملت هي، فإذا جاز أحدهما جاز الاخر. فأما لفظ الاستعارة فالاولى أن لا يطلق على كلام الله تعالى من حيث (1) يوهم ان فاعلها استعارها لحاجة، وان اريد بذلك ما ذكره بعضهم من أن المخاطب بتلك اللغة يقتضى حسن استعمالها في المجاز كحسن ذلك في الحقيقة فعلى هذا لا يمتنع اطلاق هذه اللفظة على كلام الله تعالى. فإذا (2) ثبت ان الله تعالى خاطب بالحقيقة والمجاز معا فلا بد من أن يدل على الفصل بينهما، والا أدى إلى تكليف ما لا يطاق، كما لا بد من أن يدل على الفصل بين الالفاظ المختلفة لتعرف معانيها. والفصل بين الحقيقة والمجاز يقع من وجوه: منها: أن يوجد نص من أهل اللغة، أو دلالة على أنه مجاز. ومنها: أن يعلم بأنهم وضعوا تلك اللفظة لشئ ثم استعملوها في غيره (3) على وجه التشبيه. ومنها: أن يعلم انها تطرد (4) في موضع، ولا تطرد في آخر، ولا مانع فيعلم انها مجاز في الموضع الذى لا تطرد فيه. وانما شرطنا المانع لان الحقيقة قد لا تطرد لمانع


[ 39 ]

عرفى أو شرعى، ألا ترى ان لفظة (الدابة) ووضعت في الاصل لكل ما دب، ثم اختصت في العرف بشئ (1) بعينه، وكذلك لفظة (الصلاة) في الاصل للدعاء، ثم اختصت في الشرع بأفعال بعينها، وكذلك لفظة (النكاح) وما جرى مجرى ذلك، فيعلم أنه حقيقة وان لم تطرد، لما بيناه من العرف والشرع. ومنها: أن يعلم ان للفظه حكما وتصرفا من اشتقاق، أو تثنية، أو جمع، أو تعلق بالغير (2) *، فإذا استعملت في موضع وهذه الاحكام منتفية عنه علم انه مجازا، ولذلك قلنا: ان لفظة الامر حقيقة في القول ومجاز في الفعل، لان الاشتقاق لا يصح في الفعل ويصح في القول. ومنها: أن يعلم ان تعلقها بالمذكور لا يصح، فيحكم ان هناك حذفا وان اللفظ مجاز ولذلك قلنا إن قوله: ” واسئل القرية ” (3) مجاز، وكذلك قوله: ” إلى ربها ناظرة ” (4) على أحد التأويلات. ومنها: أن يستعمل في الشئ من حيث كان جزاءا لغيره، نحو قوله تعالى: ” وجزاء سيئة سيئة مثلها ” (5) لان الجزاء في الحقيقة لا يكون سيئة، ولهذا قال أهل اللغة الجزاء بالجزاء، ومعلوم ان الاول ليس جزاء، ولذلك نظائر كثيرة. ومنها: ان يستعمل في الشئ لانه يفضى إلى غيره كقولهم: (حضره الموت) (6) * إذا خيف عليه من مرضه، ونحو قولنا: ان النكاح اسم للوطء، حقيقة ومجاز في العقد لانه موصل إليه، وان كان بعرف الشرع قد اختص بالعقد كلفظة (الصلاة) وغيرها.


[ 40 ]

وقد يستعمل اللفظ في الشئ لانه مجاور لغيره، أو هو منه بسبب. وهذه الجملة كافية في هذا الباب فانها تنبه على ما عداها وقد انتقلت اسماء كثيرة مما كانت عليه في اللغة إلى العرف تارة وإلى الشرع (1) اخرى، فما انتقل منه إلى العرف نحو قولنا: (دابة) و (غائط) فان هذا وان كان اسما في اللغة لكل ما يدب و للمكان المطمئن من الارض منه، صار في العرف عبارة عن حيوان مخصوص وحدث مخصوص، ونظائر ذلك كثيرة لا فائدة في ذكر جميعها وانما اردنا المثال. واما ما انتقل منه إلى الشرع فنحو قولنا: (الصلاة) فانها في اللغة موضوعة للدعاء، وقد صارت في الشريعة عبارة عن أفعال مخصوصة، وكذلك (الزكاة) في اللغة عبارة عن النمو، وفي الشريعة عبارة عن أخذ شئ مخصوص، ونظائر ذلك كثيرة. واما لفظة (الايمان) فعند قوم انها منتقلة، وعند آخرين انها على ما كانت عليه (2)، وليس هذا الكتاب موضوعا لاعيان الاسماء التى انتقلت والتى لم تنتقل فان شرح ذلك يطول، وانما كان غرضنا أن نبين ثبوت ذلك. والسبب في استعمال ذلك انه حدثت أحكام في الشريعة لم تكن معروفة في اللغة، فلا بد من العبارة عنها، فلا فرق بين أن توضع لها عبارة مبتداة لا تعرف، وبين أن ينقل بعض الاسماء المستعملة في غير ذلك، كما ان من يرزق ولدا يجوز له أن يضع له اسما لا يعرف، ويجوز أن ينقل بعض الاسماء المستعملة إليه، الا أن (3) الامر وان كان على ما قلناه، فمتى نقل الاسم من مقتضى اللغة إلى شئ لا يعرف فيها لا يكون المتكلم به متكلما باللغة، بل يكون متكلما بالشرع، وان سمى متكلما باللغة يكون مجازا من حيث انه استعمل ما كانوا استعملوه، وان كان قد استعملوه في غير ذلك. ومتى لم نقل ذلك لزم أن يكون من تكلم باللغة المعروفة ووافق بعض أسمائها أسماء


[ 41 ]

العجم أن يكون متكلما بالعجمية، وذلك لا يقوله أحد. فعلم ان الصحيح ما قلناه. وإذا ثبتت هذه الجملة، فمتى ورد خطاب من الله تعالى أو من الرسول عليه السلام (1) نظر فيه، فان كان استعماله في اللغة والعرف، والشرع سواء، حمل على مقتضى اللغة، وان كان له حقيقة في اللغة، وصار في العرف حقيقة في غيره وجب حمله على ما تعورف في العرف، وكذلك ان كان له حقيقة في اللغة أو العرف وقد صار بالشرع (2) حقيقة لغيره (3)، وجب حمله على ما يعرف (4) بالشرع (5)، وكذلك إذا (6) كانت اللفظة منتقلة عن اللغة إلى العرف ثم استعملت في الشرع على خلاف العرف، وجب حملها على ما تقرر في الشرع، لان خطاب الله تعالى وخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينبغى أن يحملا على ما تقتضيه الشريعة، لانه المستفاد من هاتين الجهتين. ومتى نقل الله تعالى أو رسوله عليه وآله السلام اسما من اللغة إلى الشرع وجب عليه أن يبينه لمن هو مخاطب به (7) * دون من لم يخاطب به، لان من ليس بمخاطب به لا يجب بيانه له، ولاجل هذا لا يجب أن يبين الله تعالى لنا مراده بالكتب السالفة لما لم نكن مخاطبين بها، وهذا وإن لم يجب فإنه يحسن أن يبين لغير المخاطب كما يبين الله تعالى أحكام الحيض لمن ليس هو مخاطب بها من الرجال، وذلك جائز غير واجب على ما قلناه، وانما قلنا ذلك لانه كما يجب أن يقدر من ليس بمخاطب به، فكذلك لا يجب أن يعلمه لان القدرة آكد من العلم، لان الفعل يستحيل من دونها أصلا، فإذا لم تجب القدرة فكذلك لا يجب العلم على ما بيناه.


[ 42 ]

فصل [ 5 ] (في ذكر ما يجب معرفته من صفات الله تعالى، وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصفات الائمة عليهم السلام حتى يصح معرفة مرادهم) اعلم انه لا يمكن معرفة المراد بخطاب الله تعالى الا بعد ثبوت العلم باشياء: منها: أن يعلم أن الخطاب خطاب له، لانا متى لم نعلم انه خطاب له لم يمكنا أن نستدل على معرفة مراده. ومنها: أن نعلم أنه لا يجوز أن لا يفيد بخطابه شيئا أصلا (1) *. ومنها: أن نعلم أنه لا يجوز أن يخاطب (2) بخطابه على وجه يقبح. ومنها: أنه لا يجوز أن يريد بخطابه غير ما وضع له ولا يدل عليه. فمتى حصلت هذه العلوم صح الاستدلال بخطابه على مراده، ومتى لم يحصل جميعها، أو لم يحصل بعضها لم يصح ذلك، ولذلك ألزمنا المجبرة (3) * الا (4) *


[ 43 ]

يعرفوا بخطابه شيئا ولا مراده أصلا من حيث جوزوا على الله تعالى القبائح. ولشرح هذه الاشياء موضع غير هذا يحتمل أن نبسط الكلام فيه، غير انا نشير إلى جمل منه موصلة إلى العلم. انما قلنا: أنه لا يجوز أن يخاطب ولا يفيد بخطابه شيئا أصلا، لان ذلك عبث لا فائدة فيه، تعالى الله عن ذلك. وليس لاحد أن يقول: يجوز أن لا يفيد بخطابه شيئا أصلا ويكون وجه حسنه المصلحة، لان ذلك يؤدى إلى أن لا يكون طريق إلى معرفة المراد بخطابه أصلا (1) *، لانه لا خطاب الا وذلك مجوز فيه وذلك فاسد، فجرى ذلك مجرى المعجزات الدالة على نبوة الانبياء عليهم السلام في أنه لا يجوز أن تفعل للمصلحة (2) * دون التصديق (3)، لان ذلك يؤدى إلى انسداد الطريق علينا من الفرق بين الصادق والكاذب، ولاجل ذلك قلنا: أنه لا يجوز فعل المعجز الا للتصديق (4) * فكذلك القول


[ 44 ]

في الخطاب: انه لا يجوز أن يصدر منه الا للافادة. وليس لهم أن يقولوا: أنه تعبد بتلاوته (1)، وذلك لا يمكن الا بخطاب آخر، والكلام في ذلك الخطاب كالكلام فيه. وذلك يؤدي إلى أن لا نعلم بخطابه شيئا أصلا، على ان التعبد بتلاوة ما لا يفهم عبث، لانه يجرى مجرى التعبد بالتصويب من الصراخ. ولان التعبد به انما يجوز إذا كان للمتعبد به طريق إلى معرفة مراده فيدعوه ذلك إلى فعل الواجب، أو يصرفه عن فعل القبيح، فأما إذا لم يكن كذلك فلا تحسن العبادة بالتلاوة. أيضا: فلو كان لمجرد التلاوة لم يحسن أن يجعل بعضه أمرا، وبعضه نهيا، وبعضه خبرا، وبعضه وعدا، وبعضه وعيدا، ولا أن يكون خطابا لقوم بأولى من أن يكون خطابا لغيرهم، وكل ذلك يبين انه لا يحسن لما قالوه. فأما الذى يدل على انه لا يجوز أن يخاطب على وجه يقبح ما ثبت من كونه عالما بقبحه، ومن انه غنى عنه، ومن هذه صفته لا يجوز أن يفعل القبيح، ألا ترى أن من علم أنه إذا صدق توصل إلى مراده، وكذلك إذا كذب وصل إليه على حد ما كان يفعل إليه لو صدق من غير زيادة لم يجز أن يختار الكذب على الصدق، ولا وجه في ذلك إلا لعلمه بقبح الكذب، وبأنه غنى عنه بالصدق، فكذلك القديم تعالى. وأما الذى يدل على أنه لا يجوز أن يريد بخطابه غير ما وضع له ولا يدل عليه، فان ذلك يؤدى إلى أن لا نعلم بخطابه شيئا أصلا، لانه لا خطاب الا وذلك يجوز فيه، ولا يمكن أن يدعى العلم بقصده ضرورة في بعض خطابه، لان ذلك يمنع من التكليف وليس لهم أن يقولوا: انه يؤكد ذلك الخطاب فيعلم به مراده، وان كان هذا عاريا منه


[ 45 ]

لان التأكيد أيضا خطاب فيلزم فيه ما لزم في المؤكد، وأن يكون فعل لمثل ما فعل له المؤكد. [ زيادة من الاصل……. نفسه، وذلك يؤدي إلى ما قلناه. ولا لهم أن يقولوا: إنه يخاطبه بخطاب لا يحتمل أصلا، لانه لا خطاب إلا ويمكن أن يراد به غير ظاهره على وجه التجوز، فإذا جوز أن لا يدل عليه لزم أن لا نفهم بخطابه شيئا اصلا، ولا يلزمنا ذلك فيما نقوله في الاسماء المنقولة إلى الشرع، لانه قد دللنا على المراد بجميع ذلك، ففارق ذلك ما قالوه. وهذه جملة كافية في هذا الباب، لان شرح ذلك يطول ويخرج عن بغية الكتاب. وإذا ثبت ما قلناه، فمتى ورد خطاب من الله تعالى وجب حمله على ظاهره فيما تقتضيه اللغة، إلا أن يدل دليل على خلافه. وأما معرفة مراد الرسول عليه وآله السلام بخطابه فيكون على ضربين: أحدهما: لمن يشاهده ويضطر إلى قصده بخطابه، فمن هذه صفته أغناه علمه بقصده، ومراده عن اعتبار صفاته. أما من غاب عنه، ولا يعلم قصده ضرورة، فلا يصح أن يعرف مراده إلا بعد العلم ما شاء. منها: أن نعلم أنه لا يجوز أن يكذب فيما يؤديه عن الله تعالى. ومنها: أنه لا يجوز أن يكتم ما يجب أداؤه. ومنها: أنه لا يؤدي على وجه يقتضي التفسير عنه فيم حصلت له عدة علوم، صح أن يعلم بخطابه مراده. ومتى لم تحصل له لم يصح ذلك. ولم نذكر في جملة هذه الاقسام العلم بنبوته، لان الكلام في خطاب من ثبت نبوته، دون من لم تثبت نبوته، فذلك خارج عن هذا. وإنما شرطنا هذه العلوم، لان العلم المعجز إذا دل على صدقه أنه رسول الله – صلى الله عليه وآله – دل على أنه صادق فيما يؤديه عن الله تعالى، لانه لا يجوز أن يعلمه صادقا في أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ويجوز أن يكذب فيما بلغ، لان ذلك يوجب أن يكون الله تعالى أرسله مع علمه أنه لا يؤدي ما حمله من الرسالة على


[ 46 ]

وجهها أو يكذب عليه فيها، وهذا لا يجوز لان ذلك مناقضة للغرض يتعالى الله عن ذلك. وقد اجمعت الامة على هذا القسم، وأنه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله الكذب فيما يؤديه عن الله تعالى، فيمكن الاعتماد عليه أيضا. وإذا ثبت كونه صادقا، دل على أن أوامره أوامر محسن، ونواهيه عن قبيح، لانهما في المعنى بمعنى الخبر، فلو لم يكونا كذلك لكانا كذبين، وقد بينا خلاف ذلك. وأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله تعالى، فلا يجوز عليه لانه يقتضي التنفير عن قبول قوله، وذلك لا يجوز. وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكتم عنا ما أمر بأدائه الينا، لانه لو جاز ذلك لادى إلى أن لا يكون لنا طريق يعرف به مصالحنا، فلا يجوز من الحكيم تعالى أن يبعث رسولا غرضه أن يعرفنا مصالحنا، وهو يعلم أنه لا يؤدينا. ولا يمكن أن يقال: أنه يجوز عليه الكتمان إلا أنه يبعث نبيا آخر فيؤدي به. لان الكلام في ذلك النبي كالكلام فيه في أنه يجوز عليه أن يكتم عنا ولا يبين ما يجب بيانه، وفي ذلك ما قلناه. ولا يلزم على ذلك وجوب البيان قبل الحاجة، لان قبل الحاجة ليس يجب عليه تعريفنا في ذلك الحال. فلو قيل: لو خوف بالقتل عند الحاجة الى الفعل كان يجوز أن لا يؤدي أم لا ؟ قيل له: إذا دفع الى ما قدر في السؤال لم يخل حاله من أمرين: أحدهما: أن يكون الذي يجب أن يبينه وهو صفة ذلك الشئ فقط، وما عدا ذلك قد بينه. [ الثاني ] (1): أو لم يجب بيانه عليه على وجه، فإن كان كذلك وجب عليه بيانه وإن قتل دونه. ولا يجوز أن يكتم لان في كتمانه ما قدمنا ذكره. ولا يلزم على ذلك وجوب إظهار الايمان على المكره على الكفر، لان ذلك لا


[ 47 ]

يتعداه، ففارق حاله حال ما قلناه. وإن كان مما يلزمه بيان أشياء اخرى في المستقبل ولا يكون في معلوم الله تعالى من يقوم مقامه: فإن الله تعالى يمنعمنه ولا يمكن من قبله، فسقط الاعتراض. وإنما قلناه: إنه لا يجوز أن يؤدي على وجه لا يمكن معرفة مراده، لانه متى أدى على هذا الوجه لم يمكنا أن نعلم ما هو مصلحة لنا، وذلك بشرائط حسن التكليف….. نهاية الزيادة في الاصل ] (1) وليس يمكن أن يقال: انه وان لم نعلم مراده في الحال، فانه يمكن أن نعلم مراده في المستقبل ضرورة بأن نضطر إلى قصده، لان ذلك لا يخلو اما أن يكون وقت الحاجة إلى ما تضمنه الخطاب، أو لا يكون كذلك فان كان وقت الحاجة فانه يؤدي إلى ما قلناه. وان لم يكن وقت الحاجة فلا يجوز أيضا، لان فيه التنفير عن قبول قوله، لانه متى جوز عليه التعمية والالغاز في كلامه – وان أمكن معرفة المراد في الحالة الاخرى – نفر ذلك عن قبول قوله حالة أخرى، ولا يقبح هذا الوجه للاول بل لما قلناه (2). فأما ما لا تعلق له بالشريعة فيجوز أن يعمى فيه من مصالحه الدنياوية، وعلى هذا يتأول قوله عليه السلام لما سأله الاعرابي في مسيره إلى بدر: مم أنتم ؟ قال مما تورى في نفسه ولم يصرح (3) (4) *، وذلك لا يجوز في الشرعيات، وليس هذا من جواز


[ 48 ]

تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب في شئ على ما نذهب إليه، لان المجمل له ظاهر مقصود مستفاد، ففارق ذلك حال المعمى الذى يوهم (1) به شئ على حال. وانما قلنا: انه لا يجوز أن يؤدى الينا على وجه يقتضى التنفير، لان الغرض في بعثه إذا كان القبول منه فما أدى إلى التنفير عن ذلك يجب أن يجنب، ولاجل ما قلناه جنبه الله تعالى الفظاظة والغلظة وفعل القبائح، لما في ذلك من التنفير. فإذا ثبتت الجملة التى ذكرناها، فمتى ورد من الرسول خطاب، وجب حمله على ظاهره، الا أن يدل دليل على ان المراد به غير ظاهره فيحمل عليه، وعلى هذا يعلم مراد الرسول وأما ما يجب أن يكون الامام – عليه الاسلام – عليه حتى يصح أن يعلم مراده بخطابه فيما لا يعلم الا من جهته، فجميع الشرائط التى شرطناها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بد من أن تكون حاصلة في الامام، فالطريقة فيهما واحدة فلا معنى لاعادة القول فيه.


[ 49 ]

فصل [ 6 ] (في ذكر الوجه الذى يجب أن يحمل عليه مراد الله بخطابه) إذا ورد خطاب عن الله تعالى، فلا يخلو من أن يكون محتملا أو غير محتمل، فان كان غير محتمل، بأن يكون خاصا أو عاما وجب أن نحمله على ما يقتضيه ظاهره، الا أن يدل على أنه أراد به غير ظاهره دليل، فيحمل عليه. فان دل دليل على أنه اراد بالخاص غيره (1) * وجب حمله على ما دل عليه، وإن دل على أنه لم يرد الخاص نظر فيه، فان كان ذلك الخاص مما لا يتسع الا في وجه واحد، وجب أن يحمل على انه مراد به، والا أدى ذلك إلى أن يكون ما أراد بالخطاب شيئا أصلا. وان كان ذلك مما لا يتسع به في وجوه كثيرة وجب التوقف فيه، ولا يقطع على انه اريد به البعض لعدم الدليل، ولا أنه اريد به الجميع لانه لا دليل أيضا عليه. وهذا أولى مما قاله قوم: من أنه يجب حمله على انه اريد به جميع تلك الوجوه لانه لا يمتنع أن يكون أراد بعض تلك الوجوه وأخر بيانه إلى وقت الحاجة على ما نذهب إليه في جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب.


[ 50 ]

وقولهم: (إنه لو أراد به بعض الوجوه لبينه) ينعكس عليهم بأن يقال: ولو أراد به جميع الوجوه لبينه، وليس أحد القولين أولى من الاخر، فالاولى الوقف. فان فرضنا ان الوقت وقت الحاجة ولم يبين المراد من تلك الوجوه، وجب حمله على جميعه لانه ليس حمله على بعضه بأولى من بعض فان دل الدليل على أنه أراد بعض تلك الوجوه وجب حمله عليه والقطع على انه لم يرد غيره، لانه لا ظاهر هناك يمكن حمله على جميعه بخلاف ما نقوله في العموم، أو ماله ظاهر. ومتى دل (1) على انه أراد به الخاص وغيره، وجب القطع على أنه اراد الخاص باللفظ، وما عداه مراد بدليل، وذلك نحو قوله تعالى: ” يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ” (2) الاية، فانه قد علم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراد باللفظ، ومن عداه من الامة مراد بدليل. وأما العام: فإذا ورد ينبغى حمله على ظاهره، فان دل الدليل على انه أراد غير ما اقتضاه الظاهر وجب حمله عليه، وان دل الدليل على انه أراد جميع تلك الاشياء وجب حمله عليها (3). وان دل الدليل على انه ما أراد به بعضها، وجب القطع على انه مراد، وما عداه يتوقف فيه، لان كون أحدها مراد لا يمنع من أن يريد به الاخر، على ما سنبينه فيما بعد (4). وان دل الدليل على انه لم يرد أحدهما، وكان اللفظ مشتركا بين شيئين وجب القطع على انه أراد به الاخر، والا خلا الخطاب من أن يكون اريد به شئ أصلا.


[ 51 ]

وان كان مشتركا بين أشياء قطع على انه لم يرد ما خصه بانه غير مراد، وتوقف في الباقي وانتظر البيان. ومتى كان اللفظ مشتركا ولم يقرن به دلالة أصلا وكان مطلقا وجب التوقف فيه وانتظار (1) البيان لانه ليس بأن يحمل على بعضه بأولى من أن يحمل على جميعه، وتأخير البيان عن وقت الخطاب جائز. فان كان الوقت وقت الحاجه واطلق اللفظ، وجب حمله على جميعه لانه ليس بأن يحمل على بعضه بأولى من بعض، ولو كان أراد بعضه لبينه، لان الوقت وقت الحاجة. وهذا الذى ذكرناه أولى مما ذهب إليه قوم من أنه إذا أطلق اللفظ وجب حمله على جميعه على كل حال (2) *، لانه لو أراد بعضه لبينه لان لقائل (3) أن يقول: لو أراد الجميع لبينه فيجب حمله على بعضه، ويتعارض القولان ويسقطان. وانما حملهم على هذا قولهم: ان تأخير بيان المجمل لا يجوز عن وقت الخطاب وعندنا ان ذلك جائز على ما نستدل (4) عليه فيما بعد فمتى كان الوقت وقت الحاجة وجب حمل اللفظ على انه أراد به الجميع، ثم ينظر فيه فان أمكن الجمع بينها وجب القطع على انه أراد ذلك عن طريق الجمع بينها، وان لم يمكن الجمع بينها وجب القطع على انه أراد به الجميع على وجه التخيير. وذهب قوم إلى انه يجوز أن يريد من كل مكلف ما يؤديه اجتهاده إليه. وهذا يتم لمن قال: ان كل مجتهد مصيب، وعندنا ان ذلك باطل، فلا وجه غير التخيير وعلى هذا ينبغى ان تحمل القرائتين المختلفتا (5) المعنى إذا لم يكن هناك


[ 52 ]

دليل على انه اراد أحدهما، وكذلك القول في الخبرين المتعارضين إذا لم يكن هناك ما يرجح به أحدهما على الاخر، ولا ما يقتضى نسخ أحدهما للاخر من التاريخ. وهذا الذى ذكرناه كله فيما يصح أن يراد باللفظ الواحد (1) *. فأما ما لا يصح أن يراد باللفظ الواحد، فانه لا بد فيه من اقتران بيان به، لان الوقت وقت الحاجة على ما فرضناه. ومتى كان اللفظ شرعيا منقولا مما كان عليه في اللغة، وجب حمله على ما تقرر في الشرع، فان دل الدليل على انه لم يرد به ما وضع له في الشرع نظر فيما عداه، فان كانت (2) الوجوه التى يمكن حمل الخطاب عليها محصورة، وكان الوقت وقت الحاجة وجب حمله على جميعها لانه ليس حمله على بعضها بأولى من حمله على جميعها ولو كان المراد بعضها لبينه لان الوقت وقت الحاجة. وان لم يكن الوقت وقت الحاجة، توقف في ذلك إلى أن يراد البيان حسب ما قدمناه في الالفاظ المشتركة سواء. وان دل الدليل على انه أراد بعض تلك الوجوه، لم يكن ذلك مانعا من أن يراد به الوجوه الاخر، فان كان الوقت وقت الحاجة وجب حمله على ان المراد به جميعه، وان لم يكن وقت الحاجة يوقف (3) على البيان على ما بيناه. فاما كيفية المراد باللفظ الواحد للمعانى المختلفة، فالذي ينبغى أن يحصل في ذلك أن نقول: لا يخلو اللفظ من أن يكون يتناول الاشياء على الحقيقة، ويفيد في جميعها معنى واحدا، أو يفيد في كل واحد منها خلاف ما يفيده في الاخر: فان كان الاول فلا خلاف بين أهل العلم في انه يجوز أن يراد باللفظ ذلك (4) * كله.


[ 53 ]

وان كان القسم الثاني فقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب أبو هاشم (1)، وأبو عبد الله (2) ومن تبعهما (3) إلى أنه لا يجوز أن يراد المعنيان المختلفان بلفظ واحد فان دل الدليل على أنه أرادهما جميعا قالوا لا بد من أن نفرض انه تكلم باللفظ مرتين أراد كل مرة منهما معنى واحدا، وعلى هذا حملوا آية القرء بأن قالوا: لما دل الدليل على انه أرادهما جميعا بحسب ما يؤدى اجتهاد المجتهد (4) * إليه علمنا انه تكلم بالاية مرتين، ثم انزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا (5) في الحقيقة والمجاز والكناية (6) *، والصريح مثل ذلك، وقالوا: لا يجوز (7) * أن يريد بقوله: ” أو لامستم النساء ” (8) الجماع، واللمس باليد وبقوله:


[ 54 ]

” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ” (1) العقد والوطء. وقال: لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد الاقتصار على الشئ وتجاوزه وقال في قوله تعالى: ” وان كنتم جنبا فاطهروا ” (2) ولا يجوز ان يريد به الغسل والوضوء. وقال أيضا: لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد نفى الاجزاء والكمال. وقال: في قوله عليه السلام (لا صلوة الا بفاتحة الكتاب) (3) لا ينبئ عن نفى الاجزاء، وانه إذا جاز أن يريد به نفي الاجزاء ونفى الكمال، وثبت ان كليهما لا يصح أن يراد بعبارة واحدة، فيجب أن لا يدل الظاهر على نفى الاجزاء. وقال: يصح أن يريد عزوجل بقوله: ” فلم تجدوا ماءا فتيمموا ” (4) الماء والنبيذ، لانهما يتفقان فيما يفيده هذا الاسم، وان كان أحدهما شرعيا والاخر لغويا. وقال: قولنا بان النص الدال على أن الفخذ عورة، المراد به الفخذ والركبة لا ينقض هذا، لان ذلك علمناه بغير اللفظ بل بدليل آخر. واعتل في ذلك بأن قال: لا يصح أن يقصد المعبر باللفظ الواحد استعماله فيما وضع له، والعدول به عن ذلك فكذلك لم يصح أن يريد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز وذكر ان تعذر ذلك معلوم لنا، وان الواحد منا إذا قصده لم يصح منه فدل على ان جميع ذلك غير صحيح (5). وذهب أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد (6) إلى: أنه (يجب أن تعتبر العبارة،


[ 55 ]

ويعتبر ما به صارت عبارة عنه فان كانت مشتركة بين الشيئين المختلفين، فمتى (1) أراد أحدهما لم يصح ان يريد الشئ (2) الاخر، ويستحيل ذلك فيه قطع به. وان لم يمنع من ذلك جوز أن يراد به المعنيان معا، لانه إذا كان المخاطب يصح أن يريد كل واحد منهما بالعبارة، ولا مانع يمنع من أن يريدهما جميعا، فيجب أن يصح أن يريدهما معا. قال: وقد علمنا ان القائل إذا قال لصاحبه (لا تنكح ما نكح أبوك) يصح أن يريد بذلك العقد والوطء وارادته لاحد الامرين لا يمنع من ارادته للاخر. وانما قلنا: انه لا يجوز أن يريد بلفظ الامر، الامر والتهديد، لان ما به يصير أمرا وهى ارادة المأمور به يضاد ما به يصير تهديدا وهى كراهته (3) ويستحيل أن يريد الشئ الواحد، في الوقت الواحد، على وجه واحد، من مكلف واحد، ويكرهه على هذه الوجوه. وقلنا: انه لا يصح أن يريد بالعبارة الاقتصار على الشئ وتجاوزه، لانه يتنافى أن يريد الزيادة على ذلك الشئ وألا يريده ولذلك استحال ذلك. وانما نقول: انه لا يريد بالعبارة ما لم يوضع له على وجه، لانه لا يصح أن يستعمل العبارة في الشئ الا بأن يفيده في الحقيقة أو المجاز، لا لانه يتنافى أن يريدهما جميعا لانه يصح أن يريد بقوله: ” ولا تقتلوا النفس التى حرم الله ” (4) قتل النفس والاحسان إلى الناس، ولا يتنافى ذلك وانما يصح أن يراد ذلك به لان العبارة لم توضع له، وإذا صح ذلك ووجدنا عبارة قد وضعت لمعنيين مختلفين نحو القرء في أنه (5) موضوع للطهر والحيض لا يتنافى من المخاطب أن يريدهما جميعا، فلا وجه


[ 56 ]

لاحالة القول في ذلك. وقد وضع قولنا: (النكاح) للوطء حقيقة، والعقد (1) مجازا، وارادة أحدهما لا تمنع من ارادة الاخر، فلا مانع من أن يراد جميعا بالنكاح (2). فان قيل: الذى يمنع من ذلك انه لا يجوز استعمال العبارة فيما وضعت له والعدول بها عما وضعت له في اللغة، فلذلك منعت من أن يراد جميعا بها، لان ذلك يتنافى استعمالها (في ما وضعت له) (3). قيل له: ان العبارة تستعمل فيما وضعت له إذا قصد بها افادة ذلك، وان لم يقصد المعبر إلى (4) ان يستعملها فيما وضعت له. فان قيل: فان ارادة الوطء والعقد بهذه الكلمة يتعذر، ونجد تعذر ذلك من أنفسنا، فلذلك منعت من أن يرادا جميعا بها ! قيل له: انه ان ما ادعيت تعذره نحن نجده منا مأتيا فلا معنى لتعلقك به. هذه الفاظه بعينها قد سقناها على ما ذكرها في كتاب (5) (العمد) (6). وهذا المذهب (7) * أقرب إلى الصواب من مذهب أبى عبد الله (8) وأبى هاشم (9)، وما ذكره سديد واقع موقعه. والقول في الكناية والصريح يجرى أيضا على هذا المنهاج. وقوله: ” أو لامستم النساء ” (10) ما كان يمتنع أن يريد به الجماع واللمس باليد،


[ 57 ]

لكن علمنا بالدليل (1) * انه أراد أحدهما وهو الجماع. وأما ما ذكره أبو عبد الله (2) من قوله عليه السلام: (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) (3) وان ذلك لا يمكن حمله على نفى الاجزاء والكمال من حيث كان نفى أحدهما يقتضى ثبوت الاخر، فليس على ما ذكره لانه متى نفى الاجزاء، فقد نفى أيضا الكمال، لانه إذا لم يكن مجزئا كيف يثبت كونها كاملة ؟ فكيف يدعى ان في نفى أحدهما اثباتا للاخر ؟ وكذلك إذا نفى الكمال لا يمتنع أن ينفى معه الاجزاء أيضا، لانه ليس في نفيه اثبات الاجزاء، فلا يمكن ادعاء ذلك فيه. وينبغى أن يكون الكلام في ذلك مثل الكلام فيما تقدم. وأما ما ذكره عبد الجبار (4) من انه لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد الاقتصار على الشئ وتجاوزه، لانه يتنافى أن يريد الزيادة وألا يريدها، فالذي يليق بما ذكره من المذهب الصحيح غير ذلك، وهو أن يقال: ان ذلك غير ممتنع لانه لا يمتنع أن يريد الاقتصار على الشئ ويريد أيضا ما زاد على ذلك على وجه التخيير وليس بينهما تناف، وليس ذلك بأكثر من ارادة الطهر والحيض باللفظ الواحد، وقد أجاز ذلك فكذلك القول في هذا. ومتى كان اللفظ يفيد في اللغة شيئا، وفي العرف شيئا آخر، وفي الشرع شيئل آخر لا يمتنع أن يريدهما معا، وكذلك القول في الحقيقة، والمجاز، والكناية، والصريح. فان قيل: إذا كان جميع ما ذكرتموه (5) * غير ممتنع أن يكون مرادا باللفظ،


[ 58 ]

فكيف الطريق إلى القطع على ان الجميع مراد بظاهره (1) * أم يدليل ؟ وكيف القول فيه ؟. قيل له: لا يخلو أن (2) يكون اللفظ حقيقة في الامرين، (وحقيقة في أحدهما ومجازا في الاخر فان كان اللفظ حقيقة في الامرين) (3) فلا يخلو أن (4) يكون وقت الخطاب وقت الحاجة إلى الفعل أو (5) لا يكون كذلك: فان كان الوقت وقت الحاجة ولم يقترن به ما يدل على انه أراد أحدهما، وجب القطع على انه أرادهما باللفظ وان اقترن به ما يدل على انه اراد أحدهما، قطع به وحكم بأنه لم يرد الاخر. وكذلك ان دل على انه لم يرد أحدهما قطع على انه اراد الاخر كل ذلك باللفظ. وان لم يكن الوقت وقت الحاجة توقف في ذلك، وجوز كل واحد من الامرين وانتظر البيان على ما نذهب إليه من جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب. وان كان اللفظ حقيقة في أحدهما ومجازا في الاخر قطع على انه أراد الحقيقة، الا أن يدل دليل على انه أراد المجاز، أو أراد الحقيقة والمجاز، فيحكم بذلك. فان دل الدليل على انه أراد المجاز لم يمنع ذلك من أن يكون أراد الحقيقة أيضا فينبغي أن يحمل عليهما الا أن يدل الدليل (6) على انه (لم يرد الحقيقة أو لا يمكن الجمع بينهما، فيحمل حينئذ على انه) (7) * أراد المجاز لا غير وكذلك ان كان اللفظ يفيد في اللغة شيئا وفي الشرع شيئا آخر، وجب القطع على انه اراد ما اقتضاه الشرع الا أن يدل دليل على انه أراد ما وضع له في اللغه أو أرادهما جميعا (7) *،


[ 59 ]

فيحكم بذلك. وكذلك القول في الكناية والصريح، ينبغى أن يقطع على انه اراد الصريح الا أن يدل دليل على أنه اراد الكناية أو ارادهما جميعا. هذا إذا لم يكن اللفظ حقيقة في الكناية والصريح. فاما إذا كان اللفظ حقيقة فيهما على ما نذهب إليه في فحوى الخطاب ودليل الخطاب، فينبغي أن يكون الحكم حكم الحقيقتين على التفصيل الذى قدمنا. والقول في الاسم اللغوى والعرفي، أو العرفي والشرعي مثل القول في اللغوى والشرعي على ما قدمنا القول فيه. واعلم ان الدليل إذا دل على وجوب حكم من الاحكام، ثم يرد نص يتناول ذلك الحكم فلا يخلو من أحد أمرين: اما أن يتناوله حقيقة أو مجازا فان كان متناولا له حقيقة وجب القطع على انه مراد (1) * بالنص لانه يقتضى ظاهره ولو أراد غيره لبينه فمتى لم يبين وجب القطع على انه مراد به، والا خلا اللفظ من فائدة ولهذا نقول: إذا دل الدليل على وجوب الصلاة، ثم ورد قوله تعالى: ” أقيموا الصلاة ” (2) وجب القطع على انها مرادة بالنص لتناول اللفظ لها. وان كان اللفظ متناولا لذلك الحكم على جهة المجاز لم يجب القطع على انه مراد (3) * لان الخطاب يجب حمله على ظاهره الا أن يدل دليل على ان المراد به المجاز، وليس ثبوت الدليل على وجوب حكم يتناوله اللفظ على جهة المجاز بموجب للقطع على انه مراد باللفظ ولذلك قلنا: انه لا يمكن ابطال مذهب


[ 60 ]

الشافعي (1) في تعلقه بقوله تعالى: ” أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا ” (2) بأن يقال: لما دل الدليل على ان الحكم المذكور في الاية يتعلق بالجماع، وجب حمل الاية على انه المراد به دون غيره من وجهين: أحدهما: انا قد بينا ان اللفظ إذا تناول شيئين فليس في ثبوت كون أحدهما مرادا ما ينافى أن يكون الاخر أيضا مرادا. والذى يقتضيه عندنا الوقف ان لم يكن الوقت وقت الحاجة، وان كان الوقت وقت الحاجة وجب حمله عليهما جميعا. والوجه الثاني: ان تسمية الجماع باللمس انما هو على طريق المجاز دون الحقيقة، وقد بينا ان اللفظ يجب حمله على الحقيقة، الا أن يدل دليل على انه أراد المجاز. ولو دل أيضا الدليل على انه أراد المجاز، لم يكن ذلك مانعا من أن يريد به ما تقتضيه حقيقته الا أن يدل دليل على انه لم يرد حقيقته على ما قدمنا القول فيه. وكذلك القول في قوله تعالى: ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ” (3) ان ثبوت الوطء مراد بالاية لا يمنع من ارادة العقد بها أيضا على ما قدمناه، فينبغي أن يجرى الباب على ما حررناه، فان أعيان المسائل لا تنحصر، واصولها ما حررناه ونعود الان إلى الترتيب الذى وعدنا به في أبواب اصول الفقه على ما قررناه ان شاء الله تعالى.


[ 61 ]

الباب الثاني الكلام في الاخبار


[ 63 ]

فصل [ 1 ] (في حقيقة الخبر، وما به يصير خبرا، وبيان أقسامه) حد الخبر ما صح فيه الصدق أو الكذب، وهذا أولى مما قاله بعضهم من انه ما صح فيه الصدق والكذب، لان ذلك محال، لانه لا يجوز أن يكون خبر واحد صدقا وكذبا، لانه لا يخلو أن يكون مخبره (1) * على ما تناوله الخبر فيكون صدقا أو لا يكون على ما تناوله الخبر فيكون كذبا. فاما احتمالهما جميعا فمحال على ما بينا. ثم لو صح لكان منتقضا، لان ههنا مخبرات كثيرة لا يصح فيها الكذب، ومخبرات كثيرة لا يصح فيها الصدق، نحو الاخبار عن توحيد الله وصفاته، فان جميع ذلك لا يصح فيها الكذب، والاخبار عن ثان ومعه ثالث لا يصح فيها (2) الصدق أصلا، فعلم ان الاولى ما قلناه. اللهم الا أن يراد بهذه اللفظة: (أن يحتمل الصدق والكذب) انه يحتمل أحدهما فان اريد ذلك كان مثل ما قلناه.


[ 64 ]

وينبغى ان يذكر في اللفظ ما يزيل الابهام، لان الحدود مبنية على الالفاظ دون المعاني. وقد حد قوم: بأنه ما احتمل التصديق والتكذيب. وهذا صحيح غير ان ما ذكرناه أولى من حيث ان التصديق والتكذيب يرجع إلى غير الخبر. وينبغى أن يحد (1) * الشئ بصفة هو عليها، لا بما يرجع إلى غيره. وتوصف الاشارة والدلالة، بأنهما خبران، وذلك مجاز وانما يدخل في كونه خبرا بقصد المخاطب إلى ايقاع كونه خبرا، وانما قلنا ذلك، لانه لا توجد الصيغة، ولا يكون خبرا فلا بد من أن يكون هناك أمر خصصه. ومن الناس من جعل القصد من قبيل الارادة، ومنهم من جعله من قبيل الداعي، وليس هذا موضع تصحيح أحدهما. والخبر لا يخلو من أن يكون مخبره (2) * على ما هو به فيكون صدقا، أو لا يكون مخبره على ما هو به فيكون كذبا وهذا أولى مما قاله بعضهم في الكذب أن يكون خبره على خلاف ما هو به، لان ذلك بعض الكذب وقد يكون الخبر كذبا وان لم يكن متناولا (3) * للشئ على خلاف ما هو به ألا ترى ان القائل إذا قال: (ليس زيد قاعدا) وهو قاعد يكون خبره كذبا وان لم يكن قد أخبر بصفة تخالف كونه قاعدا، فعلم بذلك (4) ان الحد بما ذكرناه أولى لانه أعم. وعلى هذا التحرير يكون قول القائل: (محمد بن عبد الله ومسيلمة صادقان أو كاذبان) ينبغى أن يكون كذبا، لانه في الحالين جميعا ليس مخبره على ما تناوله الخبر


[ 65 ]

لانه ان أخبر عنهما بالصدق فأحدهما كاذب، وان أخبر عنهما بالكذب فأحدهما صادق فعلى الوجهين جميعا يكون الخبر كذبا. وهذا أولى مما قاله أبو هاشم (1): من ان تقدير هذا الكلام تقدير خبرين: أحدهما يكون صدقا، والاخر يكون كذبا، لان ظاهر ذلك انه خبر واحد، فتقدير كون الخبرين فيه ترك الظاهر. وليس من شرط كون الخبر صدقا أو كذبا علم المخبر بما أخبر به وانما ذلك شرط في حسن (2) * اخباره به ويفارق ذلك حكم (3) العلم، لان الاعتقاد قد يخلو من أن يكون علما أو جهلا بأن يكون تقليدا ليس معه سكون النفس. والخبر على ضربين: أحدهما: يعلم ان مخبره على ما تناوله الخبر. والاخر: لا يعلم ذلك فيه. وهو على ضربين. أحدهما: يعلم انه على خلاف ما تناوله الخبر. والاخر: متوقف فيه. فأما الخبر الذى يعلم ان مخبره على ما تناوله الخبر فعلى ضربين: أحدهما: يعلم ذلك، ويجوز أن يكون ضرورة أو اكتسابا. والاخر: يقطع على انه يعلم ذلك استدلالا (4). فالاول: نحو العلم بالبلدان، والوقائع، والملوك، ومبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهجرته، وغزواته، وما يجرى مجرى ذلك فان كل ذلك (5) من الامرين


[ 66 ]

جائز فيه على ما سنبينه فيما بعد. فأما (1) ما يعلم مخبره بالاستدلال فعلى ضروب: منها: خبر الله تعالى، وخبر الرسول، وخبر الامام عليهما السلام. ومنها: خبر الامة (2) * إذا اعتبرنا كونها حجة. ومنها: خبر من أخبر بحضرة جماعة كثيرة لا يجوز على مثلها (3) الكتمان، والتواطؤ، وما يجرى مجرى ذلك، وادعى عليهم المشاهدة ولا صارف لهم عن تكذيبه، فيعلم ان خبره صدق. ومنها: خبر المخبر إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادعى عليه العلم بذلك فلم ينكره. ومنها: خبر المتواترين الذين يعلم خبرهم إذا حصلت الشرائط فيهم. ومنها: ان تجتمع الامة أو الفرقة المحقة على العمل بخبر الواحد، وعلم انه لا دليل على ذلك الحكم الا ذلك الخبر، فيعلم انه صدق. ومنها: خبر تلقته الامة أو الطائفة المحقة بالقبول وان كان الاصل فيه واحدا. وأما (4) ما يعلم ان مخبره على خلاف ما تناوله فعلى ضربين أيضا: أحدهما: يعلم ذلك من حاله، ويجوز كونه ضروريا ومكتسبا مثل ما قلناه فيما


[ 67 ]

يعلم صحته، وذلك مثل ما يعلم انه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما، وانه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبى آخر، ولا أن له هجرة إلى خراسان، وما جرى مجرى ذلك. والثانى: يعلم انه على خلاف ما تناوله بضرب من الاستدلال، وهو على ضروب: منها: أن يعلم بدليل عقلي أو شرعى انه على خلاف ما تناوله. ومنها: أن يعلم ان مخبره لو كان صحيحا لوجب نقله على خلاف الوجه الذى نقل عليه، بل على وجه تقوم به الحجة، فإذا لم ينقل كذلك علم انه كذب. ومنها: أن يكون مخبره مما لو فتش عنه من يلزمه العمل به لوجب أن يعلمه، فإذا لم تكن هذه حاله علم انه كذب. ومنها: أن يكون مخبر الخبر حادثة عظيمة مما لو كانت لكانت الدواعى إلى نقلها يقتضى ظهور نقلها إذا لم يكون هناك مانع، فمتى لم ينقل علم انه كذب. ومنها: أن يعلم ان نقله ليس كنقل نظيره، والاحوال فيهما متساويه فيعلم حينئذ انه كذب. وأما ما لا يعلم ان مخبره على ما تناوله، ولا انه على خلافه، فعلى ضربين: أحدهما: يجب العمل به والاخر لا يجب العمل به. فعلى (1) ضربين: أحدهما: يجب العمل به عقلا. والاخر: يجب ذلك فيه سمعا. فما يجب العمل به عقلا نحو الاخبار المتعلقة بالمنافع والمضار الدنيوية، فانه


[ 68 ]

يجب العمل بها عقلا. وما يجب العمل به شرعا كالشهادات والاخبار الواردة في فروع الدين إذا كانت من طرق (1) مخصوصة ورواها من له صفة مخصوصة. والضرب الثاني من الضربين الاولين، وهو ما لا يجب العمل به فعلى ضربين: أحدهما: يقتضى ظاهره الرد. والثانى: يجب التوقف فيه، ويجوز كونه كذبا وصدقا على حد واحد، ونحن نبين شرح ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى.


[ 69 ]

فصل [ 2 ] (في أن الاخبار قد يحصل عندها العلم وكيفية حصوله، وأقسام ذلك) حكى عن قوم يعرفون بالسمنية (1) انهم أنكروا وقوع العلم بالاخبار وعندها، خصوا العلم بالادراكات (2) دون غيرها. وهذا مذهب ظاهر البطلان، لا معنى للتشاغل بإبطاله والاكثار في رده، لان المشكك فيما يحصل من العلم عند الاخبار، كالمشكك فيما يحصل عند المشاهدة وغيرها من ضروب الادراكات من السوفسطائية (3) وأصحاب العنود ومدخل الشبهات في هذا كمدخل الشبهات في ذلك لان نفوسنا تسكن إلى وجود البلدان


[ 70 ]

التي لم نشاهدها، مثل الصين، والهند، والروم، وغير ذلك مما لم نشاهدها، وإلى وجود الملوك وغيرهم، وإلى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى وقوع المغازي، وحصول الوقائع الحادثة في الايام الماضية، كما تسكن إلى العلم بالمشاهدات، فمن ادعى فيما يحصل عند الاخبار انه ظن وحسبان، كمن إدعى ذلك في المشاهدات. وهذا القدر كاف في إبطال هذا المذهب، لانه ظاهر البطلان. فأما كيفية حصول هذا العلم، فقد إختلف العلماء في ذلك: فذهب أبو القاسم البلخي (1) ومن تبعه إلى ان الاخبار المتواترة التي تحصل عندها العلوم لكل عاقل كلها مكتسبة (2). وإلى ذلك يذهب شيخنا أبو عبد الله (3) رحمه الله. وذهب أبو علي (4) وأبو هاشم، والبصريون، وأكثر الفقهاء، وأصحاب الاشعري إلى أن العلم بهذه الاخبار يحصل ضرورة من فعل الله تعالى لا صنع للعباد فيها (6).


[ 71 ]

وذهب المرتضى رحمه الله (1) إلى تقسيم ذلك فقال: ان أخبار البلدان والوقائع والملوك وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه وما يجرى هذا المجرى يجوز أن يكون ضرورة من فعل الله تعالى، ويجوز أن يكون مكتسبة من فعل العباد وأما ما عدا أخبار البلدان وما ذكرناه مثل العلم بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله، وكثير من أحكام الشريعة، والنص الحاصل على الائمة عليهم السلام، فيقطع على انه مستدل عليه (2). وهذا المذهب عندي أوضح من المذهبين جميعا وإنما قلنا بهذا المذهب لانه لا دليل هاهنا يقطع به على صحة أحد المذهبين دون الاخر، فالادلة فيها كالمتكافئة وإذا كان كذلك وجب الوقف، وتجويز كل واحد من المذهبين. ونحن نعترض ما استدل به كل فريق من الفئتين، ونبين ما في ذلك. ولانه أيضا لا يمتنع أن يكون العالم بهذه الاخبار قد يقدم له على الجملة العلم بصفة الجماعة التي لا يجوز أن يتفق منها الكذب، فلا (3) يجوز على مثلها أيضا التواطؤ، لان علم ذلك مستند إلى العبادة، فجائز أن يكون قد عرف ذلك، وتقرر في نفسه، فلما أخبره عن البلدان وأخبار الملوك والوقائع من هو على تلك الصفة، فعل لنفسه اعتقاد الصدق لهذه الاخبار، وكان ذلك الاعتقاد علما للجملة المتقدمة، فيكون كسبيا لا (4) ضروريا فيه. وليس لاحد أن يقول: ان ادخال التفصيل في الجملة، إنما يكون فيما له أصل ضروري على سبيل الجملة، كما نقول: (إن من شأن الظلم أن يكون قبيحا) علم على الجملة ضروري فإذا علمنا في ضرر بعينه انه ظلم فعلنا إعتقادا لقبحة وكان علما


[ 72 ]

لمطابقته للجملة المتقررة، وانتم قد جعلتم علم الجملة مكتسبا والتفصيل كذلك. وذلك انه لا فرق بين أن يكون علم الجملة حاصلا بالضرورة أو الاكتساب في جواز ان يبنى عليه التفصيل، لان من علم منا بالاكتساب ان من صح منه الفعل يجب أن يكون قادرا، ثم علم في ذات بعينها، انه يصح منها (1) الفعل فعل اعتقادا لكونها قادرة فيكون ذلك الاعتقاد علما لمطابقته للجملة المتقدمة وإن كانت تلك الجملة مكتسبة. وكذلك إذا علم بالاكتساب، ان من شأن القادر أن يكون حيا، ثم علم في ذات بعينها انها قادرة فعل اعتقادا لكونها حية فيكون علما لمطابقته للجملة المتقررة. فلا فرق إذا في ادخال التفصيل في الجملة المتقدمة بين الضرورى والمكتسب. وكما ان ما ذكرناه ممكن، يمكن أيضا أن يكون الله تعالى أجرى العادة، بأن يفعل العلم فينا عند سماع الاخبار عن البلدان وما شاكلها على ما ذهب إليه آخرون، وليس في العقل دليل على أحد القولين، فلا يخل الشك في ذلك بشئ من شرائط التكليف، فيجب أن يجوز كلا الامرين. ونحن نتتبع أدلة كل فرقة من الفريقين ليتم لنا ما قصدناه: فما استدل به أبو القاسم البلخى ومن تبعه على ان هذه العلوم مكتسبة أن قال: (لا يجوز أن يقع العلم الضرورى بما ليس بمدرك ومخبر الاخبار عن البلدان أمر غائب عن الادراك، فلا يجوز أن يكون ذلك ضروريا، لانه لو جاز كون العلم بالغائبات ضروريا، جاز أن يكون العلم بالمشاهدات مستدلا عليه) (2). واستدل أيضا: (بأن العلم بمخبر الاخبار، انما يحصل بعد تأمل أحوال المخبرين بها وصفاتهم، فدل ذلك على انه مكتسب) (2). فيقال له فيما ذكره أولا: لم زعمت ان العلم بالغائب عن الحس لا يكون ضروريا، أو ليس الله تعالى قادرا على فعل العلم بالغائب مع غيبته، فما المنكر من أن


[ 73 ]

يفعل بمجرى العادة عند اخبار جماعة مخصوصة ؟ وليس له أن يدعى: أن ذلك غير مقدور له تعالى، كما يقول: ان العلم بذاته تعالى لا يوصف بالقدرة عليه. لانه يذهب إلى أن العلم بالمدركات قد يكون من فعل الله تعالى على بعض الوجوه وليس يفعل العلم بذلك الا وهو في مقدورة وليس كذلك على مذهبه العلم بذاته تعالى، لانه لا يصح وقوعه منه على وجه من الوجوه، وعلى هذا أي فرق بين أن يفعل العلم بالمدرك عند إدراكه، وبين أن يفعل هذا العلم بعينه عند بعض الاخبار عنه ؟. وانما لم يجز أن يكون المشاهد مستدلا عليه، لان المشاهد معلوم ضرورة للكامل العقل. ولا (1) يصح أن يستدل وينظر فيما يعلمه لان من شرط صحة النظر ارتفاع العلم بالمنظور إليه. وأما الشبهة الثانية فبعيدة عن الصواب، لانها مبنية على الدعوى لان خصومه لا يسلمون أن العلم بمخبر الاخبار عن البلدان، وما جرى مجراها يقع عقيب التأمل لصفات المخبرين بل يقولون إنه يقع من غير تأمل لاحوال المخبرين، وانه انما يعلم أحوال المخبرين بعد حصول العلم الضرورى له بما أخبروا عنه (2). وتعلق من (3) ذهب إلى أن هذا العلم ضروري بأشياء: منها: ان العلم بمخبر هذه الاخبار لو كان مكتسبا وواقعا عن تأمل حال المخبرين وبلوغهم إلى الحد الذى لا يجوز أن يكذبوا، لوجب أن يكون من لم يستدل على ذلك ولم ينظر فيه من العوام والمقلدين وضروب من الناس لا يعلمون


[ 74 ]

البلدان والحوادث العظام ومعلوم ضرورة الاشتراك في ذلك. ومنها: ان حد العلم الضرورى قائم في العلم بمخبر الاخبار، ولانا لا نتمكن من ازالة ذلك عن نفوسنا ولا التشكيك فيه، وهذا حد العلم الضرورى. ومنها: ان (1) من ذهب إلى أن هذا العلم ضروري صارف عن النظر فيه والاستدلال عليه، فكان يجب أن يكون كل من اعتقد ان هذا العلم ضروري غير عالم بمخبر هذا الاخبار، لان اعتقاده يصرفه عن النظر، فكان يجب خلو جماعتنا من العلم بالبلدان وما اشبهها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: ان طريق اكتساب العلم بالفرق بين الجماعة التى لا يجوز أن تكذب في خبرها وبين من يجوز ذلك عليه قريب لا يحتاج إلى دقيق النظر وطويل التأمل، وكل عاقل يعرف بالعادات الفرق بين الجماعة التي قضت العادات بامتناع الكذب عليها فيما ترويه، وبين من ليس كذلك، والمنافع الدنيوية من التجارات وضروب التصرفات مبنية على حصول هذا العلم فهو مستند إلى العادة ويسير التأمل كاف في ذلك، فلا يجب في المقلدين والعامة ألا يعلموا مخبر هذه الاخبار من حيث لم يكونوا أهل تحقيق وتدقيق لما ذكرناه. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: لا نسلم لكم ان حد العلم الضرورى هو ما يمتنع على العالم دفعه عن نفسه، بل حده ما فعله فينا من هو أقدر منا على وجه لا يمكننا دفعه عن انفسنا، ولا ينبغى أن يجعلوا ما تفردوا به من الحد دليلا على موضع الخلاف. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: ان العالم بالفرق بين صفة الجماعة التى لا يجوز عليها الكذب لامتناع التواطؤ عليها، واستحالة الكذب منها كالملجأ عند كمال عقله وحاجته إلى التفتيش والتصرف إلى العلم بذلك والدواعي إليه قوية، والبواعث على فعله متوفرة وقد حصل للعقلاء هذا العلم. وهذا الفرق قبل أن يختص بعضهم


[ 75 ]

بالاعتقاد الذى ذكروه انه صارف لهم، فاذن لا يجب خلو مخالفينا من هذه العلوم لاجل ما ادعى من الاعتقاد. وقيل: أنه صارف، لانا قد بينا انه غير ممتنع أن يكون العلم بما قلناه قد سبقه وتقدم عليه ويلزم على هذا الوجه، أن لا يكون أبو القاسم البلخى عالما بأن المحدثات تفتقر إلى محدث، لانه يعتقد ان العلم بذلك ضروري واعتقاده ذلك صارف له عن النظر فيجب أن لا يكون عالما بذلك، ويجوز أن يكون غير عارف بالله تعالى وصفاته وأحواله ! فأى شئ قالوه فيه (1) قلنا مثله فيما تعلقوا به. وفي الناس من قال: ان العلم الحاصل عند الاخبار متولد عنها، وهو من فعل فاعل الاخبار. والذي يدل على بطلان هذا المذهب انه لو كان العلم الحاصل عند الاخبار متولدا، لوجب أن يتولد عن خبر آخر المخبرين (2) * لان العلم عند ذلك يحصل، فلو كان كذلك، لوجب أن يكون لو اخبرنا (3) * ابتداءا، أن يحصل لنا العلم بخبره. لان خبره هو الموجب للعلم وكان يجب إذا أخبرنا عما يعلم باستدلال أيضا أن يحصل لنا العلم به كما يحصل لنا العلم بما يعلم ضرورة، لان خبره هو الموجب واختلاف حاله في كونه عالما ضرورة واستدلالا يؤثر في ذلك فإذا بطل ذلك، ثبت ما قلناه. فان قيل: إذا جوزتم حصول هذا العلم ضرورة فما شرائطه ؟ وهل هي التى راعاها البصريون أم لا ؟ قيل: الشرائط التى اعتبروها نحن نعتبرها ونعتبر شرطا آخر لا يعتبرونه فالشرائط التى اعتبروها هي:


[ 76 ]

أن يكون المخبرون أكثر من أربعة، ولا يقطعون على عدد منهم دون عدد. ومنها: أن يكونوا عالمين بما يخبرونه ضرورة. ومنها: أن يكونوا ممن إذا وقع العلم بخبر عدد منهم أن يقع العلم بكل عدد مثلهم. وأما ما نختص به فهو أن نقول: لا يمتنع أن يكون من شرطه أن يكون من يسمع الخبر لا يكون قد سبق إلى اعتقاد يخالف ما تضمنه الخبر بشبهة أو تقليد ونحن ندل على وجوب جميع ذلك ان شاء الله تعالى. انما قلنا انه لابد أن يكونوا أكثر من أربعة، لانه لو جاز أن يقع العلم بخبر أربعة، لكان شهود الزنا إذا شهدوا بالزنا وهم أربعة كان يجب أن يحصل العلم للحاكم بصحة ما شهدوا به انهم كانوا صادقين ومتى لم يحصل له العلم، علم انهم كاذبون، فكان يجب ان يرد شهادتهم، ويقيم حد القذف عليهم، وان كان ظاهرهم ظاهر العدالة مزكين وقد أجمع المسلمون على خلاف ذلك. وليس لاحد أن يقول: انهم لا يأتون بلفظ الخبر، فلذلك لا يقع العلم بشهادتهم. لانه لا اعتبار عندنا بالالفاظ، لانه لو أخبر المخبر بالاعجمية (1) أو النبطية، لكان كاخباره بالعربية، بل لو عرف قصد المشير، لكان حاله حال المخبر في وجوب العلم عنده، فما ذكروه لا يصح (2). وليس لهم أيضا أن يقولوا: ان الشهود يشهدون مجتمعين غير متفرقين، وكونهم كذلك يوجب أن يكونوا في حكم من تواطأ على ما اخبر به، ومن شرط من يقع العلم بخبرهم ألا (3) يتواطؤوا، فلذلك لا نعلم بشهادتهم. وذلك ان هذا فاسد من وجهين:


[ 77 ]

أحدهما: انا لو فرقنا الشهود – وهو الافضل عندنا – لما وقع العلم بخبرهم، فكونهم مجتمعين ككونهم متفرقين في انتفاء العلم عند شهادتهم. والوجه الاخر: انا لا نجعل من شرط من يقع العلم بخبره أن لا يتواطؤوا، فان ذلك انما يشترط (1) في الخبر الذي يستدل على صحة مخبره دون ما يقع العلم عنده ضرورة، ولا فرق فيما يخبرون به بين أن يكونوا مجتمعين، أو متفرقين، أو متواطئين، أو غير ذلك إذا علموا ما أخبروا به ضرورة في وجوب حصول العلم عند خبرهم. ولولا هذا الدليل لما وقف على أربعة أيضا فكان يجب أن يحصل العلم عند كل عدد دون ذلك كما ان ما زاد على أربعة لم يقف على عدد دون عدد، بل جوزنا أن يحصل العلم عند كل عدد زاد على الاربعة، فنظير هذا أن يجوز حصول العلم عند كل عدد دون الاربعة، لانه ليس هاهنا دليل على وجوب مراعاة هذا العدد المدعاة فلما لم نقطع على عدد زاد على الاربعة – لفقد الدليل على ذلك – فكذلك هاهنا (2). وقول من قال: انهم عشرون تعلقا بقوله تعالى ” ان يكن منكم عشرون صابرون ” (3) وانه لما أوجب الجهاد عليهم، وجب أن يكونوا ممن إذا دعوا إلى الدين علم ما دعوا إليه. لا يصح من وجهين: أحدهما: ان البغية بالاية، التنبيه على وجوب ثبات الواحد للعشرة، لا ايجاب الجهاد على هذا العدد. بل قد اتفقت الامة على وجوب الجهاد على الواحد إذا كان له غنا، ولم يوجب وقوع العلم بخبره. والوجه الثاني: ان ما يدعون إليه من الدين معلوم باستدلال ونحن نبين ان ما يعلم بالدليل لا يقع العلم بخبرهم وان كثروا، ولابد من أن يكون عالمين به ضرورة.


[ 78 ]

وأما من قال: انهم سبعون مثل عدد الذين أحضرهم موسى عليه السلام عند الميقات، لانه انما أحضرهم ليقوم بخبرهم حجة على غيرهم (1). لا يصح أيضا لاخر الوجهين الذين دل ما (2) في الشبهة الاولى أنه (3) لا يمتنع (4) أن يكون من دونهم بمنزلتهم، سيما وخبر موسى عليه السلام عن ربه كان يغنى عن خبرهم فإذا جاز أن يختاروا مع أن خبره يغنى عن خبرهم، فيجب أن يكون اختيار السبعين وان وقع العلم بمن دونهم، أو لم يقع العلم بخبرهم أصلا كذلك، فمن أين ان سبب اختيارهم كان ما ادعاه السائل ؟ فأما من اعتبر الثلاثمائة (5) [ وثلاثة عشر ] لانهم العدد الذين جاهد بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بدر فليس له تعلق بوقوع العلم بخبرهم. والكلام عليه يقارب الكلام على الوجهين الاولين. وأما الشرط الثاني: وهو انه يجب أن يكونوا عالمين بما اخبروا به ضرورة. فانما اعتبرناه، لان جماعة من المسلمين يخبرون الملحدة بأن الله تعالى أحد، ويخبرون اليهود والنصارى بنبوة النبي (6) صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يحصل لهم العلم بصحة ذلك. ويخبر بعضهم عن البلدان وما اشبهها فيحصل العلم بخبرهم. والعلة في ذلك على التقريب ان العلم الضروري لو وقع بذلك، لادى إلى أن يكون حال المخبر أقوى من حال المخبر وهذا لا يجوز وإذا لم يقع العلم بخبر من يعلم ما اخبر عنه باكتساب فبان لا يقع بخبر من لا يعلم المخبر عنه أصلا من المقلدين


[ 79 ]

والمبختين (1) أولى وأحرى (2). وأما الشرط الثالث: وهو ان كل عدد وقع العلم عند خبرهم، فيجب أن تطرد العادة فيه، فيقع العلم عند كل عدد مثله إذا ساووهم في الاخبار بما علموه ضرورة. وانما قلنا ذلك: لانا لو جوزنا خلاف ذلك لم نأمن أن يكون في الناس من تخبره الجماعة الكثيرة ولا يعلم بخبرها، وهذا يوجب أن يصدق من أخبر عن نفسه مع مخالطته الناس انه لا يعلم ان في الدنيا مكة، بل يجب أن يصدق المقيم في الجانب الشرقي ان لا يعلم الجانب الغربي إذا لم يعبر إليه وذلك سفسطة لا يصير إليه عاقل. وأما الشرط الذي نختص بمراعاته، فانما قلنا: انه لا يمتنع (3) (لانه إذا كان هذا العلم مستندا إلى العادة وليس بموجب عن سبب جاز وقوعه على شروط زائدة وناقصة (4) * بحسب ما يعلمه الله تعالى من المصلحة وأجرى به العادة. وانما احتجنا إلى زيادة هذا الشرط، لئلا يقال: أي فرق (5) * بين خبر البلدان، والاخبار الواردة بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى القرآن كحنين الجذع (6)،


[ 80 ]

وانشقاق القمر (1)، وتسبيح الحصى (2) وغير ذلك ؟ وأى فرق أيضا بين أخبار البلدان، وبين خبر النص الجلى (3) الذى يتفرد بنقله الامامية ؟ وألا أجزتم أن يكون العلم بذلك كله ضروريا كما أجزتموه في أخبار البلدان وما اشبهها ؟ وليس يمتنع أن يكون السبق إلى اعتقاد مانعا من فعل العلم الضروري بالعادة، كما ان السبق إلى الاعتقاد بخلاف ما يولده النظر عند مخالفينا مانع من توليد النظر والعلم، وإذا جاز ذلك فيما هو سبب موجب فأولى أن يجوز فيما طريقه العادة. وليس لاحد أن يقول: فيجب على هذا أن لا يفعل العلم (الضروري) (4) لمن سبق إلى اعتقاد لنفي ذلك المعلوم. ويفعل لمن لم يسبق. وهذا يقتضى أن يفعل


[ 81 ]

العلم الضروري بالنص الجلى للشيعة لانهم لم يسبقوا إلى اعتقاد يخالفه، وكذلك المسلمون في المعجزات التي ذكرناها. وذلك انه يمكن أن يقال: ان المعلوم في نفسه إذا كان من باب ما يمكن السبق إلى الاعتقاد لنفيه أما لشبهة أو تقليد، لم يجر الله تعالى العادة بفعل العلم الضروري. وان كان مما لا يجوز أن يدعوا العقلاء داع إلى اعتقاد نفيه، ولا تعرض لشبهة في مثله، – كالخبر عن البلدان – وجاز أن يكون العمل به ضروريا عند الخبر على ما ذكرناه. وليس لاحد أن يقول: اجيزوا أن يكون في العقلاء المخالطين لنا السامعين للاخبار من سبق إلى اعتقاد منع (1) من فعل العلم الضروري له فإذا أخبركم بأنه لا يعرف بعض البلدان الكبار، والحوادث العظام، مع سماعه الاخبار، وكمال عقله، كان صادقا. وذلك انا نعلم ضرورة انه لا داعى للعقلاء يدعوهم إلى سبق اعتقاد نفي بلد من البلدان، أو (حادث عظيم من الحوادث، ولا شبهة تدخل في مثل ذلك ففارق هذا الباب) (2) أخبار المعجزات والنص، لان كل ذلك مما يجوز السبق فيه إلى الاعتقادات الفاسدة للدواعي المختلفة) (3). وليس من شرط المخبرين أن يكونوا مؤمنين، ولا أن يكون فيهم حجة حتى يقع العلم بخبرهم لان الكفار قد يخبرون عن أشياء يعلمونها ضرورة، فيحصل لنا العلم عند خبرهم، فلو (4) كان ذلك شرطا صحيحا لاستحال ذلك. وليس أيضا من شرط وقوع العلم تصديق جميع الناس لخبرهم لان العلم بتصديقهم كلهم لا يقع الا بمشاهدتهم، وذلك متعذر، أو بالخبر عن حالهم وذلك يوجب وقوع العلم بخبر طائفة وان لم يعلم ان غيرهم مصدقون لهم.


[ 82 ]

وهذه الجملة كافية في جواز أن يعلم مخبر الاخبار ضرورة واكتسابا. فأما الاخبار التى نعلم مخبرها استدلالا فقد ذكر سيدنا المرتضى رحمه الله (1) جملة وجيزة في هذا الباب في كتابه (الذخيرة) (2) أنا أذكرها بالفاظه لانها كافية في هذا الباب والزيادة عليها يطول به الكتاب. قال: (الخبر إذا لم يكن (3) * من باب ما يجب وقوع العلم عنده واشتراك العقلاء فيه، وجاز وقوع الشبهة فيه، فهو أن يرويه جماعة قد بلغت من الكثرة إلى حد لا يصح معه أن يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد فأن (4) يعلم – مضافا إلى ذلك – انه لم يجمعها (5) على الكذب جامع كالتواطؤ وما يقوم مقامه ويعلم أيضا ان اللبس والشبهة زائلان عما خبروا عنه. هذا إذا كانت الجماعة تخبر بلا واسطة عن المخبر فان كان بينهما واسطة وجب اعتبار هذه الشروط المذكورة في جميع من خبرت (6) عنه من الجماعات، حتى يقع الانتهاء إلى نفس المخبر. وتأثير هذه الشروط المذكورة في العلم بصحة هذا الخبر ظاهر، لان الجماعة إذا لم تبلغ من الكثرة إلى الحد الذي يعلم معه انه لا يجوز أن يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد، لم نأمن أن تكون كذبت على سبيل الاتفاق، كما يجوز ذلك في الواحد والاثنين. وإذا لم يعلم ان التواطؤ وما يقوم مقامه مرتفع عنها، جوزنا أن يكون الكذب


[ 83 ]

وقع منها على سبيل التواطؤ. والشبهة أيضا تدعوا إلى الكذب، وتجمع عليه، كأخبار الخلق الكثير من المبطلين عن مذاهبهم الباطلة لاجل الشبهة الداخلة عليهم فيها، وان لم يكن هناك تواطؤ منهم. ولا فصل فيما اشترطناه من ارتفاع اللبس والشبهة بين أن يكون المخبر عنه مشاهدا أو غير مشاهد في أن الشبهة قد يصح اعتراضها في الامرين ألا ترى ان اليهود والنصارى مع كثرتهم نقلوا صلب المسيح عليه السلام وقتله، لما التبس عليهم الامر فيه (1)، وظنوا ان الشخص الذى رأوه مصلوبا هو المسيح عليه السلام ودخلت الشبهة عليهم، لان المصلوب قد تتغير حليته، وتتبدل صورته، فلا يعرفه كثير ممن كان عارفا به، ولبعد المصلوب أيضا عن التأمل، تقوى الشبهة في أمره. والوجه (في) (2) اشتراط هذه الشروط في كل الجماعات المتوسطة بيننا وبين المخبر، لان ذلك لو لم يكن معلوما في جميعهم، جوزنا كون من ولينا من المخبرين صادقا عمن أخبر عنه من الجماعات، وان كان الخبر في الاصل باطلا من حيث لم تتكامل الشرائط في الجميع ومتى تكاملت هذه الشروط، فلابد من كون الخبر صدقا، لانه لا ينفك عن كونه صدقا أو كذبا ومتى كان كذبا، فلابد أن يكون وقع اتفاقا، أو لتواطؤ، أو لاجل شبهة وإذا قطعنا على فقد ذلك كله فلابد من كونه صدقا. فأما الطريق إلى العلم بثبوت الشرائط فنحن نبينه: أما اتفاق الكذب عن المخبر الواحد فلا يجوز أن يقع من الجماعات، والعلم


[ 84 ]

بحال الجماعة، وان ذلك لا يتفق منها، وانها مخالفة للواحد والاثنين ضرورة (1) ولا يدخل على عاقل فيه شبهة، ولهذا أجزنا أن يخبر واحد ممن حضر الجامع يوم الجمعة بأن الامام تنكس على ام رأسه من المنبر كاذبا ولا نجوز أن يخبر عن مثل ذلك على سبيل الكذب جميع من حضر المسجد الجامع أو جماعة منهم كثيرة الا لتواطؤ أو ما يقوم مقامه. وقد شبه امتناع ما ذكرناه من الجماعات باستحالة اجتماع الجماعة الكثيرة على نظم شعر على صفة واحدة، واجتماعهم على تصرف مخصوص، وأكل شئ معين من غير سبب جامع. وشبه أيضا بما علمناه من استحالة أن يخبر الواحد أو الجماعة من غير علم عن امور كثيرة، فيقع الخبر بالاتفاق صدقا. وجواز اخبار الجماعة الكثيرة (2) بالصدق من غير تواطؤ مفارق لاخبارها بالكذب من غير سبب جامع لان الصدق يجرى في العادة مجرى ما حصل فيه سبب جامع من تواطؤ، أو ما يقوم مقامه، وعلم المخبر بكون الخبر صدقا داع إليه، وباعث عليه وليس كذلك الكذب، لان الكذب لابد في اجتماع الجماعة عليه من أمر جامع لها (3)، ولم يستحل أن يخبروا بذلك وهو صادقون من غير تواطؤ. وأما الطريق إلى العلم بفقد التواطؤ على الجماعة، فربما كان كثرة الجماعات يستحيل معها التواطؤ عليها مراسلة أو مكاتبة وعلى كل وجه وسبب لانا نعلم


[ 85 ]

ضرورة ان جميع أهل بغداد لا يجوز أن يواطئوا جميع أهل الشام لا باجتماع ومشافهة، ولا بمكاتبة أو مراسلة، على أن التواطؤ فيمن يجوز ذلك عليه من الجماعة بمشافهة أو مكاتبة أو مراسلة لابد بمجرى العادة من أن يظهر لمن خالطهم ظهورا يشترك كل من خالطهم في علمه، وهذا حكم مستند إلى العادات لا يمكن دفعه. وأما ما يقوم مقام التواطؤ من الاسباب الجامعة كتخويف السلطان وما يجري مجراه، فلابد أيضا من ظهوره وعلم الناس به، لان الجماعة لا تجتمع على الامر الواحد لاجل خوف السلطان الا بعد أن يظهر لهم غاية الظهور، وما هذه حاله لابد من العلم به والقطع على فقده إذا لم يعثر عليه. وأما ما به يعلم ارتفاع اللبس والشبهة عن مخبر الخبر الذي خبرت به الجماعة، فهو أن تخبر الجماعة عن أمر مدرك اما بمشاهدة أو بسماع، ويعلم انتفاء اسباب اللبس والشبهة عن ذلك المخبر، فان أسباب التباس المدركات معلومة محصورة يعلم انتفاؤها حيث ينتفى ضرورة. وأما (1) ما به يعلم ثبوت الشرائط التي ذكرناها في الطبقات التي تروي الخبر، فهو ان العادات جارية بأن المذاهب أو الاقوال التي تقوى بعد ضعف، وتظهر بعد خفاء، وتوجد بعد فقد لابد أن يعرف ذلك من حالها، ويفرق العقلاء المخالطون لاهلها بين زماني فقدها ووجودها، وضعفها وقوتها، ولهذا علم الناس كلهم ابتداء حال الخوارج (2)،


[ 86 ]

وظهور مقالة الجهمية (1) والنجارية (2) ومن جرى مجراهم، وفرق العقلاء من سامعي الاخبار بين زمان حدوث مقالاتهم وبين ما تقدمها. وإذا صحت هذه الجملة التي ذكرناها في صفة الخبر الذي لابد أن يكون المخبر به صادقا من طريق الاستدلال) (3) بنينا عليها صحة تلك المعجزات والنصوص على الائمة عليهم السلام على ما نذهب إليه، وغير ذلك من أحكام الشريعة وغيرها. فأما خبر الله تعالى، فانما يعلم صدقه إذا علم أولا انه لا يلغز في أخباره، ولا يريد بها غير ظاهرها ولا يدل عليه وانه لا يجوز عليه الكذب ولا يعلم ذلك من حاله الا من علم انه عالم بقبح القبيح وغني عن فعله وانه إذا كان كذلك لا يجوز أن يختار القبيح، وقد بينا جملة من القول فيه. وأما خبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فانه يعلم به (4) صدقه لان العلم المعجز قد دل على انه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز أن يرسل الله من يكذب فيما يؤديه عنه وقد أمرنا بتصديقه في كل أخباره، فيجب أن يكون صدقا، لان تصديق الكذاب قبيح، والله يتعالى عن ذلك، فعلم عند ذلك ان أخباره عليه السلام صدق. والقول في أخبار الامام عليه السلام القائم مقامه كالقول في أخباره لان الدليل الدال على وجوب عصمته امننا من وقوع القبيح من جهته، وفي ذلك امان من أن


[ 87 ]

يكون خبره كذبا. وأما خبر الامة إذا اعتبرناه فانما يعلم مخبره (1) لما تقدم لنا من العلم بكون المعصوم فيها (2). وأما خبر الواحد بمحضر من الجماعة الكثيرة وادعاؤه عليهم المشاهدة كنحو من ينصرف من الجامع ويخبر بوقوع الامام من المنبر، ويدعى على جميع المنصرفين من الجامع مشاهدة ذلك، ويعلم انه لا صارف لهم عن تكذيبه، فمتى لم يكذبوه، علمنا انه صادق لانه لو لم يكن صادقا لانكروه على مقتضى العادة. فأما خبر المخبر [ بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشئ، إذا لم ينكر عليه، فان كان هذا المخبر يدعي ] (3) المشاهدة لذلك ولم ينكر عليه، فذلك دليل على صدقه وان أطلق الخبر اطلاقا، فانه لا يدل على ذلك. فأما الامة إذا تلفت الخبر بالقبول وصدقت به، فذلك دليل على صحته، لانه لو لم يكن صحيحا لادى إلى اجتماعها على خطأ، وذلك لا يجوز مع كون المعصوم فيها. ومتى تلقت الخبر بالقبول ولم تصدق به فذلك لا يدل على صدقه، لان هذا حكم أكثر أخبار الاحاد. وأما الخبر إذا روى وعلمت الامة بأجمعها بموجبه لاجله فعند من قال: لا يجوز العمل بخبر الواحد ينبغي أن يكون دلالة على صحته، لانه لو لم يكن صحيحا لادى إلى اجماعهم على العمل به وهو خطأ وذلك غير جائز عليهم. وأما من قال: يجوز العمل بخبر الواحد (4) فلا يمكنه أن يقول ان ذلك دلالة على


[ 88 ]

صحته، لانهم إذا اعتقدوا جواز العمل بخبر الواحد جاز أن يجمعوا عليه وان لم يكن صحيحا في الاصل كما انهم يجوز أن يجتمعوا (1) على شئ من طريق الاجتهاد عندهم وان لم يكن طريق ذلك العلم (2). وأما الخبر إذا ظهر بين الطائفة المحقة وعمل به أكثرهم، وأنكروا على من لم يعمل به، فان كان الذي لم يعمل به علم انه امام، أو الامام داخل في جملتهم، علم ان الخبر باطل. وان علم انه ليس بامام، ولا هو داخل معهم، علم ان الخبر صحيح، لان الامام داخل في الفرقة التي عملت بالخبر. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 89 ]

فصل [ 3 ] (في أن في الاخبار المروية ما هو كذب (1)، والطريق الذي يعلم به ذلك من المعلوم الذي لا يتخالج فيه شك) ان في الاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبا، كما ان فيها صدقا، فمن قال: ان جميعها صدق فقد أبعد القول فيه ومن قال: انها كلها كذب


[ 90 ]

فكذلك، لفقد الدلالة على كلا القولين وقد توعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكذب عليه بقوله: ” من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ” (1). وتجنب كثير من أصحابه الرواية نحو الزبير (2) والبراء بن عازب (3) لما تبينوا انه وقع فيها الكذب فروى عن البراء انه قال: سمعنا كما سمعوا لكنهم رووا ما لم يسمعوا) وروى عن شعبة (4) انه قال: (نصف الحديث كذب) (5) ولاجل ما قلنا، حمل أصحاب


[ 91 ]

الحديث نفوسهم على نقد (1) الحديث، وتمييز الصحيح منها من الفاسد (2). وليس لاحد أن يقول: ان ما يتعلق بالدين إذا لم يقم به الحجة وجب القطع على كذبه كما نعلم كذب المدعى للنبوة إذا لم يظهر عليه المعجز، وذلك انه لا يمتنع أن يتعبد بالخبر وان لم تقم به الحجة كما تعبد بالشهادات وان لم تعلم صحتها. ولا يجوز أن يتعبد بتصديق نبي ولا علم له، أو بتصديق كذاب، فلذلك كذبنا المدعي للنبوة إذا لم يكن له معجزة. وغاية ما في هذا ألا يجب العمل به وليس إذا لم يجب العمل به وجب القطع على كذبه، بل ينبغي أن يتوقف فيه إلى أن يدل دليل عقلي أو شرعي على كذبه أو كذب بعضه. وأما (3) الطريق الذي به يعلم كذب الخبر فلا يجوز أن يكون الخبر سواء أوجب العلم ضرورة أو اكتسابا. ويفارق الكذب في هذا الباب الصدق، لانا بالخبر نعلم صدق الخبر ولا نعلم به كذبه، بل العلم بكذبه يحتاج إلى امور اخر. والاخبار على ضربين. أحدهما: يعلم كونه كذبا (ضرورة، وهو أن يعلم) (4)، ضرورة ان مخبره على


[ 92 ]

خلاف ما تناوله فيعلم انه كذب ولذلك قلنا ان المخبر عن كون فيل بحضرتنا يعلم بطلان خبره بالاضطرار (1)، لانه لو كان هناك فيل لرأيناه. والضرب الاخر: يعلم كونه كذبا باكتساب، وهو كل خبر نعلم ان مخبره على خلاف ما تناوله بدليل عقلي، أو بالكتاب والسنة أو الاجماع وقد يعلم ذلك بأن يكون لو كان صحيحا لوجب قيام الحجة به على المكلفين أو بعضهم فإذا لم تقم به الحجة علم انه باطل والعلة في ذلك ان الله تعالى لا يجوز أن يكلف عباده فعلا ولا يزيح علتهم في معرفته، فإذا صح ذلك، وكان ذلك الفعل مما طريقه العلم لا العمل، أو مما علم بالدليل انه مما يجب أن يعلمه المكلف، وان كان طريقه العمل، فيجب ورود الخبر به على وجه يعلم مخبره، إذا لم يعرف (2) من جهة المكلفين، مما يمنع من وروده فإذا لم يكن ذلك حاله علم بطلانه أللهم الا أن يكون هناك طريق آخر يعلم به صحة ما تضمنه ذلك الخبر، فيستغنى بذلك الطريق عن الخبر، ولا يقطع على كذبه ولذلك نقول: ان الخبر إذا صار بحيث لا تقوم به الحجة قام قول الامام في ذلك مقامه إذا اوجب العلم وصارت الحجة به قوله دون الخبر والعلة في ذلك ان ما تضمنه الخبر إذا كان من باب الدين ومصلحة المكلف، فلابد من أن يكون للمكلف طريق إلى العلم به فان كان حاصلا من طريق النقل، والا فما ذكرناه من قول الامام، لانه ان لم يكن أحد هذين أدى إلى أن لا يكون للمكلف طريق يعلم به ما هو مصلحة له، وذلك لا يجوز. ومنها: أن يكون المخبر عنه مما لو كان على ما تناوله الخبر لكانت الدواعي تقوى إلى نقله، وقد جرت العادة بتعذر كتمانه فإذا لم ينقل ذلك، نقل مثله علم كذبه وهو أن يخبر المخبر بحادثة عظيمة وقعت في الجامع، ورؤية الهلال والسماء مصحية في انه إذا لم يظهر النقل فيه علم انه كذب.


[ 93 ]

ومنها: أن تكون الحاجة في باب الدين إلى نقله ماسة، فإذا لم ينقل نقل نظيره في هذا الباب علم انه كذب نحو ما نقول ان العرب لو عارضت القرآن لوجب نقله كنقل نظيره، لان الحاجة إلى نقله كالحاجة إلى نقل القرآن، وحالهما في قرب العهد سواء ولذلك نقول: انه لا يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شرائع اخر لم تنقل الينا، لانها لو كانت لنقلت نقل نظيرها لمساواتها لها في الحاجة إليها وقرب العهد بها هذا إذا فرضنا ان الموانع والصوارف عن نقله كلها مرتفعة يجب ذلك. فأما إذا جوزنا أن يمنع من نقل بعض الاخبار مانع من خوف وما يجرى مجراه فلم يجب القطع على كذب ذلك الخبر، لان هذا الذي ذكرناه حكم أكثر الفضائل المروية لامير المؤمنين عليه السلام والنص عليه والعلة فيها ما قلناه من اعتراض موانع من خوف وتقية وغير ذلك. فأما ما يعم البلوى به أو ما وقع في الاصل شائعا ذائعا فيجب (1) نقله على وجه يوجب العلم ما لم يعرض فيه ما يمنع من نقله فمتى لم يعرض هناك ما يمنع من نقله وكان في الاصل شائعا ذائعا علم انه باطل. والخبر إذا كان ظاهره يقتضي الجبر والتشبيه، أو أمرا علم بالدليل بطلانه ولا يمكن تأويله على وجه يطابق الحق غير متعسف ولا بعيد من الاستعمال، وجب القطع على كذبه. فان أمكن تأويله على وجه قريب، أو على ضرب من المجاز (الذي) (2) جرت العادة باستعماله يقطع على كذبه. فأما ما تكلفه محمد بن شجاع الثلجي (3) من تأويل الاخبار الواردة من الجبر والتشبيه من التعسف والخروج عن حد الاستعمال فلا يحتاج إليه، لانه لو ساغ ذلك


[ 94 ]

لم يكن لنا طريق نقطع على كذب أحد، وذلك باطل. والفائدة في نقل ما علم كذبه هو أن ينحصر المنقول من الاحاديث ليعلم ان ما ادخل فيه معمول كما حصر (1) الخلاف في الفقه ليعلم به الخلاف الحادث فيطرح ولا يلتفت إليه. وليس لاحد أن يقول: ان في تجويزكم (2) الكذب على هذه الاخبار أو في بعضها طعنا على الصحابة، لان ذلك يوجب تعمدهم الكذب. وذلك انه: لا يمتنع أن يكون وقع الغلط من بعض الصحابة، لانه ليس كل واحد منهم معصوما لا يجوز عليه الغلط، وانما يمنع من اجماعهم على الخطأ دون أن يكون ذلك ممتنعا من آحادهم. وأيضا فانهم كانوا يسمعون الحديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكتبونه فيسهون (3) عنه أو عن بعضه فيقع الغلط في نقله (4). وأيضا: انهم كانوا يحضرونه عليه السلام وقد ابتدأ الحديث فيلحقه بعضهم فينقلونه بانفراده فيتغير معناه لذلك ولذلك كان عليه السلام إذا أحسن برجل داخل ابتدأ الحديث (4)، ولهذا أنكرت عائشة (5) على من روى عن النبي صلى الله عليه وآله


[ 95 ]

وسلم أنه قال: ” الشؤم في ثلاث: الفرس، والمرأة، والدار ” (1)، وذكرت أنه عليه السلام كان حاكيا لذلك فلم يسمع الراوي أول كلامه وكذلك خطأت من روى عنه عليه السلام أنه قال: (2) ” التاجر فاجر ” (3) و ” ان ولد الزنا شر الثلاثة ” (4) وذكرت ان كلامه خرج على تاجر قد دلس، وولد زنا قد سب أمه (5). وعلى هذا الوجه أنكرت وابن عباس (6) جميعا ما رواه ابن عمر (7) ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ” (8) وغير ذلك، فقالا وهل (9) ابن عمر وإنما قال عليه السلام: ” ان الميت ليعذب، وإن أهله يبكون عليه “. وقد كان منهم من ينقل الحديث بالمعنى دون اللفظ، فيقع الغلط فيه من هذا الوجه. وهذه الوجوه التي ذكرناها أو أكثرها تنفي الطعن عن ناقل الخبر وان كان كذبا.


[ 96 ]

فأما من تأخر عن زمان الصحابة والتابعين فلا يمنع من أن يكون فيهم من يدخل في الاحاديث الكذب عمدا ويكون غرضه الافساد في الدين كما روى عن عبد الكريم بن أبي العوجاء (1) انه لما صلب (4) وقتل قال: (اما انكم ان قتلتموني لقد أدخلت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة) وهذا واحد من الزنادقة والملحدين، فكيف الصورة في الباقين. فأما الاخبار التى هي من باب العمل كالاخبار الواردة في فروع الدين فسنذكر القول فيها – ان شاء الله تعالى – في الفصل الذي يليه.


[ 97 ]

فصل [ 4 ] (في ذكر الخبر الواحد وجملة من القول في أحكامه) اختلف الناس في خبر الواحد، فحكى عن النظام (1) انه كان يقول: انه يوجب العلم الضروري إذا قارنه سبب (2). وكان يجوز في الطائفة الكثيرة ألا يحصل العلم بخبرها. وحكى عن قوم من أهل الظاهر انه يوجب (3) العلم (4)، وربما سموا ذلك علما


[ 98 ]

ظاهرا. وذهب الباقون من العلماء، من المتكلمين والفقهاء، إلى انه لا يوجب العلم (1)، ثم اختلفوا: فمنهم من قال: لا يجوز العمل به (2). ومنهم من قال: يجب العمل به (3). واختلف من قال: لا يجوز العمل به. فقال قوم: لا يجوز العمل به عقلا (4). وقال آخرون: انه لا يجوز العمل به، لان العبادة لم ترد به وان كان جائزا في العقل ورودها به (2). وربما قالوا وقد ورد السمع بالمنع من العمل به. واختلف من قال يجب العمل به: فمنهم من قال: يجب العمل به عقلا (3) وحكي هذا المذهب عن ابن سريج (5)


[ 99 ]

وغيره. وقال آخرون: انما يجب العمل به شرعا والعقل لا يدل عليه، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين ممن خالفنا (1). ثم اختلفوا: فمنهم من قال: يجب العمل به ولم يراع في ذلك عددا (2). ومنهم من راعى في ذلك العدد وهو أن يكون رواته أكثر من واحد (3) وهذا


[ 100 ]

المذهب هو المحكي عن أبي علي (1). والذي أذهب إليه (2): ان خبر الواحد لا يوجب العلم (3) *، وانه كان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلا وقد ورد جواز العمل به في الشرع، الا أن ذلك موقوف على طريق مخصوص وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة، ويختص بروايته، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها. وأنا أبتدئ أولا فادل على فساد هذه المذاهب التي حكيتها ثم ادل على صحة ما ذهبت إليه. أما الذي يدل على ان خبر الواحد لا يوجب العلم، فهو انه لو أوجب العلم لكان يوجبه كل خبر واحد إذا كان المخبر صادقا وإلى ما أخبر به مضطرا (4). ولو كان كذلك لوجب أن يعلم صدق أحد المتلاعنين وكذب الاخر.


[ 101 ]

وكان يجب أن لا يصح الشك في خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه اسرى به إلى السماء. وقد علمنا خلاف ذلك لانا لا نعلم صدق أحد المتلاعنين ونجوز أن تدخل الشبهة في نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعتقد صحة نبوته، فيشك في خبره عن الاسراء به، ولو كان يوجب العلم الضروري لما صح ذلك، ولكان يجب أيضا أن يحصل لنا العلم بصدق كل رسول ادعى رسالة بعضنا إلى بعض، لان ذلك يعلم ضرورة، فكان يجب حصول العلم به، وقد علمنا خلاف ذلك. فإذا بطل جميع ذلك، علم انه لا يوجب العلم. فأما ما اعتبره النظام من اقتران السبب به (1)، فليس يخلو من: أن يقول: يقع العلم به وبالسبب جميعا. أو يقول: ان العلم يقع به بشرط أن يقارنه السبب. أو يقول: ان العلم يقع به الا أن لا يكون (2) السبب حاصلا (3) *. وكل هذه الوجوه يبطل، لانه يوجب أن لا يمتنع أن يخبر الجماعة العظيمة عن الشئ (4) ولا يقترن بها ذلك السبب، فلا يحصل عند خبرها العلم وهذا يؤدي إلى تجويز أن نصدق من يخبرنا عن نفسه بأنه لا يعلم ان في الدنيا مكة مع اختلاطه بالناس ونشوءه بينهم وقد علمنا خلاف ذلك. فأما ما يذكره من مشاهدة من رأى مخرق الثياب يلطم (5) على وجهه، وقد كان


[ 102 ]

علم أن له عليلا ويخبر بموته، انا نعلم عند خبره انه ميت، فدعوى (1) لا برهان عليها، لان مثل ذلك قد يفعله العقلاء لاغراض كثيرة، ثم ينكشف الامر عن خلاف ذلك. فمن أين ان الذي يعتقده عند خبره علم لا يجوز التشكك فيه ؟ فأما من قال: انه لو لم يوجب العلم لما صح أن يتعبد (2) به، لان العبادة لا تصح الا بما نعلمه دون ما لا نعلمه. فانما (3) كان يدل لو ثبت ان في العقل لا يجوز العبادة بما طريقه الظن، ثم يثبت انه تعبد به، ولم يثبت لهذا القائل واحد من الامرين، فلا يصح التعلق به. فأما تعلقه بقوله: ” وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ” (4). فهو لا يدل على ايجاب خبر الواحد العلم، لان معنى الاية النهي عن الكذب على الله تعالى، وليس من عمل بخبر الواحد يضيف إليه ان الله تعالى قد قال ما تضمنه الخبر، وانما يضيف إليه انه تعبده بالعمل بما تضمنه الخبر، وذلك معلوم عنده بدليل دل عليه، فيسقط بجميع ذلك هذا المذهب. ولو كان خبر الواحد يوجب العلم، لما كان اختلاف الناس في قبوله وشكهم في صحته صحيحا. ولا صح التعارض في الاخبار (5) * ولا احتيج إلى اعتبار صفات


[ 103 ]

الراوي، ولا ترجيح بعض الاخبار على بعض، وكل ذلك يبين فساد هذا المذهب. فأما تسميته من سماه علما ظاهرا (1): فربما عبر عن (الظن) بأنه علم، لان العلم لا يختلف حاله إلى أن يكون ظاهرا وباطنا فان أراد ذلك فهو خلاف في العبارة لا اعتبار به. فأما من قال لا يجوز العمل به عقلا (2): فالذي يدل على بطلان قوله ان يقال: إذا تعبد الله تعالى بالشئ فانما يتعبد به لانه مصلحة لنا، وينبغي أن يدلنا عليه وعلى صفته التي إذا (3) علمناه عليها كان مصلحة لنا، وصح منا أداؤه على ذلك الوجه. لا يمتنع ان تختلف الطرق التي بها يعلم ان الله سبحانه تعبدنا به، كما لا يمتنع اختلاف الادلة التي بها تعلم صحة ذلك فإذا صحت هذه الجملة لم يمتنع أن يدلنا على انه قد أمرنا بأن نفعل ما ورد به خبر الواحد إذا علمناه على صفة ظننا انه صادق كعلمنا انه تعبدنا بما أنزله من القرآن، وان كان أحدهما قد علق بشرط والاخر لم يعلق به. وإذا صح هذا، وكان صورة خبر الواحد هذه الصورة، فيجب أن لا يمتنع ورود العبادة بالعمل به. والذي يبين ذلك أيضا ورود العبادة بالشهادات وان لم يعلم صدقهم، وجرى وجوب الحكم بقولهم في أنه معلوم مجرى الحكم بما علمناه بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وليس لاحد أن يقول: إذا لم يصح ان يتعبد الله تعالى بالقبول من النبي بلا علم معجز يظهر عليه، فبان لا يجوز القبول من غيره أولى. وذلك ان فقد ظهور العلم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي الجهل بالمصالح التي لا تعلم الا من جهته، وليس في فقد الدلالة على صدق خبر الواحد ذلك، لانه يصح أن يعلم بقول النبي


[ 104 ]

صلى الله عليه وآله وسلم وجوب ما أخبر به الواحد، فيصير في حكم علم قد ظهر عليه، وان جوزنا كونه كاذبا فيه، لانه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل به وان كان هو كاذبا كما لا يمتنع أن يكون الواجب علينا ترك سلوك الطريق إذا خوفنا الواحد من سبع فيه أو لص وان كان كاذبا. ثم هذا يوجب عليه ألا (1) يحكم بشهادة الشهود مع تجويز أن يكونوا كذبة، كما لا تقبل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشريعة الا بعلم يدل على نبوته. فان قالوا: ولم لا يجوز ان يعلم أيضا بقول نبي متقدم وجوب تصديق نبي آخر يجئ بعده ؟ والعمل بما معه مثل (2) ما قلتموه في خبر الواحد من أنه يعلم وجوب العمل به بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. قيل له: ان كان سؤالك عن وجوب العمل بما يجئ به انسان في المستقبل فهذا هو معنى قبول خبر الواحد وجواز العمل به بعينه، فذلك جائز وان كان (سؤالك) (3) عن تصديق نبي يجيئ فذلك طريقه العلم لا العمل، فلا يجوز أن يعمل بقوله لانا بينا ان خبر الواحد لا يوجب العلم. أللهم الا أن يفرض المسألة فيقال: ان النبي المتقدم، ينص على صفة من يدعي النبوة ويقول: ” من كان عليها وادعى النبوة فاعلموا انه صادق ” فان ذلك جائز، ويكون ذلك نصا على نبوته، وما دل على صدقه دال على تصديق هذا وان كان بواسطة فبطل بهذا التجويز جميع ما تعلق به في هذا الباب. فان قالوا (4): لو جاز قبول خبر الواحد في الفروع لجاز ذلك في الاصول وفي ثبوت القرآن، لان جميع ذلك من مصالح الدين، فإذا لم يصح ذلك في بعضه، لم يصح في سائره.


[ 105 ]

قيل له: انه ما كان يمتنع ان يتعبد بقبول خبر الواحد في اصول الدين كما تعبدنا الان بقبوله في فروعه، وان كان لابد من قيام الحجة ببعض الشرائع (1) *. فأما اثبات القرآن، فان كان لم يرد (2) مثل القرآن وعلى صفته في الاعجاز، صح أن يتعبد به، لان كونه على هذه الصفة يوجب العلم. وان كان ما يرد لا يكون بصفة القرآن في الاعجاز فانه لا يمتنع أيضا وورد العبادة بالعمل به من غير قطع على انه قرآن مثل ما قلناه في خبر الواحد. وكذلك ما كان يمتنع أن يتعبد بتخصيص عموم القرآن ونسخه بخبر الواحد، وان كان لم يقع ذلك أصلا، لان الكلام فيما يجوز من ذلك وما لا يجوز فليس لاحد أن يقول: أوجبوا العمل به كما أجزتموه، لان ايجاب العمل يحتاج إلى دليل منفصل من دليل الجواز. فأما من ذهب إلى أن العبادة لم ترد به (3): فان أراد انها لم ترد به بالاطلاق، فهو مذهبنا الذي اخترناه. وان أراد انها لم ترد على التفصيل الذي فصلناه (4)، فسندل نحن فيما بعد على ورود العبادة به إذا انتهينا إلى الدلالة على صحة ما اخترناه. وأما من قال: ان العبادة منعت منه (5) وتعلقهم في ذلك بقوله: ” وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ” (6) وبقوله: ” ولا تقف ما ليس لك به علم ” (7) وما أشبه ذلك


[ 106 ]

من الايات (1). فقد بينا تأويل الاية الاولى (2). فأما قوله تعالى: ” ولا تقف ما ليس لك به علم ” فلا يدل على ذلك أيضا، لان من عمل بخبر الواحد، فانما يعمل به إذا دله دليل (3) * على وجوب العمل به اما من الكتاب أو السنة أو الاجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم، وانما الاية مانعة من العمل بغير علم أصلا، وقد بينا انا لا نقول ذلك، لان من علم وجوب العمل بخبر الواحد فهو عالم بما يعمل به، فسقط التعلق بهذه الاية أيضا. وأما (4) من أوجب العمل به عقلا (5): فالذي يدل على بطلان قوله انه ليس في العقل ما يدل على وجوب ذلك وقد سبرنا (6) أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبه فينبغي أن لا يكون واجبا وأن يكون مبقى (7) على ما كان عليه. وأيضا: فان الشريعة مبنية على المصالح، فإذا لم نجد ما يدل على قبول خبر الواحد في العقل، فينبغي أن يكون مبقى (7) على ما كان عليه في العقل، من الحظر أو الاباحة.


[ 107 ]

وليس لاحد أن يقول (1) *: ان في العقل وجوب التحرز من المضار، وإذا لم نأمن عند خبر الواحد، أن يكون الامر على ما تضمنه الخبر، يجب علينا التحرز منه والعمل بموجبه كما انه يجب علينا إذا أردنا سلوك طريق أو تجارة وغير ذلك فخبرنا مخبر أن في الطريق سبعا أو لصا، أو يخبرنا بالخسران الظاهر، وجب علينا أن نتوقف عليه ونمتنع من السلوك فيه، فحكم خبر الواحد في الشريعة هذا الحكم. وذلك ان الذي ذكروه غير صحيح من وجوه: أحدها: ان الاعتبار الذي اعتبروه يوجب عليهم قبول خبر من يدعي النبوة من غير علم يدل على نبوته، لان العلة قائمة فيه، وهي وجوب التحرز من المضار، فأي فرق فرقوا في ذلك، فرقنا بمثله في خبر الواحد. والثاني: ان الذي ذكروه انما يسوغ فيما طريقه المنافع والمضار الدنيوية، فأما ما يتعلق بالمصالح الدينية، فلا يجوز أن يسلك فيها الا طريق العلم (2) * ولهذه العلة أوجبنا بعثة الانبياء واظهار الاعلام (3) * على أيديهم، ولولا ذلك لما وجب ذلك كله. والثالث: ان خبر الواحد لا يخلو أن يكون واردا بالحظر أو الاباحة. فان ورد بالحظر لا نأمن أن تكون المصلحة في اباحته وان كونه محظورا يكون مفسدة لنا. وكذلك ان ورد (بالاباحة) لا نأمن أن تكون المصلحة تقتضي حظره، وأن تكون


[ 108 ]

اباحته مفسدة لنا، فنقدم على ما لا نأمن أن يكون مفسدة لنا، لان الخبر ليس بموجب للعلم، فنقطع به على أحد الامرين، وذلك لا يجوز في العقول. وليس لاحد أن يقول (1): إذا لم يكن في السمع دلالة على الحادثة الا ما تضمنه خبر الواحد، وجب العمل به بحكم العقل لانا متى لم نعمل به أدى إلى أن تكون الحادثة لا حكم لها، وذلك لا يجوز لانه إذا لم يكن في الشرع دليل على حكم تلك الحادثة وجب تبقيتها على مقتضى العقل من الحظر، أو الاباحه، أو الوقف ويحتاج إلى خبر الواحد، فعلم بهذه الجملة بطلان هذا المذهب. وأما من أوجب العمل (2) به على ما يذهب إليه مخالفونا في الاحكام فالذي يبطله أن نقول: إذا لم يكن في العقل ما يدل على ذلك فالطريق إلى ايجابه السمع، وليس في السمع دليل على وجوب العمل بخبر الواحد – على ما يذهبون إليه – لان جميع ما يدعونه دليلا ليس في شئ منه دليل على وجه ونحن نذكر شبههم في ذلك ونتكلم عليها بموجز من القول: أحدما استدلوا به على وجوب العمل بخبر الواحد قوله تعالى: ” فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ” (3). قالوا: فحث الله تعالى كل طائفة على التفقه، وأوجب عليهم الانذار والطائفة


[ 109 ]

يعبر بها عن عدد قليل لا يوجب خبرهم العلم (1)، فلولا أنه يجب العمل بخبرهم لما أوجب عليهم الانذار، لانه لا فائدة فيه (2). وربما قووا ذلك بأن قالوا: لما أوجب الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الانذار وجب علينا القبول ولو لم يجب علينا القبول لما وجب عليه الانذار (2). وهذه الاية لا دلالة فيها لان الذي يقتضيه ظاهر الاية وجوب الانذار على الطائفة وليس في وجوب الانذار عليهم وجوب القبول منهم، لانه غير ممتنع (3) * ان تتعلق المصلحة بوجوب الانذار عليهم ولا تتعلق بوجوب القبول منهم، الا إذا انضاف إليه شئ آخر ألا ترى انه قد يجب التحذير والانذار من ترك معرفة الله ومعرفة صفاته وان لم يجب القبول من المخبر في ذلك، بل يجب الرجوع إلى أدلة العقل وما يقتضيه. وكذلك يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الانذار، وان لم يجب القبول منه الا إذا دل العلم المعجز على صدقه، فيجب حينئذ القبول منه. فكذلك القول في تحذير الطائفة انه يجب عليهم التحذير، ويجب على المنذر الرجوع إلى طرق العلم. وأيضا: يجب على أحد الشاهدين اقامة الشهادة، ولا يجب على الحاكم تنفيذ الحكم بشهادته، الا إذا انضاف إليه من تتكامل الشهادة به ثم يعتبر أيضا بعد تكاملهم صفاتهم، وهل هم عدول أو لا ؟ حتى يجب عليه الحكم بشهادتهم. وكذلك يجب على آحاد المتواترين النقل فيما طريقه العلم، وان كان لا


[ 110 ]

يحصل العلم بخبره، ولا يجب علينا أن نعتقد صحة ما أخبر به الا بعد أن ينضاف من يتكامل به التواتر إليهم فحينئذ يوجب العلم، ولذلك نظائر كثيرة في العقليات (1) * ألا ترى انه قد يجب على الواحد منا العطية إلى غيره، وان كان ذلك الغير لا يجوز له أخذها، ألا ترى ان من ألجأ غيره ظلما بتخويف القتل إلى اعطائه المال أو الثياب يجب عليه اعطائه بحكم العقل خوفا من القتل، ولا يجوز للظالم الملجئ أخذ ذلك على وجه من الوجوه (2). وليس لاحد أن يقول: ان هذا يبطل فائدة الانذار، لانه متى لم يجب القبول فلا وجه لوجوب الانذار عليهم وذلك انا قد بينا انه قد يجب الانذار في مواضع ذكرناها، وان لم يجب القبول من المنذر لما بيناه، فكذلك القول فيما قالوه. فأما حملهم (3) * ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذلك دليلنا لانا قد بينا أنه لا يجب القبول منه الا بعد أن يدل العلم المعجز على صدقه، فحينئذ يجب القول منه. فنظير هذا أن يدل دليل على وجوب العمل بما انذروا به حتى يجب علينا العمل به. وفي هذا القدر كفاية في ابطال التعلق بهذه الاية. واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ


[ 111 ]

فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ” (1). قالوا: أوجب علينا التوقف عند خبر الفاسق، فينبغي أن يكون خبر العدل بخلافه وأن يجب العمل به وترك التوقف فيه (2). وهذا أيضا لا دلالة فيه لان هذا أولا استدلال بدليل (3) * الخطاب (4) ومن أصحابنا (5) من قال: ان دليل الخطاب ليس بدليل، فعلى هذا المذهب لا يمكن


[ 112 ]

الاستدلال بالاية. وأما من قال بدليل الخطاب (1) فانه يقول لا يصح أيضا الاستدلال بها من وجوه (2) *. أحدها: ان هذه الاية نزلت في (3) * فاسق (4) أخبر بردة قوم (5) وذلك لا خلاف


[ 113 ]

انه لا يقبل فيه أيضا خبر العدل، لانه لا يجوز أن يحكم بارتداد أقوام بخبر الواحد العدل. والثاني: ان تعليل الاية يمنع من الاستدلال بها، لان الله تعالى علل خبر الفاسق فقال: ” أن تصيبوا قوما بجهالة ” وذلك قائم في خبر العدل، لان خبره إذا كان لا يوجب العلم، فالتجويز في خبره حاصل مثل التجويز في خبر الفاسق. وليس لاحد أن يقول: اني أمنع من تجويز ذلك في العدل، لانه لو كان ذلك جائزا لما علق تجويز الجهالة بالفاسق ؟ لان ذلك لا يصح من وجهين: أحدهما: ان هذا يقتضي أن يقطع على انه يعلم بخبر العدل، لان الجهل لا يرتفع الا ويحصل العلم، وذلك لا يقوله أحد. والثاني: انه ليس من يمنع من تجويز الجهالة في خبر العدل من حيث علق الحكم بخبر الفاسق بأولى ممن قال: أنا أمنع بحكم التعليل من دليل الخطاب في تعليق الحكم بخبر الفاسق، لانه لا يمتنع ترك دليل الخطاب لدليل، والتعليل دليل، فيسقط على كل حال التعلق بالاية. واستدل قوم: بقوله تعالى: ” ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه ” (1) الاية. وقالوا: حظر الكتمان يقتضي وجوب الاظهار، ووجوب ذلك يقتضي وجوب القبول، والا فلا فائدة في الاية (2).


[ 114 ]

وهذه الاية أيضا لا دلالة فيها من وجوه (1): منها: ما قدمناه في الاية الاولى من ان هاهنا مواضع كثيرة يجب الانذار فيها والتخويف، وان لم يجب القبول على المنذر الا أن ينضاف إليه امر آخر فكذلك القول في الاظهار. ومنها: انه ليس في الاية الا تحريم كتمان ما أنزله الله تعالى في الكتاب، وظاهر ذلك يقتضي ان المراد به القرآن وذلك يوجب العلم (1) دون خبر الواحد الذي لا يوجبه. وليس لاحد أن يقول: فقد قال بعد ذلك ” والهدى ” فيدخل فيه سائر الادلة. لان ذلك لا يصح من وجهين: أحدهما: انه قال بعد ذلك ” من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ” فقد عاد الامر إلى أنه أراد به الكتاب. والثاني: انه يقتضي وجوب اظهار ما هو دليل، ويحتاج أن يثبت أولا ان خبر الواحد دليل بغير الاية حتى يتناوله قوله ” والهدى ” فإذا لم يثبت دليل لا يمكن حمل الاية عليه، وإذا اثبت استغنى عن الاستدلال بالاية. وقد استدل الخلق منهم من الفقهاء والمتكلمين (2) باجماع الصحابة بأن قالوا:


[ 115 ]

وجدنا الصحابة قد عملت بأخبار لاحاد وشاع ذلك فيما بينهم، نحو ما روي عن عمر انه قبل خبر حمل بن مالك (1) في الجنين وقال: (كدنا أن نقضي فيه برأينا) (2) وخبر الضحاك (3) في توريث المرأة من دية زوجها (4)، وخبر عبد الرحمن في أخذ الجزية من المجوس (5). وكانوا في ذلك بين طائفتين، طائفة تعمل بهذه الاخبار، والاخرى لا


[ 116 ]

تنكر عليهم فلولا ان العمل بها كان صحيحا جائزا والا كانوا قد أجمعوا على الخطأ وذلك لا يجوز. والاستدلال بهذه الطريقة لا يصح من وجوه. أحدها: ان هذه الاخبار التي رووها كلها أخبار آحاد، والطريق إلى أنهم عملوا بها أيضا أخبار آحاد، لانها لو كانت متواترة لكانت توجب العلم الضروري عندهم (1)، ونحن لا نعلم ضرورة أن الصحابة عملت بأخبار الاحاد، فإذا لا يصح الاعتماد على هذه الاخبار، لان المعتمد عليها يكون أوجب العمل بخبر الواحد وذلك لا يجوز. ولا خلاف أيضا بين الاصوليين في أن وجوب العمل بأخبار الاحاد طريقة العلم دون الظن واخبار الاحاد قد (2) دللنا على انها لا توجب العلم، فسقط من هذا الوجه الاحتجاج بهذه الطريقة. والثاني: انا لو سلمنا انهم عملوا بهذه الاخبار، من أين لهم انهم عملوا بها من حيث كانت اخبار آحاد ومن أجلها ؟ وما ينكرون على من قال: انهم عملوا لدليل دلهم على صحة ما تضمنته هذه الاخبار ؟ أو قرينة اقترنت إليها أوجبت صحتها ؟ أو يكون العامل بها كان قد سمع كما يسمع الراوي، فلما روي له ذلك تذكر ما كان نسيه فعمل به لاجل علمه لا لاجل روايته (3).


[ 117 ]

وليس لاحد أن يقول إذا عملوا عند سماع هذه الاخبار، ولم يعملوا قبل ذلك، علم ان عملهم لاجلها دون أمر آخر ويبين ذلك قول عمر في خبر الجنين: (كدنا أن نقضي فيه برأينا) (1) وفي خبر آخر: (لولا هذا لقضيا فيه برأينا (1)). فنبه (2) انه عدل عن الرأي إلى ما عمل به لاجل الخبر لا لاجل علمه أو أمر آخر. وكذلك روى عنه انه كان ممن يرى المفاضلة في دية الاصابع حتى اخبر عن كتاب عمرو بن حزم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” في كل اصبع عشرة من الابل ” (3) فسوى بين الكل وفي ذلك ابطال قول من قال جوزوا أن يكونوا عملوا بهذه الاخبار لامر آخر. وذلك: انه لا يمتنع انهم قبل رواية هذه الاخبار لم يعملوا لانهم كانوا ناسين لذلك فلما روى لهم الخبر ذكروا ما كانوا نسوه فعملوا به لاجل الخبر. فأما قول عمر: (كدنا ان نقضي فيه برأينا) (1) فلا يمتنع أيضا أن يكون لما كان نسى الخبر وبعد عهده به أراد أن يقضى برأيه فيه، فلما روى له الخبر تذكر ما تضمنه الخبر فرجع إلى ما علمه، واخبر انه لولا هذا الخبر الذي كان سببا لتذكاره كاد أن يقضي برأيه. وأما رجوعه إلى كتاب عمرو بن حزم في الدية (3)، فان كتاب عمرو بن حزم (4)


[ 118 ]

كان معلوما بين الصحابة، وانه من املاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن طريق ذلك خبر الواحد، فلاجل ذلك رجع إليه. والثالث: انا لو سلمنا انهم عملوا بهذه الاخبار لاجلها لم يكن أيضا فيه دلالة، لانه ليس جميع الصحابة عمل بها، وانما عمل بها بعضهم وليس فعل بعضهم حجة، وانما الحجة في فعل جميعهم. وليس لهم أن يقولوا: انهم بين طائفتين طائفة عملت بها وطائفة لم تنكر عليهم العمل بها، فلو لم يكن صحيحا لكانوا قد أجمعوا على الخطأ (1). وكذلك (2) ان هذا لا يصح من وجهين: أحدهما: انه من أين لهم حيث لم ينكروا كانوا راضين بأفعالهم مصوبين لهم ما عملوا ؟ وما المانع من أن يكونوا كارهين لذلك منكرين بقلوبهم، ومنع من اظهار ذلك بعض الموانع (3). وانما يمكن الاعتماد على سكوتهم إذا لم يكن لسكوتهم وجه غير الرضا فحينئذ يحمل عليه فاما ويمكن غير ذلك فينبغي أن لا يقطع به على الرضا. وأيضا فانما يجب عليهم انكار ذلك إذا علموا انهم عملوا بهذه الاخبار لاجلها وغير ممتنع أن يكونوا شاكين في حال العاملين بها مجوزين، لانهم عملوا بها لدليل دلهم على صحة هذه الاخبار أو لتذكرهم، فلاجل ذلك لم ينكروهم. والوجه الثاني: انهم قد أنكروا اجمع العمل بأخبار (4) الاحاد، ألا ترى إلى ما


[ 119 ]

روى عن أبي بكر انه لم يقبل خبر المغيرة بن شعبة (1) في الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة (2). وما روى عن عمر انه لم يقبل خبر أبي موسى (3) في الاستئذان (4) حتى شهد معه أبو سعيد (5). وما روى عن علي عليه السلام انه لم يقبل خبر ابن سنان الاشجعي (6) وغير


[ 120 ]

ذلك مما لا يحصى كثرة. ورد هذه الاخبار ظاهر بينهم كما ظهر بينهم العمل بما ذكروه من الاخبار فان كان عملهم بما عملوه دليلا على جوازه، فردهم لما ردوه يجب أن يكون دليلا على المنع منه، ولا فرق بينهما على حال. وليس لاحد أن يقول (1): نحن لا ننكر رد كثير من الاخبار إذا لم يكن شرط وجوب القبول فيه ثابتا. وذلك: ان هذا التأويل في رد هذه الاخبار انما يسوغ إذا ثبت انهم عملوا بخبر الواحد فاما ولما يثبت ذلك بل نحن في سبر (2) ذلك فلا يمكن تأويل ذلك. ولا فرق بين من تأول هذه الاخبار وقال: انهم ردوها لبعض العلل، ليسلم له العمل بتلك الاخبار وبين من عكس ذلك فقال: انهم عملوا بتلك الاخبار لقيام دليل دلهم على ذلك غير نفس الاخبار، لتسلم له ظواهر هذه الاخبار ولا فرق بينهما على حال. على ان هذه الطريقة التي اعتمدوها توجب عليهم وجوب النسخ بخبر الواحد لانهم نسخوا القبلة بخبر الواحد، لانه روى ان أهل قباء كانوا في الصلاة


[ 121 ]

متوجهين إلى بيت المقدس فجاءهم مخبر فقال لهم: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول قبلته إلى الكعبة، فداروا إلى التوجه إلى الكعبة (1)، وكان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم نجده عليه السلام أنكر عليهم ذلك، فينبغي أن يكون على قانون طريقتهم يجوز النسخ بخبر الواحد، وذلك لا يقوله أحد (2). وليس لهم أن يقولوا: ان أهل قباء كانوا قد علموا نسخ القبلة بغير ذلك الخبر، فلاجل ذلك عملوا به. لان عليهم فيما استدلوا به من الاخبار مثله بأن يقال: وانما عملوا بتلك الاخبار لانه كان سبق لهم العلم بما تضمنته تلك الاخبار، فذكروه عند حصولها كما قلتموه في أهل قباء حذو النعل بالنعل. واستدلوا أيضا بما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعثه رسله إلى الاطراف، وعماله، وسعاته إلى النواحي وأمره اياهم بالدعاء إلى الله تعالى وإلى رسوله وشريعته، فلولا ان القبول كان واجبا منهم، والا لم يكن لذلك فائدة (3). وهذا لا يمكن الاعتماد عليه، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث برسله ويأمرهم أولا بالدعاء إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خلاف ان ذلك طريقة الدليل، وانه لا يجوز قبول خبر الواحد فيه، بل يجب الرجوع


[ 122 ]

في ذلك إلى الادلة الواضحة فيه فكذلك القول في الاحكام الشرعية. فان قالوا: انهم كانوا يدعونهم إلى معرفة الله تعالى وينبهونهم على ما هو مركوز في عقولهم من الادلة الدالة على توحيده وعدله، وكذلك يدعونهم إلى النبوة والاقرار به، ويقرأون عليهم القرآن الدال على صدقه في دعواه. قيل لهم: فإذا قد صار لدعائهم إلى ما يدعون إليه فائدة غير وجوب القبول منهم، وإذا جاز ذلك في المعرفة والنبوة، جاز له أن يقول في أحكام الشريعة مثله. بأن يقول انهم كانوا ينبهونهم على الطرق الدالة على أحكام الشريعة من الكتاب والسنة المتواترة بها ويجب عليهم النظر فيها ليحصل لهم العلم بصحة ما يتضمنه. ثم يقال لهم: طريق التعبد بخبر الواحد ووجوب العمل به الشرع، لان العقل قد بينا انه لا يدل على ذلك، فمن اين يعلمون انهم قد تعبدوا بوجوب (1) القبول من الرسل والعمال وغيرهم، حتى يجب عليهم القبول منهم ؟ فان أحالوا على جهة من الجهات من تواتر أو غير ذلك، قلنا مثله في سائر الاحكام، وسقط التعلق بهذه الطريقة. فان قيل: فما قولكم في المواضع النائية التي يقطع على انه لا تواتر اتصل بهم بأحكام الشريعة، أليس كان يجب عليهم القبول من الرسل والعمال، وليس هناك طريق يعلمون به أحكام الشريعة. قيل له: إذا فرضت المسألة في الموضع الذي ذكر في السؤال فلاصحابنا عن ذلك جوابان: أحدهما: انه لا يجب عليهم القبول منهم، وينبغي أن يكونوا متمسكين بحكم العقل إلى أن ينقطع عذرهم بأحكام الشريعة فحينئذ يجب عليهم العمل به. والجواب الثاني: انه إذا كان القوم بحيث لم يتصل بهم الشريعة على وجه ينقطع العذر، وكانت المصلحة لهم في العمل بتلك الشريعة، فانه لا يجوز ان يبعث


[ 123 ]

إليهم الا معصوما لا يجوز عليه التغير والتبديل، ويظهر على يده علم معجز يستدلون به على صدقه، فإذا علموا صدقه وجب عليهم القبول منه. وعلى الوجهين جميعا سقط السؤال. ثم يقال لهم: إذا كان القوم بحيث فرضتم من البعد، من أين يعلمون انهم متعبدون بوجوب قبول قول الرسل والرجوع إلى ما يقولونه في أحكام الشريعة ؟ فلابد لهم من أن يحيلوا على جهة اخرى غير مجرد أقوالهم فنقول لهم مثل ذلك في سائر الاحكام، وسقط السؤال. واستدلوا أيضا بأن قالوا: لا خلاف في أنه يجب على المستفتي الرجوع إلى المفتي مع تجويزه الغلط عليه، فكذلك أيضا يجب الرجوع إلى خبر الواحد وإن جوز على المخبر الغلط (1). وهذا أيضا لا يصح الاستدلال به، لان لاصحابنا في هذه المسألة مذهبين. أحدهما: انه لا يجوز للمستفتي القبول من المفتي، بل يلزمه طلب الدليل كما لزم (2) المفتي، فعلى هذا سقط السؤال.


[ 124 ]

والمذهب الاخر: انه يجوز ذلك. والجواب عنه: على هذا المذهب (1): ان هذا قياس، ولا خلاف ان هذه المسألة لا تثبت بالقياس لان طريقها العلم. ولم إذا وجب ذلك في المستفتي والمفتي يجب مثل ذلك في خبر الواحد ؟ فان جمعوا بينهما بعلة انه يجوز على كل واحد منهما الخطأ كان ذلك قياسا، وقد اتفقنا على ان طريق وجوب العمل بخبر الواحد العلم دون القياس. على ان ذلك انما يمكن أن يستدل به على جواز ورود العبادة بخبر الواحد دون أن يجعل طريقا إلى وجوب ذلك. وهذه الجملة كافية في ابطال هذه الشبهة. وقد استدلوا باشياء يجري مجرى ما ذكرناه مثل حملهم ذلك على الشهادة وغير ذلك (2). والجملة التي ذكرناها تنبه على طريقة الكلام على جميع ذلك، فلا فائدة في التطويل.


[ 125 ]

فأما من راعى أن يكون الراوي أكثر من واحد (1)، واستدلاله على ذلك بخبر أبي بكر في الجدة (2) وخبر عمر في الاستئذان (3)، وحديث ذي اليدين (4) في سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانه لم يقبل منه حتى سأل غيره من الصحابة وحمله ذلك على الشهادة وغير ذلك. فما ذكرناه من الكلام على من لم يراع العدد كلام عليه لانا اعتبرنا المنع من كل


[ 126 ]

خبر لا يوجب العلم، فلا وجه لاعتبار هذا العدد. وقلنا: ان هذه الاخبار كلها أخبار آحاد لا يصح التعلق بها. ومنعنا من انهم عملوا بها لاجلها ومنعنا أيضا من أن يكونوا كلهم عملوا بها وبينا ايضا انهم انكروا أيضا العمل باخبار الاحاد في مواضع، فالطريق إلى ابطال ذلك واحد. فأما ما اخترته من المذهب فهو: ان خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالامامة، وكان ذلك مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن واحد من الائمة عليهم السلام وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لانه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجبا للعلم. – ونحن نذكر القرائن فيما بعد – التي جاز العمل بها. والذي يدل على ذلك: اجماع الفرقة المحقة، فاني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه (1) حتى ان واحدا منهم إذا أفتى بشئ لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا ؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل (2) مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الامر في ذلك وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد


[ 127 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الائمة عليهم السلام ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولانكروه، لان اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو. والذي يكشف عن ذلك انه لما كان العمل بالقياس محظورا في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا، وإذا شذ منهم واحد (1) عمل به في بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه، وان لم يعلم اعتقاده تركوا قوله وأنكروا عليه وتبرأوا من قوله، حتى انهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس (1) فلو كان العمل بخبر الواحد يجرى ذلك المجرى، لوجب أيضا فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه. فان قيل: كيف تدعون الاجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها انها لا ترى العمل بخبر الواحد، كما ان المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بالقياس، فان جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الاخر. قيل لهم (2): من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع انهم لا يرون العمل بخبر


[ 128 ]

الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه فأما ما يكون راويه منهم وطريقة أصحابهم، فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك، وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضا وانه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد، لجرى مجرى العلم بحظر القياس وقد علم خلاف ذلك. فان قيل: أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في ان خبر الواحد لا يعمل به، ويدفعونهم عن صحة (1) ذلك، حتى ان منهم من يقول: (لا يجوز ذلك عقلا) ومنهم من يقول: (لا يجوز ذلك لان السمع لم يرد به) (2) وما رأينا أحدا منهم تكلم في جواز ذلك، ولا صنف فيه كتابا، ولا أملى فيه مسألة، فكيف تدعون أنتم خلاف ذلك ؟ قيل له: من (3) أشرت إليهم من المنكرين لاخبار الاحاد انما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الاخبار المتضمنة الاحكام التي يروون هم خلافها، وذلك صحيح على ما قدمناه ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه، الا مسائل دل الدليل الموجب للعلم على صحتها، فإذا خالفوهم فيها، أنكروا عليهم لمكان الادلة الموجبة للعلم، والاخبار المتواترة بخلافه. فأما من أحال ذلك عقلا (4)، فقد دللنا فيما مضى على بطلان (5) قوله وبينا ان ذلك جائز فمن أنكره كان محجوجا بذلك. على ان الذين اشير إليهم في السؤال أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة


[ 129 ]

المحقة، وعلمنا انهم لم يكونوا أئمة معصومين وكل قول علم قائله وعرف نسبه (1) وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة، لم يعتد بذلك القول لان قول الطائفة انما كان حجة من حيث كان فيها معصوم فإذا كان القول صادرا من غير معصوم علم ان قول المعصوم داخل في باقي الاقوال، ووجب المسير إليه على ما نبينه في باب الاجماع. فان قيل: إذا كان العقل يجوز العمل بخبر الواحد، والشرع قد ورد به، ما الذي حملكم على الفرق بين ما ترويه الطائفة المحقة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وهلا عملتم بالجميع، أو منعتم من الكل ؟ قيل: العمل بخبر الواحد إذا كان دليلا شرعيا فينبغي أن نستعمله بحيث قررته الشريعة، والشرع يرى العمل بما يرويه طائفة مخصوصة فليس لنا أن نتعدى إلى غيرها، كما انه ليس لنا ان نتعدى من رواية العدل إلى رواية الفاسق. وان كان العقل مجوزا لذلك أجمع على ان من شرط العمل بخبر الواحد، أن يكون راويه عدلا بلا خلاف وكل من اسند إليه ممن خالف الحق لم تثبت عدالته، بل ثبت فسقه، فلاجل ذلك لم يجيز العمل بخبره. فان قيل: هذا القول يؤدى إلى أن يكون الحق في جهتين مختلفتين إذا عملوا بخبرين مختلفين، والمعلوم من حال أئمتكم وشيوخكم خلاف ذلك (2). قيل له: المعلوم من ذلك انه لا يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم في الاعتقاد، فاما أن يكون المعلوم انه لا يكون الحق في جهتين إذا كان ذلك صادرا من خبرين مختلفين، فقد بينا ان المعلوم خلافه، والذي يكشف عن ذلك أيضا ان من منع من العمل بخبر الواحد يقول: ان هاهنا أخبارا كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض، والانسان فيها مخير، فلو أن اثنين اختار كل واحد منهما العمل بواحد من الخبرين


[ 130 ]

أليس كانا يكونان مختلفين وقولهما حق على مذهب هذا القائل ؟ فكيف يدعى ان المعلوم خلاف ذلك ؟ ويبين ذلك أيضا: انه قد روى عن الصادق عليه السلام انه سئل عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغير ذلك ؟ فقال عليه السلام: (انا خالفت بينهم) (1) فترك الانكار لاختلافهم، ثم أضاف الاختلاف إلى انه أمرهم به، فلولا ان ذلك كان جائزا لما جاز ذلك عنه (2). فان قيل: اعتباركم الطريقة التي ذكرتموها في وجوب العمل بخبر الواحد يوجب عليكم قبولها فيما طريقه العلم، لان الذين اشرتم إليهم إذا قالوا قولا طريقه العلم من التوحيد والعدل والنبوة والامامة وغير ذلك فسألوا عن الدلالة على صحته أحالوا على هذه الاخبار بعينها فان كان هذا القدر حجة فينبغي أن يكون حجة في وجوب قبولهما فيما طريقه العلم، وقد أقررتم بخلاف ذلك. قيل له (3): لا نسلم ان جميع الطائفة تحيل على أخبار الاحاد فيما طريقه العلم مما عددتموه، وكيف نسلم ذلك وقد علمنا بالادلة الواضحة العقلية ان طريق هذه الامور العقل، أو ما يوجب العلم من أدلة الشرع فيما يمكن ذلك فيه ؟ ! وعلمنا أيضا: ان الامام المعصوم لابد أن يكون قائلا به فنحن لا نجوز أن يكون المعصوم داخلا في قول العاملين في هذه المسائل بالاخبار، وإذا لم يكن قوله داخلا في جملة أقوالهم، فلا اعتبار بها، وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة. وليس كذلك القول في أخبار الاحاد، لانه لم يدل دليل على ان قول الامام


[ 131 ]

داخل في جملة أقوال المنكرين لها، بل بينا ان قوله عليه السلام داخل في جملة أقوال العاملين بها، وعلى هذا سقط السؤال. على ان الذي ذكروه مجرد الدعوى من الذي اشير إليه ممن يرجع إلى الاخبار في هذه المسائل، فلا يمكن اسناد ذلك إلى قوم علماء متميزين، وان قال ذلك بعض غفلة أصحاب الحديث، فذلك لا يلتفت إليه على ما بيناه. فان قيل: كيف تعملون بهذه الاخبار، ونحن نعلم ان رواتها أكثرهم كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر (1) والتشبيه (2)، وغير ذلك من الغلو (3) والتناسخ (4) وغير ذلك من المناكير، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء ؟ قيل لهم: ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه وغير ذلك مما ذكر في السؤال، ولو صح انه نقله لم يدل على انه كان معتقدا لما تضمنه الخبر ولا يمتنع أن يكون انما رواه ليعلم انه لم يشذ عنه شئ من الروايات، لا لانه يعتقد ذلك. ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم، وارتفاع النزاع (5) بينهم، فأما مجرد الرواية فلا حجة فيه على حال. فان قيل: كيف تعولون على هذه الاخبار وأكثر رواتها المجبرة (6)، والمقلدة


[ 132 ]

والغلاة (1) والواقفة (2)، والفطحية (3) وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة (4) اعتقادهم للاعتقاد الصحيح. ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به، وهذا مفقود في هؤلاء. وان عولتم على عملهم دون روايتهم، فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم و (5) ذلك لا يدل على جواز العمل بأخبار الكفار والفساق. قيل لهم: إنا لا نقول ان جميع أخبار الاحاد يجوز العمل بها، بل لها شرائط نحن نذكرها فيما بعد ونشير ها هنا إلى جملة من القول فيه: فأما ما ترويه العلماء المعتقدون للحق، فلا طعن على ذلك بهذا السؤال. وأما ما يرويه قوم من المقلدة فالصحيح الذي اعتقده ان المقلد للحق وان كان مخطئا في الاصل معفو عنه، ولا أحكم فيه بحكم الفساق. فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه. على ان من اشاروا إليه لا نسلم انهم كلهم مقلدة، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة، كما تقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الاسواق


[ 133 ]

والعامة، وليس من حيث يتعذر عليهم ايراد الحجج في ذلك، ينبغي أن يكونوا غير عالمين، لان ايراد الحجج والمناظرة صناعة، وليس يقف حصول المعرفة على حصولها كما قلناه في أصحاب الجمل. وليس لاحد أن يقول: أن هؤلاء ليسوا من أصحاب الجمل لانهم إذا سئلوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الله تعالى أو صحة النبوة، قالوا كذا روينا ويروون في ذلك كله الاخبار. وليس هذا طريقة أصحاب الجمل (1) * وذلك لانه لا يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجمل وقد حصلت لهم المعرفة (2) بالله تعالى، غير انهم لما تعذر عليهم ايراد الحجج في ذلك، أحالوا على ما كان سهلا عليهم، وليس يلزمهم (3) * أن يعلموا ان ذلك لا يصح أن يكون دليلا الا بعد أن يتقدم المعرفة بالله تعالى وانما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين، وهو عالمون على الجملة كما قررناه (4)، فما يتفرع عليه الخطأ (5) * فيه لا يوجب التكفير ولا التضليل. وأما الفرق الذين اشاروا إليهم من الواقفة، والفطحية وغير ذلك، فعن ذلك جوابان (6) *.


[ 134 ]

أحدهما: ان ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل – وان كانوا مخطئين في الاعتقاد (من القول بالوقف) (1) – إذا علم من اعتقادهم تمسكهم بالدين، وتحرجهم من الكذب ووضع الاحاديث، وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الائمة عليهم السلام، نحو عبد الله بن بكير (2) وسماعة بن مهران (3) ونحو بني فضال (4) من المتأخرين عنهم وبني سماعة (5) ومن شاكلهم. فإذا علمنا ان هؤلاء الذين أشرنا إليهم وان كانوا مخطئين في الاعتقاد من القول بالوقف وغير ذلك، كانوا ثقاة في النقل فما يكون طريقة هؤلاء جاز العمل به. والجواب الثاني: ان جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصوا بروايته لا يعمل به وانما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح، فحينئذ يجوز العمل به. فأما إذا انفرد، فلا يجوز ذلك فيه على حال.


[ 135 ]

وعلى هذا سقط الاعتراض. فأما ما رواه الغلاة، ومن هو مطعون عليه في روايته، ومتهم في وضع الاحاديث، فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد. وإذا انضاف إلى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك، ويكون ذلك لاجل رواية الثقة دون روايته. وأما المجبرة والمشبهة فأقل (1) ما في ذلك انا لا نعلم انهم مجبرة ولا مشبهة، وأكثر ما معنا انهم كانوا يروون ما يتضمن الجبر والتشبيه، وليس روايتهم لها دليلا على انهم كانوا معتقدين لصحتها، بل بينا الوجه في روايتهم (2) لها، وانه غير الاعتقاد لمتضمنها، ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه كان الكلام على ما يروونه كالكلام على ما ترويه الفرق المتقدم ذكرها وقد بينا ما عندنا في ذلك. وهذه جملة كافية في ابطال هذا السؤال. فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الاخبار لمجردها (3) ؟ بل انما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها [ و ] لاجلها عملوا بها ولو تجردت لما عملوا بها وإذا جاز ذلك لم يكن الاعتماد على عملهم بها. قيل له: القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة – نذكرها فيما بعد – من الكتاب والسنة، والاجماع، والتواتر. ونحن نعلم انه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الاحاد ذلك لانها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم، لانه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه، أو دليله ومعناه، ولا في السنة المتواترة لعدم ذلك في أكثر


[ 136 ]

الاحكام (1) * بل لوجودها في مسائل معدودة، ولا في الاجماع لوجود الاختلاف في ذلك فعلم ان ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة. ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه وكان السبر (2) بيننا وبينه بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه، مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك: اني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل (3) *. يلزمه أن يترك أكثر الاخبار وأكثر الاحكام ولا يحكم فيها بشئ ورد الشرع به. وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لانه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه. ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الاخبار التي اشرنا إليها ما ظهر بين الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها فاني وجدتها مختلفة المذاهب في الاحكام، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى أبواب الديات من العبادات، والاحكام، والمعاملات، والفرائض، وغير ذلك، مثل اختلافهم في العدد والرؤية (4) * في الصوم. واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا ؟ ومثل اختلافهم في باب الطهارة وفي مقدار (5) * الماء الذي لا ينجسه شئ.


[ 137 ]

ونحو اختلافهم في حد الكر. ونحو اختلافهم في استئناف (1) * الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين. واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس. واختلافهم في عدد فصول الاذان والاقامة (2) * وغير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى ان بابا منه لا يسلم الا (وقد) (3) وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى ! وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الاحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف ب‍ (الاستبصار) (4) وفي كتاب (تهذيب الاحكام) (5) ما يزيد


[ 138 ]

على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها وذلك أشهر من أن يخفى حتى انك لو تأملت اختلافهم في هذه الاحكام وجدته يزيد على اختلاف (1) * أبي حنيفة (2)، والشافعي، ومالك (3) ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه، ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفته، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما جاز ذلك، وكان يكون من عمل بخبر عنده انه صحيح يكون مخالفه مخطئا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الاخبار.


[ 139 ]

فان تجاسر متجاسر إلى أن يقول: كل مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع، ومن خالفه مخطئ فاسق ! يلزمه أن يفسق الطائفة بأجمعها ! ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم ! فانه لا يمكن أن يدعى على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع، ومن بلغ إلى هذا الحد لا يحسن مكالمته، ويجب التغافل عنه بالسكوت. وان امتنع من تفسيقهم وتضليلهم، فلا يمكنه الا أن العمل بما عملوا به كان حسنا جائزا خاصه وعلى اصولنا (1) * ان كل خطأ وقبيح كبير (2) فيمكن أن يقال: ان خطأهم كان صغيرا فانحبط (3) على ما تذهب إليه المعتزلة (4) فلاجل ذلك لم يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل. فان قال قائل (5) *: أكثر ما في هذا الاعتبار أن يدل على انهم غير مؤاخذين بالعمل بهذه الاخبار، وانه قد عفى عنهم، وذلك لا يدل على صوابهم، لانه لا يمتنع


[ 140 ]

أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم واستحق العقاب، الا انه عفى له عن خطئه واسقط عنه ما استحقه من العقاب. قيل له: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: ان غرضنا (1) * بما اخترناه من المذهب هو هذا، وان من عمل بهذه الاخبار لا يكون فاسقا مستحقا للعقاب، فإذا سلم لنا ذلك ثبت لنا ما هو الغرض المقصود. والثاني: (2) * ان ذلك لا يجوز: لانه لو كان قد عفى لهم عن العمل بذلك مع انه قبيح يستحق به العقاب واسقط عقابهم، لكانوا مغرين بالقبيح وذلك لا يجوز لانهم إذا علموا انهم إذا عملوا بهذه الاخبار لا يستحقون العقاب لم يصرفهم عن العمل بها صارف فلو كان فيها ما هو قبيح العمل به لما جاز ذلك على حال. فان قيل: لو كانت هذه الطريقة دالة على جواز العمل بما اختلف من الاخبار المتعلقة بالشرع من حيث لم ينكر بعضهم على بعض ولم يفسق بعضهم بعضا ينبغي أن تكون دالة على صوابهم فيما طريقه العلم فانهم قد اختلفوا في الجبر، والتشبيه، والتجسيم، والصورة (3) وغير ذلك، واختلفوا في أعيان الائمة ولم نرهم قطعوا الموالاة، ولا أنكروا على من خالفهم، وذلك يبطل ما اعتمدتموه. قيل: جميع ما عددتموه من الاختلاف الواقع بين الطائفة، فان النكير واقع فيه من الطائفة والتفسيق حاصل فيه، وربما تجاوزا ذلك أيضا إلى التكفير، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى ان كثيرا منهم جعل ذلك طعنا على رواية من خالفه في المذاهب التى ذكرت في السؤال وصنفوا في ذلك الكتب وصدر عن الائمة عليهم السلام


[ 141 ]

أيضا النكير عليهم، نحو إنكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه، والصورة، والغلو (1) وغير ذلك وكذلك من خالف في أعيان الائمة عليهم السلام لانهم جعلوا ما يختص الفطيحة، والواقفة، والناووسية (2) وغيرهم من الفرق المختلفة بروايته لا يقبلونه ولا يلتفتون إليه فلو كان اختلافهم في العمل باخبار الاحاد يجرى مجرى اختلافهم في المذاهب التى أشرنا إليها لوجب أن يجروا فيها ذلك المجرى، ومن نظر في الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها وجد الامر بخلاف ذلك. وهذه أيضا طريقة معتمدة في هذا الباب. ومما يدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه، انا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الاخبار، ووثقت الثقات منهم، وضعفت الضعفاء وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذموا المذموم وقالوا فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفى، وفلان فطحى وغير ذلك من الطعون التى ذكروها وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا (3) * الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم، حتى ان واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في اسناده وضعفه بروايته (4).


[ 142 ]

هذه عادتهم على قديم الوقت و حديثه لا تنخرم فلولا ان العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز، لما كان بينه وبين غيره فرق، وكان يكون خبره مطروحا (1) مثل خبر غيره، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الاخبار بعضها على بعض، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترنا.


[ 143 ]

فصل [ 5 ] (في ذكر القرائن التى تدل على صحة أخبار الاحاد (1) * أو على بطلانها، وما يرجح به الاخبار بعضها على بعض، وحكم المراسيل) القرائن التى تدل على صحة متضمن الاخبار التى لا توجب العلم أربع (2) أشياء. منها: أن تكون موافقة لادلة العقل وما اقتضاه، لان الاشياء في العقل إذا كانت اما على الحظر أو الاباحة – على مذهب قوم – أو الوقف على ما نذهب إليه. فمتى ورد الخبر متضمنا للحظر (3) * أو الاباحة، ولا يكون هناك ما يدل على العمل بخلافه، وجب أن يكون ذلك دليلا على صحة متضمنه عند من اختار ذلك. وأما على مذهبنا الذى نختاره في الوقف، فمتى ورد الخبر موافقا لذلك،


[ 144 ]

وتضمن وجوب التوقف كان دليلا (1) أيضا على صحة متضمنه، الا أن يدل دليل على العمل بأحدهما فيترك (2) * له الخبر والاصل (3). ومتى كان الخبر متناولا للحظر ولم يكن هناك دليل يدل على الاباحة، فينبغي أيضا المصير إليه، ولا يجوز العمل بخلافه، الا أن يدل دليل يوجب العمل بخلافه، لان هذا (4) * حكم مستفاد بالعقل، ولا ينبغى أن يقطع (5) على حظر ما تضمنه ذلك الخبر، لانه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به، ولا هو موجب (6) * العمل فنعمل به. وان كان الخبر متضمنا للاباحة ولا يكون هناك خبر آخر أو دليل شرعى يدل على خلافه، وجب الانتقال إليه والعمل به وترك ما اقتضاه الاصل (7) * لان هذا فائدة العمل باخبار الاحاد، ولا ينبغى أن يقطع على ما تضمنه لما قدمنا من (8) وروده موردا لا يوجب العلم. ومنها: أن يكون الخبر مطابقا لنص الكتاب (9) * اما خصوصه أو عمومه، أو دليله، أو فحواه فان جميع ذلك دليل على صحة متضمنه الا أن يدل دليل يوجب العلم (10) * يقترن بذلك الخبر يدل على جواز تخصيص العموم به، أو ترك دليل الخطاب فيجب حينئذ المصير إليه.


[ 145 ]

وانما قلنا ذلك لما نبينه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الاحاد ان شاء الله تعالى. ومنها: أن يكون الخبر موافقا للسنة المقطوع بها من جهة التواتر، فان ما يتضمنه الخبر الواحد إذا وافقه مقطوع على صحته أيضا وجواز (1) * العمل به وان لم يكن ذلك دليلا على صحة نفس الخبر لجواز (2) أن يكون الخبر كذبا وان وافق السنة المقطوع بها. ومنها: أن يكون موافقا لما أجمعت الفرقة المحقة عليه، فانه متى كان كذلك دل أيضا على صحة متضمنه. ولا يمكننا أيضا أن نجعل اجماعهم دليلا على صحة نفس الخبر، لانهم يجوز أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر، أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناءا باجماعهم على العمل به، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر. فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن أخبار الاحاد، ولا يدل على صحتها أنفسها لما بينا من جواز أن تكون الاخبار مصنوعة وان وافقت هذه الادلة فمتى تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن كان خبر واحد محضا ثم ينظر فيه فان كان ما تضمنه هذا الخبر هناك ما يدل على خلاف متضمنه من كتاب أو سنة أو اجماع وجب اطراحه والعمل بما دل الدليل عليه وان كان ما تضمنه ليس هناك ما يدل على العمل بخلافه ولا يعرف فتوى الطائفة فيه نظر فان كان هناك خبر آخر يعارضه مما يجرى مجراه وجب ترجيح أحدهما على الاخر، وسنبين من بعد ما يرجح به الاخبار بعضها على بعض. وان لم يكن هناك خبر آخر مخالفه (3) وجب العمل به لان ذلك اجماع منهم


[ 146 ]

على نقله. وإذا (1) أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه، فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا عليه. وكذلك ان وجد هناك فتاوى مختلفة من الطائفة، وليس القول المخالف له مستندا إلى خبر آخر، ولا إلى دليل يوجب العلم (2) وجب اطراح القول الاخر والعمل بالقول الموافق لهذا الخبر، لان ذلك القول لا بد أن يكون عليه دليل. فإذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته، ولسنا نقول بالاجتهاد (3) والقياس يسند ذلك القول إليه، ولا هناك خبر آخر يضاف إليه، وجب أن يكون ذلك القول مطروحا، ووجب العمل بهذا الخبر، والاخذ بالقول الذى يوافقه. وأما القرائن التى تدل على العمل بخلاف ما يتضمنه الخبر الواحد، فهو أن يكون هناك دليل مقطوع به من كتاب، أو سنة مقطوع بها، أو اجماع من الفرقة المحقة على العمل بخلاف ما تضمنه، فان جميع ذلك يوجب ترك العمل به. وانما قلنا ذلك لان هذه الادلة توجب العلم، والخبر والواحد لا يوجب العلم وانما يقتضى غالب الظن (4) * والظن لا يقابل العلم. وأيضا فقد روى عنهم عليهم السلام انهم قالوا: (إذا جائكم عنا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فان وافقهما فخذوا به، وما لم يوافقهما فردوه الينا) (1) فلاجل ذلك رددنا هذا الخبر، ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه لانه لا يمتنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحا وله وجه


[ 147 ]

من التأويل لا نقف عليه، أو خرج على سبب خفى علينا الحال فيه أو تناول شخصا بعينه، أو خرج مخرج التقية وغير ذلك من الوجوه، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه، وانما يجب الامتناع من العمل به حسب ما قدمناه. فأما الاخبار إذا تعارضت وتقابلت، فانه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح، والترجيح يكون باشياء: منها: أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنة المقطوع بها والاخر مخالفا لهما، فانه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما. وكذلك ان وافق أحدهما اجماع الفرقة المحقة، والاخر يخالفه، وجب العمل بما يوافق اجماعهم ويترك (1) العمل بما يخالفه. فان لم يكن مع أحد الخبرين شئ من ذلك، وكانت فتيا الطائفة مختلفة، نظر في حال رواتهما، فما كان راويه عدلا وجب العمل به وترك العمل بما لم يروه العدل، وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب. فان كان رواتهما جميعا عدلين، نظر في أكثرهما رواة عمل به وترك العمل بقليل الرواة. فان كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة، عمل بأبعدهما من قول العامة (2) ويترك العمل بما يوافقهم.


[ 148 ]

وان كان الخبران يوافقان العامة أو يخالفانها جميعا نظر في حالهما: فان كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالخبر الاخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل، وإذا عمل بالخبر الاخر لا يمكن العمل بهذا الخبر، وجب العمل بالخبر الذى يمكن مع العمل به العمل بالخبر الاخر، لان الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما، وليس هناك قرينة تدل على صحة أحدهما، ولا ما يرجح أحدهما به على الاخر فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولا يعمل بالخبر الذى إذا عمل به وجب اطراح العمل بالخبر الاخر. وان لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادهما وتنافيهما وأمكن حمل كل واحد منهما على ما يوافق الخبر (الاخر) (1) على وجه كان الانسان مخيرا في العمل بأيهما شاء. وأما العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الاخر فهو (2): أن يكون الراوى معتقدا للحق، مستبصرا ثقة في دينه، متحرجا من الكذب غير متهم فيما


[ 149 ]

يرويه. فأما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لاصل المذهب وروى مع ذلك عن الائمة عليهم السلام نظر فيما يرويه. فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره. وان لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به. وان لم يكن من الفرقة (1) المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه، ولا يعرف لهم قول فيه، وجب أيضا العمل به، لما روى عن الصادق عليه السلام انه قال: (إذا انزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روى عنا فانظروا إلى ما رووه عن على عليه السلام فاعملوا به) (2) ولاجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث (3)، وغياث ابن كلوب (4)، ونوح بن دراج (5)، والسكونى (6)، وغيرهم من العامة عن ائمتنا عليهم


[ 150 ]

السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه. وأذا (1) كان الراوى من فرق الشيعة مثل الفطحية، والواقفة، والناووسية وغيرهم نظر فيما يرويه: فان كان هناك قرنية تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم، وجب العمل به. وان كان هناك خبر آخر يخالفه من طريق الموثوقين، وجب اطراح ما اختصوا بروايته والعمل بما رواه الثقة. وان كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أيضا العمل به إذا كان متحرجا في روايته موثوقا في امانته، وان كان مخطئا في أصل الاعتقاد. ولاجل (2) ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران، وعلى بن أبى حمزة (3)، وعثمان بن عيسى (4)، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون (5) وغيرهم، فيما لم يكن


[ 151 ]

عندهم فيه خلافه. وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون والمضعفون وغير هؤلاء، فما يختص الغلاة بروايته، فان كانوا ممن عرف لهم حال استقامة وحال غلو، عمل بما رووه في حال الاستقامة، وترك ما رووه في حال خطاءهم (1)، ولاجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد ابن أبى زينب (2) في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائى (3)، وابن أبى عذاقر (4) وغير هؤلاء. فأما ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال. وكذلك القول فيما ترويه المتهمون والمضعفون. وان كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به. وان لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في اخبارهم، ولاجل (5) ذلك توقف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها ولم يرووها واستثنوها في فهارستهم من جملة ما يروونه من التصنيفات (6).


[ 152 ]

فأما من كان مخطئا في بعض الافعال أو فاسقا بافعال (1) الجوارح وكان ثقة في روايته، متحرزا فيها، فان ذلك لا يوجب رد خبره، ويجوز العمل به لان العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه، وانما الفسق بافعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره، ولاجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم. فأما ترجيح أحد الخبرين على الاخر من حيث ان أحدهما يقتضى الحظر والاخر الاباحة والاخذ بما يقتضيه (2) الحظر أولى أو الاباحة (3). فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه في الوقف، لان الحظر والاباحة عندنا (4) مستفادان بالشرع فلا ترجيح بذلك، وينبغى لنا التوقف فيهما جميعا، أو يكون الانسان فيهما مخيرا في العمل بأيهما شاء. وإذا كان أحد الراويين يروى الخبر بلفظه والاخر بمعناه ينظر في حال الذى يرويه بالمعنى، فان كان ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح لاحدهما على الاخر، لانه قد ابيح له الرواية بالمعنى واللفظ معا فأيهما كان أسهل عليه رواه. وان كان الذى يروى الخبر بالمعنى لا يكون ضابطا للمعنى أو يجوز أن يكون غالطا فيه، ينبغى أن يؤخذ بخبر من رواه باللفظ. وإذا كان أحد الراويين أعلم وأفقه وأضبط من الاخر، فينبغي أن يقدم خبره على خبر الاخر ويرجح عليه ولاجل ذلك قدمت الطائفة ما يرويه زرارة (5)، ومحمد


[ 153 ]

بن مسلم (1)، وبريد (2)، وأبو بصير (3) والفضيل بن يسار (4) ونظراؤهم من الحفاظ الضابطين على رواية من ليس له تلك الحال. ومتى كان أحد الراويين متيقظا في روايته والاخر ممن يلحقه غفله ونسيان في بعض الاوقات، فينبغي أن يرجح خبر الضابط المتيقظ على خبر صاحبه، لانه لا يؤمن أن يكون قدسها أو دخل عليه شبهة أو غلط في روايته – وان كان عدلا لم يتعمد ذلك – وذلك لا ينافى العدالة على حال. وإذا كان أحد الراويين يروى (الخبر) (5) سماعا وقراءة والاخر يرويه اجازة، فينبغي أن يقدم رواية السامع على رواية المستجيز. اللهم الا أن يروى المستجيز باجازته أصلا معروفا، أو مصنفا مشهورا، فيسقط حينئذ الترجيح. وإذا كان أحد الراويين يذكر جميع ما يرويه ويقول انه سمعه وهو ذاكر لسماعه، والاخر يرويه من كتابه، نظر في حال الراوى من كتابه، فان ذكر ان جميع ما في كتابه سماعه فلا ترجيح لرواية غيره على روايته، لانه ذكر على الجملة انه سمع جميع ما في دفتره وان لم يذكر تفاصيله، وان لم يذكر انه سمع جميع ما في دفتره وان وجده بخطه أو وجد سماعه عليه في حواشيه بغير خطه، فلا


[ 154 ]

يجوز له أولا أن يرويه ويرجح خبر غيره عليه. وإذا كان أحد الراويين معروفا والاخر مجهولا، قدم خبر المعروف على خبر المجهول، لانه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره. وإذا كان أحد الراويين مصرحا والاخر مدلسا، فليس ذلك مما يرجح به خبره، لان التدليس هو: (أن يذكره باسم أو صفة غريبة أو ينسبه إلى قبيلة أو صناعة وهو بغير ذلك معروف) فكل ذلك لا يوجب ترك خبره. وإذا كان أحد الراويين مسندا والاخر مرسلا، نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم انه لا يرسل الا عن ثقة موثوق به فلا ترجح لخبر غيره على خبره، ولاجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبى عمير (1) وصفوان بن يحيى (2)، وأحمد بن محمد ابن أبى نصر (3) وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون الا عمن (4) يوثق به وبين ما اسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم. فاما إذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به.


[ 155 ]

فاما إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الذى ذكرناه ودليلنا على ذلك: الادلة التى قدمناها على جواز العمل بأخبار الاحاد، فان الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل، فما يطعن في واحد منهما يطعن في الاخر، وما أجاز أحدهما اجاز الاخر، فلا فرق بينهما على حال. وإذا كان احدى الروايتين أزيد من الرواية الاخرى، كان العمل بالرواية الزائدة أولى، لان تلك الزيادة في حكم خبر آخر ينضاف إلى المزيد عليه. فإذا كان مع أحدى الروايتين عمل الطائفة بأجمعها فذلك خارج عن الترجيح بل هو دليل قاطع على صحته وابطال الاخر. فان كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة، ينبغى أن يرجح على الخبر الاخر الذى عمل به قليل منهم. وإذا كان احد المرسلين متناولا للحظر والاخر متناولا للاباحة فعلى مذهبنا الذى اخترناه في الوقف يقتضى التوقف فيهما، لان الحكمين جميعا مستفادان شرعا وليس احدهما بالعمل اولى من الاخر. وان قلنا: انه إذا لم يكن هناك ما يترجح به احدهما على الاخر كنا مخيرين كان ذلك ايضا جائزا كما قلناه في الخبرين المسندين سواء. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 157 ]

الباب الثالث الكلام في الاوامر


[ 159 ]

فصل [ 1 ] (في ذكر حقيقة الامر وما به بصيرا امرا) الامر عبارة عن قول القائل لمن هو دونه (1): افعل (2). والفعل لا يسمى امرا (3) الا على وجه المجاز والاستعارة وهذا مذهب اكثر المتكلمين والفقهاء (4).


[ 160 ]

وقال قوم (1): هو مشترك بين القول وبين الفعل. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ان اهل اللغة قسموا اقسام الكلام فسموا من جملتها قول القائل لمن هو دونه: (افعل) امرا فينبغي أن يكون ذلك عبارة عنه ولو جاز لمخالف أن يخالف في ذلك لجاز أن يخالف في سائر ما سموه من اقسام الكلام مثل النهى والتخصيص والتمنى والسؤال والخبر وغير ذلك فإذا كان جميع ذلك صحيحا مسلما فينبغي أن يكون ما ذكرناه مثله. وايضا: فانهم فرقوا في هذه الصيغة بين كونها امرا ودعاء ومسألة باعتبار الرتبة بان قالوا: إذا كان القائل فوق المقول له سمى امرا وان كان دونه سمى سوالا وطلبا ودعاء فلو جاز المخالفة في تسميته امرا جاز المخالفة في تسميته سوالا وطلبا وذلك لا يقوله احد. وليس لاحد ان يقول: ان تسميتهم لذلك بانه امر لا خلاف فيه بل هو مسلم وانما الخلاف في أن غيره هل يسمى بذلك ام لا ؟ لان من قال: ان (2) هذه الصيغة مشتركة بين القول والفعل يسلم صحة ذلك ويقول انها تستعمل في الفعل (3) ايضا لانا ندل على فساد هذه الدعوى فيما بعد انشاء الله تعالى. والذي يدل على ما قلناه من ان هذه الصيغة حقيقة في القول دون الفعل


[ 161 ]

اطرادها في القول ووقوفها في الفعل لانه ليس كل فعل يسمى امرا (1) الا ترى انه لا يسمى الاكل والشرب والقيام والقعود بانه امر وانما يقال لجملة احوال الانسان انه امر فيقال (امره مستقيم) وامره مضطرب وأما (2) تفاصيل الافعال فلا توصف بذلك. وليس كذلك القول لان كل قول يحصل لمن هو دونه بهذه الصيغة يسمى امرا فعلمنا بذلك انه حقيقة فيما قلناه ومجاز فيما ذكروه. وايضا: فان هذه اللفظة لها اشتقاق لانها يشتق منها اسم الفاعل فيقال امر واسم المأمور وفعل الماضي والمستقبل وكل ذلك لا يتأتى في الفعل فعلم بذلك انها مجاز في الفعل وحقيقة في القول. فاما من تعلق بالاستعمال في كون هذه الصيغة مشتركة (3) وقال: وجدت هذه اللفظة قد استعملت في الفعل كما استعملت في القول فينبغي أن تكون حقيقة فيهما وقد قال الله تعالى: (وما امرنا الا واحدة كلمح بالبصر) (4) وقال: (وما امر فرعون برشيد) (5) وغير ذلك من المواضع. فان الجواب عنه أن يقال: ان ذلك مجاز وليس لنفس الاستعمال دلالة (6) * على الحقيقة لان المجاز ايضا مستعمل كالحقيقة (7) * ونحن نبين ذلك فيما بعد


[ 162 ]

وإذا لم يكن ذلك دالا على الحقيقة بطل التعلق به. وقد ابطلنا أن يكون ذلك على وجه الحقيقة بما ذكرناه من الادلة. واما قوله تعالى (1) *: (وامرنا الا واحدة كلمح بالبصر) (2) وقوله: (وما امر فرعون برشيد) (3) فقد قيل فيه وجهان: احدهما: انه لا نسلم ان ذلك عبارة عن الفعل بل لا يمتنع أن يكون اراد بذلك امره الذي هو قوله: (وما امر فرعون) الذي هو قوله. ولا يطعن على هذا الوجه مساواة افعاله في هذا الوصف وفي كونها (كلمح بالبصر) في سرعة تأتيها منه. لان ذلك يعلم بدليل اخر بخبر اخر وكك يعلم بشئ اخر ان افعال فرعون مثل اقواله في كونها غير رشيده فلا يمكن التعلق بذلك. والوجه الاخر: ان ذلك مجاز لما دللنا عليه من قبل (4). واما من تعلق في ذلك بان اهل اللغة جمعوا (الامر) الذي هو من قبيل الاقوال (اوامر) وجمعوا الامر الذي هو من قبيل الافعال (امورا) فينبغي أن يكون ذلك دلالة على كونها مشتركة فيهما. فقوله يبطل لانه يقال له: الصحيح ان (الامر) لا يجمع (اوامر) فعلا وانما يجمع (امور) مثل (فلس) و (فلوس) و (زرع) و (زروع) وغير ذلك فاما (اوامر) فخارج عن القياس فان سمع ذلك فانه يكون على انه جمع الجمع فكأنه جمع اولا امورا ثم جمع امور اوامر وعلى هذا لا يدل على مخالفتهم بين ذلك لاختلاف المعنيين. وإذا ثبت ما قلناه لا يمكن التعلق بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن


[ 163 ]

امره) (1) في وجوب اتباع افعالة عليه السلام لان ذلك غير داخل فيه على وجه الحقيقة. وكونها مرادة على وجه المجاز يحتاج إلى دليل غير الظاهر فبطل التعلق به على كل حال. واعلم ان هذه الصيغة التي هي قول القائل (افعل) وضعها اهل اللغة لاستدعاء الفعل (2) وخالفوا بين معانيها باعتبار الرتبة: فسموها إذا كان القائل فوق القول له امرا وإذا كان دونه سؤالا وطلبا ودعاء. ومتى استعملوها في غير استدعاء الفعل في التهديد نحو قوله: (واستفزز من استطعت) (3) وقوله: (اعملوا ما شئتم) (4) وفي الاباحة نحو قوله: (وإذا حللتم فاصطادوا) (5) ونحو قوله: (فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الارض) (6) وفي


[ 164 ]

التحدي نحو قوله: (فأتوا بعشر سور مفتريات) (1) وفي تكوين الشئ نحو قوله: (كونوا قردة خاسئين) (2) وما اشبه ذلك من الوجوه كانت مجازا خارجة عن باب ما وضعت له وهذا مذهب كثير من الفقهاء والمتكلمين (3). وقال جماعة من الفريقين (4): ان هذه الصيغة مشتركة بين جميع ذلك حقيقة فيه وانما يختص ببعضها بالقصد فإذا اراد المأمور به كان امرا وسؤالا بحسب الرتبة وان كره الفعل كان ذلك نهيا وتهديدا. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه (5) * ان اهل اللغة فرقوا بين صيغة الامر وصيغة النهى وصيغة الخبر فقالوا: صيغة الامر قول القائل لمن هو دونه: افعل. وصيغة النهى قول القائل لمن هو دونه: لا تفعل. والخبر مركب من مبتدا وخبر ومن فعل وفاعل نحو قولهم: (زيد في الدار) ونحو (قام زيد).


[ 165 ]

ولو كان الامر على ما قالوه لما كان لفرقهم بين هذه الصيغ معنى وقد علمنا انهم فرقوا. انما (1) قلنا ذلك لانه إذا كان الاعتبار بارادة المأمور على قولهم فلو صادف (2) ذلك قول القائل (لا تفعل) لكان امرا (3) * وكك لو صادف كراهة ذلك لقوله (افعل) لكان نهيا وهذا يؤدى إلى انه لا فرق بين هذه الصيغ والمعلوم من حال اهل اللغة خلاف ذلك. ولا يلزمنا مثل ذلك بان يقال: اليس قد استعمل صيغة الخبر في الامر نحو قوله تعالى: (من دخله كان امنا) (4) ونحو قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بانفسهن) (5) وما اشبه ذلك. وكذلك استعمل صيغة الامر في النهى وغيره من الاقسام نحو الاباحة والتحدي والتكوين وغير ذلك. لانا نقول انما استعملوا ذلك على وجه المجاز دون الحقيقة. فان قيل: ظاهر استعمالهم يدل على انه حقيقة (6) * في الموضعين. قيل له: لا نسلم ان نفس الاستعمال يدل على الحقيقة لان المجاز ايضا مستعمل وانما يعلم كون اللفظ حقيقة بان ينصوا لنا على انها حقيقة أو نجد اللفظة تطرد في كل موضعين أو غير ذلك من الاقسام التي قدمنا ذكرها فيما مضى للفرق بين الحقيقة والمجاز وليس مجرد الاستعمال من ذلك.


[ 166 ]

وليس لهم أن يقولو ان المجاز طار والحقيقة هي الاصل بدلالة انه يجوز أن تكون حقيقة لا مجاز لها ولا يجوز أن يكون مجاز لا حقيقة له فعلم بذلك ان اصل الاستعمال الحقيقة وذلك ان الذي ذكروه غير مسلم لانه لا يمتنع أن يكون الواضعون للغة وضعوا اللفظة ونصوا على انه إذا استعملت في شئ بعينه كانت حقيقة ومتى استعملوها في غيره كانت مجازا. وان لم يقع استعمال اللفظة (1) في واحد من المعنيين ثم يطرء على الوضع الاستعمال فربما استعملوها أولا في الحقيقة وربما استعملوها اولا في المجاز. وانما كان يتم ذلك (2) * ان لو جعلوا الاستعمال نفسه طريقا إلى معرفة الحقيقة فيجعل ما ابتدى باستعماله حقيقة قد بينا انا لا نقول ذلك. فان قيل: اليس القائل إذا قيل لغيره (اريد منك أن تفعل كذا) ناب ذلك مناب قوله: (افعل) فينبغي أن يكون معناهما واحدا (3) *. قيل له: نحن لا نمنع أن يكون لاستدعاء الفعل لفظة اخرى لانا ادعينا انه لا لفظة يستدعى بها الفعل الا قول القائل (افعل) بل الذي ادعيناه ان هذه اللفظة يستدعى بها الفعل وان شاركها غيرها في فائدة هذه اللفظة الا أنه متى قال: (اريد ان تفعل كذا) لا يسمى امرا بل يكون مخبرا والخبر غير الامر. وليس لهم أن يقولوا: ان السؤال ايضا لا يسمى امرا وهو لاستدعاء الفعل (4) على ما قررتموه. لانا قد بينا ان معناهما (5) * واحد وانما فرقوا بينهما في التسمية لشئ يرجع


[ 167 ]

إلى اعتبار الرتبة (1) * وليس يمكن مثل ذلك في صيغة الخبر لانهم فرقوا بينها وبين صيغة الامر في اصل الوضع دون اعتبار امر اخر. فان قيل: اليس القائل إذا قال لغيره: (اريد ان تفعل كذا) وكان دون المقول له يسمى سائلا فينبغي إذا قال ذلك وهو فوقه أن يسمى امرا. قيل له: هذا اثبات بالقياس وذلك لا يجوز لانه ليس إذا كان للسؤال لفظتان يطلق على مستعملهما لفظ السائل ينبغي أن يكون حكم الامر مثل ذلك ولو جاز ذلك لادى إلى بطلان ما بيناه من اعتبار اهل اللغة الفرق بين هذه الصيغ ولو لزم ذلك للزم أن يسمى الاشارة امرا لان المشير قد يشير بما يفهم منه استدعاء الفعل ويسمى سائلا ولا يقول احد انه امر على حال. فان قيل: فلو لم يحتج في كونه امرا إلى ارادة المأمور به جاز ان يكون كارها له وقد علمنا استحالة ذلك. قيل له: ان اردت بانه إذا استدعى الفعل لا يجوز أن يكون كارها له بمعنى ان ذلك مستحيل فليس الامر كذلك بل ذلك يمكن. وان اردت ان ذلك لا يحسن فهو مسلم لانه متى استدعى الفعل وكان كارها له كان مناقضا لغرضه. وان فرضنا ان الامر حكيم يدل على حسن المأمور به فلو كرهه لكان مقبحا (2) * وذلك لا يجوز على الحكيم فلاجل ذلك لا يجوز ومتى فرض فيمن ليس بحكيم فان جميع ذلك جائز غير مستحيل. واما حملهم ذلك على النهى بان قالوا: لما كان من شرط النهى أن يكون كارها للمنهى عنه وجب في الامر أن يكون مريدا للمأمور به. فالجواب عنه: ان الكلام في النهي كالكلام في الامر في ان ذلك ليس


[ 168 ]

بمستحيل ولا يخل بكونه نهيا (1) وانما يقبح لان من نهى عن فعل وكان حكيما دل نهيه على قبح المنهى عنه فلاجل ذلك وجب أن يكون كارها له ولم يحسن منه ان يريده لان ارادة القبيح قبيحة ومتى فرض فيمن ليس بحكيم فان ذلك جائز. فان قيل: فبأى شئ (2) * يدخل في أن يكون مستعملا لما وضعه اهل اللغة حقيقة دون المجاز. قلنا: بأن يقصد إلى استعماله فيما وضعوه ويطلق (3) القول فانه إذا كان حكيما فانا نعلم انه امر لانه لو اراد غير ما وضع له على وجه التجوز لبينه فمتى لم يفرق به البيان دل على انه اراد ما وضع له حقيقة. ومتى لم نعرف ان القائل حكيم لا يفهم (4) مراده الا بقرينة أو يضطر إلى قصده (5) * لانه يجوز أن يكون اراد غير ما وضع له وان لم يبين ذلك في الحال لان القبيح غير مأمون منه. فاما الكلام في القصد وهل هو من قبيل الاعتقادات أو هو جنس مفرد ؟ فليس هذا موضع ذكره وبيان الصحيح منه. ولا يمكن أن يدعى ان الامر أمر بجنسه (6) لانا نجد من جنسه ما ليس بامر ما


[ 169 ]

هو في مثل صورته (1) *. فان ادعى ان ذلك غير ما هو موضوع (2) * للامر كان ذلك فاسدا من وجهين: احدهما: انهما يشتبهان على الحاسة ولا يفصل السامع بينهما من جهة الادراك الا ترى ان السامع لا يفصل بين قوله: (اقيموا الصلوة) (3) وبين قوله: (اعملوا ما شئتم) (4) من حيث الادراك وان كان احدهما امرا والاخر تهديدا. والوجه الثاني: ان ذلك يبطل التوسع والمجاز لان معنى المجاز أن تستعمل اللفظة الموضوعه لشئ في غير ما وضعت له فمتى قيل ان هذه اللفظة ليست تلك بطل هذا الاعتبار. ولا يمكن ايضا ان يقال: انه يكون امرا لانه خطاب ولا انه علم الامر ما امر به ولا انه بصورته لان جميع ذلك يثبت فيما ليس بامر فبطل اعتبار جميع ذلك.


[ 170 ]

فصل [ 2 ] (في ذكر مقتضى الامر هل هو الوجوب أو الندب أو الوقف والخلاف (1) فيه). نسب اكثر المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وقوم من الفقهاء إلى ان الامر لا يقتضي الايجاب وانما يقتضى ان الآمر اراد المأمور به ثم ينظر فيه فان كان حكيما علم ان المأمور به حسن وليس بقبيح.


[ 171 ]

وان كان قديما علم ان له صفة زائدة على الحسن وهي صفة الندب لان المباح لا يجوز أن يريده الله تعالى. وان كان الامر غير حكيم لا يعلم بامره حسن الفعل اصلا لانه يجوز أن يريد القبيح والحسن جميعا (1). وذهب قوم من المتكلمين وجل الفقهاء إلى ان الامر يقتضى الايجاب (2).


[ 172 ]

وذهب كثير من المتكلمين إلى الوقف (1) في ذلك (2) وقالوا: لا نعلم بظاهر اللفظ احد الامرين ويحتاج في العلم باحدهما إلى دليل وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى (3) رحمه الله (4) غير انه وان قال ذلك بمقتضى اللغة فانه يقول: (انه استقر في الشرع اوامر الله تعالى واوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واوامر الائمة عليهم السلام على الوجوب) (5). والذي يقوى في نفسي ان الامر يقتضى الايجاب لغة وشرعا ويحتاج أن ينظر في حكم الامر فان كان حكيما علم ان له صفة الوجوب وان لم يكن حكيما لم يعلم بامره صفة الفعل لانه يجوز أن يوجب ما هو قبيح وما هو واجب وما ليس بواجب ولا قبيح فظاهر امره لا يدل على احدهما. والذي يدل على ذلك: انى وجدت العقلاء باسرهم يوجهون الذم إلى العبد إذا خالف امر سيده ويوبخونه على ذلك فلولا انهم علموا ان الامر يقتضى الايجاب لما جاز منهم ذمه على حال لانه ان كان مقتضيا للندب فلا يستحق تاركه الذم وان كان مشتركا احتاج إلى بيان المراد فلا يستحق الذم إذا تركه وخالفه وفي علمنا بذلك دليل على صحة ما اخترناه. وليس لاحد ان يعلق ذم العقلاء للعبد بقرينة تنضاف إلى الامر عقل منها


[ 173 ]

الايجاب ولاجل (1) ذلك ذموه لان ذلك يفسد من وجهين: احدهما: (ان العقلاء) (2) إذا ذموه علقوا الذم بمخالفة الامر دون غيره حتى إذا استفسروا عن ذلك عتبوا عليه وقالوا: لانه خالف امر مولاه. والثاني: انه لو كان الامر على ذلك لوجب أن لا يذمه الا من عرف تلك القرينة وفي علمنا بذمهم له – وان لم يعلموا امرا اخر اكثر من مخالفته للامر – دليل على تعليق الذم بذلك حسب ما قلناه. فاما قول من قال: انه يقتضى ارادة المأمور به فحسب (3) فقد بينا في الفصل الاول ان الامر لا يدل على ارادة المأمور به من حيث كان امرا وانه إذا دل فإنما دل لامر اخر غير مطلق الامر فسقط الاعتراض بذلك. ولا يمكن ان يدعى الاشتراك (3) من حيث وجدت أوامر كثيرة مستعملة في الندب لان ذلك انما يكون كذلك على ضرب من المجاز وقد بينا ان الاستعمال ليس بدلالة على الحقيقة لانه حاصل في الحقيقة والمجاز. فان قيل: ما انكرتم على من قال: انهم عقلوا هناك قرينة لاجلها ذموا العبد إذا خالف سيده ؟ وذلك انه إذا امره بمنافع نفسه فان فوتها يضربه فلابد أن يكون موجبا عليه وإذا امره بمنافع يعود إلى العبد ولا يستضر هو بفوتها لم يدل على ذلك ولا يذمونه متى خالف. قيل له: هذا يسقط بالوجهين الذين قدمناهما: احدهما: انهم علقوا (4) الذم بمخالفة الاخر دون غيره وكان ينبغي على ما اقتضى هذا السؤال أن يعلقوا الذم بدخول الغرم على السيد أو فوت المنفعة وقد علمنا خلاف ذلك.


[ 174 ]

والاخر: انه يذمه من لا يعلم ان السيد يستضر بمخالفته وانه ينتفع بامتثاله فلو كان الامر على ما قيل لما جاز ان يذمه الا من عرف ذلك وقد علمنا خلاف ذلك. على انا لا نم ذلك لان السيد قد لا يستبصر بمخالفة عبده ويستحق العبد مع ذلك الذم إذا خالفه الا ترى إلى من قال لغلامه: (اسقنى الماء) فلم يسقه وكان هناك غلامه آخر فسقاه فان العقلاء يذمون العبد المخالف وان كان السيد لم يدخل عليه ضرر لانه قد بلغ غرضه ومراده فلو كان لما قالوه لما حسن ذلك على حال. وكذلك يذمونه وان خالف منافع يرجع إلى العبد الا ترى انه لو قال له: (اغسل ثيابك وادخل الحمام وكل الخبز) وما اشبه ذلك فلم يفعل يحسن منه أن يؤدبه على ذلك ويذمه فلولا ان ذلك كان يجب عليه والا لم يحسن ذلك. وليس لهم ان يقولوا: انه إذا خالفه فيما عددتموه عاد ذلك بالضرر عليه فلاجل ذلك حسن ذمه. وذلك: انه ان كان الامر على ما قالوه سقط فرقهم بذلك بين منافع تخصه وبين منافع يرجع إلى السيد لانهم راموا بذلك ان يفصلوا بين ان يستحق الذم بمخالفة امر سيده لمنافع تعود إليه وبين منافع ترجع إلى العبد وعلى هذا الفرض لا فصل بينهما لان في كلا الحالين (1) يعود إلى الضرر بالمخالفة على السيد فبطل الفصل. ومن سوى بينهما كان الجواب عنه ما تقدم. ويدل ايضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى مخاطبا لابليس: (ما منعك الا تسجد إذ امرتك) (2) فقرعه (3) على مخالفته الامر فلولا ان امره كان يقتضى الايجاب والا لم يستحق التوبيخ. وليس لهم ان يقولوا: انه انما ذمه لانه كان قد دله على ان ما امره به واجب


[ 175 ]

بقرينة اقترنت إلى الخطاب لان الذي ذكروه مخالف للظاهر لان الله تعالى انما علق ذمه بمخالفة الامر دون القرينة فمن ادعى قرينة احتاج إلى دلالة. وليس لهم أن يقولوا: ان قوله: (ما منعك الا تسجد) (1) ليس بتوبيخ وانما هو تقرير على الذي حمله على مخالفه الامر وذلك ان هذا خلاف الاجماع لانه لا خلاف بين الامة في ان هذا القول ذم لابليس فمن قال ليس كذلك سقط قوله. ويدل ايضا على ذلك قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن امره) (2) فحذرنا من مخالفة اوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلولا انها كانت مقتضية للايجاب والا لم يجب الحذر من مخالفته. فان قالوا: المخالفة ليس هو ان لا يفعل ما اقتضاه الامر بل المخالفة هو رد القول وان يقال: ليس كذلك لان الذي ذكروه ضرب من المخالفة وقد يكون المخالفة ترك المأمور به الا ترى ان القائل إذا قال لغيره (قم أو اقعد) فمضى وقام يقال انه خالفه فكل واحد من الامرين مخالفة ونحن نحمل الاية عليهما جميعا. وليس لهم ان يقولوا: ان قوله: (فليحذر) قرينة تدل على ان امره على الوجوب دون أن يكون ذلك بمقتضى اللغة لانه متى لم يكن الامر مقتضيا للايجاب لم يحسن التحذير (3) * من مخالفته الا ترى انه لا يحسن ان يحذرنا من مخالفه ما ندبنا إليه لما لم يكن لها (4) صفة الوجوب ويحسن ذلك فيما يوجبه علينا فعلم


[ 176 ]

بذلك ان التحذير انما يحسن إذا كان الامر مقتضيا للايجاب. ويدل ايضا على صحة ما ذهبنا إليه ما روى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبريرة (1) *: (ارجعي إلى زوجك فانه أبو ولدك وله عليك حق). فقالت يا رسول الله: اتأمرنى بذلك ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا وانما انا شافع) (2) فعدل عن الامر إلى الشفاعة فلولا انه كان يقتضي الايجاب والا لم يكن فرق بينه وبين الشفاعة لان شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرغب في اجابتها فعلم بذلك ان امره كان يقتضى فلاجل ذلك لم يأمرها لانه اراد ترغيبها في ذلك ولم يرد الايجاب. ويمكن أن يعتمد في ان الامر يقتضى الايجاب على ان يقال: ان الاحتياط يقتضى ذلك لانه متى امتثل المأمور به فان كان مقتضاه الندب فقد فعله على كل حال وان كان مشتركا فقد امن الذم والعقاب من مخالفته لو كان واجبا وان كان واجبا فقد امتثل المأمور به فالاحتياط يوجب عليه ذلك على المذاهب كلها. الا ان هذا وان امكن فانما يمكن أن يقال: يحجب عليه ان يفعل المأمور به ولا يعتقد فيه ان له صفة الوجوب لانه ان اعتقد ذلك وهو لا يامن أن لا يكون كذلك يكون اعتقاده جهلا وانما يسلم له ذلك إذا خلا من اعتقاد في المأمور به واقتصر على نفس الفعل فإذا فعل ذلك كان ذلك معتمدا.


[ 177 ]

ويدل ايضا على صحة ما ذهبنا إليه رجوع المسلمين باجمعهم من عهد رسول الله (1) إلى زماننا (2) هذا في وجوب الافعال واحتجاجهم في ذلك إلى اوامر الله تعالى واوامر رسوله الله (3) فلولا انهما يقتضيان الايجاب والا لم يجز ذلك. وكان للمحتج عليه ان يقول: واي شئ في ذلك مما يقتضى الايجاب ؟ في الامر لا يقتضى الايجاب. وفي علمنا باجماعهم على ذلك دليل على صحة ما قلناه. وليس لاحد ان يقول: انهم عقلوا ذلك بقرينة دلتهم على ذلك. لان هذا دعوى محضة ومن ادعى القرينة فعليه ان يوردها ولم نر المحتجين باوامر الله تعالى واوامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروها على حال فهذه ايضا طريقة معتمدة. ومن الفقهاء والمتكلمين (4) من استدل على ان الامر يقتضى الايجاب بان قالوا: ان الايجاب حكم معقول فلابد من أن يكون اهل اللغة وضعوا له عبارة لان الحاجة إليه ماسة وليس نجد عبارة تستعمل في ذلك الا هذه اللفظة فينبغي أن تكون مفيدة للايجاب. واعترض على هذا الدليل من خالفهم بان قالوا: هذه محض الاقتراح ولم يجب على اهل اللغة ان يضعوا لذلك عبارة الا انهم قد وضعوا لكل امر معقول عبارة فان ادعيتم ذلك كان الوجوب (5) بخلافه لانا نعلم ان اختلاف الاراء يبيح امورا


[ 178 ]

معقولة ولم يضعوا لكل واحد منها عباره تخصه كما فعلوا ذلك في الالوان وكك لم يضعوا لاختلاف الاكوان (1) اسما كما وضعوا لاختلاف الوان وأمور كثيره معقولة لم يضعوا لها عبارة فما المنكر من أن يكون حكم الايجاب ذلك الحكم ؟ ولو سلم ذلك لقد وضعوا لذلك وهو قولهم: (اوجبت عليك) و (الزمتك اياه) أو (فرضت عليك) أو متى لم تفعله استحقت الذم والعقاب وهذه عبارات تفيد ما اقترحتموه (2). على ان الندب ايضا معنى معقول والاباحة معنى معقولة ولم يضعوا لها عبارة. فان قلتم: قد وضعوا لهما عبارة وهي قولهم (3): (ندبتك إليه) أو (ابحتك اياه). قيل لكم: في الايجاب مثله. فان قلتم: قولهم: (اوجبت) و (الزمت) انما هو خبر وليس بامر. قيل لكم: وكذلك قولهم (4) (ندبت) و (ابحت) خبر محض وليس بامر فاستوى القولان. فاما الاستدلال بقوله تعالى: (اطيعوا الله واطيعوا الرسول) (5) على ان امرهما يقتضيان الايجاب. فلا يصح لان الاية تضمنت الامر بالطاعة لهما والكلام في الامر وقع هل مقتضاه الايجاب ام لا ؟ فالاستدلال بها لا يصح (6).


[ 179 ]

واما قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك) إلى قوله: (مما قضيت ويسلموا تسليما) (1) فلا يمكن الاعتماد عليه ايضا في ان الامر يقتضى الايجاب لان القضاء في الاية بمعنى الالزام وليس بمعنى الامر والالزام هو الايجاب (2). وكذلك قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا أن يكون لهم الخيرة من امرهم) (3) لا يمكن الاعتماد عليه لان القضاء بمعنى الالزام على ما بيناه. على ان من قال: ان الامر يقتضى الندب لا يقول: ان لهم الخيرة بل يقول: ان الفعل بصفة الندب والاولى فعله والتخيير انما يثبت في المباح المحض وليس ذلك قولا لاحد. وقوله: (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (4) لا يمكن ايضا الاعتماد عليه والذي قلناه هو الاعتراض عليه لان العصيان قد يكون بمخالفة المندوب إليه ولاجل هذا حملنا قوله: (وعصى آدم ربه فغوى) (5) على أنه خالف ما ندب إليه وقد يتجاوز ذلك الى أن يقال فيمن خالف المشورة بإنه عصى فيقولون: (أشرت عليك فعصيتني) فلا يمكن الاعتماد عليه. والذي قلناه: هو الاعتراض على قول من قال (6): لو لم يقتض الامر الايجاب لما سمي من خالفه عاصيا لانا قد بينا أن العصيان قد يطلق على مخالفة المندوب إليه.


[ 180 ]

فاما وصف الله تعالى ابليس بالعصيان فانه علم انه فعل قبيحا بتركه السجود المأمور به وقد دللنا على ان الامر يقتضى الايجاب فلم يخرج من بابه. ومن قال بالندب قال علم ذلك بدليل غير الامر فلا يمكن الاستدلال به. فاما من اعتمد على ان الامر بالشئ نهى عن ضده لفظا أو معنى فلاجل ذلك اقتضى الايجاب فلا يمكن الاعتماد عليه لان عندنا ليس الامر بالشئ نهيا عن ضده وسنبين ذلك فيما بعد (1) فلا يمكن الاعتماد على ذلك. ولا يمكن ايضا ان يعتمد على ان يقال (2): إن الامر يدل على ان الامر مريد للمأمور به وإذا كان كذلك فلابد أن يكون كارها لضده (2) لان ذلك يفسد من وجهين: احدهما: انا قد بينا (3) ان الامر لا يقتضى ارادة المأمور به اصلا فلا يصح ذلك ثم لو اقتضى ذلك لم يجب ان يكون كارها لضده. والوجه الثاني: ان ذلك يقتضى أن تكون النوافل واجبة لانها مرادة وقد علمنا انها ليست مكروهة الضد (4). ولا يمكن ايضا ان يقال: ان نفس الارادة للشئ كراهية لضده (5) لان ذلك يفسد من وجهين ايضا:


[ 181 ]

احدهما: ان الشئ الواحد لا يجوز أن يكون بصفتين ضدين فكيف يمكن أن يدعى ان لارادة بصفة الكراهة. والثاني: ان ذلك ينتقض بالنوافل لانها مرادة وليس مكروهة الضد. ولا يمكن ايضا ان نعتمد بأن يقال: ان الامر يقتضى المأمور به وليس على جواز تركه دليل. لان للقائل ان يقول: انه لعمري يقتضى المأمور به ولكن الكلام في انه كيف يقتضيه هل هو على جهة الوجوب أو جهة الندب ؟ ولا يمكن ايضا ان يقال: ان الامر اراد المأمور به على جهة الايجاب لان ذلك متى لم يشر به إلى ما قلناه من ان الامر يقتضى الايجاب أو ان يقال: انه إذا اراد المراد فلابد من أن يكون كارها لضده أو ارادة الشئ كراهة لضده لا يعقل فان اريد بذلك الوجه الاول [ فذلك صحيح وينبغي أن يقتصر على ان يقال ان الامر يقتضى الايجاب ] (1) ولا يتعرض في العبارة. وان اريد به ما عدا ذلك فقد ابطلنا صحة ذلك. ولا يلزم القائلين بالندب ان يقال لهم: ينبغي على قولكم الا يكون فرق بين الامر بالنوافل والفرائض. لانهم يقولون: ان بمجرد الامر لا فرق بينهما وانما علمنا حكم الفرائض وانه يستحق بتركه العقاب بدليل غير الامر. ولا يلزمهم ايضا ان يقال لهم: ينبغي أن يكون الامر لا يدل على اكثر من حسن المأمور به فقط إذا كان صادر من حكيم ويلزم على ذلك أن يكون الله تعالى مريدا للمباحات (2) * لانها حسنه.


[ 182 ]

لانهم يقولون: المباحات (1) * وان كانت حسنة فلا يحس من القديم تعالى ان يريدها في دار التكليف لان ذلك عبث لا فائدة فيه. فالاعتماد على ما قلناه واحكمناه.


[ 183 ]

فصل [ 3 ] (في حكم الامر الوارد عقيب الحظر) ذهب اكثر الفقهاء ومن صنف اصول الفقه إلى ان الامر إذا ورد عقيب الحظر اقتضى الاباحة (1) * (2). وقال قوم (3): ان مقتضى الامر على ما كان عليه من ايجاب أو ندب أو وقف (4) ولا (5) اعتبار بما تقدم وهذا هو الاقوى عندي. والذي يدل على ذلك: ان الاعتبار في هذه الالفاظ بظواهرها وموضوعها في اللغة لانا متى لم نراع ذلك لم يمكننا الاستدلال بشئ من الكلام وإذا ثبت ذلك وكانت صيغة الامر وصورته بعد الحظر كما كانت قبل الحظر وجب أن يكون


[ 184 ]

مقتضاها على ما كان الا أن يدل دليل (1) * على خلاف ذلك فتحمل عليه كما إذا دل دليل ابتداء على خلاف مقتضاها في اصل الوضع حمل مما عليه. والذي يدل ايضا على ذلك: ان كون الامر واردا عقيب الحظر اللفظى ليس بأكثر من كونه واردا عقيب الحظر العقلي الا ترى ان الصلاة ورمى الجمار وغير ذلك من الشرعيات قبيح بالعقل فعلها ومع ذلك لما ورد الشرع بها وتناولها الامر حمل ذلك على الوجوب أو الندب على الخلاف فيه ولم يكن ما تقدمها من الحظر العقلي موجبا لا باحتها. وكذلك حكم الامر إذا ورد عقيب الحظر اللفظى ينبغي أن يكون حكمه حكم ما ورد ابتداء ولا يؤثر في تغيير ذلك ما تقدم من الحظر الا بدليل. فاما تعلقهم في ذلك بان قالوا (2): الحظر لما كان منعا من الفعل ينبغي أن يكون الامر رافعا لذلك وذلك يفيد الاباحة. فان الذي يقتضيه هذا الاعتبار انه ينبغي أن يكون الامر مخالفا لحكم الحظر وكذلك نقول وقد يكون مخالفا له بأن يقتضى الوجوب أو الندب أو الاباحة فمن اين ان المراد احدهما دون الاخر ؟ وكل ذلك يزيل حكم الحظر فسقط التعلق بذلك. فاما تعلقهم في ذلك بان اوامر القران الواردة عقيب الحظر كلها كك نحو قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلوة فانتشروا) (3) ونحو قوله: (وإذا حللتم فاصطادوا) (4) وما جرى مجرى ذلك (5) فينبغي أن يكون حقيقتها ذلك (6). فليس (7) بصحيح لانا


[ 185 ]

نقول: انما علم ذلك بدليل غير الظاهر ولو خلينا والظاهر لحكمنا في هذه الاوامر ما كنا نحكم فيها ابتداء من غير أن يتقدمها حظر فالتعلق بذلك لا يصح. على انه قد ورد في القران عقيب الحظر الامر وان لم يوجب الاباحة نحو قوله تعالى: (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدى محله) (1) (2) * وحلق الرأس بعد بلوغ الهدي محله ليس بمباح بل هو نسك وذلك يخالف ما اصلوا القول فيه.


[ 186 ]

فصل [ 4 ] (في ان الامر بالشئ هل هي امر بما لا يتم الا (1) * به ام لا (2) * ؟) اعلم ان الامر إذا ورد فلا يخلو من أن يكون متناولا لمن كان على صفة مخصوصة أو يكون مطلقا: فان كان متناولا لمن كان على صفة وجب أن يكون مقصورا على من كان عليها ومن ليس عليها لا يلزمه ان يجعل نفسه عليها ليتناوله الامر الا أن يدل دليل


[ 187 ]

على وجوب تحصيل تلك الصفة له فحينئذ يلزمه لمكان الدليل وذلك نحو قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1) فاوجب الحج على من كان مستطيعا فمن ليس بمستطيع لا يلزمه تحصيل الاستطاعة ليدخل تحت الامر وكك لما اوجب الزكاة على من ملك مائتي درهم أو عشرين دينارا فمن ليس معه النصاب لا يلزمه تحصيل النصاب ليدخل تحت الامر. وان كان الامر مطلقا نظر فيه فان كان لا يصح على وجه ما الا بفعل اخر وجب تحصيل ذلك الشئ ليتم معه المأمور به وذلك نحو الامر بالمسبب وهو لا يحصل الا عن سبب فلابد من أن يكون السبب واجبا عليه الا ترى ان من اوجب على غيره ايلام غيره وذلك لا يحصل الا من ضرب فلابد من أن يلزمه الضرب ليحصل عنده الالم ولهذه الجملة قلنا: ان الكافر إذا كان مخاطبا بالشرائع على ما نبينه يلزمه الاسلام لانه لا يصح منه ايقاع الفعل على وجه القربة وكونها شرعية وكونه كافر يمنع من ذلك. وان كان ذلك المأمور يصح على وجه ما حصوله الا انه قد علم بالشرع انه لا يكون شرعيا الا بفعل اخر جرى مجرى الاول في وجوب تحصيل ذلك الامر حتى يصح المأمور به وذلك نحو قوله: (اقيموا الصلوة) (2) وقد علمنا ان الصلاة لا تصح الا بالطهارة وستر العورة وغير ذلك من الشرائط ولا شرعية الا كذلك وجب عليه تحصيل كل ما لا يتم الصلاة الا بها من الطهارة وغيرها. وان لم يدل دليل على وجوب فعل اخر غير انه قيل: (إذا كان امر من الامور وجب عليك كذا) فانه لا يجب عليه تحصيل ذلك الامر ليلزم ما اوجب عليه عند حصوله ولذلك قلنا ان قوله تعالى: (واتوا الزكوة) (3) لا يقتضى وجوب تحصيل


[ 188 ]

النصاب لما لم يدل دليل شرعى على ذلك وفرقنا بينه وبين قوله: (واقيموا الصلوة) (1) على ما بيناه. فاما استدلال اهل العراق (2) على ان ستر الركبة واجب لان ستر العورة (3) * لا يتم إلا به (4) فبعيد لان ذلك ليس بمستحيل بل يمكن ستر العورة وان لم تستر الركبة إذا سلم لهم ان الفخذ عورة وان كان عندنا الامر بخلافه اللهم إلا (5) * ان يدل دليل اخر على ان ستر العورة لا يتم الا بستر الركبة فحينئذ يجب عليه الامر بستر العورة. واما ما قاله الشافعي في قوله: (أو عدل ذلك صياما) (6) في انه إذا كان بدل كل يوم مدا من طعام فنقص عن المد يجب صوم يوم تام لان صوم بعضه لا يتم الا بصوم جميعه (7) فصحيح لانا قد علمنا بالشريعة ان بعض اليوم لا يكون صوما فاوجبنا تمام اليوم لذلك وجرى ذلك مجرى الامر بالصلاة وانه لا تكون كذلك الا بالطهارة فاوجبنا الطهارة ولو لم يدل دليل على ذلك لما كنا نوجب عليه إلا ذلك القدر الذي يصيبه.


[ 189 ]

فاما دخول المرفقين في باب وجوب غسلهما أو غسل اليدين فخارج عن هذا الباب لان اسم اليدين (1) واقع على عضوين المرفقان داخلان فيهما فليس ذلك من باب ما لا يتم الشئ الا به فمن ظن ذلك فقد ابعد. واما ما يحكى عن ابن عباس في قوله: (واتموا الحج والعمرة لله) (2) انه لما كان الاتمام يقتضى الدخول وجب الدخول الذى لا يصح الاتمام (3) الا به. فالذي يقوى عندي خلاف ذلك لانه لا يمتنع ان يكون الامر متناولا لمن كان قد دخل في الحج فحينئذ يلزمه اتمامه واما من لم يدخل فيه فليس يجب عليه الدخول اللهم الا ان يدل دليل على وجوب الدخول غير الامر بالاتمام فحينئذ يجب المصير إليه ولاجل ما قلنا وجب على من دخل في الحج تطوعا اتمامه وان كان الدخول لم يكن واجبا عليه. وحجة الاسلام يجب الدخول فيها واتمامها لما دل الدليل على ذلك. وهذه جملة كافية ينبغى ان يجرى هذا الباب على هذا المنهاج انشاء الله تعالى.


[ 190 ]

فصل [ 5 ] (في ان الامر يتناول الكافر والعبد كما يتناول المسلم والحر) ذهب اكثر المتكلمين والفقهاء إلى ان الكافر مخاطب بالشرائع وكذلك العبد (1).


[ 191 ]

وقال قوم شذاذ ليسوا بمخاطبين بها. والذى اذهب إليه هو الاول والذى يدل على ذلك: ان المراعى في كون المكلف مخاطبا بالشريعة ان يرد الخطاب على وجه متناول (1) ظاهره ويكون متمكنا من ذلك فإذا ثبت هذا فمتى ورد الخطاب يحتاج ان ينظر فيه فان كان خطابا للمؤمنين مثل قوله تعالى: (يا ايها الذين امنوا) (2) فينبغي ان يكون الخطاب يختصهم ولا يتناول الكافر الا ان يدل دليل على انهم مخاطبون به مثل المؤمنين فيحكم بذلك لاجل الدليل. ومتى كان الخطاب متعلقا باسم يتناول الكافر والمسلم مثل قوله: (يا ايها الناس) (3) و (لله على الناس) (4) و (وخذ من اموالهم) (5) وما جرى مجرى ذلك فينبغي ان يحمله على عمومه وشموله في دخول الكافر والمسلم تحته الا ان يدل دليل على خلافه فيحكم به ويخرج من جملة العموم. وليس لاحد ان يقول: ان الكافر لا يصح منه فعل الصلاة ولا فعل الحج مع كفره فلا يجوز ان يكون مرادا بالخطاب (6) وذلك ان الذى يجب ان يكون عليه حتى يصح تناول الخطاب له ان يكون على صفة يصح معها اداء ما تناوله الامر أو يكون متمكنا من تحصيلها ويحسن تكيلفه في الحالين على حد واحد وإذا ثبت ذلك فالكافر وان لم يكن بصفة الايمان


[ 192 ]

فتصح منه العبادة فهو متمكن من فعل الايمان ويجب عليه تحصيله ليصح منه العبادة لان ايجاب الشئ ايجاب ما لا يتم الشئ الا به على ما بيناه في الفصل الاول في السبب والمسبب والطهارة والصلاة (1) وانه لا فرق بين ان يكون متطهرا في انه يلزمه فعل الصلاة وبين ان يكون متمكنا منها في أنه يلزمه كذلك وكذلك القول في الكافر. وليس يجري مجرى من قطع رجل نفسه في سقوط فرض الصلاة عنه قائما لان مع قطع رجلهم يستحيل منه فعل الصلاة قائما فلاجل ذلك سقط عنه وليس كذلك الكافر لان الايمان ممكن فيه ويجرى في هذا الباب مجرى من شد رجل نفسه في انه يلزمه فعل الصلاة قائما لانه متمكن من حلها فيتمكن من فعل الصلاة قائما. ويدل ايضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: (فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة) (2) فذم الله تعالى المشركين بمنعهم الزكاة فلولا انهم يخاطبون بها والا ما كانوا يستحقون الذم إذا لم يفعلوها. ويدل على ذلك الظه قوله تعالى حاكيا عن الكفار: (قالوا لم نك من المصلين) (3) فلولا انهم مخاطبون بها والا لم يعدوه من جملة ما عوقبوا عليه. وليس ان يقولوا: انهم عدوا (4) من جملة ذلك قوله: (ولم نك نطعم المسكين) (5) وان كان ذلك غير واجب عليهم. وذلك انه لا يمتنع ان يكونوا ارادوا بذلك منع الزكاة عن المساكين أو منع ما وجب عليهم من الكفارات من اطعام المساكين على ما تضمنته الاية الاولى فلاجل ذلك عوده في جملة ما عوقبوا عليه.


[ 193 ]

ويدل ايضا على ذلك: ما لا خلاف فيه بين المسلمين من وجوب حد الزانى عليهم إذا زنوا ووجوب القطع عليهم إذا سرقوا فلولا انهم مخاطبون بترك الزنا وترك السرقة والا لم يجب عليهم الحد كما لا يجب على المجانين والاطفال لما لم يكن ذلك واجب عليهم. وتعلق من خالفنا في ذلك بان قال: الصلاة لا تصح منه فينبغي ان لا يكون مخاطبا بها كما ان المقطوع الرجل لم يصح منه فعل الصلاة قائما لم يكن مخاطبا بها. وقد قلنا ما عندنا في ذلك فاغنى عن الاعادة (1). وتعلقوا ايضا بان قالوا: لو كان الكافر مخاطبا بالصلاة لوجب عليه قضاؤها إذا اسلم مثل المسلم إذا لم يصل وجب عليه قضاؤها (2). وهذا ايضا غير صحيح لان القضاء فرض ثان يحتاج إلى دليل مستأنف وليس ما دل على وجوب الفعل دل على قضائه الا ترى من فاتته الجمعة وصلاة العيدين لا يلزمه قضاؤها وان كان مخاطبا بها في حال الاداء وكك ما دل على وجوب القضاء لا يدل على وجوب المقضى لان الحائض يلزمها قضاء الصوم وان لم يكن ذلك واجبا عليها في حال الحيض. فان قالوا: الصوم وان لم يجب عليها في حال الحيض فهو واجب عليها على وجه (3) *. قلنا: ذلك ينتقض بالصلاة فانها يجب عليها على وجه ومع ذلك لا يلزمها اداؤها في حال الطهر.


[ 194 ]

والكلام في العبد كالكلام في الكافر سواء لا فرق بينهما إذا كان داخلا تحت الاسم. وليس لهم ان يقولوا: ان العبد لا يملك تصرفه فكيف يجب عليه فعل ذلك (1). لانا لا نسلم انه لا يملك تصرفه على كل حال لان الاوقات التى هي اوقات مستثناة من جملة ما يملك منه من الاوقات فسقط الاعتراض بذلك. واما الصبى الذى ليس بكامل العقل ولا مميز لما يجب عليه وان كان الاسم يتناوله غير مراد لانا نخصه من ذلك من حيث لا يحسن تكليف من ليس بكامل العقل ومن لا يتمكن من فعل ما كلفه على الوجه الذى كلف. فاما ما يتعلق بالاموال فهم داخلون تحت الاسم الذى يوجب ذلك من الزكوات وقيم المتلفات واروش الجنايات وغير ذلك لان قوله: (خذ من اموالهم صدقة) (2) يدخل تحته البالغ والطفل فينبغي ان يجب ذلك وعلى هذا يجرى الباب. فاما المرأة فان كان الخطاب يختص النساء فلا خلاف انها داخلة تحت الخطاب. وان كان الخطاب يتناول اسم الجنس مثل قوله: (ولله على الناس حج البيت) (3) فكمثله. وان كان الخطاب يختص بالذكور (4) فمن الناس من قال ان النساء لا يدخلن فيه


[ 195 ]

الا بدليل وهو الظاهر من مذهب الشافعي وعليه كثير من الفقهاء. وذهب الباقون إلى انه يدخل مع الرجال لان الرجال والنساء إذا جمعوا في الخطاب غلب حكم التذكير وهو الظاهر على مذهب اهل اللغة فينبغي ان يعتمد عليه. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 196 ]

فصل [ 6 ] (في ان الامر بالشئ هل هو نهى عن ضده ام لا (1)) ذهب اهل العدل من المتكلمين وكثير من الفقهاء إلى ان الامر بالشئ ليس بنهي عن ضده (1).


[ 197 ]

ومنهم من قال: انه نهى عن ضده معنى (1). والذى اذهب إليه ان الامر بالشئ ليس بنهي عن ضده لفظا واما من جهة المعنى فعلى المذهب الذى اخترناه وهو ان الامر يقتضى الايجاب (1) وإذا كان صادرا من حكيم دل على وجوب ذلك الشئ يقتضى ان تكون تركه قبيحا وسواء كان له ترك واحد ام تروك كثيرة في انه يجب أن يكون كلها قبيحة إذا كان الامر مضيقا. وان كان الامر مخيرا فيه بينه وبين ضد له اخر دل على ان ما عدا ذلك قبيح من تروكه. وان لم يكن له الا ترك واحد فيجب القطع على انه قبيح إذا لم يدل على انه واجب مثله مخيرا فيهما. الا ان مع هذا التفصيل ايضا لا يجوز ان يسمى نهيا عن ضده لان النهى من صفات الاقوال دون المعاني وليس كل ما علم قبحه سمى منهيا عنه الا على ضرب من المجاز. والذى يدل على صحة ما اخترناه ان اهل اللغة فرقوا بين صيغة الامر وصيغة النهى فقالوا: صيغة الامر لمن دونه (افعل) والنهى قوله: (لا تفعل) وهما يدركان بحاسة السمع وليس يسمع من قوله: (افعل) (لا تفعل) فلا ينبغى ان يكون نهيا من حيث اللفظ لانه لو كان كذلك لوجب ان يسمعا معا كما يسمع لو جمع بين اللفظين وقد علمنا خلاف ذلك.


[ 198 ]

فاما اقتضاء للنهى من حيث (1) المعنى فقد بينا ما عندنا في ذلك وفيه كفاية وذلك ينبئ على ان الامر يقتضى الايجاب وقد ذللنا عليه فيما مضى (2). ونبين ايضا صحة ما قلنا: ان الامر بالشئ لو كان نهيا عن ضده لجاز لقائل ان يقول: (ان العلم بالشئ جهل بضده) وذلك جهالة ولا يلزمنا مثل ذلك فيما اخترناه من دلالته على قبح تركه لانه لا يمتنع ان يدل الشئ على حسن امر وقبح شئ اخر من وجهين وليس ذلك بمتضاد (3) ويستحيل ان يكون العلم جهلا لان الصفتين متضادتان فبان الفرق بينهما (4). فاما شبهة من خالف في ذلك فهو ان قال: ان الامر يقتضى ارادة المأمور به وارادة الشئ كراهة ضده والحكمة تقتضي الا يريد الشئ الا ويكره ضده. فان ذلك يسقط بما قلناه من ان الامر لا يدل على ارادة المأمور به ولو دل لم يكن ارادة الشئ كراهة ضده لان ارادة النوافل حاصلة وليست بكراهة لضدها ومتى بنى على ان الامر يقتضى الايجاب وإذا كان صادرا من حكيم دل على وجوبه وان ما عداه قبيح إذا لم يدل على انه واجب مخير فيه مثله (5) فهو هو المعتمد عليه على ما بيناه.


[ 199 ]

فصل [ 7 ] (في ان الامر بالشئ يقتضى الفعل مرة أو يقتضى التكرار (1) ؟) ذهب اكثر المتكلمين والفقهاء إلى ان الامر بالشئ لا يقتضى بظاهره اكثر من


[ 200 ]

فعل مرة ويحتاج في زيادته إلى دليل اخر وهو المحكى عن ابى الحسن (1) والظاهر من قول الشافعي (2). وقال قوم شذاذ ان الامر بظاهره يقتضى التكرار (1). وذهب قوم إلى الوقف في ذلك وقالوا نقطع أن إرادة المرة الواحدة مرادة وما زاد عليه فمشكوك فيه متوقف فيه (2). فالذي اختاره المذهب الاول والذى يدل على ذلك: ان الامر في الشاهد على وتيرة واحدة إذا سبرناه يقتضى الفعل مرة واحدة ولا يفهم من ظاهره الا ذلك الا ترى ان من قال لغلامه (اسقنى ماء) لا يعقل منه اكثر من مرة واحدة حتى انه لو


[ 201 ]

كرر عليه الماء دفعه ثانية لعدوه سفيها. وليس لاحد ان يقول: ان ذلك عقل بشاهد الحال وبقرينة اقترنت إلى الامر دلت على المرة الواحدة. وذلك ان ما ذكرناه يعقله من لا يعرف القرينة اصلا ولا تخطر بباله ثم القرينة تحتاج ان تكون معقولة وليس هناك قرينة تدل على ذلك. فان قالوا: القرينة انه يعلم استكفائه بشربة واحدة وما زاد عليها لا يحتاج إليه [ قلنا ] (1): لان هذا لا طريق له إلى العلم به لانه قد لا يكتفى بشربة واحدة ويحتاج في زيادتها إلى تجديد الامر فلو كان ذلك معقولا بالامر الاول لما احتاج إليه. وإذا ثبت ذلك في الاوامر في الشاهد وجب ان يكون حكم اوامر الله تعالى ذلك الحكم. ويدل على ذلك ايضا: ان الامر لو اقتضى استغراق الاوقات لا اقتضى استغراق الاحوال والاماكن فلو كان وجب فعله في سائر الاوقات لوجب فعله على سائر الاحوال وفى سائر الاماكن وذلك لا يقوله احد. وانما قلنا ذلك لان الاوقات ظروف الزمان فكما ان الفعل لابد له من ذلك فكذلك لابد له من ظروف المكان والاحوال. ويدل على ذلك ايضا: ما لا خلاف فيه بين الفقهاء من ان الرجل إذا امر وكيله بطلاق زوجته لم يكن له ان يطلقها اكثر من واحدة فلو كان الامر يقتضى التكرار لجاز له اكثر من مرة وذلك خلاف الاجماع. ويدل على ذلك ايضا: ان الامر بالشئ امر باحداثه فجرى في ذلك مجرى الخبر عن احداثه فكما ان الخبر عن احداثه لا يقتضى اكثر من مرة واحدة فكذلك الامر. ويدل على ذلك ايضا: ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه لما قال


[ 202 ]

له سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى (1) (2) في الحج: العامنا هذا يا رسول الله ام للابد ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا بل لعامنا هذا ولو قلت نعم لوجب) (3) فبين صلى الله عليه وآله وسلم ان ما يقتضى الامر لذلك العام وما زاد على ذلك انما يثبت بقوله نعم لو قاله ولو كان الامر يقتضى التكرار لما احتاج إلى ذلك. فان قيل: إذا كان الامر يقتضى الفعل مرة واحدة فلم استفهمه سراقة وهلا قطع بظاهره على انه لذلك العام ولا يحتاج إلى الاستفهام ؟ قيل له: انما استفهم عن ذلك لانه جوز ان يكون ذلك للابد بدليل غير ظاهر الامر كما وجد مثل ذلك اوامر كثيرة مثل الصلاة والزكاة وغيرهما من افعال الشرع فلاجل ذلك حسن استفهامه عليه السلام. وتعلق من خالف في ذلك بأشياء: منها: انهم حملوه على النهى وقالوا ان النهى لما اقتضى التكرار فكك يجب في الامر لانه ضده (3). والجواب عن ذلك: انا نقول في النهى مثل ما نقوله في الامر وان الذى يقتضيه ظاهره ان لا يفعل دفعة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل اخر. ومن


[ 203 ]

الناس من فرق بينهما فقال: في الاستعمال فرق بين الموضعين لان النهى يعقل منه في الشاهد التكرار الا ترى ان من قال لغلامه: (لا تفعل كذا وكذا) يعقل منه الامتناع على كل حال وليس كذلك الامر على ما بيناه. وقالوا ايضا: ان النهى لما كان يقتضى الكف والكف عن المنهى عنه لا ضيق فيه ولا حرج فاقتضى لذلك الدوام وليس كذلك الامر لانه لو اقتضى الدوام للحق في ذلك المشقة والضيق. وقالوا ايضا: ان من انتهى عن الفعل في الازمان كلها يقال فيه انه انتهى عما نهى عنه وإذا امر بالشئ وفعله ثم فعل مرة اخرى لا يقال انه فعل ما امر به. والمعتمد هو الاول وبعده الفرق الثاني وهو الرجوع إلى الشاهد. وتعلقوا ايضا بان قالوا: انه إذا اطلق الامر فليس يقتضى الفعل في وقت باولى من ان يقتضى في وقت آخر فيجب ان يحمل على الاوقات كلها. والجواب عن ذلك: انا نقول: انه يجب عليه ان يفعله في الثاني (1) على ما نذهب إليه في الفور فسقط السؤال. ومن قال بالتراخى (2) * يقول: هو مخير في الاوقات كلها. ومن قال بالوقف قال: ينتظر بيان وقت الفعل وليس لاستغراق الاوقات فيه ذكر فيدعى فيه العموم. وتعلقوا ايضا بان قالوا: لو لم يقتض التكرار لما صح النسخ لان معنى النسخ هو ازالة مثل الحكم الثابت بالنص الاول في الثاني بنص اخر على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تأخره عنه ولو كان الامر يقتضى الفعل مرة واحدة لما صح ذلك على حال. والجواب عن ذلك: ان النسخ انما يصح إذا دل دليل غير الظاهر على انه اريد


[ 204 ]

التكرار فاما إذا تجرد عن ذلك فلا يصح فيه النسخ على حال. وتعلقوا ايضا بان قالوا: وجدنا اوامر القران كلها على التكرار فوجب أن يكون ذلك بمقتضى الامر (1). والجواب عن ذلك: انا لا نسلم ان اوامر القران كلها على التكرار لان فيها ما يقتضى الفعل مرة واحدة وهو الامر بالحج على ما بيناه فاما ما يقتضى منها التكرار فبدليل غير الظاهر وهو الاجماع فمن أين لهم ان ذلك بمقتضى الامر ؟ فهذه الجملة التي ذكرناها تأتى على جميع ما يتعلق بهذا الباب.


[ 205 ]

فصل [ 8 ] (في ان الامر المعلق بصفة أو شرط (1) هل يتكرر بتكررهما (2) أم لا ؟) ذهب اكثر الفقهاء والمتكلمين إلى انه لا يتكرر بتكرر الشرط والصفة وانه


[ 206 ]

يقتضى الفعل مرة واحدة عنو أول الشرط والصفة (1). ومنهم من قال: ان ذلك يوجب التكرار (1). والذي اذهب إليه هو الاول والذي يدل على ذلك: ان القائل إذا قال لغلامه: (إذا دخلت السوق اشتر الفاكهة) لو يعقل منه شراء الفاكهة كلما دخل السوق وانما يعقل ذلك مرة واحدة حتى انه لو فعل دفعة اخرى لاستحق التوبيخ والذم. ويدل ايضا على ذلك: انه إذا ثبت ان الامر المطلق يقتضى الفعل مرة واحدة فتعليقه بشرط أو صفة انما يقتضى ايقاع ذلك الفعل عند حصول الشرط أو الصفة وتخصيصه بهما ولو اقتضى ذلك التكرار لاقتضى مطلق الامر وقد دللنا على خلاف ذلك. ويدل ايضا على ذلك: ان القائل إذا قال لوكيله: (طلقها إذا دخلت الدار) فلا خلاف ان ذلك لا يقتضى جواز طلاقها كلما دخلت الدار وانما يقتضى جواز ايقاع الطلاق عند دخولها الدار اولا. وإذا ثبت ذلك فاوامر الله تعالى ينبغي أن يكون هذا حكمها لان حقيقة الامر (2) لا تتغير. وقد تعلق من خالف في ذلك باشياء (1):


[ 207 ]

منها: ان قالوا ان الحكم المعلق بالصفة أو الشرط يجرى مجرى تعليله بالعلة فكما ان الامر بالمعلق بالعلة يقتضى التكرار عند تكرار العلة وكذلك القول في الشرط والصفة (1). والجواب عن ذلك: ان هذا السؤال ساقط عنا لانا لا نقول (2) * بالقياس والعلل (3) ومن قال بذلك يقول ان العلة دالة على الحكم فلذلك يتكرر الحكم بتكررها لانها لا يجوز حصول الدليل مع ارتفاع المدلول لان ذلك يكون نقصا لكونها دلاله والصفة والشرط شرط ولا يجب أن يكون مثل الشرط شرطا في كل موضع كما لا يجب أن يكون دخول الدار شرطا في جواز الطلاق كلما دخلت الدار. وتعلقوا ايضا بان قالوا: لو لم يتكرر بتكرر الشرط والصفة لكان إذا لم يفعل مع الشرط الاول وفعل مع الشرط الثاني عد قاضيا (4) * لا مؤديا فلما كان ذلك باطلا علم انه مراد (5). والجواب عن ذلك: ان ذلك قضاء في الحقيقة فان منع من اطلاق هذه العبارة عليه في بعض المواضع فلا اعتبار بذلك لان المعول (6) * على المعاني دون العبارت.


[ 208 ]

وتعلقوا ايضا بان قالوا: لما كان النهى المعلق بصفة يقتضى تكرره عند تكرر الصفة فكك القول في الامر (1). والجواب عن ذلك: ان قولنا في النهي مثل قولنا في الامر في انه لا يقتضى ذلك بظاهره فسقط الاحتجاج بذلك. وتعلقوا ايضا بأن قالوا: وجدنا اوامر القران المتعلقة بالصفات والشروط يقتضى التكرار نحو قوله: (اقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (2) ونحو قوله: (وان كنتم جنبا فاطهروا) (3) و (إذا اقمتم الصلاة فاغسلوا) (3) وقوله تعالى (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (4) وغير ذلك (5). والجواب عن ذلك: ان جميع ذلك عقل بغير الظاهر وبدليل دل على ذلك من الاجماع وغيره. ومن الناس من فرق بين بعض ذلك وبنى الامر المعلق بالشرط (6) * فقال في قوله تعالى: (وان كنتم جنبا فاطهروا) وقوله (الزانية والزانى) ان ذلك تعليل لا تعليق بصفة (7) فكأنه قال: (ان كنتم جنبا فاطهروا لانكم جنب) لما علم انه لا يمكن اداء الصلاة مع الجنابة وكذلك: (فاجلدوا الزانى والزانية لانهما زنيا) فصار ذلك تعليلا لا شرطا وإذا كان كذلك جاز حمله على التكرار (5). ولم يسع ذلك في الامر المعلق بالصفة والشرط على ما بيناه (8).


[ 209 ]

فصل [ 9 ] (في الامر المعلق بوقت متى لم يفعل المأمور به فيه هل يحتاج إلى دليل في ايقاعه في الثاني ام لا ؟ (1)) ذهب اكثر الفقهاء والمتكلمين إلى ان الامر المعلق بوقت إذا لم يفعل المأمور


[ 210 ]

به فيه احتياج إلى دليل اخر في وجوب فعله في وقت اخر وكذلك قال في الامر المطلق من ذهب إلى انه متى لم يفعل في الثاني أو ذلك الوقت يجب عليه فعله في الثالث أو الوقت الاخر فكأنهم قالوا: يقتضى الفعل في الثاني فان لم يفعل في الثاني اقتضى (2) في الثالث ثم كذلك في الرابع إلى ان يحصل المأمور به. والذي اذهب إليه ما ذكرته اولا والذي يدل على ذلك: هو ان الامر إذا كان معلقا بوقت دل على ان ايقاعه في ذلك الوقت مصلحة فمتى لم يفعل في ذلك الوقت فمن اين يعلم (4) * انه مصلحة في وقت اخر ؟ ويحتاج في العلم بذلك إلى دليل اخر وعلى هذا قلنا ان القضاء فرض ثان يحتاج إلى دليل اخر غير الذي دل على وجوب المقضى. وليس لاحد ان يقول: ان الامر يدل على وجوب المأمور به وانه مصلحة وليس للاوقات (5) * تأثير في ذلك فينبغي أن يكون ايقاعه مصلحة أي وقت شاء وذلك انه لا يمتنع أن يكون للاوقات تأثير (5) * في كون الفعل مصلحة فيه حتى إذا فعل في غيره كان مفسدة. والذي يكشف عن ذلك (6) * ان صلاة الجمعة لا خلاف انها مصلحة وواجبة


[ 211 ]

في وقت بعينه ومن لم يفعلها فانها تسقط عنه لا يجوز له فعلها في وقت اخر. وكذلك من قال: (لله علي صوم يوم بعينه) فانه يلزمه صوم ذلك اليوم ولا يجوز له أن يصوم يوما اخر فعلم بذلك ان للاوقات تأثيرا في كون الفعل مصلحة وسقط السؤال. فاما تسميته قضاء فكلام في عبارة فربما اطلق عليه ذلك وربما امتنع منه لضرب من الابهام. وليس لهم أن يقولوا: لو اقتضى ايقاع الفعل في ذلك الوقت ولم يقتض ايقاعه في وقت اخر لبطل النسخ. وذلك انا قد بينا (1) انه لا يصح النسخ إذا كان الفعل مطقا أو مقيدا بوقت الا أن يدل دليل اخر على ان ما بعده من الاوقات حكمه حكم ذلك الوقت فبطل بذلك ايضا هذا السؤال.


[ 212 ]

فصل [ 10 ] (في ان الامر هل يقتضى كون المأمور به مجزيا أم لا (1) ؟) ذهب الفقهاء باجمعهم وكثير من المتكلمين (1) إلى ان الامر بالشئ يقتضى


[ 213 ]

كونه مجزيا إذا فعل على الوجه الذي تناوله الامر. وقال كثير من المتكلمين: انه لا يدل على ذلك ولا يمتنع أن لا يكون مجزيا ويحتاج إلى القضاء (1). والصحيح هو الاول. والذي يدل على ذلك: ان الامر يدل على وجوب المأمور به وكونه مصلحة إذا فعل على الوجه الذي تناوله الامر فإذا فعل كذلك فلابد من حصول المصلحة (2) * به واستحقاق الثواب عليه لانه لو لم تكن مصلحة لم يحسن من الحكيم ايجابه ولبطل (3) * كونه مصلحة على ما تناوله الامر. وليس لهم ان يقولوا: انه لا يمتنع أن يوقع الفعل على الوجه الذي تناوله الامر وتحصل مصلحة ويستحق الثواب عليه الا انه يحتاج إلى ان يقضيه دفعة اخرى كما ان المفسد للحج يلزمه المضى فيه ومع ذلك يلزمه قضائه وكذلك الظان لكونه متطهرا في اخر الوقت يلزمه الصلاة ثم إذا علم انه كان غير متطهر يلزمه قضاؤه (4). وذلك الذي ذكروه لا يدل على انه غير مجز وانما يدل على ان مثله مصلحة في الثاني ونحن لا نمتنع من ذلك وجرى ذلك مجرى ان يؤمر بالفعل في وقتين فانه متى فعل المأمور فيهما فلا يقول احد ان ما فعل في الثاني مجز وما فعل في الاول غير مخبر فكذلك (5) ما يفعل بامر اخر.


[ 214 ]

فاما تسميته قضاء للاول فكلام في العباره وقد بينا انه لا اعتبار به (1). فاما المضى (2) * في الحج الفاسد ووجوب الصلاة على الظان لكونه متطهرا في اخر الوقت فالذي تناوله الامر في هذين اتمام الحج (3) * واداء تلك الصلاة (4) * وقد فعلهما وأما ما يجب عليه من قضاء تلك الصلاة إذا تيقن انه كان محدثا واعادة الحج فانه علم ذلك بدليل اخر وقد بينا انه لا اعتبار بتسميته قضاء (1) فيتعلق بذلك في هذا الباب. فان قيل: انما اردنا لكونه غير مجز انه لا يعلم إذا فعل انه لا يلزمه مثله في المستقبل. قيل له: وانما اردنا بكونه مجزيا انه لا يعلم انه يجب عليه مثله في المستقبل ويسقط حينئذ الخلاف. ويدل ايضا على ما ذهبنا إليه: انه ثبت ان النهى يقتضى فساد المنهى عنه على ما سندل عليه (5) فنيبغي أن يكون الامر يقتضى كونه مجزيا لانه ضده.


[ 215 ]

فصل [ 11 ] (في حكم الامر إذا تكرر بغير واو العطف (1) وبواو العطف ما القول فيه ؟) اعلم ان الصحيح ان الامر إذا تكرر بغير واو العطف تكرر المأمور به ووجب كوجوبه وهو مذهب اكثر المتكلمين والفقهاء. وقال قوم: انه ينبغي أن يحمل الثاني على الاول وعلى انه تأكيد له. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ان كل واحد منهما لو انفرد لاقتضى فعل المأمور به اما وجوبا أو ندبا على الخلاف فيه فينبغي أن يكون ذلك حكمه إذا تكرر.


[ 216 ]

وليس ذكره بعد ذكر الاول مقتضيا لحمله على التأكيد (1) * الا أن يدل دليل على انه تأكيد فيحمل عليه أو يكون الاول معرفا أو اشارة إلى معهود والثاني مثله فيحمل على ذلك نحو ان يقول الله تعالى: (صلوا صلاة صلوا صلاة) فانه يجب أن تحمل اللفظة الثانية على صلاة غير الصلاة الاولى. واما ما يكون معرفا فنحو ما روى عن ابن عباس في قوله (فان مع العسر يسرا * ان مع العسر يسرا) (2) فقال: (لن يغلب عسر واحد يسرين) (3) فحمل العسر على انه واحد لما كانا معرفين واليسر على انهما مختلفان لما كانا منكرين. وقال قوم (4) في تأويل هذه الاية: ان التعريف في العسر ليس بتعريف العهد وانما هو تعريف الجنس فكأنه قال: مع جنس العسر يسرا وكذا مع جنس العسر يسرا وعلى هذا يكون الثاني غير (5) * الاول. والذي يدل ايضا على ما قلناه: ان الخبرين (6) إذا تكررا اقتضيا مخبرين فوجب أن يكون حكم الامرين مثل ذلك لانهما في المعنى واحد. فاما قول القائل لغيره: (اضرب اضرب) فالظاهر من ذلك ان الثاني غير الاول الا أن يدل دليل على انه اراد تأكيد الاول من شاهد الحال وغير ذلك فيحمل عليه.


[ 217 ]

واما إذا عطف احدها على الاخر نظر فيه: فان كان الثاني يقتضى ما يقتضيه الاول من غير زيادة ولا نقصان فالكلام فيه كالكلام في الاول سواء لانه لا فرق بين أن يفترق ذلك ويقترن ويصير ذلك بمنزلة أمر واحد بفعلين ولذلك قال الفقهاء (1) في قول القائل لامرأته: (انت طالق وطالق) على انه اوقع الثنتين الا أن يدل دليل على انه اراد تأكيد الاول فيحمل عليه. وان كان الثاني يقتضى غير ما يقتضيه (2) * الاول حمل على ظاهره ولا تنافى بينه وبين الاول. وان كان الثاني يقتضى بعض ما تناوله الاول فالظاهر من الاستعمال أن يحمل على انه اريد بالثاني غير البعض الذي تناوله الاول لان من حق المعطوف أن يتناول غير ما يتناوله المعطوف عليه ثم ينظر في ذلك فان كان إذا جعل هذا البعض مرادا بالثاني كان هو بعينه يمتنع أن يكون مرادا بالاول ايضا فالواجب ان يحمل الاول على ما عداه وان كان لا يمتنع ان يراد بالاول ما يقتضيه ايضا حمل الاول على جميعه والثاني على البعض الذي تناوله ولذلك قلنا ان قوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (3) يقتضى ظاهره ان المراد بالصلوات غير الوسطى ليصح عطف ما عطف به عليه. اللهم الا أن يدل دليل على ان الثاني ذكر تأكيدا أو تعظيما وتفخيما فان كان كذلك حمل عليه كما قيل في قوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (4) ان المراد بذكر جبريل وميكال تعظيم لهما وتفخيم وكذلك قال اكثر اهل العلم (5) في قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) (6).


[ 218 ]

وقال قوم: انه لم يقصد بلفظ الملائكة جبريل وميكال ولا بلفظ الفاكهة النخل والرمان فلاجل ذلك حسن عطف ذلك عليه. وذلك موقوف على الدليل. فاما إذا كان الثاني اعم من الاول فالقول فيه كالقول إذا كان الاول اعم سواء لا فيما ذكرناه اخيرا من حمله على التعظيم والتفخيم لان ذلك قد يكون نسخا وقد لا يكون كذلك. ونحن نبين ذلك في الناسخ والمنسوخ ان شاء الله تعالى.


[ 219 ]

فصل [ 12 ] (في ذكر الامر بالاشياء على جهة التخيير كيف القول فيه (1) ؟) ذهب كثير من المتكلمين إلى ان الكفارات الثلاث كلها واجبة مخير فيها وهو


[ 220 ]

المحكى عن ابي علي وأبي هاشم واليه ذهب اصحابهما (1). وقال اكثر الفقهاء (1): ان الواجب منها واحد لا بعينه وذهب إليه جماعة من المتكلمين (1). وحكى أبو عبد الله (2) عن أبي الحسن (3) القولين (1). والذي اختاره شيخنا أبو عبد الله (4) ان الواجب واحد لا بعينه على ما يذهب إليه الفقهاء (1). وذهب سيدنا المرتضى (رحمه الله) (5) إلى ان ان الثلاث لها صفة الوجوب (6) * على وجه التخيير. والذي اذهب إليه: ان الثلاثة لها صفة الوجوب الا أنه يجب على المكلف اختيار احدها. وهذه المسألة إذا كشف عن معناها ربما زال الخلاف فيها واعلم (7) ان المعنى


[ 221 ]

بقولنا: (ان الثلاثة لها صفة الوجوب) ان الله تعالى قد علم ان كل واحد منها يقوم مقام صاحبه في كونه مصلحة ولطفا للمكلف فاعلمنا ذلك وخيرنا بين فعلها فالمخالف في ذلك لا يخلو: اما ان يوافق على ذلك ويقول: مع هذا ان الواجب واحد لا بعينه فذلك يكون خلافا في عبارة لا اعتبار به. وان قال: ان الذي هو لطف ومصلحة واحد من الثلاثة (1) * والثنتان ليس لهما صفة الوجوب فذلك يكون خلافا في المعنى. والذي يدل على فساد هذا القول: انه لو كان الواحد منها لها صفة الوجوب والباقي ليس له ذلك لوجب أن يدل الله تعالى على ذلك ويعينه لانه لا (2) طريق للمكلف إلى معرفة ماله صفة الوجوب وتمييزه مما ليس له ذلك ومتى لم يفعل ذلك والامر على ما قلناه يكون قد كلفه ما لا دليل عليه وذلك لا يجوز ولذلك قلنا: انه لا يجوز أن يكلف الله تعالى اختيار الرسل والشرائع ولا ينصب على ذلك دليلا (3) لان ذلك قبيح. وليس لاحد أن يقول (4): انه يتميز له باختياره لان بعد اختياره قد سقط عنه التكليف وينبغي أن يتميز له في حال ما وجب عليه حتى يصح منه الاقدام عليه وتميزه له من غيره وذلك يكون قبل اختياره.


[ 222 ]

ولا يلزم (1) * على ذلك تعين البيع عند اختيار العقد لان ذلك في الاصل تابع لاختياره دون كونه مصلحة فكان ما يتبع ذلك مثله. ويدل على ذلك ايضا: انه لو كان الواحد من ذلك له صفة الوجوب والثاني (2) ليس له ذلك (3) لكان ينبغي أن لو فرضنا ان المكلف اختار غيره انه لا يجزيه وفي ذلك خروج عن الاجماع لانه لا خلاف بين المسلمين انه لو اختار أي الثلثة كان اجزأه وفي ذلك بطلان هذا المذهب. وايضا: فلو كان الواجب واحدا لا بعينه (3) لما جاز من الحكيم ان يخير المكلف بينه وبين ما ليس له صفة الوجوب كما لا يحسن ان يخيره بين الواجب والمباح. وليس علمه بانه لا يختار الا ما هو الواجب بمحسن لذلك لانه لو كان محسنا له لحسنه إذا خيره بينه وبين المباح إذا علم انه لا يختار الا الواجب وقد اتفقنا على خلاف ذلك. فاما من نصر ما قلناه وقال: نعنى ان الله تعالى اراد كل واحد منها وكره ترك كل واحد منها مع ترك الاخر ولم يكره تركه مع فعل الاخر (3). فلا يمكننا الاعتماد عليه لانا قد بينا ان الامر لا يقتضى [ إلا ] (4) الايجاب لانه اراد الامر المأمور به وكره تركه وبينا ما عندنا في ذلك (5) مع ان هذا المذهب يكاد لا يتصور ولا يتحقق لانه لا يخلو ان يكره ترك واحد منها ولا يكره ترك الثاني (2) فان


[ 223 ]

ارادوا ذلك فذلك قول من قال: (ان الواجب واحد لا بعينه) وان قالوا: انه كره تركه وترك الاخر فقد جمعهما للكراهة فينبغي أن يكونا جميعا واجبين على الجمع وذلك لا يقوله احد. وقولهم: (ولم يكره ترك واحد مع فعل الاخر) يكاد يستحيل لانه إذا كرهه مع ترك الاخر فقد حصلت الكراهة له وتعلقت به لنفسها فكيف لا تكون حاصلة إذا قدرنا فعل الاخر ؟ وتعلق من خالف في ذلك بان قال: لو فرضنا انه فعل الثلاث لكان الواجب منها واحدا فكذلك قبل الفعل. وقالوا ايضا: لو لم يفعل الثلاثة لا يستحق العقاب على واحدة منها فعلم بذلك ان الواجب هو الواحد. والجواب عن ذلك: ان هذا يسقط بما حررناه لانه إذا فعل فالذي كان واجبا عليه واحد وان كان الباقي له صفة الوجوب لانه كان مخيرا فيها فلاجل ذلك استحق ثواب الواحد على جهة الوجوب والثنتان فعلهما تبرعا ولا يمتنع أن يكون الشئ له صفة الوجوب إذا فعل مفردا فإذا فعل مع غيره كان الواحد منها لا يتغير وجه كونه واجبا والباقي (1) يصير ندبا فلاجل ذلك يستحق عليه ثواب الندب وكذلك إذا لم يفعل الثلاث فانما يستحق العقاب على واحد لان واحدا منها كان واجبا عليه دون الثلاثة. فان قيل: فايها يستحق عليه الثواب إذا جمعت وايها يستحق عليه العقاب إذا لم يفعل شئ منها ؟ قيل له: لا يلزمنا بيان ذلك بل ما يعلمه الله تعالى من انه لا يتغير كونه واجبا إذا


[ 224 ]

فعله مع غيره يثيبه عليه ثواب الواجب واستحق العقاب بترك ذلك بعينه. ومن (1) الناس من قال: انه يستحق الثواب على الاشق ثواب الواجب والعقاب على الاخف. والاول عندي هو المعتمد.


[ 225 ]

فصل [ 13 ] (في ان الامر هل يقتضى الفور أو التراخي (1) ؟) ذهب كثير من المتكلمين والفقهاء إلى ان الامر يقتضى الفور وهو المحكى


[ 226 ]

عن ابي الحسن الكرخي (1). وذهب كثير منهم إلى انه على التراخي وهو المحكى عن أبي علي وأبي هاشم (1). وذهب قوم إلى أنه على الوقف (1) (2) * وقال يحتمل أن يكون مقتضاه الفور أو (3) التراخي ويحتاج إلى الدليل. واختلفوا: فمن اجاز منهم تأخير البيان عن حال الخطاب في المجمل قال: متى لم يدل دليل (4) في حال الخطاب على انه اراد الفعل في الثاني قطعت على انه غير مراد فيه وتوقف في الثالث والرابع وما زاد عليه وكذلك إذا جاء الوقت الثاني ولم يبين له انه مراده في الثالث قطعت على انه غير مراد فيه ثم على هذا التدريج. هذا الذي اختاره سيدنا المرتضى (5) رحمه الله (6). ومن لم يجز تأخير بيان المجمل عن حال الخطاب لم يجوز ذلك (7) *.


[ 227 ]

والذي اذهب إليه هو الاول. والذي يدل على ذلك: انه قد ثبت بما دللنا عليه ان الامر يقتضى الايجاب فلو لم يقتضى الفعل في الثاني لم ينفصل مما ليس بواجب في هذه الحال لان ما ليس بواجب هذا حكمه من انه يجوز تركه وهذا لا حق به وهذا يؤدى إلى نقض كونه موجبا (1) *. فان قالوا: انه وان جاز تأخيره فلا يجوز ذلك الا إلى بدل وهو العزم. وربما قالوا: انما يجوز له أن يؤخر بشرط أن يفعل في الثالث وكذلك فيما بعد. قيل له: على الوجه الاول اثبات العزم يحتاج إلى دليل حتى يصح أن يكون مخيرا بينه وبين الفعل فأما إذا لم يثبت ذلك فكيف يجعل مخيرا بينه وبينه ولا فرق بين من اثبته من غير دليل وبين من اثبت فعلا اخر وجعله مخيرا بينه وبينه فلما كان هذا فاسدا بلا خلاف كان العزم مثله. وليس لهم أن يقولوا: نحن لا نثبت العزم الا بدليل وذلك انه لما ثبت ان الفعل واجب وكانت الاوقات في ادائها متساوية اثبتنا العزم والا انتقض كونه واجبا. وذلك ان هذا انما يتم إذا ثبت لهم ان الاوقات متساوية في الاداء ودون ذلك خرط القتاد. وايضا: فلو كان مخيرا بينه وبين العزم لجاز له أن يقتصر عليه ولا يفعل الواجب لان هذا حكم سائر الابدال وفي ذلك إغراء له بترك الواجب وألا يفعل


[ 228 ]

شيئا منه اصلا ويقتصر على العزم ابدا وفي ذلك خروج عن الدين. فاما من قال: انه يجوز له تأخيره بشرط أن يفعل في الثالث فقوله يفسد من وجهين. احدهما: ان على هذا القول صار مخيرا في الوقت الثاني بين فعله وان لا يفعل وهذه صفة الندب. والثاني: انه لا يعلم انه يفعل في الثالث حتى يصح منه تأخيره عن الثاني إليه. وفي بطلان الوجهين معا ثبوت ما قصدناه. ومما يدل ايضا على ان الامر يقتضى الفور: ان الامر في الشاهد يعقل منها الفور الا ترى ان من امر غلامه بفعل فلم يفعل استحق الذم فلو (1) كان يقتضى التأخير لجاز له أن لا يفعل ويعتل بذلك ويقول: انا مخير بين الفعل وبين العزم عليه فلم اذم. وفي علمنا ببطلان هذا لاعتلال دليل على انه اقتضى الفور. وليس لهم أن يدعوا قرينة دلت على انه يقتضى الفور لاجلها ذم وذلك ان القرينة المدعاة غيره معقولة فيحتاجون إلى ان يبينوها. وايضا فانه يذمه من لا يعرف القرينة اصلا. فعلم انه انما يذمه لانه عقل من مقتضى الامر الفور دون التراخي. ومما يدل ايضاا على ان الامر يقتضي الفور: انه لا يخلو من ان يكون المأمور يجوز له تأخير الفعل لا إلى غاية أو إلى غاية فان جاز له تأخيره ابدا لا إلى غاية ففى ذلك إخراج له من كونه واجبا وان كان يجوز له تأخيره إلى غاية كان ينبغى ان يكون تلك الغاية معلومة وكانت تكون مثل الاوامر الموقتة ومتى لم يعلم ذلك كان مكلفا لايقاع الفعل في وقت لا طريق له إلى معرفته وذلك تكليف بما لا يطاق (2) *.


[ 229 ]

فان ذكروا: انه يكون مخيرا بين الفعل والعزم لا إلى غاية. كان الكلام عليهم ما تقدم (1) من ان في ذلك افساد (2) * التكليف وان يقتصر المكلف من فعل الواجبات على العزم فحسب فلا يفعل شيئا منها وذلك خلاف المعقول والدين جميعا. فاما من قال هربا (3) * من ذلك: انه يتعين الوقت عليه إذا غلب في ظنه انه متى لم يفعل اخترم أو عجز عنه. فانه يقال له: واى امارة توجب هذا الظن المدعى ؟ و ذلك لا سبيل له إليه على انه إذا كان مخيرا بين الفعل والعزم فلو غلب في ظنه فوت الفعل لم يغلب في ظنه فوت العزم فينبغي ان يجوز له الاقتصار عليه. وفيمن وافقنا على هذا المذهب (4) من استدل على ذلك بقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (5) وبقوله: (فاستبقوا الخيرات) (6). وذلك يضعف الاحتجاج (7) به لان الظاهر من الاية انه امر بالتوبة لانها هي


[ 230 ]

التى يحصل عندها الغفران وذلك متفق عليه انه على الفور. فاما الفعل الواجب الذى لم يتقدمه غيره من المعاصي حتى يغفر فكيف يحمل عليه ؟ فان حمل على ان المراد بذلك استحقاق الثواب تصير الاية مجملة (1) * لانه يستحق الثواب بالواجب والندب وليس الندب واجبا اصلا. ومنهم من استدل على ذلك بان قال: ان الامر يقتضى ايقاع الفعل في وقت من جهة الحكمة وان لم يكن مذكورا في اللفظ فاشبه ما يقتضيه العقود والايقاعات من الطلاق والعتاق فكما ان ذلك كله على الفور وجب مثله في الامر. وهذا لا يصح الاستدلال به من وجهين. احدهما: ان هذا قياس ونحن لا نقول بالقياس اصلا فكيف يمكننا ان نعتمد على ذلك ؟ ومن قال بالقياس لا يمكنه ايضا ان يعتمد هذه الطريقة لان القياس يوجب غلبة الظن وهذه المسألة طريقها العلم (2) * فلا يمكن الاعتماد فيها على القياس. [ الثاني ] (3): ولو جاز استعمال القياس في ذلك لكان هذا الاستدلال قرينة اقترنت إلى ظاهر الامر والقوم لا يمتنعون من ذلك وانما الخلاف في الاوامر المطلقة الخالية من القرائن فعلم ان المعتمد ما قدمناه. وإذا ثبت ان الامر على الفور فمتى لم يفعله في الثاني احتاج إلى دليل اخر في وجوبه عليه في الثالث على ما بيناه فيما تقدم (4) وفى ذلك بطلان مذهب (5) من


[ 231 ]

قال: ان بالامر الاول يلزمه الفعل في الثالث والرابع إلى ان يحصل الفعل. واستدل من قال (1): ان الامر يقتضى التراخي (2) بان قال: ان الامر انما يقتضى كون الفعل واجبا وليس للاوقات ذكر في اللفظ وليس بعضها بان يوجب ايقاعه فيه باولى من بعض فينبغي ان يكون مخيرا فيه لانه لو اراد ايقاعه في بعضها لبينه فمتى لم يبينه دل على انه مخير في ذلك كله (3). والجواب عن ذلك ان يقال: ان الاوقات وان لم تكن مذكورة في اللفظ فوقت الفعل هو الثاني وهو معلوم بالادلة التى ذكرناها (4) فيجب المصير إلى مقتضاها. وقولهم: انه لو اراد ايقاع الفعل في الثالث (5) لبينه. فعندنا انه بينه بالادلة التى قدمناها (3). ثم لاصحاب الوقف ان يقولوا: ولو اراد التراخي لبينه فيجب ان يتوقف في ذلك وينتظر البيان. ومتى اعتمد ذلك اصحاب الوقف كان الكلام عليهم ما تقدم من ان الدليل قد


[ 232 ]

دل على انه يقتضى الفعل في الثاني (1). وان اعتمدوا على انهم وجدوا الاوامر مستعملة في الفور والتراخى (2). فقد بينا ان نفس الاستعمال لا يدل على ان ما استعملوه حقيقة (3) وذلك مجاز عندنا إذا استعمل على ما قالوه. وهذا جملة كافية في هذا الباب.


[ 233 ]

فصل [ 14 ] (في الامر المؤقت ما حكمه ؟ (1)) يجوز ان يرد الامر من الحكيم بعبارة معلقة بوقت يقصر الوقت عن أدائها


[ 234 ]

فيه (1) فان لم يقصر عن ذلك نظر فيه: فان كان مما يستغرق اداء العبادة فيه وجب اداؤه فيه بلا خلاف (1) وذلك نحو الصوم المعلق بالنهار فانه يجب اداؤه في جميعه. وان كانت العبادة يمكن اداؤها في بعضه فاختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: الوجوب متعلق باول الوقت (1). ومنهم من قال: يجب اداؤه في اخره (1). ومنهم: من جعله مخيرا بين ادائه في اوله واخره وفيما بين ذلك فان اخره إلى آخره تضيق عليه الاداء (1) فيه ثم اختلفوا: فقال قوم منهم: يجب عليه الفعل في اوله فمتى لم يفعل يجب عليه العزم على فعله في اخره (2).


[ 235 ]

ومنهم من قال: هو مخير في الاوقات كلها ولا يجب عليه العزم (1). ومن العلماء من وقف في ذلك وانتظر البيان وقال: كل ذلك جائز. والذى يقوى في نفسي: انه إذا وردت العبادة معلقة بوقت له اول واخر من جهة اللفظ فانه يكون مخيرا بين ادائها في اوله واخره فان لم يفعل في اوله وجب عليه العزم على ادائه في اخره ثم يتضيق في اخر الوقت وذلك نحو ان يقول الله: (تصدق اليوم بدرهم) (وصم في هذا الشهر يوما) فانه يكون مخيرا بين ان يتصدق في اول النهار أو وسطه أو اخره وكك يكون مخيرا بين ان يصوم في اول الشهر أو وسطه أو اخره الا ان يقوم دليل على انه واجب في اوله فيخرج عن هذا الباب. والذى يدل على ذلك: ان الوقت الثاني مثل الوقت الاول في تناول الامر له باداء العبادة فيه فليس لنا ان نجعل (2) احدهما هو الواجب فيه دون الاخر فينبغي ان يكون مخيرا في الاوقات كلها. وليس لهم ان يقولوا: ان هذا يرجع عليكم في اخر الوقت فانكم جعلتموه مضيقا ! فان ذلك لابد منه في اخر الوقت لانه ان لم يفعل (3) ذلك ادى إلى فوات العبادة وليس كذلك الوقت الاول لانه إذا لم يفعل فيه فالوقت الثاني وقت له. وليس لاحد ان يقول: ان هذا ينتقض بما ذكرتموه في الباب الاول من ان الامر يقتضى الفور وانه يجب المأمور به عقيبه. وذلك انا انما قلنا ذلك في الاوامر المطلقة التى لها وقت واحد فحملناه على الفور وحمل مخالفونا على التراخي لما لم يكن في اللفظ تعيين الوقت وليس كذلك


[ 236 ]

في الامر الموقت لانه عين (1) فيه الوقت وذكر اوله واخره فقلنا انه مخير فيهما. فان قيل: فكيف اوجبتم العزم بدلا منه في الوقت الاول ولم يذكر العزم في اللفظ ؟ وهلا لزمكم ما الزمتموه من خالفكم في الامر المطلق وانه يقتضى التراخي واوجب العزم بدلا منه في كل الاوقات ؟ قيل له: إذا ثبت ان الامر يتناول الوقت الثاني كتناوله الوقت الاول وهو يقتضى الوجوب فمتى لم يثبت العزم بدلا منه في الاول ادى ذلك إلى خروجه عن كونه واجبا فلاجل ذلك اوجباه وليس كذلك في الامر المطلق لانه لم يثبت للخصم انه يجب في الاوقات ولا ان الامر تناول الاوقات على جهة البدل فيثبت العزم بدلا منه في الاول بل كان الوقت الذى يلزمه اداء الفعل فيه هو الثاني لم يجز ان يثبت العزم بدلا منه واحتاج المخالف في اثبات ذلك إلى دليل. فاما من قال: انه يجب تأخيره فمتى فعل في الاول كان نفلا (2). فذلك نقض لاقتضاء الامر الايجاب وانتقال إلى مذهب من يقول انه يقتضى الندب وذلك خلاف الصحيح على ما دللنا عليه. فإن قال: لو كان واجبا في اوله لكان متى لم يفعله فيه استحق الذم لان بذلك يتميز الواجب من النفل فلما لم يستحق الذم بالا يفعل في الاول علمت (3) انه نفل فيه. قيل له: انما يجب ان نقول بسقوط الذم عمن لم يفعل فعلا بعينه على انه ندب فيه إذا لم يكن هناك امر يسند ذلك إليه الا كونه نفلا فاما إذا كان هناك امر يسند إليه ذلك فلا يصح الا ترى انه إذا فرضنا ان هناك ما يقوم مقامه ويسد مسده من الواجب فمتى لم يفعله وفعل ذلك الامر لم يستحق الذم وانما يتم ذلك في الامر المضيق اما


[ 237 ]

بفعل واحد أو وقت واحد فمتى لم يفعله بعينه أو في ذلك الوقت استحق الذم وقد بينا ان هذه المسألة بخلاف ذلك وان هناك عزما يقوم مقامه. فان عادوا إلى ان يقولوا: العزم ليس عليه دليل كرر عليهم الكلام الاول وهو انه إذا تناول الامر الوقت الثاني كتناوله للوقت الاول فلابد – متى لم يفعل في الاول – من عزم والا خرج من كونه واجبا إلى (1) ان يكون نفلا وقد ثبت انه واجب. فان قالوا: إذا جاز لكم ان تعدلوا من ذلك إلى فعل العزم جاز لنا ان نعدل إلى انه نفل والا فما الفرق ؟ قيل له: حمله على كونه نفلا نقض لكونه واجبا وليس في ايجاب العزم نقض لكونه واجبا على ما بيناه فكان ذلك فرق بين الموضعين. فان قيل: فعلى هذا المذهب ما قولكم في صلاة الظهر التى لها وقتان اول واخر وكذا سائر الصلوات ؟ قيل له: اختلف العلماء في ذلك واصحابنا ايضا: فمن الفقهاء من جعل الفرض متعلقا باخر ومتى فعل في الاول كان نفلا وربما سماه (موقوفا) على ان ياتي عليه الوقت الاخير وهو على الصفة التى يحب عليه معها فعل الصلاة ويخرج الوقت فيحكم له بالوجوب ومع تسميته نفلا يكون قد اجزأ عن الواجب (2) وهذا هو المحكى عن ابى الحسن الكرخي من اصحاب ابى حنيفة (3). وذهب باقى الفقهاء إلى انه مخير في الاوقات كلها ثم اختلفوا:


[ 238 ]

فمنهم من رجح الوقت الاول بالفضل (1). ومنهم من لم يرجح وسوى بين الاوقات (2). واصحابنا اختلفوا: فكان شيخنا أبو عبد الله (3) يذهب إلى ان الوجوب يتعلق باوله وانه متى لم يفعل استحق الذم والعقاب الا انه متى تلافاه سقط عقابه (4). وذهب سيدنا المرتضى إلى انه مخير في الاوقات كلها اولها واخرها غير ان اداؤها في اول الوقت افضل (5). وإذا نصرنا المذهب الاول نقول: انما قلنا ذلك لانه لم يخير على كل حال بين الصلاة في اول الوقت واخر الوقت وانما فرضه الوقت الاول فلا يصح ان يجعل مخير بينه وبين ما لم يجعل له وجرى ذلك مجرى الامر المضيق المعين بوقت متضيق (6). وليس لهم ان يقولوا: ان ذلك ينقض ان تكون الصلاة لها وقتان. وذلك انا نقول: إذا نصرنا هذا المذهب ان لها وقتين في الجملة وبالاضافة إلى مكلفين واما (7) إذا اضفناها إلى كل واحد من المكلفين فان لها وقتا واحدا فيكون الوقت الاول لمن لا عذر له ولا مانع يمنعه من فعل الصلاة فيه من علة أو مرض أو شغل دينى أو دنياوى والوقت الثاني يكون وقت من له بعض هذه الموانع فتكون للصلاة وقتان بالاضافة إلى من وصفناه.


[ 239 ]

فان قالوا: هذا خلاف الاجماع لان الامة كلها تقول: ان كل صلاة لها وقتان فلا يفصلون هذا التفصيل. قيل له 6 هذا اجماع مدعى (1) لان من خالف في هذا يخالف فيه ويرجع في ذلك إلى الروايات الصادرة عن ائمة الهدى عليهم السلام. ومتى نصرنا المذهب الاخر فالمعتمد فيه على ظاهر الامر وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين لكل صلاة وقتين وقال: (ما بينهما وقت) (2) ولم يفصل فينبغي ان يكون مخيرا فيها ويقوى ذلك باخبار كثيرة وردت عن ائمة الهدى عليهم السلام متضمنة لذلك وتعارض تلك الاخبار. والكلام في تعيين هذه المسألة كلام في فرع والذى ذكرناه اولا كلام في الاصل فلا ينبغي ان يخلطهما جميعا (3). ويمكن ان ينصر المذهب الاول في الصلوات بان يقال: الاحتياط يقتضى اداءها في الاول لانه إذا تناول الامر ذلك والاخبار تقابلت في جواز تأخيرها عن اول الوقت والمنع من ذلك فينبغي ان يتعارض ويرجع إلى ظاهر الامر في وجوب الصلاة في الوقت الاول. فان قيل: لو كانت الصلاة واجبة في اول الوقت لا غير لكان متى لم يفعل فيها استحق العقاب واجمعت (4) الامة على انه لا يستحق العقاب ان لم يفعلها في اول الوقت. فان قلتم: انه اسقط عقابه.


[ 240 ]

قيل لكم: وهذا ايضا باطل لانه يكون اغراء بالقبيح لانه إذا علم انه متى لم يفعل الواجب في الاول – مع انه يستحق العقاب عليه – سقط عقابه كان ذلك اغراء قيل له: ليس ذلك اغراء لانه انما علم اسقاط عقابه إذا بقى إلى الثاني واداها وهو لا يعلم انه يبقى إلى الثاني حتى يؤديها فلا يكون مغرا بتركها. وليس لهم ان يقولوا: فعلى هذا لو مات عقيب الوقت الاول ينبغى ان لا يقطع على انه غير مستحق للعقاب وذلك خلاف الاجماع ان قلتموه. وذلك ان هذا الاجماع غير مسلم بل الذى نذهب إليه ان من مات في الثاني مستحق للعقاب وامره إلى الله تعالى ان شاء عفا عنه وان شاء عاقبه فادعاء الاجماع في ذلك لا يصح. فاما من خير بين الاوقات ولم يوجب العزم في الاول بدلا (1) منه فان ذلك ينقض كونه واجبا لان هذا حكم الندب فما (2) ادى إلى مساواة الواجب للندب ينبغى ان يحكم ببطلانه. ومن قال: انه نفل في الاول (3) فقوله يبطل بما ثبت من اقتضاء الامر الايجاب فمن خالف في ذلك كان الكلام في مسألة اخرى وقد مضى الكلام فيها (4). ويدل ايضا على بطلان هذا القول: ان الصلاة في اول الوقت لو كانت نفلا لكان


[ 241 ]

متى نوى بها النفل لكانت تجزئ عن الفريضة لان النية المطابقة للصلاة اولى بأن تجزئ معها الصلاة من النية المخالفة لها وقد اجمعوا على انه متى نوى بها النفل لم يجزه فبطل بذلك كونها نفلا في الاول. واما إذا قال: انها موقوفة فكلامه غير محصل لان الوجوه التى تقع عليها الافعال فتكون واجبة أو ندبا لا تتأخر (1) عن حال الحدوث ولا تكون امورا منتظرة فان وقعت الصلاة في الوقت الاول على وجه الندب فينبغي ان يكون ندبا – وان خرج الوقت – وقد اجمعوا على خلاف ذلك وان وقعت واجبة فان ذلك يبطل كونها ندبا. فاما ما يتفرع على هذه المسألة من وجوب القضاء على الحائض إذا طهرت في اخر الوقت أو سقوطه عنها فكلام في الفرع وقد بينا الصحيح من ذلك في كتب المصنفة في الفقه (2) فمن اراد ذلك وقف عليه من هناك. وهذه جملة كافية كافية في هذا الباب.


[ 242 ]

فصل [ 15 ] (في ان الامر هل يدخل تحت امره ام لا (1)) اعلم ان الصحيح انه لا يجوز ان يدخل الامر تحت امره ويفارق ذلك الخبر. والذى يدل على ذلك: ان الامر لا يكون آمرا الا باعتبار الرتبة فيه على ما بيناه


[ 243 ]

فيما تقدم (1) وهى ان يكون الامر فوق المأمور وهذا لا يصح ان يدخل بين الانسان وبين نفسه والخبر ليس كذلك فانه يجوز ان يخبر الانسان عن نفسه ويجمع بينه وبين غيره في تناول الخبر لهما لان الرتبة غير مراعاة في الخبر. وليس لهم ان يقولوا: ليس هذا المثال مثالا للامر لانكم قلتم (لا يحسن ان يامر الانسان نفسه) ومثل هذا موجود في الخبر لانه لا يحسن ايضا ان يخبر نفسه فاما الاخبار عنها فليس بمشبه (2) لذلك وذلك انه انما لا يحسن ان يخبر الانسان نفسه لانه عبث لان الخبر انما وضع للافادة فإذا كان عالما بما يخبر به فاخباره نفسه بذلك لا فائدة فيه وكان عبثا. وليس كذلك الامر لانه انما قبح لفقد الرتبة المراعاة في كونه آمرا. وكذلك القول إذا اخبر غيره بلفظ فلا يجوز ان يقصد باللفظ اخبار نفسه لما قلناه من انه عبث وانما قلنا انه يصح ان يخبر عن نفسه ليعلم بذلك ان الرتبة غير مراعاة في الخبر اصلا. فإذا ثبتت هذه الجملة فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم إذا امر غيره بفعل لا يدل ذلك على انه مامور به ايضا الا ان يدل دليل على ذلك فيحكم به لاجل الدليل ويفارق ذلك افعاله صلى الله عليه وآله وسلم لانها بالعكس من اوامره لان افعاله تختصه ولا يعلم انها متعدية إلى غيره الا بدليل واوامره متعدية ولا يعلم تناولها له الا بدليل فاختلف الامران.


[ 244 ]

فصل [ 16 ] (في ذكر الشروط التى يحسن معها الامر). اعلم انه لا يحسن الامر الا بعد ان يكون: الآمر على صفة. والمامور على صفة. والمأمور به على صفة. والامر على صفة. فإذا اجتمع ذلك كله حسن الامر ومتى اختل شئ من ذلك لم يحسن ونحن نبين جميع ذلك. واما ما يجب ان يكون عليه الآمر: فان كان ممن يعلم العواقب وهو الله تعالى فلابد من ان يكون (1):


[ 245 ]

عالما بان المأمور يتمكن من اداء ما امر به (1). ويعلم ان المأمور به على وجه يحسن (2) الامر به. ويعلم انه مما يستحق بفعله الثواب (3). ويكون غرضه وصوله إلى الثواب (4). واما إذا كان الآمر ممن لا يعلم العواقب من الواحد منا فانه يحسن منه الامر إذا ظن في المأمور ما ذكرناه بان يشترط اداؤه ان قدر عليه لانه إذا لم يعلم العواقب فان الظن يقوم له مقام العلم ولو لم يحسن مع الظن لما حسن من الواحد منا ان يامر غيره


[ 246 ]

البتة لانه لا طريق له إلى العلم بانه يقدر عليه أو لا يقدر عليه في المستقبل. ولابد ان يعلم حسن المأمور به ويقصد بذلك وجها حسنا ولا يقوم الظن في ذلك مقام العلم والشرط لا يدخل في ذلك كما دخل في كونه قادرا ولاجل هذا لا يحسن منا ان نامر غيرنا بفعل في الغد الا بشرط ان يكون قادرا عليه في الغد ولا يجوز ان نامره بفعل لا نعلم حسنه في الحال فبان الفرق بين الامرين. ولو ان قائلا سوى بين حسن الشرط في الامرين لم يكن ذلك بعيدا لان الواحد منا يامر غلامه بان يرد وديعة انسان عليه في الغد ولابد من اشتراط كونه قادرا عليه في حال الرد ولابد من شرط كونه حسنا في ذلك الوقت ايضا لانه لو عرض في حال الرد وجه من وجوه القبح من غصب ظالم لها أو غير ذلك من وجوه الفساد لم يحسن ردها في تلك الحال. واما القصد بذلك وجها من وجوه الحسن فلابد منه على كل حال. ومن الناس (1) من جوز في القديم تعالى ايضا (2) ان يامر المكلف بشرط ان يبقى على كونه قادرا قبل حال الفعل بوقت والا يمنعه منه. والصحيح الاول لان الشرط انما يصح فيمن لا يعلم العواقب فاما من يعلمها فلا يحسن منه ذلك. ومتى قيل: انه يحسن ذلك ويكون ذلك الامر لطفا لغير هذا المكلف كان ذلك ايضا فاسدا لانه لا يلو من ان يكون المأمور نفسه ذلك الفعل مصلحة له أو لا يكون كذلك فان كان مصلحة له فيجب اقداره عليه والا يمنع منه وان لم يكن مصلحة له فلا يحسن ان يوجب عليه ما هو لطف للغير فلاجل ذلك قلنا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابد ان يكون له في تحمله اعباء الرسالة لطف ولولا ذلك لما وجب عليه


[ 247 ]

الاداء فكذلك القول ههنا. ولابد ان يكون القديم تعالى عالما بان المكلف يفعل ما امر به ولا يعصيه فيه (1) أو يكون في ذلك لطف للغير ان علم انه يعصى على ما نقوله في قبح تكليف من علم الله انه يكفر إذا لم يكن فيه لطف للغير. ومن خالف في ذلك لم يشترط هذا الشرط (2). ومن الناس من شرط في حسن امر الله تعالى ان لا ينهى عنه في المستقبل ومنهم من لا يشترط ذلك ونحن نبين الصحيح في ذلك في باب الناسخ والمنسوخ ان شاء الله. واما الصفات التى يجب كون المأمور عليه فهى: ان يكون متمكنا من ايقاع الفعل على الوجه الذى امر به (3) فان كفى في ذلك مجرد القوة (4) اقتصر عليه وفعلت فيه قبل الفعل بحالة واحدة أو قبل ذلك باحوال (5).


[ 248 ]

وان كان الفعل يحتاج إلى العلم فلابد من حصوله في حال وقوع الفعل فان كان العلم من فعله مكن قبل ذلك من سببه باوقات يمكنه تحصيل العلم فيها في حال الفعل. وان كان يحتاج إلى نصب الادلة نصبت له لينظر فيها فيعلم ما كلف. وان كان محتاجا إلى الة مكن منها فان كانت محلا للفعل مثل اللوح في الكتابة والسكين في القطع وغير ذلك أو ما يكون في حكم المحل مكن منها في حال الفعل. وان كانت الالة مما يحتاج إلى تقدمها مكن منها قبل الفعل مثل القوس في الرمى. وان كان الفعل يحتاج إلى آلة (1) في حال الفعل وقبله مكن منها في الحالين على ما قلناه في السكين في القطع وغير ذلك. وان كان الفعل يحتاج في ايقاعه على وجه إلى الارادة (2) مكن فيها ولا يصح منعه منها عند من قال بالارادة (3). وما يحتاج إلى النظر والسبب فلابد من تمكينه منهما. ومن شرائطه ايضا اللازمة: الا يكون ملجئا إلى ما امر به هذه صفته لا يحسن أمره (4) الا ترى انه لا يحسن ان يكلف الانسان ان لا يقتل نفسه لانه ملجأ إلى


[ 249 ]

ذلك وكذلك الواقف بين يدى السبع لا يحسن ان يكلف العدو. فاما من قال: لا يحسن ان يكلف الانسان قتل نفسه لانه ملجأ إلى ذلك فغلط لان الالجاء انما هو إلى ان لا يقتلها فاما إلى قتلها فليس بحاصل. وعلى هذا يحسن ان يكلف قتل نفسه ولهذا اخبر الله تعالى عن قوم فيما مضى انه كلفهم قتل نفوسهم بقوله تعالى: (اقتلوا انفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) (1) وكذلك يحسن ان يكلف من شاهد السبع الوقوف لان الالجاء انما هو إلى الهرب لا إلى الوقوف. واما الصفات التى يجب كون الامر عليها: فان يكون متقدما على الوقت الذى كلف المأمور ان يفعل فيه (2) لانه متى لم


[ 250 ]

يتقدم لم يفد الترغيب (1) في الفعل. ولا يصح منه ان يستدل به على وجوبه عليه فيجب تقدمه عليه من هذا الوجه. فاما قول من قال من المجبرة: ان ما يتقدم يكون اعلاما ومن شرط الامر ان يقارن الفعل (2) فغلط لانه ان ارادوا بقولهم: انه اعلام انه مما يصح ان يعلم به لزوم المأمور به في وقته فهو خلاف في عبارة (3). وان قالوا: يعلم به ان الآمر سيحدث في وقته امرا اخر فليس في الامر المتقدم دلالة على ذلك. على ان هذا القول من قائله دفع لما يعلم ضرورة خلافه لان الاوامر في الشاهد لا يكون قط الا متقدمة ومتى لم تكن كذلك لم تحسن فكك اوامر الله تعالى الا ترى انه انما يحسن من الواحد منا ان يامر غلامه ان يسقيه ماء قبل ان يسقيه ويصح (4) منه ان يسقيه فاما في حال ما سقاه فلا يحسن ذلك فمن ارتكب حسن ذلك كان دافعا للضرورات. واما تقدمه قبل وقت الفعل باوقات (5) فليس بواجب لكنه يحسن إذا كان فيه معنى نحو ان يكون فيه صلاح لمن خوطب به بان يكلف اداؤه إلى من امر به ممن يوجد في المستقبل نحو اوامر الله تعالى لنا في وقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (اقيموا الصلوة) (6) لانه لا خلاف بين الامة انه امر لسائر المكلفين وان اهل كل عصر قد كلفوا اداؤه إلى اهل العصر الثاني.


[ 251 ]

ويدل على حسن ذلك ايضا: انه يحسن في الشاهد ان يامر الواحد منا غلامه بفعل بعد اوقات كثيرة. ويحسن من الموصى ان يوصى لولد ولده ولمن يجئ بعدهم من النسل ويامرهم ان يفعلوا في الوصية ما يريده وهذا لا يدفع حسنه منصف. وعلى هذا قلنا: انه يحسن امر المعدوم والعاجز بان يفعل الفعل في الوقت الذى قد علم انه علته ستزاح فيه ويمكن من فعله. ويبين ذلك ان الفعل الذى امر به لا يحتاج إلى تقدم القدرة في حال الامر لانها لو وجدت في تلك الحال وعدمت في حال الحاجة إلى الفعل لم يحسن امره فدل على ان الحاجة إليه تقع قبل حال الفعل بحال ولو لم يحسن ذلك (1) لم يحسن من الواحد منا ان يامر غيره بان يفعل في غد فعلا يحتاج إلى الة مع عدمها وان علم انه يتمكن منها في غد حتى يجب الا يحسن منا ان نأمر النجار باصلاح الباب الا والالة التى بها يصلحه في يده وهذا مما لا يحتاج إلى افساده لانه معلوم ضرورة خلافه. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 253 ]

الباب الرابع الكلام في النهى


[ 255 ]

فصل [ 1 ] (في ذكر حقيقة النهى وما يقتضيه وجملة من احكامه) (1) النهى هو: (قول القائل لمن دونه: لا تفعل) كما ان الامر قوله له: (افعل) وما دل على احدهما دل على الاخر فالطريقة واحدة وانما يكون نهيا إذا أكره الناهي المنهى عنه عند من قال بذلك (2). والذى اقوله في ذلك: ما قدمت ذكره في باب حقيقة الامر (3) من ان هذه الصيغة وضعها اهل اللغة ليدلوا على ايجاب الامتناع من الفعل ثم ينظر في ذلك فان كان صادرا من حكيم دل على ان ذلك الشئ قبيح لانه لا يوجب الامتناع مما هو حسن فهو إذا دلالة على القبح. وقد ترد هذه الصورة ولا تفيد النهى على الحقيقة على ضرب من المجاز مثل ما قلناه


[ 256 ]

في صيغة الامر ولاجل هذا قلنا في قوله تعالى: (لا تقربا هذه الشجرة) (1) ان صورته صورة النهى وليس ما تناوله قبيحا بل الاولى تركه وعبر عن ذلك بانه نهى بقوله تعالى: (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة) (2) مجازا من حيث كانت صورته صورة النهى على الحقيقة الا ان هذا مجاز لا يثبت الا بدليل والاول هو الحقيقة. والدلالة على ذلك ما دللنا به على صورة الامر سواء (3). وشرائط حسن النهى تقارب شرائط (4) الامر على السواء. فاما اقتضائه التكرار أو الامتناع مرة واحدة فاكثر المتكلمين والفقهاء ممن قال: ان الامر يقتضى مرة واحدة ومن قال: انه يقتضى التكرار قالوا في النهى انه يقتضى التكرار (5). ومنهم من سوى بينهما وقال الظاهر يقتضى الامتناع مرة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل. ومنهم من وقف في ذلك كما وقف في الامر. والذى يقوى في نفسي: ان ظاهره يقتضى الامتناع مرة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل وانما قلنا ذلك من حيث ان النهى إذا كان دلالة على قبح المنهى عنه إذا صدر من حكيم انما يدل على انه قبيح في الثاني لان مقتضاه الفور وما بعد ذلك من الاوقات لا يعلم ان الفعل فيها قبيح بل يحتاج إلى دليل فمن ادعى تساوى الاوقات في ذلك كمن ادعى تساوى الاوقات في اقتضاء الامر الفعل فيها وذلك باطل على ما بيناه (6).


[ 257 ]

وشبهة من قال: انه يقتضى التكرار الرجوع إلى الشاهد وان النهى يقتضى ذلك وذلك غير مسلم بالاطلاق فان استعمل في ذلك بقرينة من شاهد الحال وغيرهما فلا يمكن ادعاء الحقيقة في ذلك (1) فإذا ثبت ذلك فانما قلنا انه يقتضى الفور دون التراخي لمثل ما دللنا عليه من ان الامر يقتضى الفور فالادلة فيها سواء (2). وايضا: فلو لم يقتضى ذلك في الثاني لوجب ان يقترن به البيان فمتى لم يقترن به البيان دل على انه قبيح في الثاني. فاما النواهي الواردة في القران والسنة وانها تقتضي التأبيد فانما علمنا ذلك بدليل من اجماع وغيره فلا يمكن الاعتماد على ذلك كما ان بمثل ذلك علم ان الاوامر على التكرار عند الاكثر. فاما النهى القيد بوقت: فلا خلاف بين المحصلين انه لا يقتضى وجوب الانتهاء في غير ذلك الوقت وانما يعلم ذلك بدليل مثل ما قلنا في الامر المقيد (3). فاما النهى عن الشئ فليس بامر ضده (4) لا لفظا ولا معنى لمثل ما قلناه في الامر سواء وانما يدل على ان ما عدا المنهى عنه من اضداده مخالفا له إذا كان صادرا من حكيم لانه إذا كان دلالة على القبح فما عدا ذلك الشئ لو كان قبيحا مثله لوجب ان ينهى عنه ايضا كما نهى عن ذلك فلما لم ينه عن جميع اضداده ولا عن بعضها دل على انه مخالف له. وقد تكون (5) مخالفته له بان تكون واجبة وندبا ومباحا فلا يمكننا ان نقول: انه لو كان في اضداده ما هو واجب أو ندب لوجب بيانه فلما لم يبين دل على انها


[ 258 ]

مباحة فان ذلك يمكن الاعتماد عليه. هذا إذا كان له اضداد كثيرة ويمكنه الانفكاك من جميعها فاما إذا لم يمكنه الانفكاك عن جميعها ولابد من ان يكون فاعلا لواحد منها فانه لا يكون ايضا واجبا عليه لانه انما يجب الشئ إذا كان مما يصح ان يفعل والا يفعل فاما ما لا ينفك عنه فلا يصح وصفه بالوجوب ولاجل هذا قلنا ايضا إذا لم يكن للمنهى عنه الا ضد واحد ويصح انفكاكه منهما جميعا فمتى لم يوجب عليه ذلك الشئ أو يندب إليه يجب ان يكون مباحا كما قلناه في الاضداد الكثيرة سواء. فاما النهى إذا تناول اشياء فلا تخلو من ان يكون متضادة أو مختلفة: فان كانت متضادة فلا تخلو من ان يصح انفكاكه من جميعها إلى امر اخر أو لا يصح ذلك فيها: فان كان يصح انفكاكه من جميعها جاز ان ينهى عنها اجمع على جهة التخير ولا يجوز ان ينهى عنها جميعا على وجه الجمع لان كونها متضادة يمنع من صحة الجمع بينها وما لا يصح الجمع بينها لا يصح النهي عنه. وان كان لا يصح انفكاكه من جميعها فلا يجوز ان ينهى عن جميعها على حال لان ذلك تكليف لما لا يطاق. وكذلك إذا نهى عن ضدين ولهما ثالث جاز ان ينهى عنهما جميعا على وجه التخيير ولا يجوز ان ينهى عنهما جميعا على الجمع لمثل ما قلناه. وان كان ما تناوله النهى اشياء مختلفة أو شيئين مختلفين فانه يصح ذلك على وجه الجمع والتخيير معا. وقول من قال: لا يصح ذلك على وجه التخير (1) غير صحيح لانه كما لا يمتنع ان


[ 259 ]

يكون فعلهما مفسدة إذا جمع بينهما فينهى عنهما جميعا على وجه الجمع. وكذلك لا يمنع ان يكون فعل كل واحد منهما إذا انفرد كان مفسدة وإذا اجتمع مع غيره لا يكون كذلك فيصح ان ينهى عنه على وجه التخيير مثل ما نقوله في الامر فالفرق بين النهى والامر في هذا الباب لا يمكن. والقول في الامر إذا تناول ضدين مثل القول في النهى سواء لانه إذا كان لهما ثالث جاز ان يؤمر بهما على التخير فلا يجوز ان يؤمر بالجمع بينهما لان ذلك مستحيل وكذلك ان لم يكن لهما ثالث جاز ان يؤمر بهما على وجه التخير فلا يجوز ان يؤمر بهما على وجه الجمع لما قلناه. فاما إذا تناول الامر اشياء مختلفة فانه يجوز ذلك على وجه الجمع والتخيير بلا خلاف وانما الخلاف في انه تكون الجميع واجبة أو واحد لا بعينه وقد قلناه ما عندنا في ذلك فاغنى عن الاعادة. وهذه جملة كافية في هذا الباب وما عدا ما ذكرناه احكام النهى فيه احكام الامر على السواء فلا معنى لتكرار القول فيه.


[ 260 ]

فصل [ 2 ] (في ان النهى يدل على فساد المنهى عنه ام لا (1) ؟) ذهب اهل الظاهر وكثير من الفقهاء من اصحاب الشافعي وابى حنيفة وكثير


[ 261 ]

من المتكلمين إلى ان النهى يدل على فساد المنهى عنه (1). وذهب اكثر المتكلمين والباقون من الفقهاء إلى ان ذلك لا يدل على كونه غير مجز (2) وهو الذى حكاه أبو عبد الله البصري عن ابى الحسن الكرخي وذهب إليه بعض اصحاب الشافعي (1). وينبغى ان نبين اولا تحقيق الخلاف في ذلك وما المراد به ثم نتكلم في صحة ذلك أو فساده. فمعنى قولنا: (ان المنهى عنه غير مجز) هو ان الذمة إذا تعلقت بها عبادة يجب اداؤها على شروط فمتى اداها على وجه قبيح منهى عنه فان ذمته لا تبرأ ويجب عليه قضاؤها. ومن خالف في ذلك يقول: لا يعلم بمخالفته الامر وارتكابه النهى ان ذمته غير بريئة بل لا يمتنع ان تبرأ ذمته بفعل القبيح كما تبرأ بفعل ما هو حسن. والذى يدل على صحة ما ذهبنا إليه ان كون الشئ مامورا به يقتضى كونه حسنا ومصلحة للمكلف (3) * وكونه منهيا عنه يدل على انه مفسدة له ومحال ان يكون ما هو مفسدة يقوم مقام ما هو مصلحة (4) * لان ذلك متضاد.


[ 262 ]

فان قالوا: لكان يمتنع ان يقول الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تفعل كيت وكيت ولكن ان فعلته قام ذلك ذلك مقام المصلحة) ؟ قيل له: الذى فرضته في السؤال غير ممتنع لكن ثبوت ذلك يحتاج إلى دليل والظاهر من النهى انه متى ارتكبه المأمور به لم يحصل وإذا لم يحصل فلم تحصل براءة الذمة. فان قالوا: وكذلك وجوب القضاء عليه يحتاج إلى دليل. قيل له: إذا فعل المأمور به على الوجه المنهى عنه يدل على ان ما امر به لم يفعله وإذا ثبت انه لم يفعل ما امر به فلا خلاف بين الامة انه يجب عليه قضاوه لانه لا فرق بين ان لا يصلى في انه يجب عليه القضاء وبين ان يصلى بغير طهارة في انه ايضا يجب عليه القضاء في الحالين معا. فان قالوا: الطهارة شرط في صحة الصلاة وكل موضع يثبت ان المنهى عنه شرط في صحة العبادة فانه يدل على انه غير مجزية وانما الخلاف فيما ليس بشرط في صحة العبادة هل يكونا مجزيا أو لا ؟ قيل له: فعلى هذا ينبغى ان يسقط الخلاف فانه متى فرضنا ان النهى لا يتعلق بشئ يتعلق بالعبادة ولا بشئ من شرائطها فانا لا نحكم بفساد العبادة لان على هذا التقدير يكون قد ادى العبادة على الوجه الذى امر بها والنهى انما يتعلق بشئ اخر منفصل عنها فلا تعلق بينه وبينها على حال. فان قيل: لو كان الامر على ما ذكرتم لما قام دليل على ان كثيرا من الاشياء المنهى عنها قام مقام الواجب الحسن مثل الوضوء بالماء المغصوب وغير ذلك من الاشياء التى تقرر في الشرع كونها مجزية. قيل له: إن الذى نذهب إليه ان جميع ذلك غير مجز ولا محكوم بصحته فان دل دليل على ان بعضه مجز وقام مقام الصحيح صرفا إليه بدليل. ونحن نبين جميع ذلك فيل بيان


[ 263 ]

اما الوضوء بالماء المغصوب فلا يصح (1) لان الوضوء لا يصح عندنا الا بنية القربة وذلك يقتضى كون الفعل حسنا وزيادة وذلك لا يمكن في المغصوب لانه قبيح فلا يصح التقرب به وإذا ثبت ذلك فلا يصح وضوؤه وإذا لم يصح وضوؤه فكأنه صلى بغير طهارة وإذا صلى بغير طهارة فلا خلاف انه يلزمه قضاؤها. وليس لهم ان يقولوا: ما كان يمتنع ان يقال ان هذا الفعل وان كان قبيحا فقد قام مقام ما هو حسن. قيل له: ذلك يحتاج إلى دليل ولو ان قائلا قال ذلك في الصلاة بغير طهارة وانها ما كانت يمتنع ان تقوم مقام الصلاة بطهارة فما كان جوابكم يكون جوابنا (2) وليس ذلك الا ما قلناه من ان ذلك يحتاج إلى دليل. وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح لان نية القربة بها لا تصح. وليس لهم ان يقولوا: ليست الصلاة هي الغصب بل الصلوة تشتمل على افعال لا تعلق لها بالغصب وهى حسنة تصح القربة فيها. وذلك ان الصلاة هي الاركان المخصوصة في الدار من القيام والقعود وتلك قبيحة بلا خلاف وليست الصلاة أمرا آخر منفصلا من ذلك وإذا كان كذلك ثبت ما قلناه. واما الطلاق البدعى فعندنا انه غير واقع اصلا (3) * ومن قال بوقوعه في موضع – وان وافقنا في هذا الاصل – يقول ان ذلك لقيام دليل ولو خليت وظاهر النهى يحكم (4) بانه غير مجز.


[ 264 ]

واما الوطى في الحيض وما يتعلق به من لحوق الولد وتحليل المرأة للزوج الاول ووجوب المهر كاملا ووجوب العدة وغير ذلك من الاحكام فان جميع ذلك انما يثبت بدليل ولو خلينا وظاهر النهى لما اجزنا شيئا منه على حال. فاما الذبح بالسكين المغصوبة فيمكن ان يقال: ان القبح هو التصرف في السكين فما يحصل في السكين من الافعال قبيحة وليس الذبح حالا في السكين (1) * ولا يمتنع أن يكون الذبح حسنا وان كان سببه الذي أوجبه قبيحا الا ترى ان من رمى مؤمنا فاصاب كافرا حربيا فان رميه يكون قبيحا وان كان ما حصل عنه من قتل الكافر حسنا فكك القول فيما قلناه. ويدل ايضا على صحة ما ذهبنا إليه: رجوع الامة من عهد الصحابة إلى يومنا هذا في فساد الامور وبطلانها إلى تناول النهى لها فلولا انهم عقلوا ذلك من النهى والا لم يرجعوا إليه على حال. وليس لهم ان يقولوا: انهم رجعوا إلى ذلك لدليل دلهم على ذلك. وذلك ان هذا القول ينقض رجوعهم إلى النهى لانهم إذا حكموا ببطلان الشئ وفساده لدليل دلهم على ذلك فلا تعلق للنهى بذلك ولا معنى لرجوعهم إليه. فان نازعوا في رجوعهم إلى ذلك كان ذلك دفعا لما هو معلوم خلافه وقيل لهم بينوا في شئ من الاشياء انهم رجعوا إلى العمل به لا يمكننا ان نقول في النهى مثله ؟ ويدل على ذلك ايضا: انا قد دللنا على ان الامر يقتضى إجزاء المأمور به فينبغي أن يكون النهى يقتضى كونه غير مجز لانه ضده. فان خالفونا في الامر فقد دللنا على ذلك فيما مضى (2) فاغنى عن الاعادة.


[ 265 ]

ويمكن (1) الاستدلال – بما روى عنه عليه السلام من قوله: (من ادخل في ديننا ما ليس منه فهو رد) (2) – على صحة ما ذهبنا إليه لان ارتكاب النهى خلاف الدين بلا خلاف. فان قالوا: معنى الرد في الخبر انه غير مقبول ولا يستحق عليه الثواب وذلك لما تعلق له بالاجزاء لانا قد بينا انه مع كونه غير مقبول فلا يستحق عليه الثواب لا يمتنع ان يقع موقع الصحيح. قيل لهم: ذلك تخصيص للخبر وينبغى ان يحمل الخبر على عمومه وشموله فيحكم بان ذلك لا يقبل ولا يستحق عليه الثواب ولا يقع به الاجزاء فمن ادعى تخصيصه احتاج إلى دلالة. وليس لهم ان يقولوا: انما يمكن الاستدلال بالخبر إذا ثبت ان ارتكاب النهى ليس من الدين ومن خالف في أن ذلك مجز يقول انه من الدين. وذلك انه لا خلاف في ان ذلك قبيح وما هو قبيح لا يكون من الدين لان كونه من الدين يقتضى كونه حسنا وزيادة وانما الخلاف في ان ذلك وان كان كذلك هل يجوز ان يقوم مقامه ما هو حسن ام لا ؟ وذلك يحتاج إلى دليل. وقد استدل قوم على ذلك ايضا بان قالوا: كونه مجزيا لا يخلو ان يعلم ذلك بلفظ الامر أو الاباحة (3). فان قلتم بذلك فكونه قبيحا يعلم من كونه مأمورا به ومن كونه مباحا.


[ 266 ]

واعترض من خالف في ذلك بان قال: يعلم ذلك بغير الامر أو الاباحة وهو ان يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تفعل كذا وكذا فان فعلت ذلك فقد اجزأ عنك) وقام مقام الحسن الواجب والمباح (1). واستدلوا ايضا بان قالوا: قد ثبت ان النهى عن الربا في القران دل على فساد المنهى عنه فينبغي ان يكون سائر النواهي مثل ذلك (2). واعترض من خالف في ذلك بان قال: لم نعلم ذلك بظاهر النهى بل بقرينة وهي قوله: (لا تأكلوا الربوا) (3) فلو كان ذلك مجزيا لما نهى عن اكله (2). وقالوا: النهى عن ذلك مثل النهى عن تلقى الركبان وعن البيع يوم الجمعة وغير ذلك وكل ذلك لا يدل على فساد المنهى عنه. ولمن نصر الاستدلال بالاية ان يقول: هذه المواضع لو خليت والظاهر لحكمت بفساد المعنى (4) فيها لكن دل الدليل على ان ذلك جائز فقلت به لمكان الدليل. فاما من خالف في المذهب الذي ذكرناه من ان النهى يقتضى فساد المنهى عنه وجعل الطريق الذي به يعلم فساد المنهى عنه كونه مجزيا فحكى أبو عبد الله البصري (5) عن أبي الحسن الكرخي انه متى كان وقوع المنهى عنه على الوجه الذي نهى عنه يقتضى انه واقع على غير الشرط الذي اقتضاه الشرع [ ف‍ ] وجب فساده لانه انما يصح إذا اتى به على شروطه والنهى (6) عنه قد احل بذلك وما لم تكن هذه حاله من الاشياء المنهى عنها فانه يكون مجزيا.


[ 267 ]

وذكر عن الشافعي انه ذكر في كتابه (1): ان فيما نهى عنه فاسدا وفيه ما لا يفسد ان كان النهى يقتضى كون جميعه معصية ما لم يكن المراد به التأديب. فالذي يفسد هو ان يصل إليه من طريق محرم نحو ملك الغير أو الفروج لانه إذا كان مجزيا فيتوصل إليه بما نهى عنه فيجب الاستباح. وحكى عنه قول اخر وهو: انه إذا نهى عن الفعل بوجه يختصه فوجب ان يفسد. وكلما ذكرناه انما هو على مذهب من قال ان النهى لا يدل على فساد المنهى عنه ويحتاج في الفرق بين ما هو فاسد وما ليس كذلك إلى امر اخر. ومن قال بما قلناه لا يحتاج إلى شئ من ذلك. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 268 ]

فصل [ 3 ] (فيما يقتضيه الامر من جمع واحاد) اعلم ان الواجب اعتبار ظاهر الامر فان اقتضى تناوله جميع المكلفين لزمتهم تلك العبادة وكان ذلك من فروض الاعيان وذلك مثل قوله: (اقيموا الصلوة واتوا الزكوة) (1) وما يجرى مجرى ذلك فان دل الدليل على ان المراد به بعضهم حمل عليه ولاجل هذا قلنا ان قوله: (فاقطعوا ايديهما) (2) يختص الائمة عليهم السلام ومن يقوم مقامهم في النيابة عنهم لما دل الدليل على ان ذلك من فروض الائمة وكذلك قوله: (خذ من اموالهم صدقة) (3) حملناه على ان المراد به الائمة والسعاة من قبلهم لما كان ذلك من فروضهم. وان دل الدليل على ان المأمور به مشروط بشروط حمل وجوبه على من اجتمعت تلك الشرائط فيه ولهذا قلنا: ان الامر بصلاة الجمعة مخصوص بمن كان على صفات مخصوصة واجتمعت شرائط الجمعة كلها هنا ومن لم يكن كذلك لا يجب عليه. وان دل الدليل على ان المراد بالامر حصول امر وعلم حصول ذلك الامر


[ 269 ]

ببعض من تناوله الخطاب قلنا: ان ذلك من فروض الكفايات وذلك نحو الجهاد لما كان البغية به حفظ بيضة الاسلام ودفع الاعداء عن المسلمين وكان ذلك يحصل ببعضهم كان ذلك من فروض الكفايات وكذلك القول في الصلاة على الاموات ودفنهم وحملهم إلى المقابر ومتى قام بذلك من يحصل البغية به سقط عن الباقين واجري مجرى ذلك الفقهاء طلب الفقه لان ذلك عندهم من فروض الكفايات لانهم جوزوا تقليد العلماء والرجوع إليهم ومن لم يجوز ذلك جعله من فروض الاعيان ولم يجعله من فروض الكفايات وكذلك اجرى هذا المجرى اختيار الائمة من اجاز اختيار الائمة فاما على مذهبنا فطريقة معرفة الائمة النص الثابت على اعيانهم على ما ذكرناه في كتب الامامة. فهذه الجملة كافية في هذا الباب لانها تنبه على ما زاد عليها وما يتفرع انشاء الله تعالى.


[ 271 ]

الباب الخامس الكلام في العموم والخصوص


[ 273 ]

فصل [ 1 ] (في ذكر حقيقة العموم والخصوص وذكر الفاظه) اعلم ان معنى قولنا في اللفظ (انه عام) يفيد انه يستغرق جميع ما يصلح له وبهذا الذي ذكرناه يتميز من غيره مما لا يشركه في هذا الحكم كما ان الامر والنهى وسائر اقسام الكلام يتميز بعضها من بعض بما يفيد كل واحد من الاقسام ولذلك يقال: (عم الله تعالى المكلفين بالخطاب) لما كان متوجها إلى جميعهم (1).


[ 274 ]

فاما استعمال هذه اللفظة في المعاني (1) نحو قولهم: (عمهم البلاء والقحط والمطر) وغير ذلك فالاقرب في ذلك ان يكون مجازا لانه لا يطرد في سائر المعاني فلو ان قائلا قال: ان ذلك مشترك لم يكن بعيدا (2) * وقد ذهب إليه قوم من الاصوليين. ومعنى قولنا في اللفظ: (انه خاص) يفيد انه يتناول شيئا مخصوصا دون غيره مما كان يصح ان يتناوله ولذلك يقال: (خص الله تعالى زيدا بالخطاب) لما كان متوجها إليه دون غيره من المكلفين الذين كان يصح ان يتوجه إليهم الخطاب. فاما الفاظ التثنية والفاظ الجموع والفاظ النكرات وغير ذلك فلا توصف بالعموم لما لم تكن متناولة لها على وجه الاستغراق. فاما الفاظ العموم فكثيرة نحن نذكر منها طرفا: فمنها: (من) في جميع العقلاء (3) إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام ومتى وقعت معرفة لم تكن للعموم وكانت بمعنى (الذي) وهى خاصة بلا خلاف.


[ 275 ]

ومنها: (ما) في ما لا يعقل إذا وقعت الموقع الذي ذكرناه من المجازاة والاستفهام (1) ومتى كانت معرفة لم تكن مستغرقة كما قلناه في (من) سواء. ومن الناس من قال: ان (ما) يعم ما يعقل وما لا يعقل وهى اعم من (من) وذلك محكى عن قوم من النحويين (2). ومنها (أي) فانها تستغرق ما يعقل وما لا يعقل وهى اعم من اللفظتين معا ولاجل هذا إذا قال: (أي شئ عندك) يحسن ان يجاب بما يعقل وما لا يعقل الا انها لا تفيد الاستغراق كما تفيد (من) (وما) الا ان يدل دليل على ذلك فيحكم له بحكم الاستغراق. ومنها: (متى) في الاوقات لانها تجرى في تناول جميع الاوقات مجرى (من) في تناولها لجميع العقلاء وذلك نحو ان يقول القائل: (متى جئتني جئتك) فان ذلك لا يختص وقتا دون وقت بل يتناول جميع الاوقات. ومنها: (اين) في المكان نحو قول القائل: (اين زيد) يحسن ان يجيبه بذكر كل مكان فعلم انه متناول له. ومنها: لفظي النفى إذا دخل على النكرات نحو قول القائل: (ما رايت احدا) و (ما جاءني من احد) فان ذلك يفيد الاستغراق. ومنها: اسماء الاجناس إذا دخلها الالف واللام ولم يرد بها التعريف نحو قوله تعالى: (والعصر ان الانسان لفى خسر) (3) ونحو قولهم: (اهلك الناس الدنيا والدرهم) لان ذلك يفيد الجنس كله ومتى كان التعريف كان مختصا بما عرف به نحو قول القائل: (رايت الانسان) يشير به إلى انسان معهود متقدم. فاما إذا كان خاليا من الالف واللام فانه يفيد واحدا لا بعينه نحو قول القائل:


[ 276 ]

(رايت رجلا وانسانا) وما يجرى مجراه وهذا يسميه اهل اللغة النكرة لانه لا يخصص واحدا من غيره. ومنها: الاسماء المشتقة نحو قوله تعالى: (والسارق والسارقة) (1) وقوله تعالى: (الزانية والزانى) (2) وما يجرى مجرى ذلك فانه متى كان فيها الالف واللام ولم يكن المراد بهما المعهود والمعرف افاد الاستغراق ومتى كان العهد افاد التعريف نحو قول القائل: (رأيت ضاربا وقاتلا) فانه يفيد واحدا لا بعينه. ومنها: الفاظ الجموع إذا دخلها الالف واللام فانها تفيد الاستغراق نحو قولهم: (رايت الرجال) وما يجرى مجرى ذلك فان ذلك يفيد جميع الرجال الا ان يراد بذلك التعريف والعهد فيحمل على ذلك. ومتى خلت الفاظ الجموع من الالف واللام فانها تفيد ثلاثة فصاعدا لا باعيانهم ويكون الثلاثة مقطوعا بهم وما زاد على ذلك مشكوكا فيه مجوزا. وقد اختلف المتكلمون فيما ذكرناه من الفاظ الجموع والفاظ الاجناس فذهب ابو على واكثر المتكلمين إلى ان هذه الالفاظ إذا كان فيها الالف واللام وجب حملها على الاستغراق إذا لم يكونا للعهد الا أن يدل دليل على انه اريد بهما البعض فيحمل عليه (3). وذهب أبو هاشم إلى ان ذلك لا يفيد الاستغراق وانما يفيد في اسماء الاجناس تعريف الجنس المخصوص وفي اسماء الجموع الثلاثة فقط لان الحكيم لو اراد اكثر من ذلك لبينه (3) ونحن نبين الصحيح من ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى. واتفق هؤلاء وغير هؤلاء على تناول الجموع الثلاثة فصاعدا حقيقة وان اقل الجمع ثلاثة وذهب قوم إلى ان اقل الجمع اثنان والاول هو مذهب اكثر الفقهاء (4).


[ 277 ]

ومنها لفظ (كلا): إذا دخلت في الكلام فانها تفيد الاستغراق سواء دخلت للتأكيد أو لغير ذلك واما ما يدخل للتأكيد نحو قول القائل: (رأيت الرجال كلهم) فان ذلك يفيد الاستغراق وما يدخل لغير التأكيد نحو قول القائل: (كل رجل جائنى اكرمته) و (كل عبد لى فهو حر) وعلى هذا قوله: (كما القى فيها فوج سئلهم خزنتها) (1). فهذه جملة من الالفاظ المستعملة في العموم ونحن ندل على انها تفيد العموم على ما قلناه ونذكر اختلاف الناس في ذلك والكلام على شبههم في فصل يلى هذا الفصل انشاء الله تعالى.


[ 278 ]

فصل [ 2 ] (في ذكر الكلام على ان العموم (1) * له صيغة في اللغة) ذهب الفقهاء باسرهم واكثر المتكلمين إلى ان العموم له صيغة موضوعه في اللغة تختص به (2). وقال قوم من المرجئة (3) وغيرهم: إنه ليس للعموم صيغة اصلا بل كلما يدعى انه للعموم فهو للخصوص وانما يفيد اقل ما يمكن ان يكون مرادا (4). وقال اكثر المرجئة: ان هذه الالفاظ مشتركة بين العموم والخصوص حقيقة فيهما معا. وفي الناس من قال: انه يجب حمل اللفظ على الاستغراق فيما يتعلق بالامر


[ 279 ]

والنهى ولا يجب ذلك في الاخبار. والذي اذهب إليه هو الاول والذي يدل على ذلك ان (من) إذا استعملت في المجازات يحسن ان يستثنى منها كل واحد من العقلاء فلولا انها مستغرقة لهم والا لم يجز ذلك يبين ذلك انها لما لم يكن متناولة لغير العقلاء لم يحسن ان يستثنى منها من ليس بعاقل ومن دفع حسن الاستثناء في هذا لا يحسن مكالمته. فان قيل: انما حسن الاستثناء في هذا الموضع لانه يصلح ان يكون متناولا لجميع العقلاء وان لم يكن ذلك واجبا وغير العقلاء انما لم يحسن استثناؤهم لان اللفظ لا يصلح ان يتناولهم اصلا. قيل لهم: لو كان الاستثناء انما حسن للصلاح دون الوجوب لحسن الاستثناء من النكرات وقد علمنا انه لا يحسن ان يقول القائل: (رأيت رجلا الا زيدا) وان كان لفظ (رجل) يصلح ان يقع على زيد وعلى غيره من الرجال صلاحا لما لم يكن متناولا له على طريق الوجوب. فان ارتكبوا حسن الاستثناء من لفظ (رجل) لم يحسن كلامهم لان ذلك معلوم من دين اهل اللغة خلافه. وان قالوا: انما لم يحسن الاستثناء من ذلك لان من شان الاستثناء ان لا يدخل الا على جملة ذات عدد وان لم تكن مستغرقة الا ترى انها تدخل على الفاظ الجموع التى ليست للاستغراق الا ترى انه إذا قال القائل: (رايت رجالا) يحسن ان يستثنى منها زيدا وعمروا وخالدا وبكرا ولا يقول احد: ان الفاظ الجمع الخالية من الالف واللام مستغرقة لجميع الرجال فبطل ان يكون الاستثناء دلالة على الاستغراق. قيل لهم: ان قولكم (1) ان من شان الاستثناء ان لا يدخل الا على جملة باطل لانها تدخل على لفظ الواحد المنفى الا ترى انه يحسن ان يقول القائل: (ما جاءني من احد) ثم يستثنى كل واحد من العقلاء وليس لفظ (احد) لفظ جمع.


[ 280 ]

واما الفاظ الجموع فمن الناس من يقول: انها محمولة على الاستغراق لان المتكلم بها لو اراد اقل الجموع أو جمعا دون جمع لبينه فلما لم يبين ذلك دل على انه اراد الجميع (1). ومن قال هذا سقط عنه السؤال ومن لم يقل ذلك ويقول: انها تصلح للثلاثة فصاعدا يقول لا يحسن الاستثناء من الفاظ الجموع لان من حق الاستثناء ان يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه ولما لم يكن ذلك في الفاظ الجموع لم يحسن. وربما اكدوا ذلك بان قالوا: لو حسن ذلك لحسن ان يقول: (رايت رجالا الا رجلا) يستثنون واحدا منكرا من الفاظ الجمع فلما لم يحسن ذلك دل على ان حكم المعرف مثله وانما ذلك أبين. وليس لهم ان يقولوا: انما لم يحسن استثناء المنكر لانه لا يفيد وذلك انه لو كان (2) * يحسن لما قالوه لما حسن استثناؤة من الفاظ الجموع إذا كان فيها الالف واللام وذلك نحو قول القائل: (لقيت الاشراف) فانه يحسن منه ان يقول: (الا واحدا) وان كان منكرا لما كان لفظ (الاشراف) مستغرقا من حيث كانت فيه الالف واللام فعلم بذلك (3) * انه انما امتنع في الموضع الذي امتنع لمكان الصلاح (4) * لا لعلة


[ 281 ]

اخرى. فاما من قال: انه انما لم يحسن الاستثناء من لفظ الواحد المنكر في الاثبات من حيث انه كان من حق الاستثناء ان يميز ذاتا من ذات وإذا قال: (رأيت رجلا) ثم قال: (الا زيدا) فلم يميز ذاتا من ذات لان الذات واحدة وانما ميزها بصفة كانه قال: ليس صفتها ان يكون زيدا وذلك ضد حقيقة الاستثناء. فان ذلك يبطل بما قلناه من لفظ النكرة في النفي وقولهم: (ما جاءني من احد) فان اللفظ واحد والتميز يقع ها هنا بالتسمية والصفة ومع ذلك فانه يحسن الاستثناء بلا خلاف على ان الذي ذكروه غير صحيح لان لفظ (رجل) يقع على كل رجل صلاحا فإذا استثنى بعض الرجال فقد ميز ذاتا من غيرها على ما تقتضيه حقيقتها. فان قالوا: كيف يكون الاستثناء دليلا في هذا الموضع ونحن نعلم ان القائل إذا قال: (من دخل دارى اكرمته) لم يحسن ان يقول: (الا الشياطين) وان كانوا من العقلاء ؟ وكذلك إذا قال: (من دخل دارى ضربته) لم يحسن ان يقول: (الا الملائكة) وان كانوا من جملة العقلاء ؟ فعلم بذلك ان الاستثناء ليس بدلالة على ان اللفظ متناول لجميع العقلاء. قيل لهم: ان الذي ذكرتموه لا ينقض استدلالنا لان هذا السؤال يتضمن ان اللفظ قد يشمل على من لم يحسن استثناؤه وذلك لا يضرنا وانما كان ينقض دليلنا لو تبينوا حسن الاستثناء من لفظ لا يتناول ما استثنى وذلك متعذر على ما بيناه. على انه انما لم يحسن استثناء واحد من الفريقين المذكورين في السؤال من حيث علمنا بالعادة انه لم يقصدهما باللفظ فصار الفريقان في حكم ما لم يتناوله اللفظ اصلا ومتى فرضنا ان الكلام صادر من الحكيم تعالى حسن ان يقول: (من عصاني عاقبته الا ابليس) لما كان اللفظ متناولا له وجاز أن يكون مقصودا به وانما امتنع في الواحد منا لما قلناه. فان قالوا: لو كان قول القائل: (من دخل دارى ضربته) متناولا لجميع العقلاء لم


[ 282 ]

يحسن ان يستفهم فيقال: (وان دخلها نبى) أو (وان دخلها أبوك) ؟ فلما حسن هذا الاستفهام دل على ان اللفظ مشترك وانما يستفهم عن مراده بها. قيل لهم: لا نم انه يحسن الاستفهام في هذا الموضع على كل حال وعلى كل وجه وهو انه إذا كان المخاطب عالما باللغة وكان حكيما لا يجوز عليه التعمية ولم يقرن بخطابه ما يدل على انه اراد بعضه أو تخصيصه وكان المخاطب ايضا عالما باللغة وبموضوعها لم يحسن ان يستفهم وانما يحسن الاستفهام إذا اختلف بعض الشرائط اما بان يكون احدهما غير عالم باللغة وموضوعها أو مع كونهما عاملين يجوز السامع أن يكون المتكلم أراد به المجاز ولم يبينه في الحال أو غير ذلك من الامور فان عند ذلك يحسن الاستفهام وإذا خلا من ذلك لم يحسن على ما بيناه. على ان الاستفهام قد يحسن في المواضع التي ليست للاشتراك الا ترى ان القائل إذا قال: (لقيت الامير) أو (ضربت ابي) يحسن ان يقال: (القيت الامير نفسه أو بعض اصحابه) ؟ وكذلك يقال: (اضربت اباك نفسه) ؟ وذلك لا يدل على ان اسم (الامير) مشترك بينه وبين صاحبه ولا اسم (الاب مشترك) بينه وبين غيره. فان امتنعوا من حسن الاستفهام ههنا امتنعنا هناك. وان قالوا: ذلك ليس باستفهام وانما هو استعظام واستكبار. قيل لهم: وكذلك قول السائل لمن قال: (من دخل دارى اهنته وان دخلها نبى أو أبوك) انما هو استعظام واستكبار وليس باستفهام ولا فرق بينهما على حال. والذي يدل ايضا على ان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته لا ما يصلح حسن الاستثناء من الاعداد لان القائل إذا قال: (اعط فلانا عشرة دراهم) يحسن ان يستثنى منه ان يقول: (الا واحدا). ولا يمكن ان يقال: ان لفظة عشرة مشتركة بين العشرة والتسعة. فان ارتكبوا ذلك وقالوا: اللفظ مشترك الزموا أن يكون مشتركا بين العشرة والثمانية والسبعة والستة والخمسة والى الواحد لانه يحسن استثناء جميع ذلك من لفظ العشرة لانه يحسن بلا خلاف ان يقول: (اعط عشرة دراهم الا خمسة)


[ 283 ]

وعلى (1) الصحيح من المذهب وان كان فيه خلاف – ان يقول: (اعط عشرة الا تسعة) واى الامرين ارتكبوا كان ذلك خلافا لما هو معلوم ضرورة من دين اهل اللغة. فان قالوا: وما العلة الجامعة بين الاعداد وغيرها ؟ ولم إذا ثبت في الاعداد وما قلتم يجب أن يكون حكم غيرها هذا الحكم ؟ قيل لهم: انما جمعنا بينهما من حيث ان حقيقة الاستثناء كان أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فلما كان هذا حقيقة الاستثناء وجب ذلك في كل موضع. فان قالوا: الوجوب الذي ثبت في الاعداد امر زائد على الصلاح وإذا كان الامر كذلك عاد الامر إلى انه انما يحسن الاستثناء فيها للصلاح دون الوجوب. قيل لهم: الصلاح وان كان حاصلا في الاعداد فانه لا ينفصل من الوجوب فينبغي أن يكون حقيقة الاستثناء ان يدخل على الصلاح الذي هو الواجب. وكذلك نقول في جميع المواضع التي نقول فيها بالعموم ولا يجب أن يحكم بان هذا الحكم بمجرد الصلاح لان ذلك ليس بحاصل في الاعداد وانما كان يجوز أن لو ثبت الصلاح بمجرده وحسن مع ذلك الاستثناء لزمنا ان نحكم بحسن ذلك الصلاح فاما ولما يثبت ذلك فلا يجوز على حال. ومما يدل ايضا على ما قلناه: ان القائل إذا قال: (من عندك) ؟ مستفهما يحسن ان يجاب بذكر كل عاقل فلولا ان اللفظة مستغرقة لجميع العقلاء والا لم يحسن ذلك وانما قلنا ذلك لان من شأن الجواب مطابقا للسؤال ولا يكون مطابقا الا بأن يجيب المجيب عما سأل عنه السائل وفي ذلك ثبوت الاستفهام عن جميع العقلاء. ولاجل ذلك حسن الجواب بذكر كل واحد منهم. فان قالوا: لا يحسن ان يجيب بذكر كل عاقل بل ينبغى أن يستفهم ويقول: (من الرجال أو من النساء أو من الاشراف أو من العامة) فإذا بين مراده اجابه حينئذ.


[ 284 ]

قيل له: من مذهب اهل اللغة خلاف هذا لانهم يستحسنون الجواب بذكر العقلاء في الموضع الذي ذكرناه وان لم يستفهموا اصلا فمن اوقف حسن ذلك على الاستفهام كان مكابرا مدافعا للضرورات. على ان هذا يوجب ان يستفهموا ابدا حتى ينتهى إلى اقل من يمكن أن يكون مرادا لانه لو قال: (من الرجال) كان ذلك غير مستغرق في الرجال على مذهب الخصم ويحسن أن يستفهم دفعة اخرى فيقال: (امن اهل الاشراف أو من غيرهم أو من شيوخهم أو شبانهم أمن صناعهم أو غيرهم ؟) وكذلك ابدا وهذا يؤدى إلى أن لا يحسن الجواب الا بعد ذكر جميع ذلك والمعلوم ضرورة خلاف ذلك. وليس لهم ان يقولوا: انما حسن الجواب بجواز أن يكون مستفهما عنه لا بوجوب ذلك وذلك ان الصلاح لا يصير الكلام مطابقا للجواب وانما يصير كذلك بالوجوب الا ترى انه إذا سأل سائل (1) المفتى فقال: (هل يجوز وطء المرئة في حال قرئها ؟) لم يحسن من المفتى ان يجيب عن ذلك بنعم أو لا بل يحتاج ان يستفهمه فيقول: (ما الذي اردت بالقرء) ؟ فان اردت الحيض فلا يجوز ذلك وطئها وان اردت الطهر كان ذلك جائزا والعلة في قبح الجواب بما ذكرناه هو ان السؤال يمكن أن يكون عن كل واحد من المعنيين (2) * ولم يجب أن يكون سؤالا عنهما (3) * فكذلك لو كان الفاظ العموم من الاستفهام جارية ذلك المجرى لوجب أن لا يحسن الجواب بذكر احاد العقلاء وقد علمنا خلاف ذلك. فان قالوا: إذا ثبت ذلك في الاستفهام لم زعمتم ان حكم غير الاستفهام حكمه في المجازات وغيرها ؟ قيل لهم: غرضنا بهذا الدليل ان يثبت ان ها هنا لفظا موضوعا للاستغراق في


[ 285 ]

اللغة ليبطل به مذهب من قال انه ليس كذلك أو قال بالاشتراك. فاما ثبوتها في كل حال فنعلمه بالاجماع (1) وهو ان كل من قال: ان هذه اللفظة مستغرقة في الاستفهام قال: انها كذلك في المجازاة فمن فرق بينهما كان مخالفا للاجماع. والقول في لفظة (ما) و (متى) و (اين) و (أي) إذا وقعت للمجازاة أو الاستفهام حكم ما ذكرناه في (من) على السواء. فاما إذا وقعت (من) و (ما) معرفة فلا يدل على الاستغراق بل تكون مصروفة إلى ذلك المعروف بعينه ولاجل هذا يحتاجون إلى صلة كصلة (الذي) لما كانت (الذي) معرفة وذلك نحو قول القائل: (ضربت من عندك) أو (اكلت ما أكلت) وما يجرى مجرى ذلك ولا يتم فائدتهما الا بالصلة على ما بيناه. ويدل ايضا على صحة ما ذهبنا إليه: ان اهل اللغة عدوا العموم من اقسام الكلام وكذلك الخصوص وفرقوا بينهما وقالوا هذا الكلام خرج مخرج العموم وهذا الكلام خرج مخرج الخصوص فدل ذلك على ان فائدتهما تختلف. وعلى مذهب الخصم كلاهما سواء فينبغي أن نحكم ببطلان ذلك وجرى مجرى فصلهم بين صيغة الامر والنهى والخبر وغير ذلك من اقسام الكلام (2) * فكما ان لكل شئ من ذلك صيغة موضوعة ينبغى أن يكون حكم العموم مثله سواء. وان نازعوا في جميع ذلك فقد دللنا على ثبوته فيما تقدم فلا فائدة في اعادته. واستدل كثير من الفقهاء والمتكلمين (3) على ذلك بان قالوا: قد ثبت ان العموم


[ 286 ]

أمر معقول والحاجة إلى استعماله ماسة فلابد أن يكونوا وضعوا لذلك عبارة يلتجئون إليها عند الحاجة إلى ذلك كما انهم وضعوا لسائر اقسام الكلام وقد قلنا ما عندنا في هذه الطريقة. واستدلوا ايضا بان قالوا: لا يخلو لفظة (من) أن تكون موضوعة لغير العقلاء أو لبعض العقلاء أو لكل واحد منهم على البدل أو لجميعهم على جهة الاستغراق. قالوا: ولا يجوز أن تكون موضوعة لغير العقلاء لان ذلك معلوم خلافه وهو متفق عليه ايضا ولا ان تكون موضوعة لبعضهم لانه ليس بعضهم بان يتناوله أولى من بعض ولا أن تكون موضوعة لواحد لا بعينه لمثل ما قلناه ولانه لو كان كذلك لجرى مجرى اسماء النكرات وقد علمنا خلاف ذلك. وايضا: فلو كان لواحد لا بعينه لكان السائل إذا استفهم فقال: (من عندك ؟) لم يحسن ان يجاب بذكر نفسين أو ما زاد عليهما لان السؤال وقع عن واحد وقد علمنا خلاف ذلك. فلم يبق بعد ذلك الا انها مستغرقة لجميع العقلاء. وقد استدلوا ايضا على ذلك بأن قالوا: وجدنا العموم قد اكد بلفظ لا يؤكد به الخصوص وكذلك الخصوص أكد بلفظ لا يؤكد به العموم الا ترى انهم يقولون: (رأيت القوم اجمعين) و (رأيت زيدا نفسه) ولا يحسن ان يقول القائل: (رأيت القوم نفس) ولا (رأيت زيدا اجمعين). فلما ثبت هذا دل على معنيهما يختلف كما ان تأكيديهما يختلف ولا يختلفان الا بأن يكون احدهما عاما والاخر يكون خاصا (1). ويمكن الاعتراض على هذا الدليل بأن يقال: انما لم يحسن ان يقال: (رأيت زيدا اجمعين) لان زيدا يختص شخصا واحدا فلا يجوز ان يؤكد بما يختص الجماعة وان كانت غير مستغرقة وكذلك انما لم يحسن ان يقال: (رأيت القوم نفسه) لان


[ 287 ]

القوم يفيد جماعة وان لم يفد جميعهم فلا يجوز أن يؤكد بما يؤكد به شخص واحد. وربما رتبوا دليل الاستفهام على وجه اخر فقالوا: قد علمنا انهم لما استطالوا ان يستفهموا عن العقلاء بذكر اسمائهم فيقولوا: (ازيد عندك اعمرو عندك اخالد عندك ؟) وضعوا لفظة (من) نائبة من تعداد الاسماء لما شق عليهم ذلك فيجب ان تكون مستغرقة لجميعهم كما انهم لو عدوا ذكر جميعهم على التفصيل – لو امكن – لكان ذلك شاملا لهم. ورتبوا مثل هذا في المجازات وقالوا: لما استطالوا ان يقولوا: (ان دخل زيد وعمرو وبكر دارى اكرمتهم) وضعوا لفظ (من) عوضا عنه فقالوا: (من دخل دارى اكرمته) فينبغي أن تكون مستغرقة. وهذه طريقة قريبة غير انه يمكن أن يقال عليها: لا نسلم انهم وضعوا هذه اللفظة بدلا عن تعداد جميع الاسماء بل لا يمتنع أن يكونوا وضعوها لجماعة لا باعيانهم. فان قلنا جوابا عن ذلك، لو كان كذلك لم يحسن ان يجاب بذكر كل واحد من العقلاء كان ذلك رجوعا إلى الطريقة الاولى التى قدمناها. وقالوا ايضا: لما كان الاستفهام بلفظ الخاص يختص شخصا بعينه ولا يتعدى إلى غيره فينبغي أن يكون الاستفهام بلفظ العموم بالعكس من ذلك وهو ان يتعدى إلى غيره وليس بأن يتعدى إلى قوم اولى من أن يتعدى إلى اخرين فيجب أن يتعدى إلى جميعهم. وهذا ايضا مثل الاول لانه يمكن اولا ان يقال: ان هذا قياس والقياس في اللغة لا يجوز. والثاني ان يقال: غاية ما في هذا ان يجب ان يتعدى إلى اكثر من لفظ الخاص ولا يجب من ذلك تعدية إلى جميعهم. فان قلنا: لو لم يجب لم يحسن ان يجاب بذكر كل واحد منهم كان رجوعا إلى الدليل الذي قدمناه.


[ 288 ]

وان قلنا: ليس بعضهم بذلك اولى من بعض كان ذلك رجوعا إلى دليل التقسيم الذي قدمناه. وقد استدل المخالف (1) على صحة مذهبه بأن قال (2): وجدت هذه الالفاظ تستعمل في الخصوص كما تستعمل في العموم بل استعمالها في الخصوص اكثر لانه ليس في جميع الفاظ القرآن لفظة تفيد الاستغراق الا قوله: (والله بكل شئ عليم) (3) فوجب أن تكون اللفظة مشتركة فيهما. قيل له: قد بينا ان مجرد الاستعمال لا يدل على الاشتراك لان المجاز مستعمل كما ان الحقيقة مستعملة فلا يمكن ان يستدل بالاستعمال على واحد من الامرين ويحتاج في اثبات احدهما إلى الرجوع إلى امر اخر. واما قولهم: (انهم لم يجدوا في الفاظ القران لفظة تفيد الاستغراق الا لفظة واحدة). فليس إذا قل استعمال الحقيقة فيما هو حقيقة فيه وكثر استعماله في المجاز دل على انه ليس بحقيقة فيه الا ترى انه لم تجر عادتهم في استعمال لفظة (الدابة) في كل ما دب بل صار بالعرف لا يستعمل الا في دابة بعينها ولا يدل ذلك على انهم لم


[ 289 ]

يضعوا هذه اللفظة في الاصل لكل ما يدب. فعلم بذلك ان قلة الاستعمال لا يدل على ان اللفظة ليس بحقيقة. وعندنا ان الحكيم تعالى إذا استعمل هذه اللفظة فيما دون الاستغراق فلابد من أن يدل عليه دالا لم يحسن منه ذلك. واستدلوا ايضا بحسن الاستفهام عن هذه الالفاظ قالوا: فلولا انها مشتركة والا لم يحسن (1). وقد قلنا ما عندنا في ذلك فيما مضى فاغنى عن الاعادة. واستدلوا ايضا بان قالوا: لو كان ذلك مفيدا للاستغراق لما حسن أن يؤكد لان المؤكد قد انبأ عن المراد فتأكيده عبث. والجواب عن ذلك: انا قد بينا ان التأكيد دليل لمن قال بالاستغراق ولو لزم هذا الاعتبار أن لا يكون اللفظ موضوعا للاستغراق لوجب في الفاظ الخصوص والفاظ الاعداد مثله لانا وجدناهم يؤكدون الفاظ الخصوص والفاظ الاعداد كما يؤكدون الفاظ العموم فأي شئ اجابوا به عن ذلك فهو جوابنا بعينه. واستدلوا ايضا بان قالوا: لو كانت هذه الالفاظ تفيد الاستغراق لما حسن الاستثناء منها وكانت تكون نقصا لان هذه اللفظة تجرى عندكم مجرى تعداد الاسماء فكما لا يجوز ان تعد الاسماء ثم يستثنى منها فكذلك لفظ العموم لو كان جاريا مجرى ذلك لما حسن الاستثناء منه. والجواب عن ذلك ان يقال: الاستثناء انما يحسن إذا قصد المتكلم بالخطاب بعض العموم فيحتاج ان يبين من لم يعنه بالخطاب وانما كان يكون نقضا لو قصد به الاستغراق ثم استثنى منها ونحن لا نقول ذلك. وليس كذلك تعداد الاسماء لانه إذا عددها فقد قصدها كلها فلا يجوز بعد ذلك ان يستثنى منها لانه يؤدي إلى نفى ما اثبته بعينه وذلك لا يجوز على حال.


[ 290 ]

وليس كذلك لفظ العموم لانه يجوز ان يستعمل في بعض ما وضع له على ضرب من المجاز إذا بين معه المراد بذلك وفي ذلك سقوط هذا السؤال. فاما من فرق بين الاوامر والاخبار فقوله يبطل بما دللنا عليها من ان هذه الالفاظ تفيد الاستغراق في الاخبار كافادتها في الاوامر وإذا ثبت ذلك فمتى ورد خطاب من الله تعالى وجب حمله على عمومه سواء كان امرا أو خبرا الا ان يدل دليل على ان المراد به التخصيص فتحمل عليه ولاجل هذا قلنا: ان ما اخبر الله تعالى به من عقاب العصاة المراد به بعضهم لا جميعهم لما دل الدليل عندنا على ذلك فلا يظن ظان ان في القول بالعموم تركا لهذا المذهب وتصحيحا لمذهب الخصم لان الخصم يدفع ان يكون ها هنا دليل يدل على تخصيص ايات الوعيد ونحن نثبته وإذا ثبت ما ندعيه بطل مذهب الخصم في ذلك. فاما من فرق بين الامر والخبر بان قال: ان الامر تكليف والخبر ليس كك فلا يمتنع أن لا يكون مفيدا للاستغراق وان لم يعلمه فقد اخطأ وذلك انه لا فرق بينهما في تعلق تعليق التكليف بهما لان الامر يوجب علينا فعل ما تناوله والخبر يوجب علينا اعتقاد ما تضمنه فلابد من أن يكون مفيدا للاستغراق ان كان مطلقا. وان كان المراد به الخصوص فلابد من ان يقترن به البيان والا ادى ذلك إلى اباحة الجهل والاعتقاد الذي لا نامن كونه جهلا وكل ذلك منفى عن القديم تعالى. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 291 ]

فصل [ 3 ] (في ذكر الفاظ الجمع والجنس وغير ذلك (1)) ذهب اكثر من قال بالعموم إلى ان اسم الجنس إذا دخله الالف واللام اقتضى


[ 292 ]

استغراق الجنس وذلك مثل قوله تعالى: (والعصر ان الانسان لفى خسر) (1) وكذلك قالوا في الفاظ الجموع والاسماء المشتقة (2) نحو قولهم: (رأيت الرجال) وقوله: (اقتلوا المشركين) (3) و (ان الفجار لفي جحيم) (4) و (يقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا) (5). هذا إذا لم يكن هناك ما يدل على انهما دخلا للعهد فان دل دليل على ذلك حمل اللفظ عليه. قال ابو على: مثل ذلك في اسم الجنس واسماء الجموع وامتنع من القول به في الاسماء المشتقة (6). وقال ابو هاشم خاصة (7): لا يدل في هذه المواضع كلها على الاستغراق بل يدل الالف واللام اما على العهد أو على تعريف الجنس فاما الاستغراق فلا يدل على ذلك الا ان يقترن به دليل يدل عليه نحو قوله (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) (8) وقوله: (ان الفجار لفي جحيم) (4) وقوله: (اقتلوا المشركين) (3) ان جميع هذه المواضع المراد بها الاستغراق لان الكلام خرج مخرج الزجر (9) والزجر حاصل في الجميع كما هو حاصل في كل واحد منهم فلاجل ذلك حملته


[ 293 ]

على الجميع (1). وفي الناس من قال: ان الذي ادعاه أبو هاشم من تعريف الجنس غير معقول اصلا ولا يفهم من الالف واللام الا الاستغراق أو العهد (1). فهذا جملة الخلاف بين من قال بالعموم في هذه الالفاظ. فاما من قال بالخصوص أو بالوقف فقولهم في هذه الالفاظ مثل قولهم فيما مضى على السواء (2). والذي اذهب إليه هو الاول والذي يدل على ذلك حسن الاستثناء في جميع هذه الالفاظ (3) الا ترى انه يحسن ان يقال: (ان الانسان لفى خسر الا زيدا وعمرا) فيستثنى كل واحد من الناس من اللفظ الاول. وكذلك إذا قال: (رأيت الرجال) يحسن ان يستثنى كل واحد منهم. وكذلك يحسن الاستثناء من قوله: (اقتلوا المشركين) (4) وقوله: (ان الفجار لفى جحيم) (5) وقوله: (ويقول الكافر) (6) وما جرى مجرى ذلك من الالفاظ. وقد بينا في الباب الاول ان من حق الاستثناء ان يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته وفي ذلك اقتضاء هذه الالفاظ الاستغراق. فان دفعوا حسن الاستثناء في هذه المواضع دفعهم اصحاب الخصوص والوقف عن دخوله فيما مضى من الالفاظ.


[ 294 ]

فان قالوا: يحسن دخوله ولا يدل على الاستغراق. قال لهم: اصحاب الخصوص والوقف مثل ذلك في (من) و (ما). وإذا كان الكلام مع اصحاب الخصوص والوقف يكون الكلام على ما رتبناه في (من) و (ما) على حد سواء (1). فاما الذي اختاره أبو هاشم من انهما يقتضيان تعريف الجنس (2) فلسنا نمنع من ان ذلك قد يراد في بعض الاحوال كما لا نمنع من ان يراد بهما المعهود على بعض الاحوال ولا يدل ذلك (3) * على انه يجب حملها عليه ابدا كما لا يجب ذلك في حمله على العهد ابدا. فاما من دفع ابا هاشم عن ذلك وقال: ان ذلك غير معقول (4) فباطل لانا نحن نعلم ان القائل إذا قال: (اكلت اللحم ولبست الجباب (5) أو الثياب أو جاء وقت لبس الجباب) لا يريد بذلك اكله لحما بعينه ولا انه اكل جميع اللحوم وانما اراد تعريف هذا الجنس بعينه وكذلك لا يريد لبس جميع الجباب ولا جبابا باعيانها وانما يريد تعريف هذا الجنس والكلام في ذلك بين فمن دفعه كان دافعا لما هو معلوم. ويدل ايضا على ذلك: ان اهل اللغة نصوا فقالوا اسماء الاجناس تدل على القليل والكثير (6) * ولاجل ذلك قالوا: ان لفظ الجنس لا يجوز ان يجمع لانه بنفسه يدل على القليل والكثير فجمعه عبث وانما يحسن جميعه إذا اختلفت الاجناس


[ 295 ]

ولا يدل بعضهما على بعض فحينئذ يستفاد بالجمع اجناس مختلفة. فاما في الجنس الواحد فلا يحسن على حال ولا يجب من حيث ان الالف واللام يدخلان للعهد أو لتعريف الجنس – على ما ذهب إليه أبو هاشم (1) – ان لا يفيد الاستغراق كما لا يجب ذلك في (من) و (ما) لانهما قد يستعملان في المعهود ولا يدل ذلك على انهما لا يستعملان في الاستغراق على حال. واستدل أبو علي على ان لفظ الجمع يقتضى الاستغراق إذا لم يدل دليل على انه اراد البعض بأن قال: انه قد ثبت انه حقيقة في الاستغراق (2) * كما انه حقيقة في اقل الجمع فإذا كان كذلك – ولا يكون هناك دلالة – وجب حمله على الاستغراق (3). وقال ايضا: إذا كان الكلام صادرا من حكيم فلو اراد اقل الجمع لبينه فلما لم يبين دل على انه اراد الاستغراق (4). واعترض على ذلك ابو هاشم واصحاب الخصوص والوقف بان قالوا: إذا كان ذلك حقيقة في اقل الجمع كما هو حقيقة في الاستغراق وجب حمله على الاقل لانه مقطوع به والاستغراق لا دلالة عليه فوجب أن لا يكون مرادا (5). وقالوا: إذا كان الكلام صادرا من حكيم ولا يدل على انه اراد الاستغراق ودل على انه اراد اقل الجمع وتعارض القولان ووقف الدليل.


[ 296 ]

والمعتمد عندي هو الاول (1) *. واستدل أبو هاشم على ان لفظ الجمع لا يفيد الاستغراق بان قال: لو اقتضى ذلك لاقتضى اكثر الاعداد وذلك يوجب أن يكون مقتضيا لما لا يتناهى أو أن يكون حقيقة في كل عدد يوجد الجموع وكل ذلك فاسد (2) (3) *. والكلام على ذلك ان يقال: اكثر ما في هذا ان يقتضى انه لا يجوز ان يفيد ما لا يتناهى لان ذلك محال ولا يدل على انه لا يفيد استغراق ما يمكن ولو لزم هذا ها هنا للزمه في (من) و (ما) بأن يقال لو افاد الاستغراق لتعلقا بما لا يتناهى وذلك باطل. ولا جواب عن ذلك الا ما قلناه من انه ينبغى أن يحمل على الاستغراق فيما يمكن فاما ما هو محال فكيف يحمل عليه. واما استدلاله على انه حقيقة في الثلاثة من حيث كان اقل الجمع (1) فصحيح لا ينازع فيه وليس ذلك بمانع عند من خالفه من ان يفيد الاستغراق ايضا حقيقة وانما يحمل على احد الحقيقتين لضرب من الاعتبار (4) *. واعلم ان الذي اعتبرناه من دليل الاستثناء في الفاظ الجموع انما يدل على انها تفيد الاستغراق حقيقة ردا على اصحاب الخصوص ولا يمكننا ان نقول انها لا تتناول اقل الجمع ايضا حقيقة لان ذلك يكون مكابرة فإذا ثبت كونها حقيقة في الامرين وصدر الكلام من حكيم ولم يقرن به ما يدل على انه اراد به اقل الجمع


[ 297 ]

وجب حمله على انه اراد الكل. وليس لهم ان يقولوا: اجعلوا فقد دلاله الاستغراق دلالة على انه اراد اقل الجمع كما جعلتم فقد دلالة الاقل دلالة على انه اراد الاستغراق ويتعارض القولان وذلك ان هذا انما يمكن ان يقال في الفاظ الجموع الخالية من الالف واللام فاما إذا كانت فيها الالف واللام فلا يفيدان الا استغراق لانه لو أراد اقل الجمع لم يكن لادخالهما في الكلام فائدة وكان اللفظ مع عدمهما يفيد اقل الجمع كما يفيد اكثر الجمع فإذا لابد من حمله على الاستغراق والا كان ذلك لغوا. فان عادوا إلى ان يقولوا: ان ذلك يفيد العهد أو تعريف الجنس. قلنا: نحن انما نتكلم في الموضع الذي لا نعلم انه اريد بهما العهد أو تعريف الجنس فاما إذا علمنا انه اراد العهد أو تعريف الجنس وجب حمله عليه وذلك لا ينافى ما قلناه. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 298 ]

فصل [ 4 ] (في ان اقل الجمع (1) * ما هو ؟ (2)) ذهب المتكلمون واكثر الفقهاء إلى ان اقل الجمع ثلاثة (3).


[ 299 ]

وقال من شذ منهم ان اقل الجمع اثنان (1). والصحيح هو الاول. والذي يدل على ذلك: ان اهل اللغة فرقوا بين التثنية والجمع وخصوا كل واحد منهما بامر لا يشركه فيه الاخر فقالوا: التثنية تكون بالالف والنون والياء والجمع يكون بالواو والالف والتاء كما فرقوا بين الواحد والاثنين فان جاز أن يدعى في التثنية انهما جمع جاز ان يدعى في الواحد انه تثنية أو جمع وقد علمنا خلاف ذلك. ويدل على ذلك ايضا: انهم يقولون للاثنين (افعلا) إذا امروهما وللجماعة (افعلوا) وثينون بالالف ويجمعون بالواو وعلى مذهب الخصم كان يجب أن لا يكون بينهما فرق. ويدل ايضا على ذلك: انهم يفسرون بلفظ الجمع عدد الثلاثة فيقولون: (ثلاثة رجال) ولا يفسرون به الاثنين بل يقولون: (ورجلان) فعلم بجميع ذلك الفرق بينهما. وايضا: فان السامع إذا سمع المتكلم يقول: (رأيت رجالا) لا يفهم من ذلك ولا يسبق إلى قلبه الا ثلاثة ولا يسبق إلى قلبه اثنان اصلا فعلم ان الحقيقة ما قلناه. فاما من خالف في ذلك فانه يستدل باشياء. منها: ان الجمع مأخوذ من ضم شئ إلى شئ وذلك موجود في الاثنين فينبغي أن يكون جمعا.


[ 300 ]

والجواب عن ذلك انا لا ننكر ان يكون اصل الاشتقاق ما ذكروه لكن صار بعرف اللغة ومواضعتهم مخصوصا ببعض ذلك وهو إذا كانوا ثلاثة منضمين وجرى ذلك مجرى قولهم (دابة) في انه موضوع في اصل اللغة لكل ما يدب ثم صار بعرف اللغة مخصوصا لدابة بعينها فكك لفظ الجمع على انه انما نريد بقولنا: اقل الجمع ثلثة ان احكام الثلاثة لا تجرى على الاثنين واحكام الاثنين لا تجرى على ثلاثة على ما بيناه. فان سلموا ذلك وقالوا مع ذلك الاثنان من حيث الاشتقاق كان ذلك خلافا في عبارة لا يعتد بمثله. واستدلوا ايضا: بما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (الاثنان فما فوقهما جماعة) (1) فسماهما جماعة. والجواب عن ذلك: ان قوله عليه السلام ينبغى ان يحمل على الاحكام لانها المستفادة من جهته ولا يحمل على الاسماء لانها مستفادة معلومة باللغة. وقد قيل في معناه شيئان: احدهما: انه كان نهى عن خروج الرجل وحده في السفر ثم اباح ذلك في الاثنين فخبر عند ذلك ان حكم الاثنين في جواز السفر حكم الثلاثة وما زاد على ذلك. والوجه الاخر: انه اراد بذلك فضيلة الجماعة بالصلاة لان حكم الاثنين في انعقاد الجماعة بهما وحصول الفضل لهما حكم الثلاثة وما زاد على ذلك فينبغي أن يحمل الخبر عليهم. ومنها: قوله تعالى: (وكنا لحكمهم شاهدين) (2) وعنى بذلك داود وسليمان وهما اثنان.


[ 301 ]

ومنها: قوله تعالى: (إذ دخلوا على داود) (1) وانما اراد به الخصمين. والجواب عن ذلك من وجهين احدهما: ان ذلك مجاز وكلامنا في الحقيقة وجرى ذلك مجرى قولنا: (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (2) ونحو قوله: (وكنا لحكمهم شاهدين) (3) ولا خلاف ان لفظ الجماعة في الواحد مجاز فلو لزم ما قالوه للزم أن يكون ذلك حقيقة في الواحد وللزم في قوله: (وهل اتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب) (4) لان لفظ (الخصم) لفظ الواحد ومع ذلك قد اخبر عنه بلفظ الجمع وذلك مجاز بلا خلاف. والوجه الثاني: ان قوله: (وكنا لحكمهم شاهدين) اراد به داود وسليمان والمحكوم عليه والخصم وهم جماعة فلاجل ذلك اخبر عنهم بلفظ الجمع. وكذلك قالوا في قوله تعالى: (خصمان بغى بعضنا على بعض) (5) انه اراد به جنس الخصمين لان لفظ (الخصم) لفظ المصدر ويقع على الواحد والجماعة والذكر والانثى على حد واحد لانهم يقولون: (رجل خصم) و (رجال خصم) و (امرأة خصم) و (نساء خصم) كل ذلك بلفظ واحد. وإذا ثبت ذلك كان قوله (خصمان) لا يختص بالاثنين دون ما زاد عليهما فلاجل ذلك اخبر عنهما بلفظ الجماعة. وقووا ذلك بان قالوا: قال في اول الاية: (وهل اتاك نبؤ الخصم إذا تسوروا المحراب) فاخبر عن (الخصم) بكناية الجماعة فعلم بذلك انه اراد الجنس دون الواحد. وعلى الوجهين جميعا سقط التعلق بالايات.


[ 302 ]

فصل [ 5 ] (في معنى قولنا ان العموم مخصوص وان الله تعالى يجوز أن يريد بالعام الخاص (1)) معنى قولنا: (العموم مخصوص) هو انه استعمل في بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز لان حقيقة المجاز ثابتة فيه وشبه ذلك بالمخصوص الذي وضع في الاصل للمخصوص وإذا استعمل في بعض ما وضع له في الاصل لا يصير حقيقة فيه لانا قد دللنا على ان للعموم صيغة فان حقيقتها الاستغراق (2) فمتى استعمل في غير ذلك ينبغى أن يكون مجازا لان حقيقة المجاز هو أن يستعمل اللفظة في غير ما وضعت له وهذا موجود في العموم إذا اريد به الخصوص فينبغي أن يكون مجازا


[ 303 ]

ولهذا لا يقولون لمن خاطب بالعموم واراد به بعض ما يتناوله: انه مخاطب بالخصوص ولا انه خص الخطاب كما يقولون ذلك في الالفاظ الخاصة فعلم ان ذلك مجاز. فاما إذا قيل: (فلان خص العموم) فالمراد بذلك انه علم من حالة المخصوص بدليل دله على ذلك. ويقال فيمن اعتقد ذلك ايضا فيه وان لم يكن اعتقاده علما. وقد استعمل كثير من الفقهاء لفظ التخصيص فيما ليس بعام إذا علم بالدليل انه عام مثل الافعال وغيرها ونحن نبين ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى. ويفارق قولنا: (ان العام مخصوص) لقولنا: (ان الخطاب منسوخ) في الحكم والحد جميعا وقد ظن بعضهم انهما سواء وذلك خطأ من وجوه: لان حد التخصيص: ما دل على ان المراد باللفظ بعض ما يتناوله دون بعض. وحد النسخ: ما دل على ان مثل الحكم الثابت بالخطاب زائل في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالخطاب الاول مع تراخيه عنه. فحدهما مختلف على ما ترى. ولان التخصيص يؤذن بان المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه والنسخ يحقق ان كل ما تناوله اللفظ كان مرادا في حال الخطاب وان كان غير مراد في ما عداه. وايضا: فان من حق التخصيص ألا يصح الا فيما تناوله اللفظ والنسخ قد يصح فيما علم بالدليل انه مراد منه وان لم يتناوله اللفظ. وايضا: فان النسخ يدخل في النص على عين واحدة والتخصيص لا يدخل فيه. وايضا: فالنسخ في الشرع لا يقع باشياء يقع التخصيص بها نحو ادلة العقل والادلة المتصلة بالخطاب من الاستثناء وغيرها من اخبار الاحاد والقياس والادلة المستنبطة عند من اجاز التخصيص بها والتخصيص قد لا يقع ببعض ما يقع به النسخ. فعلم بجميع ذلك ما مفارقة التخصيص النسخ.


[ 304 ]

ولا يجب من حيث شارك التخصيص النسخ في بعض الاحكام ان يكونا بمعنى واحد كما ان مشاركة بيان المجمل للتخصيص في بعض الاحكام لا يدل على ان معناهما واحد. وكون النسخ في المعنى تخصيصا من حيث انه تخصيص للاوقات لا يوجب انه تخصيص لانه اخص منه والتخصيص اعم وكل ذلك يوجب افتراقهما في الحد والحكم. فإذا ثبت ذلك فالقديم تعالى يجوز أن يريد بالعام الخاص لان اهل اللغة إذا كانوا استجازوا ذلك وتعارفوه وجرت عادتهم باستعماله وكان القديم تعالى متكلما بلغتهم وجب أن يجوز أن يتكلم بذلك ويريد به الخصوص كما انه يجوز أن يتكلم بالمجاز والحقيقة والاطالة تارة والايجاز اخرى ويؤكد كلامه تارة ولا يؤكد اخرى لما كان ذلك من عادة أهل اللغة وكان القديم تعالى متكلما بلغتهم فينبغي أن يتكلم على طريقتهم. الا انه متى تكلم بلفظ العام واراد به الخاص فلابد من أن يدل عليه ويقرن به ما يدل على تخصيصه والا كان موجبا لاعتقاد الجهل كما انه إذا اراد بالحقيقة المجاز فلابد من أن يدل عليه. وايضا: فإذا جاز أن يتكلم بالعام ويستثنى منه جاز أن يدل عليه دليل غير الاستثناء يعلم به انه اراد الخصوص لان الاستثناء دليل التخصيص كما ان غيره من الادلة كذلك. ويدل على جواز ذلك ايضا: ان الله تعالى تكلم في مواضع بلفظ العام وقد علمنا انه أراد الخصوص فلولا ان ذلك كان حسنا والا لم يحسن منه ذلك. وليس لاحد أن يقول: كما لا يحسن منه الاخبار الا على القطع والامر الا على الشروط في بعض الوجوه وحسن ذلك فينا فكذلك لا يمتنع استعمال العام في الخاص فينا وان لم يحسن فيه تعالى. وذلك ان هذا اولا: باطل بما قلناه من وجودنا مواضع كثيرة من القران ظاهرها


[ 305 ]

العموم وقد علمنا انه اراد بها الخصوص بل اكثر القران كذلك. ثم انه انما حسن منا الاخبار والاوامر بالشروط لما لم يكن لنا طريق إلى العلم بما يمنع من الشروط ولم يحسن ذلك في القديم تعالى العالم بالعواقب ولذلك لا يحسن منا ان نخبر عما نعلمه بشرط لما كان العلم حاصلا لنا. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 306 ]

فصل [ 6 ] (في ان العموم إذ خص كان مجازا وما به يعلم ذلك وحصر ادلته (1)) ذهب كثير من اصحاب الشافعي (2) واصحاب ابي حنيفة (2) إلى ان العموم مع الدليل الذي خص به حقيقة فيما عدا ما خص منه سواء كان ذلك الدليل لفظا متصلا أو منفصلا أو غير اللفظ. وذهب أبو عبد الله البصري (3) إلى أنه: ان كان ذلك الدليل لفظا (4) متصلا من


[ 307 ]

استثناء وغيره (1) كان حقيقة فاما إذا لم يكن متصلا فانه يصير مجازا (2). وذهب أبو علي وأبو هاشم ومن تبعهما واكثر المتكلمين وباقى الفقهاء إلى أنه يصير مجازا بأى دليل خص (3) وهو الصحيح (4). والذي يدل على ذلك: انا قد بينا في هذا الكتاب ان حقيقة المجاز ان يستعمل اللفظ في غير ما وضع له فإذا ثبت ذلك – وقد دللنا على ان للعموم صيغة تختصه يفيد الاستغراق (5) – فينبغي (6) * إذا استعملت فيما دون الاستغراق أن يكون مجازا لثبوت حقيقته فيه وهذا يبين أنه يصير مجازا بأى دليل خص سواء كان لفظا متصلا


[ 308 ]

أو منفصلا أو غير لفظ. وليس لاحد أن يقول: ان العموم إذا خص فلم يتناول غير ما كان يتناوله (1) * بل ما تناوله في حال الخصوص ما تناوله في حال الاستغراق فكيف يكون مجازا ؟ (2). وذلك انا لم نقل انه يصير مجازا لتناوله ما تناوله وانما صار مجازا لانه لم يتناول ما زاد عليه من الاستغراق فصار في ذلك كانه استعمل في غير ما وضع له (3) *. فان قيل: أليس الكلام إذا انضم بعضه إلى بعض تغير معناه ولا يكون ذلك مجازا وذلك نحو الخبر (4) * إذا انضم إلى المبتداء والحروف الداخلة على الجمل من حرف شرط (5) * أو استفهام أو نفى أو تمن وما اشبه ذلك فقولوا في العموم ايضا مثل ذلك إذا خص انه لا يصير مجازا بما قارنه من الدليل الذي اقتضى تخصيصه. قيل لهم: اول ما في هذا ان الشبهة توجب أن لا يكون في الكلام مجازا اصلا لانه يقال: ان اللفظ وما دل على انه مجاز كلاهما حقيقة فيما اريد به وهذا واضح البطلان. ثم ان هذه الامثلة انما يمكن أن تكون شبهة لمن قال إذا خص بدليل لفظي متصل لا يصير مجازا فاما إذا خص بدليل غير مقترن باللفظ أو بدليل منفصل وان كان لفظيا فلا يكون ذلك نظيرا لهذه الامثلة. ونحن نجيب عن جميع ذلك ونفصل بينه وبين العموم.


[ 309 ]

اما ما ذكروه من الخبر إذا انضاف إلى المبتداء فانما كان كذلك (1) * لان المبتدأ بانفراده لا يفيد شيئا بل يحتاج في الفائدة إلى الخبر الذي تكمل الفائدة به وجرى ذلك مجرى بعض الاسم في انه لا يفيد حتى يتكامل جميع حروفه. ولا يقال: ان انضمام بعض الحروف إلى بعض لتكامل الفائدة مجاز وقبل تكاملها يكون حقيقة. لان ذلك كله فاسد لان الفائدة انما تتم عند اخر حرف منها فكذلك القول في المبتداء والخبر وليس كذلك القول في العموم (2) * لان لفظ العموم مستقل بنفسه ويفيد فائدته الذي وضع له ولا يحتاج إلى امر اخر وانما دخل عليه ما اقتضى استعماله في غير ما وضع له ينبغى ان يحكم بكونه مجازا. فاما الحروف الداخلة على الجمل فانما تحدث فيها معنى من المعاني فتغير معناها ان كانت خبرية ودخل عليها حرف الاستفهام احدث فيها معنى الاستخبار وكذلك لفظ المتمنى وحروف الشرط وغيره لم يغير هذه الحروف احكام الجملة من زيادة إلى نقصان أو نقل إلى غير ما وضع له فلا ينبغى أن يكون مجازا. وليس كذلك الفاظ العموم لانها بعد التخصيص لا تفيد ما كانت تفيده قبل التخصيص فينبغي ان يكون مجازا. على ان هذا يوجب الا يكون قول القائل: (رأيت سبعا) ثم قال عقيب ذلك: انى اردت رجلا شجاعا أو قال: (رأيت حمارا أو حائطا) ثم قال: اردت بليدا مجازا لانه قد وصل بالكلام لفظا دل به على مراده وجرى ذلك مجرى الحروف الداخلة على الجمل حسب ما سئلنا في العموم سواء وهذا لا يقوله احد.


[ 310 ]

وإذا لم يلزم ذلك فكذلك ما يلزم في العموم إذا خص بدليل متصل به أو منفصل إذا كان لفظا. فان تعاطوا الفرق بين ذلك فكل شئ أوردوه في ذلك امكننا ان نورد مثله فيما سئلنا عنه. فاما ما به يصير العام خاصا: فهو قصد المخاطب لان اللفظ إذا كان موضوعا للاستغراق فإذا أراد استعماله فيها وضع له يحتاج أن يقصد إلى ذلك وكذلك إذا أراد أن يستعمله في بعض ما وضع له يحتاج إلى أن يقصد إلى ذلك وجرى ذلك مجرى اللفظ الموضوع للامر في انه يحتاج أن يقصد به ما وضع من استدعاء الفعل فإذا أراد استعماله في التهديد أو النهي يحتاج إلى القصد إلى ذلك. فإذا ثبت هذه الجملة فالتخصيص في الحقيقة يقع بالقصد لا بالادلة الدالة على ذلك من الكتاب أو السنة أو العقل لان هذه الادلة للكشف عن غرض المتكلم بالخطاب وهل قصد العموم أو الخصوص ؟ وليست موجبة لذلك. وانما قلنا ذلك لان التخصيص مضاف إلى المتكلم فيقال: انه مخصص بخطابه فينبغي أن يكون وقع ذلك بشئ من فعله ولا يقع بالدليل الذي ربما كان من فعل غيره وجرى ذلك مجرى قصده إلى استعمال اللفظ فيما وضع له في ان القصد يفيد تعلقه فيما وضع له أو غير ما وضع له في المجاز دون الدليل الدال على ذلك. وعلى هذا سقط قول من قال: ان من شأن التخصيص الا يقع الا بامر متصل بالخطاب مجاور له ولا يجوز أن يقع بالادلة المنفصلة لان على هذا التحرير الذي قلنا: ان التخصيص يقع بالقصد قد اجبنا إلى ما قاله فالقصد (1) مقترن بالخطاب غير منفصل منه. فاما الادلة الدلالة على ذلك فلا يجب ذلك فيها لانها قد تكون متصلة به وقد تكون متقدمة عليه الا ترى ان ادلة العقل يخص بها الخطاب العام على بعض


[ 311 ]

الوجوه ومع هذا فهى متقدمة لحال الخطاب وليست الادلة الدالة على التخصيص تجرى مجرى نفس التخصيص. وقد يقال في الادلة انها هي المخصصة وذلك مجاز والحقيقة ما قلناه وانما يسوغ لهم ذلك من حيث يوصل بها إلى العلم بالخصوص فاطلق عليها انها المخصصة وذلك مجاز على ما بيناه. فاما الادلة الدالة التي يعلم بها التخصيص فعلى ضربين: أحدهما: ما يتصل بالخطاب من الكلام. والاخر: ما ينفصل منه من الادلة وما يتصل بالخطاب فينقسم اقساما: منها: الاستثناء وله حكم نفرد له بابا (1). ومنها: الشرط وله ايضا احكام سنبينها (2). ومنها: تقييد الخطاب بالصفات ولذلك ايضا باب مفرد نذكره (3). وما ينفصل من الخطاب من الادلة فعلى ضربين: احدهما: دليل يوجب العلم من دليل العقل أو الكتاب أو السنة المقطوع بها أو الاجماع. وهذه الادلة كلها لا خلاف بين اهل العلم في جواز تخصيص العموم بها وانما قالوا ذلك لانه لا يجوز القول بتكافى الادلة فإذا كان العام دليلا على الاستغراق وما دل على الخصوص دالا على تخصيصه فلابد من تخصيص العام به والا ادى إلى اسقاط احد الدليلين وابطاله أو ابطالهما معا والعدول إلى الاخر وكل ذلك فاسد. والضرب الاخر: وهو الذي لا يوجب العلم وهو على ضربين. خبر واحد وقياس.


[ 312 ]

فاما الخبر الواحد فنذكر ما عندنا في ذلك في باب مفرد (1). واما القياس فلا يجوز العمل به اصلا لا في تخصيص العام ولا غيره من الاحكام ونحن ندل على ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى. ومن خالفنا من الفقهاء الذين اوجبوا العمل بالخبر الواحد والقياس اختلفوا في جواز تخصيص العموم به وسنذكر اختلافهم من ذلك فيما بعد ان شاء الله تعالى. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 313 ]

فصل [ 7 ] (في ذكر جمل من احكام الاستثناء (1)) ذهب المتكلمون باجمعهم والفقهاء المحصلون إلى ان من شرط الاستثناء أن يكون متصلا بالكلام ولا يجوز انفصاله عنه (2).


[ 314 ]

وحكى عن ابن عباس انه كان يذهب إلى انه يجوز تأخيره عن حال الخطاب وذلك مستبعد من قوله (1). والذي يدل على صحة ما قلناه: اولا: ان اهل اللغة لا يعدون ما انفصل عن الكلام استثناء كما لا يعدون ما تقدم كذلك فلو جاز لاحد أن يخالف في المتأخر فيسميه استثناء جاز لغيره أن يخالف في المتقدم فيسميه استثناء ! ويدل ايضا: على ان الاستثناء متى انفصل عن حال الخطاب لا يفيد اصلا فكيف يجوز أن يكون استثناء من الكلام المتقدم ؟ فان قالوا: الاستثناء إذا تأخر ولا يستقل بنفسه فلا يفيد فانه يجوز أن يقرن به من الكلام ما يدل على انه متعلق بالكلام الاول فيفيد ويتعلق به. قيل له: إذا كان لا يفيد بنفسه وانما يتعلق بالكلام الاول بلفظ يقترن به فقد صار المخصص للكلام الاول اللفظ الذي اقترن بالاستثناء وإذا كان كذلك فلا معنى للاستثناء وكان استعماله لغوا. وليس لهم أن يقولوا: ان القائل إذا قال: (رأيت القوم) ثم قال بعد زمان: (الا زيدا) وقال اردت بهذا استثناؤه من اللفظ الاول افاد انه غير داخل في الجملة الاول ولو لم يذكر الاستثناء اصلا واقتصر على هذا القول المقترن به لما افاد ذلك


[ 315 ]

فعلم بذلك ان التخصيص يقع بلفظ الاستثناء وانما يعلم بالكلام المقترن به تعلقه بالاول. وذلك ان هذا متى كان على (1) * ما ذكر يفيد غير انه لا يحسن من وجهين: احدهما: ان بيان تخصيص العموم لا يجوز ان يتأخر عن حال (2) * الخطاب على ما نبينه فيما بعد وإذا لم يجز ذلك لم يحسن هذا. والثاني: انه يؤدي إلى أنه لا يفهم بشئ من الكلام امر اصلا ولا باخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اخبر عن نفسه أو اخبار الله تعالى إذا اخبر عما يفعله لانا لا نأمن أن يأتي بعد ذلك استثناء يدل على انه اراد المجاز وهذا يؤدى إلى ما قدمناه من ان لا يفهم بالكلام شئ اصلا وذلك فاسد. على ان الذي ذكروه لو حسن تأخير الاستثناء لحسن تأخير خبر المبتدأ (3) مثلا أن يقول القائل اليوم: (زيد) ويقول غدا: (قائم) ويقرن به من الكلام ما يدل على انه متعلق بما تكلم به امس. فان ارتكبوا ذلك كان قبحه معلوما وان راموا الفصل لم يجدوه. وإذا ثبت ما قلناه عن وجوب اتصاله بالكلام فمن حقه أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته وقد دللنا على ذلك في باب (ان (4) العموم له صيغة بما بيناه من ان الاستثناء في الاعداد يفيد ذلك فينبغي ان يكون ذلك حقيقة واستوفينا الكلام فيه. فاما استثناء الاكثر من اللفظ والاقل: فذهب اكثر المحصلين من المتكلمين والفقهاء وأهل اللغة إلى ان استثناء


[ 316 ]

الاكثر من اللفظ يجوز (1). وقال بعضهم: انه انما يحسن استثناء الاقل فاما استثناء الاكثر فلا يجوز لان ذلك لم يوجد مستعملا (2) والذي يدل على صحة ذلك: ان الاستثناء تخصيص للكلام الاول فكما يجوز أن يخصص اللفظ أو يخرج منه الاكثر فكذلك حكم الاستثناء لانه بعض ادلة التخصيص. وايضا: إذا كان من حقه ان يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فلا فرق بين أن يخرج الاكثر والاقل في أنه على حد واحد. فاما قول من خالف في ذلك لم يستعمل (3) فلا يبطل ما قلناه لانه ليس كلما قل استعماله لم يحسن ولو لزم ذلك للزم أن لا يحسن استثناء النصف من الكلام وما يقارب النصف لان ذلك ايضا غير مستعمل وذلك لا خلاف في جوازه. واما (4) الاستثناء من غير الجنس فلا يمكن دفع استعماله لانهم قالوا: (ما في الدار احد الا وتد) وقالوا: وبلدة ليس بها انيس * الا اليعافير والا العيس (5)


[ 317 ]

و (وتد) ليس من احد ولا (اليعافير) من جملة الانيس وغير ذلك. غير انه وان كان مستعملا فانه مجاز وذهب قوم إلى أنه حقيقة (1). والذي يدل على ما قلنا: انا قد بينا ان من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته ونحن نعلم ان القائل لو قال: (ما في الدار احد) ولم يستثن لم يفهم من ذلك الا نفي العقلاء ولا يفهم منه نفي الاوتاد فإذا قال: (الا وتد) فينبغي الا يكون استثناء حقيقة وتكون مجازا لانه لم يدخل في الكلام الاول (2) * وكذلك لو قال: (وبلدة ليس ببها انيس) وسكت لم يفهم من ذلك الا أنه ليس بها انسان ولم يفهم من ذلك انه ليس بها بهائم. فكذلك إذا قال: (الا اليعافير والا العيس) يجب أن يكون مجازا وانما حسن عندهم هذا النوع من الاستثناء لانه فيه معنى من الكلام الاول لانه إذا قال: (ما في الدار احد) افاد انه ليس فيها احد ثابت فلما كان الوتد ثابتا في الدار حسن أن يستثنى من الثبوت لا من لفظ احد.


[ 318 ]

وكذلك قالوا في قولهم: (وبلدة ليس بها انيس) انه نفى كون الناس مقيمين فيها فلما كانت اليعافير والعيس مقيمة فيها حسن أن يستثنيهما من الاقامة. وقال قوم: انه لم يرد بالانيس الناس وانما اراد ما يؤنس به ويسكن إليه ولما كانت اليعافير والعيس مما يسكن إليها على بعض الوجوه ويستأنس بها حسن أن يستثنى منها وعلى هذا الوجه فالاستثناء ما وقع الا من جنسه. فاما قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم اجمعون الا ابليس) (1) فقد قيل فيه وجهان: احدهما: ان ابليس كان من جملة الملائكة (2) * الا انه عصى بترك السجود فحسن أن يستثنيه من جملة الملائكة هذا على مذهب من جوز على جنس الملائكة المعاصي. ومن لم يجوز ذلك عليهم قال: انما استثناه لانه كان ايضا مأمورا بالسجود كما انهم كانوا مأمورين كذلك فاستثناه من جملة المأمورين لا من جملة الملائكة ويكون ذلك حملا على (3) * المعنى (4). والوجهان جميعا قريبان. فاما قوله: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) (5) فقد قيل فيه: ان المؤمن لا يقتله الا خطأ لانه لو قتله متعمدا لم يكن مؤمنا لان الفسق يخرج من اطلاق اسم الايمان عليه.


[ 319 ]

ومن قال: الفسق (1) لا يخرج من الايمان قال: قوله (الا خطأ) معناه بمعنى لكنه ان قتل خطأ كان حكمه كذا وكذا (2). وكذلك قوله: (لا عاصم اليوم من امر الله الا من رحم) (3) منقطع عن الاول لان (من رحم) معصوم وليس بعاصم يدخل في الكلام الاول. فاما من خالف في ذلك وحمل الاستثناء على الاقرار وقال: كما يحسن أن يستثنى في الاقرار (4) * من غير جنس ما اقر به فكذلك في الاخبار وغيرها (5). فقوله يبطل لان هذا طريقة القياس وليس يجوز أن تثبت اللغة واحكام الفاظها بالقياس. ثم الصحيح في الاقرار ما نقوله في الاستثناء انه لا يحسن أن يستثنى فيه من غير جنسه فان دل دليل من اجماع وغيره على خلافه حكمنا بجوازه وعلمنا انه استثناء منقطع كما قلناه فيما تقدم من الالفاظ. فاما إذا تعقب جملا كثيرة فالى ايها ترجع ؟ فسنذكره في باب مفرد انشاء الله وحده.


[ 320 ]

فصل [ 8 ] (في ان الاستثناء إذا تعقب جملا كثيرة هل يرجع إلى جميعها أو إلى ما يليه ؟ (1)) ذهب الشافعي واصحابه إلى الاستثناء إذا تعقب جملا كثيرة وكان يصح


[ 321 ]

أن يرجع إلى كل واحدة منها بانفرادها يجب أن يرجع إليها كلها (1). وذهب أبو الحسن الكرخي واكثر اصحاب أبي حنيفة إلى أنه يرجع إلى ما يليه من المذكور (1). وقال سيدنا المرتضى رحمه الله (2): انه يرجع إلى ما يليه قطعا ويجوز مع ذلك رجوعه إلى ما تقدمها من الجمل ويقف ذلك على البيان (3). ويقوى في نفسي المذهب الاول والذي يدل على ذلك: ان الكلام إذا عطف بعضه على بعض بالواو الموضوعة للجمع صار كانه مذكور بلفظ واحد الا ترى انه لا فرق بين أن يقول القائل: (رأيت زيدا وعمرا وخالدا) وبين


[ 322 ]

أن يقول. (رأيتهم) بلفظ يشملهم فإذا صح ذلك فالاستثناء لو ذكر عقيب الجملة المتناولة لجميعهم كان متعلقا بهم فكذلك إذا ذكر عقيب الجمل المعطوف بعضها على بعض لانها في حكم الجملة الواحدة. ويدل ايضا على ذلك: ان الشرط إذا تعقب جملا كثيرة ولا خلاف في أنه يرجع إلى جميعها والعلة الجامعة بينهما ان كل واحد منهما لا يستقل بنفسه ويحتاج إلى تعليقه بغيره ليفيد فلما اتفقا في هذا الحكم وجب اتفاقهما في وجوب رجوع كل واحد منهما إلى ما تقدم. فان قيل: انما وجب ذلك في الشرط لان له صدر الكلام فهو وان ذكر اخر الكلام فكأنه مذكور (1) في اوله فالجمل كلها معطوفة عليه وهو داخل عليها ووجب تعلقه بها كلها فكذلك (2) حكمه إذا تأخر. قيل لهم: لا نسلم ان له صدر الكلام حتى لا يجوز أن يؤخر بل الموجود بخلافه وانما يستعمل تارة في صدر الكلام وتارة في آخره وليس مخالفته للاستثناء في جواز تقدمه بموجب مخالفته في كل وجه الا ترى انه قد خالف الاستثناء ايضا في أنه لا يدخل الا على افعال مستقبلة أو ما يقدر فيها الاستقبال وليس كذلك الاستثناء فانه يدخل على ما كان ماضيا أو مستقبلا أو يكون اسما وليس فيه معنى الفعل اصلا وكل ذلك لا يصح في الشرط ولم يجب بذلك أن يكون (3) حكم الاستثناء حكمه فكذلك فيما قلناه. ويدل ايضا على ما ذهبنا إليه: ان الاستثناء بمشية الله (4) * إذا تعقب جملا كثيرة وجب رجوعه إلى جميعها فكذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء الاخر مثله والعلة الجامعة بينهما قدمناها من افتقار كل واحد منهما إلى ما يتعلق به وكونه غير


[ 323 ]

مستقل بنفسه. واستدل من خالف على صحة ما ذهب إليه بان قال: ان الاستثناء انما وجب تعليقه بما تقدم لانه لا يستقل بنفسه ولو استقل بنفسه لما وجب ذلك فيه فإذا علقناه بما يليه فقد افاد واستقل بنفسه فلا معنى لرده إلى جميع ما تقدم (1) *. والجواب عن ذلك: ان هذا أولا ينتقض بالشرط والاستثناء بمشيئة الله لانهما انما علقا بما تقدم لانهما لا يستقلان بانفسهما ومع هذا لا يجب تعليقهما بما يليهما فحسب دون ما تقدم فكذلك (2) القول في الاستثناء. ثم إذا وجب تعليقه بما تقدم لكونه غير مستقل بنفسه فلم صار (3) * بان يعلق بما يليه من ان يعلق بما قبله ؟ وإذا لم يكن هناك ما يخصصه بما يليه وجب تعليقه بجميع ما تقدم لفقد الاختصاص. واستدلوا ايضا بان قالوا: قد ثبت ان الاستثناء من الاستثناء لا يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى الجملة الاولى فكذلك القول في الجمل الكثيرة يجب أن يكون حكمه ذلك الحكم في رجوعه إلى ما يليه. والجواب عن ذلك من وجوه: احدها: انا انما اوجبنا في الجمل الكثيرة أن يرجع إلى جميعها لما كانت معطوفة بعضها على بعض بواو العطف التي يوجب الاشتراك ويصير الجمل الكثيرة في حكم الجملة الواحدة على ما بيناه وليس هذا موجودا في الاستثناء من الاستثناء لانه ليس هناك ما يوجب اشتراك الجملة الثانية للجملة الاولى فلا يجب أن يرجع إلى الجملة الاولى.


[ 324 ]

والثاني: انه إنما لم يحسن ذلك لانه لا يفيد شيئا لان القائل إذا قال: (لزيد عندي عشرة الا ثلاثة) فقد اقر له بالسبعة فإذا قال بعد ذلك: (الا واحدا) فان رددناه إلى الجملتين معا لكان يجب ان ينقص من الثلاثة واحدا فيصير المستثنى منه ثمانية وكان يجب ان ينقص من الجملة الاولى ايضا واحدا فيرجع إلى السبعة فلا يفيد الا ما افاد الاستثناء الاول ولا يكون لدخول الاستثناء الثاني فائدة. قلنا (1): انه لابد أن يكون استثناء من الجملة التى يليها فيصير اقرارا بالثمانية ويكون ذلك مفيدا. وليس لاحد ان يقول: هلا رددتموه إلى الجملة الاولى فحسب وجعلتم كأنه اقر بستة. وذلك ان هذا لم يعتبره احد لان احدا لم يقل: انه يرجع إلى ما تقدم ولا يرجع إلى ما يليه ومع امكان أن يرجع إليه لان الناس بين قائلين: قائل يقول: انه يرجع إلى ما يليه وهو مقصور عليه وقائل يقول: يرجع اليهما وليس هاهنا من يقول: انه يرجع إلى ما تقدم ولا يرجع إلى ما يليه وذلك باطل بالاتفاق. ولان ذلك لو كان مردودا إليها لوجب دخول واو العطف (2) * فيه فيقول: (له عندي عشرة الا ثلاثة والا واحدا) حتى يكون اقرارا بالستة. وقد اجاب بعض من نصر المذهب الذي اخترناه عن شبهة الاستثناء من الاستثناء بأن قال (3): الاستثناء من الايجاب نفى ومن النفى ايجاب ومحال أن يكون الشئ الواحد مثبتا ومنفيا. وهذا ليس بصحيح وذلك ان المحال هو أن ينفى الشئ عن الحد الذي


[ 325 ]

اثبت وذلك ليس بموجود هاهنا لان الاستثناء من الجملة الاولى التي هي مثبتة نفى والاستثناء من الجملة المنفية اثبات وهما جملتان متباينتان فلا تنافى بين ذلك فيهما. والمعتمد ما قلناه من الوجهين (1). وقد استدل كل واحد من الفريقين (2) باشياء وجدوها موافقة لما يذهبون إليه اما من رجوع الاستثناء إلى ما يليه أو رجوعه إلى جميع ما تقدم. [ و ] لا يمكن الاعتماد عليها لان لقائل أن يقول: ان ذلك انما علم بدليل اخر غير الوجود فالمعول على الوجود (3) * لا يمكن لانه يعارض الوجود لمخالف له وهذه شبهة من خالف وقال بالوقف في ذلك على ما قلناه فعلم بذلك ان المعول على ما قلناه.


[ 326 ]

فصل [ 9 ] (في ذكر جملة من احكام الشرط وتخصيص العموم به) (1) اعلم ان من حكم (2) * الشرط الا يدخل الا على المنتظر اما لفظا أو تقديرا لان ما وجد مما قد قضى أو وجد في الحال لا يصح دخول الشرط فيه. ومن حقه أن يخص المشروط الا أن يقوم دليل على أنه دخل للتأكيد (3) فيحمل عليه ويخرج في المعنى من أن يكون شرطا. فاما ما يخص للشروط فنحو قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) (4) ونحو قوله: (فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا) (5). ولا فرق بين أن يكون الشرط متقدما أو متأخرا في أنه يخصص المشروط.


[ 327 ]

وذهب النحويون إلى أنه متى تأخر فالمراد به المتقدم لان له صدر الكلام. ويقوى في نفسي انه لا فرق بين تقدمه وتأخره ولا يمتنع أن يجعل الشرط الواحد شرطا في اشياء كثيرة كما لا يمتنع أن يكون الشرط الواحد مشروطا بشروط كثيرة وذلك مثل قول القائل: (من دخل دارى واكل طعامي وشرب شرابي فله درهم) فانه يستحق الدرهم إذا دخل الدار واكل وشرب فاما بواحد منها فلا يستحق ذلك. وكذلك يصح أن يقول: (ان دخلت الدار فلك خلعة ودراهم وطعام) فانه متى دخل استحق جميع ذلك. فتارة يكون الشرط واحد والمشروط اشياء وتارة يكون الشرط اشياء والمشروط واحد وكل ذلك جائز. وقد الحق بهذا الباب تعليق الحكم بغاية لانها تصير بمنزلة الشرط في ثبوت ذلك أو نفيه وذلك نحو قوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) (1) لانه جعل تعالى نفى التطهير شرطا في حظر قربهن ووجوده مبيحا لذلك. ونحو قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) إلى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (2) فجعل اعطاء الجزية حدا يجب عنده الكف عن قتالهم وزواله شرطا في ثبوت القتل. وكذلك قوله: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر) (3) فجعل طلوع الفجر حدا يجب عنه الكف عن الطعام والشراب لمن أراد الصوم وعدمه مبيحا لذلك. ونظائر ذلك كثيرة.


[ 328 ]

وقد يجعل للحكم الواحد غايتان وأكثر وقد يجعل غاية واحدة لاحكام كثيرة كما قلناه في الشرط سواء. والشرط والغاية جميعا يدخلان في جميع احكام الافعال من واجب وندب ومباح فينبغي أن يجرى الكلام على ما قلناه (ان شاء الله تعالى) (1).


[ 329 ]

فصل [ 10 ] (في ذكر الكلام في المطلق والمقيد) التقييد يخص العام ويخص المطلق الذي ليس بعام فمثاله تخصيصه للعام قول القائل: (من دخل دارى راكبا اكرمته) و (لقيت الرجل الاشراف). فقوله: (راكبا) خص لفظة (من) لانه لو لم يذكره لوجب عليه اكرام كل من يدخل داره سواء كان راكبا أو ماشيا وكذلك لو لم يقيد لفظة (الرجال) بالاشراف لكان متناولا لجميع الرجال سواء كانوا اشرافا أو غير اشراف. وأما تخصيصه المطلق وان لم يكن عاما فمثل قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) (1). فقوله: (مؤمنة) قد خص (رقبة) لانه لو لم يكن يذكر ذلك لكان يجوز تحرير أي رقبة كانت سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة. وكذلك قوله: (شهرين متتابعين) (2) لانه لو لم يذكر ذلك لكان يجوز متتابعين وغير متتابعين.


[ 330 ]

والتقييد (1) لا يخلوا من أن يكون متصلا بالمطلق أو منفصلا منه (2) *. فان كان متصلا فلا خلاف في أنه يخص المطلق. وإذا كان منفصلا فلا يخلو من أن يكون ما اطلق في موضع هو بعينه (3) * الذي قيد في موضع اخر أو غيره. فان كان هو هو بعينه فلا خلاف ايضا في انه يجب تخصيصه به. وان كان غيره فلا يخلو من أن يكون من جنسه أو من غير جنسه. فإن كان من غير جنسه فلا خلاف ايضا في أنه لا يجب تخصيصه به وأنه ينبغي أن يحمل المطلق على اطلاقه ويحمل المقيد على تقييده ومثال (4) ذلك ان يرد تحرير الرقبة مقيدا بالايمان في كفارة قتل الخطأ ويرد مطلقا في باب النذر أو


[ 331 ]

العتق المتبرع به فان كل واحد منهما ينبغي أن يحمل على ظاهره على ما بيناه. وان كان من جنسه فلا يخلو من أن يكون من جنسه في موضع اخر مقيدا فحسب أو يكون في موضع مقيدا وفي موضع اخر مطلقا. فان وجد من جنسه مطلقا ومقيدا في موضعين فلا خلاف ايضا في أنه لا ينبغي حمله على احدهما لانه ليس أن يقيد لاجل ما قيد من جنسه باولى من أن يحمل ما على اطلاقه لاطلاق ما اطلق من جنسه ومثاله صوم كفارة اليمين. قالوا: ليس أن يحمل على ما شرط فيه التتابع من كفارة الظهار باولى من أن يحمل على ما شرط فيه التفريق من صوم المتمتع (1) * ويجب أن يترك على ظاهره. وان كان من جنسه ما هو مقيد فحسب نحو اطلاق الله تعالى الرقبة في الظهار وتقييده لها بالايمان في كفارة قتل الخطأ فاختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: ان المطلق على اطلاقه لا يؤثر تقييد المقيد فيه وهو مذهب اصحاب أبي حنيفة وبعض اصحاب الشافعي. ومنهم من قال: ان المطلق يصير مقيدا لتقييده ما قيد من جنسه واختلفوا: فمنهم من قال: يجب حمل المطلق على المقيد لغة وعرفا ولا يحتاج إلى قياس. ومنهم من قال: ان اللغة لا تقتضي ذلك وانما يحمل عليه قياسا وهو قول جماعة من أصحاب الشافعي. ومن ذهب إلى القول الاول (2) اختلفوا. فمنهم من قال: المطلق لا يجوز أن يقيد بأن يقاس على المقيد قالوا: لان ذلك يقتضى زيادة في النص وذلك نسخ ولا يصح النسخ بالقياس وهو المحكى عن


[ 332 ]

المتقدمين من اصحاب أبي حنيفة وعن أبي الحسن. ومنهم من قال: انه لا يجوز (1) أن يقيد ثم اختلفوا. فمنهم من قال: يقتضي تخصيص المطلق لا الزيادة فيه. ومنهم من قال: انه يقتضى الزيادة فيه وجوز الزيادة بالقياس ولم يعده نسخا فهذه جمله الخلاف فيه (2) والوفاق. والذي اذهب إليه: انه ينبغي أن يحمل المطلق على اطلاقه والمقيد على تقييده ولا يخص احدهما بالاخر. وانما قلت ذلك لان حمل احدهما على الاخر قياسا انما يسوغ ذلك لمن جوز العمل به فاما على ما نذهب إليه في المنع منه وحظر استعماله فلا يجوز لا في هذا الموضع ولا في غيره. واما حمل المطلق على المقيد من غير قياس فبعيد والذي يدل على ذلك ان من حق الكلام ان يحمل على ظاهره الا أن يمنع منه مانع وإذا كان المقيد غير المطلق وهما حكمان مختلفان (3) * فكيف يؤثر احدهما في الاخر ؟ فان قالوا: لان الله تعالى انما اطلق الشهادة في موضع (4) وقيدها بالعدالة في موضع اخر عقل من ذلك تقييدها بالعدالة في الموضع الذي اطلقها فيه فيجب أن يجعل ذلك عبرة في امثاله. قيل لهم: ان المطلق من الشهادة انما قيد بالعدالة لدليل دل على ذلك من اجماع أو غيره ولم يجعل بالعدالة شرطا في الشهادة لانها قيدت في موضع اخر


[ 333 ]

بالعدالة فمن ادعى ذلك فعليه الدلالة ونحن لو خلينا والظاهر لما قيدنا الشهادة المطلقة وتركناها على اطلاقها. فان قالوا: القران كله كالكلمة الواحدة وقد روى ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام فيجب أن يكون المقيد وان انفصل من المطلق فكأنه متصل به ويصير ذلك بمنزلة قوله: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) (1) انه مقيد بما تقدم كانه قال: (والذاكرات الله كثيرا). قيل لهم: إذا سلمنا ما ذكرته لم يجب ما ذهبت إليه لان المطلق والمقيد لو افترقا لما وجب تقييد المقيد إذا كانا حكمين مختلفين. يدل على ذلك انه لو قال: (من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) (2) (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) (3) لما وجب أن يكون الثانية مقيدة لاجل كون الاولى مقيدة فالتعليق بقولهم: ان القران كالكلمة الواحدة لا معنى له. فاما قوله تعالى: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) انما حملناه على الاول لانه لا يستقل بنفسه ولا يفيد شيا وانما حذف منه لفظ (الله) لدلالة الاول عليه اختصارا. وليس كذلك المطلق لانه مفيد ومستقل بنفسه فلا يحتاج إلى حمله على المقيد بل ترك على حاله. على أنه يلزم من خالف فيما قلناه وجوز تخصيص المطلق لمكان المقيد ان يزيد في كفارة القتل الاطعام لما كان ذلك ثابتا في كفارة الظهار وفي التيمم مسح الرأس والرجلين لما كان ذلك ثابتا في الوضوء وغير ذلك من المواضع وذلك لا يرتكبه احد. فاما من حمل احدهما على الاخر قياسا فعلى مذهب من اوجب القياس


[ 334 ]

قوله اولى من قول من منع من ذلك. وانما قلنا ذلك لان (الرقبة) المطلقة وان كانت من جهة اللفظ ليست عامة فهي في المعنى عامة لانها تقتضي دخول جميع الرقاب (1) فيه فإذا علم بالقياس ان من شرطها أن تكون مؤمنة عند من قال بالقياس صار المجزى منها اقل مما كان يقتضيه اطلاقها فصار تخصيصا من هذا الوجه فينبغي أن يسوغ استعمال القياس فيه. وليس لهم أن يقولوا: ان ذلك زيادة لا تخصيص لان المعقول من (الرقبة) هو الشخص دون الايمان فإذا شرط فيه الايمان فقد شرط فيها ما لا يقتضيه لفظها ومن حق التخصيص أن يكون متناولا لما يتناوله لفظ المخصوص فيجب أن يكون زيادة وذلك ان الايمان وان لم يعقل من (الرقبة) فقد عقل منها المؤمنة والكافرة التي كانت معقولة من الكلام لولا هذا التقييد فصح (2) ان ذلك تخصيص لا زيادة. وقد يكون التخصيص على ضروب: احدها: أن يكون التخصيص بلفظ المخصوص منه نحو قول القائل: (رأيت الزيدين إلا زيد بن خالد) وما شاكل ذلك. وقد يكون بخلاف لفظ المخصوص منه وما يتناوله داخل تحت المخصوص منه لفظا نحو قوله تعالى: (فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاما) (3). وقد يكون التخصيص بأن يعلم ان اللفظ يتناول جنسا من غير اعتبار صفته ويخص بعد ذلك بذكر صفة من صفاته نحو قول القائل: (تصدق بالورق إذا كان صحاحا) ويستثنى منه ما ليس بصحاح. وان كان اللفظ الاول لم يتناول ذلك على التفصيل وقد علم ان الرقبة إذا ذكرت منكرة لم تختص عينا دون عين فصح تخصيص الكافرة منها وتخصيص ذلك قد يكون بان يقترن إلى الرقبة صفة تقتضي اخراج الكافرة وقد يكون باستثناء


[ 335 ]

الكافرة فلا فصل بين قوله عزوجل: (فتحرير رقبة مؤمنة) (1) وبين قوله: (الا أن تكون كافرة) وهذا بين. ولو سلم ان ذلك زيادة لكان لا يمتنع ان يقال به قياسا عند من قال به إذا لم يكن نسخا وليس كل الزيادة (2) * في النص تكون نسخا على ما نبينه في باب الناسخ والمنسوخ وهذه الزيادة مما لا توجب نسخا على ما نبينه. وقد الزم القائلون بتقييد المطلق قياسا ما الزمنا من قال ذلك من غير قياس من ايجاب مسح الرأس في التيمم والاطعام في كفارة قتل الخطأ. واجابوا عن ذلك بجوابين: احدهما: ان ذلك كان جائزا لكنه منع الاجماع منه. وهذا انما يصح على مذهب من اجاز تخصيص العلة فاما من لم يجز ذلك فلا يمكنه هذا الجواب. والجواب الثاني: قالوا القياس انما يصح أن يستعمل في اثبات صفة الحكم وتقييده لا في اثبات نفس الحكم لان اثبات عدد الشهود بالقياس لا يجوز وان جاز اثبات عدالتهم قياسا. واعترض هذا الجواب بان قالوا: ان الامرين واحد في جواز القول بهما قياسا وقد استعمل الشافعي القياس (3) في اثبات عبادات نحو اثبات الصوم بدلا من هدي المحصر وغير ذلك كما استعمله في التقييد وفي اثبات الصفات فلا يمكنه أن ينكر هذا على مذهبه. فالتعليق بما قالوه بعيد والاولى ما قالوه اولا. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 336 ]

فصل [ 11 ] (في ذكر ما يدل على تخصيص العموم من الادلة المنفصلة إلى توجب العلم) (1) تخصيص العموم بأدلة العقل والكتاب والسنة والاجماع صحيح وافعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحيح.


[ 337 ]

وذهب بعضهم إلى أن تخصيص العموم لا يقع بادلة العقل (1). والذي يدل على صحة المذهب الاول ان هذه الادلة التي ذكرناها إذا كانت موجبة للعلم ومقتضية له وجب تخصيص العموم بها والا تناقصت الادلة وذلك لا يجوز [ و ] لهذه الجملة خصصنا قوله تعالى: (يا ايها الناس اتقوا ربكم) (2) وحملناه على العقلاء لما دل دليل العقل على ان الاطفال (3) * والمجانين ومن لا عقل له لا يحسن تكليفه. وكذلك خصصنا قوله تعالى: (الله خالق كل شئ) (4) وقلنا: ان المراد به افعال نفسه لما دل الدليل على ان الواحد منا فاعل ومحدث. ويدل على ذلك ايضا: ان ظاهر الكتاب وحقيقته يترك إلى المجاز لدليل العقل كما تركنا ظاهر قوله: (وجاء ربك) (5) وقوله: (هل ينظرون الا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (6) وقلنا: ان المراد به امر ربك وامر الله لما دل دليل العقل على ان المجيئ لا يجوز على الله.


[ 338 ]

وإذا ثبت ذلك وقد دللنا (1) على ان العموم إذا خص كان مجازا فينبغي أن يجوز ذلك بادلة العقل لان غاية ما في ذلك أن يترك حقيقة إلى المجاز. فان قالوا: دليل العقل يجب تقدمه على الكتاب وما هذا حكمه لا يجوز أن يخص به العموم لان ما يقتضى الخصوص يجب أن يكون مقارنا له. قيل لهم: نحن قد بينا ان الذي يخص العموم هو قصد المخاطب إلى بعض ما تناوله اللفظ وذلك مقارن لحال (2) الخطاب وادلة العقل انما يتوصل بها إلى معرفة القصد الذي وقع التخصيص به وعلى هذا يسقط هذا السؤال. وليس لهم أن يقولوا: ان دليل العقل وان دل على قصد فقد تقدمه وذلك لا يجوز (وذلك) (3) أن الذي انكروه جائز عندنا غير منكر لان الدليل (4) كما يتأخر ويقارن تارة كذلك قد يتقدم على بعض الوجوه فاستبعاد ذلك لا معنى له. ولاجل ما قلناه علمنا بالعقل ان الله تعالى يثيب المؤمن على طاعته ويعوضه على آلامه وان كان ذلك متقدما له. ثم يقال لمن خالف في ذلك: ليس يخلو من أن يحملوا قوله تعالى: (يا ايها الناس) على عمومه وشموله حتى يحمله على العقلاء وغير العقلاء أو يحمله على العقلاء. فان قال: احمله على جميعهم ظهر بطلان قوله بما دل الدليل على خلافه. وان قال: احمله على العقلاء خاصة غير انى لا اسمى ذلك تخصيصا كان ذلك خلافا في عبارة لا يعتبر بها. ومن الناس من قال (5): أن عموم الكتاب يترتب على ادلة العقل فلا يصح ان


[ 339 ]

يقال انه يخص به وجوز تخصيصه بالكتاب وان تقدمه. وهذا غير صحيح لان الغرض بقولنا: انه مخصوص بالكتاب هو انه قد دل على ان المراد به الخصوص ولدليل العقل هذا الحظ فكيف لا يقال انه مخصوص به ؟ فان قالوا: لو جاز تخصيص العموم بدليل العقل جاز نسخه بدليل العقل فلما اتفقنا على ان النسخ لا يجوز أن يقع به كان العموم مثله. قيل لهم: معنى النسخ (1) * يصح عندنا بادلة العقل لكنه لا يسمى نسخا يدل على ذلك ان الله تعالى إذا امر المكلف بفعل ثم عجز عنه المكلف علمنا انه قد سقط عنه فرضه كما انه لو نهاه عنه في انه يسقط فرضه عنه فمعنى النسخ حاصل لكنه منع من اطلاق هذه التسمية لان حد النسخ ليس بحاصل فيه على ما سنبينه فيما بعد ويسمى تخصيصا لان فائدة التخصيص حاصلة ولا مانع يمنع من اطلاقه. اما تخصيص الكتاب بالكتاب فيدل على صحته ما دل على صحة تخصيصه بادلة العقل سواء. فاما امثلته فاكثر من أن تحصى نحو قوله: (اقتلوا المشركين) (2) وقوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (3) ثم قال في موضع اخر: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (4) فخص بذلك (5) * من عدا اهل الكتاب. ونحو قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) (6) فخص من ذلك (7) *


[ 340 ]

بعضهم في نكاح الدوام عند من خالفنا وعندنا في نكاح المتعة وملك اليمين. ونحو قوله ايضا: (واولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن) (1) فخص بهذا الحكم المطلقات عندنا وعند بعض الفقهاء خص الاية الاولى بمن عد الحوامل من النساء وله نظائر كثيرة ولو لم يرد له نظير لكنا نعلم ان ذلك جائز لما قدمناه من الدليل. وليس لاحد أن يقول: ان الله تعالى وصف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يبين للناس ما نزل إليهم فلا يجوز أن يثبت لغيره (2). وذلك ان هذا يسقط من وجهين: احدهما: انه ليس في وصفه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بانه يبين للناس ما يمنع من أن يبين هو ايضا بعض كلامه ببعض. والثاني: انه كما وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ايضا فلا وجه يوجب كون السنة تبيانا للكتاب ومخصصا له الا وهو بعينه يوجب كون الكتاب تبيانا له ومخصصا. فاما تخصيص الكتاب بالسنة فلا خلاف فيه بين اهل العلم (3) وقد وقع منه ايضا في مواضع كثيرة لان الله تعالى قال: (يوصيكم الله في اولادكم) (4) وقال:


[ 341 ]

(للرجال نصيب مما ترك الوالدان) (1) وغير ذلك من آيات المواريث وخصصنا من ذلك القاتل والكافر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث القاتل) (2) (ولا يتوارث اهل ملتين) (3) وغير ذلك. فاما تخصيص بعض السنة ببعض: ايضا جائز لمثل ما قدمناه من الادلة وقد وجد ايضا في مواضع لا تحصى كثيرة. وفي الناس من انكر ذلك وقال: ان الله تعالى جعله صلى الله عليه وآله وسلم مبينا فلا يجوز أن يكون قوله يحتاج إلى بيان فاوجب فيه التعارض وابطله (4). وهذا خطأ لان حال السنة مع السنة حال الكتاب مع الكتاب وكونه صلى الله عليه وآله وسلم مبينا يقتضى جواز أن يبين سنته كما يقتضى جواز أن يبين الكتاب وكما لم يمنع ذلك من أن يبين احكاما مبتداة فكذلك لا يمنع من أن يبين سنة يحتاج إلى أن يبينها بسنة اخرى. فاما (5) تخصيص الكتاب بالاجماع (6): فيصحح ايضا لمثل ما قدمناه من الادلة وقد وقع ايضا في مواضع كثيرة نحو اتفاقهم على ان العبد لا يرث فخص بذلك اية المواريث ونحو اجماعهم على ان العبد كالامة في تنصيف الحد فخص به قوله


[ 342 ]

تعالى: (الزانية والزانى) (1) وغير ذلك. واما تخصيص الكتاب بأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فصحيح ايضا لان الدليل قد دل على ان فعله كقوله في وجوب الرجوع إليه في معرفة الاحكام فإذا ورد الكتاب بتحريم اشياء ثم وجدناه عليه السلام فاعلا لبعضها علمنا بفعله خصوص الكتاب ولذلك خص قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) برجمه عليه السلام ماعزا (2). وتخصيص قوله عليه السلام بفعله صحيح ايضا لمثل ما قلناه وسندل فيما بعد على ان فعله ليس بمقصور عليه وانه كقوله وصحة ذلك يقتضى جواز التخصيص به. وهذه الجملة كافية في هذا الباب.


[ 343 ]

فصل [ 12 ] (في ذكر تخصيص العموم باخبار الاحاد) اعلم ان من قال ان خبر الواحد لا يجوز العمل (1) به فقوله خارج عن هذا الباب وانما الخلاف في ذلك من اوجب العمل به (2). واختلف القائلون باخبار الاحاد في اثبات الاحكام في هذه المسألة: منهم: من اجاز تخصيص العموم بها على كل حال ما لم يمنع من ذلك مانع وهو مذهب اكثر الفقهاء والمتكلمين وهو الظاهر عن الشافعي واصحابه وعن أبي الحسين (3) وغيرهما (4).


[ 344 ]

ومنهم من قال: يجوز تخصيصه بخبر الواحد إذا كان قد خص لانه قد صار مجملا ومجازا وإذا لم يدخله التخصيص لا يجوز أن يخص بها (1) وهو مذهب عيسى بن ابان (2). ومنهم من قال: إذا خص العموم بدليل متصل مثل الاستثناء وما جرى مجراه لم يجز تخصيص العموم به لان ذلك حقيقة – على ما حكيناه فيما تقدم (3) – وإذا خص بدليل منفصل جاز تخصيصه باخبار الاحاد لانه قد صار مجازا (4). والذي أذهب إليه: أنه لا يجوز تخصيص العموم بها على كل حال سواء خص أو لم يخص بدليل متصل أو منفصل وكيف كان والذي يدل على ذلك: ان عموم القرآن يوجب العلم وخبر الواحد يوجب غلبة الظن ولا يجوز أن يترك العلم للظن على حال فوجب لذلك أن لا يخص العموم به. فان قيل: إذا دل الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد كان وجوب


[ 345 ]

التخصيص معلوما (1) – وان كان نفس الخبر مظنونا – ويجرى ذلك مجرى قيام الدلالة على وجوب التنفيذ الحكم عند الشهادة وان كانت الشهادة غير معلومة وكذلك إذا ظن كون القبلة في جهة من الجهات وجب علينا التوجه إليها وان كان ذلك معلوما وان كان كون القبلة فيها مظنونا فما المنكر من أن يكون خبر الواحد مع العموم يجرى هذا المجرى. والجواب عن ذلك: أن السائل عن هذا السؤال لا يخلو من أن يكون مخالفا لنا في الاصول أو موافقا: فان كان مخالفا فلا يصح له هذا السؤال لانه تضمن قيام الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد ونحن قد افسدنا سائر ما يدعيه مخالفونا من الادلة على وجوب العمل بخبر الواحد (2) فإذا فسد العمل بها بتلك الادلة فلا يمكن أن يدعى جواز التخصيص بها وقد مضى الكلام على ادلتهم مستوفى. على انه لو سلم لهم العمل بخبر الواحد على غاية اقتراحهم لم يجز تخصيص العموم به لانه ليس ما دل على وجوب العمل بها يدل على جواز التخصيص كما ان ما دل على وجوب العمل بها لا يدل على وجوب النسخ بها بل احتاج ذلك إلى دليل غير ذلك فكك التخصيص فلا فرق بينهما. فان قالوا: إذا دل الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد فينبغي أن يكون خبر الواحد دليلا في كل موضع الا أن يمنع منه مانع والنسخ الذي ذكرتموه قد كان يجوز أن يقع بخبر الواحد الا أنه منع الاجماع منه فبقى كونه دليلا فيما عدا النسخ. قيل لهم: خبر الواحد دليل شرعى وليس بعموم يخص منه بعضه ويبقى ما عداه وإذا ثبت ذلك كان الذي يدل على وجوب العمل به من الاجماع انما هو


[ 346 ]

حاصل فيما طريقه العمل فحسب مما لا نص فيه في الكتاب فينبغي أن يحتاج في اثبات كونه دليلا في تخصيص العموم به إلى دليل. فان قال (1): الصحابة الذين (2) عملوا بخبر الواحد عملوا بها وان خص العموم. قيل لهم: هذا محض الدعوى ما الذي يدل عليها ؟ فانا لا نسلم ذلك. فان ذكروا: انهم خصوا اية المواريث (3) بالخبر الذي روى: (ان القاتل لا يرث) (4) وكان خبرا واحدا ؟ وكذلك عملوا بخبر ابي هريرة في نكاح المرأة على عمتها وخالتها (5) وخصوا بذلك قوله تعالى: (احل لكم ما وراء ذلكم) (6) ونظائر ذلك كثيرة. قيل لهم: انما تركوا عموم اية الميراث بالخبر الذي تضمن (ان القاتل لا يرث) لانهم اجمعوا على صحته فلما اجمعوا على صحته وعملوه خصوا العموم به وليس ذلك موجودا في الاخبار التي لا يعلم صحتها. واما نكاح المرأة على عمتها وخالتها فعندنا يجوز على وجه (7) فلا يخصص العموم به. ومن اجاز ذلك ايضا انما اجازه لان عنده انهم اجمعوا على صحة هذا الخبر


[ 347 ]

فلما اجمعوا عليه دل ذلك على صحته (1) * وليس هذا موجودا في اخبار الاحاد التي لا يعلم صحتها. على ان المعلوم من حال الصحابة انهم ردوا اخبارا كثيرة نافت عموم القرآن واقتضت تخصيصه نحو ما روى عن عمر وغيره انهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس (2) في انه لا نفقة لها ولا سكنى وقالوا: (لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة لا ندرى صدقت ام كذبت) ؟ (3) وهذا تصريح بانه لا يجوز تخصيص العموم بخبر الواحد. وليس لهم أن يقولوا: انما ردوا الخبر إذا كان يخالف القرآن لا أنه يخصه وما يخص العموم به لا يقتضى ترك القرآن بل يقتضى القول به فدل ذلك على سقوط ما ذكرتموه. وذلك ان سقوط نفقة المبتوتة (4) كفاطمة خاصة (5) * تخصيص القرآن لان عموم القرآن اقتضى النفقة لها ولغيرها ومع ذلك لانهم علموا ان حكم فاطمة وغيرها من النساء حكم واحد وكان ذلك عندهم معلوما ولو قبلوا خبرها لادى عندهم إلى دفع القران فلذلك ردوه.


[ 348 ]

قيل لهم: هذا محض الدعوى ومن اين انهم علموا أن حكم فاطمة حكم غيرها على حد واحد الا بعموم القران ؟ ولذلك صرح (1) * بهذا التعليل عمر ولو كان ذلك معلوما بغير عموم القران لكان يقول قد علمنا ان حكمك في هذا الباب حكم غيرك من النساء ولا يحتاج ان يقول: (لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة لا ندرى صدقت أم كذبت) وذلك يسقط هذا السؤال. ثم يقال لهم: اليس قد قيل اهل قبا خبر الواحد (2) فيما طريقة النسخ وانتقلوا بذلك عن القبلة التي كانوا عليها ولم يدل ذلك على جواز النسخ بخبر الواحد ؟ فان قالوا: انما قبلوا ذلك بدليل دلهم على ذلك دون مجرد الخبر. قيل لهم مثل ذلك في الاخبار التي تعلقوا بها. فان قالوا: اليس خبر الواحد قد قبل فيما يقتضى العقل خلافه فما المنكر من أن يجوز قبوله فيما يقتضى عموم القران خلافه ؟ قيل لهم: هذا انما يمكن أن يستدل به على من أبى من تخصيص العموم به عقلا فيقال له: إذا جاز الانتقال عما يقتضى العقل خلافه بخبر الواحد جاز أن ينتقل عما يقتضيه العموم بمثل ذلك. فاما من اجاز ذلك عقلا وانما امتنع منه لفقد (3) الدلالة عليه فهذا السؤال ساقط عنه وانما ينبغي أن يتشاغل بان هاهنا دليلا يدل على جواز تخصيص العموم به وهو نفس المسألة التي اختلفنا فيها. على ان مثل هذا يمكن أن يقال في جواز النسخ به لان الانتقال عن موجب العقل من حظر إلى اباحة أو من اباحة إلى حظر في معنى النسخ وان لم يسم نسخا


[ 349 ]

فينبغي أن يجوز على موجب ذلك النسخ بخبر الواحد وهذا لا يقوله احد. ولا جواب عن ذلك الا ما ذكرناه من أن ذلك دليل على جواز ذلك لا على وجوبه بل وجوبه يحتاج إلى دليل مفرد. وفي الناس من قال: ان العموم ثبت اجتهادا (1) * فجاز الانتقال عنه بخبر يوجب غلبة الظن. وهذا القول باطل لان الدليل على القول بالعموم دليل يوجب العلم وليس من باب الاجتهاد في شئ وقد دللنا على ذلك فكيف يجوز أن يترك بما طريقه غلبة الظن. ثم يقال لهم: لا خلاف (2) * ان خبر الواحد لا يجوز قبوله فيما طريقه العلم والاعتقاد وإذا ثبت ذلك فخبر الواحد إذا خص العموم اقتضى شيئين. احدهما: العمل بمتضمنه وذلك من باب العمل. والثاني: وجوب الاعتقاد في ظاهر العموم انه مخصوص وذلك لا يجوز لانه اقدام على مالا نأمن كونه جهلا. فان قالوا: انا نأمن كونه جهلا بما قام من الدليل على جواز قبوله فيما خص العموم. فقد مضى الكلام على ذلك وبينا ان ذلك محض الدعوى وصريح الاقتراح. فاما من قال: لا يجوز تخصيص العموم به الا إذا خص على حسب اختلافهم في ذلك من تخصيصه بدليل متصل أو منفصل أو استثناء وغير ذلك ومتى خص بشئ من ذلك جاز تخصيصه. فما دللنا به من المنع من جواز تخصيصه بخبر الواحد يبطل هذا الفصل.


[ 350 ]

على انهم انما اجازوا تخصيصه بخبر الواحد إذا خص لانه يصير مجملا (1) * ومجازا. فأما كونه مجازا فنحن نقول به ولا نسلم ما انه يصير مجملا فيما عداه بل ما عدا ما خص منه معلوم. كما انه لو لم يخص منه شئ كان الجميع معلوما وذلك يبطل ما قالوه. فاما إذا كان السائل عن السؤال الذي قدمناه من موافقينا وسئل ذلك على طريقتنا التي اعتمدناها من جواز العمل بالاخبار التي تختص بنقلها (2) الطائفة المحققة فالكلام عليهم ايضا مثل ذلك بأن يقال: ما دل على عمل الطائفة المحقة بهذه الاخبار من اجماعهم على ذلك لم يدل على العمل بما يخص القران ويحتاج في ثبوت ذلك إلى دلالة بل قد ورد عنهم عليهم السلام ما لا خلاف فيه من قولهم: (إذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافق كتاب الله فخذوه وان خالفه فردوه أو فاضربوا به عرض الحائط (3)) على حسب اختلاف الالفاظ فيه وذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القران. فان قالوا: أليس قد عملت الطائفة باخبار كثيرة طريقها الاحاد وعموم الكتاب بخلافها فهلا دل ذلك على جواز تخصيص العموم بها على كل حال ؟ قيل لهم (4) *: لا نسلم ان الطائفة عملت باخبار احاد يقتضى تخصيص القران وعلى من ادعى ذلك ان يبينه. على انا قد بينا (5) * ان الاخبار الصادرة من جهتهم عليهم السلام على ضربين.


[ 351 ]

احدهما: أن يكون خبرا وليس هناك ما يخالفه ويكون فتيا الطائفة به فما هذا حكمه يكون مجمعا على صحته ويجوز العمل به وتخصيص العموم به. وان كان هناك ما يخالفه من الاخبار فالعمل بما يطابق العموم ايضا اولى لانه يصير معلوما صحته مثل العموم وبينا ان ذلك وجه يرجح به احد الخبرين على الاخر. وان كان خبر لا يعلم فتيا الطائفة اصلا فيه وهناك عموم يقتضى خلافه فالعمل بما يقتضى العموم اولى بما قدمناه من الدلالة.


[ 352 ]

فصل [ 13 ] (في ذكر تخصيص العموم بالقياس) اعلم ان الكلام في هذه المسألة قد سقط عنا لانا لا نجيز العمل بالقياس لا ابتداء ولا فيما يخص العموم. وانما الخلاف في ذلك بين من اثبت القياس لان (1) فيهم من اجاز تخصيص العموم به على كل حال إذا صح القياس بشروطه وهو مذهب اكثر الفقهاء وهو مذهب الشافعي والمحكى عن ابي الحسن واليه ذهب أبو هاشم اخيرا (2). ومنهم من أبي تخصيص العموم به على كل وجه وهو مذهب ابي على وبه قال أبو هاشم اولا وقد قال به بعض الفقهاء (3).


[ 353 ]

ومنهم من قال: يخص بالقياس الجلى ولا يخص بالخفي (1) وهو مذهب بعض اصحاب الشافعي (2). ومنهم من قال: انه يخص بذلك إذا دخله التخصيص وسوغ فيه الاجتهاد (3) ولا يجوز تخصيصه إذا كان باقيا على عمومه (4). والاقوى من هذه الاقاويل – إذا فرضنا العبادة بالقياس – قول أبي علي وهو أنه لا يجوز تخصيص العموم به على كل حال. والذي يدل على ذلك: ان العموم دليل يوجب العلم والقياس عند من قال به يوجب غلبة الظن ولا يجوز أن ينتقل عما طريقة العلم إلى ما يقتضى غلبة الظن (5). فليس (5) لهم أن يقولوا: إذا ثبت ان القياس دليل كان تخصيص العموم به معلوما.


[ 354 ]

وذلك انا قد بينا الجواب عن مثل هذا السؤال في الباب الاول (1) بأن قلنا: خبر الواحد دليل شرعى وكذلك نقول ان القياس دليل شرعى فينبغي أن يثبت في الموضع الذي استعملته الصحابة وقررته الشريعة وانما ثبت عنهم – على زعمهم – استعمل القياس فيما لا نص فيه من احكام الحوادث. ولا يمكنهم أن يدعوا انهم استعملوه فيما يخص العموم. لان هذه الدعوى لا برهان عليها ودون ذلك خرط القتاد. ويدل ايضا على ذلك: ان النسخ قد ثبت انه لا يجوز به فكذلك يجب أن يكون حكمه حكم التخصيص. وليس لهم ان يقولوا: لا يجوز من الحكيم تعالى أن ينزل نصا ويجعل القول به والعمل بمقتضاه موقوفا على اجتهادنا وانما يسوغ الاجتهاد (2) في صرفه إلى وجه دون وجه. فان قالوا: هذا الذي ذكرتموه من الجواب عن هذا السؤال يمكن أن يجعل فرقا بين النسخ وتخصيص العموم وسقط بذلك اصل الدليل. وذلك انهم إذا جعلوا ذلك فرقا بين التخصيص والنسخ. قيل لهم: لا فرق بين النسخ والتخصيص في المعنى لان التخصيص هو: (اخراج بعض ما يتناوله لفظ العموم من الاعيان منه) والنسخ: (اخراج بعض ما يتناوله دليل النص من الازمان منه) فهما سواء في المعنى فما منع من احدهما منع من الاخر. على انه لا يمكن أن يجوز النسخ بالقياس الا من يقول بتخصيص العلة ومن لم يجز تخصيص العلة لا يمكنه ارتكابه على حال. وقد اجاب بعض اصحاب الشافعي (3) عما الزمناهم: بان النسخ انما لم يصح


[ 355 ]

فيه لان كونه ناسخا للنص ينبئ عن ان النص بخلافه والقياس لا يصح إذا دفعه النص وخصه (1) * فكأن النسخ به يوجب النسخ بقياس فاسد وهذا لا يجوز. وهذا بعينه يمكن أن يقال في المنع من تخصيص العموم به لان العموم ايضا نص وما يؤدى إلى تخصيصه ينبئ عن ان ظاهره بخلافه والقياس لا يصح إذا دفعه النص وكان التخصيص به يوجب التخصيص بقياس فاسد وهذا ما لا فصل فيه. ويدل ايضا على ذلك: على ان القياس انما يسوغ (2) * مع عدم النص للاضطرار إليه وعموم الكتاب نص يغنى عنه ولا يسوغ استعماله وخلافه نص حتى يخص به. وليس لهم ان يقولوا: انه إذا خص العموم به يكون مستعملا فيما لا نص عليه لانه قد يبين به انه لم يرد ذلك بالعموم وإذا لم يكن (3) مرادا به فقد استعمل القياس فيما لم يدخل تحت النص. وذلك ان الذي قالوه غير صحيح لانه لو لم يستعمل ذلك القياس لكان ما يتناوله داخلا تحت النص فيجب بطلانه لانه قد استعمل فيما لولاه لدخل تحت النص. فان قالوا: النص انما يتناول ذلك لو لم يصح القياس فاما إذا صح ذلك القياس لم يدخل تحته فقد حصل ان القياس إذا استعمل فيما يخص به العموم لا يكون مستعملا فيما تناوله. قيل لهم: ومن سلم ان القياس الذي يوجب تخصيص العموم قياس صحيح ؟ وليس يعلم ان من قال بالمنع من تخصيص العموم به يقول: ان بظاهر العموم احكم بأن كل قياس يؤدى إلى تخصيصه قياس باطل. ولو سلم ان ذلك قياس صحيح لكان قد سلمت المسألة.


[ 356 ]

فعلم بجميع ذلك صحة ما نصرناه ويدل ايضا على صحة ما قدمناه: خبر معاذ وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: (بم تقضى ؟ قال: بكتاب الله ثم قال: بسنة رسول الله (1). فقال له عليه السلام فان لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيى) (2) (3) فصوبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وهذا يقتضى ان القياس انما يسوغ استعماله إذا لم يوجد في الكتاب ما يدل على الحكم الذي يستعمل فيه فمتى وجد فيه بطل استعماله وإذا بطل استعماله لم يصح أن يخص به العموم لان القياس الفاسد لا خلاف انه لا يخص به العموم. وليس لهم أن يقولوا: ان المراد بذلك ان لم اجد في كتاب الله نصا على المسألة اجتهدت رأيى فاما إذا كان فيه عموم فانه لا يمتنع اجتهاد الرأى معه لانه إذا خص بالقياس كان ما استعمل فيه القياس غير موجود في الكتاب. وذلك ان هذا الذي ذكروه تخصيص للخبر لانه انما صوبه في استعمال القياس إذا لم يكن الحكم موجودا في الكتاب والسنة وقد يكون الحكم ثابتا فيهما بنص معين ويكون ايضا موجودا بأن يكون داخلا في العموم فمن خص الخبر باحدهما احتاج إلى دلالة. وفي الناس من استدل على صحة ما ذهبنا إليه بأن قال: القياس فرع على النص من عموم وغيره فمتى اعترض به عليه كان قد اعترض على الاصل بفرعه وهذا لا يجوز (4).


[ 357 ]

وهذا غير صحيح لان لهم ان يقولوا: ان اصل القياس هو الذي ثبت صحته به أو ما يحمل عليه الفرع من الاصول وكلاهما لا يجب الاعتراض بالقياس عليه وانما يجوز أن يقاس ما دخل تحت اية محرمة ما دخل تحت اية محللة فتحلله وتخرجه من جملة ما يقتضى التحريم نحو قياس العقد في الارز (1) في التحريم ويخص به قوله: (احل الله البيع) (2) وفي ذلك سقوط الاستدلال بهذه الطريقة. وقد استدل من خالف ما اخترناه بان قال: الذي دل على اثبات القياس دليل مقطوع عليه وهو اجماع الصحابة (3) فصار العمل بما يقتضيه معلوما وجوبه كما ان العمل بما يقتضيه العموم معلوم وجوبه فإذا تساويا في هذا الوجه جاز تخصيص العموم به. وهذا الذي ذكروه غير صحيح لانا إذا سلمنا اجماع الصحابة على العمل بالقياس انما نسلمه فيما لا نص فيه من الكتاب من العموم وغيره فاما إذا كان ما يدل عليه (من الكتاب) (4) لا نسلم انهم استعملوا فيه ولا يمكنهم ان يبينوا ان الصحابة استعملت القياس في تخصيص العموم وإذا لم يثبت ذلك لم يجب من حيث استعملوا القياس في موضع أن يجوز استعماله في كل موضع لانا قد بينا انه دليل


[ 358 ]

شرعى ينبغي أن لا يتجاوز به الموضع الذي قررته الشريعة كما ان ثبوته في الموضع الذي ثبت لا يجوز أن يتجاوز به إلى أن ينسخ به لانه لم يثبت ذلك فيه ذلك. وكذلك القول في التخصيص ولا فرق بينهما على حال. واستدلوا ايضا بأن قالوا: قد ثبت ان القياس يقبل فيما يقتضى العقل خلافه وان كان دليل العقل يوجب العلم والقياس غلبته الظن وكذلك العمل به فيما يخص الكتاب وان كان يوجب العلم. يقال لهم: هذا الدليل انما يمكن أن يستدل به على من أبى تخصيص العموم بالقياس عقلا (1) فيقال له إذا جاز العمل به فيما يقتضى العقل خلافه (جاز العمل به فيما يقتضى العموم خلافه). فاما من جوز ذلك وانما امتنع من القول به لانه لم يثبت ورود العبادة به فلا يمكن أن يعتمد ذلك في هذا الباب بل يحتاج إلى أن يشتغل بالدلالة على ثبوت ما كان جائزا لانه ليس كل ما كان جائزا في العقل ثبت العمل به على كل حال فعلم بذلك سقوط هذا الاستدلال. وفي الناس من اعترض [ على ] هذا الدليل وقال: انا لا نعمل بالقياس إذا اقتضى العقل خلافه (2) * بل انما نعمل به فيما يجوزه العقل دون ما يقتضى قبحه أو حسنه. وهذا ليس بشئ لان غرض القوم بذلك ان الفعل إذا كان يقتضى تحليل شئ أو تحريمه ثم ثبت بالقياس في الشرع تحريم ما كان مباحا أو اباحة ما كان محظورا فقد عملوا بخلاف ما كان يقتضيه العقل. ولا يمكن أن يقال: ان دليل العقل يقتضى اباحة شئ أو حظره بشرط أن لا يدل الشرع بخلافه فالقياس ان يستعمل في خلافه المبين به (3) ان العقل لم يقتضى ما


[ 359 ]

ادى القياس إلى خلافه وليس كذلك العموم لانه اقتضى تحريم الشئ مطلقا بلا شرط فيه فلو قبل القياس في خلافه لكان فيه اعتراض به عليه. وهذا لا يجوز لان لهم ان يقولوا: الحال فيهما واحد لان دليل العقل يقتضي تحليل الانبذة ما لم يقتضى دليل سمعي (1) تحريمه والعموم ايضا يقتضى ذلك ما لم يحصل دليل سمعي على خلافه فهما في هذا الباب من جهة المعنى سواء وانما الخلاف بينهما ان العموم يدل على ما يدل عليه لفظا وليس كذلك دليل العقل وهذا لا يقتضى الفرق بينهما من جهة المعنى.


[ 360 ]

فصل [ 14 ] (في تخصيص العموم باقاويل الصحابة وبالعادات وبقول الراوى) (1) القول إذا ظهر بين الصحابة واتفقوا كلهم انه يخص العموم فلا خلاف عن أهل العلم انه يخص به العموم لان ذلك اجماع وقد بينا ان الاجماع يخص به العموم.


[ 361 ]

فاما إذا ظهر القول ولم يعرف له مخالف فمن جعله اجماعا أو في حكم الاجماع خص به ايضا العموم ومن لم يجعله اجماعا من حيث جواز أن يكون الساكت لو استفتى لافتى بخلافه لجرى ذلك مجرى القول المختلف فيه والقول المختلف فيه بين الصحابة اختلفوا في جواز تخصيص العموم به: فذهب أبو على إلى أنه يجوز الاخذ بقول بعضهم وان خالفه غيره فيه قال: (لان بعضهم كان يرجع إلى قول بعض من غير حجاج وهو المحكى عن محمد بن الحسن (1) لانه حكى عنه انه قال: (ما اجمعوا عليه واختلفوا فيه جاز أن يقاس عليه ويتخذ اصلا تجعل اختلافهم كاجتماعهم في انه اصل). وقد حكى عن الشافعي قديما انه كان يقول ذلك ويرتب اقاويل الصحابة فيقدم اقاويل الخلفاء ثم قول اقدمهم في العلم فعلى هذه الوجوه لا يمتنعون من تخصيص الكتاب به لانه حجة كالقياس وخبر الواحد عندهم. واما من قال: ان قولهم ليس بحجة فانه لا يخص العموم به وهو مذهب اكثر الفقهاء (2) وقول الشافعي في الجديد (3) لانه قدم القول بالعموم على القول بقول الصحابي إذا اختلف فيه.


[ 362 ]

والصحيح عندنا من هذه الاقاويل انه لا يخص العموم الا بما كان اجماعا موجبا للعلم أو يكون قول من دل الدليل على عصمته (1) فان ذلك يخص به العموم وما عدا ذلك لا يجوز تخصيصه به وسنبين فيما بعد ان ما ادعوه اجماعا أو في حكم الاجماع من القول الذي لا يعرف له مخالف ليس باجماع ان شاء الله. واما العادات فعلى ضربين (2): ضرب منها: هي من جهة الافعال فما هذا حكمه لا يخص به العموم بل (3) * يجب على المخاطبين أن ينتقلوا عن تلك العادات لاجل العموم واستدلوا به على تركها فكيف يخص به العموم ؟ والضرب الاخر: ان يكون العادة جارية في استعمال لفظ العموم في بعض ما تناوله فما هذا حكمه ينبغي أن يخص به العموم لانا قد بينا فيما تقدم ان الخطاب ينبغي أن يحمل على ما تعورف ويترك ما كان موضوعا له لانه بالعادة قد صار حقيقة فيما اعتيد فيه وقد استوفينا ما يتعلق بذلك فيما مضى (4). فاما إذا روى الراوى الحديث العام ثم صرفه إلى بعض ما تناوله فمن الناس من قال: يجب حمله على الخصوص لانه اعرف بمراد الرسول من غيره لمزية المشاهدة التي عندها تعرف المقاصد وهو المحكى عن بعض اصحاب أبي


[ 363 ]

حنيفة لانه كان يحمل ما رواه ابي هريرة من خبر ولوغ الكلب (1) على أن السبع ليس على الوجوب من حيث كان يذهب إلى جواز الاقتصار على ثلاث. وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن (2): أن التعلق بظاهر الخبر أولى. ومنهم من قال: انه يجب أن ينظر فيه فان كان الراوى عدل عن ظاهر ما رواه وجب التمسك بما رواه من اللفظ وان كان قال باحد محتملاته حملت عليه وهذا الذي يدل عليه ظاهر قول الشافعي واليه يذهب كثير من اصحابه (3) لانه حمل ما رواه ابن عمر في حديث الافتراق (4) على الافتراق بالبدن لان ابن عمر حمله على ذلك وحمل قوله في حديث الربا: (يدا بيد) (5) ان المراد به أن لا يفترق الا بعد التقابض من حيث حمله ابن عمر على ذلك ولم يصرف قوله: صلى الله عليه وآله وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (6) إلى الرجال وان كان ابن عباس صرفه إليهم. والذي يجب أن يقول عليه في ذلك: ان الراوى إذا روى الخبر العام وحمله على بعض ما تناوله وقال: انه علم ذلك من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة وجب حمله على ما ذهب إليه لان وجوب حسن الظن به في نفس الخبر يوجب حسن الظن به في قوله انه علم ذلك ضرورة من قصد الرسول صلى الله عليه


[ 364 ]

وآله وسلم. وان كان ما ذهب إليه انما قاله بضرب من الاستدلال أو بخبر اخر أو قياس أو غير ذلك فينبغي أن يتمسك بظاهر الخبر ويترك ما ذهب إليه لانه يجوز أن يكون اخطأ في جميع ذلك لشبهة دخلت عليه. ومتى لم يظهر لنا ما حمله عليه وهل فعل ذلك لانه علم ذلك من قصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة أ ولوجه اخر من الاستدلال ؟ وجب التمسك بظاهر الخبر وان جاز أن يكون في الاصول ما لاجله حمله عليه. ومتى كان ما رواه مجملا وصرفه إلى احد الوجهين فمن الناس من قال: انه يجب حمله عليه لان حسن الظن به يوجب ذلك الا أن يكون قد حصل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيان يخالف ذلك فيعيد عليه. ومنهم من قال: ان الجميع بمنزلة سواء في انه يجب التمسك بقول الرسول ودون قول الراوي بانه لو عرف قصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة لرواه ولازال عن نفسه ايهام مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا هو الاقوى.


[ 365 ]

فصل [ 15 ] (في تخصيص الاجماع وتخصيص قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) الاجماع لا يخلو من أن يكون على فعل (1) * أو على قول أو على رضا بالشئ. فان كان الاجماع فعلا التخصيص لا يسوغ فيه كما لا يسوغ في افعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك ان كان رضا بالشئ. وان كان اجماعهم على القول فان كان عاما (2) * نظر فيه: فان اضطررنا (3) * إلى قصدهم بذلك امتنع ايضا التخصيص فيه. وان لم نضطر إلى قصدهم جاز التخصيص كما يجوز في عموم الكتاب. وان كان ذلك القول نصا (4) * فالتخصيص فيه لا يجوز وان كان في حكم


[ 366 ]

العموم من حيث كان حال غير المنصوص عليه حاله. واما قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ورد عنه فاقتضى (1) تحريم اشياء على المكلفين ثم وجد فاعلا لبعضها: فمن الناس من قال: انه عليه السلام مخصوص بذلك الا أن يدل دليل على خلافه فيخص به العموم لان الظاهر منه ان حاله كحال غيره الا أن يدل دليل على أنه مخصوص به وهذا هو مذهب الشافعي (2) ولذلك خص به نهيه عليه السلام عن استقبال القبلة لغائط أو بول لقعوده عليه السلام على لبنتين مستقبل بيت المقدس (3). ويقول: ان فعله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بالدليل مساواة امته له فيصير كقول اخر عام في جواز تخصيص القول الاول به والقول الاول يحكى عن بعض اصحاب الشافعي وانه حمل ما روى من تزويج ميمونة (4) وهو محرم على انه مخصوص به وانه لا يعترض على نهيه عن نكاح المحرم وهو الذي حكاه أبو


[ 367 ]

عبد الله عن أبي الحسن (1) لانه حمل ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كشفه فخذه بحضرة بعض اصحابه (2) وما روى انه استقبل بيت المقدس على انه مخصوص به فلم يخص قوله به ودل على ذلك بأن قال: ان فعله لا يتعداه الا بدليل ولا يجوز أن يعترض به على القول الذي يقتضى تعديه الينا. والصحيح هو الاول لان الدلالة قد دلت على ان حكمنا وحكمه في فعله واحد على ما نبينه فيما بعد فإذا فعل شيئا صار كانه قال لنا هو مباح وقد علمنا انه لو قال ذلك لوجب تخصيص العموم به فكذلك يخص بفعله لانه وقع هذا الموقع (3).


[ 368 ]

فصل [ 16 ] (في ان العموم إذا خرج على سبب خاص لا يجب قصره عليه) اختلف الفقهاء في ذلك: فمنهم من قال: انه يجب قصره عليه والى ذلك ذهب طائفة من اصحاب الشافعي (1) وان كان كلام الشافعي محتملا له ولغيره (2).


[ 369 ]

وذهب الباقون (1): إلى ان الواجب حمل الكلام على ظاهره دون السبب إذا امكن ذلك فيه وهو مذهب جماعة من اصحاب الشافعي (2) ومذهب ابي الحسن (3). وقال: انه إذا لم يمكن حمله على ظاهره ولم يفد الا إذا علق به قصر عليه. والذي نذهب إليه: ان كلامه عليه السلام لا يخلو من أن يكون مطابقا للسبب من غير زيادة عليه أو يكون اعم منه: فان كان مطابقا له من غير زيادة فلا خلاف انه يجب حمله عليه. ومتى كان اعم منه وجب حمله على ظاهره ولا يقصر على سببه وهو على ضربين: احدهما: أن يكون اعم منه في الحكم (4) * الذي يسأل عنه نحو ما روى عنه عليه السلام انه سئل عن من ابتاع عبدا فاستغله ثم وجد فيه عيبا فقال عليه السلام: (الخراج بالضمان) (5) وذلك يتناوله ويتناول كل بيع وكل مضمون. ومنه ما يكون عاما في ذلك الحكم وفي حكم اخر يسأل عنه نحو ما روى عنه عليه السلام انه سئل عن ماء البحر أيتوضأ به ؟ فقال: (هو الطهور ماؤه والحل ميتته) (6) فأجاب بما يقتضى جواز التوضؤ به وبما يقتضى جواز سائر الاحكام من الشراب وازالة النجاسة وغير ذلك. فاما إذا كان كلامه متى لم يعلق بالسبب لم يفد وجب تعليقه به على كل


[ 370 ]

حال (1) * وذلك نحو ما روى عنه عليه السلام انه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (اينقص إذا يبس ؟) قيل له: نعم فقال: (فلا إذا) (2). فاما إذا سئل عن اشياء فلا يخلو ان يكون الوقت وقت الحاجة أو لا يكون كذلك: فان كان وقت الحاجة فلا يجوز الا أن يجيب عن جميعه في الحال وان كان قد تقدم منه بيان اخر يمكن الوصول إليه لان الوقت وقت الحاجة فلا يسوغ منه عليه السلام الا بين له الوجوب عما سئل عنه. الا ترى ان المستفتى إذا استفتى عن شئ مست الحاجة إليه لم يسع إليه الا يفتى فيه ؟ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك اولى. وإذا لم يكن الوقت وقت الحاجة فلا يخلو السائل من ان يكون من اهل الاجتهاد أولا يكون كذلك فان كان ممن يمكنه الوصول إلى ذلك وقد تقدم منه عليه السلام بيان لذلك جاز أن لا يجيب عنه ويحيله على ما تقدم من البيان وكذلك قال عليه السلام لعمر لما سأله عن الكلالة فقال: (تكفيك اية الصيف) (3) وقال له ايضا وقد سئله عن القبلة للصائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته (4) * اكان يضرك ؟) قال: قال: (ففيم إذا ؟) (5) فنبهه على الجواب. ان كان السائل عاميا يجوز ايضا أن يحيله على بيان ظاهر ويكون في حكم


[ 371 ]

المجيب وذلك في نحو قوله عليه السلام للسائل: (توضأ كما امرك الله تعالى) (1) فاحاله على الاية. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وجوه: منها: ما ذكره أبو عبد الله البصري (2) وهو: (ان كلامه عليه السلام هو الدلالة على الحكم فيجب أن يعتبر صفته في الدلالة دون صفة غيره فإذا كان عاما دل على حسب دلالة العموم وكذلك ان كان خاصا كما انه يعتبر صفته في كونه امرا ونهيا واباحة). ومنها: ان العموم لو انفرد عن السبب لوجب حمله على عمومه فكك إذا أخرج عند السبب لان ذلك ممكن فيه لان السبب لم يؤثر فيه لانه ليس ينافى السبب بيانه عليه السلام لحكم غيره كما لا ينافى بيانه لحكمه فيجب حمله على جميعه. ومنها: انه لو ابتدا عليه السلام لكم النهى والسبب حاصل فخاطب بالعموم ولما سئل عنه لوجب حمله عليه فكذلك إذا سئل عنه لان قصده عليه السلام في الحالين لم يختلف وان كان مبتدئا للحكم في احدهما ومجيبا للاخر وعلى ذلك حمل الفقهاء خطاب الله تعالى في اية اللعان (3) وان خرجت على سب هلال بن امية العجلاني على كل رام زوجته واية القذف (4) وردت فيمن تكلم في عائشة وحملت


[ 372 ]

على الجميع وكذلك اية الظهار (1) وردت في سلمة بن صخر (2) وحملت على كل مظاهر وهذا بين وانما حملناه على السبب إذا لم يفد بنفسه لان الظاهر (3) اوجب ذلك فليس يجب حمل ما استقل بنفسه من الجواب على ما لا يستقل بنفسه لمفارقته في علته. فاما تعلقهم بانه لو لم يرد السبب لم يكن يتأخر الخطاب إلى وقت حدوثه فلما اخره إلى ذلك الوقت علم انه المراد فبعيد لانه لا يمتنع أن يكون الصلاح في تأخيره إلى ذلك الوقت ولا يمتنع ذلك من بيان حكم غير السبب معه ولو وجب ذلك لوجب حمل الكلام على عين السائل وعلى ذلك الوقت والمكان لهذه العلة وذلك ظاهر الفساد. وقولهم: ان من حق الجواب ان يطابق السؤال وان ذلك يوجب حمل الكلام على السبب فغلط لان من حق الجواب أن ينتظم بيان ما سئل عنه وانه لا يقتضى غيره غلط لان فيه اخراجه من كونه جوابا. فاما إذا اقتضى بيان حكمه وحكم غيره فقد حصل جوابا له وزاد عليه ولا يمنع هذه الزيادة من كونه جوابا لما لو بين حكمه فقط لكان جوابا لانه في الحالين حصل به بيان السؤال. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 373 ]

فصل [ 17 ] (في ذكر ما الحق بالعموم وليس منه وما اخرج منه وهو منه) الافعال لا يصح ادعاء العموم فيها لانها لا تقع الا على وجه واحد فينبغي أن يراعى (1) الوجه الذي وقع عليه الفعل فان علم صح التعلق به وجرى ذلك مجرى النص على عين واحدة وان لم يعلم الوجه الحق بالمجمل. وإذا ثبت ذلك فلا يصح ان يتعلق بما روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قضى بالشاهد واليمين) (2) وقضى (ان الخراج بالضمان) (3) لان ذلك حكاية فعل. ومن الناس من فرق فقال: إذا روى انه (قضى بكذا وكذا) لا يصح التعلق به لانه ينبئ عن الفعل وإذا روى انه (قضى كذا وكذا فيه كذا وكذا) صح التعلق به لانه ينبئ عن انه قال ذلك. ومن الناس من سوى بين اللفظين وقال: لا فرق بينهما في انه لا يصح التعلق به وقال: لا يمتنع ان يقال في القضاء الذي هو الحكم في القضية المقضى فيها هذا القول. والاولى عندي أن يكون بينهما فرق لانه إذا قال: (قضى رسول الله صلى الله


[ 374 ]

عليه وآله وسلم بالشاهد واليمين) فهم منه حكاية فعل لا غير وليس كذلك إذا روى انه: (قضى ان الخراج بالضمان) (1) (وان الشفعة للجار) (2) لانه يسبق إلى الفهم انه قال ذلك قولا لا فعلا. الا أنه وان كان كذلك لا يقتضى صحة التعلق به لانه لا يعلم انه قال ذلك بقول يقتضى العموم أو بقول يقتضى الخصوص ويفيد الحكم في تلك العين وإذا كان كذلك صار مثل الاول في أنه ينبغي أن يلحق بالمجمل. وإذا ثبت هذه الجملة فلا يصح التعلق بما روى انه: (قضى بالشاهد واليمين) و (ان الخراج بالضمان) لما قلناه الا أن يدل دليل على الحاق غيره به فيحكم به. وعلى هذا لا يصح لاصحاب مالك ان يحتجوا فيمن افطر في شهر رمضان بأي وجه كان فعليه الكفارة بما روى ان رجلا افطر فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالكفارة (3) لان الرجل انما سأله عن حكاية فعل ولم يسأله عن حكم من افطر واطلق القول فقال عليه السلام (فعليه الكفارة) (3) لانه لو كان كذلك لكان يصح التعلق به ولكان يجرى مجرى أن يقول: (من افطر فعليه الكفارة) فإذا قال ذلك افاد العموم في كل ما يفطر به. وكذلك لا يصح التعلق بما روى عنه عليه السلام انه جمع بين الصلاتين (4) في السفر في جواز الجمع لان ذلك حكاية فعل. ولمن خالف في ذلك أن يحمله على جمع مخصوص في بعض الاسفار أو


[ 375 ]

إلى أنه جمع بينهما بعرفة فلا يصح ادعاء العموم فيه. فاما إذا روى انه كان يجمع بين الصلاتين في السفر (1) فيصح التعلق به لان ذلك يفيد تكرار ذلك في حال السفر وان ذلك عادته. فاما من ضعف هذا الوجه بان قال: انما يفيد لفظة (كان) انه فعل ذلك فيما مضى ولا يفيد التكرار فلا يصح التعلق به فغير صحيح لانه وان افاد الاخبار عما مضى فانه يفيد تكرار الفعل مع ذلك الا ترى ان القائل إذا قال: (كان فلان القاضى يحكم بالشاهد واليمين) لا يفهم من ذلك الا أنه كان ذلك عادته في جميع الاحكام ؟ وكذلك إذا قال: (كان ابو حنيفة يقول بتحليل النبيذ وكان الشافعي يقول بتحريمه) لم يفهم من ذلك الا أن ذلك كان عادتهما وقولهما في جميع الاحوال ولا يسبق إلى قلب احد انهما قالا ذلك دفعه واحدة وانما كانت فيما مضى فعلم بذلك ان الاولى ما ذكرناه. وان كان يفيد الحكم فيما يسأل عنه نظر فيما سئل عنه: فان كان واقعا على وجه واحد فالجواب بحسبه وان كان ذلك غير معلوم من حاله كان الجواب في حكم العموم وذلك نحو ان يسأل عليه السلام عن رجل افطر في رمضان عليه الكفارة أو لا ولا يعلم بماذا افطر فمتى اجاب بايجاب الكفارة صار كانه قال: (كل من افطر فعليه الكفارة) واقتضى ذلك عموم وجوب الكفارة على كل مفطر. ومتى كان المعلوم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم انه افطر بوجه واحد وكان سؤاله ينبئ عن ذلك لفظا أو معنى فجوابه عليه السلام مصروف إليه ولا يتعدى به إلى غيره الا بدليل. وعلى هذا إذا سئل عليه السلام عمن زنا فامر برجمه كان قوله – وان لم يكن عاما في اللفظ – فهو في حكم العموم في انه يقتضى رجم كل زان.


[ 376 ]

وقد الحق قوم بهذا الباب اثباته عليه السلام الحكم في عين وتعليله له بعلة يقتضى التعدي إلى غيره (1) نحو قوله عليه السلام في الهرة: (انها من الطوافين عليكم والطوافات) (2) وقالوا: هذا وان لم يمكن أن يدعى فيه العموم فهو في حكمه في أن ذلك الحكم متعلق بكل ما فيه تلك العلة حتى يصير بمنزلة تعليق الحكم باسم يشتمل جميعه. وهذا انما يمكن ان يعتبره من قال بالقياس فاما على مذهبنا في نفى القياس فلا يمكن اعتبار ذلك اصلا. على ان فيمن قال بالقياس من منع من ذلك (3) وقال: (ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو نص على العلة في شئ بعينه لم يجب الحاق غيره به الا بعد اثبات التعبد بالقياس فاما قبل العبادة فلا يصح ذلك فيه ولذلك لو قال: (حرمت المسكر لانه حلو) لم يجب أن يحكم بتحريم كل حلو الا بعد العبادة بالقياس) (4). وكذلك ينبغي أن يكون قوله فيما ذكرنا. فاما ما روى عنه عليه السلام من ليس الامر فيه على ما ظن بعضهم (5) من انه يفيد


[ 377 ]

العموم من جهة التعليل لانه دل على ان غرمه انما كان لاجل كونه زعيما فيكون عاما في الحكم وان لم يكن عاما في اللفظ لانا قد بينا ان ذلك يفيد الاستغراق وكذلك القول في الاسماء المشتقة التي دخل عليها الالف واللام نحو قوله: (والسارق والسارقة) (1) (والزانية والزاني) (2) كل ذلك يفيد الاستغراق على ما بيناه لفظا ولم يفد ذلك تعليلا على ما ذهب إليه قوم. وإذا روى عنه عليه السلام انه سهى فسجد بان علم ان سجوده كان لاجل السهو كان ذلك جاريا مجرى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (من سهى فليسجد) (3) لما دل الدليل على ان حكم غيره حكمه في الشرعيات. ويلحق بهذا الباب فحوى الخطاب ودليل الخطاب في انهما يفيدان العموم من جهة المعنى وان لم يفيدا ذلك أيضا الا ترى ان قوله تعالى: (ولا تقل لهما اف) (4) يجرى مجرى قوله ولا تؤذهما ؟ وكذلك قوله: (ولا يظلمون فتيلا) (5) يفهم منه انهم لا يظلمون القناطير فهو وان لم يفد ذلك لفظا فقد افاد ذلك معنى على ابلغ الوجوه (6) *. وكذلك إذا قال: (في سائمة الغنم زكوة) (7).


[ 378 ]

ومن قال: ان تعليق الحكم من تحليل أو تحريم إذا علقا (1) بالاعيان اقتضيا (2) العموم في المعنى وان لم يكن عاما من جهة اللفظ فسنبين ما عندنا في ذلك فيما بعد ان شاء الله. وهذه الجملة كافية في هذا الباب.


[ 379 ]

فصل [ 18 ] (في ذكر غاية ما يخص العموم إليها) (1) يجوز تخصيص العموم إلى أن لا يبقى من اللفظ الا واحد ولا فرق في ذلك


[ 380 ]

بين الفاظ الجموع وبين لفظة (من) و (ما) وغير ذلك إذا دل الدليل عليه. وفي الناس من قال: يجوز أن يخص إلى أن تبقى ثلاثة ثم لا يجوز دخول التخصيص فيه نحو قوله: (اقتلوا المشركين) (1) لا يجوز أن يريد به اقل من ثلاثة وفصل بين ذلك وبين من قال: جاز تخصيص لفظة (من) إلى أن يبقى منها واحد (2). والذي يدل على ما اخترناه: انا قد دللنا (3) على ان لفظ العموم متى استعمل في غير الاستغراق كان مجازا وإذا كان مجازا فلا فرق بين استعماله في الواحد وبين استعماله فيما هو أكثر منه يبين ذلك انه لما جاز ذلك في لفظه (من) كان تجويز ذلك في الفاظ الجمع مثله سواء وقد اجاز احدهما المخالف فينبغي أن يكون حكم الاخر مثله. على ان استعمال ذلك لاهل اللغة ظاهر لانهم استعملوا لفظ العموم في الواحد كما استعملوه في الثلاثة واكثر من ذلك قال الله تعالى: (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (4) فاخبر عن نفسه بنون الجمع وبالواو والنون وهو واحد. وقال الشاعر: انا وما اعني سوى أني (5). فعبر عن نفسه بلفظ الجمع. وقد تجاوزوا ذلك إلى ان عبروا بلفظ الالف عن الواحد كما روى عن عمر انه لما


[ 381 ]

كتب إلى سعد بن ابي وقاص (1) وقد انفذ إليه القعقاع بن شور (2) مع الف رجل: (قد انفذت اليك الفى رجل) (3) فعبر عن القعقاع وحده بعبارة الالف لما اعتقد انه يسد مسد الالف في الحرب وهذا واضح.


[ 382 ]

فصل [ 19 ] (في ذكر ما يخص في الحقيقة وما يخص في المعنى وما لا يجوز دخول التخصيص فيه) الادلة على ثلاثة اضرب: منها: ما هو عام من جهة اللفظ. ومنها: ما هو عام من جهة المعنى. ومنها: ما ليس بعام لا لفظا ولا معنى. فاما ما هو عام لفظا: فالتخصيص يجوز أن يدخله بجميع الادلة التي ذكرناها التي يخص بها العموم وذلك لا خلاف فيه. واما ما هو عام من جهة المعنى فعلى ضربين: احدهما: قياس. والاخر: استدلال. فاما القياس: فعندنا انه ليس بدليل اصلا ومن قال انه دليل واجاز تخصيص العلة جوز تخصيصه ومن لم يجز تخصيص العلة لم يجز ذلك. فاما الاستدلال: فنحو دليل الخطاب وفحوى الخطاب ونحو ان ينص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حكم في عين ثم علم بالدليل ان حكم غيره حكمه


[ 383 ]

فان التخصيص في جميع ذلك يجوز في المعنى وان لم يسم ذلك تخصيصا. ومثل ذلك: استدلالنا بجواز وطء ام الولد على ان الملك باق وإذا كان الملك باقيا وجب أن يتبعه جميع احكامه الا ما يخصه الدليل وغير ذلك من المسائل. واما ما لا يدخله التخصيص اصلا: لانه ليس بعام لا لفظا ولا معنى فنحو أن ينص عليه السلام على عين واحدة أو يقدم على فعل واحد ويخصص ذلك العين بذلك الحكم فان معنى التخصيص لا يسوغ فيه وذلك نحو تخصيصه عليه السلام ابا بردة بجواز اضحيته (1) وما شاكله. فإذا ثبتت هذه الجملة فمتى ورد عام لفظا جاز تخصيصه لفظا بالادلة التي قدمناها. وما ليس بعام: فان كان المحتج به يحتج باللفظ منع من التعلق به وان احتج به في المعنى جاز أن يعترض عليه بجميع ما يخص به العموم وان لم يسم ذلك مخصصا وما كان خاصا بعين واحدة لا يتعداه فالتخصيص في المعنى واللفظ لا يصح فيه. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


[ 384 ]

فصل [ 20 ] (في ان الشرط والاستثناء إذا تعلقا ببعض ما دخل تحت العموم لا يجب أن يحكم ان ذلك هو المراد بالعموم لا غير) إذا ورد لفظ عام وتعقبه شرط (1) * علم انه راجع إلى بعضه لا يجب أن يحمل اللفظ العام على ما تعلق به (2) ذلك الشرط بل لا يمتنع أن يكون العام على عمومه وان ذكر بعده شرط يرجع إلى بعضه وذلك نحو قوله: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) (3) فان ذلك عام في الطلاق والمطلقات ثم قال بعد ذلك: (لعل الله يحدث بعد ذلك امرا) (4) وذلك يختص الرجعى (5) * ولا يجب من ذلك


[ 385 ]

حمل اول الاية عليه. ومثل قوله: (لا جناح عليكم ان طلقتم النساء) (1) ثم قال بعد ذلك (الا أن يعفون) (2) فكان اول الاية عاما في جميع النساء وان كان جواز العفو مخصوصا بمن يملك امره منهن ويصح عفوهن دون من لا يصح ذلك منه فلا يجب تخصيص اول الاية بهن بل كان عاما في سائر النساء. وكذلك إذا ذكرت جملة عامة وعطف عليها جملة خاصة لا يجب من ذلك حمل الادلة عليها بل يجب حمل الاولى على عمومها والثانية على خصوصها وذلك نحو قوله: (والمطلقات يتربصن بانفسهن ثلاثة قروء) (3) ثم قال بعد ذلك عاطفا على ذلك: (وبعولتهن احق بردهن) وذلك يختص الرجعيات ولا يجب من ذلك حمل اول الاية عليه بل كان عاما فيهن وفي غيرهن ممن لا يمكن مراجعتهن. ومثل ذلك قوله تعالى: (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم) (4) كان ذلك عاما في جميعهن ثم قال: (واولات الاحمال أجلهن ان يضعن حملهن) ولا يجب من ذلك حمل اول الاية عليهن ولذلك نظائر كثيرة. والذي ينبغي ان يحصل في هذا الباب (5) * انه إذا ورد لفظ عام ثم وصف


[ 386 ]

بصفة أو شرط بشرط وعلم انه لا يصح ذلك الشرط ولا تلك الصفة في جميع ما تناوله اللفظ العام وجب حمل اللفظ العام عليه إذا كان الشرط والصفة متعلقين بجميع اللفظ فإن كان الشرط والصفة متعلقين ببعض ما تناوله اللفظ العام لم يجب ذلك وكان حكمه ما قدمناه في اول الباب. فاما إذا كان الكلام في جملتين قد عطفت احداهما على الاخرى فينبغي أن ينظر في الجملة الثانية فلا يخلو أن يكون متناولة لمثل ما تناولته الجملة الاولى أو لا يكون كذلك. وان كانت متناولة لمثل ما تناولته الاولى فلا يخلو أن يكون موافقة أو مخالفة فان كانت موافقة له في الحكم فان ذلك يكون تأكيدا ويجب حملها على مثل ما حملت عليه الجملة الاولى. وان كانت الجملة الثانية متناولة لمثل ما تناولته الاولى وكانت مخالفة لها في الحكم فلا تعلق لها بالجملة الاولى وكانت كآية اخرى يجب حملهما على ظاهرهما. وان كانت متناولة لمثل ما تناولته الاولى وكانت مضادة (1) لها في الحكم فذلك لا يجوز وقوعه من الحكيم تعالى لانه يؤدي إلى التناقض والبداء (2) وهما


[ 387 ]

منفيان عنه تعالى. فنظير الجملة المؤكدة ان يقول: (اقتلوا المشركين) ثم يعطف على ذلك فيقول: (واقتلوا الكفار). ونظير الجملة المخالفة ان يقول: (اقتلوا المشركين وخذوا غنائمهم واسبوا ذراريهم) أوما يجرى مجرى ذلك. ونظير المتضادة أن يقول: (اقتلوا المشركين ولا تقتلوا الكفار) فان ذلك ينفى ما اثبتته الجملة الاولى وذلك لا يجوز على الحكيم تعالى. وإذا كانت الجملة الثانية اخص من الجملة الاولى أو اعم منها وان كانت تقتضي مثل حكم الاولة كانت تأكيدا أو ذكر التفخيم ما ذكر في الاولى وعلى ذلك يحمل قوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل) (1) وكذلك قوله: (فيها فاكهة ونخل ورمان) (2) فان ذلك اما ان نحمله على التأكيد أو على تفخيم سائر ما افرد بالذكر. وعند من قال بدليل الخطاب من اصحاب الشافعي وغيرهم ان افراد بعض ما تناوله لفظ العموم بالحكم يدل على انه اراد بالعموم الخصوص (3) وعلى هذا حمل


[ 388 ]

قوله: (لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره) (1) على ان المتعة إنما يجب لغير المدخول بها إذا لم يسم لها مهرا. ومن خالفه قال: يجب المتعة لكل مطلقة (2). وسنذكر ما عندنا في دليل (3) الخطاب فيما بعد [ ان شاء الله. والاقرب على مذهب من يقول بدليل الخطاب ] (4) ان يقال: إن الاية تصير مجملة وتفتقر إلى البيان لانه ليس بأن يقال ان العموم في الاولى يمنع من دليل الخطاب في الثانية باولى من أن يقال ان دليل الخطاب في الثانية يمنع من حمل الاولى على العموم فإذا (5) تساوى القولان وجب أن يوقف ذلك على البيان ويكون مجملا على ما بيناه. وان كانت الجملة الثانية مخالفة للاولى في الحكم كانت كاية اخرى لا تعلق


[ 389 ]

لها بالجملة الاولى على ما بيناه في الجملتين المتماثلتين في العموم. وان كانت ضدا للجملة الاولى فان كانت الجملة الاولى اعم والثانية اخص وذلك على انه اراد بالجملة الاولى وما عدا ما ذكر في الجملة الثانية. وان كانت الجملة الثانية اعم دل ذلك على انه اراد بالثانية ما عدا ما ذكر في الجملة الاولى. ونظير الاول ان يقول: (اقتلوا المشركين) ويقول بعده: (ولا تقتلوا اليهود والنصارى) فإن ذلك يفيد أنه أراد بلفظ المشركين ما عدا اليهود والنصارى وإلا كانت مناقضة أو بداء وذلك لا يجوز. ونظير الثاني ان يقول اولا: (لا تقتلوا اليهود والنصارى) ثم يقول بعده: (اقتلوا المشركين) فان ذلك يدل على انه اراد بلفظ المشركين في الثانية ما عدا ما ذكر في الجملة الاولى ولولا ذلك لادى إلى ما قدمناه وابطلناه. وليس لاحد أن يقول: هلا حملتم الثانية على انها ناسخة ؟ لان من شان النسخ أن يتأخر عن حال الخطاب على ما نبينه وانما ذلك من ادلة التخصيص التي (1) يجب مقارنتها للخطاب على ما تقدم القول فيه فعلى هذا ينبغي أن يجرى كل ما يرد من هذا الكتاب.


[ 390 ]

فصل [ 21 ] (في جواز تخصيص الاخبار وانها تجرى مجرى الاوامر في ذلك) (1) الصحيح انه يجوز تخصيص الاخبار سواء أكان معناها معنى الامر أو لم يكن كذلك كما يجوز تخصيص الاوامر. وفي الفقهاء من قال: ان ذلك لا يجوز كما لا يجوز نسخ الاخبار.


[ 391 ]

واكثر الفقهاء والمتكلمين على المذهب الاول والذي يدل على ذلك: ان التخصيص هو مادل على مراد المخاطب بالعموم وذلك لا يمتنع في الاخبار كما لا يمتنع في الاوامر لانه لا يمتنع ان يريد المخاطب بالعموم باللفظ العام بعض ما وضع له كما لا يمتنع ان يأمر باللفظ العام ويريد بعض ما يتناوله فالامران سواء. فاما ثبوت ذلك فاكثر من أن يحصى نحو الاخبار المتضمنة للوعيد (1) فانها خاصة وكك ايات الوعد عند بعضهم. وقوله تعالى: (والله على كل شئ قدير) (2) وقد علمنا انه لا يقدر على ذات نفسه ولا مقدورات غيره. وكذلك قوله: (واوتيت من كل شئ) (3) وقد علمنا انه ما اوتيت اشياء كثيرة. وذلك اكثر من أن يحصى. على انا قد بينا ان الامر والنهى في معنى الخبر فلا فرق بين أن يأمر بالشئ في انا نعلم وجوبه وبين أن يخبرنا بان له صفة الوجوب في انا نعلم مثل ما علمناه بلفظ الامر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه امتنع من دخول بيت فيه تصاوير وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير) (4)


[ 392 ]

ثم خص ذلك بان دخل بيتا فيه تصاوير تؤطأ (1). واما حملهم ذلك على النسخ فالصحيح ان النسخ يجوز أن يدخل في الاخبار ونحن نبين ذلك في باب الناسخ والمنسوخ فبطل بذلك تعلقهم به.


[ 393 ]

فصل [ 22 ] (في ذكر بناء الخاص على العام وحكم العمومين إذا تعارضا) اعلم انه إذا ورد عام يتناول اثبات حكم وورد خاص يتناول نفى ذلك الحكم عن بعض ما تناوله العام نظر في تاريخهما: فان كان احدهما سابقا للاخر كان المتأخر ناسخا والمتقدم منسوخا سواء كان المتقدم عاما في ان الخاص الذي يجئ بعده ويتأخر عنه يكون ناسخا له لان تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب على ما نبينه (1) فيما بعد. وكذلك لو كان المتقدم خاصا والمتأخر عاما فانه يكون ناسخا الا أن يدل دليل على انه اريد به ما عدا ما تقدمه من الخاص وهذا لا خلاف فيه بين اهل العلم. ومتى لم يعلم تاريخهما فالصحيح انه ينبغى أن يبنى العام على الخاص ويجمع بينهما وهو مذهب الشافعي واصحابه واهل الظاهر وبعض اصحاب أبي حنيفة (2).


[ 394 ]

وفي الناس من قال: إذا عدم التاريخ فالواجب ان يرجع في الاخذ باحدهما إلى دليل ويجريهما مجرى عامين تعارضا (1) وهو مذهب عيسى بن ابان وابي الحسن الكرخي (2). والذي يدل على صحة المذهب الاول: ان من حق من ثبتت حكمته أن لا يلغى كلامه إذا أمكن حمله على وجه يفيد وإذا صح ذلك فمتى أوجبنا استعمال العام لادى إلى الغاء الخاص ومتى استعملنا الخاص لم يوجب اطراح العام بل يوجب حمله على ما يصح ان يريده الحكم فوجب بهذه الجملة بناء العام على الخاص. ونظير ذلك: ما روى عنه عليه السلام انه قال: (في الرقة ربع العشر) (3) فكان هذا عاما في قليله وكثيرة ثم قال: (ليس فيما دون خمس اواق من الورقة صدقة) (4) فاوجب هذا ان ما نقص عن خمس أواق ليس فيه (5) صدقة وهو اخص من الاول. فلو عملنا بموجب الخبر الاول لاحتجنا إلى اسقاط الخبر الاخير ومتى استعملنا الاخير امكننا استعمال الاول على ما يطابقه. فان قيل: هلا حكمتم فيهما بالتعارض كالعمومين ؟ لان ما تناوله الخاص قد


[ 395 ]

تناوله الخبر العام وانما زاد عليه العام بتناوله شيئا اخر لم يتناوله الخاص فكان الزائد على ذلك في حكم خبر اخر وما تناوله العام مما عارضه الخبر الخاص في حكم خبر اخر فوجب ان يعارض ذلك لما تناوله الخاص ويقف العمل على احدهما على الدليل (1). قيل: هذا لا يجوز لانه يؤدى إلى ابطال احد الخبرين مع صحة حمله على وجه ممكن وليس كك حكم العمومين إذا تعارضا لانه لا يمكن الجمع بينهما على وجه. فاما قولهم: ان ما تناوله العام في حكم الخبرين يتناول احدهما مثل ما تناول الخبر الخاص والاخر يتناول ما زاد على ذلك وانه ينبغى أن يحكم بالتعارض فيهما فليس بصحيح لان العام إذا كان جملة واحدة صح فيه من صرفه إلى ان المراد بعضه ما لا يصح فيه إذا كان خبرين لانه إذا كان (2) خبرين فمتى قيل ان المراد ما تناوله احدهما ادى ذلك إلى ابطال ما تناوله الخبرين الذين يتناولان ما تناوله العام. فان قيل: هلا حملتم احدهما على انه ناسخ للاخر ؟ وتكونون قد استعملتم الخبرين على وجه الحقيقة ويكون ذلك اولى من بناء العام على الخاص لان استعمال العام في الخاس يكون مجازا. يقال (3): انما يمكن حمل ذلك على النسخ إذا علمنا تاريخهما وان احدهما متقدم والاخر متأخر فيحمل ذلك على النسخ فاما مع عدم التاريخ فلا يمكن حمل ذلك فيه.


[ 396 ]

ويدل على ذلك ايضا (1) *: ان على مذهب الخصم لو ثبت بالقياس (2) * اخراج بعض ما يتناوله العام من عمومه وجب أن يخرج منه وخص به العموم فالخبر الخاص إذا أوجب اخراج بعض ما تناوله (3) العام بذلك اولى لان السنة اقوى (4) من القياس عنده. ويدل على ذلك ايضا: ان العام والخاص لو وردا معا لعلمنا ان المراد بالعام ما عدا ما تناوله الخاص لان ذلك دليل التخصيص فإذا وردا مفترقين ولا دليل يدل على تقدم احدهما وتأخر الاخر كانا في حكم ما وردا في وقت واحد ويجرى مجرى الغرقى في انه وان جاز تقدم احدهم على الاخر فمتى عدم التاريخ في ذلك حكم بانهم كانوا ماتوا في حالة واحدة على مذهب الخصم. واستدل بعض من نصر ما اخترناه بان قال: ما تناوله الخاص مقطوع به وما تناوله العام مشكوك فيه فلا ينبغي أن يزال اليقين بالشك. وهذا انما يمكن أن يعتمده من قال: ان العموم ليس له صيغة تفيد الاستغراق فاما على ما ثبت عليه من ان له صيغة تفيد ذلك فلا يمكن لان ما تناوله العام عندنا مقطوع به (5) * مثل ما تناوله الخاص فلا فرق بينهما على حال. وقد استدل بوجوه اخر تضعف (6) وما ذكرناه اقوى ما يستدل به. فاما المخالف لذلك فانما عول في ذلك على ان من قال: انما تضمنه العام في حكم ما تضمنه خبران احدهما تضمن ما تضمنه الخاص والاخر تضمن غيره فكان ما تضمنه الخاص معارضا له.


[ 397 ]

وقد اوردنا في دليلنا ما هو جواب عنه فاغنى عن الاعادة. وقد تعلق كل فريق (1) منهما لوجود مواضع من العام والخاص بنى احدهما على الاخر أو حكم فيهما بالتعارض لا يمكن أن يعول (2) عليه لان لمن يخالفه أن يقول انما حكمت بذلك لدليل دل عليه لولا الدليل لما قلت به. وينبغي أن يكون المعتمد ما قدمناه من الادلة وفيه كفاية ان شاء الله. فاما العمومان إذا تعارضا (3) *: فلا يخلو من ان يكون طريق اثباتهما العلم أو لا يكون كذلك: فان كان طريق اثباتهما العلم يصح وقوعهما من حكيم على وجه ولا يصح على اخر فما يصح وقوعه منه فوجوه: احدها: ان يقترن بهما التاريخ وان احدهما متقدم والاخر متأخر فيحكم بان المتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ. والثاني: أن يمكن الجميع بينهما على وجه من التأويل (4) *. والثالث: أن يكونا وردا مورد التخيير (5) *. فهذه الوجوه التي يصح أن يقع العمومان المعلومان عليه من الحكيم. ومتى خلا من ذلك بان يعدم (6) التاريخ ولا يصح الجمع بينهما لتضادهما علم انه لم يرد التخيير فانه لا يجوز وقوعهما من حكيم لانه يؤدى إلى أن يدل


[ 398 ]

الدليل على خلاف ما هو دليل عليه وذلك لا يجوز على حال. فاما إذا عارض كل واحد من العمومين صاحبه من وجه ولا يعارضه من وجه نحو قوله تعالى: (أو ما ملكت ايمانكم) (1) وقوله: (وان تجمعوا بين الاختين) (2) لان احدهما يقتضى تحليل الجمع بين الاختين (3) والاخر يقتضى حظره ويصح أن يكون المراد باية الجمع ما عدا المماليك ويحتمل أن يراد باية المماليك ما عدا الاختين فقد استويا في التعارض وفي صحة الاستعمال على وجه واحد فما هذه حالة وجب الرجوع في العمل باحدهما إلى دليل ولذلك روى عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال: (احلتهما آية وحرمتهما اخرى وانا انهى عنهما نفسي وولدى) (4) فاخبر ان ظاهرهما يقتضى التعارض وانه عمل باحدهما لعلمه بذلك وان العمل به هو الواجب وروى عن عثمان انه وقف في ذلك وقال: (احلتهما اية وحرمتهما اخرى) (5) وحكى انه رجح تحريمها. فاما إذا كان طريق اثباتهما الاحاد فانه يرجع في العمل باحدهما إلى الترجيح وقد قدمنا (6) ما يرجح به احد الخبرين على الاخر بما يرجع إلى اسناده أو متنه فاغنى عن الاعادة مثال ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (من نام


[ 399 ]

عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها) (1) ونهى عن الصلاة في الاوقات المخصوصة (2). وكذلك روى عنه عليه السلام انه قال: (من بدل دينه فاقتلوه) (3) وكان ذلك عاما في الرجال والنساء والصبيان ثم نهى عن قتل النساء والولدان (4). والطريقة في الكلام على ذلك ما قدمناه من الوقف والرجوع في العمل باحدهما إلى دليل. ومن الناس من رجح (5) العمل باحد هذين الخبرين دون الاخر بانه خرج على سبب فإذا عارضه الاخر وجب أن يقصر ذلك على سببه ولا يعدى ذلك لان الاخر يمنع منه. ولنا في عين هذه المسألة نظر وليس ذلك بمانع مما قلناه لان هذا مثال ولو لم يرد هذا المثال لكان ما فرضناه صحيحا.


[ 401 ]

الباب السادس الكلام في البيان والمجمل


[ 403 ]

فصل [ 1 ] (في ذكر حقيقة البيان والمجمل وما هية النص وغير ذلك) البيان عبارة عن الادلة التي تبين بها الاحكام (1). وعليه يدل كلام ابي علي وأبي هاشم (2) واليه ذكب اكثر المتكلمين والفقهاء. ويعبر عنه بانه (هداية) وبانه (دلالة) وبأنه (بيان) كل ذلك يراد به معنى واحد. وذهب أبو عبد الله البصري إلى أن البيان: (هو العلم الحادث الذي به يبين


[ 404 ]

الشئ) (1). وفي الناس من جعل البيان هو: (الادلة من جهة القول والكلام دون ما عدا ذلك من الادلة (2). وذهب الصيرفي (3) إلى ان البيان هو: (ما اخرج الشئ من حد الاشكال إلى التجلى) (4). وقال الشافعي: (البيان اسم جامع لمعان متشعبة (5) الاصول متشعبة الفروع واقل ما فيه انه بيان لمن نزل القران بلسانه (6). وقال من فسر كلامه (7): ان غرض الشافعي بهذا الكلام كان إلى ذكر ما هو بيان في اللغة التي نزل بها القران لا ان يعينه وذكر اقسام ذلك ولذلك قال: انه متشعب. ثم قال: ان اقل ما فيه انه مما يتبين به من نزل القران بلسانه المراد ويبين بذلك ان فيه ما يكون في باب الدلالة على ان المراد اقوى واظهر من بعض وان كان جميعه قد اشترك فيما ذكرناه. وقال: هذا اقرب ما يحمل عليه كلامه. والذي يدل على ما ذهبنا إليه: من انه عبارة عن الدلالة على اختلاف اقسامها ان بالادلة يتوصل إلى معرف المدلول والبيان هو الذي يصح ان يبين ما هو بيان له


[ 405 ]

ولاجل (1) * ذلك يقال: قد بين الله تعالى الاحكام والمراد بذلك انه دل عليها بان نصب عليها الادلة فكان بذلك في حكم المظهر لها فكما يقال لما قد ظهر بان فكذلك يقال للمدلول عليه قد بان ويوصف الدال بأنه مبين يعلم بصحة تصرفها في جميع المواضع ان المراد به ما قلناه وتجاوزوا ذلك إلى ان قالوا في الامارات التي تقتضي غلبة الظن انه بيان كما قالوا فيها انها ادلة على ضرب من المجاز. فان قيل: ما انكرتم أن يكون البيان عبارة عن العلم الحادث الذي يتبين به الحكم دون الادلة التي لا يتبين بها الحكم ولاجل ذلك (2) * لا يوصف الله تعالى بانه متبين لما لم يكن له علم حادث ولا يقال في الواحد منا فيما يعلمه ضرورة انه متبين له لما لم يكن علمه حادثا وانما يوصف بما يتجدد له من العلوم التي تحدث حالا بعد حال. قيل: لا يجوز أن يكون البيان عبارة عن العمل لانه لو كان كذلك لكان من فعل هذه العلوم يكون هو المبين كما ان الدال يكون من فعل الدلالة ونحن نعلم انا نصف الله تعالى بانه قد بين لنا الاحكام فهو مبين كما يقول انه دلنا فهو دال ويسمى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ايضا بذلك قال الله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) (3) فجعله عليه السلام المبين لنا الاحكام وعلى ما سأل السائل كان يجب أن يكون نحن المبينين لان العلوم الحادثة فينا هي من فعلنا (4) * وذلك لا يقوله احد فعلم بذلك ان الاولى ما قلناه. واما التبين فلا يقع الا بالعلم على ما ذكره السائل (5) * ولاجل ذلك لم نصف الله


[ 406 ]

تعالى بانه متبين وان كان في الناس من ارتكب ذلك ولم يسلم ان التبين لا يقع الا بالعلم الحادث وحد العالم انه مبين (1) للشئ على ما هو به واجري ذلك على الله تعالى والواحد منا. والاولى ما قلناه ولا ينقض ذلك ما نصرناه من ان البيان عباره عن الادلة لانا جعلنا ذلك عبارة عما يمكن الاستدلال به لا ما يقع به التبين وذلك حاصل في الادلة فينبغي أن يكون عبارة عنها. وما اوردناه سؤالا هو شبهة أبي عبد الله من ان البيان عبارة عن العلم وقد تكلمنا عليه. فاما من حد البيان بانه: (ما اخرج الشئ من حد الاشكال إلى حد التجلى) فقد حد البيان بعبارة هي اشكل منها وينبغي أن يحد الشئ بما هو اظهر منه على ان ما ذكروه انما هو بعض البيان لان البيان قد يكون مبتدأ وان لم يكن هناك مشكل يخرج به إلى التجلى فعلم بذلك ان الاولى ما اخترناه. وهذه المسألة الكلام فيها (2) كلام في عبارة فلا معنى للاطالة فيه. فاما المجمل فيستعمل على ضربين: احدهما: ما يتناول جملة من الاشياء وذلك مثل العموم والفاظ الجموع وما اشبههما ويسمى ذلك مجملا لانه يتناول جملة من المسميات. والضرب الاخر: هو ما انبأ عن الشئ على جهة المجملة دون التفصيل ولا يمكن ان يعلم المراد به على التفصيل نحو قوله: (خذ من اموالهم صدقة) (3)


[ 407 ]

(وفي اموالهم حق معلوم) (1) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) (2) وما اشبه ذلك مما سنبينه فيما بعد. واما النص: (فهو كل خطاب يمكن أن يعرف المراد به). وحد الشافعي النص بانه: (كل خطاب علم ما اريد به من الحكم كان مستقلا بنفسه أو علم المراد به بغيره) (3) وكان يسمى المجمل نصا (3). والى ذلك ذهب أبو عبد الله البصري. والذي يدل على صحة ما اخترناه: ان النص انما يسمى نصا لانه يظهر المراد ويكشف عن الغرض تشبيها (4) بالنص (5) المأخوذ من الرفع نحو قولهم: (منصة العروس) إذا اظهرت ونحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه كان حين افاض من عرفات إلى جمع يسير على هينته (6) فإذا وجد فجوة نص (7) يعنى انه بلغ فيه الغاية فعلم بذلك صحة ما قلناه. واما المفسر: (فهو ما يمكن معرفة المراد به). وهو موضوع في الاصل لما له تفسير لكنه لما كان ما له تفسير يعلم بتفسيره مراده وكان ما يعلم المراد به بنفسه بمنزلته سمى مفسرا.


[ 408 ]

واما المحكم: (فهو ما لا يحتمل الا الوجه الواحد الذي اريد به) ووصف محكما لانه قد احكم في باب الابانة عن المراد. واما المتشابه: فهو ما احتمل من وجهين فصاعدا. فاما وصف القران بانه متشابه كله في قوله تعالى: (الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها) (1) فالمراد به انه متماثل في باب الدلالة والهداية والاعجاز وقد وصفه الله تعالى بانه محكم بقوله: (الر كتاب احكمت اياته) (2) والمعنى بذلك انه احكمه على وجه لا يقع فيه تفاوت ويحصل به الغرض المقصود ولذلك وجب حمل المتشابه على المحكم ويجعل المحكم اصلا له. وقد وصف الله تعالى القرآن بان بعضه محكم وبعضه متشابه بقوله: (هو الذي انزل عليكم الكتاب منه ايات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات) (3) والمعنى بذلك ما قدمناه. واما الظاهر: (فهو ما يظهر المراد به للسامع) فمن حيث ظهر مراده وصف هو بانه ظاهر. وقد بينا فيما تقدم معنى العام والخاص والامر والنهى فاغنى الاعادة ان شاء الله تعالى.


[ 409 ]

فصل [ 2 ] (في ذكر جملة ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج) الخطاب على ضربين: احدهما: يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد به بظاهره وان لم يضف إليه امر اخر. والاخر: لا يستقل بنفسه ولا يفهم المراد به بعينه الا أن يقترن به بيان يدل عليه. فاما ما يستقل بنفسه فعلى اربعة اقسام: اولها: ما وضع في اصل اللغة لما اريد به وكان صريحا فيه سواء أكان عاما أو خاصا امرا كان أو نهيا فان جميع هذه الالفاظ يمكن معرفة المراد بظاهرها فمتى خاطب الحكيم بها واراد به ذلك امكن أن يعلم مراده بها ونظير ذلك قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق) (1) وقوله: (ولا يظلم ربك احدا) (2) وقوله (والله بكل شئ عليم) (3) وغير ذلك.


[ 410 ]

وثانيها: ما يفهم المراد به بفحواه لا بصريحه وذلك نحو قوله: (ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما) (1) فان فحواه يدل على المنع من اذاهما على كل وجه. وكذلك قوله: (ولا يظلمون فتيلا) (2) لانه يقتضى فحواه نفى الظلم لهم بذلك وما زاد عليه. وفي الفقهاء من الحق هذا الوجه بالقياس وزعم ان جميع ذلك يفهم بضرب من الاعتبار (3) وذلك خطأ لان دلالة ما قدمناه من الالفاظ على ما قلناه اقوى من دلالة النص لان السامع لا يحتاج في معرفة المراد به إلى تأمل فهو إذا كالاول. والذي يكشف عما قلناه انه لو قال: (ولا تقل لهما اف واضربهما أو اقتلهما أو اصفقهما) يعد بذلك مناقضا وكذلك لو قال رجل لغيره: (انا لا اعطيك حبة) ثم قال: (لكنى اعطيك الدراهم واخلع عليك) كان ذلك مناقضة ظاهرة. ولو ان قائلا قال: (فلان يؤتمن على قنطار) ثم قال: (ويخون (4) فيما قدر دانق) كان ذلك مناقضة فعلم بجميع ذلك صحة ما قلناه. الا انه ربما كان بعضه اخفى (5) من بعض وبعضه اظهر من بعض حتى يظن فيما ليس منه انه منه وفيما هو منه انه ليس منه ولاجل ذلك اعتقد اكثر الفقهاء في قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من ايام اخر) (6) فقال: انه يعقل منه فافطر فعدة من ايام اخر.


[ 411 ]

وهذا ليس بصحيح لان عندنا ان وجوب القضاء في هذه الاية يتعلق بنفس السفر والمرض المخصوصين وان لم يفطر الانسان فتقدير (الافطار) لا يحتاج إليه. ومن قال من الفقهاء: ان وجوب القضاء في هذا الموضع متعلق بالافطار. فالمحصلون منهم قالوا: ان ذلك طريقة الدليل وليس هو من باب فحوى الخطاب في شئ. وثالثها: تعليق الحكم بصفة الشئ فانه يدل على أن ما عداه بخلافه على ما ندل (1) عليه وان كان فيه خلاف. ورابعها: ما ذهب إليه كثير من الفقهاء وهو ما تدل فائدته عليه لا صريحه ولا فحواه ولا دليله وهو على ضروب عندهم: منها: ما يدل عليه تعليله نحو قوله عليه السلام في الهر: (انها من الطوافين عليكم والطوافات) (2) لان اللفظ لا يتناول ما عدا الهر ولا يعقل ذلك بفحواه ولا بدليله وانما يحكم ذلك بالتعليل. ومنها: قوله: (والسارق والسارقة) (3) (والزانية والزانى) (4) انه لما افاد الزجر بالايتين افاد ان القطع تعلق بالسرقة والجلد بالزنا فعلم ذلك في جميع السراق والزناة هذا عند من قال: ان الالف واللام لا يستغرقان. فاما من قال بذلك فلا يحتاج إلى هذا التمحل بل يوجب ذلك بلفظ العموم. ومنها: ما قدمناه من ان الامر بالشئ يقتضى الامر بما لم (5) يتم الا به وان فائدة القول يدل على ذلك. وقد قلنا ما عندنا في جميع هذه الامثلة بما (6) اغنى عن الاعادة.


[ 412 ]

فاما ما لا يستقل بنفسه في افادة المراد ويحتاج إلى ما يقترن به من البيان فعلى ضربين: احدهما: يحتاج إلى بيان ما لم يرد به مما يقتضى ظاهر كونه مرادا ولا يحتاج إلى بيان ما اريد به بل يعلم ذلك بظاهره وذلك نحو العام إذا علم انه دخله التخصيص فانه يحتاج في معرفة ما اخرج منه إلى دليل لا فيما اريد به لان ما اريد به علم ذلك باللفظ المتناول له ويحتاج ان يعلم ما لم يرد به منه وذلك نحو قوله: (والسارق والسارقة) (1) (والزانى والزانية) (2) (واقتلوا المشركين) (3) وانه لما علمنا ان في السراق من لا يجب قطعه مثل أن يكون سارقا من غير حرز أو سرق ما دون النصاب أو لم يكن عاقلا أو كان هناك شبهة وغير ذلك من الشرائط المراعاة في ذلك احتيج إلى بيان من لا يقطع لان عمومه يقتضى ان يقطع كل سارق من حصلت فيه الصفات التي ذكرناها ومن لم يحصل فإذا دل الدليل على ان من لم تكمل هذه الصفات فيه لا يجب قطعه اخرج من ذلك وقطع الباقون بظاهر (4) الاية. وكذلك القول في اية الزنا والشرك فالطريقة واحدة. ومن الناس (5) من الحق هذا الباب بالمجمل الذي يحتاج إلى بيان المراد منه


[ 413 ]

وقال: لا يصح التعلق بظاهره وسنبين ما عندنا في ذلك فيما بعد انشاء الله تعالى. والضرب الثاني: هو ما يحتاج إلى البيان في معرفة ما اريد به وهو على ضروب: منها: ما وضع في اصل اللغة ليدل على المراد على طريق (1) الجملة دون التفصيل وذلك نحو قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (2) (وفي اموالهم حق معلوم) (3) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده (4) وقوله: (لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق) (5) ونحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عصموا منى دمائهم واموالهم الا بحقها) (6) وغير ذلك من الامثلة: ومنها: ما وضع في اللغة محتملا لمعان نحو قوله: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) (7) لان ذلك يحتمل وكذلك قوله (يتربصن بانفسهن ثلاثة قروء) (8) فان ذلك يحتمل الحيض والطهر.


[ 414 ]

ومنها: الاسماء الشرعية لانها اجمع تحتاج إلى بيان ما اريد به نحو قوله: (واقيموا الصلاة واتوا الزكاة) (1) لانه قد علمنا بالدليل أنه أراد غير ما وضعت هذه الالفاظ في اللغة له إلا أن ذلك على ضربين: أحدهما: ما يراد به ما لم يوضع في اللغة له البتة نحو الصلاة والزكاة. والثاني: ما اريد به بعض ما وضع له في اللغة لكنه جعل اسما في الشرع لما يقع منه على وجه مخصوص أو يبلغ حدا مخصوصا فصار كانه مستعمل في غير ما وضع له نحو الصيام والوضوء وغير ذلك. ومنها: ما وضع في اللغة لينبئ عن المراد به لكنه قد علم انه لم يرد به بعض ما تناوله من غير تعيين لذلك البعض فهذا لا يعلم المراد به لانه لا شئ يشار إليه مما يتناوله الا ويجوز أن يكون مخصوصا منه وذلك نحو قوله: (واوتيت من كل شئ) (2) فانه لما علمنا انها لم تؤت اشياء كثيرة على طريق الجمله احتجنا في معرفة ما اوتيت إلى دليل. وقد الحق قوم بهذا الوجه قوله تعالى: (وافعلوا الخير) (3) وقالوا: انه إذا لم يصح ان يريد بذلك جميع الخير لان فيه ما ليس بواجب فالواجب يحتاج إلى بيان أو يراد بالامر الندب. وهذا ليس بصحيح لان الخير الذي قد علم نفى وجوبه معلوم وذلك هو الذي لم يرد فاما ما عداه فمعلوم وجوب فعله بظاهر اللفظ كما يقول في سائر الفاظ العموم الذي يخص بعضها. ومنها: ما وضع في اللغة ليدل على المراد بظاهره الا انه إذا تعقبه شرط أو استثناء مجمل يرجع إليه صار ما تقدمه مجملا وذلك نحو قوله تعالى: (واحل لكم


[ 415 ]

ما وراء ذلكم) (1) فان ذلك يقتضى اباحة كل ما وراء المحرمات فلما قال بعده (محصنين غير مسافحين) وكان مجملا افتقرت الاية إلى بيان وصارت مجملة. ومثل ذلك أيضا قوله: (احلت لكم بهيمة الانعام الا ما يتلى عليكم) (2) لان ما يتلى لما كان مجملا فالاول بمنزلته. ومنها: لفظ العام إذا ورد واقتضى حكما والمعلوم من حال ذلك الحكم انه لا يتم فعله الا بشئ اخر وذلك الشئ لا يعلم بالظاهر اقتضى ذلك اجمال العام وهذا ليس بصحيح لان الخير الذي قد علم نفى وجوبه معلوم وذلك هو الذي لم يرد فاما ما عداه فمعلوم وجوب فعله بظاهر اللفظ كما يقول في سائر الفاظ العموم الذي يخص بعضها. ومنها: ما وضع في اللغة ليدل على المراد بظاهره الا انه إذا تعقبه شرط أو استثناء مجمل يرجع إليه صار ما تقدمه مجملا وذلك نحو قوله تعالى: (واحل لكم


[ 415 ]

ما وراء ذلكم) (1) فان ذلك يقتضى اباحة كل ما وراء المحرمات فلما قال بعده (محصنين غير مسافحين) وكان مجملا افتقرت الاية إلى بيان وصارت مجملة. ومثل ذلك أيضا قوله: (احلت لكم بهيمة الانعام الا ما يتلى عليكم) (2) لان ما يتلى لما كان مجملا فالاول بمنزلته. ومنها: لفظ العام إذا ورد واقتضى حكما والمعلوم من حال ذلك الحكم انه لا يتم فعله الا بشئ اخر وذلك الشئ لا يعلم بالظاهر اقتضى ذلك اجمال العام لانه لا يمكن الاقدام على ذلك مع الجهل بما لا يتم الا به. فهذه جملة مقنعة في ذكر ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج لان شرح ذلك طويل. فاما الذي لاجله قلنا: ان ما يمكن أن يعلم المراد به بظاهره لا يحتاج إلى بيان فهو انه لو احتاج إلى بيان لكان يحتاج إليه فيما يقوم ويسد مسده فإذا كان هو بنفسه مع انه قام مقامه لا يبين به المراد فكذلك بيانه وفي ذلك اخراج بيانه ايضا من أن يستقل بنفسه وايجاب إلى بيان اخر وذلك يوجب اثبات ما لا يتناهى من البيان وذلك محال. وانما قلنا: ان القسم الاخير يحتاج إلى بيان لانه لا يمكن معرفة المراد به فكان ذلك في حكم كل من لم يعرف حاله من الحاجة إلى بيانه ليتبين له المراد وذلك ظاهر. والله الموفق للصواب

اترك تعليقاً