الاحتجاج

الشيخ الطبرسي ج 2


[ 1 ]

الاحتجاج تأليف أبى منصور احمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي الجزء الثاني تعليقات وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان منشورات دار النعمان للطباعة والنشر حسن الشيخ ابراهيم الكتبى


[ 2 ]

طبع في مطابع النعمان النجف الاشرف حسن الشيخ ابراهيم الكتبى تلفون 997 المسكن 227 حي 1386 ه‍ – 1966 م


[ 3 ]

احتجاج الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية في الامامة، من يستحقها ومن لا يستحقها بعد مضي النبي. وقد جرى قبل ذلك ايراد كثير من الحجج لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهما، على معاوية في الامامة وغيرها، بمحضر من الحسن عليه السلام، والفضل بن عباس، وغيرهما. روى سليم بن قيس قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: قال لي معاوية: ما اشد تعظيمك للحسن والحسين، ما هما بخير منك، ولا أبوهما بخير من أبيك، ولو لا ان فاطمة بنت رسول الله لقلت: ما امك اسماء بنت عميس بدونها. قال: فغضبت من مقالته، واخذني ما لا أملك، فقلت: انت لقليل المعرفة بهما، وبأبيهما، وامهما، بلى والله انهما خير مني، وأبوهما خير من أبي، وامهما خير من امي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهما وفي أبيهما وانا غلام فحفظته منه، ورعيته. فقال معاوية – وليس في المجلس غير الحسن والحسين عليهما السلام، وابن جعفر رحمه الله، وابن عباس، واخيه الفضل -: هات ما سمعت ! فو الله ما أنت بكذاب. فقال انه اعظم مما في نفسك. قال: وان كان أعظم من احدى وحرى، فاته ! ما لم يكن احد من أهل الشام اما إذا قتل الله طاغيتكم، وفرق جمعكم، وصار الامر في أهله ومعدنه، فما نبالي ما قلتم، ولا يضرنا ما ادعيتم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (انا أولى بالمؤمنين من انفسهم، فمن كنت أولى به من نفسه فانت يا أخي أولى به من نفسه) وعلي بين يديه في البيت، والحسن، والحسين، وعمرو بن ام سلمة، واسامة بن يزيد، وفي البيت فاطمة عليها السلام وام ايمن، وابو ذر، والمقداد، والزبير بن العوام، وضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على


[ 4 ]

عضده واعاد ما قال فيه ثلاثا، ثم نص بالامامة على الائمة تمام الاثنى عشر عليهم السلام ثم قال صلوات الله عليه: (لامتي اثنا عشر امام ضلالة، كلهم ضال مضل عشرة من بني امية، ورجلان من قريش، وزر جميع الاثنا عشر وما اضلوا في اعناقهما، ثم سماهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسمى العشرة منهما). قال: فسمهم لنا. قال: فلان وفلان، وصاحب السلسلة وابنه من آل أبي سفيان، وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، اولهم مروان. قال معاوية: لئن كان ما قلت حقا هلكت، وهلكت الثلاثة قبلي، وجميع من تولاهم من هذه الامة، ولقد هلك اصحاب رسول الله من المهاجرين والانصار والتابعين من غيركم واهل البيت وشيعتكم. قال ابن جعفر: فان الذي قلت والله حق سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله. قال معاوية – للحسن والحسين وابن عباس -: ما يقول ابن جعفر ؟ قال ابن عباس: ومعاوية بالمدينة اول سنة اجتمع عليه الناس بعد قتل علي عليه السلام ارسل إلى الذي سمى، فارسل إلى عمرو بن ام سلمة، واسامة، فشهدوا جميعا أن الذي قال ابن جعفر حق، قد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله كما سمعه. ثم أقبل معاوية إلى الحسن، والحسين، وابن عباس، والفضل، وابن ام سلمة، واسامة. قال: كلكم على ما قال ابن جعفر ؟ قالوا: نعم. قال معاوية: فانكم يا بني عبد المطلب لتدعون أمرا، وتحتجون بحجة قوية ان كانت حقا، وانكم لتبصرون على أمر وتسترونه والناس في غفلة وعمى، ولئن كان ما تقولون حقا لقد هلكت الامة، ورجعت عن دينها، وكفرت بربها وجحدت نبيها، الا انتم اهل البيت ومن قال بقولكم، واولئك قليل في الناس. فاقبل ابن عباس على معاوية فقال: قال الله تعالى: (وقليل من عبادي


[ 5 ]

الشكور) وقال: (وقليل ما هم). وما تعجب مني يا معاوية اعجب من بني اسرائيل: ان السحرة قالوا لفرعون (اقض ما انت قاض) فآمنوا بموسى وصدقوه، ثم سار بهم ومن اتبعهم من بني اسرائيل فاقطعهم البحر، واراهم العجائب، وهم مصدقون بموسى وبالتوراة يقرون له بدينه، ثم مروا باصنام تعبد فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال انكم قوم تجهلون) وعكفوا على العجل جميعا غير هارون فقالوا: (هذا إلهكم وإله موسى) وقال لهم موسى – بعد ذلك -: (ادخلوا الارض المقدسة) فكان من جوابهم ما قص الله عزوجل عليهم: (فقال موسى رب اني لا املك الا نفسي واخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين). فما اتباع هذه الامة رجالا سودوهم واطاعوهم، لهم سوابق مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومنازل قريبة منها، واصهاره مقرين بدين محمد صلى الله عليه وآله وبالقرآن، حملهم الكبر والحسد ان خالفوا امامهم ووليهم، باعجب من قوم صاغوا من حليهم عجلا ثم عكفوا عليه يعبدونه، ويسجدون له، ويزعمون انه رب العالمين، واجتمعوا على ذلك كلهم غير هارون وحده، وقد بقي مع صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسى من اهل بيته ناس: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، والزبير، ثم رجع الزبير وثبت هؤلاء الثلاثة مع امامهم حتى لقوا الله. وتعجب يا معاوية ان سمى الله من الائمة واحدا بعد واحد، وقد نص عليهم رسول الله بغدير خم وفي غير موطن، واحتج بهم عليهم، وامرهم بطاعتهم، واخبر ان اولهم علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعده، وانه خليفته فيهم ووصيه وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله جيشا يوم مؤتة فقال: عليكم بجعفر، فان هلك فزيد، فان هلك فعبد الله بن رواحة، فقتلوا جميعا، افترى يترك الامة ولم يبين لهم من الخليفة بعده، ليختاروا هم لانفسهم الخليفة، كأن رأيهم لانفسهم أهدى لهم وارشد من رأيه واختياره، وما ركب القوم ما ركبوا الا بعد ما بينه، وما تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله في عمى ولا شبهة.


[ 6 ]

فاما ما قال الرهط الاربعة الذين تظاهروا على علي عليه السلام وكذبوا على رسول الله، وزعموا انه قال: ان الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة فقد شبهوا على الناس بشهادتهم، وكذبهم، ومكرهم. قال معاوية: ما تقول يا حسن ؟ قال: يا معاوية قد سمعت ما قلت، وما قال ابن عباس، العجب منك يا معاوية ومن قلة حيائك، ومن جرأتك على الله حين قلت: (قد قتل الله طاغيتكم، ورد الامر إلى معدنه) فانت يا معاوية معدن الخلافة دوننا، ويل لك يا معاوية وللثلثه قبلك الذين اجلسوك هذا المجلس، وسنوا لك هذه السنة، لاقولن كلاما ما أنت أهله، ولكني اقول ليسمعه بنو أبي هؤلاء حولي. ان الناس قد اجتمعوا على امور كثيرة ليس بينهم اختلاف فيها، ولا تنازع ولا فرقة، على: شهادة ان لا إله إلا الله، وان محمدا رسول الله عبده، والصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، ثم اشياء كثيرة من طاعة الله لا يحصى ولا يعدها الا الله، واجتمعوا على تحريم الزنا، والسرقة والكذب، والقطيعة، والخيانة، واشياء كثيرة من معاصي الله لا يحصى ولا يعدها الا الله، واختلفوا في سنن اقتتلوا فيها، وصاروا فرقا يلعن بعضهم بعضا، وهي: (الولاية) ويتبرأ بعضهم عن بعض، ويقتل بعضهم بعضا، ايهم احق وأولى بها، الا فرقة تتبع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فمن اخذ بما عليه اهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف، ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله، سلم ونجا به من النار، ودخل الجنة، ومن وفقه الله ومن عليه واحتج عليه بان نور قلبه بمعرفة ولاة الامر من أئمتهم ومعدن العلم اين هو، فهو عند الله سعيد، ولله ولي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (رحم الله امرء علم حقا فقال أو سكت فسلم). نحن نقول اهل البيت ان الائمة منا، وان الخلافة لا تصلح الا فينا، وان الله جعلنا اهلها في كتابه وسنة نبيه، وان العلم فينا ونحن اهله، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، وانه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى ارش الخدش الا


[ 7 ]

وهو عندنا مكتوب باملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وبخط علي عليه السلام بيده. وزعم قوم: انهم أولى بذلك منا حتى انت يابن هند تدعي ذلك، وتزعم: ان عمر ارسل إلى أبي اني اريد ان اكتب القرآن في مصحف فابعث الي بما كتبت من القرآن، فاتاه فقال: تضرب والله عنقي قبل ان يصل اليك. قال: ولم ؟ قال: لان الله تعالى قال: (والراسخون في العلم) اياي عنى، ولم يعنك ولا اصحابك، فغضب عمر ثم قال: يابن أبي طالب تحسب ان احدا ليس عنده علم غيرك، من كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتني به، إذا جاء رجل فقرأ شيئا معه يوافقه فيه آخر كتبه والا لم يكتبه. ثم قالوا: قد صاغ منه قرآن كثير، بل كذبوا والله بل هو مجموع محفوظ عند اهله، ثم أمر عمر قضاته وولاته: اجتهدوا آرائكم واقضوا بما ترون انه الحق فلا يزال هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة، فيخرجهم منها أبي ليحتج عليهم بها، فتجمع القضاة عند خليفتهم وقد حكموا في شئ واحد بقضايا مختلفة فاجازها لهم، لان الله تعالى لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب، وزعم كل صنف من مخالفينا من اهل هذه القبلة: انهم معدن الخلافة والعلم دوننا، فنستعين بالله على من ظلمنا وجحدنا حقنا، وركب رقابنا، وسن للناس علينا ما يحتج به مثلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل. انما الناس ثلاثة: مؤمن يعرف حقنا ويسلم لنا ويأتم بنا، فذلك ناج محب لله ولي. وناصب لنا العداوة يتبرأ منا، ويلعننا، ويستحل دمائنا، ويجحد حقنا، ويدين الله بالبرائة منا، فهذا كافر مشرك، وانما كفر واشرك من حيث لا يعلم كما يسبوا الله عدوا بغير علم، كذلك يشرك بالله بغير علم. ورجل آخذ بما لا يختلف فيه، ورد علم ما اشكل عليه إلى الله، مع ولايتنا


[ 8 ]

ولا يأتم بنا، ولا يعادينا، ولا يعرف حقنا، فنحن نرجو ان يغفر الله له، ويدخله الجنة، فهذا مسلم ضعيف. فلما سمع معاوية امر لكل منهم بمائة الف درهم، غير الحسن والحسين وابن جعفر، فانه امر لكل واحد منهم بالف الف درهم. احتجاجه (ع) على من انكر عليه مصالحة معاوية ونسبه إلى التقصير في طلب حقه. عن سليم بن قيس قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام على المنبر حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: ايها الناس ان معاوية زعم: اني رأيته للخلافة اهلا ولم ار نفسي لها اهلا وكذب معاوية، انا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبي الله، فاقسم بالله لو ان الناس بايعوني واطاعوني ونصروني، لاعطتهم السماء قطرها، والارض بركتها، ولما طمعتم فيها يا معاوية، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما ولت امة أمرها رجلا قط وفيهم من هو اعلم منه الا لم يزل امرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ملة عبدة العجل). وقد ترك بنو اسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون ان هارون خليفة موسى، وقد تركت الامة عليا عليه السلام وقد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي: (انت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبي بعدي) وقد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتى فر إلى الغار، ولو وجد عليهم اعوانا ما هرب منهم، ولو وجدت انا اعوانا ما بايعتك يا معاوية. وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم اعوانا، وقد جعل الله النبي في سعة حين فر من قومه لما لم يجد اعوانا عليهم كذلك انا وابي في سعة من الله حين تركنا الامة وبايعت غيرنا ولم نجد اعوانا، وانما هي السنن والامثال يتبع بعضها بعضا.


[ 9 ]

أيها الناس انكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلا من ولد النبي غيري وغير أخي. وعن حنان بن سدير (1) عن أبيه سدير (2) عن أبيه (3) عن أبي سعيد عقيصي (4) قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته فقال عليه السلام: ويحكم ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت لشيعتي خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون اني امامكم، ومفترض الطاعة عليكم، واحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله علي ؟


(1) ذكره النجاشي في رجاله ص 112 فقال: (حنان بن سدير بن حكيم بن صهيب أبو الفضل الصيرفى الكوفى. روى عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام، له كتاب في صفة الجنة والنار) وعده الشيخ في اصحاب الكاظم عليه السلام في رجاله ص 346 وقال: (حنان بن سدير الصيرفى واقفى) وفي الفهرست قال: (له كتاب. وهو ثقة. رحمه الله) وفي رجال الكشى ص 465: (حنان بن سدير واقفى، ادرك ابا عبد الله ولم يدرك أبا جعفر، وكان يرتضى به سديدا) (2) ذكره العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 85 والشيخ في رجاله ص 91 وعده من أصحاب على بن الحسين عليهما السلام وص 125 من اصحاب الباقر (ع) وص 29 من اصحاب الصادق عليه السلام وقال: (سدير بن حكيم كوفى يكنى أبا الفضل والد حنان) وذكر الكشى ص 182 عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ذكر عنده سدير فقال: (سدير عصيدة بكل لون). (3) عده الشيخ في رجاله ص 88 من أصحاب على بن الحسين عليهما السلام. (4) ذكره العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 193 في أولياء على (ع) فقال: (وأبو سعيد عقيصان – بفتح العين المهملة، والقاف قبل الياء المنقطة تحتها نقطتين، والصاد المهملة والنون بعد الالف – من بنى تيم الله بن ثعلبة. وذكره الشيخ في رجاله ص 40 فعده من أصحاب على (ع) وقال: (دينار يكنى أبا سعيد، ولقبه عقيصا، وانما لقب بذلك لشعر قاله، وذكره ايضا ص 96 في أصحاب الحسين (ع)

[ 10 ]

قالوا: بلى. قال: أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة، واقام الجدار، وقتل الغلام كان ذلك سخطا لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصوابا ؟ أما علمتم انه ما منا احد الا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه الا القائم (عج) ؟ الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام، فان الله عزوجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لاحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد اخي الحسين، ابن سيدة الاماء، يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم ان الله على كل شئ قدير. عن زيد بن وهب الجهني (1) قال: لما طعن الحسن بن علي عليه السلام بالمدائن اتيته وهو متوجع، فقلت: ما ترى يا بن رسول الله فان الناس متحيرون ؟ فقال: ارى والله ان معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون انهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهدا احقن به دمي، واومن به في اهلي، خير من ان يقتلوني فتضيع اهل بيتي واهلي، والله لو قاتلت معاوية لاخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما، والله لئن اسالمه وانا عزيز خير من ان يقتلني وانا اسير، أو يمن علي فيكون سنة على بني هاشم آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه علي الحي منا والميت. (قال): قلت: تترك يابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لها راع ؟


(1) ذكره العلامة (ره) في أولياء على عليه السلام في القسم الاول من خلاصته ص 194 والشيخ في رجاله ص 42 في أصحاب على (ع) وفي الفهرست ص 97 فقال: (زيد بن وهب له كتاب: خطب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر في الجمع والاعياد وغيرها) وفي اسد الغابة ص 243 ج 2 انه كان في جيش على (ع) حين مسيره إلى النهروان وقال ابن عبد البر في هامش الاصابة ص 5 44 ج 1: انه ثقة، توفى سنة (96).

[ 11 ]

قال: وما أصنع يا أخا جهينة اني والله اعلم بأمر قدادى به الي ثقاته: ان امير المؤمنين عليه السلام قال لي – ذات يوم وقد رآني فرحا -: يا حسن اتفرح كيف بك إذا رأيت أباك قتيلا ؟ ! كيف بك إذا ولي هذا الامر بنو امية، وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الاعفجاج، (1) يأكل ولا يشبع، يموت وليس له في السماء ناصر ولا في الارض عاذر، ثم يستولي على غربها وشرقها، يدين له العباد ويطول ملكه، يستن بسنن اهل البدع الضلال، ويميت الحق وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويذل في ملكه المؤمن، ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولا، ويتخذ عباد الله خولا يدرس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويقتل من ناواه على الحق، ويدين من لاواه على الباطل، فكذلك حتى يبعث الله رجلا في آخر الزمان، وكلب من الدهر، (2) وجهل من الناس، يؤيده الله بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره على أهل الارض حتى يدينوا طوعا وكرها، يملا الارض قسطا وعدلا، ونورا وبرهانا، يدين له عرض البلاد وطولها، لا يبقى كافر الا آمن به ولا صالح الا صلح، ويصطلح في ملكه السباع، وتخرج الارض نبتها، وينزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين أربعين عاما، فطوبى لمن أدرك ايامه، وسمع كلامه. وعن الاعمش (3) عن سالم بن أبي الجعد (4) قال: حدثنى رجل منا


(1) أي واسع الكرش ولامعاء. (2) الكلب: شبيه بالجنون. (3) الاعمش: أبو محمد سليمان بن مهران الاسدي، مولاهم الكوفى، معروف بالفضل والثقة، والجلالة، والتشيع والاستقامة، والعامة ايضا يثنون عليه، مطبقون على فضله وثقته، مقرون بجلالته، مع اعترافهم بتشيعه، وقرنوه بالزهرى، ونقلوا منه نوادر كثيرة، بل صنف ابن طولون الشامي كتابا في نوادره سماه: (الزهر الانعش في نوادر الاعمش) مات سنة (148). راجع الكنى والالقاب ج 2 ص 39 رجال الشيخ ص 26. (4) عده الشيخ ص 43 من رجاله في اصحاب على عليه السلام وص 91 في=

[ 12 ]

قال: أتيت الحسن بن علي عليه السلام فقلت: يابن رسول الله اذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا، ما بقي معك رجل قال: ومم ذاك ؟ قال: قلت: بتسليمك الامر لهذا الطاغية. قال: والله ما سلمت الامر إليه الا اني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة، وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا، انهم لا وفاء لهم. ولا ذمة في قول ولا فعل، انهم لمختلفون، ويقولون لنا: ان قلوبهم معنا، وان سيوفهم لمشهورة علينا، قال: وهو يكلمني إذ تنخع الدم، فدعا بطست فحمل من بين يديه ملئ مما خرج من جوفه من الدم. فقلت له: ما هذا يابن رسول الله صلى الله عليه وآله انى لاراك وجعا ؟ قال: اجل دس الي هذا الطاغية من سقاني سما فقد وقع على كبدي وهو يخرج قطعا كما ترى. قلت: افلا تتداوى ؟ قال: قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواء، ولقد رقى الي: انه كتب إلى ملك الروم يسأله ان يوجه إليه من السم القتال شربة، فكتب إليه ملك الروم: انه لا يصلح لنا في ديننا ان نعين على قتال من لا يقاتلنا، فكتب إليه ان هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة، وقد خرج يطلب ملك أبيه، وانا اريد ان ادس إليه من يسقيه ذلك، فاريح العباد والبلاد منه، ووجه إليه بهدايا وألطاف فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دس فيها فسقيها واشترط عليه في ذلك شروطا.


= أصحاب على بن الحسين عليهما السلام فقال: (سالم بن أبى الجعد الاشجعى مولاهم الكوفى يكنى أبا اسماء) وذكره العلامة في القسم لاول من خلاصته ص 193 في أولياء على عليه السلام.

[ 13 ]

وروي ان معاوية دفع السم إلى امرأة الحسن بن علي عليهما السلام، جعدة بنت الاشعث، فقال لها: (اسقيه فإذا مات هو زوجتك ابني يزيد) فلما سقته السم ومات عليه السلام، جائت الملعونة إلى معاوية الملعون فقالت: (زوجني يزيد) فقال: (اذهبي فان امرأة لم تصلح للحسن بن علي لا تصلح لا بني يزيد). احتجاج الحسين بن علي عليهما السلام على عمر بن الخطاب في الامامة والخلافة. روي ان عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكر في خطبته انه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال له الحسين عليه السلام – من ناحية المسجد -: انزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك ! فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي من علمك هذا أبوك علي بن أبي طالب ؟ فقال له الحسين عليه السلام: ان اطع أبي فيما أمرني فلعمري انه لها دوانا مهتد به، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله، نزل بها جبرئيل من عند الله تعالى لا ينكرها الا جاحد بالكتاب، قد عرفها الناس بقلوبهم وانكروها بالسنتهم وويل للمنكرين حقنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله من ادامة الغضب وشدة العذاب ! ! فقال عمر: يا حسين من انكر حق أبيك فعليه لعنة الله، أمرنا لناس فتأمرنا ولو أمروا أباك لاطعنا. فقال له الحسين: يابن الخطاب فاي الناس أمرك على نفسه قبل ان تؤمر أبا بكر على نفسك ليؤمرك على الناس، بلا حجة من نبي ولا رضا من آل محمد، فرضاكم كان لمحمد صلى الله عليه وآله رضا ؟ أو رضا أهله كان له سخطا ؟ ! اما والله لو ان للسان مقالا يطول تصديقه، وفعلا يعينه المؤمنون، لما تخطأت رقاب آل محمد،


[ 14 ]

ترقى منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم، لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله، الا سماع الاذان، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله جزاك، وسألك عما أحدثت سؤالا حفيا. (قال): فنزل عمر مغضبا، فمشى معه اناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه فاذن له، فدخل فقال: يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من ابنك الحسين، يجهرنا بصوت في مسجد رسول الله ويحرض علي الطغام وأهل المدينة، فقال له الحسن عليه السلام: على مثل الحسين بن النبي صلى الله عليه وآله يشخب بمن لا حكم له، أو يقول بالطغام على أهل دينه ؟ اما والله ما نلت الا بالطغام، فلعن الله من حرض الطغام. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: مهلا يا أبا محمد فانك لن تكون قريب الغضب ولا لئيم الحسب، ولا فيك عروق من السودان، اسمع كلامي ولا تعجل بالكلام فقال له عمر: يا أبا الحسن انهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة فقال أمير المؤمنين: هما أقرب نسبا برسول الله من ان يهما، اما فارضهما يابن الخطاب بحقهما يرض عنك من بعدهما. قال: وما رضاهما يا أبا الحسن ؟ قال: رضاهما الرجعة عن الخطيئة، والتقية عن المعصية بالتوبة. فقال له عمر: أدب يا أبا الحسن ابنك ان لا يتعاطى السلاطين الذين هم الحكماء في الارض. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: انا اؤدب أهل المعاصي على معاصيهم، ومن اخاف عليه الزلة والهلكة، فاما من والده رسول الله ونحله ادبه فانه لا ينتقل إلى ادب خير له منه، اما فارضهما يابن الخطاب. قال: فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان، وعبد الرحمان بن عوف. فقال له عبد الرحمن: يا أبا حفص ما صنعت فقد طالت بكما الحجة ؟ فقال له عمر: وهل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه ؟ !


[ 15 ]

فقال له عثمان: يابن الخطاب، هم بنو عبد مناف، الاسمنون والناس عجاف فقال له عمر: ما اعد ما صرت إليه فخرا فخرت به بحمقك، فقبض عثمان على مجامع ثيابه ثم نبذ به ورده، ثم قال له: يابن الخطاب، كأنك تنكر ما اقول، فدخل بينهما عبد الرحمن وفرق بينهما، وافترق القوم. احتجاج الحسين (ع) بذكر مناقب أمير المؤمنين واولاده عليهم السلام حين أمر معاوية بلعن أمير المؤمنين (ع) وقتل شيعته، وقتل من يروي شيئا من فضائله. عن سليم بن قيس قال: قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا في خلافته فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذين استقبلوه ما فيهم أحد من قريش، فلما نزل قال: ما فعلت الانصار وما بالها لم تستقبلني ؟ فقيل له: انهم محتاجون ليس لهم دواب. فقال معاوية: فأين نواضحهم ؟ فقال قيس بن سعد بن عبادة – وكان سيد الانصار وابن سيدها -: افنوها يوم بدر واحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله، حين ضربوك وأباك على الاسلام حتى ظهر أمر الله وانتم كارهون، فسكت معاوية، فقال قيس: أما ان رسول الله صلى الله عليه وآله عهد الينا انا سنلقي بعده اثرة. فقال معاوية: فما أمركم به ؟ فقال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه. قال: فاصبروا حتى تلقوه ! ثم ان معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس فقال له: يابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك، الا لموجدة اني قاتلتكم بصفين، فلا تجد من ذلك يابن عباس ! فان ابن عمي عثمان قد قتل مظلوما !


[ 16 ]

قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما. قال: ان عمر قتله كافر. قال ابن عباس: فمن قتل عثمان ؟ قال: قتله المسلمون. قال: فذلك أدحض لحجتك. قال: فانا قد كتبنا في الافاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته، فكف لسانك. فقال: يا معاوية أتنهانا عن قرائة القرآن ؟ ! قال: لا. قال: أتنهانا عن تأويله ؟ ! قال: نعم. قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به ؟ ثم قال: فايهما أوجب علينا قرائته أو العمل به ؟ قال: العمل به. قال: فكيف نعمل به ولا نعلم ما عنى الله ؟ ! قال: سل عن ذلك من يتأوله غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك. قال: انما انزل القرآن على أهل بيتي فاسأل عنه آل أبي سفيان يا معاوية أتنهانا ان نعبد الله بالقرآن بما فيه من حلال وحرام ؟ ! فان لم تسأل الامة عن ذلك حتى تعلم تهلك وتختلف. قال: اقرؤا القرآن وتأولوه ولا ترووا شيئا مما انزل الله فيكم، وارووا ما سوى ذلك. قال: فان الله يقول في القرآن: (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). قال: يابن عباس أربع على نفسك، وكف لسانك، وان كنت لابد فاعلا


[ 17 ]

فليكن ذلك سرا لا يسمعه أحد علانية. ثم رجع إلى بيته فبعث إليه بمائة الف درهم، ونادى منادي معاوية أن قد برئت الذمة ممن يروي حديثا من مناقب علي وفضل أهل بيته، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد ابن أبيه وضم إليه العراقين: الكوفة والبصرة، فجعل يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الايدي والارجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، حتى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب، أو محبوس، أو طريد، أو شريد. وكتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الامصار: ان لا تجيزوا لاحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ومحبي أهل بيته واهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم، واكرموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم ابيه وقبيلته، ففعلوا، حتى كثرت الرواية في عثمان، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطايع، من العرب والموالي، وكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في الاموال والدنيا، فليس احد يجئ من مصر من الامصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة الا كتب اسمه، واجيز، فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عماله: ان الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه، فان ذلك أحب الينا، واقر لاعيننا، وادحض لحجة أهل هذا البيت، وأشد عليهم، فقرأ كل أمير وقاض كتابه على الناس، فأخذ الرواة في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة وكل مسجد زورا، والقوا ذلك إلى معلمي الكتاتيب فعلموا ذلك صبيانهم، كما يعلمونهم القرآن، حتى علموه بناتهم ونساؤهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله. وكتب زياد بن أبيه إليه في حق الحضرميين: انهم على دين علي، وعلى رأيه فكتب إليه معاوية: اقتل كل من كان على دين علي ورأيه فقتلهم ومثل بهم.


[ 18 ]

وكتب كتابا آخر انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهموه بحبه فاقتلوه وان لم تقم عليه البينة فاقتلوه على التهمة والظنة والشبهة تحت كل حجر، حتى لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه، حتى لو كان الرجل يرمى بالزندقة والكفر كان يكرم ويعظم ولا يتعرض له بمكروه، والرجل من الشيعة لا يأمن على نفسه في بلد من البلدان لا سيما الكوفة والبصرة، حتى لو ان احدا منهم اراد ان يلقي سرا إلى من يثق به لاتاه في بيته فيخاف خادمه ومملوكه، فلا يحدثه الا بعد أن يأخذ عليهم الايمان المغلظة: ليكتمن عليه، ثم لا يزداد الامر الا شدة، حتى كثر وظهر أحاديثهم الكاذبة، ونشأ عليه الصبيان يتعلمون ذلك. وكان اشد الناس في ذلك القراء المراؤن المتصنعون الذين يظهرون الخشوع والورع، فكذبوا وانتحلوا الاحاديث وولدوها فيحظون بذلك عند الولاة والقضاة ويدنون مجالسهم، ويصيبون بذلك الاموال والقطايع والمنازل، حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقا وصدقا، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها، واحبوا عليها وابغضوا من ردها أو شك فيها، فاجتمعت على ذلك جماعتهم، وصارت في يد المتنسكين والمتدينين منهم الذين لا يحبون الافتعال إلى مثلها، فقبلوها وهم يرون انها حق، ولو علموا بطلانها وتيقنوا انها مفتعلة لاعرضوا عن روايتها ولم يدينوا بها، ولم يبغضوا من خالفها، فصار الحق في ذلك الزمان عندهم باطلا والباطل عندهم حقا، والكذب صدقا، والصدق كذبا. فلما مات الحسن بن علي ازداد البلاء والفتنة، فلم يبق لله ولي الا خائف على نفسه، أو مقتول، أو طريد، أو شريد. فلما كان قبل موت معاوية بسنتين حج الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس معه. وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم، رجالهم ونساءهم، ومواليهم، وشيعتهم، من حج منهم ومن لم يحج، ومن الانصار ممن يعرفونه، واهل بيته، ثم لم يدع احدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن ابنائهم والتابعين، ومن الانصار المعروفين بالصلاح والنسك الا جمعهم فاجتمع عليه بمنى اكثر من الف رجل، والحسين عليه السلام في سرادقه


[ 19 ]

عامتهم التابعون وأبناء الصحابة، فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيبا، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: اما بعد: فان الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، واني اريد أن اسألكم عن أشياء فان صدقت فصدقوني، وان كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فاني أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متم نوره ولو كره الكافرون، فما ترك الحسين شيئا أنزل الله فيهم من القرآن الا قاله وفسره، ولا شيئا قاله الرسول في أبيه وامه وأهل بيته الا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: (اللهم نعم، قد سمعناه وشهدناه) ويقول التابعون: (اللهم قد حدثنا من نصدقه ونأتمنه) حتى لم يترك شيئا الا قاله ثم قال: انشدكم بالله الا رجعتم وحدثتم به من تثقون به، ثم نزل وتفرق الناس على ذلك. احتجاجه عليه السلام على معاوية توبيخا له على قتل من قتله من شيعة أمير المؤمنين وترحمه عليهم. عن صالح بن كيسان (1) قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليه السلام فقال: يا ابا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر، واصحابه، واشياعه، وشيعة ابيك ؟ فقال عليه السلام: وما صنعت بهم ؟ قال: قتلناهم، وكفناهم، وصلينا عليهم. فضحك الحسين عليه السلام ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكننا لو قتلنا شيعتك


(1) صالح بن كيسان المدنى عده الشيخ من اصحاب على بن الحسين عليه السلام ص 93 من رجاله (*).

[ 20 ]

ما كفناهم، ولا صلينا عليهم، ولا قبرناهم، ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك، ثم سلها الحق عليها ولها، فان لم تجدها أعظم عيبا فما اصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترن غير قوسك، ولا ترمين غير غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب، فانك والله لقد اطعت فينا رجلا ما قدم اسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك فانظر لنفسك اودع – يعني: (عمرو بن العاص). وقال عليه السلام – في جواب كتاب كتب إليه معاوية على طريق الاحتجاج -: اما بعد: فقد بلغني كتابك انه بلغك عني امور ان بي عنها غنى، وزعمت اني راغب فيها، وانا بغيرها عنك جدير، اما رقى اليك عني فانه رقاه اليك الملاقون المشاؤن بالنمائم المفرقون بين الجمع، كذب الساعون الواشون ما اردت حربك ولا خلافا عليك وايم الله اني لاخاف الله عز ذكره في ترك ذلك، وما اظن الله تبارك وتعالى براض عني بتركه، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك، وفي اولئك القاسطين الملبين حزب الظالمين، بل اولياء الشيطان الرجيم، ألست قاتل حجر بن عدي اخي كندة واصحابه الصالحين المطيعين العابدين، كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون المنكر والبدع، ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتهم ظلما وعدوانا، بعدما كنت اعطيتهم الايمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا باحنة تجدها في صدرك عليهم، أو لست قاتل عمرو ابن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي ابلته العبادة فصفرت لونه، ونحلت جسمه، بعد ان أمنته وأعطيته من عهود الله عزوجل وميثاقه ما لو اعطيته العصم ففهمته لنزلت اليك من شعف الجبال، ثم قتلته جرأة على الله عزوجل، واستخفافا بذلك العهد، أو لست المدعي زياد بن سمية، المولود على فراش عبيد عبد ثقيف، فزعمت انه ابن أبيك، وقد قال رسول الله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنة رسول الله واتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على أهل العراق فقطع ايدي المسلمين وارجلهم وسمل اعينهم، وصلبهم على جذوع النخل


[ 21 ]

كأنك لست من هذه الامة، وليسوا منك ؟ أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب اليك فيهم ابن سمية انهم: على دين علي ورأيه، فكنبت إليه اقتل كل من كان على دين علي عليه السلام ورأيه فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي والله وابن علي الذي كان يضرب عليه أباك، وهو اجلسك بمجلسك الذي انت فيه ولو لا ذلك لكان افضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين اللتين بنا من الله عليكم فوضعهما عنكم ؟ وقلت فيما تقول انظر نفسك ولدينك ولامة محمد صلى الله عليه وآله، واتق شق عصا هذه الامة، وان تردهم في فتنة، فلا اعرف فتنة اعظم من ولايتك عليها، ولا اعلم نظرا لنفسي وولدي وامة جدي افضل من جهادك، فان فعلته فهو قربة إلى الله عزوجل، وان تركته فاستغفر الله لذنبي واسأله توفيقي لارشاد اموري، وقلت فيما تقول ان انكرك تنكرني، وان اكدك تكدني، وهل رأيك الاكيد الصالحين منذ خلقت ؟ ! فكدني ما بدا لك ان شئت فاني ارجو ان لا يضرني كيدك، وان لا يكون على احد اضر منه على نفسك، على انك تكيد فتوقظ عدوك، وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثلث بهم بعد الصلح والايمان والعهد والميثاق فقتلتهم من غير ان يكونوا قتلوا الا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، بما به شرفت وعرفت، مخافة امر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل ان يفعلوا، أو ماتوا قبل ان يدركوا، ابشر يا معاوية بقصاص، واستعد للحساب، واعلم ان لله عزوجل كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها وليس الله تبارك وتعالى بناس اخذك بالظنة، وقتلك اولياءه بالتهمة، ونفيك اياهم من دار الهجرة إلى دار الغربة والوحشة واخذك الناس ببيعة ابنك، غلام من الغلمان، يشرب الشراب، ويلعب بالكعاب لا اعلمك الا قد خسرت نفسك، وشريت دينك، وغششت رعيتك، واخزيت امانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، واخفت التقي الورع الحليم. قال: فلما قرأ معاوية كتاب الحسين عليه السلام قال: لقد كان في نفسه ضب علي ما كنت اشعر به. فقال ابنه يزيد، وعبد الله بن أبي عمير بن جعفر: اجبه جوابا شديدا


[ 22 ]

تصغر إليه نفسه، وتذكر اباه باسوأ فعله وآثاره. فقال: كلا ارأيتما لو اني اردت ان اعيب عليا محقا ما عسيت ان اقول، ان مثلي لا يحسن به ان يعيب بالباطل، وما لا يعرف الناس، ومتى عبت رجلا بما لا يعرف لم يحفل به صاحبه ولم يره شيئا، وما عسيت ان اعيب حسينا، وما ارى للعيب فيه موضعا الا اني قد اردت ان اكتب إليه واتوعده واهدده، واجهله ثم رأيت لا افعل. قال: فما كتب إليه بشئ يسوءه، ولا قطع عنه شيئا كان يصله به، كان يبعث إليه في كل سنة الف الف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب. احتجاجه صلوات الله عليه بامامته على معاوية وغيره وذكر طرف من مفاخراته ومشاجراته التي جرت له مع معاوية واصحابه. عن موسى بن عقبة (1) انه قال: لقد قيل لمعاوية: ان الناس قد رموا ابصارهم إلى الحسين عليه السلام، فلو قد امرته يصعد المنبر ويخطب فان فيه حصرا أو في لسانه كلالة. فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عظم في اعين الناس وفضحنا، فلم يزالوا به حتى قال للحسين: يا أبا عبد الله لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الحسين عليه السلام على المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله فسمع رجلا يقول: من هذا الذي يخطب ؟ فقال الحسين عليه السلام: نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله الاقربون، وأهل بيته الطيبون، واحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله صلى الله عليه وآله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شئ، لا يأتيه الباطل من بين يديه


(1) موسى بن عقبة بن أبي عياش المدنى تابعي عده الشيخ (ره) في اصحاب الصادق عليه السلام ص 307 (*).

[ 23 ]

ولا من خلفه، والمعول علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقايقه. فاطيعونا فان طاعتنا مفروضة، ان كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: (اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وقال: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولي الامر منكم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان الا قليلا). واحذركم الاصغاء إلى هتوف الشيطان بكم فانه لكم عدو مبين فتكونوا كاوليائه الذين قال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني برئ منكم فتلقون للسيوف ضربا وللرماح وردا وللعمد حطما وللسهام غرضا ثم لا يقبل من نفس ايمانها لن تكن امنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا قال معاوية: حسبك يا ابا عبد الله قد بلغت. وعن محمد بن السايب (1) انه قال: قال مروان بن الحكم يوما للحسين ابن علي عليه السلام. لو لا فخركم بفاطمة بم كنتم تفتخرون علينا ؟ فوثب الحسين عليه السلام – وكان عليه السلام شديد القبضة – فقبض على حلقه فعصره، ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه، ثم تركه، واقبل الحسين عليه السلام على جماعة من قريش فقال: انشدكم بالله الا صدقتموني ان صدقت أتعلمون ان في الارض حبيبين كانا احب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مني ومن أخي ؟ أو على ظهر الارض ابن بنت نبي غيري وغير اخي ؟ قالوا: اللهم لا. قال: واني لا اعلم ان في الارض ملعون ابن ملعون غير هذا وابيه، طريدي رسول الله، والله ما بين جابرس وجابلق احدهما بباب المشرق والاخر بباب المغرب رجلان ممن ينتحل الاسلام اعدى لله ولرسوله ولاهل بيته منك ومن أبيك إذا كان وعلامة قولي فيك انك: إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك.


(1) محمد بن السايب: عده الشيخ في اصحاب الصادق (ع) ص 289 (*).

[ 24 ]

قال: فوالله ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه. احتجاجه عليه السلام على اهل الكوفة بكربلا. عن مصعب بن عبد الله (1) لما استكف الناس بالحسين عليه السلام ركب فرسه واستنصت الناس، حمد الله واثنى عليه، ثم قال: تبا لكم ايتها الجماعة وترحا وبؤسا لكم ! حين استصرختمونا ولهين، فاصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفا كان في ايدينا، وحمشتم علينا نارا اضرمناها على عدوكم وعدونا، فاصبحتم البا على اوليائكم، ويدا على اعدائكم من غير عدل افشوه فيكم، ولا امل اصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا اليكم، فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجاش طامن، والرأي لم يستحصف ولكنكم اسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم إليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفها وضلة، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الامة ! وبقية الاحزاب، ونبذة الكتاب، ومطفئي السنن، ومؤاخي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين، وعصاة الامام، وملحقي العهرة بالنسب، ولبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. افهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون ! ! اجل والله، خذل فيكم معروف، نبتت عليه اصولكم، واتذرت عليه عروقكم، فكنتم اخبث ثمر شجر للناظر، واكلة للغاصب، الا لعنة الله على الظالمين الناكثين الذين ينقضون الايمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا، الا وان الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة وهيهات له ذلك مني ! هيهات منا الذلة ! ابى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون


(1) مصعب بن عبد الله: من آل الزبير بن العوام مجهول الحال ذكره المامقانى في الجزء الثالث من رجاله ص 219 (*).

[ 25 ]

وحجور طهرت وجدود طابت، ان يؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الاواني زاحف بهذه الاسرة على قلة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر، ثم تمثل فقال شعرا: فان نهزم فهزامون قدما وان نهزم فغير مهزمينا وما ان طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا فلو خلد الملوك إذا خلدنا ولو بقي الكرام إذا بقينا فقل للشامتين بنا افيقوا سيلقى الشامتون بما لقينا وقيل: انه لما قتل اصحاب الحسين عليه السلام واقاربه وبقي فريدا ليس معه الا ابنه علي زين العابدين عليه السلام، وابن آخر في الرضاع اسمه عبد الله، فتقدم الحسين عليه السلام إلى باب الخيمة فقال: ناولوني ذلك الطفل حتى اودعه ! فناولوه الصبي جعل يقبله وهو يقول: يا بني ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمد صلى الله عليه وآله، قيل: فإذا بسهم قد اقبل حتى وقع في لبة الصبي فقتله، فنزل الحسين عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه ورمله بدمه ودفنه، ثم وثب قائما وهو يقول: كفر القوم وقدما رغبوا عن ثواب الله رب الثقلين قتلوا قدما عليا وابنه حسن الخير كريم الطرفين حنقا منهم وقالوا اجمعوا نفتك الان جميعا بالحسين يالقوم من اناس رذل جمعوا الجمع لاهل الحرمين ثم صاروا وتواصوا كلهم باحتياج لرضاء الملحدين لم يخافوا الله في سفك دمي لعبيد الله نسل الكافرين وابن سعد قد رماني عنوة بجنود كوكوف الهاطلين لا لشئ كان منى قبل ذا غير فخري بضياء الفرقدين بعلي الخير من بعد النبي والنبي القرشي الوالدين خيرة الله من الخلق ابي ثم امي فانا ابن الخيرتين


[ 26 ]

فضة قد خلقت من ذهب فانا الفضة وابن الذهبين من له جد كجدي في الورى أو كشيخي فانا ابن القمرين فاطم الزهراء امي وابي قاصم الكفر ببدر وحنين عروة الدين علي المرتضى هادم الجيش مصلى القبلتين وله في يوم احد وقعة شفت الغل بقبض العسكرين ثم بالاحزاب والفتح معا كان فيها حتف اهل القبلتين في سبيل الله ماذا صنعت امة السوء معا بالعترتين عترة البر التقي المصطفى وعلى القرم يوم الجحفلين عبد الله غلاما يافعا وقريش يعبدون الوثنين وقلى الاوثان لم يسجد لها مع قريش لا ولا طرفة عين طعن الابطال لما برزوا يوم بدر وتبوك وحنين ثم تقدم الحسين عليه السلام حتى وقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من نفسه، عازما على الموت، وهو يقول: انا ابن علي الطهر من آل هاشم كفاني بهذا مفخرا حين افخر وجدي رسول الله اكرم من مشى ونحن سراج الله في الخلق نزهر وفاطم امي من سلالة احمد وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر وفينا كتاب الله انزل صادقا وفينا الهدى والوحي بالخير تذكر ونحن امان الله للناس كلهم نطول بهذا في الانام ونجهر ونحن حماة الحوض نسقى ولاتنا بكأس رسول الله ما ليس ينكر وشيعتنا في الحشر اكرم شيعة ومبغضنا يوم القيامة يخسر


[ 27 ]

احتجاج فاطمة الصغرى على اهل الكوفة. عن زيد بن موسى بن جعفر (1) عن ابيه عن آبائه عليهم السلام قال: خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد ان ردت من كربلا فقالت: الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، احمده واومن به واتوكل عليه، واشهد: أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله، وان اولاده ذبحوا بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، اللهم اني اعوذ بك ان افترى عليك الكذب، وان اقول خلاف ما انزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقه، المقتول من غير ذنب، كما قتل ولده بالامس في بيت من بيوت الله، وبها معشر مسلمة بالسنتهم، تعسا لرؤسهم ! ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته اليك محمود النقيبة، طيب الضريبة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته يا رب للاسلام صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك صلى الله عليه وآله صلواتك عليه وآله حتى قبضته اليك، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغبا في الاخرة مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى طريق مستقيم. اما بعد يا أهل الكوفة ! يا اهل المكر والغدر والخيلاء، انا اهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلائنا حسنا، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته في الارض في بلاده لعباده، اكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه صلى الله عليه وآله على كثير من خلقه تفضيلا، فكذبتمونا، وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، واموالنا نهبا، كأنا اولاد الترك أو كابل،


(1) زيد بن موسى بن جعفر (ع) – وهو لام ولد – عقد له محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب (ع) ايام أبى السرايا على الاهواز، ولما دخل البصرة وغلب عليها احرق دور بنى العباس واضرم النار في نخيلهم وجميع اسبابهم فقيل له: زيد النار. عمدة الطالب ص 221

[ 28 ]

كما قتلتم جدنا بالامس، وسيوفكم تقطر من دمائنا اهل البيت لحقد منقدم، قرت بذلك عيونكم، وفرحت به قلوبكم، اجتراءا منكم على الله، ومكرا مكرتم والله خير الماكرين، فلا تدعونكم انفسكم إلى الجذل بما اصبتم من دمائنا (1) ونالت ايديكم من اموالنا، فان ما اصابنا من المصائب الجليلة، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما اتاكم والله لا يحب كل مختال فخور. تبا لكم ! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم (2) ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الاليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ويلكم اتدرون اية يد طاعنتنا منكم، أو اية نفس نزعت إلى قتالنا، ام باية رجل مشيتم الينا، تبغون محاربتنا ؟ قست قلوبكم، وغلظت اكبادكم، وطبع على افئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان واملى لكم وجعل على بصركم غشاوة فانتم لا تهتدون. تبا لكم يا أهل الكوفة ! كم تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، وذحوله لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي، وبنيه عترة النبي الطيبين الاخيار، وافتخر بذلك مفتخر فقال: (نحن قتلنا عليا وبني علي بسيوف هندية ورماح، وسبينا نساؤهم سبى ترك ونطحناهم فاي نطاح). فقالت: بفيك ايها القائل الكثكث (3) ولك الاثلب (4) افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم، واذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما اقعى ابوك، وانما لكل امرء ما قدمت عداه، حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله.


(1) الجذل: الفرح (2) يسحتكم: يستأصلكم (3) الكثكث: دقاق التراب (4) الاثلب: دقاق الحجر

[ 29 ]

فما ذنبنا ان جاش دهر بحورنا وبحرك ساج لا يوارى الدعا مصا (1) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. قال: فارتفعت الاصوات بالبكاء وقالوا: حسبك يا بنت الطيبين ! فقد احرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، واضرمت اجوافنا، فسكتت عليها وعلى أبيها وجدها السلام خطبة زينب بنت علي بن ابي طالب بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم تقريعا لهم وتأنيبا. عن حذيم بن شريك الاسدي (2) قال لما اتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء، وكان مريضا، وإذا نساء اهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون. فقال زين العابدين عليه السلام – بصوت ضئيل وقد نهكته العلة -: ان هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم، فاومت زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام إلى الناس بالسكوت. قال حذيم الاسدي: لم اروالله خفرة قط انطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي عليه السلام، وقد اشارت إلى الناس بان انصتوا فارتدت الانفاس وسكنت الاجراس، ثم قالت – بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله – اما بعد يا اهل الكوفة يا اهل الختل (3) والغدر، والخذل ! ! الا فلا رقأت العبرة (4) ولا هدأت الزفرة، انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد


(1) الدعامص – جمع دعموص – وهو: دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء، والبيت للاعشى. (2) حذيم بن شريك الاسدي: عده الشيخ في رجاله ص 88 من اصحاب الامام على بن الحسين عليه السلام. (3) الختل: الخداع. (4) رقأت: جفت.

[ 30 ]

قوة انكاثا (1) تتخذون ايمانكم دخلا بينكم (2) هل فيكم الا الصلف (3) والعجب، والشنف (4) والكذب، وملق الاماء وغمز الاعداء (5) أو كمرعى على دمنة (6) أو كفضة على ملحودة (7) الا بئس ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون، اتبكون اخي ؟ ! اجل والله فابكوا فانكم احرى بالبكاء فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فقد ابليتم بعارها، ومنيتم بشنارها (8) ولن ترحضوا ابدا (9) وانى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب اهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم، واسى كلمكم (10) ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ومدرة حججكم (11) ومنار محجتكم، الاساء ما قدمت لكم انفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعسا تعسا ! ونكسا نكسا ! لقد خاب السعي، وتبت الايدي، وخسرت الصفة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، اتدرون ويلكم اي كبد لمحمد صلى الله عليه وآله فرثتم ؟ ! واي عهد نكثتم ؟ ! واي كريمة له ابرزتم ؟ ! واي حرمة له هتكتم ؟ ! واي دم له سفكتم ؟ ! لقد جئتم شيئا ادا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ! لقد جئتم بها شوهاء صلعاء، عنقاء، سوداء، فقماء خرقاء (12) كطلاع الارض، أو ملا السماء (13)


(1) أي: حلته وافسدته بعد ابرام. (2) أي: خيانة وخديعة. (3) الصلف: الذى يمتدح بما ليس عنده. (4) الشنف: البعض بغير حق. (5) الغمز: الطعن والعيب. (6) الدمنة: المزبلة. (7) الفضة: الجص. والملحودة: القبر. (8) الشنار: العار. (9) أي لن تغسلوها. (10) أي: دواء جرحكم. (11) المدرة زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم. (12) الشوهاء: القبيحة. والفقهاء إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى. والخرقاء: الحمقاء. (13) طلاع الارض: ملؤها (*).

[ 31 ]

افعجبتم ان تمطر السماء دما، ولعذاب الاخرة اخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فانه عزوجل لا يحفزه البدار (1) ولا يخشى عليه فوت الثار، كلا ان ربك لنا ولهم لبالمرصاد، ثم انشأت تقول عليها السلام: ماذا تقولون إذ قال النبي لكم ماذا صنعتم وانتم آخر الامم باهل بيتي واولادي وتكرمتي منهم اسارى ومنهم ضرجوا بدم ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم ان تخلفوني بسوء في ذوي رحم اني لا خشى عليكم ان يحل بكم مثل العذاب الذي اودى على ارم ثم ولت عنهم. قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردوا ايديهم في افواههم، فالتفت الي شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء، وهو يقول: بأبي وامي كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم انشد: كهولكم خير الكهول ونسلكم إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى فقال علي بن الحسين عليه السلام يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار، وانت بحمد الله عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة، ان البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر، فسكتت. ثم نزل عليه السلام وضرب فسطاطه، وانزل نسائه ودخل الفسطاط. احتجاج علي بن الحسين عليهما السلام على أهل الكوفة حين خرج من الفسطاط وتوبيخه أياهم على غدرهم ونكثهم. قال حذيم بن شريك الاسدي: خرج زين العابدين عليه السلام إلى الناس واومى إليهم ان اسكتوا فسكتوا، وهو قائم، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال:


(1) يحفزه: يدفعه. (*).

[ 32 ]

ايها الناس من عرفني فقد عرفني ! ومن لم يعرفني فانا علي بن الحسين، المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، انا ابن من انتهك حريمه، وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، انا ابن من قتل صبرا، فكفى بذلك فخرا. ايها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون انكم كتبتم إلى ابي وخدعتموه، واعطيتموه من انفسكم العهد والميثاق والبيعة ؟ قاتلتموه وخذلتموه فتبا لكم ما قدمتم لانفسكم وسوء لرأيكم، باية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من امتي. قال: فارتفعت اصوات الناس بالبكاء، ويدعو بعضهم بعضا: هلكتم وما تعلمون. فقال علي بن الحسين، رحم الله امرءا قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله، وفي اهل بيته، فان لنا في رسول الله اسوة حسنة. فقالوا باجمعهم ؟ نحن كلنا يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بامرك رحمك الله فانا حرب لحربك، سلم لسلمك، لنأخذن ترتك وترتنا، عمن ظلمك وظلمنا. فقال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات ! ! ايها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات انفسكم، اتريدون ان تاتوا الي كما اتيتم إلى آبائي من قبل كلا ورب الراقصات إلى منى، فان الجرح لما يندمل ! ! قتل ابي بالامس، واهل بيته معه، فلم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله، وثكل ابي وبني ابي و جدي شق لهازمي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري. و مسألتي ان لا تكونوا لنا ولا علينا: ثم قال عليه السلام: لا غرو ان قتل الحسين وشيخه قد كان خيرا من حسين واكرما فلا تفرحوا يا اهل كوفة بالذي اصيب حسين كان ذلك اعظما قتيل بشط النهر نفسي فداؤه جزاء الذي ارداه نار جهنما


[ 33 ]

احتجاجه عليه السلام بالشام على بعض أهلها حين قدم به وبمن معه على يزيد لعنه الله. وعن ديلم بن عمر قال: كنت بالشام حتى اتي بسبايا آل محمد صلى الله عليه وآله، فاقيموا على باب المسجد حيث تقام السبايا، وفيهم علي بن الحسين، فأتاهم شيخ من اشياخ اهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم، واهلككم، وقطع قرون الفتنة. فلم يأل عن سبهم وشتمهم، فلما انقضى كلامه. قال له علي بن الحسين عليه السلام: اني قد انصت لك حتى فرغت من منطقك، واظهرت ما في نفسك من العداوة والبغضاء، فانصت لي كما انصت لك. فقال له: هات. قال علي عليه السلام: اما قرأت كتاب الله عزوجل ؟ قال: نعم. فقال عليه السلام له: اما قرأت هذه الاية (قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى). قال: بلى. فقال عليه السلام: نحن اولئك فهل تجد لنا في سورة بني اسرائيل حقا خاصة دون المسلمين ؟ فقال: لا. فقال: اما قرأت هذه الاية ؟ وآت ذا القربى حقه ؟ قال: نعم. قال علي عليه السلام: فنحن اولئك الذين امر الله نبيه ان يؤتيهم حقهم. فقال الشامي: انكم لانتم هم ؟ فقال علي عليه السلام: نعم. فهل قرأت هذه الاية واعلموا انما غنمتم من شئ


[ 34 ]

فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى ؟ فقال له الشامي: بلى. فقال علي عليه السلام: فنحن ذو القربى، فهل تجد لنا في سورة الاحزاب حقا خاصة دون المسلمين ؟ فقال: لا. قال علي بن الحسين عليه السلام: اما قرأت هذه الاية: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) ؟ قال: فرفع الشامي يده إلى السماء ثم قال: اللهم اني اتوب اليك ! ثلاث مرات، اللهم اني اتوب اليك من عداوة آل محمد، وابرء اليك ممن قتل أهل بيت محمد، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرت بها قبل اليوم. احتجاج زينب بنت علي بن أبي طالب حين رأت يزيد (لع) يضرب ثنايا الحسين (ع) بالمخصرة. روى شيخ صدوق من مشايخ بني هاشم وغيره من الناس: انه لما دخل علي ابن الحسين عليه السلام وحرمه على يزيد، وجيئ برأس الحسين عليه السلام ووضع بين يديه في طست، فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو يقول: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل ليت اشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل لا هلوا واستهلوا فرحا ولقالوا يا يزيد لا تشل فجزيناه ببدر مثللا واقمنا مثل بدر فاعتدل لست من خندف ان لم انتقم من بني احمد ما كان فعل قالوا: فلما رأت زينب ذلك فاهوت إلى حبيبها فشقت، ثم نادت بصوت حزين تقرع القلوب، يا حسيناه ! يا حبيب رسول الله ! يابن مكة ومنى ! يابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ! يابن محمد المصطفى.


[ 35 ]

قال: فابكت والله كل من كان، ويزيد ساكت، ثم قامت على قدميها، واشرفت على المجلس، وشرعت في الخطبة، اظهارا لكمالات محمد صلى الله عليه وآله، واعلانا بانا نصبر لرضاء الله، لا لخوف ولا دهشة، فقامت إليه زينب بنت علي وامها فاطمة بنت رسول الله وقالت: الحمد لله رب العالمين، والصلاة على جدي سيد المرسلين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: (ثم كان عاقبة الذين اساؤا السؤى ان كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن) اظننت يا يزيد حين اخذت علينا اقطار الارض، وضيقت علينا آفاق السماء، فاصبحنا لك في اسار، نساق اليك سوقا في قطار، وانت علينا ذو اقتدار ان بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا، وان ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بانفك، ونظرت في عطفك (1) تضرب اصدريك فرحا (2) وتنقض مذرويك مرحا (3) حين رأيت الدنيا لك مستوسقة (4) والامور لديك متسقة (5) وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا انسيت قول الله عزوجل: (ولا تحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خيرا لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين). أمن العدل يابن الطلقاء ؟ ! تخديرك حرائرك وامائك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وابديت وجوههن، تحدوا بهن الاعداء من بلد إلى بلد، وتستشرفهن المناقل (6) ويتبرزن لاهل المناهل (7) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدني والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، عتوا منك على الله (8) وجحودا لرسول الله، ودفعا لما جاء به من عند الله، ولا غرو منك ولا عجب من


(1) نظر في عطفه: اخذه العجب. (2) الاصدران: عرقان تحت الصدغين (3) المذروان: اطراف الاليتين. (4) مستوسقة: مجتمعة. (5) متسقة: مستوية. (6) تستشرف: تنظر. (7) المناهل: مواضع شرب الماء في الطريق. (8) عتوا: عنادا (*).

[ 36 ]

فعلك، وانى يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الشهداء ونبت لحمه بدماء السعداء ونصب الحرب لسيد الانبياء، وجمع الاحزاب، وشهر الحراب، وهز السيوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، اشد العرب جحودا، وانكرهم له رسولا، واظهرهم له عدوانا، واعتاهم على الرب كفرا وطغيانا، الا انها نتيجة خلال الكفر، وصب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا اهل البيت من كان نظره الينا شنفا واحنا واظغانا، يظهر كفره برسول الله، ويفصح ذلك بلسانه، وهو يقول: – فرحا بقتل ولده وسبي ذريته، غير متحوب ولا مستعظم -. لاهلوا واستهلوا فرحا ولقالوا يا يزيد لا تسل منحنيا على ثنايا أبي عبد الله – وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله – ينكتها بمخصرته، قد التمع السرور بوجهه، لعمري لقد نكأت القرحة (1) واستأصلت الشأفة، باراقتك دم سيد شباب اهل الجنة، وابن يعسوب الدين العرب، وشمس آل عبد المطلب، وهتفت بأشياخك، وتقربت بدمه إلى الكفرة من اسلافك، ثم صرخت بندائك ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك ! ووشيكا تشهدهم، ولن يشهدوك ولتود يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجدت، وأحببت امك لم تحملك واياك لم يلد، أو حين تصير إلى سخط الله ومخاصمك رسول الله صلى الله عليه وآله. اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك على من سفك دمائنا ونقض ذمارنا، وقتل حماتنا، وهتك عنا سدولنا، وفعلت فعلتك التي فعلت، وما فريت الا جلدك، وما جززت الا لحمك، وسترد على رسول الله بما تحملت من دم ذريته، وانتهكت من حرمته، وسفكت من دماء عترته ولحمته، حيث يجمع به شملهم، ويلم به شعثهم، وينتقم من ظالمهم، ويأخذ لهم بحقهم من اعدائهم فلا يستفزنك الفرح بقتلهم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، وحسبك بالله وليا وحاكما، وبرسول الله خصما، وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين


(1) نكأت: قشرت قبل ان تبرأ

[ 37 ]

ان بئس للظالمين بدلا، وايكم شر مكانا واضل سبيلا، وما استصغاري قدرك، ولا استعظامي تقريعك (1) توهما لانتجاع الخطاب فيك (2) بعد ان تركت عيون المسلمين به عبرى، وصدورهم عند ذكره حرا، فتلك قلوب قاسية، ونفوس طاغية، واجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسول، قد عشش فيه الشيطان، وفرخ، ومن هناك مثلك ما درج، فالعجب كل العجب لقتل الاتقياء، واسباط الانبياء، وسليل الاوصياء، بأيدي الطلقاء الخبيثة، ونسل العهرة الفجرة، تنطف اكفهم من دمائنا (3) وتنحلب افواههم من لحومنا (4) تلك الجثث الزاكية على الجيوب الضاحية، تنتابها العواسل (5) وتعفرها امهات الفواعل (6) فلئن اتخذتنا مغنما لتجد بنا وشيكا مغرما حين لا تجد الا ما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد فالى الله المشتكى والمعول، واليه الملجأ والمؤمل، ثم كد كيدك، واجهد جهدك فو الله الذي شرفنا بالوحي والكتاب، والنبوة والانتخاب، لا تدرك امدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك الافند، وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم يناد المنادي ألا لعن الله الظالم العادي. والحمد لله الذى حكم لاوليائه بالسعادة، وختم لاصفيائه بالشهادة، ببلوغ الارادة، نقلهم إلى الرحمة والرأفة، والرضوان والمغفرة، ولم يشق بهم غيرك، ولا ابتلى بهم سواك، ونسأله ان يكمل لهم الاجر، ويجز لهم الثواب والذخر، ونسأله حسن الخلافة، وجميل الانابة، انه رحيم ودود. فقال يزيد مجيبا لها: يا صيحة تحمد من صوايح ما اهون الموت على النوائح ثم امر بردهم. وقيل: ان فاطمة بنت الحسين كانت وضيئة الوجه، وكانت


(1) التقريع: التعنيف. (2) الانتجاع: الانتفاع. (3) تنطف: أي تقطر. (4) تتحلب: تسيل. (5) تنتابها العواسل: تأتى مرة بعد اخرى والعواسل: الذئاب. (6) تعفرها: تمرغها في التراب. والفواعل: اولاد الضباع.

[ 38 ]

جالسة بين النساء، فقام إلى يزيد رجل من اهل الشام احمر فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ! يعني: فاطمة بنت الحسين، فاخذت بثياب عمتها زينب بنت علي بن ابي طالب عليه السلام فقالت: اوتم واستخدم ؟ ! فقالت زينب للشامي: كذبت ولؤمت، والله ما ذاك لك ولا له، فغضب يزيد ثم قال: ان ذلك لي ولو شئت ان افعل لفعلت. قالت زينب: كلا، والله ما جعل الله ذلك لك، الا ان تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا. فقال يزيد: انما خرج من الدين أبوك، واخوك. قالت زينب: بدين الله، ودين أبي، ودين أخي، اهتديت انت ان كنت مسلما قال يزيد: كذبت يا عدوة الله. فقالت زينب: انت امير تشتم ظلما، وتقهر بسلطانك. فكأنه استحيى فسكت فعاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فقال يزيد: اغرب وهب الله لك حتفا قاضيا احتجاج علي بن الحسين زين العابدين على يزيد بن معاوية لما ادخل عليه. روت ثقات الرواة وعدولهم انه لما ادخل علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في جملة من حمل إلى الشام سبايا من اولاد الحسين بن علي عليه السلام وأهاليه على يزيد قال له: يا علي الحمد لله الذي قتل أباك ! قال علي عليه السلام: قتل أبي الناس. قال يزيد: الحمد لله الذي قتله فكفانيه !


[ 39 ]

قال علي عليه السلام: على من قتل أبي لعنة الله، افتراني لعنت الله عزوجل ؟ قال يزيد: يا علي اصعد المنبر فاعلم الناس حال الفتنة، وما رزق الله أمير المؤمنين من الظفر ! فقال علي بن الحسين: ما اعرفني بما تريد. فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: ايها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسى، انا بن مكة ومنى، انا بن المروة والصفا، انا بن محمد المصطفى، انا بن من لا يخفى، انا بن من علا فاستعلا فجاز سدرة المنتهي فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى. فضج اهل الشام بالبكاء حتى خشى يزيد ان يرحل من مقعده، فقال – للمؤذن -: اذن فلما قال المؤذن: (الله اكبر، الله اكبر) جلس علي بن الحسين على المنبر فقال اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمدا رسول الله. بكى علي بن الحسين عليه السلام ثم التفت إلى يزيد فقال: يا يزيد هذا أبي أم أبوك ؟ قال: بل أبوك. فانزل. فنزل عليه السلام فاخذ بناحية باب المسجد، فلقيه مكحول صاحب رسول الله عليه السلام فقال: كيف امسيت يابن رسول الله ؟ قال امسينا بينكم مثل بني اسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبنائهم، ويستحيون نسائهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. فلما انصرف يزيد إلى منزله، دعى بعلي بن الحسين عليه السلام فقال: يا علي أتصارع ابني خالد ؟ قال عليه السلام: وما تصنع بمصارعتي اياه، اعطني سكينا واعطه سكينا فليقتل اقوانا اضعفنا، فضمه يزيد إلى صدره، ثم قال: لا تلد الحية الا الحية، اشهد انك ابن علي بن ابي طالب عليه السلام. ثم قال له علي بن الحسين عليه السلام: يا يزيد بلغني انك تريد قتلي، فان كنت


[ 40 ]

لابد قاتلي، فوجه مع هؤلاء النسوة من يؤديهن إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال له يزيد لعنه الله: لا يؤديهن غيرك، لعن الله ابن مرجانة، فو الله ما امرته بقتل أبيك، ولو كنت متوليا لقتاله ما قتلته، ثم احسن جائزته وحمله والنساء إلى المدينة. احتجاجه (ع) في اشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه البليغة. جاء رجل من اهل البصرة إلى علي بن الحسين عليه السلام فقال: يا علي بن الحسين ان جدك علي بن ابي طالب قتل المؤمنين، فهملت عينا علي بن الحسين دموعا حتى امتلات كفه منها، ثم ضرب بها على الحصى، ثم قال: يا اخا اهل البصرة لا والله ما قتل علي مؤمنا، ولا قتل مسلما، وما اسلم القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر واظهروا الاسلام، فلما وجدوا على الكفر اعوانا اظهروه، وقد علمت صاحبة الجدب والمستحفظون من آل محمد صلى الله عليه وآله ان اصحاب الجمل واصحاب صفين واصحاب النهروان لعنوا على لسان النبي الامي وقد خاب من افترى. فقال شيخ من اهل الكوفة: يا علي بن الحسين ان جدك كان يقول: (اخواننا بغوا علينا). فقال علي بن الحسين عليه السلام: اما تقرأ كتاب الله (وإلى عاد اخاهم هودا) فهم مثلهم انجى الله عزوجل هودا والذين معه واهلك عادا بالريح العقيم. وبالاسناد المقدم ذكره: ان علي بن الحسين عليه السلام كان يذكر حال من مسخهم الله قردة من بني اسرائيل ويحكي قصتهم، فلما بلغ آخرها قال: ان الله تعالى مسخ اولئك القوم لاصطيادهم السمك، فكيف ترى عند الله عزوجل يكون حال من قتل اولاد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهتك حريمه ؟ ! ان الله تعالى وان لم يمسخهم في الدنيا فان المعد لهم من عذاب الاخرة اضعاف اضعاف عذاب المسخ.


[ 41 ]

فقيل له: يابن رسول الله فانا قد سمعنا منك هذا الحديث، فقال لنا بعض النصاب: فان كان قتل الحسين باطلا فهو اعظم عند الله من صيد السمك في السبت، أفما كان الله غضب على قاتليه كما غضب على صيادي السمك ؟ قال علي بن الحسين عليه السلام: قل لهؤلاء النصاب فان كان ابليس معاصيه اعظم من معاصي من كفر باغوائه فاهلك الله من شاء منهم، كقوم: نوح، وفرعون، ولم يهلك ابليس، وهو اولى بالهلاك، فما باله اهلك هؤلاء الذين قصروا عن ابليس في عمل الموبقات، وامهل ابليس مع ايثاره لكشف المحرمات، اما كان ربنا عز وجل حكيما تدبيره حكمة فيمن اهلك وفيمن استبقى ؟ فكذلك هؤلاء الصائدون في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين، يفعل في الفريقين ما يعلم انه اولى بالصواب والحكمة، لا يسأل عما يفعل وعباده يسألون. وقال الباقر عليه السلام: فلما حدث علي بن الحسين عليه السلام بهذا الحديث قال له بعض من في مجلسيه: يابن رسول الله كيف يعاتب الله ويوبخ هؤلاء الاخلاف على قبائح اتاها اسلافهم – وهو يقول: (ولا تزروا وازرة وزر اخرى) ؟ فقال زين العابدين عليه السلام: ان القرآن نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه اهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي – قد اغار قومه على بلد وقتلوا من فيه -: اغرتم على بلد كذا، وفعلتم كذا، ويقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا. لا يريد انهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل واولئك بالافتخار: ان قومهم فعلوا كذا، وقول الله عزوجل في هذه الايات انما هو توبيخ لاسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لان ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، والان هؤلاء الاخلاف ايضا راضون بما فعل اسلافهم، مصوبون لهم، فجاز ان يقال: انتم فعلتم اي: إذ رضيتم قبيح فعلهم وعن ابى حمزة الثمالي (1) قال: دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على


(1) قال الشيخ عباس القمى في الكنى والالقاب ج 2 ص 118: (الثمالى أبو حمزة ثابت بن دينار، الثقة الجليل، صاحب الدعاء المعروف في –

[ 42 ]

علي بن الحسين عليه السلام فقال له: جعلني الله فداك ! اخبرني عن قول الله عزو جل: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي واياما آمنين) قال له: ما يقول الناس فيها قبلكم ؟ قال: يقولون: انها مكة. فقال: وهل رأيت السرق في موضع اكثر منه بمكة. قال: فما هو ؟ قال: انما عنى الرجال. قال: واين ذلك في كتاب الله ؟ فقال: أو ما تسمع إلى قوله عزوجل: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) وقال: (وتلك القرى اهلكناهم) وقال: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير ؟ قال: وتلا عليه آيات في هذا المعنى. قال: جعلت فداك ! فمن هم ؟


= – اسحار شهر رمضان، كان من زهاد اهل الكوفة ومشايخها وكان عربيا ازديا، روى عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا عليه السلام يقول -: أبو حمزة الثمالى في زمانه، كسلمان الفارسى في زمانه، وذلك انه خدم اربعة منا: على بن الحسين، ومحمد بن على، وجعفر بن محمد، وبرهة من عصر موسى بن جعفر). وعده الشيخ في اصحاب على بن الحسين ص 84 من رجاله فقال: (ثابت بن ابى صفية دينار الثمالى الازدي، يكنى ابا حمزة الكوفى، مات سنة خمسين وماية، وذكره في اصحاب الباقر عليه السلام ص 110 وص 160 في اصحاب الصادق (ع) وقال النجاشي ص 89 لقى على بن الحسين وابا جعفر وابا عبد الله وابا الحسن عليهم السلام وروى عنهم وكان من خيار اصحابنا، وثقاتهم، ومعتمديهم في الرواية والحديث و (قال): وروى عنه العامة ومات سنة خمسين ومائة له كتاب تفسير القرآن.

[ 43 ]

قال: نحن هم. فقال: أو ما تسمع إلى قوله: (سيروا فيها ليالي واياما آمنين) ؟ قال: آمنين من الزيغ. وروي ان زين العابدين عليه السلام مر بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى فوقف عليه السلام عليه ثم قال: امسك اسألك عن الحال التي انت عليها مقيم، اترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله إذا نزل بك غدا ؟ قال: لا. قال: افتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال التي ترضاها ؟ (قال): فاطرق مليا ثم قال: اني اقول ذلك بلا حقيقة. قال: افترجو نبيا بعد محمد صلى الله عليه وآله يكون لك معه سابقة ؟ قال: لا. قال: افترجو دارا غير الدار التي انت فيها ترد إليها فتعمل فيها ؟ قال: لا. قال: افرأيت احدا به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا ؟ انك على حال لا ترضاها ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة، ولا ترجو نبيا بعد محمد، ولا دار غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها، وانت تعظ الناس، قال: فلما ولى عليه السلام قال الحسين البصري: من هذا ؟ قالوا: علي بن الحسين. قال: اهل بيت علم فما رأي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس. وعن أبى حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يحدث رجلا من قريش قال: لما تاب الله على آدم واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت الا في الارض، وذلك بعد ما تاب الله عليه، قال: وكان آدم يعظم البيت وما حوله من


[ 44 ]

حرمة البيت، فكان إذا اراد ان يغشى حواء خرج من الحرم واخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحل، ثم يغتسلان اعظاما منه للحرم، ثم يرجع إلى فناء البيت. قال: فولد لادم من حواء عشرون ذكرا وعشرون انثى، فولد له في كل بطن ذكر وانثى، فاول بطن ولدت حواء: (هابيل) ومعه جارية يقال لها: (اقليما) قال: وولدت في البطن الثاني: (قابيل) ومعه جارية يقال لها (لوزا) وكانت لوزا اجمل بنات آدم. (قال): فلما ادركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه فقال: اريد ان انكحك يا هابيل لوزا، وانكحك يا قابيل اقليما. قال قابيل: ما ارضى بهذا اتنكحني اخت هابيل القبيحة، وتنكح هابيل اختي الجميلة. قال: فانا اقرع بينكما، فان خرج سهمك يا قابيل على لوزا، وخرج سهمك يا هابيل على اقليما، زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليها. (قال): فرضيا بذلك، فاقترعا، (قال): فخرج سهم هابيل على لوزا اخت قابيل، وخرج سهم قابيل على اقليما اخت هابيل. قال: فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله. (قال) ثم حرم الله نكاح الاخوات بعد ذلك. قال: فقال له القرشي: فاولداهما ؟ قال: نعم. قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم ! قال: فقال علي بن الحسين: ان المجوس انما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله. ثم قال له علي بن الحسين عليه السلام: لا تنكر هذا، انما هي الشرايع جرت اليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم احلها له، فكان ذلك شريعة من شرايعهم، ثم انزل الله التحريم بعد ذلك. لقي عباد البصري علي بن الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، واقبلت على الحج ولينه، وان


[ 45 ]

الله عزوجل يقول: (ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون – إلى قوله – وبشر المؤمنين). فقال علي بن الحسين: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم افضل من الحج. وسأل عليه السلام عن النبيذ فقال: شربه قوم وحرمه قوم صالحون، فكان شهادة الذين دفعوا بشهادتهم شهواتهم اولى ان تقبل من الذين جروا بشهادتهم شهواتهم. وعن عبد الله بن سنان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: ان فلانا ينسبك إلى انك ضال مبتدع ! فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت الينا حديثه، ولا اديت حقي حيث ابلغني عن اخي ما لست اعلمه، ان الموت يعمنا، والبعث محشرنا، والقيامة موعدنا، والله يحكم بيننا، اياك والغيبة ! فانها أدام كلاب النار، واعلم ان من اكثر عيوب الناس شهد عليه الاكثار انه انما يطلبها بقدر ما فيه. وسأل عليه السلام عن الكلام والسكوت ايهما افضل فقال عليه السلام. لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الافات، فالكلام افضل من السكوت قيل: وكيف ذاك يابن رسول الله ؟ قال: لان الله عزوجل ما بعث الانبياء والاوصياء بالسكوت، انما يبعثهم


(1) عبد الله بن سنان: قال العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 104: (عبد الله بن سنان – بالسين المهملة والنون قبل الالف وبعدها – ابن طريف مولى بنى هاشم، ويقال مولى بنى ابى طالب، ويقال: مولى بنى العباس كان خازنا للمنصور والمهدى والهادي والرشيد، وكان كوفيا ثقة من اصحابنا، جليلا لا يطعن عليه في شئ، روى عن الصادق (ع) وقيل روى عن أبى الحسن موسى عليه السلام ولم يثبت قال فيه الصادق (ع): اما انه يزيد على السن خيرا، رواه الكشى في حديث المرسل)

[ 46 ]

بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا نجنب سخط الله بالسكوت، انما ذلك كله بالكلام وما كنت لاعدل القمر بالشمس، انك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت. روي عن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال: لما قتل الحسين بن علي عليه السلام ارسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين عليه السلام فخلا به ثم قال: يابن أخي قد علمت ان رسول الله كان جعل الوصية والامامة من بعده لعلي ابن ابي طالب عليه السلام، ثم إلى الحسن، ثم الحسين، وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلى عليه ولم يوص، وانا عمك وصنو ابيك، وانا في سني وقدمتي احق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني الوصية والامامة، ولا تخالفني. فقال له علي بن الحسين عليه السلام: اتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق، اني اعظك ان تكون من الجاهلين، يا عم ! ان ابي صلوات الله عليه أوصى الي قبل ان يتوجه إلى العراق، وعهد الي في ذلك قبل ان يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله عندي، فلا تعرض لهذا فاني اخاف عليك بنقص العمر، وتشتت الحال وان الله تبارك وتعالى ابى الا ان يجعل الوصية والامامة الا في عقب الحسين، فان اردت ان تعلم فانطلق بنا إلى الحجر الاسود حتى نتحكم إليه ونسأله عن ذلك. قال الباقر عليه السلام: وكان الكلام بينهما وهما يومئذ بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الاسود فقال علي بن الحسين عليه السلام لمحمد: ابتدء فابتهل إلى الله واسأله ان ينطق لك الحجر ثم سله. فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر فلم يجبه، فقال علي بن الحسين عليه السلام: اما انك يا عم لو كنت وصيا واماما لاجابك ! فقال له محمد: فادع انت يابن اخي ! فدعا الله علي بن الحسين عليه السلام بما اراد ثم قال: (اسألك بالذي جعل فيك ميثاق الانبياء وميثاق الاوصياء وميثاق الناس اجمعين، لما اخبرتنا بلسان عربي مبين من الوصي والامام بعد الحسين بن علي !


[ 47 ]

فتحرك الحجر حتى كاد ان يزول عن موضعه، ثم انطقه الله بلسان عربي مبين فقال: اللهم ان الوصية والامامة بعد الحسين بن علي بن أبي طالب إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسين عليه السلام. وعن ثابت البناني (1) قال: كنت حاجا وجماعة عباد البصرة مثل: ايوب السجستاني، وصالح المروي، وعتبة الغلام، وحبيب الفارسي، ومالك بن دينار فلما ان دخلنا مكة رأينا الماء ضيقا، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ففزع الينا اهل مكة والحجاج يسألوننا ان نستسقي لهم، فاتينا الكعبة وطفنا بها ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها فمنعنا الاجابة. فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد اقبل وقد اكربته احزانه، واقلقته اشجانه، فطاف بالكعبة اشواطا ثم اقبل علينا فقال: يا مالك بن دينار ! ويا ثابت البناني ! ويا ايوب السجستاني ! ويا صالح المروي ويا عتبة الغلام ! ويا حبيب الفارسي ! ويا سعد ! ويا عمر ! ويا صالح الاعمى ! ويا رابعة ويا سعدانة ! ويا جعفر بن سليمان ! فقلنا: لبيك وسعديك يا فتى ! فقال: اما فيكم احد يحبه الرحمن ؟ فقلنا: يا فتى علينا الدعاء وعليه الاجابة. فقال: ابعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم احد يحبه الرحمن لاجابه، ثم اتى الكعبة فخر ساجدا فسمعته يقول – في سجوده -: (سيدي بحبك لي الا سقيتهم الغيث).


ثابت البنانى: قال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 29 (ثابت البنانى يكنى ابا فضالة، من اهل بدر من اصحاب امير المؤمنين (ع) قتل بصفين). وفي اصحاب على من رجال الشيخ ص 36: ثابت الانصاري البنانى يكنى ابا فضالة من اهل بدر قتل معه عليه السلام بصفين.

[ 48 ]

قال: فما استتم الكلام حتى اتاهم الغيث كافواه القرب. فقلت: يا فتى من اين علمت انه يحبك ؟ قال: لو لم يحبني لم يستزرني، فلما استزارني علمت انه يحبني، فسألته بحبه لي فاجباني، ثم ولى عنا وانشأ يقول: من عرف الرب فلم تغنه معرفة الرب فذاك الشقي ما ضر في الطاعة ما ناله في طاعة الله وماذ لقي ما يصنع العبد بغير التقى والعز كل العز للمتقي فقلت يا اهل مكة من هذا الفتى ؟ قالوا: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام. وعن جعفر بن محمد عن ابيه عن جده علي بن الحسين عليه السلام قال: نحن ائمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن امان لاهل الارض، كما ان النجوم امان لاهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك السماء ان تقع على الارض الا باذنه، وبنا يمسك الارض ان تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وينشر الرحمة، وتخرج بركات الارض منا لساخت الارض باهلها. ثم قال: ولم تخلوا الارض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى ان تقوم الساعة من حجة الله، ولو لا ذلك لم يعبد الله. وعن ابي حمزة الثمالي عن ابي خالد الكابلي (1) قال:


(1) في الكنى ولالقاب للشيخ عباس القمى ج 1 ص 60 قال: (قال الفضل بن شاذان ولم يكن في زمن على بن الحسين (ع) في اول امره الا خمسة انفس: سعيد بن جبير، سعيد بن المسيب، محمد بن جبير بن مطعم، يحى بن ام الطويل، أبو خالد الكابلي واسمه وردان ولقبه كنكر) ثم قال: وفي خبر الحواريين انه من حوارى على بن الحسين عليه السلام وقد شاهد كثيرا من دلائل الائمة عليهم السلام ويأتى في الطاقى رواية تنعلق به، ويظهر من رسالة أبى غالب لزرارى ان آل اعين وهم اكبر بيت في الكوفة-

[ 49 ]

دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام فقلت له: يابن رسول الله اخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم، واوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال لي: يا ابا كنكر ! ان اولى الامر الذين جعلهم الله ائمة الناس واوجب عليهم طاعتهم: امير المؤمنين علي بن ابي طالب، ثم انتهى الامر الينا، ثم سكت. فقلت له: يا سيدي روى لنا عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال: (لا تخلو الارض من حجة الله على عباده) فمن الحجة والامام بعدك ؟ قال: ابني (محمد) واسمه في التوراة (باقر) يبقر العلم بقرا، هو الحجة والامام بعدي، ومن بعد محمد ابنه (جعفر) اسمه عند اهل السماء (الصادق). فقلت له: يا سيدي فكيف صار اسمه: الصادق، وكلكم صادقون ؟ فقال حدثني أبي عن أبيه: ان رسول الله قال: (إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه: الصادق، فان الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الامامة اجتراء على الله، وكذبا عليه، فهو عند الله (جعفر الكذاب) المفتري على الله، المدعي لما ليس له باهل، المخالف على أبيه، والحاسد لاخيه، ذلك الذي يكشف سر الله عند غيبة ولي الله). ثم بكى علي بن الحسين بكاءا شديدا، ثم قال: كأني بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش امر ولي الله، والمغيب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته، وحرصا على قتله ان ظفر به، طمعا في ميراث أبيه حتى ياخذه بغير حقه. قال أبو خالد: فقلت له: يابن رسول الله وان ذلك لكائن ؟ فقال: اي وربي انه المكنوب عندنا في الصحيفة: التي فيها ذكر المحن التى تجري علينا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. –


من الشيعة ان اول من عرف منهم عبد الملك عرفه من صالح بن ميثم ثم عرفه حمران من أبى خالد الكابلي.

[ 50 ]

قال أبو خالد: فقلت: يابن رسول الله ثم يكون ماذا ؟ قال: ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من اوصياء رسول الله والائمة بعده يا ابا خالد ! ان اهل زمان غيبة القائلين بامامته والمنتظرين لظهوره افضل اهل كل زمان، لان الله تعالى ذكره اعطاهم من العقول والافهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، اولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا، والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا. وقال عليه السلام: انتظار الفرج من اعظم الفرج. وبالاسناد المتقدم ذكره عن علي بن الحسين عليه السلام في تفسير قوله تعالى: (لكم في القصاص حياة) الاية ولكم يامة محمد في القصاص حياة لان من هم بالقتل فعرف انه يقتص منه فكف لذلك عن القتل، كان حياة للذي هم بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي اراد ان يقتل، وحياة لغيرهما من الناس، إذا علموا ان القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص، يا اولي الالباب: اولى العقول لعلكم تتقون. ثم قال عليه السلام: عباد الله هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا، وتفنون روحه، افلا انبئكم باعظم من هذا القتل، وما يوحيه الله على قاتله مما هو اعظم من هذا القصاص ؟ قالوا: بلى يا بن رسول الله. قال: اعظم من هذا القتل ان يقتله قتلا لا يجبر ولا يحى بعده ابدا. قالوا: ما هو ؟ قال: ان يضله عن نبوة محمد، وعن ولاية علي بن أبي طالب، ويسلك به غير سبيل الله، ويغير به باتباع طريق اعداء علي والقول بامامتهم، ودفع علي عن حقه، وجحد فضله، والا يبالى باعطائه واجب تعظيمه، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم خالدا مخلدا ابدا، فجزاء هذا القتل مثل ذلك الخلود في نار جهنم. وقال أبو محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه: ان رجلا جاء إلى علي بن


[ 51 ]

الحسين برجل يزعم انه قاتل ابيه، فاعترف فاوجب عليه القصاص، وسأله ان يعفو عنه ليعظم الله ثوابه، فكأن نفسه لم تطب بذلك فقال علي بن الحسين – للمدعى الدم الذي هو الولى المستحق للقصاص -: ان كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلا فهب له هذه الجناية، واغفر له هذا الذنب. قال: يابن رسول الله له علي حق، ولكن لم يبلغ به ان اعفو له عن قتل والدي. قال: فتريد ماذا ؟ قال: اريد القود، فان اراد لحقه علي ان اصالحه على الدية صالحة وعفوت عنه قال: علي بن الحسين عليه السلام فماذا حقه عليك ؟ قال: يابن رسول الله لقنني توحيد الله، ونبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وامامة علي والائمة عليهم السلام. فقال علي بن الحسين: فهذا لا يفي بدم أبيك ؟ بلى والله هذا يفي بدماء اهل الارض كلهم من الاولين والاخرين سوى الانبياء والائمة، ان قتلوا فانه لا يفي بدمائهم شئ. تمام الخبر. وبالاسناد المقدم ذكره ان محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: دخل محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (1) على علي بن الحسين عليه السلام، وهو كئيب حزين فقال له زين العابدين عليه السلام. ما بالك مغموما ؟ قال: يابن رسول الله غموم وهموم تتوالى علي لما امتحنت به من جهة حساد


(1) قال الشيخ عباس القمى في الكنى والالقاب ج 2 ص 270 (الزهري بضم الزاى وسكون الهاء أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبد الله بن الحرث بن شهاب ابن زهره بن كلاب الفقيه المدنى التابعي المعروف وقد ذكره علماء الجمهور واثنوا عليه ثناء بليغا، قيل: انه قد حفظ علم العلماء السبعة، ولقى عشرة من الصحابة، وروى عنه جماعة من أئمة علم الحديث، واما علمائنا فقد اختلفت كلماتهم في مدحه وقدحه وقد ذكرنا ما يتعلق به في سفينة البحار).

[ 52 ]

نعمي، والطامعين في، وممن ارجو، وممن احسنت إليه، فيخلف ظني. فقال له علي بن الحسين عليه السلام: احفظ عليك لسانك تملك به اخوانك. قال الزهري: يابن رسول الله اني احسن إليهم بما يبدر من كلامي. قال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات ! اياك ان تعجب من نفسك بذلك واياك ان تتكلم بما يسبق إلى القلوب انكاره. وان كان عندك اعتذاره، فليس كل من تسمعه شرا يمكنك ان توسعه عذرا. ثم قال: يا زهري من لم يكن عقله من اكمل ما فيه كان هلاكه من ايسر ما فيه. ثم قال: يا زهري اما عليك ان تجعل المسلمين منك بمنزلة اهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك منهم بمنزلة اخيك، فأي هؤلاء ان تظلم، وأي هؤلاء تحب ان تدعوا عليه، وأي هؤلاء تحب ان تهتك ستره، وان عرض لك ابليس لعنه الله بان لك فضلا على احد من اهل القبلة، فانظر ان كان اكبر منك فقل: قد سبقني بالايمان والعمل الصالح فهو خير مني، وان كان اصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وان كان تربك فقل: انا على يقين من ذنبي في شك من أمره فمالي ادع يقيني لشكي، وان رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل: هذا افضل اخذوا به، وان رأيت منهم جفا وانقباضا فقل: هذا الذنب احدثته، فانك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر اصدقائك، وفرحت بما يكون من برهم، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم. واعلم ان اكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فايضا، وكان عنهم مستغنيا متعففا، واكرم الناس بعده عليهم من كان مستعففا، وان كان إليهم محتاجا، فانما اهل الدنيا يتعقبون الاموال، فمن لم يزدحمهم فيما يتبقونه كرم عليهم، ومن لم يزاحمهم فيما ومكنهم من بعضها كان اعز واكرم. وبالاسناد المقدم ذكره عن الرضا عليه السلام انه قال: قال علي بن الحسين: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته


[ 53 ]

فرويدا لا يغرنكم، فما اكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فان تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام، فرويدا لا يغرنكم ! فان شهوات الخلق مختلفة، فما اكثر من ينبوا عن المال الحرام وان كثر، ويحمل نفسه على شوها قبيحة، فياتي منها محرما، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا ما عقدة عقله، فما اكثر من ترك ذلك اجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسد بجهله اكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم ! تنظروا امع هواه يكون على عقله ام يكون مع عقله على هواه وكيف محبة للرياسات الباطلة وزهده فيها فان في الناس من خسر الدنيا والاخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى ان لذة الرياسة الباطلة افضل من لذة الاموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك اجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده اول باطل إلى ابعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما احل الله، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسة التي قد شقي من اجلها، فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم واعد لهم عذابا مهينا، ولكن الرجل كل الرجل. نعم الرجل هو: الذي جعل هواه تبعا لامر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق اقرب إلى عز الابد من العز في الباطل، ويعلم ان قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ، وان كثيرا ما يلحقه من سرائها ان اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فانه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة.


[ 54 ]

احتجاج ابي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام في شئ مما يتعلق بالاصول والفروع. عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر الباقر عليهما السلام في قوله تعالى: (ومن كان في هذه اعمى فهو في الاخرة اعمى) قال: من لم يدله خلق السموات والارض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك بالشمس والقمر، والايات العجيبات، على ان وراء ذلك امر هو اعظم منه فهو في الاخرة اعمى، قال: فهو عالم يعاين اعمى واضل سبيلا، سأل نافع بن الازرق ابا جعفر عليه السلام قال: اخبرني عن الله عزوجل متى كان ؟ قال: متى لم يكن حتى اخبرك متى كان ؟ ! سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. عن عبد الله بن سنان عن ابيه قال: حضرت ابا جعفر عليه السلام وقد دخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا ابا جعفر أي شئ تعبد ؟ قال: الله. قال: رأيته ؟ قال: بلى. لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقايق الايمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، موصوف بالايات معروف بالدلالات، لا يجور في حكمه ذلك الله لا اله الا الله قال فخرج الرجل وهو يقول الله اعلم حيث يجعل رسالته. وروى محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام. قال: في صفة القديم -: انه واحد صمد، احدي المعنى، ليس بمعان كثيرة مختلفة. قال: قلت: جعلت فداك انه يزعم قوم من اهل العراق انه يسمع بغير الذي


[ 55 ]

يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع. قال: فقال: كذبوا والحدوا، وشبهوا الله تعالى انه سميع بصير، يسمع بما به يبصر، ويبصر بما به يسمع. قال: فقلت: يزعمون انه بصير على ما يعقله. قال: فقال: تعالى الله انما يعقل من كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك. وروي بعض اصحابنا ان عمرو بن عبيد دخل على الباقر عليه السلام فقال له: جعلت فداك ! قول الله (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب. قال: العذاب يا عمرو ! وانما يغضب المخلوق الذي يأتيه الشئ فيستفزه، ويغره عن الحال التي هو بها إلى غيرها، فمن زعم ان الله يغيره الغضب والرضا، ويزول عن هذا، فقد وصفه بصفة المخلوق. وعن ابى الجارود (1) قال: قال: أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ


(1) أبو الجارود: في ج 1 ص 31 من الكنى والالقاب للشيخ القمى (زياد بن المنذر قال شيخنا صاحب المستدرك في ترجمته في الخاتمة: واما أبو الجارود فالكلام فيه طويل، والذى يقتضيه النظر بعد التأمل فيما ورد فيما قالوا فيه: انه كان ثقة في النقل مقبول الرواية، معتمدا في الحديث، اماميا في اوله وزيديا في آخره، ثم اطال الكلام في حاله إلى ان قال: وفي تقريب ابن حجر: (زياد بن المنذر أبو الجارود الاعمى الكوفى رافضي، كذبه يحيى بن معين من السابعة، مات بعد الخمسين أي: بعد المائة و (قال) وعن دعوات الراوندي عن أبى الجارود قال: قلت لابي جعفر (ع): انى أمرء ضرير البصر، كبير السن، والشقة فيما بينى وبينكم بعيدة، وانا اريد امرا ادين الله به، واحتج به، واتمسك به، وابلغه من خلفت، قال: (عجب بقولى فاستوى جالسا فقال: كيف قلت يا ابا الجارود رد على قال فرددت عليه، فقال: نعم يا ابا الجارود، شهادة ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله واقام الصلاة، وايتاه لزكاة وصوم شهر رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة عدونا، والتسليم لامرنا، وانتظار قائمنا، والورع، والاجتهاد.

[ 56 ]

فسألوني من كتاب الله ثم قال – في بعض حديثه -: ان النبي صلى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: يابن رسول الله اين هذا من كتاب الله عزوجل ؟ قال: قوله: (لا خير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال: (لا تسألوا عن اشياء ان تبدلكم تسؤكم). وروى حمران بن اعين (1) قال: سألت أبا جعفر عليه السلام قول الله عزوجل (وروح منه). قال: هي مخلوقة خلقها الله بحكمته في آدم وفي عيسى عليهما السلام. محمد بن مسلم قال: سألت ابا جعفر عن قول الله عزوجل (ونفخت فيه من روحي) كيف هذا النفخ ؟


(1) قال السيد بحر العلوم في رجاله ج 1 ص 222: (آل اعين اكبر بيت في الكوفة من شيعة اهل البيت عليهم السلام، وادظمهم شأنا، واكثرهم رجالا واعيانا واطولهم مدة وزمانا، ادرك اوائلهم السجاد والباقر والصادق عليهم السلام، وبقى اواخرهم إلى اوائل الغيبة الكبرى وكان فيهم العلماء والفقهاء، والقراء والادباء، ورواة الحديث، ثم ذكران من مشاهيرهم حمران إلى ان قال قال أبو غالب رحمه الله: (انا اهل بيت اكرمنا الله عزوجل بدينه، واختصنا بصحبة اوليائه وحججه، من اول ما نشأنا إلى وقت الفتنة التى امتحنت بها الشيعة، فلقى عمنا (حمران) سيدنا وسيد العابدين على بن الحسين (ع). و (قال): وكان حمران من اكابر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لا يشك فيهم. وكان احد حملة القرآن، ومن يعد ويذكر اسمه في كتب القراء. وروى انه قرأ على أبى جعفر محمد بن على (ع) وكان – مع ذلك – عالما بالنحو واللغة، ولقى (حمران – وجدانا: زرارة وبكير) ابا جعفر محمد بن على وابا عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام الخ.. وقال السيد ايضا ص 255 وقد جاء، في مدح حمران ابن اعين وجلالته وعظم محله، اخبار كادت تبلغ التواتر.

[ 57 ]

فقال: ان الروح متحرك كالريح، انما سمي روحا لانه اشتق اسمه من الريح وانما اخرجه عن لفظة الريح لان الروح متجانس للريح، وانما اضافه إلى نفسه لانه اصطفاه على ساير الارواح، كما اصطفى بيتا من البيوت. وقال: (بيتي) وقال – لرسول من الرسل -: (خليلي) واشباه ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبر. وعن محمد بن مسلم ايضا قال: سألت ابا جعفر عليه السلام عما روي: (ان الله خلق الله آدم على صورته) ؟ فقال: هي صورة محدثة مخلوقة، اصطفاها الله واختارها، على اساس الصور المختلفة، فاضافها إلى نفسه، كما اضاف الكعبة إلى نفسه والروح، فقال (بيتى) وقال: (ونفخت فيه من روحي). وعن عبد الرحمن بن عبدالزهري قال: حج هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين جالس فقال له سالم: يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين عليه السلام. فقال له هشام: المفتون به اهل العراق ؟ قال: نعم. قال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى ان يفصل بينهم يوم القيامة ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: يحشر الناس على مثل قرصة البر التقي فيها انهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب. قال: فرأى هشام انه قد ظفر به. فقال: الله اكبر اذهب إليه فقل له: ما اشغلهم عن الاكل والشرب يومئذ ! فقال له أبو جعفر: هم في النار اشغل، ولم يشغلوا عن ان قالوا: افيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فسكت هشام لا يرجع كلاما. وروى ان نافع بن الازرق جاء إلى محمد بن على بن الحسين، فجلس بين


[ 58 ]

يديه يسأله عن مسائل في الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر – في عرض كلامه – قل لهذه المارقة، بما استحللتم فراق أمير المؤمنين عليه السلام، وقد سفكتم دمائكم بين يديه، وفي طاعته، والقربة إلى الله تعالي بنصرته ؟ فسيقولون لك انه حكم في دين الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه رجلين من خلقه، قال جل اسمه: (فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما) وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ في بني قريضة، فحكم فيهم بما امضاه الله، أو ما علمتم ان أمير المؤمنين انما امر الحكمين ان يحكما بالقرآن ولا يتعدياه واشترط رد ما خالف القرآن من احكام الرجال ؟ وقال حين قالوا له: حكمت على نفسك من حكم عليك. فقال: ما حكمت مخلوقا فانما حكمت كتاب الله، فاين تجد المارقة تضليل من امر الحكم بالقرآن، واشترط رد ما خالفه، ولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان. فقال نافع بن الازرق: هذا والله ما طرق بسمعي قط، ولا خطر مني ببال هو الحق انشاء الله تعالى. وعن ابى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا ابا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين عليهما السلام، قلت: ينكرون عليهما انهما ابنا رسول الله. قال: فباي شئ احتججتم عليهم ؟ قال: قلت بقول الله في عيسى: (ومن ذريته داود إلى قوله – وكل من الصالحين) فجعل عيسى من ذرية ابراهيم، واحتججنا عليهم بقوله تعالى: (قل تعالوا ندع ابنائنا وابنائكم ونسائنا ونسائكم وانفسنا وانفسكم). ثم قال: فأي شئ قالوا: قال: قلت: قالوا: قد يكون ولد البنت من الولد ولا يكون من الصلب. قال: فقال أبو جعفر: والله يا ابا الجارود لاعطينكم من كتاب الله آية تسميها انها لصلب رسول الله صلى الله عليه وآله لا يردها الا كافر. قال: قلت: جعلت فداك واين ؟


[ 59 ]

قال: قال: حيث قال: (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم واخواتكم – إلى قوله – وحلائل ابنائكم الذين من اصلابكم) فسلهم يا ابا الجارود وهل يحل لرسول الله نكاح حليلتيهما ؟ فان قالوا: نعم. فكذبوا والله، وان قالوا: لا. فهما والله ابنا رسول الله لصلبه، وما حرمن عليه الا للصلب. وعن ابى حمزة الثمالي عن ابي الربيع قال: حججت مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى ابي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الخلق فقال: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس ؟ فقال: هذا محمد بن علي بن الحسين عليه السلام. قال: لاتينه ولاسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها الا نبي أو وصي نبي. قال: فاذهب إليه لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ على الناس واشرف على أبي جعفر فقال: يا محمد بن علي اني قرأت التوراة والانجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت اسألك عن مسائل لا يجيبني فيها الا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي، فرفع أبو جعفر عليه السلام راسه فقال: سل عما بدالك ! قال: اخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة ؟ قال: اجيبك بقولك ام بقولي ؟ قال: اجبني بالقولين ! قال: اما بقولي فخمسمائة سنة، واما بقولك فستمائة سنة. قال: فاخبرني عن قول الله عزوجل: (واسأل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ؟ قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الاية: (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) كان


[ 60 ]

من الايات التي اراها محمدا حيث اسرى به إلى بيت المقدس، انه حشر الله الاولين والاخرين، من النبيين والمرسلين، ثم امر جبرئيل عليه السلام فاذن شفعا واقام شغفا وقال في اذانه: (حي على خير العمل) ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم، فلما انصرف قال الله عزوجل: (واسأل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون). فقال رسول الله: على ما تشهدون ؟ وما كنتم تعبدون ؟ قالوا: نشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وانك رسول الله، اخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا. فقال: صدقت يا ابا جعفر ! قال: فاخبرني عن قول الله عزوجل: (يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات) اي ارض تبدل ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: خبزة بيضاء يأكلونها حتى يفرغ الله من حساب الخلايق فقال: انهم عن الاكل لمشغولون. فقال أبو جعفر عليه السلام: اهم حينئذ أشغل أم هم في النار ؟ قال نافع. بل هم في النار. قال: فقد قال الله عزوجل: (ونادى اصحاب النار اصحاب الجنة ان افيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) ما اشغلهم إذا دعوا بالطعام فاطعموا الزقوم، ودعوا بالشراب فسقوا من الجحيم. فقال: صدقت يابن رسول الله ! وبقيت مسألة واحدة. قال: وما هي ؟ قال: فاخبرني متى كان الله ؟ قال: ويلك اخبرني متى لم يكن حتى اخبرك متى كان ؟ ! سبحان من لم يزل ولا يزال، فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ثم اتى هشام بن عبد الملك فقال: ما صنعت ؟ قال: دعني من كلامك والله هو اعلم الناس حقا وهو ابن رسول الله حقا.


[ 61 ]

وعن ابان بن تغلب (1) قال: دخل طاوس اليماني إلى الطواف ومعه صاحب له، فإذا هو بأبي جعفر يطوف امامه وهو شاب حدث، فقال طاوس لصاحبه: (ان هذا الفتى لعالم) فلما فرغ من طوافه صلى ركعتين، ثم جلس واتاه الناس فقال طاوس لصاحبه: نذهب إلى أبي جعفر عليه السلام ونسأله عن مسأله لا ادري عنده فيها شئ ام لا، فأتياه فسلما عليه ثم قال له طاوس: يا ابا جعفر هل تدري أي يوم مات ثلث الناس ؟ فقال: يا ابا عبد الرحمن لم يمت ثلث الناس قط، انما اردت ربع الناس. قال: وكيف ذلك ؟ قال: كان آدم وحواء، وقابيل وهابيل، فقتل قابيل هابيل، فذلك ربع الناس. قال: صدقت: قال أبو جعفر عليه السلام: هل تدري ما صنع بقابيل ؟ قال: لا. قال: علق بالشمس ينضح بالماء الحار إلى ان تقوم الساعة. وروي ان عمرو بن عبيد، وفد على محمد بن علي الباقر عليه السلام لا متحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا ان السماوات


(1) في رجال النجاشي ص 7: (ابان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري الجريرى مولى بنى جرير بن عبادة بن صبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن على بن بكر بن وائل، عظيم المنزلة في اصحابنا، لقى على بن الحسين وابا جعفر وابا عبد الله عليهم السلام روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقدم، وذكره البلاذرى قال: روى ابان عن عطية العوفى قال له أبو جعفر: اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فانى احب ان يرى في شيعتي مثلك وقال أبو عبد الله عليه السلام لما اتاه نعيه: (أم والله لقد اوجع قلبى موت ابان) وكان قاريا من وجوه القراء، فقيها لغوبا، سمع من العرب وحكى عنهم.

[ 62 ]

والارض كانتا رتقا ففتقناهما) ما هذا الرتق والفتق ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: كانت السماء رتقا لا تنزل القطر، وكانت الارض رتقا لا تخرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الارض بالنبات، فانقطع عمرو ولم يجد اعتراضا، ومضى وعاد إليه فقال: خبرني جعلت فداك عن قوله تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما غضب الله ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: غضب الله تعالى عقابه يا عمرو، ومن ظن ان الله يغره شئ فقد هلك. وعن ابى حمزة الثمالي قال: اتى الحسن البصري ابا جعفر عليه السلام فقال: جئتك لا سألك عن اشياء من كتاب الله. فقال أبو جعفر: ألست فقيه اهل البصرة ؟ قال: قد يقال ذلك. فقال له أبو جعفر عليه السلام: هل بالبصرة احد تأخذ عنه ؟ قال: لا. قال: فجميع اهل البصرة يأخذون عنك ؟ قال: نعم. فقال أبو جعفر: سبحان الله لقد تقلد عظيما من الامر، بلغني عنك امر فما ادرى اكذاك انت، ام يكذب عليك ؟ قال: ما هو ؟ قال: زعموا انك تقول: ان الله خلق العباد ففوض إليهم امورهم. قال: فسكت الحسن. فقال: رأيت من قال الله له في كتابه: انك آمن، هل عليه خوف بعد هذا القول منه. فقال الحسن: لا.


[ 63 ]

فقال أبو جعفر عليه السلام: اني اعرض عليك آية وانهي اليك خطابا، ولا احسبك الا وقد فسرته على غير وجهه، فان كنت فعلت ذلك فقد هلكت واهلكت. فقال له: ما هو ؟ قال: ارأيت حيث يقول: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي واياما آمنين) يا حسن بلغني انك افتيت الناس فقلت: هي مكة. فقال أبو جعفر عليه السلام: فهل يقطع على من حج مكة، وهل يخاف اهل مكة، وهل تذهب اموالهم ؟ قال: بلى قال: فمتى يكونون آمنين ؟ بل فينا ضرب الله الامثال في القرآن، فنحن القرى التي بارك الله فيها، وذلك قول الله عزوجل، فمن اقر بفضلنا حيث امرهم بان يأتونا فقال: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) اي جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها، قرى ظاهرة، والقرى الظاهرة الرسل، والنقلة عنا إلى شيعتنا، وفقهاء شيعتنا، إلى شيعتنا، وقوله تعالى: (وقدرنا فيها السير) فالسير مثل للعلم، سير به ليالي واياما، مثل لما يسير من العلم في الليالي والايام عنا إليهم، في الحلال والحرام، والفرائض والاحكام، آمنين فيها إذا اخذوا منه، آمنين من الشك والضلال، والنقلة من الحرام إلى الحلال، لانهم اخذوا العلم ممن وجب لهم اخذهم اياه عنهم، بالمعرفة، لانهم اهل ميراث العلم من آدم إلى حيث انتهوا، ذرية مصطفاة بعضها من بعض، فلم ينته الاصطفاء اليكم، بل الينا انتهى، ونحن تلك الذرية المصطفاة لا انت ولا اشباهك يا حسن، فلو قلت لك حين دعيت ما ليس لك، وليس اليك يا جاهل اهل البصرة ! لم اقل فيك الا ما علمته منك، وظهر لي عنك، واياك ان تقول بالنفويض، فان الله عزوجل لم يفوض الامر إلى خلفه، وهنا منه وضعفا، ولا اجبرهم على معاصيه ظلما. والخبر طويل اخذنا منه موضع الحاجة. وروي ان سالما دخل على أبي جعفر عليه السلام فقال:


[ 64 ]

جئت اكلمك في أمر هذا الرجل. قال: ايما رجل ؟ قال: علي بن ابي طالب عليه السلام. قال: في اي اموره ؟ قال: في احداثه. قال أبو جعفر: انظر ما استقر عندك مما جائت به الرواة عن آبائهم. قال: ثم نسبهم، ثم قال: يا سالم ابلغك ان رسول الله بعث سعد بن عبادة براية الانصار إلى خيبر، فرجع منهزما، ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين والانصار، فاتى سعد جريحا وجاء عمر يجبن اصحابه ويجبنونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (هكذا يفعل المهاجرون والانصار) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: (لاعطين الراية غدا رجلا كرار ليس بفرار، يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله). قال: نعم. وقال القوم جميعا ايضا. فقال أبو جعفر: يا سالم ان قلت ان الله عزوجل احبه وهو لا يعلم ما هو صانع فقد كفرت، وان قلت ان الله عزوجل احبه وهو يعلم ما هو صانع، فاي حدث ترى له. فقال اعد علي: فاعاد عليه السلام عليه فقال سالم: عبدت الله على ضلالة سبعين سنة. وعن ابي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام جالسا في الحرم وحوله عصابة من اوليائه، إذ اقبل طاوس اليماني في جماعة من اصحابه ثم قال لابي جعفر عليه السلام: اتأذن لي في السؤال ؟ فقال: اذنا لك فسل ! قال: اخبرني متى هلك ثلث الناس ؟ قال: وهمت يا شيخ ! اردت ان تقول: (متى هلك ربع الناس) ؟ وذلك


[ 65 ]

يوم قتل قابيل هابيل، كانوا اربعة: آدم، وحواء، وقابيل وهابيل. فهلك ربعهم فقال: اصبت ووهمت انا فايهما كان ابا للناس القاتل أو المقتول ؟ قال: لا واحد منهما بل ابوهم شيث بن آدم. قال: فلم سمي آدم آدم ؟ قال: لانه رفعت طينته من أديم الارض السفلى. قال: ولم سميت حواء حواء ؟ قال: لانها خلقت من ضلع حي، يعني ضلع آدم. قال: فلم سمي ابليس ابليس ؟ قال: لانه ابلس من رحمة الله عزوجل فلا يرجوها. قال: فلم سمي الجن جنا ؟ قال: لانهم استجنوا فلم يروا. قال: فاخبرني عن كذبة كذبت، من صاحبها ؟ قال: ابليس حين قال: (انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين). قال: فاخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين ؟ قال: المنافقون حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: (نشهد انك لرسول الله) فانزل الله عزوجل: (إذا جائك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهدان المنافقين لكاذبون). قال: فاخبرني عن طائر طار مرة ولم يطر قبلها ولا بعدها، ذكره الله عزوجل في القرآن ما هو ؟ فقال: طور سيناء اطاره الله عزوجل على بني اسرائيل حين اظلهم بجناح منه، فيه الوان العذاب، حتى قبلوا التوراة، وذلك قوله عزوجل: (واذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا انه واقع بهم) الاية. قال: فاخبرني عن رسول بعثه الله تعالى ليس من الجن، ولا من الانس، ولا من الملائكة، ذكره الله تعالى في كتابه ؟


[ 66 ]

قال: الغراب، حين بعثه الله عزوجل ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله قال الله عزوجل: (فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة اخيه). قال: فاخبرني عمن انذر قومه ليس من الجن، ولا من الانس، ولا من الملائكة، ذكره الله عزوجل في كتابه ؟ قال: النملة حين قالت: (يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون). قال: فاخبرني عمن كذب عليه، ليس من الجن، ولا من الانس، ولا من الملائكة، ذكره الله عزوجل في كتابه ؟ قال: الذئب الذي كذب عليه اخوة يوسف. قال: فاخبرني عن شئ قليله حلال وكثيره حرام، ذكره الله عزوجل في كتابه ؟ قال: نهر طالوت. قال الله عزوجل: (الا من اغترف غرفة بيده). قال: فاخبرني عن صلاة فريضة تصلى بغير وضوء، وعن صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب، قال: اما الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله عليه وعليهم السلام، واما الصوم فقول الله عزوجل: (اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا). قال: فاخبرني عن شئ يزيد وينقص، وعن شئ يزيد ولا ينقص، وعن شئ ينقص ولا يزيد ؟ فقال: الباقر عليه السلام: اما الشئ الذي يزيد وينقص فهو: القمر، والشئ الذي هو يزيد ولا ينقص فهو: البحر، والشئ الذي ينقص ولا يزيد هو: العمر. وقد تكرر ايراد اول هذا الخبر لما في آخره من الفوائد. وبالاسناد المقدم ذكره عن ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام انه قال: كان علي بن الحسين زين العابدين جالسا في مجلسه فقال يوما في مجلسه ان رسول الله صلى الله عليه وآله


[ 67 ]

لما امر بالمسير إلى تبوك، امر بان يخلف عليا بالمدينة. فقال علي عليه السلام: يا رسول الله ما كنت احب ان اتخلف عنك في شئ من امورك، وان اغيب عن مشاهدتك والنظر إلى هديك، وسمتك، فقال رسول الله: يا علي أما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي، تقيم يا علي وان لك في مقامك من الاجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله، ولك اجور كل من خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله موقنا طائعا، وان لك على الله يا علي لمحبتك ان تشاهد من محمد سمته في ساير احواله، بان يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا ان يرفع الارض التي يسير عليها، والارض التي تكون انت عليها، ويقوي بصرك حتى تشاهد محمدا واصحابه في ساير احوالك واحلوا لهم، فلا يفوتك الانس من رؤيته ورؤية اصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة. فقام رجل من مجلس زين العابدين لما ذكر هذا وقال له: يابن رسول الله صلى الله عليه وآله كيف يكون، وهذا للانبياء لا لغيرهم ؟ فقال زين العابدين عليه السلام: هذا هو معجزة لمحمد رسول الله لا لغيره، لان الله انما رفعه بدعاء محمد، وزاد في نور بصره ايضا بدعاء محمد، حتى شاهد ما شاهد وادرك ما ادرك، ثم قال له الباقر عليه السلام: يا عبد الله ما اكثر ظلم كثير من هذه الامة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، واقل انصارهم، ام يمنعون عليا ما يعطونه ساير الصحابة، وعلي افضلهم، فكيف يمنع منزلة يعطونها غيره، قيل: وكيف ذاك يابن رسول الله ؟ قال: لانكم تتولون محبي ابي بكر ابن أبي قحافة، وتتبرؤن من اعدائه كائنا من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب، وتتبرؤن من اعدائه كائنا من كان، وتتولون عثمان بن عفان وتتبرؤن من اعدائه كائنا من كان، حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: نتولى محبيه، ولا نتبرأ من اعدائه بل نحبهم، فكيف يجوز هذا لهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول في علي: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) افترونه لا


[ 68 ]

يعادي من عاداه ؟ ! ولا يخذل من خذله ؟ ! ليس هذا بانصاف. ثم اخرى: انهم إذا ذكر لهم ما اخص الله به عليا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وكرامته على ربه تعالى، جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة، فما الذي منع عليا ما جعله لسائر اصحاب رسول الله ؟ هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم: انه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية الجبل وعجب القوم وقالوا ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة، فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا: ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل ؟ فقال: اعلموا اني وانا اخطب إذ رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها اخوانكم إلى غزوة الكافرين بنهاوند، وعليهم سعد بن ابي وقاص، ففتح الله لي الاستار والحجب، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك، وقد جاء بعض الكفار ليدور خلف سارية، وساير من معه من المسلمين، فيحيطوا بهم فيقتلوهم، فقلت يا سارية الجبل، ليلتجئ إليه، فيمنعهم ذلك من ان يحيطوا به، ثم يقاتلوا، ومنح الله اخوانكم المؤمنين اكناف الكافرين، وفتح الله عليهم بلادهم، فاحفظوا هذا الوقت، فسيرد عليكم الخبر بذلك، وكان بين المدينة ونهاوند مسيرة اكثر من خمسين يوما. قال الباقر عليه السلام: فإذا كان مثل هذا لعمر، فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن ابي طالب عليه السلام ؟ ! ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون. وعن عبد الله بن سليمان (1) قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فقال له رجل من اهل البصرة: يقال له: (عثمان الاعمى). ان الحسن البصري يزعم ان الذين يكتمون العلم يؤذى ريح بطونهم من يدخل النار. فقال أبو جعفر عليه السلام: فهلك إذا مؤمن آل فرعون، والله مدحه بذلك،


(1) عبد الله بن سليمان النخعي كوفى عده الشيخ في رجاله ص 165 من اصحاب الصادق عليه السلام.

[ 69 ]

وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله عزوجل رسوله نوحا، فليذهب الحسن يمينا وشمالا، فوالله ما يوجد العلم الا هيهنا، وكان عليه السلام يقول: محنة الناس علينا عظيمة، ان دعوناهم يجيبونا، وان تركناهم لم يهتدوا بغيرنا. احتجاج أبي عبد الله الصادق (ع) في انواع شتى من العلوم الدينية على اصناف كثيرة من أهل الملل والديانات. روي عن هشام بن الحكم (1) انه قال: من سؤال الزنديق الذي أتى ابا عبد الله عليه السلام ان قال: ما الدليل على صانع العالم ؟ فقال: أبو عبد الله عليه السلام وجود الافاعيل التي دلت على ان صانعها صنعها الا ترى انك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت ان له بانيا وان كنت لم تر


(1) هشام بن الحكم الكدى مولاهم البغدادي، وكان ينزل ببنى شيبان بالكوفة وكان مولده بالكوفة، ومنشؤه واسط، وتجارته ببغداد ثم انتقل إليها في آخر عمره سنة تسع وتسعين وماءة. وقيل هذه السنة هي سنة وقاته. عين الطائفة ووجهها ومتكلمها وناصرها من ارباب الاصول وله نوادر حكايات ولطائف مناظرات ممن اتفق علمائنا على وثاقته، ورفعة شأنه ومنزلته عند أئمتنا المعصومين عليهم السلام. وكان ممن فتق الكلام في الامامة، وهذب المذهب بالنظر، وكان حاذقا بصناعة الكلام، حاضر الجواب، وكان ثقة بالروايات حسن التحقيق بهذا الامر. روى عن أبى عبد الله وعن أبى الحسن عليهما السلام وعاش بعد ابى الحسن ولما توفى ترحم عليه الرضا عليه السلام روى عن أبى هاشم الجعفري قال: قلت لابي جعفر محمد بن على الثاني عليه السلام ما تقول جعلت فداك في هشام بن الحكم ؟ فقال عليه السلام (رحمه الله ما كان أذبه عن هذه الناحية). راجع سفينة البحار ج 2 ص 719 رجال الشيخ ص 729 رجال العلامة ص 178

[ 70 ]

الباني، ولم تشاهده. قال: فما هو ؟ قال: هو شئ بخلاف الاشياء، ارجع بقولي شئ إلى اثباته، وانه شئ بحقيقته الشيئية، غير انه لا جسم، ولا صورة، ولا يحس، ولا يجس، ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الاوهام، ولا تنقصه الدهور، ولا يغيره الزمان. قال السائل: فانا لم نجد موهوما الا مخلوقا. قال أبو عبد الله عليه السلام: لو كان ذلك كما تقول، لكان التوحيد منا مرتفعا لانا لم نكلف ان نعتقد غير موهوم، لكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك بها، تحده الحواس ممثلا، فهو مخلوق، ولابد من اثبات كون صانع الاشياء خارجا من الجهتين المذمومتين: احداهما النفي إذا كان النفي هو الابطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، فلم يكن بد من اثبات الصانع لوجود المصنوعين، والاضطرار منهم إليه، انهم مصنوعون، وان صانعهم غيرهم، وليس مثلهم، ان كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد ان لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد إلى بياض، وقوة إلى ضعف، واحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها. قال السائل: فأنت قد حددته إذا ثبت وجوده ! قال أبو عبد الله عليه السلام: لم احدده، ولكني اثبته، إذ لم يكن بين الاثبات والنفي منزلة. قال السائل: فقوله: (الرحمن على العرش استوى) ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه، من غير ان يكون العرش محلاله، لكنا نقول: هو حامل، وممسك للعرش، ونقول في ذلك ما قال: (وسع كرسيه السماوات والارض) فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا ان يكون العرش والكرسي حاويا له، وان يكون عزوجل محتاجا إلى مكان، أو إلى شئ مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه.


[ 71 ]

قال السائل: فما الفرق بين ان ترفعوا ايديكم إلى السماء، وبين ان تخفضوها نحو الارض ؟ قال أبو عبد الله: في علمه واحاطته وقدرته سواء، ولكنه عزوجل امر اوليائه وعباده برفع ايديهم إلى السماء، نحو العرش، لانه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن والاخبار عن الرسول، حين قال: (ارفعوا ايديكم إلى الله عزوجل) وهذا تجمع عليه فرق الامة كلها، ومن سؤاله ان قال: ألا يجوز ان يكون صانع العالم اكثر من واحد ؟ قال أبو عبد الله: لا يخلو قولك انهما اثنان من ان يكونا: قديمين قويين أو يكونا ضعيفين، أو يكون احدهما قويا، والاخر ضعيفا، فان كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه، وينفرد بالربوبية، وان زعمت ان احدهما قوي والاخر ضعيف، ثبت انه واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني، وان قلت انهما اثنان، لم يخل من ان يكونا متفقين من كل جهة، أو مفترقين من كل جهة، فلما رأينا الخلق منتظما، والفلك جاريا، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دل ذلك على صحة الامر والتدبير، وايتلاف الامر، وان المدبر واحد. وعن هشام بن الحكم قال: دخل ابن ابي العوجاء على الصادق عليه السلام فقال له الصادق عليه السلام: يابن ابي العوجاء ! انت مصنوع ام غير مصنوع ؟ قال: لست بمصنوع. فقال له الصادق: فلو كنت مصنوعا كيف كنت ؟ فلم يحر ابن ابي العوجاء جوابا، وقام وخرج. قال: دخل أبو شاكر الديصاني – وهو زنديق – على ابي عبد الله وقال: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ! فقال أبو عبد الله عليه السلام: اجلس ! فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله: ناولني يا غلام البيضة ! فناوله اياها، فقال أبو عبد الله: يا ديصاني


[ 72 ]

هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن اصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن افسادها، لا يدرى للذكر خلقت ام للانثى، تنفلق عن مثل الوان الطواويس، اترى له مدبرا ؟ قال: فاطرق مليا ثم قال: اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وانك امام وحجة من الله على خلقه، وانا تائب مما كنت فيه. وعن هشام بن الحكم قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن اسماء الله عز ذكره واشتقاقها، فقلت: الله مما هو مشتق ؟ قال: يا هشام الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، افهمت يا هشام ؟ قال: فقلت زدني ! فقال: ان الله تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها آلها، ولكن الله معنى يدل عليه، فهذه الاسماء كلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحروق، افهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به اعدائنا، والمتخذين مع الله غيره ؟ قلت: نعم. قال: فقال: نفعك الله به، وثبتك ! قال هشام: فو الله ما قهرني احد في علم التوحيد حتى قمت مقامي هذا. وعن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام


[ 73 ]

علم، فخرج إلى المدينة ليناظره، فلم يصادفه بها، وقيل: هو بمكة، فخرج إلى مكة ونحن مع ابي عبد الله عليه السلام، فانتهى إليه – وهو في الطواف – فدنا منه وسلم. فقال له أبو عبد الله: ما اسمك ؟ قال: عبد الملك. قال: فما كنيتك ؟ قال: أبو عبد الله. قال أبو عبد الله عليه السلام: فمن ذا الملك الذي انت عبده، امن ملوك الارض ام من ملوك السماء ؟ واخبرني عن ابنك اعبد إله السماء، ام عبد إله الارض ؟ فسكت. فقال أبو عبد الله: قل ! فسكت. فقال: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد الله عليه السلام من الطواف أتاه الزنديق، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده. فقال أبو عبد الله عليه السلام: اتعلم ان للارض تحتا وفوقا ؟ فقال: نعم. قال: فدخلت تحتها ؟ قال: لا. قال: فهل تدري ما تحتها ؟ قال: لا ادري الا اني اظن ان ليس تحتها شئ. فقال أبو عبد الله: فالظن عجز ما لم تستيقن. ثم قال له: صعدت إلى السماء ؟ قال: لا. قال: افتدري ما فيها ؟ قال: لا. قال: فاتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟ قال: لا. قال: فالعجب لك، لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل تحت


[ 74 ]

الارض، ولم تصعد إلى السماء، ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن، وانت جاحد بما فيهن، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ ! فقال الزنديق: ما كلمني بهذا غيرك. قال أبو عبد الله عليه السلام: فانت من ذلك في شك، فلعل هو ولعل ليس هو. قال: ولعل ذلك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ايها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل على العالم، يا اخا اهل مصر، تفهم عني، اما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان، يذهبان ويرجعان، قد اضطرا ليس لهما مكان الا مكانهما، فان كانا يقدران على ان يذهبا فلم يرجعان، وان كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا ؟ اضطرا والله يا اخا اهل مصر ان الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر، فان كان هو يذهبهم فلم يردهم ؟ وان كان يردهم فلم يذهب بهم ؟ اما ترى السماء مرفوعة، والارض موضوعة، لا تسقط السماء على الارض، ولا تنحدر الارض فوق ما تحتها، امسكها والله خالقها ومدبرها. قال: فآمن الزنديق على يدي ابي عبد الله، فقال: هشام خذه اليك وعلمه. وعن عيسى بن يونس (1) قال: كان ابن ابي العوجا من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا اصل له ولا حقيقة ؟ قال: ان صاحبي كان مخلطا، يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، فما اعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، فقدم مكة متمردا، وانكارا على من يحجه، وكان تكره العلماء مجالسته لخبث لسانه، وفساد ضميره، فاتى أبا عبد الله عليه السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه، فقال: يا أبا عبد الله ! ان المجالس بالامانات، ولابد لكل من به سعال ان يسعل


(1) عيسى بن يونس ذكره الشيخ في رجاله ص 258 في اصحاب الصادق (ع) وفي اصحاب الكاظم عليه السلام ص 355 فقال عيسى بن يونس بزرج له كتاب.

[ 75 ]

افتأذن لي في الكلام ؟ فقال: تكلم. فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله كهرولة البعير إذا نفر، ان من فكر في هذا وقدر، علم ان هذا فعل اسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فانك رأس هذا الامر وسنامه، وأبوك اسسه ونظامه ! فقال أبو عبد الله: ان من اضله الله واعمى قلبه، استوخم الحق ولم يستعذبه وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة، ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به عباده، ليختبر طاعتهم في اتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، جعله محل انبيائه، وقبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الارض بالفي عام، فاحق من اطيع فيما امر وانتهى عما نهى عنه وزجر، الله المنشئ للارواح والصور. فقال ابن ابى العوجا: ذكرت الله فاحلت على الغائب. فقال أبو عبد الله: ويلك ! كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد، واليهم اقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويرى اشخاصهم، ويعلم اسرارهم ؟ ! فقال ابن ابي العوجا: فهو في كل مكان، اليس إذا كان في السماء كيف يكون في الارض وإذا كان في الارض كيف يكون في السماء ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: انما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان، وخلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فاما الله العظيم الشأن، الملك الديان، فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان اقرب منه إلى مكان. وروي ان الصادق عليه السلام قال لابن ابي العوجا: ان يكن الامر كما تقول – وليس كما نقول – نجونا ونجوت وان يكن الامر كما – نقول وهو كما


[ 76 ]

نقول – نجونا وهلكت. وروي ايضا: ان ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السلام عن حدث العالم فقال: ما وجدت صغيرا ولا كبيرا الا إذا ضم إليه مثله صار اكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى، ولو كان قديما ما زال ولا حال، لان الذي يزول ويحول يجوز ان يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الازل دخول في القدم، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شئ واحد. قال ابن أبي العوجاء: هبك علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها، فلو بقيت الاشياء على صغرها من اين كان لك ان تستدل على حدوثها ؟ فقال عليه السلام: انا نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شئ ادل على الحدث ومن رفعنا اياه ووضعنا غيره، لكن اجيبك من حيث قدرت ان تلزمنا، فنقول: ان الاشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم انه متي ضم شئ منه إلى شئ منه كان اكبر، وفي جواز التغير عليه خروجه من القدم كما ان في تغيره دخوله في الحدث، وليس لك ورائه شئ يا عبد الكريم. وعن يونس بن ظبيان (1) قال: دخل رجل على ابي عبد الله عليه السلام قال: ارأيت الله حين عبدته ؟ قال: ما كنت اعبد شيئا لم أره.


(1) قال العلامة في القسم الثاني من خلاصته: يونس بن ظبيان – بالضاد المعجمة المفتوحة والباء المنقطة تحتها نقطه قبل الياء والنون اخيرا – قال أبو عمرو الكشى: قال الفضل بن شاذان في بعض كتبه -: الكذابون المشهورون: أبو الخطاب ويونس بن ظبيان ويزيد الصايغ ومحمد بن سنان وابو سمينة اشهرهم وقال النجاشي انه مولى ضعيف جدا لا يلتفت إلى ما رواه كل كتبه تخليط قال ابن الغضايرى يونس بن ظبيان كوفى غال كذاب وضاع للحديث روى عن أبى عبد الله عليه السلام لا يلتفت إلى حديثه فانا لا اعتمد على روايته لقول هؤلاء المشايخ العظام فيه.

[ 77 ]

قال: فكيف رأيته ؟ قال: لم تره الابصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقايق الايمان لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه. وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (لا تدركه الابصار) قال: احاطة الوهم ألا ترى إلى قوله: (قد جائكم بصائر من ربكم) ليس يعني بصر العيون، (فمن ابصر فلنفسه) وليس يعني من ابصر نفسه (ومن عمي فعليها) ليس يعني عمي العيون، انما عنى: احاطة الوهم – كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب – الله اعظم من ان يرى بالعين. ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد الله عليه السلام عن مسائل كثيرة انه قال: كيف يعبد الله الخلق ولم يروه ؟ قال: رأته القلوب بنور الايمان، واثبتته العقول بيقظتها اثبات العيان، وأبصرته الابصار بما رأته من حسن التركيب، واحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته. قال: أليس هو قادر ان يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين ؟ قال: ليس للمحال جواب. قال: فمن أين اثبت أنبياء ورسلا ؟ قال عليه السلام: انا لما أثبتنا ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما، لم يجز ان يشاهده خلقه، ولا ان يلامسوه ولا ان يباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت ان له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الامرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك ان له معبرون هم انبياء الله وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في احوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الحكيم


[ 78 ]

العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من: احياء الموتى، وابراء الاكمه والابرص، فلا تخلو الارض من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته. ثم قال عليه السلام بعد ذلك: نحن نزعم ان الارض لا تخلو من حجة ولا تكون الحجة الا من عقب الانبياء، ما بعث الله نبيا قط من غير نسل الانبياء، وذلك ان الله شرع لبني آدم طريقا منيرا، واخرج من آدم نسلا طاهرا طيبا، اخرج منه الانبياء والرسل، هم صفوة الله، وخلص الجوهر، طهروا في الاصلاب، وحفظوا في الارحام، لم يصبهم سفاح الجاهلية، ولا شاب انسابهم، لان الله عزوجل جعلهم في موضع لا يكون اعلى درجة وشرفا منه، فمن كان خازن علم الله، وامين غيبه ومستودع سره، وحجته على خلقه، وترجمانه ولسانه، لا يكون الا بهذه الصفة فالحجة لا يكون الا من نسلهم، يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله في الخلق بالعلم الذي عنده، وورثه عن الرسول، ان جحده الناس سكت، وكان بقاء ما عليه الناس قليلا مما في ايديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه، قد اقاموا بينهم الرأي والقياس، وانهم ان اقروا به واطاعوه واخذوا عنه، ظهر العدل، وذهب الاختلاف والتشاجر، واستوى الامر وابان الدين، وغلب على الشك اليقين، ولا يكاد ان يقر الناس به ولا يطيعوا له أو يحفظوا له بعد فقد الرسول، وما مضى رسول ولا نبي قط لم يختلف امته من بعده، وانما كان علة اختلافهم على الحجة وتركهم اياه. قال: فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة ؟ قال: قد يقتدى به ويخرج عنه الشئ بعد الشئ مكانه منفعة الخلق وصلاحهم فان احدثوا في دين الله شيئا اعلمهم وان زادوا فيه اخبرهم وان نفدوا منه شيئا افادهم. ثم قال الزنديق: من اي شئ خلق الله الاشياء ؟ قال: لا من شئ. فقال: كيف يجئ من لا شئ شئ ؟ قال عليه السلام: ان الاشياء لا تخلو اما ان تكون خلقت من شئ أو من غير


[ 79 ]

شئ، فان كان خلقت من شئ كان معه، فان ذلك الشئ قديم، والقديم لا يكون حديثا ولا يفنى ولا يتغير، ولا يخلو ذلك الشئ من ان يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا، فمن اين جائت هذه الالوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ؟ ومن اين جاء الموت ان كان الشئ الذي انشئت منه الاشياء حيا ؟ ! ومن اين جاءت الحياة ان كان ذلك الشئ ميتا ؟ ! ولا يجوز ان يكون من حي وميت قديمين لم يزالا، لان الحي لا يجئ منه ميت وهو لم يزل حيا، ولا يجوز ايضا ان يكون الميت قديما لم يزل لما هو به من الموت، لان الميت لا قدرة له ولا بقاء. قال: فمن اين قالوا ان الاشياء ازلية ؟ قال: هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الاشياء فكذبوا الرسل، ومقالتهم، والانبياء وما انبأوا عنه، وسموا كتبهم اساطير، ووضعوا لانفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم، ان الاشياء تدل على حدوثها، من دوران الفلك بما فيه، وهي سبعة افلاك، وتحرك الارض ومن عليها، وانقلاب الازمنة، واختلاف الوقت، والحوادث التي تحدث في العالم، من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار النفس إلى الاقرار بان لها صانعا ومدبرا، ألا ترى الحلو يصير حامضا، والعذب مرا، والجديد باليا، وكل إلى تغير وفنا ؟ ! قال: فلم يزل صانع العالم عالما بالاحداث التي احدثها قبل ان يحدثها ؟ قال: فلم يزل يعلم فخلق ما علم. قال: امختلف هو أم مؤتلف ؟ قال: لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، وانما يختلف المتجزي، ويأتلف المتبعض، فلا يقال له مؤتلف ولا مختلف. قال: فكيف هو الله الواحد ؟ قال: واحد في ذاته، فلا واحد كواحد، لان ما سواه من الواحد متجزي وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزى، ولا يقع عليه العد.


[ 80 ]

قال: فلاي علة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم، ولا مضطر إلى خلقهم، ولا يليق به النبعث بنا ؟ قال: خلقهم لاظهار حكمته، وانفاذ علمه، وامضاء تدبيره. قال: وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه، ومحتبس عقابه ؟ قال: ان هذه الدار دار ابتلاء، ومتجر الثواب، ومكتسب الرحمة، ملئت آفات، وطبقت شهوات، ليختبر فيها عبيده بالطاعة، فلا يكون دار عمل دار جزاء. قال: أفمن حكمته ان جعل لنفسه عدوا، وقد كان ولا عدو له، فخلق كما زعمت (ابليس) فسلطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته، ويأمرهم بمعصيته وجعل له من القوة كما زعمت ما يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم، فيوسوس إليهم فيشككهم في ربهم، ويلبس عليهم دينهم، فيزيلهم عن معرفته، حتى انكر قوم لما وسوس إليهم ربوبيته، وعبدوا سواه، فلم سلط عدوه على عبيده، وجعل له السبيل إلى اغوائهم ؟ قال: ان هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته، ولا تنفعه ولايته، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئا، وولايته لا تزيد فيه شيئا، وانما يتقى العدو إذا كان في قوة يضر وينفع، ان هم بملك اخذه، أو بسلطان قهره، فاما ابليس فعبد خلقه ليعبده ويوحده، وقد علم حين خلقه ما هو والى ما يصير إليه، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم، فامتنع من ذلك حسدا، وشقاوة غلبت عليه، فلعنه عند ذلك، واخرجه عن صفوف الملائكة، وانزله إلى الارض ملعونا مدحورا فصار عدو آدم وولده بذلك السبب، ما له من السلطنة على ولده الا الوسوسة، والدعاء إلى غير السبيل، وقد اقر مع معصيته لربه بربوبيته. قال: افيصلح السجود لغير الله ؟ قال: لا. قال: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لادم ؟


[ 81 ]

قال: ان من سجد بأمر الله، سجد لله، إذا كان عن أمر الله. قال: فمن اين أصل الكهانة، ومن اين يخبر الناس بما يحدث ؟ قال: ان الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين فترة من الرسل، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الامور بينهم، فيخبرهم عن اشياء تحدث، وذلك من وجوه شتى، فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة النفس، وفتنة الروح، مع قذف في قلبه، لان ما يحدث في الارض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن، ويخبره بما يحدث في المنازل والاطراف، واما اخبار السماء فان الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، وهي لا تحجب، ولا ترجم بالنجوم، وانما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الارض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء، فيلبس على اهل الارض ما جائهم عن الله، لاثبات الحجة، ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها، ثم يهبط بها إلى الارض، فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده، فيخلط الحق بالباطل، فما اصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما اداه إليه الشيطان لما سمعه، وما اخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة، واليوم انما تؤدي الشياطين إلى كهانها اخبارا للناس بما يتحدثون به، وما يحدثونه، والشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث، من سارق سرق ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة الناس ايضا، صدوق وكذوب. قال: وكيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم امثال الناس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود عليهما السلام من البناء ما يعجز عنه ولد آدم ؟ قال: غلظوا لسليمان كما سخرواوهم خلق رقيق، غذائهم النسيم، والدليل على كل ذلك صعودهم إلى السماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها بسلم أو بسبب. قال: فاخبرني عن السحر ما اصله، وكيف يقدر الساحر على ما يوصف


[ 82 ]

من عجائبه، وما يفعل ؟ قال: ان السحر على وجوه شتى: وجه منها بمنزلة الطب، كما ان الاطباء وضعوا لكل داء دواء، فكذلك علم السحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة. ونوع آخر منه خطفة وسرعة، ومخاريق وخفة ونوع آخر ما يأخذ أولياء الشياطين عنهم. قال: فمن اين علم الشاطين السحر ؟ قال: من حيث عرف الاطباء الطلب، بعضه تجربة، وبعضه علاج. قال: فما تقول في الملكين هاروت وماروت ؟ وما يقول الناس بانهما يعلمان الناس السحر ؟ قال: انهما موضع ابتلاء، وموقع فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل الانسان كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولو يعالج بكذا وكذا لكان كذا، اصناف السحر فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما، فيقولان لهم انما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم. قال: افيقدر الساحر ان يجعل الانسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك ؟ قال: هو اعجز من ذلك، واضعف من ان يغير خلق الله، ان من ابطل ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والافة والامراض، ولنفى البياض عن رأسه، والفقر عن ساحته، وان من اكبر السحر النميمة، يفرق بها بين المتحابين، ويجلب العداوة على المتصافيين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور، والنمام اشر من وطئ الارض بقدم، فاقرب أقاويل السحر من الصواب انه بمنزلة الطب، ان الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج فابرء.


[ 83 ]

قال: فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع ؟ قال: الشريف المطيع، والوضيع العاصي. قال: أليس فيهم فاضل ومفضول ؟ قال: انما يتفاضلون بالتقوى. قال: فتقول ان ولد آدم كلهم سواء في الاصل لا يتفاضلون الا بالتقوى ؟ قال: نعم. اني وجدت اصل الخلق التراب، والاب آدم، والام حواء، خلقهم إله واحد، وهم عبيده، ان الله عزوجل اختار من ولد آدم اناسا طهر ميلادهم، وطيب ابدانهم، وحفظهم في اصلاب الرجال وارحام النساء، اخرج منهم الانبياء والرسل، فهم ازكى فروع آدم، فعل ذلك لامر استحقوه من الله عزوجل. ولكن علم الله منهم حين ذرأهم انهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئا، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وساير الناس سواء، ألا من اتقى الله اكرمه، ومن أطاعه أحبه، ومن أحبه لم يعذبه بالنار. قال: فاخبرني عن الله عزوجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا ؟ قال عليه السلام: لو خلقهم مطيعين، لم يكن لهم ثواب، لان الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم يكن جنة ولا نارا، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم اياه العقاب. قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشر من العبد هو فعله ؟ قال: العمل الصالح من العبد بفعله، والله به أمره، والعمل الشر من العبد بفعله، والله عنه نهاه. قال: أليس فعله بالالة التي ركبها فيه ؟ قال: نعم. ولكن بالالة التي عمل بها الخبر، قدر على الشر الذي نهاه عنه


[ 84 ]

قال: فالى العبد من الامر شئ ؟ قال: ما نهاه الله عن شئ الا وقد علم انه يطيق تركه، ولا أمره بشئ الا وقد علم انه يستطيع فعله، لانه ليس من صفة الجور، والبعث، والظلم، وتكليف العباد ما لا يطيقون. قال: فمن خلقه الله كافرا أيستطيع الايمان وله عليه بتركه الايمان حجة. قال عليه السلام: ان الله خلق خلقه جميعا مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافرا، انه انما كفر من بعد ان بلغ وقتا لزمته الحجة من الله، فعرض عليه الحق فجحده فبانكاره الحق صار كافرا. قال: افيجوز ان يقدر على العبد الشر، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير ان يعمله، ويعذبه عليه. قال: انه لا يليق بعدل الله ورأفته ان يقدر على العبد الشر ويريده منه، ثم يأمره بما يعلم انه لا يستطيع أخذه، والانزاع عما لا يقدر على تركه، ثم يعذبه على أمره الذي علم انه لا يستطيع أخذه. قال: بماذا استحق الذين أغناهم واوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة، وبماذا استحق الفقير التقتير والتضييق. قال: اختبر الاغنياء بما اعطاهم لينظر كيف شكرهم، والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم، ووجه آخر: انه عجل لقوم في حياتهم، ولقوم اخر ليوم حاجتهم إليه، ووجه آخر فانه علم احتمال كل قوم فاعطاهم على قدر احتمالهم ولو كان الخلق كلهم اغنياء لخربت الدنيا، وفسد التدبير، وصار اهلها إلى الفناء ولكن جعل بعضهم لبعض عونا، وجعل اسباب ارزاقهم في ضروب الاعمال، وانواع الصناعات، وذلك أدوم في البقاء، واصح في التدبير، ثم اختبر الاغنياء بالاستعطاف على الفقراء، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يعاب تدبيره. قال: فيما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الاوجاع والامرض بلا ذنب


[ 85 ]

عمله، ولا جرم سلف منه. قال: ان المرض على وجوه شتى: مرض بلوى، ومرض عقوبة، ومرض جعل علة للفناء، وانت تزعم ان ذلك من اغذية ردية، واشربة وبية، أو من علة كانت بامه، وتزعم ان من احسن السياسة لبدنه، واجمل النظر في احوال نفسه وعرف الضار مما يأكل من النافع، لم يمرض، وتميل في قولك إلى من يزعم: انه لا يكون المرض والموت الا من المطعم والمشرب ! قد مات ارسطا طاليس معلم الاطباء، وافلاطون رئيس الحكماء، وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته، ولم يألوا حفظ أنفسهم، والنظر لما يوافقها، كم مريضا قد زاده المعالج سقما، وكم من طبيب عالم، وبصير بالادواء والادوية ماهر مات وعاش الجاهل بالطب بعده زمانا. فلا ذاك نفعه علمه بطبه عند انقطاع مدته وحضور اجله، ولا هذا ضره الجهل بالطب مع بقاء المدة وتأخر الاجل. ثم قال عليه السلام: ان اكثر الاطباء قالوا: ان علم الطب لم تعرفه الانبياء، فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الانبياء الذين كانوا حجج الله على خلقه، وامناءه في ارضه، وخزان علمه، وورثة حكمته، والادلاء عليه، والدعاة إلى طاعته ؟ ثم اني وجدت ان أكثرهم يتنكب في مذهبه سبل الانبياء، ويكذب الكتب المنزلة عليهم من الله تبارك وتعالى، فهذا الذي ازهدني في طلبه وحامليه. قال: فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم ؟ قال عليه السلام: اني رأيت الرجل الماهر في طبه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه، وتأليف بدنه، وتركيب أعضائه، ومجرى الاغذية في جوارحه، ومخرج نفسه وحركة لسانه، ومستقر كلامه، ونور بصره، وانتشار ذكره، واختلاف شهواته، وانسكاب عبراته، ومجمع سمعه، وموضع عقله، ومسكن روحه، ومخرج عطسته، وهيج غمومه، واسباب سروره، وعلة ما حدث فيه من بكم وصمم، وغير ذلك، لم يكن عندهم في ذلك اكثر من أقاويل استحسنوها، وعلل فيما بينهم جوزوها.


[ 86 ]

قال: فاخبرني عن الله أله شريك في ملكه، أو مضاد له في تدبيره ؟ قال: لا. قال: فما هذا الفساد الموجود في العالم. من سباع ضارية، وهوام مخوفة وخلق كثير مشوهة، ودود، وبعوض، وحيات، وعقارب، وزعمت: انه لا يخلق شيئا الا لعلة، لانه لا يعبث ؟ قال: ألست تزعم ان العقارب تنفع من وجه المثانة والحصاة، ولمن يبول في الفراش، وان افضل الترياق ما عولج من لحوم الافاعي، فان لحومها إذا اكلها المجذوم بشب نفعه، وتزعم ان الدود الاحمر الذي يصاب تحت الارض نافع للاكلة ؟ قال: نعم. قال: عليه السلام: فاما البعوض والبق فبعض سببه انه جعله أرزاق الطير، واهان بها جبارا تمرد على الله وتجبر، وانكر ربوبيته، فسلط الله عليه اضعف خلقه ليريه قدرته وعظمته، وهي البعوض، فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته، واعلم انا لو وقعنا على كل شئ خلقه الله تعالى لم خلقه ؟ ولاي شئ انشأه ؟ لكنا قد ساويناه في علمه، وعلمنا كلما يعلم، واستغنينا عنه، وكنا وهو في العلم سواء. قال: فاخبرني هل يعاب شئ من خلق الله وتدبيره ؟ قال: لا. قال: فان الله خلق خلقه عزلا، أذلك منه حكمة أم عبث ؟ قال: بل منه حكمة. قال: غيرتم خلق الله، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة اصوب مما خلق الله لها، وعبتم الاغلف، والله خلقه، ومدحتم الختان وهو فعلكم. أم تقولون ان ذلك من الله كان خطأ غير حكمة ؟ ! قال: عليه السلام: ذلك من الله حكمة وصواب، غير انه سن ذلك واوجبه على خلقه، كما ان المولود إذا خرج من بطن امه وجدنا سرته متصلة بسرة امه،


[ 87 ]

كذلك خلقها الحكيم فامر العباد بقطعها، وفي تركها فساد بين للمولود والام، وكذلك اظفار الانسان امر إذا طالت ان تقلم، وكان قادرا يوم دبر خلق الانسان ان يخلقها خلقة لا تطول، وكذلك الشعر من الشارب والرأس، يطول فيجز، وكذلك الثيران خلقها الله فحولة، واخصاؤها اوفق، وليس في ذلك عيب في تقدير الله عزوجل. قال: ألست تقول: يقول الله تعالى: (ادعوني استجب لكم) وقد نرى المضطر يدعوه فلا يجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره ؟ قال: ويحك ما يدعوه احد الا استجاب له، اما الظالم فدعاؤه مردود إلى ان يتوب إليه، واما المحق فانه إذا دعاه استجاب له، وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه، أو ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه، وان لم يكن الامر الذي سأل العبد خيرا له ان اعطاه امسك عنه، والمؤمن العارف بالله ربما عز عليه ان يدعوه فيما لا يدري اصواب ذلك ام خطأ، وقد يسأل العبد ربه هلاك من لم ينقطع مدته أو يسأل المطر وقتا ولعله أو ان لا يصلح فيه المطر، لانه اعرف بتدبير ما خلق من خلقه، واشباه ذلك كثيرة فافهم هذا. قال: اخبرني ايها الحكيم ما بال السماء لا ينزل منها إلى الارض احد، ولا يصعد من الارض إليها بشر، ولا طريق إليها، ولا مسلك، فلو نظر العباد في كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل لكان ذلك اثبت في الربوبية، وانفى للشك واقوى لليقين، واجدر ان يعلم العباد ان هناك مدبرا إليه يصعد الصاعد، ومن عنده يهبط الهابط. قال: ان كل ما ترى في الارض من التدبير انما هو ينزل من السماء، ومنها يظهر، أما ترى الشمس منها تطلع، وهي نور النهار، وفيها قوام الدنيا، ولو حبست حار من عليها، وهلك، والقمر منها يطلع، وهو نور الليل، وبه يعلم عدد السنين والحساب، والشهور والايام، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير، وفي السماء النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر، والبحر، ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه


[ 88 ]

حياة كل شئ، من: الزرع، والنبات، والانعام، وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا، والريح لو حبست اياه لفسدت الاشياء جميعا، وتغيرت، ثم الغيم والرعد والبرق والصواعق، كل ذلك انما هو دليل على ان هناك مدبرا يدبر كل شئ ومن عنده ينزل، وقد كلم الله موسى وباجاه، ورفع الله عيسى بن مريم، والملائكة تتنزل من عنده، غير انك لا تؤمن بما لم تره بعينك، وفيما تراه بعينك كفاية ان تفهم وتعقل. قال: فلو ان الله رد الينا من الاموات في كل مائة عام واحدا لنسأله عن من مضى منا. إلى ما صاروا، وكيف حالهم، وماذا لقوا بعد الموت، واي شئ صنع بهم، ليعمل الناس على اليقين، واضمحل الشك، وذهب الغل عن القلوب. قال: ان هذه مقالة من انكر الرسل وكذبهم، ولم يصدق بما جاؤا به من عند الله، إذا خبروا وقالوا: ان الله اخبر في كتابه عزوجل على لسان انبيائه، حال من مات منا، افيكون احد اصدق من الله قولا ومن رسله، وقد رجع إلى الدنيا ممن مات خلق كثير، منهم: (اصحاب الكهف) اماتهم الله ثلثمائة عام وتسعة ثم بعثهم في زمان قوم انكروا البعث، ليقطع حجتهم، وليريهم قدرته وليعلموا ان البعث حق، وامات الله (ارمياء) النبي عليه السلام الذي نظر إلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصر وقال: (انى يحبى هذه الله بعد موتها) (فاماته الله مائة عام ثم احياه) ونظر إلى اعضائه كيف تلتئم، وكيف تلبس اللحم، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل، فلما استوى قاعدا قال: (اعلم ان الله على كل شئ قدير) واحيى الله قوما خرجوا عن اوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، واماتهم الله دهرا طويلا، حتى بليت عظامهم، وتقطعت اوصالهم، وصاروا ترابا، فبعث الله في وقت احب ان يري خلقه قدرته، نبيا يقال له: (حزقيل) دعاهم فاجتمعت ابدانهم، ورجعت فيها ارواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفقدون من اعدادهم رجلا، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا، وان الله امات قوما خرجوا مع موسى عليه السلام حين توجه إلى الله فقالوا: (ارنا الله جهرة)


[ 89 ]

(فاماتهم الله ثم احياهم) قال: فاخبرني عمن قال: بتناسخ الارواح، من أي شئ قالوا ذلك، وباي حجة قاموا على مذاهبهم. قال: ان اصحاب التناسخ قد خلفوا ورائهم منهاج الدين، وزينوا لانفسهم الضلالات، وامرجوا انفسهم في الشهوات (1) وزعموا ان السماء خاوية ما فيها شئ مما يوصف، وان مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين، بحجة من روى ان الله عزو جل خلق آدم على صورته، وانه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر، فان كان محسنا في القالب الاول اعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة من الدنيا، وان كان مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا، أو هو ام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة، ولا شئ من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته، وكل شئ من شهوات الدنيا مباح لهم، من: فروج النساء، وغير ذلك، من الاخوات، والبنات، والخالات، وذوات البعولة، وكذلك الميتة، والخمر، والدم، فاستقبح مقالتهم كل الفرق، ولعنهم كل الامم، فلما سئلوا الحجة زاغوا وحادوا، فكذب مقالتهم التوراة، ولعنهم الفرقان، وزعموا مع ذلك ان إلهم ينتقل من قالب إلى قالب، وان الارواح الازلية هي التي كانت في آدم، ثم هلم جرا تجرى إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على ان احدهما خالق صاحبه ؟ ! وقالوا: ان الملائكة من ولد آدم كل من صار في اعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك فطورا تخالهم نصارى في اشياء، وطورا دهرية يقولون: ان الاشياء على غير الحقيقة، فقد كان يجب عليهم ان لا يأكلوا شيئا من اللحمان، لان الذرات عندهم كلها من ولد آدم حولوا من صورهم، فلا يجوز اكل لحوم القربات.


(1) امرج الدالة: تركها تذهب حيث شاءت.

[ 90 ]

قال: ومن زعم ان الله لم يزل، ومعه طينة موذية، فلم يستطع التفصى منها (1) الا بامتزاجه بها ودخوله فيها، فمن تلك الطينة خلق الاشياء ! قال: سبحان الله وتعالى ! اما اعجز آله يوصف بالقدرة، لا يستطيع التفصي من الطينة ! ان كانت الطينة حية ازلية، فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبرا العالم من انفسهما، فان كان ذلك كذلك، فمن اين جاء الموت والفناء ؟ وان كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الازلي القديم، والميت لا يجئ منه حي، وهذه مقالة الديصانية، اشد الزنادقة قولا، وامهنهم مثلا، نظروا في كتب قد صنفتها اوائلهم، وحبروها بالفاظ مزخرفة من غير اصل ثابت، ولا حجة توجب اثبات ما ادعوا، كل ذلك خلافا على الله وعلى رسله، بما جاؤا عن الله، فاما من زعم ان الابدان ظلمة، والارواح نور، وان النور لا يعمل الشر، والظلمة لا تعمل الخير، فلا يجب عليهم ان يلوموا احدا على معصية، ولا ركوب حرمة ولا اتيان فاحشة وان ذلك عن الظلمة غير مستنكر، لان ذلك فعلها، ولا له ان يدعو ربا، ولا يتضرع إليه، لان النور الرب، والرب لا يتضرع إلى نفسه، ولا يستعبد بغيره، ولا لاحد من اهل هذه المقالة ان يقول: (احسنت) يا محسن أو (اسأت) لان الاسائة من فعل الظلمة، وذلك فعلها، والاحسان من النور، ولا يقول النور لنفسه احسنت يا محسن، وليس هناك ثالث، وكانت الظلمة على قياس قولهم، احكم فعلا، واتقن تدبيرا، واعز اركانا من النور، لان الابدان محكمة، فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة، وكل شئ يرى ظاهرا من الزهر، والاشجار والثمار، والطير، والدواب، يجب ان يكون إلها، ثم حبست النور في حبسها والدولة لها، واما ما ادعوا بان العاقبة سوف تكون للنور، فدعوى، وينبغي على قياس قولهم ان لا يكون للنور فعل، لانه اسير، وليس له سلطان، فلا فعل له ولا تدبير، وان كان له مع الظلمة تدبير، فما هو باسير، بل هو مطلق عزيز، فان لم يكن كذلك، وكان اسير الظلمة، فانه يظهر في هذا العالم احسان،


(1) التفصى النخلص وتقصى عن الشئ بان عنه.

[ 91 ]

وجامع فساد وشر، فهذا يدل على ان الظلمة تحسن الخير وتفعله، كما تحسن الشر وتفعله، فان قالوا محال ذلك، فلا نور يثبت ولا ظلمة، وبطلت دعواهم، ورجع الامر إلى ان الله واحد وما سواه باطل، فهذه مقالة ماني الزنديق واصحابه. واما من قال: النور والظلمة بينهما حكم، فلابد من ان يكون اكبر الثلاثة الحكم، لانه لا يحتاج إلى الحاكم الا مغلوب أو جاهل أو مظلوم، وهذه مقالة المانوية والحكاية عنهم تطول. قال: فما قصة ماني ؟ قال: متفحص اخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية، فأخطأ الملتين ولم يصب مذهبا واحدا منهما، وزعم ان العالم دبر من إلهين، نور وظلمة، وان النور في حصار من الظلمة على ما حكينا منه، فكذبته النصارى، وقبلته المجوس. قال: فاخبرني عن المجوس أفبعث الله إليهم نبيا ؟ فاني اجد لهم كتبا محكمة ومواعظ بليغة، وامثالا شافية، يقرون بالثواب والعقاب، ولهم شرايع يعملون بها. قال عليه السلام: ما من امة الا خلا فيها نذير، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله، فانكروه. وجحدوا كتابه. قال: ومن هو فان الناس يزعمون انه خالد بن سنان ؟ قال عليه السلام: ان خالدا كان عربيا بدويا، ما كان نبيا، وانما ذلك شئ يقوله الناس. قال: افزردشت ؟ قال: ان زردشت أتاهم بزمزمة، وادعى النبوة، فآمن منهم قوم وجحده قوم، فاخرجوه فأكلته السباع في برية من الارض. قال: فاخبرني عن المجوس كانوا اقرب إلى الصواب في دهرهم، ام العرب ؟ قال: العرب في الجاهلية، كانت اقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس وذلك ان المجوس كفرت بكل الانبياء، وجحدت كتبهم، وانكرت براهينهم، ولم تأخذ بشئ من سننهم، وآثارهم، وان كيخسرو ملك المجوس في الدهر الاول


[ 92 ]

قتل ثلثمائة نبي، وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة، والعرب كانت تغتسل والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية، وكانت المجوس لا تختن، وهو من سنن الانبياء، واول من فعل ذلك ابراهيم خليل الله، وكانت المجوس لا تغسل موتاها ولا تكفنها، وكانت العرب تفعل ذلك، وكانت المجوس ترمي الموتى في الصحارى والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها، وكذلك السنة على الرسل، ان اول من حفر له قبر آدم أبو البشر، وألحد له لحد، وكانت المجوس تأتي الامهات وتنكح البنات والاخوات، وحرمت ذلك العرب، وانكرت المجوس بيت الله الحرام وسمته بيت الشيطان، والعرب كانت تحجه وتعظمه، وتقول: بيت ربنا، وتقر بالتوراة والانجيل، وتسأل اهل الكتب وتأخذ، وكانت العرب في كل الاسباب اقرب إلى الدين الحنيفية من المجوس. قال: فانهم احتجوا باتيان الاخوات انها سنة من آدم. قال: فما حجتهم في اتيان البنات والامهات، وقد حرم ذلك آدم، وكذلك نوح وابراهيم وموسى وعيسى، وسائر الانبياء، وكل ما جاء عن الله عزوجل. قال: ولم حرم الله الخمر ولا لذة افضل منها ؟ قال: حرمها لانها ام الخبائث، واس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه، ولا يعرف ربه، ولا يترك معصية الا ركبها، ولا حرمة الا انتهكها ولا رحم ماسة الا قطعها، ولا فاحشة الا أتاها، والسكران زمامه بيد الشيطان، ان امره ان يسجد للاوثان سجد، وينقاد حيث ما قاده. قال: فلم حرم الدم المسفوح ؟ قال: لانه يورث القساوة، ويسلب الفؤاد رحمته، ويعفن البدن ويغير اللون واكثر ما يصيب الانسان الجذام يكون من اكل الدم. قال: فأكل الغدد ؟ قال: يورث الجذام. قال: فالميتة لم حرمها ؟


[ 93 ]

قال: فرقا بينها وبين ما يذكى ويذكر اسم الله عليه، والميتة قد جمد فيها الدم، وتراجع إلى بدنها، فلحمها ثقيل غير مرئ، لانها يؤكل لحمها بدمها. قال: فالسمك ميتة ؟ قال: ان السمك ذكاته اخراجه حيا من الماء، ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه، وذلك انه ليس له دم، وكذلك الجراد. قال: فلم حرم الزنا ؟ قال: لما فيه من الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الانساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه، ولا ارحام موصولة، ولا قرابة معروفة. قال: فلم حرم اللواط ؟ قال: من اجل انه لو كان اتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل، وتعطيل الفروج، وكان في اجازة ذلك فساد كثير. قال: فلم حرم اتيان البهيمة ؟ قال: كره ان يضبع الرجل ماءه، ويأتي غير شكله، ولو اباح ذلك لربط كل رجل اتانا يركب ظهرها ويغشى فرجها، وكان يكون في ذلك فساد كثير، فاباح ظهورها، وحرم عليهم فروجها، وخلق للرجال النساء ليأنسوا بهن ويسكنوا اليهن، ويكن مواضع شهواتهم، وامهات أولادهم. قال: فما علة الغسل من الجنابة، وان ما اتى حلالا وليس في الحلال تدنيس ؟ قال عليه السلام: ان الجنابة بمنزلة الحيض، وذلك ان النطفة دم لم يستحكم ولا يكون الجماع الا بحركة شديدة، وشهوة غالبة، فإذا فرغ تنفس البدن، ووجد الرجل من نفسه رائحة كريهة، فوجب الغسل لذلك، وغسل الجنابة مع ذلك امانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها. قال: ايها الحكيم ! فما تقول فيمن زعم ان هذا التدبير الذي يظهر في العالم تدبير النجوم السبعة ؟


[ 94 ]

قال عليه السلام: يحتاجون إلى دليل، ان هذا العالم الاكبر والعالم الاصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك، وتدور حيث دارت، متعبة لا تفتر، وسائرة لا تقف. ثم قال: وان لكل نجم منها موكل مدبر، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين فلو كانت قديمة ازلية لم تتغير من حال إلى حال. قال: فمن قال بالطبايع ؟ قال: القدرية، فذلك قول من لم يملك البقاء، ولا صرف الحوادث، وغيرته الايام والليالي، لا يرد الهرم، ولا يدفع الاجل، وما يدري ما يصنع به. قال: فاخبرني عمن يزعم ان الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون، ويذهب قرن ويجئ قرن، وتفنيهم الامراض والاعراض، وصنوف الافات، ويخبرك الاخر عن الاول، وينبئك الخلف عن السلف، والقرون عن القرون، انهم وجدوا الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات في كل دهر يخرج منه حكيم عليم بمصلحة الناس، بصير بتأليف الكلام، ويصنف كتابا قد حبره بفطنته، وحسنه بحكمته، قد جعله حاجزا بين الناس، يأمرهم بالخير ويحثهم عليه، وينهاهم عن السوء والفساد، ويزجرهم عنه، لئلا يتهارشوا، ولا يقتل بعضهم بعضا. قال عليه السلام: ويحك ان من خرج من بطن امه امس، ويرحل عن الدنيا غدا لا علم له بما كان قبله، ولا ما يكون بعده، ثم انه لا يخلو الانسان من ان يكون خلق نفسه، أو خلقه غيره، أو لم يزل موجودا، فما ليس بشئ ليس يقدر ان يخلق شيئا وهو ليس بشئ، وكذلك ما لم يكن فيكون شيئا، يسئل فلا يعلم كيف كان ابتداؤه، ولو كان الانسان ازليا لم تحدث فيه الحوادث، لان الازلي لا تغيره الايام، ولا يأتي عليه الفناء، مع انا لم نجد بناء من غير بان، ولا أثرا من غير مؤثر، ولا تأليفا من غير مؤلف، فمن زعم ان أباه خلقه، قيل: فمن خلق أباه، ولو ان الاب هو الذي خلق ابنه، لخلقه على شهوته، وصوره على محبته، ولملك حياته، ولجاز فيه حكمه، ولكنه ان مرض فلم ينفعه، وان مات فعجز


[ 95 ]

عن رده، ان من استطاع ان يخلق خلقا وينفخ فيه روحا حتى يمشي على رجليه سويا، يقدر ان يدفع عنه الفساد. قال: فما تقول في علم النجوم ؟ قال: هو علم قلت منافعه، وكثرت مضراته، لانه لا يدفع به المقدور، ولا يتقى به المحذور، ان خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء، وان اخبر هو بخير لم يستطع تعجيله، وان حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم يضاد الله في علمه، بزعمه ان يرد قضاء الله عن خلقه. قال: فالرسول افضل أم الملك المرسل إليه ؟ قال: بل الرسول افضل. قال: فما علة الملائكة الموكلين بعباده، يكتبون عليهم ولهم، والله عالم السر وما هو اخفى، قال: استعبدهم بذلك، وجعلهم شهودا على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم اياهم اشد على طاعة الله مواظبة، وعن معصيته اشد انقباضا، وكم من عبديهم بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكف، فيقول ربي يراني، وحفظتي علي بذلك تشهد، وان الله برأعته ولطفه ايضا وكلهم بعباده، يذبون عنهم مردة الشيطان، وهوام الارض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون باذن الله إلى ان يجئ امر الله. قال: فخلق الخلق للرحمة ام للعذاب ؟ قال: خلقهم للرحمة، وكان في علمه قبل خلقه اياهم، ان قوما منهم يصيرون إلى عذابه باعمالهم الردية، وجحدهم به. قال: يعذب من انكر فاستوجب عذابه بانكاره، فبم يعذب من وحده وعرفه ؟ قال: يعذب المنكر لالهيته عذاب الابد، ويعذب المقر به عذاب عقوبة لمعصيته اياه فيما فرض عليه، ثم يخرج، ولا يظلم ربك احدا. قال: فبين الكفر والايمان منزلة ؟ قال عليه السلام: لا.


[ 96 ]

قال: فما الايمان وما الكفر ؟ قال عليه السلام: الايمان: ان يصدق الله فيما غاب عنه من عظمة الله، كتصديقه بما شاهد من ذلك وعاين، والكفر: الجحود. قال: فما الشرك وما الشك ؟ قال عليه السلام: الشرك هو: ان يضم إلى الواحد الذي ليس كمثله شئ آخر والشك: ما لم يعتقد قلبه شيئا. قال: افيكون العالم جاهلا ؟ قال عليه السلام: عالم بما يعلم، وجاهل بما يجهل. قال: فما السعادة وما الشقاوة ؟ قال: السعادة: سبب الخير، تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان، تمسك به الشقي فيجره إلى الهلكة، وكل بعلم الله. قال: اخبرني عن السراج إذا انطفى اين يذهب نوره ؟ قال عليه السلام: يذهب فلا يعود. قال: فما انكرت ان يكون الانسان مثل ذلك إذا مات وفارق الروح البدن، لم يرجع إليه ابدا كما لا يرجع ضوء السراج إليه ابدا إذا انطفى ؟ قال: لم تصب القياس، ان النار في الاجسام كامنة، والاجسام قائمة باعيانها كالحجر والحديد، فإذا ضرب احدهما بالاخر، سقطت من بينهما بار، تقتبس منها سراج، له ضوء، فالنار ثابت في اجسامها، والضوء ذاهب، والروح: جسم رقيق، قد البس قالبا كثيفا، وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت، ان الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف، وركب فيه ضروبا مختلفة: من عروق، وعصب واسنان، وشعر، وعظام، وغير ذلك، هو يحييه بعد موته، ويعيده بعد فنائه. قال: فأين الروح ؟ قال: في بطن الارض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث. قال: فمن صلب فاين روحه ؟


[ 97 ]

قال: في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الارض. قال: فاخبرني عن الروح أغير الدم ؟ قال: نعم. الروح على ما وصفت لك: مادتها من الدم، ومن الدم رطوبة الجسم، وصفاء اللون، وحسن الصوت، وكثرة الضحك، فإذا جمد الدم فارق الروح البدن. قال: فهل يوصف بخفة وثقل ووزن ؟ قال: الروح بمنزلة الريح في الزق، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه، ولا ينقصها خروجها منه، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن. قال: فاخبرني ما جوهر الريح ؟ قال: الريح هواء إذا تحرك يسمى ريحا، فإذا سكن يسمى هواء، وبه قوام الدنيا، ولو كفت الريح ثلاثة ايام لفسد كل شئ على وجه الارض ونتن، وذلك ان الريح بمنزلة المروحة، تذب وتدفع الفساد عن كل شئ وتطيبه، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير، وتبارك الله احسن الخالقين. قال: افتتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه ام هو باق ؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الاشياء، وتفنى فلا حس ولا محسوس، ثم اعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها، وذلك اربعمائة سنة يسبت فيها الخلق، وذلك بين النفختين. قال: وانى له بالبعث والبدن قد بلى، والاعضاء قد تفرقت، فعضو ببلدة يأكلها سباعها، وعضو باخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط ؟ قال: ان الذي انشأه من غير شئ، وصوره على غير مثال كان سبق إليه، قادر ان يعيده كما بدأه. قال: اوضح لي ذلك !


[ 98 ]

قال: ان الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسئ في ضيق وظلمة، والبدن يصير ترابا كما منه خلق، وما تقذف به السباع والهوام من اجوافها، مما اكلته ومزقته كل ذلك في التراب. محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الارض، ويعلم عدد الاشياء ووزنها، وان تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطرت الارض مطر النشور، فتربو الارض ثم تمخضوا مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه، فينتقل باذن الله القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور باذن المصور كهيئتها، وتلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. قال: فاخبرني عن الناس يحشرون يوم القيامة عراة ؟ قال: بل يحشرون في اكفانهم. قال: انى لهم بالاكفان وقد بليت ؟ ! قال: ان الذي احيا ابدانهم جدد اكفانهم. قال: فمن مات بلا كفن ؟ قال: يستر الله عورته بما يشاء من عنده. قال: افيعرضون صفوفا ؟ قال عليه السلام: نعم. هم يومئذ عشرون ومائة الف صف في عرض الارض. قال: أو ليس توزن الاعمال ؟ قال: لا ان الاعمال ليست باجسام، وانما هي صفة ما عملوا، وانما يحتاج إلى وزن الشئ من جهل عدد الاشياء، ولا يعرف ثقلها أو خفتها، وان الله لا يخفى عليه شئ. قال: فما معنى الميزان ؟ قال عليه السلام: العدل. قال: فما معناه في كتابه: (فمن ثقلت موازينه) ؟


[ 99 ]

قال: فمن رجح عمله. قال: فاخبرني أو ليس في النار مقتنع ان يعذب خلقه بها دون الحيات والعقارب. قال: انما يعذب بها قوما زعموا انها ليست من خلقه، انما شريكه الذي يخلقه، فيسلط الله عليهم العقارب والحيات في النار ليذيقهم بها وبال ما كذبوا عليه فجحدوا ان يكون صنعه. قال: فمن اين قالوا: (ان اهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها فإذا اكلها عادت كهيئتها) ؟ قال: نعم ذلك على قياس السراج يأتي القابس فيقتبس عنه فلا ينقص من ضوئه شيئا، وقد امتلت الدنيا منه سراجا. قال: أليسوا يأكلون ويشربون، وتزعم انه لا يكون لهم الحاجة ؟ قال: بلى. لان غذائهم رقيق لا ثقل له، بل يخرج من اجسادهم بالعرق. قال: فكيف تكون الحوراء في جميع ما اتاها زوجها عذراء ؟ قال: لانها خلقت من الطيب لا يعتريها عاهة، ولا يخالط جسمها آفة. ولا يجري في ثقبها شئ، ولا يدنسها حيض، فالرحم ملتزقة ملدم، إذ ليس فيها لسوى الا حليل مجري. قال: فهي تلبس سبعين حلة ويرى زوجها مخ ساقها من وراء حللها وبدنها ؟ قال: نعم. كما يرى احدكم الدراهم إذا لقيت في ماء صاف قدره قدر رمح. قال: فكيف تنعم اهل الجنة بما فيه من النعيم، وما منهم احد الا وقد فقد ابنه، واباه، أو حميمه، أو امه، فإذا افتقدوهم في الجنة لم يشكوا في مصيرهم إلى النار، فما يصنع بالنعيم من يعلم ان حميمه في النار ويعذب ؟ قال عليه السلام: ان اهل العلم قالوا: انهم ينسون ذكرهم. وقال: بعضهم انتظروا قدومهم، ورجوا ان يكونوا بين الجنة والنار في اصحاب الاعراف. قال عليه السلام: فاخبرني عن الشمس اين تغيب ؟ قال: ان بعض العلماء قال: إذا انحدرت اسفل القبة دار بها الفلك إلى بطن


[ 100 ]

السماء صاعدة ابدا، إلى ان تنحط إلى موضع مطلعها يعني: انها تغيب في عين حامية ثم تخرق الارض راجعة إلى موضع مطلعها، فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها بالطلوع، ويسلب نورها كل يوم، وتجلل نورا آخر. قال: فالكرسي أكبر أم العرش ؟ قال: كل شئ خلقه الله في جوف الكرسي ما خلا عرشه فانه اعظم من ان يحيط به الكرسي. قال: فخلق النهار قبل الليل ؟ قال: خلق النهار قبل الليل، والشمس قبل القمر، والارض قبل السماء ووضع الارض على الحوت، والحوت في الماء، والماء في صخرة مجوفة، والصخرة على عاتق ملك، والملك على الثرى، والثرى على الريح العقيم، والريح على الهواء والهواء تمسكه القدرة، وليس تحت الريح العقيم الا الهواء والظلمات، ولا وراء ذلك سعة ولا ضيق، ولا شئ يتوهم، ثم خلق الكرسي فحشاه السماوات والارض والكرسي اكبر من كل شئ خلقه الله، ثم خلق العرش فجعله أكبر من الكرسي وعن ابان بن تغلب انه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، إذ دخل عليه رجل من اهل اليمن، فسلم عليه فرد عليه أبو عبد الله، فقال له: مرحبا يا سعد ! فقال الرجل: بهذا الاسم سمتني امي، وما اقل من يعرفني به، فقال له أبو عبد الله: صدقت يا سعد المولى ! فقال الرجل: جعلت فدك بهذا اللقب كنت القب. فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا خير في اللقب، ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (ولا تتنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان). ما صناعتك يا سعد ؟ قال: جعلت فداك ! انا اهل بيت ننظر في النجوم، لا يقال ان باليمن احدا اعلم بالنجوم منا. فقال أبو عبد الله: كم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة ؟ فقال اليماني: لا ادري.


[ 101 ]

فقال: صدقت. فقال: فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشترى درجة ؟ قال: اليماني: لا ادري ! فقال أبو عبد الله عليه السلام: صدقت ! قال: فكم يزيد ضوء المشتري على ضوء العطارد درجة ؟ قال اليماني: لا ادري ! فقال أبو عبد الله: صدقت ! قال: فكم ضوء عطارد يزيد درجة على ضوء الزهرة ؟ قال اليماني: لا ادري ! قال أبو عبد الله: صدقت ! قال: فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الابل ؟ فقال اليماني: لا ادري ! فقال له أبو عبد الله عليه السلام: صدقت ! قال: فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر ؟ فقال اليماني: لا ادري ! فقال له أبو عبد الله: صدقت ! قال: فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب ؟ فقال اليماني: لا ادري ! فقال له أبو عبد الله: صدقت في قولك لا ادري ! فما زحل عندكم في النجوم ؟ فقال اليماني: نجم نحس. فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تقل هذا فانه نجم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو نجم الاوصياء عليهم السلام، وهو النجم الثاقب الذي قال الله تعالى في كتابه. فقال اليماني: فما معنى الثاقب ؟ فقال: ان مطلعه في السماء السابعة، فانه ثقب بضوئه حتى اضاء في السماء


[ 102 ]

الدنيا، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب. ثم قال: يا اخا العرب اعندكم عالم ؟ فقال اليماني: جعلت فداك ان باليمن قوما ليسوا كاحد من الناس في علمهم. فقال أبو عبد الله عليه السلام: وما يبلغ من علم عالمهم ؟ فقال اليماني: ان عالمهم ليزجر الطير، ويقفو الاثر في ساعة واحدة مسيرة شهر للراكب المحث. فقال أبو عبد الله عليه السلام: فان عالم المدينة اعلم من عالم اليمن. قال اليماني: وما يبلغ علم عالم المدينة ؟ قال: ان علم عالم المدينة ينتهي إلى ان لا يقفو الاثر، ولا يزجر الطير، ويعلم ما في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس، تقطع اثنا عشر برجا، واثنى عشر برا، واثنى عشر بحرا، واثنى عشر عالما. فقال له اليماني: ما ظننت ان احدا يعلم هذا، وما يدري ما كنهه ! قال: ثم قام اليماني وخرج. وعن سعيد بن ابي الخضيب (1) قال: دخلت انا وابن ابى ليلى المدينة، فبينما نحن في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله إذ دخل جعفر بن محمد عليه السلام، فقمنا إليه فسألني عن نفسي واهلي ثم قال: من هذا معك ؟ فقلت: ابن ابى ليلى قاضي المسلمين ! فقال: نعم. ثم قال له: اتأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتفرق بين المرء وزوجه، ولا تخاف في هذا أحدا ؟ قال: نعم. قال: فبأي شئ تقضي ؟


(1) سعيد ابن ابى الخضيب البجلى: عده الشيخ في رجاله ص 205 من اصحاب الصادق عليه السلام.

[ 103 ]

قال: بما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن أبي بكر، وعمر. قال: فبلغك ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (اقضاكم علي بعدي) ؟ قال: نعم. قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي عليه السلام، وقد بلغك هذا ؟ قال: فاصفر وجه ابن ابي ليلى ثم قال: التمس مثلا لنفسك، فو الله لا اكملك من رأسي كلمة ابدا. وعن الحسين بن زيد (1) عن جعفر الصادق عليه السلام ان رسول الله قال لفاطمة: يا فاطمة ان الله عزوجل يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك. (قال) فقال المحدثون بها (قال): فأتاه ابن جريج فقال: يا أبا عبد الله حدثنا اليوم حديثا استهزأه الناس. قال: وما هو ؟ قال: حديث ان رسول الله قال لفاطمة: (ان الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك). (قال): فقال عليه السلام: ان الله ليغضب فيما تروون لعبده المؤمن، ويرضى لرضاه. فقال: نعم. قال عليه السلام: فما تنكر ان تكون ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله مؤمنة، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها. قال: صدقت ! الله اعلم حيث يجعل رسالاته.


(1) ذكره العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 51 فقال: الحسين بن زيد ابن على بن الحسين عليهم السلام. أبو عبد الله، يلقب ذا الدمعة كان أبو عبد الله تبناه ورباه، وزوجه بنت الارقط، روى عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام، وكتابه مختلف الرواية.

[ 104 ]

وعن حفص بن غياث (1) قال: شهدت المسجد الحرام وابن ابي العوجاء (2) يسأل ابا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) ما ذنب الغير ؟ قال: ويحك هي هي وهي غيرها ! قال: فمثل لي ذلك شيئا من امر الدنيا ! قال: نعم أرأيت لو ان رجلا اخذ لبنة فكسرها، ثم ردها في ملبنها، فهي هي وهي غيرها. وروي انه سأل الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل في قصة ابراهيم عليه السلام (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون) قال: ما فعله كبيرهم وما كذب ابراهيم عليه السلام. قيل: وكيف ذلك ؟ فقال: انما قال ابراهيم: فاسألوهم ان كانوا ينطقون، فان نطقوا فكبيرهم فعل، وان لم ينطقوا فكبيرهم لم يفعل شيئا، فما نطقوا، وما كذب ابراهيم عليه السلام


(1) حفص بن غياث: عده الشيخ في رجاله ص 118 من اصحاب الباقر (ع) وذكره في أصحاب الصادق عليه السلام ايضا ص 175 فقال: حفص بن غياث بن طلق ابن معاوية. أبو عمر النخعي القاضى الكوفى اسند عنه، وذكره في باب من لم يرو عن الائمة عليهم السلام ص 471 والعلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 218 وقال: ولى القضاء لهارون وروى عن الصادق (ع) وكان عاميا وله كتاب معتمد. (2) عبد الكريم بن ابى العوجاء هذا من تلامذة الحسن البصري وقد انحرف عن التوحيد وحبسه محمد بن سليمان عامل الكوفة من جهة المنصور وهو خال معن بن زائدة فكثر شفعاءه بمدينة السلام والحوا على المنصور حتى كتب إلى محمد بالكف عنه وقبل ان يجئ الكتاب إلى محمد بن سليمان بعث عليه وأمر بضرب عنقه فلما ايقن انه مقتول قال اما والله لئن قتلتموني لقد وضعت اربعة آلاف حديث احرم فيها الحلال واحل بها الحرام ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم ثم ضربت عنقه.

[ 105 ]

فسئل عن قوله في سورة يوسف: (ايتها العير انكم لسارقون) ؟. قال: انهم سرقوا يوسف من أبيه، الا ترى انه قال لهم حين قالوا: (ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك) ولم يقل سرقتم صواع الملك، انما سرقوا يوسف من ابيه، فسئل عن قول ابراهيم: (فنظر نظرة في النجوم فقال اني سقيم). قال: ما كان ابراهيم سقيما، وما كذب انما عنى سقيما في دينه اي مرتادا. وعن عبد المؤمن الانصاري (1) قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: ان قوما رووا: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (اختلاف امتي رحمة) ؟. فقال: صدقوا. قلت: ان كان اختلافهم رحمة، فاجتماعهم عذاب ؟ قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، انما اراد قول الله عزوجل: (فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) امرهم ان ينفروا إلى رسول الله، ويختلفوا إليه، ويتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، انما اراد اختلافهم في البلدان، لا اختلافا في الدين، انما الدين واحد. وروي عنه صلوات الله عليه: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما وجدتم في كتاب الله عزوجل فالعمل لكم به، ولا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله عزوجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال اصحابي فقولوا، انما مثل اصحابي فيكم كمثل النجوم، بايها اخذ اهتدي، وباي اقاويل اصحابي اخذتم اهتديتم، واختلاف اصحابي لكم رحمة.


(1) ذكره الشيخ في اصحاب على بن الحسين (ع) ص 99 من رجاله وفي اصحاب الباقر (ع) ص 131 وعده في اصحاب الصادق عليه السلام ص 236 وذكره العلامة في القسم اول من خلاصته ص 131 فقال: (عبد المؤمن بن القاسم بن قيس ابن قهد – بفتح القاف واسكان الهاء – الانصاري روى عن ابى عبد الله وابى جعفر عليهما السلام ثقة وهو اخو ابى مريم عبد الغفار بن القاسم، وقيس بن فهد صحابي).

[ 106 ]

قيل: يا رسول الله من اصحابك ؟ قال: اهل بيتي. قال محمد بن الحسين بن بابويه القمي رضي الله عنه: ان أهل البيت لا يختلفون ولكن يفتون الشيعة بمر الحق، وربما افتوهم بالتقية، فما يختلف من قولهم فهو للتقية، والتقية رحمة للشيعة، ويؤيد. تأويله رضي الله عنه، اخبار كثيرة. منها: ما رواه محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي (1) قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من عرف من أمرنا ان لا نقول الا حقا فليكتف بما يعلم منا، فان سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم ان ذلك منا دفاع واختيار له. وعن عمر بن حنظلة: (2) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن رجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحا كما إلى السلطان أو إلى القضاة ايحل ذلك ؟ قال عليه السلام: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فانما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المنهي عنه، وما حكم له به فانما يأخذ سحتا وان كان حقه ثابتا له لانه اخذه بحكم الطاغوت، ومن امر الله عزوجل ان يكفر به، قال الله عزوجل: (يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به). قلت: فكيف يصنعان وقد اختلفا ؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا، فليرضيا به حكما، فاني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فانما بحكم الله استخف، وعلينا رد، والراد علينا كافر وراد على الله، وهو على حد من الشرك بالله.


(1) نصر الخثعمي: لم اعثر فيما بين يدى من كتب الرجال على ترجمة لصاحب هذا الاسم. ولعله نصير الخثعمي الذى ذكره الاردبيلى في جامع الرواة ج 2 ص 292 فقال: نصير أبو الحكم الخثعمي. محمد بن سنان عنه عن ابى عبد الله في محاسن البرقى في باب ان المؤمن صنفان. (2) عمر بن حنظلة العجلى البكري الكوفى: عده الشيخ في رجاله ص 251 من اصحاب الصادق عليه السلام.

[ 107 ]

قلت. فان كان كل واحد منهما اختار رجلا من اصحابنا، فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما فيما حكما، فان الحكمين اختلفا في حديثكم ؟. قال: ان الحكم ما حكم به اعدلهما، وافقههما، واصدقهما في الحديث، واورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الاخر. قلت: فانهما عدلان مرضيان، عرفا بذلك لا يفضل احدهما صاحبه ؟ قال: ينظر الان إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما، المجمع عليه بين اصحابك، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه، وانما الامور ثلاث: امر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وامر مشكل يرد حكمه إلى الله عزوجل والى رسوله، حلال بين، وحرام بين، وشبهات تترد بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن اخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم. قلت: فان كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟. قال ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك ارايت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ثم وجدنا احد الخبرين يوافق العامة، والاخر يخالف بايهما تأخذ من الخبرين ؟. قال: ينظر إلى ما هم إليه يميلون، فان ما خالف العامة ففيه الرشاد. قلت جعلت فداك فان وافقهم الخبران جميعا ؟. قال: انظروا إلى ما تميل إليه حكامهم وقضاتهم، فاتركوا جانبا وخذوا بغيره. قلت: فان وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟. قال: إذا كان كذلك فارجه وقف عنده، حتى تلقى امامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، والله هو المرشد.


[ 108 ]

جاء هذا الخبر على سبيل التقدير، لانه قل ما يتفق في الاثر أن يرد خبران مختلفان في حكم من الاحكام، موافقين للكتاب والسنة، وذلك مثل غسل الوجه واليدين في الوضوء لان الاخبار جائت بغسلهما مرة مرة وغسلهما مرتين مرتين، فظاهر القرآن لا يقتضي خلاف ذلك، بل يحتمل كلتا الروايتين، ومثل ذلك يؤخذ في احكام الشرع. واما قوله عليه السلام للسائل ارجه وقف عنده حتى تلقى امامك، امره بذلك عند تمكنه من الوصول إلى الامام، فاما إذا كان غائبا ولا يتمكن من الوصول إليه، والاصحاب كلهم مجمعون على الخبرين، ولم يكن هناك رجحان لروات احدهما على الاخر بالكثرة والعدالة، كان الحكم بهما من باب التخيير. يدل على ما قلنا: ما روي عن الحسن بن الجهم (1) عن الرضا عليه السلام: قال: قلت للرضا عليه السلام: تجيئنا الاحاديث عنكم مختلفة ؟. قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عزوجل واحاديثنا، فان كان يشبههما فهو منا وان لم يشبهما فليس منا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة، بحديثين مختلفين، فلا نعلم ايهما الحق. فقال: إذا لم تعلم فموسع عليك بايهما اخذت. وما رواه الحرث بن المغيرة (2) عن ابي عبد الله عليه السلام قال: إذا سمعت


(1) الحسن بن الجهم بن بكير بن اعين: أبو محمد الشيباني ثقة روى عن أبى الحسن موسى والرضا عليهما السلام ذكره العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 43 والنجاشى في رجاله ص 40 والشيخ في اصحاب الكاظم ص 347 من رجاله. (2) قال العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 55: الحرث بن المغيرة النصرى – بالنون والصاد غير المعجمة – روى الكشى عن محمد بن قولويه قال: حدثنا سعد بن عبد الله عن احمد بن محمد بن عيسى عن عبد الله بن محمد الحجال عن يونس ابن يعقوب قال: كنا عند أبى عبد الله (ع) فقال: ما لكم من مفزع امالكم من مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة النصرى وروى حديثا في –

[ 109 ]

من اصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم فترده عليه. وروى سماعة بن مهران (1) قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالاخذ به، والاخر به ينهانا عنه ؟. قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله عنه. قال: قلت: لابد من ان نعمل باحدهما. قال: خذ بما فيه خلاف العامة، فقد امر عليه السلام بترك ما وافق العامة، لانه يحتمل ان يكون قد ورد مورد التقية، وما خالفهم لا يحتمل ذلك. وروي عنهم عليهم السلام ايضا انهم قالوا: إذا اختلف احاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا، فانه لا ريب فيه، وامثال هذه الاخبار كثيرة لا يحتمل ذكرها هنا، وما اردناه عارض ليس هنا موضعه.


– طريقه سجادة: انه من اهل الجنة. وقال النجاشي: حارث بن المغيرة النصرى من بنى نصر بن معاوية بصرى عربي روى عن ابى جعفر الباقر والصادق والكاظم (ع) وعن زيد بن على عليه السلام ثقة ثقة. (1) قال النجاشي ص 146 من رجاله: (سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي مولى عبد بن وايل بن حجر الحضرمي يكنى: ابا ناشرة وقيل: ابا محمد كان يتجر في القز ويخرج به إلى حران ونزل من الكوفة كندة روى عن أبى عبد الله وابى الحسن (ع) ومات بالمدينة ثقة ثقة. وله بالكوفة مسجد بحضر موت وهو مسجد زرعة ابن محمد الحضرمي بعده وذكره احمد بن الحسين رحمه الله وانه وجد في بعض الكتب انه مات سنة خمس واربعين وماءة في حياة أبى عبد الله، وذلك ان ابا عبد الله (ع) قال: ان رجعت لم ترجع الينا فاقام عنده فمات في تلك السنة وكان عمره نحوا من ستين سنة وليس اعلم كيف هذه الحكاية لان سماعة روى عن أبى الحسن وهذه الحكاية يتضمن انه مات في حياة أبى عبد الله (ع) والله اعلم. له كتاب يرويه عنه جماعة كثيرة (الخ) وذكره الشيخ في اصحاب الصادق ص 24 وفى اصحاب الكاظم ص 315.

[ 110 ]

وعن بشير بن يحيى العامري (1) عن ابن ابى ليلى (2) قال: دخلت انا


(1) بشير بن يحى العامري: لم اعثر له على ترجمة فيما بين يدى من كتب الرجال. (2) في سفينة البحار ج 2 ص 520 اقول (ابن ابى ليلى هو محمد بن عبد الرحمن القاضى الكوفى عده الشيخ من أصحاب الصادق (ع). كان بينه وبين أبى حنيفة منافرات توفى سنة 148 وكان أبوه من أكابر تابعي الكوفة، وجده أبو ليلى من الصحابة قال ابن النديم: وأسم أبى ليلى يسار من ولد احيحة بن الجلاح وقال: ولى ابن ابى ليلى القضاء لبنى امية وولد العباس وكان يفتى بالرأى قبل ابى حنيفة، وذكره في الخلاصة القسم الاول ونقل عن ابى عقدة انه روى عن ابن نمير انه كان صدوقا مأمونا ولكنه سئ الحفظ جدا. وقال ابن داود: انه ممدوح وقال المولى محمد صالح: انه ممدوح مشكور صدوق مأمون. وفي التعليقة روى ابن أبى عمير عنه عن أبيه وقد اغرب أبو على في رجاله وقال: ان نصب الرجل اشهر من كفر ابليس، وهو من مشاهير المنحرفين وتولى القضاء لبنى امية ثم لبنى العباس برهة من السنين كما ذكره غير واحد من المؤرخين ورده شهادة جملة من اجلاء اصحاب الصادق (ع) لانهم رافضة مشهور وفي كتب الحديث مذكور من ذلك ما ذكره الكشى في ترجمة محمد بن مسلم فلاحظ ومن ذلك في ترجمة عمار الدهنى ويجب ذكره في الضعفاء كما فعله الفاضل. قال شيخنا في المستدرك بعد نقل هذا الكلام من ابى على: قلت: المدعى صدقه وامانته ووثاقته في الحديث ومجرد القضاء والعامية لا ينافى ذلك. وقال صدر المحققين العاملي في حواشيه على رجاله وفي تضاعيف الاخبار ما يدل على ان ابن ابى ليلى لم يكن على ما ذكره المؤلف من النصب بل يظهر من الروايات ميله لال محمد عليهم السلام. وروايات رد الشهادة تشهد بذلك لانه قبل شهادتهم بعد ردها. وفي صدر الوقوف من الكافي ان ابن ابى ليلى حكم في قضية بحكم فقال له محمد بن مسلم: ان عليا عليه السلام قضى بخلاف ذلك وروى ذلك له عن الباقر (ع) فقال ابن ابى ليلى: هذا عندك ؟ قال: نعم. قال: فارسل وأتنى به. قال له محمد بن مسلم: على ان لا تنظر في الكتاب الا في ذلك الحديث ثم أراه الحديث عن الباقر (ع) فرد قضيته. ونقضه للقضاء بعد الحكم دليل على عدم التعصب –

[ 111 ]

والنعمان أبو حنيفة (1) على جعفر بن محمد، فرحب بنا فقال.


– فضلا عن النصب… وبالجملة فمن تتبع الاخبار وجد ان ابن أبى ليلى كان يقضى بما يبلغه عن الصادقين عليهما السلام ويحكم بذلك بعد التوقف بل ينقض ما كان قد حكم به إذا بلغه عنهم (ع) خلافه فكيف يكون من حاله ذلك من النواصب). (1) أبو حنيفة: واسمه النعمان بن ثابت بن زوطى. وكان زوطى مملوكا لبنى تيم الله بن ثعلبة. واصله من كابل، وقيل مولى لبنى قفل كما في الفهرست لابن النديم ص 284 وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج 13 ص 324: (ولد أبو حنيفة وابوه نصراني).. إلى ان قال: (وكان زوطى مملوكا لبنى تيم الله بن ثعلبة فاعتق، فولاؤه لبنى عبد الله بن ثعلبة ثم لبنى قفل). وروى مسندا عن الزيادي يقول: سمعت ابا جعفر يقول: كان أبو حنيفة اسمه عتيك بن زوطرة فسمى نفسه النعمان واباه ثابتا. وقيل كان والد ابى حنيفة من (نسا) وقيل اصله من (ترمذ) وقيل ثابت والد ابى حنيفة من اهل (الانبار). واورد الخطيب البغدادي في تاريخه عدة روايات باسانيد مختلفة تقول: ان ابا حنيفة استتيب من الكفر مرتين وفي بعضها ثلاثا وفي رواية سفيان الثوري استتيب من الكفر مرارا. وفي رواية أبى عيينة استتيب من الدهر ثلاث مرات راجع تاريخ بغداد ج 13 ص 380 – 383 رفيه ص 372 مسندا ان ابا حنيفه قال: لو ان رجلا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم ار بذلك بأسا. وكان شريك يقول: كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله قال الله تعالى: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وقال تعالى: (يزدادوا ايمانا مع ايمانهم) وزعم أبو حنيفة ان الايمان لا يزداد ولا ينقص وان الصلاة ليست من دين الله. وفي ص 386 منه عن الجوهرى روى مسندا قال: سمعت ابا مطيع يقول: قال أبو حنيفة: ان كانت الجنة والنار مخلوقتين فانهما يفنيان وفيه عن ابن اسباط قال أبو حنيفة لو ادركني رسول الله وادركته لاخذ بكثير من قولى وقال سمعت ابا اسحاق يقول كان أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبي فيخالفه إلى غيره وفي ص 370 من نفس المصدر سئل أبو حنيفة عن رجل قال: اشهد ان الكعبة حق. ولكن لا ادرى هي هذه التى بمكة ام لا فقال

[ 112 ]


– مؤمن حقا. وسئل عن رجل قال: اشهد ان محمد بن عبد الله نبى ولكن لا ادرى هو الذى قبره بالمدينة ام لا فقال: مؤمن حقا. وهو احد المذاهب الاربعة السنية، صاحب الرأى والقياس والفتاوى المعروفة في الفقه. ذكر ابن خلكان في ج 2 ص 86 من الوفيات في ترجمة محمد بن سبكتكين عن امام الحرمين أبو المعالى عبد الملك الجوينى في كتابه الذى سماه: (مغيث الخلق في اختيار الاحق) قال: ان السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبى حنيفة وكان مولعا بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع وكان يستفسر الاحاديث فوجدها اكثرها موافقا لمذهب الشافعي فوقع في خلده حكمه. فجمع العلماء من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح احد المذهبين على الاخر فوقع الاتفاق على ان يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وعلى مذهب أبى حنيفة.. فصلى القفال المروزى… إلى ان قال: ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغا ثم لطخ ربعه بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في صميم الصيف في المفازة واجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوءه منكسا منعكسا، ثم استقبل القبلة واحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية (دو بركك سبن) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع وتشهد، وضرط في آخره من غير نية السلام وقال: ايها السلطان هذه صلاة أبى حنيفة فقال السلطان: لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبى حنيفة لقتلتك فانكرت الحنفية ان تكون هذه صلاة أبى حنيفة فامر القفال باحضار كتب أبى حنيفة ! وأمر السلطان نصرانيا كاتبا يقرأ المذهبين فوجدت الصلاة على مذهب أبى حنيفة على ما حكاه القفال، فاعرض السلطان عن مذهب أبى حنيفة، وفي ج 13 من تاريخ بغداد ص 370 قال الحارث بن عمير: وسمعته يقول: لو ان شاهدين شهدا عند قاض: ان فلان بن فلان طلق امرأته، وعلما جميعا انهما شهدا بالزور ففرق القاضى بينهما، ثم لقيها احد الشاهدين فله ان يتزوج بها.

[ 113 ]


وفى ص 362 منه قال: قال مساور الوراق: كنا من الدين قبل اليوم في سعة حتى ابتلينا باصحاب المقاييس قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم فاستعملوا الرأى عند الفقر والبوس اما العريب فامسوا لا عطاه لهم وفي المولى علامات المفاليس فلقيه أبو حنيفة فقال هجوتنا نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال: إذا ما اهل مصر بادهونا بداهية من الفتيا لطيفة اتينانهم بمقياس صحيح صليب من طراز أبى حنيفة إذا سمع الفقيه به حواه واثبته بحبر في صحيفة. فاجابه بعضهم يقول: إذا ذو الرأى خاصم عن قياس وجاء ببدعة هنة سخيفة اتيناه بقول الله فيها وآيات محبرة شريفة فكم من فرج محصنة عفيف احل حرامها بأبي حنيفة وروى ايضا انه اجتمع الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن ابى ليلى فبعثوا إلى أبى حنيفة فأتاهم فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه، ونكح امه، وشرب الخمر في رأس ابيه ؟ فقال: مؤمن. فقال له ابن ابى ليلى: لا قبلت لك شهادة ابدا وقال الثوري لا كلمتك ابدا. وقال شريك: لو كان لى من الامر شئ لضربت عنقك وقال له الحسن وجهى من وجهك حرام ان انظر إلى وجهك ابدا وروى ايضا عن الامام مالك قال: ما ولد في الاسلام مولود اضر على اهل الاسلام من أبى حنيفة وقال: كانت فتنة أبى حنيفة اضر على هذه الامة من فتنة ابليس واخرج عن الاوزاعي قال: عمد أبو حنيفة إلى عرى الاسلام فنقضه عروة عروة وعن عبد الرحمن ابن مهدى قال: ما علم في الاسلام فتنة بعد فتنة الدجال اعظم من رأى ابى حنيفة واخرج عن ابى صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن اسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وآله اربعمائة حديث أو أكثر وانه سئل عن مسأله فأجاب فيها ثم قيل له: يروى عن النبي (ص) فيها كذا وكذا قال: دعنا من هذا وفي رواية قال: حك هذا بدنب خنزيرة.

[ 114 ]

يابن ابي ليلى من هذا الرجل ؟ فقلت: جعلت فداك من اهل الكوفة له رأي وبصيرة ونفاذ. قال: فلعله الذي يقيس الاشياء برأيه ؟ ثم قال: يا نعمان ! هل تحسن ان تقيس رأسك ؟ قال: لا. قال: ما اراك تحسن ان تقيس شيئا فهل عرفت الملوحة في العينين، والمرارة في الاذنين والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الفم ؟ قال: لا. قال: فهل عرفت كلمة اولها كفر وآخرها ايمان ؟. قال: لا. قال ابن ابي ليلى: قلت: جعلت فداك لا تدعنا في عمياء مما وصفت. قال: نعم حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام ان رسول الله قال: ان الله خلق عيني ابن آدم شحمتين، فجعل فيها الملوحة، فلولا ذلك لذابتا، ولم يقع فيهما شئ من القذى الا اذابه، والملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى، وجعل المرارة في الاذنين حجابا للدماغ، وليس من دابة تقع في الاذن الا التمست الخروج، ولو لا ذلك لوصلت إلى الدماغ فافسدته وجعل الله البرودة في المنخرين حجابا للدماغ، ولولا ذلك لسال الدماغ وجعل العذوبة في الفم منا من الله تعالى على ابن آدم ليجد لذة الطعام والشراب، واما كلمة اولها كفر وآخرها ايمان فقول لا اله الا الله ثم قال: يا نعمان اياك والقياس: فان ابي حدثني عن آبائه عليهم السلام ان رسول الله قال: من قاس شيئا من الدين برأيه قرنه الله تبارك وتعالى مع ابليس، فانه اول


– قال ابن خلكان ص 165 ج 2 من الوفيات ولم يكن يعاب بشئ سوى قلة العربية فمن ذلك ماروى: ان ابا عمرو بن العلاء المقرى النحوي سأله عن القتل بالمثقل هل يوجب القود ام لا ؟ فقال لا فقال له أبو عمرو ولو قتله بحجر المنجنيق فقال ولو قتله (بابا قبيس). وتوفى سنة ماءة وخمسين وقبره ببغداد في مقبرة خيزران. (*)

[ 115 ]

من قاس حيث قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فدعوا الرأي والقياس فان دين الله لم يوضع على القياس. وفي رواية اخرى ان الصادق عليه السلام قال لابي حنيفة لما دخل عليه: من انت ؟ قال أبو حنيفة: قال عليه السلام: مفتي اهل العراق ؟ قال: نعم. قال: بما تفتيهم ؟ قال: بكتاب الله. قال: عليه السلام: وانك لعالم بكتاب الله، ناسخه ومنسوخه، ومحكمة و متشابهه ؟ قال: نعم. قال: فاخبرني عن قول الله عزوجل: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي واياما آمنين اي (1) موضع هو ؟ قال أبو حنيفة: هو ما بين المكة والمدينة، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه. وقال: نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل، وعلى اموالكم من السرق ؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال أبو عبد الله: ويحك يا أبا حنيفة ! ان الله لا يقول الا حقا اخبرني عن قول الله عزوجل: (ومن دخله كان آمنا) اي (2) موضع هو ؟ قال: ذلك


(1) سبا – 17 (2) آل عمران – 97

[ 116 ]

بيت الله الحرام، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه وقال: نشدتكم بالله هل تعلمون: ان عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل ؟ قالوا: اللهم نعم. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ويحك يا أبا حنيفة ! ان الله لا يقول الا حقا. فقال أبو حنيفة: ليس لى علم بكتاب الله، انما انا صاحب قياس. قال أبو عبد الله: فانظر في قياسك ان كنت مقيسا ايما اعظم عند الله القتل أو الزنا ؟ قال: بل القتل. قال: فكيف رضى في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا الا باربعة ؟ ثم قال له: الصلاة افضل ام الصيام ؟ قال: بل الصلاة افضل. قال عليه السلام: فيجب على قياس قولك على الحايض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد اوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة. قال له: البول اقذر ام المني ؟ قال البول اقذر. قال عليه السلام: يجب على قياسك ان يجب الغسل من البول دون المنى، وقد وجب الله تعالى الغسل من المني دون البول. قال: انما انا صاحب رأي. قال عليه السلام: فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة، فدخلا بامرأتيها في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم، فقتل المرأتين وبقي الغلامان ايهما في رأيك المالك وايهما المملوك وايهما الوارث وايهما الموروث ؟ قال: انما انا صاحب حدود. قال: فما ترى في رجل اعمى فقأ عين صحيح واقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليهما الحد.


[ 117 ]

قال: انما انا رجل عالم بمباعث الانبياء. قال: فاخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: (لعله يتذكر أو يخشى) (1) ولعل منك شك ؟ قال: نعم. قال: وكذلك من الله شك إذ قال: (لعله) ؟ قال أبو حنيفة: لا علم لى. قال عليه السلام: تزعم انك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم انك صاحب قياس واول من قاس ابليس لعنه الله ولم يبن دين الاسلام على القياس، وتزعم انك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله صوابا، ومن دونه خطأ، لان الله تعالى قال: (فاحكم بينهم بما أراك الله) (2) ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم انك صاحب حدود، ومن انزلت عليه اولى بعلمها منك، وتزعم انك عالم بمباعث الانبياء، ولخاتم الانبياء اعلم بمباعثهم منك، لو لا ان يقال: دخل على ابن رسول الله فلم يسأله عن شيئ ما سألتك عن شيئ، فقس ان كنت مقيسا. قال أبو حنيفة: لا اتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس. قال: كلا ان حب الرياسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك تمام الخبر. وعن عيسى بن عبد الله القرشي (3) قال. دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام فقال: يا ابا حنيفة قد بلغني انك تقيس ! فقال: نعم. فقال: لا تقس فان اول من قاس ابليس لعنه الله حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار وعرف


(1) طه – 44 (2) المائدة – 57 (3) عيسى بن عبد الله القرشى لم اعثر له على ترجمة فيما بين يدى من كتب الرجال

[ 118 ]

ما بين النورين، وصفاء احدهما على الاخر. وعن الحسن بن محبوب (1) عن سماعة قال: قال أبو حنيفة لابي عبد الله (ع): كم بين المشرق والمغرب ؟ قال: مسيرة يوم للشمس بل اقل من ذلك، قال: فاستعظمه. قال: يا عاجز لم تنكر هذا ان الشمس تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب في اقل من يوم. تمام الخبر. عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (2) قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بمكة، إذ دخل عليه اناس من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا وحفص بن سالم، واناس من رؤسائهم، وذلك انه حين قتل الوليد، واختلف اهل الشام بينهم، فتكلموا فاكثروا وخطبوا فاطالوا. فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: انكم قد اكثرتم علي فاطلتم، فاسندوا امركم إلى رجل منكم، فليتكلم بحجتكم وليوجز. فاسندوا امرهم إلى عمرو بن عبيد، فابلغ واطال، فكان فيما قال ان قال: قتل اهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتت امرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة، ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن فاردنا ان نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر امرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان منا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغية ونرده إلى الحق واهله، وقد احببنا ان نعرض ذلك عليك، فانه لا غنا بنا


(1) الحسن بن محبوب قال العلامة في القسم الاول من خلاصته الحسن بن محبوب السراد ويقال الزراد، يكنى أبا على مولى بجيلة كوفى ثقة عين روى عن الرضا (ع) وكان جليل القدر يعد في الاركان الاربعة في عصره (2) عبد الكريم بن عتبة قال العلامة في القسم الاول من الخلاصة – بضم العين المهملة والناء المنقطة فوقها نقطتين، والباء المنقطة تحتها نقطة – الهاشمي من أصحاب أبي الحسن الكاظم (ع) ثقة.

[ 119 ]

عن مثلك، لفضلك ولكثره شيعتك، فلما فرغ قال أبو عبد الله عليه السلام: اكلكم على مثل ما قال عمرو ؟ قالوا: نعم. فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي ثم قال: انما نسخط إذا عصي الله فإذا اطيع الله رضينا أخبرني يا عمرو لو ان الامة قلدتك امرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة، فقيل لك: (ولها من شئت) من كنت تولي ؟ قال: كنت اجعلها شورى بين المسلمين. قال: بين كلهم ؟ قال: نعم. فقال: بين فقهائهم وخيارهم ؟ قال: نعم. قال: قريش وغيرهم ؟ قال: العرب والعجم. قال: فاخبرني يا عمرو اتتولى ابا بكر وعمر أو تتبرأ منهما ؟ قال: اتولاهما. قال: يا عمرو ان كنت رجلا تتبرأ منهما فانه يجوز لك الخلاف عليهما، وان كنت تتولاهما فقد خالفتها، قد عهد عمر إلى ابي بكر فبايعه ولم يشاور احدا، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور احدا، ثم جعلها عمر شورى بين ستة، فاخرج منها الانصار غير اولئك الستة من قريش، ثم اوصى الناس فيهم بشي ما اراك ترضى انت ولا اصحابك. قال: وما صنع ؟ قال: امر صهيبا ان يصلي بالناس ثلاثة ايام، وان يتشاور اولئك الستة ليس فيهم احد سواهم الا ابن عمر ويشاورونه وليس له من الامر شئ، واوصى من كان بحضرة من المهاجرين والانصار ان مضت ثلاثة ايام ولم يفرغوا ويبايعوه ان يضرب اعناق الستة جميعا


[ 120 ]

وان اجتع اربعة قبل ان يمضي ثلاثة ايام وخالف اثنان ان يضرب اعناق الاثنين، افترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين ؟ قالوا: لا. قال: يا عمرو دع ذا أرآيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه، ثم اجتمعت لكم الامة ولم يختلف عليكم منها رجلان، فافضيتم إلى المشركين الذين لم يسلمواو لم يؤدوا الجزية، كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله في المشركين في الجزية ؟ قالوا: نعم. قال: فتصنعون ماذا ؟ قالوا: ندعوهم إلى الاسلام فان ابوا دعوناهم إلى الجزية. قال: فان كانوا مجوسا، واهل كتاب، وعبدة النيران والبهائم وليسوا باهل كتاب ؟ قالوا: سواء. قال: فاخبرني عن القرآن اتقرئونه ؟ قال: نعم. قال: اقرأ (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) قال: فاستثنى الله عزوجل واشترطمن الذين اوتوا الكتاب فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء. قال: نعم. قال عليه السلام: عمن اخذت هذا ؟ قال سمعت الناس يقولونه. قال: فدع ذا فانهم ان ابوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة ؟ قال: اخرج الخمس واقسم اربعة اخماس بين من قاتل عليها.


[ 121 ]

قال: تقسمه بين جميع من قاتل عليها ؟ قال: نعم. قال: فقد خالفت رسول الله في فعله وفي سيرته، وبيني وبينك فقهاء اهل المدينة ومشيختهم، فسلهم فانهم لا يختلفون ولا يتازعون في ان رسول الله انما صالح الاعراب على ان يدعهم في ديارهم، وان لا يهاجروا، على انه ان دهمه من عدوه دهم فيستفزهم فيقاتل بهم، وليس لهم من الغنيمة نصيب، وانت تقول بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله في سيرته في المشركين، دع ذا ما تقول في الصدقة ؟ قال: فقرأ عليه هذه الاية: (انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) إلى آخرها. قال: نعم فكيف تقسم بينهم ؟ قال: اقسمها على ثمانية اجزاء، فاعطى كل جزء من الثمانية جزء. فقال عليه السلام ان كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة، جعلت لهذ الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف. قال: نعم. قال: وما تصنع بين صدقات اهل الحضر واهل البوادي فتجعلهم فيها سواء ؟ قال: نعم. قال: فخالفت رسول الله في كل ما أتى به، كان رسول الله يقسم صدقة البوادي في اهل البوادي، وصدقة الحضر في اهل الحضر، ولا يقسم بينهم بالسوية انما يقسمه قدر ما يحضره منهم، وعلى قدر ما يحضره فان كان في نفسك شئ مما قلت لك فان فقهاء اهل المدينة، ومشيختهم كلهم لا يختلفون في ان رسول الله كذا كان يصنع، ثم اقبل على عمرو وقال: اتق الله يا عمرو وانتم ايها الرهط ! فاتقو الله، فان ابي حدثني وكان خير اهل الارض واعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من


[ 122 ]

ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو اعلم منه، فهو ضال متكلف). وروي عن يونس بن يعقوب (1) قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجل من اهل الشام فقال: اني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة اصحابك. فقال له أبو عبد الله: كلامك هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله أو من عندك ؟ فقال: من كلام رسول الله بعضه، ومن عندي بعضه. فقال أبو عبد الله: فانت إذا شريك رسول الله ! صلى الله عليه وآله قال: لا. قال: فسمعت الوحي من الله تعالى ؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله ؟ قال: لا. قال: فالتفت الي أبو عبد الله فقال: يا يونس هذا خصم نفسه قبل ان يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته. قال يونس: فيالها


(1) قال العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 185. يونس بن يعقوب بن قيس أبو على الجلاب البجلى الدهنى اختلف علماءنا فيه. فقال الشيخ الطوسى رحمه الله: انه ثقة مولى شهد له وعد له في عدة مواضع. وقال النجاشي: انه اختص بأبى عبد الله عليه السلام وابى الحسن عليه السلام وكان يتوكل لابي الحسن عليه السلام ومات في المدينة قريبا من الرضا عليه السلام فتولى امره وكان حظيا عندهم موثقا وكان قد قال بعبد الله ثم رجع. وقال أبو جعفر ابن بابويه انه فطحى هو واخوه يوسف. قال الكشى: حدثنى حمدويه عن بعض اصحابنا ان يونس بن يعقوب فطحى كوفى مات بالمدينة وكفنه الرضا عليه السلام. وروى الكشى احاديث حسنة تدل على صحة عقيدة هذا الرجل والذى اعتمد عليه قبول روايته.

[ 123 ]

من حسرة. فقلت: جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام، وتقول: ويل لاصحاب الكلام، يقولون: هذا ينقاد، وهذا ينساق، وهذا لا ينساق، وهذا نعقله، وهذا لا نعقله ! فقال أبو عبد الله عليه السلام: انما قلت: ويل لقوم تركوا قولي بالكلام، وذهبوا إلى ما يريدون ثم قال: اخرج إلى الباب فمن ترى من المتكلمين فادخله ! قال: فخرجت فوجدت حمران بن اعين، وكان يحسن الكلام، ومحمد بن نعمان الاحول، وكان متكلما، وهشام بن سالم، وقيس الماصر، وكانا متكلمين وكان قيس عندي احسنهم كلاما، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين، فادخلتهم، فلما استقربنا المجلس وكنا في خيمة لابي عبد الله عليه السلام، في طرف جبل في طريق الحرم، وذلك قبل الحج بايام، فاخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب قال: هشام ورب الكعبة. قال: وكنا ظننا ان هشاما رجل من ولد عقيل، وكان شديد المحبة لابي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم، وهو اول ما اختطت لحيته، وليس فينا الامن هو اكبر منه سنا، فوسع له أبو عبد الله عليه السلام وقال: (ناصرنا بقلبه ولسانه ويده) ثم قال لحمران: كلم الرجل يعني: الشامي. فكلمه حمران وظهر عليه ثم قال: يا طاقي كلمه ! فكلمه فظهر عليه محمد بن نعمان. ثم قال لهشام بن سالم: كلمه ! فتعارفا ثم قال لقيس الماصر: كلمه ! واقبل أبو عبد الله عليه السلام يتبسم من كلامهما وقد استخذل الشامي في يده، ثم قال للشامي: كلم هذا الغلام ! يعني: هشام بن الحكم فقال: نعم ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في امامة هذا يعني: ابا عبد الله عليه السلام ؟ فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال له: اخبرني يا هذا اربك انظر لخلقه، ام خلقه لانفسهم ؟ فقال الشامي: بل ربي انظر لخلقه ! قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا ؟ قال: كلفهم، واقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به، وازاح في ذلك عللهم.


[ 124 ]

فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم ؟ قال الشامي: هو رسول الله صلى الله عليه وآله. قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله من ؟ قال: الكتاب والسنة. فقال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه، حتى رفع عنا الاختلاف، ومكننا من الاتفاق ؟ فقال الشامي: نعم. قال هشام: فلم اختلفنا نحن وانت، جئتنا من الشام تخالفنا، وتزعم ان الرأي طريق الدين، وانت مقر بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين ؟ فسكت الشامي كالمفكر. فقال أبو عبد الله عليه السلام ! مالك لا تتكلم ؟ قال: ان قلت: انا ما اختلفنا كابرت، وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف، ابطلت، لانهما يحتملان الوجوه، ولكن لي عليه مثل ذلك. فقال له أبو عبد الله: سله تجده مليا ! فقال الشامي لهشام: من انظر للخلق ربهم ام انفسهم ؟ فقال: بل ربهم انظر لهم. فقال الشامي: فهل اقام لهم من يجمع كلمتهم، ويرفع اختلافهم، ويبين لهم حقهم من باطلهم ؟ فقال هشام: نعم. قال الشامي: من هو ؟ قال هشام: اما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه وآله، واما بعد النبي فعترته. قال الشامي: من هو عترة النبي القائم مقامه في حجته ؟ قال هشام: في وقتنا هذا ام قبله ؟ قال الشامي: بل في وقتنا هذا. قال هشام: هذا الجالس يعني: ابا عبد الله عليه السلام، الذي تشد إليه الرحال


[ 125 ]

ويخبرنا باخبار السماء وراثة عن جده. قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك ؟ فقال هشام: سله عما بدا لك. قال الشامي: قطعت عذري، فعلي السؤال. فقال أبو عبد الله عليه السلام: انا اكفيك المسألة يا شامي: اخبرك عن مسيرك وسفرك، خرجت يوم كذا، وكان طريقك كذا، ومررت على كذا، ومر بك كذا، فاقبل الشامي كلما وصف له شيئا من امره يقول: (صدقت والله) فقال الشامي: اسلمت لله الساعة ! فقال له أبو عبد الله عليه السلام: بل آمنت بالله الساعة، ان الاسلام قبل الايمان وعليه يتوارثون، ويتناكحون، والايمان عليه يثابون. قال: صدقت، فانا الساعة اشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وانك وصي الانبياء. قال: فاقبل أبو عبد الله عليه السلام على حمران فقال: يا حمران تجري الكلام على الاثر فتصيب فالتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الاثر ولا تعرف ! ثم التفت إلى الاحول فقال: قياس رواع، تكسر باطلا بباطل. الا ان باطلك اظهر ثم التفت إلى قيس الماصر فقال: تكلم واقرب ما يكون من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله أبعد ما تكون منه، تمزج الحق بالباطل، وقليل الحق يكفي من كثير الباطل انت والاحول قفازان حاذقان. قال يونس بن يعقوب: فظننت والله انه يقول لهشام، قريبا مما قال لهما. فقال: يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذ هممت بالارض طرت، مثلك فليكلم الناس اتق الزلة، والشفاعة من ورائك. وعن يونس بن يعقوب قال: كان عند ابي عبد الله عليه السلام جماعة من اصحابه فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة من اصحابه، فيهم هشام بن الحكم، وهو شاب فقال أبو عبد الله:


[ 126 ]

يا هشام ! قال: لبيك يابن رسول الله ! قال: الا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته ؟ قال هشام: جعلت فداك يابن رسول الله، اني اجلك واستحييك، ولا يعمل لساني بين يديك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا امرتكم بشئ فافعلوه ! قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد، وجلوسه في مسجد البصرة، وعظم ذلك علي، فخرجت إليه، ودخلت البصرة يوم الجمعة، واتيت مسجد البصرة فإذا انا بحلقة كبيرة، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فافرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: ايها العالم انا رجل غريب، أتأذن لي فاسألك عن مسألة ؟ قال: اسأل ! قلت له: ألك عين ؟ قال: يا بني اي شئ هذا من السؤال، إذا كيف تسأل عنه ؟ فقلت: هذا مسئلتي. فقال: يا بني ! سل وان كانت مسألتك، حمقي. قلت: اجبني فيها. قال: فقال لي: سل ! فقلت: ألك عين ؟ قال: نعم. قال: قلت: فما تصنع بها ؟ قال: ارى بها الالوان والاشخاص. قال: قلت: ألك أنف ؟ قال: نعم.


[ 127 ]

قال: قلت: فما تصنع به ؟ قال: اشم به الرائحة. قال: قلت: ألك لسان ؟ قال: نعم. قال: قلت: فما تصنع به ؟ قال: اتكلم به. قال: قلت: ألك اذن ؟ قال: نعم. قلت: تصنع بها ؟ قال: اسمع بها الاصوات قال: قلت: ألك يدان ؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بهما ؟ قال: ابطش بهما، واعرف بهما اللين من الخشن. قال: قلت: ألك رجلان ؟ قال: نعم. قال: قلت: فما تصنع بهما ؟ قال انتقل بهما من مكان إلى مكان. قال: قلت: ألك فم. قال: نعم. قال: قلت: فما تصنع به ؟ قال: اعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها. قال: قلت: ألك قلب ؟ قال: نعم.


[ 128 ]

قال: قلت: فما تصنع به ؟ قال: اميز به كلما ورد على هذه الجوارح. قال: قلت: افليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟ قال: لا. قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة ؟ قال: يا بني ان الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته، ردته إلى القلب، فتيقن بها اليقين، وابطل الشك. قال: فقلت: فانما اقام الله عزوجل القلب لشك الجوارح ؟ قال: نعم. قلت: لابد من القلب والا لم يستيقن الجوارح. قال: نعم. قلت: يا أبا مروان ! ان الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها اماما، يصحح لها الصحيح، وينفي ما شكت فيه، ويترك هذه الخلق كله في حيرتهم، وشكهم، واختلافهم، لا يقيم لهم اماما يردون إليه شكهم، وحيرتهم ويقيم لك اماما لجوارحك، ترد إليه حيرتك وشكك. قال: فسكت ولم يقل لي شيئا. قال: ثم التفت الي فقال لي: انت هشام ؟ قال: قلت: لا. فقال لي: اجالسته ؟ فقلت: لا. قال: فمن اين انت ؟ قلت: من اهل الكوفة. قال: فانت إذا هو. ثم ضمني إليه، واقعدني في مجلسه، وما نطق حتى قمت، فضحك أبو عبد الله، ثم قال: يا هشام من علمك هذا ؟ قلت: يابن رسول الله جرى على لساني. قال: يا هشام هذا والله مكتوب في صحف ابراهيم وموسى.


[ 129 ]

وبالاسناد المقدم ذكره عن الصادق عليه السلام انه قال: قوله عزوجل: (اهدنا الصراط المستقيم) يقول ارشدنا للزم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك من ان نتبع اهوائنا فنعطب، ونأخذ بآرائنا فنهلك، فان من اتبع هوائه واعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه، فاحببت لقائه من حيث لا يعرفني لا نظر مقداره ومحله فرأيته في موضع قد احدقوا به جماعة من غثاء العامة فوقفت منتبذا عنهم، متغشيا بلثام انظر إليه واليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم، وفارقهم، ولم يقر. فتفرقت جماعة العامة عنه لحوائجهم، وتبعته اقتفي اثره، فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معامله، ثم مر بعده بصاحب رمان، فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، قتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معامله ثم أقول وما حاجته إذا إلى المسارقة، ثم لم ازل اتبعه حتى مر بمريض، فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه، ومضى وتبعته، حتى استقر في بقعة من صحراء، فقلت له: يا ابا عبد الله لقد سمعت بك واحببت لقائك، فلقيتك لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وأني سائلك عنه ليزول به شغل قلبي. قال: ما هو ؟ قلت: رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمان فسرقت منه رمانتين. فقال لي: قبل كل شئ حدثني من انت ؟ قلت: رجل من ولد آدم من امة محمد صلى الله عليه وآله. قال: حدثني ممن انت ؟ قلت: رجل من اهل بيت رسول الله. قال: اين بلدك ؟ قلت: المدينة. قال: لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ؟


[ 130 ]

قلت: بلى. قال لي: فما ينفعك شرف اصلك مع جهلك بما شرفت به، وتركك علم جدك وأبيك، لانه لا ينكر ما يجب ان يحمد ويمدح فاعله. قلت: وما هو ؟ قال: القرآن كتاب الله. قلت: وما الذي جهلت ؟ قال: قول الله عزوجل: (من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها) واني لما سرقت الرغيفين، كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين، كانت سيئتين، فهذه اربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحد منها كانت اربعين حسنة، انقص من اربعين حسنة اربع سيئات، بقي ست وثلاثون. قلت: ثكلتك امك ! انت الجاهل بكتاب الله ! اما سمعت قول الله عزوجل: (انما يتقبل الله من المتقين) (1) انك لما سرقت رغيفتين، كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها، كنت انما اضفت اربع سيئات إلى اربع سيئات، ولم تضف اربعين حسنة إلى اربع سيئات، فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته. وبالاسناد الذي تقدم: عن ابي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام انه قال: قال بعض المخالفين بحضرة الصادق عليه السلام لرجل من الشيعة. ما تقول في العشرة من الصحابة ؟ قال: اقول فيهم القول الجميل الذي يحط الله به سيئاتي، ويرفع به درجاتي قال السائل: الحمد لله على ما انقذني من بغضك، كنت اظنك رافضيا تبغض الصحابة. فقال الرجل: ألا من ابغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله. قال: لعلك تتأول ما تقول، فمن ابغض العشرة من الصحابة ؟


(1) المائدة – 27

[ 131 ]

فقال: من ابغض العشرة من الصحابة فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس اجمعين. فوثب فقبل رأسه فقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض قبل اليوم. قال: انت في حل وانت اخي ثم انصرف السائل فقال له الصادق عليه السلام: جودت لله درك ! لقد عجبت الملائكة ومن حسن توريتك، وتلفظك بما خلصك، ولم تثلم دينك، زاد الله في قلوب مخالفينا غما إلى غم وحجب عنهم مراد منتحلي مودتنا في تقيتهم. فقال اصحاب الصادق عليه السلام: يابن رسول صلى الله عليه وآله ما عقلنا من كلام هذا الا موافقته لهذا المتعنت الناصب. فقال الصادق عليه السلام: لئن كنتم لم تفهموا ما عنى، فقد فهمناه نحن، فقد شكره الله له، ان ولينا الموالى لاوليائنا المعادي لاعدائنا إذا ابتلاه الله بمن يمتحنه من مخالفيه، وفقه لجواب يسلم معه دينه وعرضه، ويعظم الله بالتقية ثوابه ان صاحبكم هذا قال: من عاب واحدا منهم فعليه لعنة الله أي: من عاب واحدا منهم، هو: امير المؤمنين علي بن ابى طالب عليه السلام وقال في الثانية: من عابهم وشتمهم فعليه لعنة الله، وقد صدق لان من عابهم فقد عاب عليا عليه السلام لانه احدهم، فإذا لم يعب عليا ولم يذمه فلم يعبهم جميعا، وانما عاب بعضهم، ولقد كان لحزقيل المؤمن من قوم فرعون الذين وشوا به إلى فرعون مثل هذه التورية كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله، ونبوة موسى، وتفضيل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله على جميع رسل الله وخقله، وتفضيل على بن أبي طالب عليه السلام والخيار من الائمة على سائر اوصياء النبيين، وإلى البرائة من فرعون، فوشى به واشون إلى فرعون، وقالوا ان حزقيل يدعو إلى مخالفتك، ويعين اعدائك على مضادتك. فقال لهم فرعون: ابن عمى، وخيلفتي في ملكي، وولي عهدي، ان كان قد فعل ما قلتم فقد استحق العذاب على كفره نعمتي وان كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم اشد العذاب لايثاركم الدخول في مسائته، فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه


[ 132 ]

وقالوا: انت تجحد ربوبية فرعون الملك، وتكفر نعمائه. فقال حزقيل: ايها الملك هل جربت علي كذبا قط. قال: لا. قال: فسلهم من ربهم ؟ قالوا: فرعون. قال: ومن خلقكم ؟ قالوا: فرعون هذا. قال: ومن رازقكم الكافل لمعايشكم، والدافع عنكم مكارهكم ؟ قالوا: فرعون هذا. قال حزقيل: ايها الملك فاشهدك وكل من حضرك: ان ربهم هو ربي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا رب لى ولا خالق غير ربهم وخالقهم ورازقهم، واشهدك ومن حضرك: ان كل رب وخالق سوى ربهم وخالقهم ورازقهم فانا برئ منه، ومن ربوبيته، وكافر بالهيته. يقول حزقيل هذا وهو يعنى: ان ربهم هو الله ربي ولم يقل ان الذي قالوا: هم انه ربهم هو ربي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره، وتوهموا انه يقول: فرعون ربي وخالقي ورازقي، فقال لهم: يا رجال السوء ويا طلاب الفساد في ملكي: ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمي، وهو عضدي، انتم المستحقون لعذابي، لارادتكم فساد امري، وهلاك ابن عمي والفت في عضدي ثم امر بالاوتاد فجعل في ساق كل واحد منهم وتد وفي صدره وتد، وامر اصحاب امشاط الحديد فشقوا بها لحومهم من ابدانهم، فذلك ما قال الله تعالى: (فوقيه الله سيئات ما مكروا) (1) لما وشوا به إلى فرعون ليهلكوه وحاق بآل فرعون سوء العذاب، وهم الذين وشوا بحزقيل إليه لما اوتد فيهم الاوتاد، ومشط عن ابدانهم لحومها بالامشاط. (1) غافر – 45


[ 133 ]

ومثل هذه التورية قد كانت لابي عبد الله عليه السلام في مواضع كثيرة. فمن ذلك ما رواه معاوية بن وهب (1) عن سعيد بن سمان (2) قال: كنت عند أبي عبد الله إذ دخل عليه رجلان من الزيدية، فقالا له: أفيكم امام مفترض طاعته ؟ قال: فقال: لا. فقالا له: قد اخبرنا عنك الثقات انك تقول به، وسموا اقواما وقالوا: هم اصحاب ورع وتشمير، وهم ممن لا يكذب، فغضب أبو عبد الله عليه السلام وقال: ما امرتهم بهذا، فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا. فقال لي: أتعرف هذين ؟ قلت: هما من اهل سوقنا، وهما من الزيدية، وهما يزعمان: ان سيف رسول الله عند عبد الله بن الحسن. فقال: كذبا لعنهما الله، وهو ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه، ولا بواحدة من عينيه. ولا رآه أبوه. اللهم الا ان يكون رآه عند علي بن الحسين عليه السلام فان كانا صادقين فما علامة في مقبضه، وما أثر في موضع مضربه، وان عندي لسيف رسول الله، وان عندي لراية رسول الله صلى الله عليه وآله، ودرعه، ولامته، ومغفره، فان كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وان عندي لراية رسول الله المغلبة، وان عندي الواح موسى وعصاه، وان عندي لخاتم سليمان بن داود وان عندي الطست الذي كان موسى يقرب بها القربان، وان عندي الاسم الذي


(1) عده الشيخ في اصحاب الصادق (ع) ص 310 من رجاله وذكره العلامة في القسم الاول من خلاصته فقال: (معاوية بن وهب البجلى، أبو الحسن عربي صميم، ثقة صحيح، حسن الطريق، روى عن ابى عبد الله وأبى الحسن (ع). (2) سعيد بن عبد الرحمن وقيل: ابن عبد الله الاعرج السمان أبو عبد الله التمى مولاهم كوفى ثقة، روى عن أبى عبد الله (ع)، ذكره ابن عقدة وابن نوح له كتاب يرويه عن جماعة… رجال النجاش ص 137.

[ 134 ]

كان رسول الله إذا وضعه بين المسلمين والمشركين، لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة، وان عندي لمثل التابوت الذي جائت به الملائكة، ومثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني اسرائيل، كانت بنو اسرائيل في اي اهل بيت وجد التابوت على ابوابهم اوتوا النبوة، ومن صار إليه السلاح منا اوتي الامامة، ولقد لبس أبي درع رسول الله صلى الله عليه وآله فخطت على الارض خططا، ولبستها انا وكانت تخط على الارض – يعني: طويلة – مثل ما كانت على ابي، وقائمنا من إذا لبسها ملاها انشاء الله تعالى. وكان الصادق عليه السلام يقول: علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلوب، ونقر في الاسماع، وان عندنا الجفر الاحمر، والجفر الابيض، ومصحف فاطمة عليها السلام وعندنا الجامعة، فيها جميع ما يحتاج إليه الناس، فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال: اما الغابر: فالعلم بما يكون، والمزبور: فالعلم بما كان، واما النكت في القلوب: فهو الالهام، والنقر في الاسماع: فحديث الملائكة، نسمع كلامهم، ولا نرى اشخاصهم، واما الجفر الاحمر: فوعاء فيه توراة موسى، وانجيل عيسى وزبور داود، وكتب الله. واما مصحف فاطمة: ففيه ما يكون من حادث، واسماء من يملك إلى ان تقوم الساعة. واما الجامعة: فهو: كتاب طوله سبعون ذراعا، املاء رسول الله من فلق فيه وخط علي بن ابي طالب عليه السلام بيده، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، حتى ان فيه ارش الخدش، والجلدة، ونصف الجلدة. ولقد كان زيد بن علي بن الحسين (1) يطمع ان يوصي إليه اخوه


(1) قال السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه (زيد الشهيد) ص 43: قال المحدث النوري في رجال مستدرك لوسائل (ان زيد بن على جليل القدره عظيم الشأن كبير المنزلة. واما ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مطروح أو محمول على التقية.

[ 135 ]

الباقر عليه السلام، ويقيمه مقامه في الخلافة بعده، مثل ما كان يطمع في ذلك محمد بن


– وقال الشيخ المفيد في الارشاد ص 251: كان زيد بن على بن الحسين (ع) عين اخوته بعد أبى جعفر (ع)، وافضلهم، وكان عابدا ورعا فقيها، سخيا، شجاعا، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ بثار الحسين (ع). وفي عيون اخبار الرضا ج 1 ص 248 بسنده عن محمد بن يزيد النحوي عن ابن أبى عبدون عن ابيه قال: لما حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون – وكان قد خرج بالبصرة واحرق دور بنى العباس – وهب المأمون جرمه لاخيه على بن موسى الرضا (ع) وقال: يا ابا الحسن لئن خرج اخوك وفعل ما فعل، لقد خرج من قبله زيد بن على فقتل ولو لا مكانك لقتلته فليس ما اتاه بصغير فقال الرضا (ع): لا تقس اخى زيدا إلى زيد بن على فانه كان من علماء آل محمد (ص)، غضب لله عزوجل فجاهد اعدائه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثى أبى موسى بن جعفر انه سمع اباه جعفر بن محمد يقول رحم الله عمى زيدا انه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لو في بما دعا إليه ولقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عمى ان رضيت ان تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك فلما ولى قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع داعيته فلم يجبه. فقال المأمون يا ابا لحسن اليس قد جاء فيمن ادعى الامامة بغير حقها ما جاء ؟ فقال الرضا (ع) ان زيد بن على لم يدع ما ليس له بحق وانه كان اتقى لله من ذاك انه قال: ادعوكم إلى الرضا من آل محمد، وانما جاء فيمن يدعى ان الله نص عليه ثم يدعو إلى غير دين الله ويضل عن سبيله بغير علم. وكان زيد بن على والله ممن خوطب بهذه الاية: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) وروى الكليني في روضة الكافي ص 264 مسندا عن الصادق (ع) ان قال: لا تقولوا: خرج زيد فان زيدا كان عالما، وكان صدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه، انما دعا إلى الرضا من آل محمد (ص) لو ظفر لو في بما دعاكم إليه، انما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه. وفي ارشاد المفيد (ره) ص 252 قال ولما قتل بلغ ذلك من ابى عبد الله الصادق (ع) كل مبلغ وحزن له حزنا عظيما حتى بان عليه وفرق من ماله في عيال من اصيب معه من اصحابه الف دينار. وروى ذلك أبو خالد الواسطي قال: سلم إلى أبو عبد الله (ع) الف-

[ 136 ]

الحنفية بعد وفاة اخيه الحسين صلوات الله عليه، حتي رأى من ابن اخيه زين العابدين عليه السلام من المعجزة الدالة على امامته ما رأى، وقد تقدم ذكره في هذا الكتاب، فكذلك زيد رجا ان يكون القائم مقام اخيه الباقر صلوات الله عليه، حتى سمع ما سمع من اخيه، ورأى ما رأى من ابن اخيه، ابي عبد الله الصادق فمن ذلك ما رواه صدقة بن ابي موسى، عن ابي بصير قال: لما حضر ابا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام الوفاة، دعا بابنه الصادق عليه السلام ليعهد إليه عهدا، فقال له اخوه زيد بن علي: لما امتثلت في مثال الحسن والحسين عليهما السلام رجوت ان لا تكون اتيت منكرا. فقال له الباقر عليه السلام: يا ابا الحسن ان الامانات ليست بالمثال، ولا العهود بالرسوم، انما هي امور سابقة عن حجج الله تبارك وتعالى، ثم دعا بجابر بن عبد الله الانصاري فقال: يا جابر حدثنا بما عاينت من الصحيفة ؟ فقال له: نعم يا ابا جعفر، دخلت على مولاتي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله لاهنيها بولادة الحسن عليه السلام، فإذا بيدها صحيفة بيضاء من درة، فقلت يا سيدة النسوان ما هذه الصحيفة التي اراها معك ؟ قالت: فيها اسماء الائمة من ولدي. قلت لها: ناوليني لانظر فيها ! قالت: يا جابر لولا النهي لكنت افعل، ولكنه قد نهي ان يمسها الا نبي أو وصي نبي، أو اهل بيت نبي، ولكنه مأذون لك ان تنظر إلى باطنها من ظاهرها. قال جابر: فقرأت فإذا فيها: أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفي ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، امه آمنة. –


– دينار وامرني ان اقسمها في عيال من اصيب مع زيد فاصاب عيال عبد الله بن لزبير اخى فضيل الرسان منها اربعة دنانير وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة وكانت سنة يومئذ اثنين واربعين سنة.

[ 137 ]

أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام المرتضى، امه فاطمة بنت اسد بن هاشم ابن عبد مناف. أبو محمد الحسن بن علي البر التقي، أبو عبد الله الحسين بن علي امهما فاطمة بنت محمد. أبو محمد علي بن الحسين العدل، امه شهر بانويه بنت يزدجرد بن شهريار. أبو جعفر محمد بن علي الباقر، امه ام عبد الله بنت الحسن بن علي بن ابي طالب. أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، امه: (ام فروة) بنت القسم بن محمد بن ابي بكر. أبو ابراهيم موسى بن جعفر الثقة، امه جارية اسمها (حميدة) المصفاة. أبو الحسن علي بن موسى الرضا، امه جارية اسمها: (نجمة). أبو جعفر محمد بن علي الزكي امه جارية اسمها: (خيزران). أبو الحسن علي بن محمد الامين، امه جارية اسمها: (سوسن). أبو محمد الحسن بن علي الرضي، امه جارية اسمها: (سمانة) تكنى ام الحسن. أبو القاسم محمد بن الحسن وهو حجة القائم، امه جارية اسمها: (نرجس) صلوات الله عليهم اجمعين. وعن زرارة بن اعين قال: قال لي زيد بن علي وانا عند أبي عبد الله عليه السلام: يا فتى ما تقول في رجل من آل محمد استنصرك ؟ قال: قلت: ان كان مفروض الطاعة، فلي ان افعل ولي ان لا افعل. فلما خرج قال أبو عبد الله: اخذته والله من بين يديه ومن خلفه، وما تركت له مخرجا. وقيل للصادق عليه السلام: ما يزال يخرج رجل منكم اهل البيت فيقتل ويقتل معه بشر كثير فاطرق طويلا ثم قال: ان فيهم الكذابين وفي غيرهم المكذبين. وروي عنه صلوات الله عليه انه قال: ليس منا احد الا وله عدو من اهل بيته، فقيل له: بنو الحسن لا يعرفون لمن الحق ؟


[ 138 ]

قال: بلى ولكن يحملهم الحسد. عن ابي يعقوب (1) قال: لقيت انا ومعلى بن خنيس (2) الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا يهودي فاخبرنا بما قال فينا جعفر ابن محمد عليه السلام فقال: هو والله اولى باليهودية منكما ان اليهودي من شرب الخمر. وبهذا الاسناد قال: سمعت أبا عبد الله يقول لو توفي الحسن بن الحسن على الزنا والربا وشرب الخمر، كان خيرا لما مما توفي عليه وعن ابي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الاية: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (3) قال: اي شئ تقول ؟ قلت: اني اقول انها خاصة لولد فاطمة.


(1) عده الشيخ الطوسى (ره) في رجاله ص 339 من اصحاب الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) فقال: (أبو يعقوب: الاسدي امام بنى الصيد الكوفى. (2) المعلى بن خنيس ذكره الشيخ الطوسى (ره) في عداد اصحاب الصادق – ع ص 320 من رجاله وذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 259 فقال: معلى بن خنيس – بضم الخاء المعجمة وفتح النون والسين المهملة بعد الياء المنقطة تحتها نقطتين – أبو عبد الله مولى الصادق جعفر بن محمد (ع)، ومن قبله كان مولى بنى اسد، كوفى. قال النجاشي: انه بزاز بالزاى قبل الالف وبعدها وهو ضعيف جدا وقال: الغضايرى انه كان اول امره مغيريا ثم دعى إلى محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية، وفى هذه الظنة اخذه داود بن على قتله، والغلاة يضيفون إليه كثيرا قال ولا ارى الاعتماد على شئ من حديثه. وروى فيه احاديث تقتضي الذم واخرى تقتضي المدح، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسى – في الغيبة بغير اسناد – انه كان من قوام أبى عبد الله (ع) وكان محمودا عنده ومضى على منهاجة، وهذا يقتضى وصفه بالعدالة. اقول يريد بقوله كان مغيريا أي: من اصحاب المغيرة بن سعيد مولى بجيلة الذى لعنه الامام الصادق (ع) مرارا. (3) فاطر – 32

[ 139 ]

فقال عليه السلام: اما من سل سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة وغيرهم، فليس بداخل في الاية، قلت: من يدخل فيها قال: الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد منا اهل البيت هو العارف حق الامام والسابق بالخيرات هو الامام. عن محمد بن ابي عمير الكوفي (1) عن عبد الله بن الوليد السمان (2) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ما يقول الناس في اولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام ؟ قال: قلت: ما يقدمون على اولي العزم احدا. قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: ان الله تبارك وتعالى قال لموسى: (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة) (3) ولم يقل كل شئ موعظة. وقال


(1) محمد بن ابى عمير: واسم أبى عمير: زياد بن عيسى. ويكنى: ابا محمد مولى الازد. من موالى المهلب بن ابى صفرة وقيل: موالى بنى امية والاول اصح، بغدادي الاصل والمقام، لقى ابا الحسن موسى (ع) وسمع منه احاديث كناه في بعضها فقال: يا ابا احمد. وروى عن الرضا (ع). كان جليل القدر عظيم المنزلة عندنا وعند المخالفين. قال الكشى: انه ممن جمع اصحابنا على تصحيح ما يصح عنه واقروا له بالفقه والعلم. وقال الشيخ الطوسى (ره): انه كان اوثق الناس عند الخاصة والعامة، وانسكهم نسكا وازهدهم واعبدهم. ادرك من الائمة ثلاثة: ابا ابراهيم موسى بن جعفر (ع) ولم يرو عنه وروى عن ابى الحسن الرضا (ع) قال أبو عمرو الكشى: قال محمد بن مسعود: حدثنى على بن الحسين قال ابن أبي عمير افقه من يونس بن عبد الرحمن واصلح وافضل وله حكاية ذكرناها في كتابنا الكبير، مات رحمه الله سنة سبع عشر ومائتين القسم الاول من خلاصة العلامة ص 141.(2) خلاصة العلامة ص 111: عبد الله بن الوليد السمان – بالسين المهملة والنون اخيرا – النخعي مولى كوفى روى عن أبى عبد الله (ع) ثقة. (3) الاعراف – 145

[ 140 ]

لعيسى: (وليبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) (1) ولم يقل كل شئ وقال لصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) (2) وقال الله عزوجل: (ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين) (3) وعلم هذا الكتاب عنده. وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي (4) قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: ان لصاحب هذا الامر غيبة لابد منها، يرتاب فيها كل مبطل، قلت له: ولم جعلت فداك ؟ قال: الامر لا يؤذن لي في كشفه لكم. قلت: فما وجه الحكمة في غيبته ؟ قال: وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، ان وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف الا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لما اتاه الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، واقامة الجدار لموسى عليه السلام، إلى وقت افتراقهما. يابن الفضل ان هذا الامر امر من الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا انه عزوجل حكيم صدقنا بان افعاله كلها حكمة، وان كان وجهها غير منكشف. وعن علي بن الحكم (5) عن ابان قال: اخبرني الاحول أبو جعفر محمد بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق: ان زيد بن علي بن الحسين بعث إليه وهو مختف قال: فأتيته فقال لي: يا ابا جعفر ما تقول ان طرقك طارق منا اتخرج معه ؟


(1) الزخرف – 63 (2) لرعد – 43 (3) الانعام – 59 (4) عده الشيخ الطوسى في اصحاب الصادق عليه السلام ص 122 من رجاله. (5) على بن الحكم من اهل الانبار قال الكشى: عن حمدويه عن محمد بن عيسى ان على بن الحكم هر ابن اخت داود بن النعمان بياع الانماط وهو نسيب منى الزبير الصيارفة. وعلى بن الحكم تلميذ ابن ابى عمير، ولقى من اصحاب ابى عبد الله الكبير وهو مثل ابن فضال وابن بكير.

[ 141 ]

قال: قلت له: ان كان ابوك أو اخوك خرجت معه. قال: فقال لي: فانا اريد ان اخرج واجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي ! قال: قلت: لا افعل جعلت فداك ! قال: فقال لي: اترغب بنفسك عني ؟ قال: فقلت له: انما هي نفس واحدة، فان كان لله تعالى في الارض حجة فالمتخلف عنك ناج، والخارج معك هالك، وان لم يكن لله في الارض حجة، فالمتخلف عنك والخارج معك سواء. قال: فقال لي: يا ابا جعفر كنت اجلس مع ابي على الخوان، فيلقمني اللقمة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي من حر النار إذا اخبرك بالدين ولم يخبرني به. قال: قلت له: من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك ان لا تقبله فتدخل النار واخبرني، فان قبلته نجوت، وان لم اقبل لم يبال ان ادخل النار، ثم قلت له: جعلت فداك انتم افضل ام الانبياء ؟ قال: بل الانبياء. قلت: يقول يعقوب ليوسف: (يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا) (1) لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمه، وكذا ابوك كتمك لانه خاف عليك. قال: فقال: اما والله لئن قلت ذلك فقد حدثني صاحبك بالمدينة اني اقتل واصلب بالكناسة، وان عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي. قال: فحججت وحدثت أبا عبد الله عليه السلام بمقالة زيد وما قلت له: فقال لي: اخذته من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن يساره، ومن فوق رأسه ومن


(1) يوسف – 5

[ 142 ]

تحت قدميه، ولم تترك له مسلكا يسلكه. وعن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن ابي العوجاء، وابو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤن بالحاج ويطعنون بالقرآن. فقال ابن ابي العوجا: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فان في نقض القرآن ابطال نبوة محمد، وفي ابطال نبوته ابطال الاسلام، واثبات ما نحن فيه، فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن ابي العوجاء: اما انا فمفكر منذ افترقنا في هذه الاية: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) (1) فما اقدر ان اضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا، فشغلتني هذه الاية عن التفكر في ما سواها. فقال عبد الملك: وانا منذر فارقتكم مفكر في هذه الاية (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ان الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) (2) ولم اقدر على الاتيان بمثلها. فقال أبو شاكر: وانا منذ فارقتكم مفكر في هذه الاية: (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا) (3) لم اقدر على الاتيان بمثلها. فقال ابن المقفع: يا قوم ان هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وانا منذ فارقتكم مفكر في هذه الاية: (وقيل يا أرض ابلعي مائك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) (4) لم ابلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الاتيان بمثلها.


يوسف – 80 (2) الحج – 73 (3) الانبياء – 24 (4) هود – 44

[ 143 ]

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1) فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للاسلام حقيقة لما انتهت امر وصية محمد الا إلى جعفر بن محمد، والله ما رأيناه قط الا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا مقرين بالعجز. ولهذا الامر قال محمد بن أبي بكر في خبر عجيب شعرا (2): تجملت تبلغت وان عشت تفيلت لك التسع من الثمن وبالكل تملكت وعن احمد بن عبد الله البرقي (3) عن ابيه (4) عن شريك بن عبد الله (5)


(1) الاسراء – 88 (2) تجملت في حرب صفين، أي ركبت الجمل وخرجت لحرب على عليه السلام وتبغلت حين جاءوا بجنازة الامام الحسن المجتبى عليه السلام لزيارة قبر جده فخرجت راكبة على بغلة يقودها مروان وهى تنادى: لا تدخلوا بيتى من لا احب، وقال مروان: ايدفن عثمان في اقصى المدينة ويدفن الحسن مع جده رسول الله، لا كان ذلك ابدا. والبيت لابن عباس خاطبها به ذلك اليوم وليس لمحمد بن ابى بكر بل ان محمدا لم يدرك ذلك اليوم وقتل في عهد أمير المؤمنين وقد مرت ترجمته ص 269 من الجزء الاول من هذا الكتاب فراجع. (3) قال السيد الامين العاملي رحمه الله في اعيان الشيعة ج 9 ص 4: (احمد بن عبد الله بن احمد بن ابى عبد الله البرقى، في طريق الصدوق إلى محمد بن مسلم، والظاهر انه من مشائخ الاجازة، وربما احتمل ان يكون ابن بنت البرقى ونسب إلى جده والله اعلم) (4) لم اعثر له على ترجمة فيما عندي من كتب الرجال (5) شريك بن عبد الله بن سنان بن انس النخعي الكوفى، ذكره ابن قتيبة والذهبي في رجال الشيعة، وكان ممن روى النص على أمير المؤمنين على عليه السلام كما في الميزان للذهبي. ومن تتبع سيرته علم انه كان يوالى اهل البيت عليهم السلام وقد روى عن اوليائهم علما جما، قال ابنه عبد الرحمن: كان عند ابى عشرة آلاف مسألة عن جابر الجعفي، وعشرة آلاف غرائب وقال عبد الله بن المبارك: شريك اعلم بحديث الكوفيين من سفيان، وكان عدوا لاعداء على عليه السلام، سئ القول فيهم، ومع –

[ 144 ]

عن الاعمش قال: اجتمعت الشيعة والمحكمة عند أبى نعيم النخعي بالكوفة (1) وابو جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر، فقال ابن ابى حذرة: انا اقرر معكم ايتها الشيعة ان أبا بكر افضل من علي ومن جميع اصحاب النبي باربع خصال لا يقدر على دفعها احد من الناس، هو ثان مع رسول الله في بيته مدفون، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعده رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو ثاني اثنين الصديق من هذه الامة. قال أبو جعفر مؤمن الطاق رحمة الله عليه: يابن أبي حذرة وانا اقرر معك ان عليا أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله بهذه الخصال التي وصفتها، وانها مثلبة لصاحبك، والزمك طاعة علي من ثلاث جهات، من القرآن وصفا، ومن خبر الرسول نصا، ومن حجة العقل اعتبارا، ووقع الاتفاق على ابراهيم النخعي وعلى أبي اسحاق السبيعي، وعلى سليمان بن مهران الاعمش. فقال: أبو جعفر مؤمن الطاق: اخبرني يابن أبي حذرة عن النبي صلى الله عليه وآله كيف ترك بيوته – التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها الا باذنه – ميراثا لاهله وولده، أو تركها صدقة على جميع المسلمين ؟ قل ما شئت. فانقطع ابن ابي حذرة لما اورد عليه ذلك، وعرف خطأ ما فيه.


– ذلك وصفه الذهبي بالحافظ الصادق احد الائمة، ونقل عن ابن معين القول بانه صدوق ثقة، احتج به مسلم وارباب السنن لاربعة. قال الذهبي: قد كان شريك من اوعية العلم حمل عنه اسحق الازرق تسعة آلاف حديث. ولد بخراسان أو ببخارى سنة 95 ومات بالكوفة مستهل (قع) ستة 177 أو 178 عن الكنى والالقاب للقمى ج 3 ص 205 (1) قال في تهذيب التهذيب ج 12 ص 258: أبو نعيم النخعي الصغير. اسمه عبد الرحمن بن هاني الكوفى، سبط ابراهيم النخعي تقدم. وقال في ج 6: عبد الرحمن بن هاني بن سعيد الكوفى أبو نعيم النخعي الصغير ابن بنت ابراهيم النخعي روى عن مسعر والثوري وشريك وابن جريح وعمر بن ذره.. الخ.

[ 145 ]

فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: ان تركها ميراثا لولده وازواجه فانه قبض عن تسع نسوة، وانما لعايشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه صاحبك، ولا يصيبها من البيت ذراع في ذراع، وان كان صدقة فالبلية اطم واعظم فانه لم يصب من البيت الا ما لادنى رجل من المسلمين، فدخول بيت النبي صلى الله عليه وآله بغير اذنه في حياته وبعد وفاته معصية الا لعلي بن أبي طالب عليه السلام وولده، فان الله احل لهم ما احل للنبي صلى الله عليه وآله، ثم قال لهم: انكم تعلمون ان النبي، امر بسد ابواب جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي عليه السلام، فسأله أبو بكر ان يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله فابى عليه، وغضب عمه العباس من ذلك فخطب النبي صلى الله عليه وآله خطبة وقال: ان الله تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون ان تبوءا لقومكما بمصر بيوتا، وامرهما ان لا يبيت في مسجدهما جنب، ولا يقرب فيه النساء الا موسى وهارون وذريتهما، وان عليا هو بمنزلة هارون من موسى، وذريته كذرية هارون، ولا يحل لاحد أن يقرب النساء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يبيت فيه جنب الا علي وذريته عليهم السلام. فقالوا بأجمعهم: كذلك كان. قال أبو جعفر: ذهب ربع دينك يابن أبي حذرة، وهذه منقبة لصاحبي ليس لاحد مثلها، ومثلبة لصاحبك، واما قولك: (ثاني اثنين إذ هما في الغار) اخبرني هل انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين في غير الغار ؟ قال ابن ابى حذرة: نعم. قال أبو جعفر: فقد خرج صاحبك في الغار من السكينة، وخصه بالحزن ومكان علي في هذه الليلة على فراش النبي صلى الله عليه وآله، وبذل مهجته دونه افضل من مكان صاحبك في الغار. فقال الناس: صدقت. فقال أبو جعفر: يابن أبى حذرة ذهب نصف دينك، واما قولك ثاني اثنين


[ 146 ]

الصديق من الامة، فقد اوجب الله على صاحبك الاستغفار لعلي بن أبي طالب عليه السلام في قوله عزوجل: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) إلى آخر الاية والذي ادعيت انما هو شئ سماه الناس ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق اولى به ممن سماه الناس، وقد قال علي عليه السلام على منبر البصرة: انا الصديق الاكبر، آمنت قبل أن آمن أبو بكر وصدقت قبله. قال الناس: صدقت. قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يابن أبي حذرة ذهب ثلاثة ارباع دينك. واما قولك في الصلاة بالناس، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تتم له، وانها إلى التهمة اقرب منها إلى الفضيلة، فلو كان ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله لما عزله عن تلك الصلاة بعينها، اما علمت انه لما تقدم أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فتقدم وصلى بالناس وعزله عنها، ولا تخلو هذه الصلاة من احد وجهين: اما ان تكون حيلة وقعت منه، فلما حس النبي صلى الله عليه وآله بذلك خرج مبادرا مع علته فنحاه عنها لكيلا يحتج بها بعده على امته فيكونوا في ذلك معذورين. واما ان تكون هو الذي امره بذلك، وكان ذلك مفوضا إليه كما في قصة تبليغ براءة، فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: لا يؤديها الا انت أو رجل منك، فبعث عليا في طلبه وأخذها منه، وعزله عنها وعن تبليغها، فكذلك كانت قصة الصلاة، وفي الحالتين هو مذموم لانه كشف عنه ما كان مستورا عليه، وفي ذلك دليل واضح انه لا يصلح للاستخلاف بعده، ولا هو مأمون على شئ من امر الدين. فقال الناس: صدقت. قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يابن ابى حذرة ذهب دينك كله، وفضحت حيث مدحت. فقال الناس لابي جعفر: هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي عليه السلام، فقال أبو جعفر مؤمن الطاق:


[ 147 ]

اما من القرآن وصفا فقوله عزوجل: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (1) فوجدنا عليا بهذه الصفة في القرآن في قوله عزوجل (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس – يعنى في الحرب والشغب – اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون) (2) فوقع الاجماع من الامة بان عليا عليه السلام أولى بهذا الامر من غيره، لانه لم يفر من زحف قط، كما فر غيره في غير موضع. فقال الناس: صدقت. واما الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله نصا، فقال: (اني تارك فيكم الثقلين، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وقوله صلى الله عليه وآله: (انما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق، ومن تقدمها مرق، ومن لزمها لحق) (3) فالمتمسك بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله هاد مهتد بشهادة من الرسول والمتمسك بغيرها ضال مضل. قال الناس: صدقت يا أبا جعفر: واما من حجة العقل فان الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم، ووجدنا الاجماع قد وقع على علي عليه السلام بانه كان اعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان الناس يسألونه ويحتاجون إليه، وكان علي


(1) التوبة – 120 (2) البقرة – 177 (3) ذخائر العقبى ص 20: عن ابن عباس رضى الله عنهما قال. قال رسول الله: (مثل اهل بيتى كمثل سفينة نوح من ركبها نجى، ومن تعلق بها فاز، ومن تخلف عنها غرق) اخرجه الملا في سيرته قال الحجة الاميني في ج 2 ص 301 من الغدير: وحديث السفينة رواه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 151 عن ابى ذر وصححه بلفظ: مثل اهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا. ومن تخلف عنها غرق واخرجه الخطيب في تاريخه ج 12 ص 91 عن انس، والبزار عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن جرير والطبراني عن ابى ذر وابى سعيد الخدرى. وابو نعيم وابن عبد البر، ومحب الدين الطبري. وكثيرون آخرون.

[ 148 ]

مستغنيا عنهم، هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عزوجل: (افمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يهدي الا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1) فما اتفق يوم احسن منه، ودخل في هذا الامر عالم كثير. وقد كانت لابي جعفر مؤمن الطاق مقامات مع ابى حنيفة. فمن ذلك: ما روي انه قال يوما من الايام لمؤمن الطاق: انكم تقولون بالرجعة. قال: نعم. قال أبو حنيفة: فاعطني الان الف درهم حتى اعطيك الف دينار إذا رجعنا. قال الطاقي لابي حنيفة: فاعطني كفيلا بانك ترجع انسانا ولا ترجع خنزيرا. وقال له يوم آخر: لم لم يطالب علي بن أبي طالب بحقه بعد وفات رسول الله ان كان له حق ؟ فاجابه مؤمن الطاق: خاف ان يقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة بسهم المغيرة بن شعبة. وفي رواية بسهم خالد بن الوليد (2).


(1) يونس – 35 (2) سعد بن عبادة: رئيس الخزرج، وكان صاحب راية الانصار يوم بدر وأمير المؤمنين عليه السلام صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وآله والمهاجرين. ولما قبض النبي صلى الله عليه وآله اجتمعت الانصار إليه وكان مريضا فجاءوا به إلى سقيفة بنى ساعدة وارادوا تأميره، ولما تم الامر لابي بكر امتنع عن مبايعته، فارسل إليه أبو بكر ليبايع فقال: لا والله حتى ارميكم بما في كناننى، واخضب سنان رمحي، واضرب بسيفي ما اطاعني، واقاتلكم باهل بيتى ومن تبعني، ولو اجتمع معكم الجن والانس ما بايعتكم حتى اعرض على ربى. فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد: انه قد لج وليس بمبايع لكم حتى يقتل، وليس بمفتول حتى يقتل معه اهله وطائفة من عشيرته ولا يضركم تركه، انما هو رجل واحد فركوه، وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه فكان سعد لا يصلى بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحج ولا يفيض معهم بافاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر راجع ج 3 ص 210 من تاريخ الطبري –

[ 149 ]

وكان أبو حنيفة يوما آخر يتماشى مع مؤمن الطاق في سكة من سكك الكوفة، إذا مناد ينادي من يدلني على صبي ضال ؟ فقال مؤمن الطاق: اما الصبي الضال فلم نره، وان أردت شيخا ضالا فخذ هذا ! عني به: أبا حنيفة. ولما مات الصادق عليه السلام رأى أبو حنيفة مؤمن الطاق فقال له: مات امامك ؟ قال: نعم. اما امامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. وروي: انه مر فضال بن الحسن بن فضال الكوفي (1) بأبي حنيفة وهو في جمع كثير، يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه. فقال – لصاحب كان معه -: والله لا ابرح حتى اخجل أبا حنيفة. فقال صاحبه الذي كان معه: ان أبا حنيفة ممن قد علت حاله، وظهرت حجته.


– وقال ابن أبى الحديد في ج 1 ص 540 من شرح النهج: وخرج إلى حوران فمات بها قيل: قتله الجن لانه قال قائما في الصحراء ليلا، ورووا بيتين من شعر قيل: انهما سمعا ليلة قتله ولم ير قائلهما: نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده ورميناه بسهمين فلم تخطئ فؤاده ويقول قوم: ان امير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا وهو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الامام وقد قال بعض المتأخرين في ذلك: يقولون: سعد شكت الجن قلبه ألا ربما صححت دينك بالغدر وما ذنب سعد انه بال قائما ولكن سعدا لم يبايع ابا بكر وقد صبرت من لذة العيش انفس وما صبرت عن لذة النهى والامر (1) في رجال المامقانى ج 2 ص 373 حكى عن المولى الوحيد انه قال: يظهر من معارضته مع أبى حنيفة كونه من فضلاء الشيعة واحتمل الحائري كونه اخا على بن الحسن بن فضال.

[ 150 ]

قال: صه ! هل رأيت حجة ضال علت علي حجة مؤمن ؟ ! ثم دنا منه فسلم عليه، فرد ورد القوم السلام بأجمعهم. فقال: يا أبا حنيفة ان اخا لي يقول: ان خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي طالب عليه السلام، وأنا أقول أبو بكر خير الناس وبعده عمر. فما تقول انت رحمك الله ؟ فاطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وآله كرما وفخرا، أما علمت انهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة تريد اوضح من هذا ؟ فقال له فضال: اني قد قلت ذلك لاخي فقال: والله لئن كان الموضع لرسول الله صلى الله عليه وآله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما حق فيه، وان كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله صلى الله عليه وآله لقد أساءا وما احسنا، إذ رجعا في هبتهما، ونسيا عهدهما. فاطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنهما نظرا في حق عايشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما. فقال له فضال: قد قلت له ذلك فقال: انت تعلم ان النبي مات عن تسع نساء، ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة بنته تمنع الميراث ؟ ! فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فانه رافضي خبيث. حكي عن ابى الهذيل العلاف (1) قال:


(1) أبو الهذيل العلاف محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البصري، شيخ البصريين في الاعتزال ومن اكبر علمائهم، وصاحب المقالات في مذهبهم، كان معاصرا لابي الحسن الميثمى المتكلم الامامي حكى انه سأل أبو الحسن الميثمى ابا الهذيل فقال: ألست تعلم ان ابليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر كله ؟ قال: بلى. قال: فيجوزان يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه، وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه ؟ قال: لا.

[ 151 ]

دخلت الرقة فذكر لي ان بديرزكن رجلا مجنونا حسن الكلام، فأتيته فإذا انا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرح رأسه ولحيته، فسلمت عليه فرد السلام وقال: ممن يكون الرجل ؟ قال: قلت: من أهل العراق. قال: نعم. اهل الظرف والادب. قال: من أيها أنت ؟ قلت: من أهل البصرة. قال: اهل التجارب والعلم. قال: فمن أيهم أنت ؟ قلت: أبو الهذيل العلاف. قال: المتكلم ؟ قلت: بلى. فوثب عن وسادته واجلسني عليها ثم قال – بعد كلام جرى بيننا -: ما تقولون في الامامة ؟ قلت: اي الامامة تريد ؟ قال: من تقدمون بعد النبي صلى الله عليه وآله ؟ قلت: من قدم رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: ومن هو ؟


– فقال له أبو الحسن: قد ثبت ان ابليس يعلم الشر كله والخير كله قال أبو الهذيل: اجل. قال: فاخبرني عن امامك الذى تأتم به بعد رسول الله (ص) هل يعلم الخير كله والشر كله ؟ قال. لا. قال له: فابليس اعلم من امامك إذا فانقطع أبو الهذيل. توفى أبو الهذيل بسر من رأى سنة 277. الكنى والالقاب ج 1 ص 170

[ 152 ]

قلت: أبا بكر. قال لي: يا أبا الهذيل ولم قدمتم أبا بكر ؟ قال: قلت: لان النبي صلى الله عليه وآله قال: (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) وتراضي الناس به جميعا. قال: يا أبا الهذيل هاهنا وقعت. اما قولك ان النبي صلى الله عليه وآله قال: (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) فانى اوجدك (1). ان ابا بكر صعد المنبر قال: (وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم) فان كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله، وان كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول الله لا يصعده الكاذبون. واما قولك: ان الناس تراضوا به، فان اكثر الانصار قالوا منا أمير ومنكم أمير، واما المهاجرون فان الزبير بن العوام قال: لا ابايع الا عليا، فأمر به فكسر سيفه، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال: يا ابا الحسن لو شئت لاملانها خيلا ورجالا يعني: (المدينة) وخرج سلمان فقال بالفارسي: (كرديد ونكرديد، وندانيد كه جه كرديد) (2) والمقداد وأبو ذر، فهؤلاء المهاجرون والانصار. اخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله: ان لي شيطانا يعتريني، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني، لا اقع في اشعاركم وابشاركم (3)


(1) في ج 2 من العقد الفريد ص 347 قال: وخطب ايضا – يعنى: ابا بكر – حمد الله واثنى عليه ثم قال: ايها الناس انى قد وليت عليكم ولست بخيركم فان رأيتموني على حق فأعينوني، وان رأيتموني على باطل فسددوني. الخ. (2) أي: فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون الذى فعلتم. (3) روى الطبري في ج 3 ص 210 من تاريخه مرفوعا عن عاصم بن عدى قال: نادى منادى أبى بكر.. إلى ان قال: وقام في الناس فحمد الله واثنى عليه وقال: (يا ايها الناس انما انا مثلكم، وانى لا ادرى لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله (ص) يطيق، ان الله اصطفى محمدا على العالمين، وعصمه من الافات، وانما انا –

[ 153 ]

فهو يخبركم على المنبر اني مجنون، وكيف يحل لكم ان تولوا مجنونا ؟ ! واخبرني يا أبا الهذيل عن قيام عمر وقوله: وددت اني شعرة في صدر أبي بكر، ثم قام بعدها بجمعة فقال: (ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه) (1) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله. فاخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم ان النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف، وان ابا بكر استخلف عمر، وان عمر لم يستخلف، فارى أمركم بينكم متناقضا. واخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صيرها شورى بين ستة، وزعم: انهم من أهل الجنة فقال: (ان خالف اثنان لاربعة فاقتلوا الاثنين، وان خالف ثلاثة لثلاثة، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف) فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنة ؟ ! ! ! واخبرني يا أبا الهذيل عن عمر لما طعن دخل عليه عبد الله بن عباس قال: فرأيته جزعا فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا الجزع ؟ قال: يابن عباس ما جزعي لاجلي ولكن جزعي لهذا الامر من يليه بعدي. قال: قلت: ولها طلحة بن عبيدالله. قال: رجل له حدة، كان النبي صلى الله عليه وآله يعرفه فلا اولي أمر المسلمين حديدا. –


متبع ولست مبتدع، فان استقمت فتابعوني، واززغت فقوموني، وان رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وليس احد من هذه الامة يطلبه بمظلمة، ضربة سوط فما دونها، ألا وان لى شيطانا يعتبرني، فإذا أتانى فاجتنبوني، لا اوثر في اشعاركم وابشاركم… الخ) (1) ذكر الطبري في تاريخه ج 3 ص 200 ان عمر قال – وهو على المنبر -: اريد ان اقول مقالة قد قدر ان اقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها إلى ان قال: فلا يغرن امرء ان يقول: ان بيعة أبى بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك غير ان الله وقى شرها… الخ

[ 154 ]

قال: قلت: ولها زبير بن العوام. قال: رجل بخيل، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل، فلا اولي امور المسلمين بخيلا. قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقاص. قال: رجل صاحب فرس وقوس، وليس من احلاس الخلافة (1) قال: قلت: ولها عبد الرحمن بن عوف. قال: رجل ليس يحسن ان يكفي عياله. قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر. فاستوى جالسا ثم قال: يابن عباس ! ما الله اردت بهذا اولي رجلا لم يحسن ان يطلق امرأته ؟ ! قال: قلت: ولها عثمان بن عفان. قال: والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين، ويوشك ان يقتلوه. قالها ثلاثا. قال: ثم سكت لما اعرف من مغائرته لامير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فقال: يابن عباس اذكر صاحبك. قال: قلت: فولها عليا. قال: فوالله ما جزعي الا لما أخذنا الحق من أربابه، والله لئن وليته ليحملنهم على المحجة العظمى، وان يطيعوه يدخلهم الجنة، فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين الستة فويل له من ربه ! ! ! قال أبو الهذيل: فوالله بينما هو يكلمني إذ اختلط، وذهب عقله. فاخبرت المأمون بقصته، وكان من قصته ان ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا، فبعث إليه المأمون، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به، فرد عليه ماله وضياعه


(1) الاحلاس: جمع حلس يقال: فلان حلس بيته: أي ملازم له تشبيها له بحلس البعير وهو: كساء رقيق يكون تحت البرذعة والمراد ليس من اهلها

[ 155 ]

وصيره نديما، فكان المأمون يتشيع لذلك، والحمد لله على كل حال. وقد جائت الاثار عن الائمة الابرار عليهم السلام: بفضل من نصب نفسه من علماء شيعتهم لمنع أهل البدعة والضلال عن التسلط على ضعفاء الشيعة ومساكينهم، وقمعهم بحسب تمكنهم وطاقتهم، فمن ذلك ما روي: عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام، انه قال: قال جعفر بن محمد عليه السلام: علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي ابليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن ان يتسلط عليهم ابليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان افضل ممن جاهد الروم والترك والخزر الف الف مرة، لانه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن ابدانهم. احتجاج أبي ابراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام في اشياء شتى على المخالفين. الحسن بن عبد الرحمن الحماني (1) قال: قلت لابي ابراهيم عليه السلام: ان هشام بن الحكم زعم: ان الله تعالى جسم ليس كمثله شئ، عالم، سميع، بصير قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شئ منها مخلوقا. فقال: قاتله الله. اما علم ان الجسم محدود ؟ ! والكلام غير المتكلم ؟ معاذ الله وابرء إلى الله من هذا القول. لا جسم، ولا صورة، ولا تحديد، وكل شئ سواه مخلوق، وانما تكون الاشياء بارادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس، ولا نطق بلسان.


(1) ذكره الاردبيلى في جامع الرواة ج 1 ص 206 فقال: محمد بن اسماعيل عن على بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمان الحمانى عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام في الكافي باب النهى عن الجسم والصورة.

[ 156 ]

وعن يعقوب بن جعفر (1) عن ابي ابراهيم عليه السلام انه قال: لا اقول انه قائم فازيله عن مكان، ولا احده بمكان يكون فيه، ولا احده ان يتحرك في شئ من الاركان والجوارح، ولا احده بلفظ شق فم، ولكن كما قال عزوجل: (انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون) (2) بمشيته من غير تردد في نفس صمدا فردا لم يحتج إلى شريك يدبر له ملكه، ولا يفتح له ابواب علمه. وعن يعقوب بن جعفر الجعفري ايضا، عن أبي ابراهيم موسى عليه السلام قال: ذكر عنده قوم زعموا: ان الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال: ان الله لا ينزل، ولا يحتاج ان ينزل، انما منظره في القرب والبعد سواء لم يبعد منه بعيد، ولا يقرب منه قريب، ولم يحتج إلى شئ بل يحتاج إليه كل شئ، وهو ذو الطول لا إله الا هو العزيز الحكيم ! اما قول الواصفين: انه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك يحتاج إلى من يحركه ويتحرك به (3) فمن ظن بالله الظنون فقد هلك، فاحذروا في صفاته من ان تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود، فان الله جل وعز عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين.


(1) ذكره الاردبيلى في جامع الرواة ج 2 ص 346 ونقل عن الكافي والتهذيب عدة روايات عنه عن الصادق والكاظم عليهم السلام وورد اسمه فيها مرة يعقوب بن جعفر، واخرى يعقوب بن جعفر الجعفري وثالثة يعقوب بن جعفر بن ابراهيم الجعفري (2) راجع موضوع نفى الحركة عنه تعالى في هامش الجزء الاول من هذا الكتاب ص 300. (3) لابد لكل حركة من ان تستلزم اربعة امور: لمحرك، والمتحرك، وما منه الحركة، وما إليه الحركة. وقد مر في الجزء الاول من هذا الكتاب ص 300 و 31 تفصيل الحديث في نفى الحركة عنه تعالى والاستدلال على بطلان نسبتها إليه وتنزهه عنها فراجع.

[ 157 ]

وعن الحسن بن راشد (1) قال: سئل أبو الحسن موسى عليه السلام عن معنى قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (2) فقال: استولى على مادق وجل. وعن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: سأل رجل يقال له عبد الغفار السمى أبا ابراهيم موسى بن جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: (ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) (3) قال: أرى هاهنا خروجا من حجب، وتدليا إلى الارض، وأرى محمدا رأى ربه بقلبه، ونسب إلى بصره، فكيف هذا ؟ فقال أبو ابراهيم: دنى فتدلى، فانه لم يزل عن موضع ولم يتدل ببدن. فقال عبد الغفار: اصفه بما وصف به نفسه حيث قال: (دنى فتدلى) فلم يتدل عن مجلسه الا وقد زال عنه، ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه. فقال أبو ابراهيم عليه السلام: ان هذه لغة في قريش، إذا اراد رجل منهم ان يقول: قد سمعت يقول: قد تدليت، وانما التدلي: الفهم. وعن داود بن قبيصة (4) قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: سئل ابي عليه السلام هل منع الله عما امر به، وهل نهى عما اراد، وهل اعان على ما لم يرد ؟ فقال عليه السلام: اما ما سألت: (هل منع الله عما أمر به ؟) فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان قد منع ابليس عن السجود لادم، ولو منع ابليس لعذره ولم يلعنه.


(1) عده الشيخ في رجاله ص 67. من اصحاب الصادق عليه السلام فقال: الحسن بن راشد مولى بنى العباس كوفى، وفي اصحاب الكاظم (ع) ص 346 ذكره ايضا باسم الحسين بن راشد وقال: بغدادي (2) طه – 5 (3) النجم – 9 (4) ذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 221 باسم: (دارم) فقال: بالراء بعد الالف ابن (قبيصة) بفتح القاف وكسر الباء المنقطة تحتها نقطة وبعدها ياء ساكنة وصاد مهملة ابن نهشل أبو الحسن السائح يروى عن الرضا عليه السلام. قال ابن الغضايرى لا يؤنس بحديثه ولا يوثق به.

[ 158 ]

واما ما سألت: (هل نهى عما اراد ؟) فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى آدم عن اكل الشجرة أراد منه اكلها، ولو اراد منه اكلها لما نادى عليه صبيان الكتاتيب: (وعصى آدم ربه فغوى) والله تعالى لا يجوز عليه ان يأمر بشئ ويريد غيره. واما ما سألت عنه من قولك: (هل أعان على ما لم يرد ؟) ولا يجوز ذلك وجل الله تعالى عن ان يعين على قتل الانبياء وتكذيبهم، وقتل الحسين بن علي عليه السلام والفضلاء من ولده، وكيف يعين على ما لم يرد وقد أعد جهنم لمخالفيه، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته، وارتكابهم لمخالفته ؟ ! ولو جاز ان يعين على ما لم يرد لكان أعان فرعون على كفره وادعائه انه رب العالمين، افترى اراد الله من فرعون ان يدعي الربوبية. يستتاب قائل هذا القول، فان تاب من كذبه على الله والاضربت عنقه. وروي عن الحسن بن علي بن محمد العسكري عليه السلام: ان ابا الحسن موسى ابن جعفر عليه السلام قال: ان الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صايرون فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الاخذ به، وما نهاهم عنه من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين الا بأذنه، وما جبر الله احدا من خلقه على معصيته، بل اختبرهم بالبلوى وكما قال: (ليبلوكم ايكم احسن عملا) (1). قوله: ولا يكونون آخذين ولا تاركين الا باذنه، اي: بتخليته وعلمه. وروي: انه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له: يا أبا حنيفة ان هاهنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد فاذهب بنا إليه نقتبس منه علما، فلما اتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبة له، فالتفت أبو حنيفة فقال: يا ابن مسلم من هذا ؟


(1) هود – 7

[ 159 ]

قال: موسى ابنه. قال: والله اخجله بين يدي شيعته قال له: لن تقدر على ذلك. قال: والله لا فعلنه، ثم التفت إلى موسى فقال: يا غلام اين يضع الغريب في بلدتكم هذه ؟ قال: يتوارى خلف الجدار، ويتوقى اعين الجار، وشطوط الانهار، ومسقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حيث شاء. ثم قال: يا غلام ممن المعصية ؟ قال: يا شيخ لا تخلو من ثلاث: اما ان تكون من الله وليس من العبد شئ، فليس للحكيم ان يأخذ عبده بما لم يفعله. واما ان تكون من العبد ومن الله، والله اقوى الشريكين فليس للشريك الاكبر ان يأخذ الشريك الاصغر بذنبه. واما ان تكون من العبد وليس من الله شئ، فان شاء عفى وان شاء عاقب. قال: فاصابت ابا حنيفة سكتة كانما القم فوه الحجر. قال: فقلت له: ألم اقل لك لا تتعرض لاولاد رسول الله. وفي ذلك يقول الشاعر: لم تخل افعالنا اللاتي نذم بها احدى ثلاث معان حين نأتيها اما تفرد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنا حين ننشيها أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها أو لم يكن لالهى في جنايتها ذنب فما الذنب الا ذنب جانيها روي عن علي بن يقطين (1) انه قال: امر أبو جعفر الدوانيقي يقطين ان


(1) قال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 91 على بن يقطين بن موسى البغدادي، سكن بغداد وهو كوفى الاصل روى عن أبى عبد الله عليه السلام حديثا واحدا، وروى عن أبى الحسن موسى عليه السلام فاكثر، وكان ثقة جليل القدر –

[ 160 ]

يحفر له بئرا بقصر العبادي، فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبو جعفر ولم يستنبط منها الماء، واخبر المهدي بذلك فقال له: احفر ابدا حتى يستنبط الماء ولو انفقت عليها جميع ما في بيت المال. قال: فوجه يقطين أخاه أبا موسى في حفرها، فلم يزل يحفر حتى ثقبوا ثقبا في أسفل الارض فخرجت منه الريح (قال): فهالهم ذلك، فاخبروا به أبا موسى. فقال: انزلوني (قال): فانزل وكان رأس البئر أربعين ذراعا في أربعين ذراع، فاجلس في شق محمل ودلي في البئر، فلما صار في قعرها نظر إلى هول، وسمع دوي الريح في أسفل ذلك، فأمرهم ان يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب العظيم، ثم دلي فيه رجلا في شق محمل فقال: ايتوني بخبر هذا ما هو ؟ ] – له منزلة عظيمة عند ابى الحسن عليه السلام عظيم المكان في هذه الطائفة روى انه عليه السلام ضمن له الجنة وان لا تمسه النار ابدا. وكان وزيرا لهارون فاستأذن الامام عليه السلام بترك العمل معه فلم يأذن له، وقال له: عسى ان يجبر الله بك كسرا، ويكسر بك نائرة المخالفين من اوليائه، يا على كفارة اعمالكم الاحسان إلى اخوانكم. وروى انه لما قدم أبو ابراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام العراق، قال على بن يقطين: اما ترى حالى وما انا فيه ؟ فقال عليه السلام يا على ان لله تعالى اولياء مع اولياء الظلمة ليدفع بهم عن اوليائه وانت منهم يا على وروى انه قال أبو الحسن عليه السلام لعلى ابن يقطين: اضمى لى خصلة اضمن لك ثلاثا فقال على: جعلت فداك وما الخصلة التى اضمنها لك ؟ وما الثلاث اللواتى تضمنهن لى ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: الثلاث اللواتى اضمنهن لك ان لا يصيبك حر الحديد ابدا، بقتل، ولا فاقة، ولا سجن حبس فقال على: فما الخصلة التى اضمنها لك ؟ فقال يا على واما الخصلة التى تضمن لى ان لا يأتيك ولى ابدا الا اكرمته فضمن له على الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث وروى انه عليه السلام قال: انى استوهبت على بن يقطين من ربى عزوجل البارحة فوهبه لى ان على بن يقطين بذل ماله ومودته فكان لذلك منا مستوجبا. راجع رجال الكشى ص 367 والجزء الثاني من سفينة البحار ص 252.


[ 161 ]

قال: فنزلا في شق محمل فمكثا مليا ثم حركا الحبل فاصعدا، فقال لهما: ما رأيتما ؟ قالا: امرا عظيما. رجالا، ونساءا، وبيوتا، وآنية، ومتاعا، كله ممسوخ من حجارة فاما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم، فمن بين قاعد ومضطجع ومتكئ فلما مسسناهم إذا ثيابهم تنفشا شبه الهباء، ومنازل قائمة، قال: فكتب بذلك أبو موسى إلى المهدي، فكتب المهدي إلى المدينة إلى موسى بن جعفر، يسأله: ان يقدم عليه فقدم عليه، فاخبره فبكى بكاءا شديدا، وقال: يا امير المؤمنين هؤلاء بقية قوم عاد، غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم، هؤلاء أصحاب الاحقاف. قال: فقال له المهدي: يا ابا الحسن وما الاحقاف ؟ قال: الرمل. وحدث. أبو احمد هاني بن محمد العبدي (1) قال: حدثني أبو محمد رفعه إلى موسى بن جعفر عليه السلام قال: لما ادخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتان يجئ اليهما الخراج ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين اعيذك بالله ان تبوء باثمي واثمك، فتقبل الباطل من اعدائنا علينا، فقد علمت بانه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، اما علم ذلك عندك، فان رأيت بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله ان تأذن لي احدثك بحديث اخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال: قد أذنت لك. فقلت: اخبرني أي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال: (ان الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت) فناولني يدك جعلني الله فداك. قال: ادن مني ! فدنوت منه، فاخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا، ثم تركني وقال: (اجلس يا موسى ! فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه، فرجعت إلى نفسي. فقال: صدقت وصدق جدك صلى الله عليه وآله، لقد


(1) في رجال المامقانى ج 3 ص 290 نقل الوحيد رواية الصدوق عنه مترضيا عليه وهو دليل على وثاقته.

[ 162 ]

تحرك دمي واضطربت عروقي. حتى غلبت علي الرقة، وفاضت عيناي. وانا اريد ان اسألك عن اشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم اسأل عنها احدا، فان انت اجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني انك لم تكذب قط فاصدقني فيما اسألك ما في قلبي. فقلت: ما كان علمه عندي فاني مخبرك به ان انت أمنتني. قال: لك الامان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني فاطمة، قلت ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء. قال: اخبرني لم فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، انا بنو عباس وانتم ولد أبي طالب، وهما عما رسول الله صلى الله عليه وآله وقرابتهما منه سواء ؟ فقلت: نحن اقرب. قال: وكيف ذاك ؟ قلت: لان عبد الله وأبا طالب لاب وام، وابوكم العباس ليس هو من ام عبد الله ولا من ام أبي طالب. قال: فلم ادعيتم انكم ورثتم النبي صلى الله عليه وآله، والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه حي ؟ فقلت له: ان رأى امير المؤمنين ان يعفني عن هذه المسألة، ويسألني عن كل باب سواه يريده. فقال: لا. أو تجيب. فقلت: فامني. قال: امنتك قبل الكلام. فقلت: ان في قول علي بن أبي طالب عليه السلام: انه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو انثى لاحد سهم، الا الابوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعلم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة الا ان تيما وعديا وبني امية قالوا: (العلم والد) رأيا منهم بلا حقيقة، ولا اثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن


[ 163 ]

قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي وقد حكم به، وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة، وقضى به، فانهي إلى أمير المؤمنين فامر باحضاره واحضار من يقول بخلاف قوله، منهم: سفيان الثوري، وابراهيم المازني، والفضيل بن عياض، فشهدوا انه قول علي عليه السلام في هذه المسألة. فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من اهل الحجاز: لم لا تفتون وقد قضى نوح بن دراج ؟ فقالوا: جسر وجبنا. وقد امضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (اقضاكم علي) وكذلك عمر بن الخطاب قال: (علي اقضانا) وهو اسم جامع، لان جميع ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله اصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء. قال: زدني يا موسى ! قلت: المجالس بالامانات وخاصة مجلسك. فقال: لا بأس به. فقلت: ان النبي لم يورث من لم يهاجر، ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر. فقال: ما حجتك فيه. قلت: قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) (1) وان عمي العباس لم يهاجر. فقال لي: اني أسألك يا موسى هل افتيت بذلك احدا من اعدائنا، أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ ؟ فقلت: اللهم لا. وما سألني عنها الا أمير المؤمنين. ثم قال لي: جوزتم للعامة والخاصة ان ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقولوا لكم: يا بني رسول الله، وانتم بنو علي، وانما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة انما هي وعاء، والنبي جدكم من قبل امكم. (1) الانفال – 72


[ 164 ]

فقلت: يا أمير المؤمنين لو ان النبي نشر فخطب اليك كريمتك، هل كنت تجيبه ؟ قال: سبحان الله ! ولم لا اجبه، بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك ؟ فقلت له: لكنه لا يخطب الي ولا ازوجه. فقال: ولم ؟ فقلت: لانه ولدني ولم يلدك. فقال: احسنت يا موسى ! ثم قال: كيف قلتم انا ذرية النبي والنبي لم يعقب، وانما العقب الذكر لا الانثى، وانتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقبا له. فقلت: اسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه، الا اعفيتني عن هذه المسألة. فقال: لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي ! وانت يا موسى يعسوبهم، وامام زمانهم، كذا انهي الي، ولست اعفيك في كل ما اسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وانتم تدعون معشر ولد علي انه لا يسقط عنكم منه شئ الف ولا واو الا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزوجل: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. فقلت: تأذن لي في الجواب ؟ قال: هات. فقلت: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن ذريته داود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال: ليس لعيسى اب. فقلت: انما الحقناه بذراري الانبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك الحقنا بذراري النبي صلى الله عليه وآله من قبل امنا فاطمة، ازيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال: هات


(1) الانعام – 38. (2) الانعام – 84 و 85

[ 165 ]

قلت: قول الله عزوجل: (فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع ابنائنا وابنائكم ونسائنا ونسائكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (1) ولم يدع احد انه ادخله النبي صلى الله عليه وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى الا علي بن أبي طالب عليه السلام وفاطمة، والحسن والحسين ابنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة، وانفسنا علي بن ابي طالب عليه السلام. على ان العلماء قد اجمعوا على ان جبرئيل قال يوم احد: (يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي) قال: (لانه مني وانا منه). فقال جبرئيل: (وانا منكما يا رسول الله) (2) ثم قال: لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي، فكان كما مدح الله عزوجل به خليله عليه السلام إذ يقول: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم) (3) انا نفتخر بقول جبرئيل انه منا فقال: احسنت يا موسى ! ارفع الينا حوائجك. فقلت له: ان أول حاجة لي ان تأذن لابن عمك ان يرجع إلى حرم جده وإلى عياله. فقال: ننظر انشاء الله. وروي ان المأمون قال لقومه: أتدرون من علمني التشيع ؟ فقال القوم: لا والله ما نعلم ذلك. قال: علمنيه الرشيد ! قيل له: وكيف ذلك، والرشيد يقتل أهل البيت ؟ ! قال: كان الرشيد يقتلهم على الملك، لان الملك عقيم، ثم قال: انه دخل موسى بن جعفر عليهما السلام على الرشيد يوما فقام إليه، واستقبله واجلسه في الصدر وقعد بين يديه، وجرى بينهما اشياء، ثم قال موسى بن جعفر عليه السلام لابي:


(1) آل عمران – 61. (2) راجع هامش الجزء الاول من هذا الكتاب ص 167. (3) الانبياء – 60.

[ 166 ]

يا امير المؤمنين ان الله عزوجل قد فرض على الولاة عهده: ان ينعشوا فقراء هذه الامة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني، وانت أولى من يفعل ذلك. فقال: افعل يا أبا الحسن. ثم قام فقام الرشيد لقيامه، وقبل بين عينيه ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الامين والمؤتمن فقال: يا عبد الله ! ويا محمد ! ويا ابراهيم ! امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه إلى منزله، فاقبل الي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة. وقال لي: (إذا ملكت هذا الامر فاحسن إلى ولدي). ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي اعظمته واجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، واقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟ قال: هذا امام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟ فقال: انا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر امام حق، والله يا بني انه لاحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو نازعتني في هذا الامر لاخذت الذي فيه عيناك، لان الملك عقيم. فلما اراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، ثم اقبل على الفضل فقال له: اذهب إلى موسى بن جعفر وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت. فقمت في وجهه فقلت: يا أمير المؤمنين ! تعطي ابناء المهاجرين والانصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه: خمسة آلاف دينار إلى


[ 167 ]

ما دونها. وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته واجللته مائتي دينار، واخس عطية اعطيتها احدا من الناس ؟ فقال: اسكت لا ام لك ! فاني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت امنه ان يضرب وجهي غدا بمائة الف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا واهل بيته اسلم لي ولكم من بسط أيديهم واغنائهم. وقيل: ولما دخل هارون الرشيد المدينة، توجه لزيارة النبي صلى الله عليه وآله ومعه الناس، فقدم إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله فقال ! السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن العم، مفتخرا بذلك على غيره. فتقدم أبو الحسن موسى بن جعفر إلى القبر فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة. فتغير وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه. وروي: عن ابي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام انه قال: لما سمعت هذا البيت – وهو لمروان بن ابي حفصة -: انى يكون ولا يكون ولم يكن لبني البنات وراثة الاعمام دار في ذلك ليلتي، فنمت تلك الليلة فسمعت هاتفا في منامي يقول: انى يكون ولا يكون ولم يكن للمشركين دعائم الاسلام لبني البنات نصيبهم من جدهم والعم متروك بغير سهام ما للطليق وللتراث وانما سجد الطليق مخافة الصمصام (1)


(1) يريد بالطليق: العباس بن عبد المطلب عم الرسول، حيث اسر يوم بدر اسره أبو يسر كعب بن عمرو الانصاري، وكان رجلا صغير الجثة، وكان العباس رجلا عظيما قويا، فقال النبي صلى الله عليه وآله لابي اليسر كيف اسرته ؟ قال: اعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده فقال صلى الله عليه وآله: لقد اعانك عليه ملك كريم ولما امسى القوم والاسارى محبوسون في الوثاق، وفيهم العباس، بات رسول الله (ص) تلك الليلة ساهرا. فقال له بعض اصحابه: ما يسهرك يا رسول الله (ص) ؟ –

[ 168 ]

وبقي ابن نثلة واقفا متلددا فيه ويمنعه ذوو الارحام ان ابن فاطمة المنوه باسمه حاز التراث سوى بني الاعمام وسأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى عليه السلام – بمحضر من الرشيد وهم بمكة – فقال له: أيجوز للمحرم ان يظلل عليه محمله ؟ فقال له موسى عليه السلام: لا يجوز له ذلك مع الاختيار. فقال له محمد بن الحسن: افيجوز ان يمشي تحت الظلال مختارا. فقال له: نعم. فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك. فقال له أبو الحسن موسى عليه السلام: اتعجب من سنة النبي وتستهزئ بها ؟ ان رسول الله صلى الله عليه وآله كشف ظلاله في احرامه، ومشى تحت الظلال وهو محرم. ان احكام الله تعالى يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل عن السبيل. فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا. وقد جرى لابي يوسف مع ابي الحسن موسى صلوات الله عليه بمحضر المهدي ما يقرب من ذلك. وهو: ان موسى عليه السلام سأل ابا يوسف عن مسألة ليس فيها عنده شئ. فقال لابي الحسن موسى عليه السلام: اني اريد أن أسألك عن شئ. قال: هات. فقال: ما تقول في التظليل للمحرم ؟ قال: لا يصلح. قال: فيضرب الخبأ في الارض فيدخل فيه ؟ قال: نعم.


– قال: سمعت انين العباس فقام رجل من القوم فارخى من وثاقه شيئا. فقال رسول الله (ص) ما بالى لا اسمع انين العباس ؟ فقال رجل من القوم: ارخيت من وثاقه شيئا قال: افعل ذلك بالاسارى كلهم راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 288 والدرجات الرفيعة للسيد على خان المدنى ص 80

[ 169 ]

قال: فما فرق بين هذا وذلك. قال أبو الحسن موسى عليه السلام: ما تقول في (الطامث) تقضي الصلاة ؟ قال: لا. قال: تقضي الصوم ؟ قال: نعم. قال: ولم ؟ قال: ان هذا كذا جاء. قال أبو الحسن عليه السلام: وكذلك هذا. قال: المهدي لابي يوسف: ما أراك صنعت شيئا ! قال: يا أمير المؤمنين رماني بحجة وعن ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر عليه السلام – وهو يرتعد بعد ما خلا به -: يابن رسول الله صلى الله عليه وآله ما اخوفني ان يكون فلان بن فلان ينافقك في اظهاره اعتقاد وصيتك وامامتك. فقال موسى عليه السلام: وكيف ذاك ؟ قال: لاني حضرت معه اليوم في مجلس فلان وكان معه رجل من كبار اهل بغداد، فقال له صاحب المجلس: انت تزعم: ان صاحبك موسى بن جعفر امام دون هذا الخليفة القاعد على سريره ؟ قال له صاحبك هذا: ما اقول هذا، بل ازعم: ان موسى بن جعفر غير امام، وان لم اكن اعتقد انه غير امام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والناس اجمعين. فقال له صاحب المجلس: جزاك الله خيرا، ولعن من وشى بك الي فقال له موسى بن جعفر عليه السلام: ليس كما ظننت، ولكن صاحبك افقه


[ 170 ]

منك. انما قال: موسى غير امام، اي ان الذي هو غير امام فموسى غيره، فهو إذا امام، فانما اثبت بقوله هذا امامتي ونفى امامة غيري (1) يا عبد الله متى يزول عنك هذا الذي ظننته باخيك هذا من النفاق ؟ تب إلى الله. ففهم الرجل ما قاله واغتم، ثم قال: يابن رسول الله مالي مال فارضيه به، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله، من تعبدي وصلاني عليكم اهل البيت، ومن لعنتي لاعدائكم. قال موسى عليه السلام: الان خرجت من النار. وروي ايضا عنه عليه السلام: انه قال: فقيه واحد ينقذ يتيما من ايتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، اشد على ابليس من الف عابد، لان العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وامائه، لينقذهم من يد ابليس ومردته، ولذلك هو افضل عند الله من الف عابد، والف الف عابد. وروي انه عليه السلام كان حسن الصوت، وحسن القرائة، وقال يوما من الايام: ان علي بن الحسين عليه السلام كان يقرء القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن صوته، وان الامام لو اظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس، قيل له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن ؟ فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحمل من خلفه ما يطيقون. احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) في التوحيد والعدل وغيرهما على المخالف والمؤالف والاجانب والاقارب. دخل عليه رجل فقال له: يابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم ؟


(1) توضيح ذلك: انه اراد: ابا ازعم: ان امامك هذا القاعد على سريره هو امام ضلال، وموسى بن جعفر عليه السلام هو امام من غير هذا النوع.

[ 171 ]

فقال: انك لم تكن ثم كنت، وقد علمت انك لم تكون نفسك، ولا كونك من هو مثلك. وعن محمد بن عبد الله الخراساني (1) خادم الرضا عليه السلام قال: دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه السلام وعنده جماعة. فقال له أبو الحسن: أرأيت ان كان القول قولكم – وليس هو كما تقولون – السنا واياكم شرعا سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا واقررنا ؟ فسكت. فقال أبو الحسن: وان لم يكن القول قولنا، وهو كما نقول، ألستم قد هلكتم ونجونا. قال الزنديق: رحمك الله فأوجدني كيف هو، واين هو ؟ قال: ويلك ! ان الذي ذهبت إليه غلط، وهو أين الاين، وكان ولا اين، وهو كيف الكيف، وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية، ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة، ولا يقاس بشئ. قال الرجل: فاذن انه لا شئ، إذ لم يدرك بحاسة من الحواس. فقال أبو الحسن: ويلك ! لما عجزت حواسك عن ادراكه انكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه ايقنا انه ربنا، وانه شئ بخلاف الاشياء. قال الرجل: فاخبرني متى كان ؟ قال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني متى لم يكن، فاخبرك متى كان ؟ ! قال الرجل: فما الدليل عليه ؟ قال أبو الحسن: اني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول، ودفع المكاره عنه، وجر المنفعة إليه، علمت ان لهذا البنيان بانيا فاقررت به، مع ما ارى من دوران الفلك بقدرته. وانشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الايات العجيبات


(1) محمد بن عبد الله الخراساني خادم لرضا عليه السلام: مجهول الحال لم يذكر في كتب الرجال.

[ 172 ]

المتقنات، علمت ان لهذا مقدرا ومنشئا. قال الرجل: فلم لا تدركه حاسة البصر ؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الابصار، منهم ومن غيرهم، ثم هو اجل من ان يدركه بصر، أو يحيط به وهم، أو يضبطه عقل. قال: فحده لي ! قال: لاحد له. قال: ولم ؟ قال: لان كل محدود متناه، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متناقص، ولا متجزي، ولا متوهم. قال الرجل: فاخبرني عن قولكم: انه لطيف، وسميع، وبصير، وعليم وحكيم، أيكون السميع الا بالاذن، والبصير الا بالعين، واللطيف الا بعمل اليدين والحكيم الا بالصنعة ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: ان اللطيف منا على حد ايجاد الصنعة، أو ما رأيت ان الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه ؟ فيقال: ما الطف فلانا. فكيف لا يقال للخالق الجليل: (لطيف) إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا، وركب في الحيوان منه ارواحها، وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة، ولا يشبه بعضه بعضا، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته. ثم نظر إلى الاشجار وحملها اطايبها، المأكولة منها وغير المأكولة، فقلنا عند ذلك ان خالقنا (لطيف) لا كلطف خلقه في صنعتهم، وقلنا انه (سميع) لانه لا يخفى عليه اصوات خلقه، ما بين العرش إلى الثرى، من الذرة إلى ما اكبر منها، في برها وبحرها، ولا يشتبه عليه لغاتها، فقلنا عند ذلك انه سميع لا باذن، وقلنا: انه (بصير) لا ببصر، لانه يرى اثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية، ويرى مضارها ومنافعها، أثر و


[ 173 ]

سفادها، وفراخها ونسلها، فقلنا عند ذلك: انه (بصير) لا كبصر خلقه قال: فما برح حتى اسلم. وفيه كلام غير هذا. وروي عنه عليه السلام في خبر آخر: انه قال: انما يسمى الله تعالى (بالعالم) لغير علم حادث، علم به الاشياء، واستعان به على حفظ ما يستقبل من امره، والرؤية فيما يخلق، وانما سمي العالم من الخلق: (عالما) لعلم حادث، إذ كان قبله جاهلا، وربما فارقهم العلم بالاشياء فصار إلى الجهل وانما سمي الله: (عالما) لانه لا يجهل شيئا، فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم، واختلف المعنى، وهو الله تعالى (قائم). واما القائم فليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد، كما قامت الاشياء، ولكنه اخبر انه قائم يخبر انه (حافظ) كقولك: (فلان القائم بأمرنا) وهو عزوجل القائم على كل نفس بما كسبت، والقائم أيضا في كلام الناس: (الباقي) والقائم أيضا: (الكافي) كقولك للرجل: (قم بأمر كذا) أي: اكفه. والقائم منا قائم على ساق، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى. واما (الخبير) فالذي لا يعزب عنه شئ ولا يفوته، وليس بالتجربة والاعتبار بالاشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما لولاهما لما علم، لان من كان كذلك كان جاهلا، والله تعالى لم يزل خبيرا بما يخلق، والخبير من الناس المستخبر، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى. واما (الظاهر) فليس من انه علا الاشياء بركوب فوقها، وقعود عليها، وتسنم لذراها، ولكن ذلك لقهره وغلبته الاشياء وقدرته عليها كقول الرجل: ظهرت على أعدائي، وأظهرني الله على خصمي، إذا أخبر على الفلج والظفر، فهكذا ظهور الله على الاشياء. ووجه آخر: انه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه، لمكان الدليل والبرهان على وجوده في كل ما دبره وصنعه مما يرى، فأي ظاهر أظهر وأوضح أمرا من الله تبارك وتعالى، فانك لا تعدم صنعته حيثما توجهت، وفيك من آثاره


[ 174 ]

ما يغنيك، والظاهر منا البارز بنفسه المعلوم بحده، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى. واما (الباطن): فليس على معنى الاستبطان للاشياء بأن يغور فيها، ولكن ذلك منه على استبطانه للاشياء علما وحفظا وتدبيرا، كقول القائل: بطته بمعنى: (خبرته) وعلمت مكنون سره، والباطن منا الغاير في الشئ المستتر فيه، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى. قال: وهكذا جميع الاسماء وان كنا لم نسمها كلها. وكان المأمون لما أراد أن يستخلف الرضا، جمع بني هاشم فقال: اني اريد أن استعمل الرضا عليه السلام على هذا الامر من بعدي. فحسده بنو هاشم وقالوا: أتولي رجلا جاهلا، ليس له بصر بتدبير الخلافة ؟ فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به ! فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد الله عليه، فصعد المنبر فقعد مليا لا يتكلم مطرقا ثم انتفض انتفاضة فاستوى قائما وحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلى على نبيه وأهل بيته، ثم قال: أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه، (1) بشهادة العقول ان كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الازل الممتنع من الحدث، (2) فليس الله عرف من عرف ذاته بالتشبيه، ولا إياه وحد من


(1) (أول عبادة الله) اي: أشرفها وأقدمها رتبة (معرفته) تعالى لان الطاعة والعبادة تأتى بعد المعرفة فهى متأخرة رتبة عنها ولا تقبل عبادة بدون المعرفة فهى دونها في الشرف أيضا (وأصل معرفة الله توحيده) أي تنزيهه عن التركيب والشركة (ونظام التوحيد) أي نمامه وكماله (نفى الصفات الزائدة عنه) فلا يتم التوحيد إلا بالقول بان صفاته تعالى عين ذته (2) ثم انه عليه السلام شرع باقامة الدليل على نفى الصفات الزائدة على الذات-

[ 175 ]

اكتنهه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا به صدق من نهاه، ولا صمد صمده من أشار إليه، ولا إياه عنى من شبهه، ولا له تذلل من بعضه، ولا إياه أراد من توهمه (1) كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، (2) بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجته، (3) خلقة الله الخلق حجاب


: – فقال: (لشهادة العقول ان كل صفة وموصوف مخلوق) وذلك ان الصفة لاقوا لها إلا بالموصوف فهى محتاجة إليه لا تنفك عنه. وبها كمال الموصوف فهو محتاج إليها. والحاجة دليل الامكان (وشهادة كل مخلوق ان له خالقا) غنيا بذاته (ليس بصفة) حتى يفتقر إلى الموصوف ليقوم به ذاته (ولا موصوف) حتى يحتاج إلى الصفة لكى يكمل بها ذاته (وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران) لما عرفت من حاجة بعضها إلى الاخر وشهادة الاقتران بالحدث.. الخ توضيح ذلك: هو ان الصفة والموصوف اما أن يكونا قديمين. أو يكون أحدهما قديما والاخر حادثا أو يكونا حادثين. ولا رابع لهذا الحصر الثلاثي. والاول باطل لما يلزم منه القول بتعدد القدماء وقد ثبت بطلانه. والثانى يبطله الاقتران والحاجة والافتقار لما ألمحنا إليه آنفا وحينئذ بثبت القول الثالث وهو المطلوب. (1) (فليس الله) الواجب الوجود الواحد الاحد (عرف من عرف بالتشبيه ذاته) بل عرف ممكنا من مخلوقاته (ولا اياه وحد من اكتنهه) أي جعل له كنها (ولا حقيقته أصاب من مثله) أي جعل لا: لا وصورة سواء كانت ذهنية أو خارجية (ولا به صدق من نهاه) أي جعل له حدا ونهاية (ولا صمد صمده) أي قصد نحوه (من أشار إليه) سواء بالاشارة الحسية أو الذهنية (ولا إياه عنى من شبهه) وانما عنى ممكنا من الممكنات، ومخلوقا من جملة المخلوقات (ولا له تذلل) أي تعبد (من بعضه) أي جعل له ابعاضا وجزأه فهو انما عبد جسما مخلوقا مركبا له اجزاء وابعاض (ولا إياه أراد من توهمه) أي: تصور له صورة ذهنية. (2) (كل معروف بنفسه) أي: بكنه حقيقته (مصنوع) لما يلزمه من التركيب (وكل قائم في سواه) لا يكون علة لاحتياجه إلى الغير فهو (معلول). (3) (بصنع الله) وحكيم تدبيره (يستدل عليه) (وبالعقول تعتقد معرفته) –

[ 176 ]

بينه وبينهم، (1) ومفارقته إياهم مباينة بينه وبينهم، وابتداؤه اياهم دليل على أن لا ابتداء له، لعجز كل مبتدأ عن ابتداء غيره، وادوه إياهم دليل على أن لا اداة له، لشهادة الادوات بفاقة المأدين، فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيوره تحديد لما سواه، فقد جهل الله من استوصفه، وقد تعداه من استمثله، وقد أخطاه من اكتنهه، (2) ومن قال: (كيف) فقد شبهه، ومن قال: (لم) فقد علله، ومن قال: (متى) فقد وقته، ومن قال: (فيم) فقد ضمنه، ومن قال: (إلى م) فقد نهاه، ومن قال: (حتى م) فقد غياه ومن غياه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزاه، ومن جزاه فقد وصفه، ومن وصفه فقد الحد فيه، ولا يتغير الله بتغير المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد المحدود، أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلي لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة، مباين لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بجول فكرة، مدبر لا بحركة مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة


– (وبالفطرة) التى هي بمعنى الابتداع انى الله شك فاطر السماوات والارض (تثبت حجته) – ولعل في قوله عليه السلام بالفطرة اشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل مولود يولد على الفطرة إلا أن ابواه بهودانه أو بنصرانه أو يمجسانه، فالعقول لو تركت على فطرتها واصل خلقتها لامنت به (1) (خلقة الله الخلق حجاب) حاجز (بينه) في كمله وغناه ووجوبه الذاتي (وبينهم) في حاجتهم إليه ونقصهم وامكانهم الذاتي (ومفارقته اياهم) في الصفات دليل على (مباينة بينه وبينهم) في الذات. وفي بعض النسخ (ومباينته اياهم مفارقته اينيتهم) أي: ان مفارقته الاينية التى هي من لوزم الاجسام دلت على مباينته اياهم في الذات. أو ان مباينته اياهم في الذات دلت على مفارقته لهم فيما اختصوا به من الاينية فلا يقال له: (أين هو) لان ذاته تباين ذواتهم فلا يلازمها ما يلزم المكنات. (2) مر مثل هذه الفقرات للامام أمير المؤمنين عليه السلام في الجزء الاول من هذا الكتاب ص 294 فليراجع.

[ 177 ]

لا تصحبه الاوقات، ولا تضمنه الاماكن، ولا تأخذه السنات، ولا تحده الصفات، ولا تقيده الادوات، سبق الاوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الاشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بن الامور عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجلاية بالبهمة، والجسو بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها ذلك قوله عزوجل: (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (ففرق) بين قبل وبعد، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها، له معنى الربوبية إذ لا مربوب، وحقيقة الالهية إذ لا مألوه، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع، ليس منذ خلق استحق معنى اسم الخالق ولا باحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف ولا يغيبه: (مذ) ولا تدنيه: (قد) ولا يحجبه: (لعل) ولا يوقته: (متى) ولا يشتمله: (حين) ولا يقارنه: (مع) انما تحد الادوات انفسها، وتشير الالة إلى نظائرها، وفي الاشياء توجد فعالها، منعتها (منذ) القدمة، وحمتها (قد) الازلية، وجنبتها لولا (التكملة) افترقت فدلت على مفرقها، وتباينت فاعزت على مباينها، بها تجلى صانعها للعقول وبها احتجب عن الرؤية، واليها تحاكم الاوهام، وفيها اثبت غيره، ومنها انبط الدليل، وبها عرف الاقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالاقرار يكمل الايمان به، لا ديانة إلا بعد معرفته، ولا معرفة إلا بالاخلاص، ولا اخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع اثبات الصفة للتثنية، وكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه ولا يجري عليه الحركة ولا السكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود فيه ما هو ابتداه، إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزى كنهه، ولا متنع من الازل معناه، ولما كان للباري معنى غير المبروء، ولو وجد له


[ 178 ]

وراء وجد له أمام، ولا لتمس التمام إذ لزمه النقصان، وكيف يستحق الازل من لا يمتنع من الحدث، أم كيف ينشئ الاشياء من لا يمتنع من الانشاء، إذا لقامت عليه آية المصنوع، ولتحول دليلا بعد ما كان مدلولا عليه، ليس في محال القول حجة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه لله تعظيم، ولا في إبانته عن الحق ضيم إلا بامتناع الازلي أن يثنى، ولما بدئ له أن يبدئ لا إله إلا الله العلي العظيم، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. وروي عن الحسن بن محمد النوفلي (1): انه كان يقول: قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله، ثم قال له: ان ابن عمي علي بن موسى الرضا قدم علي من الحجاز – يحب الكلام – وأصحابه، فعليك أن تصير الينا يوم التروية لمناظرته. فقال سليمان: يا أمير المؤمنين اني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه. قال المأمون: انما وجهت اليك لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط. فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين ! اجمع بينى وبينه، وخلني وإياه. فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام، فقال له: انه قدم علينا رجل من أهل المرو، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فان خف عليك أن تتجشم المصير الينا فعلت. فنهض عليه السلام للوضوء ثم حضر مجلس المأمون، وجرى بينه وبين سليمان المروزي كلام في البداء بمعنى الظهور، لتغير المصلحة، واستشهد عليه السلام بآي كثيرة


(1) قال العلامة الحلى رحمه الله في القسم الثاني من الخلاصة ص 213: (الحسن ابن محمد بن سهل النوفلي ضعيف).

[ 179 ]

من القرآن على صحة ذلك، مثل قول الله: (يبدئ الخلق ثم يعيده) (1) و (يزيد في الخلق ما يشاء) (2) و (يمحو الله ما يشاء ويثبت) (3) و (ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) (4) و (آخرون مرجوون لامر الله) (5) وأمثال ذلك. فقال سليمان: يا أمير المؤمنين لا انكر بعد يومي هذا البداء، ولا اكذب به إن شاء الله (6). فقال المأمون: يا سليمان اسأل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن


(1) الروم – 11. (2) فاطر – 1. (3) الرعد – 41. (4) فاطر – 11. (5) التوبة – 107. (6) عقيدتنا نحن الامامية في البداء تنلخص فيما يلى: لقد ثبت من الاخبار الواردة عن أئمة اهل البيت سلام الله عليهم ان الله سبحانه وتعالى خلق لوحين اثبت فيهما ما يحدث من الكائنات: الاول – اللوح المحفوظ: وهو اللوح المطابق لعلمه تعالى لا يحدث فيه أي تبدل أو تغيير. للثاني – لوح المحو والاثبات: وهو الذى يتغير ويتبدل ما فيه حسب ما نقتضية الحكمة الالهية قبل وقوعه وتحققه في الخارج. وهذا اللوح – اعني – لوح المحو والاثبات تتطلع عليه الرسل والانبياء والاوصياء والملائكة، وقد روى عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: ان لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته وانبياءه ورسله فنحن نعلمه. ومعنى البداء: ظهور الشئ بعد خفائه. وهو في عقيدة الامامية: ظهور الشئ من الله لمن يشاء من خلقه بعد اخفائه عنهم فقولنا: (بدا لله) معناه بدا لله شأن أو حكم وليس معناه ظهر له ما خفى عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ورد عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: ان الله لم يبد له من جهل، وقال عليه السلام: ما بدا لله في شئ إلا كان في علمه قبل ان يبدو له.

[ 180 ]

الاستماع والانصاف ! قال سليمان: يا سيدي ما تقول فيمن جعل الارادة اسما وصفة، مثل حي وسميع وبصير وقدير ؟ قال الرضا عليه السلام: انما قلتم حدثت الاشياء واختلفت لانه شاء وأراد، ولم تقولوا: (حدثت واختلفت) لانه سميع بصير، فهذا دليل على انها ليست مثل سميع وبصير ولا قدير. قال سليمان: فانه لم يزل مريدا ؟ قال: يا سليمان فارادته غيره ؟ قال: نعم. قال: قد اثبت معه شيئا لم يزل ! قال سليمان: ما أثبت ؟ قال الرضا عليه السلام: أهي محدثة ؟ قال سليمان: لا، ما هي محدثة ! فاعاد عليه المسألة فقال: هي محدثة يا سليمان ؟ فان الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا، وإذا لم يكن محدثا كان أزليا. قال سليمان: ارادته منه كما ان سمعه وبصره وعلمه منه. قال الرضا عليه السلام: فارادته نفسه ؟ قال: لا. قال: فليس المريد مثل السميع والبصير. قال سليمان: انما ارادته كما سمع نفسه، وأبصر نفسه وعلم نفسه. قال الرضا عليه السلام: ما معنى اراد نفسه، اراد أن يكون شيئا، أو اراد أن يكون حيا، أو سميعا، أو بصيرا أو قديرا ؟ قال: نعم. قال الرضا عليه السلام: أفبارادته كان ذلك ؟ قال سليمان: نعم.


[ 181 ]

قال الرضا عليه السلام: فليس لقولك اراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى، إذ لم يكن ذلك بارادته. قال سليمان: بلى قد كان ذلك بارادته، فضحك المأمون ومن حوله، وضحك الرضا عليه السلام، ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان ! فقال يا سليمان: فقد حال عندكم عن حالة وتغير عنها، وهذا مما لا يوصف الله عزوجل به، فانقطع. ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان اسألك عن مسألة ؟. قال: سل جعلت فداك ! قال: اخبرني عنك وعن اصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون، أو بما لا تفقهون وتعرفون ؟ فقال: بل بما نفقهه ونعلم. قال الرضا عليه السلام: فالذي يعلم الناس ان المريد غير الارادة، وان المريد قبل الارادة، وان الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: ان الارادة والمريد شئ واحد. قال: جعلت فداك ! ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون. قال: فأراكم ادعيتم على ذلك بلا معرفة، وقلتم: الارادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل. فلم يحر جوابا. ثم قال الرضا عليه السلام: هل يعلم الله تعالى جميع ما في الجنة والنار ؟ قال سليمان: نعم. قال: فيكون ما علم الله عزوجل انه يكون من ذلك ؟ قال: نعم. قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ إلا كان أيزيدهم أو يطويه عنهم ؟ قال سليمان: بل يزيدهم. قال: فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه انه يكون.


[ 182 ]

قال: جعلت فداك ! فالمزيد لا غاية له. قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيها إذا لم يعرف غاية ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال سليمان: انما قلت لا يعلمه لانه لا غاية لهذا لان الله عزوجل وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا. قال الرضا عليه السلام: ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم، لانه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم، ثم لا يقطعه عنهم، ولذلك قال عزوجل في كتابه: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) (1) وقال لاهل الجنة: (عطاء غير مجذوذ) (2) وقال عزوجل: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) (3) فهو عزوجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل اهل الجنة وما شربوا أليس يخلف مكانه ؟ قال: بلى. قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد اخلف مكانه ؟ قال سليمان: لا. قال: فكذلك كلما يكون فيها إذا اخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم. قال سليمان: بلى. يقطعه عنهم ولا يزيدهم. قال الرضا عليه السلام: إذا يبيد ما فيها، وهذا يا سليمان ابطال الخلود، وخلاف الكتاب، لان الله عزوجل يقول: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) (4) ويقول عزوجل: (عطاء غير مجذوذ) (5) ويقول عزوجل: (وما هم عنها بمخرجين) (6)


(1) النساء – 55. (2) هود – 109. (3) الواقعة – 33 (4) ق – 35. (5) هود – 109. (6) الحجر – 48.

[ 183 ]

وبقول عزوجل: (خالدين فيها) (1) ويقول عزوجل: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) (2) فلم يحر جوابا. ثم قال الرضا عليه السلام: ألا تخبرني عن الارادة فعل أم هي غير فعل ؟ قال: بل هي فعل. قال: فهي محدثة لان الفعل كله محدث ! قال: ليست بفعل. قال: فمعه غيره لم يزل ؟ قال سليمان: ان الارادة هي الاشياء. قال: يا سليمان هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: (ان كل ما خلق الله عزوجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من: كلب أو خنزير أو قرد أو انسان أو دابة ارادة الله، وان ارادة الله تحيى وتموت، وتذهب، وتأكل وتشرب، وتنكح، وتلد وتظلم، وتفعل الفواحش، وتكفر، وتشرك، فتبرأ منها وتعاديها وهذا حدها. قال سليمان: انها كالسمع والبصر والعلم قال الرضا عليه السلام: قد رجعت إلى هذا ثانية ! فاخبرني عن السمع والعلم أمصنوع ؟ قال سليمان. لا. قال الرضا عليه السلام: فكيف نفيتموه ؟ فمرة قلتم لم يرد، ومرة قلتم أراد، وليس بمفعول له. قال سليمان: انما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم. قال الرضا عليه السلام: ليس ذلك سواء لان نفي المعلوم ليس ينفى العلم، ونفي المراد نفي الارادة أن تكون، لان الشئ إذا لم يرد لم تكن ارادة، وقد يكون العلم ثابتا وان لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الانسان بصيرا وان لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتا وان لم يكن المعلوم. فلا يزال سليمان يردد المسألة وينقطع فيها ويستأنف، وينكر ما كان أقر


(1) البقرة – 162. (2) الواقعة – 33.

[ 184 ]

به، ويقر بما أنكر، وينتقل من شئ إلى شئ، والرضا صلوات الله عليه ينقض عليه ذلك، حتى طال الكلام بينهما، وظهر لكل أحد انقطاعه مرات كثيرة، تركنا ايراد ذلك مخافة التطويل، فآل الامر إلى ان قال سليمان: ان الارادة هي القدرة. قال الرضا عليه السلام: وهو عزوجل يقدر على ما لا يريد ابد الابدين من ذلك لانه قال تبارك وتعالى: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك) (1) فلو كانت الارادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته. فانقطع سليمان وترك الكلام عند هذا الانقطاع، ثم تفرق القوم. وعن صفوان بن يحيى (2) قال: سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة أن ادخله


(1)) الاسراء – 86. (2) صفوان بن يحيى: أبو محمد البجلى مولى بنى بجيلة بياع السابرى كوفى قال الشيخ الطوسى (ره): انه اوثق اهل زمانه عند اصحاب الحديث وغيرهم. وكان يصلى كل يوم خمسين ومائة ركعة، ويصوم في السنة ثلاثة اشهر، ويخرج زكاة ماله في السنة ثلاث مرات. وذلك انه اشترك هو وعبد الله بن جندب وعلى بن النعمان في بيت الله الحرام وتعاقدوا جميعا: ان من مات منهم يصلى من بقى صلاته ويصوم عنه ويزكى عنه مادام حيا. فمات صاحباه وبقى صفوان بعدهما، وكان يفى لهما بذلك فيصلى عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما ويزكى عنهما، وكل شئ من البر والاحسان يفعله لنفسه كذلك يفعله عن صاحبيه، وكان وكيل الرضا عليه السلام. وقال أبو عمرو الكشي: اجمع اصحابنا على تصحيح ما يصح عن صفوان بن يحيى بياع السابرى والافرار له بالفقه في آخرين يأتي ذكرهم في مواضعهم ان شاء الله تعالى. وروي عن محمد بن قولويه عن احمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن معمر بن خلاد قال: قال أبو الحسن عليه السلام: ما ذئبان ضاربان في غنم قد غاب عنها رعاؤها باضر في دين المسلم من حب الرياسة، ثم قال عليه السلام ولكن صفوان لا يحب الرياسة. وكان له عند لرضا عليه السلام منزلة شريفة، وتوكل للرضا عليه السلام وابى جعفر عليه السلام، وسلم مذهبه من الوقف، وكانت له منزلة من الزهد والعبادة. القسم الاول من خلاصة العلامة ص 88.

[ 185 ]

على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنه فأذن له، فدخل فسأله عن أشياء من الحلال والحرام، والفرائض والاحكام، حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال له: أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى ؟ فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية. فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: انما اسألك عن هذا اللسان ! فقال أبو الحسن: سبحان الله عما تقول، ومعاذ الله ان يشبه خلقه، أو يتكلم بمثل ما هم به متكلمون، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شئ، ولا كمثله قائل ولا فاعل. قال: كيف ذلك ؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق. ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له: (كن) فكان بمشيته، ما خاطب به موسى عليه السلام من الامر والنهي من غير تردد في نفس. فقال أبو قرة: فما تقول في الكتب ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: التوراة والانجيل والزبور والفرقان، وكل كتاب انزل كان كلام الله، أنزله للعالمين نورا وهدى، وهي كلها محدثة، وهي غير الله، حيث يقول: (ويحدث لهم ذكرا) (1) وقال: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا استمعوه وهم يلعبون) (2) والله احدث الكتب كلها الذي انزلها. فقال أبو قرة: فهل تفنى ؟ فقال أبو الحسن: أجمع المسلمون على ان ما سوى الله فان، وما سوى الله فعل الله، والتوراة والانجيل والزبور والفرقان فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون: (رب القرآن) وان القرآن يقول يوم القيامة: (يا رب هذا فلان – وهو اعرف به منه – قد أظمأت نهاره، واسهرت ليله، فشفعني فيه) وكذلك التوراة والانجيل والزبور، وهي كلها محدثة، مربوبة، احدثها من ليس كمثله شئ، هدى لقوم


(1) طه – 113. (2) البقرة – 21.

[ 186 ]

يعقلون، فمن زعم انهن لم يزلن معه فقد أظهر: ان الله ليس بأول قديم، ولا واحد، وان الكلام لم يزل معه، وليس له بدؤ، وليس بآله. قال أبو قرة: وانا روينا: ان الكتب كلها تجئ يوم القيامة والناس في صعيد واحد، صفوف قيام لرب العالمين ينظرون حتى ترجع فيه، لانها منه وهي جزء منه، فإليه تصير. قال أبو الحسن عليه السلام: فهكذا قالت النصارى في المسيح انه روحه، جزء منه ويرجع فيه، وكذلك قالت المجوس: في النار والشمس انهما جزء منه ترجع فيه، تعالى ربنا أن يكون متجزيا، أو مختلفا، وانما يختلف ويأتلف المتجزي، لان كل متجزي متوهم، والكثرة والقلة مخلوقة دالة على خالق خلقها. فقال أبو قرة: فانا روينا: ان الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم لموسى عليه السلام الكلام، ولمحمد صلى الله عليه وآله الرؤية. فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين الجن والانس: انه لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شئ. أليس محمد صلى الله عليه وآله ؟ قال: بلى. قال أبو الحسن: فكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم: انه جاء من عند الله، وانه يدعوهم إلى الله بأمر الله، ويقول: انه لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شئ، ثم يقول: أنا رأيته بعيني، واحطت به علما، وهو على صورة البشر، أما تستحيون ؟ ! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: ان يكون اتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر. فقال أبو قرة: انه يقول: (ولقد رآه نزلة اخرى) (1). فقال أبو الحسن عليه السلام: ان بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) (2) يقول: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله ما رأت عيناه ثم اخبر بما رأت عيناه فقال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (3) فآيات الله


(1 – 2 – 3) النجم – 13، 11، 18.

[ 187 ]

غير الله، وقال: (ولا يحيطون به علما) (1) فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب بالرواية ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه انه لا يحاط به علما، ولا تدركه الابصار، وليس كمثله شئ. وسأله عن قول الله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى) (2) فقال أبو الحسن عليه السلام: قد اخبر الله تعالى: انه اسرى به، ثم اخبر: انه لم اسري به، فقال: (لنريه من آياتنا) (3) فآيات الله غير الله، فقد اعذر، وبين لم فعل به ذلك، وما رآه وقال: (فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون) (4) فاخبر أنه غير الله. فقال أبو قرة: أين الله ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: الاين مكان، وهذه مسألة شاهد عن غايب، فالله تعالى ليس بغائب، ولا يقدمه قادم، وهو بكل مكان، موجود، مدبر صانع، حافظ، ممسك السماوات والارض. فقال أبو قرة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: هو الله في السماوات وفي الارض، وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله، وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء، وهو معكم أينما كنتم، وهو الذي استوى إلى السماء وهي دخان، وهو الذي استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو الذي استوى على العرش، قد كان ولا خلق وهو كما كان إذ لا خلق، لم ينتقل مع المنتقلين. فقال أبو قرة: فما بالكم إذ دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: ان الله استعبد خلقه بضروب من العبادة، ولله مفازع


(1) طه – 11 (2) الاسراء – 1 (3) الاسراء – 1 (4) الجاثية – 5

[ 188 ]

يفزعون إليه، ومستعبد، فاستعبد عباده بالقول، والعلم، والعمل، والتوجه، ونحو ذلك، استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكعبة، ووجه إليها الحج والعمرة، واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع، ببسط الايدي ورفعها إلى السماء لحال الاستكانة وعلامة العبودية والتذلل له. قال أبو قرة: فمن أقرب إلى الله الملائكة أو اهل الارض ؟ قال أبو الحسن عليه السلام: ان كنت تقول بالشبر والذراع، فان الاشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر اسفله، ويدبر اوله من حيث يدبر آخره، من غير عناء، ولا كلفة، ولا مؤنة، ولا مشاورة، ولا نصب، وان كنت تقول من اقرب إليه في الوسيلة، فألموعهم له وانتم تروون ان أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، ورويتم ان اربعة املاك التقوا احدهم من اعلى الخلق، واحدهم من اسفل الخلق، واحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: (من عند الله) ارسلني بكذا وكذا، ففي هذا دليل على ان ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل. فقال أبو قرة: أتقر ان الله محمول ؟ فقال أبو الحسن: كل محمول مفعول، ومضاف إلى غيره محتاج، فالمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل وهو فاعل وهو في اللفظ ممدوح، وكذلك قول القائل: فوق، وتحت، واعلى، واسفل، وقد قال الله تعالى: (ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها) (1) ولم يقل في شئ من كتبه انه محمول، بل هو الحامل في البر والبحر، والممسك للسماوات والارض، والمحمول ما سوى الله، ولم نسمع احدا آمن بالله وعظمه قط قال في دعائه: (يا محمول). قال أبو قرة: أفتكذب بالرواية: ان الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش، يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجدا، فإذا ذهب الغضب خف فرجعوا إلى مواقفهم ؟


(1) الاعراف – 179

[ 189 ]

فقال أبو الحسن عليه السلام: اخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن ابليس إلى يومك هذا والى يوم القيامة فهو غضبان على ابليس وأوليائه أو عنهم راض ؟ فقال: نعم. هو غضبان عليه. قال: فمتى رضي فخف وهو في صفتك لم يزل غضبانا عليه وعلى أتباعه ؟ ثم قال: ويحك كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال، وانه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟ ! سبحانه لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين. قال صفوان: فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج. عن عبد السلام بن صالح الهروي (1) قال: قلت لعلي بن موسى الرضا عليه السلام: يابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث: ان المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة ؟


(1) قال الشيخ الطوسى في اصحاب الرضا عليه السلام من رجاله ص 380: عبد السلام بن صالح الهروي أبو الصلت عامى وص 396 منه أبو الصلت الخراساني الهروي عامى روى عنه بكر بن صالح. وقال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 117: عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي روى عن الرضا عليه السلام ثقة صحيح الحديث. وقال الشيخ عباس القمى في ج 1 من الكنى والالقاب ص 96: (عبد السلام بن صالح الهروي روى عن الرضا عليه السلام ثقة صحيح الحديث قاله جش والعلامة، له كتاب: (وفاة الرضا (ع)) وكان (ره) كما يشعر به بعض الكلمات مخابطا للعامة وراويا لاخبارهم فلذلك التبس امره على بعض المشايخ فذكر انه عامى. قال الاستاذ الاكبر في التعليقة بعد نقل كلام الشهيد الثاني في تشيعه لا يخفى ان الامر كذلك فان الاخبار الصادرة عنه في العيون والامالي وغيرهما الناصة على تشيعه بل وكونه من خواص الشيعة اكثر من ان تحصى وعلماء العامة ذكروا انه شيعي قال الذهبي في ميزان الاعتدال: عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي رجل صالح إلا انه شيعي ونقل عن الجعفي انه رافضي خبيث وقال الدارقطني انه رافضي متهم وقال ابن الجوزى انه خادم الرضا شيعي مع صلاحه وعن الانساب للسمعاني قال أبو حاتم: هو رأس مذهب –

[ 190 ]

فقال عليه السلام: يا ابا الصلت ان الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمدا صلى الله عليه وآله على جميع خلقه، من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومبايعته مبايعته، وزيارته في الدنيا والاخرة زيارته، فقال عزوجل: (من يطع الرسول فقط اطاع الله) (1) وقال: (ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) (2) وقال النبي صلى الله عليه وآله: (من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله) ودرجة النبي صلى الله عليه وآله في الجنة ارفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنة من منزلة فقد زار الله تبارك وتعالي. قال: قلت: يابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه: ان ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله ؟ فقال عليه السلام: يا أبا الصلت فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله انبياءه ورسله وحججه عليهم صلوات الله، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته، فقال الله عزوجل: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والاكرام) (3) وقال الله عزوجل: (كل شئ هالك إلا وجهه) (4) فالنظر إلى انبياء الله ورسله وحججه عليهم السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة) (5) وقال صلى الله عليه وآله: (ان فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني) (6) يا أبا الصلت ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يدرك بالابصار والاوهام.


– الرفضة. إلى ان قال: اقول: الروايات الدالة على تشيعه كثيرة وقد اشرت إلى نبذ منها في كساب سفينة البحار وروى الشيخ الطوسى (ره) عنه في الشكر ما ينبغى. ان يكتب بالتبر) توفى سنة 236 ه‍ (1) النساء – 79 (2) الفتح – 10 (3) الرحمن – 27 (4) القصص – 88 (5) راجع ذخائر العقبى ص 2 وينابيع المودة ج 1 ص 305 (6) راجع نفس المصدر السابق.

[ 191 ]

قال: فقلت له: يابن رسول الله فاخبرني عن الجنة والنار: أهما اليوم مخلوقان ؟ قال: نعم. وان رسول الله صلى الله عليه وآله قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء. قال: فقلت له: ان قوما يقولون: انهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين ؟ فقال: ما اولئك منا ولا نحن منهم، من انكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي صلى الله عليه وآله وكذبنا، وليس من ولايتنا على شئ، ويخلد في نار جهنم. قال الله عزوجل: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله: (لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل (ع) فادخلني الجنة فناولني من رطبها فاكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبى، فلما هبطت إلى الارض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام، ففاطمة حوراء انسية، فكلما اشقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة) (2). وقال الرضا عليه السلام: في قول الله عزوجل: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) (3) قال: يعنى – مشرقة – تنظر ثواب ربها. وقال عليه السلام: ان النبي صلى الله عليه وآله قال: (قال الله جل جلاله: ما آمن بي من


(1) الرحمن – 43 (2) في ينايع المودة ص 197 عن عايشة قالت: قلت: يا رسول الله مالك إذا جعلت لسانك في فيها كأنك تريد ان تعلقها عسلا ؟ قال: لما اسرى بى إلى السماء ادخلني جبرائيل الجنة فناولني تفاحة فأكلتها، فصارت نطفة في ظهرى، فلما نزلت من السماء واقعت خديجة ففاطمة من تلك النطفة فكلما اشتقت إلى تلك التفاحة قبلتها ثم قال: اخرجه أبو سعد في شرف النبوة وفيه ايضا عن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر القبلة لفاطمة، فقالت له: انك تكثر تقبيل فاطمة ؟: فقال: ان جبرائيل ادخلني الجنة ليلة اسري بى إلى السماء فاطعمني من جميع ثمارها، فصارت ماء في صلبى، فحملت خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار، قبلت فاطمة فاصبت من تقبيلها رائحة جميع تلك الثمار التى اكلتها ثم قال: اخرجه أبو الفضل بن خيرون. (2) القيامة – 23

[ 192 ]

فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني) وقال: (من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم) ثم قال: ان في اخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، ومحكما كمحكم القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا. وقال: من شبه الله بخلقه فهو مشرك، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر. وعن الحسين بن خالد (1) قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: لم يزل الله عز وجل عليما، قادرا، حيا، قديما، سميعا، بصيرا. فقلت: يابن رسول الله ان قوما يقولون: لم يزل عالما بعلم، وقادرا بقدرة وحيا بحياة، وقديما بقدم، وسميعا بسمع، وبصيرا ببصر. فقال عليه السلام: من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة اخرى، وليس من ولايتنا على شئ ثم قال عليه السلام: لم يزل الله عزوجل عليما، قادرا، حيا، قديما سميعا، بصيرا – لذاته – تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علوا كبيرا. وعن الحسين بن خالد قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله ان قوما يقولون: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (ان الله خلق آدم على صورته). فقال: قاتلهم الله ! لقد حذفوا اول الحديث، ان رسول الله مر برجلين يتسابان، فسمع احدهما يقول لصاحبه: (قبح الله وجهك ووجه من يشبهك) فقال له صلى الله عليه وآله: (يا عبد الله لا تقل هذا لاخيك ! فان الله عزوجل خلق آدم على صورته). وعن ابراهيم بن أبى محمود (2) قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله


(1) من اصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام ذكره الشيخ في رجاله صفحة 347 و 373. (2) ابراهيم بن ابى محمود: ذكره الشيخ في اصحاب الكاظم عليه السلام ص 343 وقال: له مسائل وفي اصحاب الرضا عليه السلام ص 367 فقال: خراساني ثقة مولى. وقال العلامة في الخلاصة ص 3: روى عن الرضا (ع) ثقة اعتمد على روايته.

[ 193 ]

ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ؟ فقال عليه السلام: لعن الله المحرفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال صلى الله عليه وآله كذلك انما قال صلى الله عليه وآله: (ان الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء كل ليلة في الثلث الاخير، وليلة الجمعة في اول الليل. فيأمره فينادي أهل من سائل فاعطيه ؟ هل من تائب فاتوب عليه ؟ هل من مستغفر فاغفر له ؟ يا طالب الخير فاقبل، يا طالب الشر اقصر، فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء) حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله. وعن محمد بن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام: هل كان الله عارفا بنفسه قبل ان يخلق الخلق ؟ قال: نعم. قلت: يراها ويسمعها ؟ قال: ما كان محتاجا إلى ذلك لانه لم يكن يسألها ولا يطلب منها شيئا، هو نفسه، ونفسه هو، قدرته نافذة، فليس بمحتاج إلى ان يسمى نفسه، ولكنه اختار اسماء لغيره يدعوه بها، لانه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فاول ما اختار نفسه (العلي العظيم) اعلا الاشياء كلها، فمعناه: (الله) واسمه: (العلي العظيم) هو اول اسمائه لانه علا كل شئ. وقال عليه السلام في قوله: (يوم يكشف عن ساق) (1) فساق حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا، وتدمج اصلاب المنافقين، فلا يستطيعون السجود. وسئل عن قوله عزوجل: (كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (2) فقال: ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان يحل فيه فيحجب عن عباده، ولكنه يعني: عن ثواب ربهم محجوبون. وسئل عن قوله عزوجل: (وجاء ربك والملك صفا صفا) (3) فقال: ان


(1) القلم – 42. (2) المطففين – 15. (3) الفجر – 22.

[ 194 ]

الله لا يوصف بالمجئ والذهاب والانتقال، انما يعني بذلك: وجاء أمر ربك. وسئل عن قوله: (هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ضلل من الغمام والملائكة) (1) قال: معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت. وسئل عن قوله عزوجل: (سخر الله منهم) (2) وعن قوله: (الله يستهزئ بهم) (3) وعن قوله: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) (4) وعن قوله: (يخادعون الله وخادعهم) (5). فقال: ان الله لا يسخر، ولا يستهزئ، ولا يمكر، ولا يخادع، ولكنه عزوجل يجازيهم جزاء السخرية، وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر، وجزاء الخديعة تعالى الله عما يقولون الظالمون علوا كبيرا. وسئل عن قوله عزوجل: (نسوا الله فنسيهم) (6) فقال: ان الله تبارك وتعالى لا يسهو، ولا ينسى، انما يسهو وينسى المخلوق المحدث، ألا تسمعه عزوجل يقول: (وما كان ربك نسيا) (7) وانما يجازي من نسيه، ونسي لقاء يومه، بان ينسيهم انفسهم، كما قال: (نسوا الله فأنساهم انفسهم) (8) وقال: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) (9) أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا، أي نجازيهم على ذلك. وسئل عن قول الله عزوجل: (فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (10) قال: ومن يرد الله أن يهديه بايمانه في الدنيا إلى جنة ودار كرامة في الاخرة،


(1) البقرة – 210. (2) التوبة – 8 (3) البقرة – 15. (4) آل عمران – 54. (5) النساء – 141. (6) التوبة – 68. (7) مريم – 64. (8) الحشر – 19. (9) الاعراف – 50. (10) الانعام – 125.

[ 195 ]

يشرح صدره للتسليم لله والثقة به. والسكون إلى ما وعده من ثوابه، حتى يطمئن إليه، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الاخرة – لكفره به وعصيانه له في الدنيا – يجعل صدره ضيقا حرجا، حتى يشك في كفره ويضطرب في اعتقاد قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. أبو الصلت الهروي قال: سأل المأمون الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: (وهو الذي خلق السماوات والارض في سنة أيام، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ؟ (1). فقال: ان الله تبارك وتعالى خلق العرش والماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فتعلم انه على كل شئ قدير ثم رفع العرش بقدرته، ونقله فجعله فوق السماوات السبع، ثم خلق السماوات والارض في ستة أيام، وهو مستول على عرشه، وكان قادرا على ان يخلقها في طرفة عين، ولكنه عزوجل خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة ما يخلفه منها شيئا بعد شئ، فنستدل (بحدوث ما يحدث) على الله تعالى مرة بعد مرة، ولم يخلق العرش لحاجة به إليه، لانه غني عن العرش، وعن جميع ما خلق، لا يوصف بالكون على العرش، لانه ليس بجسم تعالى الله عن صفة خلقه علوا كبيرا. واما قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فانه عزوجل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته، لا على سبيل الامتحان والتجربة، لانه لم يزل عليما بكل شئ. فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك. ثم قال له: يابن رسول الله فما معنى قول الله عزوجل: (ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (2) وما (ما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله) (3).


(1) هود – 7 (2) يونس – 99. (3) يونس – 100.

[ 196 ]

فقال الرضا عليه السلام: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: ان المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو اكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الاسلام لكثر عددنا وقوتنا على عدونا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما كنت لالفى الله عزوجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا وما أنا من المتكلفين) فأنزل الله تعالى عليه: يا محمد ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا، على سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس في الاخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا، ولكني اريد منهم ان يؤمنوا مختارين غير مضطرين، ليستحقوا مني الزلفى والكرامة، ودوام الخلود في جنة الخلد، أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. واما قوله عزوجل: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا باذن الله) (1) فليس ذلك على سبيل تحريم الايمان عليها، ولكن على معنى انها ما كانت لتؤمن إلا باذن الله، واذنه امره لها بالايمان بما كانت مكلفة متعبدة بها، والجاؤه اياها إلى الايمان عند زوال التكلف والتعبد عنها. فقال المأمون: فرجت عني فرج الله عنك فاخبرني عن قول الله عزوجل: (الذين كانت اعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا) (2). فقال: ان غطاء العين لا يمنع من الذكر، والذكر لا يرى بالعين، ولكن الله عزوجل شبه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام بالعميان، لانهم كانوا يستثقلون قول النبي صلى الله عليه وآله فيه، ولا يستطيعون له سمعا. فقال المأمون: فرجت عني فرج الله عنك. وعن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضي الله عنه (3) عن ابراهيم بن


(1) آل عمران – 145. (2) الكهف – 102. (3) أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابى طالب (ع) زاهد عابد ذو ورع ودين، معروف بالامانة وصدق اللهجة –

[ 197 ]

أبي محمود (1) قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) (2) فقال: ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنه متى علم انهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف، وخلى بينهم وبين اختيارهم. قال: وسألته عن قول الله عزوجل: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) (3). قال: الختم هو: (الطبع) على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال عزوجل: (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) (4). قال: وسألته عن الله عزوجل هل يجبر عباده على المعاصي ؟ قال: لا. بل يخيرهم، ويمهلم حتى يتوبوا. قلت: فهل يكلف عباده ما لا يطيقون ؟ فقال: كيف يفعل ذلك وهو يقول: (وما ربك بظلام للعبيد) (5). ثم قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عليهم السلام عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، انه قال: من زعم ان الله يجبر عباده على المعاصي ويكلفهم مالا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئا.


– عالم بامور الدين كثير الحديث والرواية، يروي عن الامامين الجواد والعسكري (عليهما السلام)، ولهما إليه لرسائل، ويروى عن جماعة من اصحاب موسى بن جعفر وعلي بن موسى (ع) له كتاب يسميه كتاب: (يوم وليلة) وله كتاب: (خطب أمير المؤمنين (ع)) وقد كتب الصاحب بن عباد رسالة مختصرة في احوال عبد العظيم اوردها صاحب المستدرك في خاتمة المستدرك راجع الجزء الثاني من سفينة البحار ص 120، وخلاصة العلامة ص 130. (1) مرت ترجمته في ص 92. (2) البقرة 17. (3) البقرة – 7. (4) النساء – 154. (5) حم السجدة – 46

[ 198 ]

وعن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي (1) قال: دخلت على علي بن موسى الرضا بمرو، فقلت له: يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام انه قال: (لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الامرين) ما معناه: فقال: من زعم: ان الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال: (بالجبر) ومن زعم: ان الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال: (بالتفويض) والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك. فقلت: يابن رسول الله فما امر بين الامرين ؟ فقال: وجود السبيل إلى اتيان ما امروا به، وترك ما نهوا عنه. قلت: وهل لله مشية وارادة في ذلك ؟ فقال: اما الطاعات، فارادة الله ومشيته فيها الامر بها، والرضا لها، والمعاونة عليها، وارادته ومشيته في المعاصي، النهي عنها، والسخط لها والخذلان عليها. قلت: فلله عزوجل فيها القضاء ؟ قال: نعم. ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء. قلت: ما معنى هذا القضاء ؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والاخرة. وروي انه ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: ان الله لم يطع باكراه، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فان إئتمر العباد بطاعة لم يكن الله عنها صادا، ولا منها مانعا، وان إئتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه. وعن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قلت له: يابن رسول الله ان الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر، لما روي من الاخبار في ذلك عن آبائك عليهم السلام.


(1) مجهول الحال لم اعثر له على ترجمة.

[ 199 ]

فقال: يابن خالد اخبرني عن الاخبار التي رويت عن آبائي الائمة في الجبر والتشبيه أكثر، أم الاخبار التي رويت من النبي صلى الله عليه وآله في ذلك ؟ فقلت: بل ما رويت عن النبي صلى الله عليه وآله أكثر. قال: فليقولوا: ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول بالتشبيه والجبر. فقلت له: انهم يقولون: ان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقل شيئا من ذلك وانما روي عليه. قال: فليقولوا في آبائي الائمة عليهم السلام: انهم لم يقولوا من ذلك شيئا وانما روي عليهم. ثم قال: من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك، ونحن براء منه في الدنيا والاخرة، يابن خالد انما وضع الاخبار عنا في التشبيه والجبر (الغلاة) الذين صغروا عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برنا، ومن برهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردنا، ومن ردهم فقد قبلنا ومن أحسن إليهم فقد اساء الينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن الينا، ومن صدقهم فقد كذبنا، ومن كذبهم فقد صدقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا. يابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتخذن منهم وليا ولا نصيرا. احتجاج الرضا عليه السلام على أهل الكتاب والمجوس ورئيس الصابئين وغيرهم. روي عن الحسن بن محمد النوفلي انه قال: لما قدم علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه على المأمون، أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات، مثل: الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الاكبر، واصحاب زردشت ونسطاس الرومي، والمتكلمين، ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل،


[ 200 ]

ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال: ادخلهم علي ففعل، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم: انما جمعتكم لخير، واحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد. فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، نحن مبكرون ان شاء الله. قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم – وكان يتولى أمر أبي الحسن – عليه السلام – فقال: يا سيدي ان أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول: فداك أخوك، انه اجتمع الينا اصحاب المقالات، واهل الاديان، والمتكلمون من جميع اهل الملل فرأيك في البكور علينا ان احببت كلامهم، وان كرهت ذلك فلا تتجشم، وان احببت أن نصير اليك خف ذلك علينا. فقال أبو الحسن عليه السلام: ابلغه السلام وقل: قد علمت ما أدرت، وأنا صائر اليك بكرة ان شاء الله. قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت الينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك واصحاب المقالات ؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان، ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى. فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب ؟ قلت: ان اصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء، وذلك: ان العالم لا ينكر غير المنكر، واصحاب المقالات والمتكلمون واهل الشرك اصحاب انكار ومباهتة ان احتجت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وان قلت: ان محمدا صلى الله عليه وآله رسول، قالوا: ثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل – وهو مبطل عليهم بحجته – ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك !


[ 201 ]

قال: فتبسم ثم قال لي: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟ ! قلت: لا. والله ماخفته عليك قط، واني لارجو ان يظفرك الله بهم ان شاء الله. فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قلت: نعم. قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الانجيل بانجبلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أهل المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون ان الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ان ابن عمك ينتظرك، اجتمع القوم فما رأيك في اتيانه ؟ فقال له الرضا عليه السلام: تقدمني فاني صائر إلى ناحيتكم ان شاء الله، ثم توضأ وضوء الصلاة، وشرب شربة سويق وسقانا، ثم خرج وخرجنا معه، حتى دخل على المأمون، وإذا المجلس غاص باهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالببين والهاشميين والقواد حضور. فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجمع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس، فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق فقال: يا جاثليق ! هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر وهو: من ولد فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وآله، وابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فاحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه. فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف احاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا منكره، ونبي لا اومن به ؟


[ 202 ]

فقال الرضا عليه السلام يا نصراني فان احتججت عليك بانجيلك أتقر به ؟ قال الجاثليق: وهل اقدر على دفع ما نطق به الانجيل، نعم والله اقر به على رغم أنفي. فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك واسمع الجواب. قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه هل تنكر منهما شيئا ؟ قال الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه، وما بشر به امته، وأقرت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه، ولم يبشر به امته ! قال الجاثليق: أليس انما تقطع الاحكام بشاهدي عدل ؟ قال: بلى. قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد، ممن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا. قال الرضا عليه السلام: الان جئت بالنصفة يا نصراني ! ألا تقبل مني العدل والمقدم عند المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ؟ قال الجاثليق: ومن هذا العدل سمه لي ؟ قال: ما تقول في (يوحنا) الديلمي ؟ قال: بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح. قال: أقسمت عليك هل نطق الانجيل ان يوحنا قال: ان المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشرني به انه يكون من بعدي، فبشرت به الحواريين فآمنوا به ؟ قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح، وبشر بنبوة رجل واهل بيته ووصيه وأهل بيته، ولم يلخص متى يكون ذلك، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم. قال الرضا عليه السلام: فان جئناك بمن يقرأ الانجيل فتلا عليك ذكر محمد واهل بيته وامته أتؤمن به ؟ قال: أمر سديد. قال الرضا لفسطاس الرومي: كيف يكون حفظك للسفر الثالث من الانجيل ؟


[ 203 ]

قال: ما أحفظني له، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال عليه السلام: ألست تقرأ الانجيل ؟ قال: بلى لعمري. قال: فخذ علي السفر الثالث، فان كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وامته فاشهدوا لي، وان لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي ! ثم قرأ السفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وقف ثم قال: يا نصراني اني اسألك بحق المسيح وامه أتعلم اني عالم بالانجيل ؟ قال: نعم. ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وامته، ثم قال: ما تقول يا نصراني ؟ هذا قول عيسى بن مريم، فان كذبت ما نطق به الانجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليهما السلام، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل، لانك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك. قال الجاثليق: لا انكر ما قد بان لي من الانجيل، واني لمقر به. قال الرضا عليه السلام: اشهدوا على اقراره ! ثم قال: يا جاثليق سل عما بدا لك ! قال الجاثليق: اخبرني عن حواري عيسى بن مريم، كم كان عدتهم، وعن علماء الانجيل كم كانوا ؟ قال الرضا عليه السلام: على الخبير سقطت. اما الحواريون فكانوا اثنى عشر رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهم (لوقا) واما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال (يوحنا) الاكبر – يا حى – و (يوحنا) بقرقيسيا و (يوحنا) الديلمي بزخار وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله، وذكر أهل بيته، وهو الذي بشر امة عيسى وبني اسرائيل به. ثم قال: يا نصراني والله انا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله. وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته. قال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا


[ 204 ]

انك أعلم أهل الاسلام. قال الرضا عليه السلام: وكيف ذلك ؟ ! قال الجاثليق: من قولك ان عيسى كان ضعيفا، قليل الصيام والصلاة، وما أفطر عيسى يوما قط، وما نام بليل قط، وما زال صائم الدهر قائم الليل. قال الرضا عليه السلام: فلمن كان يصوم ويصلي ؟ فخرس الجاثليق وانقطع. قال الرضا عليه السلام: يا نصراني اني اسألك عن مسألة قال: سل ! فان كان عندي علمها اجبتك. قال الرضا عليه السلام: ما انكرت ان عيسى كان يحيي الموتى باذن الله. قال الجاثليق: انكرت ذلك من قبل، ان من أحيى الموتى وابرأ الاكمه والابرص، فهو: (رب) مستحق لان يعبد. قال الرضا صلوات الله عليه: فان اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام، مشى على الماء، وأحيى الموتى، وابرأ الاكمه والابرص، فلم لا تتخذه امته رب ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل، ولقد صنع حزقيل النبي مثل ما صنع عيسى ابن مريم، فأحيى خمسة وثلاثين الف رجل من بعد موتهم بستين سنة، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا رأس الجالوت ! أتجد هؤلاء في شباب بني اسرائيل في التوراة، اختارهم (بخت نصر) من سبي بني اسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم انصرف بهم إلى بابل، فأرسله الله عزوجل إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم ؟ قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه. قال: صدقت. ثم قال: يا يهودي خذ علي هذا السفر من التوراة، فتلا عليه من التوراة آيات، فاقبل اليهودي يترجح لقراءته، ويتعجب ثم اقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم ؟


[ 205 ]

قال: بل كانوا قبله. قال الرضا عليه السلام: لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: (اذهب إلى الجبانة، فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم يأعلى صوتك، يا فلان، ويا فلان، ويا فلان يقول لكم رسول الله محمد قوموا باذن الله) فناداهم فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن امورهم، ثم اخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا فقالوا: وددنا أن أدركناه فنؤمن به، ولقد ابرأ الاكمه والابرص والمجانين، وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربا من دون الله، ولم ننكر لاحد من هؤلاء فضلهم، فان اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربين، لانهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم: من احياء الموتى وغيره، ثم ان قوما من بني اسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم الوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أمل القرية فحظروا عليهم حظيره، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني اسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله إليه أتحب أن احييهم لك فتنذرهم ؟ قال: نعم. فأوحى الله إليه ان نادهم فقال: ايتها العظام البالية قومي باذن الله ! فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم ابراهيم خليل الله عليه السلام حين اتخذ الطير فقطعهن قطعا، ثم وضع على كل جبل منهن جزءا، ثم ناداهن فاقبلن سعيا إليه، ثم موسى بن عمران واصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: انك قد رأيت الله فأرناه ! فقال لهم: اني لم أره. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الطاعقة فاحترقوا عن آخرهم فبقي موسى وحيدا. فقال: يا رب اخترت سبعين رجلا من بني اسرائيل فجئت بهم، فارجع أنا


[ 206 ]

وحدي، فكيف يصدقني قومي بما اخبرهم به، فلو شئت اهلكتهم من قبل وإياي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ فأحياهم الله عزوجل من بعد موتهم، وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لان التوراة والانجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فان كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الاكمه والابرص، والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم اربابا ! ما تقول يا نصراني ؟ ! فقال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله. ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي اقبل علي أسألك بالعشر الايات التي انزلت على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد صلى الله عليه وآله وامته إذا جاءت الامة الاخيرة أتباع راكب البعير، يسبحون الرب جدا جدا، تسبيحا جديدا، في الكنايس الجدد فليفزع بنو اسرائيل إليهم والى ملكهم لتطمئن قلوبهم فان بايديهم سيوفا ينتقمون بها من الامم الكافرة في أقطار الارض، هكذا هو في التوراة مكتوب ؟ قال رأس الجالوت: نعم. انا لنجد ذلك كذلك. ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا ؟ قال: اعرفه حرفا حرفا. قال لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم اني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوءه ضوء القمر ؟ فقالا: قد قال ذلك شعيا. قال الرضا عليه السلام: يا نصراني أهل تعرف في الانجيل قول عيسى: اني ذاهب إلى ربكم وربي، و (البار قليطا) جائي هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له، وهو الذي يفسر لكم كل شئ، وهو الذي يبدي فضايح الامم، وهو الذي يكسر عمود الكفر ؟ فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئا من الانجيل إلا ونحن مقرون به.


[ 207 ]

فقال: أتجد هذا في الانجيل ثابتا ؟ قال: نعم. قال الرضا عليه السلام: يا جاثليق ألا تخبرني عن الانجيل الاول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ؟ ومن وضع لكم هذا الانجيل ؟ قال له: ما افتقدنا الانجيل إلا يوما واحدا حتى وجدناه غضا طريا فأخرجه الينا يوحنا ومتى. فقال الرضا عليه السلام: ما أقل معرفتك بسنن الانجيل وعلمائه، فان كان كما تزعم فلم اختلفتم في الانجيل ؟ وانما الاختلاف في هذا الانجيل الذي في أيديكم اليوم، فان كان على العهد الاول لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم: انه لما افتقد الانجيل الاول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى ابن مريم وافتقدنا الانجيل، وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم الوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى: ان الانجيل في صدورنا نخرجه اليكم سفرا سفرا، في كل احد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنايس، فانا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله. فقال الرضا عليه السلام: ان الوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الانجيل بعد ما افتقدتم الانجيل الاول، وانما كان هؤلاء الاربعة تلاميذ تلاميذ الاولين. أعلمت ذلك ؟ قال الجاثليق: اما قبل هذا فلم أعلمه وقد علمته الان، وقد بان لي من فضل علمك بالانجيل وقد سمعت أشياء مما علمته شهد قلبي انها حق، واستزدت كثيرا من الفهم. فقال الرضا عليه السلام: فكيف شهادة هؤلاء عندك ؟ قال: جائزة. هؤلاء علماء الانجيل، وكل ما شهدوا به فهو حق. قال الرضا عليه السلام – للمأمون ومن حضره من أهل بيته وغيرهم -: اشهدوا عليه ! قالوا: شهدنا.


[ 208 ]

ثم قال للجاثليق: بحق الابن وامه، هل تعلم أن (متى) قال في نسبة عيسى: ان المسيح بن داود بن ابراهيم بن اسحاق بن يعقوب بن يهود بن خضرون ؟ وقال (مرقانوس) في نسبة عيسى عليه السلام: انه كلمة الله أحلها في الجسد الادمي فصارت انسانا ؟ وقال (الوقا): ان عيسى بن مريم وامه كانا انسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس ؟ ثم انك تقول في شهادة عيسى على نفسه حقا أقول لكم انه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها إلا راكب البعير خاتم الانبياء، فانه يصعد إلى السماء وينزل فما تقول في هذا القول ؟ قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره. قال الرضا عليه السلام: فما تقول في شهادة الوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا إليه ؟ قال الجاثليق: كذبوا على عيسى. قال الرضا عليه السلام: يا قوم أليس قد زكاهم وشهد انهم علماء الانجيل وقولهم حق. فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين احب أن تعفيني من أمر هؤلاء. قال الرضا عليه السلام: قد فعلنا. سل يا نصراني عما بدا لك ! قال الجاثليق: ليسألك غيري، فو الله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك. فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو اسألك ؟ قال: بل اسألك. ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة، أو من الانجيل أو من زبور داود، أو ما في صحف ابراهيم وموسى. قال الرضا عليه السلام: لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران عليه السلام، والانجيل على لسان عيسى بن مريم عليه السلام، والزبور على لسان داود عليه السلام. قال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد ؟ قال الرضا عليه السلام: شهد بنبوته موسى بن عمران، وعيسى بن مريم، وداود خليفة الله في الارض.


[ 209 ]

فقال له: ثبت قول موسى بن عمران ! قال الرضا عليه السلام: تعلم يا يهودي ان موسى أوصى بني اسرائيل فقال لهم: انه سيأتيكم نبي من اخوانكم فيه فصدقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني اسرائيل اخوة غير ولد اسماعيل، ان كنت تعرف قرابة اسرائيل من اسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل ابراهيم عليه السلام ؟ فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه. فقال له الرضا عليه السلام: هل جاءكم من اخوة بني اسرائيل غير محمد صلى الله عليه وآله ؟ قال: لا. وفي العيون: فقال الرضا عليه السلام: أفليس قد صح هذا عندكم ؟ قال: نعم. ولكني احب أن تصححه لي من التوراة. فقال له الرضا عليه السلام: هل تنكرون التوراة تقول لكم: جاء النور من قبل طور سيناء، وأضاء للناس من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران ؟ قال رأس الجالوت: اعرف هذه الكلمات وما اعرف تفسيرها. قال الرضا عليه السلام: أنا أخبرك به اما قوله: جاء النور من قبل طور سيناء: فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء، واما قوله: وأضاء للناس في جبل ساعير، فهو: الجبل الذي اوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه، واما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران: فذاك جبل من جبال مكة، وبينه وبينها يومان أو يوم. قال شعيا النبي – فيما تقول أنت واصحابك في التوراة – رأيت راكبين أضاء لهما الارض، أحدهما على حمار، والاخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل ؟ قال رأس الجالوت: لا اعرفهما فخبرني بهما ! قال: اما راكب الحمار فعيسى، واما راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله أتنكر هذا من التوراة ؟ قال: لا ما انكره.


[ 210 ]

قال الرضا عليه السلام: هل تعرف حيقوق النبي عليه السلام ؟ قال: نعم. اني به لعارف ! قال: فانه قال – وكتابكم ينطق به -: جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران، وامتلات السماوات من تسبيح احمد وامته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس، يعني بالكتاب: القرآن. أتعرف هذا وتؤمن به ؟ قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوق النبي عليه السلام ولا ننكر قوله. قال الرضا عليه السلام: فقد قال داود عليه السلام في زبوره – وأنت تقرأه -: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى الله عليه وآله ؟ قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك: عيسى وامامه هي الفترة. قال الرضا عليه السلام: جهلت ان عيسى لم يخالف السنة، وكان موافقا لسنة التوراة، حتى رفعه الله إليه، وفي الانجيل مكتوب: ان ابن البرة ذاهب و (الفارقليطا) جائي من بعدي، هو يخف الاصار، ويفسر لكم كل شئ، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالامثال وهو يأتيكم بالتأويل، أتؤمن بهذا في الانجيل ؟ قال: نعم. لا انكره. قال الرضا عليه السلام: اسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه السلام. فقال: سل ! قال: ما الحجة على ان موسى ثبتت نبوته ؟ قال اليهودي: انه جاء بما لم يجئ أحد من الانبياء قبله. قال له عليه السلام: مثل ماذا ؟ قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حية تسعى، وضربه الحجر فانفجر منه العيون واخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها. قال له الرضا عليه السلام: صدقت في انها كانت حجته على نبوته، انه جاء بما


[ 211 ]

لا يقدر الخلق على مثله، أفليس كل من ادعى أنه نبي وجاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ قال: لا. لان موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الاعلام بمثل ما جاء. قال الرضا عليه السلام: فكيف أقررتم بالانبياء الذين كانوا قبل موسى، ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشر عينا، ولم يخرجوا ايديهم مثل اخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حية تسعى ؟ ! قال له اليهودي: قد خبرتك انك متى جاؤا على نبوتهم من الايات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاؤا بمثل ما لم يجئ به موسى، أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم. قال الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت ! فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الاكمه والابرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا باذن الله ؟ ! قال رأس الجالوت: يقال: انه فعل ذلك، ولم نشهده. قال الرضا عليه السلام: أرأيت ما جاء به موسى من الايات وشاهدته ! أليس انما جاء الاخبار من ثقاة أصحاب موسى انه فعل ذلك ؟ قال: بلى. قال: كذلك أيضا اتتكم الاخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم. فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى ؟ ! فلم يحر جوابا. فقال الرضا عليه السلام: وكذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وما جاء به، وأمر كل نبي بعثه الله، ومن آياته انه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا، ولم يتعلم، ولم يختلف إلى معلم. ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الانبياء عليهم السلام وأخبارهم حرفا حرفا، واخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون


[ 212 ]

في بيوتهم، بآيات كثيرة لا تحصى. قال رأس الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى، ولا خبر محمد، ولا يجوز لنا ان نقر لهما بما لا يصح عندنا. قال الرضا عليه السلام: فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله شاهد زور ؟ فلم يحر جوابا. ثم دعا بالهربذ الاكبر. فقال له الرضا عليه السلام: اخبرني عن زردشت الذي تزعم: انه نبي ما حجتك على نبوته ؟ قال: انه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله، ولم نشهده. ولكن الاخبار من اسلافنا وردت علينا بانه: أحل لنا ما لم يحله لنا غيره فاتبعناه. قال: أفليس انما اتتكم الاخبار فاتبعتموه ؟ قال: بلى. قال: فكذلك سائر الامم السالفة، اتتهم الاخبار بما أتى به النبيون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، فما عذركم في ترك الاقرار بهم، إذ كنتم انما اقررتم بزردشت من قبل الاخبار الواردة بانه: جاء بما لم يجئ به غيره ؟ فانقطع الهربذ مكانه. فقال الرضا عليه السلام: يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الاسلام واراد أن يسأل فليسأل غير محتشم ! فقام إليه عمران الصابي – وكان واحدا من المتكلمين – فقال: يا عالم الناس ! لو لا انك دعوت إلى مسألتك لم اقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ولقيت المتكلمين فلم اقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته، أفتأذن أن اسألك ؟ قال الرضا عليه السلام: إن كان في الجماعة عمران الصابي فانت هو ! قال: أنا هو. قال: سل يا عمران وعليك بالنصفة، إياك والخطل والجور !


[ 213 ]

قال: والله يا سيدي ما اريد إلا أن تثبت لي شيئا اتعلق به. فلا أجوزه ! قال: سل عما بدا لك ! فازدحم الناس وضم بعضهم إلى بعض. فقال: أخبرني عن الكائن الاول وعما خلق ؟ قال: سألت فافهم الجواب ! اما الواحد فلم يزل كائنا واحدا، لا شئ معه، بلا حدود، ولا اعراض، ولا يزال كذلك. ثم خلق خلقا مبتدعا، مختلفا، باعراض وحدود مختلفة، لا في شئ اقامه، ولا في شئ حده، ولا على شئ حذاه ومثله، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة لله، واختلافا وايتلافا، والوانا، وذوقا، وطعما، لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا، تعقل هذا يا عمران ؟ قال: نعم والله يا سيدي. قال: واعلم يا عمران ! انه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي ان يخلق اضعاف ما خلق، لان الاعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى. ثم طال السؤال والجواب بين الرضا عليه السلام وبين عمران الصابي، والزمه عليه السلام في أكثر مسائله، حتى انتهت الحال إلى أن قال: أشهد أنه يا سيدي كما وصفت، ولكن بقيت مسألة ! قال: سل عما اردت ! قال: اسألك عن: (الحكيم) في أي شئ، وهل يحيط به شئ، وهل يتحول من شئ إلى شئ، أو هل به حاجة إلى شئ ؟ قال الرضا عليه السلام: اخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فانه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم، وليس يفهمه المتقارب عقله العازب حلمه، ولا يعجز عن فهمه اولو العقل المنصفون.


[ 214 ]

اما اول ذلك. فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك، ولكنه عزوجل لم يخلق شيئا لحاجة، ولم يزل ثابتا لا في شئ، إلا ان الخلق يمسك بعضه بعضا، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه. والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شئ، ولا يخرج منه ولا يؤده حفظه، ولا يعجز عن امساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عزوجل، ومن اطلعه عليه من رسله واهل سره، والمستحفظين لامره، وخزانه القائمين بشريعته، وانما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فانما يقول له: (كن) فيكون بمشيته وارادته، وليس شئ من خلقه أقرب إليه من شئ، ولا شئ أبعد منه من شئ، أفهمت يا عمران ؟ قال: نعم يا سيدي فهمت، وأشهد ان الله على ما وصفت ووحدت، وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق، ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم. قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي – وكان جدلا لم يقطعه عن حجته احد قط – لم يدن من الرضا عليه السلام أحد، ولم يسألوه عن شي، وامسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس. ثم قال الرضا عليه السلام – بعد أن عاد إلى منزله -: يا غلام صر إلى عمران الصابي فأتني به ! فقلت: جعلت فداك ! أنا أعرف موضعه هو عند بعض اخواننا من الشيعة. قال: فلا بأس قربوا إليه دابة. فصرت إلى عمران فأتيته به، فرحب به، ودعا بكسوة فخلعها عليه، ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله به. قلت: جعلت فداك ! حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام. قال: هكذا يجب. ثم دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه، واجلس عمران عن يساره، حتي إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة.


[ 215 ]

فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من اصحاب المقالات فيبطل عليهم أمرهم حتى اجتنبوه. ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم، وأعطاه الفضل مالا جزيلا، وولاه الرضا عليه السلام صدقات البلخ فاصاب الرغائب. وروي عن علي بن الجهم انه قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام فقال له المأمون: يابن رسول الله أليس من قولك: (ان الانبياء معصومون) ؟ (1). قال: بلى. قال: فما معنى قول الله عزوجل: (وعصى آدم ربه فغوى) ؟ (2). فقال: ان الله تبارك وتعالى قال لادم عليه السلام: (اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) (3) ولم يقل لهما لا تأكلا من هذه الشجرة، ولا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، وانما أكلا من غيرها إذ وسوس الشيطان اليهما وقال: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة) (4) وانما نهاكما ان تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الاكل منها: (إلا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (5) (وقاسمهما اني لكما من الناصحين) (6) ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا، (فدلاهما بغرور) (7)


(1) عقيدتنا في النبي والامام عليهما السلام، ان يكونا معصومين بمعنى: اننا ننزه النبي والامام عليهما السلام عن كبائر الذنوب وصغائرها، وعن الخطأ والنسيان بل عما ينافي المروءة وعن كل عمل يستهجن عرفا. ولو انتفت عنه العصمة: لا حتملنا الخطأ والنسيان والمعصية في كل عمل أو قول يصدر عنه وحينئذ لا تكون اقواله ولا افعاله حجة علينا، ولا نكون ملزمين باتباعها. وفي ذلك انتقاض الغرض. وقد اجمع الامامية على القول بالعصمة. وما يتوهم خلاف ذلك من بعض الاخبار والادعية فهى مؤلة. (2) طه – 121. (3) البقرة – 35. (4 – 5) الاعراف – 20. (6 – 7) الاعراف – 21، 22.

[ 216 ]

فاكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق دخول النار، وانما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الانبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة. قال الله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) وقال عزوجل: (ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين) (1). قال المصنف (ره): لعل الرضا صلوات الله عليه أراد (بالصغائر الموهوبة): ترك المندوب وارتكاب المكروه من الفعل، دون الفعل القبيح الصغير بالاضافة إلى ما هو اعظم منه، لاقتضاء أدلة العقول والاثر المنقول لذلك، ورجعنا إلى سياق الحديث. ثم قال المأمون: فما معنى قول الله عزوجل: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) (2). فقال الرضا عليه السلام: ان حوا ولدت خمسمائة بطن، في كل بطن ذكر وانثى وان آدم وحوا عاهدا الله ودعواه قالا: (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) (3) فلما آتاهما صالحين من النسل، خلقا سويا بريئا من الزمانة والعاهة، كان ما آتاهما صنفين: صنفا ذكرانا وصنفا اناثا، جعل الصنفان لله تعالى شركاء فيما آتاهما ولم يشكراه شكر أبويهما له عزوجل. قال الله تعالى: (فتعالى الله عما يشركون) (4). فقال المأمون: اشهد أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حقا، فاخبرني عن قول الله عزوجل في ابراهيم: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ؟) (5). فقال الرضا عليه السلام: ان ابراهيم وقع على ثلاثة اصناف: صنف يعبد (الزهرة)، وصنف يعبد (القمر)، وصنف يعبد (الشمس) ذلك حين خرج من


(1) آل عمران – 33. (2 – 3) الاعراف – 189، 188. (4) الاعراف – 189. (5) الانعام – 76.

[ 217 ]

من السرب الذي اخفى فيه. فلما جن عليه الليل رأى (الزهرة) قال: (هذا ربي ؟ !) على الانكار والاستخبار. (فلما افل (الكوكب) قال لا احب الافلين) (1) لان الافول من صفات المحدث ولا من صفات القديم. (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ؟ !) (2) على الانكار والاستخبار. (فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين) (3) يقول: لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين. (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) (4) من الزهر والقمر ؟ ! على الانكار والاستخبار، لا على سبيل الاخبار والاقرار. (فلما افلت قال – للاصناف الثلاثة من: عبدة الزهرة، والقمر، والشمس – يا قوم اني برئ مما تشركون * اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) (5) فانما اراد ابراهيم عليه السلام بما قال: ان يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم: ان العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وانما تحق العبادة لخالقها خالق السماوات والارض. وكان مما احتج به على قومه مما الهمه الله عزوجل وآتاه، كما قال الله عزوجل: (وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه) (6). فقال المأمون: لله درك يابن رسول الله ! فأخبرني عن قول ابراهيم: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) (7). قال الرضا عليه السلام: ان الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى ابراهيم عليه السلام: (اني متخذ من عبادي خليلا إن سألني احياء الموتى احييت له) فوقع في نفس ابراهيم انه ذلك الخليل فقال: (ربي ارني كيف تحبي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن


(1) الانعام – 86. (2 – 3) الانعام – 77. (4 – 5) الانعام – 78 – 79. (6) الانعام – 83. (7) البقرة – 260.

[ 218 ]

ليطمئن قلبي) على الخلة: (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله على كل شئ قدير) (1) فأخذ ابراهيم نسرا وبطا وطاووسا وديكا، فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله – وكانت عشرة – منهن جزءا، وجعل مناقيرهن بين اصابعه، ثم دعاهن باسمائهن، ووضع عنده حبا وماء، فتطايرت تلك الاجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الابدان، وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى ابراهيم عليه السلام عن مناقيرهن، فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب ؟ وقلن: يا نبي الله احييتنا أحياك الله ! فقال ابراهيم: (بل الله يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير). فقال المأمون: بارك الله فيك يا أبا الحسن ! فاخبرني عن قول الله: (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) (2). قال الرضا عليه السلام: ان موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها – وذلك بين المغرب والعشاء – (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى) فقضى موسى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فمات. قال: (هذا من عمل الشيطان) (3) يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين، لا ما فعله موسى من قتله إياه (انه – يعني: الشيطان – عدو مضل مبين) (4). قال المأمون فما معنى قول موسى: (رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي) (5) ؟ قال: يقول: اني وضعت نفسي غير موضعها، بدخولي هذه المدينة، فاغفر لي أي: استرني من أعدائك. لئلا يظفروا بي فيقتلوني (فغفر له) (6) أي: ستره من عدوه، (انه هو الغفور الرحيم) (7) قال: (ربي بما انعمت علي) (8)


(1) البقرة – 260. (2 – 3 – 4) القصص – 15. (5 – 6 – 7) القصص 16. (8) القصص – 17.

[ 219 ]

من القوة حتى قتلت رجلا بو كزة، (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) (1) بل اجاهد في سبيلك بهذه القوة حتى ترضى. (فأصبح موسى في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى انك لغوي مبين) (2) قاتلت رجلا بالامس، وتقاتل هذا اليوم لاؤدبنك، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ظن الذي هو من شيعته انه يريده (قال: – يا موسى – أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين) (3). قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن ! فما معنى قول موسى لفرعون: (فعلتها إذا وأنا من الضالين) (4) ؟ قال الرضا عليه السلام: ان فرعون قال لموسى لما أتاه: (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) (5) (قال موسى فعلتها إذا وأنا من الضالين) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك، (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين) (6) وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: (ألم يجدك يتيما فآوى) (7) يقول: ألم يجدك وحيدا فآوى اليك الناس ؟ (ووجدك ضالا) يعني: عند قومك (فهدى) (8) أي: هداهم إلى معرفتك. (ووجدك عائلا فأغنى) (9) يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا. قال المأمون: بارك الله فيك يابن رسول الله ! فما معنى قول الله: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني أنظر اليك قال لن تراني) الاية (10) كيف يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم ان الله تعالى ذكره لا يجوز


(1) القصص – 17. (2) القصص – 18. (3) القصص – 19. (4) الشعراء – 20. (5) الشعراء – 18. (6) الشعراء – 21. (7) الضحى – 6. (8) الضحى – 8. (9) الضحى – 8. (10) الاعراف – 142.

[ 220 ]

عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال ؟ ! فقال الرضا عليه السلام: ان كليم الله موسى بن عمران علم ان الله جل عن أن يرى بالابصار، ولكنه لما كلمه الله تعالى وقربه نجيا، رجع إلى قومه فأخبرهم: ان الله عزوجل كلمه وقربه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة الف رجل، فاختار منهم سبعين الفا، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فاقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور، وسأل الله عز وجل أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى: وسمعوا كلامه من فوق واسفل ويمين وشمال، ووراء وأمام، لان الله عزوجل أحدثه في الشجرة، ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه. فقالوا: لن نؤمن لك بان هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا. فقال موسى: يا رب ما اقول لبني اسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: انك ذهبت بهم فقتلتهم لانك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجات الله إياك ؟ فاحياهم الله وبعثهم معه، فقالوا: انك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه لاجابك، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته. فقال موسى: يا قوم ! ان الله لا يرى بالابصار ولا كيفية له، وانما يعرف باياته ويعلم بعلاماته. فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله. فقال موسى: رب انك قد سمعت مقالة بني اسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جل جلاله إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن اؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى: (رب أرني انظر اليك) (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه – وهو يهوى – فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل – بآية من


[ 221 ]

آياته – جعله دكا وخر موسى صعقا فلما افاق قال سبحانك تبت اليك) يقول: رجعت إلى معرفتي بك ؟ عن جهل قومي، (وانا أول المؤمنين) منهم بانك لا ترى. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن ! فاخبرني عن قول الله عزوجل: ولقد همت به وهم بها لولا ان رأى برهان ربه) (1) ؟ فقال الرضا عليه السلام همت به ولو لا ان رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق انه قال: همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزوجل: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه. الاية) (2) ؟ فقال الرضا عليه السلام: ذلك يونس بن متى، ذهب مغاضبا لقومه، فظن بمعنى: استيقن ان لن نقدر عليه، أي: نضيق عليه رزقه، ومنه قوله عزوجل: (واما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) (3) أي: ضيق وقتر، (فنادى في الظلمات) ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، (ان لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين) بتركي العبادة التي قد قرت عيني بها في بطن الحوت. فاستجاب الله له. وقال عزوجل: (فلولا انه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) (4). فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن ! اخبرني عن قول الله عزوجل: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) ؟ (5). قال الرضا عليه السلام: يقول الله: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم، وظن قومهم ان الرسل قد كذبوا، جاء الرسل نصرنا. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن ! فاخبرني عن قول الله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ؟ (6).


(1) يوسف – 24. (2) الانبياء – 87. (3) الفجر – 16. (4) الصافات – 144. (5) يوسف – 110. (6) الفتح – 1.

[ 222 ]

قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله، لانهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: (أجعل الالهة إلها واحدا ان هذا لشئ عجاب * فانطلق الملا منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشئ يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق) (1) فلما فتح الله عزوجل على نبيه مكة قال له: يا محمد (انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (2) عند مشركي اهل مكة بدعائك إياهم إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر، لان مشركي مكة اسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لا يقدر على انكار التوحيد عليه إذا دعى الناس إليه، فصار ذنبه عندهم مغفورا بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن ! فاخبرني عن قول الله عزوجل: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) (3). فقال الرضا عليه السلام: هذا مما نزل (باياك اعني واسمعي يا جارة) خاطب الله بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وأراد به امته، وكذلك قوله تعالى: (لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (4) وقوله عزوجل: (ولو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) (5). قال المأمون: صدقت يابن رسول الله ! فاخبرني عن قول الله عزوجل: (واذ تقول للذي أنعم الله عليه وانعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه) (6). قال الرضا عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر اراده، فرأى امرأته تغتسل فقال لها: (سبحان الذي خلقك) وانما


(1) ص – 5 و 6 و 7 (2) الفتح 1. (3) التوبة – 44. (4) الزمر – 65. (5) الاسرى – 74. (6) الاحزاب – 37

[ 223 ]

اراد بذلك تنزيه الله عن قول من زعم: ان الملائكة بنات الله، فقال الله عزوجل: (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما) (1) فقال النبي صلى الله عليه وآله لما رآها تغتسل: (سبحان الذي خلقك) أن يتخذ ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد إلى منزله اخبرته امرأته بمجئ رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله لها سبحان الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما اراد بذلك وظن انه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله ان امرأتي في خلقها سوء، واني اريد طلاقها. فقال له النبي: (امسك عليك زوجك واتق الله) وقد كان الله عرفه عدد ازواجه وان تلك المرأة منهن، فاخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد، وخشى الناس أن يقولوا: ان محمدا يقول لمولاه ان امرأتك ستكون لي زوجة، فيعيبوه بذلك، فأنزل الله عزوجل: (واذ تقول للذي أنعم الله عليه) يعني: بالاسلام (وانعمت عليه) يعني: بالعتق (امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (2) ثم ان زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه فزوجها الله عزوجل من نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وانزل بذلك قرآنا فقال عزوجل: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في ازواج ادعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) (3) ثم علم عزوجل ان المنافقين سيعيبوه بتزويجها فانزل الله: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) (4). فقال المأمون: لقد شفيت صدري يابن رسول الله، وأوضحت لي ما كان ملتبسا فجزاك الله عن انبيائه وعن الاسلام خيرا. قال علي بن الجهم: فقام المأمون إلى الصلاة، واخذ بيد محمد بن جعفر


(1) الاسرى – 40. (3 2) الاحزاب – 38. (4) الاحزاب – 38.

[ 224 ]

ابن محمد – وكان حاضر المجلس – وتبعتهما فقال له المأمون: كيف رأيت ابن أخيك ؟ فقال: عالم. ولم نره يختلف إلى احد من اهل العلم. فقال المأمون: ان ابن اخيك من أهل بيت النبوة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله: (ألا ان ابرار عترتي، واطايب ارومتي، احلم الناس صغارا، واعلم الناس كبارا فلا تعلموهم فانهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة). وانصرف الرضا عليه السلام إلى منزله، فلما كان من الغد غدوت إليه، وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمه محمد بن جعفر له، فضحك الرضا عليه السلام ثم قال: يابن الجهم لا يغرنك ما سمعته منه، فانه سيغتالني والله ينتقم لي منه. احتجاجه صلوات الله عليه فيما يتعلق بالامامة وصفات من خصه الله تعالى بها وبيان الطريق إلى من كان عليها وذم من يجوز اختيار الامام ولؤم من غلا فيه وأمر الشيعة بالتورية والتقية عند الحاجة اليهما وحسن التأدب. أبو يعقوب البغدادي (1) قال: ان ابن السكيت (2) قال – لابي الحسن الرضا عليه السلام -:


(1) قال المامقانى في رجاله ج 3 ص 29: أبو يعقوب البغدادي روى في كتاب العقل والجهل من الكافي عن احمد بن محمد السيارى عنه ولم اقف على اسمه وحاله. (2) قال الشيخ عباس القمى في ج 7 من الكنى والالقاب ص 303: ابن السكيت – بكسر – السين وتشديد الكاف – أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الدورقى. الاهوازي الامامي النحوي اللغوى الاديب: ذكره كثير من المؤرخين وائنوا عليه، وكان ثقة جليلا من عظماء الشيعة. وبعد من خواص الامامين التقيين (ع) وكان حامل لواء علم العربية والادب والشعر واللغة والنحو، وله تصانيف كثيرة مفيدة منها: (تهذيب الالفاظ) وكتاب: (اصلاح المنطق) قال ابن خلكان: قال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل اصلاح المنطق ولا شك انه من الكتب النافعة –

[ 225 ]

لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء، وبآية السحر، وبعث عيسى بآية الطلب، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله بالكلام والخطب ؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: ان الله لما بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما ابطل به سحرهم، واثبت به الحجة عليهم. وان الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطلب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما احيا لهم الموتى وابرأ الاكمه والابرص باذن الله، واثبت به الحجة عليهم. وان الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله في وقت كان الاغلب على اهل عصره الخطب والكلام – واظنه قال والشعر – فأتاهم من عند الله من مواعظه وأحكامه ما ابطل به قولهم واثبت به الحجة عليهم. قال: فما زال ابن السكيت يقول له: والله ما رأيت مثلك قط ! فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه السلام العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه. فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب، قد ضمن الرضا عليه السلام في كلامه هذا ان العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل يلتجئ المكلف إليه فيما اشتبه عليه من أمر الشريعة، صاحب دلالة تدل على صدقه عليه تعالى، يتوصل المكلف إلى معرفته بالعقل، ولولاه لما عرف الصادق من الكاذب، فهو حجة الله تعالى


– الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه، وقد عنى به جماعة واختصره الوزير المغربي وهذبه الخطيب التبريزي.. قتله المتوكل في خامس رجب سنة 244 وسببه ان المتوكل قال له يوما: ايما احب اليك ابناي هذان أي: (المعتز والمؤيد) ام (الحسن والحسين) فقال ابن السكيت والله ان قنبرا خادم علي بن أبى طالب (ع) خير منك ومن ابنيك فقال المتوكل للاتراك سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات.

[ 226 ]

على الخلق أولا. وعن القسم بن مسلم (1) عن أخيه عبد العزيز بن مسلم (2) قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في جامعها في يوم جمعة في بدو قدومنا، فادار الناس أمر الامامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه السلام فاعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسم ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن اديانهم، ان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى اكمل له الدين، وانزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شئ، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والاحكام، وجميع ما يحتاج إليه كملا. فقال عزوجل: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (3) وانزل في حجة الوداع وهو آخر عمره: (اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) (4) فأمر الامامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لامته معالم دينه واوضح لهم سبيله، وتركهم على قصد الحق، واقام لهم عليا عليه السلام علما واماما وما ترك شيئا يحتاج إليه الامة إلا بينه، فمن زعم ان الله عزوجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عزوجل، ومن رد كتاب الله فهو كافر. هل تعرفون قدر الامامة ومحلها من الامة فيجوز فيها اختيارهم. ان الامامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم، فيقيموها باختيارهم. ان الامامة خص الله عزوجل بها ابراهيم الخليل بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه الله بها، فاشاد بها ذكره فقال عزوجل: (اني جاعلك للناس اماما)) (5) فقال الخليل – سرورا بها -: (ومن ذريتي) (6) قال الله عزوجل: (لا ينال عهدي الظالمين) (7) فابطلت هذه الاية امامة كل


(1) القسم بن مسلم: مجهول. (2) عبد العزيز بن مسلم: ذكره الشيخ في اصحابه الرضا عليه السلام ص 383 من رجاله. (3) الانعام – 38 (4) المائدة – 4. (5 – 6 – 7) البقرة 124.

[ 227 ]

ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم اكرمه الله عزوجل بأن جعل في ذريته اهل الصفوة والطهارة، فقال تعالى: (ووهبنا له اسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (1) فلم: تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا، حتى ورثها النبي صلى الله عليه وآله فقال الله عزوجل: (ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (2) فكانت له خاصة، فقلدها النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام بأمر الله على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الاصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان بقوله عزوجل: (وقال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) (3) فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله، فمن أين يختار هؤلاء الجهال ؟ ان الامامة منزلة الانبياء وارث الاوصياء. ان الامامة خلافة الله عزوجل، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين. ان الامامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. ان الامامة رأس الاسلام النامي، وفرعه السامي. بالامام تمام الصلاة والزكاة والصيام، والحج والجهاد، وتوفير الفئ والصدقات وامضاء الحدود والاحكام، ومنع الثغور والاطراف. الامام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. الامام كالشمس الطالعة للعالم وهي في الافق، بحيث لا تناله الايدي والابصار. الامام: البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيداء القفار ولجج البحار.


(1) الانبياء – 72 و 73 (2) آل عمران – 68. (3) الروم – 56.

[ 228 ]

الامام: الماء العذب على الظلماء، والدال على الهدى، والمنجي من الردى. الامام: النار على البقاع الحارة لمن اصطلى، والدليل عى المسالك، من فارقه فهالك. الامام: السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والارض البسيطة والعين الغزيرة، والغدير والروضة. الامام: الامين الرفيق، والوالد الشفيق، والاخ الشقيق، ومفزع العباد في الداهية. الامام: أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله، والذاب عن حريم الله. الامام: المطهر من الذنوب، المبرأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم. بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المارقين، وبوار الكافرين. الامام: واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل ولا له مثيل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المتفضل الوهاب فمن ذا يبلغ معرفة الامام ويمكنه اختياره ؟ هيهات هيهات ! ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الالباب، وحسرت العيون، وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الالباب وكلت الشعراء، وعجزت الادباء، وعيت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله فأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف أو ينعت بكنهه، أو يفهم شئ من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه، لا وكيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين، ووصف الواصفين ! فأين الاختيار من هذا، وأين العقول عن هذا، وأين يوجد مثل هذا، ظنوا أن دخل يوجد في غير آل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الباطل، فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض اقدامهم، راموا اقامة الامام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بعدا.


[ 229 ]

قاتلهم الله أنى يؤفكون ! لقد راموا صعبا، وقالوا افكا، وضلوا ضلالا بعيدا ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الامام من غير بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، وكانوا مستبصرين، رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله، إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) (1) وقال عزوجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (2) وقال عزوجل: (وما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * ان لكم فيه لما تخيرون * أم لكم ايمان علينا بالغة إلى يوم القيامة ان لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذلك زعيم * أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) (3) وقال عزوجل: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها) (4) (أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون (5) (قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون) (6) (وقالوا سمعنا وعصينا بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (7). فكيف لهم باختيار الامام ؟ ! والامام عالم لا يجهل، راع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، ومخصوص بدعوة الرسول وهم نسل مطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب، في البيت من قريش، والذروة من هاشم، والعترة من آل الرسول، والرضا من الله، شرف الاشراف، والفرع من عبد مناف، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالامامة عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله. ان الانبياء والائمة يوفقهم الله، ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما


(1) القصص – 68. (2) الاحزاب – 36. (3) القلم – 36 إلى 41. (4) محمد – 24. (5) التوبة – 87. (6) الانفال – 21 و 22 و 23. (7) البقرة – 93.

[ 230 ]

لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عزوجل: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1) وقوله عزوجل: (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) (2) وقوله عزوجل – في طالوت -: (ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) (3) وقال عزوجل لنبيه: (وكان فضل الله عليك عظيما) (4) وقال عزوجل – في الائمة من أهل بيته وعترته -: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) (5). وان العبد إذا اختاره الله لامور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده الجواب، ولا يحير فيه عن الصواب وهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن الخطايا والزلل والعثار، فخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا، فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه، تعدوا وبيت الله الحق، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وفي كتاب الله: (فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم) (6) فذمهم الله ومقتهم أنفسهم فقال عزوجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين) (7) وقال عزوجل: (فتعسا لهم واضل أعمالهم) (8) وقال عزوجل: (كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) (9). وروي عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام:


(1) يونس – 35. (2) البقرة – 269. (3) البقرة – 247. (4) النساء – 102. (5) النساء – 54. (6) آل عمران – 187. (7) القصص – 50. (8) محمد – 8. (9) المؤمن – 35.

[ 231 ]

انه قال: للامام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختونا، ويكون مطهرا ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وإذا وقع إلى الارض من بطن امه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادتين، ولا يحتلم، ولا ينام عينه ولا ينام قلبه، ويكون محدثا ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يرى له بول ولا غائط، لان الله قد وكل الارض بابتلاع ما يخرج منه، وتكون رائحته أطيب من رائحة المسك، ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، واشفق عليهم من آبائهم وامهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعا لله عزوجل، ويكون آخذ الناس بما يأمر به وأكف الناس عما ينهى عنه، ويكون دعاؤه مستجابا، حتى انه لو دعى على صخرة لانشقت بنصفين، أو يكون عنده سلاح رسول الله وسيفه ذو الفقار، وتكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائه إلى يوم القيامة ويكون عنده الجامعة، وهي صحيفة فيها سبعون ذراعا، فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم، ويكون عنده الجفر الاكبر والاصغر، وهو اهاب كبش فيها جميع العلوم حتى ارش الخدش، حتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة عليها السلام. وروى خالد بن الهيثم الفارسي (1) قال: قلت لابي الحسن الرضا عليه السلام: ان الناس يزعمون: ان في الارض ابدالا فمن هؤلاء الابدال ؟ قال: صدقوا، الابدال هم: الاوصياء، جعلهم الله في الارض بدل الانبياء إذا رفع الانبياء وختم بمحمد صلى الله عليه وآله. وقد روي عن بي الحسن الرضا عليه السلام: من ذم الغلاة والمفوضة وتكفيرهم وتضليلهم والبراءة منهم وممن والاهم، وذكر علة ما دعاهم إلى ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل، ما قد تقدم ذكر طرف منه في هذا الكتاب. وكذلك روي عن آبائه وأبنائه عليهم السلام، في حقهم والامر بلعنهم، والبراءة منهم، واشاعة


(1) مجهول.

[ 232 ]

حالهم، والكشف عن سوء اعتقادهم، كي لا يغتر بمقالتهم ضعفاء الشيعة، ولا يعتقد من خالف هذه الطائفة ان الشيعة الامامية بأسرهم على ذلك، نعوذ منه وممن اعتقده وذهب إليه. فمما ذكره الرضا عليه السلام عن علة وجه خطأهم وضلالهم عن الدين القيم: ما رويناه بالاسناد الذي تقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري: ان الرضا عليه السلام والصلوات والتحيات قال: ان هؤلاء الضلال الكفرة ما اتوا إلا من قبل جهلهم بمقدار أنفسهم، حتى اشتد اعجابهم بها وكثرة تعظيمهم لما يكون منها، فاستبدوا بآرائهم الفاسدة، واقتصروا على عقولهم المسلوك بها غير سبيل الواجب، حتى استصغروا قدر الله واحتقروا أمره، وتهاونوا بعظيم شأنه، إذ يعلموا انه القادر بنفسه الغني بذاته، الذي ليست قدرته مستعارة ولا غناه مستفادا، والذي من شاء أفقره ومن شاء أغناه، ومن شاء أعجزه بعد القدرة، وأفقره بعد الغنى، فنظروا إلى عبد قد اختصه الله بقدرة ليبين بها فضله عنده، وآثر بكرامته ليوجب بها حجته على خلقه، وليجعل ما اتاه من ذلك ثوابا على طاعته، وباعثا على اتباع أمره، ومؤمنا عباده المكلفين من غلظ من نصبه عليهم حجة ولهم قدوة، فكانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ينتجعون فضله ويؤملون نائله، ويرجون التفيؤ بظله والانتعاش بمعروفه، والانقلاب إلى أهليهم بجزيل عطائه الذي يعينهم على طلب الدنيا، وينقذهم من التعرض لدني المكاسب وخسيس المطالب، فبيناهم يسألون عن طريق الملك ليترصدوه وقد وجهوا الراغبة نحوه، وتعلقت قلوبهم برؤيته، إذ قيل لهم: سيطلع عليكم في جيوشه ومواكبه وخيله ورجله، فإذا رأيتموه فاعطوه من التعظيم حقه، ومن الاقرار بالمملكة واجبه، واياكم ان تسموا باسمه غيره، أو تعظموا سواه كتعظيمه، فتكونوا قد بخستم الملك حقه وازريتم عليه، واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته فقالوا: نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا، فما لبثوا ان طلع عليهم بعض عبيد الملك في خيل قد ضمها إليه سيده، ورجل قد جعلهم في جملته، واموال قد حباه بها، فنظر هؤلاء – وهم للملك طالبون – فاستكثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيده، ورفعوه


[ 233 ]

أن يكون هو من المنعم عليه بما وجدوا معه، فاقبلوا يحيونه تحية الملك ويسمونه باسمه ويجحدون ان يكون فوقه ملك وله مالك، فاقبل عليهم العبد المنعم عليه وسائر جنوده بالزجر والنهي عن ذلك، والبراءة مما يسمونه به، ويخبرونهم: بان الملك هو الذي أنعم بهذا عليه واختصه به، وان قولكم ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك وعذابه، ويفوتكم كلما أملتموه من جهته، واقبل هؤلاء القوم يكذبونهم ويردون عليهم قولهم، فما زالوا كذلك حتى غضب الملك لما وجد هؤلاء قد سووا به عبده، وازروا عليه في مملكته وبخسوه حق تعظيمه، فحشرهم اجمعين إلى حبسه، ووكل بهم من يسومهم سوء العذاب. فكذلك هؤلاء لما وجدوا أمير المؤمنين عبدا أكرمه الله ليبين فضله، ويقيم حجته، فصغروا عندهم خالقهم أن يكون جعل عليا له عبدا، واكبروا عليا عن أن يكون الله عزوجل له ربا، فسموه بغير اسمه فنهاهم هو واتباعه من اهل ملته وشيعته وقالوا لهم: يا هؤلاء ان عليا وولده عباد مكرمون مخلوقون ومدبرون لا يقدرون إلا على ما أقدرهم عليه لله رب العالمين، ولا يملكون إلا ما ملكهم، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا قبضا ولا بسطا، ولا حركة ولا سكونا إلا ما أقدرهم عليه وطوقهم، وان ربهم وخالقهم يجل عن صفات المحدثين، ويتعالى عن نعت المحدودين، وان من اتخذهم أو واحدا منهم أربابا من دون الله فهو من الكافرين وقد ضل سواء السبيل. فأبى القوم إلا جماحا وامتدوا في طغيانهم يعمهون، فبطلت أمانيهم، وخابت مطالبهم، وبقوا في العذاب. وروينا أيضا بالاسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري عليه السلام: ان أبا الحسن الرضا عليه السلام قال: ان من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا، واياكم والغلو كغلو النصارى فاني برئ من الغالين.


[ 234 ]

فقام إليه رجل فقال: يابن رسول الله صف لنا ربك ! فان من قبلنا قد اختلفوا علينا. فوصفه الرضا عليه السلام أحسن وصف، ومجده ونزهه عما لا يليق به تعالى. فقال الرجل: بأبي أنت وامي يابن رسول الله ! فان معي من ينتحل موالاتكم ويزعم أن هذه كلها من صفات علي عليه السلام، وانه هو الله رب العالمين. (قال): فلما سمعها الرضا عليه السلام، ارتعدت فرائصه وتصببب عرقا وقال: سبحان الله عما يشركون، سبحانه عما يقول الكافرون علوا كبيرا، أو ليس علي كان آكلا في الاكلين، وشاربا في الشاربين، وناكحا في الناكحين، ومحدثا في المحدثين. وكان مع ذلك مصليا خاضعا، بين يدي الله ذليلا، واليه أواها منيبا أفمن هذه صفته يكون إلها ؟ ! فان كان هذا إلها فليس منكم أحد إلا وهو إله لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدث كل موصوف بها. فقال الرجل: يابن رسول الله انهم يزعمون: ان عليا لما أظهر من نفسه المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله، دل على انه إله، ولما ظهر لهم بصفات المحدثين العاجزين لبس ذلك عليهم، وامتحنهم ليعرفوه، وليكون ايمانهم اختيارا من أنفسهم. فقال الرضا عليه السلام: أول ما هاهنا انهم لا ينفصلون ممن قلب هذا عليهم فقال: لما ظهر منه (الفقر والغاقة) دل على ان من هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون لا تكون المعجزات فعله، فعلم بهذا ان الذي أظهره من المعجزات انما كانت فعل القادر الذي لا يشبه المخلوقين، لا فعل المحدث المشارك للضعفاء في صفات الضعف. وروي: ان المأمون كان يحب في الباطن سقطات أبي الحسن الرضا عليه السلام وأن يغلبه المحتج، ويظهره غيره، فاجتمع يوما عنده الفقهاء والمتكلمون، قدس إليهم أن ناظروه في الامامة ! فقال لهم الرضا عليه السلام: اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه. فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي، ولم يكن بخراسان مثله.


[ 235 ]

فقال له الرضا عليه السلام: يا يحيى اخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه، أو كذب صادقا على نفسه، أيكون محقا مصيبا، أم مبطلا مخطيا ؟ فسكت يحيى. فقال له المأمون: أجبه ! فقال: يعفيني أمير المؤمنين عن جوابه. فقال المأمون: يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة ! فقال: لابد ليحيى من أن يخبرني عن أئمته: انهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا، فان زعم انهم كذبوا فلا امامة للكاذب، وان زعم انهم صدقوا فقد قال أولهم: (أقيلوني وليتكم ولست بخيركم) وقال ثانيهم: (بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه) فوالله ما رضي لمن فعل مثل فعله إلا بالقتل، فمن لم يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلا بنعوت، منها: العلم. ومنها: الجهاد. ومنها: ساير الفضائل وليست فيه، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها، كيف يقبل عهده إلى غيره، وهذه صفته ؟ ! ثم يقول على المنبر: ان لي شيطانا يعتريني، فإذا مال بي فقوموني، وإذا أخطأت فارشدوني فليسوا أئمة ان صدقوا وان كذبوا فما عند يحيى شئ في هذا. فعجب المأمون من كلامه. وقال: يا أبا الحسن ما في الارض من يحسن هذا سواك ! وروي عنه عليه السلام انه قال: أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته، وذله ومسكنته، أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله، فيقوم من قبره والملائكة صفوف، من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملوه على أجنحتهم، ويقولون: طوبى لك طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الابرار، ويا أيها المتعصب للائمة الاخيار. وبالاسناد الذي تكرر عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: دخل على أبي الحسن الرضا عليه السلام رجل فقال: يابن رسول الله لقد رأيت اليوم شيئا عجبت منه.


[ 236 ]

قال: وما هو ؟ قال: رجل كان معنا يظهر لنا انه: من الموالين لال محمد المتبرين من أعدائهم فرأيته اليوم عليه ثياب قد خلعت عليه، وهو ذا يطاف به ببغداد، وينادي المنادي بين يديه: معاشر المسلمين اسمعوا توبة هذا الرجل الرافضي ثم يقول: قل ! فقال: (خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر) فإذا قال ذلك ضجوا وقالو: قد تاب، وفضل أبا بكر على علي بن ابي طالب عليه السلام. فقال الرضا عليه السلام إذا خلوت فاعد علي هذا الحديث ! فلما خلى اعاد عليه. فقال له: انما لم افسر لك معنى كلام الرجل بحضرة هذا الخلق المنكوس، كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه، لم يقل الرجل خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله (أبو بكر) فيكون قد فضل أبا بكر على علي عليه السلام، ولكن قال: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله (أبا بكر) فجعله نداء لابي بكر ليرضي من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء، الجهلة، ليتوارى من شرورهم. ان الله تعالى جعل هذه التورية مما رحم به شيعتنا. وبهذا الاسناد عن أبي محمد العسكري عليه السلام انه قال: لما جعل المأمون إلى علي ابن موسى الرضا عليه السلام ولاية العهد، دخل عليه آذنه فقال: ان قوما بالباب يستأذنون عليك، يقولون: (نحن من شيعة علي عليه السلام). فقال: أنا مشغول فاصرفهم ! فصرفهم إلى أن جاؤا هكذا يقولون ويصرفهم شهرين، ثم أيسوا من الوصول فقالوا: (قل لمولانا ان شيعة أبيك علي بن أبي طالب عليه السلام قد شمت بنا اعداؤنا في حجابك لنا، ونحن ننصرف عن هذه الكرة، ونهرب من بلادنا خجلا وانفة مما لحقنا، وعجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا من أعدائنا). فقال علي بن موسى عليهما السلام: إئذن لهم ليدخلوا، فدخلوا عليه فسلموا عليه فلم يرد عليهم، ولم يأذن لهم بالجلوس، فبقوا قياما.


[ 237 ]

فقالوا: يابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم، والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب، أي باقية تبقى منا بعد هذا ؟ فقال الرضا عليه السلام: اقرؤا: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (1) والله ما اقتديت إلا بربي عزوجل وبرسوله وبأمير المؤمنين ومن بعده من آبائي الطاهرين عليهم السلام، عتبوا عليكم فاقتديت بهم. قالوا: لماذا يابن رسول الله ؟ قال: لدعواكم انكم شيعة أمير المؤمنين ! ويحكم ان شيعته: الحسن والحسين وسلمان، وابو ذر، والمقداد، وعمار، ومحمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره، وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون، وتقصرون في كثير من الفرائض وتتهاونون بعظيم حقوق اخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لابد من التقية، لو قلتم: انكم مواليه ومحبوه، والموالون لاوليائه والمعادون لاعدائه، لم انكره من قولكم، ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها ان لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم، إلا ان تتدارككم رحمة ربكم. قالوا: يابن رسول الله ! فإذا نستغفر الله ونتوب إليه من قولنا بل نقول كما علمنا مولانا: نحن محبوكم ومحبوا أوليائكم، ومعادوا أعدائكم. قال الرضا عليه السلام: فمرحبا بكم اخواني، وأهل ودي، ارتفعوا ! فما زال يرفعهم حتي ألصقهم بنفسه. ثم قال لحاجبه. كم مرة حجبتهم ؟ قال: ستين مرة. قال: فاختلف إليهم ستين مرة متوالية، فسلم عليهم واقرأهم سلامي فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم وتوبتهم، واستحقوا الكرامة لمحبتهم لنا وموالاتهم، وتفقد امورهم وامور عيالاتهم، فأوسعهم نفقات ومبرات وصلات ودفع معرات.


(1) الشورى – 30.

[ 238 ]

احتجاج ابي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام في انواع شتى من العلوم الدينية. روى أبو داود بن القسم الجعفري (1) قال: قلت لابي جعفر الثاني عليه السلام: قل هو الله احد، ما معنى الاحد ؟ قال: المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (2) ثم يقولون بعد ذلك له شريك وصاحبة. فقلت: قوله: (لا تدركه الابصار) (3) ؟ قال: يا أبا هاشم ! أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند. والبلدان التي لم تدخلها، ولم تدرك ببصرك ذلك. فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدكره الابصار. وسئل عليه السلام: أيجوز أن يقال لله: انه شئ ؟ فقال: نعم. تخرجه من الحدين: حد الابطال، وحد التشبيه. وعن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله رجل فقال:


(1) داود بن القاسم بن اسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب رحمه الله ذكره الشيخ في الفهرست ص 93 فقال: له كتاب. وذكره في رجاله في اصحاب الرضا عليه السلام ص 375 وفي اصحاب الجواد عليه السلام ص 401 وقال: ثقة جليل القدر وفي اصحاب الهادى عليه السلام ص 414 وفي اصحاب العسكري ص 431. وذكره العلامة في الخلاصة فقال: يكنى ابا هاشم الجعفري رحمه الله من اهل بغداد ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة عند الائمة عليهم السلام شاهد أبا جعفر وأبا الحسن وأبا محمد عليهم السلام وكان شريفا عندهم، له موقع جليل عندهم. روى ابوه عن الصادق عليه السلام (2) العنكبوت – 61. (3) الانعام – 103.

[ 239 ]

اخبرني عن الرب تبارك وتعالى أله أسماء وصفات في كتابه، وهل أسماؤه وصفاته هي هو ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: ان لهذا الكلام وجهين: ان كنت تقول: (هي هو) انه: ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك، وان كنت تقول: هذه الاسماء والصفات لم تزل، فان ما لم تزل محتمل على معنيين: فان قلت لم تزل عنده في علمه، وهو يستحقها فنعم، وان كنت تقول: لم تزل صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شئ غيره، بل كان الله تعالى ذكره ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون بها إليه ويعبدون، وهي: (ذكره) وكان الله سبحانه ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل، والاسماء والصفات مخلوقات، والمعني بها هو الله، لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، وانما يختلف ويتألف المتجزي، ولا يقال له قليل ولا كثير، ولكنه القديم في ذاته، لان ما سوى الواحد متجزي والله واحد ولا متجزي، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزي أو متوهم با لقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له، فقولك: (ان الله قدير) خبرت انه لا يعجزه شئ، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز لسواه، وكذلك قولك: (عالم) انما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل لسواه، فإذا أفنى الله الاشياء أفنى (الصورة والهجاء والتقطيع) فلا يزال من لم يزل عالما. فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا ؟ فقال: لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالاسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سميناه (بصيرا) لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالابصار من: لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر طرفة العين. وكذلك سميناه (لطيفا) لعلمه بالشئ اللطيف مثل: (البعوضة) وما هو أخفى من ذلك، وموضع المشي منها والشهوة والسفاد، والحدب على أولادها، واقامة بعضها على بعض، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والاودية والقفار، وعلمنا بذلك ان خالقها لطيف بلا كيف، إذ الكيف للمخلوق المكيف، وكذلك سمينا ربنا (قويا) بلا


[ 240 ]

قوة البطش المعروف من الخلق، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصا كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزا، فربنا تبارك وتعالى لا شبه له، ولا ضد ولاند، ولا كيفية، ولا نهاية، ولا تصاريف، محرم على القلوب أن تحتمله، وعلى الاوهام أن تحده، وعلى الضمائر أن تصوره، عزوجل عن أداة خلقه، وسمات بريته، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. عن الريان بن شبيب (1) قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته ام الفضل أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ذلك، واستنكروا منه وخافوا أن ينتهي الامر معه إلى ما انتهى مع الرضا عليه السلام، فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الادنون منه، فقالوا: ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الامر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا عليه السلام فانا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله، وينتزع منا عزا قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا وما كان عليه خلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت، وكفانا الله المهم من ذلك، فالله الله أن ترديا إلى غم قد انحسر عنا، واصرف رأيك عن ابن الرضا عليه السلام واعدل إلى من تراه من اهل بيتك يصلح لذلك دون غيره. فقال لهم المأمون: اما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، واما ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان به قاطعا للرحم، واعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ولقد سألته أن يقوم بالامر وانزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدرا مقدورا. واما أبو جعفر محمد بن علي، فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنه والاعجوبة فيه بذلك، وأنا ارجوا ان يظهر للناس


(1) قال العلامة الحلي رحمه الله في القسم الاول من خلاصته ص 71 (الريان ان شبيب – بالشين المعجمة وبعدها باء منقطة – خال المعتصم، ثقة).

[ 241 ]

ما قد عرفته منه، فيعلموا ان الرأي ما رأيت. فقالوا: ان هذا الفتى وان راقك منه هديه فانه صبي لا معرفة له ولا فقه، فامهله ليتأدب ثم اصنع ما ترا بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم اني أعرف بهذا الفتى منكم، وان هذا من اهل بيت علمهم من الله تعالى ومواده والهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والادب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله. قالوا: لقد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولانفسنا بامتحانه، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة، فان اصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في حقه، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه وان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم. فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم – وهو يومئذ قاضي الزمان – على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى ذلك، واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يفرش لابي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر عليه السلام وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه. فقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السلام. فقال يحيى بن اكثم للمأمون: تأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال المأمون: استأذنه في ذلك. فأقبل عليه يحيى بن اكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟


[ 242 ]

فقال أبو جعفر عليه السلام: سل إن شئت ! فقال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: قتله في حل أو حرم، عالما كان المحرم أو جاهلا قتله عمدا أو خطأ، حرا كان المحرم أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا، مبتدئا بالقتل أو معيدا، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كباره مصرا على ما فعل أو نادما، في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟ فتحير يحيى بن اكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف جماعة اهل المجلس عجزه. فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الان ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل إلى أبي جعفر فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ؟ قال: نعم. يا أمير المؤمنين. فقال له المأمون: اخطب لنفسك جعلت فداك ! فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك ام الفضل ابنتي وان رغم انوف قوم لذلك. فقال أبو جعفر عليه السلام: الحمد لله اقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله اخلاصا لوحدانيته، وصلى الله على سيد بريته، والاصفياء من عترته. اما بعد: فقد كان من فضل الله على الانام ان اغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه: (وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وامائكم ان يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم) (1) ثم ان محمد بن علي بن موسى يخطب ام الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليهما السلام، وهو: (خمسمائة درهم) جيادا فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها


(1) النور – 32.

[ 243 ]

على هذا الصداق المذكور ؟ فقال المأمون: نعم. قد زوجتك يا أبا جعفر ام الفضل ابنتي على الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح ؟ قال أبو جعفر عليه السلام: نعم. قد قبلت ذلك ورضيت به. فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم من الخاصة والعامة. قال الريان: ولم نلبث ان سمعنا أصواتا تشبه الملاحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة تشد بالحبال من الابريسم، على عجلة مملوة من الغالية، فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ففعلوا ذلك، ثم مدت إلى دار العامة فتطيبوا بها، ووضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم. فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي قال المأمون لابي جعفر عليه السلام: جعلت فداك ! ان رأيت أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه ونستفيده. فقال أبو جعفر عليه السلام: نعم ان المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، وان اصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا، وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، فإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة وان كان نعامة فعليه بدنة، وان كان ظبيا فعليه شاة، فان كان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة، وإذا اصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان احرامه للحج نحره بمنى، وان كان احرام بعمرة نحره بمكة وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الاخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الاخرة.


[ 244 ]

فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله اليك. فان رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك ؟ فقال أبو جعفر ليحيى: أسألك ؟ قال: ذلك اليك جعلت فداك، فان عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك. فقال أبو جعفر عليه السلام: اخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما كانت الشمس حرمت عليه، فلما دخل وقت العشاء الاخرة حلت له، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، ما حال هذه المرأة، وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟ فقال له يحيى بن اكثم: لا والله لا اهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا اعرف الوجه فيه، فان رأيت أن تفيدنا. فقال أبو جعفر عليه السلام: هذه أمة لرجل من الناس، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر اعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها (1) فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الاخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها طلقة واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له. (قال): فاقبل المأمون على من حضر من اهل بيته وقال لهم: هل فيكم من يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟ قالوا: لا والله ان امير المؤمنين أعلم بما رأى. فقال: ويحكم ان أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل،


(1) الظهار هو: ان يقول الرجل لزرجته (انتى علي كظهر امي) فإذا قال لها ذلك: حرمت عليه ولا يرجع بها إلا بعد ان يعطي الكفارة.

[ 245 ]

وان صغر السن لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الاسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما دون الست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما ؟ أولا تعلمون الان ما اختص الله به هؤلاء القوم وانهم ذرية بعضها من بعض، يجري لاخرهم ما يجري لاولهم ؟ قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين. ثم نهض القوم، فلما كان من الغد حضر الناس وحضر أبو جعفر عليه السلام، وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه السلام فاخرجت ثلاثة اطباق من الفضة، فيها بنادق مسك وزعفران معجون في اجواف تلك البنادق ورقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية، واقطاعات. فامر المأمون بنثرها على القوم من خاصته، فكان كل من وقع في يده بندقة اخرج الرقعة التي فيها والتمسه فاطلق له، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا، وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين، ولم يزل مكرما لابي جعفر عليه السلام معظما لقدره مدة حياته، يؤثره على ولده وجماعة اهل بيته. وروي: ان المأمون بعدما زوج ابنته ام الفضل أبا جعفر، كان في مجلس وعنده أبو جعفر عليه السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة. فقال له يحيى بن اكثم: ما تقول يابن رسول الله في الخبر الذي روي: انه (نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا محمد ان الله عزوجل يقرؤك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فاني عنه راض) (1).


(1) قال الحجة الاميني في الغدير في ج 6 بعد ذكر هذا الحديث الموضوع: (اخرجه الخطيب البغدادي في تأريخه ج 2 ص 106 من طريق محمد بن بابشاذ صاحب الطامات ساكتا عن بطلانه جريا على عادته، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2 ص 213 فقال: كذب).

[ 246 ]

فقال أبو جعفر عليه السلام: لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر ان يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: (قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به) وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله قال الله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (1) فالله عزوجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول. ثم قال يحيى بن اكثم: وقد روي: (ان مثل أبي بكر وعمر في الارض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء). فقال: وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لان جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان يم يعصيا الله قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن اسلما بعد الشرك. فكان اكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن يشبههما بهما. قال يحيى: وقد روي أيضا: (أنهما سيدا كهول أهل الجنة) (2) فما تقول فيه ؟


(1) ق – 16. (2) ذكره الحجة الاميني في سلسلة الموضوعات ج 5 ص 276 من كتاب الغدير فقال: (من موضوعات يحيى بن عنبسة وهو ذلك الدجال الوضاع ذكره الذهبي في الميزان ج 3 ص 126 وقال: قال يونس بن حبيب: ذكرت لعلي بن المدئنى محمد بن كثير المصيصي وحديثه هذا فقال علي: كنت اشتهي ان ارى هذا الشيخ فالان لا احب ان اراه. ورواه من طريق عبد الرحمن بن مالك بن مغول الكذاب الافاك الوضاع. وفي تلخيص الشافي ص 219 من الجرء الثاني: (اما الخبر الذى يتضمن انهما سيدا كهول اهل الجنة فمن تأمل اصل هذا الخبر –

[ 247 ]

فقال عليه السلام: وهذا الخبر محال أيضا، لان أهل الجنة كلهم يكونون شبابا ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو امية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسن عليهما السلام: بانهما (سيدا شباب أهل الجنة). فقال يحيى بن اكثم: وروي: (ان عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة). فقال عليه السلام: وهذا أيضا محال، لان في الجنة ملائكة الله المقربين، وآدم ومحمد، وجميع الانبياء والمرسلين، لا تضئ الجنة بانوارهم حتى تضئ بنور عمر. فقال يحيى: وقد روي: (ان السكينة تنطق على لسان عمر) (1). فقال عليه السلام: لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر: فقال – على رأس المنبر -: (ان لي شيطانا يعتريني، فإذا ملت فسددوني).


– بعين انصاف علم انه موضوع في ايام بنى امية معارضة لما روى من قوله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين: (انهما سيدا شباب اهل الجنة وابوهما خير منهما). وهذا الخبر الذى ادعوه يروونه عن عبيدالله بن عمر وحال عبيد الله في الانحراف من اهل البيت معروفة وهو ايضا كالجار إلى نفسه على انه لا يخلو من ان يريد بقوله: (سيدا كهول الجنة) انهما سيدا كهول من هو في الجنة، أو يراد انهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا. فان كان الاول، فذلك باطل. لان رسول الله قد وقفنا – واجمعت الامة – على ان جميع اهل الجنة جرد مرد، وانه لا يدخلها كهل وان كان الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله في الحسن والحسين انهما سيدا شباب اهل الجنة وابوهما خير منهما… الخ). (1) بهذا المضمون وردت عدة روايات منها: ان الحق ينطق على لسان عمر وان ملكا ينطق على لسانه وغير ذلك قال في تلخيص الشافي ج 2 ص 247: واما ما روى من قوله: (الحق ينطق على لسان عمر) فان كان صحيحا فانه يقتضى عصمة عمر، والقطع على ان اقواله كلها حجة وليس هذا مذهب احد فيه لانه لا خلاف في انه ليس بمعصوم وان خلافه سائغ. وكيف يكون الحق ناطقا على لسان من يرجع في الاحكام من قول إلى قول، وشهد لنفسه بالخطأ، ويخالف بالشئ ثم يعود إلى قول من خالفه ويوافقه عليه ويقول: –

[ 248 ]

فقال يحيى: قد روي: ان النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو لم ابعث لبعث عمر) (1). فقال عليه السلام: كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: (وإذ اخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) (2) فقد اخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكل الانبياء عليهم السلام لم يشركوا بالله طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من اشرك وكان اكثر ايامه مع الشرك بالله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نبئت وآدم بين الروح والجسد). فقال يحيى بن اكثم: وقد روي ايضا: ان النبي صلى الله عليه وآله قال: (ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب) (3).


– (لو لا علي لهلك عمر) و (لو لا معاذ لهلك عمر) وكيف لا يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التى احتاج إلى الاحتجاج فيها. وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة – حين انكر نصه عليه – بان الحق ينطق على لسانه). واحصى الحجة الاميني في ج 6 من الغدير مائة مخالفة لعمر بن الخطاب ثم قال: هذا قليل من كثير مما وقفنا عليه من (نوادر الاثر في علم عمر) وبوسعنا الان ان نأتى باضعاف ما سردناه لكنا نقتصر على هذا رعاية لمقتضى الحال. (1) قال الاميني في الجزء الخامس من الغدير اخرجه ابن عدى بطريقين: وقال: لا يصح زكريا (الوكار) كذاب يضع، وابن واقد عبد الله متروك، ومشرح ابن (عاهان) لا يحتج به. (2) الاحزاب – 7. (3) قال الاميني في ج 6 ص 312 من الغدير: وامثال هذه الاكاذيب فان من يكون بتلك المثابة حتى يكاد ان يبعث نبيا لا يفقد علم واضحات المسائل عند ابتلائه أو ابتلاء من يرجع امره إليه من امته بها، ولا يتعلم القرآن في اثنتى عشر سنة واين كان الحق والملك والسكينة يوم كان لا يهتدى إلى امهات المسائل سبيلا فلا تسدده ولا تفرغ الجواب على لسانه، ولا تضع الحق في قلبه، وكيف يسع المسدد بذلك كله ان يحسب كل الناس افقه منه حتى ربات الحجال ؟ وكيف كان يأخذ علم الكتاب والسنة من نساء الامة وغوغاء –

[ 249 ]

فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لانه لا يجوز ان يشك النبي صلى الله عليه وآله في نبوته قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) (1) فكيف يمكن ان ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من اشرك به. قال يحيى: روي: ان النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو نزل العذاب لما نجى منه إلا عمر). فقال عليه السلام: وهذا محال ايضا، لان الله تعالى يقول: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (2) فأخبر سبحانه انه لا يعذب احدا ما دام فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وما داموا يستغفرون. وعن عبد العظيم الحسني رضى الله عنه قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى عليهم السلام: يا مولاي اني لارجو أن تكون القائم من اهل بيت محمد الذي يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.


– الناس فضلا عن رجالها واعلامها ؟ وكيف كان يرى عرفان لفظه في القرآن تكلفا ويقول: هذا لعمر الله هو التكلف، ما عليك يابن ام عمران لا تدري ما الاب ؟ وكيف كان يأخذ عن اولئك الجم الغفير من الصحابة ويستفتيهم في الاحكام ؟ وكيف كان يعتذر عن جهله اوضح ما يكون من السنة بقوله: الهاني عنه الصفق بالاسواق ؟ وكيف كان لم يسعه ان يعلم الكلالة ويقيمها ولم يتمكن من تعلم صور ميراث الجد وكان النبي (ص) يقول: ما اراه يعلمها، وما اراه يقيمها. ويقول: اني اظنك تموت قبل ان تعلم ذلك ! وكيف كان مثل ابي بن كعب يغلظ له في القول ويراه ملهى عن علم الكتاب بالصفق بالاسواق وبيع الخيط والقرظة ؟ وكيف كان أمير المؤمنين جاهلا بتأويل القرآن ؟ وكيف وكيف وكيف وكيف ! ! ! نعم راق للقوم ان ينحتوا له فضائل ويغالوا فيها ولم يترووا في لوازمها وحسبوا ان المستقبل الكشاف يمضي كما مضت القرون خاليا عن باحث أو منقب، أو ان بواعث الارهاب يلجم لسانه عن ان ينطق، ويضرب على يده عن ان تكتب، ولا تفسح حرية القلم والمذاهب والافكار للعلماء ان يبوحوا بما عندهم. (1) الحج – 75. (2) الانفال – 38.

[ 250 ]

فقال عليه السلام: ما منا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهر الله به الارض من اهل الكفر والجحود ويملا الارض قسطا وعدلا هو: الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله وكنيه، وهو الذي تطوى له الارض، ويذل له كل صعب، يجتمع إليه من اصحابه عدة اهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلا من أقاصي الارض وذلك قول الله: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله على كل شئ قدير) (1) فإذا اجتمعت له هذه العدة من اهل الاخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو: (عشرة آلاف) رجل خرج باذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عزوجل. قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيدي فكيف يعلم ان الله قد رضي ؟ قال: يلقي في قلبه الرحمة، فإذا دخل المدينة اخرج اللات والعزى فأحرقهما. احتجاج أبي الحسن علي بن محمد العسكري (ع) في شئ من التوحيد وغير ذلك من العلوم الدينية والدنياوية على المخالف والمؤالف. سئل أبو الحسن عليه السلام عن التوحيد فقيل له: لم يزل الله وحده لا شئ معه ثم خلق الاشياء بديعا واختار لنفسه الاسماء، ولم تزل الاسماء والحروف له معه قديمة ؟ فكتب: لم يزل الله موجودا ثم كون ما أراد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، تاهت اوهام المتوهمين، وقصر طرف الطارفين، وتلاشت اوصاف الواصفين واضمحلت اقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنه، أو الوقوع بالبلوغ على علو مكانه، فهو بالموضع الذي لا يتناهى، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون باشارة ولا عبارة، هيهات هيهات ! !


(1) النساء – 77.

[ 251 ]

وحدثنا احمد بن اسحاق (1) قال كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري اسأله عن الرؤية وما فيه الخلق فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية، وفي جواب اتصال الضيائين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه، والله تعالى منزه عن الاشتباه، فنثبت انه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالابصار، لان الاسباب لابد من اتصالها بالمسببات. وعن العباس بن هلال (2) قال: سألت أبا الحسن علي بن محمد عليه السلام عن قول الله عزوجل: (الله نور السماوات والارض) (3). فقال عليه السلام: يعني هادي من في السماوات ومن في الارض. ومما اجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام في رسالته إلى أهل الاهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض ان قال: اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: ان القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما انزل الله مهتدون، ولقول النبي صلى الله عليه وآله: (لا تجتمع امتى على ضلالة) فأخبر عليه السلام ان ما اجتمعت عليه الامة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون (4)، ولا ما قاله المعاندون


(1) ذكره الشيخ في اصحاب الجواد ص 398 من رجاله وقال العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 15: احمد بن اسحاق بن سعد بن عبد الله بن سعد بن مالك الاحوص الاشعري، أبو علي القمى، كان وافد القميين، روى عن ابى جعفر الثاني عليه السلام وأبى الحسن عليه السلام وكان خاصة ابى محمد عليه السلام وهو شيخ القميين رأى صاحب الزمان عليه السلام. (2) العباس بن هلال الشامي: ذكره الشيخ في رجاله في عداد اصحاب الرضا عليه السلام ص 382 والنجاشي ص 217 وقال: روى عن الرضا عليه السلام. (3) النور – 35. (4) اي: ما تأولوه من قولهم بالاجماع في اختيار الامام الذي لم يجعل لهم الله الخيرة فيه.

[ 252 ]

ومن ابطال حكم الكتاب واتباع حكم الاحاديث المزورة والروايات المزخرفة، اتباع الاهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، وتحقيق الايات الواضحات النيرات. ونحن نسأل الله ان يوفقنا للصواب، ويهدينا إلى الرشاد. ثم قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر وتحقيقه فانكرته طائفة من الامة، وعارضته بحديث من هذه الاحاديث المزورة، فصارت بانكارها ودفعها الكتاب كفارا ضلالا، واصح خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (اني مستخلف فيكم خليفتين: كتاب الله وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (1) واللفظة الاخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله عليه السلام: (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وانهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا) فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله: (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2) ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لامير المؤمنين عليه السلام: انه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الاية فيه، (3) ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله قد أبانه من اصحابه بهذه اللفظة: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) (4) وقوله صلى الله عليه وآله: (علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم بعدي) وقوله صلى الله عليه وآله حيث استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان ؟ فقال: (أما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي) (5)


(1) راجع حديث الثقلين في هامش الجزء الاول من هذا الكتاب ص 216. (2) المائدة – 58. (3) راجع هامش الجزء الاول من هذا الكتاب ص 167. (4) راجع هامش الجزء الاول من هذا الكتاب ص 161 و 196. (5) راجع هامش الجزء الاول من هذا الكتاب ص 262.

[ 253 ]

فعلمنا ان الكتاب شهد بتصديق هذه الاخبار، وتحقيق هذه الشواهد، فلزم الامة الاقرار بها إذا كانت هذه الاخبار وافقت القرآن، ووافق القرآن هذه الاخبار فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله لهذه الاخبار موافقا، وعليها دليلا، كان الاقتداء بهذه الاخبار فرضا لا يتعداه إلا اهل العناد والفساد. ثم قال عليه السلام: ومرادنا وقصدنا الكلام في الجبر والتفويض وشرحهما وبيانهما وانما قدمنا ما قدمنا ليكون اتفاق الكتاب والخبر إذا اتفقا دليلا لما اردناه، وقوة لما نحن مبينوه من ذلك ان شاء الله. (فقال): الجبر والتفويض يقول الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، عند ما سئل عن ذلك فقال: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الامرين. قيل: فماذا يابن رسول الله ؟ فقال: صحة العقل، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، والزاد قبل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله، فهذه خمسة اشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا بحسبه، وانا اضرب لكل باب من هذه الابواب الثلاثة وهي: الجبر، والتفويض، والمنزلة بين المنزلتين، مثلا يقرب المعنى للطالب، ويسهل له البحث من شرحه، ويشهد به القرآن بمحكم آياته، ويحقق تصديقه عند ذوي الالباب، وبالله العصمة والتوفيق. ثم قال عليه السلام: فاما الجبر. فهو: قول من زعم ان الله عزوجل جبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه، ورد عليه قوله: (ولا يظلم ربك أحدا) (1) وقوله جل ذكره: (ذلك بما قدمت يداك وان الله ليس بظلام للعبيد) (2) مع آي كثيرة في مثل هذا، فمن زعم انه مجبور على المعاصي فقد احال بذنبه على الله وظلمه في عقوبته له، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه، ومن كذب كتابه لزمه (الكفر) باجماع الامة، فالمثل المضروب في ذلك:


(1) الكهف – 50 (2) الحج – 10.

[ 254 ]

مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره – على علم منه بالمصير – إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به، وعلم المالك ان على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في اخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف به مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة واظهار الحكمة ونفي الجور، فاوعد عبده ان لم يأته بالحاجة يعاقبه، فلما صار العبد إلى السوق، وحاول اخذ الحاجة التي بعثه بها، وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك، فانه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وان لم يعاقبه كذب نفسه، أليس يجب ان لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا. ثم قال العالم عليه السلام: – بعد كلام طويل -: فاما التفويض الذي ابطله الصادق عليه السلام وخطأ من دان به، فهو: قول الفائل: (ان الله عزوجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم). وهذا الكلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الائمة المهدية عليهم السلام من عترة آل الرسول صلوات الله عليهم فانهم قالوا: (لو فوض الله أمره إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب، ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الاهمال واقعا، وتنصرف هذه المقالة على معنيين: اما ان تكون العباد تظاهروا عليه فالزموه اختيارهم بآرائهم – ضرورة – كره ذلك أم احب فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالامر والنهي عن ارادته ففوض أمره ونهيه إليهم، وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالامر والنهي على ارادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والايمان، ومثل ذلك: مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند امره ونهيه وادعى مالك العبد: انه قاهر قادر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه، ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب واوعده على معصيته اليم العقاب، فخالف العبد ارادة مالكه، ولم يقف عند امره


[ 255 ]

ونهيه، فاي امر امره به أو نهاه عنه لم يأتمر على ارادة المولى، بل كان العبد يتبع ارادة نفسه، وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة له فصار العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه وقصد ارادة نفسه واتبع هواه، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه فإذا هو خلاف امره فقال العبد: اتكلت على تفويضك الامر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لان المفوض إليه غير محظور عليه لاستحالة اجتماع التفويض والتحظير. ثم قال عليه السلام: فمن زعم ان الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد اثبت عليه العجز، واوجب عليه قبول كلما عملوا من خير أو شر، وابطل أمر الله ونهيه. ثم قال: ان الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الامر والنهي، وقبل منهم اتباع امره ونهيه ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الامر والنهي يختار ما يريده ويأمر به، وينهى عما يكره ويثبت ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لانه العدل ومنه النصفة والحكومة، بالغ الحجة بالاعذار والانذار، واليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا صلوات الله عليه وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه ولو فوض اختيار اموره إلى عباده لاجاز لقريش اختيار امية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى الله عليه وآله لما قالوا: (لو لا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (1) يعنونهما بذلك فهذا هو: (القول بين القولين) ليس بجبر ولا تفويض، بذلك اخبر أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله عتابة بن ربعي الاسدي عن الاستطاعة. فقال أمير المؤمنين: تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عتابة بن ربعي. فقال له: قل يا عتابة ! قال: وما أقول ؟ قال: ان قلت تملكها مع الله قتلتك، وان قلت تملكها من دون الله قتلتك.


(1) الزخرف – 21.

[ 256 ]

قال: وما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فان ملككها كان ذلك من عطائه، وان سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك، والمالك لما عليه اقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون: (لا حول ولا قوة إلا بالله). فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله. قال: فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه. ثم قال عليه السلام في قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم) (1) وفي قوله: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (2) وفي قوله: (ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (3) وقوله: (ولقد فتنا سليمان (4) وقوله: (فانا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) (5) وقول موسى عليه السلام: (إن هي إلا فتنتك) (6) وقوله: (ليبلوكم فيما آتاكم) (7) وقوله: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) (8) وقوله: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) (9) وقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (10) وقوله: (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات) (11) وقوله: (ولو شاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) (12) ان جميعها جاءت في القرآن بمعنى الاختيار.


(1) محمد – 31. (2) الاعراف – 181. (3) العنكبوت – 2. (4) سورة ص – 34. (5) طه – 85. (6) الاعراف – 154. (7) المائدة – 51. (8) آل عمران – 152. (9) القلم – 17. (10) هود – 7. (11) البقرة – 142. (12) محمد – 4.

[ 257 ]

ثم قال عليه السلام: فان قالوا ما الحجة في قول الله تعالى: (يهدي من يشاء ويضل من يشاء) (1) وما أشبه ذلك ؟ قلنا: فعلى مجاز هذه الاية يقتضي معنيين: احدهما عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء، ولو اجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب، على ما شرحناه. والمعنى الاخر: ان الهداية منه (التعريف) كقوله تعالى: (واما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (2) وليس كل آية مشتبهة في القرآن كانت الاية حجة على حكم الايات اللاتي امر بالاخذ بها وتقليدها، وهي قوله: (هو الذي انزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. الاية) (3) وقال: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب) (4) وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، ويقرب لنا ولكم الكرامة والزلفى، وهدانا لما هو لنا ولكم خير وابقى، انه الفعال لما يريد، الحكيم المجيد. عن أبى عبد الله الزيادي (5) قال: لما سم المتوكل، نذر لله ان رزقه الله العافية أن يتصدق بمال كثير، فلما سلم وعوفي سأل الفقهاء، عن حد (المال الكثير) كم يكون ؟ فاختلفوا. فقال بعضهم: (الف درهم) وقال بعضهم: (عشرة آلاف) وقال بعضهم: (مائة الف) فاشتبه عليه هذا. فقال له الحسن حاجبه: ان اتيتك يا أمير المؤمنين من هذا خبرك بالحق والصواب فمالي عندك ؟ فقال المتوكل: ان اتيت بالحق فلك عشرة آلاف درهم، وإلا اضربك مائة مقرعة.


(1) ابراهيم – 4. (2) حم – السجدة – 17. (3) آل عمران – 7. (4) الزمر – 18. (5) أبو عبد الله الزيادي: لم اعثر له على ترجمة.

[ 258 ]

فقال: قد رضيت. فاتى أبا الحسن العسكري عليه السلام فسأله عن ذلك. فقال أبو الحسن عليه السلام: قل له: يتصدق بثمانين درهما. فرجع إلى المتوكل فاخبره. فقال: سله ما العلة في ذلك ؟ فسأله فقال: ان الله عزوجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله: (ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (1) فعددنا مواطن رسول الله صلى الله عليه وآله فبلغت ثمانين موطنا. فرجع إليه فاخبره ففرح، وأعطاه عشرة آلاف درهم. وعن جعفر بن رزق الله (2) قال: قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم. فقال يحيى بن أكثم: قد هدم ايمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا. فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري وسؤاله عن ذلك. فلما قرأ الكتاب كتب عليه السلام: يضرب حتى يموت، فانكر يحيى وانكر فقهاء العسكر ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين سله عن ذلك فانه شئ لم ينطق به كتاب، ولم يجئ به سنة. فكتب إليه: ان الفقهاء قد أنكروا هذا، وقالوا: لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب، فبين لنا لم اوجبت علينا الضرب حتى يموت ؟ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: (فلما راوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا الاية) (3) فامر به المتوكل فضرب حتى مات. سأل يحيى بن اكثم أبا الحسن العالم عليه السلام عن قوله تعالى: (سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) (4) ما هي ؟


(1) التوبة – 26. (2) روى عنه في التهذيب والكافي ولم اعثر له على ترجمة. (3) المؤمن – 84 و 85. (4) لقمان – 27.

[ 259 ]

فقال: هي: (عين الكبريت) و (عين اليمن) و (عين البرهوت) و (عين الطبرية) و (جمة ماسيدان) وجمة (افريقا) و (عين ما جروان) ونحن الكلمات التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى. وروي عن الحسن العسكري عليه السلام: انه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام: ان رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فافهمه بحجته حتى ابان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد عليه السلام وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، واقبل عليه فاشتد ذلك على اولئك الاشراف، فاما العلوية فاجلوه عن العتاب، واما الهاشميون فقال له شيخهم: يابن رسول الله هكذا تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين ؟ ! فقال عليه السلام اياكم وان تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: (ألم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) (1) أترضون بكتاب الله حكما ؟ قالوا: بلى. قال: أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات) (2) فلم يرض للعالم المؤمن إلا ان يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن، اخبروني عنه قال: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات) ؟ أو قال: (يرفع الذين اوتوا شرف النسب درجات) ؟ أو ليس قال الله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (3) فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله ؟ ! ان كسر هذا (لفلان) الناصب بحجج الله التي علمه إباها، لا فضل له من كل شرف في النسب.


(1) النساء – 6. (2) المجادلة – 11. (3) الزمر – 9.

[ 260 ]

فقال العباسي: يابن رسول الله قد اشرفت علينا هو ذا تقصير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الاسلام يقدم الافضل في الشرف على من دونه فيه. فقال عليه السلام: سبحان الله أليس عباس بايع أبا بكر وهو (تيمي) والعباس (هاشمي) ؟ أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو (هاشمي) أبو الخلفاء وعمر (عدوي) ؟ ! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس ؟ فان كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا فانكروا على عباس بيعته لابي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فان كان ذلك جائزا فهذا جائز، فكأنما القم الهاشمي حجرا. وروي عن علي بن محمد الهادي عليه السلام انه قال: لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، اولئك هم الافضلون عند الله عزوجل. احتجاج أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في انواع شتى من علوم الدين. وبالاسناد المقدم ذكره: ان أبا محمد العسكري عليه السلام قال – في قوله تعالى -: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (1) اي: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بانهم الذين لا يؤمنون وعلى سمعهم كذلك بسمات، وعلى أبصارهم غشاوة، وذلك: انهم لما اعرضوا عن النظر فيما كلفوه، وقصروا فيما اريد منهم، وجهلوا ما لزمهم الايمان به، فصاروا


(1) البقرة – 7.

[ 261 ]

كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فان الله عزوجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير إلى ما قد صدهم بالقسر عنه، ثم قال: ولهم عذاب عظيم يعني: في الاخرة العذاب المعد للكافرين، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه لطاعته، أو من عذاب الاصلاح ليصيره إلى عدله وحكمته. وروى أبو محمد العسكري عليه السلام مثل ما قال هو في تأويل هذه الاية من المراد بالختم على قلوب الكفار عن الصادق عليه السلام بزيادة شرح لم نذكره مخافة التطويل لهذا الكتاب. وبالاسناد المتكرر من أبي محمد عليه السلام انه قال – في تفسير قوله تعالى -: (الذي جعل لكم الارض فراشا.. الاية) (1) جعلها ملائمة لطبايعكم، موافقة لاجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وابنيتكم ودفن موتاكم، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الارض فراشا لكم. ثم قال: (والسماء بناء) يعني: سقفا من فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم. ثم قال: (وأنزل من السماء ماء) يعني: المطر ينزله من علو ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم واوهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا، لينشقه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، ليفسد ارضيكم واشجاركم وزروعكم وثماركم. ثم قال: (واخرج به من الثمرات رزقا لكم) يعني: مما يخرجه من الارض


(1) البقرة – 22. (*)

[ 262 ]

رزقا لكم، (فلا تجعلوا لله أندادا) أشباها وأمثالا من الاصنام التي لا تعقل، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تقدر على شئ، (وانتم تعلمون) انها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم. وبالاسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمد العسكري عليه السلام في قوله تعالى: (ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) (1) ان الامي منسوب إلى (امه) أي: هو كما خرج من بطن امه، لا يقرأ ولا يكتب، (لا يعلمون الكتاب) المنزل من السماء ولا المتكذب به، ولا يميزون بينهما (إلا أماني) أي: إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم: ان هذا كتاب الله وكلامه، لا يعرفون ان قرأ من الكتاب خلاف ما فيه، (وان هم إلا يظنون) أي ما يقرأ عليهم رؤساؤهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وآله في نبوته وامامة علي سيد عترته، وهم يقلدونهم مع انه (محرم عليهم) تقليدهم، (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله تعالى.. الخ) (2) هذا: القوم اليهود، كتبوا صفة زعموا انها صفة محمد صلى الله عليه وآله، وهي خلاف صفته، وقالوا للمستضعفين منهم: هذه صفة النبي المبعوث في آخر الزمان انه: طويل عظيم البدن والبطن، اهدف، (3) أصهب الشعر، ومحمد صلى الله عليه وآله بخلافه، وهو يجئ بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة، وانما أرادوا بذلك أن تبقى لهم على ضعفائهم رياستهم، وتدوم لهم اصاباتهم، ويكفوا انفسهم مؤنة خدمة رسول الله صلى الله عليه وآله وخدمة علي عليه السلام وأهل بيته وخاصته، فقال الله عزوجل: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) من هذه الصفات المحرفات والمخالفات لصفة محمد صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام: الشدة لهم من العذاب في أسوء بقاع جهنم، وويل لهم: الشدة في العذاب ثانية مضافة إلى الاولى، بما يكسبونه من الاموال التي يأخذونها إذا ثبتوا عوامهم على الكفر بمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله، والحجة لوصيه وأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام ولي الله.


(1) البقرة – 78. (2) البقرة 79. (3) الهدف: الجسيم.

[ 263 ]

ثم قال عليه السلام: قال رجل للصادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود الا كعوامنا يقلدون علماءهم ؟ فقال عليه السلام: بين عوامنا وعلمائنا وعوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. اما من حيث استووا: فان الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذم عوامهم. واما من حيث افترقوا فلا. قال: بين لي يابن رسول الله ! قال عليه السلام: ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام والرشاء، وبتغيير الاحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وانهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى ان من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز ان يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوه ومن قد علموا انه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كانت دلائله اوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، واهلاك من يتعصبون عليه وان كان لاصلاح أمره مستحقا، وبالترفرف بالبر والاحسان على من تعصبوا له وان كان للاذلال والاهانة مستحقا، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم، فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لامر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون


[ 264 ]

إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فانه من ركب من القبايح والفواحش مراكب فسقة العامة فلا تقبلوا منا عنه شيئا، ولا كرامة، وانما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لان الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بجهلهم، ويضعون الاشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قوم (نصاب) لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعاف وأضعاف أضعافه من الاكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا، على انه من علومنا، فضلوا وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليه السلام وأصحابه، فانهم يسلبونهم الارواح والاموال، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبهون بأنهم لنا موالون، ولاعدائنا معادون، ويدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب، لا جرم ان من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم انه لا يريد الاصيانة دينه وتعظيم وليه لم يتركه في يد هذا المتلبس الكافر، ولكنه يقيض له مؤمنا يقف به على الصواب، ثم يوفقه الله للقبول منه، فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والاخرة، ويجمع على من أضله لعنا في الدنيا وعذاب الاخرة. ثم قال: قال رسول الله: (أشرار علماء امتنا: المضلون عنا، القاطعون للطرق الينا، المسمون اضدادنا بأسمائنا، الملقبون أضدادنا بألقابنا، يصلون عليهم وهم للعن مستحقون، ويلعنونا ونحن بكرامات الله مغمورون، وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقربين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون). ثم قال: قيل لامير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق الله بعد أئمة الهدى، ومصابيح الدجى ؟ قال: العلماء إذا صلحوا. قيل: فمن شرار خلق الله بعد ابليس، وفرعون، ونمرود، وبعد المتسمين


[ 265 ]

بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والاخذين لامكنتكم، والمتأمرين في ممالككم ؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للاباطيل، الكاتمون للحقايق، وفيهم قال الله عزوجل: (اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا.. الاية) (1). وبالاسناد المقدم ذكره عن أبي بعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وابي الحسن علي بن محمد بن سيار، انهما قالا: قلنا للحسن أبي القائم عليهما السلام: ان قوما عندنا يزعمون: ان هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وانزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا، وانهما افتتنا بالزهرة وأراد الزنا بها، وشربا الخمر، وقتلا النفس المحرمة، وان الله يعذبهما ببابل، وان السحرة منهما يتعلمون السحر، وان الله مسخ هذا الكوكب الذي هو (الزهرة). فقال الامام عليه السلام: معاذ الله من ذلك، ان ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبايح، بالطاف الله فقال عزوجل فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (2) وقال: (ولله من في السماوات والارض ومن عنده – يعنى: الملائكة – لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (3) وقال في الملائكة: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) إلى قوله (مشفقون) (4) كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفائه في الارض، وكانوا كالانبياء في الدنيا، وكالائمة، أفيكون من الانبياء والائمة قتل النفس والزنا وشرب الخمر ؟ ! ! ثم قال: أو لست تعلم ان الله لم يخل الدنيا من نبي أو امام من البشر ؟ أو ليس يقول: (وما أرسلنا قبلك من رسلنا – يعني إلى الخلق – إلا رجالا نوحي إليهم من اهل القرى) (5) فاخبر انه لم يبعث الملائكة إلى الارض ليكونوا أئمة


(1) البقرة – 159. (2) التحريم – 6. (3) الانبياء – 19 و 20 (4) الانبياء – 27 و 28. (5) يوسف – 109.

[ 266 ]

وحكاما، وانما ارسلوا إلى أنبياء الله. قالا. قلنا له: فعلى هذا لم يكن ابليس ملكا ! فقال: لا. بل كان من الجن ! أما تسمعان الله تعالى يقول: (واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا ابليس كان من الجن) (1) فأخبر انه كان من الجن، وهو الذي قال: (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (2). وقال الامام عليه السلام: حدثني أبي، عن جدي، عن الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله ان الله اختارنا معاشر آل محمد، واختار النبيين، واختار الملائكة المقربين، وما اختارهم إلا على علم منه بهم: انهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته، وينقطعون به من عصمته، وينضمون به إلى المستحقين لعذابه ونقمته. قالا: فقلنا: فقد روي لنا: ان عليا صلوات الله عليه لما نص عليه رسول الله بالامامة، عرض الله ولايته على فيام وفيام (3) من الملائكة فأبوها، فمسخهم الله ضفادع. فقال: معاذ الله ! هؤلاء المتكذبون علينا، الملائكة هم: رسل الله كساير أنبياء الله إلى الخلق، أفيكون منهم الكفر بالله ؟ قلنا: لا. قال: فكذلك الملائكة ! ان شأن الملائكة عظيم وان خطبهم لجليل. وبالاسناد الذي تكرر عن أبي يعقوب وأبي الحسن أيضا انهما قالا: حضرنا عند الحسن بن علي أبي القائم عليهما السلام فقال له بعض أصحابه: جاءني رجل من اخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة، يمتحنونه في الامامة ويحلفونه، فكيف يصنع حتى يتخلص منهم ؟ فقلت له: كيف يقولون ؟


(1) الكهف – 51. (2) الحجر – 27. (3) الفيام: – بفتح الفاء وكسرها – الجماعة من الناس وغيرهم.

[ 267 ]

قال: يقولون: (أتقول أن فلانا هو الامام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فلابد لي أن أقول نعم وإلا أثخنوني ضربا، فإذا قلت: (نعم) قالوا لي: قل: (والله) فقلت لهم: (نعم) واريد به (نعما) من الانعام: (الابل والبقر والغنم). قلت: فإذا قالوا: والله فقل ولى اي ولي تريد عن أمر كذا، فانهم لا يميزون وقد سلمت. فقال لي: فان حققوا علي فقالوا قل: (والله) وبين الهاء. فقلت: قل والله برفع الهاء، فانه لا يكون يمينا إذا لم يخفض. فذهب ثم رجع الي فقال: عرضوا علي وحلفوني، فقلت كما لقنتني. فقال له الحسن عليه السلام: أنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (الدال على الخير كفاعله) لقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنة، وبعدد من ترك التقية منهم حسنة، ادناها حسنة لو قوبل بها ذنوب مائة سنة لغفرت، ولك بارشادك إياه مثل ماله. وبالاسناد المتكرر ذكره عن الحسن العسكري عليه السلام انه قال: أعرف الناس بحقوق اخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنا، ومن تواضع في الدنيا لاخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام حقا، ولقد ورد على أمير المؤمنين عليه السلام اخوان له مؤمنان أب وابن، فقام اليهما، وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فاحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب ومنديل لييس وجاء ليصب على يد الرجل ماءا فوثب أمير المؤمنين عليه السلام فأخذ الابريق ليصب على يد الرجل فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي ؟ ! قال: اقعد واغسل يدك فان الله عزوجل وأخوك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها.


[ 268 ]

فقعد الرجل فقال له علي عليه السلام: أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبجلته وتواضعك لله بان ندبني لما شرفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئنا كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبرا، ففعل الرجل. فلما فرغ ناول الابريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الاب على الاب، فليصب الابن على الابن، فصب محمد ابن الحنفية على الابن. ثم قال الحسن العسكري عليه السلام: فمن اتبع عليا عليه السلام على ذلك فهو الشيعي حقا. احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين. سعد بن عبد الله القمي الاشعري (1) قال: بليت بأشد النواصب منازعة فقال لي يوما – بعد ما ناظرته -: تبا لك ولاصحابك ! أنتم معاشر الروافض تقصدون المهاجرين والانصار بالطعن عليهم، وبالجحود لمحبة النبي لهم، فالصديق هو فوق الصحابة بسبب سبق الاسلام، ألا تعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وآله انما ذهب به


(1) سعد بن عبد الله بن أبى خلف الاشعري القمي قال الشيخ في باب اصحاب العسكري عليه السلام ص 438: (عاصره عليه السلام ولم اعلم انه روى عنه) وقال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 78: (يكنى ابا القاسم، جليل القدر واسع الاخبار، كثير التصانيف، ثقة، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجيهها ولقي مولانا ابا محمد العسكري عليه السلام. قال النجاشي: ورأيت بعض اصحابنا يضعفون لقاءه لابي محمد ويقولون: هذه حكاية موضوعة عليه، والله اعلم. توفي سعد رحمه الله سنة احدى وثلاثمائة. وقيل: سنة تسع وتسعين ومائتين. وقيل: مات رحمه الله يوم الاربعاء لسبع وعشرين من شوال سنة ثلاثمائة، في ولاية رستم)

[ 269 ]

ليلة الغار لانه خاف عليه كما خاف على نفسه، ولما علم انه يكون الخليفة في امته وأراد أن يصون نفسه كما يصون عليه السلام خاصة نفسه، كي لا يختل حال الدين من بعده. ويكون الاسلام منتظما ؟ وقد أقام عليا على فراشه لما كان في علمه انه لو قتل لا يختل الاسلام بقتله. لانه يكون من الصحابة من يقوم مقامه لا جرم لم يبال من قتله ؟ ! قال سعد: اني قلت على ذلك أجوبة لكنها غير مسكتة. ثم قال: معاشر الروفض تقولون: ان (الاول والثاني) كانا ينافقان، وتستدلون على ذلك بليلة العقبة. ثم قال لي: اخبرني عن اسلامهما كان من طوع ورغبة أو كان عن اكراه واجبار ؟ فاحترزت عن جواب ذلك وقلت مع نفسي إن كنت أجبته بأنه كان عن اكراه واجبار لم يكن في ذلك الوقت للاسلام قوة حتى يكون اسلامهما باكراه وقهر، فرجعت عن هذا الخصم على حال ينقطع كبدي، فأخذت طومارا وكتبت بضعا وأربعين مسألة من المسائل الغامضة التي لم يكن عندي جوابها، فقلت: ادفعها إلى صاحب مولاي أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام الذي كان في قم احمد بن اسحاق (1) فلما طلبته كان هو قد ذهب فمشيت على أثره فادركته وقلت الحال معه. فقال لي: جئ معي إلى سر من رأى حتى نسأل عن هذه المسائل مولانا الحسن بن علي عليهما السلام. فذهبت معه إلى سر من رأى ثم جئنا إلى باب دار مولانا عليه السلام فاستأذنا عليه فاذن لنا، فدخلنا الدار وكان مع احمد بن اسحاق جراب قد ستره بكساء طبري، وكان فيه مائة وستون صرة من الذهب والورق، على كل واحدة منها خاتم


(1) قال العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 14: (احمد بن اسحاق الرازي من اصحاب أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي عليهما السلام، اورد الكشي ما يدل على اختصاصه بالجهة المقدسة، وقد ذكرته في الكتاب الكبير). (*)

[ 270 ]

صاحبها الذي دفعها إليه، ولما دخلنا ووقع أعيننا على أبي محمد الحسن العسكري عليهما السلام كان وجهه كالقمر ليلة البدر وقد رأينا على فخذه غلاما يشبه المشتري في الحسن والجمال، وكان على رأسه ذوابتان، وكان بين يديه رمان من الذهب قد حلي بالفصوص والجواهر الثمينة قد أهداه واحد من رؤساء البصرة، وكان في يده قلم يكتب به شيئا على قرطاس، فكلما أراد أن يكتب شيئا أخذ الغلام يده فالقى الرمان حتى يذهب الغلام إليه ويجئ به فلما ترك يده يكتب ما شاء. ثم فتح أحمد بن اسحاق الكساء ووضع الجراب بين يدي العسكري عليه السلام، فنظر العسكري إلى الغلام فقال: فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك ! فقال: يا مولاي أيجوز أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نخسة وأموال رجسة ؟ ! ثم قال: يابن اسحاق اخرج ما في الجراب ليميز بين الحلال والحرام ! ثم أخرج (صرة) فقال الغلام: هذا (لفلان بن فلان) من محلة (كذا) بقم، مشتمل على اثنين وسبعين دينارا، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت ارثا عن أبيه خمسة واربعون دينارا، ومن أثمان سبعة أثواب أربعة عشر دينارا، وفيه من اجرة الحوانيت ثلاثة دنانير. فقال مولانا عليه السلام صدقت يا بني ! دل الرجل على الحرام منها. فقال الغلام: في هذه العين دينار بسكة الري تاريخه في سنة (كذا) قد ذهب نصف نقشه عنه، وثلاثة اقطاع قراضة بالوزن (دانق ونصف) في هذه الصرة الحرام هذا القدر. فان صاحب هذه الصرة في سنة كذا في شهر كذا كان له عند نساج – وهو من جملة جيرانه – من وربع، فأتى على ذلك زمان كثير فسرقه سارق من عنده فأخبره النساج بذلك فما صدقه وأخذ الغرامة بغزل أدق منه مبلغ من ونصف، ثم أمر حتى نسج منه ثوب وهذا الدينار والقراضة من ثمنه. ثم حل عقدها فوجد الدينار والقراضة كما أخبر، ثم اخرجت (صرة) اخرى. فقال الغلام: هذا (لفلان بن فلان) من المحلة (الفلانية) بقم والعين فيها (خمسون دينارا) ولا ينبغي لنا أن ندني أيدينا إليها.


[ 271 ]

قال: لم ؟ فقال: من أجل ان هذه الدنانير ثمن الحنطة، وكانت هذه الحنطة بينه وبين حراث له، فأخذ نصيبه بكيل كامل وأعطى نصيبه بكيل ناقص. فقال مولانا الحسن بن علي عليهما السلام: صدقت يا بني ! قال: يابن اسحاق احمل هذه الصرور وبلغ أصحابها واوص بتبليغها إلى أصحابها، فانه لا حاجة بنا إليها. ثم قال: جئ الي بثوب تلك العجوز. فقال أحمد بن اسحاق: كان ذلك في حقيبة فنسيته، ثم مشى أحمد بن اسحاق ليجئ بذلك فنظر الي مولانا أبو محمد العسكري عليه السلام وقال: ما جاء بك يا سعد ؟ فقلت: شوقني أحمد بن اسحاق إلى لقاء مولانا. قال: المسائل التي أردت أن تسأل عنها ؟ قلت: على حالها يا مولاي. قال: فاسأل قرة عيني – وأومى إلى الغلام – عما بدا لك ! فقلت: يا مولانا وابن مولانا روي لنا: ان رسول الله صلى الله عليه وآله جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين، حتى انه بعث يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال: انك أدخلت الهلاك على الاسلام وأهله بالغش الذي حصل منك، وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة، فان امتنعت وإلا طلقتك. فاخبرنا يا مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فقال: ان الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلى الله عليه وآله فخصهن لشرف الامهات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا الحسن ان هذا شرف باق ما دمن لله على طاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فطلقها من الازواج، واسقطها من شرف امية المؤمنين. ثم قلت: اخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا فعلت المرأة ذلك يجوز لبعلها أن يخرجها من بيته في أيام عدتها ؟


[ 272 ]

فقال عليه السلام: تلك الفاحشة السحق (1) وليست بالزنا لانها إذا زنت يقام عليها الحد، وليس لمن أراد تزويجها أن يمتنع من العقد عليها لاجل الحد الذي اقيم عليها، واما إذا ساحقت فيجب عليها الرجم، والرجم هو الخزي، ومن أمر الله تعالى برجمها فقد اخزاها ليس لاحد أن يقربها. ثم قلت: أخبرني يابن رسول الله عن قول الله تعالى لنبيه موسى: (فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى) (2) فان فقهاء الفريقين يزعمون: انها كانت من اهاب الميتة ؟ فقال عليه السلام: من قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوته، لانه ما خلا الامر فيها من خطبين: اما ان كانت صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة، فان كانت صلاة موسى جائزة فيها، فجاز لموسى أن يكون لابسها في تلك البقعة وان كانت مقدسة مطهرة، وان كانت صلاته غير جائزة فيها فقد اوجب ان موسى لم يعرف الحلال والحرام، ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه مما لم يجز وهذا (كفر). قلت: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيها ؟ قال: ان موسى عليه السلام كان بالوادي المقدس فقال: يا رب اني أخلصت لك المحبة مني وغسلت قلبي عمن سواك، وكان شديد الحب لاهله فقال الله تبارك وتعالى: فاخلع نعليك أي: انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولا. فقلت: اخبرني عن تأويل كهيعص. قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، اطلع الله عليها عبده زكريا ثم قصها على محمد صلى الله عليه وآله، وذلك: ان زكريا عليه السلام سأل ربه: أن يعلمه الاسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن


(1) المساحقة عند النساء كاللواط عند الرجال (2) طه – 12.

[ 273 ]

سرى عنه همه، وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين عليه السلام خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة. فقال – ذات يوم -: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي. فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته فقال: (كهيعص) فالكاف اسم (كربلاء) والهاء (هلاك العترة) والياء (يزيد) وهو ظالم الحسين والعين (عطشه) والصاد (صبره) فلما سمع بذلك زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه: إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده ؟ إلهى أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه ؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثوب هذه المصيبة ؟ إلهى تحل كربة هذه المصيبة بساحتهما ؟ ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده. فرزقه الله يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين كذلك. فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الامام لانفسهم ؟ قال: مصلح أو مفسد ؟ فقلت: مصلح. قال: هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد ان لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد. قلت: بلى. قال: فهي (العلة) أيدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك. قلت: نعم. قال: اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، وأنزل عليهم الكتب، وايدهم


[ 274 ]

بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الامم، فاهدى إلى ثبت الاختيار ومنهم موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما على المنافق بالاختيار ان يقع خيرتهما، وهما يظنان انه مؤمن ؟ قلت: لا. قال: فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه، ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لم يشك في ايمانهم واخلاصهم، فوقع خيرته على المنافقين. قال الله عزوجل: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا. الاية) (1) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن انه الاصلح دون الافسد، علمنا أن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر، وينصرف عنه السرائر. وان لا خطر لاختيار المهاجرين والانصار بعد وقوع خيرة الانبياء على ذوي الفساد لما ارادوا أهل الصلاح. ثم قال مولانا عليه السلام: يا سعد من ادعى: ان النبي صلى الله عليه وآله – وهو خصمك – ذهب بمختار هذه الامة مع نفسه إلى الغار فانه خاف عليه كما خاف على نفسه لما علم انه الخليفة من بعده على امته، لانه لم يكن من حكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه وانما أقام عليا على مبيته لانه علم انه ان قتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون بقتل أبي بكر، لانه يكون لعلي من يقوم مقامه في الامور، لم لا تنقض عليه بقولك: أو لستم تقولون: ان النبي صلى الله عليه وآله قال: (ان الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) وصيرها موقوفة على أعمار هؤلاء الاربعة: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي) فانهم كانوا على مذهبكم خلفاء رسول الله ؟ فان خصمك لم يجد بدا من قوله: بلى. قلت له: فإذا كان الامر كذلك فكما أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلاثة خلفاء امته من بعده، فلم ذهب بخليفة واحد وهو (أبو بكر) إلى الغار ولم يذهب بهذه الثلاثة ؟ فعلى هذا الاساس يكون النبي صلى الله عليه وآله مستخفا بهم دون


(1) الاعراف – 154.

[ 275 ]

أبي بكر فانه يجب عليه أن يفعل بهم ما فعل بأبي بكر، فلما لم يفعل ذلك بهم يكون متهاونا بحقوقهم وتاركا للشفقة عليهم بعد أن كان يجب أن يفعل بهم جميعا على ترتيب خلافتهم ما فعل بأبى بكر. واماما قال لك الخصم: بانهما أسلما طوعا أو كرها، لم لم تقل بل انهما أسلما طمعا، وذلك انهما يخالطان مع اليهود ويخبران بخروج محمد صلى الله عليه وآله واستيلائه على العرب من التوراة والكتب المقدسة وملاحم قصة محمد صلى الله عليه وآله، ويقولون لهما: يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء (بخت نصر) على بني اسرائيل إلا انه يدعي النبوة ولا يكون من النبوة في شئ، فلما ظهر أمر رسول الله فساعدا معه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله طمعا أن يجدا من جهة ولاية رسول الله ولاية بلد إذا انتظم أمره، وحسن باله، واستقامت ولايته، فلما أيسا من ذلك وافقا مع أمثالهما ليلة العقبة وتلثما مثل من تلثم منهم، فنفروا بدابة رسول الله لتسقطه ويصير هالكا بسقوطه بعد ان صعد العقبة فيمن صعد، فحفظ الله تعالى نبيه من كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئا، وكان حالهما كحال طلحة والزبير إذ جاءا عليا عليه السلام وبايعاه طمعا أن تكون لكل واحد منهما ولاية، فلما لم يكن ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه حتى آل أمر كل واحد منهما إلى ما يؤل أمر من ينكث العهود والمواثيق. ثم قام مولانا الحسن بن علي عليهما السلام لصلاته وقام القائم معه، فرجعت من عندهما وطلبت احمد بن اسحاق فاستقبلني باكيا فقلت: ما أبطأك وما أبكاك ؟ قال: قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي احضاره. قلت: لا بأس عليك فاخبره ! فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما وهو يصلي على محمد وأهل بيته. فقلت: ما الخبر ؟ فقال: وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا عليه السلام يصلي عليه.


[ 276 ]

قال سعد: فحمدنا الله جل ذكره على ذلك وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلى منزل مولانا عليه السلام أياما فلا نرى الغلام بين يديه، فلما كان يوع الوداع دخلت أنا وأحمد بن اسحاق وكهلان من أهل بلدنا، فانتصب أحمد بن اسحاق بين يديه قائما وقال: يابن رسول الله قد دنت الرحلة، واشتدت المحنة، فنحن نسأل الله أن يصلي على المصطفى جدك، وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيدة النساء امك فاطمة الزهراء وعلى سيدي شباب أهل الجنة عمك وأبيك، وعلى الائمة من بعدهما آبائك. وأن يصلي عليك وعلى ولدك، ونرغب إليه أن يعلي كعبك، ويكبت عدوك، ولا جعل الله هذا آخر عهدنا من لقائك. (قال): فلما قال هذه الكلمة استعبر مولانا عليه السلام حتى استهملت دموعه وتقاطرت عبراته ثم قال: يابن اسحاق لا تكلف في دعائك شططا، فانك ملاق الله في صدرك هذا، فخر أحمد مغشيا عليه، فلما أفاق قال: سألتك بالله وبحرمة جدك إلا ما شرفتني بخرقة أجعلها كفنا، فأدخل مولانا يده تحت البساط فاخرج ثلاثة عشر درهما فقال: خذها ولا تنفق على نفسك غيرها فانك لن تعدم ما سألت والله لا يضيع أجر المحسنين. قال سعد: فلما صرنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا عليه السلام من حلوان على ثلاثة فراسخ، حم احمد بن اسحاق وثارت عليه علة صعبة أيس من حياته بها، فلما وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات، دعا أحمد بن اسحاق رجلا من أهل بلده كان قاطنا بها ثم قال: تفرقوا عني هذه الليلة واتركوني وحدي ! فانصرفنا عنه ورجع كل واحد إلى مرقده. (قال) سعد: فلما حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة ففتحت عيني، فإذا أنار بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمد وهو يقول:


[ 277 ]

أحسن الله بالخير عزاكم، وختم بالمحبوب رزيتكم، قد فرغنا من غسل صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه فانه من أكرمكم محلا عند سيدكم، ثم غاب عن أعيننا، فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والنحيب والعويل حتى قضينا حقه وفرغنا من أمره رحمه الله. وعن الشيخ الموثوق أبي عمرو العمري – ره – (1) قال: تشاجر ابن أبي غانم


(1) هو عثمان بن سعيد العمري – بفتح العين وسكون الميم – اول النواب الاربعة يكنى ابا عمرو السمان ويقال له الزيات والعسكري ذكره الشيخ الطوسى في عداد اصحاب الهادي عليه السلام ص 420 وقال: (.. خدمه عليه السلام وله احدى عشر سنة، وله إليه عهد معروف) وفي اصحاب العسكري ص 434 وقال: (.. جليل القدر ثقة وكيله عليه السلام) وفي كتاب الغيبة ص 214 قال: (فاما السفراء الممدوحون في زمان الغيبة، فأولهم: من نصبه أبو الحسن علي بن محمد العسكري وابو محمد الحسن بن علي بن محمد ابنه عليهم السلام وهو الشيخ الموثوق به: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمرى، وكان اسديا وانما سمي العمري لما رواه أبو نصر هبة الله ابن محمد بن احمد الكاتب انه ابن بنت أبي جعفر العمرى – رحمه الله – قال أبو نصر كان اسديا فنسب إلى جده فقيل العمرى. وقد قال قوم من الشيعة: ان ابا محمد الحسن بن علي عليه السلام قال: لا يجتمع على امره بين عثمان وابو عمرو فامر بكسر كنيته فقيل العمرى، إلى ان قال: ويقال له: (السمان) لانه كان يتجر في السمن تغطية على الامر، وكان الشيعة إذا حملوا إلى ابي محمد عليه السلام ما يجب عليهم حمله من الاموال انفذوا إلى أبي عمرو فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى ابي محمد عليه السلام تقية وخوفا) وقال العلامة في القسم الاول من خلاصته ص 6 ؟ 1: (.. ويقال له: الزيات الاسدي من اصحاب أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام خدمه وله احدى عشر سنة وله إليه عهد معروف وهو ثقة جليل القدر وكيل أبي محمد عليه السلام.) وفي ج 2 من سفينة البحار ص 158: (أبو عمرو عثمان بن سعيد السمان العمري اول النواب الاربعة، ما ورد في شأنه من الجلالة والعدالة والامانة اكثر من ان يذكر وهو اجل واشهر من ان يصفه مثلى (كش) كان باب الجواد عليه السلام.. وحكى: –

[ 278 ]

القزويني وجماعة من الشيعة في (الخلف) فذكر ابن أبي غانم: ان أبا محمد عليه السلام مضى ولا خلف له، ثم انهم كتبوا في ذلك كتابا وانفذوه إلى الناحية، وأعلموه بما تشاجروا فيه. فورد جواب كتابهم بخطه صلى الله عليه وعلى آبائه: بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياكم من الفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا واياكم من سوء المنقلب، انه انهي الي ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أمرهم، فغمنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا، لان الله معنا فلا فاقة بنا لى غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنا، ونحن صنايع ربنا والخلق بعد صنايعنا. يا هؤلاء ما لكم في الريب تترددون، وفي الحيرة تنعسكون، أوما سمعتم الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم) (1) أوما علمتم ما جاءت به الاثار مما يكون ويحدث في أئمتكم، على الماضين والباقين منهم السلام ؟ أوما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها، وأعلاما تهتدون بها، من لدن آدم عليه السلام إلى أن ظهر الماضي عليه السلام، كلما غاب علم بدا علم، وإذا أفل نجم طلع نجم، فلما قبضه الله إليه ظننتم: ان الله أبطل دينه، وقطع السبب بينه وبين خلقه، كلا ما كان ذلك ولا يكون، حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم كارهون، وان الماضي عليه السلام مضى سعيدا فقيدا على منهاج آبائه عليهم السلام، (حذو النعل بالنعل) وفينا وصيته وعلمه، ومنه خلفه ومن يسد مسده، ولا ينازعنا موضعه إلا ظالم آثم، ولا يدعيه دوننا إلا كافر جاحد، ولو لا ان أمر الله لا يغلب، وسره لا يظهر ولا يلعن، لظهر لكم من حقنا ما تبتز منه عقولكم، ويزيل شكوكم


– انه يقال له: العمري لانه ينتسب من قبل الام إلى عمر الاطرف بن علي عليه السلام..) وقبره في الجانب الغربي ببغداد. (1) النساء – 58.

[ 279 ]

ولكنه ما شاء الله كان، ولكل أجل كتاب، فاتقوا الله وسلموا لنا وردوا الامر الينا فعلينا الاصدار كما كان منا الايراد، ولا تحاولوا كشف ما غطي عنكم، ولا تميلوا عن اليمين وتعدلوا إلى اليسار، واجعلوا قصدكم الينا بالمودة على السنة الواضحة فقد نصحت لكم، والله شاهد علي وعليكم، ولو لا ما عندنا من محبة صاحبكم ورحمتكم، والاشفاق عليكم، لكنا عن مخاطبتكم في شغل مما قد امتحنا به من منازعة الظالم العتل، الضال المتتابع في غيه، المضاد لربه، المدعي ما ليس له، الجاحد حق من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب، وفي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وعليها إلي اسوة حسنة، وسيتردى الجاهل رداء عمله، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار. عصمنا الله وإياكم من المهالك والاسواء، والافات والعاهات كلها برحمته انه ولي ذلك والقادر على ما يشاء، وكان لنا ولكم وليا وحافظا، والسلام على جميع الاوصياء والاولياء والمؤمنين ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما. وعن سعد بن عبد الله الاشعري، عن الشيخ الصدوق احمد بن اسحاق بن سعد الاشعري (ره): انه جاء بعض أصحابنا يعلمه ان جعفر بن علي كتب إليه كتابا يعرفه نفسه، ويعلمه انه القيم بعد أخيه، وان عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلها. قال احمد بن اسحاق: فلما قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان عليه السلام وصيرت كتاب جعفر في درجه، فخرج الي الجواب في ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم أتاني كتابك أبقاك الله والكتاب الذي أنفذت درجه، واحاطت معرفتي بجميع ما تضمنه على اختلاف ألفاظه، وتكرر الخطأ فيه، ولو تدبرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه، والحمد لله رب العالمين حمدا لا شريك له على احسانه الينا وفضله علينا، أبى الله عزوجل للحق إلا إتماما، وللباطل إلا زهوقا، وهو شاهد


[ 280 ]

علي بما اذكره، ولي عليكم بما أقوله، إذا اجتمعنا اليوم الذي لا ريب فيه، ويسألنا عما نحن فيه مختلفون. وانه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعا امامة مفترضة، ولا طاعة ولا ذمة، وسأبين لكم جملة تكتفون بها ان شاء الله. يا هذا يرحمك الله ! ان الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا، ولا أهملهم سدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعا وابصارا وقلوبا وألبا، ثم بعث النبيين عليهم السلام مبشرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينونهم عن معصيته، ويعرفونه ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتابا وبعث إليهم ملائكة، وباين بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم الله من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والايات الغالبة. فمنهم: من جعل النار عليه بردا وسلاما واتخذه خليلا، ومنهم: من كلمه تكليما وجعل عصاه ثعبانا مبينا، ومنهم: من أحيى الموتى باذن الله وأبرأ الاكمه والابرص باذن الله، ومنهم من علمه منطق الطير واوتي من كل شئ. ثم بعث محمدا صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين وتمم به نعمته، وختم به أنبياءه: وارسله الي الناس كافة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبين آياته وعلاماته ما بين، ثم قبضه صلى الله عليه وآله حميدا فقيدا سعيدا، وجعل الامر من بعده إلى أخيه وابن عمه ووصيه ووارثه علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم إلى الاوصياء من ولده واحدا بعد واحد، أحيى بهم دينه، وأتم بهم نوره، وجعل بينهم وبين اخوتهم وبني عمهم والادنين فالادنين من ذوي أرحامهم فرقا بينا، تعرف به الحجة من المحجوج، والامام من المأموم بأن: عصمهم من الذنوب، وبرأهم من العيوب، وطهرهم من الدنس، ونزههم من اللبس، وجعلهم خزان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سره، وأيدهم بالدلائل ولو لا ذلك لكان الناس على سواء، ولادعى أمر الله عزوجل كل أحد، ولما عرف الحق من الباطل، ولا العلم من الجهل. وقد ادعى هذا المبطل المدعي على الله الكذب بما ادعاه، فلا أدري بأية حالة


[ 281 ]

هي له، رجا أن يتم دعواه بفقه في دين الله ؟ ! فوالله ما يعرف حلالا من حرام ولا يفرق بين خطأ وصواب، أم بعلم ؟ ! فما يعلم حقا من باطل، ولا محكما من متشابه، ولا يعرف حد الصلاة ووقتها، أم بورع ؟ ! فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض (أربعين يوما) يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعل خبره تأدى اليكم، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهورة قائمة، أم بآية ؟ ! فليأت بإيه، أم بحجة ؟ ! فليقمها، أم بدلالة ؟ ! فليذكرها. قال الله عزوجل في كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق واجل مسمى والذين كفروا عما انذروا معرضون * قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو اثارة من علم إن كنتم صادقين * ومن اضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم اعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) (1). فالتمس تولى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك، وامتحنه واسأله عن آية من كتاب الله يفسرها، أو صلاة يبين حدودها وما يجب فيها، لتعلم حاله ومقداره، ويظهر لك عواره ونقصانه، والله حسيبه. حفظ الله الحق على أهله، وأقره في مستقره، وأبي الله عزوجل أن تكون الامامة في الاخوين إلا في الحسن والحسين، واذ اذن الله لنا في القول ظهر الحق واضمحل الباطل، وانحسر عنكم. وإلى الله ارغب في الكفاية، وجميل الصنع والولاية وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآل محمد. محمد بن يعقوب الكليني (2) عن اسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان


(1) الاحقاف 1 – 6. (2) قال المحقق الشيخ عباس القمي في ج 3 من الكنى والالقاب ص 98: (هو الشيخ الاجل قدوة الانام، وملاذ المحدثين المظام، ومروج المذهب في غيبة الامام عليه السلام، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي الملقب: –

[ 282 ]

العمري رحمه الله (1) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت علي


– (ثقة الاسلام) الف الكافي الذى هو اجل الكتب الاسلامية واعظم المصنفات الامامية والذى لم يعمل للامامية مثله، قال المولى محمد امين الاستر ابادى في محكي فوائده: سمعنا مشايخنا وعلمائنا انه لم يصنف في الاسلام كتاب يوازيه أو يدانيه وكان خاله علان الكليني الرازي) وقال النجاشي ص 292: (شيخ اصحابنا بالري ووجههم وكان اوثق الناس في الحديث واثبتهم..) وقال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 145: (.. صنف كتاب الكافي في عشرين سنة ومات ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثماية) وقال الشيخ الطوسى وقال النجاشي: في سنة تسع وعشرين وثلاثماية، سنة تنائر النجوم وصلى عليه محمد بن جعفر الحسينى أبو قيراط ودفن بباب الكوفة في مقبرتها..). (1) محمد بن عثمان العمري رحمه الله هو ثانى الوكلاء الاربعة ذكره الشيخ في رجاله ص 59 وقال: (.. يكنى ابا جعفر وابوه يكنى ابا عمرو جميعا وكيلان من جهة صاحب الزمان عليه السلام ولهما منزلة جليلة عند الطائفة) وقال في الغيبة ص 218: فلما مضى أبو عمرو عثمان بن سعيد قام ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان مقامه بنص أبي محمد عليه السلام عليه ونص ابيه عثمان عليه بأمر القائم عليه السلام.) وفى ج 1 من سفينة البحار ص 228 (.. أبو جعفر باب الهادى وهو وكيل الناحية في خمسين سنة الذى ظهر على يديه من طرف المأمول المنتظر (ع) معاجز كثيرة. وكان محمد رحمه الله شيخا متواضعا في بيت صغير ليس له غلمان.. وروي عنه قال: ان صاحب هذا الامر ليحضر الموسم مع الناس كل سنة يرى الناس فيعرفهم ويرونه ولا يعرفونه وروي انه قيل له: رأيت صاحب هذا الامر ؟ قال: نعم وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم انجز لي ما وعدتني. وعنه ايضا قال: رأيته صلوات الله عليه متعلقا باستار الكعبة في المستجار وهو يقول: اللهم انتقم بي من اعدائك. وروى انه حفر لنفسه قبرا وسواه بالساج ونقش فيه آيات من القرآن واسماء الائمة عليهم السلام على حواشيه قيل سئل عن ذلك فقال: للناس اسباب. وكان في كل يوم ينزل في قبره ويقرأ جزءا من القرآن ثم يصعد) قال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 149 ثم سئل بعد ذلك فقال: قد امرت ان اجمع امري. فمات بعد شهرين من ذلك في جمادى الاولى سنة خمس وثلاثمائة وقيل: سنة اربع وثلاثمائة. وقال عند موته: –

[ 283 ]

فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام: اما ما سألت عنه ارشدك الله وثبتك، ووقاك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا. فاعلم: انه ليس بين الله عزوجل وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح. واما سبيل ابن عمي جعفر وولده، فسبيل اخوة يوسف عليه السلام. واما الفقاع فشربه حرام ولا بأس بالشلماب. واما اموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع، وما آتانا الله خير مما آتاكم. واما ظهور الفرج فانه إلى الله وكذب الوقاتون. واما قول من زعم ان الحسين لم يقتل، فكفر وتكذيب وضلال. واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله. واما محمد بن عثمان العمري، فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل، فانه ثقتي وكتابه كتابي. واما محمد بن علي بن مهزيار الاهوازي، فسيصلح الله قلبه، ويزيل عنه شكه. واماما وصلتنا به، فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر، وثمن المغنية حرام. واما محمد بن شاذان بن نعيم، فانه رجل من شيعتنا أهل البيت. واما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الاجدع، ملعون واصحابه ملعونون فلا تجالس أهل مقالتهم، فاني منهم برئ، وآبائي عليهم السلام منهم براء. واما المتلبسون بأموالنا، فمن استحل منها شيئا فأكله فانما يأكل النيران واما الخمس، فقد ابيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا


– امرت ان اوصي إلى ابى القاسم الحسين بن روح وأوصى إليه..) وقبره ببغداد مشيد ويعرف: بالشيخ الخلاني.

[ 284 ]

لتطيب ولادتهم، ولا تخبث. واما ندامة قوم شكوا في دين الله علي ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال فلا حاجة إلى صلة الشاكين. واما علة ما وقع من الغيبة، فان الله عزوجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم) (1) انه لم يكن احد من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، واني اخرج حين اخرج ولا بيعة لاحد من الطواغيت في عنقي. واما وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الابصار السحاب، واني لامان لاهل الارض كما ان النجوم أمان لاهل السماء، فاغلقوا أبواب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم، واكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فان ذلك فرجكم، والسلام عليك يا اسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى. أبو الحسن علي بن احمد الدلال القمي (2) قال: اختلف جماعة من الشيعة في ان الله عزوجل فوض إلى الائمة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا، فقال قوم: هذا محال لا يجوز على الله تعالى، لان الاجسام لا يقدر على خلقها غير الله عزوجل، وقال آخرون: بل الله أقدر الائمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا، وتنازعوا في ذلك نزاعا شديدا، فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألوه عن ذلك ليوضح لكم الحق فيه، فانه الطريق إلى صاحب الامر، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وانفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع، نسخته:


(1) المائدة – 104. (2) ج 3 من رجال المامقانى ص 11 باب الكنى: أبو الحسن الدلال ليس له ذكر في كلمات اصحابنا الرجاليين وانما الذى عثرنا عليه رواية الكليني رحمه الله في باب تربيع القبر من الكافي عن احمد بن محمد بن أبى نصر عن اسماعيل عنه عن يحيى بن أبى عبد الله.

[ 285 ]

ان الله تعالى هو الذي خلق الاجسام، وقسم الارزاق لانه ليس بجسم ولا حال في جسم، ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير. واما الائمة عليهم السلام، فانهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق ايجابا لمسألتهم، واعظاما لحقهم. عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي – ره – (1) قال: حدثني محمد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني (2) قال: كنت عند الشيخ أبي القاسم


(1) قال الشيخ عباس القمى ف ج 8 من الكنى والالقاب ص 212: (أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمى، شيخ الحفظة ووجه الطائفة المستحفظة رئيس المحدثين والصدوق فيما يرويه عن الائمة الطاهرين عليهم السلام ولد بدعاء مولانا صاحب الامر عليه السلام، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر فعمت بركته الانام، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الايام، له نحو من ثلاثمائة مصنف. قال ابن ادريس في حقه (ره) انه كان ثقة جليل القدر بصيرا بالاخبار ناقدا للاثار عالما بالرجال، وهو استاذ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (ره) وقال العلامة في ترجمته: شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان ورد بغداد سنة 355 وسمع منه شيوخ الطائفة، وهو حدث السن كان جليلا حافظا للاحاديث بصيرا بالرجال ناقدا للاخبار لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه له نحو من ثلاثمائة مصنف ذكرنا اكثرها في كتابنا الكبير مات (ره) بالري سنة احدى وثمانين وثلاثمائة انتهى وقال الاستاذ الاكبر في التعليقة: نقل المشايخ معنعنا عن شيخنا البهائي وقد سئل عنه فعدله ووثقه واثنى عليه، وقال: سئلت قديما عن زكريا بن آدم والصدوق محمد بن علي بن بابويه ايهما افضل واجل مرتبة فقلت: زكريا بن آدم لتوافر الاخبار بمدحه فرأيت شيخنا الصدوق قدس سره عاتبا علي وقال: من اين ظهر لك فضل زكريا بن آدم علي ؟ واعرض عني كذا في حاشية المحقق البحراني على بلغته. وقبره رحمه الله في بلدة الري قرب عبد العظيم الحسنى مزار معروف في بقعة عالية في روضة مونقة وله خبر مستفيض مشهور ذكره (صا) وعده من كراماته واطراف قبره قبور كثيرة من اهل الفضل والايمان.). (2) في ج 2 من جامع الرواة ص 43 محمد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني –

[ 286 ]

الحسين بن روح رضي الله عنه (1) مع جماعة منهم علي بن عيسى القصري، فقام إليه رجل فقال له: اريد أن أسألك عن شئ. فقال له: سل عما بدا لك.


– رحمه الله – عنه أبو جعفر بن بابويه مترضيا وهو عن الحسين بن روح قدس الله روحه ما ينبئ عن حسن حاله واعتقاده (كتاب ميرزا محمد). (1) الحسين بن روح: احد النواب الاربعة في الجزء الاول من سفينة البحار ص 271: (أخبرنا جماعة عن أبى محمد هارون بن موسى قال اخبرني أبو علي محمد بن همام رضي الله عنه وارضاه ان ابا جعفر محمد بن عثمان العمرى قدس الله روحه، جمعنا قبل موته وكنا وجوه الشيعة وشيوخها فقال لنا: ان حدث الموت فالامر إلى أبى القاسم الحسين بن روح النوبختى فقد امرت ان اجعله في موضعي بعدي فارجعوا إليه وعولوا في اموركم عليه وفي رواية اخرى ما حاصلها انه لما اشتدت حال أبى جعفر رحمه الله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة فدخلوا عليه فقالوا له: ان حدث أمر فمن يكون مكانك ؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختى القائم مقامي والسفير بيتكم وبين صاحب الامر، والوكيل والثقة الامين، فارجعوا إليه في اموركم وعولوا عليه في مهماتكم، فبذلك امرت وقد بلغت، وعن ام كلثوم بنت أبى جعفر – رض قالت: كان الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح (ره) وكيلا لابي جعفر – أي: محمد ابن عثمان – سنين كثيرة ينظر له في املاكه ويلقى باسراره الرؤساء من الشيعة، وكان خصيصا به، حتى انه كان يحدثه ما يجري بينه وبين جواريه لقربه منه وانسه، وكان يدفع إليه في كل شهر ثلاثين دينارا رزقا له غير ما يصل إليه من الوزراء والرؤساء من الشيعة مثل آل الفرات وغيرهم ولوضعه وجلالة محله عندهم، فحصل في انفس الشيعة محلا جليلا لمعرفتهم باختصاص ابي اياه وتوثيقه عندهم، ونشر فضله ودينه وما كان يحتمله من هذا الامر فتمهدت له الحال في حياة أبي إلى ان انتهت الوصية إليه بالنص عليه فلم يختلف في امره ولم يشك فيه احد إلا جاهل بأمر أبي.. وكان أبو سهل النوبختى يقول في حقه: انه لو كان الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل. مات رحمه الله في شعبان سنة 226 وقبره في بغداد..)

[ 287 ]

فقال الرجل: اخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله ؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو لله ؟ قال: نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عزوجل عدوه على وليه ؟ فقال أبو القاسم قدس الله روحه: افهم عني ما أقول لك ! اعلم ان الله تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جلت عظمته يبعث إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشرا مثلهم، ولو بعث إليهم رسلا من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم، ولم يقبلوا منهم، فلما جاؤهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الاسواق، قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا لا نقبل منكم حتى تأتونا بشئ نعجز من أن نأتي بمثله، فنعلم انكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله عزوجل لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها. فمنهم: من جاء بالطوفان بعد الاعذار والانذار فغرق جميع من طغى وتمرد. ومنهم: من القي في النار فكانت عليه بردا وسلاما. ومنهم: من اخرج من الحجر الصلب الناقة، وأجرى من ضرعها لبنا. ومنهم: من فلق له البحر وفجر له من العيون، وجعل له العصا اليابسة ثعبانا تلقف ما يأفكون. ومنهم: من أبرأ الاكمه والابرص وأحيى الموتى باذن الله، وانبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. ومنهم: من انشق له القمر وكلمته البهائم، مثل البعير والذئب وغير ذلك. فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من اممهم عن أن يأتوا بمثله، كان من تقدير الله جل جلاله ولطفه بعباده وحكمته: ان جعل انبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين واخرى مغلوبين، وفي حال قاهرين واخرى مقهورين، ولو جعلهم الله في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لا تخذهم الناس آلهة


[ 288 ]

من دون الله عزوجل، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختيار، ولكنه جعل أحوالهم في ذلك كاحوال غيرهم، ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين وفي حال العافية والظهور على الاعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد ان لهم عليهم السلام إلها هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم، وادعى لهم الربوبية، أو عاند وخالف، وعصى وجحد، بما أتت به الانبياء والرسل، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. قال محمد بن ابراهيم بن اسحاق (ره): فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين ابن روح (ره) في الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر لنا ما ذكر يوم امس من عند نفسه فابتدأني وقال: يا محمد بن ابراهيم لئن أخر من السماء فتختطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحب إلي من أن اقول في دين الله برأيي، ومن عند نفسي، بل ذلك عن الاصل، ومسموع من الحجة صلوات الله عليه وسلامه. ومما خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه، ردا على الغلاة من التوقيع جوابا لكتاب كتب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال الكرخي. يا محمد بن على تعالى الله وجل عما يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاؤه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تباركت اسماؤه: (قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله) (1). وأنا وجميع آبائي من الاولين: آدم ونوح وابراهيم وموسى، وغيرهم من النبيين، ومن الاخرين محمد رسول الله، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم ممن مضى من الائمة صلوات الله عليهم أجمعين، إلى مبلغ أيامي ومنتهى عصري، عبيد الله عزوجل يقول الله عزوجل: (من أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا


(1) النمل – 65.

[ 289 ]

فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) (1). يا محمد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه. فاشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيدا، ورسوله محمد صلى الله عليه وآله، وملائكته وأنبياءه، واولياءه عليهم السلام. واشهدك، واشهد كل من سمع كتابي هذا، اني برئ إلى الله والى رسوله ممن يقول: إنا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يحلنا محلا سوى المحل الذي رضيه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدى بنا عما قد فسرته لك وبينته في صدر كتابي. واشهدكم: ان كل من نبرأ منه فان الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياءه وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه إن لا يكتمه لاحد من موالي وشيعتي حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي لعل الله عزوجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحق، وينتهون عما لا يعلمون منتهى أمره، ولا يبلغ منتهاه، فكل من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته، فقد حلت عليه اللعنة من الله وممن ذكرت من عباده الصالحين. روى اصحابنا: ان أبا محمد الحسن السريعي كان من اصحاب أبي الحسن علي ابن محمد عليهم السلام، وهو أول من ادعى مقاما لم يجعله الله فيه من قبل صاحب الزمان عليه السلام وكذب على الله وحججه عليهم السلام، ونسب إليهم ما لا يليق بهم وما هم منه براء، تم ظهر منه القول بالكفر والالحاد، وكذلك كان محمد بن نصير النميري من اصحاب أبي محمد الحسن عليه السلام، فلما توفي ادعى البابية لصاحب الزمان، ففضحه الله تعالى بما ظهر منه من الالحاد والغلو والتناسخ، وكان يدعي انه رسول نبي ارسله علي بن محمد عليه السلام، ويقول بالاباحة للمحارم، وكان أيضا من جملة الغلاة احمد بن هلال الكرخي، وقد كان من قبل في عدد أصحاب أبي محمد عليه السلام، ثم تغير عما كان عليه وأنكر بابية أبي جعفر محمد بن عثمان، فخرج التوقيع بلعنه من قبل صاحب الامر


(2) طه – 124 – 126.

[ 290 ]

والزمان وبالبراءة منه، في جملة من لعن وتبرء منه، وكذا كان أبو طاهر محمد بن علي بن بلال، والحسين بن منصور الحلاج، ومحمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقري، لعنهم الله، فخرج التوقيع بلعنهم والبراءة منهم جميعا، على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (ره) ونسخته: عرف أطال الله بقاك ! وعرفك الله الخير كله وختم به عملك، من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من اخواننا أدام الله سعادتهم: بأن (محمد بن علي المعروف بالشلمغاني) عجل الله له النقمة ولا أمهله، قد ارتد عن الاسلام وفارقه، وألحد في دين الله وادعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى، وافترى كذبا وزورا، وقال بهتانا واثما عظيما، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا. وانا برئنا إلى الله تعالى والى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه، ولعناه عليه لعاين الله تترى، في الظاهر منا والباطن، في السر والجهر، وفي كل وقت وعلى كل حال، وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منا فأقام على تولاه بعده. اعلمهم تولاك الله ! اننا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليه ممن تقدمه من نظرائه، من: (السريعي، والنميري، والهلالي، والبلالي) وغيرهم. وعادة الله جل ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق واياه نستعين وهو حسبنا في كل امورنا ونعم الوكيل (1).


(1) قال الشيخ الطوسى رحمه الله في كتاب الغيبة ص 244: (ذكر المذمومين الذين ادعوا البابية لعنهم الله) اولهم المعروف بالسريعي (اخبرنا) جماعة عن أبى محمد التلعكبري، عن أبى علي محمد بن همام (قال): كان السريعى يكنى: ب‍ (ابى محمد) (قال) هارون: واظن اسمه كان (الحسن)، وكان من اصحاب أبى الحسن علي بن محمد ثم الحسن بن علي بعده عليهم السلام. وهو اول من ادعى مقاما لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلا له، وكذب على الله وعلى حججه عليهم السلام، ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء، فلعنته –

[ 291 ]


– الشيعة وتبرأت منه، وخرج توقيع الامام عليه السلام بلعنه والبراءة منه. (قال) هارون: ثم ظهر منه القول بالكفر والالحاد. (قال) وكل هؤلاء المدعين انما يكون كذبهم أولا على الامام وانهم وكلاؤه، فيدعون الضعفة بهذا القول إلى موالاتهم، ثم يترقى الامر بهم إلى قول الحلاجية كما اشتهر من أبى جعفر الشلغانى ونظرائه عليهم جميعا لعائن الله تترى. (ومنهم): محمد بن نصير النميري (قال ابن نوح): اخبرنا أبو نصر هبة الله ابن محمد (قال): كان محمد بن نصير النميري من اصحاب ابى محمد الحسن بن علي عليهما السلام فلما توفى أبو محمد ادعى مقام ابى جعفر محمد بن عثمان انه صاحب امام الزمان، وادعى له البابية، وفضحه الله تعالى بما ظهر منه من الالحاد والجهل، ولعن أبى جعفر محمد بن عثمان له وتبريه منه، واحتجابه عنه، وادعى ذلك الامر بعد السريعى. (قال أبو طالب الانباري) لما ظهر محمد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر رضي الله عنه وتبرأ منه، فبلغه ذلك فقصد ابا جعفر رضي الله عنه ليعطف بقلبه عليه أو يعتذر إليه فلم يأذن له وحجبه ورده خائبا. (وقال) سعد بن عبد الله. كان محمد بن نصير النميري يدعي انه رسول نبي وان علي بن محمد عليه السلام ارسله، وكان يقول بالتناسخ، ويغلو في أبى الحسن – ع ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالاباحة للمحارم، وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضا في ادبارهم، ويزعم: ان ذلك من التواضع والاخبات والتذلل في المفعول به، وانه من الفاعل احدى الشهوات والطيبات، وان الله عزوجل لا يحرم شيئا من ذلك، وكان محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات يقوى اسبابه ويعضده. (اخبرني) بذلك عن محمد بن نصير أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان: انه رآه عيانا وغلام على ظهره (قال): فلقيته فعاتبته على ذلك فقال: ان هذا من اللذات، وهو من التواضع لله وترك التجبر. (قال) سعد: فلما اعتل محمد بن نصير العلة التى توفي فيها، قيل له وهو مثقل اللسان -: لمن هذا الامر من بعدك ؟ –

[ 292 ]


– فقال – بلسان ضعيف ملجاج -: احمد فلم يدروا من هو، فافترقوا بعده ثلاث فرق قالت فرقة: انه احمد ابنه، وفرقة قالت: هو احمد بن محمد بن موسى بن الفرات، وفرقة قالت: انه احمد بن ابى الحسين بن بشر بن يزيد فتفرقوا فلا يرجعون إلى شئ (ومنهم) احمد بن هلال الكرخي، قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من اصحاب أبى محمد عليه السلام، فاجتمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان – رضي الله عنه – بنص الحسن عليه السلام في حياته. ولما مضى الحسين عليه السلام قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبى جعفر محمد بن عثمان وترجع إليه وقد نص عليه الامام المفترض الطاعة ؟ فقال لهم: لم اسمعه ينص عليه بالوكالة وليس انكر اباه – أي: عثمان بن سعيد – فاما ان اقطع ان ابا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا اجسر عليه. فقالوا: قد سمعه غيرك، فقال انتم وما سمعتم، ووقف على ابى جعفر فلعنوه وتبرؤا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبى القاسم بن روح بلعنه والبراءة منه في جملة من لعن. (ومنهم): أبو طاهر محمد بن علي بن بلال، وقصته معروفة فيما جرى بينه وبين ابى جعفر محمد بن عثمان العمرى – نضر الله وجهه – وتمسكه بالاموال التى كانت عنده للامام، وامتناعه من تسليمها، وادعائه انه الوكيل، حتى تبرأت الجماعة منه ولعنوه، وخرج فيه من صاحب الزمان ما هو معروف. (وحكى) أبو غالب الرازي: قال: حدثنى أبو الحسن محمد بن محمد بن يحيى المعاذى قال: كان رجل من اصحابنا قد انضوى إلى ابى طاهر بن بلال بعد ما وقعت الفرقة ثم انه رجع عن ذلك وصار في جملتنا فسألناه عن السبب قال: كنت عند ابى طاهر بن بلال يوما وعنده اخوه أبو الطيب وابن حرز وجماعة من اصحابه إذ دخل الغلام فقال: أبو جعفر على الباب، ففزعت الجماعة لذلك وانكرته للحال التى كانت جرت. –

[ 293 ]


– وقال: يدخل. فدخل أبو جعفر – رضي الله عنه – فقام له أبو طاهر والجماعة وجلس في صدر المجلس، وجلس أبو طاهر كالجالس بين يديه، إلى ان سكتوا ثم قال: يا ابا طاهر نشدتك بالله ألم يأمرك صاحب الزمان بحمل ما عندك من المال إلي ؟ فقال: اللهم نعم. فنهض أبو جعفر – رضي الله عنه – منصرفا، ووقعت على القوم سكتة، فلما تجلت عنهم قال له اخوه أبو الطيب: من أين رأيت صاحب الزمان ؟ فقال أبو طاهر: ادخلني أبو جعفر – رضي الله عنه – إلى بعض دوره فاشرف علي من علو داره فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه. فقال له أبو الطيب: ومن اين علمت انه صاحب الزمان عليه السلام ؟ قال قد وقع علي من الهيبة له، ودخلني من الرعب منه، ما علمت انه صاحب الزمان عليه السلام، فكان هذا سبب انقطاعي عنه. (ومنهم): الحسين بن منصور الحلاج، اخبرنا الحسين بن ابراهيم عن ابى العباس احمد بن علي بن نوح عن ابى نصر هبة الله بن محمد الكاتب ابن بنت ام كلثوم بنت أبى جعفر العمرى قال: لما اراد الله تعالى ان يكشف امر الحلاج، ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له ان ابا سهل بن اسماعيل بن علي النوبختى – رضي الله عنه – ممن تجوز عليه مخرقته، ووجه إليه يستدعيه وظن ان ابا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الامر بفرط جهله وقدر ان يستجره إليه فيتمخرق به، ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب إليه ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة لقدر أبى سهل في انفس الناس ومحله من العلم والادب ايضا عندهم. وقول له في مراسلته اياه: انى وكيل صاحب الزمان عليه السلام – وبهذا أو لا كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره – وقد امرت بمراسلتك واظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الامر –

[ 294 ]


– فارسل إليه أبو سهل رضي – الله عنه – يقول له: اني اسألك امرا يسيرا يخف مثله عليك، في جنب ما ظهر على يديك، من الدلائل والبراهين، وهو اني رجل احب الجواري واصبو اليهن، ولي منهن عدة اتحظاهن والشيب يبعدني عنهن، واحتاج ان اخضبه في كل جمعة واتحمل منه مشقة شديدة لاستر عنهن ذلك، وإلا انكشف امرى عندهن، فصار القرب بعدا، والوصال هجرا، واريد ان تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتى سوداء، فاني طوع يديك، وصائر اليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع مالي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم انه قد اخطأ في مراسلته، وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وامسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل – رضي الله عنه – احدوثة وضحكة ويطنز به (أي: يسخر) عند كل احد، وشهر امره عند الكبير والصغير، وكان هذا الامر سببا لكشف امره، وتنفير الجماعة عنه و (منهم): ابن ابى العزاقر، اخبرني الحسين بن ابراهيم عن احمد بن نوح عن ابى نصر هبة الله بن محمد بن احمد الكاتب ابن بنت ام كلثوم بنت أبى جعفر العمرى – رضي الله عنه – (قال): كان أبو جعفر بن أبى العزاقر وجيها عند بني بسطام وذلك ان الشيخ ابا القاسم – رضي الله تعالى عنه وارضاه – كان قد جعل له عند الناس منزلة وجاها، فكان عند ارتداده يحكى كل كذب وبلاء، وكفر لبنى بسطام ويسنده عن الشيخ ابى القاسم، فيقبلونه منه ويأخذونه عنه، حتى انكشف ذلك لابي القاسم – رضي الله عنه – فانكره واعظمه، ونهى بنى بسطام عن كلامه وامرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا، واقاموا على توليه وذاك انه كان يقول لهم: انني اذعت السر وقد اخذ علي الكتمان فعوقبت بالابعاد بعد الاختصاص، لان الامر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن، فيؤكد في نفوسهم عظم الامر وجلالته، فبلغ ذلك ابا القاسم – رضي الله عنه – فكتب إلى بنى بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله واقام على توليه، فلما وصل إليهم اظهروه عليه فبكى –

[ 295 ]


– بكاء عظيما ثم قال: ان لهذا القول باطنا عظيما وهو: ان اللعنة (الابعاد) فمعنى قوله لعنه الله أي: باعده الله عن العذاب والنار، والان قد عرفت منزلتي ومرغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا لامر، قالت الكبيرة – رضي الله عنها -: وقد كنت اخبرت الشيخ ابا القاسم ان ام ابى جعفر بن بسطام قالت لي يوما وقد دخلنا إليها فاستقبلتني واعظمتني وزادت في اعظامي حتى انكبت على رجلي تقبلها فانكرت ذلك وقلت لها: مهلا يا ستي ! فقالت لي: ان الشيخ ابا جعفر محمد بن علي قد كشف لنا السر. قالت: فقلت لها: وما السر ؟ قالت: قد اخذ علينا كتمانه، وافزع ان انا اذعته عوقبت. قالت: واعطيتها موثقا اني لا اكشفه لاحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ – رضي الله عنه – يعنى ابا القاسم الحسين بن روح. قالت: ان الشيخ ابا جعفر قال لنا: ان روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتقلت إلى ابيك يعنى: ابا جعفر محمد بن عثمان – رضي الله عنه – وروح أمير المؤمنين علي عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ ابى القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت اليك فكيف لا اعظمك يا ستنا ؟ ! فقلت لها: مهلا لا تفعلي فان هذا كذب يا ستنا ! فقالت لي: سر عظيم وقد اخذ علينا اننا لا نكشف هذا لاحد فالله الله في لا يحل لي العذاب، ويا ستى لو لا انك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لاحد غيرك. قالت الكبيرة ام كلثوم – رضي الله عنها -: فلما انصرفت من عندها دخلت على الشيخ ابى القاسم بن روح – رضي الله عنه – فاخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولى. فقال لي: يا بنية اياك ان تمضى إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعة ان كاتبتك، ولا رسولا ان انفذته اليك، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى، والحاد قد احكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقا إلى ان يقول لهم بان الله تعالى اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام، ويعدو – (*)

[ 296 ]

واما الابواب المرضيون، والسفراء الممدوحون في زمان الغيبة: فأولهم: الشيخ الموثوق به أبو عمرو (عثمان) بن سعيد العمري. نصبه أولا أبو الحسن علي بن محمد العسكري، ثم ابنه أبو محمد الحسن، فتولى القيام بامورهما حال حياتهما عليهما السلام، ثم بعد ذلك قام بأمر صاحب الزمان عليه السلام، وكان توقيعاته وجواب المسائل تخرج على يديه. فلما مضى لسبيله، قام ابنه أبو جعفر (محمد) بن عثمان مقامه، وناب منابه في جميع ذلك. فلما مضى هو، قام بذلك أبو القاسم (حسين بن روح) من بني نوبخت. فلما مضى هو، قام مقامه أبو الحسن (علي) بن محمد السمري (1) ولم يقم


– إلى قول الحلاج لعنه الله. قالت: فهجرت بنى بسطام، وتركت المضي إليهم، ولم اقبل لهم عذرا، ولا لفيت امهم بعدها، وشاع في بنى نوبخت الحديث فلم يبق احد إلا وتقدم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن ابى جعفر الشلمغانى والبراءة منه وممن يتولاه ورضي بقوله أو كلمه فضلا عن موالاته، ثم ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن ابى جعفر محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله واقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع، وله حكايات قبيحة ننزه كتابنا عن ذكرها، ذكرها ابن نوح وغيره. (1) قال في الجزء الثاني من سفينة البحار ص 249: (الشيخ الاجل علي بن محمد السمري رضي الله عنه، أبو الحسن، قام بامر النيابة بعد الحسين بن روح رضي الله عنه، ومضى في النصف من شعبان سنة (329) تسع وعشرين وثلاثمائة، واخرج إلى الناس توقيعا قبل وفاته بايام: بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمرى، اعظم الله اجر اخوانك فيك، فانك ميت ما بينك وبين ستة ايام فاجمع امرك ولا توص إلى احد الخ. فلما كان اليوم السادس دخلوا عليه وهو يجود بنفسه فقيل له: من وصيك من بعدك ؟ –

[ 297 ]

أحد منهم بذلك إلا بنص عليه من قبل صاحب الامر عليه السلام، ونصب صاحبه الذي تقدم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الامر عليه السلام، تدل على صدق مقالتهم، وصحة بابيتهم. فلما حان سفر أبي الحسن السمري من الدنيا وقرب أجله قيل له: إلى من توصي ؟ فاخرج إليهم توقيعا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمري اعظم الله أجر اخوانك فيك، فانك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد اذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الامد، وقسوة القلوب، وامتلاء الارض جورا. وسيأتي إلى شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فنسخوا هذا التوقيع وخرجوا، فلما كان اليوم السادس عادوا إليه وهو يجود بنفسه. فقال له بعض الناس: من وصيك من بعدك ؟ فقال: لله أمر هو بالغه، وقضى فهذا آخر كلام سمع منه (ره). (ذكر طرف مما خرج أيضا عن صاحب الزمان عليه السلام من المسائل الفقهية وغيرها، في التوقيعات على أيدي الابواب الاربعة وغيرهم). عن محمد بن يعقوب الكليني، رفعه عن الزهري، قال: طلبت هذا الامر طلبا


– فقال: لله امر هو بالغه، وقضى رحمه الله.. روي انه قال يوما لجمع من المشايخ عنده آجركم الله في علي بن الحسين – أي: ابن بابويه – فقد قبض في هذه الساعة. قالوا: فاثبتنا تاريخ الساعة واليوم والشهر، فلما كان بعد سبعة عشر يوما أو ثمانية عشر، ورد الخبر: انه قبض في تلك الساعة التى ذكرها الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه. وقبره ببغداد بالقرب عن قبر الكليني رحمه الله).

[ 298 ]

شافيا حتى ذهب لي فيه مال صالح، فوقعت إلى العمري وخدمته ولزمته، فسألته بعد ذلك عن صاحب الزمان عليه السلام. قال: ليس إلى ذلك وصول، فخضعت له. فقال لي: بكر بالغداة. فوافيت، فاستقبلني ومعه شاب من احسن الناس وجها، واطيبهم ريحا، وفي كمه شئ، كهيئة التجار، فلما نظرت إليه دنوت من العمري، فأومى إليه فعدلت إليه وسألته فأجابني عن كل ما أردت. ثم مر ليدخل الدار وكانت من الدور التي لا يكترث بها. فقال العمري: ان اردت ان تسأل فاسأل فانك لا تراه بعد ذا. فذهبت لاسأل فلم يستمع ودخل الدار وما كلمني بأكثر من ان قال: ملعون ملعون من اخر العشاء إلى ان تشتبك النجوم، ملعون ملعون من أخر الغداة إلى ان تنقضي النجوم، ودخل الدار. وعن أبي الحسن محمد بن جعفر الاسدي (1) قال: كان فيما ورد علي من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه في جواب مسائل إلى صاحب الزمان: اما ما سألت عنه من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فلئن كان كما يقول الناس: (ان الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان) فما ارغم انف الشيطان شئ افضل من الصلاة، فصلها وارغم الشيطان أنفه. واما ما سألت عنه من امر الوقف على ناحيتنا، وما يجعل لنا ثم يحتاج إليه صاحبه، فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار، وكل ما سلم فلا خيار لصاحبه فيه


(1) قال العلامة في الخلاصة ص 160: (محمد بن جعفر بن محمد بن عون الاسدي أبو الحسين الكوفى سكن الري يقال له محمد بن ابى عبد الله كان ثقة صحيح الحديث إلا انه روى عن الضعفاء. وكان يقول بالجبر والتشبيه فانا في حديثه من المتوقفين، وكان ابوه وجها روى عنه احمد بن محمد بن عيسى وقال الشيخ الطوسى رحمه الله في رجاله ص 496: (محمد بن جعفر الاسدي كان يكنى أبو الحسين الرازي كان أحد الابواب).

[ 299 ]

احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه. واما ما سألت عنه من أمر من يستحل ما في يده من أموالنا ويتصرف فيه تصرفه في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو ملعون، ونحن خصماؤه يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (المستحل من عترتي ما حرم الله ملعون على لساني ولسان كل نبي مجاب) فمن ظلمنا كان في جملة الظالمين لنا، وكانت لعنة الله عليه لقوله عزوجل: (ألا لعنة الله على الظالمين) (1). واما ما سألت عنه عن أمر المولود الذي نبتت غلفته بعد ما يختن مرة اخرى فانه يجب أن يقطع غلفته فان الارض تضج إلى الله تعالى من بول الاغلف اربعين صباحا. واما ما سألت عنه من أمر المصلي والنار والصورة والسراج بين يديه، هل يجوز صلاته ؟ فان الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك، فانه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الاصنام والنيران أن يصلي والنار والسراج بين يديه، ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الاوثان والنيران. واما ما سألت عنه عن أمر الضياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية، احتسابا للاجر، وتقربا اليكم ؟ فلا يحل لاحد أن يتصرف في مال غيره بغير اذنه، فكيف يحل ذلك في مالنا من فعل ذلك بغير امرنا فقد استحل منا ما حرم عليه، ومن أكل من أموالنا شيئا فانما يأكل في بطنه نارا وسيصلى سعيرا. واما ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة، ويسلمها من قيم يقوم بها ويعمرها، ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا فان ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها، انما لا يجوز ذلك لغيره.


(1) الاعراف – 43.

[ 300 ]

واما ما سألت عنه من الثمار من أموالنا يمر به المار فيتناول منه ويأكل، هل يحل له ذلك ؟ فانه يحل له أكله ويحرم عليه حمله. وعن أبي الحسين الاسدي أيضا قال: ورد علي توقيع من الشيخ ابي جعفر محمد بن عثمان العمري – قدس الله روحه – ابتداء لم يتقدمه سؤال عنه، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، على من استحل من اموالنا درهما. قال أبو الحسين الاسدي (ره): فوقع في قلبى ان ذلك فيمن استحل من مال الناحية درهما دون من أكل منه غير مستحل، وقلت في نفسي: ان ذلك في جميع من استحل محرما، فأي فضل في ذلك للحجة عليه السلام على غيره ؟ ! قال: فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله بالحق بشيرا، لقد نظرت بعد ذلك في التوقيع فوجدته قد انقلب إلى ما كان في نفسي: بسم الله الرحمن الرحيم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين على من أكل من مالنا درهما حراما. وقال أبو جعفر بن بابويه في الخبر الذي روي فيمن افطر يوما من شهر رمضان متعمدا ان عليه ثلاث كفارات فاني افتي به فيمن افطر بجماع محرم عليه أو بطعام محرم عليه لوجود ذلك في روايات أبي الحسن الاسدي (ره) فيما ورد عليه من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان (ره). وعن عبد الله بن جعفر الحميري (1) قال: خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان قدس الله روحه في التعزية بابيه (ره) في فصل من الكتاب:


(1) قال العلامة في القسم الاول من الخلاصة ص 106: (عبد الله بن جعفر ابن الحسين بن مالك بن جامع الحميري – بالحاء المهملة – أبو العباس القمى شيخ القميين ووجههم، قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين، ثقة من اصحاب ابى محمد الحسن العسكري عليه السلام.

[ 301 ]

إنا لله وإنا إليه راجعون، تسليما لامره، ورضا بقضائه، عاش أبوك سعيدا ومات حميدا، فرحمه الله والحقه بأوليائه ومواليه عليهم السلام. فلم يزل مجتهدا في أمرهم ساعيا فيما يقربه إلى الله عزوجل، نضر الله وجهه، وأقاله عثرته. وفي فصل آخر: أجزل الله لك الثواب، وأحسن لك العزاء، رزيت ورزينا واوحشك فراقه واوحشنا، فسره الله في منقلبه، كما كان من كمال سعادته أن رزقه الله ولدا مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره، ويترحم عليه، وأقول: الحمد لله، فان النفس طيبة بمكانك، وما جعله الله عزوجل فيك وعندك، أعانك الله وقواك، وعضدك ووفقك، وكان لك وليا وحافظا، وراعيا وكافيا. ومما خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه من جوابات المسائل الفقهية أيضا: ما سأله عنها محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري فيما كتب إليه وهو: بسم الله الرحمن الرحيم اطال الله بقاك، وأدام الله عزك، وتأييدك، وسعادتك، وسلامتك، وأتم نعمته عليك، وزاد في احسانه اليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عندك، وجعلني من السوء فداك، وقد مني قبلك الناس يتنافسون في الدرجات، فمن قبلتموه كان مقبولا، ومن دفعتموه كان وضيعا، والخامل من وضعتموه، ونعوذ بالله من ذلك وببلدنا أيدك الله جماعة من الوجوه يتساوون ويتنافسون في المنزلة، وورد أيدك الله كتابك إلى جماعة منهم في امر أمرتهم به من معاونة ص. واخرج علي بن محمد بن الحسين بن الملك المعروف بملك بادوكة (1) وهو ختن ص رحمه الله من بينهم فاغتم بذلك، وسألني أيدك الله أن اعلمك ما ناله من ذلك، فان كان من ذنب فاستغفر الله منه، وان يكن غير ذلك عرفته ما تسكن نفسه إليه ان شاء الله. التوقيع: لم نكاتب إلا من كاتبنا. وقد عودتني أدام الله عزك من تفضلك ما أنت أهل ان تخبرني على العادة، وقبلك أعزك الله فقهاؤنا قالوا: محتاج إلى أشياء تسأل لي عنها.


(1) لم اعثر له على ترجمة.

[ 302 ]

روي لنا عن العالم عليه السلام: انه سئل عن امام قوم صلى بهم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه ؟ فقال: يؤخر ويتقدم بعضهم، ويتم صلاتهم، ويغتسل من مسه. التوقيع: ليس على من نحاه إلا غسل اليد، وإذا لم يحدث حادثة يقطع الصلاة تمم صلاته مع القوم. وروي عن العالم عليه السلام: ان من مس ميتا بحرارته غسل يده، ومن مسه وقد برد فعليه الغسل، وهذا الامام في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارة، فالعمل في ذلك على ما هو، ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه، فكيف يجب عليه الغسل ؟ التوقيع: إذا مسه على هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده. وعن صلاة جعفر: إذا سها في التسبيح في قيام أو قعود، أو ركوع أو سجود وذكره في حالة اخرى قد صار فيها من هذه الصلاة، هل يعيد ما فاته من ذلك التسبيح في الحالة التي ذكرها أم يتجاوز في صلاته ؟ التوقيع: إذا سها في حالة من ذلك ثم ذكر في حالة اخرى، قضى ما فاته في الحالة التي ذكره. وعن المرأة: يموت زوجها، يجوز أن تخرج في جنازته أم لا ؟ التوقيع: تخرج في جنازته. وهل يجوز لها في عدتها أن تزور قبر زوجها أم لا ؟ التوقيع: تزور قبر زوجها ولا تبيت عن بيتها. وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حق يلزمها، أم لا تبرح من بيتها وهي في عدتها. التوقيع: إذا كان حق خرجت فيه وقضته، وان كانت لها حاجة ولم يكن لها من ينظر فيها خرجت بها حتى تقضيها، ولا تبيت إلا في بيتها. وروي في ثواب القرآن في الفرائض وغيرها: ان العالم عليه السلام قال: عجبا لمن لم يقرأ في صلاته: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) كيف تقبل صلاته ؟


[ 303 ]

وروي: ما زكت صلاة من لم يقرأ (قل هو الله أحد). وروي: ان من قرأ في فرائضه (الهمزة) اعطي من الثواب قدر الدنيا، فهل يجوز أن يقرأ (الهمزة) ويدع هذه السور التي ذكرناها، مع ما قد روي: انه لا تقبل صلاة ولا تزكوها إلا بهما ؟ التوقيع: الثواب في السور على ما قد روي، وإذا ترك سورة مما فيها الثواب وقرأ (قل هو الله أحد، وإنا أنزلناه) لفضلهما اعطي ثواب ما قرأ، وثواب السورة التي ترك، ويجوز أن يقرأ غير هاتين السورتين وتكون صلاته تامة، ولكن يكون قد ترك الفضل. وعن وداع شهر رمضان: متى يكون ؟ فقد اختلف فيه أصحابنا، فبعضهم يقول: يقرأ في آخر ليلة منه، وبعضهم يقول: هو في آخر يوم منه إذا رأى هلال شوال ؟ التوقيع: العمل في شهر رمضان في لياليه والوداع يقع في آخر ليلة منه، فإذا خاف أن ينقص الشهر جعله في ليلتين. وعن قول الله عزوجل: (انه لقول رسول كريم) (1) أرسول الله صلى الله عليه وآله المعني به، (ذي قوة عند ذي العرش مكين) (2) ما هذه القوة ؟ ! (مطاع ثم أمين) (3) ما هذه الطاعة وأين هي ؟ ما خرج لهذه المسألة جواب. فرأيك أدام الله عزك بالتفضل علي بمسألة من تثق به من الفقهاء عن هذه المسائل فاجبني عنها منعما مع ما تشرحه لي من أمر علي بن محمد بن الحسين بن الملك المقدم ذكره بما يسكن إليه، ويعتد بنعمة الله عنده، وتفضل علي بدعاء جامع لي ولاخواني في الدنيا والاخرة فعلت مثابا ان شاء الله. التوقيع: جمع الله لك ولاخوانك خير الدنيا والاخرة. كتاب آخر لمحمد بن عبد الله الحميري (4) أيضا إليه عليه السلام في مثل ذلك:


(1، 2، 3) التكوير – 20 – 23. (4) محمد بن عبد الله بن جعفر بن الحسين بن جامع بن مالك الحميري، قال العلامة –

[ 304 ]

فرأيك أدام الله عزك في تأمل رقعتي والتفضل بما اسأل من ذلك لاضيفه إلى ساير أياديك عندي ومنك علي واحتجت ادام الله عزك ان يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الاول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر ؟ فان بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول بحول الله وقوته اقوم واقعد ؟ الجواب: ان فيه حديثين: اما احدهما: فانه إذا انتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير. واما الاخر: فانه روي: انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك في التشهد الاول يجري هذا المجرى، وبأيها أخذت من جهة التسليم كان صوابا. وعن الفص الخماهن: هل يجوز فيه الصلاة إذا كان في اصبعه ؟ الجواب: فيه كراهية أن يصلى فيه، وفيه أيضا اطلاق والعمل على الكراهة. وعن رجل اشترى هديا لرجل غاب عنه، وسأله أن ينحر عنه هديا بمنى فلما أراد نحر الهدي نسي اسم الرجل ونحر الهدي، ثم ذكره بعد ذلك، أيجزي عن الرجل أم لا ؟ الجواب: لا بأس بذلك، وقد اجزأ عن صاحبه. وعندنا حاكة مجوس، يأكلون الميتة. ولا يغتسلون من الجنابة، وينسجون لنا ثيابا، فهل يجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل ؟ الجواب: لا بأس بالصلاة فيها. وعن المصلي: يكون في صلاة الليل في ظلمة، فإذا سجد يغلط بالسجادة


في القسم الاول من الخلاصة ص 57: (.. أبو جعفر القمى كان ثقة وجها، كاتب صاحب الامر عليه السلام وسأله مسائل في ابواب الشريعة. قال النجاشي: قال لنا احمد بن الحسين: وقعت هذه المسائل إلي في اصلها والتوقيعات بين السطور، وكان له اخوة (جعفر، والحسين، واحمد) كلهم كان لهم مكاتبة.

[ 305 ]

ويضع جبهته على (مسح أو نطع) فإذا رفع رأسه وجد السجادة، هل يعتد بهذه السجدة أم لا يعتد بها ؟ الجواب: ما لم يستو جالسا فلا شئ عليه في رفع رأسه لطلب الخمرة. وعن المحرم: يرفع الظلال هل يرفع خشب العمارية أو الكنيسية ويرفع الجناحين أم لا ؟ الجواب: لا شئ عليه في ترك رفع الخشب. وعن المحرم: يستظل من المطر بنطع أو غيره، حذرا على ثيابه وما في محمله أن يبتل، فهل يجوز ذلك ؟ الجواب: إذا فعل ذلك في المحمل في طريقه، فعليه دم. والرجل: يحج عن أحد، هل يحتاج ان يذكر الذي حج عنه عند عقد احرامه أم لا، وهل يجب أن يذبح عمن حج عنه وعن نفسه أم يجزيه هدي واحد ؟ الجواب: قد يجزيه هدي واحد، وان لم يفصل فلا بأس. وهل يجوز للرجل أن يحرم في كساء خز أم لا ؟ الجواب: لا بأس بذلك، وقد فعله قوم صالحون. وهل يجوز للرجل أن يصلي في بطيط لا يغطي الكعبين أم لا يجوز ؟ الجواب: جائز. ويصلي الرجل وفي كمه أو سراويله سكين أو مفتاح حديد، هل يجوز ذلك ؟ الجواب: جائز. وعن الرجل: يكون معه بعض هؤلاء ويكون متصلا بهم، يحج ويأخذ على الجادة ولا يحرم هؤلاء من المسلخ، فهل يجوز لهذا الرجل أن يؤخر احرامه إلى ذات عرق فيحرم معهم لما يخاف الشهرة أم لا يجوز إلا أن يحرم من المسلخ ؟ الجواب: يحرم من ميقاته ثم يلبس الثياب، ويلبي في نفسه، فإذا بلغ إلى ميقاتهم اظهر. وعن لبس المعطون، فان بعض أصحابنا يذكر ان لبسه كريه ؟


[ 306 ]

الجواب: جايز، ولا بأس به. وعن الرجل: من وكلاء الوقف مستحلا لما في يده، ولا يرع عن أخذ ماله ربما نزلت في قريته وهو فيها، أو ادخل منزله – وقد حضر طعامه – فيدعوني إليه، فان لم آكل من طعامه، عاداني وقال: فلان لا يستحل أن يأكل من طعامنا فهل يجوز لي أن آكل من طعامه واتصدق بصدقة ؟ وكم مقدار الصدقة ؟ وان اهدى هذا الوكيل هدية إلى رجل آخر فاحضر فيدعوني إلى أن أنال منها، وأنا أعلم ان الوكيل لا يرع عن أخذ ما في يده، فهل علي فيه شئ ان انا نلت منها ؟ الجواب: إن كان لهذه الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه، واقبل بره، وإلا فلا. وعن الرجل ممن يقول بالحق ويرى المتعة، ويقول بالرجعة، إلا ان له أهلا موافقة له في جميع اموره، وقد عاهدها: ألا يتزوج عليها، ولا يتمتع، ولا يتسرى وقد فعل هذا منذ تسعة عشر سنة. ووفى بقوله، فربما غاب عن منزله الاشهر فلا يتمتع ولا تتحرك نفسه أيضا لذلك، ويرى ان وقوف من معه من اخ وولد وغلام ووكيل وحاشية مما يقلله في أعينهم، ويجب المقام على ما هو عليه محبة لاهله وميلا إليها، وصيانة لها ولنفسه، لا لتحريم المتعة بل يدين الله بها، فهل عليه في ترك ذلك مأثم أم لا ؟ الجواب: يستحب له أن يطيع الله تعالى بالمتعة ليزول عنه الحلف في المعصية ولو مرة. وفي كتاب آخر لمحمد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام من جواب مسائله التي سأله عنها، في سنة سبع وثلاثمائة. سأل عن المحرم: يجوز أن يشد الميزر من خلفه على عقبه بالطول، ويرفع طرفيه إلى حقويه ويجمعهما في خاصرته ويعقدهما، ويخرج الطرفين الاخرين من بين رجليه ويرفعهما إلى خاصرته، ويشد طرفيه إلى وركيه، فيكون مثل السراويل يستر ما هناك، فان الميزر الاول كنا نتزر به إذا ركب الرجل جمله


[ 307 ]

يكشف ما هناك، وهذا ستر ؟ فأجاب عليه السلام: جاز أن يتزر الانسان كيف شاء إذا لم يحدث في الميزر حدثا بمقراظ ولا ابرة يخرجه به عن حد الميزر، وغزره غزرا ولم يعقده، ولم يشد بعضه ببعض، وإذا غطى سرته وركبتيه كلاهما فان السنة المجمع عليها بغير خلاف تغطية السرة والركبتين، والاحب الينا والافضل لكل أحد شده على السبيل المألوفة المعروفة للناس جميعا إن شاء الله. وسأل: هل يجوز أن يشد عليه مكان العقد تكة ؟ فأجاب: لا يجوز شد الميزر بشئ سواه من تكة ولا غيرها. وسأل عن التوجه للصلاة أن يقول على ملة ابراهيم ودين محمد صلى الله عليه وآله، فان بعض أصحابنا ذكر: انه إذا قال على دين محمد فقد أبدع، لانا لم نجده في شئ من كتب الصلاة خلا حديثا في كتاب القاسم بن محمد عن جده عن الحسن بن راشد: ان الصادق عليه السلام قال للحسن: كيف تتوجه ؟ فقال: أقول لبيك وسعديك. فقال له الصادق عليه السلام: ليس عن هذا اسألك. كيف تقول وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا مسلما ؟ قال الحسن: أقول. فقال الصادق عليه السلام: إذا قلت ذلك فقل: على ملة ابراهيم، ودين محمد، ومنهاج علي بن أبي طالب، والايتمام بآل محمد، حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. فأجاب عليه السلام: التوجه كله ليس بفريضة، والسنة المؤكدة فيه التي هي كالاجماع الذي لا خلاف فيه: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض، حنيفا مسلما على ملة ابراهيم ودين محمد وهدي أمير المؤمنين، وما أنا من المشركين. ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك امرت وأنا من المسلمين. اللهم اجعلني من المسلمين، اعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم


[ 308 ]

بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ الحمد. قال الفقيه الذي لا يشك في علمه: ان الدين لمحمد والهداية لعلي أمير المؤمنين لانها له صلى الله عليه وآله وفي عقبه باقية إلى يوم القيامة، فمن كان كذلك فهو من المهتدين، ومن شك فلا دين له، ونعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. وسأله: عن القنوت في الفريضة إذا فرغ من دعائه، يجوز ان يرد يديه على وجهه وصدره للحديث الذي روي: (ان الله عزوجل أجل من أن يرد يدي عبده صفرا بل يملاها من رحمته) أم لا يجوز ؟ فان بعض اصحابنا ذكر انه عمل في الصلاة. فأجاب عليه السلام: رد اليدين من القنوت على الرأس والوجه غير جايز في الفرائض والذي عليه العمل فيه، إذا رجع يده في قنوت الفريضة وفرغ من الدعاء، أن يرد بطن راحتيه مع صدره تلقاء ركبتيه على تمهل، ويكبر ويركع، والخبر صحيح وهو في نوافل النهار والليل دون الفرائض، والعمل به فيها أفضل. وسأل: عن سجدة الشكر بعد الفريضة، فان بعض اصحابنا ذكر أنها (بدعة) فهل يجوز أن يسجدها الرجل بعد الفريضة ؟ وان جاز ففي صلاة المغرب هي بعد الفريضة أو بعد الاربع ركعات النافلة ؟ فأجاب عليه السلام: سجدة الشكر من الزم السنن واوجبها، ولم يقل ان هذه السجدة بدعة إلا من أراد أن يحدث بدعة في دين الله. فاما الخبر المروي فيها بعد صلاة المغرب والاختلاف في انها بعد الثلاث أو بعد الاربع فان فضل الدعاء والتسبيح بعد الفرائض على الدعاء بعقيب النوافل كفضل الفرائض على النوافل، والسجدة دعاء وتسبيح فالافضل أن تكون بعد الفرض فان جعلت بعد النوافل أيضا جاز. وسأل: ان لبعض اخواننا من نعرفه ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب، للسلطان فيها حصة واكرته ربما زرعوا حدودها وتوذيهم عمال السلطان ويتعرضون في الكل من غلات ضيعته، وليس لها قيمة لخرابها وانما هي بائرة منذ عشرين سنة، وهو يتحرج من شرائها لانه يقال ان هذه الحصة من هذه الضيعة كانت قبضت عن الوقف قديما


[ 309 ]

للسلطان، فان جاز شراؤها من السلطان، وكان ذلك صلاحا له وعمارة لضيعته، وانه يزرع هذه الحصة من القرية البائرة لفضل ماء ضيعته العامرة، وينحسم عنه طمع أولياء السلطان، وان لم يجز ذلك عمل بما تأمره به ان شاء الله تعالى ؟ فأجاب: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها أو بامره أو رضاء منه وسأل: عن رجل استحل امرأة خارجة من حجابها، وكان يحترز من أن يقع ولد فجاءت بابن، فتحرج الرجل الا يقبله فقبله وهو شاك فيه، وجعل يجري النفقة على امه وعليه حتى ماتت الام، وهو ذا يجري عليه غير انه شاك فيه ليس يخلطه بنفسه، فان كان ممن يجب ان يخلط بنفسه ويجعله كساير ولده فعل ذلك وان جاز أن يجعل له شيئا من ماله دون حقه فعل ؟ فأجاب عليه السلام الاستحلال بالمرأة يقع على وجوه، والجواب يختلف فيها فليذكر الوجه الذي وقع الاستحلال به مشروحا ليعرف الجواب فيما يسأل عنه من أمر الولد إن شاء الله. وسأله الدعاء له فخرج الجواب: جاد الله عليه بما هو جل وتعالى أهله، ايجابنا لحقه، ورعايتنا لابيه رحمه الله وقربه منا، وقد رضينا بما علمناه من جميل نيته، ووقفنا عليه من مخاطبته، المقر له من الله التي يرضى الله عزوجل ورسوله واولياؤه عليهم السلام والرحمة بما بدأنا، نسأل الله بمسألته ما امله من كل خير عاجل وآجل، وان يصلح له من أمر دينه ودنياه ما يجب صلاحه، انه ولي قدير. وكتب إليه صلوات الله عليه أيضا في سنة ثمان وثلاثمائة كتابا سأله فيه عن مسائل اخرى كتب: بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاك وأدام عزك وكرامتك وسعادتك وسلامتك، وأتم نعمته عليك وزاد في احسانه اليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عليك، وجزيل قسمه لك، وجعلني من السوء كله فداك، وقدمني قبلك.


[ 310 ]

ان قبلنا مشايخ وعجايز يصومون رجبا منذ ثلاثين سنة واكثر، ويصلون بشعبان وشهر رمضان. وروى لهم بعض أصحابنا: ان صومه معصية ؟ فأجاب عليه السلام: قال الفقيه: يصوم منه أياما إلى خمسة عشر يوما، إلا ان يصومه عن الثلاثة الايام الفائتة، للحديث: (ان نعم شهر القضاء رجب). وسأل: عن رجل يكون في محمله والثلج كثير بقامة رجل، فيتخوف ان نزل الغوص فيه، وربما يسقط الثلج وهو على تلك الحال ولا يستوي له ان يلبد شيئا منه لكثرته وتهافته، هل يجوز أن يصلي في المحمل الفريضة ؟ فقد فعلنا ذلك أياما فهل علينا في ذلك اعادة أم لا ؟ فأجاب: لا بأس به عند الضرورة والشدة. وسأل: عن الرجل يلحق الامام وهو راكع فيركع معه ويحتسب تلك الركعة. فان بعض اصحابنا قال: ان لم يسمع تكبيرة الركوع فليس له أن يعتد بتلك الركعة ؟ فأجاب: إذا لحق مع الامام من تسبيح الركوع تسبيحة واحدة اعتد بتلك الركعة وإن لم يسمع تكبيرة الركوع. وسأل: عن رجل صلى الظهر ودخل في صلاة العصر، فلما ان صلى من صلاة العصر ركعتين استيقن انه صلى الظهر ركعتين، كيف يصنع ؟ فأجاب: ان كان أحدث بين الصلاتين حادثة يقطع بها الصلاة أعاد الصلاتين وان لم يكن أحدث حادثة جعل الركعتين الاخرتين تتمة لصلاة الظهر، وصلى العصر بعد ذلك. وسأل: عن أهل الجنة هل يتوالدون إذا دخلوها أم لا ؟ فأجاب: ان الجنة لا حمل فيها للنساء ولا ولادة، ولا طمث ولا نفاس، ولا شقاء بالطفولية. وفيها ما تشتهى الانفس وتلذ الاعين، كما قال سحبانه، فإذا اشتهى المؤمن ولدا خلقه الله بغير حمل ولا ولادة على الصورة التي يريد كما خلق آدم عبرة.


[ 311 ]

وسأل: عن رجل تزوج امرأة بشئ معلوم إلى وقت معلوم، وبقي له عليها وقت، فجعلها في حل مما بقي له عليها وقد كانت طمثت قبل أن يجعلها في حل من أيامها بثلاثة ايام، أيجوز أن يتزوجها رجل معلوم إلى وقت معلوم عند طهرها من هذه الحيضة أو يستقبل بها حيضة اخرى ؟ فأجاب: يستقبل حيضة غير تلك الحيضة، لان أقل تلك العدة حيضة وطهرة تامة. وسأل: عن الابرص والمجذوم وصاحب الفالج هل يجوز شهادتهم، فقد روي لنا: أنهم لا يأمون الاصحاء. فأجاب: ان كان ما بهم حادثا جازت شهادتم، وان كان ولادة لم يجز. وسأل: هل يجوز للرجل أن يتزوج ابنة امرأته ؟ فأجاب: إن كانت ربيت في حجره فلا يجوز، وان لم تكن ربيت في حجره وكانت امها في غير عياله فقد روي: انه جائز. وسأل: هل يجوز أن يتزوج بنت ابنة امرأة ثم يتزوج جدتها بعد ذلك ؟ فأجاب: قد نهي عن ذلك. وسأل: عن رجل ادعى على رجل ألف درهم وأقام به البينة العادلة، وادعى عليه أيضا خمسمائة درهم في صك آخر، وله بذلك بينة عادلة، وادعى عليه أيضا ثلاثمائة درهم في صك آخر، ومائتي درهم في صك آخر، وله بذلك كله بينة عادلة، ويزعم المدعى عليه ان هذه الصكاك كلها قد دخلت في الصك الذي بألف درهم، والمدعي منكر أن يكون كما زعم، فهل يجب الالف الدرهم مرة واحدة أو يجب عليه كلما يقيم البينة به ؟ وليس في الصكاك استثناء انما هي صكاك على وجهها. فأجاب: يؤخذ من المدعى عليه الف درهم مرة وهي التي لا شبهة فيها، ويرد اليمين في الالف الباقي على المدعي فان نكل فلا حق له. وسأل عن طين القبر: يوضع مع الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا ؟ فأجاب: يوضع مع الميت في قبره، ويخلط بخيوطه إن شاء الله. وسأل فقال: روي لنا عن الصادق عليه السلام: انه كتب على أزار ابنه اسماعيل


[ 312 ]

يشهد: أن لا إله إلا الله، فهل يجوز ان نكتب مثل ذلك بطين القبر أم غيره ؟ فأجاب: يجوز ذلك. وسأل: هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر، وهل فيه فضل ؟ فأجاب: يسبح الرجل به فما من شئ من السبح أفضل منه، ومن فضله ان الرجل ينسى التسبيح ويدير السبحة فيكتب له التسبيح. وسأل: عن السجدة على لوح من طين القبر، وهل فيه فضل ؟ فأجاب: يجوز ذلك وفيه الفضل. وسأل: عن الرجل يزور قبور الائمة عليه السلام، هل يجوز ان يسجد على القبر أم لا ؟ وهل يجوز لمن صلى عند بعض قبورهم عليهم السلام ان يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة، ويقوم عند رأسه ورجليه ؟ وهل يجوز أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا ؟ فأجاب: اما السجود على القبر، فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة والذي عليه العمل: أن يضع خده الايمن على القبر. واما الصلاة فانها خلفه، ويجعل القبر أمامه، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره، لان الامام صلى الله عليه وآله لا يتقدم ولا يساوى. وسأل فقال: يجوز للرجل إذا صلى الفريضة أو النافلة وبيده السبحة أن يديرها وهو في الصلاة ؟ فأجاب: يجوز ذلك إذا خاف السهو والغلط. وسأل: هل يجوز أن يدير السبحة بيده اليسار إذا سبح، أو لا يجوز ؟ فأجاب: يجوز ذلك والحمد لله رب العالمين. وسأل فقال: روي عن الفقيه في بيع الوقف خبر مأثور: إذا كان الوقف على قوم باعيانهم واعقباهم، فاجتمع اهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم ان يبيعوه، فهل يجوز أن يشترى من بعضهم ان لم يجتمعوا كلهم على البيع، أم لا يجوز إلا ان يجتمعوا كلهم على ذلك ؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه ؟


[ 313 ]

فأجاب: إذا كان الوقف على امام المسلمين فلا يجوز بيعه، وان كان على قوم من المسلمين فليبع كل قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرقين ان شاء الله. وسأل: هل يجوز للمحرم ان يصير على ابطه المرتك والتوتيا لريح العرق أم لا يجوز ؟ فأجاب: يجوز ذلك وبالله التوفيق. وسأل: عن الضرير إذا شهد في حال صحته على شهادة، ثم كف بصره ولا يرى خطه فيعرفه، هل يجوز شهادته أم لا ؟ وان ذكر هذا الضرير الشهادة، هل يجوز أن يشهد على شهادته أم لا يجوز ؟ فأجاب: إذا حفظ الشهادة وحفظ الوقت، جازت شهادته. وسأل: عن الرجل يوقف ضيعة أو دابة ويشهد على نفسه باسم بعض وكلاء الوقف، ثم يموت هذا الوكيل أو يتغير امره ويتولى غيره، هل يجوز ان يشهد الشاهد لهذا الذي اقيم مقامه إذا كان اصل الوقف لرجل واحد أم لا يجوز ذلك ؟ فأجاب: لا يجوز ذلك، لان الشهادة لم تقم للوكيل وانما قامت للمالك، وقد قال الله: (وأقيموا الشهادة لله) (1). وسأل: عن الركعتين الاخراوين قد كثرت فيها الروايات فبعض يروي: ان قراءة الحمد وحدها أفضل، وبعض يروي: ان التسبيح فيهما أفضل، فالفضل لايهما لنستعمله ؟ فأجاب: قد نسخت قراءة ام الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح والذي نسخ التسبيح قول العالم عليه السلام: كل صلاة لا قراءة فيها فهو خداج إلا للعليل، أو يكثر عليه السهو فيتخوف بطلان الصلاة عليه. وسأل فقال: يتخذ عندنا رب الجوز لوجع الحلق والبحبحة، يؤخذ الجوز الرطب من قبل ان ينعقد ويدق دقا ناعما، ويعصر ماؤه ويصفى ويطبخ على النصف ويترك يوما وليلة ثم ينصب على النار، ويلقى على كل ستة ارطال منه رطل عسل


(1) الطلاق – 2.

[ 314 ]

ويغلى رغوته، ويستحق من النوشادر والشب اليماني من كل واحد نصف مثقال ويداف بذلك الماء، ويلقي فيه درهم زعفران المسحوق، ويغلى ويؤخذ رغوته حتى يصير مثل العسل ثخينا، ثم ينزل عن النار ويبرد ويشرب منه، فهل يجوز شربه أم لا ؟ فأجاب: إذا كان كثيره يسكر أو يغير، فقليله وكثيره حرام، وان كان لا يسكر فهو حلال. وسأل: عن الرجل يعرض له الحاجة مما لا يدري أن يفعلها أم لا، فيأخذ خاتمين فيكتب في أحدهما: (نعم افعل) وفي الاخر: (لا تفعل) فيستخير الله مرارا، ثم يرى فيهما، فيخرج أحدهما فيعمل بما يخرج، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ والعامل به والتارك له أهو مثل الاستخارة أم هو سوى ذلك ؟ فأجاب: الذى سنة العالم عليه السلام في هذه الاستخارة بالرقاع والصلاة. وسأل: عن صلاة جعفر بن أبي طالب (ره) في أي اوقاتها أفضل ان تصلى فيه، وهل فيها قنوت ؟ وان كان ففي أي ركعة منها ؟ فأجاب: افضل اوقاتها صدر النهار من يوم الجمعة، ثم في أي الايام شئت واي وقت صليتها من ليل أو نهار فهو جائز، والقنوت فيها مرتان: في الثانية قبل الركوع، وفي الرابعة بعد الركوع. وسأل: عن الرجل ينوي اخراج شئ من ماله وان يدفعه إلى رجل من اخوانه ثم يجد في اقربائه محتاجا، أيصرف ذلك عمن نواه له أو إلى قرابته ؟ فأجاب: يصرفه إلى ادناهما واقربهما من مذهبه، فان ذهب إلى قول العالم عليه السلام: (لا يقبل الله الصدقة وذو رحم محتاج) فليقسم بين القرابة وبين الذي نوى حتى يكون قد أخذ بالفضل كله. وسأل: فقال: اختلفت اصحابنا في مهر المرأة. فقال بعضهم: إذا دخل بها سقط المهر ولا شئ لها. وقال بعضهم: هو لازم في الدنيا والاخرة، فكيف ذلك ؟ وما الذي يجب فيه ؟ فأجاب: ان كان عليه بالمهر كتاب فيه ذكر دين فهو لازم له في الدنيا


[ 315 ]

والاخرة، وان كان عليه كتاب فيه ذكر الصداق سقط إذا دخل بها، وان لم يكن عليه كتاب، فإذا دخل بها سقط باقي الصداق. وسأل فقال: روي لنا عن صاحب العسكر عليه السلام انه سئل عن الصلاة في الخز الذي يغش بوبر الارانب فوقع: يجوز، وروي عنه أيضا: انه لا يجوز. فاي الخبرين يعمل به ؟ فأجاب: انما حرم في هذه الاوبار والجلود، فاما الاوبار وحدها فكل حلال. وقد سأل بعض العلماء عن معنى قول الصادق عليه السلام: لا يصلي في الثعلب ولا في الارنب، ولا في الثوب الذي يليه، فقال: انما عنى الجلود دون غيرها. وسأل فقال: يتخذ باصفهان ثياب عتابية على عمل الوشا من قز أو ابريسم هل يجوز الصلاة فيها أم لا ؟ فأجاب: لا يجوز الصلاة إلا في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتان. وسأل: عن المسح على الرجلين وبأيهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا معا ؟ فأجاب عليه السلام: يمسح عليهما معا فان بدأ باحداهما قبل الاخرى فلا يبتدئ إلا باليمين. وسأل: عن صلاة جعفر في السفر هل يجوز ان يصلى أم لا ؟ فأجاب عليه السلام: يجوز ذلك. وسأل: عن تسبيح فاطمة عليها السلام: من سهى فجاز التكبير اكثر من اربع وثلاثين هل يرجع إلى اربع وثلاثين أو يستأنف ؟ وإذا سبح تمام سبعة وستين هل يرجع إلى ستة وستين أو يستأنف ؟ وما الذي يجب في ذلك ؟ فأجاب: إذا سها في التكبير حتى يجوز أربعة وثلاثين عاد إلى ثلاثة وثلاثين وبنى عليها، وإذا سها في التسبيح فتجاوز سبعا وستين تسبيحة عاد إلى ستة وستين وبنى عليها، فإذا جاوز التحميد مائة فلا شئ عليه. وعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري انه قال: خرج التوقيع من الناحية


[ 316 ]

المقدسة حرسها الله – بعد المسائل -: بسم الله الرحمن الرحيم لا لامره تعقلون، حكمة بالغة فما تغني النذر عن قوم لا يؤمنون. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. إذا اردتم التوجه بنا إلى الله والينا، فقولوا كما قال الله تعالى: (سلام على آل يس) (1). السلام عليك يا داعي الله ورباني آياته. السلام عليك يا باب الله وديان دينه. السلام عليك يا خليفة الله وناصر خلقه. السلام عليك يا حجة الله ودليل إرادته. السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه. السلام عليك يا بقية الله في ارضه. السلام عليك يا ميثاق الله الذي أخذه ووكده. السلام عليك يا وعد الله الذي ضمنه. السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة وعدا غير مكذوب. السلام عليك حين تقعد السلام عليك حين تقوم. السلام عليك حين تقرأ وتبين. السلام عليك حين تصلي وتقنت. السلام عليك حين تركع وتسجد. السلام عليك حين تكبر وتهلل. السلام عليك حين تحمد وتستغفر. السلام عليك حين تمسي وتصبح.


(1) الصافات – 30.

[ 317 ]

السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى. السلام عليك ايها الامام المأمون. السلام عليك ايها المقدم المأمول. السلام عليك بجوامع السلام. اشهدك يا مولاي اني اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله لا حبيب إلا هو وأهله، واشهد أن أمير المؤمنين حجته، والحسن حجته، والحسين حجته، وعلي بن الحسين حجته، ومحمد بن علي حجته، وجعفر ابن محمد حجته، وموسى بن جعفر حجته، وعلي بن موسى حجته، ومحمد بن علي حجته، وعلي بن محمد حجته، والحسن بن علي حجته، وأشهد انك حجة الله. أنتم الاول والاخر، وان رجعتكم حق لا شك فيها يوم لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا، وان الموت حق، وان ناكرا ونكيرا حق، واشهد ان النشر والبعث حق، وان الصراط والمرصاد حق، والميزان والحساب حق، والجنة والنار حق، والوعد والوعيد بهما حق. يا مولاي شقي من خالفكم وسعد من أطاعكم. فاشهد على ما اشهدتك عليه، وأنا ولي لك برئ من عدوك، فالحق ما رضيتموه، والباطل ما سخطتموه، والمعروف ما أمرتم به. والمنكر ما نهيم عنه، فنفسي مؤمنة بالله وحده لا شريك له، وبرسوله، وبامير المؤمنين، وبائمة المؤمنين وبكم يا مولاي. أولكم وآخركم، ونصرتي معدة لكم، فمودتي خالصة لكم آمين آمين. الدعاء عقيب هذا القول: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اني اسألك أن تصلي على محمد نبي رحمتك، وكلمة نورك، وان تملا قلبي نور اليقين، وصدري نور الايمان، وفكري نور الثبات، وعزمي نور العلم، وقوتي نور العمل، ولساني نور الصدق، وديني نور البصائر من عندك، وبصري نور الضياء


[ 318 ]

وسمعي نور وعي الحكمة، ومودتي نور الموالاة لمحمد وآله عليهم السلام، حتى القاك وقد وفيت بعهدك وميثاقك، فلتسعني رحمتك يا ولي يا حميد. اللهم صل على حجتك في ارضك، وخليفتك في بلادك، والداعي إلى سبيلك والقائم بقسطك، والثائر بأمرك، ولي المؤمنين، وبوار الكافرين، ومجلي الظلمة ومنير الحق، والساطع بالحكمة والصدق، وكلمتك التامة في ارضك، المرتقب الخائف والولي الناصح، سفينة النجاة، وعلم الهدى، ونور أبصار الورى، وخير من تقمص وارتدى، ومجلي العمى، الذي يملا الارض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا انك على كل شئ قدير. اللهم صل على وليك وابن اوليائك الذين فرضت طاعتهم، واوجبت حقهم واذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا. اللهم انصر وانتصر به اولياءك واولياءه، وشيعته وانصاره واجعلنا منهم: اللهم اعذه من كل باغ وطاغ، ومن شر جميع خلقك. واحفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، واحرسه، وامنعه، من أن يوصل إليه بسوء واحفظ فيه رسولك وآل رسولك، واظهر به العدل وأيده بالنصر، وانصر ناصريه واخذل خاذليه، واقصم به جبابرة الكفرة، واقتل به الكفار والمنافقين، وجميع الملحدين، حيث كانوا في مشارق الارض ومغاربها، برها وبحرها، واملا به الارض عدلا، واظهر به دين نبيك، واجعلني اللهم من انصاره واعوانه، واتباعه وشيعته، وأرني في آل محمد ما يأملون، وفي عدوهم ما يحذرون إله الحق آمين، يا ذا الجلال والاكرام، يا أرحم الراحمين. ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة – حرسها الله ورعاها – في ايام بقيت من صفر، سنة عشر وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه ونور ضريحه، (1) ذكر موصله انه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز، نسخته:


(1) قال الشيخ أبو جعفر الطوسى في رجاله ص 514: (محمد بن محمد بن النعمان جليل ثقة. وقال في الفهرست ص 186: محمد بن محمد بن النعمان المفيد يكنى: –

[ 319 ]


– (ابا عبد الله) المعروف بابن المعلم من جملة متكلمي الامامية، انتهت إليه رئاسة الامامية في وقته، وكان مقدما في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيها متقدما فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار، وفهرست كتبه معروف، ولد سنة (338) ه‍، وتوفي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة (413) ه‍، وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق. ثم قال: سمعنا منه هذه الكتب كلها، بعضها قراءة عليه، وبعضها يقرأ عليه غير مرة وهو يسمع.). وقال النجاشي ص 311 من رجاله: (شيخنا واستاذنا رضي الله عنه، فضله اشهر من ان يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة له كتب – ثم عدله (174) كتابا ورسالة ثم قال -: مات رحمه الله ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة (413) وكان مولده يوم الحادي عشر من ذى القعدة سنة (336) وصلى عليه الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بميدان الاشنان وضاق على الناس مع كبره ودفن في داره سنين، ونقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيد ابى جعفر عليه السلام. وقيل: مولده سنة (338). وقال العلامة الحلى – رحمه الله – في القسم الاول من الخلاصة ص 147: (محمد ابن محمد بن النعمان يكنى (ابا عبد الله) يلقب (بالمفيد) وله حكاية في سبب تسميته (بالمفيد) ذكرناها في كتابنا الكبير، ويعرف بابن المعلم، من اجل مشايخ الشيعة ورئيسهم واستاذهم، وكل من تأخر عنه استفاد منه، وفضله اشهر من ان يوصف في الفقه والكلام والرواية، اوثق اهل زمانه واعلمهم، انتهت رياسة الامامية إليه في وقته، وكان حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار،.. إلى ان قال: ثم نقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيد الامام ابى جعفر الجواد عليه السلام عند الرجلين إلى جانب قبر شيخه الصدوق ابى القاسم جعفر بن محمد ابن قولويه). وقال الشيخ عباس القمى – رحمه الله – في الجزء الثالث من الكنى والالقاب ص 164: (أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي شيخ –

[ 320 ]


– المشايخ الجلة، ورئيس رؤساء الملة، فخر الشيعة، ومحيي الشريعة، ملهم الحق ودليله، ومنار الدين وسبيله، اجتمعت فيه خلال الفضل، وانتهيت إليه رياسة الكل واتفق الجميع على علمه وفضله، وفقهه وعدالته، وثقته وجلالته. كان رحمه الله كثير المحاسن، جم المناقب، حديد الخاطر، حاضر الجواب، واسع الرواية، خبير بالاخبار والرجال والاشعار. وكان اوثق اهل زمانه بالحديث، واعرفهم بالفقه والكلام، وكل من تأخر عنه استفاد منه. وقال علماء العامة في حقه: – هو شيخ مشايخ الامامية رئيس الكلام والفقه والجدل وكان يناظر اهل كل عقيدة، وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، وكان شيخا، ربعة، نحيفا، اسمر عاش ستا وسبعين سنة وله اكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهورة شيعه ثمانون الفا من الرافضة والشيعة، واراح الله منه اهل السنة، وكان كثير التقشف والتخشع، والاكباب على العلم، وكان يقال له على كل امامى منة، وقال الشريف أبو يعلى الجعفري – وكان تزوج بنت المفيد رحمه الله -: ما كان المفيد ينام من الليل إلا هجعة ثم يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو. وقال ابن النديم: في عهدنا انتهت رياسة متكلمي الشيعة إليه، مقدم في صناعة الكلام على مذهب اصحابه، دقيق الفطنة، ماضى الخاطر، شاهدته فرأيته بارعا. توفي رحمه الله ليلة الثالث من شهر رمضان ببغداد سنة (413) وكان مولده يوم الحادى عشر من ذى القعدة (336) وصلى عليه الشريف المرتضى بميدان الاشنان ثم نقل كلام الشيخ الطوسى المتقدم ثم قال: ورثاه مهيار الديلمى بقصيدة منها قوله: ما بعد يومك سلوة لمعلل مني ولا ظفرت بسمع معذل سوى المصاب بك القلوب على الجوى قيد الجليد على حشأ المتململ وتشابه الباكون فيك فلم يبن دمع المحق لنا من المتعمل وتقدم في ابن قولويه ان قبره في البقعة الكاظمية (ع) وذكر جماعة من العلماء منهم الميرزا محمد مهدى الشهرستاني في اجازته للسيد ميرزا محمد مهدى ابن ميرزا محمد تقى –

[ 321 ]


– الطبا طبائى التبريزي المتوفى سنة (241) ان الشيخ المفيد – ره – رثاه صاحب الامر (عج) حيث وجد مكتوبا على قبره: لا صوت الناعي بفقدك انه يوم على آل الرسول عظيم ان كنت قد غيبت في جدث الثرى فالعدل والتوحيد فيك مقيم والقائم المهدى يفرح كلما تليت عليك من الدروس علوم أقول وقصيدة الديلمى هذه التي ذكر منها الشيخ عباس القمى – رحمه الله – ثلاثة ابيات تبلغ (101) بيتا وهى موجودة في ديوانه المطبوع وفيها يقول: يا مرسلا ان كنت مبلغ ميت تحت الصفائح قول حي مرسل فج الثرى الراوي فقل لمحمد عن ذي فؤاد بالفجيعة مشعل من للخصوم اللد بعدك غصة في الصدر لا تهوى ولا هي تعتلي من للجدال إذا الشفاه تقلصت وإذا اللسان بريقه لم يبلل من بعد فقدك رب كل غريبة بكر بك افترعت وقولة فيصل ولغامض خاف رفعت قوامه وفتحت منه في الجواب المقفل من للطروس يصوغ في صفحاتها حليا يقعقع كلما خرس الحلي يبقين الذكر المخلد رحمة لك في فم الراوي وعين المجتلى اين الفؤاد الندب غير مضعف اين اللسان الصعب غير مفلل تفرى به وتحز كل ضريبة ما كل حزة مفصل للمنصل كم قد ضممت لدين آل محمد من شارد وهديت قلب مضلل وعقلت من ود عليهم ناشط لو لم ترضه ملاطفا لم يعقل لا تطبيك ملالة عن قوله تروى عن المفضول حق الافضل فليجزينك عنهم ما لم يزل يبلو القلوب ليجتبي وليبتلي ولتنظرن إلى علي رافعا ضبعيك يوم البعث ينظر من عل ورثاه الشريف المرتضى – رحمه الله – بقصيدة موجودة في ديوانه المطبوع يقول فيها: ان شيخ الاسلام والدين والعلم تولى فازعج الاسلاما –

[ 322 ]

للاخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله اعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد. بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد: سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين فانا نحمد اليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك – أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق -: انه قد اذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك، اعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته، فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما اذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه ان شاء الله. نحن وان كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي


– والذى كان غرة في دجى الايام اودى فاوحش الاياما كم جلوت الشكوك تعرض في نص وصي وكم نصرت اماما وخصوم لد ملاتهم بالحق في حومة الخصام خصاما عاينوا منك مصمما ثغرة النحر وما ارسلت يداك سهاما وشجاعا يفري المرائر ما كل شجاع يفري الطلا والهاما من إذا مال جانب من بناء الدين كانت له يداه دعاما وإذا ازور جائر عن هداه قاده نحوه فكان زماما من لفضل اخرجت منه خبيثا ومعان فضضت عنها ختاما من لسوء ميزت عنه جميلا وحلال خلصت منه حراما من ينير العقول من بعد ما كا ن همودا وينتج الافهاما من بعير الصديق رأيا إذا ما سله في الخطوب كان حساما فامض صفرا من العيوب فكم با ن رجال اثروا عيوبا وذا ما إلى ان يقول: لن تراني وأنت في عدد الام‍ وات إلا – تجملا – بساما

[ 323 ]

اراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فانا نحيط علما بانبائكم، ولا يعزب عنا شئ من اخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي اصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. انا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللاواء (1) أو اصطلمكم الاعداء (2) فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم (3) من فتنة قد انافت عليكم (4) يهلك فيها من حم اجله (5) ويحمى عنها من أدرك امله، وهي امارة لازوف حركتنا (6) ومباثتكم بامرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون. اعتصموا بالتقية ! من شب نار الجاهلية، يحششها (7) عصب اموية، يهول بها فرقة مهدية، انا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرضية، إذا حل جمادى الاولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه. ستظهر لكم من السماء آية جلية، ومن الارض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الاسلام مراق، تضيق بسوء فعالهم على اهله الارزاق، ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الاشرار، ثم يستر بهلاكه المتقون الاخيار، ويتفق لمريدي الحج من الافاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتساق. فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من بمحبتنا، ويتجنب ما يدنيه من


(1) اللاواء: الشدة وضيق المعيشة (2) اصطلمه: استأصله. (3) انتاشه من الهلكة: انقذه. * (4) اناف على الشئ طال وارتفع عليه. (5) حم اجله: قرب. (6) الازوف: الاقتراب. (7) حش النار: اوقدها وهيجها.

[ 324 ]

كراهتنا وسخطنا، فان امرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة. والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته. نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام: هذا كتابنا اليك أيها الاخ الولي، والمخلص في ودنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ! ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحدا ! واد ما فيه إلى من تسكن إليه، واوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. ورد عليه كتاب آخر من قبله صلوات الله عليه، يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة، سنة اثنى عشر واربعمائة. نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم سلام الله عليك أيها الناصر للحق، الداعي إليه بكلمة الصدق، فانا نحمد الله اليك الذي لا إله إلا هو، إلهنا وإله آبائنا الاولين، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين. وبعد: فقد كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه، وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك الان من مستقر لنا ينصب في شمراخ، من بهماء صرنا إليه آنفا من غماليل الجانا إليه السباريت من الايمان، ويوشك ان يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان ويأتيك نبأ منا بما يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة الينا بالاعمال، والله موفقك لذلك برحمته، فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام ان تقابل لذلك فتنة تسبل نفوس قوم حرثت باطلا لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالجرم المعظم من رجس منافق مذمم، مستحل للدم المحرم، يعمد بكيده اهل الايمان ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لاننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي


[ 325 ]

الذي لا يحجب عن ملك الارض والسماء، فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقوا بالكفاية منه، وان راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب. ونحن نعهد اليك ايها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين، انه من اتقى ربه من اخوانك في الدين واخرج مما عليه إلى مستحقيه، كان آمنا من الفتنة المبطلة، ومحنها المظلمة المظلة ومن بخل منهم بما اعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فانه يكون خاسرا بذلك لاولاه وآخرته، ولو ان اشياعا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم وكتب في غرة شوال من سنة اثنى عشر واربعمائة. نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها: هذا كتابنا اليك أيها الولي الملهم للحق العلي، باملائنا وخط ثقتنا، فاخفه عن كل احد، واطوه واجعل له نسخة يطلع عليها من تسكن إلى أمانته من اوليائنا شملهم الله ببركتنا ان شاء الله. الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين. احتجاج الشيخ المفيد السديد ابي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه. حدث الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الرقي (1) بالرملة في شوال من سنة ثلاث وعشرين واربعمائة عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (ره) انه قال:


(1) لم اعثر له على ترجمة.

[ 326 ]

رأيت في المنام سنة من السنين كأنى قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها ناس كثير، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذه حلقة فيها رجل يقص. فقلت: من هو ؟ قالوا: عمر بن الخطاب. ففرقت الناس ودخلت الحلقة، فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشئ لم احصله فقطعت عليه الكلام، وقلت: أيها الشيخ اخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي بكر عتيق ابن أبي قحافة من قول الله تعالى: (ثاني اثنين إذ هما في الغار) ؟ (1). فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الاية في ستة مواضع: الاول: ان الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وآله وذكر ابا بكر فجعله ثانيه، فقال: (ثاني اثنين إذ هما في الغار). والثاني: انه وضعهما بالاجتماع في مكان واحد، لتأليفه بينهما فقال: (إذ هما في الغار). والثالث: انه اضاف إليه بذكر الصحبة ليجمعه بينهما بما يقتضي الرتبة، فقال: (إذ يقول لصاحبه). والرابع: انه أخبر عن شفقة النبي صلى الله عليه وآله عليه ورفقه به لموضعه عنده فقال: (لا تحزن). والخامس: انه اخبر ان الله معهما على حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما فقال: (ان الله معنا). والسادس: انه اخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لان رسول الله صلى الله عليه وآله لم تفارقه السكينة قط، فقال: (فانزل الله سكينته عليه).


(1) التوبة – 41.

[ 327 ]

فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار، لا يمكنك ولا لغيرك الطعن فيها. فقلت له: حبرت بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه، واني بعون الله سأجعل جميع ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. أما قولك: ان الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وآله وجعل أبا بكر ثانيه، فهو اخبار عن العدد، لعمري لقد كانا اثنين، فما في ذلك من الفضل ؟ ! ونحن نعلم ضرورة ان مؤمنا ومؤمنا، أو مؤمنا وكافرا، اثنان، فما أرى لك في ذكر العدد طائلا تعتمده. واما قولك: انه وصفهما بالاجتماع في المكان، فانه كالاول لان المكان يجمع المؤمن والكافر كما يجمع العدد المؤمنين والكفار، وأيضا: فان مسجد النبي صلى الله عليه وآله أشرف من الغار، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار، وفي ذلك قوله عزوجل: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين) (1) وأيضا: فان سفينة نوح قد جمعت النبي، والشيطان، والبهيمة، والكلب، والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان. واما قولك: انه اضاف إليه بذكر الصحبة، فانه أضعف من الفضلين الاولين: لان اسم الصحبة يجمع بين المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) (2) وأيضا: فان اسم الصحبة تطلق بين العاقل وبين البهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، فقال الله عزوجل: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (3) انهم سموا الحمار صاحبا فقالوا: ان الحمار مع الحمار مطية فإذا خلوت به فبئس الصاحب وأيضا: قد سموا الجماد مع الحي صاحبا، قالوا ذلك في السيف شعرا: زرت هندا وذاك غير اختيان ومعي صاحب كتوم اللسان


(1) المعارج – 37. (2) الكهف – 35. (3) ابراهيم – 4.

[ 328 ]

يعني: السيف. فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر، وبين العاقل والبهيمة، وبين الحيوان والجماد، فاي حجة لصاحبك فيه ؟ ! واما قولك: انه قال: (لا تحزن) فانه وبال عليه ومنقصة له، ودليل على خطئه، لان قوله: (لا تحزن) نهي وصورة النهي قول القائل: (لا تفعل) لا يخلوا أن يكون الحزن وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فان كان (طاعة) فان النبي صلى الله عليه وآله لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وان كان (معصية) فقد نهاه النبي صلى الله عليه وآله عنها، وقد شهدت الاية بعصيانه بدليل انه نهاه. واما قولك: انه قال: (ان الله معنا) فان النبي صلى الله عليه وآله قد اخبر ان الله معه، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع، كقوله: (انا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (1) وقيل أيضا في هذا: ان أبا بكر قال: (يا رسول الله حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه) فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (لا تحزن ان الله معنا) أي: معي ومع أخي علي بن أبي طالب عليه السلام. واما قولك: ان السكينة نزلت على أبي بكر، فانه ترك للظاهر: لان الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيده بالجنود، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله: (فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود، لم تروها) (2) فان كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود، وفي هذا اخراج للنبي صلى الله عليه وآله من النبوة على ان هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيرا، لان الله تعالى انزل السكينة على النبي صلى الله عليه وآله في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها، فقال – في احد الموضعين -: (فانزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى) (3) وقال في الموضع الاخر: (انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وانزل جنودا لم تروها) (4) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة قال: (فانزل الله سكينته عليه) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما


(1) الحجر – 9. (2) التوبة – 41. (3) الفتح – 26. (4) التوبة 27.

[ 329 ]

شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل اخراجه من السكينة على خروجه من الايمان، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي. احتجاج السيد الاجل علم الهدى المرتضى أبي القاسم علي رضي الله عنه وارضاه على أبي العلاء المعري الدهري في جواب ما سأل عنه مرموزا (1 و 2) دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى قدس الله روحه فقال: أيها السيد ما قولك في الكل ؟ قال السيد: ما قولك في الجزء ؟ فقال: ما قولك في الشعرى ؟ فقال: ما قولك في التدوير ؟


(1) قال الشيخ الطوسى – رحمه الله – في رجاله ص 484: (علي بن الحسين الموسوي يكنى: ابا القاسم، الملقب بالمرتضى ذو المجدين علم الهدى ادام الله تعالى أيامه اكثر اهل زمانه ادبا وفضلا متكلم فقيه جامع للعلوم كلها مد الله في عمره، يروى عن التلعكبري والحسين بن علي بن بابويه وغيرهم من شيوخنا، له تصانيف كثيرة ذكرنا بعضها في الفهرست، وسمعنا منه اكثر كتبه وقرأناها عليه). وقال في الفهرست ص 125: (علي بن الحسين بن موسى بن ابراهيم بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابى طالب عليهم السلام كنيته: (أبو القاسم) لقبه (علم الهدى) الاجل المرتضى رضي الله عنه، متوحد في علوم كثيرة مجمع على فضله، مقدم في العلوم، مثل علم الكلام والفقه واصول الفقه والادب والنحو والشعر ومعانى الشعر واللغة وغير ذلك، له ديوان شعر يزيد على عشر بن الف بيت وله من التصانيف ومسائل البلدان شئ كثير، مشتمل على ذلك فهرسته المعروف، غير اني اذكر اعيان كتبه وكبارها، – ثم عدد قسما من مؤلفاته ثم قال: توفي في شهر ربيع الاول سنة ست وثلاثين واربعمائة، وكان مولده في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وسنة يومئذ ثمانون سنة وثمانية اشهر وايام – نضر الله وجهه – قرأت هذه الكتب اكثرها عليه وسمعت سائرها يقرأ عليه دفعات كثيرة). وقال النجاشي ص 206: (علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن –

[ 330 ]


– موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب عليهم السلام. أبو القاسم المرتضى، حاز من العلوم ما لم يدانيه فيه احد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلما شاعرا، اديبا عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، صنف كتبا – ثم عدد قسما من مؤلفاته ثم قال -: مات رضى الله عنه لخمس بقين من شهر ربيع الاول سنة ست وثلاثين واربعمائة وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها، وتوليت غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلار بن عبد العزيز). وقال العلامة الحلى – رحمه الله – في القسم الاول من الخلاصة ص 94: (علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابى طالب عليهم السلام، أبو القاسم المرتضى ذو المجدين علم الهدى – رضي الله عنه – متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله مقدم في علوم مثل: علم الكلام والفقه واصول الفقه والادب من النحو والشعر واللغة وغير ذلك، وله ديوان شعر يزيد على عشرين الف بيت، وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الاول سنة ست وثلاثين واربعمائة وكان مولده سنة خمس وخمسين ووثلاثمائة في رجب، ويوم توفي كان عمره ثمانين سنة وثمانية اشهر وايام، نضر الله وجهه، وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها وتولى غسله أبو احمد الحسين بن العباس النجاشي ومعه الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري، وسلار بن عبد العزيز الديلمى، وله مصنفات كثيرة ذكرناها في كتابنا الكبير، وبكتبه استفادت الامامية منذ زمنه – رحمه الله – إلى زماننا هذا وهو سنة ثلاث وتسعين وستمائة وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن اجداده خيرا). وقال الشيخ عباس القمى في ج 2 من الكنى والالقاب ص 439: (هو سيد علماء الامة، ومحيي آثار الائمة، ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين ابن موسى بن ابراهيم بن الامام موسى الكاظم عليهم السلام، المشهور بالسيد المرتضى الملقب من جده المرتضى عليه السلام في الرؤية الصادقة السيماء ب‍ (علم الهدى). جمع من العلوم ما لم يجمعه احد، وحاز من الفضائل ما تفرد به وتوحد، واجمع على فضله المخالف والمؤالف، كيف لا وقد اخذ من المجد طرفيه، واكتسى بثوبيه وتردى ببرديه، متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل: علم –

[ 331 ]


– الكلام، والفقه، واصول الفقه، والادب، والنحو والشعر، واللغة وغير ذلك. له تصانيف مشهورة منها: (الشافي) في الامامة لم يصنف مثله في الامامة و (الذخيرة) و (جمل العلم والعمل) و (الذريعة) و (شرح القصيدة البديعة) وكتاب (الطيف والخيال) وكتاب (الشيب والشباب) وكتاب (الغرر والدرر) والمسائل الكثيرة، وله ديوان شعر يزيد على عشرين الف بيت إلى غير ذلك. قال آية الله العلامة: (وبكتبه استفادت الامامية منذ زمنه رحمه الله إلى زماننا هذا وهو سنة 693 وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن اجداده خيرا). وذكره الخطيب في تاريخ بغداد واثنى عليه وقال: (كتبت عنه وعن جامع الاصول انه عده ابن الاثير من مجددي مذهب الامامية في رأس المائه الرابعة. (هنا) فوائد (الاول): قال ابن خلكان – في وصف علم الهدى -: كان نقيب الطالبيين وكان اماما في علم الكلام والادب والشعر، وهو اخو الشريف الرضي، وله تصانيف على مذهب الشيعة، ومكالمة في اصول الدين، وله الكتاب الذى سماه (الغرر والدرر) وهى مجالس املاها تشتمل على فنون من معاني الادب تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم. وذكره ابن بسام في اواخر كتاب الذخيرة فقال: كان هذا الشريف امام أئمة العراق إليه فزع علماؤها، ومنه اخذ عظمائها: صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها، ممن سارت اخباره، وعرفت به اشعاره وتصانيفه في احكام المسلمين، مما يشهد انه فرع تلك الاصول، ومن ذلك البيت الجليل، واورد له عدة مقاطع. وحكى الخطيب التبريزي: ان ابا الحسن علي بن احمد الفالي الاديب كانت له كتاب نسخة الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور بستين دينارا وتصفحها فوجد بها ابياتا بخط بايعها ابى الحسن الفالي المذكور وهى: انست بها عشرين حولا وبعتها لقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظنى انني سأبيعها ولو خلدتنى في السجون ديونى ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شئونى فقلت ولم املك سوابق عبرة مقالة مكوي الفؤاد حزين –

[ 332 ]


– وقد تخرج الحاجات يا ام مالك كرائم من رب بهن ضنين فارجع النسخة إليه وترك الدنانير رحمه الله تعالى) (انتهى ملخصا). (الثاني) قال الشهيد – رحمه الله في محكي اربعينه -: نقلت من خط السيد العالم صفي الدين محمد بن معد الموسوي بالمشهد المقدس الكاظمي في سبب تسمية السيد المرتضى بعلم الهدى: انه مرض الوزير أبو سعيد محمد بن الحسين بن عبد الصمد في سنة عشرين واربعمائة فرأى في منامه أمير المؤمنين علي بن ابى طالب عليه السلام يقول: قل لعلم الهدى: يقرأ عليك حتى تبرأ. فقال: يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى ؟ قال عليه السلام: علي بن الحسين الموسوي فكتب الوزير إليه بذلك. فقال المرتضى رضي الله عنه: الله الله في امرى فان قبولي لهذا اللقب شناعة علي. فقال الوزير: ما كتبت اليك إلا بما لقبك به جدك أمير المؤمنين عليه السلام، فعلم القادر الخليفة بذلك فكتب إلى المرتضى (تقبل يا علي بن الحسين ما لقبك به جدك) فقبل واسمع الناس (الثالث) قال صاحب رياض العلماء: ونقل عن خط الشهيد الثاني – رحمه الله – على ظهر كتاب الخلاصة: انه كان السيد المرتضى معظما عند العام والخاص. ونقل عن الشيخ عز الدين احمد بن مقبل يقول: لو حلف انسان ان السيد المرتضى كان اعلم بالعربية من العرب لم يكن عندي آثما. وقد بلغني عن شيخ من شيوخ الادب بمصر: انه قال: والله اني استفدت من كتاب الغرر مسائل لم اجدها في كتاب سيبويه ولا غيره من كتب النحو وكان نصير الدين الطوسي – رحمه الله – إذا جرى ذكره في درسه يقول: (صلوات الله عليه) ويلتفت إلى القضاة والمدرسين الحاضرين درسه ويقول: (كيف لا يصلى على المرتضى). وقد ذكر المعري اسم المرتضى والرضي ومدحهما في طي مرثيته لوالدهما في ديوان السقط ومن ابيات تلك المرثية: ابقيت فينا كوكبين سناهما في الصبح وألظلماء ليس بخاف وقال أيضا: سارى الرضى والمرتضى وتقاسما خطط العلى بتناصف ونصاف (الرابع): قال شيخنا البهائي في كشكوله: كان للشيخ ابى جعفر الطوسى –

[ 333 ]


– ايام قراءته على السيد المرتضى (ره) كل شهر اثنا عشر دينارا ولابن البراج كل شهر ثمانية دنانير وكان السيد المرتضى يجري على تلامذته… وكان السيد رحمه الله نحيف الجسم وكان يقرأ مع اخيه الرضي على ابن نباتة صاحب الخطب وهما طفلان وحضر المفيد مجلس السيد يوما فقام من موضعه واجلسه فيه وجلس بين يديه، فاشار المفيد بان يدرس في حضوره وكان يعجبه كلامه إذا تكلم، وكان السيد قد وقف قرية على كافة الفقهاء، وحكاية رؤية المفيد في المنام فاطمة الزهراء عليها السلام وانها اتت بالحسن والحسين ومجئ فاطمة بنت الناصر بولديها الرضي والمرتضى في صبيحة ليلة المنام وقولها له: علم ولدي هذين مشهورة. (الخامس) توفي السيد المرتضى – رضى الله عنه – لخمس بقين من شهر ربيع الاول سنة 436، وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها ثم نقل إلى جوار جده ابى عبد الله الحسين عليه السلام. (السادسة): حكي عن القاضى التنوخي صاحب السيد المرتضى انه قال: ولد السيد سنة 355 وخلف بعد وفاته ثلاثين الف مجلد من مقروءاته ومصنفاته ومحفوظاته، ومن الاموال والاملاك ما يتجاوز عن الوصف وصنف كتابا يقال له: الثمانين وخلف من كل شئ ثمانين، وعمر احدى وثمانين سنة، من اجل ذلك سمي الثمانينى، وبلغ في العلم وغيره مرتبة عظيمة قلد نقابة الشرفاء شرقا وغربا وامارة الحاج والحرمين، والنظر في المظالم وقضاء القضاة، وبلغ على ذلك ثلاثين سنة). (2) اختلف في عقيدة أبي العلاء المعري فقيل: انه كان ملحدا ومات كذلك. وقيل: انه كان مسلما موحدا. وقيل: انه كان ملحدا ثم اسلم. وهذا القول الاخير يعززه ما قرأته في ديوان عبد المحسن الصوري – رحمه الله – المتوفى سنة 419. (المخطوط في مكتبة الاديب الفاضل الشيخ محمد هادى الاميني – حفظه الله -) من قوله: نجى المعري من العار * ومن شناعات واخبار وافقنى امس على انه * يقول بالجنة والنار وأنه لا عاد من بعدها * يصبو إلى مذهب بكار –

[ 334 ]

قال: ما قولك في عدم الانتهاء ؟ قال: ما قولك في التحيز والناعورة فقال: ما قولك في السبع ؟ فقال: ما قولك في الزايد البري من السبع ؟ فقال: ما قولك في الاربع ؟ فقال: ما قولك في الواحد والاثنين ؟ فقال: ما قولك في المؤثر ؟ فقال: ما قولك في المؤثرات ؟ فقال: ما قولك في النحسين ؟ فقال: ما قولك في السعدين ؟ فبهت أبو العلاء. (قال): فقال السيد المرتضى قدس الله روحه – عند ذلك – ألا كل ملحد ملهد ! فقال أبو العلاء: من أين اخذته ؟ قال: من كتاب الله (يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم) (1). وقام وخرج فقال السيد رضي الله عنه: قد غاب عنا الرجل وبعد هذا لا يرانا.


– واسم ابى العلاء المعري (احمد) بن عبد الله بن سليمان. قال الشيخ عباس القمى في ترجمته ج 3 من الكنى والالقاب ص 61: (. الشاعر الاديب الشهير، كان نسيج وحده بالعربية ضربت اباط الابل إليه، وله كتب كثيرة وكان اعمى ذا فطانة، وله حكايات من ذكاته وفطانته. حكي انه لما سمع فضائل الشريف السيد المرتضى اشتاق إلى زيارته. فحضر مجلس السيد وكان سيد المجالس فجعل يخطو ويدنو إلى السيد فعثر على رجل فقال الرجل: من هذا الكلب ؟ فقال المعرى الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما. فلما سمع الشريف ذلك منه قربه وادناه فامتحنه فوجده وحيد عصره واعجوبة دهره. فكان أبو العلاء يحضر مجلس السيد وعد من شعراء مجلسه..). (1) لقمان – 13.

[ 335 ]

فسئل السيد (ره) عن كشف هذه الرموز والاشارات فقال: سألني عن الكل، وعنده الكل قديم، ويشير بذلك إلى عالم سماه (العالم الكبير) فقال: ما قولك فيه ؟ اراد انه قديم. فاجبته عن ذلك وقلت له: ما قولك في الجزء ؟ لان عندهم الجزء (محدث) وهو متولد عن (العالم الكبير) وهذا الجزء عندهم هو (العالم الصغير) وكان مرادي بذلك: انه إذا صح ان هذا العالم محدث، فذلك الذي اشار إليه ان صح فهو محدث أيضا، لان هذا من جنسه على زعمه، والشي الواحد لا يكون بعضه قديما وبعضه محدثا، فسكت لما سمع ما قلته. واما الشعرى: اراد انها ليست من الكواكب السيارة. فقلت له: ما قولك في التدويرات ؟ أردت (الفلك) في التدويرات والدوران والشعرى لا يقدح في ذلك. واما عدم الانتهاء، أراد بذلك ان العالم لا ينتهي لانه قديم. فقلت له: قد صح عندي (التحيز والتدوير) وكلاهما يدلان على الانتهاء. واما السبع: اراد بذلك (النجوم السيارة) التي هي عندهم ذوات الاحكام. فقلت له: هذا باطل بالزايد البري الذي يحكم فيه بحكم لا يكون ذلك الحكم منوطا بهذه الكواكب السيارة، التي هي: (الزهرة، والمشتري، والمريخ وعطارد، والشمس، والقمر، وزحل). واما الاربع أراد بها (الطبايع) (2). فقلت له: في الطبيعة الواحدة النارية يتولد منها دابة بجلدها تمس الايدي ثم يطرح ذلك الجلد على النار فتحرق الزهومات، فيبقى الجلد صحيحا، لان الدابة خلقها الله على طبيعة النار والنار لا تحرق النار، والثلج أيضا تتولد فيه الديدان وهو على طبيعة واحدة، والماء في البحر على طبيعتين يتولد منه السموك


(1) أي: العناصر الاربعة على رأي الفلسفة القديمة وهى: (التراب، والنار والماء، والهواء) (*).

[ 336 ]

والضفادع، والحيات، والسلاحف، وغيرها. وعنده لا يحصل الحيوان إلا بالاربع فهذا مناقض بهذا. واما المؤثر، أراد به: (الزحل). فقلت له: ما قولك في المؤثرات ؟ أردت بذلك: ان المؤثرات كلهن عنده مؤثرات، فالمؤثر القديم كيف يكون مؤثرا ؟ ! واما النحسين، أراد بهما: انهما من النجوم السيارة، إذا اجتمعا يخرج من بينهما سعد. فقلت له: ما قولك في السعدين ؟ إذا اجتمعا خرج من بينهما نحس، هذا حكم ابطله الله تعالى، ليعلم الناظر ان الاحكام لا يتعلق بالمسخرات، لان الشاهد يشهد ان (العسل والسكر) إذا اجتمعا لا يحصل منهما (الحنظل). (والعلقم والحنظل) إذا اجتمعا لا يحصل منهما (الدبس والسكر) هذا دليل على بطلان قولهم. واما قولي ألا كل ملحد ملهد، اردت: ان كل مشرك ظالم، لان في اللغة: الحد الرجل إذ عدل من الدين، والهد إذا ظلم، فعلم أبو العلاء ذلك واخبرني عن علمه بذلك، فقرأت: (يا بني لا تشرك بالله الاية). وقيل: ان المعري لما خرج عن العراق سئل عن السيد المرتضى (ره) فقال: يا سائلي عنه لما جئت اسأله ألا هو الرجل العاري من العار لو جئته لرأيت الناس في رجل والدهر في ساعة والارض في دار احتجاجه قدس الله روحه في التعظيم والتقديم لائمتنا عليهم السلام على سائر الورى ما عدا نبينا عليه السلام بطريقة لم يسبقه إليها احد ذكرها في رسالة الموسومة بالرسالة الباهرة في فضل العترة الطاهرة. قال: ومما يدل أيضا على تقديمهم وتعظيمهم على البشر: ان الله تعالى دلنا على ان المعرفة بهم كالمعرفة به تعالى، في انها: (ايمان واسلام) وان الجهل بهم والشك فيهم كالجهل به والشك فيه، في انه (كفر وخروج من الايمان)


[ 337 ]

وهذه منزلة ليس لاحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله، وبعده لامير المؤمنين والائمة من ولده عليهم السلام، لان المعرفة بنبوة الانبياء المتقدمين من آدم إلى عيسى عليهم السلام غير واجبة علينا، ولا تعلق لها بشئ من تكاليفنا، ولو لا أن القرآن ورد بنبوة من سمي فيه من الانبياء المتقدمين فعرفناهم تصديقا للقرآن، وإلا فلا وجه لوجوب معرفتهم علينا، ولا تعلق لها بشئ من أحوال تكاليفنا. وبقي علينا ان ندل على ان الامر على ما ادعيناه. والذي يدل على ان المعرفة بامامة من ذكرناه عليهم السلام من جملة الايمان، وان الاخلال بها كفر ورجوع عن الايمان: (اجماع) الشيعة الامامية على ذلك فانهم لا يختلفون فيه، واجماعهم حجة، بدلالة ان قول الحجة المعصوم الذي قد دلت العقول على وجوده في كل زمان في جملتهم وفي زمرتهم، وقد دللنا على هذه الطريقة في مواضع كثيرة من كتبنا، واستوفينا ذلك في جواب المسائل التبانيات خاصة، وفي كتاب نصرة ما انفردت به الشيعة الامامية من المسائل الفقهية، فان هذا الكتاب مبني على صحة هذا الاصل. ويمكن أن يستدل على وجوب المعرفة بهم عليهم السلام: (باجماع الامة) مضافا إلى ما بيناه من اجماع الامامية. وذلك: ان جميع اصحاب الشافعي يذهبون إلى ان الصلاة على نبينا في التشهد الاخير فرض واجب، وركن من اركان الصلاة، متى اخل بها الانسان فلا صلاة له، واكثرهم يقول: ان الصلاة في هذا التشهد على آل النبي عليهم الصلاة والسلام في الوجوب واللزوم ووقوف أجزاء الصلاة عليهم كالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله، والباقون منهم يذهبون: إلى ان الصلاة على الال مستحبة وليست بواجبة، فعلى القول الاول لابد لكل من وجبت عليه الصلاة من معرفتهم من حيث كان واجبا عليه الصلاة عليهم، فان الصلاة عليهم فرع على المعرفة بهم، ومن ذهب إلى ان ذلك مستحب فهو من جملة العبادة، وان كان مسنونا مستحبا، والتعبدية يقتضي التعبد بما لا يتم إلا به من المعرفة.


[ 338 ]

ومن عدى اصحاب الشافعي لا ينكرون ان الصلاة على النبي وآله عليهم السلام في التشهد مستحبة، وأي شبهة تبقى مع هذا في انهم عليهم السلام أفضل الناس وأجلهم، وذكرهم واجب في الصلاة، وعند أكثر الامة من الشيعة الامامية، وجمهور اصحاب الشافعي: ان الصلاة تبطل بتركه، وهل مثل هذه الفضيلة لمخلوق سواهم أو يتعداهم. ومما يمكن الاستدلال به على ذلك: ان الله تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس في كل النفوس تعظيم شأنهم، واجلال قدرهم، على تباين مذاهبهم، واختلاف ديانتهم ونحلهم، وما اجمع هؤلاء المختلفون والمتباينون مع تشتت الاهواء وتشعب الاراء على شئ كأجماعهم على تعظيم من ذكرنا واكباره، فانهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطها مشاهدهم، ومدافنهم، والمواضع التي رسمت بصلاتهم فيها، وحلولهم بها، وينفقون في ذلك الاموال، ويستنفدون الاحوال. فقد اخبرني من لا احصيه كثرة: ان أهل نيشابور ومن والاها من تلك البلدان يخرجون في كل سنة إلى طوس لزيارة الامام أبي الحسن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهما بالجمال الكثيرة، والاهب التي لا يوجد مثلها إلا للحج إلى بيت الله الحرام، هذا مع ان المعروف من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة، وازورارهم عن هذا الشعب، وما تسخير هذه القلوب القاسية، وعطف هذه الامم النائية، إلا كالخارقات للعادات، والخارج عن الامور المألوفات، وإلا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة، المنحازين عن هذه الجملة، على ان يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها، ويستنزلوا عندها من الله تعالى الارزاق، ويستفتحوا بها الاغلاق، ويطلبوا ببركتها الحاجات، ويستدفعوا البليات، والاحوال الظاهرة كلها لا توجب ذلك، ولا تقتضيه ولا تستدعيه، وإلا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم أو اكثرهم امامته وفرض طاعته، وانه في الديانة موافق لهم غير مخالف، ومساعد غير معاند، ومن المحال أن يكونوا فعلوا ذلك لداع من دواعي الدنيا، فان الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة، وعندها هي مفقودة، ولا لتقية واستصلاح، فان التقية هي فيهم لا منهم، ولا خوف من جهتهم، ولا سلطان لهم، وكل خوف انما


[ 339 ]

هو عليهم، فلم ييق إلا داعي الدين، وذلك هو الامر الغريب العجيب الذي لا تنفذ في مثله إلا مشية الله، وقدرة القهار التي تذلل الصعاب، وتقود بأزمتها الرقاب. وليس لمن جهل هذه المزية أو تجاهلها أو تعامى عنها وهو يبصرها، أن يقول: ان العلة في تعظيم غير فرق الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه وادعيتم خرقه للعادة وخروجه عن الطبيعة، بل هي لان هؤلاء القوم من عترة النبي صلى الله عليه وآله، وكل من عظم النبي صلى الله عليه وآله فلابد أن يكون لعترته وأهل بيته معظما ومكرما، وإذا انضاف إلى القرابة الزهد، وهجر الدنيا، والعفة، والعلم، زاد الاجلال والاكرام لزيادة أسبابها. والجواب عن هذه الشبهة الضعيفة: ان قد شارك أئمتنا عليهم السلام والصلاة في نسبهم وحسبهم وقرابتهم من النبي صلى الله عليه وآله غيرهم، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة وزهادة في الدنيا بادية، وسمات جميلة، وصفات حسنة، من ولد أبيهم عليه وآله السلام ومن ولد عمهم العباس رضوان الله عليهم، فما رأينا من الاجماع على تعظيمهم، وزيارة مدافنهم، والاستشفاع بهم في الاغراض والاستدفاع بمكانهم للاعراض والامراض، ما وجدنا مشاهدا معاينا في هذا الاشتراك، وإلا فمن الذي أجمع على فرط اعظامه واجلاله من ساير صنوف العترة، يجري في هذا الحال مجرى الباقر والصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم أجمعين، لان من عدا من ذكرناه من صلحاء العترة وزهادها ممن يعظمه فريق من الامة ويعرض عنه فريق، ومن عظم منهم وقدمه لا ينتهي في الاجلال والاعظام إلى الغاية التي ينتهي إليها فيمن ذكرناه ولو لا ان تفصيل هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصلناها على طول ذلك، ولسمينا من كنينا عنه، ونظرنا بين كل معظم مقدم من العترة، ليعلم ان الذي ذكرناه هو الحق الواضح وما عداه هو الباطل الماضح (1). وبعد: فمعلوم ضرورة ان الباقر والصادق ومن وليهما من أئمة أبنائهما عليهما السلام كانوا في الديانة والاعتقاد وما يفتون به من حلال وحرام على خلاف ما يذهب إليه


(1) الماضخ: المشين المعيب.

[ 340 ]

مخالفوا الامامية، وان ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في انهم لم يكونوا على مذاهب الفرق المختلفة المجمعة على تعظيمهم والتقرب إلى الله تعالى بهم، وكيف يعترض ريب فيما ذكرناه ؟ ! ومعلوم ضرورة ان شيوخ الامامية وسلفهم في ذلك الازمان كانوا بطانة للباقر وللصادق صلوات الله عليهما ومن وليهما أجمعين السلام، وملازمين لهم متمسكين بهم، ومظهرين ان كل شئ يعتقدونه وينتحلونه ويصححونه أو يبطلونه فعنهم تلقوه ومنهم اخذوه، فلو لم يكونوا عليهم السلام بذلك راضين وعليه مقرين لابوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم، وهم منها بريئون خليون، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة، وملازمة وموالاة، ومصافاة، ومدح واطراء وثناء، ولابدلوه، باللوم والذم، والبراءة والعداوة، فلو لم يكن انهم عليهم السلام لهذه المذاهب معتقدون وبها راضون، لبان لنا واتضح، ولو لم يكن إلا هذه الدلالة لكفت وأغنت، وكيف يطيب قلب عاقل، أو يسوغ في الدين لاحد: ان يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد انه الحق وما سواه باطل، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات واقصى النهايات، وهل جرت بمثل ذلك عادة ؟ أو مضت عليه سنة ؟ أولا يرون ان الامامية لا تلتفت إلى من خالقها من العترة، وحاد عن جادتها في الديانة، ومحجتها في الولاية، ولا تسمح له بشئ من مخالفوا الامامية، وان ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في انهم لم يكونوا على مذاهب الفرق المختلفة المجمعة على تعظيمهم والتقرب إلى الله تعالى بهم، وكيف يعترض ريب فيما ذكرناه ؟ ! ومعلوم ضرورة ان شيوخ الامامية وسلفهم في ذلك الازمان كانوا بطانة للباقر وللصادق صلوات الله عليهما ومن وليهما أجمعين السلام، وملازمين لهم متمسكين بهم، ومظهرين ان كل شئ يعتقدونه وينتحلونه ويصححونه أو يبطلونه فعنهم تلقوه ومنهم اخذوه، فلو لم يكونوا عليهم السلام بذلك راضين وعليه مقرين لابوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم، وهم منها بريئون خليون، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة، وملازمة وموالاة، ومصافاة، ومدح واطراء وثناء، ولابدلوه، باللوم والذم، والبراءة والعداوة، فلو لم يكن انهم عليهم السلام لهذه المذاهب معتقدون وبها راضون، لبان لنا واتضح، ولو لم يكن إلا هذه الدلالة لكفت وأغنت، وكيف يطيب قلب عاقل، أو يسوغ في الدين لاحد: ان يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد انه الحق وما سواه باطل، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات واقصى النهايات، وهل جرت بمثل ذلك عادة ؟ أو مضت عليه سنة ؟ أولا يرون ان الامامية لا تلتفت إلى من خالقها من العترة، وحاد عن جادتها في الديانة، ومحجتها في الولاية، ولا تسمح له بشئ من المدح والتعظيم، فضلا عن غايته واقصى نهايته، بل تبرأ منه وتعاديه، وتجريه في جميع الاحكام مجرى من لا نسب له ولا حسب، ولا قرابة ولا علقة، وهذا يوقظ على ان الله تعالى خرق في هذه العصابة العادات، وقلب الجبلات، ليبين من عظيم منزلتهم، وشريف مرتبتهم، وهذه فضيلة تزيد على الفضائل، وتوفي على جميع الخصائص والمناقب، وكفى به برهانا لائحا، وحجابا راجحا. قطعنا هذا الكتاب على كلام السيد علم الهدى قدس الله روحه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين، وحسبنا الله ونعم الوكيل

اترك تعليقاً