الإرشاد

الشيخ المفيد ج 1


[ 1 ]

سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ج 1 / 11 الارشاد في معرفة حجج الله علي العباد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد (336 – 413 ه‍) تحقيق مؤسسة ال البيت (ع) لتحقيق التراث دار المفيد طباعة – نشر – توزيع كلمة الناشر الحمد لله رب العالمين – والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين واصحابه المنتجبين. كان لانعقاد المؤتمر الالفي للشيخ المفيد في مدينة قم سنة 1413 ومشاركة الوفود العالمية في ذلك المؤتمر، وما القي فيه من دراسات وبحوث – كان ذلك حافزا للكثيرين إلى التنبه لاحياء اثار هذا العالم العظيم الذي كان له في تاريخ الثقافة الاسلامية والفكر العربي ما كان، سواء في مدرسته الكبرى التي اقامها في بغداد، أو في مجالسه العلمية التي كانت تنعقد في داره، أو في مؤلفاته التي تطرقت إلى أنواع شتى من المعرفة، ما خلدها على مر العصور. وقد كان من أهم ما تنبه إليه المفكرون والمحققون هو وجوب جمع تلك المؤلفات في حلقات متتابعة يسهل على المتتبع الوصول إليها. وقد كان ذلك فجمعت تلك المؤلفات والمصنفات في سلسلة مترابطة في حلقاتها لتكون بين يدي القارئ سهلة المأخذ، يستفيد منها العالم والمتعلم، والاستاذ والتلميذ، وتصبح موردا لكل ظامئ إلى العلم، صاد إلى الثقافة. وقد رأت دارنا (دار المفيد) ان تقوم بطبع هذه المؤلفات في طبعة جديدة عارضة لها على شداة الحقيقة العلمية الفكرية اينما وجدوا، وهو ما يراه القارئ بين يديه فيما يلي، كتابا بعد كتاب. وإننا لنرجو أن نكون بذلك قد ارضينا الله اولا، ثم ارضينا قراءنا الذين عودناهم فيما مضى من أيامنا على ان نبذل لهم كل جديد. سائلين من الله التوفيق والتسديد واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين دار المفيد يحتوي هذا المجلد على


[ 2 ]

الارشاد في معرفة حجج الله على العباد الارشاد في معرفة حجج الله علي العباد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد (336 – 413 ه‍) تحقيق مؤسسة ال البيت (ع) لتحقيق التراث بسم الله الرحمن الرحيم


[ 3 ]

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، منتهى الحمد، وغايته، وصلى الله على محمد النبي الامي، والرحمة المهداة، وعلى أهل بيته سفن النجاة، ومنائر الهدى. أما بعد. فلعله من البديهي القول بان كتابة التاريخ، أوما يصطلح على تسميته بعلم التاريخ، يعد بلا شك من علوم المعرفة التي حظيت بالعناية الواسعة من قبل المسلمين بحيث يعدو من العسير تصور وجود أمة اخرى اقامت لها تأريخا واسعا ومسهبا كما هو لدى المسلمين. وإذا كان هم المسلمين عقب العهد الاسلامي الاول هو تثبيت وحفظ مغازي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) لما لها من دلالة مهمة على حقيقة شهدت الانعطاف الكبير المعاكس في حياة البشرية، نحو اقرار المثل، وتصحيح الانحراف الذي اصاب كل الكيانات الاساسية في البنيان البشري، وترجمة ملموسة لحاجة المجتمع الاسلامي في محاولته ارساء العقائد والاحكام الشرعية التي جاء بها صاحب الشريعة، وتثبيتها كاصول تعبدية، فان القرآن


[ 4 ]

الكريم قد فتح الباب على مصراعيه امام عموم المسلمين لتدارس حياة الامم السالفة والغابرة، كمناهج اكاديمية وتربوية لتلافي موارد العطب ومواضع الهلكة، كما اشار إليه قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (1). وقال تعالى (فكاين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) (2). وغير ذلك من الايات الكريمة التي يصعب حصرها وايرادها هنا. وبذا فقد أوقد القرآن في مخيلة المسلم المتدبر في آياته فكرة البحث والتنقيب عن حياة الامم السالفة، والتي اشار إليها كتاب الله تعالى تلميحا وتذكيرا، ولا يتاتى ذلك إلا من خلال التشمير والبحث الجاد والرصين لاستحصال حكاية ما مضى وغاص في رمال ارض الجزيرة وما يحيط بها من امتدادات سحيقة مترامية الاطراف. ولما كانت الدعوة الاسلامية طرية واعوادها غضة لم تنل منها سني الشيخوخة شيئا، فلم تكن كتابة تأريخها بمتعسرة ولا شاقة ابدا، ولا يعسر على الباحثين والمؤرخين وضع اللبنات الاساسية لتاريخ اسلامي متكامل يبقى زادا ومعاشا دينيا ودنيويا للاجيال اللاحقة والدهور المتعاقبة، حتى يرث الله تعالى الارض ومن عليها، هذا إذا اقترن مداد كاتبيه بالصدق والامانة، وتجاوز التحزب والتعصب، والحرص على التمسك بكلمة الحق رغم مشقة المخاض، وهذا ما لم يوفق له معظم كتبة التاريخ وصانعي اسس بنائه الشامخ، فتوارثته


(1) النحل 16: 36. (2) الحج 22: 45 – 46.

[ 5 ]

الاجيال هجينا مشوبا بالادران، وهو ما سيتبين من خلال ما سنتعرض إليه لاحقا. بلى لم تكن مسألة اقامة أسس تاريخ اسلامي متخصص بممتنعة وشاقة ابدا، بل كانت المشقة العظيمة تكمن في كتابة تاريخ الحقب الماضية التي مضى عليها الزمن وما ابقى لها حتى اطلالا، وبالاخص في ارض الجزيرة، مهبط الوحي، ومنطلق الرسالة المحمدية المباركة، حيث أن ما توافر من معلومات متناثرة عن طبيعة الاحوال التي كانت سائدة انذاك، كانت من الندرة والتشتت بشكل لا يتيح للمؤرخ القدرة على استيعابها وبشكل جامع وشامل يطمئن إليه، ولقد كان اكثر ما ورد عنها لا يتجاوز النقوش المكتوبة بالخط المسند على حوائط المعابد والاديرة واعمدة الحصون والقصور في الحيرة واليمن، ترافقها روايات لاساطير منقولة شفاها عن اسماء الملوك القدماء وحكاياتهم، مع قصص غامضة ومهولة أو مشوشة عن ايام القبائل وحروبها مشفوعة بالاشعار، والتي ضاع معظمها بضياع اشعارها، واما ما قيل من ان وهب بن منبه، وعبيد بن شرية (1) كانا من مصنفي تاريخ تلك الحقبة الماضية، فلا مناص من القول بان حقيقة عملهما ما كان إلا تسطير ملحمي، وسرد مشوش، لانهما ما كانا في عملهما إلا كخابطي عشوة في اكثر ما اورداه. تلك كانت مشقة الكتابة للعصور السابقة لبداية التوجه نحو كتابة التاريخ، واما التاريخ الاسلامي، فكما ذكرنا سالفا كان حظه وافرا في كثرة ما كتب عنه، وما الف في شانه، فهناك العشرات من المحاولات المستمرة، والتي حاولت ان تضع لبنات التاريخ الاسلامي ورص أسسه في ارض الواقع المعاش، حل بأكثرها النسيان والضياع، أو عدم الالتفات إلى مدى جديتها أو


(1) كان في صنعاء فاستدعاه معاوية فكتب له كتاب الملوك واخبار الماضين. (*)

[ 6 ]

رصانتها العلمية، فبقيت جملة محددة ومشخصة، يذهب معظم الباحثين إلى ان اشهر من كتب في هذا الجانب كانا محمد بن اسحاق بن يسار (ت 151 ه‍) ومحمد بن عمر الواقدي (ت 207 ه‍)، وان كان قد سبقهما في التصنيف عروة ابن الزبير (1)، ووهب بن منبه (2)، بيد ان ندرة أو قلة ما وصل بايدي الباحثين والمؤرخين، لم تحدد للاخيرين سيرة متكاملة محددة المعالم، الا أن كثرة نقول ابن اسحاق والواقدي عنهما تبين بوضوح انهما – وبالاخص عروة بن الزبير – كانا قد سبقا في هذا المضمار (3). كما ان التأمل في هاتين السيرتين – واللتين تعدان بلا شك دعامتين مهمتين في تدوين ما عرف بالتاريخ الاسلامي – تبين بوضوح ايضا انهما كانا في احيان كثيرة تابعتين لعروة بن الزبير في تحديد مساريهما، وتثبيتهما للوقائع المهمة، لا سيما فيما يتعلق بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وغزوة بدر وغيرها، وكذا بالنسبة لوهب بن منبه، حيث روى، ابن اسحاق عنه القسم الاول من السيرة. وان كان هذا الامر لا يلغي في حدوده وجود ثلة لا باس بها من المؤرخين واصحاب السير، حاولت أن تدلي بدلوها في هذا المعترك المهم امثال: ابان بن عثمان (ت 105 ه‍) وشرحبيل بن سعد (ت 123 ه‍) وابن شهاب الزهري


(1) اخ عبد الله بن الزبير، كان يعد من كبار فقهاء المدينة، اعتزل اخاه في قتاله مع الامويين، ثم بايع عبد الملك بن مروان بعد مقتل اخيه. (2) قال عنه ابن حجر (تهذيب التهذيب 11: 148): كان أول حياته يقول بالقدر، وكتب فيه كتابا. وقال ياقوت الحموي (معجم الادباء 19: 259): كان كثير النقل من الكتب القديمة المعروفة بالاسرائيليات. وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء 5: 445). روايته للمسند قليلة، وانما غزارة علمه في الاسرائيليات، ومن صحائف أهل الكتاب. (3) أنظر كشف الظنون 2: 1747.

[ 7 ]

(ت 124 ه‍) وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 120 ه‍) و عبد الله بن ابي بكر بن حزم (ت 135 ه‍) وموسى بن عقبة (ت 141 ه‍) ومعمر بن راشد (ت 150 ه‍)، وغيرهم ممن عاصروا تلك الحقبة الزمنية أو بعدها بقليل، امثال محمد بن سعد (ت 230 ه‍)، وابن هشام (ت 230 ه‍). ولعل التأمل اليسير في مجمل اسماء المؤرخين وزمن كتابتهم للتأريخ يبين بوضوح إن اسس التأريخ المعروف لدينا إلآن قد بنيت ابان الحكمين: الاموي – المغتصب للخلافة الشرعية برائده معاوية بن أبي سفيان – والعباسي – المتاجر بشعار آل محمد – ولا يخفى على ذي لب فطن ما دأب عليه رجال وساسة الدولتين من محاولات متكررة لاضفاء هالة الشرعية والقدسية على حكميهما مع دفع اصحاب الحق الشرعيين عن مناصبهم التي رتبها الله تعالى لهم. ولعله من الطبيعي ان يعمد النظامان واتباعهما إلى تشذيب كل الاصول التأريخية التي قد لا تتوافق مع الخط الذي تنتهجه الدولتان، أو تسخير الاقلام لان تتوافق في مساراتها والتي تتناغم مع التوجهات غير المشروعة لرواد هاتين الدولتين. ان المرور العابر لا التأمل المتدبر يكشف بوضوح ضعف الاصول التاريخية التي وصلت إلى العصور اللاحقة لتلك الازمنة، واسفاف هذه الموسوعات في التحدث عن حياة الملوك ومجالس مجونهم ودقائق امورهم، وإعراضها المقصود عن اهل القضايا العقائدية التي ابتنى عليها الدين الاسلامي الحنيف. ومن المؤلم أن يلجأ الكثير من المؤرخين إلى أعتماد ما يصل إليهم من النصوص التأريخية دون اخضاعها للنقد والمناقشة، بل والانكى من ذلك أن تجد منهم من يتنصل من تبعه ما يورده من وقائع واحداث وما ستتلقفه الاجيال اللاحقة به وكانها حقائق مسلمة لانها وردت في مرجع مهم من مراجع


[ 8 ]

التاريخ، كما ادعى ذلك الطبري في مقدمة كتابه الشهير بتاريخ الامم والملوك، حيث قال: ” فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وانما اتى في بعض ناقليه إلينا، وانا انما ادينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ” ! !. ولا ادري اي الاخبار يتنصل من تبعتها الطبري – الذي يعد مرجعا للمؤرخين عند الاختلاف، كما يذكر ذلك سلفه ابن الاثير – أهي اخبار سيف ابن عمر الاسدي الذي اصر على نقل اخباره رغم ما اتفق عليه الجميع من الطعن به والتشهير بمذهبه (1)، أم هي الروايات المتناقضة التي يرويها لواقعة واحدة كما هو معروف عنه، ام تسرب الاسرائيليات من الاخبار إلى متن كتابه وطعن المؤرخين بذلك كما في قصة خلق الشمس والقمر وغيرها، ام شئ آخر ؟ نعم هذا ما حصل، والاعظم من ذلك ان يعد ذلك تاريخا، ويجتر المؤرخون ما جاء به اسلافهم لتصبح تلك الترهات حقائق تبنى عليها جملة واسعة من التصورات والمعتقدات، ويختلط السليم بالسقيم. قال ابن الاثير في سرده لكيفية كتابة تاريخه (1: 3): ” فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الامام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه، فاخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم اخل بترجمة واحدة منها “.


(1) قال ابن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة: فليس خير منه، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال أبو داود. ليس بشئ، وقال النسائي والدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدى: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الاثبات، قال: وقالوا. إنه كان يضع الحديث واتهم بالزندقة، وقال البرقاني: متروك، وقال الحكم: أتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط.

[ 9 ]

وهكذا دواليك، وما ذاك بمستبعد ولا بمستغرب، فان في هذا الامر ما يوافق هوى الحكومات المتلاحقة، والتي حاولت جاهدة أن ترسم خطوط التاريخ بعيدا عن مرتكزاته الاساسية والتي تشكل النقيض المضاد لوجودهم اللقيط، والخطر الاكبر امام احلامهم السقيمة. ان رسول الله (صلى الله عليه واله) لم يرحل عن هذه الدنيا حتى بين للامة سبيل نجاتها، ومرتكز عقائدها، والسبيل القويم الذي ترتبط به كل الابعاد وان تنافرت. نعم ان الائمة من أهل البيت عليهم السلام ورغم ما جهدت اقلام المستأجرين وسيوف اسيادهم الظالمين من العمل على تجاهلهم، رغم أن ذلك يخالف ما اقروه في صحاحهم من افضليتهم وعلو شانهم – هم بلا شك قطب الرحى، ومركز حركة التاريخ، والمرجع القويم في فهم كل ما يحيط بهم من أحداث، اسوة بجدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، وما هذا التخبط والضياع إلا ثمرة واضحة لقلب موازين الحقائق والعدو خلف السراب. ولكن ورغم كل ما احاط عملية كتابه التاريخ من كذب وتزوير وقهر وتنكيل، فان هذا لم يمنع من ان يعمد البعض إلى اعتماد المنهج العلمي الرصين في كتابة التاريخ، وان ترث منهم الأجيال اللاحقة صفحات بيضاء ناصعة لا تشوبها ادران التعصب ولا التحزب. ولعل كتاب الارشاد لشيخنا المفيد رحمه نموذج حي – مع غيره من النماذج القديرة لرجالات الشيعة الافذاذ – في رسم صورة التعامل العلمي والصحيح مع التاريخ باعتماد المنهج العقائدي الذي اختطه لامته رسول الله (صلى الله عليه واله). ولاغرابة في ذلك، فالشيخ المفيد يعد باتفاق الموالف والمخالف شيخ اساتذة الكلام، وصاحب الاراء المجددة، في وقت شهد فيها العالم الاسلامي


[ 10 ]

فترة تعد من ابرز الفترات التأريخية وادقها، حيث انسحب ظل الدولة العباسية عن معظم بقاع الوطن الاسلامي، ولم يبق للخليفة العباسي آنذاك إلا بغداد واعمالها، والتي كانت للبويهيين السيطرة التامة عليها، حيث فسحوا المجال امام الحريات المذهبية والمقالات الدينية فاحتدم الصراع الفكري بين رجال المذاهب بشكل ليس له مثيل، حيث كان على اشده بين الاشاعرة والمعتزلة، وكان لكل منهم زعماء كلاميون وعلماء مفكرون، وكانت الشيعة تؤلف القوة الثالثة التي يتزعمها الشيخ المفيد رحمه الله، والذي استطاع – ومن خلال براعته في صناعة الكلام، وقوة حجيته، وقدرته الكبيرة على الاحاطة بالكثير من العلوم المختلفة – أن يفند ويضغف اراء الفريقين، ويثبت بطلانها. كما ان الشيخ رحمه الله يعد من اوائل الذين لم يتوقفوا على حرفية النصوص والاحاديث، بل بالاعتماد على منطق الفكر المجرد والحر المبتني على عقائد رصينة وقوية، ويشير إلى ذلك بوضوح قوله في شرحه لعقائد الصدوق رحمه الله في باب النفوس والارواح: ” لكن اصحابنا المتعلقين بالاخبار أصحاب سلامة، وبعد ذهن، وقلة فطنة، يمرون على وجوههم فيما يسمعون من الاحاديث، ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في اثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقون منها “. ومن هنا فلا يسع المرء وهو يتأمل ويطالع صفحات كتاب الارشاد للشيخ المفيد رحمه الله إلا أن ترتسم في مخيلته جوانب من الابعاد الرائعة لذهنية مؤلفه، وجهده في اخراج صورة تمثل البناء الاساسي الرصين لما يسمى بعلم التاريخ، رحم الله الشيخ المفيد، واسكنه في فسيح جنانه.


[ 11 ]

منهجية التحقيق: لا يخفى على احد مدى الاهمية البالغة التي يحظى بها كتاب الارشاد لشيخنا المفيد رحمه الله، وما يتميز به من كونه مصدرا مهما ومرجعا معتمدا في بابه ومن هنا فقد راودت اذهان العاملين في المؤسسة فكرة الاقدام على تحقيق هذا الاثر المهم والتراث الرائع ووضعه في مكانه اللائق به أسوة بغيره من الكتب المهمة التي قامت بتحقيقها ونشرها. ولما يتمتع به الكتاب من اهمية كبيرة فقد حرصت المؤسسة – وكعادتها دائما عند شروعها باي عمل تحقيقي – على استحصال جملة من النسخ المخطوطة له، وبمواصفات خاصة، وان تكون قريبة من عصر المؤلف قدر الامكان. وقد تفضل مشكورا سماحة العلامة المحقق حجة الاسلام والمسلمين السيد عبد العزيز الطباطبائي مشكورا بتزويد المؤسسة بعناوين جملة من المخطوطات القيمة والمهمة، والتي تتمع بمواصفات كثيرة، اهمها مقابلتها على نسخة منقولة من نسخة مقروءة على الشيخ رحمه الله، كما أثبت ذلك في موارد متعددة منها. والنسخ المخطوطة التي تم الاعتماد عليها في مقابلة الكتاب هي ثلاث 1 – النسخة المحفوظة، في مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي العامة في قم برقم 1144، وقع الفراغ من نسخها يوم الجمعة لاربع عشر بقين من شوال سنة خمس وستين وخمسمائة. وبهامشها كتب: قابلت نسختي هذه بنسخة مولانا الامام الاجل الكبير العالم العابد السيد ضياء الدين تاج الاسلام ذي الجلالتين علم أبي الرضا


[ 12 ]

فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسني الراوندي ادام الله ظله، وتمت المقابلة ليلة الاحد سلخ ربيع الاول سنة 566 هجرية. وهي نسخة معربة وسليمة، رمزنا لها بالحرف ” ش “. 2 – النسخة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الاسلامي برقم 13112، فرغ من نسخها يوم الجمعة الرابع عشر من محرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وفي هامشها كتب: قوبل وصحح بنسخة مولانا الامام ضياء الدين قدس الله روحه. وهي كسابقتها نسخة واضحة ومعربة، رمزنا لها بالحرف ” م “. 3 – النسخة المحفوظة في مكتبة السيد حسين الشيرازي، زودنا بمصورتها سماحة السيد الطباطبائي، يعود تاريخ نسخها إلى القرن السابع أو الثامن، رمزنا بها بالحرف ” خ “. كما استعنا بنسخة اخرى محفوظة في المكتبة الوطنية في طهران، راجعنا عليها سند الكتاب ومقدمته، وقد رمزنا لها بالحرف ” ق “. وما ان اكتملت النسخ لدى المؤسسة حتى اوكلت إلى جملة من اللجان المختصة مسؤولية الشروع بهذا العمل، ووفقا لمنهجية التحقيق المشترك المتبعة في المؤسسة، وهي. 1 – لجنة المقابلة: وتتحدد مسؤوليتها في ضبط الاختلافات الموجودة بين مجموعة النسخ والاصل المطبوع، وقد كلف بهذا العمل كل من الاخوة الافاضل: الحاج عز الدين عبد الملك والاخ محمد عبد علي محمد والاخ محمد حسين الجبوري. 2 – لجنة التخريج. ولما كان الكتاب من الاصول القديمة المعتبرة، فقد روعيت عند تخريج رواياته واحاديثه الدقة في اختيار المصادر والتي تكون قبل عصر المؤلف أو قريبة منه.


[ 13 ]

واما ما أثبت من مصادر بعد عصر المؤلف فلم يكن الغرض منها إلا إعضاد النسخ الخطية. وقد انيطت مسؤولية هذه اللجنة بسماحة حجة الاسلام الشيخ محمد الرسولي وحجة الاسلام السيد مصطفى الحيدري. 3 – لجنة كتابة الهوامش: وعملها صياغة الهوامش الخاصة بالتخريجات والتعليقات والتصحيحات وكتابتها، وانيط عمل هذه اللجنة بالاخ مشتاق المظفر. 4 – لجنة تقويم النص: وتقع عليها مسؤولية حسم الاختلافات الواردة بين النسخ واختيار الصواب، وشرح المفردات اللغوية، وكل الاعمال المؤدية إلى ضبط النص، وقد أنيطت مسؤولية هذه اللجنة بالاخ المحقق الفاضل اسد مولوي. 5 – لجنة المراجعة النهائية: ويعتبر عملها الحلقة النهائية من اعمال تحقيق الكتاب، وتقع على عاتقها مسؤولية مراجعة الكتاب من كافة جوانبه قبل ارساله إلى الطبع، وقد أنيطت مسؤولية هذه اللجنة بالاخ المحقق الفاضل كاظم الجواهري. 6 – وانيطت مسؤولية الاشراف على تحقيق هذا الكتاب والتحقق من تثبيت اللمسات الاخيرة له ومتابعة اعمال لجانه المختلفة على عاتق الاخ المحقق الفاضل علاء ال جعفر مسؤول لجنة مصادر ” بحار الانوار ” في المؤسسة. وقد تفضل مشكورا كل من أصحاب السماحة حجة الاسلام المحقق السيد محمد الشبيري بمراجعة متن الكتاب، وسماحة حجة الاسلام السيد محمد جواد الشبيري مراجعة سنده، وإعادة النظر في جميع مراحل العمل.


[ 14 ]

فقوبل الكتاب مرة اخرى على نسختي ” ش ” و ” م ” وإثبات الاختلافات السندية الموجودة في النسختين في الهامش، بينما اقتصر في متن الكتاب على الاختلافات المهمة، وقد استعين في هذه المرحلة بنسخة ” ق ” في سند الكتاب ومقدمته، ونسخة ” ح ” في موارد الاختلاف بين النسختين. وبذلا جهدا مشكورا في الرجوع إلى المصادر وتعيين الصحيح من السقيم وإضافة تعاليق قيمة وتحقيقات رجالية وغيرها، فلله درهما وعليه أجرهما. علما بأن من خواص نسخة ” ش ” أنها نسخة منقولة مما قرئ على الشيخ كما هو الظاهر من هوامش ج 1 / 34 و 85 و 260، ج 2 / 77 و 89 و 160، والمصرح به في ج 1 / 129. ولذا كانت هذه النسخة مورد اعتمادنا أولا ومن ثم نسخة ” م ” التي يتفق متنها غالبا مع هامش نسخة ” ش “، ومن ثم سائر النسخ الاخرى. وختاما لا يفوتنا إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل والثناء الوافر لسماحة العلامة المحقق حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد رضا الجعفري الذي راجع الكتاب وأبدى ملاحظاته القيمة، ولكل من آزرنا في إخراج هذا الجهد. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث


[ 1 ]

الارشاد في معرفة حجج الله علي العباد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد (336 – 413 ه‍) تحقيق مؤسسة ال البيت (ع) لتحقيق التراث


[ 3 ]

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي أخبرنا السيد الاجل عميد الرؤساء أبو الفتح يحيى بن محمد بن نصر بن علي بن حا (1) – أدام علوه – قراءة عليه سنة أربعين وخمسمائة، قال: حدثنا القاضي الاجل أبو المعالي أحمد بن علي بن قدامة في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، قال: حدثني الشيخ السعيد المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان – رضي الله عنه – في سنة إحدى عشرة وأربعمائة قال: (1) الحمد لله على ما ألهم من معرفته، وهدى إليه من سبيل طاعته، وصلواته على خيرته من بريته، محمد سيد أنبيائه وصفوته، وعلى الائمة المعصومين الراشدين من عترته، وسلم.


(1) كذا في نسخة ” ق ” و ” ح ” من دون تنقيط. (2) ورد هذا السند في مقدمة النسخة ” ح ” و ” ق “.

[ 4 ]

وبعد: فاني مثبت – بتوفيق الله ومعونته – ما سالت – ايدك الله – إثباته من أسماء أئمة الهدى عليهم السلام وتاريخ أعمارهم، وذكر مشاهدهم، وأسماء أولادهم، وطرف من أخبارهم المفيدة لعلم أحوالهم، لتقف على ذلك وقوف العارف بهم، ويظهر لك الفرق ما بين الدعاوى والاعتقادات فيهم، فتميز بنظرك فيه ما بين الشبهات منه والعينات، وتعتمد الحق فيه اعتماد ذوي الانصاف والديانات، وأنا مجيبك إلى ما سالت، ومتحر فيه الايجاز والاختصار حسب ما أثرت من ذلك والتمست، وباللة أثق، وإياه أستهدي إلى سبيل الرشاد.


[ 5 ]

باب الخبر عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أول أئمة المؤمنين، وولاة المسلمين، وخلفاء الله تعالى في الدين، بعد رسول الله الصادق الامين محمد بن عبد الله خاتم النبيين، – صلوات الله عليه وآله الطاهرين – أخوه وابن عمه، ووزيره على أمره، وصهره على ابنته فاطمة البتول سيدة نساء العالمين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف سيد المؤمنين – عليه أفضل الصلاة والتسليم -. كنيته: أبو الحسن، ولد بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله تعالى سواه إكراما من الله تعالى له بذلك وإجلالا لمحله في التعظيم. وأمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي الله عنها، وكانت كالام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ربي في حجرها، وكان شاكرا لبرها، وآمنت به صلى الله عليه وآله في الاولين، وهاجرت معه في جملة المهاجرين. ولما قبضها الله تعالى إليه كفنها النبي صلى الله عليه وآله بقميصه ليدرأ به عنها هوام الارض، وتوسد في قبرها لتأمن بذلك من ضغطة القبر، ولقنها الاقرار بولاية ابنها – أمير المؤمنين عليه السلام – لتجيب به عند المسألة بعد الدفن، خصها بهذا الفضل


[ 6 ]

العظيم لمنزلتها من الله تعالى ومنه عليه السلام، والخبر بذلك مشهور (1). فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام واخوته أول من ولده هاشم مرتين (2)، وحاز بذلك مع النشؤ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله والتأدب به الشرفين. وكان أول من آمن بالله عزوجل وبرسوله صلى الله عليه وآله من أهل البيت والاصحاب، وأول ذكر دعاه رسول الله صلى الله عليه واله إلى الاسلام فأجاب، ولم يزل ينصر الدين، ويجاهد المشركين، ويذب عن الايمان، ويقتل أهل الزيغ والطغيان، وينشر معالم السنة والقران، ويحكم بالعدل ويأمر بالاحسان. فكان مقامه مع رسول الله صلى الله عليه وآله بعد البعثة ثلاثا وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة بمكة قبل الهجرة مشاركا له في محنه كلها، متحملا عنه أكثر أثقاله وعشر سنين بعد الهجرة بالمدينة يكافح عنه المشركين، ويجاهد دونه الكافرين، ويقيه بنفسه من أعدائه في الدين، إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته ورفعه في عليين، فمضى – صلى الله عليه واله – ولامير المؤمنين عليه السلام يومئذ ثلاث وثلاثون سنة. فاختلفت الامة في إمامته يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت شيعته – وهم بنو هاشم وسلمان وعمار وأبو ذر والمقداد وخزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الانصاري وجابر بن عبد الله الانصاري


(1) أنظر الكافي 1: 377 / 2، دعائم الاسلام 2: 361، خصائص الائمة: 64. (2) في نسخة ” ح “: من ولد من هاشميين.

[ 7 ]

وأبو سعيد الخدري، وأمثالهم من جلة (1) المهاجرين والانصار -: إنه كان الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله والامام لفضله على كافة الانام بما اجتمع له من خصال الفضل والرأي والكمال، من سبقه الجماعة إلى الايمان، والتبريز عليهم في العلم بالاحكام، والتقدم لهم في الجهاد، والبينونة منهم بالغاية في الورع والزهد والصلاح، واختصاصه من النبي صلى الله عليه واله في القربى بما لم يشركه فيه أحد من ذوي الارحام. ثم لنص الله على ولايته في القرآن، حيث يقول جل اسمه. (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2) ومعلوم أنه لم يزك في حال ركوعه أحد سواه عليه السلام، وقد ثبت في اللغة أن الولي هو الاولى بلا خلاف. وإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام – بحكم القرآن – أولى بالناس من أنفسهم، لكونه وليهم بالنص في التبيان، وجبت طاعته على كافتهم بجلي البيان، كما وجبت طاعة الله وطاعة رسوله عليه وآله السلام بما تضمنه الخبر عن ولايتهما للخلق في هذه الآية بواضح البرهان. وبقول النبي صلى الله عليه وآله يوم الدار، وقد جمع بني عبد المطلب – خصمة – فيها للانذار: ” من يؤازرني على هذا الامر يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ” فقام إليه أمير المؤمنين عليه السلام من بين جماعتهم، وهو أصغرهم يومئذ سنا فقال. ” أنا أؤازرك يا رسول الله ” فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” اجلس فانت أخي ووصي


(1) جلة: جمع جليل. (2) المائدة: 55.

[ 8 ]

ووزيري ووارثي وخليفي من بعدي ” وهذا صريح القول في الاستخلاف. وبقوله – أيضا – عليه السلام يوم غدير خم وقد جمع الامة لسماع الخطاب: ” ألست أولى بكم منكم بانفسكم ” ؟ فقالوا: اللهم بلى، فقال لهم عليه السلام – على النسق من غير فصل بين الكلام -: ” فمن كنت مولاه فعلي مولاه ” فاوجب له عليهم من فرض الطاعة والولاية ما كان له عليهم، بما قررهم به من ذلك ولم يتناكروه. وهذا أيضا ظاهر في النص عليه بالامامة والاستخلاف له في المقام. وبقوله عليه السلام له عند توجهه إلى تبوك: ” أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ” فاوجب له الوزارة والتخصص بالمودة والفضل على الكافة، والخلافة عليهم في حياته وبعد وفاته، لشهادة القرآن بذلك كله لهارون من موسى عليهما السلام قال الله عزوجل مخبرا عن موسى عليه السلام: (واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري * وأشركه في امرى * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * انك كنت بنا بصيرا * قال قد اوتيت سؤلك يا موسى ” (1) فثبت لهارون عليه السلام شركة موسى في النبوة، ووزارته على تادية الرسالة، وشد أزره به في النصرة. وقال في استخلافه له: (اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ” (2) فثبتت له خلافته بمحكم التنزيل. فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين عليه السلام


(1) طه 20: 29 – 36. (2) الاعراف 7: 142.

[ 9 ]

جميع منازل هارون من موسى عليهما السلام في الحكم له منه إلا النبوة، وجبت له وزارة الرسول صلى الله عليه وآله وشد الازر بالنصرة والفضل والمحبة، لما تقتضيه هذه الخصال من ذلك في الحقيقة، ثم الخلافة في الحياة بالصريح، وبعد النبوة بتخصيص الاستثناء لما أخرج منها بذكر البعد، وأمثال هذه الحجج كثيرة مما يطول بذكرها الكتاب، وقد استقصينا القول في إثباتها في غير هذا الموضع من كتبنا، والحمد لله. فكانت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله ثلاثين سنة، منها أربع وعشرون سنة وأشهر ممنوعا من التصرف على أحكامها، مستعملا للتقية والمداراة. ومنها خمس سنين وأشهر ممتحنا بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين، مضطهدا بفتن الضالين، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث عشرة سنة من نبوته ممنوعا من أحكامها، خائفا ومحبوسا وهاربا ومطرودا، لا يتمكن من جهاد الكافرين، ولا يستطيع دفعا عن المؤمنين، ثم هاجر وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهدا للمشركين ممتحنا بالمنافقين، إلى أن قبضه الله – تعالى – إليه وأسكنه جنات النعيم. وكانت وفاة أمير المؤمنين عليه السلام قبيل الفجر من ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة قتيلا بالسيف، قتله ابن ملجم المرادي – لعنه الله – في مسجد الكوفة وقد خرج عليه السلام يوقظ الناس لصلاة الصبح ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، وقد كان ارتصده من أول الليل لذلك، فلما مربه في المسجد وهو مستخف بامره مماكر باظهار النوم في جملة النيام، ثار إليه فضربه على


[ 10 ]

أم رأسه بالسيف – وكان مسموما – فمكث يوم تسعة عشر وليلة عشرين ويومها وليلة إحدى وعشرين إلى نحو الثلث الاول من الليل، ثم قضى نحبه عليه السلام شهيدا ولقي ربه – تعالى – مظلوما. وقد كان عليه السلام يعلم ذلك قبل أوانه ويخبر به الناس قبل زمانه، وتولى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين عليهما السلام بامره، وحملاه إلى الغري من نجف الكوفة، فدفناه هناك وعفيا موضع قبره، بوصية كانت منه إليهما في ذلك، لما كان يعلمه عليه السلام من دولة بني أمية من بعده، واعتقادهم في عداوته، وما ينتهون إليه بسؤ النيات فيه من قبيح الفعال والمقال بما تمكنوا من ذلك، فلم يزل قبره عليه السلام مخفى حتى دل عليه الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام في الدولة العباسية، وزاره عند وروده إلى أبي جعفر (1) – وهو بالحيرة – فعرفته الشيعة واستانفوا إذ ذاك زيارته عليه السلام وعلى ذريته الطاهرين، وكان سنه عليه السلام يوم وفاته ثلاثا وستين سنة.


(1) أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، ثاني خلفاء بني العباس، ولد في الحميمة من أرض الشراة سنة 95 ه‍ وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة 136 ه‍، توفي ببئر ميمون سنة 158 ه‍، ودفن في الحجون بمكة وكانت مدة خلافته 22 عاما، انظر ” تاريخ بغداد 1: 62، شذرات الذهب 1: 244، تاريخ الطبري 8: 113، العبر 1: 175، الاعلام 4: 117 “.

[ 11 ]

فصل فمن الاخبار التي جاءت بذكره – عليه السلام – الحادث قبل كونه، وعلمه به قبل حدوثه: ما اخبر به علي بن المنذر الطريقي، عن ابن الفضل العبدي (1)، عن فطر، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة – رحمة الله عليه – قال. جمع أمير المؤمنين عليه السلام الناس للبيعة، فجاء عبد الرحمن بن ملجم المرادي – لعنه الله – فرده مرتين أو ثلاثا ثم بايعه، وقال عند بيعته له. ” ما يحبس أشقاها ! فوالذي نفسي بيده لتخضبن (2) هذه من هذا ووضع يده على لحيته ورأسه عليه السلام، فلما أدبر ابن ملجم عنه منصرفا قال عليه السلام متمثلا: ” أشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيك ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيك (3) “


(1) لعل العبدي تصحيف الضبي، فانه محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، مولاهم أبو عبد الرحمن، وقد عده الشيخ الطوسي (قدس سره) من أصحاب الصادق عليه السلام ووثقه (رجال الشيخ: 297) يروي عنه علي بن المنذر الطريقي، انظر: ” الطبقات الكبرى 6: 389، انساب السمعاني 8: 145، ميزان الاعتدال 3. 157، تهذيب التهذيب 7: 386 و 9: 405 “. (2) في ” ق ” وهامش ” ش “. ليخضبن. (3) الطبقات الكبرى 3: 33، انساب الاشراف 2: 500، مقاتل الطالبيين: 31، الخرائج والجرائح 1: 182 ذيل الحديث 14، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 42: 192 / 6 والبيت الاخير اثبتناه من ” ق “.

[ 12 ]

وروى الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الاصبغ بن نباتة، قال: أتى ابن ملجم أمير المؤمنين عليه السلام فبايعه فيمن بايع، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين عليه السلام فتوثق منه، وتوكد عليه ألا يغدر ولا ينكث ففعل، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين عليه السلام الثانية فتوثق منه وتوكد عليه ألا يغدر ولا ينكث ففعل، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين عليه السلام الثالثة فتوثق منه وتوكد عليه ألا يغدر ولا ينكث، فقال ابن ملجم: والله – يا أمير المؤمنين – ما رأيتك فعلت هذا باحد غيري. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” أريد حباءه ويريد قتلي عذيرك (1) من خليلك من مراد (2) امض – يا بن ملجم – فوالله ما أرى. أن تفي بما قلت ” (3). وروى جعفر بن سليمان الضبعي عن المعلى بن زياد قال: جاء عبد الرحمن بن ملجم – لعنه الله – إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستحمله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إحملني. فنظر إليه امير المؤمنين عليه السلام ثم قال له. ” أنت عبد الرحمن بن ملجم المرادي ؟ ” قال: نعم. قال: ” أنت


(1) عذيرك من فلان بالنصب، أي هات من يعذرك فيه، فعيل بمعنى فاعل ” النهاية – عذر – 3: 197 “. (2) البيت لعمرو بن معدي كرب: كتاب سيبويه 1: 276، الاغاني 10: 27، العقد الفريد 1: 121، خزانة الادب 6: 361. (3) ذكره ابن شهرآشوب مختصرا في المناقب 3: 310، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42. 192 / 7.

[ 13 ]

عبد الرحمن بن ملجم المرادي ؟ ” قال. نعم. قال. ” يا غزوان، احمله على الاشقر ” فجاء بفرس أشقر فركبه ابن ملجم المرادي وأخذ بعنانه، فلما ولى قال أمير المؤمنين عليه السلام: ” أريد حباءه ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد ” (1) قال: فلما كان من أمره ما كان، وضرب أمير المؤمنين عليه السلام قبض عليه وقد خرج من المسجد، فجئ به إلى امير المؤمنين، فقال عليه السلام: ” والله لقد كنت أصنع بك ما أصنع، وأنا أعلم أنك قاتلي، ولكن كنت أفعل ذلك بك لاستظهر بالله عليك “. فصل آخر ومن الاخبار التي جاءت بنعيه نفسه عليه السلام إلى أهله وأصحابه قبل قتله: ما رواه أبو زيد الاحول عن الاجلح، عن أشياخ كندة، قال: سمعتهم أكثر من عشرين مرة يقولون: سمعنا عليا عليه السلام على المنبر يقول: ” ما يمنع اشقاها أن يخضبها من فوقها بدم ؟ ” ويضع يده على لحيته عليه السلام (2).


(1) أشار إليه ابن شهر آشوب في المناقب 3: 310، والراوندي في الخرائج والجرائح 1: 182 ذيل الحديث 14. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 42: 193 / 8.

[ 14 ]

وروى علي بن الحزور، عن الاصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام في الشهر الذي قتل فيه فقال: ” أتاكم شهر رمضان، وهو سيد الشهور، واول السنة، وفيه تدور رحا السلطان. ألا وإنكم حاج العام صفا واحدا، واية ذلك أني لست فيكم ” قال: فهو ينعى نفسه عليه السلام ونحن لا ندري (1). وروى الفضل بن دكين، عن حيان بن العباس، عن عثمان بن المغيرة قال: لما دخل شهر رمضان، كان أمير المؤمنين عليه السلام يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن جعفر (2)، وكان لا يزيد على ثلاث لقم، فقيل له في ليلة من تلك الليالي في ذلك، فقال: ” يأتيني أمر الله وأنا خميص، إنما هي ليلة أو ليلتان ” فأصيب عليه السلام في اخر الليل (3). وروى إسماعيل بن زياد قال: حدثتني ام موسى – خادمة (4) علي عليه


(1) إعلام الورى: 160، مناقب آل أبي طالب 2: 271، ونقله العلامة المجلسي في البحار 193 42 / 9. (2) في ” ش “. عبد الله بن العباس. (3) إعلام الورى: 160، المناقب للخوارزمي: 392 / 410، مناقب آل ابي طالب 2: 271، كنز العمال 13: 195 / 36583، الفصول المهمة: 139، وذكره مختصر الراوندي في الخرائج 1: 41 / 201، وسيأتي في فصل من نعيه لنفسه عليه السلام اواخر الجزء الاول. (4) كذا في متن النسخ وفي هامش ” ش “: خادم وهو صواب ايضا. قال في لسان العرب – خدم – 12: 166: الخادم واحد الخدم غلاما كان أو جارية… وفي حديث فاطمة وعلي عليهما السلام: ” اسألي أباك خادما تقيك حر ما أنت عليه ” الخادم واحد الخدم ويقع على الذكر والانثى لاجرائه مجرى الاسماء غير

[ 15 ]

السلام وهي حاضنة فاطمة ابنته عليه السلام – قالت: سمعت عليا عليه السلام يقول لابنته ام كلثوم: ” يا بنية، إني أراني قل ما أصحبكم، قالت: وكيف ذلك، يا أبتاه ؟ قال: إني رأيت نبي الله صلى الله عليه وآله في منامي وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول: يا علي، لا عليك قد قضيت ما عليك “. قالت: فما مكثنا إلا ثلاثا حتى ضرب تلك الضربة. فصاحت ام كلثوم فقال: ” يا بنية لا تفعلي، فإني أرى رسول الله صلى الله عليه واله يشير الي بكفه: يا علي، هلم إلينا، فإن ما عندنا هو خير لك ” (1). وروى عمار الدهني، عن أبي صالح الحنفي قال. سمعت عليا عليه السلام يقول: ” رأيت النبي صلى الله عليه وآله في منامي، فشكوت إليه ما لقيت من أمته من الاود واللدد (2) وبكيت، فقال: لا تبك يا علي والتفت، فالتفت، فإذا رجلان مصفدان، وإذا جلاميد ترضخ بها رؤوسهما “. فقال أبو صالح: فغدوت إليه من الغد كما كنت أغدو كل يوم، حتى إذا كنت في الجزارين لقيت الناس يقولون. قتل أمير المؤمنين، قتل أمير


المأخوذة من الافعال كحائض وعاتق وهذه خادمنا – بغير هاء، لوجوبه، وهذه خادمتنا غدا. انتهى. (1) المناقب للخوارزمي: 378 / 402، مناقب ابن شهر آشوب 3: 311، كشف الغمة 1: 433 (2) الاود: العوج، واللدد. الخصومة الشديدة، قال ابن الاثير. ومنه حديث علي: ” رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله، ماذا لقيت بعدك من الاود واللدد ! ” النهاية – لدد – 4: 244 “.

[ 16 ]

المؤمنين عليه السلام (1). وروى عبيدالله بن موسى، عن الحسن بن دينار، عن الحسن البصري قال: سهر أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في الليلة التي قتل (2) في صبيحتها، ولم يخرج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته، فقالت له ابنته ام كلثوم – رحمة الله عليها -: ما هذا الذي قد أسهرك ؟ قال. ” إني مقتول لو قد أصبحت ” وأتاه ابن النباح فآذنه (3) بالصلاة، فمشى غير بعيد ثم رجع، فقالت له ابنته ام كلثوم: مر جعدة فليصل بالناس. قال: ” نعم، مروا جعدة فليصل ” (4). ثم قال. ” لا مفر من الاجل ” فخرج إلى المسجد فإذا هو بالرجل قد سهر ليلته كلها يرصده، فلما برد السحر نام، فحركه أمير المؤمنين عليه السلام برجله وقال له: ” الصلاة ” فقام إليه فضربه (5). وروي في حديث آخر: أن أمير المؤمنين عليه السلام سهر تلك الليلة، فاكثر الخروج والنظر في السماء وهو يقول: ” والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها ” ثم يعاود مضجعه، فلما طلع الفجر شد ازاره (6) وخرج وهو يقول:


(1) ورد باختلاف يسير في الامامة والسياسة: 276، أنساب الاشراف: 494، مقاتل الطالبيين: 40، ومثله في إعلام الورى: 161، والخرائج والجرائح 1: 233 / 78، مناقب ابن شهر آشوب 3: 311. (2) في ” ح “: ضرب. (3) في هامش ” م “: مؤذنا. (4) في هامش ” ش “: ليصلي. (5) خصائص الائمة: 63، إعلام الورى: 161، مناقب آل أبي طالب 3: 310. (6) في هامش ” م “: أزراره.

[ 17 ]

” أشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك (1) ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك ” فلما خرج إلى صحن الدار استقبلته (2) الاوز فصحن في وجهه، فجعلوا يطردونهن فقال: ” دعوهن فانهن نوائح ” ثم خرج فأصيب عليه السلام (3). فصل ومن الاخبار الواردة بسبب قتله وكيف جرى الامر في ذلك: ما رواه جماعة من أهل السير: منهم أبو مخنف لوط بن يحيى، واسماعيل بن راشد، (وأبو هشام الرفاعي) (4)، وأبو عمرو الثقفي، وغيرهم، أن نفرا من الخوارج إجتمعوا بمكة، فتذاكروا الامراء فعابوهم وعابوا أعمالهم عليهم وذكروا أهل النهروان وترحموا عليهم، فقال بعضهم لبعض: لو أنا شرينا أنفسنا لله، فاتينا أئمة الضلال فطلبنا غرتهم فأرحنا منهم العباد والبلاد، وثأرنا باخواننا للشهداء بالنهروان. فتعاهدوا عند انقضاء الحج على ذلك، فقال عبد الرحمن بن ملجم: انا أكفيكم


(1) هامش ” ش ” و ” م “. اتيك. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: استقبله. (3) خصائص الائمة: 63، إعلام الورى: 161، مناقب آل ابي طالب 3: 310. (4) في ” م ” وهامش ” ش “. أبو هاشم الرفاعي، وما في المتن من ” ش ” وهو الصواب وهو ابو هشام محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة، انظر: انساب السمعاني 6: 143، اللباب لابن الاثير 2: 42 تهذيب التهذيب 9: 526.

[ 18 ]

عليا، وقال البرك بن عبد الله التميمي: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص (وتعاقدوا) (1) على ذلك، (وتوافقوا) (2) عليه وعلى الوفاء واتعدوا لشهر رمضان في ليلة تسع عشرة، ثم تفرقوا. فاقبل ابن ملجم – وكان عداده في كندة – حتى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه فكتمهم أمره مخافة أن ينتشر منه شئ، فهو في ذلك إذ زار رجلا من أصحابه ذات يوم – من تيم الرباب – فصادف عنده قطام بنت الاخضر التيمية، وكان أمير المؤمنين عليه السلام قتل أباها وأخاها بالنهروان، وكانت من اجمل نساء زمانها، فلما رآها ابن ملجم شغف بها واشتد إعجائه بها، فسأل في نكاحها وخطبها فقالت له: ما الذي تسمي لي من الصداق ؟ فقال لها: احتكمي ما بدا لك، فقالت له: أنا محتكمة عليك ثلاثة الاف درهم، ووصيفا وخادما، وقتل علي بن أبي طالب، فقال لها: لك جميع ما سالت، وأما قتل علي بن أبي طالب فأنى لي بذلك ؟ فقالت: تلتمس غرته، فإن أنت قتلته شفيت نفسي وهنأك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا. فقال: أما والله ما أقدمني هذا المصر – وقد كنت هاربا منه لا آمن مع أهله – إلا ما سألتني من قتل علي بن أبي طالب، فلك ما سألت. قالت: فانا طالبة لك بعض من يساعدك على ذلك ويقويك. ثم بعثت إلى وردان بن مجالد – من تيم الرباب – فخبرته الخبر


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: تعاهدوا. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: واوثقوا. وفي ” م ” وتوافقوا.

[ 19 ]

وسالتة معونة ابن ملجم، فتحمل ذلك لها، وخرج ابن ملجم فاتى رجلا من أشجع يقال له: شبيب بن بجرة، فقال: يا شبيب، هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟ قال: وما ذاك ؟ قال: تساعدني على قتل علي بن أبي طالب. وكان شبيب على رأي الخوارج، فقال له: يا ابن ملجم، هبلتك الهبول، لقد جئت شيئا إدا، وكيف تقدر على ذلك ؟ فقال له ابن ملجم. نكمن له في المسجد الاعظم فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، وإن نحن قتلناه شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا. فلم يزل به حتى أجابه، فأقبل معه حتى دخلا المسجد على قطام – وهي معتكفة في المسجد الاعظم، قد ضربت عليها قبة – فقال لها: قد اجتمع رأينا على قتل هذا الرجل، قالت لهما: فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع. فانصرفا من عندها فلبثا أياما، ثم أتياها ومعهما الآخر ليلة الاربعاء لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فدعت لهم بحرير فعصبت (1) به صدورهم، وتقلدوا أسيافهم ومضوا وجلسوا (2) مقابل السدة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين عليه السلام إلى الصلاة، وقد كانوا قبل ذلك ألقوا إلى الاشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين عليه السلام، وواطاهم عليه، وحضر الاشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه. وكان حجر بن عدي – رحمة الله عليه – في تلك الليلة بائتا في المسجد، فسمع الاشعث يقول لابن ملجم: النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك


(1) في ” م ” و ” ح “: فعصبوا. (2) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: فجلسوا.

[ 20 ]

الصبح، فاحس حجر بما أراد الاشعث فقال له. قتلته يا أعور. وخرج مبادرا ليمضي إلى أمير المؤمنين عليه السلام ويحذره الخبر ويحذره من القوم، وخالفه أمير المؤمنين عليه السلام فدخل المسجد، فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف، وأقبل حجر والناس يقولون: قتل أمير المؤمنن، قتل أمير المؤمنين. وذكر محمد بن عبد الله بن محمد الازدي قال. إني لاصلي في تلك الليلة في المسجد الاعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصلون في ذلك (1) الشهر من أوله إلى اخره، إذ نظرت إلى رجال يصلون قريبا من السدة، وخرج علي ابن أبي طالب عليه السلام لصلاة الفجر، فاقبل ينادي ” الصلاة الصلاة ” فما أدري أنادى أم رأيت بريق السيوف وسمعت قائلا يقول: لله الحكم – يا علي – لا لك ولا لاصحابك. وسمعت عليا عليه السلام يقول: ” لا يفوتنكم الرجل ” فإذا علي عليه السلام مضروب، وقد ضربه شبيب بن بجرة فاخطأه ووقعت ضربته في الطاق، وهرب القوم نحو أبواب المسجد وتبادر الناس لاخذهم. فاما شبيب بن بجرة فاخذه رجل فصرعه وجلس على صدره، وأخذ السيف من يده ليقتله به، فرأى الناس يقصدون نحوه فخشي ان يعجلوا عليه ولا يسمعوا منه، فوثب عن صدره وخلاه وطرح السيف من يده، ومضى شبيب هاربا حتى دخل منزله، ودخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره، فقال له: ما هذا، لعلك قتلت أمير المؤمنين ؟ فاراد أن يقول: لا، فقال: نعم، فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه، ثم دخل عليه فضربه حتى قتله.


(1) في هامش ” ش “: هذا.

[ 21 ]

واما ابن ملجم، فان رجلا من همدان لحقه فطرح عليه قطيفة (1) كانت في يده، ثم صرعه وأخذ السيف من يده، وجاء به إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وأفلت الثالث فانسل بين الناس. فلما ادخل ابن ملجم على أمير المؤمنين عليه السلام نظر إليه ثم قال: ” النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمت رأيت فيه رأيي ” فقال ابن ملجم: والله لقد ابتعته بالف وسممته بالف، فإن خانني فأبعده الله. قال: ونادته ام كلثوم: يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين عليه السلام قال: إنما قتلت أباك، قالت: يا عدو الله، إني لارجو أن لا يكون عليه باس، قال لها: فاراك إنما تبكين علي إذا، والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الارض لاهلكتهم. فاخرج من بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام وإن الناس لينهشون (2) لحمه باسنانهم كأنهم سباع، وهم يقولون. يا عدو الله، ماذا فعلت (3) ؟ أهلكت أمة محمد وقتلت خير الناس. وإنه لصامت ما ينطق. فذهب به إلى الحبس. وجاء الناس إلى أمر المؤمنين عليه السلام فقالو ” له. يا أمير المؤمنين مرنا بامرك في عدو الله، فلقد أهلك الامة وأفسد الملة. فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: ” ان عشت رأيت فيه رأي، لان هلكت فاصنعوا


(1) القطيفة: كساء له خمل ” النهاية – قطف – 4: 84 “. (2) في هامش ” ش “. لينهسون. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: صنعت.

[ 22 ]

به (1) ما يصنع بقاتل النبي، اقتلوه ثم حرقوه بعد ذلك بالنار “. قال: فلما قضى أمير المؤمنين عليه السلام، وفرغ أهلة من دفنه، جلس الحسن عليه السلام وأمر أن يؤتى بابن ملجم، فجئ به، فلما وقف بين يديه قال له: ” يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين، وأعظمت الفساد في الدين ” ثم أمر به فضربت عنقه، واستوهبت أم الهيثم بنت الاسود النخعية جيفته (2) منه لتتولى إحراقها، فوهبها لها فاحرقتها بالنار. وفي أمر (3) قطام وقتل أمير المؤمنين عليه السلام يقول الشاعر: فلم أر مهرا ساقة ذو سماحة كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة وضرب علي بالحسام المصمم (4) ولامهر أغلى من علي ان غلا ولافتك إلا دون فتك ابن ملجم وأما الرجلان اللذان كانا مع ابن ملجم لعنهم الله أجمعين في العقد على قتل معاوية وعمرو بن العاص، فان أحدهما ضرب معاوية وهو راكع فوقعت ضربته في أليته ونجا منها، فاخذ وقتل من وقته. وأما الآخر فانه وافى عمرا في تلك الليلة وقد وجد علة فاستخلف رجلا يصلي بالناس يقال له: خارجة بن ابي حبيبة العامري، فضربه


(1) في ” م ” زيادة: مثل. (2) في هامش ” ش “: جثته. (3) في هامش ” ش “: مهر. (4) في هامش ” ش “: المسمم.

[ 23 ]

بسيفه وهو يظن أنه عمرو، فاخذ وأتي به عمرو فقتله، ومات خارجة في اليوم الثاني (1). فصل ومن الاخبار التي جاءت بموضع قبر أمر المؤمنين عليه السلام وشرح الحال في دفنه: ما رواه عباد بن يعقوب الرواجنى قال. حدثنا حبان (2) بن علي العنزي قال. حدثنى مولى لعلي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما حضرت أمير المؤمنين عليه السلام الوفاة قال للحسن والحسين عليهما السلام: ” إذا أنا مت فاحملاني على سريري، ثم أخرجاني واحملا مؤخر السرير فانكما


(1) ذكرت هذه الواقعة مقطعة في: تاريخ الطبري 5: 143، مقاتل الطالبيين: 29، طبقات ابن سعد 3: 35، انساب الاشراف 2: 489 / 524، مروج الذهب 2: 411 الامامة والسياسة 1: 159، الكامل في التاريخ 3: 389، مناقب الخوارزمي: 380 / 401 مناقب ابن شهر اشوب 3: 311، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 42: 228 / 41. (2) كذا في ” ش ” وهو أخو مندل كما في هامش ” ش “، وفي ” م ” بخط حديث: حيان، وفي ” ح “: جيان بن علي مولى لعلي بن أبى طالب وفيه سقط، ثم إن في ضبط اسمه خلافا فقط ضبطه العلامة وابن داود بالياء المنقطة تحتها نقطتين بعد الحاء ” خلاصة الرجال: 64، 260، ايضاح الاشتباه: 97، رجال ابن داود: 136 و 352 ” لكن الظاهر كونه حبان بالموحدة بعد الحاء المكسورة كما في غير واحد من كتب الرجال من العامة. انظر: تبصير المنتبه: 278، تقريب التهذيب 1: 147، الجرح والتعديل 3: 270، المجروحين لابن حبان 1: 261، الضعفاء للعقيلي 1: 293، سؤالات ابن الجنيد: 96، الضعفاء للنسائي: 89، الضعفاء للدارقطني: 301، الضعفاء الصغير للبخاري: 426، تاريخ بغداد 8: 255، ميزان الاعتدال 1: 449، تهذيب التهذيب 2: 173.

[ 24 ]

تكفيان مقدمة، ثم ائتيا بي الغريين (1)، فانكما ستربيان صخرة بيضاء تلمع نورا، فاحتفرا فيها فانكما تجدان فيها ساجة، فادفناني فيها “. قال: فلما مات أخرجناه وجعلنا نحمل مؤخر السرير ونكفى مقدمه، وجعلنا نسمع دويا تجاهنا وحفيفا حتى أتينا الغريين، فإذا صخرة بيضاء (تلمع نورا) (2)، فاحتفرنا فإذا ساجة مكتوب عليها: ” مما أدخر نوح لعلي بن أبي طالب “. فدفناه فيها، وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله لامير المؤمنين عليه السلام فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فاخبرناهم بما جرى وباكرام الله أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: نحب أن نعاين من أمره ما عاينتم. فقلنا لهم: إن الموضع قد عفي أثره بوصية منه عليه السلام، فمضوا وعادوا إلينا فقالوا أنهم احتفروا فلم يجدوا شيئا (3). وروى محمد بن عمارة (4)، قال: حدثني أبي، عن جابر بن يزيد قال: سالت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: أين دفن أمير المؤمنين


(1) الغريان: بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة بناهما المنذر بن امرئ القيس. ” معجم البلدان 4: 198 “. (2) في هامش ” ش “. يلمع نورها. (3) صدره في الخرائج والجرائح 1: 233 / ذيل الحديث 78، اعلام الورى: 202، فرحة الغري: 36، ونقله المجلسي في البحار 42: 217 / ذيل الحديث 19. (4) كذا في النسخ ولعل الصواب جعفر بن محمد بن عمارة، وهو يروي عن ابيه عن جابر ابن يزيد الجعفي في غير واحد من الاسانيد كاسانيد كتب الصدوق، انظر: معاني الاخبار: 21، 55، 104، 237، الخصال: 585، التوحيد: 242، وكذا يروي جعفر عن أبيه عن الصادق عليه السلام في أسانيد متكررة نعم وردت رواية محمد بن عمارة عن أبيه عن الصادق عليه السلام في صفات الشيعة ح 69 لكنه محرف، والصواب جعفر ابن محمد بن عمارة كما في البحار 8 (الطبعة القديمة): 196.

[ 25 ]

عليه السلام ؟ قال. ” دفن بناحية (1) الغريين ودفن قبل طلوع الفجر ودخل قبره الحسن والحسين ومحمد بنو علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر رضي الله عنه ” (2). وروى يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن رجاله، قال: قيل للحسين (3) بن علي عليهما السلام: أين دفنتم أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فقال: ” خرجنا به ليلا على مسجد الاشعث، حتى خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري، فدفناه هناك ” (4). وروى محمد بن زكريا قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة (5)


(1) في هامش ” ش “: بجانب. (2) اعلام الورى: 202، فرحة الغري: 51، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 220 / ذيل الحديث 26. (3) كذا في ” م ” وهامش ” ش ” والبحار وكامل الزيارات وفرحة الغري وكفاية الطالب، وفي متن ” ش ” ومقاتل الطالبيين: للحسن بن علي. (4) مقاتل الطالبيين: 42، كامل الزيارات وفرحة الغري: 39، كفاية الطالب: 471، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 234 / 42، وقد بينت المصادر المراد من رجال ابن ابي عمير في السند وفيها اختلاف يسير فراجع. (5) محمد بن عائشة وفوقه علامة التصحيح ولعل المراد ان ” محمد عن ابن عائشة ” تصحيف والصواب بدله محمد بن عائشة وكان فوق ” محمد ” علامة الزيادة (ز.. إلى) فحينئذ تصير العبارة كما اثبتناه في المتن، وفي ” م “. محمد بن عبد الله بن محمد بن عائشة، وفي ” ح “: عبيدالله عن ابن عائشة، ونقل في البحار هذا الخبر عن فرحة الغري باسناده إلى المفيد عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن محمد بن عائشة، ثم أشار بعد ذكر الخبر ان في الارشاد مثله، ثم ان الخبر مروي في فرحة الغري بطريق اخر عن عبيدالله بن محمد بن عائشة عن عبد الله بن حازم بن خزيمة وهذا نظير ما اثبتناه في المتن وهو أقرب في بادئ النظر من جهة ان محمد بن زكريا الغلابى يروي عن ابن عائشة كما هو المصرح في كتب الرجال وهو أبو عبد الرحمن عبيدالله بن محمد بن حفص العيشي المعروف بابن عائشة لانه من ولد عائشة بنت طلحة، توفي في شهر رمضان 228 انظر:-

[ 26 ]

قال: حدثني عبد الله بن حازم (1) قال: خرجنا يوما مع الرشيد من الكوفة نتصيد، فصرنا إلى ناحية الغريين والثوية (2)، فرأينا الظباء فارسلنا عليها الصقورة والكلاب، فجاولتها (3) ساعة ثم لجات (4) الظباء إلى أكمة فسقطت عليها فسقطت الصقورة ناحية ورجعت الكلاب، فعجب (5)


تاريخ بغداد 10: 315، انساب السمعاني 9: 106، ميزان الاعتدال 3: 550، لسان الميزان 5: 168، تهذيب التهذيب 7: 45. هذا لكن يبعد صحة هذه النسخة ما في متن الخبر: قال محمد بن عائشة: فكأن قلبي لم يقبل ذلك الخ، فحينئذ اما ان يلتزم بوقوع التحريف في ذيل الخبر واما ان يقال ان المراد من محمد بن عائشة في الذيل هو عبيدالله بن محمد بن عائشة واطلق عليه اسم ابيه مجازا كما في محمد بن عمر بن يزيد، واما ان يقال بان الصواب هو محمد ابن عبيداللة بن محمد بن عائشة ولا مانع من رواية الغلابي عنه مع روايته عن ابيه عبيدالله، والغلابي توفي بعد سنة 280، وعبيدالله بن عائشة توفي سنة 228 فبين وفاتيهما اكثر من خمسين سنة فيناسب رواية الغلابي عن ابنه ايضا، وفي لسان الميزان: قال الغلابى: حدثنا ابن عائشة عن ابيه، فيحتمل كون المراد من ابن عائشة هو محمد ابن عبيدالله، فلاحظ. (1) كذا في ” م ” وفرحة الغري والبحار والدلائل البرهانية، ونقله في فرحة الغري بطريق آخر عن عبيدالله بن محمد بن عائشة قال. حدثنا عبد الله بن حازم بن خزيمة، لكن في نسخة ” ش “. خازم باعجام الخاء، وهو الصحيح، وقد جاء ذكره احداث خلافة المهدي والرشيد والامين. فقد كان على شرط المهدي سنة 167 وعزله في سنة 169 (تاريخ الطبري 8: 164 و 189). وولاه الرشيد طبرستان ورويان سنة 180 (تاريخ الطبري 8: 266). وله ذكر في احداث سنة 195 في عهد الامين (تاريخ الطبري 8: 395، 993، 412. وسنة 197 (تاريخ الطبري 8: 467) انظر فهرست تاريخ الطبري 10: 306. (2) الثوية: موضع قريب من الكوفة. ” معجم البلدان 2: 87 “. (3) في هامش ” ش “. فجاولناها. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: التجأت. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: فتعجب.

[ 27 ]

الرشيد من ذلك، ثم إن الظباء هبطت من الاكمة فهبطت الصقورة والكلاب، فرجعت الظباء إلى الاكمة فتراجعت عنها الكلاب والصقورة، ففعلت (1) ذلك ثلاثا (2)، فقال الرشيد: أركضوا، فمن لقيتموه فأتوني به، فاتيناه بشيخ من بني أسد، فقال له هارون: أخبرني ما هذه الاكمة ؟ قال: إن جعلت لي الامان أخبرتك. قال: لك عهد الله وميثاقه ألا اهيجك ولا أؤذيك. قال: حدثني أبي عن ابائي أنهم كانوا يقولون أن في هذه الاكمة قبر علي بن أبي طالب عليه السلام، جعله (3) الله حرما لا يأوي إليه شئ إلا أمن. فنزل هارون فدعا بماء وتوضأ وصلى عند الاكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، ثم انصرفنا. قال محمد بن عائشة: فكان قلبي لم يقبل ذلك، فلما كان بعد ذلك حججت إلى مكة، فرأيت بها ياسرا رحال (4) الرشيد، فكان يجلس معنا إذا طفنا، فجرى الحديث إلى ان قال: قال لي الرشيد ليلة من الليالي، وقد قدمنا من مكة فنزلنا الكوفة: يا ياسر، قل لعيسى بن جعفر فليركب، فركبا جميعا وركبت معهما، حتى إذا صرنا (5) إلى الغريين، فاما عيسى فطرح نفسه فنام، وأما الرشيد فجاء إلى أكمة فصلى عندها، فكلما صلى ركعتين دعا وبكى وتمرغ


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ففعلن. (2) في هامش ” ش “: مليا. (3) في هامش ” ش “: جعلها. (4) في ” م “: جمال. (5) في هامش ” ش “: صارا.

[ 28 ]

على الاكمة، ثم يقول: يا عم (1) أنا والله اعرف فضلك وسابقتك، وبك واللة جلست مجلسي الذي (أنا فيه) (2)، وأنت أنت، ولكن ولدك يؤذونني ويخرجون علي. ثم يقوم فيصلي ثم يعيد هذا الكلام ويدعو ويبكي، حتى إذا كان في وقت السحر قال لي: يا ياسر، أقم عيسى، فاقمته فقال له: يا عيسى، قم صل عند قبر ابن عمك. قال له: وأي عمومتي هذا ؟ قال: هذا قبر علي بن أبي طالب، فتوضأ عيسى وقام يصلي، فلم يزالا كذلك حتى طلع الفجر، فقلت: يا أمير المؤمنين أدركك الصبح. فركبنا ورجعنا إلى الكوفة (3).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: يابن عم. (2) في هامش ” ش “: أنا به. (3) فرحة الغري: 119، والخرائج والجرائح 1: 234 / ذيل الحديث 78 قطعة منه، الدلائل البرهانية المطبوع في الغارات 2 / 862 ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 331 ذيل ح 16.

[ 29 ]

باب طرف من أخبار أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله ومناقبه، والمحفوظ من كلامه وحكمه ومواعظه، والمروي من معجزاته وقضاياه وبياناته: فمن ذلك ما جاءت به الاخبار في تقدم إيمانه بالله ورسوله عليه السلام وسبقه به كافة المكلفين من الانام. أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد البلخي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن القاسم البرتي (1) قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الازدي قال: حدثنا سعيد بن خثيم قال: حدثني اسد بن (عبد الله) (2)، عن يحيى بن عفيف (3)، عن أبيه قال:


(1) في ” م ” بخط حديث و ” ش “: البرقي وفي هامش ” ش “: البرتي وكان فوقه علامة التصحيح – وقد باتي السندين الآتيين اسمه أيضا وفي ” م ” و ” ش ” كليهما. البرتي – فان الظاهر انه أحمد ابن القاسم بن محمد بن سليمان أبو الحسن الطائي البرتي، وقد ترجم له في تاريخ بغداد 4: 350 وذكر وفاته في سنة 296، ثم إن في هامش ” ش ” برت. قرية بالعراق على القاطول خربة. وفي معجم البلدان 1: 372: هي بليدة في سواد بغداد قريبة من المزرفة. وفي انساب السمعاني 2: 127: هي مدينة بنواحي بغداد. (2) في ” ش ” و ” ح “: اسد بن عبيدة، وفي هامش ” ش “: هو اسد بن عبيدة كذا هو في كتاب ابن مردويه، والظاهر ان الصواب ما اثبتناه، وهو اسد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري البجلي القسري، أبو عبد الله، ويقال: أبو المنذر، ولا. اخو خالد ابن عبد الله القسري عل خراسان سنة 108 د، روى عن ابيه وعن يحيى بن عنيف وعنه سعيد بن خثيم وسالم بن قتيبة الباهلي، توفي سنة 120 ه‍، انظر ” تهذيب الكمال 2: 504 / 399، ميزان الاعتدال 1: 206 / 812 و 4: 396 / 9589 “. (3) في هامش (ش): هو عفيف بن قيس.

[ 30 ]

كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمر النبي صلى الله عليه واله فجاء شاب فنظر إلى السماء حين تحلقت (1) الشمس، ثم استقبل الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلام فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت: يا عباس، أمر عظيم. فقال العباس: أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب ؟ هذا محمد بن عبد الله – ابن أخي – أتدري من هذا الغلام ؟ هذا علي بن أبي طالب – ابن أخي – أتدري من هذه المرأة ؟ هذه خديجة بنت خويلد. إن ابن أخي هذا حدثني أن ربه – رب السموات والارض – أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على ظهر الارض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (2). أخبرني أبو حفص عمر بن محمد الصيرفي قال. حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، عن أحمد بن القاسم البرتي، عن أبي صالح سهل بن صالح – وكان قد جاز مائة سنة – قال: سمعت أبا المعمر عباد بن عبد الصمد قال: سمعت أنس بن مالك يقول. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين ” وذلك أنه لم يرفع إلى


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: تحلقت: ارتفعت. (2) تاريخ الطبري 2: 311، كنز الفوائد 1: 262، مصباح الانوار: 75، كفاية الطالب: 128، مناقب الخوارزمي: 55 / 21، وورد باختلاف يسير في مسند أحمد 1: 209، الضعفاء الكبير للعقيلي 1: 27 وهامشه، المستدرك على الصحيحين 3: 183، الاصابة 2: 487، الاستيعاب 3: 32، مناقب ابن شهر آشوب 2: 18، الكامل في التاريخ 2: 57، اعلام الورى: 49، ونقله العلامة المجلسي في البحار 38: 244 / ذ ح 40.

[ 31 ]

السماء شهادة أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله إلا مني ومن علي ” (1). وبهذا الاسناد عن أحمد بن القاسم البرتي قال. حدثنا إسحاق قال: حدثنا نوح بن قيس قال: حدثنا سليمان بن علي الهاشمي – أبو فاطمة – قال: سمعت معاذة العدوية تقول: سمعت عليا عليه السلام على منبر البصرة يقول: ” أنا الصديق الاكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، واسلمت قبل ان يسلم ” (2). أخبرني أبو نصر محمد بن الحسين المقرئ البصير (السيرواني) (3) قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي الثلج قال: حدثنا أبو محمد النوفلي، عن محمد بن عبد الحميد، عن عمرو بن عبد الغفار الفقيمي قال. أخبرني إبراهيم بن حيان، عن أبي عبد الله – مولى بني هاشم – عن أبي سخيلة قال: خرجت أنا وعمار حاجين، فنزلنا عند أبي ذر فأقمنا عنده ثلاثة أيام، فلما دنا منا الخفوف (4) قلت له: يا أبا ذر، إنا لا نراه إلا وقد دنا الاختلاط من الناس، فما ترى ؟ قال: الزم كتاب الله وعلي بن أبي طالب، فأشهد على رسول الله صلى الله عليه واله أنه قال. ” علي أول من


(1) الفصول المختارة: 215، مصباح الانوار: 75، مناقب ابن المغازلي: 14، إعلام الورى: 185، مناقب الخوارزمي: 53 / 17 ونقله العلامة المجلسي في البحار 38: 226 / 31. (2) الفصول المختارة: 210، أنساب الاشراف 2: 146، كنز الفرائد 1: 265، مناقب ابن شهر آشوب 2: 4، ونقله العلامة المجلسي في البحار 38: 226 / 32. (3) في ” ح “: الشيرواني باعجام الشين يحتمل صحة كليهما بان يكون السيرواني تعريبا للشيرواني، فقد يعبر باسمه الاصلي وقد يعبر باسمه المعرب. (4) خف القوم: ارتحلوا ” القاموس المحيط – خفف – 3: 136 “.

[ 32 ]

آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الاكبر، والفاروق بين الحق والباطل، وإنه يعسوب (1) المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة ” (2). قال الشيخ المفيد (3): والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وشواهدها جمة، فمن ذلك: قول خزيمة بن ثابت الانصاري ذي الشهادتين – رحمة الله عليه – فيما أخبرني به أبو عبيدالله محمد بن عمران المرزباني، عن محمد بن العباس قال: أنشدنا محمد بن يزيد النحوي، عن ابن عائشة لخزيمة بن ثابت الانصاري رضي الله عنه: ما كنت أحسب (هذا الامر منصرفا) (4) عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتهم وأعرف الناس بالآثار (5) والسنن واخر الناس عهدا بالنبي ومن جبريل عون له في الغسل والكفن من فيه ما فيهم لا يمترون به وليس في القوم ما فيه من الحسن ماذا الذي ردكم عنه فنعلمه (6) ها إن بيعتكم من (أغبن الغبن) (7) (8)


(1) اليعسوب: الرئيس الكبير، ” القاموس – عسب – 1: 104 “. (2) أنساب الاشراف 2: 118، امالي الصدوق 171 / 5 امالي الطوسي 1: 147، اختيار معرفة الرجال 1: 113 / 51، مناقب ابن شهراشوب 2: 315، اليقين: 200، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 38: 210 ذيل ح 10. (3) في ” م ” زيادة: أدام تأييده. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: ان الامر منصرف. (5) في هامش ” ش “: بالآيات. (6) في هامش ” م “: لنعلمه. (7) في هامش ” ش ” و ” م “: أول الفتن. (8) رواه سليم بن قيس في كتابه: 78، والاربلي في كشف الغمة 1: 67، وفيهما. عن العباس، وفي تاريخ اليعقوبي 2: 124 عن عتبة بن أبي لهب، والجمل: 58، عن عبد الله بن ابي سفيان –

[ 33 ]

فصل ومن ذلك ما جاء في فضله عليه السلام على الكافة في العلم: أخبرني أبو الحسن محمد بن جعفر التميمي النحوي قال: حدثنا محمد بن القاسم المحاربي البزاز قال: حدثنا هشام بن يونس النهشلي قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أبي الصباح الكناني، عن محمد بن عبد الرحمن السلمي، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” علي بن أبي طالب أعلم امتي، وأقضاهم فيما اختلفوا فيه من بعدي) (1). أخبرني أبو بكر محمد بن عمر الجعابي قال: حدثنا أحمد بن عيسى أبو جعفر العجلي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد قال: حدثنا عبيد الله ابن عمرو الرقي (2) قال. حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري (3)، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ” أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليقتبسه من علي ” (4). أخبرني أبو بكر محمد بن عمر الجعابى قال: حدثنا يوسف بن


– ابن الحارث بن عبد المطلب والفصول المختارة: 216 عن ربيعة بن الحارث، وكنز الفوائد 1: 267 عن سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. (1) أمالي الصدوق: 397 / 6، ونقله العلامة المجلسي في البحار: 40: 143 / 49. (2) ليس في متن ” ش ” و ” م ” و ” ح ” كلمة الرقي، وانما اضيفت في هامش ” ش ” و ” م ” تصحيحا. (3) في ” ش “: عن حمزة، عن ابي سعيد الخدري. (4) نقله العلامة المجلسي في البحار 40: 202 / 7.

[ 34 ]

الحكم الحناط قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا سلمة بن صالح الاحمر، عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن الاشعث بن طليق قال: سمعت الحسن العرني يحدث عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: استدعى رسول الله صلى الله عليه وآله عليا فخلا به، فلما خرج إلينا سألناه ما الذي عهد اليك ؟ فقال: ” علمني ألف باب من العلم، فتح لي كل باب ألف باب ” (1). أخبرني أبو الحسين محمد بن المظفر البزاز (2) قال: حدثنا أبو مالك كثير بن يحيى قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أبي السري قال: حدثنا أحمد ابن عبد الله بن يونس، عن سعد الكناني، عن الاصبغ بن نباتة قال. لما بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالخلافة خرج إلى المسجد معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه واله، لابسا برديه (3)، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكنا وشبك بين


(1) اعلام الورى: 165، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 144 / 50. (2) في متن ” ش ” و ” م “: أبو بكر، وفي (ح): أبو الجيش وقد صحح أبو بكر بأبي الحسين في هامش ” ش ” و ” م ” وقد جعل على أبي بكر في ” ش ” علامة الزيادة، وكتب في هامشها معلما بعلامة (س) ووجدت في نسخة منقولة مما قرئ على الشيخ: أبو الحسين محمد بن المظفر البزاز في عدة مواضع فهو الصحيح، وأيضا كتب في هامشها: أبو الحسين الحافظ البغدادي وكان معاصرا للدارقطني ويعرف أبو الحسين بالبزاز الاشهب وهو محمد بن المظفر بن موسى بن عيسى، انتهى. وتوجد هذه الحاشية في هامش ” م ” أيضا لكن محي اكثره. وعلى أي حال أبو الحسين البزاز مترجم في تاريخ بغداد 3 / 263 وذكر ولادته سنة 286 ووفاته سنة 379 وقال: حدثني أبو بكر البرقاني قال: كتب الدارقطني عن ابن المظفر ألف حديث، والف حديث، والف حديث، فعدد ذلك مرات. (3) في هامش ” ش “. بردته.

[ 35 ]

أصابعه ووضعها أسفل سرته (1)، ثم قال: ” يا معشر الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الاولين والآخرين. اما – والله – لو ثني لي الوساد (2)، لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم، حتى يزهر ” 3 ” كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن عليا قضى بقضائك. والله إني أعلم بالقرآن وتأويله من كل مدع علمه، ولولا آية في كتاب الله لاخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة ” – ثم قال -. ” سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو سألتموني عن اية اية، لاخبرتكم بوقت نزولها وفي من (4) نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها، وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكيها من مدنيها. والله ما فئة (تضل أو تهدى) (5) إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة ” (6). في أمثال هذه الاخبار مما يطول به الكتاب.


(1) في ” م “: بطنه. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: الوسادة. (3) في هامش ” ش ” و ” م “. ينطق. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: وفيم. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: تضل أو تهدي. (6) التوحيد: 304، امالي الصدوق: 280، الاختصاص: 235، مناقب ابن شهرآشوب 2: 38 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار: 4: 144 / 51.

[ 36 ]

فصل ومن ذلك ما جاء في فضله عليه السلام: أخبرني أبو الحسين محمد بن المظفر البزاز قال: حدثنا عمر بن عبد الله ابن عمران قال: حدثنا أحمد بن بشير قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، (عن قيس، عن أبي هارون) (1) قال: أتيت أبا سعيد الخدري رحمه الله فقلت: هل شهدت بدرا ؟ فقال: نعم. قال. سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول لفاطمة وقد جاءته ذات يوم تبكي وتقول. ” يا رسول الله عيرتني نساء قريش بفقر علي. فقال لها النبي صلى الله عليه وآله: أما ترضين يا فاطمة – أني زوجتك أقدمهم سلما، وأكثرهم علما، إن الله اطلع إلى اهل الارض اطلاعة فاختار منهم أباك فجعله نبيا، واطلع إليهم ثانية فاختار منهم بعلك فجعله وصيا، وأوحى إلي أن (انكحك إياه) (2) أما علمت يا فاطمة أنك بكرامة اللة إياك زوجتك (3) أعظمهم حلما، وأكثرهم علما، وأقدمهم سلما “. فضحكت فاطمة عليها السلام واستبشرت، فقال لها رسول الله صلى


(1) كذا في ” ش ” و ” م ” وفي هامش ” ش “: قيس بن أبي هارون (ج)، وقد جعل فوق قيس عن ابي هارون في المتن علامة التصحيح مرتين، وفي هامش ” ح ” و ” م “: هو قيس بن الربيع كوفي كثير الرواية عن أبي هارون العبدي وهو تابعي. روى عن أبي سعيد، ثم إن في نسخة ” ح “: عبيداللة بن موسى عن قيس أبى هارون. (2) في هامش ” ش “: انكحكه هو. (3) في ” م ” و ” ح “: زوجك.

[ 37 ]

الله عليه وآله: ” يا فاطمة، إن لعلي ثمانية أضراس قواطع لم يجعل لاحد من الاولين والآخرين: هو أخي في الدنيا والآخرة ليس ذلك لغيره من الناس، وأنت – يا فاطمة – سيدة نساء أهل الجنة زوجته، وسبطا الرحمة سبطاي ولده (1)، وأخوه المزين بالجناحين في الجنة يطير مع الملائكة حيث يشاء، وعنده علم الاولين والآخرين، وهو أول من امن بي وآخر الناس عهدا بي، وهو وصيي ووارث الاوصياء (2) ” (3). قال الشيخ المفيد: وجدت في كتاب أبي جعفر محمد بن العباس الرازي: حدثنا محمد بن خالد قال: حدثنا إبرهيم بن عبد الله ثنا محمد ابن سليمان الديلمي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن عدي بن حكيم عن عبد الله بن العباس قال: قال: لنا أهل البيت سبع خصال، ما منهن خصلة في الناس. منا النبي صلى الله عليه وآله، ومنا الوصي خير الامة بعده علي بن ابي طالب، ومنا حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء، ومنا جعفر بن أبي طالب المزين بالجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، ومنا سبطا هذه الامة وسيدا شباب اهل الجنة الحسن والحسين، ومنا قائم ال محمد الذي أكرم الله به نبيه، ومنا المنصور (4).


(1) هامش ” ش ” و ” م “: ولداه. (2) في هامش ” ش “: الوصيين. (3) اشار إلى قطعة منه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 101، ونقله الطبرسي في إعلام الورى: 164، والعلامة المجلسي في البحار 40: 17 / 34. (4) ورد نحوه في الخصال 320 ومصباح الانوار: 158، ونقله العلامة المجلسي في البحار 37 / 48 / 25 وقال (ره): ” لعل المراد بالمنصور ايضا القائم عليه السلام بقرينة إن بالقائم يتم السبع ويحتمل ان يكون المراد به الحسين عليه السلام فانه منصور في الرجعة ” وفسره في هامش (م): ” اي ونحن المنصورون لانا جند الله قال الله تعالى. (وانهم لهم المنصورون).

[ 38 ]

وروى محمد بن أيمن (1)، عن أبي حازم – مولى ابن عباس – عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب عليه السلام: ” يا علي إنك تخاصم فتخصم بسبع خصال ليس لاحد مثلهن: انت أول المؤمنين معي إيمانا، وأعظمهم جهادا، وأعلمهم بآيات (2) الله، وأوفاهم بعهد الله، وأرأفهم بالرعية، وأقسمهم بالسوية، وأعظمهم عند الله مزية ” (3). في أمثال هذه الاخبار ومعانيها، مما هي أشهر عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيها إلى إطالة خطب (4). ولو لم يكن منها إلا ما انتشر ذكره، واشتهرت الرواية به من حديث الطائر، وقول النبي صلى الله عليه وآله: (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي من هذا الطائر) (5) فجاء أمير المؤمنين عليه السلام لكفى، إذ كان أحب الخلق إلى الله تعالى، وأعظمهم ثوابا عنده، وأكثرهم قربا إليه، وأفضلهم عملا له. وفي قول جابر بن عبد الله الانصاري، وقد سئل عن أمير المؤمنين


(1) في هامش نسخة ” ش “: وهو محمد بن اسحاق بن يسار، وقبره ببغداد ولعل كلمة (أيمن) كانت قد صحفت: باسحاق، فهذه الحاشية تفسير لتلك العبارة المصحفة ولذلك جعل على كلمة (ايمن) علامة التصحيح. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: بأيام. (3) رواه عماد الدين الطبري في بشارة المصطفى: 271، وورد باختلاف في الفاظه في الخصال: 363 / 54، ومصباح الانوار: 115، وكفاية الطالب: 270 عن معاذ بن جبل، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 17 / 35. (4) في هامش ” ش “: شرح. (5) حديث الطائر من الاحاديث المشهورة التى جاوزت اسانيده المئات والتي افردت بالتاليف من قبل جماعة من الحفاظ من كلا الفريقين، انظر على سبيل المثال مجلد حديث الطير من كتاب عبقات الانوار.

[ 39 ]

عليه السلام فقال: ” ذاك خير البشر، لا يشك فيه إلا كافر ” (1) حجة واضحة فيما قدمناه، وقد أسند ذلك جابر في رواية جاءت باسانيد متصلة معروفة عند أهل النقل (2). والادلة على أن أمير المؤمنين عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله متناصرة، لو قصدنا إلى إثباتها (3) لافردنا لها كتابا، وفيما رسمناه من الخبر بذلك مقنع فيما قصدناه من الاختصار، ووضعه في مكانه من هذا الكتاب. فصل ومن ذلك ما جاء من الخبر بان محبته عليه السلام علم على الايمان وبغضه علم على النفاق: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن الجعابي الحافظ قال: حدثنا محمد بن سهل بن الحسن قال. حدثنا احمد بن عمر الدهقان قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: حدثنا الاعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش قال: رأيت أمير المؤمنين


(1) امالي الصدوق: 71 / 7، مصباح الانوار: 125 مناقب ابن شهر آشوب 3: 67، كفاية الطالب: 246 وفيه عن عائشة. (2) انظر على سبيل المثال انساب الاشراف 2: 113 / 50، تاريخ بغداد 7: 421، تاريخ دمشق – ترجمة الامام علي عليه السلام – 2: 445 / 958 – 962، اللالي 1: 328، منتخب كنز العمال 5: 35. (3) في ” م “: انتهائها.

[ 40 ]

علي بن ابي طالب عليه السلام على المنبر، فسمعته يقول: ” والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي صلى الله عليه وآله إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ” (1). أخبرني أبو عبيدالله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: حدثنا النضر بن حميد، عن أبي الجارود، عن الحارث الهمداني قال: رأيت عليا عليه السلام جاء حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال. ” قضاء قضاه الله عزوجل على لسان النبي (2) الامي صلى الله عليه وآله أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق، وقد خاب من افترى ” (3). أخبرني أبو الحسين محمد بن المظفر البزاز، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال. حدثنا محمد بن موسى البربري، قال. حدثنا خلف بن سالم، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الاعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ” عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله: إنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق ” (4)


(1) صحيح مسلم 1: 86 / 131 سنن الترمذي 5: 306 / 3819، خصائص النسائي: 83 / 95، كنز الفوائد 2: 83، مناقب آل ابي طالب 3: 206، بشارة المصطفى: 64 و 76، كفاية الطالب: 68، فتح الباري 7: 57، ونقله العلامة المجلسي في البحار 39: 255 / 28. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: نبيكم. (3) مسند أبي يعلى الموصلي 1: 347، وكنز الفوائد 2: 84، ونقله العلامة المجلسي في البحار 39: 255 / 29. (4) مسند أحمد بن حنبل 1: 95، سنن ابن ماجة 1: 42 / 114، سنن النسائي 8: –

[ 41 ]

فصل ومن ذلك ما جاء في أنه عليه السلام وشيعته هم الفائزون: أخبرني أبو عبيدالله محمد بن عمران المرزباني، قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد الحافظ (1) قال: حدثنا علي بن الحسين بن عبيد الكوفي قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، عن سعد بن طالب (2)، عن جابر بن يزيد، عن محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: ” سئلت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن عليا وشيعته هم


117، خصائص النسائي: 83 / 96، 97 تاريخ بغداد 2: 255 و 14: 426، الاستيعاب 3: 37، مناقب ابن شهر آشوب 3: 206، بشارة المصطفى: 148، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 39: 255 / 30. (1) في النسخ: علي بن عمر بن عبيد الله الحافظ لكن يأتي سند مشابه عن قريب وكان فيه في نسختي ” ش ” و ” م ” عبيد الله فصحح في الهامش بعبيد، بل صرح في هامش ” م ” بانه عبيد لا غير، وفي ” ح ” هناك عبيد من دون تردد والظاهر غفلة النساخ من تصحيح عبارة السند هنا ولذلك صححناه فان الظاهر كونه علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله الحافظ البزاز مات في شوال سنة ثلاثين وثلاث مائة، وله ثمان وسبعون سنة. انظر تاريخ بغداد 12: 73، تذكرة الحفاظ 3: 836، العبر 2: 37، طبقات الحفاظ: 348 / 786 “. (2) في هامش ” ش “: لعله سعد بن طريف، وفي هامش ” م “: في نسخة: سعد بن طريف وكأن فرق العبارة في هامش ” ش ” علامة الزيادة، ولعل متن ” ش ” كان في الاصل سعد عن طالب ولذلك فسر سعد في الهامش مما فسر، ثم صحح عبارة المتن فحذف ما في الهامش، واما ناسخ نسخة ” م ” فاخذ هذه العبارة وظنها نسخة، ثم ان في هامش ” ش ” ينقل عن نسخة. سعيد.

[ 42 ]

الفائزون ” (1). أخبرني أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال: حدثني محمد بن هارون بن عيسى الهاشمي قال: حدثنا تميم بن محمد بن العلاء: قال: حدثنا عبد الرزاق قال: اخبرنا يحيى بن العلاء، عن سعد بن طريف، عن الاصبغ بن نباتة، عن علي عليه السلام قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لله تعالى قضيبا من ياقوت أحمر لا يناله إلا نحن وشيعتنا، وسائر الناس منه بريئون ” (2). أخبرنا أبو عبيد الله قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد الحافظ قال: حدثنا علي بن الحسين بن عبيد الكوفي قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، عن عمرو بن حريث، عن داود بن السليك (3)، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” يدخل الجنة من امتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، نار: ثم التفت إلى علي عليه السلام فقال: هم شيعتك وأنت إمامهم ” (4).


(1) تاريخ دمشق – ترجمة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام – 2: 348 / 851، ونقله العلامة المجلسي في البحار 68: 31 / 64. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 68: 31 / 65. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: كذا كان فيما قرئ على الشيخ، وفي هامش آخر ” ش ” عن نسخة. السليل، وكذلك في متن ” ح ” وهامش ” م ” ولكن صححه وذكر نسخة اخرى: السكيك. والمذكور في كتب الرجال: داود بن سليك – بدون اللام – السعدى. انظر: تاريخ البخاري 3: 242، الجرح والتعديل 3: 415، تهذيب التهذيب 3: 186. (4) مناقب ابن المغازلي: 293، مصباح الانوار: 138، إعلام الورى: 165، بشارة المصطفى: 163، ونقله العلامة المجلسي في البحار 68: 31 / 66.

[ 43 ]

أخبرني أبو عبيدالله قال: حدثني (أحمد بن عيسى الكرخي) (1)، قال: حدثنا أبو العيناء محمد بن القاسم قال: حدثنا (محمد بن عائشة) (2)، عن إسماعيل بن عمرو البجلي قال: حدثني عمر بن موسى، عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: ” شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه واله حسد الناس إياي، فقال: يا علي، إن اول أربعين يدخلون الجنة: أنا وأنت والحسن والحسين، وذريتنا خلف ظهورنا، وأحباؤنا خلف ذريتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا (3). فصل ومن ذلك ما جاءت به الاخبار في أن ولايته عليه السلام على طيب المولد وعداوته على خبثه: أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد البلخي قال. حدثنا (4) أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال: حدثنا جعفر بن محمد العلوي قال:


(1) كذا في النسخ، وفي هامش ” م “: الكوفي والكرجي والكرخي وتحت الكلمة الاخيرة. علامة التصحيح. (2) كذا في متن النسخ، وفي هامش ” ش ” و ” م “: ابن عائشة، وقد تقدم ما ينفع في المقام في فصل: موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام، فليراجع. (3) مقتل الخوارزمي: 108، منتخب كنز العمال 5: 94، تذكرة الخواص: 291، فرائد السمطين 2: 42 / 375، مجمع الزوائد 9: 131، وفي تاريخ دمشق – ترجمة الامام أمير المؤمنين عليه السلام – 2: 329 / 835 أفاض الشيخ المحمودي في الهامش ذكر مصادر الحديث باسانيدها ومتونها ومظانها، فراجع. (4) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: اخبرنا، وما أثبتناه من متن ” ش “.

[ 44 ]

حدثنا أحمد بن عبد المنعم قال: حدثنا عبد الله بن محمد الفزاري، عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام، عن جابر بن عبد الله: ” سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب عليه السلام: ألا اسرك ؟ ! ألا أمنحك ؟ ! ألا أبشرك ؟ ! فقال: بلى يارسول الله بشرني. قال: فاني خلقت أنا وأنت من طينة واحدة، ففضلت منها فضلة فخلق الله منها شيعتنا، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس بإسماء امهاتهم سوى شيعتنا فإنهم يدعون باسماء آبائهم لطيب مولدهم ” (1). أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال: حدثنا (محمد بن سلم الكوفي) (2)، قال: حدثنا عبيد الله (3) بن كثير قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين الزفري قال: حدثنا عبيدالله ابن موسى، عن إسرائيل (4)، عن أبي حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: إن رسول صلى الله عليه وآله قال: ” إذا كان يوم القيامة يدعى (5) الناس كلهم باسماء أمهاتهم، ما خلا شيعتنا فانهم يدعون باسماء ابائهم لطيب مواليدهم ” (6).


(1) أمالي المفيد: 311، أمالي الطوسي 2: 71 اعلام الورى: 165، بشارة المصطفى. 14، 96، ونقله العلامة المجلسي في البحار 27: 155 / 28. (2) كذا في متن ” ش ” و ” م ” وفي ” م ” وهامش ” ش ” و ” م ” عن نسخة. محمد بن مسلم، وكأن في هامش ” م ” علامة التصحيح. (3) في ” ح “: عبد الله. (4) كذا في متن النسخ، وفي هامش ” ش “: أبي اسرائيل ” ج “، وهامش ” م ” ” أبي اسرائيل. والظاهر صحة ما أثبتناه، فقد ذكر في تهذيب التهذيب 7: 51 رواية عبيدالله بن موسى بن ابي المختار عن اسرائيل. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: دعي. (6) اعلام الورى: 165، ونقله العلامة المجلسي في البحار 27: 156 / 29.

[ 45 ]

اخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد القمي قال: حدثنا أبو علي محمد ابن همام بن سهيل الاسكافي (1) قال: حدثني جعفر بن محمد بن مالك قال: حدثنا محمد بن نعمة السلولي قال: حدثنا عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن جبلة، عن أبيه قال. سمعت جابر بن عبد الله بن حرام الانصاري يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم – جماعة من الانصار – فقال لنا: ” يا معشر (2) الانصار، بوروا (3) أولادكم بحب علي ابن أبي طالب، فمن أحبه فاعلموا أنه لرشدة (4) ومن أبغضه فاعلموا أنه لغية (5) ” (6). فصل ومن ذلك ما جاءت به الاخبار في تسمية رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام بامرة المؤمنين في حياته. أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد البلخي قال. أخبرنا (7) أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج (8) قال: أخبرني الحسين بن أيوب، عن محمد


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: اسكاف ناحية بالعراق من النهروان إلى البصرة. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: معاشر. (3) نبور: نختبر، ومنه الحديث: ” كنا نبور أولادنا بحب علي “. ” النهاية – بور – 1: 161 “. (4) هو لرشدة: أي صحيح النسب ” مجمع البحرين – رشد – 3: 51 “. (5) ولد غية: أي ولد زنا. ” القاموس المحيط – غوي – 4: 372 “. (6) اعلام الورى: 165، ونقله العلامة المجلسي في البحار 27: 156 / 30. (7) كذا في متن ” ش ” وفي ” م ” وهامش ” ش “: أخبرني. (8) في ” م ” و ” ح “: محمد بن أبى الثلج، وهو أيضا صحيح نسبة إلى الجد.

[ 46 ]

ابن غالب، عن (علي بن الحسن، عن الحسن بن محبوب) (1) عن أبي حمزة الثمالي، عن ابي اسحاق السبيعي، عن بشير الغفاري، عن أنس بن مالك قال: كنت خادم رسول الله صلى الله عليه واله فلما كانت ليلة أم حبيبة بنت ابي سفيان، أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله بوضوء فقال لي: ” يا أنس ابن مالك، يدخل عليك من هذا الباب الساعة أمير المؤمنين وخير الوصيين، أقدم الناس سلما، وأكثرهم علما، وأرجحهم حلما فقلت: اللهم اجعله من قومي. قال: فلم ألبث أن دخل علي بن أبي طالب عليه السلام من الباب ورسول الله صلى الله عليه واله يتوضأ، فرد رسول الله صلى الله عليه وآله الماء على وجه علي عليه السلام حتى امتلات عيناه منه، فقال علي: ” يا رسول الله، أحدث في حدث ؟ ” فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (ما حدث فيك إلا خير، أنت مني وأنا منك، تؤدي عني وتفي بذمتي، وتغسلني وتواريني في لحدي، وتسمع الناس عني وتبين لهم من بعدي “. فقال علي عليه السلام: ” يا رسول الله، أوما بلغت ؟ قال: بلى، ولكن تبين لهم ما يختلفون فيه من بعدي ” (2).


(1) كذا صححه في هامش (ش)، ونسبه في هامش ” م ” إلى نسخة، وفي متن النسح: علي ابن الحسن بن محبوب، وفي ” ش ” فوقه علامة (ج)، والظاهر صحة ما أثبتناه في المتن ولم نجد راو بهذا الاسم في ضمن الروايات، وأما الحسن بن محبوب فانه يروي عن أبي حمزة الثمالي بكثرة وهو راو كتابه في فهرست الشيخ: 41 / 137 ويروي عن ابن محبوب علي بن الحسن بن فضال وعلي بن الحسين الطاهري، وقد روى المصنف عين هذا السند في اماليه: 18 عن محمد بن غالب عن علي بن الحسين عن عبد الله بن جبلة، وروى الصدوق في التوحيد: 157 بسنده إلى ابن أبي الثلج عن الحسين بن ايوب عن محمد ابن غالب، عن علي بن الحسين، وفي تهذيب الشيخ 4: 165 / 468 بسند آخر عن محمد بن غالب عن علي بن الحسن بن فضال. (2) اليقين: 35 مصباح الانوار: 199 نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 37: –

[ 47 ]

أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد، عن محمد بن محمد بن أحمد الثلج قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الله بن داهر قال: حدثني أبي داهر بن يحيى الاحمري المقري، عن الاعمش، عن عباية الاسدي (1)، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال لام سلمة رضي الله عنها: ” إسمعي وأشهدي، هذا علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين (2) ” (3). وبهذا الاسناد عن محمد بن أبي الثلج قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد السلام بن صالح قال: حدثني يحيى بن اليمان قال: حدثني سفيان الثوري، عن أبي الجحاف، عن معاوية بن ثعلبة قال: قيل لابي ذر رضي الله عنه: أوص، قال: قد أوصيت، قيل: إلى من ؟ قال. إلى أمير المؤمنين، قيل: عثمان ؟ قال: لا، ولكن إلى أمير المؤمنين حقا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، إنه لزر (4) الارض، ورباني هذه الامة، لو قد فقدتموه


– 330 / 66. (1) كذا في متن النسخ، وفي هامش ” ش ” و ” م “: الازدي، ولم يعلم كونه تفسيرا أو نسخة بدل، وعلى اي حال كتب في هامش ” ش ” و ” م “: هو عباية بن كليب الازدي وهامش آخر في ” م “: هو الازدي ابدلت السين من الزاي، هذا ولكن لا يبعد كون المراد من عباية الاسدي هو عباية بن ربعي الاسدي، فقد عنونه ابن ابي حاتم في الجرح والتعديل 7: 29 وصرح بروايته عن ابن عباس ورواية الاعمش عنه ونقل عن والده. كان من عتق الشيعة، انضر ميزان الاعتدال 2: 387 أيضا. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: في نسخة: المسلمين. (3) مناقب آل ابي طالب 3: 54، اليقين: 29، 35، ونقله العلامة المجلسي في البحار 37: 330 / 67. (4) زر الارض. أي قوامها، واصله من زر القلب، وهو عظيم صغير يكون قوام القلب به ” النهاية – زرر – 2: 300 “. (5) الرباني الكامل في العلم والعمل. ” مجمع، البحرين – ربب – 2: 65 “، وفي ” م ” وهامش ” ش “: في نسخة. وربي.

[ 48 ]

لانكرتم الارض ومن عليها (1). وحديث بريدة بن الحصيب الالسمي – وهو مشهور معروف بين العلماء، باسانيد يطول شرحها – قال. إن رسول الله صلى الله عليه واله أمرني سابع سبعة، فيهم أبو بكر وعمر وطلحة والزبير، فقال: ” سلموا على علي بامرة المؤمنين ” فسلمنا عليه بذلك، ورسول الله صلى الله عليه وآله حي بين أظهرنا (2). في أمثال هذه الاخبار يطول بها الكتاب. فاما مناقبه الغنية – بشهرتها، وتواتر النقل بها، وإجماع العلماء عليها – عن إيراد أسانيد الاخبار بها، فهي كثيرة يطول بشرحها (3) الكتاب، وفي رسمنا منها طرفا كفاية عن إيراد جميعها في الفرض الذي وضعنا له الكتاب، ان شاء الله. فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وآله جمع خاصة أهله وعشيرته، في ابتداء الدعوة إلى الاسلام، فعرض عليهم الايمان، واستنصرهم على أهل الكفر والعدوان، وضمن لهم على ذلك الحظوة في الدنيا، والشرف


(1) اليقين: 16 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 37: 331 / 68. (2) ورد نحوه في مصباح الانوار: 154، وبشارة المصطفى: 185، واليقين: 44 و 54 و 98، إرشاد القلوب: 325. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: بذكرها.

[ 49 ]

وثواب الجنان، فلم يجبه أحد منهم الا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فنحله بذلك تحقيق الاخوة والوزارة والوصية والوراثة والخلافة، وأوجب له به الجنة. وذلك في حديث الدار، الذي اجمع على صحته نفاذ الآثار، حين جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلا – يومئذ – يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا – فيما ذكره الرواة – وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر، ويعد لهم صاع من اللبن، وقد كان الرجل منهم معروفا باكل الجذعة في مقام (1) واحد، ويشرب الفرق (2) من الشراب في ذلك المقام، وأراد عليه السلام بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم اظهار الآية لهم في شبعهم وريهم مما كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه. ثم أمر بتقديمه لهم، فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملؤوا منه، فلم يبن ما أكلوه منه وشربوه فيه، فبهرهم بذلك، وبين لهم آية نبوته، وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه. ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب: ” يا بني عبد المطلب، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عزوجل: (وانذر عشيرتك الاقربين) (3) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم،


(1) في هامش ” ش، م، ح “. في نسخة: مقعد. (2) الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وفي هامش ” ش ” و ” م ” في نسخة: الزق “، وهو السقاء، انظر ” الصحاح – فرق – 4: 1540 “. (3) الشعراء 26: 214.

[ 50 ]

وتنقاد لكم بهما الامم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الامر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ” فلم يجب أحد منهم. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” فقمت بين يديه من بينهم – وأنا إذ ذاك أصغرهم سنا، واحمشهم (1) ساقا، وأرمضهم (2) عينا – فقلت: أنا – يا رسول الله – أؤازرك على هذا الامر. فقال.: اجلس، ثم اعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا، وقمت فقلت مثل مقالتي الاولى، فقال: اجلس. ثم اعاد على القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك – يا رسول الله على هذا الامر، فقال: اجلس، فانت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي “. فنهض القوم وهم يقولون لابي طالب: يا ابا طالب، ليهنك (3) اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل انبنك أميرا عليك (4). فصل وهذه منقبة جليلة اختص بها أمير المؤمنين عليه السلام ولم يشركه


(1) رجل أحمش الساقين: دقيقهما ” الصحاح – حمش – 3: 1002 “. (2) الرمص: وسخ يجتمع في مجرى الدمع، انظر: الصحاح – رمص – 3: 1042 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: ليهنئك، وكلاهما بمعنى ليسرك. (4) انظر مصادر حديث الدار في تاريخ دمشق – ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام – 1: 97 – 103 والغدير 2: 278 – 289.

[ 51 ]

فيها أحد من المهاجرين الاولين ولا الانصار، ولا احد من أهل الاسلام، وليس لغيره عدل لها من الفضل ولا مقارب على حال، وفي الخبر بها ما يفيد أن به عليه السلام تمكن النبي صلى الله عليه وآله في تبليغ الرسالة، وإظهار الدعوة، والصدع بالاسلام، ولولاه لم تثبت الملة، ولا استقرت الشريعة، ولا ظهرت الدعوة. فهو عليه السلام ناصر الاسلام، ووزير الداعي إليه من قبل الله – عزوجل – وبضمانه لنبي الهدى عليه السلام النصرة تم له في النبوة ما أراد، وفي ذلك من الفضل ما لا توازنه (1) الجبال فضلا، ولا تعادله الفضائل حلما محلا وقدرا. فصل ومن ذلك أن النبي عليه السلام أمر بالهجرة – عند اجتماع الملا من قريش على قتله، فلم يتمكن عليه السلام من مظاهرتهم – بالخروج من (2) مكة، وأراد الاستسرار بذلك وتعمية خبره عنهم، ليتم له الخروج على السلامة منهم، القى خبره إلى أمير المؤمنين عليه السلام واستكتمه إياه، وكلفه الدفاع عنه بالمبيت على فراشه من حيث لا يعلمون أنه هو البائت على الفراش، ويظنون أنه النبي صلى الله عليه وآله بائتا (3) على حاله التي كان يكون عليها فيما سلف من الليالي.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: توازيه. (2) في ” م ” و ” ش “: عن. (3) في هامش ” م “: نائما.

[ 52 ]

فوهب أمير المؤمنين عليه السلام نفسه لله وشراها من الله في طاعته، وبذلها دون نبيه عليه وآله السلام لينجو به من كيد الاعداء، وتتم له بذلك السلامة والبقاء وينتظم له به الفرض في الدعاء إلى الملة لاقامة الدين واظهار الشريعة. فبات عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله مستترا (1) بازاره، وجاءه القوم الذين تمالؤوا (2) على قتله فاحدقوا به وعليهم السلاح، يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا، فيذهت دمه فرغا (3) بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل، ولا يتم لهم الاخذ بثاره منهم، لا شتراك الجماعة في دمه، وقعود كل قبيلة عن قتال رهطه ومباينة أهله. فكان ذلك سبب نجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظ دمه، وبقائه حتى صدع بامر ربه، ولولا أمير المؤمنين عليه السلام وما فعله من ذلك، لما تم لنبي الله صلى الله عليه وآله التبليغ والاداء، ولا استدام له العمر والبقاء، ولظفر به الحسدة والاعداء. فلما أصبح القوم وأرادوا الفتك به عليه السلام ثار إليهم، فتفرقوا عنه حين عرفوه، وانصرفوا عنه وقد ضلت حيلهم (4) في النبي صلى الله عليه وآله، وانتقض ما بنوه من التدبير في قتله، وخابت ظنونهم، وبطلت آمالهم، فكان بذلك انتظام الايمان، وإرغام الشيطان، وخذلان أهل الكفر والعدوان.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: متسترا. (2) تمالؤوا: اجتمعوا. ” الصحاح – ملا – 1: 73 “. (3) ذهب دمه فرغا أي هدرا ” الصحاح – فرغ – 4: 1324،. وفي، هدرا. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: حيلتهم.

[ 53 ]

ولم يشرك أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المنقبة احد من أهل الاسلام، ولا اختص بنظير لها – على حال، ولا مقارب لها في الفضل بصحيح الاعتبار. وفي امير المؤمنين عليه السلام ومبيته على الفراش، أنزل الله تعالى (ومن الناس من يشري نفسة ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ” (1). ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله كان أمين قريش على ودائعهم، فلما فجأه من الكفار ما أحوجه إلى الهرب من مكة بغتة، لم يجد في قومه وأهله في يأتمنه على ما كان مؤتمنا عليه سوى أمير المؤمنين عليه السلام فاستخلفه في رد الودائع إلى أربابها، وقضاء ما عليه من دين لمستحقيه، وجمع بناته ونساء أهله وأزواجه والهجرة بهم إليه، ولم ير أن أحدا يقوم مقامه في ذلك من كافة الناس، فوثق بامانته، وعول على نجدته وشجاعته، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامته على بأسه وقدرته، واطمأن إلى ثقته على أهله وحرمه، وعرف من ورعه وعصمته


(1) البقرة 2: 207. (2) ورد حديث المبيت في تاريخ مدينة دمشق – ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام – 1: 153 – 155، تاريخ بغداد 13: 191، أسد الغابة 4: 19، تاريخ اليعقوبي 2: 39، المستدرك على الصحيحين 3: 4، مسند أحمد 1: 348، التفسير الكبير للفخر الرازي 15 ذخائر العقبى: 87.

[ 54 ]

ما تسكن النفس معه إلى ائتمانه (1) على ذلك. فقام عليه السلام به أحسن القيام، ورد كل وديعة إلى أهلها، وأعطى كل ذي حق حقه، وحفظ بنات نبيه عليه السلام وآله وحرمه، وهاجر بهم ماشيا على قدمه (2)، يحوطهم من الاعداء، ويكلؤهم (3) من الخصماء، ويرفق بهم في المسير حتى أوردهم عليه المدينة، على أتم صيانة وحراسة ورفق ورأفة وحسن تدبير، فانزله النبي صلى الله عليه وآله عند وروده المدينة داره، وأحله قراره، وخلطه بحرمه وأولاده، ولم يميزه من خاصة نفسه، ولا احتشمه في باطن أمره وسره. وهذه منقبة توحد بها عليه السلام من كافة أهل بيته وأصحابه، ولم يشركه فيها أحد من أتباعه وأشياعه، ولم يحصل لغيره من الخلق فضل سواها يعادلها عند السبر، ولا يقاربها على الامتحان، وهذه (4) مضافة إلى ما قدمناه من مناقبه، الباهر فضلها القاهر شرفها قلوب العقلاء (5). فصل ومن ذلك أن الله تعالى خصه بتلافي فارط من خالف نبيه صلى الله


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: امانته. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: قدميه. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: نسخة اخرى: ويكنفهم. (4) في ” م ” وهامش ” ش ” نسخة اخرى: وهي. (5) انظر – عل سبيل المثال لا الحصر – في قضية رد ودائع النبي صلى الله عليه وآله إلى –

[ 55 ]

عليه وآله في أوامره، وإصلاح ما أفسدوه، حتى انتظمت به أسباب الصلاح، واتسق بيمنه وسعادة جده وحسن تدبيره والتوفيق اللازم له أمور المسلمين، وقام به عمود الدين. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه واله أنفذ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيا لهم إلى الاسلام، ولم ينفذه محاربا، فخاف أمره صلى الله عليه وآله ونبذ عهده، وعاند دينه، فقتل القوم وهم على الاسلام، وأخفر ذمتهم وهم أهل الايمان، وعمل في ذلك على حمية الجاهلية وطريقة أهل الكفر والعدوان، فشان فعاله الاسلام، ونفر به عن نبته عليه وآله السلام من كان يدعوه إلى الايمان، وكاد أن يبطل بفعله نظام التدبير في الدين. ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله في تلافي فارطه، وإصلاح ما أفسده، ودفع المعرة عن شرعه بذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام فانفذه لعطف القوم وسل سخائمهم والرفق بهم، في تثبيتهم على الايمان، وأمره أن يدي القتلى، ويرضي بذلك أولياء دمائهم الاحياء. فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك مبلغ الرضا، وزاد على الواجب بما تبرع به عليهم من عطية ما كان بقي في يده من الاموال، وقال لهم: ” قد اديت (1) ديات القتلى، وأعطيتكم بعد ذلك من المال ما تعودون به على مخلفيهم (2) ليرضى الله عن رسوله صلى الله عليه وآله وترضون بفضله عليكم ” وأظهر رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة ما


– اصحابها وقضاء ما كان عليه من دين: طبقات ابن سعد 3: 22، تاريخ مدينه دمشق 1: 154 – 155، أسد الغابة 4: 19. (1) في ” م ” وهامش ” ش “: وديت. (2) في ” ش “: مخلفيكم.

[ 56 ]

اتصل بهم من البراءة من صنيع خالد بهم، فاجتمع براءة رسول الله صلى الله عليه وآله مما جناه خالد، واستعطاف أمير المؤمنين عليه السلام القوم بما صنعه بهم، فتم بذلك الصلاح، وانقطعت به مواد الفساد، ولم يتول ذلك أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام ولا قام به من الجماعة سواه، ولا رضي رسول الله صلى الله عليه واله لتكليفه أحدا ممن عداه. وهذه منقبة يزيد شرفها على كل فضل يدعى لغير أمير المؤمنين عليه السلام – حقا كان ذلك أم باطلا – وهى خاصة لامير المؤمنين عليه السلام لم يشركه فيها أحد منهم، ولا حصل لغيره عدل لها من الاعمال (1). فصل ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لما أراد فتح مكة، سأل الله – جل اسمه – أن يعمي أخباره عل قريش ليدخلها بغتة، وكان عليه وآله السلام قد بنى الامر في مسيره إليها على الاستسرار بذلك، فكتب حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بعزيمة رسول الله صلى الله عليه وآله على فتحها، وأعطى الكتاب امرأة سوداء (2) كانت وردت المدينة تستميح بها


(1) انظر تاريخ اليعقوبي 2: 61، مغازي الواقدي 3: 875، الطبقات الكبرى 2: 147، دلائل النبوة 5: 113 – 118، سيرة ابن هشام 4: 70 – 73، فتح الباري 8: 46 تاريخ الطبري 5: 66 – 67، الكامل في التاريخ 2: 255 – 256. (2) في هامش: ” ش ” و ” م “: كان اسمها سارة.

[ 57 ]

الناس وتستبرهم (1)، وجعل لها جعلا على أن توصله إلى قوم سماهم لها من أهل مكة، وأمرها أن تأخذ على غير الطريق. فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فاستدعى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: ” إن بعض أصحابي قد كتب إلى اهل مكة يخبرهم بخبرنا، وقد كنت سألت الله أن يعفي أخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها وخلها وصر به إلي ” ثم استدعى الزبير بن العوام فقال له. ” امض مع على بن ابي طالب في هذه الوجه ” فمضيا وأخذا على غير الطريق فادركا المرأة، فسبق إليها الزبير فسألها عن الكتاب الذي معها، فانكرته وحلفت أنه لا شئ معها وبكت، فقال الزبير: ما أرى – يا ابا الحسن – معها كتابا، فارجع بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لنخبره ببراءة ساحتها. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” يخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله ان معها كتابا ويامرني باخذه منها، وتقول أنت أنه لا كتاب معها ” ثم اخترط السيف وتقدم إليها فقال: ” أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لاكشفنك، ثم لاضربن عنقك ” فقالت له: إذا كان لا بد من ذلك فاعرض يا ابني أبى طالب بوجهك عني، فاعرض عليه السلام بوجهه عنها فكشفت قناعها، وأخرجت الكتاب من عقيصتها (2). فاخذه أمير المؤمنين عليه السلام وصار به إلى رسول الله صلى الله عليه


(1) في هامش ” ش “: تستبرهم: أي تطلب منهم البر. (2) العقيصة: الضفيرة. ” الصحاح – عقص – 3: 1046 “.

[ 58 ]

واله فامر أن ينادي بالصلاة جامعة، فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلا بهم، ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وآله المنبر وأخذ الكتب بيده وقال: ” أيها الناس، إني كنت سألت الله عزوجل أن يخفي أخبارنا (1) عن قريش وإن رجلا منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الكتاب، وإلا فضحه الوحي ” فلم يقم أحد، فاعاد رسول الله صلى الله عليه وآله مقالته ثانية، وقال. ” ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ” فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف فقال: يا رسول الله أنا صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقا بعد إسلامي، ولا شكا بعد يقيني. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟ ” فقال: يا رسول الله، إن لي أهلا بمكة، وليس لي بها عشيرة، فاشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا، فيكون كتابي هذا كفا لهم عن أهلي، وبدا لي عندهم ولم أفعل ذلك لشك في الدين. فقال عمر بن الخظاب. يا رسول الله مرني بقتله فانه قد نافق. فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” إنه من أهل بدر، ولعل الله تعالى اطلع عليهم فغفر لهم. أخرجوه من المسجد “. قال: فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه، وهو يلتفت (2) إلى النبي صلى الله عليه وآله ليرق عليه (3)، فامر النبي صلى الله عليه


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: نسخة اخرى: آثارنا. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: يتلفت. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: نسخة اخرى: له.

[ 59 ]

واله برده وقال له: ” قد عفوت عنك وعن جرمك، فاستغفر ربك (1) ولا تعد لمثل ما جنيت ” (2). وهذه المنقبة لاحقة بما سلف من مناقبه عليه السلام وفيها أن به عليه السلام تم لرسول الله صلى الله عليه والتدبير في دخول متكه، وكفي مؤونة القوم وما كان يكرهه من معرفتهم بقصده إليهم حتى فجأهم بغتة، ولم يثق في استخراج الكتاب من المرأة إلا بامير المؤمنين عليه السلام ولا استنصح في ذلك سواه، ولا عول على غيره، فكان به عليه السلام كفايته المهم، وبلوغه المراد، وانتظام تدبيره، وصلاح أمر المسلمين، وظهور الدين. ولم يكن في إنفاذ الزبير مع أمير المؤمنين عليه السلام فضل يعتد به، لانه لم يكف مهما، ولا أغنى بمضيه شيئا، وإنما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وآله لانه في عداد بني هاشم من جهة امه صفية بنت عبد المطلب، فاراد عليه السلام أن يتولى العمل – بما استسر به من تدبيره – خاص أهله، وكانت للزبير شجاعة وفيه إقدام، مع النسب الذي بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام فعلم أنه يساعده على ما بعثه له، إذ كان تمام


(1) في هامش ” ش “: نسخة اخرى: فاستغفر الله لذنبك. (2) انظر تاريخ اليعقوبي 2: 58، صحيح البخاري 5: 184، صحيح مسلم 4. 1941 / 2494، مسند أحمد 1: 79، سيرة ابن هشام 4: 40، تاريخ الطبري 3: 48، دلائل النبوة للبيهقي 5: 14، المستدرك على الصحيحين 3: 301.

[ 60 ]

الامر لهما فراجع إليهما بما يخصهما ما يعم بني هاشم من خير أو شر. فكان الزبير تابعا لامير المؤمنين عليه السلام ووقع منه فيما أنفذه (1) فيه ما لم يوافق صواب الرأي، فتداركه أمير المؤمنين عليه السلام. وفيما شرحناه من هذه القصة بيان اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام من المنقبة والفضيلة بما لم يشركه فيه غيره، ولا داناه سواه بفضل يقاربه فضلا عن أن يكافئه، والله المحمود. فصل ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه واله أعطى الراية (في يوم) (2) الفتح سعد بن عبادة، وأمره ان يدخل بها مكة أمامه، فاخذها سعد وجعل يقول: اليوم يوم الملحمه اليوم تستحل (3) الحرمه فقال بعض القوم للنبي صلى الله عليه وآله: أما تسمع ما يقول سعد بن عبادة ؟ والله انا نخاف أن يكون له اليوم صولة في قريش. فقال عليه وآله السلام لامير المؤمنين عليه السلام: ” أدرك – يا علي – سعدا وخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها “. (1) في ” ح ” وهامش ” ش ” و ” م “: انفذ. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: يوم. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: تسبى.


[ 61 ]

فاستدرك رسول اله صلى الله عليه وآله بامير المؤمنين صلوات الله عليه ما كاد يفوت من صواب التدبر، بتهجم سعد وإقدامه على أهل مكة، وعلم أن الانصار لا ترضى أن ياخذ أحد من الناس من سيدها سعد الراية، ويعزله عن ذلك المقام، إلا من كان في مثل حال النبي صلى الله عليه وآله من جلالة القدر، ورفيع المكان، وفرض الطاعة، ومن لا يشين سعدا الانصراف به عن تلك الولاية ولو كان بحضرة النبي صلى الله عليه وآله من يصلح لذلك سوى أمير المؤمنين عليه السلام لعدل بالامر إليه، وكان مذكورا هناك بالصلاح لمثل ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا كانت الاحكام إنما تجب بالافعال الواقعة، وكان ما فعله النبي صلى الله عليه وآله بامير المؤمنن عليه السلام من التعظيم والاجلال، والتاهيل لما أهله له من إصلاح الامور، واستدراك ما كان يفوت بعمل غيره على ما ذكرناه، وجب القضاء في هذه المنقبة بما يبين بها ممن سواه، ويفضل بشرفها على كافة من عداه (1). فصل ومن ذلك ما أجمع عليه أهل السير (2): أن النبي صلى الله عليه وآله


(1) انظر مغازي الواقدي 2: 822، سيرة ابن هشام 4: 49، تاريخ الطبري 3: 56 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 272. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: السيرة.

[ 62 ]

بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليقين يدعوهم إلى الاسلام، وأنفذ معه جماعة من المسلمين فيهم البراء بن عازب – رحمه الله – فاقام خالد على القوم ستة أشهر يدعوهم، فلم يجبه أحد منهم، فساء ذلك رسول الله صلى الله عليه واله فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأمره أن يقفل (1) خالدا ومن معه. وقال له: ” إن أراد أحد ممن مع خالد أن يعقب معك فاتركه “. قال البراء: فكنت فيمن عقب معه، فلما انتهينا إلى أوائل أهل اليمن، بلغ القوم الخبر فتجمعوا له، فصلى بنا علي بن أبي طالب عليه السلام الفجر ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلمت هدان كلها في يوم واحد، (وكتب بذلك أمير المؤمنين عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) فلما قرأ كتابه استبشر وابتهج، وخر ساجدا شكرا لله عزوجل تم رفع رأسه فجلس وقال: ” السلام على همدان السلام على همدان ” وتتابع بعد إسلام همدان أهل اليمن على الاسلام (3). وهذه أيضا منقبة لأمير المؤمنين عليه السلام ليس لاحد من الصحابة مثلها ولا مقاربها، وذلك أنه لما وقف الامر فيما بعث له خالد وخيف الفساد به، لم يوجد من يتلافى ذلك سوى أمير المؤمنين عليه السلام فندب له فقام به أحسن قيام، وجرى على عادة الله عنده في التوفيق لما


(1) القفول: الرجوع من السفر ” الصحاح – قفل – 5: 1803 “. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: (وكتب أمير المؤمنين عليه السلام بذلك كتابا إلى رسول الله). (3) أنظر صحيح البخاري 5: 206، دلائل النبوة 5: 396 تاريخ الطبري 3: 131، الكامل في التاريخ 2: 300، ذخائر العقبى: 109.

[ 63 ]

يلائم إيثار النبي صلى الله عليه وآله وكان بيمنه ورفقه وحسن تدبيره، وخلوص نيته في طاعة الله هداية من اهتدى بهداه (1) من الناس، واجابة من أجاب إلى الاسلام، وعمارة الدين، وقؤة الايمان، وبلوغ النبي صلى الله عليه واله مما آثره (من المراد) (2) وانتظام الامر فيه على ما قرت به عينه، وظهر استبشاره به وسروره بتمامه لكافة أهل الاسلام. وقد ثبت أن الطاعة تتعاظم بتعاظم النفع بها، كما تعظم المعصية بتعاظم الضرر بها، ولذلك صارت الانبياء عليهم السلام أعظم الخلق ثوابا، لتعاظم النفع بدعوتهم على سائر المنافع باعمال من سواهم. فصل ومثل ذلك ما كان في يوم خيبر من انهزام من انهزم، وقد أهل لجليل المقام بحمل الراية، فكان بانهزامه من الفساد مالا خفاء به على الالباء، ثم أعطى صاحبه الراية بعده، فكان من انهزامه مثل الذي سلف من الاول، وخيف في (3) ذلك على الاسلام وشأنه ما كان من الرجلين في الانهزام، فاكبر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وأظهر


(1) في ” م “: بهديه. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: المراد. (3) في ” م ” من.

[ 64 ]

النكير له والمساءة به، ثم قال معلنا: ” لاعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه “. فاعطاها أمير المؤمنين عليه السلام فكان الفتح على يديه (1). ودل فحوى كلامه عليه السلام على خروج الفرارين من الصفة التي أوجبها لامير المؤمنين عليه السلام كما خرجا بالفرار من صفة الكر والثبوت للقتال، وفي تلافي أمير المؤمنين عليه السلام بخيبر ما فرط من غيره، دليل على توحده من الفضل فيه بما لم يشركه فيه من عداه. وفي ذلك يقول حسان بن ثابت الانصاري. وكان عين أرمد العين يبتغي دواء فلما لم يحس مداويا شفاه رسول الله منه بتفلة فبورك مرقيا وبورك راقيا وقال سأعطي الراية اليوم صارما كميا (2) محبا للاله مواليا يحب إلهي والاله يحبه به يفتح الله الحصون الاوابيا (3) فاصفى بها دون البرية كلها عليا وسماه الوزير المواخيا


(1) انظر – على سبيل المثال لا الحصر: الطبقات الكبرى 2: 110، صحيح البخاري 5: 171، صحيح مسلم 3: 1441، مسند أحمد 4: 52، المستدرك على الصحيحين 3: 38، دلائل النبوة 4: 205 – 213، تاريخ ابن عساكر – ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام – 1: 174 – 247، البداية والنهاية 4: 185 – 188، مناقب ابن المغازلي 176 – 189. (2) الكمي: الشجاع. ” الصحاح – كمي – 6: 2477 “. (3) الاوابي. التي تأبى وتمتنع من العدو.

[ 65 ]

ومثل ذلك – ايضا – ما جاء في قصة البراءة (1)، وقد دفعها النبي صلى الله عليه وآله إلى أبي بكر لينبذ بها عهد المشركين، فلما سار غير بعيد نزل جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فقال له: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام وقال له: ” اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ برائة من يده، وامض بها إلى مكة، فانبذ عهد المشركين إليهم، وخير أبا بكر بين أن يسير مع ركابك، أو يرجع إلي “. فركب أمير المؤمنين عليه السلام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله العضباء، وسار حتى لحق أبا بكر، فلما رآه فزغ من لحوقه به، واستقبله وقال: فيم جئت يا ابا الحسن ؟ أسائر معي أنت، أم لغير ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” إن رسول اله صلى الله عليه وآله أمرني أن الحقك فاقبض منك الآيات من براءة، وأنبذ بها عهد المشركين إليهم، وأمرني ان أخبرك بين أن تسير معي، أو ترجع إليه “. فقال: بل ارجع إليه، وعاد إلى النبي صلى الله عليه واله، فلما دخل عليه قال يا رسول الله، إنك أهلتنى لامر طالت الاعناق فيه


” 1 ” و ” م ” و ” ش “: براءة، وما اثبتناه من ” ح “.

[ 66 ]

إلي، فلما توجهت له رددتني عنه، ما لي، أنزل في قرآن ؟. فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” لا، ولكن الامين هبط إلي عن الله جل جلاله بانه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي مني، ولا يؤدي عني إلا علي ” في حديث مشهور (1). فكان نبذ العهد مختصا بمن عقده، أو بمن يقوم مقامه في فرض الطاعة، وجلالة القدر، وعلو الرتبة، وشرف المقام، ومن لا يرتاب بفعاله، ولا يعترض في مقاله، ومن هو كنفس العاقد، وأمره أمره، فإذا حكم بحكم قضى واستقر به، وأين الاعتراض فيه. وكان بنبذ العهد قوة الاسلام، وكمال الدين، وصلاح أمر المسلمين، وتمام فتح مكة، واتساق أحوال الصلاح، فاحب الله تعالى أن يجعل ذلك على يد من ينوه باسمه، ويعلي ذكره، وينبه على فضله، ويدل على علو قدره، ويبينه به ممن سواه، فكان ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. (ولم يكن) (2) لاحد من القوم فضل يقارب الفضل الذي وصفناه، ولا شركه فيه أحد منهم على ما بيناه. وأمثال ما عددناه كثير، إن عملنا على ايراده طال به الكتاب، واتسع به الخطاب، وفيما أثبتناه منه في الغرض الذي قصدناه كفاية لذوي الالباب.


(1) انظر – عل سبيل المثال لا الحصر: تاريخ اليعقوبي 2: 76، سيرة ابن هشام 4: 190، مسند أحمد 1: 3، المستدرك على الصحيحين 3: 51، جامع البيان للطبري 10:. 46، الدر المنثور 3: 209، تاريخ دمشق – ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام – 2. 376 – 390، كنز العمال 2: 417. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: لم يك.

[ 67 ]

فصل فاما الجهاد الذي ثبتت به قواعد الاسلام، واستقرت بثبوتها شرائع الملة والاحكام، فقد تخصص منه أمير المؤمنين عليه السلام بما اشتهر ذكره في الانام، واستفاض الخبر بة بين الخاص والعام، ولم تختلف فيه العلماء، ولا تنازع في صحته الفهماء، ولا شك فيه إلا غفل لم يتامل الاخبار، ولا دفعه متن نظر في الآثار، إلا معاند بهات لا يستحيي من العار. فمن ذلك ما كان منه عليه السلام في غزاة بدر المذكورة في القرآن، وهي أول حرب كان بها الامتحان، وملات رهبتها صدور المعدودين من المسلمين في الشجعان، وراموا التاخر عنها لخوفهم منها وكرامتهم لها، على ما جاء به محكم الذكر في البيان، حيث يقول – جل جلاله – فيما قص به من نبأهم (1) على الشرح والبيان (كما اخرجك ربك من بيتك بالحق وان فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كانما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) (2) في الآي المتصلة بذلك إلى قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا رئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (3) إلى آخر


(1) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: نياتهم. (2) الانفال 8: 5 – 6. (3) الانفال 8: 47.

[ 68 ]

السورة. فان الخبر عن أحوالهم فيها يتلو بعضه بعضا، وإن اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه. وكان من جملة خبر هذه الغزاة، أن المشركين حضروا بدرا مصرين على القتال، مستظهرين فيه بكثرة الاموال، والعدد والعدة والرجال، والمسلمون إذ ذاك نفر قليل عددهم هناك، حضرنه طوائف منهم بغير اختيار، وشهدته على الكره منها له والاضطرار، فتحدتهم قريش بالبراز ودعتهم إلى المصافة والنزال (1)، واقترحت في اللقاء منهم الاكفاء، وتطاولت الانصار لمبارزتهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وآله من ذلك، وقال لهم: ” إن القوم دعوا الاكفاء منهم ” ثم أمر عليا أمير المؤمنين عليه السلام بالبروز إليهم، ودعا حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث – رضي الله عنهما – أن يبرزا معه. فلما اصطفوا لهم لم يثبتهم (2) القوم، لانهم كانوا قد تغفروا (3) فسألوهم: من أنتم، فانتسبوا لهم، فقالوا. أكفاء كرام. ونشبت الحرب بينهم، وبارز الوليد أمير المؤمنين عليه السلام فلم يلبثه (4) حتى قتله، وبارز عتبة حمزة – رضي الله عنه – فقتله حمزة، وبارز شيبة عبيدة – رحمه الله – فاختلفت بينهما ضربتان، قطعت إحداهما فخذ عبيدة، فاستنقذه أمير المؤمنين عليه السلام بضربة بدر بها شيبة فقتله،


(1) في ” م “: والقتال. (2) في ” ح “: يتبينهم. (3) تغفروا: أي لبسوا المغافر، والمغفر: زرد ينسج من الدرع على قدر الراس، يلبس تحت القلنسوة:، الصحاح – غفر – 2: 771 “. (4) في ” ش ” و ” م “: يلبثه.

[ 69 ]

وشركه في ذلك حمزة – رضوان الله عليه – فكان قتل هؤلاء الثلاثة اول وهن لحق المشركين، وذل دخل عليهم، ورهبة اعتراهم بها الرعب من المسلمين، وظفر بذلك أمارات نصر المسلمين. ثم بارز أمير المؤمنين عليه السلام العاص بن سعيد بن العاص، بعد أن أحجم عنه من سواه فلم يلبثه أن قتله. وبرز إليه حنظلة ابن أبي سفيان فقتله، وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد – وكان من شياطين قريش – ولم يزل عليه السلام يقتل واحدا منهم بعد واحد، حتى أتى على شطر المقتولين منهم، وكانوا سبعين قتيلا (1) تولى كافة من حضر بدرا من المؤمنين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين قتل الشطر منهم، وتولى أمير المؤمنين قتل الشطر الآخر وحده، بمعونة الله له وتوفيقه وتاييده ونصره، وكان الفتح له بذلك وعلى يديه، وختم الامر بمناولة النبي صلى الله عليه وآله كفا من الحصى (2)، فرمى بها في وجوههم وقال. ” شاهت الوجوه ” فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهزما، وكفى الله المؤمنين القتال بامير المؤمنين عليه السلام وشركائه في نصرة الدين من خاصة الرسول) (3) – عليه وآله السلام – ومن أيدهم به من الملائكة الكرام عليهم التحية والسلام كما قال الله عزوجل: (وكفى أنه المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) (4).


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: رجلا. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: الحصباء. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: الرسول. (4) الاحزاب 3: 25.

[ 70 ]

فصل وقد أثبت رواة العامة والخاصة معا أسماء الذين تولى أمير المؤمنين عليه السلام قتلهم ببدر من المشركين، على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح، فكان ممن سموه: الوليد بن عتبة – كما قدمناه – وكان شجاعا جريئا فاتكا وقاحا، تهابه الرجال. والعاص بن سعيد، وكان هولا عظيما تهابه الابطال. وهو الذي حاد عنه عمر بن الخطاب، وقصته فيما ذكرناه مشهورة، ونحن نثبتها (1) فيما نورده بعد إن شاء الله (2). وطعيمة بن عدي بن نوفل، وكان من رؤوس أهل الضلال. ونوفل بن خويلد، وكان من أشد المشركين عداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه، وهو الذي قرن أبا بكر بطلحة – قبل الهجرة بمكة – وأوثقهما بحبل وعذبهما يوما إلى الليل حتى سئل في أمرهما (3). ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وآله حضوره بدرا، سال الله عزوجل يكفيه أمره فقال: ” اللهم اكفني قتل بن خويلد “


(1) في هامش ” ش “: نبيها. (2) ياتي في ص 41 و 42. (3) أنظر تفاصيل هذه القضية والردود عليها، في الصحيح من سيرة النبي الاعظم 2: 54 – 57، للسيد جعفر مرتضى العاملي.

[ 71 ]

فقتله أمير المؤمنين عليه السلام. وزمعة بن الاسود. والحارث بن زمعة. والنضر بن الحارث بن عبد الدار. وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم، عم طلحة بن عبيد الله. وعثمان، ومالك ابنا عبيد الله، أخوا طلحة بن عبيد الله. ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة. وقيس بن الفاكه بن المغيرة. وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة. وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة. وحنظلة بن أبي شفيان. وعمرو بن مخزوم. وأبو المنذر بن أبي رفاعة. ومنبه بن الحجاج السهمي. والعاص (1) بن منبه. وعلقمة بن كلدة.


(1) في ” م ” و ” ش “: العاصي وما في المتن من نسخة ” ح ” وهو الصحيح كما ورد في السيرة النبوية لابن هشام 2: 371 والمنازي للواقدي 1: 152، والكامل لابن الاثير 2: 74.

[ 72 ]

وأبو العاص بن قيس بن عدي. ومعاوبة بن المغيرة بن أبي العاص. ولوذان بن ربيعة. و عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة. ومسعود بن آمنة بن المغيرة. وحاجب بن السائب بن عويمر. وأوس بن المغيرة بن لوذان. وزيد بن مليص. وعاصم بن ابي عوف. وسعيد بن وهب، حليف بنى عامر. ومعاوية بن عامر بن عبد القيس و عبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد. والسائب بن مالك. وأبو الحكم بن الاخنس. وهشام بن أبي أمية بن المغيرة. فذلك خمسة وثلاثون رجلا (1)، سوى من اختلف فيه، أو شرك أمير المؤمنين عليه السلام فيه غيره، وهم أكثر من شطر المقتولين


(1) في اسماء بعض المقتولين خلاف في كتب السيرة كما في قيس بن الفاكه ففيها أبو قيس.

[ 73 ]

ببدر، على ما قدمناه. فصل فمن مختصر الاخبار التي جاءت بشرح ما أثبتناه، ما رواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارث بن مضرب قال:، سمعت علي بن ابي طالب عليه السلام يقول: ” لقد حضرنا بدرا وما فينا فارس غير المقداد بن الاسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام، غير رسول الله صل الله عليه واله فانه كان منتصبا في أصل شجرة يصلي ويدعو حتى الصباح ” (1). وروى علي بن هاشم، عن محمد بن عبيد الله بن ابى رافع، عن أبيه، عن جده ابي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله – قال: لما اصبح الناس يوم بدر، اصطفت قريش امامها عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنة الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد، أخرج إلينا اكفاءنا من قريش. فبدر (2) إليهم ثلاث ة من شبان الانصار فقال لهم عتبة: من أنتم ؟ فانتسبوا له، فقال لهم: لا حاجة بنا إلى مبارزتكم، إنما طلبنا بني عمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصار: ” ارجعوا إلى


(1) تاريخ الطبري 2: 426، مصباح الانوار: 304، ارشاد القلوب: 239، وورد باختلاف يسير في مسند احمد 1: 125، ودلائل النبوة 3: 49، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 19: 279 / 17. (2) في هامش ” ش، و ” م “: فخرج.

[ 74 ]

مواقفكم ” ثم قال: ” قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليطفؤوا نور الله ” فقاموا فصفوا للقوم، وكان عليهم البيض فلم يعرفوا، فقال لهم عتبة: تكلموا، فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم. فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، فقال عتبة: كفو كريم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وقال عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب. فقال عتبة لابنه الوليد: قم يا وليد، فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام – وكانا إذ ذاك أصغري الجماعة سنا – فاختلفا ضربتين، أخطات ضربة الوليد أمير المؤمنين عليه السلام واتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين عليه السلام فابانتها. فروي أنه كان يذكر بدرا وقتله الوليد، فقال في حديثه: ” كاني أنظر إلى وميض خاتمه في شماله، ثم ضربته ضربة أخرى فصرعته وسلبته، فرأيت به ردعا (1) من خلوق (2)، فعلمت أنه قريب عهد بعرس “. ثم بارز عتبة حمزة رضي الله عنه فقتله حمزة، ومشى عبيدة – وكان أسن القوم – إلى شيبة، فاختلفا ضربتين، فاصاب ذباب سيف (3) شيبة عضلة ساق عبيدة فقطعتها، واستنقذه أمير المؤمنين عليه السلام وحمزة منه وقتلا شيبة، وحمل عبيدة من مكانه فمات بالصفراء (،).


(1) الردع: اللطخ والاثر من الطيب. ” الصحاح – ردع – 3: 1218 “. (2) الخلوق: نوع من الطيب. ” الصحاح – خلق – 4: 1472 “. (3) ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به. ” الصحاح – ذبب – 1: 126 “. (4) الصفراء: واد بين مكة والمدينة. ” معجم البلدان 3: 412 “.

[ 75 ]

وفي قتل عتبة وشيبة والوليد تقول هند بنت عتبة: ([ أ ]، يا عين) (1) جودي بدمع سرب على خيرخندف لم ينقلب تداعى له رهطه غدوة بنو هاشم وبنو المطلب يذيقونة حر (2) أسيافهم يجرونه (3) بعدما قد شجب (4 و 5) وروى الحسين بن حميد قال. حدثنا أبو غسان قال: حدثنا أبو إسماعيل عمير بن بكار، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” قال أمير المؤمنين عليه السلام: لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم، وقد قتلت الوليد بن عتبة وقتل حمزة عتبة وشركته في قتل شيبة، إذ أقبل إلي حنظلة بن أبي سفيان، فلما دنا مني ضربته ضربة بالسيف فسالت عيناه، فلزم الارض قتيلا ” (6). وروى أبو بكر الهذلي، عن الزهري، عن صالح بن كيسان قال: مر عثمان بن عفان بسعيد بن العاص فقال: إنطلق بنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نتحدث عنده، فانطلقا، قال: فاما عثمان فصار إلى مجلسه الذي يشتهيه (7)، وأما أنا فملت في ناحية القوم، فنظر إلي عمر


(1) في ” ش ” و ” م “: يا عين، وما أثبتناه من البحار، وفي سيرة ابن هشام: أعيني جودا. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: حر. وما اثبتناه من هامشها. (3) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: يعرفونه. (4) شجب: هلك. ” الصحاح – شجب – 1: 151 “. (5) انظر سيرة ابن هشام 3: 240 ونقله المجلسي في البحار 19: 280. (6) إعلام الورى: 86، وذيله في إرشاد القلوب: 240، ونقله العلامة المجلسي في البحار 19: 280. (7) في ” ش ” و ” م “: يشبهه، وما اثبتناه من ” ح “.

[ 76 ]

وقال: ما لي أراك كأن في نفسك علي شيئا ؟ أتظن أني قتلت أباك ؟ والله لوددت أني كنت قاتله، ولو قتلته لم أعتذر من قتل كافر، لكني مررت به يوم بدر فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ، فلما رأيت ذلك هبته ورغت عنه، فقال: إلى أين يا ابن الخطاب ؟ وصمد له علي فتناوله، فوالله مارمت مكاني حتى قتله. قال: وكان علي عليه السلام حاضرا في المجلس فقال: ” اللهم غفرا، ذهب الشرك بما فيه، ومحا الاسلام ما تقدم، فما لك تهيج. الناس ! ؟ ” فكف عمر، قال سعيد. أما إنه ما كان يسرني ان يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب، وأنشا القوم في حديث اخر (1). وروى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير: أن عليا عليه السلام أقبل يوم بدر نحو طعيمة بن عدي بن نوفل فشجره بالرمح، وقال له. ” والله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبدا ” (2). وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: لما عرف رسول الله صلى الله عليه وآله حضور نوفل بن خويلد بدرا قال: ” اللهم اكفني نوفلا ” فلما انكشفت قريش رآه علي بن أبي طالب عليه السلام وقد تحير لا يدري ما يصنع، فصمد له ثم ضربه بالسيف فنشب في حجفته (3) فانتزعه منها، ثم ضرب به ساقه – وكانت درعه مشمرة –


(1) مغازي الواقدي 1: 92، وشرح النهج لابن ابي الحديد 14: 144 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 19: 280. (2) شرح النهج الحديدي 14: 145، ونقله العلامة المجلسي في البحار 19: 281. (3) الحجفة. يقال للترس إذا كان من جلود ليس فيها خشب ولا عقب. ” الصحاح – حجف – 4: 1341.

[ 77 ]

فقطعها، ثم أجهز عليه فقتله. فلما عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله سمعه يقول: ” من له علم بنوفل ؟ فقال له: أنا قتلته يا رسول الله ” فكبر النبي صلى الله عليه وآله وقال: ” الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه ” (1). فصل وفيما صنعه امير المؤمنين عليه السلام ببدر، قال أسيد بن (أبي إياس) (2) يحرض مشركي قريش عليه: في كل مجمع غاية أخزاكم جذع أبر على المذاكي القرح (3) لله دركم ألما تنصفوا (4) قد ينصف (5) الحر الكريم ويستحي هذا ابن فاطمة الذي أفناكم (ذبحا وقتلة قصعة (6) لم تذبح) (7)


(1) ارشاد القلوب: 240، ونقله المجلسي في البحار 19: 281، ونحوه في مغازي الواقدي 1: 91، ودلائل النبوة 3: 94، وشرح نهج البلاغة 14: 144. (2) في ” م “. أبي اناس. (3) الغاية. الراية.. ” الصحاح – غيا – 6: 2451 “. الجذع: يقال لولد الحافر في السنة الثالثة. الصحاح – جذع – 3: 1194 “. وابر: غلب. القاموس – برر -: 384 “. والمذاكي: واحدها مذك، وهو من الخيل ابن سنين أو سبع. ” الصحاح – ذكى – 6: 2346 “. والقرح: واحد قارح، وهو من الخيل ابن خمس ” الصحاح قرح – 1: 395 “. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: تنكروا. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: ينكر. (6) القعص الموت السريع ” الصحاح – قعص – 3: 1053 “. (7) في هامش ” ح “: ذبحا ويمشي سالما لم يذبح.

[ 78 ]

أعطوه خرجا واتقوا بضريبة فعل الذليل وبيعة لم تربح أين الكهول ؟ وأين كل دعامة ؟ في المعضلات وأين زين الابطح ؟ أفناهم قعصا وضربا يفتري (1) بالسيف يعمل حده لم يصفح (2 و 3) فصل في ذكر غزاة احد ثم تلت بدرا غزاة احد، فكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله بيد أمير المؤمنين عليه السلام فيها، كما كانت بيده يوم بدر، فصار اللواء إليه يومئذ ففاز بالراية واللواء جميعا، وكان الفتح له في هذه الغزاة كما كان له ببدر – سواء – واختص بحسن البلاء فيها والصبر، وثبوت القدم عندما زلت من غيره الاقدام، وكان له من الغناء عن رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن لسواه من أهل الاسلام، وقتل الله بسيفه رؤوس أهل الشرك والضلال، وفرج الله به الكرب عن نبيه عليه السلام، وخطب بفضله في ذلك المقام جبرئيل عليه السلام في ملائكة الارض والسماء، وأبان نبي الهدى عليه وآله السلام من اختصاصه به ما كان مستورا عن عامة الناس. فمن ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال: حدثني الحسن بن موسى


(1) يفتري: يقطع. ” الصحاح – فرا – 6: 2454 “. (2) الصفح: الضرب بعرض السيف لا بحده. ” انظر الصحاح – صفح – 1: 383 ” (3) الفصول المختارة: 236، مناقب آل أبي طالب 3: 121، أسد الغابة 4: 20، ونقله العلامة المجلسي في البحار 19: 282 / 19.

[ 79 ]

ابن رباح (1) – مولى الانصار – قال: حدثني أبو البحتري القريشي قال: كانت راية قريش ولواؤها جميعا بيد قصي بن كلاب، ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب، حتى بعث الله رسول صلى الله عليه واله فصارت راية قريش وغير ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله فاقرها في بني هاشم، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه واله علي ابن أبي طالب عليهما السلام في غزاة ودان (2) وهي أول غزاة حمل (3) فيها راية في الاسلام مع النبي صلى الله عليه وآله ثم لم تزل معه في المشاهد، ببدر وهي البطشة الكبرى، وفي يوم احد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار، فاعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل، فاخذه رسول الله صلى الله عليه وآله فدفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء فهما إلى اليوم في بني هاشم (4). وقد روى المفضل بن عبد الله، عن سماك، عن عكرمة، عن عبد الله بن العباس أنه قال. لعلي بن أبي طالب عليه السلام أربع ما هن لاحد: هو أول عربي وعجمي صلى مع النبي صلى الله عليه وآله. وهو صاحب لوائه في كل زحف. وهو الذي ثبت معه يوم المهراس (5)


(1) في ” ش ” و ” ح “: رياح وما اثبتناه من ” م “. (2) ودان: موضع بين مكة والمدينة. سميت الغزوة به. ” معجم البلدان 5: 365 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: حملت. (4) مناقب ابن شهر آشوب 3: 299، كفاية الطالب: 335، اعلام الورى: 193، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 80. (5) المهراس: ماء بجبل أحد. ” معجم البلدان 5: 232 “.

[ 80 ]

– يعني يوم أحد – وفر الناس. وهو الذي أدخله قبره (1). وروى زيد بن وهب الجهني قال: حدثنا أحمد بن عمار قال حدثنا: الحماني قال: حدثنا شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، قال: وجدنا من عبد الله بن مسعود – يوما – طيب نفس فقلنا له: لو حدثتنا عن يوم أحد، وكيف كان ؟. فقال: أجل – ثم ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب – فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أخرجوا إليهم على اسم الله ” فخرجنا فصففنا لهم صفا طويلا، وأقام على الشعب خمسين رجلا من الانصار، وامر عليهم رجلا منهم، وقال: ” لا تبرحوا عن مكانكم هذا وان قتلنا عن آخرنا، فانما نؤتى من موضعكم هذا ” قال: وأقام أبو سفيان بن حرب بإزائهم خالد بن الوليد، وكانت الالوية من قريش مع بني عبد الدار، وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة، وكان يدعى كبش الكتيبة. قال: ودفع رسول الله صلى الله عليه واله لواء المهاجرين إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام وجاء حتى قام تحت لواء الانصار. قال: فجاء أبو سفيان إلى أصحاب اللواء فقال: يا أصحاب الالوية، إنكم قد تعلمون أنما يؤتى القوم من قبل ألويتهم، وإنما اتيتم


(1) المستدرك على الصحيحين 3: 111، الاستيعاب 3: 27، شرح نهج البلاغة 4: 16 كفاية الطالب: 336، وذكره الصدوق في الخصال 1: 210 / 33 بأختلاف يسير، ونقله المجلسي في البحار 20: 81.

[ 81 ]

يوم بدر من قبل ألويتكم، فان كنتم تزون أنكم قد ضعفتم عنها فادفعوها إلينا نكفكموها. قال: فغضب طلحة بن ابي طلحة وقال: ألنا تقول هذا ؟ والله لاوردنكم بها اليوم حياض الموت. قال: وكان طلحة يسمى كبش الكتيبة. قال: فتقدم وتقدم علي بن أبى طالب عليه السلام فقال علي: ” من أنت ؟ ” قال: أنا طلحة بن أبي طلحة، أنا كبش الكتيبة فمن أنت ؟ قال: ” أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ” ثم تقاربا فاختلفت بينهما ضربتان، فضربه علي بن ابي طالب عليه السلام ضربة على مقدم راسه، فبدرت عيناه وصاح صيحة لم نسمع مثلها قط وسقط اللواء من يده، فاخذه أخ له يقال مصعب، فرماه عاصم بن ثابت فقتله، ثم أخذ اللواء أخ له يقال له عثمان، فرماه عاصم – أيضا – فقتله، فاخذه عبد لهم يقال له صواب – وكان من أشد الناس – فضرب علي بن أبي طالب عليه السلام يده فقطعها، فأخذ اللواء بيده اليسرى، (فضربه) (1) على يده فقطعها، فاخذ اللواء على صدره وجمع يديه وهما مقطوعتان عليه، فضربه علي عليه السلام على أم رأسه فسقط صريعا وانهزم القوم، وأكب المسلمرن على الغنائم. ولما رأى اصحاب الشعب الناس يغنمون (2) قالوا: يذهب هؤلاء بالغنائم ونبقى نحن ؟ ! فقالوا لعبدالله بن عمرو بن حزم، الذي كان رئيسا


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: فضرب. (2) في ” م ” وهامش ” ش “. يغتنمون.

[ 82 ]

عليهم: نريد أن نغنم كما غنم الناس، فقال. ان رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني أن لا أبرح من موضعي هذا، فقالوا له. انه أمرك بهذا وهو لا يدري أن الامر يبلغ إلى ما ترى، ومالوا إلى الغنائم وتركوه، ولم يبرح هو من موضعه، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله. وجاء من ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله يريده، فنظر إلى النبي في حف من أصحابه، فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون، فشانكم به، فحملوا عليه حملة رجل واحد ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ورميا بالنبل ورضخا بالحجارة، وجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يقاتلون عنه حتى قتل منهم سبعون رجلا، وثبت أمير المؤمنين عليه السلام وأبو دجانة الانصاري وسهل بن حنيف للقوم يدفعون عن النبي صلى الله عليه واله وكثر عليهم المشركون، ففتح رسول الله صلى الله عليه وآله عينيه فنظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام – وقد كان أغمي عليه مما ناله – فقال: ” يا علي، ما فعل الناس ؟ قال: نقضوا العهد وولوا الدبر، فقال له: فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي ” فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السلام فكشفهم، ثم عاد إليه – وقد حملوا عليه من ناحية أخرى – فكر – عليهم فكشفهم، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه، بيد كل واحد منهما سيفة ليذب عنه. وثاب إليه من اصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلا منهم طلحة بن عبيد الله وعاصم بن ثابت. وصعد الباقون الجبل، وصاح صائح بالمدينة: قتل رسول الله، فانخلعت القلوب لذلك، وتحير المنهزمون فاخذوا يمينا وشمالا.


[ 83 ]

وكانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلا على أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله أو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أو حمزة بن عبد المطلب عليهما السلام فقال لها: أما محمد فلا حيلة لي فيه، لان أصحابه (يطيفون به)، وأما علي فانه إذا قاتل كان أحذر من الذئب، وأما حمزة فاني أطمع فيه، لانه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة – يومئذ – قد أعلم بريشة نعامة في صدره، فكمن له وحشي في أصل شجرة، فرآه حمزة فبدر إليه بالسيف فضربه ضربة أخطات رأسه، قال وحشي: وهززت حربي حتى إذا تمكنت منه رميته، فاصبته في أربيته (1) فانفذته، وتركتة حتى إذا برد صرت إليه فاخذت حربتي، وشغل عني وعنه المسلمون بهزيمتهم. وجاءت هند فأمرت بشق بطن حمزة وقطع كبده والتمثيل به، فجذعوا أنفه وأذنيه ومثلوا به، ورسول الله صلى عليه وآله مشغول عنه، لا يعلم بما انتهى إليه الامر. قال الراوي للحديث – وهو زيد بن وهب – قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف ؟ ! – قال: انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده وثاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله نفر، وكان أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل


(1) في هامش ” ش “: ثنته وكلاهما معنى واحد، وهي ما بين السرة والعانة. ” الصحاح. ثنن – 5: 209

[ 84 ]

ابن حنيف ولحقهم طلحة بن عبيد الله. فقلت له: فاين كان أبو بكر وعمر ؟ ! قال: كانا ممن تنحى. قال، قلت. فاين كان عثمان ؟ ! قال: جاء بعد ثلاثة من الوقعة، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ” لقد ذهبت فيها عريضة ” (1). قال، فقلت له: فاين كنت أنت ؟. قال: كنت فيمن تنحى. قال فقلت له: فمن حدثك بهذا ؟. قال: عاصم وسهل بن حنيف. قال، قلت له. إن ثبوت علي عليه السلام في ذلك المقام لعجب. فقال. إن تعجبت من ذلك، لقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم – وهو يعرج إلى السماء -: لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل ؟. فقال. سمع الناس صائحا يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي


(1) كناية عن هزيمته التي ابعد فيها – زمانا ومكانا – عن محل الواقعة.

[ 85 ]

صلى الله عليه واله عنه فقال: ” ذاك جبرئيل ” (1). وفي حديث عمران بن حصين قال: لما تفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم أحد، جاء علي متقلدا سيفه حتى قام بين يديه، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه إليه فقال له. ” ما لك لم تفر مع الناس ؟ فقال: يا رسول الله ” أأرجع كافرا بعد إسلامي ” فاشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار له إلى قوم آخرين فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال: يا رسول الله، لقد عجبت الملائكة (وعجبنا معهم) (2) من حسن مواساة علي لك بنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” وما يمنعه من هذا وهو مني وأنا منه ” فقال جبرئيل عليه السلام: وأنا منكما (3). وروى الحكم بن ظهير (4)، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس رحمة الله عليه: ان طلحة بن ابي طلحة خرج يومئذ فوقف بين


(1) نقلت فقرات من الواقعة في مصباح الانوار: 314، اعلام الورى: 193، ارشاد القلوب: 241 ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 81 – 85. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: عجبنا معها. (3) ذكره بسند آخر الطبراني في تاريخه 2: 514، وابن شهرآشوب في المناقب 3: 124، وقطع منه في مجمع الزوائد 6: 114 وشرح النهج 13: 261، 14 / 250، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 85. (4) ضبط كلمة ظهير في ” ش ” و ” م ” مصغرا (بضم الظاء) ولكن في هامشهما: ظهير مكبرا بفتح الظاء). وهامش آخر في ” ش “: كان الاسم مصغرا [ في ] نسخة الشيخ [ رضي ] الله عنه، وفي هامش اخر في ” ش ” و ” م “: والمعروف عند اصحاب الحديث مصغرا. وضبط الكلمة بالتصغير في تقريب التهذيب 1: 191.

[ 86 ]

الصفين، فنادى: يا اصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فايكم يبرز الي فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ” والله لا أفارقك اليوم حتى اعجلك بسيفي إلى النار ” فاختلفا ضربتين، فضربه علي بن أبي طالب على رجليه فقطعهما، وسقط فانكشف عنه، فقال: أنشدك الله – يابن عم – والرحم. فانصرف عنه إلى موقفه، فقال له المسلمون: (ألا أجزت) (1) عليه ؟ فقال: ” ناشدني الله والرحم، ووالله لا عاش بعدها أبدا ” فمات طلحة في مكانه، وبشر النبي صلى الله عليه وآله بذلك فسر به وقال: ” هذا كبش الكتيبة ” (2). وقد روى محمد بن مروان، عن عمارة، عن عكرمة قال. سمعت عليا عليه السلام يقول: ” لما انهزم الناس يوم احد عن رسول الله صلى الله عليه آله لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر، وما رأيته في القتلى، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء، فكسرت جفن سيفي، وقلت في نفسي لاقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فافرجوا فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله قد وقع على الارض مغشيا عليه، فقمت على رأسه، فنظر إلي وقال: ما صنع الناس يا علي ؟ فقلت: كفروا – يا رسول الله – وولوا الدبر


(1) في ” ش ” و ” م “: اجزت، وهي لغة في اجهزت، فكلاهما بمعنى واحد، وما اثبتنا. من هامشهما. (2) ورد في الفصول المهمة: 57، وباختلاف يسير في تاريخ الطبري 2: 509، تفسير القمي 1: 112، مناقب آل أبي طالب 3: 123، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 86.

[ 87 ]

(من العدو) (1) وأسلموك. فنظر النبي صلى الله عليه وآله إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يمينا وشمالا حتى ولوا الادبار. فقال لي النبي صلى الله عليه وآلة: أما تسمع يا علي مديحك في السماء، إن ملكا يقال له رضوان ينادي. لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فبكيت سرورا، وحمدت الله سبحانه على نعمته ” (2). وقد روى الحسن بن عرفة، عن عمارة بن محمد، عن سعد بن طريف، عن ابي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، عن آبائه، قال: ” نادى ملك من السماء يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ” (3). وروى مثل ذلك إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن عمرو بن ثابت، عن محمد بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده قال: مازلنا نسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يقولون: نادى في يوم أحد مناد من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي (4).


(1) في هامش ” ش ” و ” م “. من العدد. (2) إعلام الورى: 194، ارشاد القلوب: 242، وقطع منه في مناقب ال أبي طالب 2: 124، أسد الغابة 4: 21، احقاق الحق 18: 83 عن تاريخ الخميس، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 86. (3) رواه الصدوق في أماليه: 167 / ذ ح 10، ومعاني الاخبار: 119 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 20: 86. (4) تاريخ الطبري 2: 514، والاغاني لابي الفرج الاصفهاني 15: 192، ومناقب ابن المغازلي: –

[ 88 ]

وروى سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: لو رايت مقام علي يوم أحد، لوجدته قائما على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وآله يذب عنه بالسيف، وقد ود غيره الادبار (1). وروى الحسن بن محبوب قال: حدثنا جميل بن صالح، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام قال. ” كان أصحاب اللواء يوم أحد تسعة، قتلهم علي عن آخرهم، وانهزم القوم، وطارت مخزوم منذ فضحها علي بن أبي طالب يومئذ. قال: وبارز علي الحكم بن الاخنس، فضربه فقطع رجله من نصف الفخذ فهلك منها ” (2). ولما جال المسلمون تلك الجولة، أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة – وهو دارع – وهو يقول يوم بيوم بدر، فعرض له رجل من المسلمين فقتله امية، وصمد له علي بن أبي طالب فضربه بالسيف على هامته فنشب في بيضة مغفره، وضربه امية بسيفه فاتقاها أمير المؤمنين بدرقته فنشب فيها، ونزع علي عليه السلام سيفه من مغفره، وخلص أمية سيفه من درقته أيضا ثم تناوشا، فقال علي عليه السلام: ” فنظرت إلى فتق تحت إبطه، فضربته بالسيف فيه فقتلته، وانصرفت عنه ” (3).


– 197 / 234، شرح النهج الحديدي 14: 251 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 86. (1) نقله العلامة المجلسي في البحار 20: 87. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 20: 87، وذكر ذيله الواقدي في مغازيه 1: 283. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 20: 87.

[ 89 ]

ولما انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وآله في يوم احد، وثبت أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: ” ما لك لا تذهب مع القوم ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أذهب وأدعك يا رسول الله، والله لا برحت حتى أقتل، أو ينجز الله لك ما وعدك من النصر. فقال له النبي صلى الله عليه وآله ” أبشر يا علي فإن الله منجز وعده، ولن ينالوا منا مثلها أبدا “. ثم نظر إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال له: ” لو حملت على هذه يا علي ” فحمل أمير المؤمنين عليه السلام، فقتل منها هشام بن أمية المخزومي، وانهزم القوم. ثم أقبلت كتيبة اخرى، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (احمل على هذه ” فحمل عليها فقتل منها عمرو بن عبد الله الجمحي، وانهزمت أيضا. ثم أقبلت كتيبة أخرى، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” احمل على هذه ” فحمل عليها فقتل منها بشر بن مالك العامري، وانهزمت الكتيبة، فلم يعد بعدها أحد منهم. وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وانصرف المشركون إلى مكة، وانمرف النبي صلى الله عليه واله إلى المدينة، فاستقبلته فاطمة عليها السلام ومعها إناء فيه ماء فغسل به وجهه، ولحقه أمير المؤمنين عليه السلام وقد خضب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار فناوله فاطمة عليها السلام وقال لها: ” خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم “. وأنشا يقول:


[ 90 ]

” أفاطم هاك السيف غير ذميم فلست برعديد ولا بمليم (1) لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد وطاعة رب بالعباد عليم (2) أميطي دماء القوم عنه فإنه سقى آل عبد الدار كاس حميم ” وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” خذيه يا فاطمة، فقد أدى بعلك ما عليه، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش ” (3). فصل وقد ذكر أهل السير (4) قتلى أحد من المشركين، فكان جمهورهم قتلى أمير المؤمنين عليه السلام. فروى عبد الملك بن هشام قال: حدثنا زياد بن عبد الله (5)، عن


(1) الرعديد. الجبان. (الصحاح – رعد – 2: 475). وفي هامش ” م ” و ” ح “: بلئيم. (2) في هامش ” ش “: رحيم. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 20: 87. انظر قطعا منه في تاريخ الطبري 2: 514 و 533، مناقب ابن شهرآشوب 3: 124، اعلام الورى: 194. (4) في ” ش “: السيرة. (5) في ” ش “: زياد بن عبيد الله، وما اثبتناه من ” م ” و ” ح “: هو الصواب، وهو زياد بن عبد الله ابن الطفيل، أبو محمد البكائي الكرخي، سمع المغازي من محمد بن اسحاق مات سنة 133 أو 132. أنظر ترجمته في: سؤالات ابن الجنيد: 405 / 557، الجرح والتعديل 3: 537، تاريخ بغداد 8: 476، تهذيب الكمال 9: 485 وهامشه، وزياد بن عبد الله هو الواسطة بين ابن هشام وابن اسحاق كما صرح به في كتب الرجال.

[ 91 ]

محمد بن إسحاق قال: كان صاحب لواء قريش يوم أحد طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة، وقتل عبد الله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وقتل أبا الحكم بن الاخنس بن شريق الثقفي، وقتل الوليد ابن أبي حذيفة بن المغيرة، وقتل أخاه أمية بن ابي حذيفة بن المغيرة، وقتل ارطاة بن شرحبيل، وقتل هشام بن أمية، وعمرو بن عبد الله الجمحي، وبشر بن مالك، وقتل صوابا مولى بني عبد الدار، فكان الفتح له، ورجوع الناس من هزيمتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله بمقامه يذب عنه دونهم. وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم، لهزيمتهم – يومئذ – سواه ومن ثبت معه من رجال الانصار، وكانوا ثمانية نفر وقيل: أربعة أو خمسة. وفي قتله عليه السلام من قتل يوم أحد، وغنائه في الحرب، وحسن بلائه، يقول الحجاج بن علاط السلم: لله أي مذبب عن حزبه (1) أعني ابن فاطمة (المعم المخولا) (2) جادت يداك له بعاجل طعنة تركت طليحة للجبين مجدلا وشددت شدة باسل فكشفتهم بالسفح (3) إذ يهوون أسفل أسفلا (4)


(1) في هامش ” م “: حرمة. (2) المعم المخول: الكثير الاعمال والاخوال والكريمهم.، الصحاح – خول – 5: 1992 “.، (3) في ” م ” وهامش ” ش ” و، ح “. بالسيف. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: أخول أخولا. والمعنى. يقال ذهب القوم. أخول أخول، إذا تفرقوا شتى. ” الصحاح – خول – 4: 691 “.

[ 92 ]

وعللت سيفك بالدماء ولم تكن لترده حران حتى ينهلا (1) (2) فصل ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بني النضير، عمل على حصارهم، فضرب قبته في أقصى بني حطمة (3) من البطحاء. فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فاصاب القبة، فامر النبي صلى الله عليه واله أن تحول قبته إلى السفح (4)، وأحاط به المهاجرون والانصار. فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال الناس: يا رسول الله، لا نرى عليا ؟ فقال عليه واله السلام: ” أراه في بعض ما يصلح شأنكم ” فلم يلبث (5) ان جاء براس اليهودي الذي رمى النبي صلى الله عليه وآله، وكان يقال له عزورا (6)، فطرحه بين يدي النبي عليه واله السلام.


(1) عللت، ينهلا، قال الاصمعي: إذا وردت الابل الماء فالسقية الاولى النهل والثانية العلل. ” لسان العرب – علل – 11: 468 “. (2) كشف الغمة 1: 196، وذكر ذيله ابن هشام في السيرة النبوية 3: 159، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 89. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: حطمة من الانصار بنو عبد الله بن مالك بن اوس. (4) في هامش ” ش ” و ” م ” بعده: فحولت قبته إلى الفسيح. (5) في هامش ” ش ” و ” م “. ينشب. (6) في هامش ” ش ” و ” م “: عرزوا.

[ 93 ]

فقال له النبي صلى الله عليه واله: ” كيف صنعت ؟ ” فقال: ” إني رأيت هذا الخبيث جريئا شجاعا، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام (1)، يطلب منا غرة، فاقبل مصلتا سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأفلت أصحابه، ولم يبرحوا قريبا (2)، فابعث معي نفرا فإني أرجو أن أظفر بهم “. فبعث رسول الله صلى عليه وآله معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، فأدركوهم قبل أن يلجوا (3) الحصن، فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى النبي صلى الله عليه وآله فأمر أن تطرح في بعض ابار بني حطمة. وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير. وفي تلك الليلة قتل كعب بن الاشرف، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وآله أموال بني النضير، فكانت أول صافية قسمها رسول الله صلى الله عليه وآله بين المهاجرين الاولين. وأمر عليا عليه السلام فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة، فكان في يده أيام حياته، ثم في يد أمير المؤمنين عليه السلام بعده، وهو في ولد فاطمة حتى اليوم. وفيما كان من أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الغزاة، وقتله


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: الليل. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: قليلا. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: يلحقوا

[ 94 ]

اليهودي، ومجيئه إلى النبي صلى الله عليه واله برؤوس التسعة النفر، يقول حسان بن ثابت: لله أي كريهة (1) أبليتها ببني قريظة والنفوس تطلع أردى رئيسهم وآب بتسعة طورا يشلهم (2) وطورا يدفع وكانت غزاة الاحزاب بعد بني النضير. وذلك أن جماعة من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيى بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة بن قيس الوالبي، وأبو عمارة الوالب (3) – في نفر من بني والبة – خرجوا حتى قدموا مكة، فصاروا إلى أبي سفيان صخر بن حرب، لعلمهم بعداوته لرسول الله صلى الله عليه وآله وتسرعه إلى قتاله، فذكروا له ما نالهم منه وسألوه المعونة لهم على قتاله. فقال لهم أبو سفيان: أنا لكم حيث تحبون، فاخرجوا إلى قريش فادعوهم (4) إلى حربه، واضمنوا النصرة لهم، والثبوت معهم حتى


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: كريمة. (2) يشلهم: يطردهم ” الصحاح – شلل – 5: 1737 “. (3) اختلفت المصادر في اسمه، ففي سيرة ابن هشام 3: 225 والطبري 2: 565: أبو عمار، وفي مغازي الواقدي 2: 441 والسيرة للحلبي 2: 309: أبو عامر. (4) في هامش ” ش “: فادعوها.

[ 95 ]

تستأصلوه. فطافوا على وجوه قريش، ودعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وآله وقالوا لهم: أيدينا مع أيديكم ونحن معكم حتى تستأصلوه (1) فقالت قريش: يا معشر اليهود، انتم أهل الكتاب الاول والعلم السابق، وقد عرفتم الدين الذي جاء به محمد وما نحن عليه من الدين، فديننا خير من دينه أم هو أولى بالحق منا ؟ فقالوا لهم: بل دينكم خير من دينه، فنشطت قريش لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه واله. وجاءهم أبو سفيان فقال لهم: قد مكنكم الله من عدوكم، وهذه يهود تقاتله معكم، ولن تنفل (2) عنكم حتى يؤتى على جميعها، أو تستأصله ومن اتبعه. فقويت عزائمهم – إذ ذاك – في حرب النبي صلى الله عليه وآله. ثم خرج اليهود حتى أتوا غطفان وقيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه واله وضمنوا لهم النصرة والمعونة، وأخبروهم باتباع قريش لهم على ذلك، فاجتمعوا معهم. وخرجت قريش وقائدها – إذ ذاك – أبو سفيان صخر بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ووبرة بن طريف في قومه من أشجع، واجتمعت قريش معهم.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: نستأصله. (2) في ” م “: تنفتل.

[ 96 ]

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله باجتماع الاحزاب عليه، وقوة عزيمتهم في حربه، استشار أصحابه، فاجمع رأيهم على المقام بالمدينة، وحرب القوم إن جاؤوا إليهم على أنقابها (1). وأشار سلمان الفارسي – رحمه الله – على رسول الله صلى الله عليه وآله بالخندق، فأمر بحفره وعمل فيه بنفسه، وعمل فيه المسلمون. وأقبلت الاحزاب إلى النبي صلى الله عليه واله فهال المسلمين أمرهم وارتاعوا من كثرتهم وجمعهم، فنزلوا ناحية من الخندق، وأقاموا بمكانهم بضعا وعشرين ليلة ثم لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ضعف قلوب أكثر المسلمين من حصارهم لهم ووهنهم في حربهم، بعث إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف – وهما قائدا غطفان – يدعوهم إلى صلحه والكف عنه، والرجوع بقومهما عن حربه، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة. واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فيما بعث به إلى عيينة والحارث، فقالا. يا رسول الله، إن كان هذا الامر لا بد لنا من العمل به، لان الله أمرك فيه بما صنعت، والوحي جاءك به، فافعل ما بدا لك، وإن كنت تحب أن تصنعه لنا، كان لنا فيه رأي. فقال عليه وآله السلام: ” لم يأتني وحي به، ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فاردت


(1) الانقاب: جمع نقب، وهو الطريق في الجبل. ” الصحاح – نقب – 1: 227 ” (*)

[ 97 ]

ان أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما “. فقال سعد بن م عاذ: قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الاوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلا قرى أو بيعا، والآن حين أكرمنا الله وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا إلى هذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله عليه وآله: ” الان قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإن الله تعالى لن يخذل نبيه ولن يسلمه حتى ينجز (1) له ما وعده “. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله في المسلمين، يدعوهم إلى جهاد العدو (2)، ويشجعهم ويعدهم النصر. وانتدبت فوارس من قريش للبراز، منهم: عمرو بن عبد ود بن أبي قيس بن عامر بن لؤي بن غالب، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة ابن أبي وهب – المخزوميان – وضرار بن الخطاب، ومرداس الفهري، فلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيؤوا – يا بني كنانة – للحرب، ثم أقبلوا تعنق (3) بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق. فلما تأملوه قالوا: والله إن هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: يتم. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: القوم. (3) العنق. سير فيه كبر وخيلاء. ” الصحاح – عنق – 4: 1533. (*)

[ 98 ]

ثم تيمموا مكانا من الخندق فيه ضيق، فضربوا خيلهم (1) فاقتحمته، وجاءت بهم في السبخة بين الخندق وسلع (2). وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها، فتقدم عمرو ابن عبد ود الجماعة الذين خرجوا معه، وقد أعلم ليرى مكانه. فلما رأى المسلمين وقف هو والخيل التي معه وقال: هل من مبارز ؟ فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عمرو: ارجع يا ابن أخ فما أحب أن أقتلك. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام. ” قد كنت – يا عمرو – عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خصلتين (3) إلا اخترتها منه “. قال: أجل، فماذا ؟ قال: ” فإني أدعوك إلى الله ورسوله والاسلام “. قال: لا حاجة لي بذلك. قال. ” فإني أدعوك إلى النزال “. فقال: ارجع فقد كان بيني وبين أبيك خلة، وما أحب ان أقتلك.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: خيولهم. (2) سلع. موضع قرب المدينة المنورة معجم البلدان ” 3: 236 “. (3) في ” م ” و ” ح “: خلتين.

[ 99 ]

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام. ” لكنني – والله – أحب أن أقتلك ما دمت آبيا للحق “. فحمي عمرو عند ذلك، وقال: أتقتلني ! ؟ ونزل عن فرسه فعقره وضرب وجهه حتى نفر، وأقبل على علي عليه السلام مصلتا سيفه، وبدره بالسيف فنشب سيفة في ترس علي، وضربه أمير المؤمنين عليه السلام ضربة فقتله. فلما رأى عكرمة بن أبي جهل وهبيرة وضرار عمرا صريعا، ولوا بخيلهم منهزمين حتى اقتحمت (1) الخندق لا تلوي (2) على شئ، وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام إلى مقامه الاول – وقد كادت نفوس القوم الذين خرجوا معه إلى الخندق تطير جزعا – وهو يقول: ” نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب (3) فضربته وتركته متجدلا كالجذع بين دكادك وروابي (4) وعففت عن أثوابه ولو انني كنت المقطر بزني أثوابي (5) لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الاحزاب “


(1) في هامش ” ش ” و ” م “. اقتحموا. (2) في هامش ” ش ” و ” م،. لا يلوون. (3) الحجارة. الاصنام التي كانوا يعبدونها. (4) متجدلا. الساقط في الجدالة وهي الارض، الجذع: ساق النخلة. الدكادك: جمع دكداك وهو ما التبد من الرمل اللين بالارض ولم يرتفع، الروابي جمع رابية وهي ما ارتفع من الارض. (5) المقطر: الملقى على احد قطريه على الارض، والقطر. الجانب. بزني: سلبني.

[ 100 ]

وقد روى محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا (1) عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن الزهري قال: جاء عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبداللة بن المغيرة وضرار بن الخطاب – في يوم الاحزاب – إلى الخندق فجعلوا يطوفون به يطلبون مضيقا منه فيعبرون، حتى انتهوا إلى مكان أكرهوا خيولهم فيه فعبرت، وجعلوا (يجولون بخيلهم) فيما بين الخندق وسلع، والمسلمون وقوف لا يقدم واحد منهم عليهم، وجعل عمرو بن عبد ود يدعو إلى البراز و (يعرض بالمسلمين) (2) ويقول: ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز ؟ في كل ذلك يقوم علي بن أبي طالب من بينهم ليبارزه (3) فيأمره رسول الله صلى الله عليه وآله بالجلوس انتظارا منه ليتحرك (4) غيره، والمسلمون كان على رؤوسهم الطير، لمكان عمرو بن عبد ود والخوف منه وممن معه ووراءه. فلما طال نداء عمرو بالبراز، وتتابع قيام أمير المؤمنين عليه السلام قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أدن مني يا علي ” فدنا منه، فنزع


(1) في، ” ش “: حدثني، وما اثبتناه من ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “. (2) كذا في هامش النسخ الخطية، لكن في متنها: يحرض المسلمين. (3) في ” ش ” و ” م “. ليبارزهم، وما أثبتناه من هامش ” ش “. (4) في هامش ” ش ” و ” م “. لتحرك.

[ 101 ]

عمامته من راسه وعممه بها، وأعطاه سيفه – وقال له: ” إمض لشانك ” ثم قال: ” اللهم اعنه ” فسعى نحو عمرو ومعه جابر بن عبد الله الانصاري – رحمه الله – لينظر ما يكون منه ومن عمرو. فلما انتهى أمير المؤمنين عليه السلام إليه قال له. ” يا عمرو، إنك كنت في الجاهلية تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا قبلتها أو واحدة منها “. قال: أجل. قال: ” فاني أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تسلم لرب العالمين “. قال: يا ابن أخ أخر هذه عني. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام. ” أما إنها خير لك لو أخذ تها “. ثم قال: ” فها هنا أخرى “. قال: ما هي ؟ قال ” ترجع من حيث جئت “. قال: لا تحدث نساء قريش بهذا أبدا. قال: ” فها هنا أخرى “. قال. ماهي ؟ قال: ” تنزل فتقاتلني “.


[ 102 ]

فضحك عمرو وقال: إن هذه الخصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومني عليها، وإني لاكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديما. قال علي عليه السلام: ” لكنني احب أن أقتلك، فانزل إن شئت “. فأسف (1) عمرو ونزل فضرب وجه فرسه (حتى رجع) (2). فقال جابر بن عبد الله رحمه الله: وثارت بينهما قترة، فما رأيتهما وسمعت التكبير تحتها، فعلمت أن عليا عليه السلام قد قتله، وانكشف أصحابه حتى طفرت خيولهم الخندق، وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير ينظرون ما صنع القوم، فوجدوا نوفل بن عبد الله في جوف الخندق لم ينهض به فرسه، فجعلوا يرمونه بالحجارة، فقال لهم: قتلة أجمل من هذه، ينزل بعضكم أقاتله، فنزل إليه امير. المؤمنين عليه السلام فضربه حتى قتله، ولحق هبيرة فاعجزه فضرب قربوسن سرجه وسقطت درع كانت عليه، وفر عكرمة، وهرب ضرار بن الخطاب. فقال جابر: فما شبهت قتل علي عمرا إلا بما قال الله تعالى من قصة داود وجالوت، حيث يقول: ” فهزموهم باذن ألله وقتل داود جالوت (3) (4).


(1) أسف: غضب. ” الصحاح – أسف – 4: 1331 “. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: حتى يرجع. (3) البقرة 2: 251. (4) مغازي الواقدي 2: 471، إعلام الورى: 195، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20:

[ 103 ]

قد روى قيس بن الربيع قال: حدثنا أبو هارون العبدي، عن ربيعة السعدي قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت له: يا با عبد الله، إننا لنتحدث عن علي عليه السلام ومناقبه، فيقول لنا أهل البصرة: إنكم تفرطون في علي، فهل أنت محدثي بحديث فيه ؟ فقال حذيفة: يا ربيعة، وما تسألني عن علي عليه السلام ؟ والذي نفسي بيده، لو وضع جميع أعمال أصحاب محمد في كفة الميزان، منذ بعث الله محمدا إلى يوم القيامة (1)، ووضع عمل علي في الكفة الاخرى، لرجح عمل علي على جميع أعمالهم. فقال ربيعة. هذا الذي لا يقام له ولا يقعد (2). فقال حذيفة: يا لكع، وكيف لا يحمل ؟ ! وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود وقد دعا إلى المبارزة ! ؟ فاحجم الناس كلهم ما خلا عليا عليه السلام فإنه برز إليه فقتله الله على يديه، والذي نفس حذيفة بيده، تعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أصحاب محمد إلى يوم القيامة (3). وقد روى هشام بن محمد (4)، عن معروف بن خربوذ قال: قال علي يوم الخندق:


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الناس هذا. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: اي لا يسمى له، لانه لا يدرك. (3) إعلام الورى. 195، شرح النهج الحديدي 19: 60، إرشاد القلوب: 245، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 256. (4) هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي كما صرح به في هامش ” ش ” و ” م “. لاحظ انساب الاشراف القسم الثاني من الجزء الرابع: 129، طبقات ابن سعد 4: 45، 8: 32.

[ 104 ]

” أعلي تقتحم الفوارس هكذا عني وعنها خبروا (1) أصحابي اليوم تمنعني الفرار حفيظتي ومصمم في الرأس ليس بنابي (أرديت عمرا حين أخلص صقله) (2) صافي الحديد مجرب قضاب فصددت حين تركته متجدلا كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو انني كنت المقطر بزني أثوابي (3) ” وروى يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: لما قتل علي ابن أبي طالب عليه السلام عمرا أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وآله ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هلا سلبته – يا علي – درعه ؟ فانه ليس تكون للعرب درع مثلها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” إني استحيت أن أكشف عن سوأة ابن عمي ” (4). وروى عمرو (1) بن الازهر، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: أن عليا عليه السلام لما قتل عمرو بن عبد ود احتز رأسه وحمله، فألقاه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقام أبو بكر وعمر، فقتلا رأس علي


(1) في ” 2 ” وهامش ” ش “: اخبروا. (2) في ” م ” وهامش ” ش “. أرديت عمرا إذ طغى بمهند. (3) رويت هذه الابيات بزيادة ونقصان في: المستدرك على الصحيح 3: 33، دلائل النبوة 3. 439، مناقب آل أبي طالب 3: 137، الفصول المهمة: 61، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 20: 257 و 264. (4) دلائل النبوة 3: 439، إرشاد القلوب: 345، ونحوه في مستدرك النيسابوري 3: 33 ومجمع البيان 8: 33، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 257. (5) في النسخ. عمر بن الازهر، وفي هامش ” م “. عمرو وقد وضع عليه علامة ” صح “: في شرح النهج لابن ابي الحديد: عمرو، وهو الصواب، أنظر ” تاريخ بغداد 12: 193، لسان الميزان): 353، الجرح والتعديل 6: 221 “.

[ 105 ]

عليه السلام (1) وروى علي بن حكيم الاودي قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: لقد ضرب علي عليه السلام ضربة ما كان في الاسلام ضربة أعز منها – يعني ضربة عمرو بن عبد ود – ولقد ضرب علي ضربة ما كان في الاسلام أشأم منها – يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله – (2). وفي الاحزاب أنزل الله عزوجل: (إذ جاؤكم من فوقكم ومن اسفل منهم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون وألذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا – إلى قوله: – وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) (3). فتوجه العتب إليهم والتوبيخ والتقريع والعتاب، ولم ينج من ذلك أحد – باتفاق – إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ كان الفتح له وعلى يديه، وكان قتله عمرا ونوفل بن عبد الله سبب هزيمة المشركين. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله بعد قتله هؤلاء النفر: ” الآن


(1) مجمع البيان 8: 344 شرح النهج الحديدي 19: 62، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 258. (2) مناقب آل أبي طالب 3: 138، مجمع البيان 8: 344، شرح النهج الحديدي 19: 61، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 258. (3) الاحزاب 32: 10 – 25.

[ 106 ]

نغزوهم ولا يغزونا ” (1). وقد روى يوسف بن كليب، (عن سفيان، عن زبيد، عن مرة) (2) وغيره، عن عبد الله بن مسعود، أنه كان يقرأ: (وكفى ألله المؤمنين القتال) بعلي (وكان الله قويا عزيزا) (3). وفي قتل عمرو يقول حسان: أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي بجنوب (4) يثرب غارة لم تنظر فلقد وجدت سيوفنا مشهورة ولقد وجدت جيادنا لم تقصر ولقد رايت غداة بدر عصبة ضربوك ضربا غير ضرب المحسر (5)


(1) صحيح البخاري 5: 141، مسند أحمد 4: 262، 6: 394، مجمع البيان 8: 345، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 258. (2) في متن النسخ: قرة، وفي هامش ” ش ” و ” م ” عن نسخة: مرة وهو الصواب كما سيظهر، ثم في هامش ” ش ” و ” م “: (يوسف بن حكيم عن سفيان بن زيد عن مرة) وعليها علامة (ع) ولم يعلم معناها، وقد وضع في نسخة ” ش ” علامة (ج) تحت كلمة كليب، وعن التى تليها وفوق (عن) علامة النسخة، وتحت قرة علامة (ج)، وفي هامش ” ش “: كليب بن وبذيلها علامة، (ج)، وفي هامش ” م ” كليب بن سفيان وفوقه: (ج صح)، هذا كل ما في النسخ. والصواب. يوسف بن كليب عن سفيان عن زبيد عن مرة، انظر. ميزان الاعتدال. وسفيان هو سفيان الثوري، وزبيد هو زبيد بن الحارث اليامي، ومرة هو مرة بن شرحبيل الهمداني، انظر الجرح والتعديل 3: 623، 8: 366، تهذيب التهذيب 4: 112، 3: 311، 10: 88. (3) الدر المنثور 6 / 590، مناقب آل أبي طالب 3: 134، شرح النهج الحديدي 3: 284 عن ابن عباس، ارشاد القلوب: 245، ميزان الاعتدال 2: 380، تأويل الايات 2: 450 / 11، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 258. (4) جنوب: جمع جنب، وهو الناحية. ” الصحاح – جنب – 1: 100 “. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: ” المخسر: هكذا “. وفي سيرة ابن هشام 3: 281: الحسر، وهو الذي لا رادع له. (*)

[ 107 ]

أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم أمر منكر ويقال: أنه لما بلغ شعر حسان بني عامر أجابه فتى منهم، فقال يرد عليه في افتخاره بالانصار:. كذبتم – وبيت الله – لم (1) تقتلوننا ولكن بسيف الهاشميين فافخروا بسيف ابي عبد اللة أحمد في الوغى بكف علي نلتم ذاك فاقصروا فلم تقتلوا عمرو بن عبد بباسكم (2) ولكنه الكفء (3) الهزبر الغضنفر علي الذي في الفخر طال بناؤه (4) فلا تكثروا (5) الدعوى علينا فتفخروا (6) ببدر خرجتم للبراز فردكم شيوخ قريش جهرة وتاخروا فلما أتاهم حمزة وعبيدة وجاء علي بالمهند يخطر فقالوا: نعم، أكفاء صدق، فاقبلوا إليهم سراعا إذ بغوا وتجبروا فجال علي جولة هاشمية فدمرهم لما عتوا وتكبروا فليس لكم فخر علينا بغيرنا وليس لكم فخر يعد ويذكر (7) وقد روى أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا سليمان بن ايوب، عن ابي الحسن المدائني قال: لما قتل علي بن أبي طالب عليه السلام عمرو بن عبد ود، نعي إلى اخته فقالت: من ذا الذي اجترأ عليه ؟


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: لا. (2) في الاصل: ولا ابنه، وما اثبتناه من نسخة البحار. (3) في هامش ” م “: الليث. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: رداؤه. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: تنكروا (6) في ” م ” وها مش ” ش “: فتحقروا. (7) الفصول المختارة: 238، وشعر حسان في السيرة النبوية لابن هشام 3: 281، وشرح النهج الحديدي 13: 290، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 259.

[ 108 ]

فقالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لم يعد يومه على يد كفء كريم، لا رقات دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الابطال وبارز الاقران، وكانت منيته على (يد كفء كريم قومه) (1)، ما سمعت أفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشات تقول: لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنت أبكي عليه آخر الابد لكن قاتل عمرو لايعاب به من كان يدعى قديما بيضة البلد (2) (3). وقالت أيضا في قتل أخيها، وفي خبر علي بن أبي طالب عليه السلام: أسدان في ضيق المكر تصاولا وكلاهما كفء كريم باسل فتخالسا مهج النفوس كلاهما وسط المذاد (4) مخاتل ومقاتل وكلاهما حضر القراع حفيظة لم يثنه عن ذاك شغل شاغل فاذهب – علي – فما ظفرت بمثله قول سديد ليس فيه تحامل فالثار عندي – يا علي – فليتني أدركته والعقل منى كامل ذلت قريش بعد مقتل فارس فالذل مهلكها وخزي شامل


(1) في هامش ” ش “: يد كريم قومه. (2) بيضة البلد: علي بن أي طالب سلام الله عليه، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التى هي تريكة وحدها ليس معها غيرها ” لسان العرب – بيض – 7: 127 “. (3) الفصول المختارة: 237، الفصول المهمة: 62 باختلاف يسير، ونحوه المستدرك على الصحيحين 3: 33 ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 260. (4) المذاد. من الذياد وهو الذود والدفع، والمراد ساحة. القتال. أنظر ” الصحاح – ذود – 2: 471 “.

[ 109 ]

ثم قالت: والله لا ثارت قريش باخي ما حنت النيب (1) (2). فصل ولما انهزم الاحزاب وولوا عن المسلمين الدبر، عمل رسول الله صلى الله عليه وآله على قصد بني قريظة، وأنفذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إليهم في ثلاثين من الخزرج، فقال له: ” انظر بني قريظة، هل تركوا (3) حصونهم ؟ “. فلما شارف سورهم سمع منهم الهجر، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله فاخبره، فقال: ” دعهم فان الله سيمكن منهم، إن الذي أمكنك من عمرو بن عبد ود لا يخذلك، فقف (4) حتى يجتمع الناس إليك، وأبشر بنصر الله، فإن الله قد نصرني بالرعب بين يدي مسيرة شهر “. قال علي عليه السلام: ” فاجتمع الناس الي وسرت حتى دنوت من سورهم، فاشرفوا علي فحين رأوني صاح صائح منهم: قد جاءكم قاتل عمرو، وقال آخر: قد أقبل إليكم قاتل عمرو، وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك، وألقى الله في قلوبكم الرعب، وسمعت راجزا يرجز: (1) في هامش (2): جمع ناب وهو الابل المسنة. (2) الفصول المختارة: 237، وروي باختلاف يسير والفصول المهمة: 62، ونقله العلامة المجلسي في البحار 20: 260. (3) في ” ش ” و ” م “: نزلوا، وما في المتن من هامش ” ش ” و ” م “. (4) في ” ش “: فتوقف.


[ 110 ]

قتل علي عمرا صاد (1) علي صقرا قصم علي ظهرا أبرم علي امرا هتك علي عسترا فقلت: الحمد لله الذي أظهر الاسلام وقمع الشرك، وكان النبي صلى الله عليه واله قال لي حين توجهت إلى بني قريظة: سر على بركة الله، فإن الله قد وعدك (2) أرضهم وديارهم، فسرت مستيقنا (3) لنصر الله عزوجل حتى ركزت الراية في أصل الحصن، واستقبلوني في صياصيهم (4) يسبون رسول الله صلى الله عليه وآله ! ! فلما سمعت سبهم له عليه السلام كرهت أن يسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله، فعملت على الرجوع إليه، فإذا به عليه السلام قد طلع، فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين (5) فقالوا له: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا ولا سبابا ! فاستحيى رسول الله صلى الله عليه وآله ورجع القهقرى قليلا “. ثم أمر فضربت خيمته بازاء حصونهم، وأقام النبي صلى الله عليه وآله محاصرا لبني قريظة خمسا وعشرين ليلة، حى سألوه


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: صار. (2) في ” ش ” و ” م “: وعدكم، وما أثبتناه من هامش ” ش ” و ” م “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: متيقنا. (4) كل شئ أمتنع به وتحصن به فهو صيصة، ومنه قيل للحصون ” الصياصي “. ” النهاية – صيص – 3: 67 “. (5) اقتباس من قوله تعالى في سورة الصافات 37: 177: (فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين).

[ 111 ]

النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم (1) سعد بقتل الرجال، وسبي الذراري والنساء، وقسمة الاموال. فقال النبي صلى الله عليه وآله. يا سعد، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة “. وامر النبي صلى الله عليه وآله بإنزال الرجال منهم – وكانوا تسعمائة رجل – فجئ بهم إلى المدينة، وقسم الاموال، واسترق الذراري والنسوان. ولما جئ بالاسارى إلى المدينة حبسوا في دار من دور بني النجار، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى موضع السوق اليوم فخندق فيها خنادق، وحضر أمير المؤمنين عليه السلام معه والمسلمون، فامر بهم ان يخرجوا، وتقدم إلى أمير المؤمنين ان يضرب أعناقهم في الخندق. فاخرجوا أرسالا وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد، وهما – إذ ذاك – رئيسا القوم، فقالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: يا كعب ما تراه يصنع بنا ؟ فقال: في كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب منكم لا يرجع، هو والله القتل. وجئ بحيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أما والله مالمت نفسي على


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: عليهم.

[ 112 ]

عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنه لا بد من امر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثم اقيم بين يدي أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو يقول: قتلة شريفة بيد شريف، فقال له أمر المؤمنين: ” إن خيار الناس يقتلون شرارهم، وشرار الناس يقتلون خيارهم، فالويل لمن قتله الاخيار الاشراف، والسعادة لمن – قتله الارذال الكفار ” فقال: صدقت، لا تسلبني حلتي، قال: ” هي أهون في من ذاك ” قال: سترتني سترك الله، ومد عنقه فضربها علي عليه السلام ولم يسلبه من بينهم. ثم قال أمر المؤمنين عليه السلام لمن جاء به: ” ما كان يقول حيي وهو يقاد إلى الموت ؟ ” فقال (1): كان يقول: لعمرك مالام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد (2) حتى بلغ النفس جهدها وحاول يبغي العز كل مقلقل فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” لقد كان ذاجد وجد (3) بكفره فقيد إلينا في المجامع يعتل فقلدته بالسيف ضربة محفظ (4) فصار إلى قعر الجحيم يكبل


(1) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: قالوا. (2) في ” ح ” وهامش ” ش “: فجاهد. (3) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: حد. (4) احفظه. أي اغضبه ” القاموس المحيط – حفظ – 2: 395 “. (*)

[ 113 ]

فذاك مآب الكافرين ومن يكن مطيعا لامر الله في الخلد ينزل ” واصطفى رسول الله صلى الله عليه وآله من نسائهم عمرة بنت خنافة (1)، وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت أرسلت عليه صلى الله عليه واله حجرا – وقد جاء باليهود يناظرهم قبل مباينتهم له – فسلمه الله تعالى من ذلك الحجر. وكان الظفر ببني قريظة، وفتح الله على نبيه عليه السلام بامير المؤمنين عليه السلام وما كان من قتله من قتل منهم، وما ألقاه الله عزوجل في قلوبهم من الرعب منه، وماثلت هذه الفضيلة ما تقدمها من فضائله، وشابهت هذه المنقبة ما سلف ذكره من مناقبه صلى الله عليه وآله. فصل. وقد كان من أمير المؤمنين عليه السلام في غزوة وادي الرمل، ويقال: إنها كانت تسمى بغزوة السلسلة، ما حفظه العلماء، ودونه الفقهاء ونقله أصحاب الآثار، ورواه نقلة الاخبار، ما ينضاف إلى


(1) في هامش ” ش ” نسخة بدل: خناقة، ولعل الصواب: ريحانة بنت عمرو بن خنافة، انظر أسد الغابة 5: 460، المغازي 2: 520، السيرة الحلبية 2: 346. (2) سقط هذا الفصل من نسخة ” ش ” و ” ح ” إلى قوله: ” ثم كان من بلائه عليه السلام ببني المصطلق ” الآتي في ص 118.

[ 114 ]

مناقبه عليه السلام في الغزوات، ويماثل فضائله في الجهاد، وما توحد به في معناه من كافة العباد. وذلك أن أصحاب السير ذكروا: أن النبي صلى الله عليه وآله كان ذات يوم جالسا، إذ جاءه أعرابي فجثا بين يديه، ثم قال. اني جئتك لانصحك، قال: ” وما نصيحتك ؟ ” قال: قوم من العرب قد عملوا على أن يثبتوك (1) بالمدينة، ووصفهم له. قال: فأمر أمير المؤمنين عليه السلام أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ” أيها الناس، إن هذا عدو الله وعدوكم قد (2) اقبل إليكم، يزعم أنه يثبتكم (3) بالمدينة، فمن للوادي ؟ “. فقام رجل من المهاجرين فقال: أنا له يا رسول الله. فناوله اللواء وضم إليه سبعمائة رجل وقال له: ” امض على اسم الله “. فمضى فوافى (4) القوم ضحوة، فقالوا له: من الرجل ؟ قال. أنا رسول لرسول الله، إما أن تقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أو لاضربنكم بالسيف ؟ قالوا له: ارجع إلى صاحبك، فانا في جمع لا تقوم له. فرجع الرجل، فاخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فقال


(1) في هامش ” م “. يبيتوك. (2) نسخة في ” م “: وقد. (3) في هامش ” م “: يبيتكم. (4) في هامش ” م “: فوافق.

[ 115 ]

النبي صلى الله عليه وآله: ” من للوادي ؟ ” فقام رجل من المهاجرين فقال: أنا له يا رسول الله. قال: فدفع إليه الراية ومضى، ثم عاد بمثل ما عاد به صاحبه الاول. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أين علي بن أبي طالب ؟ فقام أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ” أنا ذا يا رسول الله ؟ ” قال: ” امض إلى الوادي ” قال: ” نعم ” وكانت له عصابة لا يتعصب بها حتى يبعثه النبي عليه السلام في وجه شديد. فمضى إلى منزل فاطمة عليها السلام، فالتمس العصابة منها ؟ فقالت: ” أين تريد، أين بعثك أبي ؟ قال: إلى وادي الرمل ” فبكت إشفاقا عليه. فدخل النبي صلى الله عليه وآله وهي على تلك الحال. فقال لها: ” ما لك تبكين ؟ أتخافين أن يقتل بعلك ؟ كلا، إن شاء الله ” فقال له علي عليه السلام: ” لاتنفس (1) علي بالجنة، يا رسول الله “. ثم خرج ومعه لواء النبي صلى الله عليه واله فمضى حتى وافى القوم بسحر فاقام حتى أصبح، ثم صلى بأصحابه الغداة وصفهم صفوفا، واتكا على سيفه مقبلا على العدو، فقال لهم: ” يا هؤلاء، أنا رسول رسول الله إليكم، أن تقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإلا ضربتكم بالسيف “.


(1) لا تنفس: لا تبخل. ” النهاية: 97 “.

[ 116 ]

قالوا: ارجع كما رجع صاحباك. قال: ” أنا ارجع ؟ ! لا والله حتى تسلموا أو أضربكم بسيفي هذا، أنا علي بن ابي طالب بن عبد المطلب “. فاضطرب القوم لما عرفوه، ثم اجترؤوا على مواقعته، فواقعهم عليه السلام، فقتل منهم ستة أو سبعة، وانهزم المشركون، وظفر المسلمون وحازوا الغنائم، وتوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله. فروي عن ام سلمة – رحمة الله عليها – قالت: كان نبي الله عليه السلام قائلا (1) في بيتي إذ انتبه فزعا من منامه، فقلت له: اللة جارك، قال: ” صدقت ” الله جاري لكن هذا جبرئيل عليه السلام يخبرني: أن عليا قادم ” ثم خرج إلى الناس فامرهم أن يستقبلوا عليا عليه السلام وقام المسلمون له صفين مع رسول الله صلى الله عليه وآله. فلما بصر بالنبي صلى الله عليه وآله ترجل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبلهما، فقال له عليه السلام: ” إركب فان الله تعالى ورسوله عنك راضيان ” فبكى أمير المؤمنين عليه السلام فرحا، وانصرف إلى منزله، وتسلم المسلمون الغنائم. فقال النبي صلى الله عليه واله لبعض من كان معه في الجيش: ” كيف رأيتم أميركم ؟ ” قالوا: لم ننكر منه شيئا، إلا إنه لم يؤم بنا في صلاة إلا قرأ بنا فيها بقل هو الله أحد. فقال النبي صلى الله عليه وآله ” ساسأله عن ذلك “.


(1) قائلا: من القيلولة، وهي نومة نصف النهار. ” مجمع البحرين – قيل – 5: 459 “.

[ 117 ]

فلما جاءه قال له: ” لم تقرأ بهم في فرائضك إلا بسورة الاخلاص ؟ ” فقال: يارسول الله أحببتها ” قال له النبي عليه السلام: ” فإن الله قد أحبك كما أحببتها “. ثم قال له: ” يا علي، لولا أنني أشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بملا منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك “. فكان الفتح في هذه الغزاة لامير المؤمنين عليه السلام خاصة، بعد ان كان من غيره فيها من الافساد ما كان، واختص عليه السلام من مديح النبي صلى الله عليه وآله بها بفضائل لم يحصل منها شئ لغيره. وقد ذكر كثير من أصحاب السيرة (1): أن في هذه الغزاة نزل على النبي صلى الله عليه وآله: (والعاديات ضبحا) (2) إلى آخرها فتضمنت ذكر الحال فيما فعله أمير المؤمنين عليه السلام فيها.


(1) أنظر: تفسير القمي 2: 434، أمالي الطوسي 2: 21، مجمع البيان 5: 528، مناقب ابن شهرآشوب 3: 141. (2) العاديات 100: 1.

[ 118 ]

فصل ثم كان من بلائه عليه السلام ببني المصطلق، ما اشتهر عند العلماء، وكان الفتح له عليه السلام في هذه الغزاة، بعد أن اصيب يومئذ ناس من بني عبد المطلب، فقتل أمير المؤمنين عليه السلام رجلين من القوم وهما مالك وابنه، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وآله منهم سبيا كثيرا فقسمه في المسلمين. وكان فيمن (1) اصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وكان شعار المسلمين يوم بني المصطلق: يا منصور أمت (2)، وكان الذي سبى جويرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فجاء بها إلى النبي صلى الله – عليه وآله فاصطفاها النبي عليه السلام. فجاء أبوها إلى النبي عليه السلام بعد إسلام بقية القوم، فقال: يا رسول الله، إن ابنتي لا تسبى، إنها امرأة كريمة ؟ قال: ” اذهب فخيرها ” قال: أحسنت (3) وأجملت. وجاء إليها أبوها فقال ما: يا بنية لا تفضحي قومك، فقالت له: قد اخترت الله ورسوله. فقال لها أبوها: فعل الله بك وفعل، فاعتقها رسول الله صلى


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ممن. (2) في هامش ” ش ” و ” م ” المنصور كل واحد منهم، أي نصرت فاقتل. (3) في ” م ” و ” ح “: قد أحسنت.

[ 119 ]

الله عليه واله وجعلها في جملة أزواجه (1). فصل ثم تلا بني المصطلق الحديبية، وكان اللواء يومئذ إلى أمير المؤمنين عليه السلام كما كان إليه في المشاهد قبلها، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبره واستفاض ذكره. وذلك بعد البيعة التي أخذها النبي صلى الله عليه وآله على أصحابه والعهود عليهم في الصبر، وكان أمير المؤمنين عليه السلام المبايع للنساء عن النبي عليه وآله السلام، وكانت بيعته لهم يومئذ أن طرح ثوبا بينه وبينهن ثم مسحه بيده، فكانت مبايعتهن للنبي عليه السلام بمسح الثوب، ورسول الله صلى الله عليه وآله يمسح ثوب علي بن أبي طالب عليه السلام مما يليه. ولما رأى سهيل بن عمرو توجه الامر عليهم، ضرع إلى النبي عليه السلام في الصلح، ونزل عليه الوحي بالاجابة إلى ذلك، وأن يجعل أمير المؤمنين عليه السلام كاتبه يومئذ والمتولي لعقد الصلح بخطه. فقال له النبي عليه وآله السلام: ” أكتب يا علي. بسم الله الرحمن الرحيم “. فقال سهيل بن عمرو: هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد،


(1) في ” م ” وهامش ” ش ” و ” ح “: نسائه.

[ 120 ]

فافتتحه بما نعرفه (1)، واكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين: ” امح ما كتبت واكتب: باسمك اللهم “. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت بسم الله الرحمن الرحيم ” ثم محاها وكتب: باسمك اللهم. فقال له النبي عليه السلام: ” أكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو “. فقال سهيل: لو أجبتك في الكتاب الذي بيننا إلى هذا، لاقررت لك بالنبوة فسواء شهدت عل نفسي بالرضا بذلك أو أطلقته من لساني، امح هذا الاسم واكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” إنه والله. لرسول الله على رغم أنفك “. فقال سهيل: اكتب اسمه يمضي الشرط. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” ويلك يا سهيل، كف عن عنادك “. فقال له النبي عليه السلام: ” امحها يا علي “. فقال: ” يا رسول الله، إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة “.


(1) في هامش ” ش “: نعرف.

[ 121 ]

قال له: ” فضع يدي عليها ” فمحاها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده، وقال لامير المؤمنين عليه السلام: ” ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض “. ثم تمم أمير المؤمنين عليه السلام الكتاب. ولما تمم الصلح نحر رسول الله صلى الله عليه وآله هديه في مكانه. فكان نظام تدبير هذه الغزاة معلقا بامير المؤمنين عليه السلام، وكان ما جرى فيها من البيعة وصف الناس للحرب ثم الهدنة والكتاب كله لامير المؤمنين عليه السلام، وكان فيما هياه الله تعالى له من ذلك حقن الدماء وصلاح أمر الاسلام. وقد روى الناس له عليه السلام في هذه الغزاة – بعد الذي ذكرناه – فضيلتين اختص بهما، وانضافا إلى فضائله العظام ومناقبه الجسام: فروى إبراهيم بن عمر، عن رجاله، عن (فايد مولى عبد الله بن سالم) (1) قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله في عمرة (2) الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء، فبعث سعد بن مالك بالروايا، حق إذا كان غير بعيد رجع سعد بالروايا فقال: يا رسول الله، ما أستطيع أن أمضي، لقد وقفت قدماي رعبا من القوم فقال له النبي عليه وآله


(1) في متن النسخ والبحار: فائد، وفي هامش ” ش ” و ” م ” عن نسخة. فائد، والمظنون صحة فائد فانه أشهر من قائد، وقد اورد الخبر في الاصابة في باب الفاء في ترجمة فائد مولى عبد الله بن سلام وقال. أخرج له المفيد بن النعمان الرافضي مناقب علي حديثا. (2) في ” م ” وهامش ” ش “. غزو.

[ 122 ]

السلام: ” اجلس “. ثم بعث رجلا آخر، فخرج بالروايا حتى إذا كان بالمكان الذي انتهى إليه الاول رجع، فقال له النبي عليه السلام: ” لم رجعت ؟ ” فقال: والذي بعثك بالحق ما استطعت أن أمضي رعبا. فدعا رسول الله امير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما فارسله بالروايا، وخرج السقاة وهم لا يشتهون في رجوعه، لما رأوا من رجوع (1) من تقدمه. فخرج علي عليه السلام بالروايا حتى ورد الحرار (2) فاستقى، ثم أقبل بها إلى النبي صلى الله عليه واله ولها زجل (3). فكبر النبي صلى الله عليه وآله ودعا له بخير (4). وفي هذه الغزاة أقبل سهيل بن عمر إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال له: يا محمد إن أرقاءنا لحقوا بك فارددهم علينا. فغضب رسول الله عليه السلام حتى تبين الغضب في وجهه، ثم قال: ” لتنتهن – يا معشر قريش – أو ليبعثن الله عليكم رجلا امتحن الله قلبه للايمان، يضرب رقابكم على الدين ” فقال بعض من حضر. يا رسول الله، أبو بكر ذلك الرجل ؟ قال: ” لا ” قيل: فعمر قال. ” لا ” ولكنه خاصف النعل في الحجرة ” فتبادر


(1) في هامش ” ش، و ” م “: من جزع. (2)) الحرار. جمع حرة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة. ” الصحاح – حرر – 2: 626 “. (3) الزجل. رفع الصوت الطرب. ” لسان العرب – زجل – 11: 302 “. (4) الاصابة في معرفة الصحابة 3: 199 عن المؤلف، مناقب آل أبي طالب 2: 88 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 20: 359.

[ 123 ]

الناس إلى الحجرة ينظرون، من الرجل ؟ فإذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وروى هذا الحديث جماعة عن امير المؤمنين عليه السلام وقالوا فيه: إن عليا قص هذه القصة، ثم قال: ” سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من كذب في متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ” (1). وكان الذي أصلحه أمير المؤمنين من نعل النبي صلى الله عليهما شسعها (2)، فانه كان اصلحه فخصف موضعه وأصلحه. وروى إسماعيل بن علي العمي، عن نائل بن نجيح (3)، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر، عن أبيه عليهما السلام قال: ” انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وآله فدفعها إلى علي عليه السلام يصلحها، ثم مشى في نعل واحدة غلوة (4) – أو نحوها – وأقبل على أصحابه فقال: إن منكم من يقاتل على التأويل كما (قاتل معي) (5) على التنزيل “. فقال أبو بكر: أنا ذاك، يا رسول الله ؟ قال: ” لا ” فقال عمر: (1) روي في كفاية الطالب: 96، مصباح الانوار: 121، وباختلاف يسير في سنن الترمذي 5: 297، إعلام الورى: 191، ونحوه في المستدرك على الصحيحين 4: 298، تأريخ بغداد 1: 133، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 20: 360. (2) شسع النعل. ما يدخل بين الاصبعين في النعل العربي ممتدا عل ظهر القدم. ” مجمع البحرين – شسع – 4: 353 “. (3) ضبطه في متن ” ش ” و ” م ” مكبرا، وفي هامشهما مصغرا بضم النون، ونجيح مكبرا اشهر. (4) الغلوة: مقدار رمية سهم ” الصحاح – غلا – 6: 2448 “. (5) في هامش ” ش “: قاتلت.


[ 124 ]

فانا يا رسول الله ؟ قال: ” لا ” فامسك – القوم ونظر بعضم إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله. ” لكنه خاصف النعل – وأوما إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام – وإنه المقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت، وحرف كتاب الله، وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم علي. عليه السلام على إحياء دين الله عزوجل ” (1). فصل ثم تلت الحديبية خيبر، وكان الفتح فيها لامير المؤمنين عليه السلام بلا ارتياب، وظهر من فضله في هذه الغزاة (ما اجتمع على نقله) (2) الرواة، وتفرد فيها من المناقب بما لم يشركه فيه أحد من الناس. فروى محمد بن يحيى الازدي، عن مسعدة بن اليسع و عبد الله (3) ابن عبد الرحيم، عن عبد الملك بن هشام ومحمد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الاثار قالوا. لما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله من خيبر، قال للناس: ” قفوا ” فوقف الناس، فرفع يديه إلى السماء وقال: ” اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الارضين السبع وما


(1) ورد نحوه في مسند أبي يعلى الموصلي 2: 341، المستدرك على الصحيحين 3: 122، مسند أحمد 3: 582 شرح نهج البلاغة الحديدي 3: 206. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: ما اجمع عليه نقلة. (3) كذا في متن النسخ،. وفي هامش ” ش “: عبد الله وآخره علامة (ج)، وفي هامش ” م “: عبد الله واخر الكلمة مخروق.

[ 125 ]

أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، أسالك خير (1) هذه القرية وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ” ثم نزل تحت شجرة (في المكان) (2) فاقام وأقمنا بقية يومنا ومن غده (3). فلما كان نصف النهار نادانا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله، فاجتمعنا إليه فإذا عنده رجل جالس، فقال: ” إن هذا جاءني وأنا نائم، فسل سيفي وقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم ! قلت: الله يمنعني منك، فشام السيف (4) وهو جالس كما ترون لا حراك به ” فقلنا: يا رسول الله، لعل في عقله شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله. ” نعم دعوه ” ثم صرفه ولم يعاقبه. وحاصر رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر بضعا وعشرين ليلة، وكانت الراية يومئذ لامير المؤمنين عليه السلام فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، وكان المسلمون يناوشون (5) اليهود من بين أيدي حصونهم وجنباتها. فلما كان ذات يوم فتحوا الباب، وقد كانوا خندقوا على أنفسهم، وخرج مرحب برجله يتعرض (6) للحرب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر فقال له: ” اخذ الراية ” فاخذها – في جمع من المهاجرين –


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: من خير. (2) في ” ش ” و ” م “. من المكان، وما اثبتناه من هامشهما. (3) المغازي 2: 642، السيرة النبوية 3: 343، مجمع البيان 9: 119، دلائل النبوة 4: 204، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار 21: 14 / 11 (4) شام السيف: أغمده. ” الصحاح – شيم – 5: 1963 “. (5) في ” ش “: يتناوشون. (6) في هامش ” ش “: فتعرض.

[ 126 ]

فاجتهد ولم يغن شيئا، فعاد يؤنب القوم الذين اتبعوه ويؤنبونه. فلما كان من الغد تعرض لها عمر، فسار بها غير بعيد، ثم رجع يجبن أصحابه ويجبنونه. فقال النبي صلى الله عليه واله. ” ليست هذه الراية لمن حملها، جيئوني بعلي بن أبي طالب ” فقيل له: إنه أرمد، فقال. ” أرونيه تروني رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ياخذها بحقها ليس بفرار “. فجاؤوا بعلي عليه السلام يقودونه إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” ما تشتكي يا علي ؟ قال: رمد ما أبصر معه، وصداع برأسي، فقال له: اجلس وضع رأسك على فخذي ” ففعل علي عليه السلام ذلك، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وتفل في يده فمسحها على عينيه (1) ورأسه، فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع، وقال في دعائه له: ” اللهم قه الحر والبرد ” وأعطاه الراية – وكانت راية بيضاء – وقال له: ” خذ الراية وامض بها، فجبرئيل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم – يا علي – أنهم يجدون في كتابهم: أن الذي يدمر عليهم اسمه آليا (2)، فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فانهم يخذلون إن شاء الله “. قال علي عليه السلام: ” فمضيت بها حتى أتيت الحصون، فخرج مرحب وعليه مغفر وحجر قد ثقبه (3) مثل البيضة على رأسه، وهو


(1) في هامش ” ش “: عينه. (2) في هامش ” ش ” و ” م “. إيليا. (3) في هامش ” ش ” و ” م ” نقبة.

[ 127 ]

يرتجز ويقول. قد علمت خيبر أني مرحب – شاك سلاحي بطل مجرب فقلت: أنا الذي سمتني أمي حيدرة ليث لغابات (1) شديد قسورة أكيلكم بالسيف كيل السندرة (2) فاختلفنا ضربتين، فبدرته فضربته فقددت الحجر والمغفر ورأسه حتى وقع السيف في أضراسه وخر صريعا “. وجاء في الحديث أن أمير المؤمنين عليه السلام لما قال: ” أنا علي ابن أبي طالب ” قال حبر من أحبار القوم. غلبتم وما انزل على موسى (3). فدخل قلوبهم من الرعب ما لم يمكنهم معه الاستيطان به. ولما قتل أمير المؤمنين عليه السلام مرحبا، رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه، فصار أمير المؤمنين عليه السلام إليه فعالجه حتى فتحه، وأكثر الناس من جانب الخندق لم يغبروا معه، فاخذ أمير المؤمنين عليه السلام باب الحصن فجعله على الخندق جسرا لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: كريهات. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: عبل الذراعين شديد القصرة. والسندرة: مكيال ضخم. ” الصحاح – سدر – 2: 680 “. (3) اخرج نحوه في السيرة النبوبة 3: 349.

[ 128 ]

فلما انصرفوا من الحصون، أخذه أمير المؤمنين بيمناه فدحا به اذرعا من الارض، وكان الباب يغلقه عشرون رجلا منهم. ولما فتح أمير المؤمنين عليه السلام الحصن وقتل مرحبا، وأغنم الله المسلمين أموالهم، استاذن حسان بن ثابت رسول الله صلى الله عليه واله أن يقول شعرا. فقال له: ” قل “. فانشا يقول: وكان علي أرمد العين يبتغي دواء فلما لم يحس مداويا شفاه رسول الله منه بتفلة فبورك مرقيا وبورك راقيا وقال سأعطي الراية اليوم صارما كميا محبا للرسول مواليا (1) يحب إلهي والاله يحبه به يفتح الله الحصون الاوابيا فاصفى بها دون البرية كلها عليا وسماه الوزير المؤاخيا وقد روى أصحاب الاثار عن الحسن بن صالح، عن الاعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله الجدلي قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ” لما عالجت باب خيبر جعلته مجنا لي وقاتلت القوم فلما أخزاهم الله وضعت الباب على حصنهم طريقا، ثم رميت به في خندقهم فقال له رجل: لقد حملت منه ثقلا ! فقال: ماكان إلا مثل جنتي التي في يدي في غير ذلك المقام ” (2). وذكر أصحاب السير: أن المسلمين لما انصرفوا من خيبر راموا


(1) في هامش ” ش “: مواسيا. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 21: 16. وذكر ذيله في المناقب لابن شهرآشوب 2: 68.

[ 129 ]

حمل الباب فلم يقله (1) منهم إلا سبعون رجلا (2). وفي حمل أمير المؤمنين عليه السلام الباب يقول الشاعر: إن امرا حمل الرتاج (3)، بخيبر يوم اليهود بقدرة لمؤيد حمل الرتاج رتاج باب قموصها (4) والمسلمون واهل خيبر شهد (5) فرمى به ولقد تكلف ردة سبعون شخصا كلهم متشدد (6) ردوه بعد مشقة وتكلف (7) ومقال بعضهم لبعض ارددوا (8) فصل ثم تلا غزاة خيبر مواقف لم تجر مجرى ما تقدمها فنصمد


(1) يقله: يحمله. ” المصباح المنير 2: 514 “. (2) أنظر: دلائل النبوة 4: 212، مجمع البيان 9: 121، مناقب ابن شهر آشوب 2: 293. (3) الرتاج: الباب العظيم. ” الصحاح – رتج – 1: 317 “. (4) القموص: جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي ” معجم البلدان 4: 398 “. (5) في هامش ” ش “: حشد. (6) في هامش ” ش ” و ” م “: سبعون كلهم له يتشدد. (7) في ” م ” وهامش ” ش “: وتعتب. (8) بمد هذه الابيات في ” ش ” و ” م ” سطور اخر، ولكن في هامش ” ش ” صرح بانه: ” لم يكن في نسخة الشيخ المفيد ” وقريب منه في هامش ” 2 “. وهي: وفيه أيضا قال الشاعر من شعراء الشيعة يمدح أمير المؤمنين عليه السلام ويهجو أعداءه، على ما رواه أبن عبد الحسن بن محمد بن جمهور، قال. قرأت على أبي عثمان المازني: بعث النبي براية منصورة عمر بن حنتمة الدلام (1) الادلما – (أ) الدلمه: اللون الاسود. أنظر ” الصحاح – دلم – 5: 1920 “.

[ 130 ]

لذكرها، وأكثرها كان بعوثا لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه واله، ولا كان الاهتمام بها كالاهتمام بما سلف، لضعف العدو، وغناء بعض المسلمين عن غيرهم فيها، فأضربنا عن تعدادها، لان كان لامير المؤمنين عليه السلام في جميعها حظ وافر من قول أو عمل. ثم كانت غزاة الفتح، وهي التي توطد (1) أمر الاسلام بها، وتمهد الدين بما من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله فيها، وقد كان الوعد تقدم في قوله عز اسمه: (إذا جاء نصر الله والفتح ” (2) إلى آخر


– فمضى بها حتى إذا برزوا له دون القموص ثنى وهاب وأحجما فأتى النبي براية مردودة ألا تخوف عارها فتذمما فبكى النبي لها وأنبة بها ودعا امرأ حسن البصيرة مقدما فغدا بها في فيلق ودعا له ألا يصد بها وألا يهزما فزوى اليهود إلى القموص وقد كسا كبش الكتيبة ذا غرار (أ) مخذما (ب) وثنى بناس بعده فقراهم طلس (ج) الذئاب وكل نسر قشعما (د) ساط (ه‍) الالة بحب آل محمد وبحب من والاهم بني الدما في أبيات اخر. (1) في هامش ” ش ” و ” م “: توطا. (2) النصر 110: 1. (أ) الغرار: حد السيف. ” الصحاح – غرر – 768 “. (ب) المخذم: السيف القاطع. (الصحاح – خذم – 5: 1910 “. (ج) طلس: جمع أطلس، وهو الذئب الذي في لونه غبرة إلى السواد “، الصحاح – طلس – 3: 944). (د) القشعم: النسر المسن. ” الصحاح – قشعم – 5: 2012 “. (ه‍) ساط: خلط الشئ بعضه ببعض. ” الصحاح – سوط – 3: 1135 “.

[ 131 ]

السورة، وقوله تعالى قبلها بمدة طويلة: (لتدخلن المسجد الحرام ان شاء اللة آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) (1). فكانت الاعين إليها ممتدة، والرقاب إليها متطاولة، ودبر رسول الله صلى الله عليه وآله الامر فيها بكتمان مسيره إلى مكة، وستر عزيمته على مراده باهلها، وسال الله – عز اسمه – أن يطوي خبره عن أهل مكة حتى يبغتهم بدخولها، فكان المؤتمن على هذا السر والمودع له – من بين الجماعة – أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان الشريك لرسول الله صلى الله عليه وآله في الرأي، ثم نماه النبي صلى الله عليه وآله إلى جماعة من بعد، واستتب الامر فيه على أحوال كان أمير المؤمنين عليه السلام في جميعها متفردا من الفضل بما لم يشركه فيه غيره من الناس. فمن ذلك أنه لما كتب حاطب بن أبي بلتعة -، وكان من أهل مكة، وقد شهد بدرا مع رسول الله – كتابا إلى أهل مكة يطلعهم على سر رسول الله صلى الله عليه وآله في المسير إليهم جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه واله بما صنع وبنفوذ كتاب حاطب إلى القوم فتلافى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله بامير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ولو لم يتلافه به لفسد التدبير الذي بتمامه كان نصر المسلمين. وقد مضى الخبر في هذه القصة فيما تقدم، فلا حاجة بنا إلى إعادته.


(1) الفتح 48: 27.

[ 132 ]

فصل ولما دخل أبو سفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين قريش، عندما كان من بني بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها، فقصد أبو سفيان ليتلافى الفارط من القوم، وقد خاف من نصرة رسول الله صلى الله عليه واله لهم، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح. فأتى النبي صلى الله عليه واله وكتمه في ذلك، فلم يردد عليه جوابا. فقام من عنده، فلقيه (1) أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي صلى الله عليه وآله فسأله كلامه له، فقال: ما أنا بفاعل. لعلم أبي بكر بأن سؤاله في ذلك لا يغني شيئا. فظن أبو سفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبي بكر فكتمه في ذلك، فدفعه بغلظة وفضاضة كادت أن تفسد الرأي على النبي صلى الله عليه وآله. فعدل (2) إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه، فأذن له وعنده فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال له: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وأقربهم مني قرابة، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائبا، إشفع لي إلى رسول الله فيما قصدته. فقال له: ” ويحك – يا با سفيان – لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله على


(1) في هامش ” ش ” و ” م “. فاستقبله. (2) في ” ح ” وهامش ” ش ” و ” م “. فغدا.

[ 133 ]

أمر ما نستطيع أن نكمله فيه ” فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة عليها السلام، فقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنيك (1) أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر. فقالت: ” ما بلغ بنياي أن يجيرا بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه واله “. فتحير أبو سفيان (وسقط في يده) (2)، ثم أقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا با الحسن، أرى الامور قد التبست علي فانصح لي (3). فقال له أمير المؤمنين: ” ما أرى شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بارضك ” قال. فترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال: ” لا والله لا أظن ولكني لا أجد لك غير ذلك “. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما ورائك ؟ قال: جئث محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظا غليظا لا خير فيه، ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم لي، وقد أشار في بشئ فصنعته، والله ما أدري يغني عني شيئا أم لا، فقالوا: بما أمرك ؟ قال: أمرني ان


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: بنييك. (2) في هامش ” ش “: أسقط. (3) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: فانصحي.

[ 134 ]

أجير بين الناس ففعلت. فقالوا له: فهل أجار ذلك محمد ؟ قال: لا. قالوا: ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ؟ قال أبو سفيان: لا والله ما وجدت غير ذلك. وكان الذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام بأبي سفيان من أصوب رأي لتمام أمر المسلمين وأصح تدبير، وبه تم للنبي صلى الله عليه وآله في اليوم ما تم. ألا ترى أنه عليه السلام صدق أبا سفيان عن الحال، ثم لان له بعض اللين حتى خرج عن المدينة وهو يظن أنه على شئ، فانقطع بخروجه على تلك الحال مواد كيده التي كان يتشعب بها الامر على النبي صلى الله عليه وآله. وذلك أنه لو خرج ائسا حسب ما أيأسه الرجلان، لتجدد للقوم من الرأي في حربه عليه السلام والتحرز منه ما لم يخطر لهم ببال، مع مجئ أبي سفيان إليهم بما جاء، أو كان يقيم بالمدينة على التمحل لتمام مراده بالاستشفاع إلى النبي صلى الله عليه واله فيتجدد بذلك أمر يصد النبي صلى الله عليه وآله عن قصد قريش، أو يثبطه عنهم تثبيطا يفوته معه المراد، فكان التوفيق من الله تعالى مقارنا لرأي أمير المؤمنين عليه السلام فيما راه من تدبير الامر مع أبي سفيان، حتى انتظم بذلك للنبي صلى الله عليه وآله من فتح مكة ما أراد فصل ولما أمر رسول الله صلى الله عليه واله سعد بن عبادة بدخول


[ 135 ]

مكة بالراية، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم، ودخل وهو يقول: اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى (1) الحرمه فسمعها العباس رضي الله عنه فقال للنبي صلى الله عليه وآله: أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة ؟ إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة. فقال النبي صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين عليه السلام. ” أدرك – يا علي – سعدا فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها مكة ” فأدركه أمير المؤمنين عليه السلام فأخذها منه، ولم يمتنع عليه سعد من دفعها. فكان تلافي الفارط من سعد في هذا الامر بامير المؤمنين عليه السلام، ولم ير رسول الله صلى الله عليه واله أحدا من المهاجرين والانصار يصلح لاخذ الراية من سيد الانصار سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وعلم أنه لو رام ذلك غيره لامتنع سعد عليه (2)، فكان في امتناعه فساد التدبير واختلاف الكلمة بين الانصار والمهاجرين، ولما لم يكن سعد يخفض جناحه لاحد من المسلمين وكافة الناس سوى النبي صلى الله عليه وآله ولم يكن وجه الرأي تولي رسول الله عليه السلام أخذ الراية منه بنفسه، ولى ذلك من يقوم مقامه ولا يتميز عنه، ولا


(1) في ” ش “: تستحل، وما أثبتناه من ” م ” وهامش ” ش “. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: منه.

[ 136 ]

يعظم أحد من المقرين بالملة عن الطاعة له، ولا يراه دونه في الرتبة. وفي هذا من الفضل الذي تخصص به أمير المؤمنين عليه السلام ما لم يشركه فيه أحد، ولا ساواه في نظير له مساو، وكان علم الله تعالى ورسوله عليه السلام في تمام المصلحة بإنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام دون غيره، ما كشف عن اصطفائه لجسيم (1) الامور، كما كان علم الله تعالى فيمن اختاره للنبوة وكمال المصلحة ببعثته (2) كاشفا عن كونهم أفضل الخلق أجمعين. وكان عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المسلمين عند توجهه إلى مكة، ألا يقتلوا بها إلا من قاتلهم، وآمن من تعلق باستار الكعبة سوى نفر كانوا يؤذونه صلى الله عليه وآله منهم: مقيس بن صبابة وابن خطل عبد العزى وابن أبي سرخ وقينتان كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وبمراثي أهل بدر، فقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إحدى القينتين وأفلتت الاخرى، حتى استؤمن لها بعد، فضربها فرس بالابطح في إمارة عمر بن الخظاب فقتلها. وقتل أمير المؤمنين عليه السلام الحويرث بن نقيذ بن


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: لحسم. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: ببعثه.

[ 137 ]

كعب (1)، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه واله بمكة. وبلغه عليه السلام أن أخته أم هاني قد آوت ناسا من بني مخزوم، منهم: الحارث بن هشام وقيس بن السائب، فقصد عليه السلام نحو دارها مقنعا بالحديد، فنادى. ” أخرجوا من آويتم ” قال: فجعلوا يذرقون – والله – كما تذرق الحبارى خوفا منه. فخرجت أم هانئ – وهي لا تعرفه – فقالت: يا عبد الله، أنا أم هانئ بنت عم رسول الله وأخت علي بن أبي طالب انصرف عن داري. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” أخرجوهم ” فقالت: والله لاشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه واله، فنزع المغفر عن رأسه فعرفته، فجاءت تشتد حتى التزمته وقالت: فديتك، حلفت لاشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه واله، فقال لها: ” إذهبي فبري قسمك فإنه بأعلى الوادي “. قالت ام هانئ: فجئت إلى النبي صلى الله عليه واله وهو في قبة يغتسل، وفاطمة عليها السلام تستره، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله كلامي قال: ” مرحبا بك يا أم هانئ وأهلا ” قلت: بأبي أنت وامي، اشكو إليك ما لقيت من علي اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه واله ” قد أجرت من أجرت ” فقالت فاطمة عليها


(1) في طبقات ابن سعيد 2: 136، وانساب الاشراف 1: 357، الحويرث بن نقيذ، وفي سيرة ابن هشام 4: 52، وتاريخ الطبري 3: 59 الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي.

[ 138 ]

السلام: ” إنما جئت يا ام هانئ تشتكين عليا في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله ! ” فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” قد شكر الله لعلي سعيه، وأجرت من أجارت ام هانئ لمكانها من علي بن أبي طالب “. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المسجد، وجد فيه ثلاثمائة وستين صنما، بعضها مشدود ببعض بالرصاص، فقال لامير المؤمنين عليه السلام: ” أعطني يا علي كفا من الحصى فقبض له أمير المؤمنين كفا فناوله، فرماها به وهو يقول: (قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (1) فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد فطرحت وكسرت. وفيما ذكرناه من أعمال أمير المؤمنين عليه السلام في قتل من قتل من أعداء الله بمكة، وإخافة من أخاف، ومعونة (2) رسول الله صلى الله اللة عليه وآله على تطهير المسجد من الاصنام، وشدة باسه في الملة، وقطع الارحام في طاعة الله أدل دليل على تخصصه من الفضل بما لم يكن لاحد منهم سهم فيه، حسب ما قدمناه.


(1) الاسراء 17: 81. (2) في ” ش ” و ” م “: تقوية، وما أثبتناه من هامشهما.

[ 139 ]

ثم اتصل بفتح مكة إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر – وكانوا بالغميصاء (1) – يدعوهم إلى الله عز وجل، وإنما أنفذه (2) إليهم للترة (3) التي كانت بينه وبينهم. وذلك أنهم كانوا أصابوا في الجاهلية نسوة من بني المغيرة، وقتلوا الفاكه بن المغيرة – عم خالد بن الوليد – وقتلوا عوفا – أبا عبد الرحمن ابن عوف – فانفذه رسول الله صلى الله عليه وآله لذلك، وأنفذ معه عبد الرحمن بن عوف للترة أيضا التي كانت بمكه وبينهم، ولولا ذلك ما راى رسول الله صلى الله عليه واله خالدا أهلا للامارة على المسلمين. فكان من أمره ما قدمنا ذكره، وخالف فيه عهد الله وعهد رسوله، وعمل فيه على سنة الجاهلية، واطرح حكم الاسلام وراء ظهره، فبرأ رسول الله صلى الله عليه واله من صنيعه، وتلافي فارطه بأمير المؤمنين عليه السلام، وقد شرحنا من ذلك فيما سلف ما يغني عن تكراره في هذا المكان.


(1) الغميصاء: موضع في بادية العرب قرب مكة كان يسكنه بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة الذين أوقع بهم خالد بن الوليد عام الفتح فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ” ووداهم على يدي علي ابن أبي طالب. ” معجم البلدان 4. 214 “. (2) هامش ” ش ” و ” م “: نفذ. (3) الترة: الثأر ” مجمع البحرين – وتر – 3: 508 “.

[ 140 ]

فصل ثم كانت غزاة حنين، استظهر رسول الله صلى الله عليه وآله فيها بكثرة الجمع، فخرج عليه السلام متوجها إلى القوم في عشرة آلاف من المسلمين، فظن أكثرهم أنهم لن يغلبوا لما شاهدوه من جمعهم وكثرة عدتهم وسلاحهم، وأعجب أبا بكر الكثرة يومئذ فقال: لن نغلب اليوم من قلة، فكان الامر في ذلك بخلاف ما ظنوه، وعانهم (1) أبو بكر بعجبه بهم. فلما التقوا مع المشركين لم يلبثوا حتى انهزمرا بأجمعهم، فلم يبق منهم مع النبي صلى الله عليه واله إلا عشرة أنفس: تسعة من بني هاشم خاصة، وعاشرهم أيمن بن أم ايمن، فقتل ايمن – رحمه الله – وثبت تسعة النفر الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من كان انهزم، فرجعوا أولا فأولا، حتى تلاحقوا، وكانت الكرة لهم على المشركين. وفي ذلك أنزل الله تعالى وفي إعجاب أبي بكر بالكثرة: وبني: (ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينتة على * (هامش) (1) عانه: أصابه بالعين، وهو أثر عين الحاسد في المنظور. أنظر (الصحاح – عين – 6: 2171 “.


[ 141 ]

رسوله وعلى المؤمنين ” (1) يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ومن ثبت معه من بني هاشم يومئذ وهم ثمانية – أمير المؤمنين تاسعهم -:. العباس بن عبد المطلب عن يمين رسول اللة. والفضل بن العباس بن عبد المطلب عن يساره. وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند ثفر (2) بغلته. وأمير المؤمنين عليه السلام بين يديه بالسيف. ونوفل بن الحارث، وربيعة بن الحارث، و عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب حوله. وقد ولت الكافة مدبرين سوى من ذكرناه، وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي: لم يواس النبي غير بني هاشم عند السيوف يوم حنين هرب الناس غير تسعة رهط فهم يهتفون بالناس أين ثم قاموا مع النبي على الموت فابوا زينا لنا غير شين وثوى أيمن الامين من القوم شهيدا فاعتاض قرة عين وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في هذا المقام: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا


(1) التوبة 9: 25 – 26. (2) الثفر: السير الذي في مؤخر السرج ” لسان العرب – ثفر – 4: 105 “.

[ 142 ]

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه على القوم أخرى – يا بني – ليرجعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه لما ناله في الله لا يتوجع يعني به أيمن بن أم أيمن. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله هزيمة القوم عنه، قال للعباس رضي الله عنه – وكان رجلا جهوريا صيتا -: ” ناد في القوم وذكرهم العهد ” فنادى العباس بأعلى صوته: يا أهل بيعة الشجرة (1)، يا اصحاب سورة البقرة (2) إلى أين تفرون ؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم (3) عليه رسول الله صلى الله عليه وآله، والقوم على وجوههم قد ولوا مدبرين، وكانت ليلة ظلماء، ورسول الله في الوادي والمشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي وجنباته ومضايقه مصلتين بسيوفهم وعمدهم وقسيهم. قالوا: فنظر رسول الله صلى الله عليه واله إلى الناس ببعض وجهه في الظلماء، فأضاء كأنه القمر ليلة البدر. ثم نادى المسلمين: ” أين ما عاهدتم الله عليه ؟ ” فأسمع اولهم وآخرهم، فلم يسمعها رجل إلا رمى بنفسه إلى الارض، فانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي، حتى لحقوا بالعدو فواقعوه. قالوا: وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم، إذا أدرك ظفرا من المسلمين


(1، 2) في هامش ” ش ” و ” م “: ” الشجرت – البقرت، كذا قال وهو وقف على التاء دون الهاء “. (3) والاصل: عاهدكم. وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار.

[ 143 ]

اكب عليهم، وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه، وهو يرتجز ويقول: أنا أبو جرول لا براح حتى نبيح القوم (1) أو نباح فصمد له أمير المؤمنين عليه السلام فضرب عجز بعيره فصرعه، ثم ضربه فقطره (2) ثم قال: قد علم القوم لدى الصباح أني في الهيجاء ذو نصاح فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله. ثم التأم المسلمون وصفوا للعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” اللهم إنك أذقت أول قريش نكالا فأذق اخرها نوالا ” وتجالد المسلمون والمشركون، فلما رآهم النبي عليه وآله السلام قام في ركابي سرجه حتى أشرف على جماعتهم وقال: ” الان حمي الوطيس (3): أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ” فما كان بأسرع من أن ولى القوم ادبارهم، وجئ بالاسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مكتفين.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: اليوم، هكذا. (2) قطره: ألقاه على أحد جانبيه، أسقطه. ” الصحاح – قطر – 2: 796 “. (3) حمي الوطيس: هي كلمة لم تسمع الا منه صلى الله عليه وآله، وهو من فصيح الكلام، قال الاصمعي. يضرب مثلا للامر إذا اشتد. ” لسان العرب – وطس – 6: 255 “. (*)

[ 144 ]

ولما قتل أمير المؤمنين عليه السلام أبا جرول وخذل القوم لقتله، وضع المسلمون سيوفهم فيهم، وأمير المؤمنين عليه السلام يقدمهم حتى قتل أربعين رجلا من القوم، ثم كانت الهزيمة والاسر حينئذ، وكان أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية في هذه الغزاة، فانهزم في جملة من انهزم من المسلمين. فروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: لقيت أبي منهزما مع بني أبيه من أهل مكة، فصحت به: يا بن حرب والله ما صبرت مع ابن عمك، ولا قاتلت عن دينك، ولا كففت هؤلاء الاعراب عن حريمك. فقال: من أنت ؟ فقلت: معاوية، قال: ابن هند ؟ قلت: نعم. قال: بأبي أنت وأمي، ثم وقف فاجتمع معه أناس من أهل مكة، وانضممت إليهم ثم حملنا على القوم فضعضعناهم، وما زال المسلمون يقتلون المشركين ويأسرون منهم حتى ارتفع النهار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بالكف عنه ونادى: أن لا يقتل أسير من القوم. وكانت هذيل بعثت رجلا يقال له ابن الاكوع (1) أيام الفتح عينا على النبي عليه السلام حتى علم علمه، فجاء إلى هذيل بخبره فاسر يوم حنين، فمر به عمر بن الخطاب، فلما رآه أقبل على رجل من الانصار وقال: عدو الله الذي كان عينا علينا، ها هو أسير فاقتله، فضرب الانصاري عنقه، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فكرهه وقال. ” ألم آمركم ألا تقتلوا أسيرا ! “.


(1) في ” ش ” وهامش ” م “: ابن الاكوع.

[ 145 ]

وقتل بعده جميل بن معمر بن زهير وهو أسير. فبعث النبي صلى الله عليه وآله إلى الانصار وهو مغضب فقال: ” ما حملكم على قتله، وقد جاءكم الرسول ألا تقتلوا أسيرا ؟ ” فقالوا: إنما قتلنا بقول عمر. فاعرض رسول الله صلى الله عليه واله حتى كلمه عمر بن وهب في الصفح عن ذلك. وقسم رسول الله صلى الله عليه واله غنائم حنين في قريش خاصة، وأجزل القسم للمؤلفة قلوبهم كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل ابن عمرو، وزهير بن أبي أمية، و عبد الله بن أبي أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وهشام بن المغيرة، والاقرع بن حابس، وعيينة بن حصن في امثالهم. وقيل: إنه جعل للانصار شيئا يسيرا، وأعطى الجمهور لمن سميناه، فغضب قوم من الانصار لذلك، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم مقال سخطه، فنادى فيهم فاجتمعوا ثم قال لهم. ” اجلسوا، ولا يقعد معكم أحد من غيركم ” فلما قعدوا جاء النبي عليه السلام يتبعه أمير المؤمنين عليه السلام حتى جلس وسطهم، فقال لهم. ” إني سائلكم عن أمر فاجيبوني عنه ” فقالوا: قل يا رسول الله، قال: ” ألستم كنتم ضالين فهداكم الله بي ؟ ” قالوا: بلى، فلله المنة ولرسوله. قال: ” ألم تكونوا على شفا حفرة من النار، فانقذكم الله بي ؟ ” قالوا: بلى، فلله المنة ولرسوله. قال. ” ألم تكونوا قليلا فكثركم الله بي ؟ ” قالوا: بلى، فلله المنة ولرسوله. قال: ” ألم تكونوا أعداء فالف اللة


[ 146 ]

بين قلوبكم بي ؟ ! ” قالوا: بلى، فلله المنة ولرسوله. ثم سكت النبي صلى الله عليه وآله هنيهة ثم قال: ” ألا تجيبوني بما عندكم ؟ ” قالوا: بم نجيبك فداك آباؤنا وامهاتننا، قد أجبناك بان لك الفضل والمن والطول علينا. قال: ” أم لو شئتم لقلتم: وأنت قد كنت جئتنا طريدا فآويناك، وجئتنا خائفا فآمناك، وجئتنا مكذبا فصدقناك. فارتفعت أصواتهم بالبكاء وقام شيوخهم وساداتهم إليه فقبلوا يديه ورجليه، ثم قالوا: رضينا بالله وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك، وإنما قال من قال منا على غير وغر صدر (1) وغل في قلب، ولكنهم ظنوا سخطا عليهم وتقصيرا بهم، وقد استغفروا الله من ذنوبهم، فاستغفر لهم يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” اللهم اغفر للانصار، ولابناء الانصار، ولابناء أبناء الانصار. يا معشر الانصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنعم، وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول الله ؟ ” قالوا: بلى رضينا. فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” الانصار كرشي وعيبتي (2)، لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا، لسلكت شعب الانصار، اللهم اغفر للانصار “. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى العباس بن مرداس أربعا من الابل يومئذ فسخطها، وانشا يقول.


(1) وغر الصدر: الضغن والعداوة. ” الصحاح – وغر – 2: 846 “. (2) في الحديث. ” الانصار كرشي وعيبتي ” أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته والذين يعتمد عليهم في أموره ” النهاية 4: 163 “.

[ 147 ]

(أتجعل نهبي) (1) ونهب العبيد (2) بين عيينة والاقرع فما كان حصن ولا حابس يفوقان شيخي في المجمع وما كنت دون أمرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع فبلغ النبي صلى الله عليه وآله قوله فاستحضره وقال له: ” أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العباس الاقرع وعيينة فقال له أبو بكر: بأبي أنت وامي، لست بشاعر، قال: ” وكيف ؟ ” قال، قال: بين عيينة والاقرع. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين عليه السلام: ” قم – يا علي – إليه فاقطع لسانه ” (3). قال: فقال العباس بن مرداس: فوالله لهذه الكلمة كانت أشد علي من يوم خثعم، حين أتونا في ديارنا. فأخذ بيدي علي بن أبي طالب فانطلق بي، ولو أرى ان أحدا يخلصني منه لدعوته، فقلت: يا


(1) في سيرة ابن هشام 41: 132، ومغازي الواقدي 3: 947، والطبري 3: 91 ” فأصبح نهبي “. (2) العبيد: كزبير، فرس. ” القاموس المحيط – عبد – 1: 311 “. (3) جاء في حاشية ” ش ” و ” م ” ما لفظه: ذكروا لما قال النبي عليه السلام: ” اقطعوا عني لسانه ” قام عمر بن الخطاب فأهوى إلى شفرة كانت في وسطه ليسلها فيقطع بها لسانه، فقال النبي عليه السلام لامير المؤمنين عليه السلام: ” قم أنت فاقطع لسانه ” أو كما قال.

[ 148 ]

علي، إنك لقاطع لساني ؟ قال: ” إني آمرك فيك ما أمرت “. قال: ثم مضى بي، فقلت: يا علي إنك لقاطع لساني ؟ قال: ” إني لممض فيك ما أمرت ” قال: فما زال بي حتى أدخلني الحظائر (1)، فقال لي: ” اعتد ما بين أربع إلى مائة ” قال، قلت: بابي أنتم وأمي، ما أكرمكم وأحلمكم وأعلمكم !. قال: فقال: ” إن رسول الله صلى الله عليه واله أعطاك أربعا وجعلك مع المهاجرين، فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة قال، قلت: أشر علي، قال. ” فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى “. قلت. فإني أفعل. فصل ولما قسم رسول الله صلى الله عليه واله غنائم حنين، أقبل رجل طوال – أدم أجنأ (2)، بين عينيه أثر السجود، فسلم ولم يخص النبي صلى الله عليه وآله ثم قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم. قال: ” وكيف رأيت ؟ ” قال: لم أرك عدلت. فغضب رسول الله صلى ألله عليه


(1) الحضائر جمع حضيرة، وهي ما يعمل للابل من شجر يقيها الحر والبرد ” مجمع البحرين – حظر – 3: 273 “. (2) الاحنأ: الاحدب ” لسان العرب – جنأ – 1: 50 “.

[ 149 ]

وآله وقال: ” ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ! “. فقال المسلمون: ألا نقتله ؟ فقال: ” دعوه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم الله على يد أحب الخلق إليه من بعدي “. فقتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في من قتل يوم النهروان من الخوارج. فصل فانظر الآن إلى مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الغزاة، وتاملها وفكر في معانيها، تجده عليه السلام قد تولى كل فضل كان فيها، واختص من ذلك بما لم يشركه فيه أحد من الامة. وذلك أنه عليه السلام ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله عند انهزام كافة الناس، إلا النفر الذين كان ثبوتهم بثبوته عليه السلام. وذلك أنا قد أحطنا علما بتقدمه عليه السلام في الشجاعة والبأس والصبر والنجدة، على العباس والفضل – ابنه – وأبي سفيان بن الحارث، والنفر الباقين، لظهور امره في المقامات التى لم يحضرها أحد منهم، واشتهار خبره في منازلة الاقران وقتل الابطال، ولم يعرف لاحد من هؤلاء مقام من مقاماته، ولا قتيل عزي إليهم بالذكر. فعلم بذلك أن ثبوتهم كان به عليه السلام، ولولاه كانت


[ 150 ]

الجناية على الدين لا تتلافى، وأن بمقامه ذلك المقام وصبره مع النبي عليه واله السلام كان رجوع المسلمين إلى الحرب وتشجعهم في لقاء العدو. ثم كان من قتله أبا جرول متقدم المشركين، ما كان هو السبب في هزيمة القوم وظفر المسلمين بهم، وكان من قتله عليه السلام الاربعين الذين تولى قتلهم الوهن على المشركين وسبب خذلانهم وهلعهم، وظفر المسلمين بهم، وكان من بلية المتقدم عليه في مقام الخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أن عان المسلمين بإعجابه بالكثرة، فكانت هزيمتهم بسبب ذلك، أو كان أحد أسبابها. ثم كان من صاحبه في قتل الاسرى من القوم، وقد نهى النبي عليه وآله السلام عن قتلهم، ما ارتكبت به عظيم الخلاف لله تعالى ولرسوله، حتى أغضبه ذلك وآسفه فانكره وأكبره. وكان من صلاح أمر الانصار بمعونته للنبي صلى الله عليه وآله في جمعهم وخطابهم، ما قوي به الدين وزال به الخوف من الفتنة التي اظلت القوم بسبب القسمة، فساهم رسول الله صلى الله عليه وآله في فضل ذلك وشركه فيه لون من سواه. وتولى من أمر العباس بن مرداس ما كان سبب استقرار الايمان في قلبه، وزوال الريب في الدين من نفسه، والانقياد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله والطاعة لامره والرضا بحكمه. ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وآله الحكم على المعترض في قضائه علما على حق أمير المؤمنين عليه السلام في فعاله، وصوابه في


[ 151 ]

حروبه، ونبه على وجوب طاعته وحظر معصيته، وأن الحق في حيزه وجنبته، وشهد له بانه خير الخليقة. وهذا يباين ما كان من خصومة الغاصبين لمقامه من الفعال، ويضاد ما كانوا عليه من الاعمال، ويخرجهم من الفضل إلى النقص الذي يوبق صاحبه – أو يكاد – فضلا عن سموه على أعمال المخلصين في تلك الغزاة وقربهم بالجهاد الذي تولوه، فبانوا به ممن ذكرناه بالتقصير الذي وصفناه. فصل ولما فض الله تعالى جمع المشركين بحنين، تفرقوا فرقتين: فأخذت الاعراب ومن تبعهم إلى أوطاس (1)، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف. فبعث النبي صلى الله عليه وآله أبا عامر الاشعري إلى أوطاس في جماعة منهم أبو موسى الاشعري، وبعث أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف. فاما أبو عامر فانه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل، فقال المسلمون لابي موسى: أنت ابن عم الامير وقد قتل، فخذ الراية حتى نقاتل دونها، فاخذها أبو موسى، فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم. وأما أبو سفيان فإنه لقيه ثقيف فضربوه على وجهه، فانهزم ورجع إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: بعثتني مع قوم لا يرقع بهم


(1) اوطاس: واد في ديار هوازن كانت به وقعة حنين. ” معجم البلدان 1: 281 “.

[ 152 ]

الدلاء من هذيل والاعراب، فما أغنوا عني شيئا، فسكت النبي صلى الله عليه وآله عنه. ثم سار بنفسه إلى الطائف، فحاصرهم أياما، وأنفذ أمير المؤمنين عليه السلام في خيل، وأمره أن يطا ما وجد، ويكسر كل صنم وجده. فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير، فبرز له رجل من القوم يقال له شهاب، في غبش الصبح، فقال: هل من مبارز ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” من له ؟ ” فلم يقم احد، فقام إليه أمير المؤمنين عليه السلام فوثب أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: تكفاه ايها الامير، فقال: ” لا، ولكن إن قتلت فانت على الناس ” فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول. ” إن على كل رئيس حقا أن يروي الصعدة (1) أو تدقا (2) ” ثم ضربه فقتله، مضى في تلك الخيل حتى كسر الاصنام، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو محاصر لاهل الطائف. فلما رآه النبي عليه وآله السلام كبر للفتح، وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلا.


(1) الصعدة: القناة المستوية من منبتها لا تحتاج إلى تعديل. انظر ” الصحاح – صعد – 2: 498 “. (2) في هامش ” م “: تندقا.

[ 153 ]

فروى عبد الرحمن بن سيابة والاجلح – جميعا – عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الانصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما خلا بعلي بن ابي طالب عليه السلام يوم الطائف، أتاه عمر بن الخطاب فقال: اتناجيه دوننا وتخلو به دوننا ؟ فقال: ” يا عمر، ما أنا انتجيته، بل الله انتجاه ” (9). قال: فأعرض عمر وهو يقول: هذا كما قلت لنا قبل الحديبية: (لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين) (2) فلم ندخله وصددنا عنه، فناداه النبي صلى الله عليه وآله. ” لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام ! ” (3). ثم خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن مغتب في خيل من ثقيف، فلقيه امير المؤمنين عليه السلام ببطن وج (4) فقتله، وانهزم المشركون ولحق القوم الرعب، فنزل منهم جماعة إلى النبي صلى الله عليه وآله فاسلموا، وكان حصار النبي صلى الله عليه وآله الطائف بضعة عشر يوما.


(1) روي باختلاف يسير في سنن الترمذي 5: 303، تاريخ بغداد 7: 402، مناقب المغازلي: 124، أسد الغابة 4: 27، كفاية الطالب: 327. (2) الفتح 48: 27. (3) إعلام الورى: 124، وانظر قطع منه في سنن الترمذي 5: 639 / 3726. جامع الاصول 8: 658 / 6505، تاريخ بغداد 7: 402، مناقب المغازلي: 124 / 163، كفاية الطالب: 327، أسد الغابة 4: 27، مصباح الانوار: 88، كنز العمال 11: 625 / 33098 عن الترمذي والطبراني. (4) وج: الطائف. ” معجم البلدان 5: 361 “.

[ 154 ]

وهذه الغزاة أيضا مما خص الله تعالى فيها أمير المؤمنين عليه السلام بما انفرد به من كافة الناس، وكان الفتح فيها على يده، وقتل من قتل من خثعم به، دون سواه، وحصل له من المناجاة التي أضافها رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الله – عز اسمه – ما ظهر به من فضله وخصوصيته من الله عزوجل بما بان به من كافة الخلق، وكان من عدوه فيها ما دل على باطنه وكشف الله تعالى به عن حقيقة سره وضميره، وفي ذلك عبرة لاولي الالباب. فصل ثم كانت غزاة تبوك، فأوحى الله تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه صلى الله عليه واله: أن يسير إليها بنفسه، ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها إلى حرب، ولا يمنى بقتال عدو، وان الامور تنقاد له بغير سيف، وتعبده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم، ليتميزوا بذلك وتظهر سرائرهم. فاستنفرهم النبي صلى الله عليه وآله إلى بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم واشتد القيظ عليهم، فابطا أكثرهم عن طاعته، رغبة في العاجل، وحرصا على المعيشة وإصلاحها، وخوفا من شدة القيظ


[ 155 ]

وبعد المسافة (1) ولقاء العدو، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض، وتخلف آخرون. ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الخروج استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له، ” يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك “. وذلك أنه عليه السلام علم من خبث نيات الاعراب، وكثير من أهل مكة ومن حولها، ممن غزاهم وسفك دماءهم، فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه عنها وحصوله ببلاد الروم أو نحوها، فمتى لم يكن فيها من يقوم مقامه، لم يؤمن من معرتهم، وإيقاع الفساد في دار هجرته، والتخظي إلى ما يشين أهله ومخلفيه. وعلم عليه السلام أنه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها، إلا أمير المؤمنين عليه السلام، فاستخلفه استخلافا ظاهرا، ونص عليه بالامامة من بعده نصا جليا. وذلك فيما تظاهرت به الرواية أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام على المدينة، حسدوه لذلك وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنها تنحرس به، ولا يكون للعدو فيها مطمع، فساءهم ذلك، وكانوا يؤثرون خروجه معه، لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي النبي صلى الله عليه وآله عن المدينة، وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الشقة.

[ 156 ]

وغبطوه عليه السلام على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر. فأرجفوا به عليه السلام وقالوا: لم يستخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله إكراما له وإجلالا ومودة، وإنما خلفه استثقالا له. فبهتوه بهذا الارجاف كبهت قريش للنبي عليه وآله السلام بالجنة تارة، وبالشعر أخرى، وبالسحر مرة، وبالكهانة اخرى. وهم يعلمون ضد ذلك ونقيضه، كما علم المنافقون ضد ما أرجفوا به على أمير المؤمنين عليه السلام وخلافه، وأن النبي صلى الله عليه وآله كان أخص الناس بأمير المؤمنين عليه السلام، وكان هو أحب الناس إليه وأسعدهم عنده وأفضلهم لديه. فلما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبي صلى الله عليه وآله فقال: ” يا رسول الله، إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالا ومقتا ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ارجع يا أخي إلى مكانك، فان المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي “. فتضمن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله نصه عليه بالامامة، وإبانته عن الكافة بالخلافة، ودل به على فضل، لم يشركه فيه سواه، وأوجب له به عليه السلام جميع منازل هارون من موسى، إلا ما خصه العرف من الاخوة واستثناه هو عليه السلام من النبوة.


[ 157 ]

ألا ترى أنه عليه وآله السلام جعل له كافة منازل هارون من موسى، إلا المستشنى منها لفظا أو عقلا. وقد علم كل من تأمل معاني القرآن، وتصفح الروايات والاخبار، أن هارون عليه السلام كان أخا موسى لابيه وامه وشريكه في امره، ووزيره على نبوته وتبليغه رسالات ربه، وأن الله تعالى شد به أزره، وأنه كان خليفته على قومه، وكان له من الامامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته، وأنه كان احب قومه (1) إليه وأفضلهم لديه. قال الله عزوجل حاكيا عن موسى عليه السلام: قال ربي أشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة بن لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من اهلي * هارون اخي * اشدد به ازري * وأشركه في أمري ” (2) فأجاب الله تعالى مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وامنيته، حيث يقول. ” قد اوتيت سؤلك يا موسى ” (3) وقال حاكيا عن موسى عليه السلام. ” وقال موسى لاخيه هاوون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ” (4). فلما جعل. النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام منه بمنزلة هارون من موسى، أو تجب له بذلك جميع ما عددناه، إلا ما خصه العرف من الاخوة واسثناه من النبوة لفظا. وهذه فضيلة لم يشرك فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين عليه


(1) في هامش ” ش ” و ” م “. الخلق. (2) طه 20: 25 – 32. (3) طه 20: 36. (4) الاعراف 7: 142.

[ 158 ]

السلام ولا ساواه في معناها ولا قاربه فيها على حال، ولو علم الله تعالى أن بنبيه عليه السلام في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والانصار، لما أذن له في تخليف أمير المؤمنين عليه السلام عنه حسب ما قدمناه، بل علم أن المصلحة في استخلافه، وأن إقامته في دار هجرته مقامه أفضل الاعمال، فدبر الخلق والدين بما قضاه في ذلك وأمضاه، على ما بيناه وشرحناه. فصل ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وآله من تبوك إلى المدينة قدم عليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” أسلم – يا عمرو – يؤمنك الله من الفزع الاكبر ” فقال: يا محمد، وما الفزع الاكبر، فإني لا أفزع ! ؟ فقال: ” يا عمرو، إنه ليس مما تحسب وتظن، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة اخرى، فينشر من مات ويصفون جميعا، وتنشق السماء وتهد الارض وتخر الجبال، وتزفر النيران (1) وترمي بمثل الجبال شررا، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع. قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه، إلا ما شاء الله، فاين أنت – يا عمرو – من هذا ؟ ” قال: ألا إني أسمع أمرا عظيما، فآمن بالله ورسوله، وآمن معه من قومه ناس، ورجعوا إلى قومهم. ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبي بن عثعث الخثعمي


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: النار.

[ 159 ]

فاخذ برقبته، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله. ” اهدر الاسلام ما كان في الجاهلية ” فانصرف عمرو مرتدا فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ومضى إلى قومه، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام فأمره على المهاجرين، وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الاعراب وأمره أن يقصد الجعفي (1)، فإذا التقيا فأمير الناس علي بن أبي طالب. فسار أمير المؤمنين واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الاشعري. فاما جعفي فانها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين فذهبت فرقة إلى اليمن، وانضمت (2) الفرقة الاخرى إلى بني زبيد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فكتب إلى خالد بن الوليد: أن قف حيث أدركك رسولي. فلم يقف، فكتب إلى خالد بن سعيد: تعرض له حتى تحبسه. فاعترض له خالد حتى حبسه، وأدركه أمير المؤمنين عليه السلام فعنفه على خلافه، ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له كشر (3). فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت – يابا ثور – إذا لقيك هذا الغلام القرشي فاخذ منك الاتاوة (4) ؟ قال. سيعلم إن لقيني.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: جعفي أبو قبيلة، والقبيلة يقال لها: جعفي، ومن الناس من يظن أنه جعف وهو خطا. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: وانصبت. (3) كشر. بوزن زفر: من نواحي صنعاء اليمن. ” معجم البلدان 4: 462 “. (4) الاتاوة: الخراج. ” لسان العرب – اتى – 14: 17 “.

[ 160 ]

قال: وخرج عمرو فقال: هل من مبارز ؟ فنهض إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقام خالد بن سعيد قال له: دعني يابا الحسن بابي أنت وأمي أبارزه. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك ” فوقف، ثم برز (9) إليه أمير المؤمنين عليه السلام فصاح به صيحة فانهزم عمرو وقتل أخوه وابن أخيه وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة، وسبي منهم نسوان، وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلما. فرجع عمرو بن معدي كرب واستاذن على خالد بن سعيد، فاذن له فعاد إلى الاسلام، وكلمه في امرأته وولده، فوهبهم له. وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزورا قد نحرت، فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعا، وكان يسمى سيفه الصمصامة. فلما وهب له خالد بن سعيد امرأته وولده وهب له عمرو الصمصامة. وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد اصطفى من السبي جارية، فبعث خالد بن الوليد بريدة الاسلمي إلى النبي صلى الله عليه واله وقال له: تقدم الجيش إليه فأعلمه ما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقع فيه.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: خرج.

[ 161 ]

فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وآله فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه، فاخبره أنه إنما جاء ليقع في علي، وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه، فقال له عمر: امض لما جئت له، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي. فدخل بريدة على النبي صلى الله عليه واله ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة، فجعل يقرؤه ووجه رسول الله صلى الله عليه وآله يتغير، فقال بريدة: يا رسول الله، إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” ويحك – يا بريدة – أحدثت نفاقا ! إن علي بن أبي طالب يحل له من الفئ ما يحل لي، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من أخلف من بعدي لكافة أمتي، يا بريدة، احذر أن تبغض عليا فيبغضك الله “. قال بريدة: فتمنيت أن الارض انشقت بي فسخت فيها، وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، يا رسول الله، استغفر لي فلن ابغض عليا أبدا، ولا أقول فيه إلا خيرا. فاستغفر له النبي صلى الله عليه وآله. فصل وفي هذه الغزاة من المنقبة لامير المؤمنين عليه السلام ما لا يماثلها منقبة لاحد سواه، والفتح فيها كان على يديه خاصة، وظهر من فضله ومشاركته للنبي عليهما السلام فيما أحله الله تعالى له من الفئ،


[ 162 ]

واختصاصه من ذلك بما لم يكن لغيره من الناس، وبان من مودة رسول الله صلى الله عليه وآله وتفضيله إياه ما كان خفيا على من لاعلم له بذلك، وكان من تحذيره بريدة وغيره من بغضه وعداوته وحثه له على مودته وولايته ورد كيد اعدائه في نحورهم، ما دل على أنه أفضل البرية عند الله تعالى وعنده وأحقهم بمقامه (1) من بعده، وأخصهم به في نفسه، وآثرهم عنده. ثم كانت غزاة السلسلة، وذلك أن أعرابيا جاء إلى النبي عليه وآله السلام فجثا بين يديه وقال له: جئتك لانصح لك. قال: ” وما نصيحتك ؟ ” قال: قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل، وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة. ووصفهم له. فأمر النبي صلى الله عليه وآله أن ينادى بالصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ” أيها الناس، إن هذا عدو الله وعدوكم قد عمل على تبييتكم، فمن لهم ؟ ” فقام جماعة من أهل الصفة، فقالوا: نحن نخرج إليهم – يا رسول الله – فول علينا من شئت. فاقرع بينهم، فخرجت القرعة على ثمانين رجلا منهم ومن غيرهم، فاستدعى أبا بكر فقال له. ” خذ الراية (2)


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: بمكانه. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: اللواء. (*)

[ 163 ]

وامض إلى بني سليم فانهم قريب من الحرة ” فمضى ومعه القوم حتى قارب أرضهم، فكانت كثيرة الحجارة والشجر، وهم ببطن الوادي، والمنحدر إليه صعب. فلما صار أبو بكر إلى الوادي وأراد الانحدار خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعا كثيرا، وانهزم أبو بكر من القوم. فلما وردوا (1) على النبي صلى الله عليه واله عقد لعمر بن الخطاب وبعثه إليهم، فكمنوا له تحت الحجارة والشجر، فلما ذهب ليهبط خرجوا إليه فهزموه. فساء رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك، فقال له عمرو بن العاص: ابعثني – يا رسول الله – إليهم، فإن الحرب خدعة، ولعلي أخدعهم. فأنفذه مع جماعة ووصاه، فلما صار إلى الوادي خرجوا إليه فهزموه، وقتلوا من أصحابه جماعة. ومكث رسول الله صلى الله عليه واله أياما يدعو عليهم، ثم دعا امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فعقد له، ثم قال: ” أرسلته كرارا غير فرار ” ورفع يديه إلى السماء وقال: ” اللهم إن كنت تعلم أني رسولك، فاحفظني فيه وافعل به وافعل ” فدعا له ما شاء الله. وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله لتشييعه، وبلغ معه إلى مسجد الاحزاب، وعلي عليه


(1) في ” م ” وهامش ” ش “. قدموا.

[ 164 ]

السلام على فرس أشقر مهلوب (1)، عليه بردان يمانيان، وفي يده قناة خطية (2)، فشيعه رسول الله صلى الله عليه وآله وأنفذ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص، فسار بهم عليه السلام نحو العراق متنكبا للطريق حتى ظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه، ثم أخذ بهم على محجة غامضة، فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه، وكان يسير الليل ويكمن النهار. فلما قرب من الوادي أمر أصحابه أن يكعموا (3) الخيل، ووقفهم مكانا وقال: ” لا تبرحوا ” وانتبذ أمامهم فأقام ناحية منهم. فلما رأى عمرو بن العاص ما صنع لم يش أن الفتح يكون له، فقال لابي بكر: أنا أعلم بهذه البلاد من علي، وفيها ما هو أشد علينا من بني سليم، وهي الضباع والذئاب، وإن خرجت علينا خشيت أن تقطعنا، فكلمه يخل عنا نعلو الوادي. قال: فانطلق أبو بكر فكلمه فاطال، فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السلام حرفا واحدا، فرجع إليهم فقال: لا واللة ما أجابني حرفا. فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب: أنت أقوى عليه، فانطلق عمر فخاطبه فصنع به مثل ما صنع بأبي بكر، فرجع إليهم


(1) المهلوب: هو المقصوص شعر الهلب، وهو الذنب. ” القاموس المحيط 1: 140 “. (2) الخط: موضع باليمامة، وهو خط هجر، تنسب إليه الرماح الخطية، لانها تحمل من بلاد الهند فتقوم به ” الصحاح – خطط – 3: 1123 “. (3) كعم بعيره أو فرسه: شد فمه كي لا يظهر منه صوت. انظر ” الصحاح – كعم – 5: 2023 “.

[ 165 ]

فأخبرهم أنه لم يجبه. فقال عمرو بن العاص: إنه لا ينبغي أن نضيع أنفسنا، انطلقوا بنا نعلو الوادي، فقال له المسلمون: لا والله لا نفعل، أمرنا رسول الله صلى الله عليه واله أن نسمع لعلي ونطيع، فنترك أمره ونسمع لك ونطيع ؟ ! فلم يزالوا كذلك حتى احس أمير المؤمنين عليه السلام الفجر، فكبس (1) القوم وهم غارون (2)، فامكنه الله منهم، ونزلت على النبي صلى الله عليه وآله: والعاديات ضبحا…) (3) إلى آخر السورة، فبشر النبي صلى الله عليه واله أصحابه بالفتح، وأمرهم أن يستقبلوا أمير المؤمنين عليه السلام فاستقبلوه، والنبي صلى الله عليه واله يقدمهم فقاموا له صفين. فلما بصر بالنبي صلى الله عليه وآله ترجل عن فرسه، فقال له النبي عليه وآله السلام: ” إركب فان الله ورسوله راضيان عنك ” فبكى أمير المؤمنين عليه السلام فرحا، فقال له النبي صلى الله عليه واله: ” يا علي، لولا أنني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتى ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بملا من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك “.


(1) كبسوا دار فلان: اغاروا عليه فجاة ” الصحاح – كبس – 3: 969 “. (2) أي غافلون. (3) العاديات 100: 1.

[ 166 ]

فصل فكان الفتح في هذه الغزاة لامير المؤمنين عليه السلام خاصة، بعد أن كان من غيره فيها من الافساد ما كان، واختص عليه السلام من مديح النبي صلى الله عليه وآله فيها بفضائل لم يحصل منها شئ لغيره، وبان له من المنقبة فيها ما لم يشركه فيه سواء. فصل ولما انتشر الإسلام بعد الفتح وما وليه من الغزوات المذكورة وقوي سلطانه، وفد إلى النبي صلى الله عليه وآله الوفود، فمنهم من أسلم ومنهم من استأمن ليعود إلى قومه برأيه عليه السلام فيهم. وكان في من وفد عليه أبو حارثة اسقف نجران في ثلاثين رجلا من النصارى، منهم العاقب والسيد وعبد المسيح، فقدموا المدينة وقت (1) صلاة العصر، وعليهم لباس الديباج والصلب، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم: لستم على شئ، وقالت لهم اليهود. لستم على شئ، وفي ذلك أنزل الله سبحانه: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: عند.

[ 167 ]

شئ…) (1) إلى آخر الآية. فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله العصر توجهوا إليه يقدمهم الأسقف، فقال له: يا محمد، ما تقول في السيد المسيح ؟ فقال النبي عليه وآله السلام: (عبد لله اصطفاه وانتجبه) فقال الاسقف: أتعرف له – يا محمد – أبا ولده ؟ فقال النبي عليه وآله السلام. (لم يكن عن نكاح فيكون له والد) قال: فكيف قلت. إنه عبد مخلوق، وأنت لم تر عبدا مخلوقا إلا عن نكاح وله والد ؟ فانزل الله تعالى الآيات من سورة آل عمران إلى قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (2) فتلاها النبي صل الله عليه وآله على النصارى، ودعاهم إلى المباهلة، وقال: (إن الله عز اسمه أخبرني أن العذاب ينزل على المبطل عقيب المباهلة، ويبين الحق من الباطل بذلك) فاجتمع الأسقف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة، فاتفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا إلى رحالهم قال لهم الأسقف. انظروا محمدا في غد، فإن غدا بولده واهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا باصحابه فباهلوه


(1) البقرة 2: 113. (2) آل عمران 3: 59 – 61.

[ 168 ]

فإنه على غير شئ. فلما كان من الغد جاء النبي عليه وآله السلام آخذا بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة – صلوات الله عليهم – تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم. فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله قد أقبل بمن معه، سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه علي بن أبي طالب وهو صهره وأبو ولده وأحب الخلق إليه، وهذان الطفلان ابنا بنته من علي وهما من أحب الخلق إليه، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه. فنظر الأسقف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم: انظروا إليه قد جاء بخاصته من ولده وأهله ليباهل بهم واثقا بحقه، والله ما جاء بهم وهو يتخوف الحجة عليه، فاحذروا مباهلته، والله لولا مكان قيصر لأسلمت له، ولكن صالحوه عل ما يتفق بينكم وبينه، وارجعوا إلى بلادكم وارتؤوا لأنفسكم، فقالوا له: رأينا لرأيك تبع، فقال الأسقف: يا با القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك، فصالحنا عل ما ننهض به. فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله عل ألفي حلة من حلل الاواقي قيمة كل حلة أربعون درهما جيادا، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم النبي صل الله عليه وآله كتابا بما صالحهم عليه، وكان الكتاب:


[ 169 ]

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عند محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها، في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منه شئ منهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي ثمن (1) كل حلة أربعون درهما، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك، يؤدون ألفا منها في صفر، وألفا منها في رجب، وعليهم أربعون دينارا مثواة رسولي مما فوق ذلك، وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذى عدن عارية مضمونة ثلاثون درعا وثلاثون فرسا وثلاثون جملا عارية مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة (محمد بن عبد الله) (2)، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذفتي منه بريئة. وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا. فصل وفي قصة أهل نجران بيان عن فضل أمير المؤمنين عليه السلام مع ما فيه من الآية للنبي صلى الله عليه وآله والمعجز الدال على نبوته.


(1) في (م) وهامش (ش): قيمة. (2) في (م): رسول الله.

[ 170 ]

ألا ترى إلى اعتراف النصارى له بالنبوة، وقطعه عليه السلام على امتناعهم من المباهلة، وعلمهم بأنهم لو باهلوه لحل بهم العذاب، وثقته عليه وآله السلام بالظفر بهم والفلج بالحجة عليهم. وأن الله تعالى حكم في آية المباهلة لأمير المؤمنين عليه السلام بأنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله، كاشفا بذلك عن بلوغه نهاية (1) الفضل، ومساواته للنبي عليه وآله السلام في الكمال والعصمة من الآثام، وأن الله جل ذكره جعله وزوجته وولديه – مع تقارب سنهما – حجة لنبيه عليه وآله السلام وبرهانا على دينه، ونصن على الحكم بأن الحسن والحسين أبناؤه، وأن فاطمة عليها السلام نساؤه المتوجه إليهن الذكر والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج، وهذا فضل لم يشركهم فيه أحد من الأمة، ولا قاربهم فيه ولا ماثلهم في معناه، وهو لاحق بما تقدم من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام الخاصة له، على ما ذكرناه. فصل ثم تلا وفد نجران من القصص المنبئة عن فضل أمير المؤمنين عليه السلام وتخصصه من المناقب بما بان به من كافة العباد، حجة الوداع وما جرى فيها من الأقاصيص، وكان فيها لأمير المؤمنين عليه السلام من جليل المقامات. فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله


(1) في هامش ” ش “: غاية.

[ 171 ]

كان قد أنفذه عليه السلام إلى اليمن ليخمس زكاتها (1)، ويقبض ما وافق عليه أهل نجران من الحلل والعين وغير ذلك، فتوجه عليه السلام لما ندبه إليه رسول الله صلى عليه وآله، فأنجزه ممتثلا فيه أمره مسارعا إلى طاعته، ولم يأتمن رسول الله صلى الله عليه وآله أحدا غيره على ما ائتمنه عليه من ذلك، ولا رأى في القوم من يصلح للقيام به سواه، فأقامه عليه السلام مقام نفسه في ذلك واستنابه فيه، مطمئنا إليه، ساكنا إلى نهوضه بأعباء ما كلفه فيه. ثم اراد رسول الله صلى الله عليه وآله التوجه للحج وأداء فرض الله تعالى عليه فيه، فأذن في الناس به، وبلغت دعوته عليه السلام أقاصي بلاد الاسلام، فتجهز الناس للخروج وتأهبوا معه، وحضر المدينة من ضواحيها ومن حولها وبفرب منها خلق كثير، وتهيأؤا للخروج معه، فخرج النبي صلى الله عليه وآله بهم لخمس بقين من ذي القعدة، وكاتب أمير المؤمنين عليه السلام بالتوجه إلى الحج من اليمن ولم يذكر له نوع الحج الذي قد عزم عليه، وخرج عليه وآله السلام قارنا للحج بسياق الهدي، وأحرم من ذي الحليفة (2) وأحرم الناس معه، ولبى (3) عليه السلام من عند الميل الذي بالبيداء، فاتصل ما بين الحرمين بالتلبية حتى انتهى إلى كراع الغميم (4)،


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ركازها. (2) ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة المنورة ستة أميال أو سبعة، وفيها ميقات أهل المدينة. ” معجم البلدان 2: 295 “. (3) لبى اي رفع صوته بالتلبية. (4) كراع الغميم: واد في طريق المدينة إلى مكة المكرمة. (معجم البلدان 4: 443).

[ 172 ]

وكان الناس معه ركبانا ومشاة، فشق على المشاة المسير، وأجهدهم السير والتعب به، فشكوا ذلك إلى النبي ص الله عليه وآله واستحملوه فأعلمهم أنه لا يجد لهم ظهرا، وأمرهم أن يشدوا على أوساطهم ويخلطوا الرمل (1) بالنسل (2)، ففعلوا ذلك واستراحوا إليه، وخرج أمير المؤمنين عليه السلام بمن معه من العسكر الذي كان صحبه إلى اليمن، ومعه الحلل التي أخذها من أهل نجران. فلما قارب رسول الله الله عليه وآله مكة من طريق المدينة، قاربها أمير المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن، وتقدم الجيش للقاء النبي صلى اله عليه وآله وخلف عليهم رجلا منهم، فأدرك النبي عليه وآله السلام وقد أشرف على مكة، فسلم وخبره بما صنع وبقبض ما قبض، وأنه سارع للقائه أمام الجيش، فسر رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك وابتهج بلقائه وقال له: (بما أهللت يا علي ؟ فقال له: يا رسول الله، إنك لم تكتب إلي باهلالك ولا عرفتنيه (3) فعقدت نيتي بنيتك، وقلت. اللهم إهلالا كإهلال نبيك، وسقت معي من البدن أربعا وثلاثين بدنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر، فقد سقت أنا ستا وستين، وأنت شريكي في حجي ومناسكي وهديي، فأقم عل إحرامك وعد إلى جيشك فعجل بهم إلي. حتى نجتمع بمكة إن شاء الله).


(1) الرمل: الهرولة. (الصحاح – رمل – 4: 1713). (2) النسل: الركض بسرعة. انظر (الصحاح – نسل – 5: 1830). (3) في (م) وهامش (ش): عرفته.

[ 173 ]

فودعه أمير المؤمنين عليه السلام وعاد إلى جيشه، فلقيهم عن قرب فوجدهم قد لبسوا الحلل التي كانت معهم، فأنكر ذلك عليهم، وقال للذي كان استخلفه فيهم: (ويلك، ما دعاك إلى أن تعطيهم الحلل من قبل أن ندفعها إلى النبي عليه وآله السلام ولم أكن أذنت لك في ذلك ؟) فقال: سألوني أن يتجملوا بها ويحرموا فيها ثم يردونها علي. فانتزعها أمير المؤمنين عليه السلام من القوم وشدها في الأعدال فاضطغنوا لذلك عليه. فلما دخلوا مكة كثرت شكايتهم من أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله مناديه فنادى في الناس: (ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب، فإنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه) فكف الناس عن ذكره، وعلموا مكانه من النبي صلى الله عليه وآله، وسخطه على من رام الغميزة فيه. فأقام أمير المؤمنين عليه السلام على إحرامه تأسيا برسول الله صلى الله عليه وآله. وكان قد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله كثير من المسلمين بغير سياق هدي. فأنزل الله عز ذكره (واتموا الحج والعمرة لله) (1) فقال رسول الصلى الله عليه وآله: (دخلت العمرة في الحج – وشبك بين أصابع إحدى يديه بالأخرى – إلى يوم القيامة)، ثم قال عليه وآله السلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي) ثم أمر مناديه فنادى: من لم يسق منكم هديا فليحل وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه. فأطاع بعض الناس


(1) البقرة: 2: 196.

[ 174 ]

في ذلك وخالف بعض، وجرت خطوب بينهم فيه، وقال منهم قائلون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أشعث أغبر، ونلبس الثياب ونقرب النساء وندهن !. وقال بعضهم: أما تستحيون أن تخرجوا ورؤسكم تقطر من الغسل، ورسول الله صلى الله عليه وآله على إحرامه !. فأنكر رسول الله على من خالف في ذلك وقال: (لولا أني سقت الهدي لأحللت وجعلتها عمرة، فمن لم يسق هديا فليحل) فرجع قوم وأقام آخرون على الخلاف. وكان فيمن أقام على الخلاف للنبي صلى الله عليه وآله عمر بن الخطاب، فاستدعاه رسول الله عليه وآله السلام وقال له: (ما لي أراك – يا عمر – محرما أسقت هديا ؟ !) قال: لم أسق، قال: (فلم لا تحل وقد أمرت من لم يسق الهدي بالإحلال ؟) فقال: والله يا رسول الله لا أحللت وأنت محرم، فقال له النبي عليه وآله السلام: (إنك لن تؤمن بها حتى تموت). فلذلك اقام على إنكار متعة الحج، حتى رقى المنبر في إمارته فنهى عنها نهيا مجددا (1) وتوعد عليها بالعقاب. ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله نسكه أشرك عليا عليه السلام في هديه، وقفل إلى المدينة وهو معه والمسلمون، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بغدير خم، وليس بموضع إذ ذاك للنزول لعدم الماء


(1) في (ش) و (م). مجردا، واثبتنا ما في هامش (ش) ونسخة العلامة المجلسي.

[ 175 ]

فيه والمرعى، فنزل صلى الله عليه وآله في الموضع ونزل المسلمون معه. وكان سبب نزوله في هذا المكان نزول القرآن عليه بنصبه أمير المؤمنين عليه السلام خليفة في الأمة من بعده، وقد كان تقدم الوحي إليه في ذلك من غير توقيت له فأخره لحضور وقت يأمن فيه الاختلاف منهم عليه، وعلم السبحانه أنه إن تجاوز غدير خم انفصل عنه كثير من الناس إلى بلادهم وأماكنهم وبواديهم، فأراد الله تعالى أن يجمعهم لسماع النص على أمير المؤمنين عليه السلام تأكيدا للحجة عليهم فيه. فأنزل جلت عظمته عليه: (إيا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك) (1) يعني في استخلاف علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام والنص بالإمامة عليه (وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (2) فأكد به الفرض عليه بذلك، وخوفه من تأخير الأمر فيه، وضمن له العصمة ومنع الناس منه. فنزل رسول الله صلى عليه وآله المكان الذي ذكرناه، لما وصفناه من الامر له بذلك وشرحناه، ونزل المسلمون حوله، وكان يوما قائظا شديد الحر، فأمر عليه السلام بدوحات هناك فقم ما تحتها، وأمر بجمع الرحال في ذلك المكان، ووضع بعضها على بعض، ثم أمر مناديه فنادى في الناس بالصلاة. فاجتمعوا من رحالهم إليه، وإن أكثرهم ليلف رداءه على قدميه من شدة الرمضاء. فلما اجتمعوا صعد عليه وآله السلام على تلك الرحال حتى صار في ذروتها، ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فرقى معه حتى قام عن يمينه،


(1، 2) المائدة 5: 67.

[ 176 ]

ثم خطب للناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فابلغ في الموعظة، ونعى إلى الأمة نفسه، فقال عليه وآله السلام: (إني قد دعيت ويوشك أن أجيب، وقد حان مني خفوف (1) من بين أظهركم، وإني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا (2): كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). ثم نادى بأعلى صوته: (3) (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم ؟) فقالوا: اللهم بلى، فقال لهم على النسق، وقد أخذ بضبعي (4) أمير المؤمنين عليه السلام فرفعهما حتى رئي بياض إبطيهما وقال: (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله). ثم نزل صلى الله عليه وآله – وكان وقت الظهيرة – فصلى ركعتين، ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض فصلى بهم الظهر، وجلس صلى الله عليه وآله في خيمته، وأمر عليا أن يجلس في خيمة له بازائه، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجا فوجا فيهنؤوه بالمقام، ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلهم، ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه، ويسلمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن.


(1) يقال خف القوم خفوفا: أي قلوا، وهي كناية منه صلى الله عليه وآله عن ارتحاله من الدنيا. انظر (الصحاح – خفف – 4: 1353). (2) أبدا: ليس في (ش) و (ح) وأثبتناها من (م) وهذا الموضع منها بخط متأخر عن زمن نسخها. (3) في، (م) زيادة: أيها الناس. وهذا القطعة من النسخة: بخط متأخر عن زمن نسخها. (4) الضبع: بسكون الباء، وسط العضد، وقيل: هو ما تحت الإبط (النهاية – ضبع – 3: 73.

[ 177 ]

وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب فأظهر له المسرة به وقال فيما قال: بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وجاء حسان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: يا رسول الله، إئذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه الله ؟ فقال له: (قل يا حسان على اسم الله) فوقف على نشز (1) من الأرض، وتطاول المسلمون لسماع كلامه، فأنشا يقول: يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم وأسمع بالرسول مناديا وقال: فمن مولاكم ووليكم ؟ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا إلهك مولانا وأنت ولينا ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا فقال له: قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا: اللهم وال وليه وكن للذي عادى عليا معاديا فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تزال – يا حسان – مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك). وإنما اشترط رسول الله صلى الله عليه وآله في الدعاء له، لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الاطلاق، ومثل ذلك ما اشترط الله تعالى في مدح أزواج النبي عليه السلام، ولم يمدحهن بغير اشتراط، لعلمه أن منهن من يتغير بعد


(1) النشز: المرتفع من الأرض. (النهاية – نشز – 55: 5).

[ 178 ]

الحال عن الصلاح الذي يستحق عليه المدح والإكرام، فقال عز قائلا: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) (1) ولم يجعلهن في ذلك حسب ما جعل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله في محل الإكرام والمدحة، حيث بذلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير، فأنزل سبحانه وتعالى في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقد آثروا على أنفسهم مع الخصاصة التي كانت بهم، فقال جل قائلا: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا * انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * انا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) (2) فقطع لهم بالجزاء، ولم يشترط لهم كما اشترط لغيرهم، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بيناه. فصل فكان في حجة الوداع من فضل أمير المؤمنين عليه السلام الذي اختص به ما شرحناه، وانفرد فيه من المنقبة الجليلة بما ذكرناه، فكان شريك رسول الصلى الله عليه وآله في حجه وهديه ومناسكه، ووفقه الله تعالى لمساواة نبيه عليه وآله السلام في نيته، ووفاقه في عبادته،


(1) الأحزاب 33: 32. (2) الإنسان 76: 8 – 12.

[ 179 ]

وظهر من مكانه عنده صلى الله عليه وآله وجليل محله عند الله سبحانه ما نوه به في مدحته، فأوجب به فرض طاعته على الخلائق واختصاصه بخلافته، والتصريح منه بالدعوة إلى اتباعه والنهي عن مخالفته، والدعاء لمن اقتدى به في الدين وقام بنصرته، والدعاء على من خالفه، واللعن لمن بارزه بعداوته. وكشف بذلك عن كونه أفضل خلق الله تعالى وأجل بريته، وهذا مما لم يشركه – أيضا – فيه أحد من الأمة، ولا تعرض (1) منه بفضل يقاربه على شبهة لمن ظنه، أو بصيرة لمن عرف المعنى في حقيقته، والله المحمود. فصل ثم كان مما أكد له الفضل وتخصصه منه بجليل رتبته، ماتلا حجة الوداع من الأمور المتجددة لرسول الله صلى الله عليه وآله والأحداث التي اتفقت (بقضاء الله وقدره) (2). وذلك أنه عليه وآله السلام تحقق من دنو أجله ما كان (قدم الذكر) (3) به لأمته، فجعل عليه السلام يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذرهم من الفتنة بعده والخلاف عليه، ويؤكد وصاتهم بالتمسك بسنته والاجتماع عليها والوفاق، ويحثهم على الاقتداء


(1) في هامش (ش): تعوض. (2) في هامش (ش): بعون الله وقدرته. (3) في هامش (ش): تقدم الذكر.

[ 180 ]

بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة، والاعتصام بهم في الدين، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد. فكان فيما ذكره من ذلك عليه وآله السلام ما جاءت به الرواة على اتفاق واجتماع من قوله عليه السلام: (أيها الناس، إني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض، ألا واني سائلكم عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت ربي ذلك فأعطانيه، ألا وإني قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. أيها الناس، لا ألفينكم بعدي ترجعون كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فتلقوني في كتيبة كمجر السيل الجرار (ألا وان علي بن أبي طالب أخي) (1) ووصيي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) (2). فكان عليه وآله السلام يقوم مجلسا بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه. ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإ مرة، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه عليه السلام على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والانصار في


(1) في نسخة (ش): الا علي بن ابي طالب فانه اخي، وفي (م) وهامش (ش): أو علي بن ابي طالب فانه اخي، واثبتنا ما في نسخة العلامة المجلسي (2) وردت قطع من الحديث في الطبقات الكبرى 2: 194، تأريخ اليعقوبي 2: 111 و 112، صحيح مسلم 4: 1873، مسند أبي يعلى 2: 297، 303، مستدرك الحاكم 3: 109، مصباح الانوار: 285. ونقله العلامة المجلسي في البحار 22: 465 / 19.

[ 181 ]

معسكره، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته صلى الله عليه وآله من يختلف في الرئاسة، ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده، ولا ينازعه في حقه منازع، فعقد له الإمرة على من ذكرناه. وجد عليه وآله السلام في إخراجهم، فأمر أسامة بالبروز (1) عن المدينة بمعسكره إلى الخرف (2)، وحث الناس لم على الخروج إليه والمسير معه، وحذرهم من التلوم والإبطاء عنه. فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها، فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع، فقال لمن تبعه: (إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع) فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم فقال عليه السلام: (السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها) ثم استغفر لأهل البقيع طويلا، وأقبل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: (إن جبرئيل عليه السلام كان يعرض علي القرآن كل سنة مرة، وقد عرضه علي العام مرتين، ولا أراه إلا لحضور أجلي). ثم قال: (يا علي، إني خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة، فإذا أنا مت فاغسلني واستر عورتي،


(1) في (م) وهامش (ش): بالخروج. (2) الجرف: موضع عل ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. (معجم البلدان 2: 128).

[ 182 ]

فإنه لا يراها أحد إلا أكمه). ثم عاد إلى منزله عليه وآله السلام فمكث ثلاثة أيام موعوكا، ثم خرج إلى المسجد معصوب الرأس، معتمدا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيمنى يديه، وعلى الفضل بن عباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: (معاشر الناس، قد حان مني خفوف من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له علي دين فليخبرني به. معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحد شئ يعطيه به خيرا أو يصرف به عنه شرا إلا العمل. أيها الناس، لا يدعي مدع ولا يتمنى متمن، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت، اللهم هل بلغت ؟). ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ودخل بيته، وكان إذ ذاك بيت أم سلمة رضي الله عنها فأقام به يوما أو يومين. فجاءت عائشة إليها تسألها ان تنقله إلى بيتها لتتولى تعليله، وسألت أزواج النبي عليه وآله السلام في ذلك فأذن لها، فانتقل صلى الله عليه وآله إلى البيت الذي أسكنه عائشة، واستمر به المرض أياما وثقل عليه السلام. فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله صلى الله عليه وآله مغمور بالمرض فنادى: الصلاة يرحمكم الله، فأوذن رسول الله صلى الله عليه وآله بندائه، فقال: (يصلي بالناس بعضهم فإنني مشغول بنفسي). فقالت عائشة: مروا أبا بكر، وقالت حفصة: مروا عمر.


[ 183 ]

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين سمع كلامهما ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله حي !: (اكففن فإنكن صويحبات يوسف) (1) ثم قام عليه وآله السلام مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين، وقد كان أمرهما عليه السلام بالخروج إلى اسامة، ولم يكن عنده أنهما قد تخلفا. فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع، علم أنهما متأخران عن أمره، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة، فقام عليه السلام – وانه لا يستقل على الأرض من الضعف – فأخذ بيده علي بن أبي طالب عليه السلام والفضل بن عباس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف. فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه، فتأخر أبو بكر وقام رسول الله صلى الله عليه وآله مقامه فكبر فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر ولم يبن عل ما مضى من فعاله. فلما سلم انصرف إلى منزله واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد من المسلمين ثم قال: (ألم آمر أن تنفذوا جيش اسامة ؟ !) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (فلم تأخرتم عن أمري ؟) فقال أبو بكر: إنني كنت خرجت ثم عدت لأجدد (2) بك عهدا. وقال عمر: يا


(1) رواه البخاري في صحيحه 1: 172 ب 46، ومسلم في صحيحه 1: 313 / 94، 95، 101، والبيهقي في دلائل النبوة 7: 186. (2) في (م) و (ح) وهامش (ش): لا حدث.

[ 184 ]

رسول الله، لم أخرج لأنني لم احب أن أسأل عنك الركب. فقال النبي صلى الله عليه وآله: (فانفذوا جيش أسامة فانفذوا جيش اسامة) يكررها ثلاث مرات. ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف، فمكث هنيهة مغمى عليه، وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمين (1). فأفاق عليه وآله السلام فنظر إليهم، ثم قال. (ايتوني بدواة وكتف، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا) ثم اغمي عليه، فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا فقال له عمر: ارجع، فإنه يهجر ! ! ! فرجع. وندم من حضره على ما كان منهم من التضجيع (2) في إحضار الدواة والكتف، فتلاوموا بينهم فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد أشفقنا من خلاف رسول الله. فلما أفاق صلى الله عليه وآله قال بعضهم: ألا ناتيك بكتف يا رسول الله ودواة ؟ فقال: (أبعد الذي قلتم ! ! لا، ولكنني أوصيكم بأهل بيتي خيرا) ثم أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا، وبقي عنده العباس والفضل وعلي بن ابي طالب وأهل بيته خاصة. فقال له العباس: يا رسول الله، إن يكن هذا الأمر فينا مستقرا بعدك فبشرنا، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا، فقال: (أنتم المستضعفون من بعدي) وأصمت، فنهض القوم وهم يبكون قد


(1) في هامش (ش) و (م): من اهل بيته. (2) التضجيع في الأمر: التقصير فيه. (الصحاح – ضجع – 3: 1248).

[ 185 ]

أيسوا (1) من النبي صلى الله عليه وآله. فلما خرجوا من عنده قال عليه السلام: (ارددوا علي أخي علي بن أبي طالب وعمي) فأنفذوا من دعاهما فحضرا، فلا استقر بهما المجلس قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا عباس يا عم رسول الله، تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي عني ديني ؟) فقال العباس: يا رسول الله، عمك شيخ كبير ذو عيال كثير، وأنت تباري الريح سخاء وكرما، وعليك وعد لا ينهض به عمك. فأقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: (يا أخي، تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي عني ديني وتقوم بأمر أهلي من بعدي ؟) قال: نعم يا رسول الله. فقال له: (ادن مني) فدنا منه فضمه إليه، ثم نزع خاتمه من يده فقال له: (خذ هذا فضعه في يدك) ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته فدفع ذلك إليه، والتمس عصابة كان يشدها على بطنه إذا لبس سلاحه وخرج إلى الحرب، فجئ بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: (امض على اسم الله إلى منزلك). فلما كان من الغد حجب الناس عنه وثقل مرضه، وكان أمير المؤمنين لا يفارقه إلا لضرورة، فقام في بعض شؤونه، فأفاق عليه السلام إفاقة فافتقد عليا عليه السلام فقال – وأزواجه حوله -: (ادعوا لي اخي وصاحبي) وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة. ادعوا له أبا بكر، فدعي فدخل عليه فقعد عند رأسه، فلما فتح عينه نظر إليه


(1) (م): يئسوا.

[ 186 ]

وأعرض عنه بوجهه، فقام أبو بكر وقال: لو كان له إلي حاجة لأفضى بها إلي. فلما خرج أعاد رسول الله صلى الله عليه وآله القول ثانية وقال: (ادعوا لي أخي وصاحبي) فقالت حفصة: ادعوا له عمر، فدعي فلما حضر رآه النبي عليه السلام فأعرض عنه فانصرف. ثم قال: عليه السلام: (ادعوا لي أخي وصاحبي) فقالت أم سلمة رضي الله عنها: ادعوا له عليا فإنه لا يريد غيره، فدعي أمير المؤمنين عليه السلام فلما دنا منه أومأ إليه فأكب عليه فناجاه رسول الله صلى الله عليه وآله طويلا، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له الناس: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال: (علمني ألف باب، فتح لي كل باب ألف باب، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله). ثم ثقل عليه السلام وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده. فلما قرب خروج نفسه قال له: (ضع رأسي يا علي في حجرك، فقد جاء أمر الله عز وجل فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى) فأخذ علي عليه السلام رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه، فأكبت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول: (وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال (1) اليتامى عصمة للأرامل)


(1) في هامش (م): ربيع. والثمال: الغياث (الصحاح – ثمل – 4: 1649).

[ 187 ]

ففتح رسول الصلى الله عليه وآله عينيه وقال بصوت ضئيل: (يا بنية، هذا قول عمك أبي طالب، لا تقوليه، ولكن قولي: (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم) (1)) فبكت طويلا فأومأ إليها بالدنو منه، فدنت فأسر إليها شيئا تهلل له وجهها. ثم قضى عليه السلام ويد أمير المؤمنين عليه السلام اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه عليه السلام فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره. فجاءت الرواية: أنه قيل لفاطمة عليها السلام: ما الذي أسر إليك رسول الله صلى الله عليه وآله فسري عنك ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته ؟ قالت: (إنه خبرني أنني أول أهل بيته لحوقا به، وأنه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه، فسري ذلك عني) (2). ولما أراد أمير المؤمنين عليه السلام غسله صلوات الله عليه استدعى الفضل بن عباس، فأمره أن يناوله الماء لغسله – بعد أن عصب عينيه – ثم شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به إلى سرته، وتولى عليه السلام غسله وتحنيطه وتكفينه، والفضل يعاطيه الماء ويعينه عليه، فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده لم


(1) آل عمران 3: 144. (2) الطبقات الكبرى 2: 193، 247، صحيح البخاري 6: 12، صحيح مسلم 4: 1904، مسند أحمد 6: 77، 240، 282، سنن الترمذي 5: 361.

[ 188 ]

يشركه معه أحد في الصلاة عليه. وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم في الصلاة عليه وأين يدفن ؟ ! فخرج إليهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله إمامنا حتا وميتا، فيدخل إليه فوج فوج منكم فيصلون عليه بغير إمام وينصرفون، وإن الله تعالى لم يقبض نبيا في مكان إلا وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإني دافنه في حجرته التي قبض فيها) فسلم القوم لذلك ورضوا به. ولما صلى المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبد المطلب برجل إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح (1) وكان ذلك عادة أهل مكة، وأنفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد، واستدعاهما وقال. (اللهم خر لنبيك). فوجد أبو طلحة زيد ابن سهل فقيل له: احتفر لرسول الله صلى الله عليه وآله، فحفر له لحدا، ودخل أمير المؤمنين عليه السلام والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس واسامة بن زيد ليتولوا دفن رسول الله صلى الله عليه وآله فنادت الأنصار من وراء البيت: يا علي، إنا نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله صلى الله عليه وآله أن يذهب، أدخل منا رجلا يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله صلى الم عليه وآله. فقال: (ليدخل أوس بن خولي) وكان بدريا فاضلا من بني عوف من الخزرج، فلما دخل قال له علي عليه السلام: (انزل القبر) فنزل ووضع أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله على يديه ودلاه في


(1) الضريح: الشق في وسط القبر، واللحد في الجانب (الصحاح – ضرح – 1: 386).

[ 189 ]

حفرته فلما حصل في الأرض قال له: (اخرج) فخرج، ونزل علي بن أبي طالب عليه السلام القبر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ووضع خده على الأرض موجها إلى القبلة على يمينه، ثم وضع عليه اللبن وهال عليه التراب. وكان ذلك في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من هجرته وهو ابن ثلاث وستين سنة. ولم يحضر دفن رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر الناس، لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة، وفات أكثرهم إلصلاة عليه لذلك، وأصبحت فاطمة عليها السلام تنادي: (واسوء صباحاه) فسمعها أبو بكر فقال لها: إن صباحك لصباح سوء. واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وآله وانقطاع بنى هاشم عنهم بمصابهم برسول الله صلى الله عليه وآله، فتبادروا إلى ولاية الأمر واتفق لأبي بكر ما اتفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم، وكراهة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتى يفرغ بنو هاشم، فيستقر الأمر مقره، فبايعوا أبا بكر لحضوره المكان، وكانت أسباب معروفة تيسر منها للقوم ما راموه، ليس هذا الكتاب موضع ذكرها فنشرح القول فيها على التفصيل. وقد جاءت الرواية: أنه لما تم لأبي بكر ما تم وبايعه من بايع، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه اللام وهو يسوي قبر رسوك الله صلى الله عليه وآله بمسحاة في يده فقال له: إن القوم قد بايعوا أبا بكر، ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم، وبدر الطلقاء بالعقد


[ 190 ]

للرجل خوفا من إدراككم الأمر. فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم (ألم * احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * ام حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون) (1) (2). وقد كان أبو سفيان جاء إلى باب رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي والعباس متوفران على اشظر في أمره فنادى: بنى هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الأمر إلا فيكم وإليكم وليس لها إلا أبو حسن علي أبا حسن فاشدد بها كف حازم فإنك بالأمر الذي يرتحى ملي ثم نادى بأعلى صوته: يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل الرذل بن الرذل، أما والله لئن شئتم لأملأنها خيلا ورجلا. فناداه أمير المؤمنين عليه السلام: (ارجع يا با سفيان، فوالله ما تريد الله بما قول، وما زلت تكيد الإسلام وأهله، ونحن مشاغيل برسول الله صلى الله عليه وآله، وعلى كل امرئ ما اكتسب وهو ولي ما احتقب) فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بني امية مجتمعين فيه خرضهم على الأمر فلم ينهضوا له. وكانت فتنة عمت وبلية شملت وأسباب سوء اتفقت، تمكن بها


(1) العنكبوت 29: 1 – 4. (2) نقله الحويزي في تفسير نور الثقلين 4: 149 / 11. (*)

[ 191 ]

الشيطان وتعاون فيها أهل الإفك والعدوان، فتخاذل في إنكارها أهل الإيمان، وكان ذلك تأويل قول الله عز اسمه: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (1). فصل وفيما عددناه من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام بعد الذي تقدم ذكره من ذلك في حجة الوداع، أدل دليل على تخصصه عليه السلام فيها بما لم يشركه فيه أحد من الأنام، إذ كان كل واحد منه بابا من الفضل قائما بنفسه، غير محتاج في معناه إلى سواه. ألا ترى أن تحققه عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وآله في مرضه إلى أن توفاه الله يقتضي فضله في الدين والقربى من النبي صلى الله عليه وآله بالاعمال المرضية الموجبة لسكونه إليه، وتعويله في أمره عليه، وانقطاعه عن الكافة في تدبير نفسه إليه، واختصاصه من مودته بما لم يشركه فيه من عداه، ثم وصيته إليه بما وصاه بعد أن عرض ذلك على غيره فأباه، وتحمله أعباء حقوقه فيه وضمانه للقيام به وأداء الأمانة فيما تولاه، وتخصصه بأخوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وصحبته المرضية حين دعاه، وإيداعه من علوم الدين ما أفرده به ممن سواه، وتولي غسله وجهازه إلى الله، وسبق الكافة إلى الصلاة عليه وتقدمهم في ذلك لمنزلته عنده وعند الله تعالى، ودلالة الأمة على كيفية


(1) الأنفال 8: 25.

[ 192 ]

الصلاة عليه، وقد التبس الأمر عليهم في ذلك، وإرشاده لهم إلى موضع دفنه، مع الاختلاف الذي كان بينهم فيه، فانقادوا إلى ما دعاهم إليه من ذلك ورآه، فصار بذلك كله أوحدا في فضله، وأكمل به من مآثره في الإسلام ما ابتدأه في أوله إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وحصل له به نظام الفضائل على الاتساق، ولم يتخلل شيئا من أعماله في الدين فتور (1)، ولا شان فضله عليه السلام فيما عددناه قصور عن غاية في مناقب الايمان وفضائل الإسلام، وهذا لاحق بالمعجز الباهر الخارق للعادات، وهو مما لا يوجد مثله إلا لنبي مرسل أو ملك مقرب ومن لحق بهما في درج الفضائل عند الله تعالى، إذ كانت العادة جارية فيمن عدا الأصناف الثلاثة بخلاف ذلك، على الاتفاق من ذوي العقول، والألسن والعادات. والله نسأل التوفيق وبه نعتصم من الضلال. فصل فأما الأخبار التي جاءت بالباهر من قضاياه عليه السلام في الدين، وأحكامه التي افتقر إليه في علمها كافة المؤمنين، بعد الذي أثبتناه من جملة الوارد في تقدمه في العلم، وتبريزه على الجماعة بالمعرفة والفهم، وفزع علماء الصحابة إليه فيما اعضل من ذلك، والتجائهم إليه فيه وتسليمهم له اقضاء به، فهي أكثر من أن تحصى وأجل من أن تتعاطى، وأنا مورد منها جملة تدل على ما بعدها إن شاء الله.


(1) في (م) و (ح) وهامش (ش): شوب.

[ 193 ]

فمن ذلك ما رواه نقلة الآثار من العامة والخاصة في قضاياه ورسول الله صلى الله عليه وآله حي فصوبه فيها، وحكم له بالحق فيما قضاه، ودعا له بخير وأثنى عليه به، وأبانه بالفضل في ذلك من الكافة، ودل به على استحقاقه الأمر من بعده، ووجوب تقدمه على من سواه في مقام الإمامة، كما تضمن ذلك التنزيل فيما دل على معناه وعرف به ما حواه التأويل، حيث يقول الله عز اسمه: (افمن يهدي الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدي الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1) وقوله تعالى ذكره: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر أولوا الالباب) (2) وقوله تعالى سبحانه في قصة آدم عليه السلام وقد قالت الملائكة: (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني اعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم * قال يا آدم انبئهم باسمائهم فلما انبأهم باسمائهم قال الم اقل لكم اني اعلم غيب السماوات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) (3). فنبه الله سبحانه الملائكة على أن آدم أحق بالخلافة منهم، لأنه أعلم منهم بالأسماء وأفضلهم في علم الأنباء.


(1) يونس 10: 35. (2) الزمر 39: 9. (3) البقرة 2: 30 – 33.

[ 194 ]

وقال جل ذكره في قصة طالوت: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا انى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكة من يشاء والله واسع عليم) (1). فجعل جهة حقه في التقدم عليهم ما زاده الله من البسطة في العلم والجسم، واصطفاءه إياه على كافتهم بذلك، فكانت هذه الآيات موافقة لدلائل العقول في أن الأعلم أحق بالتقدم في محل الإمامة ممن لا يساويه في العلم، ودلت على وجوب تقدم أمير المؤمنين عليه السلام على كافة المسلمين في خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وإمامة الأمة لتقدمه عليهم في العلم والحكمة، وقصورهم عن منزلته في ذلك. فصل فمما جاءت به الرواية في قضاياه والنبي صلى الله عليه وآله حي موجود، أنه لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام ويعرفهم (2) الحلال من الحرام، ويحكم فيهم بأحكام القرآن، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: (تنفذني (3)


(1) البقرة 2: 247. (2) في (م): يبين لهم. (3) في (م) وهامش (ش): تندبني.

[ 195 ]

يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء) فقال له: (ادن مني) فدنا منه فضرب على صدره بيده، وقال: (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه) قال أمير المؤمنين عليه السلام: (فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام) (1). ولما استقرت به الدار باليمن، ونظر فيما ندبه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله من القضاء والحكم بين المسلمين، رفع إليه رجلان بينهما جارية يملكان رقها على السواء، قد جهلا حظر وطئها فوطئاها معا في طهر واحد على ظن منهما جواز ذلك لقرب عهدهما بالإسلام وقلة معرفتهما بما تضمنته الشريعة من الأحكام، فحملت الجارية ووضعت غلاما، فاختصما إليه فيه، فقرع على الغلام باسميهما فخرجت القرعة لأحدهما فألحق الغلام به، وألزمه نصف قيمته لأنه كان عبدا لشريكه، وقال: (لو علمت أنكما أقدمتما على ما فعلتماه بعد الحجة عليكما بحظره لبالغت في عقوبتكما) وبلغ رسول الصلى الله عليه وآله هذه القضية فأمضاها، وأقر الحكم بها في الإسلام، وقال: (الحمد لله الذي جعل فينا – أهل البيت – من يقضي على سنن داود عليه السلام وسبيله في القضاء) يعني القضاء بالإلهام الذي هو في معنى الوحي، ونزول النص به أن لو نزل على الصريح (2).


(1) روي باختلاف يسير في الطبقات الكبرى 2: 337، مسند أحمد 1: 136، سنن ابن ماجة 2: 774، أنساب الاشراف 2: 101، مسند أبي يعلى 1: 268 و 323، تأريخ بغداد 12: 443، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 244. (2) روي نحوه في الكافي 5: 491، الفقيه 3: 54، تهذيب الأحكام 6: 238، مصباح الأنوار: 182، مناقب آل أبي طالب 2: 353.

[ 196 ]

ثم رفع إليه عليه السلام وهو باليمن خبر زبية (1) حفرت للأسد فوقع فيها، فغدا الناس ينظرون إليه، فوقف على شفير الزبية رجل فزلت قدمه فتعلق بآخر وتعلق الآخر بثالث وتعلق الثالث بالرابع، فوقعوا في الزبية فدقهم الأسد وهلكوا جميعا، فقضى عليه السلام أن الأول فريسة الأسد وعليه ثلث الدية للثاني، وعلى الثاني ثلثا الدية للثالث، وعلى الثالث الدية كاملة للرابع. وانتهى الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: (لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عز وجل فوق عرشه) (2). ثم رفع إليه خبر جارية حملت جارية على عاتقها عبثا ولعبا، فجاءت جارية أخرى فقرصت الحاملة فقفزت (3) لقرصتها فوقعت الراكبة فاندقت عنقها وهلكت، فقضى عليه السلام على القارصة بثلث الدية، وعلى القامصة (4) بثلثها، وأسقط الثلث الباقي بقموص الراكبة لركوب الواقعة (5) عبثا القامصة. وبلغ الخبر بذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله فأمضاه وشهد له بالصواب به (6).


(1) الزبية: حفرة يحفرونها في مكان عال ليصطادوا بها الأسد. (الصحاح – زبى – 6: 2366). (2) الكافي 7: 286 / 3، الفقيه 4: 86 / 278، تهذيب الأحكام 10: 239 / 951، المقنعة: 750، مصباح الأنوار: 182، مناقب آل أبي طالب 2: 354، و 378، باختلاف يسير. (3) في هامش (ش) و (م): (فقعصت). (4) والقامصة: النافرة الضاربة برجليها. قال ابن الأثير: ومنه حديث علي (أنه قضى في القارصة والقامصة والراقصة بالدية اثلاثا). النهاية – قمص – 4: 108، – قرص – 4: 40. (5) في هامش (ش). الواقصة، والوقص: كسر العنق. (النهاية – وقص – 5: 214). (6) المقنعة: 750، مناقب آل أبي طالب 2: 354، وروي باختلاف في تقسيم الديات

[ 197 ]

وقضى عليه السلام في قوم وقع عليهم حائط فقتلهم، وكان في جماعتهم امرأة مملوكة وأخرى حرة، وكان للحرة ولد طفل من حر، وللجارية المملوكة ولد طفل من مملوك، فلم يعرف الحر – من الطفلين – من المملوك، فقرع بينهما وحكم بالحرية لمن خرج سهم الحرية عليه منهما، وحكم بالرق لمن خرج عليه سهم الرق، منهما، ثم أعتقه وجعله مولاه وحكم في ميراثهما بالحكم في الحر ومولاه. فأمضى رسول الله صلى الله عليه وآله عليه هذا القضاء وصوبه حسب إمضائه ما أسلفنا ذكره ووصفنا (1). فصل وجاءت الآثار أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله في بقرة قتلت حمارا، فقال أحدهما: يا رسول الله، بقرة هذا الرجل قتلت حماري. فقال رسول الله عليه وآله السلام: (اذهبا إلى أبي بكر فاسألاه عن ذلك) فجاءا إلى أبي بكر وقصا عليه قصتهما، فقال: كيف تركتما رسول الله صلى الله عليه وآله وجئتماني ؟ قالا: هو أمرنا بذلك، فقال لهما: بهيمة قتلت بهيمة، لا شئ على ربها. فعادا إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبراه بذلك فقال لهما: (امضيا =


أنصافا لا أثلاثا في الفقيه 4، تهذيب الأحكام 10: 241، ونقله العلامة المجلسي في البحار 104: 393. (1) مناقب آل أبي طالب 2: 354، ونقله العلامة المجلسي في البحار 104: 357 / 16.

[ 198 ]

إلى عمر بن الخطاب وقصا عليه قصتكما واسألاه القضاء في ذلك) فذهبا إليه وقصا عليه قصتهما، فقال لهما: كيف تركتما رسول الله صلى الله عليه وآله وجئتماني ؟ قالا: هو أمرنا بذلك، قال: فكيف لم يأمركما بالمصير إلى أبي بكر ؟ قالا: قد أمرنا بذلك فصرنا إليه. فقال: ما الذي قال لكما في هذه القضية (1) ؟ قالا له: كيت وكيت، قال: ما أرى فيها إلا ما رأى أبو بكر. فعادا إلى النبي صلى الله عليه وآله فخبراه الخبر، فقال،: (إذهبا إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام ليقضي بينكما) فذهبا إليه فقصا عليه قصتهما، فقال عليه السلام: (إن كانت البقرة دخلت على الحمار في مأمنه، فعلى ربها قيمة الحمار لصاحبه، وإن كان الحمار دخل على البقرة في مأمنها فقتلته، فلا غرم على صاحبها) فعادا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبراه بقضيته بينهما، فقال عليه وآله السلام: (لقد قضى علي بن أبي طالب بينكما بقضاء الله عز اسمه، ثم قال: الحمد لله الذي جعل فينا – أهل البيت – من يقضي على سنن داود في القضاء) (2). وقد روى بعض العامة أن هذه القضية كانت من أمير المؤمنين عليه السلام بين الرجلين باليمن، وروى بعضهم حسب ما قدمناه، وأمثال ذلك كثيرة، وإنما الغرض في ايراد موجز منه على الاختصار.


(1) في (م) وهامش (ش): القصة. (2) روي باختلاف يسير في الكافي 7: 352 / 7، مناقب آل أبي طالب 2: 354، وباختلاف في ألفاظه في تهذيب الأحكام 10: 229 / 34، وفضائل شاذان: 167، ونقله العلامة المجلسي في البحار 104: 400 / 2.

[ 199 ]

فصل في ذكر مختصر من قضائه عليه السلام في إمارة أبي بكر ابن أبي قحافة فمن ذلك ما جاء الخبر به عن رجال من العامة والخاصة: أن رجلا رفع إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحد فقال له: إنني شربتها ولا علم لي بتحريمها، لأني نشأت بين قوم يستحلونها، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن.. فارتج (1) على أبي بكر الأمر بالحكم عليه، ولم يعلم وجه القضاء فيه، فأشار عليه بعض من حضره أن يستخبر أمير المؤمنين عليه السلام عن الحكم في ذلك، فأرسل إليه من سأله عنه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (مر ثقتين من رجال المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار، ويناشدانهم الله هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه وخل سبيله) ففعل ذلك أبو بكر، فلم يشهد عليه أحد من المهاجرين والأنصار أنه تلا عليه آية التحريم، ولا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فاستتابه أبو بكر وخلى سبيله، وسلم لعلي عليه السلام في القضاء * (هامش) (1) ارتج عليه وارتج عليه: استبهم عليه. (لسان العرب – رتج – 2: 280).


[ 200 ]

به (1). ورووا: أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى: (وفاكهة وأبا) (2) فلم يعرف معنى الأب في القرآن، وقال: أي سماء تظلني وأي (2) أرض تقلني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله تعالى بما لا أعلم، أما الفاكهة فنعرفها، وأما الأب فالله أعلم به. فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقاله في ذلك، فقال: عليه السلام: (يا سبحان الله، أما علم أن الأب هو الكلأ والمرعى، وأن قوله عز اسمه: (وفاكهة وأبا) اعتداد من الله سبحانه بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم) (4). وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطات فمن نفسي ومن الشيطان. فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقال. (ما أغناه عن الرأي في هذا المكان ! أما علم أن الكلالة هم الإخوة والأخوات من قبل الأب والأم، ومن قبل الأب على انفراده، ومن قبل الام أيضا على حدتها، قال الله عز قائلا:


(1) الكافي 7: 216 / 16، و 249 / 4، وتهذيب الأحكام 10: 94 / 361، خصائص الرضي: 81، مناقب آل أبي طالب 2: 356 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 79: 159 / 13. (2) عبس 80: 31. (3) في هامش (ش): أم أي. (4) ذكر صدره ابن شهر آشوب في مناقبه 2: 32، والسيوطي في الدر المنثور 6: 317 عن فضائل أبو عبيد وعبد بن جميل، ونقله البحراني في تفسير البرهان 4: 429 / 1، والحويزي في تفسير نور الثقلين 5: 511 / 14، والعلامة المجلسي في البحار 79: 159 / 13.

[ 201 ]

(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد) (1) وقال جلت عظمته: (وان كان رجل يورث كلالة أو امراة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فان كانوا اكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) (2) (3). وجاءت الرواية: أن بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة ؟ فقال له: نعم،، فقال: فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن الله تعالى أين هو في السماء أم في الأرض ؟ فقال له أبو بكر: في السماء على العرش، فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة، اغرب عني وإلا قتلتك. فولى الحبر متعجبا يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: (يا يهودي، قد عرفت ما سألت عنه، وما أجبت به، وإنا نقول: إن الله جل وعز أين الأين فلا أين له، وجل عن أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علما بما فيها ولا يخلو شئ منها من تدبيره، وإني مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك، فان عرفته أتؤمن به ؟) قال اليهودي: نعم، قال: (ألستم تجدون في بعض كتبكم أن موسى بن عمران عليه السلام كان ذات يوم جالسا إذ جاءه ملك من المشرق، فقال له موسى: من أين أقبلت ؟ قال: من عند الله عز


(1) النساء 4: 176. (2) النساء 4: 12. (3) سنن الدارمي 2: 365، الفصول المختارة من العيون والمحاسن. 161، وشرح النهج 17: 201، وفيها صدر الحديث، ونقله العلامة المجلسي في البحار 104: 344 / 13.

[ 202 ]

وجل، ثم جاءه ملك من المغرب فقال له: من أين جئت ؟ قال: من عند الله، وجاءه ملك آخر، فقال: قد جئتك من السماء السابعة من عندا الله تعالى، وجاءه ملك آخر فقال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز اسمه، فقال موسى عليه السلام: سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان) فقال اليهودي: (أشهد أن هذا هو) (1) الحق، وأنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه (2). وأمثال هذه الأخبار كثيرة. فصل في ذكر ما جاء من قضاياه عليه السلام في إمارة عمر بن الخطاب فمن ذلك ما جاءت به العامة والخاصة في قصة قدامة بن مظعون وقد شرب الخمر فأراد عمر أن يحده، فقال له قدامة: إنه لا يجب علي الحد، لأن الله تعالى يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا


(1) في هامش (ش) و (م): أشهد ان لا إله إلا هو، هذا هو. (2) الاحتجاج 1: 209، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 248.

[ 203 ]

الصالحات ثم اتقوا وآمنوا) (1) فدرأ عمر عنه الحد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فمشى إلى عمر فقال له: (لم تركت إقامة الحد على قدامة في شربه الخمر ؟) فقال له: إنه تلا علي الآية، وتلاها عمر على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (ليس قدامة من أهل هذه الآية، ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله عز وجل، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون حراما، فاردد قدامة واستتبه مما قال، فإن تاب فأقم عليه الحد، وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملة) فاستيقظ عمر لذلك، وعرف قدامة الخبر، فأظهر التوبة والإقلاع، فدرأ عمر عنه القتل، ولم يدر كيف يحده. فقال لأمير المؤمنين: أشر علي في حده، فقال: (حده ثمانين، إن شارب الخمر إذا شربها سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى)، فجلده عمر ثمانين وصار إلى قوله في ذلك (2). ورووا: أن مجنونة على عهد عمر فجر بها رجل، فقامت البينة عليها بذلك، فأمر عمر بجلدها الحد، فمر بها على أمير المؤمنين عليه السلام لتجلد فقال: (ما بال مجنونة آل فلان تعتل (3) ؟) فقيل له: أن رجلا فجر بها وهرب، وقامت البينة عليها، فأمر عمر بجلدها، فقال لهم: (ردوها إليه وقولوا له: أما علمت أن هذه مجنونة آل فلان ! وأن النبي صلى الله


(1) المائدة 5: 93. (2) روي نحوه في الكافي 7: 215 / 10، التهذيب 10: 93، تفسير العياشي 1: 341 / 189، علل الشرائع: 539 / 7، سنن الدارقطني 3: 166، والدر المنثور 3: 161 ولم يذكرا اسم قدامة بن مظعون، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 249 / 43، 79: 159 / 14. (3) تعتل: تجذب جذبا عنيفا. (الصحاح – عتل – 5: 1758).

[ 204 ]

عليه وآله قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق ! إنها مغلوبة على عقلها ونفسها)، فردت إلى عمر، وقيل له ما قال أمير المؤمنين عليه السلام فقال: فرج الله عنه لقد كدت أن أهلك في جلدها. ودرأ عنها الحد (1). ورووا: أنه اتي بحامل قد زنت فأمر برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (هب لك سبيل عليها، أي سبيل لك على ما في بطنها ! ؟ والله تعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر اخرى) (2)) فقال عمر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو حسن، ثم قال: فما أصنع بها ؟ قال. (احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحد عليها) فسري بذلك عن عمر وعول في الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام (3). ورووا: أنه استدعى امرأة تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم، فأملصت (4) فوقع إلى الأرض ولدها يستهل ثم مات، فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول الله


(1) مناقب آل أبي طالب 2: 366، وروي نحوه في مسند احمد 1: 154، سنن أبي داود 4: 140، مسند أبي يعلى 1: 440، المستدرك على الصحيحين 2: 59، سنن الدارقطني 3: 138 / 173، سنن البيهقي 8: 264، سنن سعيد بن منصور 2: 67، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار 79: 88 / 6. (2) الأنعام 6: 164، الإسراء 17: 15، فاطر 35: 18، الزمر 39: 7. (3) روي باختصار في الاختصاص: 111، مناقب آل أبي طالب 2: 362، كفاية الطالب: 227، إرشاد القلوب: 213، ونقله العلامة المجلسي في البحار 79: 49 / 35. (4) أملصت المرأة بولدها: أسقطته. (الصحاح – ملص – 3: 1057).

[ 205 ]

صلى الله عليه وآله وسألهم عن الحكم في ذلك، فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدبا ولم ترد إلا خيرا ولا شئ عليك في ذلك. وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن ؟ قال: (قد سمعت ما قالوا) قال: فما تقول أنت ؟ قال: (قد قال القوم ما سمعت) قال: أقسمت عليك لتقولن ما عندك، قال: (إن كان القوم قاربوك فقد غشوك، وإن كانوا ارتؤوا فقد قصروا، الدية على عاقلتك لأن قتل الصبي خطأ تعلق بك) فقال: أنت والله نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى تجزئ الدية على بني عدي، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام (1). ورووا: أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بينة، ولم ينازعهما فيه غيرهما، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفزع فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوفهما فأقامتا على التنازع والاختلاف، فقال عليه السلام عند تماديهما في النزاع: (ايتوني بمنشار) فقالت له المرأتان: ما تصنع ؟ فقال: (أقده نصفين، لكل واحدة منكما نصفه) فسكتت احداهما وقالت الاخرى: الله الله يا أبا الحسن، إن كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها، فقال: (الله اكبر، هذا ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت) فاعترفت المرأة الأخرى بأن الحق


(1) رواه ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب 2: 366، ونحوه قي أنساب الأشراف 2: 178، الكافي 7: 374 / 11، تهذيب الاحكام 10: 312 / 1165، شرح نهج البلاغة 1: 174، ونقله العلامة المجلسي في البحار 104: 394 / 31.

[ 206 ]

مع صاحبتها والولد لها دونه، فسري عن عمر ودعا لأمير المؤمنين عليه السلام بما فرج عنه في القضاء (1). وروي عن يونس، عن الحسن: أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله عز اسمه يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) (2) وقول تعالى: (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعة) (3) فإذا تممت المرأة الرضاعة سنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا، كان الحمل منها ستة أشهر) فخلى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك، يعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا (4). ورووا: أن امراة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمر وقال: وتجرح الشهود أيضا، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ردوها واسألوها، فلعل لها عذرا) فردت وسئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماء ولم يكن في إبلي لبن، وخرج معي


(1) مناقب آل أبي طالب 2: 367، ونحوه في فضائل شاذان: 64، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 252 / 26. (2) الأحقاف 46: 15. (3) البقرة 2: 233. (4) روي نحوه في الدر المنثور 1: 288، و 6: 40، سنن سعيد بن منصور 2: 66، السنن الكبرى 7: 442، مناقب آل أبي طالب 2: 365، ونقله الحويزي في تفسير نور الثقلين 5: 14 / 19، والعلامة المجلسي في البحار 40: 252 / 27.

[ 207 ]

خليطنا وكانت في إبله لبن، فنفذ مائي، فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي، فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (الله أكبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) (1)) فلما سمع ذلك عمر خلى سبيلها (2). فصل ومما جاء عنه عليه السلام في معنى القضاء وصواب الرأي، وإرشاد القوم إلى مصالحهم وتدارك ما كاد يفسد بهم (3) لولا تنبيهه على وجه الرأي فيه، ما حدث به شبابة بن سوار، عن أبي بكر الهذلي قال: سمعت رجالا من علمائنا يقولون: تكاتبت الأعاجم من أهل همذان وأهل الري وأهل أصفهان وقومس (4) ونهاوند، وأرسل بعضهم إلى بعض: أن ملك العرب الذي جاء بدينهم وأخرج كتابهم قد هلك – يعنون النبي صلى الله عليه وآله – وأنه ملكهم من بعده


(1) البقرة 2: 173. (2) مناقب آل أبي طالب 2: 369، وروي نحوه في تفسير العياشي 1: 74، الفقيه 4: 25، التهذيب 10: 49 / 186، كنز العمال 5: 456، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 253 / ذح 27، و 79، 50 / 36. (3) في (م) وهامش (ش): يفسدهم. (4) قومس: تعريب كومس، وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان، وقصبتها المشهورة دامغان وهي بين الري ونيسابور، ومن مدنها المشهورة بسطام وبيار وبعض يدخل فيها سمنان. (معجم البلدان 4: 414).

[ 208 ]

رجل ملكا يسيرا ثم هلك – يعنون أبا بكر – وقام بعدة آخر قد طال عمره حتى تناولكم في بلادكم وأغزاكم جنوده – يعنون عمر بن الخظاب – وأنه غير منته عنكم حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتخرجوا إليه فتغزوه في بلاده، فتعاقدوا على هذا وتعاهدوا عليه. فلما انتهى الخبر إلى من بالكوفة من المسلمين أنهوه إلى عمر بن الخطاب، فلما انتهى إليه الخبر فزع عمر لذلك فزعا شديدا، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر المهاجرين والأنصار، إن الشيطان قد جمع لكم جموعا، وأقبل بها ليطفئ نور الله، ألا إن أهل همذان وأهل اصفهان والري وقومس ونهاوند مختلفة ألستنها وألوانها وأديانها – قد تعاهدوا وتعاقدوا أن يخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين، ويخرجوا إليكم فيغزوكم في بلادكم، فأشيروا علي وأوجزوا ولا تطنبوا في القول، فإن هذا يوم له ما بعده من الأيام. فتكلموا، فقام طلحة بن عبيد الله – وكان من خطباء قريش – فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين، قد حنكتك الأمور، وجرستك (1) الدهور، وعجمتك البلايا، وأحكمتك التجارب، وأنت مبارك الأمر، ميمون النقيبة، قد وليت فخبرت واختبرت وخبرت، فلم تنكشف من عواقب قضاء الله إلا عن خيار، فاحضر هذا الأمر برأيك ولا تغب عنه. ثم جلس. فقال عمر: تكلموا، فقام عثمان بن عفان فحمد الله وأثنى عليه (1) جرسته الأمور: جربته وأحكمته. (الصحاح – جرس – 3: 913).


[ 209 ]

ثم قال: أما بعد – يا أمير المؤمنين – فإني أرى أن تشخص أهل الشام من شامهم، وأهل اليمن من يمنهم، وتسير أنت في أهل هذين الحرمين وأهل المصرين الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المؤمنين، فإنك – يا أمير المؤمنين – لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، فاحفره برأيك ولا تغب عنه. ثم جلس. فقال عمر: تكلموا، فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (الحمد لله – حتى تم التحميد والثناء على الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله – ثم قال: أما بعد، فانك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريهم وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإن أشخصت من بهذين الحرمين، انتقضت العرب عليك من أطرافها وأكنافها، حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهم إليك مما بين يديك. وأما ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم، فإنا لم نكن نقاتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر، وأما ما بلغك من اجتماعهم على المسير إلى المسلمين، فإن الله لمسيرهم أكره منك لذلك، وهو أولى بتغيير ما يكره، وإن الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا: هذا رجل العرب، فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب، فكان أشد لكلبهم، وكنت قد ألبتهم على نفسك، وأمدهم من لم يكن يمدهم. ولكني أرى أن تقر هؤلاء في أمصارهم، وتكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاث فرق: فلتقم فرقة منهم على ذراريهم حرسا لهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا، ولتسر


[ 210 ]

فرقة منهم إلى إخوانهم مددا لهم)، فقال عمر: أجل هذا الرأي، وقد كنت أحب أن أتابع عليه. وجعل يكرر قول أمير المؤمنين عليه السلام وينسقه إعجابا به واختيارا له (1). قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: فانظروا – أيدكم الله – إلى هذا الموقف الذي ينبئ بفضل الرأي إذ تنازعه أولو الألباب والعلم، وتأملوا التوفيق الذي قرن الله به أمير المؤمنين عليه السلام في الأحوال كلها، وفزع القوم إليه في المعضل من الأمور، وأضيفوا ذلك إلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الذي أعجز متقدمي القوم حتى اضطروا في علمه إليه، تجدوه من باب المعجز الذي قدمناه، والله ولي التوفيق. فهذا طرف من موجز الأخبار فيما قضى به أمير المؤمنين عليه السلام في إمارة عمر بن الخطاب، وله مثل ذلك في إمارة عثمان بن عفان. فصل فمن ذلك ما رواه نقلة الآثار من العامة والخاصة: أن امرأة نكحها شيخ كبير فحملت، فزعم الشيخ أنه لم يصل إليها وأنكر حملها، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة هل افتضك الشيخ ؟ وكانت


(1) انظر: تاريخ الطبري 4: 124، الفتوح لابن اعثم 1: 287 – 292 بتفصيل، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 253 / 28.

[ 211 ]

بكرا فقالت: لا، فقال عثمان: أقيموا الحد عليها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (إن للمرأة سمين: سم المحيض وسم البول، فلعل الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض فحملت منه، فاسألوا الرجل عن ذلك) فسئل فقال: قد كنت أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالاقتضاض، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (الحمل له والولد ولده، وأرى عقوبته على الإنكار له) فصار عثمان إلى قضائه بذلك وتعجب منه (1). ورووا: أن رجلا كانت له سرية فأولدها، ثم اعتزلها وأنكحها عبدا له، ثم توفي السيد فعتقت بملك ابنها لها، فورث ولدها زوجها، ثتم توفي الابن فورثت من ولدها زوجها، فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول: هذا عبدي، ويقول: هي امرأتي ولست مفرجا عنها، فقال عثمان. هذه قضية مشكلة، وأمير المؤمنين حاضر فقال: (سلوها هل جامعها بعد ميراثها له ؟) فقالت: لا، فقال: (لو أعلم أنه فعل ذلك لعذبته، إذهبي فإنه عبدك ليس له عليك سبيل، إن شئت أن تسترقيه أو تعتقيه أو تبيعيه فذاك لك) (2). ورووا: أن مكاتبة زنت على عهد عثمان وقد عتق منها ثلاثة أرباع، فسأل عثمان أمير المؤمنين عليه السلام فقال: (يجلد منها بحساب الحرية، ويجلد منها بحساب الرق).


(1) مناقب آل أبي طالب 2: 370، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 256 / 29. (2) مناقب آل أبي طالب 2: 371، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 257 / ضمن ح 29.

[ 212 ]

وسأل زيد بن ثابت فقال: تجلد بحساب الرق، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (كيف تجلد بحساب الرق وقد عتق منها ثلاثة أرباعها ؟ وهلا جلدتها بحساب الحرية فإنها فيها أكثر !) فقال زيد: لو كان ذلك كذلك لوجب توريثها بحساب الحرية فيها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام. (أجل ذلك واجب) فأفحم زيد، وخالف عثمان أمير المؤمنين عليه السلام وصار إلى قول زيد، ولم يصغ إلى ما قال بعد ظهور الحجة عليه (1)، وأمثال ذلك مما يطول بذكره الكتاب، وينتشر به الخطاب. فصل وكان من قضاياه عليه السلام بعد بيعة العامة له ومضي عثمان ابن عفان على ما رواه أهل النقل من حملة الآثار: أن امرأة ولدت على فراش زوجها ولدا له بدنان ورأسان على حقو (2) واحد، فالتبس الأمر على أهله أهو واحد أم اثنان ؟ فصاروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: (اعتبروه إذا نام ثم أنبهوا أحد البدنين والرأسين، فإن انتبها جميعا معا في حالة واحدة فهما إنسان واحد، وإن استيقظ أحدهما والآخر نائم، فهما


(1) مناقب آل أبي طالب 2: 371، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 257 / ذح 29 و 79، 50 / 37. (2) الحقو: الخصر ومحل شد الإزار. (الصحاح – حقا – 6: 2317).

[ 213 ]

اثنان وحقهما من الميراث حق اثنين) (1). وروى الحسن بن علي العبدي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ ابن نباتة قال: بينا شريح في مجلس القضاء إذ جاءه شخص فقال: يا أبا أمية أخلني فإن لي حاجة، قال فأمر من حوله أن يخفوا عنه، فانصرفوا وبقي خاصة من حضر، فقال له: اذكر حاجتك، فقال: يا أبا أمية إن لي ما للرجال وما للنساء، فما الحكم عندك في أرجل أنا أم امرأة ؟ فقال له: قد سمعت من أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك قضية أنا أذكرها، خبرني عن البول من أي الفرجين يخرج ؟ قال الشخص: من كليهما، قال: فمن أيهما ينقطع ؟ قال: منهما معا، فتعجب شريح، فقال الشخص: سأورد عليك من أمري ما هو أعجب، قال شريح: وما ذاك ؟ قال: زوجني أبي على أنني امرأة فحملت من الزوج، وابتعت جارية تخدمني فأفضيت إليها فحملت مني. قال: فضرب شريح إحدى يديه على الاخرى متعجبا وقال: هذا أمر لا بد من إنهائه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فلا علم لي بالحكم فيه. فقام وتبعه الشخص ومن حضر معه حتى دخل عل امير المؤمنين عليه السلام فقص عليه القصة، فدعا أمير المؤمنين عليه السلام بالشخص فسأله عما حكاه شريح فأقر به، فقال له: (ومن زوجك ؟ (قال: فلان ابن فلان، وهو حاضر في المصر، فدعي وسئل عما قال: فقال: صدق، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (لأنت أجرأ من صائد الأسد، حين تقدم على هذا الحال) ثم دعا قنبرا مولاه فقال:


(1) مناقب آل أبي طالب 2: 375، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 257 / 40، و 104: 354 / 3.

[ 214 ]

(أدخل هذا الشخص بيتا ومعه أربع نسوة من العدول، ومرهن بتجريده وعد أضلاعه بعد الاستيثاق من ستر فرجه) فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، ما آمن على هذا الشخص الرجال والنساء، فأمر أن يشد عليه تبان (1) وأخلاه في بيت، ثم ولجه فعد أضلاعه، فكانت من الجانب الأيسر سبعة، ومن الجانب الأيمن ثمانية، فقال: (هذا رجل) وأمر بطم (2) شعره، وألبسه القلنسوة والنعلين والرداء، وفرق بينه وبين ا لزوج (3). وروى بعض أهل النقل: انه لما ادعى الشخص ما ادعاه من الفرجين، أمر أمير المؤمنين عليه السلام عدلين من المسسلمين أن يحضرا بيتا خاليا، وأحضر الشخص معهما، وأمر بنصب مرآتين: أحدهما مقابلة لفرج الشخص والأخرى مقابلة للمرآة الأخرى، وأمر الشخص بالكشف عن عورته في مقابلة المرآة حيث لا يراه العدلان، وأمر العدلين بالنظر في المرآة المقابلة لها، فلا تحقق العدلان صحة ما ادعاه الشخص من الفرجين، اعتبر حاله بعد أضلاعه، فلما ألحقه بالرجال أهمل قوله في ادعاء الحمل وألغاه ولم يعمل به، وجعل حمل الجارية منه وألحقه به (4).


(1) التبان: سراويل صغيرة مقدار شبر، ليستر العورة المغلظة فقط. (الصحاح – تبن – 5: 2086). (2) طم الشعر: قصة. (الصحاح – طمم – 1976). (3) روي نحوه في أخبار القضاة 2: 197، دعائم الإسلام 2: 287، الفقيه 4: 238 / 76 2، مناقب آل أبي طالب 2: 376، مناقب الخوارزمي: 101 / 105، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 258 / و 104: 353 / 1. (4) مناقب آل أبي طالب 2: 376، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 259، و 104:

[ 215 ]

ورووا: أن أمير المؤمنين عليه السلام دخل ذات يوم المسجد، فوجد شابا حدثا يبكي وحوله قوم، فسأل أمير المؤمنين عليه السلام عنه، فقال: إن شريحا قضى علي بقضية لم ينصفني فيها، قال: (وما شأنك ؟) قال: إن هؤلاء النفر – وأوما إلى نفر حضور – أخرجوا أبي معهم في سفر، فرجعوا ولم يرجع، فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله الذي استصحبه، فقالوا. ما نعرف له مالا، فاستحلفهم شريح وتقدم إلي بترك التعرض لهم. فقال أمير المؤمنين عليه السلام لقنبر: (إجمع القوم وادع لي شرط الخميس) (1) ثم جلس ودعا النفر والحدث معهم، فسأله عما قال، فأعاد الدعوى وجعل يبكي ويقول: أنا والله أتهمهم على أبي يا أمير المؤمنين، فإنهم احتالوا عليه حتى أخرجوه معهم، وطمعوا في ماله. فسأل أمير المؤمنين عليه السلام القوم، فقالوا كما قالوا لشريح: مات الرجل ولا نعرف له مالا، فنظر في وجوههم ثم قال لهم: (ماذا ؟ أتظنون أني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى ! إني إذا لقليل العلم). ثم أمر بهم أن يفرقوا، ففرقوا في المسجد، وأقيم كل رجل منهم إلى جانب أسطوانة من أساطين المسجد، ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له: (اجلس) ثم دعا واحدا منهم فقال له: (اخبرني ولا ترفع صوتك، في أي يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الغلام معكم ؟) فقال: في يوم كذا وكذا، فقال لعبيد الله: (أكتب) ثم قال


354 / 2. (1) في هامش (ش) و (م): شرط الخميس كانوا خمسة آلاف رجل، اشترطوا مع أمير المؤمنين عليه السلام أن يقاتلوا دونه حتى يقتلوا.

[ 216 ]

له: (في أي شهر كان ؟) قال: في شهر كذا، قال: (أكتب) ثم قال: (في أي سنة ؟) قال: في سنة كذا، فكتب عبيد الله ذلك، قال: (فبأي مرض مات ؟) قال: بمرض كذا، قال: (ففي أي منزل مات ؟) قال: في موضع كذا، قال: (من غسله وكفنه ؟) قال: فلان، قال: (فبم كفنتموه ؟) قال: بكذا، قال: (فمن صلى عليه ؟) قال: فلان، قال: (فمن أدخله القبر ؟) قال: فلان، وعبيد الله بن أبي رافع يكتب ذلك كله، فلما انتهى إقراره إلى دفنه، كبر أمير المؤمنين عليه السلام تكبيرة سمعها أهل المسجد، ثم أمر بالرجل فرد إلى مكانه. ودعا بآخر من القوم فأجلسه بالقرب منه، ثم سأله عما سأل الأول عنه، فأجاب بما خالف الأول في الكلام كله. وعبيد الله بن أبي رافع يكتب ذلك، فلما فرغ من سؤاله كبر تكبيرة سمعها أهل المسجد، ثم أمر بالرجلين جميعا أن يخرجا عن المسجد نحو الحبس (1)، فيوقف بهما على بابه. ثم دعا بثالث فسأله عما سأل الرجلين فحكى خلاف ما قالا، واثبت ذلك عنه، ثم كبر وأمر بإخراجه نحو صاحبيه. ودعا برابع من القوم فاضطرب قوله ولجلج، فوعظه وخوفه فاعترف أنه وأصحابه قتلوا الرجل وأخذوا ماله، وأنهم دفنوه في موضع كذا وكذا بالقرب من الكوفة، فكبر أمير المؤمنين عليه السلام وأمر به إلى السجن. واستدعى واحدا من القوم فقال له: (زعمت أن الرجل مات


(1) في (م) وهامش (ش): السجن.

[ 217 ]

حتف أنفه وقد قتلته، اصدقني عن حالك، وإلا نكلت بك، فقد وضح لي الحق في قصتكم) فاعترف من قتل الرجل بما اعترف به صاحبه، ثم دعا الباقين فاعترفوا عنده بالقتل وسقط في أيديهم، واتفقت كلمتهم على قتل الرجل وأخذ ماله. فأمر من مضى مع بعضهم إلى موضع المال الذي دفنوه، فاستخرجه منه وسلمه إلى الغلام ابن الرجل المقتول، ثم قال له: (ما الذي تريد ؟ قد عرفت ما صنع القوم بأبيك) قال: أريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي الله عز وجل، وقد عفوت عن دمائهم في الدنيا، فدرأ عنهم أمير المؤمنين عليه السلام حد القتل وأنهكهم عقوبة. فقال شريح: يا أمير المؤمنين كيف هذا الحكم ؟ فقال له: (إن داود عليه السلام مر بغلمان يلعبون وينادون بواحد منهم: يا مات الدين قال: والغلام يجيبهم، فدنا داود عليه السلام منهم فقال له: يا غلام ما اسمك ؟ قال: اسمي مات الدين، قال له داود: ومن سماك بهذا الاسم ؟ قال: أمي، فقال له داود عليه السلام: وأين أمك ؟ قال: في منزلها، فقال داود عليه السلام: انطلق بنا إلى أمك، فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها فخرجت، فقال: يا أمة الله ما اسم ابنك هذا ؟ قالت: اسمه مات الدين، قال لها داود: من سماه بهذا الاسم ؟ قالت: أبوه، قال: وما كان سبب ذلك ؟ قالت: إنه خرج في سفر له ومعه قوم، وأنا حامل بهذا الغلام، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي معهم، فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك مالا، فقلت لهم: فهل وصاكم بوصية ؟ قالوا: زعم أنك حبلى، فإن ولدت جارية أو غلاما فسميه مات الدين، فسميته كما


[ 218 ]

وصى ولم أحب خلافه، فقال لها داود عليه السلام: فهل تعرفين القوم ؟ قالت: نعم، قال لها داود: انطلقي مع هؤلاء – يعني قوما بين يديه – فاستخرجيهم من منازلهم، فلما حضروه حكم فيهم بهذه الحكومة، فثبت عليهم الدم، واستخرج منهم المال، ثم قال لها: يا أمة الله سمي ابنك هذا بعاش الدين) (1). ورووا: أن امرأة هويت غلاما فراودته عن نفسه فامتنع الغلام، فمضت وأخذت بيضة فألقت بياضها على ثوبها، ثم علقت بالغلام ورفعته إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالت: إن هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني، ثم أخذت ثيابها فأرت بياض البيض وقالت: هذا ماؤه على ثوبي، فجعل الغلام يبكي ويبرأ مما ادعته ويحلف، فقال أمير المؤمنين عليه السلام لقنبر: (مر من يغلي ماء حتى تشتد حرارته، ثم لتأتني به على حاله) فجئ بالماء، فقال. (ألقوه على ثوب المرأة) فألقوه عليه فاجتمع بياض البيض والتأم، فأمر بأخذه ودفعه إلى رجلين من أصحابه فقال: (تطعماه والفظاه) فتطعماه فوجداه بيضا، فأمر بتخلية الغلام وجلد المرأة عقوبة على ادعائها الباطل (2). وروى الحسن بن محبوب قال: حدثني عبد الرحمن بن الححاج


(1) روي نحوه في الكافي 7: 371 / 8، الفقيه 3: 15 / 40، التهذيب 6: 316 / 875، مناقب آل أبي طالب 2: 379، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 259. (2) كنز الفوائد 2: 183، ونحوه في الكافي 7: 422، التهذيب 6: 304 / 848، خصائص الرضي: 82 وفيها: في زمن خلافة عمر، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 263 / 31.

[ 219 ]

قال: سمعت ابن أبي ليلى يقول: قضى أمير المؤمنين عليه السلام بقضية ما سبقه إليها أحد، وذلك أن رجلين اصطحبا في سفر فجلسا يتغذيان، فأخرج أحدهما خمسة أرغفة وأخرج الآخر ثلاثة ارغفة، فمر بهما رجل فسلم فقالا له: الغداء، فجلس معهما يأكل، فلما فرغ من أكله رمى إليهما ثمانية دراهم وقال لهما: هذه عوض عما أكلت من طعامكما، فاختصما وقال صاحب الثلاثة: هذه نصفان بيننا، وقال صاحب الخمسة: بل لي خمسة ولك ثلاثة، فارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقصا عليه القصة، فقال لهما: (هذا أمر فيه دناءة، والخصومة غير جميلة فيه، والصلح أحسن)، فقال صاحب الثلاثة الأرغفة: لست أرضى إلا بمر القضاء، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (فإذا كنت لا ترضى إلا بمر القضاء، فإن لك واحدا من ثمانية ولصاحبك سبعة) فقال: سبحان الله، كيف صار هذا هكذا ؟ فقال له: (أخبرك، أليس كان لك ثلالة أرغفة ؟) قال: بلى، قال: (ولصاحبك خمسة أرغفة) قال: بلى، قال: (فهذه أربعة وعشرون ثلثا، أكلت أنت ثمانية، وصاحبك ثمانية، والضيف ثمانية، فلما أعطاكم الثمانية كان لصاحبك سبعة، ولك واحد) فانصرف الرجلان على بصيرة من أمرهما في القضية (1). وروى علماء السيرة: أن أربعة نفر شربوا المسكر على عهد أمير المؤمنين عليه السلام فسكروا فتباعجوا بالسكاكين، فنال الجراح كل


(1) روي نحوه في الكافي 7: 427 / 10، الفقيه 3: 23 / 64، الاختصاص: 107، التهذيب 6: 290 / 805، كنز الفوائد 2: 69، الاستيعاب 3: 41، مناقب آل أبي طالب 2: 52، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 263 / 32. (*)

[ 220 ]

واحد منهم، ورفع خبرهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأمر بحبسهم حتى يفيقوا، فمات في الحبس منهم اثنان وبقي منهم اثنان، فجاء قوم الاثنين إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقالوا: أقدنا من هذين النفسين فإنهما قتلا صاحبينا، فقال لهم: (وما علمكم بذلك ؟ ولعل كل واحد منهما قتل صاحبه) فقالوا: لا ندري، فاحكم فيها بما علمك الله، فقال عليه السلام: (دية المقتولين على قبائل الأربعة بعد مقاصة الحيين منها بدية جراحهما) (1). فكان ذلك هو الحكم الذي لا طريق إلى الحق في القضاء سواه، ألا ترى أنه لا بينة على القاتل تفرده من المقتول، ولا بينة على العمد في القتل، فلذلك كان القضاء فيه على حكم الخطأ في القتل، واللبس في القاتل دون المقتول. ورووا: أن ستة نفر نزلوا في الفرات فتغاطوا فيها لعبا، فغرق واحد منهم، فشهد اثنان على ثلاثة منهم أنهم غرقوه، وشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرقاه، فقضى عليه السلام بالدية أخماسا على الخمسة النفر، ثلاثة منها على الاثنين بحساب الشهادة عليهما، وخمسان على الثلاثة بحساب الشهادة أيضا. ولم يكن في ذلك قضية أحق بالصواب مما قضى به عليه السلام (2).


(1) ذكره باختلاف يسير في الفقيه 4: 87 / 280، تهذيب الأحكام 10: 240 / 955، وأورد نحوه في مناقب آل أبي طالب 2: 380، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 264 / 33، 104: 394 / 34. (2) روي باختلاف يسير في الكافي 7: 284 / 6، الفقيه 4: 86 / 277، تهذيب الاحكام 10: 239 / 953، مناقب آل أبي طالب 2: 380، ونقله العلامة المجلسي في البحار

[ 221 ]

ورووا: أن رجلا حضرته الوفاة فوصى بجزء من ماله ولم يعينه، فاختلف الوارث بعده في ذلك، وترافعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقضى عليهم بإخراج السبع من ماله وتلا عليه السلام قوله عز اسمه: (لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم) (3) (2). وقضى عليه السلام في رجل وصى عند الموت بسهم من ماله ولم يبينه، فلما مضى اختلف الورثة في معناه، فقضى عليه السلام بإخراج الثمن من ماله، وتلا قوله جلت عظمته: (انما الصدقات للفقراء والمسكين والعاملين عليها) (3) إلى آخر الآية، وهم ثمانية أصناف لكل صنف منهم سهم من الصدقات (4). وقضى عليه السلام في رجل وصى فقال: اعتقوا عني كل عبد قديم في ملكي، فلما مات لم يعرف الوصي ما يصنع، فسأله عن ذلك فقال: (يعتق عنه كل عبد له في ملكه ستة أشهر) وتلا قوله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) (5) وقد ثبت أن العرجون إنما ينتهي إلى الشبه بالهلال في تقوسه وضؤولته بعد ستة


40: 264 / ذح 33 و 104: 395 / ذح 34. (1) الحجر 15: 44. (2) روي نحوه في كنز الفوائد 2: 99، مناقب آل أبي طالب 2: 382، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 265 / 34. (3) التوبة 9: 60. (4) روي نحوه في كنز الفوائد 2: 99، مناقب آل أبي طالب 2: 382، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 265 / 34. (5) يس 36: 39.

[ 222 ]

أشهر من أخذ الثمرة منه (1). وقضى عليه السلام في رجل نذر أن يصوم حينا ولم يسم وقتا بعينه، أن يصوم ستة أشهر، وتلا قوله تعالى ذكره: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) (2) وذلك في كل ستة أشهر (3). وجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنه كان بين يدي تمر، فبدرت زوجتي فأخذت منه واحدة فألقتها في فيها، فحلفت أنها لا تأكلها ولا تلفظها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (تأكل نصفها وترمي نصفها، وقد تخلصت من يمينك) (4). وقضى عليه السلام في رجل ضرب امرأة فألقت علقة أن عليه ديتها أربعين دينارا، وتلا قوله عز وجل (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين * ثم جعلنا نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فاخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين) (1) ثم قال: (في النطفة عشرون دينارا، وفي العلقة أربعون دينارا، وفي المضغة ستون دينارا، وفي العظم قبل أن يستوي خلقا ثمانون دينارا، وفي الصورة قبل أن


(1) كنز الفوائد 2: 99، مناقب آل أبي طالب 2: 382 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 265. (2) ابراهيم 14: 25. (3) ورد مختصرا في تفسير العياشي 2: 224، مناقب آل أبي طالب 2: 382، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 266 / ذح 34. (4) نقله العلامة المجلسي في البحار 40: 266 / 35. (5) المؤمنون 23: 12 – 14.

[ 223 ]

تلجها الروح مائة دينار، وإذا ولجتها (1) الروح كان فيها ألف دينار) (2) فهذا طرف من ذكر قضاياه عليه السلام وأحكامه الغريبة التي لم يقض بها أحد قبله، ولا عرفها من العامة والخاصة أحد إلا عنه، واتفقت عترته على العمل بها، ولو مني غيره بالقول فيها لظهر عجزه عن الحق في ذلك، كما ظهر فيما هو أوضح منه، وفيما أثبتناه من قضاياه على الاختصار كفاية فيما قصدناه إن شاء الله. فصل في مختصر من كلامه عليه السلام في وجوب المعرفة بالله والتوحيد له ونفي التشبيه عنه والوصف لعدله وصنوف الحكمة والدلائل والحجة فمن ذلك ما رواه أبو بكر الهذلي، عن الزهري وعيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان: أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في الحث على معرفة التعالى والتوحيد له: (أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي التشبيه عنه، جل عن أن تحله الصفات، لشهادة العقول أن كل من حلته الصفات مصنوع، وشهادة العقول، أنه – جل جلاله – صانع ليس بمصنوع، بصنع الله يستدل (1) في الاصل: ولجها، واثبتنا ما في نسخة البحار. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 40: 266 / ذح 35 و 104: 426 / 7. (*)


[ 224 ]

عليه، وبالعقول تعتقد معرفته، وبالنظر تثبت حجته، جعل الخلق دليلا عليه، فكشف به عن ربوبيته، هو الواحد الفرد في أزليته، لا شريك له في إلهيته، ولا ند له في ربوبيته، بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور المقترنة علم أن لا قرين له) (1). في كلام يطول بإثباته الكتاب. ومما حفظ عنه عليه السلام في نفي التشبيه عن الله عز اسمه، ما رواه الشعبي قال: سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلا يقول: والذي احتجب بسبع طباق، فعلاه بالدرة (2)، ثم قال له: (يا ويلك، إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ، أو يحتجب عنه شئ، سبحان الذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء) فقال الرجل: أفأكفر عن يميني، يا أمير المؤمنين ؟ قال: (لا لم تحلف بالله فتلزمك كفارة، وإنما حلفت بغيره) (3). وروى أهل السيرة وعلماء النقلة: ان رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين، خبرني عن الله تعالى، أرأيته حين


(1) وردت الخطبة في الاحتجاج: 200، وباختلاف يسير في تحف العقول: 43، وبعضها في الكافي 1: 108 / 4، التوحيد: 308، وامالي المرتضى 1: 103، ونهج البلاغة 2: 144 / 181، ونقله العلامة المجلسي في البحار 4: 253. (2) الدرة: التي يضرب بها (الصحاح – درر – 2: 656). (3) ورد نحوه في الغارات 1: 112، والترحيد: 184، ونثر الدر 1: 296، وذكره المؤلف باختلاف يسير في الفصول المختارة: 38، ونقله العلامة المجلسي في البحار 3: 310 / 3 و 104: 205 / 1.

[ 225 ]

عبدته ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (لم أك بالذي (1) أعبد من لم أره) فقال له: كيف رأيته ؟ فقال له: (يا ويحك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، معروف بالدلالات، منعوت بالعلامات، لا يقاس بالناس، ولا تدركه الحواس) فانصرف الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالاته (2). وفي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام كان ينفي عن الله سبحانه رؤية الأبصار. وروى الحسن بن أبي الحسن البصري قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام بعد انصرافه من حرب صفين فقال له: يا أمير المؤمنين، خبرنا عما كان بيننا وبين هؤلاء القوم من الحرب، أكان ذلك بقضاء من التعالى وقدر ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا، إلا ولله فيه قضاء وقدر) فقال الرجل: فعند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين، فقال له: (ولم ؟) قال: إذا كان القضاء والقدر ساقانا إلى العمل، فما وجه الثواب لنا على الطاعة ؟ وما وجه العقاب لنا على المعصية ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: (أو ظننت يا رجل أنه قضاء حتم، وقدر لازم، لا تظن ذلك فإن القول به مقال عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن، وقدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله جل جلاله أمر تخييرا، ونهى تحذيرا، وكلف يسيرا، ولم يطع مكرها، ولم يعص مغلوبا،


(1) بالذي: سقطت من (ش) و (م) واثبتناها من (ح). (2) الاحتجاج: 209، وامالي المرتضى 1: 104، وفيه: عن الامام الصادق عليه السلام، ونقله العلامة المجلسي في البحار 4: 32 / 8.

[ 226 ]

ولم يخلق السماء والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) (1)) فقال له الرجل: فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين ؟ قال: (الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد رالوعيد والترغيب والترهيب، كل ذلك مضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا، فأما غير ذلك فلا تظنه، فإن الظن له محبط للأعمال) فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك، وأنشا يقول: أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم المآب من الرحمن غفرانا أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك بالإحسان إحسانا (2) وهذا الحديث موضح عن قول أمير المؤمنين عليه السلام في معنى العدل، ونفي الجبر، وإثبات الحكمة في أفعال الله تعالى، ونفي العبث عنها.


(1) ص 38: 27. (2) التوحيد: 380، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 138، مصباح الأنوار: 187، الفصول المختارة: 42، تحف العقول: 349، الاحتجاج: 208 باختلاف في الالفاظ ونقله العلامة المجلسي في البحار 5: 125 / 74.

[ 227 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام في مدح العلماء وتصنيف الناس وفضل العلم والحكمة ما رواه أهل النقل عن كميل بن زياد – رحمه الله – أنه قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم من المسجد حتى أخرجني منه، فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال: (يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العلئم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الانفاق. يا كميل، صحبة العالم (1) دين يدان به، وبه تكملة الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما


(1) في (م) وهامش (ش): محبة العالم.

[ 228 ]

بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه هاه إن هاهنا علما جما – وأشار بيده إلى صدره – لو أصبت له حملة، بل أصيب لقنا غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على أوليائه، وبنعمه على كتابه ؟ أو منقادا للحكمة لا بصيرة له في اخباته، يقدح الشك له في قلبه بأول عارض من شبهة، ألا لاذا ولا ذاك، فمنهوم (1) باللذات سلس القياد للشهوات، أو مغرم (2) بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين، أقرب شبها بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لا تخلو الأرض من حجة لك على خلقك، إما ظاهرا معلوما أو خائفا (مغمورا، لئلا) (3) تبطل حججك وبيناتك، وأين أولئك ؟ الأقلون عددا، الأعظمون قدرا، بهم يحفظ الله تعالى حججه حتى يودعوها قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقائق الايمان، فاستلانوا روح اليقين، فأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، واستلانوا ما استوعره المترفون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، وحججه على عباده – ثم تنفس الصعداء وقال – هاه هاه، شوقا إلى رؤيتهم) ونزع يده عن يدي وقال لي: (انصرف إذا شئت) (4).


(1) في (م) وهامش (ش): فمنهوما. (2) في (م) وهامش (ش): مغرما. (3) في هامش (ش): مغلوبا كي لا. (4) الغارات 1: 148، تاريخ اليعقوبي 2: 205، العقد الفريد 2: 81، الخصال. 186 / 257، كمال الدين: 290، تحف العقول: 113، آمالي المفيد: 247 / 3، امالي الطوسى 1: 19، تاريخ بغداد 6: 379 وفيه الى قوله: يستعمل آلة الدين في الدنيا،

[ 229 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام في الدعاء إلى معرفته وبيان فضله وصفة العلماء، وما ينبغي لمتعلم العلم أن يكون عليه ما رواه العلماء بالأخبار في خطبة تركنا ذكر صدرها إلى قوله: (والحمد لله الذي هدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، ومن علينا بالإسلام، وجعل فينا النبوة، وجعلنا النجباء، وجعل أفراطنا أفراط الأنبياء، وجعلنا خير أمة أخبرجت للناس، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعبد الله ولا نشرك به شيئا، ولا نتخذ من دونه وليا، فنحن شهداء الله، والرسول شهيد (1) علينا، نشفع فنشفع فيمن شفعنا له، وندعو فيستجاب دعاؤنا ويغفر لمن ندعو له ذنوبه، أخلصنا لله فلم ندع من دونه وليا. أيها الناس، تعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان، واتقوا الله إن الشديد العقاب. أيها الناس إني ابن عم نبيكم، وأولاكم بالله ورسوله، فاسألوني ثم اسألوني، فكأنكم بالعلم قد نفذ، وإنه لا يهلك


مناقب الخوارزمي: 365 / 383، والتفسير الكبير للفخر الرازي 2: 192 وفيهما إلى قوله: والمال محكوم عليه. (1) في هامش (ش): شاهد.

[ 230 ]

عالم إلا هلك معه بعض علمه، وإنما العلماء في الناس كالبدر في السماء، يضئ نوره على سائر الكواكب، خذوا من العلم ما بدا لكم، وإياكم أن تطلبوه لخصال أربع: لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، أو تراؤا به في المجالس، أو تصرفوا وجوه الناس إليكم للرؤس، لا يستوي عند الله في العقوبة الذين يعلمون والذين لا يعلمون، نفعنا الله وإياكم بما علمنا، وجعله لوجهه خالصا إنه سميع مجيب) (1). فصل ومن كلامه عليه السلام في صفه العالم وأدب المتعلم ما رواه الحارث الأعور قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (من حق العالم أن لا يكثر عليه السؤال، ولا يعنت في الجواب، ولا يلح عليه إذا كسل، ولا يؤخذ بثوبه إذا نهض، ولا يشار إليه بيد في حاجة، ولا يفشى له سر، ولا يغتاب عنده أحد، ويعظم كما حفظ أمر الله، ولا يجلس المتعلم أمامه، ولا يغرض (2) من طول صحبته، وإذا جاءه طالب العلم وغيره فوجده في جماعة عمهم بالسلام وخصه بالتحية، وليحفظه شاهدا وغائبا، وليعرف له حقه، فإن العالم أعظم أجرا من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا


(1) نقلها الديلمي في أعلام الدين: 94، والعلامة المجلسي في البحار 2: 31 / 19. (2) الغرض: الضجر والملال. (الصحاح – غرض – 3: 1093).

[ 231 ]

خلف منه، وطالب العلم تستغفر له الملائكة، وتدعو له في السماء والأرض) (1). فصل ومن كلامه عليه السلام، في أهل البدع ومن قال في الدين برأيه، وخالف طريق أهل الحق في مقاله ما رواه ثقات أهل النقل عند العامة والخاصة، في كلام افتتاحه الحمد لله والصلاة عل نبيه صلى الله عليه وآله. (أما بعد، فذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم، إنه لا يهيج (2) على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ عليه سنخ أصل، وإن الخير كله فيمن عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره، وإن أبغض الخلق إلى الله رجل وكله إلى نفسه، جائر عن قصد السبيل، مشعوف (3) بكلام بدعة، قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به، حمل خطيا غيره، رهن بخطيئته، قد قمش (4)


(1) المحاسن: 233 / 185، والخصال: 504، واعلام الدين: 91 باختلاف في الفاظه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 2: 43 / 12. (2) هاج النبت هياجا: أي يبس. (الصحاح – هيج – 1: 352). (3) شعفه الحب.: أي أحرق قلبه. (الصحاح – شعف – 4: 1382). (4) قمش: جمع القماش، وهو ما على وجه الارض من فتات الاشياء حتى يقال لرذالة الناس قماش. (القاموس – قمش – 2: 285).

[ 232 ]

جهلا في جهال عشوة (1)، غار (2) بأغباش الفتنة، عم عن الهدى، قد سماه اشباه الناس عالما ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر من جمع ما (3) قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، واستكثر من غير طائل، جلس للناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، إن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وان نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع عليه، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا، إن قاس شيئا بشئ لم يكذب رأيه، وان أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من نفسه في الجهل والنقص والضرورة كيلا يقال أنه لا يعلم، ثم أقدم بغير علم، فهو خائض عشوات، ركاب شبهات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم به الحلال، لا يسلم بإصدار ما عليه ورد، ولا يندم على ما منه فرط. أيها الناس: عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعذرون بجهالته، فإن العلم الذي هبط به آدم وجميع (ما فضلت به) (4) النبيون إلى خاتم النبيين، في عترة محمد (5) صلى الله عليه وآله فأين يتاه بكم ؟ بل أين تذهبون ؟ ! يا من


(1) في (م)، هامش (ش): جهال غشوه. (2) غار: غافل. (الصحاح – غرر – 2: 768). (3) في (ش) و (م): مما، وما اثبتناه من هامشهما. (4) في (ش) و (م): فصلت، وفسره في هامش (م): أي ؟ أتت. وما اثبتناه من هامش (ش) و (م). (5) في (م) وهامش (ش): عترة نبيكم محمد.

[ 233 ]

نسخ من أصلاب أصحاب السفينة، هذه (1) مثلها فيكم فاركبوها، فكما نجا في هاتيك من نجا، فكذلك ينجو في هذه من دخلها، أنا رهين بذلك قسما حقا وما أنا من المتكلفين، والويل لمن تخلف ثم الويل لمن تخلف ! أما بلغكم ما قال فيهم نبيكم صلى الله عليه وآله حيث يقول في حجة الوداع: إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. ألا هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا) (2). ومن كلامه عليه السلام في صفة الدنيا والتحذير منها (أما بعد: فإنما – مثل الدنيا مثل الحية، لين مسها، شديد نهسها، فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وكن أسر ما تكون فيها، أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أسخطه منها مكروة، والسلام) (3).


(1) في هامش (ش): نسخة الشيخ، هذا. وما في المتن نسخة اخرى في هامش (ش). (2) وردت قطع من هذه الخطبة في تاريخ اليعقوبي 2: 211، ونثر الدر 1: 308، أمالي الطوسي 1: 240، تاريخ دمشق 3: 221، الكافي 1: 44 / 6، الاحتجاج: 262، نهج البلاغة 1: 47 / 16، ونقله المجلسي في البحار 2: 99 / 59. (3) دستور معالم الحكم: 37، تنبيه الخواطر 1: 147، شرح النهج لابن ميثم 5: 218، ونقله العلامة المجلسي في البحار 73: 105 / 101.

[ 234 ]

ومن كلامه عليه السلام في التزود للآخرة، وأخذ الأهبة للقاء الله تعالى، والوصية للناس بالعمل الصالح ما رواه العلماء بالأخبار، ونقلة السيرة والآثار: أنه كان عليه السلام ينادي في كل ليلة حين يأخذ الناس مضاجعهم للمنام، بصوت يسمعة كافة أهل المسجد ومن جاوره من الناس: (تزودوا – رحمكم الله – فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما يحضركم من الزاد، فإن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مهولة، لا بد من الممر بها، والوقوف عليها، فإما برحمة من الله نجوتم من فظاعتها، وإما هلكة ليس بعدها انجبار، يا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، وتؤديه أيامة إلى شقوة، جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تحل به بعد الموت نقمة، فإنما نحن به وله، وبيده الخير وهو على كل شئ قدير) (1). ومن كلامه عليه السلام في التزهيد في الدنيا، والترغيب في أعمال الآخرة (يا ابن آدم، لا يكن أكبر همك يومك الذي إن فاتك لم يكن


(1) أمالي الصدوق: 402 / 7، أمالي المفيد: 198، خصائص الرضي: 98، نهج البلاغة 2:

[ 235 ]

من أجلك، فإن كل يوم تحضره يأتي الله فيه برزقك، واعلم أنك لن تكتسب شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك، يكثر في الدنيا به نصبك، ويحظى به وارثك، ويطول معه يوم القيامة حسابك، فاسعد بمالك في حياتك، وقدم ليوم معادك زادا يكون أمامك، فإن السفر بعيد، والموعد القيامة، والمورد الجنة أو النار) (1). ومن كلامه عليه السلام في مثل ذلك، ما اشتهر بين العلماء، وحفظه ذوو الفهم والحكماء (أما بعد: أيها الناس، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أظلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن المضمار اليوم وغدا السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار، ألا وإنكم في أيام مهل من ورائه أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله عمله لم يضره أمله، ومن بطأ (2) به عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أمله. ألا فاعملوا في الرغبة والرهبة، فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها


209 / 199 باختلاف في الفاظه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 73: 106 / 102. (1) وردت قطع منه في مروج الذهب 4: 175، والخصال: 16، ونزهة الناظر: 52 / 26، ونثر الدر 1: 295. (2) في هامش (ش) و (م): أبطأ.

[ 236 ]

رغبة، فإن الله قد تأذن للمحسنين بالحسنى، ولمن شكره بالزيادة، ولا كسب خير من كسب ليوم تدخر فيه الذخائر، وتجمع فيه الكبائر، وتبلى فيه السرائر، وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا مثل النار نام هاربها. ألا وإنه من لا ينفعه اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضر لبه ورأيه فغائبه عنه أعجز. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أتخوف عليكم اثنان: اتباع الهوى، وطول الأمل، لأن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة. ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت (1) مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا إن استطعتم من ابناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل) (2). ومن كلامه عليه السلام في ذكر خيار الصحابة وزهادهم ما رواه صعصعة بن صوحان العبدي، قال: صلى بنا أمير المؤمنين


(1) في (م) وهامش (ش): دنت. (2) ورد بعضه في نثر الدر 1: 223، البيان والتبيين 2: 27، العقد الفريد 4: 159، الكافي 8: 58 / 21، مروج الذهب 2: 424، 3: 413، من لا يحضره الفقيه 1: 327، أمالي المفيد: 93، 207، نهج البلاغة 1: 66 / 27، مصباح المتهجد: 605، أمالي الطوسي 1:

[ 237 ]

عليه السلام ذات يوم صلاة الصبح، فلما سلم أقبل على القبلة بوجهه يذكر الله تعالى، لا يلتفت يمينا ولا شمالا حتى صارت الشمس على حائط مسجدكم هذا – يعني جامع الكوفة – قيس رمح، ثم أقبل علينا بوجهه عليه السلام فقال: (لقد عهدت اقواما على عهد خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنهم ليراوحون في هذا الليل بين جباههم وركبهم، فإذا أصبحوا أصبحوا شعثا غبرا بين اعينهم شبه ركب المعزى، فإذا ذكروا (1) مادوا كما تميد الشجر في الريح، ثم انهملت عيونهم حتى تبل ثيابهم) ثم نهض عليه السلام وهو يقول: (كأنما القوم باتوا غافلين) (2). ومن كلامه عليه السلام في صفة شيعته المخلصين ما رواه نقلة الآثار: أنه خرج ذات ليلة من المسجد، وكانت ليلة قمراء، فأم الجبانة ولحقه جماعة يقفون أثره، فوقف ثم قال: (من أنتم ؟) قالوا: نحن شيعتك يا أمير المؤمنين، فتفرس في وجوههم ثم قال: (فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة ؟) قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين ؟ فقال: (صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، حدب الظهور من القيام، خمص البطون من


236، تذكرة الخواص: 116. (1) في هامش (ش) و (م): ذكروا. (2) رواه الكليني في الكافي 2: 185 / 22، والمصنف في أماليه: 196، والآبي في نثر الدر 1: 325، وابن الجوزي في تذكرة الخواص: 129.

[ 238 ]

الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين) (1). فصل ومن كلامه عليه السلام ومواعظه وذكره الموت ما استفاض عنه من قوله: (الموت طالب ومطلوب حثيث، لا يعجزه المقيم، ولا يفوته الهارب، فأقدموا ولا تنكلوا، فإنه ليس عن الموت محيص، إنكم إن لا تقتلوا تموتوا، والذي نفس علي بيده، لألف ضربة بالسيف على الرأس، أيسر من موت على فراش) (2). ومن ذلك قوله عليه السلام: (أيها الناس، أصبحتم أغراضا تنتضل فيكم المنايا، وأموالكم نهب للمصائب، ما طعمتم في الدنيا من طعام فلكم فيه غصص، وما شربتم من شراب فلكم فيه شرق، وأشهد بالله ما تنالون من الدنيا نعمة تفرحون بها إلا بفراق أخرى تكرهونها، أيها الناس، إنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، لكنكم من دار إلى دار تنقلون، فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه، والسلام) (3).


(1) أمالي الطوسي 1: 219، مشكاة الانوار: 58، صفات الشيعة: 89 / 20 و 95 / 33، وفيه مختصرا، ونقله العلامة المجلسي في البحار 68: 150 / 4. (2) تاريخ اليعقوبي 2: 209، الكافي 5: 53، ورواه الطوسي في أماليه 1: 172 باختلاف يسير. (3) أمالي الطوسي 1: 220، ونقله العلامة المجلسي في البحار 73: 106 / 103.

[ 239 ]

ومن كلامه عليه السلام في الدعاء إلى نفسه، والدلالة على فضله، والإبانة عن حقه، والتعريض بظالمه، والإشارة إلى ذلك والتنبيه عليه ما رواه الخاصة والعامة عنه، وذكر ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره ممن لا يتهمه خصوم الشيعة في روايته: أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في أول خطبة خطبها بعد بيعة الناس له على الأمر، وذلك بعد قتل عثمان بن عفان: (أما بعد: (فلا يرعين مرع) (1) إلا على نفسه، شغل عن الجنة من النار أمامه، ساع مجتهد، وطالب يرجو، ومقصر في النار، ثلاثة، واثنان: ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بضبعيه (2)، لا سادس. هلك من ادعى، وردي (3) من اقتحم. اليمين والشمال مضلة، والوسطى الجادة، منهج عليه باقي (4) الكتاب والسنة وآثار النبوة. إن الله تعالى داوى هذه الأمة بدواءين: السوط والسيف، لا هوادة عند الإمام، فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا فيما بينكم، والتوبة


(1) في (ش) و (م): فلا يرعين مرعي، وفي (ح): فلا يرعين مرعى، وفي هامشها: يدعين مدع، وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار. (2) في (م) وهامش (ش): بيديه. (3) ردي: هلك (لسان العرب – ردي – 14: 316). (4) في (م) وهامش (ش): ما في.

[ 240 ]

من ورائكم، من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها معذورين، أما إني لو أشاء أن أقول لقلت، عفا الله عما سلف، سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب همته بطنه، ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له. انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فبادروا (1)، حق وباطل ولكل أهل، ولئن أمر (2) الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق فلربما ولعل، ولقل ما أدبر شئ فأقبل -، ولئن رجعت إليكم نفوسكم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة، وما علي إلا الاجتهاد. ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي (3)، أحلم (4) الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا، ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، وبقول صادق أخذنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا، معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق، ألا وبنا تدرك ترة كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم، وبنا فتح لا بكم، وبنا يختم لا بكم) (5).


(1) في (م) وهامش (ش): و (ح): فادروا. (2) أمر: كثر (لسان العرب – أمر – 4: 28). (3) الأرومة: الأصل. (القاموس – أرم – 4: 74). (4) في هامش (ش): أحكم. (5) البيان والتبيين 2: 65، العقد الفريد 4: 157، شرح ابن أبي الحديد 1: 275، عيون الأخبار لابن قتيبة 2: 236 وفيه إلى قوله ولقل ما أدبر شئ فأدبر، ونثر الدر 1: 270 وفيه الى قوله وما في إلا الاجتهاد، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 391 (ط / ح).

[ 241 ]

فصل ومن مختصر كلامه عليه السلام في الدعاء إلى نفسه وعترته قولة: (إن الله خص محمدا بالنبوة، واصطفاه بالرسالة، وأنبأه بالوحي، فأنال (1) في الناس وأنال. وعندنا – أهل البيت – معاقل العلم، وأبواب الحكم، وضياء الأمر، فمن يحبنا ينفعه إيمانه ويتقبل عمله، ومن لا يحبنا لا ينفعه إيمانه ولا يتقبل عمله، وإن دأب الليل والنهار) (2). فصل ومن ذلك ما رواه عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالمدينة بعد بيعة الناس لعثمان، فوجدته مطرقا – كئيبا – فقلت له: ما أصاب قومك ؟ ! قال: (صبر جميل).


(1) أنال: أعطى الخير (لسان العرب – نول – 11: 683). (2) المحاسن: 199 / 31، بصائر الدرجات: 384 / 9 و 10، ونقله العلامة المجلسي في البحار 27: 182.

[ 242 ]

فقلت له: سبحان الله، واللة إنك لصبور. قال: (فأصنع ماذا ؟ !). فقلت: تقوم في الناس وتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلى الله عليه وآله بالفضل والسابقة، وتسألهم النصر على هؤلاء المتمالئين عليك، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة، فإن دانوا لك كان ذلك على ما أحببت، وإن أبوا قاتلتهم، فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله الذي آتاه نبيه عليه السلام وكنت أولى به منهم، وإن قتلت في طلبه قتلت شهيدا وكنت أولى (1) بالعذر عند الله، وأحق بميراث رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: (أتراه – يا جندب – يبايعني عشرة من مائة ؟ !). قلت: أرجو ذلك. قال: (لكنني لا أرجو ولا من كل مائة اثنين، وسأخبرك من أين ذلك، إنما ينظر الناس إلى قريش، وإن قريشا تقول: إن آل محمد يرون لهم فضلا على سائر الناس، وإنهم أولياء الأمر دون قريش، وإنهم إن ولوه لم يخرج منهم هذا السلطان إلى أحد أبدا، ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم، ولا – والله – لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعين أبدا). قال: فقلت له: أفلا أرجع فأخبر الناس بمقالتك هذه، وأدعوهم إليك ؟.


(1) في (ش): أعلى.

[ 243 ]

فقال لي: (يا جندب، ليس هذا زمان ذاك). قال: فرجعت بعد ذلك إلى العراق، فكنت كلما ذكرت للناس شيئا من فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ومناقبه وحقوقه زبروني ونهروني، حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة ليالي ولينا، فبعث إلي فحبسني حتى كلم في فخلى سبيلي (1). فصل ومن كلامه عليه السلام حين تخلف عن بيعته: عبد الله بن عمر ابن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وأسامة بن زيد ما رواه الشعبي قال: لما اعتزل سعد ومن سميناه أمير المؤمنين عليه السلام وتوقفوا عن بيعته، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار إلى الناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة، من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا، وإني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم، وايم الله لأنصحن للخصم، ولأنصفن المظلوم. وقد بلغني عن سعد وابن مسلمة وأسامة وعبد الله وحسان بن


(1) أمالي الطوسي 1: 239، شرح ابن ابي الحديد 9: 57 نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 148 (ط / ح).

[ 244 ]

ثابت امور كرهتها، والحق بيني وبينهم) (1). فصل ومن كلامه عليه السلام عند نكث طلحة والزبير بيعته وتوجههما إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليب عليه والتألف على خلافه ما حفظه العلماء عنه، بعد أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد: فان الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله للناس كافة، وجعلة رحمة للعالمين، فصدع بما أمر به، وبلغ رسالات ربه، فلم به الصدع، ورتق به الفتق، وآمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الإحن والعداوة والوغر (2) في الصدور والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله تعالى إليه حميدا، لم يقصر عن الغاية التي إليها أداء الرسالة، ولا بلغ شيئا كان في التقصير عنه القصد، وكان من بعده من التنازع في الإمرة ما كان، فتولى أبو بكر وبعده عمر، ثم تولى عثمان، فلما كان من أمره ما عرفتموه أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، فقلتم: بلى، فقلت: لا، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم فجذبتموها، وتداككتم علي تداك الإبل الهيم (3) على


(1) ورد نحوه في نهج البلاغة 1: 26 / 132، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 397 (ط / ح). (2) الوغر: الضغن والعداوة. (الصحاح – وغر – 2: 846). (3) الهيم: العطاش. (الصحاح – هيم – 5: 2063).

[ 245 ]

حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض، فبسطت يدي فبايعتموني مختارين، وبايعني في أولكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة وأن لا يبغيا للأمة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي ونقضا عهدي، فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكبر وعمر وخلافهما لي، ولست بدون أحد الرجلين ! ولو شئت أن أقول لقلت، اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي، وصغرا من أمري، وظفرني بهما) (1). فصل ثم تكلم عليه السلام في مقام آخر بما حفظ عنه في هذا المعنى، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: (أما بعد: فإن الله تعالى لما قبض نبيه عليه السلام قلنا: نحن أهل بيته وعصبته وورثته وأولياؤه وأحق الخلائق به، لا ننازع حقه وسلطانه، فبينا نحن [ على ذلك ]، (2) إذ نفر المنافقون فانتزعوا سلطان نبينا منا وولوه غيرنا، فبكت – والله – لذلك العيون والقلوب منا جميعا معا، وخشنت (3) له الصدور، وجزعت النفوس جزعا أرغم.


(1) ورد في الاحتجاج: 161، ونحوه في العقد الفريد 4: 162 و 5: 67، شرح ابن أبي الحديد 1: 309، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 412 (ط / ح). (2) ما بين المعقوفين سقط من النسخ الخطية، وأثبتنا من أمالي المفيد. (3) في (ش) و (م): خشيت، وما أثبتناه من هامشهما.

[ 246 ]

وايم الله لو لا مخافتي الفرقة بين المسلمين، وأن يعود أكثرهم إلى الكفر ويعور (1) الدين، لكنا قد غيرنا ذلك ما استطعنا. وقد بايعتموني الآن وبايعني هذان الرجلان طلحة والزبير على الطوع منهما ومنكم والإيثار، ثم نهضا يريدان البصرة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم، اللهم فخذهما بغشهما لهذه الأمة وبسوء نظرهما للعامة). ثم قال: (انفروا (2) – رحمكم الله – في طلب هذين الناكثين القاسطين الباغيين قبل أن يفوت تدارك ما جنياه) (3). فصل ولما اتصل به مسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة من مكة حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (قد سارت عائشة وطلحة والزبير، كل واحد منهما يدعي الخلافة دون صاحبه، فلا يدعي طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة، ولا يدعيها الزبير إلا أنه صهر أبيها. والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربن الزبير عنق طلحة، وليضربن طلحة عنق الزبير، ينازع هذا على الملك هذا. وقد – والله – علمت أنها الراكبة الجمل لا تحل عقدة ولا تسير


(1) في (م) وهامش (ش): ويعور. (2) في هامش (ش) و (م): أنفذوا. (3) ورد في أمالي المفيد: 154 باختلاف يسير، والجمل: 233 مختصرا، وشرح ابن أبي الحديد 1: 307 نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 415 (ط / ح).

[ 247 ]

عقبة ولا تنزل منزلا إلا إلى معصية، حتى تورد نفسها ومن معها موردا، يقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويرجع ثلثهم. والله ان طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان، ولربما (1) عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه. والله لينبحنها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبر أو يتفكر متفكر ! ثم قال: قد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون ؟) (2). فصل ولما توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة، نزل الربذة (3) فلقيه بها آخر الحاج، فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه وهو في خبائه. قال ابن عباس – رحمة الله عليه – فأتيته فوجدته يخصف نعلا، فقلت له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع، فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها ثم قال لي: (قومها) فقلت: ليس لها قيمة، قال: (على ذاك) قلت: كسر درهم، قال: (والله لهما أحب إلي من أمركم هذا، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا) قلت: إن الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك، فتأذن لي أن أتكلم، فإن كان حسنا كان منك، وإن كان غير ذلك كان مني، قال: (لا، أنا أتكلم) ثم


(1) في (م) وهامش (ش) ولرب. (2) روي نحوه في شرح النهج لابن ابي الحديد 1: 233، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 416 (ط / ح). (3) الربذة: من قرى المدينة المنورة، بينهما ثلاثة أيام، وهي من منازل حاج العراق، وفيها قبر ابي ذر الغفاري رضي الله عنه. انظر (معجم البلدان 3: 24).

[ 248 ]

وضع يده في صدري – وكان شثن (1) الكف – فالمني، ثم قام، فأخذت بثوبه فقلت: نشدتك الله والرحم، قال: (لا تنشدني) ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد: فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وليس في العرب أحد يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة، فساق الناس إلى منجاتهم، أم والله ما زلت في ساقتها ما غيرت ولا خنت، حتى تولت بحذافيرها. ما لي ولقريش، أم والله لقد قاتلتهم كافرين ولاقاتلنهم مفتونين، وإن مسيري هذا عن عهد إلي فيه. أم والله، لأبقرن (2) الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته. ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا. وأنشد: ذنب لعمري شربك للمحض خالصا وأكلك بالزبد المقشرة (3) البجرا (4) ونحن وهبناك العلاء ولم تكن عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا) (5) (6)


(1) ششن كفه: أي خشنت وغلظت. (الصحاح – شثن – 5: 2142). (2) في هامش (ش) و (م): لانقبن. (3) المقشرة: الرطب المقشر. (4) البجر: جمع بجراء، وهي المنتفخة البطن، يعني التمر الجيد الكبار. أنظر (لسان العرب – بجر – 4: 40). (5) الجرد والسمر: يعني الخيل. (6) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 2: 185 / 33، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 416 (ط / ح).

[ 249 ]

ولما نزل بذي قار (1) أخذ البيعة على من حضره، ثم تكلم فأكثر من الحمد لله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قال. (قد جرت أمور صبرنا فيها – وفي أعيننا القذى – تسليما لأمر الله تعالى فيما امتحننا به رجاء الثواب على ذلك، وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم. نحن أهل بيت النبوة، وأحق الخلق بسلطان الرسالة، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة. وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة، ولا من ذرية الرسول، حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر، فلم يصبرا حولا واحدا ولا شهرا كاملا حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عني) ثم دعا عليهما. فصل وقد روى عبد الحميد بن عمران العجلي، عن سلمة بن كهيل قال: لما التقى أهل الكوفة وأمير المؤمنين عليه السلام بذي قار، رحبوا به وقالوا: الحمد لله الذي خصنا بجوارك وأكرمنا بنصرتك. فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا أهل الكوفة، إنكم من أكرم المسلمين، وأقصدهم تقويما، وأعدلهم سنة، وأفضلهم سهما في الإسلام، وأجودهم في العرب


(1) ذو قار: موضع في محافظة الناصرية في العراق.

[ 250 ]

مركبا (1) ونصابا. أنتم أشد العرب ودا للنبي صلى الله عليه وآله ولأهل بيته. وإنما جئتكم ثقة – بعد الله – بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير وخلعهما طاعتي، وإقبالهما بعائشة للفتنة، وإخراجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة، فاستغووا (2) طغامها وغوغاءها، مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم وخيارهم في الذين قد اعتزلوا وكرهوا ما صنع طلحة والزبير). ثم سكت فقال أهل الكوفة: نحن أنصارك وأعوانك على عدوك، ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه. فدعا لهم أمير المؤمنين عليه السلام وأثنى عليهم، ثم قال: (قد علمتم – معاشر المسلمين – أن طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين، ثم استأذناني في العمرة فأذنت لهما، فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر. اللهم إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبا الناس علي، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا) (3).


(1) المركب: الأصل والمنبت. (الصحاح – ركب – 1: 139) (2) في (ش) وهامش (م): فاستعدوا. (3) أورده المصنف في الجمل: 143، باختلاف يسير إلى قوله: احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 416 (ط / ح).

[ 251 ]

فصل من كلامه عليه السلام حين نهض من ذي قار متوجها إلى البصرة بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أما بعد: فإن الله فرض الجهاد وعظمة، وجعله نصرة له، والله ما صلحت دنيا قط ولادين إلا به. وان الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله، وشبه في ذلك وخدع، وقد بانت الامور وتمخضت. والله ما أنكروا علي منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا، وانهم ليطلبون حقا تركوه، ودما هم سفكوه، ولئن كنت شركتهم فيه إن لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولوه دوني فما تبعته إلا قبلهم، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، واني لعلى بصيرتي ما لبست علي، لهم انها للفئة الباغية فيها الحمي (1) ولحمة (2) قد طالت هلبتها وأمكنت درتها، يرضعون أما فطمت، ويحيون بيعة تركت، ليعود الضلال إلى نصابه. ما أعتذر مما فعلت، ولا أتبرأ تما صنعت، فخيبة للداعي ومن دعا لو قيل له: إلى من دعواك ؟ وإلى من أجبت ؟ ومن إمامك ؟ وما سنته ؟ إذا لزاح الباطل عن مقامه، ولصمت لسانه فما نطق. وايم الله، لافرطن (3) لهم حوضا أناماتحه (4)، لا يصدرون عنه ولا يلقون بعده ولا ريا


(1) الحمى: المرض المعروف. (2) الحمة: سم العقرب، والمراد الشدة والضيق. ” الصحاح – حمى – 6: 2320 “. (3) افرط الحوض: ملاه. ” الصحاح – فرط – 3: 1148 “. (4) الماتح: المستقي. ” الصحاح – متح – 1: 403 “.

[ 252 ]

أبدا، واني لراض بحجة الله عليهم وغذره فيهم، إذ أنا داعيهم فمعذر إليهم، فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذوالة والحق مقبول، وليس على الله كفران، وإن أبوا أعطيتهم حد السيف، وكفى به شافيا من باطل وناصرا لمؤمن ” (1). فصل ومن كلامه عليه السلام حين دخل البصرة، وجمع أصحابة فحرضهم على الجهاد فكان مما قال: ” عباد الله، انهدوا (2) إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم بقتالهم، فإنهم نكثوا بيعتي، واخرجوا ابن حنيف عين بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة، وقتلوا السيابجة (3)، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي، وقتلوا رجالا صالحين، ثم تتبعوا منهم من نجا ياخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية، ثم ياتون بهم فيضربون رقابهم صبرا. ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.


(1) وردت قطع من الخطبة في الاستيعاب 2: 221، ونهج البلاغة 1: 9 / 38 و 55 / 21 و 2: 26 / 133، ونقلها العلامة المجلسي في البحار 8: 416 (ط / ح). (2) نهد القوم لعدوهم: إذا صمدوا له وشرعوا في قتاله ” النهاية – نهد – 5: 134 “. (3) السيابجة قوم صالحون كان امير المؤمنين عليه السلام سلم بيت المال بالبصرة إليهم فكبسهم أصحاب الجمل وقتلوهم وذلك بعد معاهدتهم ألا يقتلوا اصحاب امير المؤمنين عليه السلام. قال الجوهري (في الصحاح – سبج – 1: 321) ” السبابجة: قوم من السند كانوا جلاوزة بالبصرة واصحاب سجن، والهاء للنسبة والعجمة ” وأصل الكلمة: سياه بجكان. هامش ” ش ” و ” م “.

[ 253 ]

انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم، والقوهم صابرين محتسبين تعلمون انكم منازلوهم ومقاتلوهم وقد وطنتم أنفسكم على الطعن الدعسي (1)، والضرب الطلخفي (2)، ومبارزة الاقران، وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من إخوانه فشلا، فليذب عن أخيه الذي ففعل عليه كما يذب عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله ” (3). فصل ومن كلامه عليه السلام حين قتل طلحة وانفض أهل البصرة: ” بنا تسنمتم الشرفاء (4)، وبنا انفجرتم (5) عن السرار (6)، وبنا اهتديتم في الظلماء ؟ وقر سمع لم يفقه الواعية، كيف يراع للنباة من أصمته الصيحة، ربط جنان لم يفارقة الخفقان، ما زلت أتوقع بكم عواقب الغدر، وأتوسمكم بحلية المغترين، سترني عنكم جلباب الذين،، بصرنيكم صدق النية ؟ أقمت لكم الحق حيث تعرفون ولا دليل،


(1) الدعس: الطعن الشديد. ” لسان العرب – دعس – 6: 83 “. (2) الطلخف: الشديد من الطعن والضرب. ” لسان العرب – طلخف – 9: 223 “. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 429 (ط / ح). (4) في ” م ” وهامش ” ش “: الشرف. (5) انفجر، دخل في الفجر. السان العرب – فجر – 5: 45 “. (6) السرار: الليلة التى يستر فيها القمر. ” لسان العرب – سرسر – 4: 357 “.

[ 254 ]

وتحتفرون ولا تميهون (1). اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان، عزب فهم امرئ تخلف عني، ما شككت في الحق منذ رأيته، كان بنو يعقوب على المحجة العظمى حتى عقوا أباهم وباعوا أخاهم، وبعد الاقرار كانت توبتهم، وباستغفار أبيهم وأخيهم غفر لهم ” (2). ومن كلامه عليه السلام عند تطوافه على القتلى: ” هذه قريش، جدعت انفي وشفيت نفسي، لقد تقدمت إليكم أحذركم عض السيوف، وكنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون، ولكنه الحين (3) وسوء المصرع، فأعوذ بالله من سؤ المصرع “. ثم مر على معبد بن المقداد فقال: ” رحم الله أبا هذا، أما إنه لو كان حيا لكان رأيه أحسن من رأي هذا ” فقال عمار بن ياسر: الحمد لله الذي أوقعة وجعل خده الاسفل، إنا والله – يا أمير المؤمنين – ما نبالي من عند عن الحق من ولد ووالد. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” رحمك الله وجزاك عن الحق خيرا “. قال: ومر بعبدالله بن ربيعة بن دراج وهو في القتلى فقال: ” هذا


(1) أماه الحافر يميه: إذا انبط الماء ووصل إليه عند حفره البئر. انظر ” الصحاح – موه – 6: 225 ” وفي هامش ” ش ” و ” م “: تمهون. وكلاهما بمعنى واحد. (2) نهج البلاغة 1: 33 / 3 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 443 (ط / ح). (3) الحين: الهلاك. ” الصحاح – حين – 5: 2106 “.

[ 255 ]

البائس ما كان أخرجه ؟ أدين أخرجه أم نصر لعثمان ! ؟ والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في ابيه بحسن “. ثم مر بمعبد بن زهير بن أبي أمية (1) فقال: ” لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام، والله، فيها بذي نحيزة (2)، ولقد أخبرني من أدركه وانه ليولول فرقا من السيف “. ثم مر بمسلم بن قرظة فقال: ” البر أخرج هذا ! والله لقد كلمني أن أكلم له عثمان في شئ كان يدعيه قبله بمكة، فأعطاه عثمان وقال: لولا أنت ما أعطيته، إن هذا – ما علمت – بئس أخو العشيرة ؟ ثم جاء المشوم للحين ينصر عثمان “. ثم مر بعبدالله بن حميد بن زهير فقال: ” هذا أيضا ممن أوضع في قتالنا، زعم يطلب الله بذلك، ولقد كتب إلي كتبا يؤذي فيها عثمان فأعطاة شيئا فرضي عنه “. ومر بعبدالله بن حكيم بن حزام فقال: ” هذا خالف أباه في الخروج، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا، وإن كان قد كف وجلس حيث شك في القتال، وما ألوم اليوم من كف عنا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا “. ثم مر بعبدالله بن المغيرة بن الاخنس فقال: ” أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار، فخرج مغضبا لمقتل أبيه، وهو غلام


(1) في ” ش “: امية، وفي ” م ” وهامش ” ش ” ابي امية، وهو الصواب، وهو: معبد بن زهير بن أبي امية بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي ابن أخي ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله. انظر ” أسد الغابة 4: 391، الاصابة 3: 479 / 4327 “. (2) النحيزة: الطبيعة. ” الصحاح – نحز – 3: 898 “.

[ 256 ]

حدث حين لقتله “. ثم مر بعبدالله بن أبي عثمان بن الاخنس بن شريق فقال: ” أما هذا فإني (1) أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف هاربا يعدو من الصف، فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت حتى قتله، وكان هذا مما خفي على فتيان قريش، أغمار (2)، لا علم لهم بالحرب، خدعوا واستزلوا، فلما وقفوا وقعوا فقتلوا “. ثم مشى قليلا فمر بكعب بن سور فقال: ” هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف، يزعم أنه ناصر أمه، يدعو الناس إلى ما فيه وهو لا يعلم ما فيه، ثم استفتح وخاب كل جبه عنيد. أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتلة الله. أجلسوا كعب بن سور ” فأجلس، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” يا كعب، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل. وجدت ما وعدك ربك حقا ؟ ثم قال: أضجعوا كعبا “. ومر على طلحة بن عبيد الله فقال: ” هذا الناكث بيعتي، والمنشى الفتنة في الامة، والمجلب علي، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي. أجلسوا طلحة، فأجلس، فقال أمير المؤمنين عليه السلام ” يا طلحة بن عبيداللة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعد ربك حقا ! ؟ ثم قال: أضجعوا طلحة ” وسار. فقال له بعض من كان معه: يا أمير المؤمنين، اتكلم كعبا وطلحة بعد قتلهما ؟ قال: ” أم واللة، إنهما لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب (3) كلام رسول الله صلى الله


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: فكأني. (2) الغمر. الذي لم يجرب الامور. ” الصحاح – غمر – 2: 772 “. (3) أهل القليب: هم مشركو قريش الذين قتلوا يوم بدر ورماهم المسلمون في بئر =

[ 257 ]

عليه وآله يوم بدر ” (1). فصل ومن كلامه عليه السلام بالبصرة حين ظهر على القوم، بعد حمد الله والثناء عليه ” أما بعد: فإن الله ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفو جم، وعقاب أليم، قضى أن رحمته ومغفرته وعفوه لاهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدى المهتدون، وقضى أن نقمته وسطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدى والبينات ما ضل الضالون. فما ظنكم – يا أهل البصرة – وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم علي عدوي ؟ “. فقام إليه رجل فقال: نظن خيرا، ونراك قد ظفرت وقدرت، فإن عاقبت فقد اجترمنا ذلك، لم ان عفوت فالعفو أحب إلى الله. فقال: ” قد عفوت عنكم، فإياكم والفتنة، فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا هذه الامة ” قال: ثم جلس للناس فبايعوه (2).


= هناك. (1) أورده المصنف في الجمل: 209 – 211، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 437 (ط / ح). (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 442 (ط / ح).

[ 258 ]

فصل ثم كتب مليه السلام بالفتح إلى أهل الكوفة ” بسم الة الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله حكم عدل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. اخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة، ومن تاشب إليهم (1) من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير، ونكثهم (2) صفقة أيمانهم، فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبر من سار إليها وجماعتها، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف، حتى قدمت ذا قار، فبعثت الحسن بن على وعمار بن ياسرو قيس بن سعد فاستنفرتكم بحق الله وحق رسوله وحقي، فأقبل إلي إخوانكم سراعا حتى قدموا علي، فسرت بهم حتى نزلت ظهر البصرة، فأعذرت بالدعاء، وقمت بالحجة، وأقلت العثرة والزلة من اهل الردة من قريش وغيرهم، واستتبتهم من نكثهم بيعتي وعهد الله عليهم، فأبوا إلا قتالي وقتال من معي


(1) تأشب إليهم: انضم الهيهم واختلط بهم. ” الصحاح – أشب – 1: 88 “. (2) في ” ش ” ونقضهم.

[ 259 ]

والتمادي في البغي (1)، فناهضتهم بالجهاد، فقتل الله من قتل منهم ناكثا، وولى من ولى إلى مصرهم، وقتل طلحة والزبير على نكثهما وشقاقهما، وكانت المرأة عليهم أشام من ناقة الحجر (2)، فخذلوا وأدبروا وتقطعت بهم الاسباب، فلما رأوا ما حل بهم سألوني العفو، فقبلت منهم وغمدت السيف عنهم، وأجريت الحق والسنة بينهم، واستعملت عبد الله بن العباس على البصرة، وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء اللة، وقد بعثت إليكم زحربن قيس الجعفي لتسالوه فيخبر كم عنا وعنهم، وردهم الحق علينا، ورد الله لهم وهم كارهون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ” (3) فصل ومن كلامه عليه السلام حين قدم الكوفة من البصرة بعد حمد الله والثناء عليه: ” أما بعد: فالحمد لله الذي نصر وليه، وخذل عدوه، وأعز الصادق المحق، وأذل الكاذب المبطل. عليكم – يا أهل هذا المصر – بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الغي. (2) اشارة إلى ناقة ثمود، ونحوه ما ورد في المثل: أشام من أحمر عاد وهو قدار بن قديرة الذي عقر ناقة صالح عليه السلام. انظر: سرائر الامثال: 212. (3) أورده المصنف في الجمل: 213، والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي 4: 135 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 442 (ط / ح).

[ 260 ]

بيت نبيكم، الذين هم أولى بطاعتكم من المنتحلين المدعين القائلين: إلينا إلينا، يتفضلون بفضلنا، ويجاحدونا أمرنا، وينازعونا حقنا ويدفعونا عنه، وقد ذاقوا وبال ما اجترحوا، فسوف يلقون غيا. وقد قعد عن نصرتي منكم رجال، وانا عليهم عاتب (1) زار فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبونا ونرى منهم ما نحب ” (2). فصل ومن كلامه عليه السلام لا عمل على المسير إلى الشام لقتال معاوية بن أبي سفيان بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله: ” اتقوا الله – عباد الله – وأطيعوه وأطيعوا إمامكم، فإن الي الرعية الصالحة تنجو بالامام العادل. ألا وان الرعية الفاجرة تهلك بالامام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقي، ناكثا لبيعتي، طاعنا في دين الله عز وجل. وقد علمتم – أيها المسلمون – ما فعل الناس بالامس، تجئتموني راغبين إلي في أمركم حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني، فالتويت عليكم لابلو ما عندكم، فراددتموني القول مرارا وراددتكموة، وتكأكأتم في تكأكؤ الابل على حياضها حرصا على بيعتي، حتى خفت أن يقتل بعضكم بعضا، فلما


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: عائب، ونسبه في هامش ” ش ” إلى نسخة الشيخ. (2) وقعة صفين: 4، امالي المفيد: 127، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 465 (ط / ح).

[ 261 ]

رأيت ذلك منكم رويت في أمري وأمركم، فقلت: إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم، لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي، وبعدل فيهم عدلي. وقلت: والله لالينهم وهم يعرفون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي وفضلي. فبسطت يدي لكم فبايعتموني – يا معشر المسلمين – وفيكم المهاجرون والانصار والتابعون بإحسان، فأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاقي، لتفن لي ولتسمعن لامري ولتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كل باغ علي، أو مارق إن مرق، فأنعمتم (1) لي بذلك جميعا. وأخذت عليكم عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة رسوله، فأجبتموني إلى ذلك، وأشهدت الله عليكم، وأشهدت بعضكم على بعض، فقمت فيكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله. فالعجب من معاوية بن أبي سفيان ! ينازعني الخلافة، ويجحدني الامامة، ويزعم أنه أحق بها مني، جرأة منه على الله وعلى رسوله، بغير حق له فيها ولا حجة، لم يبايعه عليها المهاجرون، ولا سلم له الانصار والمسلمون. يا معشر المهاجرين والانصار، وجماعة من سمع كلامي، أما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة، أما بايعتموني على الرغبة، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي، أما كانت بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكرو عمر ؟ فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا، ونقض علي ولم يف لي ! ؟ أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري ؟ أما


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: انعمتم: قبلتم وقلتم نعم.

[ 262 ]

تعلمون أن بيعتي تلزم الشاهد منكم والغائب ! ؟. فما بال معاوية وأصحابه طاعنين في بيعتي ؟ ولم لم يفوا بها لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالامر ممن تقدمني ؟ أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الغدير في ولايتي وموالاتي ! ؟ فاتقوا الله – الا المسلمون – وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث وأصحابه القاسطين. اسمعوا ما أتلو عليكم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل لتتعظوا، فإنه والله عظة لكم، فانتفعوا بمواعظ الله، وازدجروا عن معاصي الله، فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه صلى الله عليه وآله (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وابنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا الا قليلا منهم والله عليم بالظالمين * وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزادة بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكة من يشاء والله واسع عليم) (1). أيها الناس، إن لكم في هذه الايات عبرة، لتعلموا أن الله تعالى جعل الخلافة والامرة من بعد الانبياء في أعقابهم، وأنه فضل طالوت


(1) البقرة 2: 246 – 247.

[ 263 ]

وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه، وزيادته بسطة في العلم والجسم، فهل تجدون الله اصطفى بني أمية على بني هاشم ! وزاد معاوية علي بسطة في العلم والجسم ! فاتقوا الله – عباد الله – وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخطه بعصيانكم له، قال الله سبحانه: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (1) (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا باموالهم وانفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (2) (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة قي جنات عدن ذلك الفوز العظيم) (3). اتقوا الله – عباد الله – وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم، فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بذر، إذا أمرتهم أطاعوني، وإذا استنهضتهم نهضوا معي، لاستغنيت بهم عن كثير منكم، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض ” (4).


(1) المائدة 5: 78 – 79. (2) الحجرات 49: 15. (3) الصف 61: 10 – 12. (4) الاحتجاج: 172، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 472 و 697 (ط / ح).

[ 264 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام وقد بلغه عن معاوية وأهل الشام ما يؤذيه من الكلام، فقال: ” الحمد لله، قديما وحديثا ما عاداني الفاسقون فعاداهم الله، ألم تعجبوا، إن هذا لهو الخطب الجليل، ان فساقا غير مرضيين، وعن الاسلام وأهله منحرفين (1)، خدعوا بعض هذه الامة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم بالافك والبهتان (2)، قد نصبوا لنا الحرب، وهبوا (3) في إطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون. اللهم فإن ردوا الحق فاقصص (4) جذمتهم (5)، وشتت كلمتهم، وأبسلهم (6) بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت ” (7).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: متخوفين. (2) في ” ش “: والعدوان. (3) في ” ش “: هموا. (4) كذا في هامش ” ش ” و ” م ” ومعناه: اقطع. وفي ” ش ” و ” م “: فافضض، وهذا يناسب ما نقله الطبري: فافضض خدمتهم، بدل: جذمتهم، ومعناه: فرق جمعهم. (5) جذم الشئ: اصله. ” الصحاح – جذم – 5: 883 “. (6) أبسله: أسلمه للهلكة. ” الصحاح – بسل – 4: 1634 “. (7) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 473 (ط / ح). (*)

[ 265 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام في تحضيضه على القتال يوم صفين ” عباد الله، اتقوا الله، وغضوا الابصار، واخفضوا الاصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمبالطة (1) والمبالدة (2) والمعانقة والمكادمة (3)، واثبتوا، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، ولا تنازغوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. اللهم ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الاجر ” (4). فصل ومن كلامه عليه السلام أيضا في هذا المعنى ” معشر المسلمين إن الله قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتشفي بكم على الخير العظيم، الايمان بالله ورسوله صلى الله


(1) المبالطة: المضاربة بالسيوف. ” الصحاح – بلط – 3: 1116 “. (2) المبالدة: مثل المبالطة، وهي المضاربة بالسيوف. ” الصحاح – بلد – 2: 449 “. (3) المكادمة: شدة القتال. انظر ” لسان العرب – كدم – 12: 510 “. (4) وقعة صفين: 204، تاريخ الطبري 5: 11، شرح النهج الحديدي 4: 26، ورواه الكليني في الكافي 5: 38 / 2 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 510 (ط / ح).

[ 266 ]

عليه وآله، الجهاد في سبيله، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن. ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، فقدموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الاضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للاسنة، وغضوا الابصار فإنه أضبط (9) للجأش واسكن للقلوب، واميتوا الاصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار. ورأيتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانعين للذمار الصابرين على نزول الحقائق أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكتنفونها. رحم الله امرءا منكم آسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، فيكتسب بذلك لائمة وياتي به دناءة، فلا تعرضوا لمقت الله، ولا تفروا من الموت فإن الله تعالى يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون بلا قليلا ” (2). وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الاخرة، فاستعينوا بالصبرو الصلاة والصدق في النية، فإن الله تعالى بعد الصبر ينزل النصر ” (3).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: أربط. (2) الاحزاب 33: 16. (3) وقعة صفين: 235، تاريخ الطبري 5: 16، الكافي 5: 39، شرح النهج الحديدي 5: 187 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 510 (ط / ح)

[ 267 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام وقد مر براية لاهل الشام لا يزول اصحابها عن مواقفهم صبرا على قتال المؤمنين، فقال لاصحابه: ” إن هؤلاء لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسيم، وضرب يفلق الهام ويطيح العظام وتسقط منه المعاصم والاكف، وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتثر حواجبهم على الصدور والاذقان. أين أهل الصبر ؟ أين طلاب الاجر ! ؟ فثار إليهم حينئذ عصابة بن المسلمين فكشفوهم (1). فصل ومن كلامه عليه السلام في هذا المعنى ” إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق، ولا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتى يرموا بالمناسر (2) تتبعها العساكر، وحتى يرجموا (3) بالكتائب تقفوها الجلائب (4)، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى


(1) كتاب سليم بن قيس: 220، وقعة صفين: 392، تاريخ الطبري 5: 45، الكافي 5: 40. (2) المنسر: قطعة من الجبش تمر امام الجيش الكبير. ” الصحاح – نسر – 2: 827 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: يزحموا. (4) الجلائب: الخيل التى تجلب ليقاتل عليها بعد تعب الاولى، أو كتائب اخرى تدخل =

[ 268 ]

تدعق الخيول (1) في نواحي أرضهم وبأعنان مساربهم ومسارحهم، وحتى تشن الغارات في كل فج وتخفق عليهم الرايات، ويلقاهم قوم صدق صبرلا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله، وحرصا على لقاء الله. والله، لقد كنا مع النبي صلى الله عليه وآله يقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا على مض الالم، وجرأة على جهاد العدو، واستقلالا بمبارزة الاقران. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، ويتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنية، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلا رآنا الله تعالى صبرا صدقا، أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، ولعمري لو كنا ناتي مثل ما أتيتم ما قام الذين ولا عز الاسلام، وايم الله لتحتلبنها دما عبيطا، فاحفظوا ما اقول ” (2). فضل ومن كلامه عليه السلام حين رجع أصحابه عن القتال بصفين، لما اغترهم معاوية برفع المصاحف فانصرفوا عن الحرب ” لقد فعلتم فعلة ضعضعت من الاسلام قواه، وأسقطت


= المعركة بعد الكتائب الاولى. (1) تدعق الخيل: اي تكثر الغارات. انظر ” الصحاح – دعق – 4: 1474 “. (2) وقعة صفين 520، شرح النهج الحديدي 2: 239، واورده سليم بن قيس في كتابه: 147 باختلاف وفي الفاظه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 506 (ط / ح).

[ 269 ]

منته (1)، وأورثت وهنا وذلة. لما كنتم الاعلين، وخاف عدوكم الاجتياح، واستحر بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها ليفثؤوكم (2) عنهم، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم، ويتربص بكم ريب المنون خديعة ومكيدة. فما أنتم إن جامعتموهم على ما أحبوا، وأعطيتموهم الذي سالوا إلا مغرورون. وايم الله، ما اظنكم بعدها موافقي رشد، ولا مصيبي حزم ” (3). فصل ومن كلامه عليه السلام بعد كتب الصحيفة بالموادعة والتحكيم، وقد اختلف عليه أهل العراق في ذلك ” والله، ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت، وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا، ولا التبديل بعد الاقرار، إلا أن يعصى الله بنقض العهد، ويتعدى كتابه بحل العقد، فقاتلوا حينئذ من ترك أمر الله. واما الذي ذكرتم عن الاشتر من تركه أمر بخط يده في الكتاب وخلافه ما أنا عليه، فليس من أولئك، ولا أخافه على ذلك، ولنت فيكم مثله اثنين، بل ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوكم ما يرى، إذا لخفت علي مؤونتكم،


(1) المنة: القوة ” الصحاح – منن – 6: 2207 “. (2) فثأه عنه: كسره وسكن غضبه. ” الصحاح – فثأ – 1: 62. (3) الكامل في التاريخ 3: 322، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 592 (ط / ح).

[ 270 ]

ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم، وقد نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني، فكنت – أنا وأنتم – كما قال أخو هوازن: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أزشد ” (1) فصل ومن كلامه عليه السلام للخوارج حين رجع إلى الكوفة، وهو بظاهرها قبل دخوله إياما، بعد حمد الله والثناء عليه: ” اللهم هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نطف (1) فيه أو غل فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا. نشدتكم بالله أتعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم وصدقكم. إنما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ووهنا ومكيدة، فرددتم على رأيي، وقلتم: لا، بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب، اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحياة القران وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف


(1) تاريخ الطبري 5: 59 والكامل لابن الاثير 3: 322، وفيهما: عدوي بدل عدوكم، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 593 (ط / ح)، واخو هوازن هو دريد بن الصمة. والبيت في ديوانه 47 / 18. (2) نطف: تلطخ بالعيب واتهم بالريبة. ” الصحاح – نطف – 4: 1433 “.

[ 271 ]

حكم من حكم بما في الكتاب، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء “. فقال له بعض الخوارج. فخبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء ؟. فقال عليه السلام: ” إنا لم نحكم الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وانما يتكلم به الرجال “. قالوا له. فخبرنا عن الاجل، لم جعلته فيما بينك وبينهم. قال: ” ليتعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة هذه الامة. ادخلوا مصركم رحمكم الله ” ودخلوا من عند آخرهم (1). فصل ومن كلامه عليه السلام حين نقض معاوية العهد وبعث بالضحاك بني قيس للغارة على أهل العراق، فلقي عمرو ابن عميس بن مسعود، فقتله الضحاك وقتل ناسا من أصحابه، وذلك بعدأن حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ” يا أهل الكوفة، اخرجوا إلى العبد الضالح والى جيش لكم قد أصيب منه طرف. اخرجوا فقاتلوا عدوكم، وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين “.


(1) تاريخ الطبري 5: 65 باختلاف يسير، ونفله العلامة المجلسي في البحار 8: 611 (ط / ح).

[ 272 ]

قال: فردوا عليه ردا ضعيفا، ورأى منهم عجزا وفشلا، فقال: ” والله، لوددت أن لي بكل ثمانية منكم رجلا منهم. ويحكم، اخرجوا معي ثم فروا عني إن بدا لكم، فوالله ما أكره على نيتي (1) وبصيرتي، وفي ذلك روح لي عظيم، وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم ومداراتكم مثل ما تدارى البكار العمدة (2) أو الثياب المتهترة (3)، كلما خيطت (4) من جانب تهتكت من جانب على صاحبها ” (5). فصل ومن كلام عليه السلام أيضا في استنفار القوم واستبطائهم عن الجهاد وفد بلغه مسير بسر بن أرطاة إلى اليمن ” أما بعد: ايها الناس، فإن أول رفثكم وبدء نقضكم ذهاب أولي النهى وأهل الرأي منكم، الذين كانوا يلقون فيصدقون، ويقولون فيعدلون، ويدعون فيجيبون، واني والله قد دعوتكم عودا وبدءا، وسرا وجهرا، وفي الليل والنهار، والغدو والاصال، ما يزيدكم دعائي إلا فرارا وإدبارا، ما تنفعكم العظة والدعاة إلى الهدى والحكمة، وإني لعالم بما يصلحكم وبقيم لي أودكم،


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: بينتي. (2) البكار العمدة: الابل التي ينفضخ سنامها من الركوب. ” الصحاح – عمد – 2: 512 “. (3) متهتر: متمزق. ” لسان العرب – هتر – 5: 249 “. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: حيصت. (5) الغارات 2: 423، شرح النهج الحديدي 2: 117، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 700 (ط / ح).

[ 273 ]

ولكني والله لا أصلحكم بفساد نفسي، ولكن أمهلوني قليلا فكأنكم والله بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذبكم فيعذبه الله كما يعذبكم، إن من ذل المسلمين وهلاك الدين أن بني أبي سفيان يدعو الارذال (1) الاشرار فيجاب، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الاخيار فتراوغون وتدافعون، ما هذا بفعل المتقين ! ” (2). فصل ومن كلامه علبه السلام أيضا في استبطاء من قعد عن نصرته ” أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهوازهم، كلامكم يوهن (3) الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم المرتاب. تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد (4)، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل أضاليل، سالتموني التاخير دفاع ذي الذين المطول. لا يمنع الضميم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد. أي دار بعد داركم تمنعون ؟


(1) في هامش ” ش “: الاراذل. (2) رواه الثقفي في الغارات 2: 624، وأورده مختصرا البلاذري في انساب الاشراف 2: 458، واليعقوبي في تاريخه 2: 198 نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط / ح). (3) في ” م ” وهامش ” ش “: يوهي. (4) في هامش ” ش “: حيدي حيدي.

[ 274 ]

أم مع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الاخيب. أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصرتكم، فرق اللة بيني وبينكم، وأبدلني بكم من هو خير لي منكم. والله لوددت أن لي بكل عشرة منكم رجلا من بني فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم ” (1). فصل ومن كلامه عليه السلام ايضا في هذا المعنى بعد حمد الله والثناء عليه: ” ما أظن هؤلاء القوم – يعني أهل الشام – إلا ظاهرين عليكم “. فقالوا له: بماذا يا أمير المؤمنين ؟. قال: ” أري أمورهم قد علت، ونيرانكم قد خبت، وأراهم جادين، وأراكم وانين، وأراهم مجتمعين، وأراكم متفرقين، وأراهم لصاحبهم مطيعين، وأراكم لي عاصين. أم والله لئن ظهروا عليكم لتجدنهم ارباب سوء من بعدي لكم، لكاني انظر إليهم وقد شاركوكم في بلادكم، وحملوا إلى بلادهم فيئكم، وكأني أنظر إليكم تكشون


(1) روي مثله في البيان والتبيين 2: 26، والعقد الفريد 4: 161، ونثر الدر 1: 272، وفي نهج البلاغة 1: 69 / 28 إلى قوله: لا اطمع في نصرتكم، وامالي الطوسي 1: 183 إلى قوله: من هو خير لي منكم، ونحوه في الامامة والسياسة 1: 150، انساب الاشراف 2: 380، دعائم الاسلام 1: 391، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 684 (ط / ح).

[ 275 ]

كشيش (1) الضباب (2)، لا تأخذون حقا ولا تمنعون لله حرمة، وكأني انظر إليهم يقتلون صالحيكم، يخيفون قراءكم، ويحرمونكم يحجبونكم، ويدنون الناس دونكم، فلو قد رأيتم الحرمان والاثرة، ووقع السيف ونزول الخوف، لقد ندمتم وخسرتم على تفريطكم في جهادهم، وتذاكرتم ما أنتم فيه اليوم من الخفض والعافية، حين لا ينفعكم التذكار ” (3). فصل ومن كلامه عليه التلام لما نقض معاوية بن أبي سفيان شرط الموادعة، واقبل يشن الغارات على أهل العراق فقال بعد حمد الله والثناء عليه: ” ما لمعاوية قاتله الله ! ؟ لقد أرادني على أمر عظيم أبى اراد أن أفعل كما يفعل، فأكون قد هتكت ذمتي ونقضت عهدي، فيتخذها علي حجة، فتكون علي شينا إلى يوم القيامة كلما ذكرت. فإن قيل له: أنت بدأت، قال: ما علمت ولا أمرت، فمن قائل يقول: قد صدق، ومن قائل يقول: كذب. أم والله، إن الله لذو أناة وحلم عظيم، لقد حلم عن كثير من فراعنة الاولين


(1) الكشيش: صوت جلد الافعى وغيرها من الحيوان. انظر ” الصحاح – كشش – 3: 1018 “. (2) الضباب: جمع ضب، وهو دابة برية. ” مجمع البحرين – ضبب – 2: 104 “. (3) رواه الثقفي في الغارات 2: 511 باختلاف يسير في الالفاظ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط / ح).

[ 276 ]

وعاقب فراعنة، فإن يمهنه الله فلن يفوته، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه، فليصنع ما بدا له فإنا غير غادرين بذمتنا، ولا ناقضين لعهدنا، ولا مروعين لمسلم ولا معاهد، حتى ينقضي شرط الموادعة بيننا، إن شاء الله ” (1). فصل ومن كلامه عليه السلام في مقام آخر ” الحمد لله، وسلام على رسول الله. أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله رضيني لنفسه أخا، واختصني (2) له وزيرا. أيها الناس، أنا أنف الهدى وعيناه، فلا تستوحشوا من طريق الهدى لقلة من يغشاه، من زعم أن قاتلي مؤمن فقد قتلني، ألا وإن لكل دم ثائرا يوما ما، وإن الثائر في دمائنا والحاكم في حق نفسه وحق ذوي القربى واليتامى والمساكين وابي السبيل الذي لا يعجزه ما طلب ولا يفوته من هرب (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب يتقلبون) (3). فاقسم باللة الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لتنتحرن (4) عليها يا بني أمية، ولتعرفنها في أيدي غيركم ودار عدوكم عما قليل، وليعلمن (5)


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط / ح). (2) في هامش ” ش ” و ” م “: نصبني. (3) الشعراء 26: 227. (4) التناحر: الاقتتال. انظر ” الصحاح – نحر – 2: 824 “. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: وستعلمن.

[ 277 ]

نبأه بعد حين ” (1). فصل ومن كلامه أيضا في معنى ما تقدم ” يا أهل الكوفة، خذوا أهبتكم لجهاد عدوكم معاوية وأشياعه “. قالوا: يا أمير المؤمنين، أمهلنا يذهب عنا القر. فقال: ” أم والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس بأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لطاعتهم معاوية ومعصيتكم لي. والله لقد اصبحت الامم كلها تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت انا أخاف ظلم رعيتي. لقد استعملت منكم رجالا فخانوا وغدروا، ولقد جمع بعضهم (2) ما ائتمنته عليه من فئ المسلمين فحمله إلى معاوية، وآخر حمله إلى منزله، تهاونا بالقران، وجرأة على الرحمن، حتى لو انني ائتمنت أحدكم على علاقة شوط لخانني (3)، ولقد أعييتموني “. ثم رفع يده إلى السماء فقال: ” اللهم إني قد سئمت الحياة بين ظهرانئ هؤلاء القوم، وتبرمت الامل (4) فأتح لي صاحبي حتى أستريح منهم ويستريحوا مني، ولن يفلحوا بعدي ” (5). (1) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط / ح). (2) في هامش ” ش “: بعضكم. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: لخان. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: الاجل. (5) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط / ح).


[ 278 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام في مقام آخر ” أيها الناس، إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء القوم فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهود كالغيب، أتلو عليكم الحكمة فتعرضون عنها، وأعظكم بالموعظة (1) البالغة فتتفرقون عنها، كأنكم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأحثكم على جهاد أهل الجور فما اتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبأ، ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا، تضربون الامثال، وتناشدون (2) الاشعار، وتجسسون الاخبار، حتى إذا تفرقتم تسألون عن الاسعار، جهلة (3) من غير لم، وغفلة من غير ورع، وتتبعا (4) في غير خوف، نسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالاعاليل والاباطيل. فالعجب كل العجب وما لي لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكم !. يا أهل الكوفة، أنتم كام مجالد، حملت فأملصت، فمات قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إن من ورائكم للاعور


(1) في هامش ” ش “: الموعظة. (2) في ” م ” و ” ح “: تنشدون. (3) في ” ش “: جهالة. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: تثبطا.

[ 279 ]

الادبر (1) جهنم الدنيا لا يبقي ولا يذر، ومن بعده النهاس الفراس (2) الجموع المنوع، ثم ليتوارثنكم من بني أمية عدة، ما الآخر بأرأف بكم من الاول، ما خلا رجلا واحدا (3)، (بلاء قضاه الله) (4) على هذه الامة لا محالة كائن، يقتلون خياركم، ويستعبدون أراذلكم، ويستخرجون كنوزكم وذخائركم من جوف حجالكم (5)، نقمة بما ضيعتم من أموركم وصلاح أنفسكم ودينكم. يا أهل الكوفة، أخبركم بما يكون قبل أن يكون، لتكونوا منه على حذر، ولتنذروا به من اتعظ واعتبر. كأني بكم تقولون: إن عليا يكذب، كما قالت قريش لنبيها – صلى الله عليه وآله – وسيدها نبي الرحمة محمد بن عبد الله حبيب الله، فيا ويلكم، أفعلى من أكذب ! ؟ أعلى الله، فأنا أول من عبده ووحده، أم على رسوله، فانا أول من آمن به وصدقه ونصره ! كلا، ولكنها لهجة خدعة كنتم عنها أغبياء (6). والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لتعلمن نبأه (7) بعد حين، وذلك إذا صيركم إليها جهلكم، ولا ينفعكم عندها علمكم، فقبحا لكم يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال، أم والله أيها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم،


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: يعض: الحجاج بن يوسف. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: كانه هشام بن عبد الملك. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: عمر بن عبد العزيز. (4) في هامش ” ش “: فما قضاه الله. (5) الحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزين بالثياب والاسرة والستور، يهيا للعروس. انظر ” الصحاح – حجل – 4: 1667 “. (6) في ” م “: أغنياء. (7) في ” م “: وهامش ” ش “: نباها.

[ 280 ]

ما أعز الله نصر من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، ولا قرت عين من آواكم، كلامكم يوهي (1) الصم، الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم علوكم المرتاب. يا ويحكم، أي دار بعد داركم تمنعون ! ومع أي إمام بعدي تقاتلون ! المغرور – والله – من غررتموه، من فاز بكم فاز بالسهم الاخيب، أصبحت لا أطمع في نصركم، ولا أصدق قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم، وأعقبكم من هو شر لكم مني. إمامكم يطيع الله وانتم تعصونه، وامام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، والله لوددت أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني واحدا منهم. والله لوددت أني لم أعرفكم ولم تعرفوني، فإنها معرفة جرت ندما. لقد وريتم صدري غيظا، وأفسدتم علي أمري بالخذلان والعصيان، حتى لقد قالت قريش: إن عليا رجل شجاع لكن لا علم له بالحروب، لله درهم (2)، هل كان فيهم أحد أطول لها مراسا مني ! وأشد لها مقاساة ! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ثم ها أنا ذا قد ذرفت (3) على الستين، لكن لا أمر لمن لا يطاع. أم والله، لوددت أن ربي قد أخرجني من بين أظهركم إلى رضوانه، لم ان المنية لترصدني فما يمنع أشقاها أن يخضبها – وترك يده على رأسه ولحيته – عهد (4) عهده إلي النبي الامي


(1) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: يوهن. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: هم. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: نيفت. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: عهدا.

[ 281 ]

وقد خاب من افترى، ونجا من اتقى وصدق بالحسنى. يا أهل الكوفة، دعوتكم إلى جهاد هؤلاء ليلا ونهارا وسرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم، فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي، واستصعب عليكم أمري، واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، وظهرت فيكم الفواحش والمنكرات تمسيكم وتصبحكم، كما فعل باهل المثلات من قبلكم، حيث أخبر الله تعالى عن الجبابرة والعتاة الطغاة، والمستضعفين (1) الغواة، في قوله تعالى (يذبحون أبناءكم ، يستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ” (2) أم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد حل بكم الذي توعدون. عاتبتكم – يا أهل الكوفة – بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، وأدبتكم بالدرة فلم تستقيموا، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا (3)، ولقد علمت أن الذي يصلحكم هو السيف، وما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي، ولكن سيسلط عليكم من بعدي سلطان صعب، لا يوقر كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ولا يكرم عالمكم، ولا يقسم الفئ بالسوية بينكم، وليضربنكم ويذلنكم ويجمرنكم (4) في المغازي ويقطعن سبيلكم، وليحجبنكم على بابه،


(1) وردت (المستضعفين) بفتح العين وكسرها في النسخ وفي هوامش ” ش ” و ” م “: المستضعفون هم المعاقبون بالذبح والقتل، وفي هامش ” ش “: المستضعف: المستكبر. (2) البقرة 2: 49. (3) في هامش ” ش “: الارعواء: وهو الندم عل الشئ والانصراف عنه والترك له. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: التجمير: ترك العسكر في وجه العدو.

[ 282 ]

حتى يأكل قويكم ضعيفكم، ثم لا يبعد الله إلامن ظلم منكم، ولقلما أدبر شئ ثم أقبل (1)، وإني لاظنكم في فترة، وما في إلا النصح لكم. يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث واثنتين صم ذوو أسماع، ولكم ذوو ألسن، وعمي ذوو أبصار، لا إخوان صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء. اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني. اللهم لا ترض عنهم أميرا ولا ترضهم عن أمير، وأمث قلوبهم كما يماث الملح في الماء. أم والله، لو أجد بدا من كلامكم ومراسلتكم ما فعلت، ولقد عاتبتكم في رشدكم حتى لقد سئمت الحياة، كل ذلك تراجعون بالهزء (2) من القول فرارا من الحق، وإلحادا (3) إلى الباطل الذي الا يعز الله بأهله الدين، واني لاعلم أنكم لا تزيدونني غير تخسير، كلما أمرتكم بجهاد عدوكم اثاقلتم إلى الارض، وسألتموني التأخير دفاع ذي الذين المطول. إن قلت لكم في القيظ: سيروا، قلتم: الحر شديد، وإن قلت لكم في البرد: سيروا، قلتم: القر شديد، كل ذلك فرارا عن الجنة. إذا كنتم عن الحر والبرد تعجزون، فأنتم عن حرارة السيف أعجز وأعجز، فإنا لله وإنا إليه راجعون. يا أهل الكوفة، قد أتاني الصريخ يخبرني أن أخا غامد (4) قد نزل


(1) في هامش ” ش “: فاقبل. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: بالهذر. (3) في ” ح ” وهامش ” ش ” و ” م “: اخلادا. (4) أخا غامد، هو سفيان بن عرف بن المغفل الغامدي، امره معاوية على جيش لغارة على أهل الانبار والمدائن في ايام علي عليه اللام، وقتل حسان بن حسان عامل علي عليه =-

[ 283 ]

الانبار على أهلها ليلا في أربعة آلاف، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر، فقتل بها عاملي ابن حسان وقتل معه رجالا صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة، بوأ الله لهم جنات النعيم، وإنه أباحها، ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة، فيه تكون سترها، ويأخذون القناع من رأسها، والخرص (1) من أذنها، والاوضاح (2) من يديها ورجليها وعضديها، والخلخال والمئزر من سوقها، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء: يا للمسلمين، فلا يغيثها مغيث، ولا ينصرها ناصر. فلو أن مؤمنا مات من دون هذا أسفا ما كان عندي ملوما (3)، بل كان عندي بارا محسنا. واعجبا كل العجب، من تضافرا هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم ! قد صرتم غرضا يرمى ولا ترمون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون، تربت (4) أيديكم يا أشباه الابل غاب عنها رعاتها، كلما اجتمعت من جانب تفرقت من جانب ” (5).


= السلام على الانبار. (1) الخرص: الحلقة من الذهب والفضة. ” الصحاح – خرص – 3: 1036 “. (2) الاوضاح: حلي من الفضة. ” الصحاح – وضح – 1: 416 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: مليما. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: فتربت. (5) ورد مقطعا في: الغارات 2: 474، 483،، 494، ومعاني الاخبار: 309 / 1، ونثر الدر 1: 291، 298، ونهج البلاغة 1: 63 / 26 و 188 / 93، وأورده الطبرسي في الاحتجاج: 173، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 697 (ط / ح).

[ 284 ]

فصل ومن كلامه عليه السلام في تظلمه من أعدائه ودافعيه عن حقه ما رواه العباس بن عبيدالله العبدي، عن عمرو بن شمر، عن رجاله، قالوا: سمعنا أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام يقول: ” ما رأيت منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله رخاء فالحمد لله، والله لقد خفت صغيرا وجاهدت كبيرا، أقاتل المشركين وأعادي المنافقين، حتى قبض الله نبيه عليه السلام فكانت الطامة الكبرى، فلم أزل حذرا وجلا أخاف أن يكون ما لا يسعني معه المقام، فلم أر بحمد الله إلا خيرا. واللة ما زلت أضرب بسيفي صبيا حتى صرت شيخا، وانه ليصبرني على ما أنا فيه أن ذلك كله في الله ورسوله. وج نا أرجو أن يكون الروح عاجلا قريبأ، فقد رايت اسبابه “. قالوا: فما بقي بعد هذه المقالة إلا يسيرا حتى أصيب عليه السلام (1). وروى عبد الله بن بكير الغنوي، عن حكيم بن خبير قال: حدثنا من شهد عليا بالرحبة يخطب، فقال فيما قال: ” أيها الناس، إنكم قد أبيتم إلا أن أقول، أما ورب السموات والارض، لقد عهد إلي


(1) أشار إلى بعض فقراتها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4: 108 باختلاف.

[ 285 ]

خليلي أن الامة ستغدر بك من بعدي ” (1). وروى إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الاودي قال: سمعت عليا يقول: ” إن فيما عهد إلي النبي الامي أن الامة ستغدر بك من بعدي ” (2). فصل ومن كلامه عليه السلام عند الشورى وفي الدار ما رواه يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي صادق قال: لما جعلها عمر شورى في ستة، وقال: إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد، فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن، واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، خرج أمير المؤمنين عليه السلام من الدار وهو معتمد على يد عبد الله بن العباس فقال له: ” يا ابن عباس، إن القوم قد عادوكم بعد نبيكم كمعاداتهم لنبيكم صلى الله عليه واله في حياته، أم والله، لا ينيب بهم إلى الحق إلا السيف “. فقال له ابن عباس: وكيف ذاك ؟.


(1) شرح ابن أبي الحديد 4: 107 باختلاف يسير، ونحوه في الغارات 2: 486، ومرسلا في اعلام الورى: 43. (2) المستدرك على الصحيحين 3: 140، تاريخ بغداد 11: 216.

[ 286 ]

قال: ” أما سمعت قول عمر: إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد، فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن، واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ؟ “. قال ابن عباس بلى قال: ” أفلا تعلم أن عبد الرحمن ابن عم سعد، وأن عثمان صهر عبد الرحمن ؟ “. قال: بلى، قال: ” فإن عمر قد علم أن سعدا و عبد الرحمن وعثمان لا يختلفون في الرأي، وانه من بويع منهم كان الاثنان معه، فأمر بقتل من خالفهم ولم يبال أن يقتل طلحة إذا قتلني وقتل الزبير. أم والله، لئن عاش عمر لاعرفنه سوء رأيه فينا قديما وحديثا، ولئن مات ليجمعني واتاه يوم يكون فيه فصل الخطاب ” (1). فصل وروى عمرو بن سعيد، عن حنش الكناني قال: لما صفق عبد الرحمن على يد عثمان بالبيعة في يوم الدار، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” حركك الصهر وبعثك على ما صنعت، والله ما أملت منه إلا ما أمل


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 351 (ط / ح).

[ 287 ]

صاحبك من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم (1) ” (2). فصل وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة، عن ابن عباس قال: كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام بالرحبة، فذكرت الخلافة وتقدم من تقدم عليه فيها فتنفس الصعداء ثم قال: ” أم والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، لكني سدلت دونها ثوبا، وطويت دونها (3) كشحا (4)، وطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذاء (5)، أو أصبر على طخية (6) عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير (7)، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت الصبر على


(1) منشم: اسم امرأة عطارة كانت بمكة، وكانت خزاعة وجرهم أذا ارادو القتال تطيبوا من طيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم، فتشاءموا به. ” الصحاح – نشم – 5: 2041 ” وذكر الميداني في مجمع الامثال أقوال اخر، فراجع 1: 381 حرف الشين. (2) ذكره المصنف في الجمل: 61 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 351. (3) في هامش ” ش “: عنها. (4) طوى كشحه على الامر: إذا أضمره وستره ” مجمع البحرين – كشح – 2: 407 “. (5) الجذاء: المقطوعة. ” الصحاح – جذء – 2: 561 “. (6) الطخية: الظلمة. ” لسان إلى العرب – طخا – 15: 5 “. (7) في ” ش ” و ” ح “: يرضع فيها الصغير، ويدب فيها الكبير، وفي ” م ” وهامش ” ش “: يهرم فيها الصغير ويشيب فيها الكبير. وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار ؟ بقية المصادر.

[ 288 ]

هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا من أن أرى تراثي نهبا، إلى أن حضره أجله فأدلى بها إلى عمر، فيا عجبا ! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. لشدما تشطرا ضرعيها. شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابز (1) فصيرها والله في ناحية خشناء، يجفو مسها، ويغلظ كلمها (2) فصاحبها (3) كراكب الصعبة إن أشنق (4) لها خرق (5) وان أسلس لها عسف (6)، يكثر فيها العثار ويقل منها الاعتذار، فمني الناس – لعمر الله – بخبط وشماس (7) وتلون واعتراض، إلى أن حضرته الوفاة فجعلها شورى بين جماعة زعم أني أحدهم. فيا للشورى وللة هم، متى اعترض الريب في مع الاولين (8) منهم حتى صرت الآن (أقرن بهذه النظائر) (9) لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا، صبرا على طول المحنة وانقضاء المدة، فمال رجل لضغنه، وصغا (10) آخر لصهره، مع هن وهن، إلى أن قام ثالث


(1) البيت للاعشى الكبير، اعشى قيس. وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل. ديوانه: 96. (2) الكلم: الجرح. ” الصحاح – كلم – 5: 2023 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش ” نسخة اخرى: صاحبها. (4) اشنق الراكب دابته: إذا كفها بالزمام وهو راكب. ” الصحاح – شنق – 4: 1504 “. (5) في ” م ” وهامش ” ش “. خرم. (6) عسف: أي أخذ على غير الطريق. ” الصحاح – عسف – 4: 1403 “. (7) شمس الفرس: منع ظهره. ” الصحاح – شمس – 3: 940 “. (8) في ” م ” وهامش ” ش “: الاول. (9) في ” ش ” وهامش ” م “: تقرن بي هذه النظائر. (10) صغا: مال. ” الصحاح – صغا – 6: 2401 “.

[ 289 ]

القوم نافجا حضنيه (1) بين نثيله (2) ومعتلفه (3)، وأسرع معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الابل نبغة الربيع، إلى أن نزت به بطنته وأجهز عليه عمله، فما راعني من الناسر إلا وهم رسل إلي كعرف الضبع يسألونني أن أبايعهم، وانثالوا علي حتى لقد وطن الحسنان وشق عطفاي (4)، فلما نهضت بالامر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا الله تعالى يقول: (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (5) بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكن حليت دنياهم في أعينهم وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الناصر (6)، ولزوم الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الامر ألا يقروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولالفوا دنياهم أزهد عندي من عفطة عنز “. قال: وقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا، فقطع كلامه. قال ابن عباس: فما أسفت على شئ، ولا تفجعت كتفجعي على ما فاتني من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، فلما فرغ من قراءة


(1) نافجا حضنيه: كناية عن التكبر والخيلاء. ” لسان العرب – نفج – 2: 381 “. (2) النثيل: الروث. ” الصحاح – نثل – 5: 1825 “. (3) المعتلف: مكان العلف. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: عطافي. (5) القصص 28: 83. (6) في ” م ” وهامش ” ش “: الحاضر.

[ 290 ]

الكتاب قلت: يا أمير المؤمنين، لو اطردت مقالتك من حيث انتهيت (1) إليها ؟ قال: ” هيهات هيهات يا ابن عباس، كانت شقشقة هدرت ثم قرت ” (2). وروى مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام يقول: ” خطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس بالكوفة، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ” أنا سيد الشيب، وفي سنة من أيوب، وسيجمع الله لي أهلي كما جمع ليعقوب، وذلك إذا استدار الفلك وقلتم ضل أو هلك، ألا فاستشعروا قبلها الصبر، وتوبوا (3) إلى الله بالذنب، فقد نبذتم قذسكم، وأطفأتم مصابيحكم، وقلدتم هدايتكم من لا يملك لنفسه ولا لكم سمعا ولابصرا، ضعف – والله – الطالب والمطلوب، هذا ولو لم تتواكلوا أمركم، ولم تتخاذلوا عن نصرة الحق بينكم، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يتشجع عليكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم وعلى هضم الطاعة وإزوائها عن أهلها فيكم. تهتم كما تاهت بنو إسرائيل على عهد موسى، وبحق أقول ليضعفن عليكم التيه من بعدي – باضطهادكم ولدي – ضعف ما تاهت


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: افضيت. (2) وردت الخطبة المشهورة بالشقشقية في علل الشرائع: 150، ومعاني الاخبار: 360، وأمالي الطوسي 1: 382، ونهج البلاغة 1: 25 / 3، ومناقب ابن شهرآشوب 2: 204 باختلاف يسير، وأوردها الآبي في نثر الدر 1: 274 باختلاف في اللفظ. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: بوؤا.

[ 291 ]

بنو إسرائيل، فلو قد استكملتم نهلا (1) وامتلاتم عللا (2) من سلطان الشجرة الملعونة في القرآن، لقد اجتمعتم على ناعق ضلال ولاجبتم الباطل ركضا، ثم لغادرتم داعي الحق، قطعتم الادنى من أهل بدر، ووصلتم الابعد من أبناء حرب. ألا ولو ذاب ما في أيديهم، لقد دنا التمحيص للجزاء، وكشف الغطاء، وانقضت المدة، وأزف الوعيد (3)، وبدا لكم النجم من قبل المشرق، وأشرق لكم قمركم كملء شهره وكليلة تمه، فإذا استتم ذلك فراجعوا التوبة وخالعوا الحوبة (4) واعلموا أنكم إن أطعتم طالع المشرق سلك بكم منهاج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتداويتم من الصمم، واستشفيتم من البكم، وكفيتم مؤونة التعسف والطلب، ونبذتم الثقل الفادح عن الاعناق، فلا يبعد الله إلا من أبى الرحمة وفارق العصمة، وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون ” (5). وروى مسعدة بن صدقة – أيضا – عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قال: ” خطب أمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة فقال بعد حمد الله والثناء عليه: ” أما بعد: فإن الله لم يقصم جباري دهر قط إلا من بعد تمهيل ورخاء، ولم يجبر كسر عظم أحد من الامم إلا من بعد أزل (6) وبلاء.


(1) النهل: الشرب الاول. ” الصحاح – نهل – 5: 1837 “. (2) العلل: الشرب الثاني. ” الصحاح – علل – 5: 1773 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: الوعد. (4) الحوبة: الخطيئة ” مجمع البحرين – حوب – 2: 47 “. (5) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط / ح). (6) الازل: الضيق والجدب. ” الصحاح – أزل – 4: 1622 “.

[ 292 ]

أيها الناس، وفي دون ما استقبلتم من خطب واستدبرتم في عصر معتبر وما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي ناظر عين ببصير. ألا فأحسنوا النظر – عباد الله – فيما يعنيكم، ثم انظروا إلى عرصات من قد أقاده (1) الله بعمله، كانوا على سنة من آل فرعون، أهل جنات وعيون وزروع ومقام كريم، فها هي عرصة (2) المتوسمين وإنها لبسبيل مقيم، تنذر من نابها (3) من الثبور بعد النضرة والسرور ومقيل من الامن والحبور، ولمن صبر منكم العاقبة ولله عاقبة الامور. فواها لاهل العقول كيف أقاموا بمدرجة السيول ! واستضافوا غير مأمون ! ويسا (4) لهذة الامة الجائرة في قصدها الراغبة عن رشدها ! لا يقتفون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يرعوون عن عيب. كيف ومفزعهم في المبهمات إلى قلوبهم، فكل امرئ منهم إمام نفسه، اخذ منها فيما يرى بعرى ثقات، لا يالون قصدا، ولن يزدادوا إلا بعدا، لشد أنس بعضهم ببعض وتصديق بعضهم بعضا، حيادا كل ذلك عما ورث الرسول صلى الله عليه وآله، ونفورا مما أدي إليه من فاطر السماوات والارضين العليم الخبير، فهم أهل


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: أباده. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: عرضة. (3) في هامش ” ش “: أصابها. (4) ويس: كلمة تستعمل في موضع الرأفة. ” القاموس المحيط – ويس – 2: 258 “، وفى ” م “: وويسا.

[ 293 ]

غشوات (1)، كهوف شبهات، قادة حيرة وريبة. من وكل إلى نفسه فاغرورق في الاضاليل، هذا وقد ضمن الله قصد السبيل (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وان الله لسميع عليم ” (2). فيا ما أشبهها أمة صدت عن ولاتها ورغبت عن رعاتها، ويا أسفا أسفا (3) يكلم القلب، يدمن الكرب لم من فعلات شيعتنا بعد مهلكي على قرب مودتها وتأشب (4) ألفتها، كيف يقتل بعضها بعضا وتحور ألفتها بغضا. فلله الاسرة المتزحزحة غدا عن الاصل، المخيمة بالفرع، المؤملة للفتح من غير جهته، المتوكفة الروح من غير مطلعه، كل حزب منهم معتصم بغصن آخذ به، اينما مال الغضن مال معه، مع أن الله – وله الحمد – سيجمعهم كقزع (5) الخريف، ويؤلف بينهم ثم يجعلهم ركاما كركام السحاب، يفتح الله لهم (6) أبوابا يسيلون من مستثارهم إليها كسيل العرم، حيث لم تسلم عليه قارة (7)، ولم تمنع منه أكمة، ولم يرد ركن طود سننه (8)، يغرسهم اللة في بطون أودية، ويسلكهم ينابيع في،


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: عشوة. (2) الانفال 8: 42. (3) هكذا في ” م ” وهامش ” ش ” وفى متن ” ش ” كتب هكذا: (يا اسفى) ولعله بملاحظة ان الالف هنا منقلبة عن ياء المتكلم وهي احدى اللغات في نداء المضاف إلى ياء المتكلم. (4) التأشب: الاجتماع والخلطة. ” الصحاح – اشب – 1: 88 “. (5) القزع: قطع من السحاب رقيقة. ” الصحاح – قزع – 3: 1265 “. (6) في هامش ” ش ” و ” م “: يفتح لهم. (7) القارة: الاكمة المرتفعة عن الارض. ” الصحاح – قرر – 2: 800 “. (8) السنن: الطريق ” لسانه العرب – سنن – 13: 226 “. وفي هامش ” ش “. سيبه، وهو جريان الماء ” الصحاح – سيب – 1: 150 ” وهو الاولى.

[ 294 ]

الارض، ينفي بهم عن حرمات قوم، ويمكن لهم في ديار قوم، لكي يعتقبوا ما غصبوا، يضعضع الله بهم ركنا، وينقض بهم طي الجندل من إرم، ويملا منهم بطنان الزيتون. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ليذوبن ما في أيديهم من بعد التمكن (1) في البلاد والعلو على العباد كما يذوب القار والآنك (2) في النار، ولعل الله يجمع شيعتي بعد تشتيت لشر (3) يوم لهؤلاء، وليس لاحد على الله الخيرة بل لله الخيرة والامر جميعا ” (4). وقد روى نقلة الاثار (5) أن رجلا من بني أسد وقف على أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، العجب منكم يا بني هاشم، كيف عدل بهذا الامر عنكم، وأنتم الاعلون نسبا، نوطا (6) بالرسول، وفهما للكتاب (7) ! ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام. ” يا ابن دودان (8)، إنك لقلق الوضين (9)، ضيق المحزم (10)، ترسل غير ذي


(1) في هامش ” ش “: التمكين. (2) الانك: الرصاص. ” لسان العرب – انك – 10: 394 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م ” نسخة اخرى: بشر. (4) ورد بعض كلامه الشريف في نهج البلاغة 1: 154 / 84 و 2: 95 / 161. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: الاخبار. (6) النوط: التعلق والاتصال. ” لسان العرب – نوط – 7: 418 “. (7) في ” ح ” وهامش ” ش “: بالكتاب. (8) دودان: أبو قبيلة من أسد، وهو دودان بن أسد بن خزيمة. ” الصحاح – دود – 2: 471 “. (9) الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج. ” الصحاح – وضن – 6: 2214 “. (10) في هامش ” ش ” و ” م “: المجم. والمجم: الصدر. ” القاموس – جمم – 4: 91 “.

[ 295 ]

مسد (1). لك ذمامة الصهر وحق المسالة، وقد استعلمت فاعلم، كانت أثرة سخت بها نفوس قوم وشحت عليها نفوس آخرين، فدع عنك نهبا صيح في حجراته (2) وهلم الخطب في أمر ابن ابي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه (3) ولا غرو، يئس القوم – والله – من خفضي وهينتي، وحاولوا الادهان في ذات الله، وهيهات ذلك مني، فإن تنحسر عنا محن البلوى أحملهم من الحق على محضه ؟ وان تكن الاخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تأس على القوم الفاسقين ” (4). فصل ومن كلامه عليه السلام في الحكمة والموعظة قوله: ” خذوا – رحمكم الله – من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: يجوز ان يكون نصبا مغعولا لترسل ويجوز أن يكون حالا اي غير ذى سداد. (2) مثل سائر، ذكره الميداني في مجمع الامثال 1: 3 / 267: 1403، وقال: ” النهب المال المنهوب، وكذلك النهبي، والحجرات: النواحي. يضرب لمن ذهب من ماله شئ ثم ذهب بعده ما هو اجل منه ” ثم ذكر قصة المثل، وهو شطر من بيت لامرئ القيس يقول فيه: ودع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديثا ما – حديث الرواحل. (3) في هامش ” ش ” ” م “: ابكائيه. (4) رواه الصدوق في علل الشرائع: 145 / 2، والامالي: 494 / 5، والابي في نثر الدر 1: 287، وأورده الشريف الرضي في نهج البلاغة 2: 79 / 157 باختلاف يسير في الفاظه.

[ 296 ]

أستاركم عند من لا يخفى عليه اسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، فللاخرة خلقتم وفي الدنيا حبستم، إن المرء إذا هلك قالت الملائكة: ما قدم ؟ وقال الناس: ما خلف ؟ فلله آباؤكم (1)، قدموا بعضا يكن لكم، ولا تخلفوا كلا فيكون عليكم، فإنما مثل الدنيا مثل السم، يأكله من لا يعرفه ” (2). ومن ذلك قولة عليه السلام: ” لا حياة إلا بالدين، ولا موت إلا بجحود اليقين، فاشربوا العذب الفرات ينبهكم من نومة السبات، واياكم والسمائم المهلكات “. ومن ذلك قوله عليه السلام: ” الدنيا دار صدق لمن عرفها، ومضمار الخلاص لمن تزود منها، ير مهبط وحي الله، ومتجر أوليائه، اتجروا فربحوا الجنة “. ومن ذلك كلامه عليه السلام لرجل سمعه يذم الدنيا من غير معرفة بما يجب أن يقول في معناها: ” الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله، ومهبط وحيه، وفصل ملائكته، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها، وقد آذنت ببيبها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها، فشوقت بسرورها إلى السرور، وببلائها إلى البلاء، تخويفا وتحذيرا وترغيبا


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: أبوكم. (2) رواه الصدوق في أماليه: 97، وعيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 298، وأورده الشريف الرضي في نهج البلاغة 2: 209 / 198 باختلات يسير.

[ 297 ]

وترهيبا. فأيها الذام للدنيا والمعتل (1) بتغريرها، متى غرتك ؟ أبمصارع آبائك من البلى ! أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ! كم عللت بكفيك ! ومرضت بيديك ! تبتغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم للاطباء، وتلتمس لهم الدواء، لم تنفعهم بطلبتك، ولم تسعفهم (2) بشفاعتك. مثلت الدنيا بهم مصرعك ومضجعك، حيث لا ينفعك بكاؤك، ولا يغني عنك أحباؤك ” (3). ومن ذلك قوله عليه السلام: ” أيها الناس، خذوا عني خمسا، فوالله لو رحلتم المطي فيها لانضيتموها قبل أن تجدوا مثلها: لا يرجون أحد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه (4)، ولا يستحيين العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله اعلم، (ولا يستحيين احد إذا لم يعلم الشئ ان يتعلمه) (5) والصبر من الايمان بمنزله الرأس، من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له ” (6). ومن ذلك قوله عليه السلام: ” كل قول ليس لله فيه ذكر فلغو،


(1) كذا في ” م ” وهامش ” ش ” أو في ” ش ” والمعتبر وفي النهج ومروج الذهب: ” والمغتر “. (2) في ” ش ” و ” ح “: تشفهم، وفي هامش ” ش ” و ” م “: تشفعهم. (3) رواه ابن قتيبة في عيون الاخبار 2: 329، واليعقوبي في تاريخه 2: 208، والمسعودي في مروج الذهب 2: 419، والشريف الرضي في النهج 3: 181 / 131، والابي في نثر الدر 1: 273، وابن شعبة في تحف العقول: 186 باختلاف يسير في ألفاظه. (4) في ” ش “: عذابه. (5) لم ترد في ” م ” و ” ش “، واثبتناها من هامش ” ش ” وهي موافقة لما في جميع المصادر. (6) صحيفة الامام الرضا عليه السلام: 81 / 177، العقد الفريد 4: 169، عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 44، الخصال: 315 / 96، نهج البلاغة 3: 168 / 82.

[ 298 ]

وكل صمت ليس فيه فكرفسهو، وكل نظر ليس فيه اعتبار فلهو ” (1). وقوله عليه السلام: ” ليس من ابتاع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها ” (2). وقوله عليه السلام: ” من سبق إلى الظل ضحي، ومن سبق إلى الماء ظمئ “. وقوله عليه السلام: ” حسن الادب ينوب عن الحسب “. وقوله عليه السلام: ” الزاهد في الدنيا، كلما ازدادت له تحليا (3) ازداد عنها توليا “. وقوله عليه السلام: االمودة أشبك الانساب، والعلم أشرف الاحساب “. وقوله عليه السلام: ” إن يكن الشغل مجهدة، فاتصال الفراغ مفسده “. وقوله عليه السلام: ” من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها خصم “. وقوله عليه السلام: ” العفو يفسد من اللئيم. بقدر إصلاحه من الكريم “.


(1) رواه الصدوق في أماليه: 96، والخصال: 98، ومعاني الاخبار: 344، وابن شعبة في تحف العقول: 215 باختلاف يسير. (2) نثر الدر 1: 295، ونحوه في نهج البلاغة 3: 183 / 133. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: تجليا.

[ 299 ]

وقوله عليه السلام: ” من أحب المكارم اجتنب المحارم “. وقوله عليه السلام: ” من حسنت به الظنون، رمقته الرجال بالعيون “. وقوله عليه السلام. ” غاية الجود، أن تعطي من نفسك المجهود “. وقوله عليه السلام: ” ما بعد كائن، ولا قرب بائن “. وقوله عليه السلام: ” جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه “. وقوله عليه السلام: ” تمام العفاف الرضا بالكفاف “. وقوله عليه السلام: ” أتم (1) الجود ابتناء المكارم واحتمال المغارم “. وقوله عليه السلام: ” أظهر الكرم صدق الاخاء في الشدة والرخاء “. وقوله عليه السلام: ” الفاجر إن سخط ثلب، وإن رضي كذب، وإن طمع خلب “. وقوله عليه السلام: ” من لم يكن أكثر ما فيه عقله، كان بأكثرما فيه قتله “. وقوله عليه السلام: ” احتمل زلة وليك، لوقت وثبة عدوك “. وقوله عليه السلام: ” حسن الاعتراف يهدم الاقتراف “.


(1) في ” ش “: اعم.

[ 300 ]

وقوله عليه السلام: ” لم يضع من مالك ما بصرك صلاح حالك “. وقوله عليه السلام: ” القصد أسهل من التعسف، والكف أودع من التكلف “. وقوله عليه السلام: ” شر الزاد إلى المعاد احتقاب ظلم العباد “. وقوله عليه السلام: ” لا نفاد لفائدة إذا شكرت، ولا بقاء لنعمة إذا كفرت “. وقوله عليه السلام: ” الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وان كان عليك فاصبر “. وقوله عليه السلام: ” رب عزيز أذله خلقه، وذليل أعزه خلقه “. وقوله عليه السلام: ” من لم يجرب الامور خدع، ومن صارع الحق صح “. وقوله عليه السلام: ” لو عرف الاجل قصر الامل “. وقوله عليه السلام: ” الشكر زينة الغنى، والصبر زينة البلوى “. وقوله عليه السلام: ” قيمة كل امرئ ما يحسن “. وقوله عليه السلام: ” الناس أبناء ما يحسنون “. وقوله عليه السلام: ” المرء مخبوء تحت لسانه “. وقوله عليه السلام: ” من شاور ذوي الالباب دل على الصواب “.


[ 301 ]

وقوله عليه السلام: ” من قنع باليسير استغنى عن الكثير، ومن لم يستغن بالكثير افتقر إلى الحقير “. وقوله عليه السلام: ” من صحت عروقه أثمرت فروعه “. وقوله عليه السلام: امن أمل إنسانا هابه، ومن قصر عن معرفة شئ عابه “. ومن كلامه عليه السلام في وصف الانسان قوله: ” أعجب ما في الانسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وان هاج به الطمع أهلكه الحرص، وان ملكه اليأس قتله الاسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وان أسعف بالرضا نسى التحفظ، وان ناله الخوف شغله الحذر، وان اتسع له الامن استولت عليه الغرة (1)، وان جددت له نعمة أخذته العزة، وان أصابته مصيبة فضحه الجزع، وان أفاد مالا أطغاه الغنى، لي ان غضته فاقة شغله البلاء، لي ان أجهده الجوع قعد به الضعف، وان أفرط في الشبع كظته البطنة، وكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد ” (2).


(1) الغرة: الغفلة. ” الصحاح – غرر – 2: 768 “. (2) الكافي 8: 21، علل الشرائع: 109 / 7، خصائص الائمة للرضي: 97، دستور معالم الحكم: 139، نثر الدر 1: 276.

[ 302 ]

ومن كلامه عليه السلام وقد سأل شاه زنان بنت كسرى حين أسرت: ” ما حفظت عن أبيك بعد وقعة الفيل ؟ ” قالت: حفظنا عنه أنه كان يقول: إذا غلب الله على أمر ذلت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة. فقال عليه السلام: ” ما أحسن ما قال أبوك ! تذل الامور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير ” (1). ومن كلامه عليه السلام: ” من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك ” (2). ومن كلامه عليه السلام: ” المؤمن من نفسه في تعب، والناس منه في راحة ” (3). وقال عليه السلام: ” من كسل لم يؤد حقا لله تعالى عليه ” (4). وقال عليه السلام: ” أفضل العبادة: الصبر، والصمت، وانتظار الفرج ” (5). وقال عليه السلام: ” الصبر على ثلاثة أوجه: فصبر على المصيبة، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة ” (6).


(1) ذيله في نثر الدر 1: 285، تحف العقول: 223. (2) تحف العقول: 109. (3) الخصال: 620، تحف العقول 110. (4) الخصال: 620، تحف العقول: 110، كنز الفوائد 1: 278. (5) تحف العقول: 201، ومثله في نثر الدر 1: 279، وليس فيه. ” الصبر “. (6) الكافي 2: 75، التمحيص 64 / 149، تحف العقول: 206.

[ 303 ]

وقال عليه السلام: ” الحلم وزير المؤمن، والعلم خليله، والرفق أخوه، والبر والده، والصبر أمير جنوده ” (1). وقال عليه السلام: ” ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان الصدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان المرض ” (2). وقال عليه السلام: ” احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وافضل على من شئت تكن أميره ” (3). وكان يقول عليه السلام: ” لا غنى مع فجور، ولا راحة لحسود، ولا مودة لملول “. وقال للاحنف بن قيس: ” الساكت أخو الراضي، ومن لم يكن معنا كان علينا “. وقال عليه السلام: ” الجود من كرم الطبيعة، والمن مفسدة للصنيعة “. وقال عليه السلام: ” ترك التعاهد للصديق داعية القطيعة “. وكان عليه السلام يقول: ” إرجاف العامة بالشئ دليل على مقدمات كونه “. وقال عليه السلام: ” اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه “.


(1) تحف العقول: 203 و 222 باختلاف يسير. (2) دعوات الراوندي: 164 نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله. (3) ذكره الصدوق في الخصال: 420، بتقديم وتاخير، والكراجكي في كنزه 2: 194، ورواه المسعودي باختلاف يسير في مروج الذهب 2: 420 ضمن وصية الامام لابنه الحسن عليهما السلام.

[ 304 ]

وقال عليه السلام: ” أربعة لا ترد لهم دعوة: الامام العادل لرعيته، والوالد البار لولده، والولد البار لوالده، والمظلوم، يقول الله عز اسمه: وعزتي وجلالي، لانتصرن لك ولو بعد حين “. وقال عليه السلام: ” خير الغنى ترك السؤال، وشر الفقر لزوم الخضوع “. وقال عليه السلام: ” ضاحك فعترف بذنبه، أفضل من باك مدل على ربه “. وقال عليه السلام: ” المعروف عصمة من البوار، والرفق نعشة من العثار “. وقال عليه السلام: ” لا عدة أنفع من العقل، ولاعدو أضر من الجهل “. وقال عليه السلام: ” لولا التجارب عميت المذاهب “. وقال عليه السلام: ” من اتسع أمله قصر عمله “. وقال عليه السلام: ” أشكر الناس أقنعهم، وأكفرهم للنعم أجشعهم “. في أمثال هذا الكلام المفيد للحكمة وفضل الخطاب، لم نستوف ما جاء في معناة عنه عليه السلام، لئلا ينتشر الخطاب، ويطول الكتاب، وفيما أثبتناة منه مقنع لذوي الالباب.


[ 305 ]

فصل في آيات الله تعالى وبراهينه الظاهرة على أمر المؤمنين عليه السلام، الدالة على مكاني من الله عز وجل واختاصه من الكرامات بما انفرد به ممن سواه، للدعوة إلى طاعته، والتمسك بولايته، والاستبصار بحقه، واليقين بامامته، والمعرفة بعصمته وكماله وظهور حجته. فمن ذلك ما ساوى به نبيين من أنبياء الله ورسله وحجتين له على خلقه، ما لا شبهة في صحته. ولا ريب في صوابه، قال الله عز اسمه في ذكر المسيح عيسى بن مريم روح الله كلمته ونبيه ورسوله إلى خليقته، وقد ذكر قصة والدته في حملها له ووضعها إياه والاعجوبة في ذلك (قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا) (1) وكان من آيات الله تعالى في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام نطقه في المهد، وخرق العادة بذلك، والاعجوبة فيه، والمعجز الباهر لعقول الرجال، وكان من آيات الله تعالى في أمير المؤمنين في علي بن أبي طالب عليه السلام كمال عقله ووقارته ومعرفته بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله مع تقارب سنه وكونه على ظاهر الحال في عداد الاطفال حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى التصديق به والاقرار، وكلفه العلم بحقه، والمعرفة


(1) مريم 19: 20 – 21. (*)

[ 306 ]

بصانعه، والتوحيد له، وعهد إليه في الاستسرار بما أودعه من دينه، والصيانة له والحفظ وأداء الامانة فيه. وكان إذ ذاك عليه السلام على قول بعضهم من أبناء سبع سنين، وعلى قول بعض آخر من أبناء تسع، وعلى قول الاكثر من أبناء عشر، فكان كمال عقله عليه السلام وحصول المعرفة له بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله آية لله فيه باهرة خرق بها العادة، ودل بها على مكانه منه واختصاصه به وتاهيله لما رشحه له من إمامة المسلمين والحجة على الخلق أجمعين، فجرى في خرق العادة لما ذكرناه مجرى عيسى ويحيى عليهما السلام بما وصفناه، ولولا أنه عليه السلام كان في تلك الحال كاملا وافرا وبالله عز وجل عارفا، لما كلفه رسول الله صلى الله عليه وآله الاقرار بنبوته، ولا ألزمه الايمان به والتصديق لرسالته، ولا دعاه إلى الاعتراف بحقه، ولا افتتح الدعوة به قبل كل أحد من الناس سوى خديجة عليها السلام زوجته، ولما (1) ائتمنه على سره الذي أمر بصيانته ! فلما أفرده النبي صلى الله عليه وآله بذلك من أبناء سنه كلهم في عصره، وخصه به دون من سواه ممن ذكرناه، دل ذلك على أنه عليه السلام كان كاملا مع تقارب سنه، وعارفا بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وآله قبل حلمه، وهذا هو معنى قول الله عزوجل في يحيى عليه السلام (وآتيناه الحكم صبيا ” (2) إذ لا حكم أوضح من معرفة الله، وأظهر من العلم بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأشهر من القدرة على


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ولا. (2) مريم 19: 12. (*)

[ 307 ]

الاستدلان، وأبين من معرفة النظر والاعتبار، والعلم بوجوه الاستنباط، والوصول بذلك إلى حقائق الغائبات، وإذا كان الامر على ما بيناه، ثبت أن الله سبحانه قد خرق العادة في أمير المؤمنين عليه السلام بالآية الباهرة التي ساوى بها نبييه اللذين نطق القرآن بآيته (1) العظمى فيهما على ما شرحناه. فصل ومن آيات الله عزوجل الخارقة للعادة في أمير المؤمنين عليه السلام انه لم يعهد لاحد من مبارزة الاقران ومنازلة الابطال، مثل ما عرف له عليه السلام من كثرة ذلك على مر الزمان، ثم إنه لم يوجد في ممارسي الحروب إلا من عرتة (2) بشر ونيل منه بجراح أو شين إلا أمير المؤمنين، فإنه لم ينله مع طول مدة زمان حربه (3) جراح من عدو ولا شين، ولا وصل إليه أحد منهم بسوء حتى كان من أمره مع ابن ملجم لعنه الله على اغتياله إياه ما كان، وهذه أعجوبة أفرده الله تعالى بالآية فيها، وخصه بالعلم الباهر في معناها، فدل بذلك على مكانه منه، وتخصصه بكرامته التي بان بفضلها من كافة الانام.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: بآياته. (2) اي اصابته ” اقرب الموارد 2: 774 “. (3) في هامش ” ش “: حروبه.

[ 308 ]

فصل ومن آيات الله تعالى فيه عليه السلام أنه لا يذكر ممارس للحروب التي لقي فيها عدوا إلا وهو ظافر به حينا وغير ظافر به حينا، ولا نال أحد منهم خصمه بجراح إلا وقضى منها وقتا وعوفي منها زمانا، ولم يعهد من لم يفلت منه قرن في الحرب، ولا نجا من ضربته أحد فصلح منها إلا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه لا مرية ي ظفره بكل قرن بارزه، وإهلاكه كل بطل نازله، وهذا أيضا مما انفرد به عليه السلام من كافة الانام، وخرق الله عزوجل به العادة في كل حين وزمان، وهومن دلائله الواضحة عليه السلام. فصل ومن آيات الله تعالى فيه أيضا، أنه مع طول ملاقاته للحروب وفلابسته إياها، وكثرة من منى به فيها من شجعان الاعداء وصناديدهم، وتجمعهم عليه واحتيالهم في الفتك به وبذل الجهد في ذلك، ما ولى قط عن أحد منهم ظهره، ولا انهزم عن أحد منهم، ولا تزحزح عن مكانه، ولا هاب أحدا من أقرانه، ولم يلق أحد سواه خصما له في حرب إلا وثبت له حينا وانحرف عنه حينا، وأقدم عليه وقتا وأحجم عنه زمانا. وإذا كان الامر على ما وصفناه، ثبت ما ذكرناه من انفراده بالآية


[ 309 ]

الباهرة والمعجزة الزاهرة، وخرق العادة فيه بما دل الله به على إمامته، وكشف به عن فرض طاعته، وأبانه بذلك من كافة خليقته. فصل ومن آياته عليه السلام وبيناته التي انفرد بها ممن عداه، ظهور مناقبه في الخاصة والعامة، وتسخير الجمهور لنقل فضائله وما خصه الله به من كرائمه، وتسليم العدو من ذلك بما (1) فيه الحجة عليه، هذا مع كثرة المنحرفين عنه والاعداء له، وتوفر أسباب دواعيهم إلى كتمان فضله وجحد حقه، وكون الدنيا في يد خصومه وانحرافها عن أوليائه، وما اتفق لاضداده من سلطان الدنيا، وحمل الجمهور على إطفاء نوره ودحض أمره، فخرق الله العادة بنشر فضائله، وظهور مناقبه، وتسخير الكل للاعتراف بذلك والاقرار بصحته، واندحاض ما احتال به أعداؤه في كتمان مناقبه وجحد حقوقه، حتى تمت الحجة له وظهر البرهان لحقه. ولما كانت العادة جارية بخلاف ما ذكرناه فيمن اتفق له من أسباب خمول أمره ما اتفق لامير المؤمنين عليه السلام فانخرقت العادة فيه، دل ذلك على بينونته من الكافة بباهر الآية على ما وصفناه. وقد شاع الخبر واستفاض عن الشعبي أنه كان يقول: لقد كنت أسمع خطباء بني أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على


(1) في هامش ” ش “: ما.

[ 310 ]

منابرهم فكأنما (9) يشال بضبعه إلى السماء، وكنت أسمعهم يمدحون أسلافهم على منابرهم فكأنما (2) يكشفون عن جيفة (3). وقال الوليد بن عبد الملك لبنيه يوما: يا بني عليكم بالدين فإني لم أر الدين بنى شيئا فهدمته الدنيا، ورأيت الدنيا قد بنت بنيانا هدمه (4) الدين. ما زلت أسمع أصحابنا وأهلنا يسبون علي بن أبي طالب ويدفنون فضائله، يحملون الناس على شنآنه، فلا يزيده ذلك من القلوب إلا قربا، ويجتهدون في تقرييهم (5) من نفوس الخلق فلا يزيدهم ذلك إلا بعدا (6). وفيما انتهى إليه الامر في دفن فضائل أمير المؤمنين عليه السلام والحيلولة بين العلماء ونشرها، ما لا شبهة فيه على عاقل، حتى كان الرجل إذا أراد أن يروي عن أمير المؤمنين رواية لم يستطع أن يضيفها إليه بذكر اسمه ونسبه لم تدعوه الضرورة إلى أن يقول: حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، أو يقول: حدثني رجل من قريش، ومنهم من يقول: حدثني أبو زينب. وروى عكرمة عن عائشة – في حديثها له بمرض رسول الله صلى الله عليه وآله ووفاته – فقالت في جملة ذلك. فخرج رسول الله صلى الله عليه واله متوكئا على رجلين من أهل بيته، أحدهما الفضل بن


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: وكانما. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: وكانما. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 42: 18 ضمن حديث 6. (4) في هامش ” ش “: فهدمه. (5) كذا في الاصل، ولعل الانسب: تقربهم. (6) نقله العلامة المجلسي في البحار 42: 18 / ذيل الحديث 6.

[ 311 ]

العباس. فلما حكى عنها ذلك لعبدالله بن عباس رحمه الله قال له: أتعرف الرجل الاخر ؟ قال: لا، لم تسمه لي، قال: ذلك علي بن أبي طالب، وما كانت أمنا تذكره بخير وهي تستطيع (1). وكانت الولاة الجورة تضرب بالسياط من ذكره بخير، بل تضرب الرقاب على ذلك، وتعترض الناس بالبراءة منه، والعادة جارية فيمن اتفق له ذلك ألا يذكر على وجه بخير، فضلا عن أن تذكر له فضائل أو تروى له مناقب أو تثبت له حجة بحق. وإذا كان ظهور فضائله عليه السلام وانتشار مناقبه على ما قدمنا ذكره من شياع ذلك في الخاصة والعامة وتسخير العدو والولي لنقله، ثبت خرق العادة فيه، وبان وجه البرهان في معناه، بالآية الباهرة على ما قدمناه. فصل ومن آيات الله تعالى فيه عليه السلام انه لم يمن أحد في ولده وذريته بما مني عليه السلام في ذريته، وذلك أنه لم يعرف خوف شمل جماعة من ولد نبي ولا إمام ولا ملك زمان ولا بر ولا فاجر، كالخوف الذي شمل ذرية أمير المؤمنين عليه السلام، ولا لحق أحدا من القتل والطرد عن الديار والاوطان والاخافة والارهاب ما لحق ذرية أمير المؤمنين عليه السلام وولده، ولم يجر على طائفة من الناس من ضروب


(1) اخرجه البخاري في صحيحه 6: 13، وباختلاف يسير في صحيح مسلم 1: 311 / 418. ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 18 ضمن حديث 6.

[ 312 ]

النكال ما جرى عليهم من ذلك، فقتلوا بالفتك والغيلة والاحتيال، وبني على كثير منهم – وهم أحياء – البنيان، وعذبوا بالجوع والعطش حتى ذهبت أنفسهم على الهلاك، وأحوجهم ذلك إلى التمزق في البلاد، ومفارقة الديار والاهل والاوطان، وكتمان نسبهم عن أكثر الناس. وبلغ بهم الخوف إلى الاستخفاء من أحبائهم فضلا عن الاعداء، وبلغ هربهم من أوطانهم إلى أقصى الشرق والغرب والمواضع النائية في العمران، وزهد في معرفتهم أكثر الناس، ورغبوا عن تقريبهم والاختلاط بهم، مخافة على أنفسهم وذراريهم من جبابرة الزمان. وهذه كلها أسباب تقتضي انقطاع نظامهم، واجتثاث أصولهم، وقلة عددهم. وهم مع ما وصفناه أكثر ذرية أحد من الانبياء والصالحين والاولياء، بل أكثر من ذراري كل أحد من الناس، قد طبقوا بكثرتهم البلاد، وغلبوا في الكثرة على ذراري أكثر العباد، هذا مع اختصاص مناكحهم في أنفسهم دون البعداء، وحصرها في ذوي أنسابهم دنية من الاقرباء، وفي ذلك خرق العادة على ما بيناه، وهو دليل الآية الباهرة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما وصفناه وبيناه، وهذا ما لا شبهة فيه، والحمد لله. فصل ومن آيات الله عزوجل الباهرة فيه عليه السلام والخواص التي أفرده بها، ودل بالمعجز منها على إمامته ووجوب طاعته وثبوت حجته، ما


[ 313 ]

هو من جملة الخرائج (1) التي أبان بها الانبياء والرسل عليهم السلام وجعلها أعلاما لهم على صدقهم. فمن ذلك ما استفاض عنه عليه السلام من إخباره بالغائبات والكائن قبل كونه، فلا يخرم من ذلك شيئا، ويوافق المخبر منه خبره حتى يتحقق الصدق فيه، وهذا من أبهر بعجزات الانبياء عليهم السلام. ألا ترى إلى قوله تعالى فيما أبان به المسيح عيسى بن مريم عليه السلام من المعجز الباهر والآية العجيبة الدالة على نبوته: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (2). وجعل عز اسمه مثل ذلك من عجيب آيات رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عند غلبة فارس الروم: (الم * غلبت الروم * في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين) (3) فكان الامر في ذلك كما قال. وقال عزوجل في أهل بدر قبل الوقعة: (سيهزم الجمع، يولون الدبر) (4) فكان كما قال من غير اختلاف في ذلك. وقال عز قائلا: (لتدخلن المسجد الحرام في شاء الله آمنين محلقين


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: ” الخرائج: هي المعجزات، يقال: خرائج الشريعة وهي التي تخرج على ايديهم مصححة لدعاويهم وكذلك هي في كتاب الجليس والانيس للمعافي ابن زكريا من خ رج “. (2) آل عمران 3: 49. (3) الروم 30: 1 – 4. (4) القمر 54: 45.

[ 314 ]

رءؤسكم ومقصرين لا تخافون) (1) فكان الامر في ذلك كما قال. وقال عزوجل: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورايت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) (2) فكان الامر في ذلك كما قال. وقال مخبرا عن ضمائر قوم من أهل النفاق: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) (3) فخبر عن ضمائرهم وما أخفوه في سرائرهم. وقال عزوجل في قصة اليهود: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياه لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمتونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) (4) فكان الامر كما قال، ولم يجسر أحد منهم أن يتمناه، فحقق ذلك خبره، وأبان عن صدقه، ودل به على نبوته عليه السلام، في أمثال ذلك مما يطول به (5) الكتاب. فصل والذي كان من أمير المؤمنين عليه السلام من هذا الجنس، ما لا يستطاع إنكاره إلا مع الغباوة والجهل والبهت والعناد، ألا ترى إلى ما تظاهرت به الاخبار، وانتشرت به الاثار، ونقلته الكافة عنه عليه السلام من قوله قبل


(1) الفتح 48: 27. (2) النصر 110: 1 – 2. (3) المجادلة 58: 8. (4) الجمعة 62: 6 – 7. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: باثباته.

[ 315 ]

قتاله الفرق الثلاث بعد بيعته: ” أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ” (1) فقاتلهم عليه السلام وكان الامر فيما خبر به على ما قال. وقال عليه السلام لطلحة والزبير حين استأذناه في الخروج إلى العمرة: ” لا والله ما تريدان العمرة، وانما تريدان البصرة ” (2) فكان الامر كما قال. وقال عليه السلام لابن عباس وهو يخبره في استئذانهما له في العمرة: ” إنني أذنت لهما مع علمي بما قد انطويا عليه من الغدر، واستظهرت بالله عليهما، وان الله تعالى سيرد كيدهما ويظفرني بهما ” (3) فكان الامر كما قال. وقال عليه السلام بذي قار وهو جالس لاخذ البيعة: ” ياتيكم من قبل (4) الكوفة ألف رجل، لا يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا، يبايعوني على الموت ” قال ابن عباس: فجزعت لذلك، وخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدوا عليه فيفسد الامر علينا، ولم أزل مهموما (دأبي إحصاء) (5) القوم، حتى ورد أوائلهم، فجعلت أحصيهم فاستوفيت عددهم تسعمائة رجل وتسعة وتسعين رجلا، ثم انقطع مجئ القوم، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا حمله على ما قال ؟ فبينا أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصا قد أقبل، حتى دنا فإذا هو راجل عليه قباء


(1) رواه الصدوق في الخصال: 145. (2) ذكره المصنف في الجمل: 89. (3) ذكره المصنف في الجمل: 89. (4) في ” ش “: اهل. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: واني احصي.

[ 316 ]

صوف معه سيفه وترسه واداوته (1)، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: امدد يدك أبايعك، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” وعلام تبايعني ؟ ” قال: على السمع والطاعة، والقتال بين يديك حتى أموت أو يفتح الله عليك، فقال له: ” ما اسمك ؟ ” قل أويس، قال: ” أنت أويس القرني ؟ ” قال: نعم، قال: ” الله أكبر، أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله أني أدرك رجلا من أمته يقال له أويس القرني، يكون من حزب الله ورسوله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر “. قال ابن عباس فسري عني (2). ومن ذلك قوله عليه السلام وقد رفع أهل الشام المصاحف، وشك فريق من أصحابه ولجؤوا إلى المسالمة ودعوه إليها: ” ويلكم إن هذه خديعة، وما يريد القوم القرآن، لانهم ليسوا باهل قرآن، فاتقوا الله وامضوا على بصائركم في قتالهم، فإن لم تفعلوا تفرقت بكم السبل، وندمتم حيث (3) لا تنفعكم الندامة ” (4) فكان الامر كما قال، وكفر القوم بعد التحكيم، وندموا على ما فرط منهم في الاجابة إليه، وتفرقت بهم السبل، وكان عاقبتهم الدمار. وقال عليه السلام وهو متوجة إلى قتال الخوارج: ” لولا انني أخاف


(1) الاداوة: اناء يحمل يستفاد من مائه في التطهير. ” الصحاح – ادا – 6: 2266 “. (2) اخرجه الكشي في اختيار معرفة الرجال 1: 315 / 56، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 593 (ط / ح). (3) في ” م ” و ” ح “: حين. (4) ذكر الديلمي في الارشاد: 255 نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 593 (ط / ح).

[ 317 ]

أن تتكلوا وتتركوا العمل لاخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله فيمن قاتل هؤلاء القوم مستبصرا بضلالتهم، لي ان فيهم لرجلا مودون (1) اليد، له كثدي المرأة، هم شر الخلق والخليقة، قاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة، ولم يكن المخدج معروفا في القوم، فلما قتلوا جعل عليه السلام يطلبه في القتلى ويقول: ” والله ما كذبت ولا كذبت ” حتى وجد في القوم، فشق قميصه (2) فكان على كتفه سلعة (3) كثدي المرأة، عليها شعرات إذا جذبت انجذب (4) كتفه معها، وإذا تركت رجع كاشفه إلى موضعه. فلما وجده كبر ثم قال: ” إن في هذا لعبرة لمن استبصر ” (5). فصل وروى أصحاب السيرة عن جندب بن عبد الله الازدي قال: شهدت مع علي عليه السلام الجمل وصفين لا أشك في قتال من قاتله، حتى نزننا النهروان فدخلني شك وقلت: قراؤنا وخيارنا نقتلهم ! ؟ إن هذا لامر عظيم. فخرجت غدوة أمشي ومعي إداوة ماء حتى برزت عن (6)


(1) المودون: القصير العنق والالواح واليدين الناقص الخلق الضيق المنكبين ” القاموس – ودن – 4: 275 “. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: عن قميصه. (3) السلعة: هي غدة تظهر بين الجلد واللحم إذا غمزت باليد تحركت ” النهاية 2: 389 “. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: انجذبت. (5) اشار إلى نحوه ابو يعلى في مسنده 1: 371، 374، 421، وابن ابي الحديد في شرح النهج 2: 276، ونقله المجلسي في البحار 41: 283 / 2. (6) في ” م ” وهامش ” ش “: من.

[ 318 ]

الصفوف، فركزت رمحي ووضعت ترسي إليه واستترت من الشمس، فإني لجالس حتى ورد في أمير المؤمنين عليه السلام فقال لي: ” يا أخا الازد (1)، أمعك طهور ؟ ” قلت: نعم، فناولته الاداوة، فمضى حتى لم أره ثم أقبل وقد تطهر فجلس في ظل الترس، فإذا فارس يسال عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين هذا فارس يريدك، قال: ” فاشر إليه ” فأشرت إليه فجاء فقال: يا أمير المؤمنين قد عبر القوم وقد قطعوا النهر، فقال: ” كلاما عبروا ” قال: بلى والله لقد فعلوا، قال: ” كلا ما فعلوا ” قال: فإنه لكذلك إذ جاء آخر فقال: يا أمير المؤمنين قد عبر القوم، قال: ” كلا ما عبروا ” قال: والله ما جئتك حتى رأيث الرايات في ذلك الجانب والاثقال، قال: ” والله ما فعلوا، وانه لمصرعهم ومهراق دمائهم ” ثم نهض ونهضت معه. فقلت في نفسي: الحمد لله الذي – بصرني هذا الرجل، وعرفني أمره، هذا أحد رجلين. إما رجل كذاب جرئ أو على بينة من ربه وعهد من نبيه، اللهم إني أعطيك عهدا تسألني عنه يوم القيامة، إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول من يقاتله وأول من يطعن بالرمح في عينه، وان كانوا لم يعبروا (أن أقيم) (2) على المناجزة والقتال. فدفعنا إلى الصفوف فوجدنا الرايات والاثقال كما هي، قال: فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال: ” يا أخا الازد (3)، اتبين لك الامر ؟ ” قلت: أجل يا أمير المؤمنين، قال: ” فشأنك


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: أزد. (2) في هامش ” ش ” و ” م ” نسخة ثانية: ان اتم، وفي متن ” ش ” هكذا: اثم، واثبتنا ما في نسخة ” م ” ونسخة من هامش ” ش “. (3) في هامش ” ش ” نسخة اخرى: اخا أزد.

[ 319 ]

بعدوك ” فقتلت رجلا، ثم قتلت آخر، ثم اختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعا، فاحتملني أصحابي فأفقت حين افقت وقد فرغ القوم (1). وهذا حديث مشهور شائع بين نقلة الاثار، وقد أخبر به الرجل عن نفسه في عهد أمير المؤمنين عليه السلام وبعده، فلم يدفعه عنه دافع ولا أنكر صدقه فيه منكر، وفيه إخبار بالغيب، وابانة عن علم الضمير ومعرفة ما في النفوس، والاية باهرة فيه لا يعاد لها إلا ما ساواها في معناها من عظيم المعجز وجليل البرهان. فصل ومن ذلك ما تواترت به الروايات من نعيه عليه السلام نفسه قبل وفاته، والخبر عن الحادث في قتله، وأنه يخرج من الدنيا شهيدا بضربة في رأسه يخضب دمها لحيته، فكان الامر في ذلك كما قال. فمن اللفظ الذي رواه الرواة في ذلك قوله عليه السلام: ” والله لتخضبن هذه من هذا ” ووضع يده على رأسه ولحيته (2). وقوله عليه السلام: ” والله ليخضبنها من فوقها ” وأوما إلى شيبته ” ما


(1) الكافي 1: 280 / 2 نحوه وكذا كنز العمال 11: 289 عن الطبراني في الوسيط، وابن أبي الحديد في شرح النهج 2: 271، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 284 / 3. (2) الطبقات الكبرى 3: 34، الغارات 2: 443، الكنى للدولابي: 143، الاستيعاب 3: 61.

[ 320 ]

يحبس أشقاها ! ؟ ” (1). وقوله عليه السلام: ” ما يمنع أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم ؟ ! (2). وقوله عليه السلام: ” أتاكم شهر رمضان، وهو سيد الشهور، وأول السنة، وفيه تدور رحى السلطان، ألا وإنكم حاجوا العام صفا واحدا، وآية ذلك أني لست فيكم ” فكان أصحابه يقولون: إنه ينعى إلينا نفسه (3)، فضرب عليه السلام في ليلة تسع عشرة، ومضى في ليلة إحدى وعشرين من ذلك الشهر. ومنها ما رواه الثقات عنه: انه كان يفطر في هذا الشهر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن عباس (4)، لا يزيد على ثلاث لقم، فقال له أحد ولديه – الحسن أو الحسين عليهما السلام – في ذلك، فقال: ” يا بني، يأتي أمر الله وأنا خميص، إنما هي ليلة أو ليلتان ” فاصيب من الليل (5). ومنها ما رواه أصحاب الآثار: أن الجعد بن بعجة (6) – رجلا من


(1) الغارات 2: 444. (2) الغارات 1: 30، الاستيعاب 3: 61. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 42: 193 / 9. (4) في هامش ” ش ” و ” م ” نسخة اخرى: عبد الله بن جعفر. وهو الاولى، انظر اوائل الارشاد. (5) اخرجه الخوارزمي في المناقب: 392 / 410، وابن الاثير في أسد الغابة 4: 35، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 139، وانظر مصادر أخرى في اوائل الكتاب في فصل آخر من الاخبار التي جاءت بنعيه. (6) في ” ش ” و ” م “: نعجة، وفي هامشها: بعجة وليس منهم نعجة.

[ 321 ]

الخوارج – قال لامير المؤمنين عليه السلام: اتق الله – يا علي – فإنك ميت، فقال امير المؤمنين: ” بل والله مقتول قتلا، ضربة على (هذا وتخضب هذه) (1) – ووضع يده على رأسه ولحيته – عهد معهود وقد خاب من افترى ” (2). وقوله عليه السلام في الليلة التي ضربه الشقي في آخرها، وقد توجة إلي المسجد فصاح الاوز في وجهه فطر دهن الناس عنه، فقال: ” اتركوهن فإنهن ثوائح ” (3). فصل ومن ذلك ما رواه الوليد بن الحارث وغيره عن رجالهم: ان أمير المؤمنين عليه السلام لما بلغه ما صنعه بسر بن أرطاة باليمن قال: ” اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا، فاسلبه عقله، ولا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك ” فبقي بسر حتى اختلط، فكان يدعو بالسيف، فاتخذ له سيف من خشب، فكان يضرب به حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: السيف


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: هذه تخضب هذه. (2) رواه الثقفي في الغارات 1: 108، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 3: 143، وابن عساكر في تاريخ دمشق – ترجمة امير المؤمنين عليه السلام – 3: 278 / 1364، وابن الجوزي في تذكرة الخواص: 158، والطبري في ذخائر العقبي: 112، وذكره الطيالسي في مسنده: 23، قائلا: جاء رأس الخوارج إلى علي. (3) اخرجه ابن الاثير في أسد الغابة 4: 36، وابن الجوزي في تذكرة الخواص: 162، والطبري في ذخائر العقبي: 112، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 139.

[ 322 ]

السيف، فيدفع إليه فيضرب به، فلم يزل ذلك دأبه حتى مات (1). ومن ذلك ما استفاض عنه عليه السلام من قوله: ” إنكم ستعرضون من بعدي على سبي فسبوني، فإن عرض عليكم البراءة مني فلا ترؤوا (2) مني فإني على الاسلام، فمن عرض عليه البراءة مني فليمدد عنقه، فان تبراء مني فلا دنيا له ولا آخرة ” فكان الامر في ذلك كما قال. ومن ذلك ما رووه أيضا عنه عليه السلام من قوله: ” أيها الناس، إني دعوتكم إلى الحق فتلويتم علي، وضربتكم بالدرة (3) فأعييتموني، أما إنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون منكم بهذا حتى يعذبوكم بالسياط وبالحديد، إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الاخرة، وآية ذلك أن ياتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين أظهركم، فيأخذ العمال وعمال العمال، رجل يقال له يوسف بن عمر ” (4) فكان الامر في ذلك كما قال. ومن ذلك ما رواه العلماء: أن جويرية بن مسهر وقف على باب القصر فقال: أين أمير المؤمنين ؟ فقيل له: نائم، فنادى: أيها النائم استيقظ، فوالذي نفسي بيده، لتضربن ضربة على رأسك تخضب منها لحيتك، كما أخبرتنا بذلك من قبل. فسمعه أمير المؤمنين عليه السلام


(1) روى الثقفي في الغارات 2: 640 و 642 نحوه، وكذا ابن ابي الحديد في شرح النهج 2: 18، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 204 / 19. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: تتبرؤوا. (3) الدرة: التى يضرب بها ” الصحاح – درر – 2: 656 “. (4) اخرجه ابن ابي الحديد في شرح النهج 2: 306، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 285 / 4.

[ 323 ]

فنادى: ” أقبل يا جويرية حتى أحدثك بحديثك ” فأقبل، فقال: ” وانت – والذي نفسي بيده – لتغتلن إلى العتل الزنيم، وليقطعن يدك ورجلك، ثم ليصلبنك تحت جذع كافر ” فمضى على ذلك الدهر حتى وفي زياد في أيام معاوية، فقطع يده ورجله ثم صلبه إلى جذع ابن مكعبر (1)، وكان جذعا طويلا فكان تحته (2). ومن ذلك ما رووه: أن ميثم (3) التمار كان عبدا لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين عليه السلام منها وأعتقه وقال له: ” ما اسمك ؟ ” قال: سالم، قال: ” أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن اسمك الذي سماك به أبواك في العجم ميثم ” قال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله إنه لاسمي، قال: ” فارجع إلى اسمك الذي سماك به رسول الله صلى الله عليه وآله ودع سالما ” فرجع إلى ميثم واكتنى بأبي سالم. فقال له على عليه السلام ذات يوم: ” إنك تؤخذ بعدي فتصلب وتطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دما فيخضب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتصلب على باب دار عمرو ابن حريث عاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة (4)، وامض حتى أريك النخلة التي تصلب على جذعها ” فأراه إياها. فكان ميثم ياتيها فيصلي عندها ويقول: بوركت من نخلة، لك


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: معكبر. (2) اخرجه ابن ابي الحديد في شرح النهج 2: 291، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 148 / 11. (3) في ” م “. ميثما. (4) المطهرة: اناء يتطهر به وتزال به الاقذار ” مجمع البحرين – طهر – 3: 382 “.

[ 324 ]

خلقت ولي غذيت. ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت وحتى عرف الموضع الذي يصلب عليها (1) بالكوفة. قال: وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إني مجاورك فأحسن جواري، فيقول له عمرو: اتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم ؟ وهو لا يعلم ما يريد. وحج في السنة التي قتل فيها فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقالت: من أنت ؟ قال: أنا ميثم، قالت: والله لربما سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يوصي بك عليا في جوف الليل. فسألها عن الحسين، قالت: هو في حائط له، قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله. فدعت له بطيب فطيبت لحيته، وقالت له: أما إنها ستخضب بدم. فقدم الكوفة فأخذه عبد الله بن زياد فادخل عليه فقيل: هذا كان من آثر الناس عند علي، قال: بحكم، هذا الاعجمي ! ؟ قيل له: نعم، قال له عبيدالله: أين ربك ؟ قال: بالمرصاد لكل ظالم وأنت أحد الظلمة، قال: إنك على عجمتك لتبلغ الذي تريد، ما أخبرك صاحبك اني فاعل بك ؟ قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، قال: لنخالفنه، قال: كيف تخالفه ؟ فولته ما أخبرني إلا عن النبي صلى الله عليه وآله عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء ! ؟ ولقد عرفت الموضع الذي أصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أول خلق الله ألجم (2) في الاسلام، فحبسه وحبس معه المختار بن أبي غبيد، فقال ميثم التمار للمختار: إنك تقلت وتخرج ثائرا بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا. فلما دعا عبيدالله


(1) كذا في النسخ. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: ألجم.

[ 325 ]

بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيدالله يامره بتخلية سبيله فخلاه، وامر بميثم أن يصلب، فاخرج فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم ! فتبسم وقال وهو يومئ إلى النخلة: لها خلقت ولي غذيت، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث. قال عمرو: قد كان والله يقول: إني مجاورك. فلا صلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فكان أول خلق الله ألجم في الاسلام. وكان مقتل ميثم رحمة الله عليه قبل قدوم الحسين بن علي عليه السلام العراق بعشرة أيام، فلما كان يوم الثالث من صلبه، طعن ميثم بالحربة فكبر ثم انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دما (1). وهذا من جملة الاخبار عن الغيوب المحفوظة عن أمير المؤمنين عليه السلام، وذكره شائع والرواية به بين العلماء مستفيضة. فصل ومن ذلك ما رواه ابن عياش، عن مجالد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي قال: كنت عند زياد إذ أتي برشيد الهجري، فقال له زياد: ما قال لك صاحبك – يعني عليا عليه السلام – إنا فاعلون بك ؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أم والله لا كذبن حديثه، خلو سبيله. فلما


(1) رجال الكشي 1: 293 / 136، الاختصاص: 75، شرح النهج لابن أبي الحديد 2: 291، وابن حجر في الاصابة 3: 504، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 124 / 7.

[ 326 ]

أراد أن يخرج قال زياد: والله ما نجد له شيئا شرا مما قال صاحبه، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه. فقال رشيد: هيهات، قد بقي لي عندكم شئ أخبرني به أمير المؤمنين عليه السلام، قال زياد: اقطعوا لسانه، فقال رشيد: الآن والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين عليه السلام (1). وهذا حديث قد نقله المؤالف والمخالف عن ثقاتهم عمن سميناه، واشتهر أمره عند علماء الجميع، وهو من جملة ما تقدم ذكرة من المعجزات والاخبار عن الغيوب. فصل ومن ذلك ما رواه عبد العزيز بن صهيب، عن أبي العالية قال: حدثني مزرع بن عبد الله قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ” أم والله ليقبلن جيش حتى إذا كان بالبيداء (2) خسف بهم ” فقلت له: إنك لتحدثني بالغيب، قال: احفظ ما أقول لك، والله ليكونن ما خبرني به أمير المؤمنين عليه السلام، وليؤخذن رجل فليقتلن وليصلبن بين شرفتين من شرف هذا المسجد، قلت: إنك لتحدثني بالغيب، قال: حدثني الثقة المأمون في بن أبي طالب عليه السلام (3).


(1) شرح النهج لابن ابي الحديد 2: 294، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 125. (2) البيداء: اسم لارض ملساء بين مكة والمدينة وهي الى مكة اقرب. ” معجم البلدان 1: 523 “. (3) شرح ابن ابي الحديد 2: 294، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 285 / 5.

[ 327 ]

قال أبو العالية: فما أتت علينا جمعة حتى أخذ مزرع فقتل وصلب بين الشرفتين، قال: وقد كان حدثني بثالثة فنسيتها. فصل ومن ذلك ما رواه جرير عن المغيرة قال: لما ولي الحجاج طلب كميل بن زياد فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلما، رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير قد نفد عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطياتهم، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج، فلما رآه قال له: لقد كنت احب أن أجد عليك سبيلا، فقال له كميل: لا تصرف (1) علي أنيابك ولا تهدم علي (2) فوالله ما بقي من عمري إلا مثل كواسل (3) الغبار، فاقض ما انت قاض فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب، ولقد خبرني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام انك قاتلي، قال: فقال له الحجاج: الحجة عليك إذن، فقال كميل: ذاك إن كان القضاء إليك، قال: بلى قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفان، اضربوا عنقه، فضربت عنقه (4).


(1) الصريف: صوت الانياب، وهو كناية عن التهديد ” لسان العرب – صرف – 9: (2) في هامش ” ش ” و ” م “: تهدم عليه: إذا اشتد غضبه عليه، انظر ” الصحاح – هدم – 5: 2056 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: كأنها بقايا الغبار التي كسلت عن أوائله. (4) الاصابة 3: 318، ونقله العلامة المجلسي في البحار 42: 148 / 12.

[ 328 ]

وهذا – أيضا – خبر رواه نقلة العامة عن ثقاتهم، وشاركهم في نقله الخاصة، ومضمونه من باب ما ذكرناه من المعجزات والبراهين البينات. فصل ومن ذلك ما رواه أصحاب السيرة من طرق مختلفة: أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: احب أن أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه ! ! فقيل له: ما نعلم أحدا كان أطول صحبة لابي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فأتي به فقال له: أنت قنبر ؟ قال: نعم، قال: أبو همدان ؟ قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب ؟ قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين عين ولي (1) نعمتي، قال: ابرأ من دينه، قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه ؟ فقال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: قد صيرت ذلك إليك، قال: ولم ؟ قال: لانك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، ولقد خبرني أمير المؤمنين عليه السلام أن منيتي (2) تكون ذبحا ظلما بغير حق، قال: فأمر به فذبح (3). وهذا أيضا من الاخبار التي صحت عن أمير المؤمنين عليه السلام بالغيب، وحصلت في باب المعجز القاهر والدليل الباهر، والعلم


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: مولى. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: ميتتي. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 42: 126.

[ 329 ]

الذي خص الله به حججه من أنبيائه ورسله وأوصيائه عليهم السلام، وهو لاحق بما قدمناه. فصل ومن ذلك ما رواه الحسن بن محبوب، عن ثابت الثمالي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن سويد بن غفلة: أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى، فرأيت خالد بن عرفطة قد مات بها فاستغفر له، فقال أمير المؤمنين عليه السلام. ” مه، إنه لم يمت ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حماز ” فقام رجل من تحت المنبر فقال. يا أمير المؤمنين، والله إني لك شيعة، واني لك محب، قال: ” ومن أنت ؟ ” قال: أنا حبيب بن حماز، قال: ” إياك أن تحملها، ولتحملنها فتدخل بها من هذا الباب ” وأومأ بيده إلى باب الفيل. فلما مضى أمير المؤمنين عليه السلام وقضى الحسن بن علي من بعده، وكان من أمر الحسين بن علي عليهما السلام ومن ظهوره ما كان، بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى الحسين بن علي عليهما السلام وجعل خالد ابن عرفطة على مقدمته، وحبيب بن حماز صاحب رايته، فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل (1).


(1) شرح ابن ابي الحديد 2: 286، والمصنف في الاختصاص: 280، وذكره ابو الفرج في مقاتل الطالبيين: 71، والصفار في بصائر الدرجات: 318 / 11، والخصيبي في الهداية =

[ 330 ]

وهذا – أيضا – خبر مستفيض لا يتناكره أهل العلم الرواة للآثار، وهو منتشر في أهل الكوفة، ظاهر في جماعتهم لا يتناكره منهم اثنان، وهو من المعجز الذي بيناه. فصل ومن ذلك ما رواه زكريا بن يحيى القطان، عن فضيل بن الزبير، عن أبي الحكم قال: سمعت مشيختنا وعلماءنا يقولون: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال في خطبته: ” سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة ” (1). فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر. فقام أمير المؤمنين عليه السلام وقال: ” والله لقد حدثني خليلي رسول الله صلى الله عليه واله بما سألت عنه، وان على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطانا يستفزك، وإن في بيتك لسخلا (2) يقتل ابن رسول الله، وآية ذلك مصداق ما


= الكبرى: 161، ونقله العلامه المجلسي في البحار 44: 260 / 12. (1) لقد ثبت عن امير المؤمنين عليه السلام قوله ” سلوني قبل ان تفقدوني… ” ونقلتها معظم المصادر التاريخية وبأسانيد صحيحة ومتعددة لا يرتى إليها الشك، وللاطلاع على ذلك انظر. ” الغدير 6: 193 – 194 و 7: 107 – 108 “. (2) السخل: الولد ” مجمع البحرين – سخل – 5: 394 ” وفي هامش ” ش “: السخل: المولود يحببه إلى ابويه.

[ 331 ]

خبرتك به، ولولا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لاخبرتك به، ولكن آية ذلك ما نبأت به عن لعنتك وسخلك الملعون ” وكان ابنه في ذلك الوقت صبيا صغيرا يحبو (1) فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولى قتله، وكان الامر كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (2). فصل ومن ذلك ما رواه إسماعيل بن صبيح، عن يحيى بن المساور العابد، عن إسماعيل بن زياد قال: إن عليا عليه السلام قال للبراء بن عازب يوما (3): ” يا براء، يقتل ابني الحسين وأنت حي لا تنصره ” فلما قتل الحسين بن علي عليهما السلام كان البراء بن عازب يقول: صدق – والله – علي بن ابي طالب، قتل الحسين ولم انصره. ثم يظهر الحسرة عل ذلك والندم (4).


(1) اختلفت الروايات والمصادر في من تولى قتل الحسين عليه السلام هل كان شمر بن ذي الجوشن الضبابي، أو سنان بن أنس الاصبحي، فالسائل عن شعر رأسه ولحيته أبو احد هذين، وأما عمر بن سعد بن ابي وقاص فقيل انه ولد في عصر النبي صلى الله عليه وآله، وعده ابن فتحون في الصحابة، وقيل ولد عام مات عمر بن الخطاب، ومهما كان لم يكن آنذاك صبيا يحبو. (2) شرح ابن ابى الحديد 2: 286 و 10: 14، وأخرج نحوه بسند آخر ابن قولويه في كامل الزيارة: 74، والصدوق في اماليه: 115 / 1، ومرسلا ذكره الشريف الرضي في خصائص الائمة عليهم السلام: 62، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 258 / 7. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: ذات يوم. (4) شرح ابن ابي الحديد 10: 15، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 262 / 18.

[ 332 ]

وهذا – أيضا – لاحق بما قدمنا ذكره من الانباء بالغيوب والاعلام القاهرة للقلوب. فصل ومن ذلك ما رواه عثمان بن عيسى العامري، عن جابر بن الحر، عن جويرية بن مسهر العبدي قال: لما توتجهنا مع أمير المؤمنين في بن أبي طالب عليه السلام إلى صفين فبلغنا طفوف كربلاء وقف عليه السلام ناحية من العسكر، ثم نظر يمينا وشمالا واستعبر ثم قال: ” هذا – والله – مناخ ركابهم وموضع منيتهم ” فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الموضع ؟ قال: ” هذا كربلاء، يقتل فيه قوم يدخلون الجنة بغير حساب ” ثم سار. فكان الناس لا يعرفون تأويل ما قال حتى كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام وأصحابه بالطف ما كان، فعرف حينئذ من سمع مقاله مصداق الخبر فيما أنبأهم به (1). وكان ذلك من علم الغيب والخبر بالكائن قبل كونه، وهو المعجز الظاهر والعلم الباهر حسب ما ذكرناه. والاخبار في هذا المعنى يطول بها الشرح، وفيما أثبتناه منها كفاية فيما قصدناه.


(1) وأشار إلى الواقعة نصر بن مزاحم في وقعة صفين: 140 – 141، والصدوق في أماليه: 117 / 6، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 286 / 6.

[ 333 ]

فصل آخر ومن أعلامه عليه السلام الباهرة ما أبانه الله تعالى به من القدرة، وخصه به من القوة، وخرق العادة بالاعجوبة فيه. فمن ذلك ما جاءت به الاثار وتظاهرت به الاخبار، واتفق عليه العلماء، وسلم له المخالف والمؤالف من قصة خيبر وقلع أمير المؤمنين عليه السلام باب الحصن بيده، ودحوه به على الارض، وكان من الثقل بحيث لا يحملة أقل من خمسين رجلا. وقد ذكر ذلك عبد الله بن أحمد بن حنبل، فيما رواه عن مشيخته فقال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن حرام، عن أبي عتيق، عن ابني جابر، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله دفع الراية إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في يوم خيبر بعد أن دعا له، فجعل علي عليه السلام يسرع المسير (1) وأصحابه يقولون له: ارفق، حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه بالارض، ثم اجتمع عليه منا سبعون رجلا وكان جهدهم أن أعادوا الباب (2). وهذا مما خصه الله تعالى به من القوة، وخرق به العادة، وجعله علما معجزا كما قدمناه.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: السير. (2) انظر حديث فتح خيبر في تاريخ دمشق 1: 174 – 248. (*)

[ 334 ]

فصل ومن ذلك ما رواه أهل السيرة، واشتهر الخبربه عند (1) العامة والخاصة، حتى نظمته (2) الشعرا، وخطبت (3) به البلغاء، ورواه الفقهاء والعلماء، من حديث الراهب بأرض كربلاء والصخرة، وشهرته تغني عن تكلف إيراد الاسناد له. وذلك أن الجماعة روت: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لما توجه إلى صفين، لحق أصحابه عطش. شديد ونفد ما كان معهم من الماء، فأخذوا يمينا وشمالا يلتمسون الماء فلم يجدوا له أثرا، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادة وسار قليلا فلاح لهم دير في وسط البرية فسار بهم نحوه، حتى إذا صار في فنائه أمر من نادى ساكنه بالاطلاع إليهم فنادوه فاطلع، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” هل قرب قائمك هذا ماء يتغوث به هؤلاء القوم ؟ ” فقال: هيهات، بيني وبين الماء أكثر من فرسخين، وما بالقرب مني شئ من الماء، ولولا انني أوتى بماء يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشا. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” أسمعتم ما قال الراهب ؟ ” قالوا: نعم، أفتأمرنا بالمسير إلى حيث أومأ إليه لعلنا ندرك الماء وبنا


(1) في ” ش “: في. (2) في هامش ” ش “: نظمه. (3) في هامش ” ش “: خطب.

[ 335 ]

قوة ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” لا حاجة بكم إلى ذلك، ولوى عنق بغلته نحو القبلة وأشار لهم إلى مكان يقرب من الدير فقال: ” اكشفوا الارض في هذا المكان ” فعدل جماعة منهم إلى الموضع فكشفوه بالمساحي، فظهرت (1) لهم صخرة عظيمة تلمع، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي، فقال لهم: ” إن هذه الصخرة على الماء فإن زالت عن موضعها وجدتم الماء، فاجتهدوا في قلبها ” فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا واستصعبت عليهم. فلما رآهم عليه السلام قد اجتمعوا وبذلوا الجهد في قلع الصخرة فاستصعبت (2) عليهم، لوى عليه السلام رجله عن سرجه حتى صار على الارض، ثم حسر عن ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحركها، ثم قلعها بيده ودحا بها اذرعا كثيرة، فلما زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء، فتبادروا إليه فشربوا منه، فكان أعذب ماء شربوا منه في سفرهم وأبرده وأصفاه، فقال لهم: ” تزودوا وارتووا ” ففعلوا ذلك. ثم جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب، والراهب ينظر من فوق ديره، فلما استوفى علم ما جرى نادى: يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني. فاحتالوا في إنزاله فوقف بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا هذا أنت نبي مرسل ؟ قال: ” لا ” قال: فملك مقرب ؟ قال: ” لا ” قال: فمن أنت ؟


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: وظهرت. (2) في هامش ” ش ” و ” م ” نسخة: فامتنعت.

[ 336 ]

قال: ” أنا وصي رسول الله محمد بن عبد الله خاتم النبيين ” قال: ابسط يدك أسلم لله تبارك وتعالى على يدك، فبسط أمير المؤمنين عليه السلام يده وقال له: ” اشهد الشهادتين ” فقال: أشهد أن لا إله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وأشهد انك وصي رسول الله وأحق الناس بالامر من بعده. فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام عليه شرائط الاسلام ثم قال له: ” ما الذي دعاك الان إلى الاسلام بعد طول مقامك في هذا الدير على الخلاف ؟ ” فقال: أخبرك – يا أمير المؤمنين – إن هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى عالم قبلي لم يدركوا ذلك، وقد رزقنيه الله عزوجل، وإنا نجد في كتاب من كتبنا وناثر عن علمائنا، أن في هذا الصقع عينا عليها صخرة لا يعرف مكانها إلا نبي أو وصي نبي، وانه لا بد من ولي لله يدعو إلى الحق آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على قلعها، واني لما رأيتك قد فعلت ذلك تحققت ما كنا ننتظره وبلغت الامنية منه، فأنا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقك ومولاك. فلما سمع ذلك أمير المؤمنين عليه السلام بكى حتى اخضلت لحيته من الدموع ثم قال: ” الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا، الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكورا ” ثم دعا الناس فقال لهم: ” اسمعوا ما يقول أخوكم هذا المسلم ” فسمعوا مقالته (1)، وكثر حمدهم لله وشكرهم على النعمة التي أنعم الله بها عليهم في معرفتهم بحق أمير المؤمنين عليه السلام.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: مقاله.

[ 337 ]

ثم سار عليه السلام والراهب بين يديه في جملة أصحابه حتى لقي أهل الشام، فكان الراهب من جملة من استشهد معه، فتولى عليه السلام الصلاة عليه ودفنه وأكثر من الاستغفار له، وكان إذا ذكره يقول: ” ذاك مولاي ” (1). وفي هذا الخبر ضروب من المعجز: أحدها: علم الغيب، والثاني: القوة التى خرق العادة بها وتميز بخصوصيتها من الانام، مع ما فيه من ثبوت البشارة به في كتب الله الاولى، وذلك مصداق قوله تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل) (2) وفي ذلك يقول إسماعيل بن محمد الحميري في قصيدته البائية المذهبة: (1) ولقد سرى فيما (يسير ليلة) (3) بعد العشاء بكربلا في موكب (2) حتى أتى متبتلا في قائم القى قواعده بقاع مجدب (3) يأتيه ليس بحيث (يكفي عامرا) (4) (غير الوحوش) (5) وغير أصلع أشيب (4) فدنا فصاح به فأشرف ماثلا كالنسر فوق شظية من مرقب (5) هل قرب قائمك الذي بوئته ماء يصاب فقال مامن مشرب (6) إلا بغاية فرسخين ومن لنا بالماء بين نقا وقي سبسب


(1) نقل هذه الحادثة باختلاف في الالفاظ كل من الرضي في خصائص الائمة: 50، وابن شاذان في فضائله: 104، والراوندي في الخرائج 1: 222 / 67، والطبرسي في اعلام الورى: 178، وكذلك نقلها نصر بن مزاحم في وقعة صفين: 144، وعن ابن ابي الحديد في الشرح 3: 204، ونقلها العلامة المجلسي في البحار 41: 260 / 21، ولمزيد من المصادر انظر احقاق الحق 8: 722. (2) الفتح 48: 29. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: يسير بليلة. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: يلقى عامر غير. (5) في ” ش “: الا الوحوش. (*)

[ 338 ]

(7) فثنى الاعنة نحو وعث فاجتلى ملساء تلمع كاللجين المذهب (8) قال اقلبوها إنكم إن تقلبوا ترووا ولا تروون إن لم تقلب (9) فاعصو صبوا في قلبها فتمنعت عنهم تمنع صعبة لم تركب (10) حتى إذا أعيتهم أهوت (1) لها كف متى ترم (2) المغالب تغلب (11) فكأنها كرة بكف حزور عبل الذراع دحا بها في ملعب (12) فسقاهم من تحتها متسلسلا عذبا يزيد على الالذ الاعذب (13) حتى إذا شربوا جميعا ردها ومضى فخلت مكانها لم يقرب (14) أعني ابن فاطمة الوصي ومن يقل في فضله وفعاله لم (3) يكذب (4)


(1) في ” ش ” اهوى. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: ترد. (3) في ” م “: لا. (4) قال السيد المرتضى – رضي الله عنه – في شرح هذه القصيدة – وقد وزعناه على تسلسل الابيات – قال. (1) السرى: سير الليل كله. (2) والمتبتل: الراهب، والقائم: صومعته، والقاع: الارض الحرة الطين الي لا حزونة فيها ولا انهباط، والقاعدة: اساس الجدار وكل ما يبني، والجدب: ضد الخصب. (3) ومعنى ” يأتيه “: أي يأتي هذا الموضع الذي فيه الراهب، ومعنى (ليس بحيث يلقى) ” عامرا “: أنه لا مقيم فيه سرى الوحوش، ويمكن أن يكون مأخوذا من العمرة التي هي الزيارة، والاصلع الاشيب: هو الراهب. (4) الماثل: المنتصب، وشبه الراهب بالنسر لطول عمره، والشظية: قطعة من الجبل مفردة. والمرقب: المكان العالي. (6) والنقا: قطعة من الرمل تنقاد محدودبة، والقي: الصحراء الواسعة، والسبسب: القفر. (7) والوعث: الرمل الذي لا يسلك فيه، ومعنى ” اجتلى ملساء “: نظر إلى صخرة ملساء فتجلت لعينه، ومعنى ” تبرق “: تلمع، ووصف اللجين بالمذهب لانه أشد لبريقه ولمعانه. (9) ومعنى ” اعصو صبوا “: اجتمعوا على قلعها وصاروا عصبة واحدة. (10) ومعنى ” اهوى لها “: مد إليها، والمغالب: الرجل المغالب. (11) والحزور: الغلام المترعرع، والعبل: الغليظ الممتلى. =

[ 339 ]

فصل ومن ذلك (ما تظاهر به الخبر من بعثة) (1) رسول الله صلى الله عليه وآله له إلى وادي الجن، وقد أخبره جبرئيل عليه السلام بأن طوائف منهم قد اجتمعوا لكيده، فأغنى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وكفى الله المؤمنين به كيدهم، ودفعهم عن المسلمين بقوته التي بان بها من جماعتهم فروى محمد بن أبي السري التميمي، عن أحمد بن الفرج، عن الحسن بن موسى النهدي، عن أبيه، عن وبرة بن الحارث، عن ابن عباس رحمة الله عليه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وآله إلى بني المصطلق جنب عن الطريق، وأدركه الليل فنزل بقرب واد وعر، فلما كان في آخر الليل هبط عليه جبرئيل عليه السلام يخبره أن طائفة من كفار


= (12) والمتسلسل: الماء السلسل في الحلق،، يقال انه البارد ايضا. (14) وابن فاطمة: هو أمير المؤمنين عليه السلام. انتهى كلامه رفع الله مقامه، نقله العلامة المجلسي في البحار 41: 264 – 266. انظر مصادر حديث الراهب في: وقعة صفين: 144، امالي الصدوق: 150 خصائص الائمة: 51، شرح النهج لابن ابي الحديد 3: 204. وفي المطبوعة زيادة: ” وزاد فيها ابن ميمون قوله: وأبان راهبها سريرة معجز فيها وآمن بالوصي المنجب ومضى شهيدا صادقا قي نصره اكرم به من راهب مترهب رجلا كلا طرفيه من سام وما خام لة بأب ولا بأبي أب من لا يفر ولا يرى في معرك إلا وصارمه الخضيب المضرب ” (1) في ” ش “: ما تظاهرت به الاخبار من بعثه رسول الله صلى الله عليه واله.

[ 340 ]

الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه عند سلوكهم إياه، فدعا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وقال له: ” اذهب إلى هذا الوادي، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عز وجل، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها ” وانفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس، وقال لهم: ” كونوا معه وامتثلوا أمره “. فتوجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الوادي، فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير، ولا يحدثوا شيئا حتى ياذن لهم. ثم تقدم فوقف على شفير الوادي، وتعوذ بالله من أعدائه، وسمى الله عزوجل وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه فقربوا، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة (1)، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته (2) ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها، ولم تثبت أقدامهم على الارض من هول ما لحقهم. فصاح أمير المؤمنين: ” أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وصي رسول الله وابن عمه، اثبتوا إن شئتم ” فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط (3) تخيل في أيديهم شعل النار، قد اطمأنوا بجنبات الوادي، فتو غل أمير المؤمنين عليه السلام بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يمينا وشمالا، فما لبثت الاشخاص حتى صارت كالدخان الاسود، وكبر


(1) الغلوة: المسافة التي يبلغها السهم عند رميه ” مجمل اللغة – غلو – 3: 683 “. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: فاعترضت. (3) الزط: جيل من الناس، الواحد زطي. ” الصحاح – زطط – 3: 1129 ” وفي هامش ” ش “: الزط: قوم الزنج.

[ 341 ]

أمير المؤمنين عليه السلام ثم صعد من حيث انهبط، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه. فقال له أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله: ما لقيت يا أبا الحسن ؟ فلقد كذنا أن نهلك خوفا وإشفاقنا (1) عليك أكثر مما لحقنا. فقال لهم عليه السلام: ” إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عزوجل فتضاءلوا، وعلمت ماحل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم، ولو بقوا على هيئاتهم لاتيت على آخرهم (2)، وقد كفى الله كيدهم وكفى المسلمين شرهم، وسيسبقني بقيتهم إلى النبي عليه وآله السلام فيؤمنون به “. وانصرف أمير المؤمنين بمن تبعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره الخبر، فسري عنه ودعا له بخير، وقال له: ” قد سبقك – يا علي – إلي من أخافه الله، فأسلم وقبلت إسلامه ” ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين (3). وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة، ولم يتناكروا شيئا منه. والمعتزلة لميلها إلى مذهب البراهمة (4) تدقعه، ولبعدها


(1) في ” ش ” وهامش ” م “: واشفقنا. (2) في ” ش “: انفسهم. (3) ذكره القوشجي مختصرا في شرح تجريد العقائد: 370، ونقله العلامة المجلسي في البحار 39: 175 / 18. (4) وجه الشبه أن البراهمة – وهي فرقة من كفرة الهند – تقدس العقل وترى انه يغنى عن النبوة والمعتزلة – وهي من فرق المسلمين – تقدس العقل وتؤول ما خالفه من الامور =

[ 342 ]

عن (1) معرفة الاخبار تنكرة، وهي سالكة في ذلك طريق الزنادقة فيما طعنت به في القرآن، وما تضمنه من أخبار الجن وإيمانهم بالله ورسوله عليه وآله السلام، وما قص الله تعالى من نبإهم في القرآن في سورة الجن وقولهم: (إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ” (2) إلى آخر ما تضمنه الخبر عنهم في هذه السورة. وإذا بطل اعتراض الزنادقة في ذلك بتجويز العقول وجود الجن، وإمكان تكليفهم وثبوت ذلك مع إعجاز القرآن والاعجوبة الباهرة فيه، كان مثل ذلك ظهور بطلان طعون المعتزلة في الخبر الذي رويناه، لعدم استحالة مضمونه في العقول. وفي مجيئه من طريقين مختلفين وبرواية فريقين في دلالته متباينين برهان صحته، وليس في إنكار من عدل عن الإنصاف في النظر – من المعتزلة والمجبرة – قدح فيما ذكرناه من وجوب العمل عليه. كما انه ليس في جحد الملحدة وأصناف الزنادقة واليهود والنصارى والمجوس والصابئين ما جاء مجيئه من الاخبار بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله – كانشقاق القمر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وشكوى البعير، وكلام الذراع، ومجئ الشجرة، وخروج الماء من بين أصابعه في الميضأة، لم إطعام الخلق الكثير من الطعام القليل (3) – قدح في صحتها، وصدق رواتها، وثبوت الحجة


= الغيبة أو ترده. انظر ” الملل والنحل 2: 258 وما بعدها “. (1) في ” م ” وهامش ” ش “: من. (2) الجن 72: 1 – 2. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: اليسير.

[ 343 ]

بها، بل الشبهة لهم في دفع ذلك – وان ضعفت – أقوى من شبهة منكري معجزات أمير المؤمنين عليه السلام وبراهينه، لما لا خفاء على أهل الاعتبار به، مما لا حاجة بنا إلى شرح وجوهه في هذا المكان. وإذا ثبت تخصص أمير المؤمنين عليه السلام من القوم بما وصفناه، وبينونته من الكافة في العلم بما شرحناه، وضح القول في الحكم له بالتقدم على الجماعة في مقام الامامة، واستحقاقه السبق لهم إلى محل الرئاسة، بما تضمنه الذكر الحكيم من قصة داود عليه السلام وطالوت، حيث يقول الله عز اسمه: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن احق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكة من يشاء والله واسع عليم) (1) فجعل تعالى الحجة لطالوت في تقدمه على الجماعة من قومه ما جعله لوليه وأخي نبيه عليهما السلام في التقدم على كافة الامة، من اصطفائه عليهم، وزيادته في العلم والجسم بسطة، وأكد ذلك بمثل ما تأكد به الحكم لامير المؤمنين عليه السلام من المعجز الباهر المضاف إلى البينونة من القوم بزيادة البسطة في العلم والجسم، فقال سبحانه: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن ياتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وال هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين ” (2) فكان (3)


(1) البقرة 2: 247. (2) البقرة 2: 248. (3) في ” ش “: وكان.

[ 344 ]

خرق العادة لامير المؤمنين عليه السلام بما عددناه – من علم الغيوب وغير ذلك – كخرق العادة لطالوت بحمل التابوت سواء، وهذا بين والله ولي التوفيق. ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب (1) من الخبر بملاقاة أمير المؤمنين عليه السلام الجن وكفه شرهم عبن النبي صلى الله عليه واله واصحابه، ويتضاحك لذلك،، ينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة، ويصنع مثل ذلك في الاخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته عليه السلام ويقول: إنها من موضوعات الشيعة، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب، وهذا بعينه مقال (2) الزنادقة وكافة أعداء الاسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن واسلامهم وقولهم (إنا سمعنا قزآنا عجبا * يهدي إلى الرشد) (3) وفيما ثبت به الخبر عن ابن مسعود في قصته ليلة الجن، ومشاهدته لهم كالزط (4)، وفي غيرذلك من معجزات الرسول عليه وآله السلام، فإنهم يظهرون العجب من جميع ذلك، ويتضاحكون عند سماع الخبربه والاحتجاج بصحته، ويستهزئون ويلغطون فيما يسرفون به من سب الاسلام وأهله، واستحماق معتقديه والناصرين له، ونسبتهم إياهم إلى العجز والجهل ووضع الاباطيل، فلينظر القوم ما جنوه على الاسلام بعداوتهم أمير المؤمنين عليه السلام واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته على ما


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: التعجب. (2) في ” م ” و ” ح “: فعال. (3) الجن 72: 1 – 2. (4) دلائل النبوة لابي نعيم 2: 471 / 262، الفخر الرازي في تفسيره 3: 152، الدر المنثور 8: 307، مجمع الزوائد 8: 314 رواه عن الطبراني.

[ 345 ]

ضاهوا به أصناف الزنادقة والكفار، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات (1) وبالله نستعين (2). فصل ومما أظهره الله تعالى من الاعلام الباهرة على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ما استفاضت به الاخبار، ورواه علماء السيرة والاثار، ونظمت فيه الشعراء الاشعار: رجوع الشمس له عليه السلام مرتين (3): في حياة النبي صلى الله عليه وآله مرة، وبعد وفاته مرة أخرى. وكان من حديث رجوعها عليه في المرة الاولى ماروته أسماء بنت عميس، وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله، وجابر بن عبد الله الانصاري، وأبو سعيد الخدري، في جماعة من الصحابة (4): أن النبي صلى الله عليه واله كان ذات يوم في منزله، وعلى عليه السلام بين يديه، إذ جاءه جبرئيل عليه السلام يناجيه عن الله سبحانه، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين عليه السلام فلم يرفع رأسه عنه حتى غابت الشمس، فاضطر أمير المؤمنين عليه السلام لذلك


(1) في هامش ” ش “: المشاتمات. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: استعين. (3) للتحقق من تواتر الحديث راجع طرقه في تاريخ دمشق 2: 283 – 305، وكفاية الطالب: 381 – 388، والغدير 3: 127 – 141، واحقاق الحق 5: 521 – 539. (4) في هامش ” ش “: ” روى هذا الحديث أيضا ابر هريرة وابو الطفيل عامر بن واثلة “.

[ 346 ]

إلى صلاة العصر جالسا يومئ بركوعه وسجوده إيماء، فلما أفاق من غشيته قال لامير المؤمنين عليه السلام: ” أفاتتك صلاة العصر ؟ ” قال له: ” لم أستطع أن أصليها قائما لمكانك يا رسول الله، والحال التي كنت عليها في استماع الوحي ” فقال له: ” ادع الله ليرد عليك الشمس حتى تصليها قائما في وقتها كما فاتتك، فإن الله يجيبك لطاعتك لله ورسوله ” فمسأل أمير المؤمنين الله عز اسمه في رد الشمس، فردت عليه حتى صارت في موضعها من السماء وقت العصر، فصلى أمير المؤمنين عليه السلام صلاة العصر في وقتها ثم غربت. فقالت أسماء: أم والله لقد سمعنا لها عند غروبها صريرا كصرير المنشار في الخشبة (1). وكان رجوعها عليه بعد النبي صلى الله عليه وآله: أنه لما أراد أن يعبر الفرات ببابل، اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم ورحالهم، وصلى عليه السلام بنفسه في طائفة معه العصر، فلم يفرغ الناس من عبورهم حتى غربت الشمس، ففاتت الصلاة كثيرا منهم، وفات الجمهور فضل الاجتماع معه، فتكتموا في ذلك. فلما سمع كلامهم فيه سأل الله تعالى رد الشمس عليه، ليجتمع (2) كافة أصحابه على صلاة العصر في وقتها، فأجابه الله تعالى إلى ردها عليه، فكانت (3) في الافق على الحال التي تكون عليها وقت العصر، فلما سلم بالقوم غابت فسمع لها وجيب (4) شديد هال الناس ذلك، وأكثروا من


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الخشب. (2) في ” ش “: لتجمع. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: وكانت. (4) الوجيب: صوت السقوط. انظر ” مجمع البحرين – وجب – 2: 180 “.

[ 347 ]

التسبيح والتهليل والاستغفار والحمد لله على نعمته التي ظهرت فيهم. وسار خبر ذلك في الآفاق وانتشر ذكره في الناس، وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري رحمه الله: ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب حتى تبلج نورها في وقتها للعصر ثم هوت هوي الكوكب وعليه قد ردت ببابل مرة أخرى وما ردت (1) لخلق معرب إلا ليوشع أولة من بعده ولردها تأويل أمر معجب فصل ومن ذلك ما رواه نقلة الاخبار، واشتهر في أهل الكوفة لاستفاضته بينهم، وانتشر الخبر به إلى من عداهم من أهل البلاد، فأثبته العلماء من كلام الحيتان له في فرات الكوفة. وذلك أنهم رووا: ان الماء طغى في الفرات وزاد حتى أشفق أهل الكوفة من الغرق، ففزعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه واله وخرج والناس معه حتى أتى شاطئ الفرات، فنزل عليه وأسبغ الوضؤ وصلى منفردا بنفسه والناس يرونه، ثم دعا الله بدعوات سمعها أكثرهم، ثم تقدتم إلى الفرات متوكئا على قضيب بيده حتى ضرب به صفحة الماء وقال: ” انقص بإذن الله ومشيئته ” فغاض الماء حتى بدت الحيتان من قعر البحر فنطق


(1) في هامش ” ش “: وما حبست.

[ 348 ]

كثير منها بالسلام عليه بامرة المؤمنين، ولم ينطق منها أصناف من السموك، وهي: الجري (1)، والزمار (2) والمار ماهي (3). فتعجب الناس لذلك وسألوه عن علة نطق ما نطق وصموت ما صمت، فقال: ” أنطق الله لي ما طهر من السموك، وأصمت عني ما حرمه ونجسه وبعده ” (4) وهذا خبر مستفيض شهرته بالنقل والرواية كشهرة كلام الذئب للنبي صلى الله عليه وآله وتسبيح الحصى بكفه (5) وحنين الجذع إليه، واطعامه الخلق الكثير من الطعام القليل. ومن رام طعنا فيه فهو لا يجد من الشبهة في ذلك إلا ما يتعلق به الطاعنون فيما عددناه من معجزات النبي صلى الله عليه وآله. فصل وقد روى حملة الاخبار أيضا من حديث الثعبان والاية فيه والاعجوبة مثل ما رووه من حديث كلام الحيتان ونقصان ماء الفرات. ورووا: أن أمير المؤمنين عليه السلام كان ذات يوم يخطب على منبر


(1) الجري: صنف من السمك لا فلس له، ويقال له الجريث. ” مجمع البحرين – جرر – 3: 244 “. (2) الزمار والزمير: نوع من السمك. ” مجمع البجرين – زمر – 3: 319 “. (3) المار ماهي: معرب وأصله حية السمك. ” مجمع البحرين – مور – 3: 485 “. (4) المسعودي في اثبات الوصية: 128، والرضي في خصائص الائمة: 58. (5) في هامش ” ش “: في كفه.

[ 349 ]

الكوفة، إذ ظهر ثعبان من جانب المنبر فجعل يرقى حتى دنا من أمير المؤمنين عليه السلام فارتاع الناس لذلك، وضوا بقصده ودفعه عن أمير المؤمنين فأومأ إليهم بالكف عنه، فلما صار على المرقاة التي عليها أمير المؤمنين قائم، انحنى إلى الثعبان وتطاول الثعبان إليه حتى التقم أذنه، وسكت الناس وتحيروا لذلك، فنق نقيقا سمعه كثير منهم، ثم إنه زال عن مكانه وأمير المؤمنين عليه السلام يحرك شفتيه والثعبان كالمصغي إليه، ثم انساب فكأن (1) الارض ابتلعته، وعاد أمير المؤمنين عليه السلام إلى خطبته فتتمها. فلا فرغ منها ونزل اجتمع إليه الناس يسالونه عن حال الثعبان والاعجوبة فيه، فقال لهم: ” ليس ذلك كما ظننتم، وانما هو حاكم من حكام الجن، التبست عليه قضية، فصار إلي يستفهمني عنها فأفهمته إياها، ودعا لي بخير وانصرف ” (2). فصل وربما استبعد جهال من الناس ظهور الجن في صور الحيوان الذي ليس بناطق، وذلك معروف عند العرب قبل البعثة وبعدها، وقد


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: وكأن. (2) ذكر نحوه الصفار في بصائر الدرجات: 117 / 7، والمسعودي في اثبات الوصية: 129، وابن شاذان في الفضائل: 71، وانظر احقاق الحق 8: 732 نقله عن ابن حسنويه في در بحر المناقب المخطوط: 121، والقوشجي في شرح تجويد العقائد 370، ونقله العلامة المجلسي في البحار 39: 178 / 20.

[ 350 ]

تناصرت به أخبار أهل الاسلام، وليس ذلك بأبعد مما أجمع (1) عليه أهل القبلة من ظهور إبليس لاهل دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، واجتماعه معهم في الرأي على المكر برسول الله صلى الله عليه وآله، وظهوره يوم بدر للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجي، وقوله: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) (2) قال الله عزوجل: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) (3). وكل من رام الطعن فيما ذكرناه من هذه الايات، فإنما يعول في ذلك على الملحدة وأصناف الكفار من مخالفي الملة، ويطعن فيها بمثل ما طعنوا به في آيات النبي صلى الله عليه وآله، وكلهم راجع إلى طعون البراهمة والزنادقة في آيات الرسل عليهم السلام، والحجة عليهم ثبوت النبوة وصحة المعجز لرسل الله صلى الله عليهم. فصل ومن ذلك ما رواه عبد القاهر بن عبد الملك بن عطاء الاشجعي، عن الوليد بن عمران البجلي، عن جميع بن عمير قال: اتهم في عليه السلام رجلا يقال له العيزار برفع إخباره إلى معاوية، فأنكر ذلك وجحده، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” أتحلف بالله يا هذا انك ما


(1) في هامش ” ش “: اجتمع. (2، 3) الانفال 8: 48.

[ 351 ]

فعلت ذلك ؟ ” قال: نعم. وبدر (1) فحلف، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” إن كنت كاذبا فأعمى الله بصرك ” فما دارت الجمعة حتى أخرج أعمى يقاد قد أذهب الله بصره (2). فصل ومن ذلك ما رواه إسماعيل بن عمرو قال: حدثنا مسعر بن كدام قال: حدثنا طلحة بن عميرة قال: نشد في عليه السلام الناس في قول النبي صلى الله عليه واله ” من كنت مولاه فعلي مولاه ” فشهد اثنا عشر رجلا من الانصار، وأنس بن مالك في القوم لم يشهد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ” يا أنس ” قال: لبيك، قال: ” ما يمنعك أن تشهد وقد سمعت ما سمعوا ؟ ” فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض – أو بوضح – لا تواريه العمامة ” قال طلحة بن عميرة: فأشهد بالله لقد رأيتها بيضاء بين عينيه (3) (4).


(1) في ” ش “: فبدر. (2) انظر احقاق الحق 8: 739 نقله عن أرجح المطالب: 861 (ط لاهور) ومطالب السؤول، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 198 / 11. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: قيل: كان أنس إذا أخذ في ذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام تتوارى تلك البرصة وإذا امتنع منها تلوح. (4) شرح ابن ابي الحديد 4: 74 و 19: 217، والمعارف لابن قتيبة: 320، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 204 / 20. وحديث من كنت مولاه ومناشدة أمير المؤمنين عليه السلام يطلب من كتاب الغدير الجزء الاول باجمعه، واحقاق الحق 6: 305 – 340 و 8: =

[ 352 ]

فصل ومن ذلك ما رواه أبو إسرائيل، عن الحكم، عن أبي سلمان المؤذن، عن زيد بن أرقم قال: نشد عين الناس في المسجد فقال: ” أنشد الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: ” من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ” فقام اثنا عشر بدريا، ستة من الجانب الايمن، وستة من الجانب الايسر، فشهدوا بذلك. قل زيد بن أرقم: وكنت أنا فيمن سمع ذلك فكتمته، فذهب لم ببصري، وكان يتندم على ما فاته من الشهادة ويستغفر (1). فصل ومن ذلك ما رواه علي بن مسهر (2)، عن الاعمش، عن موسى بن طريف، عن عباية. وموسى بن أكيل النميري، عن عمران بن ميثم، عن عباية. وموسى الوجيهي (3)، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن


= 741 – 748، وتاريخ دمشق 2: 5 – 34، وهامش صحيفة الامام الرضا عليه السلام حديث رقم 109 (ط مدرسة المهدي). (1) شرح ابن ابي الحديد 4: 74، مجمع الزوائد 9: 106، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 305 / 21. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: علي بن مسهر – قاضي الموصل – الكوفي. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: الوجيهي هو موسى بن عمر.

[ 353 ]

الحارث. وعثمان بن سعيد، عن عبد الله بن بكير، عن حكيم بن جبير قالوا: شهدنا عليا أمير المؤمنين عليه السلام على المنبر يقول: ” أنا عبد الله، وأخير رسول الله، ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء أهل الجنة، وأنا سيد الوصيين، وآخر أوصياء النبيين، لا يدعي ذلك غيري إلا أصابه الله بسوء “. فقال رجل من عبس كان جالسا بين القوم: من لا يحسن أن يقول هذا ؟ أنا عبد الله وأخو رسول الله، فلم يبرح مكانه حتى تخبطه الشيطان، فجر برجله إلى باب المسجد، فسالنا قومه عنه فقلنا: هل تعرفون به عرضا قبل هذا ؟ قالوا: اللهم لا (1). قال الشيخ المفيد رضي الله: والاخبار في أمثال ما ذكرناه وأثبتناه يطول بها الكتاب، وفيما أودعناه كتابنا هذا من جملتها غنى عما سواه، والله نسأل التوفيق، واياه نستهدي (إلى سبيل الرشاد) (2).


(1) شرح ابن ابي الحديد 2: 287، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41: 205 / 22. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: السبيل إلى الرشاد.

[ 354 ]

باب ذكر أولاد أمير المؤمنين عليه السلام وعددهم وأسمائهم ومختصر من أخبارهم فأولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولدا ذكرا وأنثى: الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكناة أم كلثوم، أمهم فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بنت سيد المرسلين محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله. ومحمد المكنى أبا القاسم، امه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية. وعمر ورقية كانا توأمين، وأمهما أم حبيب بنت ربيعة. والعباس وجعفر وعثمان و عبد الله الشهداء مع أخيهم الحسين ابن علي صلوات الله عليه وعليهم بطف كربلاء، أمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم. ومحمد الاصغر المكنى أبا بكر وعبيدالله الشهيدان مع أخيهما الحسين عليه السلام بالطف، أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية. ويحيى أمه أسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله عنها. وأم الحسن ورملة، أمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي. ونفيسة وزينب الصغرى ورقية الصغرى وأم هاني وأم


[ 355 ]

الكرام وجمانة المكناة أم جعفر وأمامة وأم سلمة وميمونة وخديجة وفاطمة، رحمة الله عليهن لامهات شتى (1). وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة صلوات الله عليها اسقطت بعد النبي صلى الله عليه وآله ولدا ذكرا كان سماه رسول الله عليه السلام – وهو حمل – محسنا (2) فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية وعشرون، والله أعلم (3)


(1) في هامش ” ش ” و ” م ” نسخة أخرى: لامهات أولاد شتى. (2) لقد تعددت المصادر التي تؤكد وبوضوح وجود المحسن ضمن اولاد علي من فاطمة عليهما السلام، ولم يقتصر هذا الامر في حدود كتب الشيعة، بل ان الكثير من كتب العامة ذكرت ذلك الامر وسلمت بوجوده من دون تعليق أو ترديد، انظر ” الكافي 6: 18 / 2، الخصال: 634، تاريخ اليعقوبي 2: 213، المناقب لابن شهرآشوب 3: 358، تاريخ الطبري 5: 153، الكامل في التاريخ لابن الاثير 3: 397، انساب الاشراف للبلاذري 2: 189، الاصابة لابن حجر 3: 471، والذهبي في لسان الميزان 1: 268، وميزان الاعتدال 1: 139، القاموس المحيط للفيروز آبادي 2: 55 ” وغيرها من المصادر المختلفة. (3) في ” ش ” اضافة: وله ايضا من النهشلية عبيدالله المدفون بالمذار. ولعله اشتباه وقع فيه النساخ لانه ليس من اصل الكتاب قطعا للاسباب التالية: اولا: ان عبيدالله هذا قد تقدم ذكره مع اخيه محمد الاصغر المكنى بابي بكر، وامهما ليلى بنت مسعود الدارمية، المعروفة بالنهشلية، وهو وان اختلفت المصادر في وقت ومكان استشهاده الا انه عين المتقدم. انظر ” تاريخ اهل البيت: 95، مقاتل الطالبيين: 86 و 25، تاريخ الطبري 5: 154، الكامل في التاريخ لابن الاثير 3: 397 و 4: 272، 277 “. ثانيا: انه يتعارض مع ما ذكره المصنف في اول الباب من حصر اولاده عليه السلام بسبعة وعشرين ولدا ذكرا وانثى، أو ثمانية وعشرين عند اضافة المحسن إليهم، فان عددهم سيزيد واحدا في الحالين. ثالثا: ان هذه – الاضافة لم ترد في باقي النسخ ” م ” و ” ح ” ونسخة العلامة المجلسي. =

[ 356 ]

(تم الجزء الاول من كتاب الارشاد في معرفة حجج الله تعالى على العباد، انظر ” تاريخ اهل البيت: 95، مقاتل الطالبيين: 86 و 25، تاريخ الطبري 5: 154، الكامل في التاريخ لابن الاثير 3: 397 و 4: 272، 277 “. ثانيا: انه يتعارض مع ما ذكره المصنف في اول الباب من حصر اولاده عليه السلام بسبعة وعشرين ولدا ذكرا وانثى، أو ثمانية وعشرين عند اضافة المحسن إليهم، فان عددهم سيزيد واحدا في الحالين. ثالثا: ان هذه – الاضافة لم ترد في باقي النسخ ” م ” و ” ح ” ونسخة العلامة المجلسي. =


[ 356 ]

(تم الجزء الاول من كتاب الارشاد في معرفة حجج الله تعالى على العباد، ويتلوه في الجزء الثاني إن شاء الله باب ذكر الائمة عليهم السلام بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وتاريخ مواليدهم، ودلائل إمامتهم، ومدة خلافتهم، ووقت وفاتهم، وموضع قبورهم، وعدد أولادهم، وطرف من أخبارهم صلوات الله عليهم وسلم تسليما كثيرا) (1).


= رابعا: كان الاولى ان ترد هذه الاضافة ان صحت في الاسطر السابقة لتعليق الشيخ الاخير حول المحسن كما في سابقاتها. فتأمل. (1) في نسخة ” ح “: تم الجزء الاول تعليقا في أوقات متفرقة على يد أضعف العباد وأفقرهم وأحوجهم إلى رحمة مالك الدنيا والمعاد أسير ذنبه المرتهن بعمله الراجي بشفاعة سادته ومواليه العفو والصفح عن خطله وزلله وسوء عمله سلمان بن محمد بن سلمان الحائري المجاور بالظل للاشرف الغروي صلوات الله ورحمته وبركاته على مشرفه، اللهم اغفر ذنوبه واستر عيوبه وعجل له الفرج بجمع شمله بمواليه وسادته واحسن بهم خاتمته وعاقبته وابدا بالمؤمنين والمؤمنات وبصاحبه وبوالديه وبربه يا رب العالمين ويا ارحم الراحمين بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين. وما اثبتناه من نسخة ” م “

اترك تعليقاً