الإرشاد

الشيخ المفيد ج 2


[ 1 ]

سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد 2 / 11 الارشاد في معرفة حجج الله على العباد ابي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد (336 – 413 ه‍) تحقيق مؤسسة آل البيت ” ع ” لتحقيق التراث دار المفيد طباعة – نشر – توزيع


[ 3 ]

كلمة الناشر الحمد لله رب العالمين – والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واصحابه المنتجبين. كان لانعقاد المؤتمر الالفي للشيخ المفيد في مدينة قم سنة 1413 ومشاركة الوفود العالمية في ذلك المؤتمر، وما القي فيه من دراسات وبحوث – كان ذلك حافزا للكثيرين إلى التنبه لاحياء آثار هذا العالم العظيم الذي كان له في تاريخ الثقافة الاسلامية والفكر العربي ما كان، سواء في مدرسته الكبرى التي اقامها في بغداد، أو في مجالسه العلمية التي كانت تنعقد في داره، أو في مؤلفاته التي تطرقت إلى أنواع شتى من المعرفة، ما خلدها على مر العصور. وقد كان من أهم ما تنبه إليه المفكرون والمحققون هو وجوب جمع تلك المؤلفات في حلقات متتابعة يسهل على المتتبع الوصول إليها. وقد كان ذلك فجمعت تلك المؤلفات والمصنفات في سلسلة مترابطة في حلقاتها لتكون بين يدي القارئ سهلة المأخذ، يستفيد منها العالم والمتعلم، والاستاذ والتلميذ، وتصبح موردا لكل ظامئ إلى العلم، صاد إلى الثقافة. وقد رأت دارنا (دار المفيد) ان تقوم بطبع هذه المؤلفات في طبعة جديدة عارضة لها على شداة الحقيقة العلمية الفكرية اينما وجدوا، وهو ما يراه القارئ بين يديه فيما يلي، كتابا بعد كتاب. وإننا لنرجو أن نكون بذلك قد ارضينا الله اولا، ثم ارضينا قراءنا الذين عودناهم فيما مضى من أيامنا على ان نبذل لهم كل جديد. سائلين من الله التوفيق والتسديد واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين دار المفيد


[ 4 ]

بسم الله الرحمن الرحيم


[ 5 ]

باب ذكر الامام بعد أمير المؤمنين عليه السلام وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، ومدة خلافته، ووقت وفاته، وموضع قبره، وعدد أولاده، وطرف من أخباره والامام بعد أمير المؤمنين عليه السلام ابنه الحسن ابن سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الطاهرين. كنيته أبو محمد. ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وجاءت به فاطمة إلى النبي عليه وآله السلام يوم السابع من مولده في خرقة من حرير الجنة كان جبرئيل عليه السلام نزل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسماه حسنا وعق عنه كبشا، روى ذلك جماعة، منهم أحمد بن صالح التميمي، عن عبد الله بن عيسى، عن جعفر بن محمد عليهما السلام (1). وكان الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليهما خلقا (2) وسؤددا وهديا. روى ذلك جماعة منهم معمر، عن الزهري، عن أنس ابن مالك قال: لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 43: 250 / 26. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: خلقا.

[ 6 ]

من الحسن بن علي عليهما السلام (1). وروى إبراهيم بن علي الرافعي (2)، عن أبيه، عن جدته زينب بنت أبي رافع قال (3): أتت فاطمة بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله


(1) صحيح البخاري 5: 33، سنن الترمذي 5: 659 / 3776، تاريخ دمشق – ترجمة الامام الحسن عليه السلام -: 28 / 48، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 338 / 10. (2) في ” ش ” و ” م “: الرافقي، واضاف في هامش ” ش “: ” الرافقة بلدة مما يلي المصر ” وفيه دلالة على التفات الناسخ إلى هذه الكلمة واختياره لها. الا ان الصواب ما في ” ح ” وهو ما اثبتناه في المتن. فقد ذكره الشيخ الطوسي في رجاله (146 / 65) قائلا: ابراهيم بن علي بن الحسن بن علي بن ابي رافع المدني. وفي تأريخ بغداد (6: 131): ابراهيم بن علي بن حسن بن علي بن ابي رافع المدني حدث عن ابيه علي.. روى عنه ابراهبم بن حمزة الزبيري. وهذا الخبر مذكور في عدة مصادر مع بعض الاختلاف، ففي الخصال (1: 77) ذكره باسناده عن ابراهيم بن حمزة الزبيري عن ابراهيم بن علي الرافعي عن ابيه عن جدته بنت ابي رافع، وبهذا الاسناد في تأريخ ابن عساكر مسندا إلى ابن منده، وكذا في اسد الغابة (1: 41) عن ابن مندة وابي نعيم، الا انه اسقط منه (عن ابيه)، لكن اورد الخبر في الاصابة وقال: اخرجه ابن مندة من رواية ابراهيم بن حمزة الزبيري عن ابراهيم بن حسن بن علي الرافعي عن ابيه، ونظيره في كفاية الطالب عن حلية الاولياء. والظاهر وقوع التحريف فيه اما بسقوط (بن علي) بعد ابراهيم أو بتقديم وتأخير. فتأمل. (3) النسخ ههنا مشوشة غاية التشويش، ففي ” ش “: عن جدته زينب وشبيب بن أبي رافع قال. وجعل فوق (وشبيب) علامة الزيادة، فيصير المتن: عن جدته زينب بن ابي رافع قال وفيه اشكال من ناحية تذكير كلمتي (بن) و (قال)، وفي هامش ” ش ” أشار إلى ثلاث نسخ احداهن: جده وشبيب، والثانية: زينب بنت أبي، والثالثة: عمن حدثه، وبعد هذه النسخة علامة: ج. ونسخة ” م ” أكثر تشويشا، ففيها قد غيرت العبارة وذكر في هامشها نسخا وكأن فيها نفس النسخ أيضا، وفي هامشها: صوب نسخة (عن جده وشبيب بن أبي رافع قال..) وهذه النسخة هي الموجودة في ” ح ” وعلى أي حال فالنسخ متفقة على اثبات كلمة قال بصيغة التذكير ويمكن توجيهه بارجاع الضمير إلى أبي رافع، وان كان الاظهر غفلة النساخ عن تصحيح هذه الكلمة بعد تصحيح اسم الراوي. وفي بعض =

[ 7 ]

صلى الله عليه وآله في شكواه التي توفي فيها فقالت: ” يا رسول الله، هذان ابناك ورثهما (1) شيئا ” فقال: ” أما الحسن فإن له هديي وسؤددي، وأما الحسين فإن له جودي وشجاعتي ” (2). وكان الحسن بن علي وصي أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهما على أهله وولده وأصحابه، ووصاه بالنظر في وقوفه وصدقاته، وكتب له (3) عهدا مشهورا ووصية ظاهرة في معالم الدين وعيون الحكمة والآداب، وقد نقل هذه الوصية جمهور العلماء، واستبصر بها في دينه ودنياه كثير من الفقهاء. ولما قبض أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس الحسن عليه السلام وذكر حقه، فبايعه أصحاب أبيه على حرب من حارب وسلم من سالم. وروى أبو مخنف لوط بن يحيى قال: حدثني أشعث بن سوار (4)، عن أبي إسحاق السبيعي وغيره قالوا: خطب الحسن بن علي عليهما السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه


= النسخ المعتبرة والبحار: زينب بنت أبي رافع، ثم ان مصادر الحديث مختلفة أيضا، وذكر الخبر في ترجمة زينب بنت أبي رافع لا يرفع الاشكال في المسألة. (1) في هامش ” ش ” و ” م “: فورثهما. (2) ذكره الصدوق في الخصال: 77 / 122، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام 1: 105، وابن عساكر في تاريخ دمشق ضمن ترجمة الامام الحسن عليه السلام: 123، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 424، وابن حجر في الاصابة 4: 316، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 263 / 10. (3) في ” ش ” وهامش ” م “: إليه. (4) كذا في ” م ” و ” ح “، وفي ” ش “: سواد، وهو تصحيف.

[ 8 ]

السلام فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: ” لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله على يديه. ولقد توفي عليه السلام في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم عليه السلام، وفيها قبض يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادما لاهله ” ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه. ثم قال: ” أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، أنا من أهل بيت افترض الله حبهم في كتابه فقال عزوجل: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ” (1) فالحسنة مودتنا أهل البيت “. ثم جلس فقام عبد الله بن عباس رحمة اللة عليهما بين يديه فقال: معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس وقالوا: ما أحبه إلينا ! وأوجب حقه علينا !


(1) الشورى 42: 23.

[ 9 ]

وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة (1)، وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة. فرتب العمال وأمر الامراء، وأنفذ عبد الله بن العباس رضي الله عنه إلى البصرة، ونظر في الامور. ولما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وبيعة الناس الحسن عليه السلام دس رجلا من حمير إلى الكوفة، ورجلا من بلقين (2) إلى البصرة، ليكتبا إليه بالاخبار ويفسدا على الحسن عليه السلام الامور. فعرف ذلك الحسن عليه السلام فأمر باستخراج الحميري من عند حجام بالكوفة فأخرج فأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة فاستخرج القيني من بني سليم وضربت عنقه. وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية: (أما بعد: فإنك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاء، (وما أوشك ذلك) (3) ! فتوقعه إن شاء الله. وبلغني أنك شمت بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنا مثلك في ذلك كما قال الاول:


(1) مقاتل الطالبيين: 51، شرح ابن ابي الحديد 16: 30، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 362، وأخرج قطعا منه اكثر أهل السير. (2) بلقين: أصله بنو القين والنسبة قيني احدى قبائل العرب. انظر ” القاموس المحيط – قين – 4: 262 “. (3) في هامش ” ش “: وما اشك في ذلك.

[ 10 ]

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى * تجهز لاخرى مثلها فكأن قد فإنا ومن قد مات منا لكالذي يروح فيمسي في المبيت ليغتدي ” فأجابه معاوية عن كتابه بما لا حاجة بنا إلى ذكره (1). وكان بين الحسن عليه السلام وبينه بعد ذلك مكاتبات ومراسلات واحتجاجات للحسن عليه السلام في استحقاقه الامر، وتوثب من تقدم على أبيه عليهما السلام وابتزازه سلطان ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله وتحققهم به دونه، وأشياء يطول ذكرها. وسار معاوية نحو لعراق ليغلب عليه، فلما بلغ جسر منبج (2) تحرك الحسن عليه السلام وبعث حجر بن عدي فأمر العمال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثم خف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولابيه عليهما السلام، وبعضهم محكمة (3) يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين.


(1) رواه ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 53 وكذا ما بعده مفصلا إلى آخر الفصل، وابن أبي الحديد في شرحه 16: 31، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 45 / 5. (2) منبج: بلد بالشام. ” معجم البلدان 5: 205 “. (3) المحكمة. الخوارج. انظر ” الملل والنحل 1: 106 ” و ” القاموس المحيط – حكم – 4: 98 “.

[ 11 ]

فسار حتى أتى حمام عمر (1)، ثم أخذ على دير كعب، فنزل ساباط دون القنطرة وبات هناك، فلما أصبح أراد عليه السلام أن يمتحن أصحابه ويبستبرئ أحوالهم في الطاعة له، ليتميز بذلك أولياؤه من أعدائه، ويكون على بصيرة في لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر أن ينادي في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا فصعد المنبر فخطبهم فقال: ” الحمد لله بكل ما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق وائتمنه على الوحي صلى الله عليه وآله. أما بعد: فوالله إني لارجو أن أكون قد أصبحت – بحمد الله عنه – وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ولا مريدا له بسوء ولا غائلة، ألا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لانفسكم فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا ” (2). قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال ؟ قالوا: نظنه – والله – يريد أن يصالح معاوية ويسلم الامر إليه، فقالوا: كفر – والله – الرجل، ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه، حتى أخذوا مصلآه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الازدي فنزع مطرفه (3) عن عاتقه، فبقي جالسا متقلدا السيف بغير


(1) حمام عمر: هي قرية، كذا في هامش ” ش ” و ” م “. (2) مقاتل الطالبيين: 63. (3) المطرف: رداء من خز. ” الصحاح – طرف – 4: 1394 “.

[ 12 ]

رداء. ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أراده، فقال: ” ادعوا إلي (1) ربيعة وهمدان ” فدعوا له فأطافوا به ودفعوا الناس عنه. وسار ومعه شوب (2) من الناس، فلما مر في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له: الجراح بن سنان، فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول (3) وقال: الله أكبر، أشركت – يا حسن – كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم، فاعتنقه الحسن عليه السلام وخرا جميعا إلى الارض، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن عليه السلام يقال له: عبد الله بن خطل الطائي، فانتزع المغول من يده وخضخض به جوفه، وأكب عليه آخر يقال له: ظبيان بن عمارة، فقطع أنفه، فهلك من ذلك. وأخذ آخر كان معه فقتل. وحمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن، فأنزل به على سعد بن مسعود الثقفي، وكان عامل أمير المؤمنين عليه السلام بها فأقره الحسن عليه السلام على ذلك، واشتغل بنفسه يعالج جرحه. وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السر، واستحثوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به، وبلغ الحسن ذلك. وورد


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: لي. (2) الشوب: الخليط – من الناس -. ” الصحاح – شوب – 1: 158 “. (3) المغول: سيف دقيق له قفا يكون غمده كالسوط. ” الصحاح – غول – 5: 1786 “.

[ 13 ]

عليه كتاب قيس بن سعد رضي الله عنه وكان قد أنفذه مع عبيدالله بن العباس عند مسيره من الكوفة، ليلقى معاوية فيرده عن العراق، وجعله أميرا على الجماعة وقال: ” إن أصبت فالامير قيس بن سعد) فوصل كتاب ابن سعد يخبره أنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الحبونية (1) بإزاء مسكن (2)، وأن معاوية أرسل إلى عبيدالله بن العباس يرغبه في المصير إليه، وضمن له ألف ألف درهم، يعجل له منها النصف، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة، فانسل عبيدالله بن العباس في الليل إلى معسكر (3) معاوية في خاصته، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم، فصلى بهم قيس رضي الله عنه ونظر في أمورهم. فازدادث بصيرة الحسن عليه السلام بخذلان القوم له، وفساد نيات المحكمة فيه بما أظهروه له من السب والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله إلا خاصة من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام. فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح، وأنفذ إليه بكتب أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطا كثيرة وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالخ


(1) كذا وردت في النسخ والصحيح: ” الاخنونية ” كما في تاريخ بغداد 1: 208، وقال في معجم البلدان 1: 125: موضع من أعمال بغداد، قيل هي حربى، وفي ج 2: 237 حربى: بليدة في أقصى دجيل بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة. (2) مسكن: موضع قريب من أوانا على نهر دجيل ” معجم البلدان 5: 127 “. (3) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: عسكر. (*)

[ 14 ]

شاملة، فلم يثق به الحسن عليه السلام وعلم احتياله بذلك واغتياله، غير انه لم يجد بدا من إجابته إلى ما التمس (من ترك) (1) الحرب وانفاذ الهدنة، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه، وما كان في خذلان ابن عمه له ومصيره إلى عدوه، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة. فتوثق عليه السلام لنفسه من معاوية لتأكيد الحجة عليه، والاعذار فيما بينه وبينه عند الله عزوجل وعند كافة المسلمين، واشترط عليه ترك سب أمير المؤمنين عليه السلام والعدول عن القنوت عليه في الصلوات، وأن يؤمن شيعته رضي الله عنهم ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق منهم حقه. فأجابه معاوية إلى ذلك كله، وعاهده عليه وحلف له بالوفاء به. فلقا استتمت الهدنة على ذلك، سار معاوية حتى نزل بالنخيلة (2)، وكان ذلك يوم جمعة فصلى بالناس ضحى النهار، فخطبهم وقال في خطبته: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لاتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشئ منها له.


(1) في ” ش “: منه وترك. (2) النخيلة: موضع قرب الكوفة ” معجم البلدان 5: 278 “. (*)

[ 15 ]

ثم سار حتى دخل الكوفة فأقام بها أياما، فلا استتمت البيعة له من أهلها، صعد المنبر فخطب الناس، وذكر أمير المؤمنين عليه السلام فنال منه ونال من الحسن، وكان الحسن والحسين صلوات الله عليهما حاضرين، فقام الحسين ليرد عليه فأخذ بيده الحسن فأجلسه ثم قام فقال: ” أيها الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي. فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألامنا حسبا، وشرنا قدما، وأقدمنا كفرا ونفاقا ” فقال طوائف من أهل المسجد: آمين آمين. ولما استقر الصلح بين الحسن صلوات الله عليه وبين معاوية على ما ذكرناه، خرج الحسن عليه السلام إلى المدينة فأقام بها كاظما غيظه، لازما منزله، منتظرا لامر ربه جل اسمه، إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من إمارته وعزم على البيعة لابنه يزيد، فدس إلى جعدة بنت الاشعث بن قيس – وكانت زوجة الحسن عليه السلام – من حملها على سمه، وضمن لها أن يزوجها بابنه يزيد، وأرسل إليها مائة ألف درهم، فسقته جعدة السم، فبقي عليه السلام مريضا أربعين يوما، ومضى عليه السلام لسبيله في صفر سنة خمسين من الهجرة وله يومئذ ثمان وأربعون سنة، فكانت خلافته عشر سنين، وتولى أخوه ووصيه الحسين عليه السلام غسله وتكفينه ودفنه عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رحمة الله عليها بالبقيع.


[ 16 ]

فصل فمن الاخبار التي جاءت بسبب وفاة الحسن عليه السلام وما ذكرناه من سم معاوية له، وقصة دفنه وما جرى من الخوض في ذلك والخطاب: ما رواه عيسى بن مهران قال: حدثنا عبيدالله بن الصباح قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال: أرسل معاوية إلى جعدة بنت الاشعث بن قيس: أني مزوجك (يزيد ابني) (1)، على أن تسمي الحسن، وبعث إليها مائة ألف درهم، ففعلت وسمت الحسن عليه السلام فسوغها المال ولم يزوجها من يزيد، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا: يا بني مسمة الازواج (2). وروى عيسى بن مهران قال: حدثني عثمان بن عمر قال: حدثنا ابن عون، عن عمر بن إسحاق قال: كنت مع الحسن والحسين عليهما السلام في الدار، فدخل الحسن عليه السلام المخرج (3) ثم خرج فقال: ” لقد سقيت السم مرارا، ما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي، فجعلت أقلبها بعود معي ” فقال له الحسين


(1) في هامش ” ش “: من ابني يزيد. (2) مقاتل الطالبيين: 73، شرح ابن ابي الحديد 16: 49، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 155 / 25. (3) المخرج: الكنيف أو المرحاض. ” مجمع البحرين 2: 294 “.

[ 17 ]

عليه السلام: (ومن سقاكه ؟) فقال: * وما تريد منه ؟ أتريد قتله، إن يكن هو هو فالله أشد نقمة منك، وان لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي برئ ” (1). وروى عبد الله بن إبراهيم عن زياد المخارقي قال: لما حضرت الحسن عليه السلام الوفاة استدعى الحسين بن علي عليهما السلام فقال: ” يا أخي، إني مفارقك ولاحق بربي عزوجل وقد سقيت السم ورميت بكبدي في الطست، وإني لعارف بمن سقاني السم، ومن أين دهيت، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى، فبحقي عليك إن تكلمت في ذلك بشئ، وانتظر ما يحدث الله عز ذكره في، فإذا قضيت فغمضني وغسلني وكفني واحملني على سريري إلى قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وآله لاجدد به عهدا، ثم ردني إلى قبر جدتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها فادفني هناك. وستعلم يا ابن أم أن القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول الله صلى الله عليه وآله فيجلبون في منعكم عن ذلك، وبالله أقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم ” ثم وصى عليه السلام إليه بأهله وولده وتركاته، وما كان وصى به إليه أمير المؤمنين عليه السلام حين استخلفه وأهله لمقامه، ودل شيعته على استخلافه ونصبه لهم علما من بعده.


(1) مقاتل الطالبيين: 74، ثرح ابن ابي الحديد 16: 49، وذكره المسعودي في مروج الذهب 2: 427 باختلاف في الفاظه، وانظر ترجمة الامام الحسن عليه السلام ضمن تاريخ دمشق: 207 – 208، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 156.

[ 18 ]

فلما مضى عليه السلام لسبيله غسله الحسين عليه السلام وكفنه وحمله على سريره، ولم يشك مروان ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول الله صلى الله عليه وآله فتجمعوا له ولبسوا السلاح، فلما توجه به الحسين بن علي عليهما السلام إلى قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله ليجدد به عهدا أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب. وجعل مروان يقول: يا رب هيجا هي خير من دعة أيدفن عثمان في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع النبي ؟ ! لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف. وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أمية، فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت، فإنا ما نريد (أن ندفن صاحبنا) (1) عند رسول الله صلى الله عليه وآله لكنا نريد أن نجدد به عهدا بزيارته، ثم نرده إلى جدته فاطمة عليها السلام فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان وصى بدفنه مع النبي صلى الله عليه وآله لعلمت أنك أقصر باعا من ردنا عن ذلك، لكنه عليه السلام كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما كما طرق ذلك غيره، ودخل بيته بغير إذنه. ثم أقبل على عائشة فقال لها: واسوأتاه ! يوما على بغل ويوما على جمل، تريدين أن تطفئي نور الله، وتقاتلين أولياء الله، ارجعي


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: دفن صاحبنا.

[ 19 ]

فقد كفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين، والله تعالى منتصر لاهل هذا البيت ولو بعد حين (1). وقال الحسين عليه السلام: ” والله لولا عهد الحسن إلي بحقن الدماء، وأن لا أهريق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها، وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لانفسنا “. ومضوا بالحسن عليه السلام فدفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي الله عنها وأسكنها جنات النعيم (2).


(1) في هامش (ح): فقال لها ايضا: تجملت تبغلت * ولو عشت تفيلت لك الثمن من التسع * وفي الكل تطمعت وفي الخرائج والجرائح: قال ابن عباس لعائشة: واسوأتاه ! يوما على بغل ويوما على جمل، وفي رواية: يوما تجملت ويوما تبغلت وان عشت تفيلت، فأخذه ابن الحجاج الشاعر البغدادي فقال: يا بنت أبي بكر * لا كان ولا كنت لك التسع من الثمن * وبالكل تملكت تجملت تبغلت * وان عشت تفيلت (2) هذا الخبر روته العامة والخاصة بتغير ببعض عباراته كل بحسب مذهبه، انظر دلائل الامامة: 61، ومقاتل الطالبيين: 74، شرح النهج الحديدي 16: 49 – 51، والخرائج والجرائح 1: 242 / 8، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 156.

[ 20 ]

باب ذكر ولد الحسن بن علي عليهما السلام وعددهم وأسمائهم وطرف من أخبارهم أولاد الحسن بن علي عليهما السلام خمسة عشر ولدا ذكرا وأنثى: زيد بن الحسن وأختاه أم الحسن وأم الحسين أمهم أم بشير بنت أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجية. والحسن بن الحسن أمه خولة بنت منظور الفزارية. وعمرو بن الحسن وأخواه القاسم و عبد الله ابنا الحسن أمهم أم ولد. و عبد الرحمن بن الحسن أمه أم ولد. والحسين بن الحسن الملقب بالاثرم وأخوه طلحة بن الحسن وأختهما فاطمة بنت الحسن، أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله التيمي. وأم عبد الله وفاطمة وأم سلمة ورقية بنات الحسن عليه السلام لامهات أولاد شتى. فصل فلما زيد بن الحسن رضي الله عنه فكان على صدقات رسول الله


[ 21 ]

صلى الله عليه وآله وأسن، وكان جليل القدر كريم الطبع ظلف النفس (1) كثير البر، ومدحه الشعراء وقصده الناس من الآفاق لطلب فضله. فذكر أصحاب السيرة: أن زيد بن الحسن كان يلي صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله فلما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة: أما بعد فإذا جاءك كتابي هذا، فاعزل زيدا عن صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وادفعها إلى فلان ابن فلان – رجل من قومه – وأعنه على ما استعانك عليه، والسلام. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز إذا كتاب قد جاء (2) منه: أما بعد فإن زيد بن الحسن شريف بني هاشم وذو سنهم،. فإذا جاءك كتابي هذا فاردد إليه صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله واعنه على ما استعانك عليه، والسلام (3). وفي زيد بن الحسن يقول محمد بن بشير الخارجي: إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة (4) نفى جدبها واخضر بالنبت عودها وزيد ربيع الناس في كل شتوة * إذا أخلفت أنواؤها (5) ورعودها


(1) ظلف النفس: عزيزها. ” الصحاح – ظلف – 4: 1399 “. وفي ” م، وهامش ” ش “: ظريف النفس. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: ورد. (3) ذكر الذهبي استخلاف عمر بن عبد العزيز لزيد بن الحسن على الصدقات. انظر سير اعلام النبلاء 4: 487 / 186، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 163 / 2. (4) التلعة: مسيل ماء من أعلى الارض إلى بطن الوادي ” الصحاح – تلع – 3: 1192 “. (5) الانواء: جمع نوء، وهو سقوط نجم وطلوع نجم، وكانت العرب تنسب المطر إلى الانواء، فتقول: مطرنا بنؤ كذا. ” مجمع البحرين – نوأ – 1: 423). وفي هامش ” ش “: =

[ 22 ]

حمول لاشناق (1) الديات كأنه * سراج الدجى إذ قارنته سعودها (2) ومات زيد وله تسعون سنة، فرثاه جماعة من الشعراء وذكروا مآثره ويكوا فضله، فممن رثاه قدامة بن موسى الجمحي فقال: فإن يك زيد غالت الارض شخصه * فقد بان معروف هناك وجود وإن يك أمسى رهن رمس فقد ثوى * به وهو محمود الفعال فقيد سميع إلى المعتر يعلم أنه * سيطلبه المعروف ثم يعود وليس بقوال وقد حط رحله * لملتمس المعروف أين تريد إذا قصر الوغد الدني نما به * إلى المجد آباء له وجدود مباذيل للمولى محاشيد للقرى * وفي الروع عند النائبات أسود إذا انتحل العز الطريف فإنهم * لهم إرث مجد ما يرام تليد إذا مات منهم سيد قام سيد * كريم يبني بعده ويشيد (3) في أمثال هذا مما يطول به الكتاب. وخرج زيد بن الحسن رضي الله عنه من الدنيا ولم يدع الامامة، ولا ادعاها له مدع من الشيعة ولا غيرهم، وذلك ان الشيعة رجلان: إمامي


= الانواء منازل القمر. (1) في هامش ” ش ” و ” م “: الاشناق: ما دون الديات، مثل أروش الجراحات، والشنق أيضا في الزكاة: ما دون النصاب. (2) ذكره البلاذري في أنساب الاشراف 3: 72 / 84 عدا البيت الاول. (3) ذكر البلاذري البيت الاول فقط 3: 72 و 73، وذكر محقق أنساب الاشراف الشيخ المحمودي عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج 6: 302 ب القصيدة كاملة.

[ 23 ]

وزيدي، فالامام يعتمد في الامامة النصوص، وهي معدومة في ولد الحسن عليه السلام باتفاق، ولم يدع ذلك أحد منهم لنفسه فيقع فيه ارتياب. والزيدي يراعي في الامامة بعد علي والحسن والحسين عليهم السلام الدعوة والجهاد، وزيد بن الحسن رحمة الله عليه كان مسالما لبني أمية ومتقلدا من قبلهم الاعمال، وكان رأيه التقية لاعدائه والتألف لهم والمداراة، وهذا يضاد عند الزيدية علامات الامامة كما حكيناه. فأما الحشوية فإنها تدين بإمامة بني أمية، ولا ترى لولد رسول الله صلى الله عليه وآله إمامة على حال. والمعتزلة لا ترى الامامة إلا فيمن كان على رأيها في الاعتزال، ومن تولوا – هم – العقد له بالشورى والاختيار، وزيد على ما قدمنا ذكره خارج عن هذه الاحوال. والخوارج لا ترى إمامة من تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وزيد كان متوليا أباه وجده بلا اختلاف. فصل فلما الحسن بن الحسن فكان جليلا رئيسا فاضلا ورعا، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين عليه السلام في وقته، وله مع الحجاج خبر رواه الزبير بن بكار قال: كان الحسن بن الحسن واليا صدقات أمير المؤمنين عليه السلام في عصره، فساير يوما الحجاج بن يوسف في موكبه – وهو إذ ذاك أمير المدينة – فقال له الحجاج: أدخل


[ 24 ]

عمر بن علي معك في صدقة أبيه، فإنه عمك وبقية أهلك، فقال له الحسن: لا أغير شرط علي ولا أدخل فيها من لم يدخل، فقال له الحجاج: إذا أدخله أنا معك. فنكص الحسن بن الحسن عنه (حتى غفل) (1) الحجاج، ثم توجه إلى عبد الملك حتى قدم عليه فوقف ببابه يطلب الاذن، فمر به يحيى بن أم الحكم فلما رآه يحيى مال إليه وسلم عليه وسأله عن مقدمه وخبره، ثم قال: إني سأنفعك عند أمير المؤمنين – يعني عبد الملك – فلما دخل الحسن ابن الحسن على عبد الملك رحب به وأحسن مساءلته، وكان الحسن قد أسرع إليه الشيب، ويحيى بن أم الحكم في المجلس، فقال له عبد الملك: لقد أسرع إليك إليك الشيب يابا محمد، فقال يحيى: وما يمنعه يا أمير المؤمنين ؟ شيبه أماني أهل العراق، يفد (2) عليه الركب يمنونه الخلافة. فأقبل عليه الحسن فقال: بئس والله الرفد رفدت، لست (3) كما قلت، ولكنا أهل بيت يسرع إلينا الشيب. و عبد الملك يسمع، فأقبل عليه عبد الملك فقال: هلم بما (4) قدمت له، فأخبره بقول الحجاج فقال: ليس ذلك له، أكتب إليه كتابا لا يتجاوزه. فكتب إليه ووصل الحسن بن الحسن فأحسن صلته. فلما خرج من عنده لقيه يحيى بن أم الحكم، فعاتبه الحسن على


(1) كذا في النسح الثلاث، لكن في هامش ” ح ” والبحار: حين غفل، والظاهر ان الصحيح: حتى قفل – بالقاف – أي رجع. انظر مختصر تاريخ دمشق 6: 330. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: يغدو. (3) في هامش ” ش “: ليس. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: ما.

[ 25 ]

سوء محضره وقال له: ما هذا الذي وعدتني به ؟ فقال له يحيى: إيها عنك، فوالله لا يزال يهابك، ولولا هيبتك ما قضى لك حاجة، وما ألوتك رفدا (1). وكان الحسن بن الحسن حضر مع عمه الحسين بن علي عليهما السلام الطف، فلما قتل الحسين وأسر الباقون من أهله، جاءه أسماء بن خارجة فانتزعه من بين الاسرى وقال: والله لا يوصل إلى ابن خولة أبدا، فقال عمر بن سعد: دعوا لابي حسان ابن أخته. ويقال إنه أسر وكان به جراح قد أشفى منها. وروي: أن الحسن بن الحسن خطب إلى عمه الحسين عليه السلام إحدى ابنتيه، فقال له الحسين: ” اختر يا بني أحبهما إليك ” فاستحيا الحسن ولم يحر جوابا، فقال الحسين عليه السلام: (فإني قد اخترت لك ابنتي فاطمة، وهي أكثرهما شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما ” (2). وقبض الحسن بن الحسن رضوان الله عليه وله خمس وثلاثون سنة وأخوه زيد بن الحسن حي، ووصى إلى أخيه من أمه إبراهيم بن محمد بن طلحة.


(1) وذكر البلاذري في انساب الاشراف 3: 73 / 85 الخبر مختصرا، وكذا الذهبي في سير أعلام النبلاء 4: 485، وفي هامش السير نقله عن مصعب الزبيري في نسب قريش: 46، 47، وتاريخ دمشق لابن عساكر 4: 218 آ، ب، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 166. (2) مقاتل الطالبيين: 180، الاغاني 21: 115، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 167 / 3.

[ 26 ]

ولما مات الحسن بن الحسن رحمة الله عليه ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين على قبره فسطاطا، وكانت تقوم الليل وتصوم النهار، وكانت تشبه بالحور العين لجمالها، فلما كان رأس السنة قالت لمواليها: إذا أظلم الليل فقوضوا هذا الفسطاط، فلا أظلم الليل سمعت قائلا يقول هل وجدوا ما فقدوا ؟ فاجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا. ومضى الحسن بن الحسن ولم يدع الامامة ولا ادعاها له مدع، كما وصفناه من حال أخيه زيد رحمة الله عليهما. وأما عمرو والقاسم و عبد الله بنو الحسن بن علي رضوان الله عليهم فإنهم استشهدوا بين يدي عمهم الحسين عليه السلام بالطف رضي الله عنهم وأرضاهم وأحسن عن الدين والاسلام وأهله جزاءهم. و عبد الرحمن بن الحسن رضي الله عنه خرج مع عمه الحسين عليه. السلام إلى الحج فتوفي بالابواء وهو محرم. والحسين بن الحسن المعروف بالاثرم كان له فضل ولم يكن له ذكر في ذلك. وطلحة بن الحسن كان جوادا.


[ 27 ]

باب ذكر الامام بعد الحسن بن علي عليهما السلام وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، ومبلغ سنه، ومدة خلافته، ووقت وفاته وسببها، وموضع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره والامام بعد الحسن بن علي عليهما السلام أخوه الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهم بنص أبيه وجده عليه، ووصية أخيه الحسن إليه. كنيته أبو عبد الله. ولد بالمدينة لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وجاءت به امه فاطمة عليهما السلام إلى جده رسول الله صلى اللة عليه وآله فاستبشر به وسماه حسينا وعق عنه كبشا، وهو وأخوه بشهادة الرسول صلى الله عليه وعليهما سيدا شباب أهل الجنة، وبالاتفاق الذي لا مرية فيه سبطا نبي الرحمة. وكان الحسن بن علي عليهما السلام يشبه بالنبي صلى الله عليه وآله من صدره إلى رأسه، والحسين يشبه به من صدره إلى رجليه، وكانا حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله من بين جميع أهله وولده. روى زاذان عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في الحسن والحسين عليهما السلام:


[ 28 ]

” اللهم إني أحبهما فأحبهما (وأحب من أحبهما) (1) ” (2). وقال عليه وآله السلام: ” امن أحب الحسن والحسين – عليهما السلام – أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله عزوجل أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله خلده في النار ” (3). وقال عليه وآله السلام: ” إن ابني هذين ريحانتاي من الدنيا ” (4). وروى زر بن حبيش، عن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وآله يصلي فجاءه الحسن والحسين عليهما السلام فارتدفاه، فلما رفع رأسه أخذهما أخذا رفيقا، فلما عاد عادا، فلما انصرف أجلس هذا على فخذه وهذا على فخذه، وقال: ” من أحبني فليحب هذين ” (5).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: وأحبب من يحبهما. (2) رواه الترمذي في سننه 5: 656 / ذح 3769 عن اسامة بن زيد، وابن الاثير في أسد الغابة 2: 11، والمتقي الهندي في كنز العمال 13: 666 / 37697، ورواه ابن عساكر عن مسند حصين بن عوف الخثعمي في تاريخ دمشق – ترجمة الاماج الحسين عليه السلام -: 95 بدون جملة (وأحب من احبهما) فراجع هامش الكتاب. (3) ذكره الحاكم النيسابوري في مستدركه 3: 666 باختلاف يسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق – ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 97 / 131 و 98 / 132، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 422، والمتقي الهندي في كنز العمال 12: 119، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 275 / 42. (4) ذكره البخاري في الصحاح 5: 33، باختلاف يسير، والترمذي في سننه 5: 656 / 3770، وابن عساكر في تاريخ دمشق – ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 38 – 39 / 58 – 60، وابن الاثير في اسد الغابة 2: 19، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 154، والمتقي الهندي في كنز العمال 12: 113، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 275 / 42. (5) روى نحوه البيهقي في سننه 2: 263، وابن عساكر في تاريخ دمشق – ترجمة الامام =

[ 29 ]

وكانا عليهما السلام حجة الله تعالى لنبيه عليه وآله السلام في المباهلة، وحجة الله من بعد أبيهما أمير المؤمنين عليه وعليهما السلام على الامة في الدين والاسلام والملة. وروى محمد بن أبي عمير، عن رجاله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” قال الحسن بن علي عليهما السلام لاصحابه: إن لله تعالى مدينتين: إحداهما في المشرق، والاخرى في المغرب، فيهما خلق لله عز وجل لم يهموا بمعصية له قط، والله ما فيهما وما بينهما حجة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين ” (1). وجاءت الرواية بمثل ذلك عن الحسين عليه السلام أنه قال لاصحاب ابن زياد: ” ما بالكم (2) تناصرون علي ؟ ! أم والله لئن قتلتموني لتقتلن حجة الله عليكم، لا والله ما بين جابلقا وجابرسا ابن نبي احتج الله به عليكم غيري ” (3) يعني بجابلقا وجابرسا المدينتين اللتين ذكرهما الحسن أخوه عليه السلام. وكان من برهان كمالهما وحجة اختصاص الله لهما – بعد الذي ذكرناه من مباهلة رسول الله صلى الله عليه وآله بهما – بيعة رسول الله لهما، ولم يبايع صبيا في ظاهر الحال غيرهما، ونزول القرآن بإيجاب


= الحسين عليه السلام -: 83 / 116، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى: 131 و 132، والمتقي الهندي في كنز العمال 12: 121 مختصرا، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 275 / 43. (1) أورد نحوه الصفار في بصائر الدرجات: 359 / 4 و 5، والكليني في الكافي 1: 384 / 5. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: مالكم. (3) انظر نحوه في الطبري 3: 319، الكامل 4: 62.

[ 30 ]

ثواب الجنة لهما على عملهما مع ظاهر الطفولية فيهما، ولم ينزل بذلك في مثلهما، قال الله عز اسمه في سورة هل أتى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ” (1) فعمهما هذا القول مع أبيهما وأمهما عليهم السلام، وتضمن الخبر نطقهما في ذلك وضميرهما الدالين على الآية الباهرة فيهما، والحجة العظمى على الخلق بهما، كما تضمن الخبر عن نطق المسيح عليه السلام في المهد وكان حجة لنبوته، واختصاصه من الله بالكرامة الدالة على محله عنده في الفضل ومكانه. وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وآله بالنص على إمامته وإمامة أخيه من قبله بقوله: ” ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا ” ودلت وصية الحسن عليه السلام إليه على إمامته، كما دلت وصية أمير المؤمنين إلى الحسن على إمامته، بحسب ما دلت وصية رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين على إمامته من بعده. فصل فكانت إمامة الحسين عليه السلام بعد وفاة أخيه بما قدمناه ثابتة، وطاعته – لجميع الخلق – لازمة، وإن لم يدع إلى نفسه عليه السلام


(1) الانسان 76: 8 – 12.

[ 31 ]

للتقية التي كان عليها، والهدنة الحاصلة بينه وبين معاوية بن أبي سفيان فالتزم الوفاء بها، وجرى في ذلك مجرى أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وثبوت إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله مع الصموت، وإمامة أخيه الحسن عليه السلام بعد الهدنة مع الكف والسكوت، وكانوا في ذلك على سنن نبي الله صلى الله عليه وآله وهو في الشعب محصور، وعند خروجه مهاجرا من مكة مستخفيا في الغار وهو من أعدائه مستور. فلما مات معاوية وانقضت مدة الهدنة التي كانت تمنع الحسين ابن علي عليهما السلام من الدعوة إلى نفسه، أظهر أمره بحسب الامكان، وأبان عن حقه للجاهلين به حالا بحال، إلى أن اجتمع له في الظاهر الانصار. فدعا عليه السلام إلى الجهاد وشمر (1) للقتال، وتوجه بولده وأهل بيته من حرم الله وحرم رسوله نحو العراق، للاستنصار بمن دعاه من شيعته على الاعداء. وقدم أمامه ابن عمه مسلم بن عقيل – رضي الله عنه وأرضاه – للدعوة إلى الله والبيعة له على الجهاد، فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه، وضمنوا له النصرة والنصيحة ووثقوا له في ذلك وعاقدوه، ثم لم تطل المدة بهم حتى نكثوا بيعته وخذلوه وأسلموه، فقتل بينهم ولم يمنعوه، وخرجوا إلى الحسين عليه السلام فحصروه ومنعوه المسير في بلاد الله، واضطروه إلى حيث لا يجد ناصرا ولا مهربا منهم، وحالوا بينه وبين ماء الفرات حتى تمكنوا منه وقتلوه، فمضى عليه السلام ظمآن مجاهدا صابرا


(1) في هامش ” ش “: وتشمر.

[ 32 ]

محتسبا مظلوما، قد نكثت بيعته، واستحلت حرمته، ولم يوف له بعهد، ولا رعيت (1) فيه ذمة عقد، شهيدا على ما مضى عليه أبوه وأخوه عليهما أفضل الصلاة والرحمة والتسليم. فصل فمن مختصر الاخبار الي جاءت بسبب دعوته عليه السلام وما أخذه على الناس في الجهاد من بيعته، وذكر جملة من أمره وخروجه ومقتله. ما رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة قالوا: لما مات الحسن بن علي عليهما السلام تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فإن مات معاوية نظر في ذلك. فلما مات معاوية – وذلك للنصف (2) من رجب سنة ستين من الهجرة – كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان – وكان على المدينة من قبل معاوية – أن يأخذ الحسين عليه السلام بالبيعة له، ولا يرخص له في التأخر عن ذلك. فأنفذ الوليد إلى الحسين عليه السلام في الليل فاستدعاه، فعرف الحسين الذي أراد فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: ” إن الوليد قد


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: روعيت. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: في النصف.

[ 33 ]

استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه مني. فصار الحسين عليه السلام إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين عليه السلام، ثم قرأ كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال له الحسين: ” إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرا حتى أبايعه جهرا، فيعرف الناس ذلك ” فقال الوليد له: أجل، فقال الحسين عليه السلام: ” فتصبح وترى رأيك في ذلك ” فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس. فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين عليه السلام وقال: ” أنت – يا ابن الزرقاء – تقتلني أو هو ؟ ! كذبت والله وأثمت ” وخرج (يمشي ومعه) (1) مواليه حتى اتى منزله. فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبدا، فقال الوليد: (الويح لغيرك) (2) يا مروان إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا، سبحان الله ! أقتل حسينا أن


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: فمشى معه. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: ويح غيرك، وما اثبتناه من ” ش ” و ” م ” و ” ح “. قال العلامة المجلسي في البحار 44: 360: قال هذا تعظيما له، أي لا اقول لك ويحك بل أقول لغيرك.

[ 34 ]

قال لا أبايع ؟ ! والله إني لاظن أن امرءا يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت ؟ يقول هذا وهو غير الحامد له في رأيه (1). فأقام الحسين عليه السلام في منزله تلك الليلة، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين. واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليه. وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجها إلى مكة، فلما أصبح الوليد سرح في أثره الرجال، فبعث راكبا من موالي بني أمية في ثمانين راكبا، فطلبوه فلم يدركوه فرجعوا. فلما كان آخر (نهار يوم) (2) السبت بعث الرجال إلى الحسين بن علي عليهما السلام ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسين: ” أصبحوا ثم ترون ونرى ” فكفوا تلك الليلة عنه ولم يلحوا عليه. فخرج عليه السلام من تحت ليلته – وهي ليلة الاحد ليومين بقيا من رجب – متوجها نحو مكة ومعه بنوه واخوته وبنو أخيه وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية – رضوان الله عليه – فإنه لما علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدر أين يتوجه، فقال له: يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي ولست أدخر النصيحة لاحد من الخلق إلا لك وأنت أحق بها، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الامصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن


(1) تاريخ الطبري 5: 339. (2) في هامش ” ش “: النهار من يوم.

[ 35 ]

أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هذه الامصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون أنت لاؤل الاسنة، فإذا خير هذه الاقة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، فقال له الحسين عليه السلام: ” فأين أذهب يا أخي ؟ ” قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن (نبت بك) (1) لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد، حتى تنظر (ما يصير أمر الناس إليه) (2)، فإنك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الامر استقبالا. فقال: ” يا أخي قد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا “. فسار الحسين عليه السلام إلى مكة وهو يقرأ: (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) (3) ولزم الطريق الاعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الاعظم كما صنع (4) ابن الزبير لئلا يلحقك الطلب، فقال: ” لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض “. ولما دخل الحسين مكة كان دخوله إليها (5) ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ: (ولا توجه تلقاء مدين قال


(1) نبت بك: أي لم تجد بها قرارا، ولم تطمئن عليها. ” انظر لسان العرب – نبا – 15: 302 “. (2) في هامش ” ش “: إلى ما يصير امر الناس. (3) القصص 28: 21. (4) في هامش ” ض ” و ” م “: فعل (5) في هامش “: اياها.

[ 36 ]

عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (1) ثم نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها ويطوف، ويأتي الحسين عليه السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كل يومين مرة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه السلام في البلد (2)، وأن الحسين أطوع في الناس منه وأجل. وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسين عليه السلام وامتناعه من بيعته، وما كان من ابن الزبير في ذلك، وخروجهما إلى مكة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان ابن صرد، فذكروا هلاك معاوية فحمدوا الله عليه، فقال سليمان: إن معاوية قد هلك، وإن حسينا قد تقبض (3) على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه (فاعلموه، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه، ونقتل انفسنا دونه، قال:) (4)، فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي عليهما السلام من سليمان بن صرد، والمسيب


(1) القصص 28: 22. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: بالبلد. (3) تقبض ببيعته: انزوى بها ولم يعطهم اياها ” لسان العرب – قبض – 7: 213 “. (4) في ” ش ” و ” م “: بدل ما بين القوسين: ونقتل انفسنا دونه.

[ 37 ]

ابن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر (1)، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة: سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الامة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين (جبابرتها وأغنيائها) (2)، فبعدا له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ؟ والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله. ثم سرحوا الكتاب (3) مع عبد الله بن مسمع الهمداني و عبد الله ابن وال، وأمروهما بالنجاء (4)، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكة (5)، لعشر مضين من شهر رمضان. (ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم) (6) بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي و (عبد الرحمن بن عبد الله الارحبي) (7) وعمارة


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: مظهر. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: عتاتها: اغنيائها. (3) في هامش ” ش “: بالكتاب. (4) النجاء: السرعة ” القاموس ” – المحيط – نجو – 4: 393 “. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: مكة. (6) في ” م “، وهامش ” ش “: ثم كتب أهل الكوفة بعد تسريحهم. (7) في النسخ الخطية: عبد الله بن شداد الارحبي وبعده بأسطر ذكره باسم عبد الرحمن =

[ 38 ]

ابن عبد السلولي إلى الحسين عليه السلام ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والاربعة. ثم لبثوا يومين آخرين وسرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أما بعد: فحي هلا، فإن الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام. وكتب شبث بن ربع وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم و (عروة بن قيس) (1)، وعمرو بن الحجاج الزبيدي و (محمد بن عمرو التيمي) (2): أما بعد: فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند، والسلام. وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس، ثنم كتب مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله وكانا آخر الرسل:


= ابن عبد الله الارحبي والمصادر مجمعة عليه انظر ” تاريخ الطبري 5: 352، انساب الاشراف للبلاذري 3: 158، الفتوح لابن اعثم 5: 32، وقعة الطف لابي مخنف: 92، تذكرة الخواص: 220، وفي الاخبار الطوال: 229: ابن عبيد. (1) لم نجد في كتب الرجال عروة بن قيس، والظاهر ان الصحيح عزرة بن قيس، انظر تاريخ الطبري 5: 353، انساب الاشراف 3: 158، وهو عزرة بن قيس بن عزية الاحمر البجلي الدهني الكوفي. (2) كذا في النسخ الخطية، ولم نجد له في كتب الرجال ترجمة، والظاهر ان الصحيح محمد بن عمير التميمي، انظر تاريخ الطبري 5: 353، انساب الاشراف 3: 158، وهو محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب الدارمي التميمي الكوفي، كان من اشراف أهل الكوفة، لسان الميزان 5: 330، مختصر تاريخ دمشق 23: 151.

[ 39 ]

” بسم الله الرحمن الرحيم من الحسن بن علي إلى الملا من المسلمين والمؤمنين. أما بعد: فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق. وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقثي من أهل بيتي، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل (1) منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله. فلعمري ما الامام إلا الحكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام “. ودعا الحسين بن علي عليهما السلام مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد السلولي و عبد الرحمن بن عبد الله الارحبي، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك. فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وودع من أحب من أهله ثم استأجر دليلين من قيس، (1) في هامش ” ش ” و ” م “: الفضيلة.


[ 40 ]

فأقبلا به يتنكبان الطريق، فضلا وأصابهم عطش شديد فعجزا عن السير، فأومئا له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن ومات الدليلان عطشا. فكتب مسلم بن عقيل – رحمه الله – من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر: أما بعد: فإنني أقبلت من المدينة مع دليلين لي فجارا عن الطريق فضلا واشتد علينا (1) العطش فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت (2،، وقد تطيرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام. فكتب إليه الحسين بن علي عليهما السلام: ” أما بعد: فقد خشيت (3) أن لا يكون حملك على الكتاب إلي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن، فامض لوجهك الذي وجهتك له، والسلام،. فلما قرأ مسلم الكتاب قال: أما هذا فلست أتخوفه على نفسي. فأقبل حتى مر بماء لطئ فنزل به ثم ارتحل منه، فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبيا حين أشرف (4) له


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: عليهما. (2) الخبت: ماء لقبيلة كلب ” معجم البلدان – خبت – 2: 343 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: حسبت. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: اشرأب. ومعناه: مد عنقه لينظر. ” الصحاح – شرب – 1: 154 “.

[ 41 ]

فصرعه، فقال مسلم: نقتل عدونا إن شاء الله. ثم أقبل حتى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيد، وهي التي تدعى اليوم دار سلم بن المسيب. وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين بن علي عليهما السلام وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا، فكتب مسلم رحمه الله إلى الحسين عليه السلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا ويأمره بالقدوم. وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل رضي الله عنه حتى علم مكانه (1)، فبلغ النعمان بن بشير ذلك – وكان واليا على الكوفة من قبل معاوية فأقره يزيد عليها – فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فاتقوا الله – عباد الله – ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغتصب (2) الاموال، إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت علي، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف (3) ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لاضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر. أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل. فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي، حليف بني أمية،


(1) في هامش ” ش “: بمكانه. (2) في هامش ” ش “: وتغصب. (3) القرف: التهمة ” الصحاح – قرف – 4: 1415 “.

[ 42 ]

فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين. فقال له النعمان: أكون (1) من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الاعزين في معصية الله. ثم نزل. وخرج عبد الله بن مسلم فكتب إلى يزيد بن معاوية: أما بعد: فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، فبايعته الشيعة للحسين بن علي، فإن يك لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا، ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضغف. ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه، ثم كتب إليه عمر ابن سعد بن أبي وقاص مثل ذلك. فلما وصلت الكتب إلى يزيد دعا سرجون مولى معاوية فقال: ما رأيك ؟ إن حسينا قد وجه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان بن بشير ضعف وقول سيئ، فمن ترى أن أستعمل على الكوفة ؟ وكان يزيد عاتبا على عبيدالله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت معاوية لو نشر (2) لك حيا أما كنت آخذا برأيه ؟ قال: نعم. قال: فأخرج سرجون عهد عبيدالله بن زياد على الكوفة وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضم المصرين إلى عبيدالله بن زياد، فقال له يزيد: أفعل، ابعث بعهد عبيدالله إليه. ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيدالله بن زياد معه: أما بعد: فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة، يخبروني أن ابن


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: لئن اكون. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: انشر.

[ 43 ]

عقيل بها يجمع الجموع ويشق (1) عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام. وسلم إليه عهده على الكوفة. فسار مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيدالله بالبصرة، فأوصل إليه العهد والكتاب، فأمر عبيدالله بالجهاز من وقته، والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد، ثم خرج من البصرة واستخلف أخاه عثمان، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن أعور الحارثف وحشمه وأهل بيته، حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام إليهم فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين رأوا عبيدالله أنه الحسين، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحبا بابن رسول الله، قدمت خير مقدم. فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا: تأخروا، هذا الامير عبيدالله بن زياد. وسار حتى وافى القصر في الليل، ومعه جماعة قد التفوا به لا يشكون أنه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى حامته (2)، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب، فاطلع إليه النعمان وهو يظنه الحسين فقال: أنشدك الله إلا تنخيت، والله ما أنا مسلم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من أرب، فجعل لا يكلمه، ثم إنه دنا وتدلى


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: ليشق. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: خاصته. وحامته: خاصته واقرباؤه. الصحاح – حمم – 5: 1907 “.

[ 44 ]

النعمان من شرف فجعل يكلمه، فقال: افتح لا فتحت (1)، فقد طال ليلك. وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين فقال: أي قوم ! ابن مرجانة والذي لا إله غيره. ففتح له النعمان ودخل وضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا. وأصبح فنادى في الناس: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والاحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبق (2) امرؤ على نفسه، الصدق ينبي عنك (3) لا الوعيد. ثم نزل فأخذ العرفاء (4) والناس (5) أخذا شديدا فقال: أكتبوا إلى


(1) قال العلامة المجلسي في البحار 44: 361: لا فتحت دعاء عليه أي لا فتحت على نفسك بابا من الخير. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: فليتق. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: ينبي عنك – بغير همز – أي يدفع عنك من النبوة، ويمكن أن يكون من النبأ الخبر اي الصدق يخبر عنك بالحقيقة. والاول سماع والثاني قياس. وقال الجوهري في الصحاح – نبا – 6: 2500: في المثل: ” الصدق ينبي عنك لا الوعيد ” أي ان الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد. وقال أبو عبيد: هو ينبي بغير همز. ويقال: أصله الهمز من الانباء أي ان الفعل يخبر عن حقيقتك لا القول. وقد نقل ابن منظور في لسان العرب: 15 / 302 هذا الكلام ناسبا إياه إلى التهذيب وهو اشتباه والصحيح انه عن الصحاح (4) العرفاء: جمع عريف ” وهو القائم بامور جماعة من الناس يرفعها إلى السلطان، وعمله العرافة ” مجمع البحرين – عرف – 5: 97 “. (5) في ” ش “: بالناس.

[ 45 ]

العرفاء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب، الذين رأيهم الخلاف والشقاق، (فمن يجئ بهم لنا فبرئ) (1)، ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغ علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا، صلب على باب داره، والغيت تلك العرافة من العطاء. ولما سمع مسلم بن عقيل رحمه الله بمجئ عبيدالله بن زياد الكوفة، ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستر واستخفاء من عبيدالله، وتواصوا بالكتمان. فدعا ابن زياد مولى له يقال له معقل، فقاذ: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوكم، وأعلمهم أنك منهم، فإنك لو قد أعطيتها إياهم لقد اطمأنوا إليك ووثقوا بك ولم يكتموك شيئا من أخبارهم، ثم اغد عليهم ورح حتى تعرف مستقر مسلم بن عقيل، وتدخل عليه. ففعل ذلك وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الاسدي في المسجد الاعظم وهو يصلي، فسمع قوما يقولون: هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس إلى جنبه حتى فرغ من صلاته، ثم قال: يا عبد الله ! إني امرؤ من أهل الشام، أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت


(1) في ” ش ” نسخة اخرى: ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم.

[ 46 ]

وحب من أحبهم ؟ وتباكى له وقال: معي ثلاثة آلاف درهم، أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عليه ولا أعرف مكانه، فإني لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفرا من المؤمنين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال وتدخلني على صاحبك، فإنما أنا أخ من إخوانك وثقة عليك، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه. فقال له مسلم بن عوسجة رحمه الله: احمد الله على لقائك إياي فقد سرني ذلك، لتنال الذي تحب، ولينصر الله بك أهل بيت نبيه عليه وآله السلام، ولقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الامر قبل أن يتم، مخافة هذا الطاغية وسطوته، فقال له معقل: لا يكون إلا خيرا، خذ البيعة علي، فأخذ بيعته وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن وليكتمن، فأعطاه من ذلك ما رضي به، ثم قال له: اختلف إلي أياما في منزلي فأنا طالب لك الاذن على صاحبك. فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الاذن فأذن له، فأخذ مسلم بن عقيل رضي الله عنه بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي فقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضا، ويشتري لهم السلاح، وكان بصيرا ومن فرسان العرب ووجوه الشيعة. وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، وهو أول داخل وآخر خارج، حتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم، وكان يخبره به وقتا فوقتا. وخاف هانئ بن عروة عبيدالله بن زياد على نفسه فانقطع من حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أرى هانئا ؟ فقالوا: هو


[ 47 ]

شاك،. فقال: لو علمت بمرضه لعدته، ودعا محمد بن الاشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانئ بن عروة وهي أم يحيى بن هانئ، فقال لهم: ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا ؟ فقالوا: ما ندري وقد قيل إنه يشتكي، قال: قد بلغني أنه قد برئ وهو يجلس على باب داره، فألقوه ومروه ألا يدع ما عليه من حقنا، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب. فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه، فقالوا: ما يمنعك من لقاء الامير ؟ فإنه قد ذكرك وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، فقال لهم: الشكوى تمنعني، فقالوا له: قد بلغه انك تجلس كل عشية على باب دارك، وقد استبطأك، والابطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا. فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها، حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي إني والله لهذا الرجل لخائف، فما ترى ؟ قال: أي عم ! والله ما أتخوف عليك شيئا، ولم تجعل على نفسك سبيلا، ولم يكن حسان يعلم في أي شئ بعث إليه عبيدالله. فجاء هانئ حتى دخل على ابن زياد ومعه القوم، فلما طلع قال ابن زياد: أتتك بحائن (1) رجلاه. فلما دنا من ابن زياد – وعنده شريح القاضي – التفت نحوه فقال:


(1) مثل يضرب لمن يسعى إلى مكروه حتى يقع فيه. ” جمهرة الامثال للعسكري 1: 119 ت 114 “، والحائن: الهالك. ” لسان العرب – حين – 13: 136 “.

[ 48 ]

أريد حباءه ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد (1) وقد كان أول (ما دخل) (2) عليه مكرما له ملطفا، فقال له هانئ: وما ذلك أيها الامير ؟ قال: إيه يا هانئ بن عروة، ما هذه الامور التي تربص في دارك لامير المؤمنين وعامة المسلمين ؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أن ذلك يخفى علي، فقال: ما فعلت، وما مسلم عندي، قال: بلى قد فعلت. فلما كثر ذلك بينهما، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا، – ذلك العين (3) – فجاء حتى وقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا ؟ قال: نعم، وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه فقال: اسمع مني وصدق مقالتي (4)، فوالله لا كذبت، والله ما دعوته إلى منزلي، ولا علمت بشئ من أمره حتى جاءني يسألني (5) النزول فاستحييت من رده، ودخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته، وقد كان من أمره ما كان بلغك، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقا مغلظا ألا أبغيك سوءا ولا غائلة، ولآتينك حتى أضع يدي في يدك، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وانطلق إليه فأمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الارض، فأخرج من ذمامه وجواره. فقال له


(1) البيت لعمرو بن معدي كرب: كتاب سيبويه 1: 276، الاغاني 10: 27، العقد الفريد 1: 121، جمهرة اللغة 6: 361. (2) في هامش ” ش ” نسخة اخرى: ما قدم. (3) العين: الجاسوس ” الصحاح – عين – 6: 2170 “. (4) في هامش ” ش “: قولي. (5) في ” م “: ليسألني.

[ 49 ]

ابن زياد: والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به، قال: لا والله لا آتيك (1) به أبدا، أجيئك بضيفي تقتله ؟ ! قال: والله لتأتين (2) به، قال: لا والله لا آتيك به. فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي – وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره – فقال: أصلح الله الامير، خلني وإياه حتى أكلمه، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، وإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، فقال له مسلم: يا هانئ إني أنشدك الله أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء على عشيرتك، فوالله إني لانفس بك عن القتل، إن هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنما تدفغه إلى السلطان. فقال هانئ: والله إن علي في ذلك للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الاعوان ؟ ! والله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه أبدا. فسمع ابن زياد ذلك فقال: أدنوه مني، فأدني منه فقال: والله لتأتيني به أو لاضربن عنقك، فقال هانئ: إذا والله تكثر البارقة حول دارك فقال ابن زياد: والهفاه عليك ! أبالبارقة تخوفني ؟ وهو يظن أن عشيرته سيمنعونه ؟ ثم قال: أدنو مني، فأدني، فاعترض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب وجهه وأنفه وجبينه وخده حتى كسر


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: لا أجيئك. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: لتأتيني. (*)

[ 50 ]

أنفه وسيل الدماء على ثيابه -، ونثر لحم خده وجبينه على لحيته، حتى كسر القضيب. وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطي، وجاذبه الرجل ومنعه، فقال عبيدالله: أحروري سائر اليوم ؟ قد حل لنا دمك، جروه، فجروه فألقوه في بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، فقال: اجعلوا عليه حرسا، ففعل ذلك به، فقام إليه حسان بن أسماء فقال له: أرسل غدر سائر اليوم ؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتى إذا جئناك به هشمت وجهه، وسيلت دماءه على لحيته، وزعمت أنك تقتله. فقال له عبيدالله: وانك لهاهنا، فأمر به فلهز (1) وتعتع (2) ثم أجلس ناحية. فقال محمد بن الاشعث: قد رضينا بما رآه (3) الامير، لنا كان أو علينا، إنما الامير مؤدب. وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمرو بن الحجاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعة، ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قتل فأعظموا ذلك. فقيل لعبيدالله بن زياد: هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج وأعلمهم أنه حي لم يقتل. فدخل فنظر شريح إليه، فقال هانئ لما رأى شريحا: يا لله ! يا للمسلمين ! أهلكت عشيرتي ؟ ! أين أهل الدين ؟ ! أين أهل البصر (4) ؟ ! والدماء تسيل على


(1) اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر ” الصحاح – لهز – 3: 894 “. (2) تعتعه: حركه بعنف. ” القاموس – تعع – 3: 9 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش ” رأى. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: المصر.

[ 51 ]

لحيته، إذ سمع الرجة (1) على باب القصر فقال: إني لاظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنه إن (دخل علي) (2) عشرة نفر أنقذوني. فلما سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم: إن الامير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، امرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه، فأمرني (3) أن ألقاكم وأن أعلمكم أنه حي، وأن الذي بلغكم من قتله باطل، فقال عمرو بن الحجاج وأصحابه: أما إذ لم يقتل (4) فالحمد لله، ثم انصرفوا. وخرج عبيدالله بن زياد فصعد المنبر، ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فقال: أما بعد: أيها الناس فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحربوا (5)، إن أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر. ثم ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل ! قد جاء ابن عقيل ! فدخل عبيدالله القصر مسرعا وأغلق أبوابه. قال عبد الله بن حازم: أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لانظر ما فعل هانئ، فلما حبس وضرب ركبت فرسي فكنت أول أهل


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: الوجبة. وهي الصوت الساقط. القاموس – وجب – 1: 136 “. (2) في ” ش “: دخل الي. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: وأمرني. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: اما إذا كان لم يقتل. (5) الحرب: أخذ المال قهرا. ” الصحاح – حرب – 1: 108 “.

[ 52 ]

الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عبرتاه ! يا ثكلاه ! فدخلت على مسلم بن عقيل فأخبرته فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملا بهم (1) الدور حوله، وكانوا فيها أربعة آلاف رجل، فناديت: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه، فعقد مسلم لرؤوس الارباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا، فما لبثنا إلا قليلا حتى امتلا المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يتوثبون حتى المساء، فضاق بعبيد الله أمره، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر وليس معه في القصر إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته، واقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم ويفترون على عبيدالله وعلى أبيه ودعا ابن زياد كثير بن شهاب وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير في الكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب (2) ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر محمد بن الاشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: منهم. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: بالحروب.

[ 53 ]

فخرج كثير بن شهاب يخذل (1) الناس عن ابن عقيل، وخرج محمد ابن الاشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، فبعث ابن عقيل إلى محمد ابن الاشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامي، فلما رأى ابن الاشعث كثرة من أتاه تأخر عن مكانه، وجعل محمد بن الاشعث وكثير بن شهاب والقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي يردون الناسر عن اللحوق بمسلم ويخوفونهم السلطان، حتى اجتمع إليهم عدد كثير من قومهم وغيرهم، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين ودخل القوم معهم، فقال له كثير بن شهاب: أصلح الله الامير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك واهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم، فأبى عبيدالله ؟ وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه. وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء وأمرهم شديد، فبعث عبيدالله إلى الاشراف فجمعهم، ثم أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل العصيان (2) الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول (3 االجند من الشام إليهم. وتكلم كثير حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الامير عهدا: لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم (أن يحرم) (4) ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البرئ بالسقيم والشاهد بالغائب، حتى لا


(1) في النسخ: فخذل، وما في المتن من هامش ” ش ” و ” م “. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: المعصية. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: فصول. (4) في هامش ” ش “: ليحرمن.

[ 54 ]

تبقى له بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جنت أيديها. وتكلم الاشراف بنحو من ذلك. فلما سمع الناس مقالهم أخذوا يتفرقون، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجئ الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر ؟ انصرف، فيذهب به فينصرف. فما زالوا يتفرقون حتى أمسى أبن عقيل وصلى المغرب وما (معه إلا ثلاثون) (1) نفسا في المسجد، فلما رأى أنه قد أمسى وما معه إلا أولئك النفر، خرج من المسجد متوجها نحو أبواب كندة، فما بلغ الابواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان، فالتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق، ولا يدله على منزله، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو. فمضى على وجهه متلددا (2) في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة، أم ولد كانت للاشعث بن قيس فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا، وكان بلال قد خرج مع الناس فأمه قائمة تنتظره، فسلم عليها ابن عقيل فردت عليه فقال لها: يا امة الله اسقيني ماء، فسقته وجلس وأدخلت الاناء، ثم خرجت فقالت: يا عبد الله ألم تشرب ؟ قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت ثم أعادت مثل ذلك، فسكت، ثم قالت له في الثالثة: سبحان الله ! يا


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: معه ثلاثون. (2) في هامش ” ش “: التلدد: النظر إلى اليمين والشمال.

[ 55 ]

عبد الله قم عافاك الله إلى أهلك فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أحله لك. فقام وقال: يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في (1) أجر ومعروف، لعلي مكافئك بعد اليوم، فقالت: يا عبد الله وما ذاك ؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني وأخرجوني، قالت: أنت مسلم ؟ قال: نعم، قالت: ادخل، فدخل بيتا في دارها غيير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش. ولم يكن بأسرع أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال لها: والله إنه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه، إن لك لشأنا، قالت: يا بني اله عن هذا، قال: والله لتخبرينني (2)، قالت: أقبل على شأنك ولا تسألني عن شئ، فألح عليها فقالت: يا بني لا تخبرن أحدا من الناس بشئ مما أخبرك به، قال: نعم، فأخذت عليه الايمان فحلف لها، فأخبرته فاضطجع وسكت. ولما تفرق الناس عن مسلم بن عقيل طال على ابن زياد وجعل لا يسمع لاصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمع قبل ذلك، قال لاصحابه: أشرفوا فانظروا، هل ترون منهم أحدا ؟ فأشرفوا فلم يروا أحدا، قال: فانظروا لعلهم تحت الظلال وقد كمنوا لكم،


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: إلى. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: لتخبرني.

[ 56 ]

فنزعوا تخاتج (1) المسجد وجعلوا يخفضون شعل النار (2) في أيديهم وينظرون فكانت أحيانا تضئ لهم واحيانا لا تضئ كما يريدون، فدلوا القناديل (وأطنان القصب تشد) (3) بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلى حتى تنتهى إلى الارض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال (4) وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر، فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد بتفرق القوم، ففتح باب السدة (5) التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر وخرج اصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب (6) أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد، فلم يكن إلا ساعة حتى امتلا المسجد من الناس، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحد يغتاله، وصلى بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من


(1) قال العلامة المجلسي في البحار 44: 362: التختج: لعله معرب ” تخته ” اي نزعوا الاخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم. وان لم يرد بهذا المعنى في اللغة. (2) في هامش ” ش “: النيران. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: وانصاف الطنان تشد. والطنان والاطنان: جمع طن، وهو حزمة القصب ” الصحاح – طنن – 6: 2159 “. (4) الظلال: جمع ظلة وهي السقيفة يستتر بها من الحر والبرد انظر ” مجمع البحرين – ظلل – 5: 417 “. (5) السدة: السقيفة فوق الباب، وقيل هي الساحة بين يدي الباب. ” مجمع البحرين – سدد – 3: 67 “. (6) المناكب: جمع منكب، وهو رئيس العرفاء ” الصحاح – نكب – 1: 228 “.

[ 57 ]

الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، واتقوا (1) الله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. يا حصين بن نمير، ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غدا فاستبر (2) الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل. وكان الحصين بن نمير على شرطه وهو من بني تميم. ثم دخل ابن زياد القصر، وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمره على الناس. فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمد بن الاشعث، فقال: مرحبا بمن لا يستغش ولا يتهم، ثم أقعده إلى جنبه. وأصبح ابن تلك العجوز فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمه، فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فساره، فعرف ابن زياد سراره فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه: قم فائتني به الساعة، فقام وبعث معه قومه، لانه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم (مسلم بن عقيل) (3)، فبعث معه عبيدالله بن عباس السلمى في سبعين رجلا من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل رحمه الله، فلما سمع وقع حوافر


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: اتقوا. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: فاستبرئ، أو استبر أمر من استبار، وبار إذا اختبر أو استبر افتعل من السبر. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: مثل ابن عقيل.

[ 58 ]

الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك، فاختلف هو وبكر بن حمران الاحمري فضرب فم مسلم فشق (1) شفته العليا وأسرع السيف في السفلى ونصلت (2) له ثنيتاه، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق (3) كادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطنان القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيت، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة، فقال له محمد بن الاشعث: لك الامان، لا تقتل نفسك، وهو يقاتلهم ويقول: أقسمت لا أقتل إلا حرا * إني (4) رأيت الموت شيئا نكرا ويجعل (5) البارد سخنا مرا * رد (6) شعاع الشمس فاستقرا كل امرئ يوما ملاق شرا * أخاف أن أكذب أو أغرا فقال له محمد بن الاشعث: إنك لا تكذب ولا تغر، فلا تجزع، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضائريك (7). وكان قد أثخن بالحجارة


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: فقطع. (2) نصل: أي زال. انظر ” الصحاح – نصل – 5: 1830 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: عاتقه. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: وان. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: ويخلط. (6) في هامش ” ش ” و ” م “: ذر. (7) في ” م ” وهامش ” ش “: ولا ضاربيك.

[ 59 ]

وعجز عن التقال، فانبهر وأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فأعاد ابن الاشعث عليه القول: لك الامان، فقال: آمن أنا ؟ قال: نعم. فقال للقوم الذين معه: لي (1) الامان ؟ فقال القوم له: نعم، إلا عبيدالله بن العباس السلمي فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحى ؟ فقال مسلم: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. وأتي ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه، فكأنه عند ذلك أيس (2) من نفسه ودمعت عيناه، ثم قال: هذا أول الغدر، قال له محمد بن الاشعث: أرجو ألا يكون عليك بأس، فقال: وما هو إلا الرجاء، أين أمانكم ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ! وبكى، فقال له عبيدالله ابن العباس السلمي: إن من (3) يطلب مثل الذي تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك. قال: إني والله ما لنفسي بكيت، ولا لها من القتل أرثز، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن (4) أبكي لاهلي المقبلين إلي، أبكي للحسين عليه السلام وآل الحسين. ثم أقبل على محمد بن الاشعث فقال: يا عبد الله إني أراك والله ستعجز عن أماني، فهل عندك خير ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني أن يبلغ حسينا ؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خارج غدا واهل بيته، ويقول له: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم، لا يرى أنه (5) يمسي حتى يقتل، وهو يقول: (1) في هامش ” ش “: الي. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: أحس. (صا) في هامش ” ش ” و ” م،: ان الذي. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: لكني. (5) في هامش ” ش “: ان.


[ 60 ]

ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغرك (1) أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب (2) رأي. فقال ابن الاشعث: والله لافعلن ولاعلمن ابن زياد أني قد آمنتك. وأقبل ابن الاشعث بابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأذن له فدخل على ابن زياد فأخبره خبر ابن عقيل وضرب بكر إياه وما كان من أمانه له، فقال له عبيدالله: وما أنت والامان، كأنا أرسلناك لتؤمنه ! إنما أرسلناك لتأتينا به، فسكت ابن الاشعث، وانتهي بابن عقيل إلى باب القصر وقد اشتد به العطش، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الاذن، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب، وإذا قلة باردة موضوعة على الباب، فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ؟ ما أبردها ! لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم. فقال له ابن عقيل رضي الله عنه: ويلك من أنت ؟ قال: أنا من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لامامه إذ غششته، وأطاعه إذ خالفته، أنا مسلم ابن عمرو الباهلي، فقال له مسلم بن عقيل: لامك الثكل، ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك ! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني. ثم جلس فتساند إلى حائط. وبعث عمرو بن حريث غلاما له فجاءه بقلة عليها منديل وقدح،


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: يغررك. (2) في هامش ” ش “: لمن كذب.

[ 61 ]

فصب فيه ماء فقال له: اشرب، فأخذ كلما شرب امتلا القدح دما من فيه فلا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرة ومرتين، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربته. وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه، فلما دخل لم يسلم عليه بالامرة، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الامير ؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ؟ وان كان لا يريد قتلي ليكثرن سلامي عليه. فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن ؟ قال: كذلك ؟ قال: نعم ؟ قال: فدعني أوص (1) إلى بعض قومي، قال: افعل، فنظر مسلم إلى جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فقال: يا عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي وهي سر، فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيدالله: لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك ؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له: إن عين دينا بالكوفة استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم، فاقضها عني، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين من يرده، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا، فقال عمر لابن زياد: أتدري أيها الامير ما قال لي ؟ إنه ذكر كذا وكذا، فقال له ابن زياد: إنه لا يخونك الامين ولكن قد يؤتمن (2) الخائن ! أما مالك فهو لك ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأما جثته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها، وأما حسين فإن هو لم يردنا لم


(1) في ” ش ” وهامش ” م “: أوصي. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: يتمن.

[ 62 ]

نرده. ثم قال ابن زياد. إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس وهم جميع فشتت بينهم، وفرقت كلمتهم، وحملت بعضهم على بعض. قال: كلا، لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناه لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال له ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق ؟ لم لم تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ قال: أنا أشرب الخمر ؟ ! أم والله إن الله ليعلم أنك تعلم أنك غير صادق، وأنك قد قلت بغير علم، واني لست كما ذكرت، وانك أحق بشرب الخمر مني، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويسفك الدم الحرام على الغصب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه، ولم يرك الله له أهلا. فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟ ! فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما. بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في.


[ 63 ]

الاسلام من الناس. قال له مسلم: أما إنك أحق من أحدث في الاسلام ما لم يكن، وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة. فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعليا وعقيلا عليهم الصلاة والسلام، وأخذ مسلم لا يكلمه. ثم قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم أتبعوه جسده. فقال مسلم بن عقيل رحمة الله عليه: لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني، فقال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف ؟ فدعي بكر بن حمران الاحمري فقال له: اصعد فلتكن (1) أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبر ويستغفر الله ويصلي على رسوله ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم (2) غرونا وكذبونا وخذلونا. وأشرفوا به على موضع الحذائين اليوم، فضربت عنقه وأتبع (جسده رأسه) (3). وقام محمد بن الاشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلمه في هانئ بن عروة فقال: إنك قد عرفت منزلة هانئ في المصر وبيته في العشيرة، وقد علم قومه أني أنا وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك الله لما وهبته لي، فإني أكره عداوة المصر وأهله. فوعده أن يفعل، ثم بدا له فأمر بهانئ في


(1) كذا في النسخ، وهو استعمال نادر، والاولى ” فكن “. كما في الطبري 5: 378، ومروج الذهب 3: 69. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: قومنا. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: رأسه جسده.

[ 64 ]

الحال فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. فأخرج هانئ حتى انتهي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول: وامذحجاه ! ولا مذحج لي اليوم، يا مذحجاه ! يا مذحجاه ! وأين مذحج ؟ ! فلا رأى أن أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف، ثم قال: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه، ووثبوا إليه فشدوه وثاقا، ثم قيل له امدد عنقك، فقال: ما أنا بها سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي، فضربه مولى لعبيدالله – تركي يقال له رشيد – بالسيف فلم يصنع شيئا، فقال هانئ: إلى الله المعاد، اللهم إلى رحمتك ورضوانك، ثم ضربه أخرى فقتله. وفي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة – رحمة الله عليهما – يقول عبد الله بن الزبير الاسدي: إن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل إلى بطل قد هشم السيف وجهه * وآخر يهوي من طمار (1) قتيل أصابهما أمر الامير فأصبحا * أحاديث من يسري بكل سبيل تري جسدا قد غير الموت وجهه (2) * ونضح دم قد سال كل مسيل فتى هو أحيا من فتاة حيية * واقطع من ذي شفرتين صقيل أيركب أسماء (3) الهماليج (4) آمنا * وقد طلبته مذحج بذحول


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: يقال هوى فلان من طمار إذ سقط من مكان عال. قال الاصمعي: انصب عليه من طمار اي من مكان عال مثل قطام. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: لونه. (3) هو أسماء بن خارجة أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانئ إلى ابن زياد. (4) الهملاج: من البراذين الحسنة السير في سرعة وبخترة. ” تهذيب اللغة – هملج – 6: 514، لسان العرب 2: 393 “.

[ 65 ]

تطيف حواليه مراد وكلهم * على رقبة (1) من سائل ومسول فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم * فكونوا بغايا أرضيت بقليل ولما قتل مسلم وهانئ – رحمة الله عليهما – بعث عبيدالله بن زياد برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الا روح التميمي إلى يزيد ابن معاوية، وأمر كاتبه أن يكتب إلى يزيد بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب الكاتب – وهو عمرو بن نافع – فأطال، وكان أول من أطال في الكتب، فلما نظر فيه عبيدالله تكرهه (2) وقال: ما هذا التطويل ؟ وما هذه الفصول (3) ؟ اكتب: أما بعد: فالحمد لله الذي أخذ لامير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه، أخبر أمير المؤمنين أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية والزبير بن الا روح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمرهما، فإن عندهما علما وصدقا وورعا، والسلام. فكتب إليه يزيد: أما بعد: فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيت وكفيت


(1) في هامش ” ش “: اي هم يراقبون احوال من يسألهم ويسألونه عن هذه الواقعة. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: كرهه. (3) في الطبري: الفضول، ولكل وجه.

[ 66 ]

وصدقت ظني بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا، وإنه قد بلغني أن حسينا قد توجه إلى (1) العراق فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنة واقتل على التهمة، واكتب إلي فيما يحدث من خبر إن شاء الله (2). فصل وكان خروج مسلم بن عقيل – رحمة الله عليهما – بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتله يوم الاربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجه الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة – وهو يوم التروية – بعد مقامه بمكة بقية شعبان (3) وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكان قد اجتمع إليه مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة، انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: نحو. (2) كل ما مر في هذا الفصل فهو في تاريخ الطبري 5: 347 – 381، ومقاطعه في فتوح ابن اعثم 5: 31، الاخبار الطوال: 227، وقعة الطف: 77، مقاتل الطالبيين: 95، مقتل الخوارزمي 1: 180، مناقب ابن شهرآشوب 4: 87، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 324 / 2. (3) مبدؤه ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، وهو يوم دخوله مكة.

[ 67 ]

ولما أراد الحسين عليه السلام التوجه إلى العراق، طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحل من إحرامه وجعلها عمرة، لانه لم يتمكن من تمام الحج مخافة أن يقبض عليه بمكة فينفذ إلى يزيد بن معاوية، فخرج عليه السلام مبادرا بأهله وولده ومن انضم إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه لخروجه يوم خروجه على ما ذكرناه. فروي عن الفرزدق الشاعر أنه قال: حججت بأمي في سنة ستين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن علي عليهما السلام خارجا من مكة معه أسيافه وتراسه (1) فقلت: لمن هذا القطار ؟ فقيل: للحسين بن علي، فأتيته فسلمت عليه وقلت له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب، بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحج ؟ فقال: ” لو لم أعجل لاخذت ” ثم قال لي: ” من أنت ؟ ” قلت: امرؤ من العرب، فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك، ثم قال لي: ” أخبرني عن الناس خلفك ” فقلت: الخبير سألت، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء،. فقال: ” صدقت، لله الامر، وكل يوم ربنا هو في شأن، (إن نزل القضاء) (2) بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سريرته ” فقلت له: أجل، بلغك الله ما تحب وكفاك ما تحذر، وسألته


(1) تراس: جمع ترس، وهو ما يستتر به المقاتل من عدوه في الحرب، انظر ” الصحاح – ترس – 3: 910 “. (2) في هامش ” ش “: ان ينزل القضاء.

[ 68 ]

عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها، وحرك راحلته وقال: ” السلام عليك ” ثم افترقنا (1). وكان الحسين بن علي عليهما السلام لما خرج من مكة اعترضه يحيى بن سعيد بن العاص، ومعه جماعة أرسلهم عمرو بن سعيد (2) إليه، فقالوا له: انصرف، إلى أين تذهب، فأبى عليهم ومضى وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعا قويا. وسار حتى أتى التنعيم (3) فلقي عيرا قد أقبلت من اليمن، فاستأجر من أهلها جمالا لرحله وأصحابه، وقال لاصحابها: ” من احب أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراء على قدر ما قطع من الطريق ” فمضى معه قوم وامتنع آخرون. وألحقه عبد الله بن جعفر رضي الله عنه بابنيه عون ومحمد، وكتب على أيديهما إليه كتابا يقول فيه: أما بعد: فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الارض، فإنك


(1) ذكره ابن اعثم في الفتوح 5: 77، والخوارزمي في مقتله 1: 223، والطبري في تاريخه 5: 386، باختلاف يسير، ومختصرا في مناقب ابن شهرآشوب 4: 95، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 365. (2) في هامش ” ش “: كان امير مكة من قبل يزيد. (3) التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة وقيل على أربعة ” معجم البلدان 2: 49 “.

[ 69 ]

علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير فإني في أثر كتابي، والسلام. وصار عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أمانا ويمنيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتابا يمنيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد، فلحقه يحيى و عبد الله ابن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتاب وجهدا به في الرجوع فقال: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام، وأمرني بما أنا ماض، له ” فقالا له: فما تلك الرؤيا ؟ قال: ” ما حدثت أحدا بها، ولا أنا محدث أحدا حتى ألقى ربي عزوجل ” فلما أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عونا ومحمدا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكة. وتوجه الحسين عليه السلام نحو العراق مغذا (1) لا يلوي على شئ حتى نزل ذات عرق (2). ولما بلغ عبيدالله بن زياد إقبال الحسين عليه السلام من مكة إلى الكوفة، بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه حتى نزل القادسية (3)، ونظم الخيل بين القادسية إلى خفان (4)، وما بين القادسية إلى القطقطانة (5).


(1) الاغذاذ في السير: الاسراع فيه. ” الصحاح غذذ – 2: 567 “. (2) ذات عرق: مكان في طريق مكة وهو الحد بين نجد وتهامة. ” معجم البلدان 4: 107 “. (3) القادسية: موضع بالعراق. معجم البلدان 4: 291 “. (4) خفان: موضع فوق القادسية. ” معجم البلدان 2: 379 “. (5) القطقطانة: موضع قرب الكوفة. كان به سجن النعمان بن المنذر ” معجم =

[ 70 ]

وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق. ولما بلغ الحسين عليه السلام الحاجر من بطن الرمة (1)، بعث قيس بن مسهر الصيداوي، – ويقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر (2) – إلى أهل الكوفة، ولم يكن عليه السلام علم بخبر مسلم ابن عقيل رحمة الله عليهما وكتب معه إليهم: ” بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الاجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (3) في أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله “.


= البلدان 4: 374 “. (1) بطن الرمة: منزل يجمع طريق البصرة والكوفة إلى المدينة المنورة ” مراصد الاطلاع 2: 634 “. (2) كذا في النسخ الخطية وكذا ضبطه علماؤنا الا ان ابن داود ذكر قولا بالباء – بقطر -: 125 / 920، وهو قول الطبري في تاريخه 5: 398، وضبطه ابن الاثير بالباء كما في الكامل 4: 42، وفي القاموس المحيط: 376: بقطر – كعصفر – رجل. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: فأكمشوا. وكلاهما بمعنى أسرعوا.

[ 71 ]

وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، وكتب إليه أهل الكوفة: ان لك هاهنا مائة ألف سيف فلا تتأخر. فأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين عليه السلام حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فأنفذه (1) إلى عبيدالله بن زياد، فقال له عبيدالله: اصعد فسب الكذاب الحسين بن علي، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله وأنا رسوله إليكم فأجيبوه، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالب عليه السلام وصلى عليه فأمر به عبيداللته أن يرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطع. فصل وروي: أنه وقع إلى الارض مكتوفا فتكسرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعيب عليه، فقال: أردت أن أريحه (2). ثم أقبل الحسين عليهما السلام من الحاجر يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به، فلما رأى الحسين عليه السلام قام إليه فقال: بأبي أنت وأمي – يا ابن رسول


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: فبعث به. (2) تاريخ الطبري 5: 398، كامل ابن الاثير 4: 43، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 228، مناقب ابن شهرآشوب 4: 95، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 370.

[ 72 ]

الله – ما أقدمك ؟ واحتمله وأنزله، فقال له الحسين عليه السلام: ” كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم ” فقال له عبد الله بن مطيع: أذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنتهك، أنشدك الله في حرمة قريش، أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابوا (1) بعدك أحدا أبدا، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرض نفسك لبني أمية. فأبى الحسين عليه السلام إلاآ أن يمضي. وكان عبيدالله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة (2) إلى طريق الشام إلى طريق البصرة، فلا يدعون أحدا يلج ولا أحدا يخرج، وأقبل الحسين عليه السلام لا يشعر بشئ حتى لقي الاعراب، فسألهم فقالوا: لا والله ما ندري، غير إنا لا نستطيع أن نلج (أو نخرج) (3). فسار تلقاء وجهه عليه السلام. وحدث جماعة من فزارة ومن بجيلة قالوا: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة، فكنا نساير الحسين عليه السلام فلم يكن شئ أبغض إلينا من أن ننازله في منزل، فإذا سار الحسين عليه السلام ونزل منزلا لم نجد بدا من أن ننازله، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتى سلم ثم دخل، فقال: يا


(1) كذا في النسخ وله وجه، والاولى ” لا يهابون ” كما في الطبري. (2) واقصة: موضع في طريق مكة إلى العراق ” معجم البلدان 5: 354 “. (3) في ” ش ” و ” م “: ولا نخرج، وما اثبتناه من هامشهما.

[ 73 ]

زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بعثني إليك لتأتيه. فطرح كل إنسان منا ما في يده حتى كأن على رؤوسنا الطير، فقالت له امرأته: سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه، لو أتيته فسمعت من كلامه، ثم انصرفت. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه فقوض وحمل إلى الحسين عليه السلام، ثم قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير، ثم قال لاصحابه: من أحب منكم أن يتبعني، وإلا فهو آخر العهد، إني سأحدثكم حديثا: إنا غزونا البحر (1)، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي رضي الله عنه: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم ؟ فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم اليوم من الغنائم. فأما أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم والله ما زال في القوم مع الحسين عليه السلام حتى قتل رحمة الله عليه (2). وروى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الاسديان قالا: لما قضينا حجنا لم تكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين عليه السلام في الطريق، لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترقل (3) بنا


(1) كذا في النسخ، وفي وقعة الطف لابي مخنف وتاريخ الطبري: (بلنجر): وهي مدينة ببلاد الروم. انظر ” معجم ما استعجم 1: 376 “. (2) وقعة الطف لابي مخنف: 161، تاريخ الطبري 5: 396، الكامل في التاريخ 4: 42، ومختصرا في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1: 225، عن أحمد بن اعثم. (3) أرقلت في سيرها: أسرعت. ” مجمع البحرين – رقل – 5: 385 “.

[ 74 ]

نياقنا (1) مسرعين حتى لحقنا بزرود (2)، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه السلام، فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه ومضى، ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا لنسأله فإن عنده خبر الكوفة، فمضينا حتى انتهينا إليه فقلنا: السلام عليك، فقال: وعليكم السلام، قلنا: ممن الرجل ؟ قال: أسدي، قلت: ونحن أسديان، فمن أنت ؟ قال: أنا بكر بن فلان، وانتسبنا له ثم قلنا له: أخبرنا عن الناس وراءك، قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق. فأقبلنا حتى لحقنا الحسين صلوات الله عليه فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا، فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام، فقلنا له: رحمك الله، إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك علانية، وان شئت سرا، فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال: ” ما دون هؤلاء ستر ” فقلنا له: رأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس ؟ قال: (نعم، وقد أردت مسألته) فقلنا: قد والله استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانئ، ورأهما يجران في السوق بأرجلهما: فقال: ” إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما “


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ناقتانا. (2) زرود: موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية. ” معجم البلدان 3: 139 “. (*)

[ 75 ]

يكرر (1) ذلك مرارا، فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل فقال: ” ما ترون ؟ فقد قتل مسلم ” فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق، فأقبل علينا الحسين عليه السلام وقال: ” لا خير في العيش بعد هؤلاء ” فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خار الله لك، فقال: (رحمكما الله). فقال له أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم ابن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فسكت ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: ” اكثروا من الماء ” فاستقوا وأكثروا ثم ارتحلوا، فسار حتى انتهى إلى زبالة ” 2) فأتاه خبر عبد الله بن يقطر، فأخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم (3): ” بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، و عبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام ” فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا، حتى بقي في أصحابه


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: يردد. (2) زبالة: منزل بطريق مكة من الكوفة. ” معجم البلدان 3: 129 “. (3) رواه الطبري في تاريخه 5: 397، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام 1: 228، وذكره أبو الفرج في مقاتله: 110 مختصرا، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 372.

[ 76 ]

الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضووا إليه. وإنما فعل ذلك لانه عليه السلام علم أن الاعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه وهم يظنون أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلآ وهم يعلمون على ما (1) يقدمون. فلما كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماء وأكثروا، ثم سار حتى مر ببطن العقبة (فنزل عليها) (2)، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوذان، فسأله: أين تريد ؟ فقال له الحسين عليه السلام: ” الكوفه ” فقال الشيخ: أنشدك الله لما انصرفت، فوالله ما تقدم إلا على الاسنة وحد السيوف، وان هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطؤوا لك الاشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل. فقال له: ” يا عبد الله، ليس يخفى علي الرأي، ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره، ثم قال عليه السلام: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الامم ” (3). ثم سار عليه السلام من بطن العقبة حتى نزل شراف (4)، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثم سار منها حتى


(1) كذا في النسخ، والاصح: علام. (2) في النسخ الخطية: فنزل عنها، وما في المتن من هامش ” ش “. (3) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1: 228، عن ابن اعثم، ولم نجده في الفتوح ولعله عن غيره، تاريخ الطبري 5: 397، عن ابي مخنف. عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الاسديين، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 372. (4) شراف: موضع بنجد ” معجم البلدان 3: 331 “.

[ 77 ]

انتصف النهار، فبينا هو يسير إذ كبر رجل من أصحابه فقال له الحسين عليه السلام: ” الله أكبر، لم كبرت ؟ ” قال: رأيت النخل، فقال له جماعة من أصحابه: والله إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال الحسين عليه السلام: ” فما ترونه ؟ ” قالوا: نراه والله آذان (1) الخيل قال: ” أنا والله أرى ذلك ” ثم قال عليه السلام: ” ما لنا (2) ملجأ نلجا إليه فنجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ ” فقلنا: بلى، هذا ذو حسمى (3) إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا (هوادي الخيل) (4) فتبيناها وعدلنا، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب (5)، وكأن راياتهم أجنحة الطير، فاستبقنا إلى ذي حسمى فسبقناهم إليه، وأمر الحسين عليه السلام بأبنيته فضربت.


(1) في ” م “: أداني، وقد كتب تحتها: جمع ادنى. (2) في هامش ” ش “: أمالنا. (3) في هامش ” م “: حسمى – هكذا في نسخة الشيخ. وهامش آخر في ” ش ” و ” م “: حسمى بكسر الحاء جبال شواهق بالبادية، قد ذكرها النابغة في شعره قال: فأصبح عاقلا بجبال حسمي * دقاق الترب مخترم القتام وفي هامشهما كتبت: ذو جشم، ذوجشم، جسم، حسم، وفي ” م “: ذي حسى. (4) اقبلت هوادي الخيل: إذا بدت أعناقها. ” الصحاح – هدى – 6: 2534 “. (5) اليعسوب: طائر أطول من الجرادة لا يضم ” الصحاح – عسب – 1: 181 ” وفي هامش ” ش “: الاصل في اليعسوب فحل النحل.

[ 78 ]

وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليه السلام في حر الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: ” اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفا ” ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس (1) من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر، حتى سقوها كلها. فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: ” أنخ الراوية ” والراوية عندي السقاء، ثم قال: ” يا ابن أخي أنخ الجمل ” فأنخته فقال: ” اشرب ” فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين عليه السلام: ” اخنث السقاء ” أي اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي. وكان مجئ الحر بن يزيد من القادسية، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره أن ينزل القادسية، وتقدم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم حسينا، فلم يزل الحر مواقفا للحسين عليه السلام حتى حضرت صلاة الظهر، وأمر الحسين الحجاج بن مسرور أن يؤذن، فلما حضرت الاقامة خرج الحسين عليه السلام


(1) الطساس: جمع طس وهو معرب طست وهو اناء معروف ” مجمع البحرين – طست – 2: 210 “.

[ 79 ]

في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ” أيها الناس، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم: أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فاعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم ” فسكتوا عنه ولم يتكلم أحد منهم بكلمة. فقال للمؤذن: ” أقم ” فأقام الضلاة فقال للحر: ” أتريد أن تصلي بأصحابك ؟ ” قال: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك. فصلى بهم الحسين بن علي عليهما السلام ثم دخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه، فدخل خيمة قد ضربت له واجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها. فلما كان وقت العصر أمر الحسين بن علي عليه السلام أن يتهتؤوا للرحيل ففعلوا، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقام (1) الحسين عليه السلام فصلى بالقوم ثم سلم وانصرف إليهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ” أما بعد: أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لاهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد، وأولى بولاية هذا الامر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان،


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: فاستقدم.

[ 80 ]

وإن أبيتم إلا كراهية (1) لنا والجهل بحقنا، فكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم، انصرفت عنكم “. فقال له الحر: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فقال الحسين عليه السلام لبعض أصحابه: ” يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي ” فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرت بين يديه، فقال له الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك، ألا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على غبيدالله. فقال له الحسين عليه السلام: ” الموت أدنى إليك من ذلك ” ثم قال لاصحابه: ” قوموا فاركبوا ” فركبوا وانتظر حتى ركب نساؤهم، فقال لاصحابه: ” انصرفوا ” فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين عليه السلام للحر: ” ثكلتك أمك، ما تريد ؟ ” فقال له الحر: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها، ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه، فقال له الحسين عليه السلام: ” فما تريد ؟ ” قال: أريد أن أنطلق بك إلى الامير عبيدالله بن زياد، قال: ” إذا والله لا أتبعك ” قال: إذا والله لا أدعك. فترادا القول ثلاث مرات. فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر: إني لم أؤمر بقتالك، إنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذ أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفا، حتى أكتب إلى الامير. وتكتب إلى يزيد أو إلى عبيدالله فلعل الله إلى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: الكراهية.

[ 81 ]

بشئ من أمرك، فخذ هاهنا. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسين عليه السلام وسار الحر في أصحابه يسايره وهو يقول له: يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال له الحسين عليه السلام: ” أفبالموت تخوفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الاوس لابن عمه، وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله فخوفه ابن عمه وقال: أين تذهب ؟ فإنك مقتول، فقال: سأمضي فما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبورا وباعد (1) مجرما فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم * كفى بك ذلا أن تعيش وترغما ” بلما سمع ذلك الحر تنحى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحية، والحسين عليه السلام في ناحية أخرى، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات (2). ثم مضى الحسلات عليه السلام حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به، فإذا هو بفسطاط مضروب فقال: ” لمن هذا ؟ ” فقيل: لعبيدالله بن الحر الجعفي، فقال: ” ادعوه إلي ” فلما أتاه الرسول قال له: هذا الحسين بن علي يدعوك، فقال عبيدالله: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن أراه ولا يراني ؟ فأتاه الرسول فأخبر فقام الحسين عليه


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: وخالف. (2) عذيب الهجانات: موضع في العراق قرب القادسية ” معجم البلدان 4: 92 “.

[ 82 ]

السلام فجاء حتى دخل عليه فسلم وجلس، ثم دعاه إلى الخروج معه، فأعاد عليه عبيد الله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه، فقال له الحسين عليه السلام: ” فإن لم تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، والله لا يسمع واعيتنا (1) أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك ” فقال: أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله ثم قام الحسين عليه السلام من عنده حتى دخل رحله. ولما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء، ثم أمر بالرحيل، فارتحل من قصر بني مقاتل، فقال عقبة بن سمعان: سرنا معه ساعة فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه، وهو يقول: ” إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين ” ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين عليهما السلام على فرس فقال: مم حمدت الله واسترجعت ؟ فقال: ” يا بني، إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ” فقال له: يا أبت لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق ؟ قال: ” بلى، والذي إليه مرجع العباد ” قال: فإننا إذا لا نبالي أن نموت محقين، فقال له الحسين عليه السلام: ” جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده “. فلما أصبح نزل فصلى الغداة ثم عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد ان يفرقهم، فيأتيه الحر بن يزيد فيرده وأصحابه، فجعل إذا ردهم نحو الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم


(1) الواعية: الصارخة. ” الصحاح – وعى – 6: 2526 “.

[ 83 ]

يزالوا يتياسرون كذاك حتى انتهوا إلى نينوى – المكان الذي نزل به الحسين عليه السلام – فإذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه (1) فلما انتهى إليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلتم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحر كتابا من عبيدالله بن زياد فإذا فيه: أما بعد فجعجع (2) بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله (3) إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام. فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الامير عبيدالله يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتي كتابه، وهذا رسوله وقد أمره ألا يفارقني حتى أنفذ أمره. فنظر يزيد بن المهاجر الكناني (4) – وكان مع الحسين عليه السلام – إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له يزيد: ثكلتك أمك، ماذا جئت فيه ؟ قال: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال له ابن المهاجر: بل عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الامام إمامك، قال الله عز من قائل


(1) في هامش ” ش “: ينظرونه. (2) في الصحاح – جعجع – 3: 1196: كتب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد: أن جعجع بحسين. قال الاصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الاعرابي: يعني ضيق عليه. (3) في ” ش ” و ” م “: تتركه، وما في المتن من هامشهما. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: الكندي.

[ 84 ]

(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) (1) فإمامك منهم. وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية، فقال له الحسين عليه السلام: ” دعنا – ويحك – ننزل في هذه القرية أو هذه – يعني نينوى والغاضرية – أو هذه – يعني شفنة (2) – ” قال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث الي عينا علي، فقال له زهير بن القين: إني والله ما أراه يكون بعد هذا الذي ترون إلا أشد مما ترون، يا ابن رسول الله، إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قبل لنا به، فقال الحسين عليه السلام: ” ما كنت لابدأهم بالقتال ” ثم نزل، وذلك يوم الخميس وهو اليوم (3) الثاني من المحرم سنة إحدى وستين. فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس، فنزل بنينوى وبعث إلى الحسين عليه السلام (عروة بن قيس) (4) الاحمسي فقال له: ائته فسله ما الذي جاء بك ؟ وماذا تريد ؟ وكان عروة ممن كتب إلى الحسين عليه السلام فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلهم


(1) القصص 28: 41. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: شفينة، شفية. وكأنها شفاثا. في هامش ” م) نسخة أخرى: مسقية. (3) في ” م ” و ” ش “: يوم، وما في المتن من ” ح ” وهامش ” ش “. (4) انظر ص 38 هامش (1) من هذا الكتاب.

[ 85 ]

أبى ذلك وكرهه، فقام إليه كثير بن عبد الله الشعبي وكان فارسا شجاعا لا يرد وجهه شئ فقال: أنا أذهب إليه، ووالله لئن شئت لافتكن به، فقال له عمر: ما أريد أن تفتك به، ولكن ائته فسله ما الذي جاء بك ؟ فأقبل كثير إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين عليه السلام: أصلحك الله يا أبا عبد الله، قد جاءك شر أهل الارض، وأجرؤهم على دم، وأفتكهم (1). وقام إليه فقال له: ضع سيفك، قال: لا ولا كرامة، إنما أنا رسول، فإن سمعتم مني بلغتكم ما أرسلت به إليكم، وان أبيتم انصرفت عنكم، قال: فإني آخذ بقائم سيفك، ثم تكلم بحاجتك، قال: لا والله لا تمسه، فقال له: أخبرني بما جئت به وأنا أبلغه عنك، ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر، فاستبا وانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر. فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فقال له: ويحك يا قرة، الق حسينا فسله ما جاء به وماذا يريد ؟ فأتاه قرة فلما رآه الحسين مقبلا قال: ” أتعرفون هذا ؟ ” فقال له حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من حنظلة تميم، وهو ابن أختنا، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد. فجاء حتى سلم على الحسين عليه السلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه، فقال له الحسين: ” كتب إلي أهل مصركم هذا أن اقدم، فأما إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم ” ثم قال حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرة أين ترجع ؟ ! إلى القوم الظالمين ؟ ! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة، فقال له قرة ؟ أرجع إلى صاحبي


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: وأجرأه على دم وأفتكه.

[ 86 ]

بجواب رسالته، وأرى رأيي. قال: فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر ؟ فقال عمر: أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله، وكتب إلى عبيدالله بن زياد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني حين نزلت بالحسين بعثت إليه رسلي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ؟ فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد، وأتتني رسلهم يسألونني القدوم ففعلت، فأما إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم. قال حسان بن قائد العبسي: وكنت عند عبيدالله حين أتاه هذا الكتاب، فلما قرأه قال: ألآن إذ علقت مخالبنا به * يرجو النجاة ولات حين مناص وكتب إلى عمر بن سعد: أما بعد: فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه، فإذا فعل هو ذلك رأينا رأينا، والسلام. فلما ورد. الجواب على عمر بن سعد قال: قد خشيت ألا يقبل ابن زياد العافية. وورد كتاب ابن زياد في الاثر إلى عمر بن سعد: أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان. فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة


[ 87 ]

أيام، ونادى عبد الله بن الحصين (1) الازدي – وكان عداده في بجيلة – بأعلى صوته: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشا، فقال الحسين عليه السلام: ” اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا “. قال حميد بن مسلم: والله لعدته بعد ذلك في مرضه، فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيته يشرب الماء حتى يبغر (2) ثم يقيئه، ويصيح: العطش العطش، ثم يعود فيشرب الماء حتى يبغر ثم يقيئه ويتلظى عطشا، فما زال ذلك دأبه حتى (لفظ نفسه) (3). ولما رأى الحسين نزول العساكر مع عمر بن سعد بنينوى ومددهم لقتاله أنفذ إلى عمر بن سعد: ” اني أريد أن ألقاك (4) ” فاجتمعا ليلا فتناجيا طويلا، ثم رجع عمر بن سعد إلى مكانه وكتب إلى عبد الله بن زياد: أما بعد: فإن الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الامة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا [ لكم ] (5) رضى وللامة صلاح.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: حصن. (2) بغر: كثر شربه للماء، انظر ” العين – بغر – 4: 415). (3) في هامش ” ش “: مات. (4) في هامش ” ش ” بعده اضافة: واجتمع معك. (5) ما بين المعقوفين اثبتناه من تاريخ الطبري 5: 414، والكامل لابن الاثير 4: 55 =

[ 88 ]

فلما قرأ، عبيدالله الكتاب قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك ؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك، ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فان عاقبت فأنت (أولى بالعقوبة) (9) وإن عفوت كان ذلك لك. قال له ابن زياد: نعم ما رأيت، الرأي رأيك، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وأن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الجيش، واضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وكتب إلى عمر بن سعد: اني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتعتذر له ولا لتكون له عندي شافعا، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعت بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، وإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عات ظلوم، وليس أرى أن هذا يضر بعد الموت شيئا، ولكن علي قول قد قلته: لو قتلته لفعلث هذا به، فإن أنت مضيت لامرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وان أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل


= والنسخ خالية منه. (1) * في هامش ” ش “: ولي العقوبة.

[ 89 ]

بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام. فأقبل شمر بكتاب عبيدالله إلى عمر بن سعد، فلما قدم عليه وقرأه قال له عمر: ما لك ويلك ؟ ! لا قرب الله دارك، قبح الله ما قدمت به علي، والله إني لاظنك أنك نهيته (9) أن يقبل ما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أمرنا، قد كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إن نفس أبيه لبين جنبيه. فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لامر أميرك وتقاتل عدوه ؟ وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر، قال: لا، لا والله ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولى ذلك، فدونك فكن أنت على الرجالة. ونهض عمر بن سعد إلى الحسين عشية الخميس لتسع مضين من المحرم. وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال: أين بنو أختنا ؟ فخرج إليه العباس وجعفر (2) وعثمان بنو علي بن أبي طالب عليه وعليهم السلام فقالوا: ما تريد ؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا (3) وابن رسول الله لا أمان له ؟ ! ثم نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وأبشري، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر، وحسين عليه السلام جالس أمام بيته محتب بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: ثنيته. (2) في هامش ” ش “: و عبد الله، وفوقه مكتوب: لم يكن في نسخة الشيخ. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: تؤمننا.

[ 90 ]

الصيحة (1) فدنت من أخيها فقالت: يا أخي أما تسمع الاصوات قد اقتربت ؟ فرفع الحسين عليه السلام رأسه فقال: ” إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله الساعة في المنام (2) فقال لي: إنك تروح إلينا ” فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل، فقال لها: ” ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله ” وقال له العباس بن علي رحمة الله عليه: يا أخي أتاك القوم، فنهض ثم قال: ” يا عباس، اركب – بنفسي أنت يا أخي – حتى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم ؟ وتسالهم عما جاء بهم “. فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارسا، منهم (3) زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس: ما بدا لكم وما تريدون ؟ قالوا: جاء أمر الامير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فاعرض عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: القه فأعلمه، ثم القنا بما يقول لك. فانصرف العباس راجعا يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم، ويكفونهم عن قتال الحسين. فجاء العباس إلى الحسين عليه السلام فأخبره بما قال القوم، فقال: ” ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغدوة (4) وتدفعهم


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الضجة. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: منامي. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: فيهم. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: غدوة.

[ 91 ]

عنا العشية، لعلنا نصلى لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار “. فمضى العباس إلى القوم ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيدالله بن زياد، وان أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف. فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء. قال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: ” فدنوت منه لاسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لاصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما بعد: فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا، ألا وإني لاظن أنه آخر (1) يوم لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا. فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك ؟ ! لنبقى بعدك ؟ ! لا أرانا الله ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علي رضوان الله عليه واتبعته الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه.


(1) في ” ش ” و ” م “: لاظن يوما. وما اثبتناه من ” ح.

[ 92 ]

فقال الحسين عليه السلام: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد اذنت لكم. قالوا: سبحان الله، فما يقول الناس ؟ ! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا – خير الاعمام – ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك، ولكن (تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا) (1)، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك. وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنخلي (2) عنك ولما نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقك ؟ ! أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله (3) صلى الله عليه وآله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا. وقام زهير بن القين البجلي – رحمة الله عليه – فقال: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.


(1) كذا في ” م ” وهامش ” ش “، وفي ” ش “: (نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلينا). (2) في ” م ” وهامش ” ش “: أنحن نخلي. (3) في هامش ” ش “: رسوله.

[ 93 ]

وتكلم جماعة أصحابه (1) بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد، فجزاهم الحسين عليه السلام خيرا وانصرف إلى مضربه (2) “. قال علي بن الحسين عليهما السلام: ” إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعندي عمتي زينب تمرضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول: يادهر أف لك من خليل * كم لك بالاشراق والاصيل من صاحب أو طالب قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الامر إلى الجليل * وكل حي سالك سبيلي فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل، وأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها (3) وانها لحاسرة، حتى انتهت إليه فقالت: واثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي. فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال لها: يا أخية لايئذهبن حلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام (4)، فقالت: يا ويلتاه !


(1) في هامش ” ش “: من أصحابه. (2) المضرب: الفسطاط أو الخيمة ” القاموس المحيط – ضرب 1: 95 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: ذيولها. (4) يضرب مثلا للرجل يستثار فيظلم. انظر جمهرة الامثال للعسكري 2: 194 / 1518.

[ 94 ]

أفتغتصب نفسك اغتصابا ؟ ! فذاك أقرح لقلبي وأشد على نفسي. ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها. فقام إليها الحسين عليه السلام فصب على وجهها الماء وقال لها: يا أختاه ! اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الارض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شئ هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون، وهو فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية إني أقسمت فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي (1) علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت. ثم جاء بها حتى أجلسها عندي. ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الاطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفت بهم إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم. ورجع عليه السلام إلى مكانه فقام الليل كله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وقام أصحابه كذلك يصلون ويدعون ويستغفرون ” (2).


(1) خمش وجهه: خدشه ولطمه وضربه وقطع عضوا منه. ” القاموس – خمش – 2: 273 “. (2) تاريخ الطبري 5: 420 ونقله العلامة المجلسي في البحار 45: 1، 2.

[ 95 ]

قال الضحاك بن عبد الله: ومر بنا خيل لابن سعد يحرسنا، وإن حسينا ليقرأ: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين * ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ” (1) فسمعها من تلك الخيل رجل يقال له عبد الله بن سمير (2)، وكان مضحاكا وكان شجاعا بطلا فارسا فاتكا شريفا فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا منكم. فقال له برير بن خضير: يا فاسق أنت يجعلك الله من الطيبين ؟ ! فقال له: من أنت ويلك ؟ قال: أنا برير بن خضير، فتسابا (3). وأصبح الحسين بن علي عليهما السلام فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان قد حفر هناك وأن يحرق بالنار، مخافة أن يأتوهم من ورائهم. وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وهو يوم الجمعة وقيل يوم السبت، فعبأ أصحابه وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين عليه السلام وكان على ميمنته عمرو بن الحجاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجالة شبث بن ربعي،


(1) آل عمران 3: 178 – 179. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: سميرة. (3) تاريخ الطبري 5: 421، مفصلا نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار 45: 3.

[ 96 ]

واعطى الراية دريدا (1) مولاه. فروي عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنه قال: ” لما صبحت الخيل الحسين رفع يديه وقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شذة (2) وانت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، وأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة ” (3). قال: وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين عليه السلام فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان ألقي فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن عليه اللعنة بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت النار قبل يوم القيامة ؟ فقال الحسين عليه السلام: ” من هذا ؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن ” فقالوا له: نعم، فقال له: ” يا ابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليا “. ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فإن الفاسق من عظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه. فقال له الحسين عليه السلام: ” لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم “.


(1) في هامش ” ش ” و ” م ” نسختان: 1 / دويدا، 2 / ذويدا. وكذا في المصادر. (2) في هامش ” ش “: شديدة. (3) تاريخ الطبري 5: 423، ونقله العلامة المجلسي في البحار 45: 4.

[ 97 ]

ثم دعا الحسين براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته: ” يا أهل العراق ” – وجلهم يسمعون – فقال: ” أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم علي وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين !. ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يسمع متكلم قي قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه، ثم قال: ” أما بعد: فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه، أو ليس حمزة سيد الشهداء عمي، أو ليس جعفر الظيار في الجنة بجناحين عمي، أو لم يبلغكم (1) ما قال رسول الله لي ولاخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟ ! فان صدقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمدت كذبا منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وان كذبتموني فإن فيكم (من لو) (2) سألتموه عن ذلك أخبركم، سلاو جابر بن عبد الله الانصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله لي


(1) في هامش ” ش ” اوما بلغكم. (2) في ” م ” وهامش ” ش ” من إن.

[ 98 ]

ولاخي، أما في هذا (حاجز لكم) (1) عن سفك دمي ؟ ! ا. فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري (ما تقول) (2) فقال له حبيب بن مظاهر: والله إني لاراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك. ثم قال لهم الحسين عليه السلام: ” فإن كنتم في شك من هذا، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم ! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة ؟ ! ” فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: (يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الاشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجند ؟ ! ” فقال له قيس بن الاشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب فقال له الحسين ” لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد (3) “. ثم نادى: ” يا عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب “. ثم إنه أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: حاجز يحجزكم. (2) هكذا في النسخ الخطية، لكن الصحيح: ما يقول، وهو موافق لنقل الطبري والكامل. (3) في ” م “: العبد، وفي ” ش “: مشوشة، وهي تحتمل الوجهين، وفي نسخة العلامة المجلسي: العبيد.

[ 99 ]

يزحفون نحوه، فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين عليه السلام قال لعمر بن سعد: أي عمر (1)، أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الايدي، قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى ؟ قال عمر: أما لو كان الامر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى. فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا، ومعه رجل من قومه يقال له: قرة بن قيس، فقال: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال: لا، قال: فما تريد أن تسقيه ؟ قال قرة: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، ويكره (2) أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين بن علي عليه السلام ؟ فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد، أتريد أن تحمل ؟ فلم يجبه وأخذه مثل الافكل – وهي الرعدة – فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك ؟ ! فقال له الحر: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له: جعلت فداك – يا ابن رسول الله – أنا صاحبك الذي حبستك عن


(1) في هامش ” ش “: يا عمر. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: فكره.

[ 100 ]

الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت ان القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإني تائب إلى الله تعالى مما صنعت، فترى لي من ذلك توبة ؟ فقال له الحسين عليه السلام: ” نعم، يتوب الله عليك فانزل ” قال: فأنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم على فرسى ساعة، والى النزول ما يصير آخر أمري. فقال له الحسين عليه السلام: ” فاصنع – يرحمك الله – ما بدا لك “. فاستقدم أمام الحسين عليه السلام ثم أنشأ رجل من أصحاب الحسين عليه السلام يقول: لنعم الحر حر بني رياح * وحر عند مختلف الرماح ونعم الحر إذ نادى حسين * وجاد بنفسه عند الصباح ثم قال (1): يا أهل الكوفة، لامكم الهبل والعبر، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه (2)، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالاسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا (3)، وحلاتموه (4) ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات


(1) أي الحر عليه الرحمة. (2) يقال: اخذت بكظصه أي بمخرج نفسه ” الصحاح – كظم – 5: 2023 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: ضررا. (4). حلاه عن الماء: طرده ولم يدعه يشرب ” الصحاح – حلا – 1: 45 “.

[ 101 ]

الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد (1) وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الاكبر. فحمل عليه رجال يرمون بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين عليه السلام. ونادى عمر بن سعد: يا ذويد (2)، أدن، رايتك، فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى وقال: اشهدوا أني أول من رمى، ثم ارتمى الناس وتبارزوا، فبرز يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وبرز إليه عبد الله بن عمير، فقال له يسار: من أنت ؟ فانتسب له، فقال: لست أعرفك، ليخرج إلي زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر، فقال له عبد الله بن عمير: يا ابن الفاعلة، وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ؟ ! ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد، فإنه لمشتغل بضربه إذ شد عليه سالم مولى عبيدالله بن زياد، فصاحوا به: قد رهقك العبد، فلم يشعر حتى غشيه فبدره ضربة اتقاها ابن عمير بكفه (3) اليسرى فأطارت أصابع كفه ثم شد عليه فضربه حتى قتله، وأقبل وقد قتلهما جميعا وهو يرتجز ويقول: إن تنكروني فأنا ابن كلب * إني امرؤ ذو مرة وعضب (4) ولست بالخوار عند النكب


(1) في ” ش ” البواد، وما في المتن من ” م ” وهامش ” ش “. (2) انظر ص 96 هامش (1). (3) في ” م ” وهامش ” ش “: بيده. (4) ورد في ” ش ” و ” م “: عصب وهو السيف القاطع. ” الصحاح – عضب – 1 / 183 “. وفي هامش ” م ” فسر قوله: ” ذو مرة وعضب ” بقوله: أي القوة والشدة، ثم ذيله بقوله: قال حسان: دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا * إن الرجال ذوو عصب وتذكير =

[ 102 ]

وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين عليه السلام فيمن كان معه من أهل الكوفة، فلما دنا من الحسين عليه السلام جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا منهم آخرين. وجاء رجل من بني تميم يقال له: عبد الله بن حوزة، فأقدم على عسكر الحسين عليه السلام فناداه القوم: إلى أين ثكلتك أمك ؟ ! فقال: إني أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، فقال الحسين عليه السلام لاصحابه: ” من هذا ؟ ” قيل: هذا ابن حوزة، قال: ” اللهم حزه إلى النار ” فاضطربت به فرسه في جدول فوقع وتعلقت رجله اليسرى بالركاب وارتفعت اليمنى، فشد عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فطارت، وعدا به فرسه يضرب برأسه كل حجر وكل شجر حتى مات وعجل الله بروحه إلى النار. ونشب القتال فقتل من الجميع جماعة. وحمل الحر بن يزيد على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثل بقول عنترة: ما زلت أرميهم بغرة وجهه * ولبانه (1) حتى تسربل بالدم


= وهذا يدل على انه بالصاد لا بالضاد كما في جميع المصادر، انظر في ذلك ديوان حسان: 219 ومصادره ؟ كما ان العصب يتضمن معنى الشدة. ومما يجدر بالملاحظة انه في نسخة ” م ” كتبت تحت عضب التي في الرجز صاد مقتطعة وكذا تحت عصب من بيت حسان في الحاشية. (1) اللبان: الصدر ” الصحاح – لبن – 6: 2193 “.

[ 103 ]

فبرز إليه رجل من بلحارث يقال له: يزيد بن سفيان، فما لبثه الحر حتى قتله، وبرز نافع بن هلال وهو يقول: انا ابن هلال البجلي (1) * أنا على دين علي فبرز إليه مزاحم بن حريث فقال له: أنا على دين عثمان، فقال له نافع: أنت على دين شيطان، وحمل عليه فقتله. فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوما مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد، فإنهم قليل وقلما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم ؟ فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، فأرسل في الناس من يعزم (2) عليهم ألا يبارز رجل منكم رجلا منهم. ثم حمل عمرو بن الحجاج في أصحابه على الحسين عليه السلام من نحو الفرات فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الاسدي – رحمة الله عليه – وانصرف عمرو وأصحابه، وانقطعت الغبرة فوجدوا مسلما صريعا، فمشى إليه الحسين عليه السلام فإذا به رمق، فقال: ” رحمك الله يا مسلم (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (3) ” ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عز علي مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال مسلم قولا ضعيفا: بشرك الله بخير. فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك من ساعتي هذه، لاحببت


(1) لم يرد شطر البيت في نسخنا وإنما اثبتناه من نسخة البحار. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: من يعرض. (3) الاحزاب 33: 23.

[ 104 ]

أن توصيني بكل ما أهمك. ثم تراجع القوم إلى الحسين عليه السلام فحمل شمر بن ذي الجوشن لعنه الله على أهل الميسرة فثبتوا له فطاعنوه، وحمل على الحسين أصحابه من كل جانب، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا، فأخذت خيلهم تحمل وإنما هي اثنان وثلاثون فارسا، فلا تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته. فلما رأى ذلك عروة بن قيس – وهو على خيل أهل الكوفة – بعث إلى عمر بن سعد: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدة اليسيرة، ابعث إليهم الرجال والرماة. فبعث عليهم بالرماة فعقر بالحر بن يزيد فرسه فنزل عنه وجعل يقول: إن تعقروا بي فأنا ابن الحر * أشجع من ذي لبد (1) هزبر ويضربهم بسيفه وتكاثروا عليه فاشترك في قتله أيوب بن مسرح ورجل آخر من فرسان أهل الكوفة. وقاتل أصحاب الحسين بن علي عليه السلام القوم أشد قتال حتى انتصف النهار. فلما رأى الحصين بن نمير – وكان على الرماة – صبر أصحاب الحسين عليه السلام تقدم إلى أصحابه – وكانوا خمسمائة نابل – أن يرشقوا أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل فرشقوهم، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وجرحوا الرجال، وأرجلوهم. واشتد القتال


(1) في هامش ” ش ” يقال للاسد: ذو اللبد وذو اللبدتين، واللبدة: ما اجتمع على قفا الاسد من الشعر.

[ 105 ]

بينهم ساعة، وجاءهم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه، فحمل عليهم زهير بن القين رحمه الله في عشرة رجال من أصحاب الحسين فكشفهم (1) عن البيوت، وعطف عليهم شمر بن ذي الجوشن فقتل من القوم ورد الباقين إلى مواضعهم، وأنشأ زهير بن القين يقول مخاطبا للحسين عليه السلام: اليوم نلقى جدك النبيا * وحسنا والمرتضى عليا وذا الجناحين الفتى الكميا وكان القتل يبين في أصحاب الحسين عليه السلام لقلة عددهم، ولا يبين في أصحاب عمر بن سعد لكثرتهم، واشتد القتال والتحم وكثر القتل والجراح في أصحاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلى أن زالت الشمس، فصلى الحسين بأصحابه صلاة الخوف. وتقدم حنظلة بن سعد الشبامي بين يدي الحسين عليه السلام فنادى أهل الكوفة: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب، يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم (2) الله بعذاب وقد خاب من افترى، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله. وتقدم بعده شوذب مولى شاكر فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله وأسترعيك، ثم قاتل حتى قتل رحمه الله.


(1) في هامش ” ش “: فكشفوهم. (2) يسحتكم: يهلككم ويستأصلكم ” مجمع البحرين 2: 205 “.

[ 106 ]

وتقدم عابس بن [ أبي ] (1) شبيب (2) الشاكري فسلم على الحسين عليه السلام وودعه وقاتل حتى قتل رحمه الله. ولم يزل يتقدم رجل رجل من أصحابه فيقتل، حتى لم يبق مع الحسين عليه السلام إلا أهل بيته خاصة. فتقدم ابنه علي بن الحسين عليه السلام – وأمه ليلى بنت أبي مرة (3) بن عروة بن مسعود الثقفي – وكان من أصبح الناس وجها، وله يومئذ بضع عشرة سنة، فشد على الناس، وهو يقول: أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي * أضرب بالسيف أحامي عن أبي ضرب غلام هاشمي قرشي ففعل ذلك مرارا وأهل الكوفة يتقون قتله، فبصر به مرة بن منقذ العبدي فقال: علي آثام العرب إن مر بي يفعل مثل ذلك إن لم اثكله أباه، فمر يشتد (4) على الناس كما مر في الاول، فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه فصرع، واحتواه القوم فقطعوه بأسيافهم، فجاء الحسين عليه السلام حتى وقف عليه فقال: ” قتل الله قوما قتلوك يا بني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ! ” وانهملت عيناه بالدموع ثم قال: ” على الذنيا بعدك العفاء “


(1) ما بين المعتوفين اثبتناه من رجال الشيخ: 78 / 23، والطبري 5: 443، والكامل 4: 73. (2) في هامش ” ش ” حبيب. (3) في ” ش ” و ” م “: أبي قرة، وسيأتي في باب ذكر ولد الحسين عليه السلام: أبي مرة. وهو الموافق لما في المصادر. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: ينشد.

[ 107 ]

وخرجت زينب أخت الحسين مسرعة تنادي: يا أخياه وابن أخياه، وجاءت حتى أكبت عليه، فأخذ الحسين برأسها فردها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه فقال: ” احملوا أخاكم ” فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه. ثم رمى رجل من أصحاب عمر بن سعد يقال له: عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل رحمه الله بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتقيه، فأصاب السهم كفه ونفذ إلى جبهته فسمرها به فلم يستطع تحريكها، ثم انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله. وحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. وشد عثمان بن خالد الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله. قال حميد بن مسلم: فإنا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأن وجهه شقة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الازدي: والله لاشدن عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك ؟ ! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم، فقال: والله لاشدن عليه، فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف ففلقه، ووقع


[ 108 ]

الغلام لوجهه فقال: يا عماه ! فجلى (1) الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر ثم شد شدة ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسيف فاتقاها بالساعد فأطنها (2) من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثم تنحى عنه الحسين عليه السلام. وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فتوطأته بأرجلها حتى مات. وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه السلام قائما على رأس الغلام – وهو يفحص برجله والحسين يقول: ” بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ” ثم قال: اعز – والله – على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت – والله – كثر واتروه وقل ناصروه ” ثم حمله على صدره، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام تخطان الارض، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. ثم جلس الحسين عليه السلام أمام الفسطاط فأتي بابنه عبد الله ابن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الحسين عليه السلام دمه، فلما ملا كفه صبه في الارض ثم قال: ” رب إن تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين ” ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهله.


(1) جلى ببصره: إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. (الصحاح – جلا – 6: 2305 “. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: فقطعها.

[ 109 ]

ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقتله. فلما رأى العباس بن علي رحمة الله عليه كثرة القتلى في أهله قال لاخوته (1) من أمه – وهم عبد الله وجعفر وعثمان – يا بني أمي، تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنه لا ولد لكم. فتقدم عبد الله فقاتل قتالا شديدا، فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانئ لعنه الله. وتقدم بعده جعفر بن علي رحمه الله فقتله أيضا هانئ. وتعمد خولي بن يزيد الاصبحي عثمان بن علي رضي الله عنه وقد قام مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه، وشد عليه رجل من بني دارم فاحتز رأسه. وحملت الجماعة على الحسين عليه السلام فغلبوه على عسكره، واشتد به العطش، فركب المسناة (2) يريد الفرات وبين يديه العباس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكنوه من الماء، فقال الحسين عليه السلام: ” اللهم أظمئه ” فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين عليه السلام السهم وبسط يده تحت حنكه فامتلات راحتاه بالدم، فرمى به ثم قال: ” اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك ” ثم رجع إلى مكانه وقد اشتد به العطش. وأحاط القوم بالعباس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل


(1) في ” ش “: لاخوانه، وصحح، في الهامش ب‍: إخوته. (2) المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والارض الزراعية. ” تاج العروس – سنى – 10: 185 “.

[ 110 ]

– رضوان الله عليه – وكان المتولي لقتله زيد بن ورقاء الحنفي وحكيم بن الطفيل السنبسي بعد أن أثخن بالجراح فلم يستطع حراكا. ولما رجع الحسين عليه السلام من المسناة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاط به، فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي، فشتم الحسين وضربه على رأسه بالسيف، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل إلى رأسه فأدماه، فامتلات القلنسوة دما، فقال له الحسين: ” لا أكلت بيمينك ولا شربت بها، وحشرك الله مع الظالمين ” ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشد بها رأسه واستدعى قلنسوة أخرى فلبسها واعتم عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيهة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به. فخرج إليهم عبد الله بن الحسن بن علي عليهما السلام – وهو غلام لم يراهق – من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين فلحقته زينب بنت علي عليهما السلام لتحبسه، فقال لها الحسين: ” احبسيه يا أختي ” فأبى وامتنع عليها امتناعا شديدا وقال: والله لا أفارق عمي. واهوى أبجر بن كعب إلى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمي ؟ ! فضربه أبجر بالسيف فاتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة فإذا يده معلقة، ونادى الغلام: يا أمتاه ! فأخذه الحسين عليه السلام فضمه إليه وقال: ” يا ابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين “. ثم رفع الحسين عليه السلام يده وقال: ” اللهم إن متعتهم إلى


[ 111 ]

حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا فقتلونا “. وحملت الرجالة يمينا وشمالا على من كان بقي مع الحسين فقتلوهم حتى لم يبق معه إلا ثلاثة نفر أو أربعة، فلما رأى ذلك الحسين دعا بسراويل يمانيه يلمع فيها البصر ففزرها (9) ثم لبسها، وإنما فزرها لكي لا يسلبها بعد قتله. فلما قتل عمد أبجر بن كعب إليه فسلبه السراويل وتركه مجردا، فكانت يدا أبجر بن كعب بعد ذلك تيبسان في الصيف حتى كأنهما عودان، وتترطبان في الشتاء فتنضحان دما وقيحا إلى أن أهلكه الله. فلما لم يبق مع الحسين عليه السلام أحد إلا ثلاثة رهط من أهله، أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه والثلاثة يحمونه، حتى قتل الثلاثة وبقي وحده وقد أثخن بالجراح في رأسه وبدنه، فجعل يضاربهم بسيفه وهم يتفرقون عنه يمينا وشمالا. فقال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثورا (2) قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه عليه السلام، إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب. فلما رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة، وأمر الرماة أن يرموه، فرشقوه بالسهام حتى صار


(1) في هامش ” ش ” فزر الثوب: إذا مده حتى يتميز سداه من لحمته. (2) في هامش ” ش ” و ” م ” المكثور: الذي أحاط به الكثير.

[ 112 ]

كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه، وخرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويحك يا عمر ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟ فلم يجبها عمر بشئ، فنادت: ويحكم أما فيكم مسلم ؟ ! فلم يجبها أحد بشئ: ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجالة (1، فقال: ويحكم ما تنتظرون بالرجل ؟ ثكلتكم أمهاتكم ! فحمل عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك على كفه (2) اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس بالرمح فصرعه، ويدر إليه خولي بن يزيد الاصبحي لعنه الله فنزل ليحتز (3) رأسه فأرعد، فقال له شمر: فت الله في عضدك، ما لك ترعد ؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم دفع في رأسه إلى خولي بن يزيد فقال: احمله إلى الامير عمر بن سعد، ثم أقبلوا على سلب الحسين عليه السلام فأخذ قميصه إسحاق بن حيوة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد (4)، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه. قال حميد بن مسلم: فوالله لقد كنت أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها، ثم انتهينا إلى علي بن الحسين عليه السلام وهو منبسط على فراش وهو


(1) في هامش ” ش “: الرجال. (2) في ” م ” وهامش ” ض “: كتفه. (3) في ” م “: ليجتز. (4) في ” ش “: مزيد، وما اثبتناه من ” م ” وهامش ” ش “.

[ 113 ]

شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجالة فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل ؟ فقلت: سبحان الله ! أيقتل الصبيان ؟ إنما هو صبي وإنه لما به، فلم أزل حتى رددتهم (1) عنه. وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين فقال لاصحابه: لا يدخل أحذ منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولا تعرضوا لهذا الغلام المريض، وسألته النسوة ليسترجع ما أخذ منهن ليتسترن به فقال: من أخذ من متاعهن شيئا فليرده عليهن ؟ فوالله ما رد أحذ منهم شيئا، فوكل بالفسطاط وبيوت النساء وعلي بن الحسين جماعة ممن كانوا (2) معه وقال: احفظوهم لئلا يخرج منهم أحد، ولا تسيئن إليهم. ثم عاد إلى مضربه ونادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه ؟ فانتدب عشرة منهم: إسحاق بن حيوة، وأخنس بن مرثد (3)، فداسوا الحسين عليه السلام بخيولهم حتى رضوا ظهره. وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك – وهو يوم عاشوراء – برأس الحسين عليه السلام مع خولي بن يزيد الاصبحي وحميد بن مسلم الازدي إلى عبيدالله بن زياد، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظفت، وكانت اثنين (4) وسبعين رأسا، وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الاشعث وعمرو بن الحجاج، فأقبلوا حتى قدموا بها على


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: دفعتهم. (2) في هامش ” ش “: كان. (3) في ” ش “: مزيد، وما اثبتناه من ” م ” وهامش ” ش “. (4) في ” ش ” و ” م “: اثنتين.

[ 114 ]

ابن زياد. وأقام بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم نادى في الناس بالرحيل وتوجه إلى الكوفة ومعه بنات الحسين وأخواته، رمن كان معه من النساء والصبيان، وعلي بن الحسين فيهم وهو مريض بالذرب (1) وقد أشفى (2). ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة الله عليهم، فصلوا عليهم ودفنوا الحسين عليه السلائم حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه علي بن الحسين الاصغر عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعا معا، ودفنوا العباس بن علي عليهما السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن. ولما وصل رأس الحسين عليه السلام ووصل ابن سعد – لعنه الله – من غد يوم وصوله ومعه بنات الحسين وأهله، جلس ابن زياد للناس في قصر الامارة وأذن للناس إذنا عاما، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه، فجعل ينظر إليه ويتبسم وفي يده قضيب يضرب به ثناياه، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله – وهو شيخ كبير – فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وآله عليهما ما لا أحصيه


(1) في هامش ” ش “: ذربت معدته إذا فسد عليه الطعام فلم ينهضم وخرج رقيقا. (2) اشفى المريض: قرب من الموت. انظر ” الصحاح – شفا – 6: 2394 “.

[ 115 ]

كثرة تقبلهما، ثم انتحب باكيا. فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله ؟ والله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله. وأدخل عيال الحسين عليه السلام على ابن زياد، فدخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر وحفت بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها ؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها، فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، فأقبل عليها ابن زياد وقال لها: الحمدلله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت زينب: الحمدلله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وطهرنا من الرجس تطهيرا، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله. فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ قالت: كتب الله عليهبم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده. فغضب ابن زياد واستشاط، فقال عمرو بن حريث: أيها الامير، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشئ من منطقها، ولا تذم على خطابها. فقال لها ابن زياد: لقد (1) شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: قد.

[ 116 ]

فزقت (1) زينب عليها السلام وبكت وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبدت (2) أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال ابن زياد: هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا. فقالت: ما للمرأة والسجاعة ؟ إن لي عن السجاعة لشغلا، ولكن صدري نفث بما قلت. وعرض عليه علي بن الحسين عليهما السلام فقال له: من أنت ؟ فقال: ” أنا علي بن الحسين “. فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟. فقال له علي عليه السلام: ” قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس “. فقال له ابن زياد: بل الله قتله. فقال علي بن الحسين عليه السلام: ” (الله يتوفى الانفس حين موتها) ” (3). فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي ؟ ! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلقت به زينب عمته وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته


(1) فزقت: اي صاحت ” الصحاح – زقا – 6: 2368 ” وفي هامش ” ش ” وم “: فرقت. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: وأبرزت. (3) الزمر 39: 42.

[ 117 ]

فاقتلني معه ؟ فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثم قال: عجبا للرحم ! والله إني لاظنها ودت أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به. ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر، ودخل المسجد فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب وشيعته. فقام إليه عبد الله بن عفيف الازدي – وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام – فقال: يا عدو الله، إن الكذاب أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، يا ابن مرجانة، تقتل أولاد النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين ؟ ! فقال ابن زياد: علي به ؟ فأخذته الجلاوزة، فنادى بشعار الازد، فاجتمع منهم سبعمائة رجل فانتزعوه من الجلاوزة، فلما كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته، فضرب عنقه وصلبه في السبخة رحمه الله. ولما أصبح عبيدالله بن زياد بعث برأس الحسين عليه السلام فدير به في سكك الكوفة كلها وقبائلها. فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مر به علي وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) (1) فقف (2) – والله – شعري وناديت: رأسك والله – يا ابن رسول الله – أعجب وأعجب (3).


(1) الكهف 18 / 9. (2) قف شعري: أي قام من الفزع ” الصحاح – قفف – 4: 1418 “. (3) مقتل الحسين عليه السلام لابي مخنف: 175، ونقله العلامة المجلسي في البحار =

[ 118 ]

ولما فرغ القوم من التطواف به بالكوفة، ردوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والارضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الازدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة، حتى وردوا بها على يزيد بدمشق. فروى عبد الله بن ربيعة الحميري فقال: إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق، إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل عليه، فقال له يزيد: ويلك ما وراءك وما عندك ؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم الامير عبيدالله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر (1) لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله يا أمير المؤمنين ما كانوا إلا جزر جزور أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس (2) وتسفي عليهم الرياح، زوارهم العقبان والرخم. فأطرق يزيد هنيهة ثم رفع رأسه فقال: قد كنت أرضى من طاعتكم (3) بدون


= 45: 121. (1) في هامش ” ش ” و ” م “: والشجر. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: الشموس. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: طاغيتكم. (*)

[ 119 ]

قتل الحسين، أما لو أني صاحبه لعفوت عنه (1). ثم إن عبيدالله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين عليه السلام أمر بنسائه وصبيانه فجهزوا، وأمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه، ثم سرح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذى وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس، ولم يكن علي بن الحسين عليه السلام يكلم أحدا من القوم في الطريق كلمة حتى بلغوا، فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع مجفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا مجفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه علي بن الحسين عليهما السلام: ” ما ولدت أم مجفر أشر وألام ” (2). قال: ولما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين عليه السلام قال يزيد: نفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما (3) فقال يحيى بن الحكم – أخو مروان بن الحكم – وكان جالسا مع يزيد:


(1) تاريخ الطبري 5: 459، الفتوح لابن اعثم 5: 147، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 2: 56، ونقله العلامة المجلسي في البحار 45: 129. (2) نسب هذا الجواب إلى يزيد بن معاوية، انظر: الطبري 5: 460، 463، انساب الاشراف 3: 214، البداية والنهاية 8: 211، ونقله العلامة المجلسي – عن ابن نما عن تاريخ دمشق – في البحار 45: 131. (3) هذا شعر الحصين بن الحمام وهو شاعر جاهلي وقصيدته 42 بيتا، وقد تمثل يزيد – لعنه الله – بالبيت السادس. انظر الاغاني 14: 7، شرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي 1: 325 وهوامشه.

[ 120 ]

لهام بأدنى الطف أدنى قرابة * من ابن زياد العبد ذي الحسب الرذل (1) أمية (2) أمسى نسلها عدد الحصى * وبنت رسول الله ليس لها نسل (3) فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال: اسكت، ثم قال لعلي بن الحسين: يا ابي حسين، أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين: ” ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ” (4) “. فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه، فلم يدر خالد ما يرد عليه. فقال له يزيذ: قل (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ” (5). ثم دعا بالنساء والصبيان فاجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة فقال: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة رحم (6) ما فعل هذا بكم، ولا بعث بكم على هذه الصورة (7).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الوغل. (2) كذا في ” ش ” و ” م “. وفي نسخة البحار، والطبري ومقتل الحسين للخوارزمي: سمية، ولعله الانسب بالمقام. (3) كذا روي البيتان في النسخ، وفيهما إقواء وهو اختلاف حركات الروي، وفي الطبري ومقتل الحسين للخوارزمي والبحار روى عجز البيت الثاني: ” وبنت رسول الله ليست بذي نسل “. (4) الحديد 57: 22. (5) الشورى 42: 30. (6) في ” م ” وهامش ” ش “: ورحم. (7) في هامش ” ش ” و ” م “: هذه الحال.

[ 121 ]

قالت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام: فلما جلسنا بين يدي يزيد رق لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية – يعنيني – وكنت جارية وضيئة فأرعدت وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون. فقالت عمتي للشامي: كذبت والله ولؤمت، واللة ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضبا وقال: إياي تستقبلين بهذا ؟ ! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخى اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلما.. قال: كذبت يا عدوة الله. قالت له: أنت أمير، تشتم ظالما وتقهر بسلطانك، فكأنه استحيا وسكت. فعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد: اغرب، وهب الله لك حتفا قاضيا –


[ 122 ]

ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة معهن أخوهن علي بن الحسين عليهم السلام، فأفرد لهم دار تتصل بدار يزيد، فأقاموا أياما، ثم ندب يزيد النعمان بن بشير وقال له: تجهز لتخرج بهؤلاء النسوان (1) إلى المدينة. ولما أراد أن يجهزهم، دعا علي بن الحسين عليهما السلام فاستخلاه (2) ثم قال له: لعن الله ابن مرجانة، أم والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت، ولكن الله قضى ما رأيت ؟ كاتبني من المدينة وأنه كل حاجة تكون لك. وتقدم بكسوته وكسوة أهله، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولا تقدم إليه أن يسير بهم في الليل، ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه (3)، فإذا نزلوا تنحى عنهم وتفرق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم حيث إذا أراد إنسان من جماعتهم وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم. فسار معهم في جملة النعمان، ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم – كما وصاه يزيد – ويرعونهم حتى دخلوا المدينة.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: النسوة. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: فاستخلى به. (3) في ” ش “: طرفة عين.

[ 123 ]

فصل ولما أنفذ ابن زياد برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد، تقدم إلى عبد الملك بن أبي الحديث السلمي فقال: انطلق حتى تأتي عمرو بن سعيد ابن العاص بالمدينة فبشره بقتل الحسين، فقال عبد الملك: فركبت راحلتي وسرت نحو المدنية، فلقيني رجل من قريش (1) فقال: ما الخبر ؟ فقلت: الخبر عند الامير تسمعه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل – والله – الحسين. ولما دخلت على عمرو بن سعيد قال: ما وراءك ؟ فقلت: ما سر الامير، قتل الحسين بن علي، فقال: اخرج فناد بقتله، فناديت، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين ابن علي عليهما السلام حين سمعوا النداء بقتله، فدخلت على عمرو بن سعيد، فلما رآني تبسم إلي ضاحكا ثم أنشأ متمثلا بقول عمرو بن معدي كرب: عجت نساء بني زياد عجة * كعجيج نسوتنا غداة الارنب (2) ثم قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان. ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتل الحسين بن علي عليهما السلام ودعا ليزيد بن معاوية ونزل.


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: قيس. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: (قال ابو الندى الاعرابي: الارنب: ماء، وروي: الاثاب وهو: شجر). وفي الطبري 5: 466، والكامل 4: 98: الارنب: وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب.

[ 124 ]

ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فنعى إليه ابنيه فاسترجع، فقل أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا من الحسين بن علي، فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا ؟ ! والله لو شهدته لاحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ويعزيني (1) عن المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له، صابرين معه. ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عز علي مصرع (2) الحسين، إن لا أكن (3) آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولدي. وخرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين عليه السلام حاسرة ومعها أخواتها: أم هانئ، وأسماء، ورملة، وزينب، بنات عقيل بن أبي طالب رحمة الله عليهن تبكي قتلاها بالطف، وهي تقول: ماذا تقولون إذ (4) قال النبي لكم: * ماذا فعلتم وأنتم آخر الامم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن (5) تخلفوني بسوء في ذوي رحمي فلما كان الليل من ذلك اليوم الذي خطب فيه عمرو بن سعيد بقتل الحسين بن علي عليهما السلام بالمدينة، سمع أهل المدينة في جوف الليل مناديا ينادي، يسمعون صوته ولا يرون شخصه:


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ويعزي. (2) في نسخنا: بمصرع، وما اثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار. (3) في ” ش ” و ” م “: الا أكون، وصحح في هامشهما بما في المتن. (4) في ” م “: إن. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: إذ.

[ 125 ]

أيها القاتلون جهلا حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل (كل أهل) (1) السماء يدعو عليكم * من نبي وملاك وقبيل (2) قد لعنتم على لسان ابن داوو * د وموسى وصاحب الانجيل فصل أسماء من قتل مع الحسين بن علي عليه السلام من أهل بيته بطف كربلاء، وهم سبعة عشر نفسا، الحسين بن علي عليه السلام ثامن عشر منهم: العباس و عبد الله وجعفر وعثمان بنو أمير المؤمنين عليه وعليهم السلام، أمهم أم البنين. و عبد الله (3) وأبو بكر ابنا أمير المؤمنين عليهما السلام، أمهما ليلى بنت مسعود الثقفية. وعلي و عبد الله ابنا الحسين بن علي عليهم السلام. والقاسم وأبو بكر و عبد الله بنو الحسن بن علي عليهم السلام. ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحمة الله عليهم. و عبد الله وجعفر و عبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب.


(1) في هامش ” ش “: كل من في. (2) في هامش ” ش “: وقتيل. (3) كذا في ” ش ” و ” م ” لكن الصحيح عبيدالله كما مضى من المصنف في أولاد أمير المؤمنين عليه السلام، وهو الموافق لما في المصادر الاخرى.

[ 126 ]

ومحد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب رحمة الله عليهم أجمعين. فهؤلاء سبعة عشر نفسا من بني هاشم – رضوان الله عليهم أجمعين – إخوة الحسين وبنو أخيه وبنو عميه جعفر وعقيل، وهم كلهم مدفونون مما يلي رجلي الحسين عليه السلام في مشهده حفر لهم حفيرة وألقوا فيها جميعا وسوي عليهم التراب، إلا العباس بن علي رضوان الله عليه فإنه دفن في موضع مقتله على المسناة بطريق الغاضرية وقبره ظاهر، وليس لقبور إخوته وأهله الذين سقيناهم أثر، وإنما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين عليه السلام ويومئ إلى الارض التي نحو رجليه بالسلام، وعلي بن الحسين عليهما السلام في جملتهم، ويقال: إنه أقربهم دفنا إلى الحسين عليه السلام. فأما أصحاب الحسين رحمة الله عليهم الذين قتلوا معه، فإنهم دفنوا حوله ولسنا نحصل لهم أجداثا على التحقيق والتفصيل، إلا أنا لا نشك أن الحائر محيط بهم رضي الله عنهم وأرضاهم وأسكنهم جنات النعيم.


[ 127 ]

باب طرف من فضائل الحسين عليه السلام وفضل زيارته وذكر مصيبته روى سعيد بن راشد (1)، عن يعلى بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ” حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الاسباط ” (2). وروى ابن لهيعة، عن أبي عوانة (3) رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: قال رسول الله: (إن الحسن والحسين شنفا (4) العرش، وإن الجنة قالت: يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين ؟ فقال الله لها: ألا ترضين أني زينت أركانك بالحسن والحسين، قال: فماست (5) كما تميس العروس


(1) في بعض المصادر: سعيد بن ابي راشد، وكلاهما واحد. انظر تهذيب الكمال 10: 426 / 2267 ومصادره. (2) رواه أحمد في مسنده 4: 172، وابن ماجة في سننه 1: 51 / 144، والترمذي في سننه 5: 658 / 3775، والحاكم في مستدركه 3: 177، والذهبي في تلخيصه له، وابن قولويه في كامل الزيارات: 52، 53، وابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة الامام الحسين عليه السلام: 79 / 112، وابن الاثير في اسد الغابة 2: 19، والحمويني في فرائد السمطين 2: 130 / 429، والمزي في تهذيب الكمال 10: 426، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 271. (3) في تاريخ بغداد وكنز العمال: ابو غشانة. (4) الشنف: قرط يلبس في أعلى الاذن، انظر ” الصحاح – شنف – 4: 1383). (5) الميس: التبختر. (الصحاح – ميس – 3: 980 “.

[ 128 ]

فرحا ” (1). وروى عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: ” اصطرع الحسن والحسين عليهما السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقال رسول الله: إيها (2) حسن، خذ حسينا، فقالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله، أتستنهض الكبير على الصغير ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا جبرئيل عليه السلام يقول للحسين: إيها يا حسينا (3)، خذ الحسن ” (4). وروى إبراهيم بن الرافعي (5)، عن أبيه، عن جده قال: رأيت الحسن والحسين عليهما السلام يمشيان إلى الحج، فلم يمرا براكب إلا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم فقالوا لسعد بن أبي وقاص: قد ثقل علينا المشي، ولا نستحسن أن نركب وهذان السيدان يمشيان، فقال سعد للحسن عليه السسلام: يا با محمد، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك، والناس إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم


(1) ذكر قطعة منه الخطيب في تاريخ بغداد 2: 238، والمتقي الهندي في كنز العمال 1 2: 121، ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 184 قطعة منه بسند آخر، ورواه ابن شهرآشوب في مناقبه 3: 395، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 275 / 44. (2) كذا في النسخ، ويلاحظ في ذلك. ” لسان العرب – أيه – 13: 474 “. (3) في ” ش “: حسينا. وفي ” م “: حسين، وما اثبتناه من هامش ” ش “. (4) قرب الاسناد: 48، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 105 كتاب سليم بن قيس: 170، امالي الصدوق: 361، امالي الطوسي 2: 127، تاريخ دمشق – ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 116 – 117 و 154 – 156، أسد الغابة 2: 19، الاصابة 1: 332، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 276 / 45. (5) في هامش ” ش “: من أولاد ابي رافع الصحابي.

[ 129 ]

أن يركبوا، فلو ركبتما، فقال الحسن عليه السلام: ” لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا، ولكننا نتنكب الطريق ” فأخذا جانبا من الناس (1). وروى الاوزاعي، عن عبد الله بن شداد (2) عن أم الفضل بنت الحارث: أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله، رأيت الليلة حلما منكرا، قال: ” وما هو ؟ ” قالت: إنه شديد، قال: ” ما هو ؟ ” قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” خيرا رأيت، تلد فاطمة غلاما فيكون في حجرك ” فولدت فاطمة الحسين عليه السلام فقالت: وكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، فدخلت به يوما على النبي صلى الله عليه وآله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله عليه وآله السلام تهراقان بالدموع، فقلت: بابي أنت وأمي يا رسول الله، ما لك ؟ ! قال: ” أتاني جبرئيل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربته حمراء (3).


(1) مناقب ابن شهرآشوب 3: 399، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43: 276 / 46. (2) وهو ابن الهاد، وام الفضل لبانة بنت الحارث الهلالية خالته، توفيت في خلافة عثمان، وتوفي هو سنة 81، 82، 83 ه‍. وفي اغلب المصادر والتراجم: ان الاوزاعي يروى عن شداد بن عبد الله ابي عمار مولى معاوية، ولم يذكروا تاريخ وفاته، وهو و عبد الله بن شداد من طبقة واحدة. والاوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، ولد سنة 88 وتوفي سنة 157، وذكره ابن ابي حاتم الرازي فيمن يرسل، انظر ” المراسيل: 112، سير اعلام النبلاء 7: 107، 2: 314، 3: 488، تهذيب الكمال 15: 81، 12: 399 ومصادرهما “. (3) روى الحديث الحاكم في مستدركه 3: 176، وابن عساكر في تاريخ دمشق – ترجمة =

[ 130 ]

وروى سماك، عن ابن مخارق، عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم جالس والحسين عليه السلام جالس في حجره، إذ هملت عيناه بالدموع، فقلت له: يا رسول الله، ما لي أراك تبكي، جعلت فداك ؟ ! فقال: ” جاءني جبرئيل عليه السلام فعزاني بابني الحسين، وأخبرني أن طائفة من أمتي تقتله، لا أنالهم الله شفاعتي ” (1). وووي بإسناد آخر عن أم سلمة – رضي الله عنها – أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا، ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة، فقلت: يا رسول الله، ما لي أراك شعثا مغبرا ؟ ! فقال: ” أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء، فأريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل القط دماءهم فها هي في يدي ” وبسطها إلي فقال: ” خذيها واحتفظي بها ” فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة وسددت (2) رأسها واحتفظت به، فلما خرج الحسين عليه السلام من مكة متوجها نحو العراق، كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم وليلة فأشمها وأنظر إليها ثم أبكي لمصابه، فلما كان في اليوم (3)


= الامام الحسين عليه السلام -: 183 / 232، والطبري في دلائل الامامة: 72، والتستري في احقاق الحق 11: 363 عن الخصائص، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 338 / 30. (1) اعلام الورى: 217، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 239 / 31. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: شددت. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: يوم.

[ 131 ]

العاشر من المحرم – وهو اليوم الذي قتل فيه عليه السلام – أخرجتها في أول النهار وهي بحالها، ثم عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط، فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت حتى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت (1). وروي: أن النبي صلى الله عليه وآله كان ذات يوم جالسا وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال لهم: ” كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى ؟ فقال له الحسين عليه السلام: أنموت موتا أو نقتل ؟ فقال: بل تقتل يا بني ظلما، ويقتل أخوك ظلما، وتشرد ذراريكم في الارض، فقال الحسين عليه السلام: ومن يقتلنا يا رسول الله ؟ قال: شرار الناس، قال: فهل يزورنا بعد قتلنا أحد ؟ قال: نعم، طائفة من أمتي يريدون بزيارتكم بري وصلتي، فإذا كان يوم القيامة جئتهم (2) إلى الموقف حتى آخذ (بأعضادهم فأخلصهم) (3) من أهواله وشدائده “. وروى عبد الله بن شريك العامري قال: كنت أسمع أصحاب علي عليه السلام إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا


(1) روى اليعقوبي في تاريخه 2: 245 – 246 مضمون الخبر، وابن حجر في تهذيب التهذيب 2: 347، وذكره الطبرسي في اعلام الورى: 217، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44: 239. (2) في هامش ” ح “: جئتها. (3) في ” ش “: باعضادها فاخلصها.

[ 132 ]

قاتل الحسين بن علي عليه السلام وذلك قبل قتله (1) بزمان (2). وروى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله إن قبلنا ناسا سفهاء، يزعمون أني أقتلك، فقال له الحسين عليه السلام: ” إنهم ليسوا بسفهاء ولكنهم حلماء، أما إنه يقر عيني ألا تأكل بر العراق بعدي إلا قليلا ” (3). وروى يوسف بن عبدة قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: لم تر هذه الحمرة في السماء إلا بعد قتل الحسين عليه السلام (4). وروى سعد الاسكاف قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ” كان قاتل يحيى بن زكربا ولد زنا، وقاتل الحسين بن علي عليه السلام ولد زنا، ولم تحمر السماء إلا لهما ” (5). وروى سفيان بن عيينة، عن علي بن يزيد، عن علي ن بن الحسين عليهما السلام قال: ” خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوما: ومن هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ” (6).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: أن يقتل. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 44: 263 / 19. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 44: 263 / 20. (4) ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق – ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 245 / 298، وانظر مصادره. (5) رواه ابن قولويه في كامل الزيارات: 77 و 79، عن ابي عبد الله عليه السلام. (6) مجمع البيان 3: 502.

[ 133 ]

وتظاهرت الاخبار بأنه لم ينج أحد من قاتلي الحسين عليه السلام وأصحابه – رضي الله عنهم – من قتل أو بلاء افتضح به قبل موته. فصل ومضى الحسين عليه السلام في يوم السبت العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة بعد صلاة الظهر منه قتيلا مظلوما ظمآن صابرا محتسبا – على ما شرحناه – وسنه يومئذ ثمان وخمسون سنة، أقام منها مع جده رسول الله صلى الله عليه وآله سبع سنين، ومع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثين سنة، ومع أخيه الحسن عليهما السلام عشر سنين، وكانت مدة خلافته بعد أخيه إحدى عشره سنة، وكان عليه السلام يخضب بالحناء والكتم (1)، وقتل عليه السلام وقد نصل الخضاب من عارضيه. وقد جاءت روايات كثيرة في فضل زيارته عليه السلام بل في وجوبها. فروي عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: ” زيارة الحسين بن علي عليه السلام واجبة على كل من يقر للحسين بالامامة من الله عزوجل ” (2).


(1) الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه القاموس المحيط – كتم – 4: 169 “. وأنظر طبقات ابن سعد 5: 217. (2) رواه ابن قولويه في كامل الزيارات: 121 و 150 / ذيل ح 1، والصدوق في الفقيه 2: =

[ 134 ]

وقال عليه السلام: ” زيارة الحسين عليه السلام تعدل مائة حجة مبرورة، ومائة عمرة متقبلة ” (1). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” من زار الحسين عليه السلام بعد موته فله الجنة ” (2). والاخبار في هذا الباب كثيرة، وقد أوردنا منها جملة كافية في كتابنا المعروف بمناسك المزار.


= 348 / ذيل ح 1594، والامالي: 123 / 10، والشيخ في التهذيب 6: 42 / ذيل ح 1، والمصنف نحوه في المقنعة: 468، والمزار: 37 / 1. (1) كامل الزيارات: 142، وامالي الصدوق: 123 / 11، وتهذيب الاحكام 6: 51 / 119، ومصباح المتهجد: 659، باختلاف يسير فيها. (2) كامل الزيارات: 10 / 1، تهذيب الاحكام 6: 40 / 84، ومزار المفيد: 30 / ذ ح 1.

[ 135 ]

باب ذكر ولد الحسين بن علي عليهما السلام وكان للحسين عليه السلام ستة أولاد: علي بن الحسين الاكبر، كنيته أبو محمد، وأمه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد. وعلي بن الحسين الاصغر، قتل مع أبيه بالطف، وقد تقدم ذكره فيما سلف، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية. وجعفر بن الحسين، لا بقية له، وأمه قضاعية، ؟ وكانت وفاته في حياة الحسين. و عبد الله بن الحسين، قتل مع أبيه صغيرا، جاءه سهم وهو في حجر أبيه فذبحه، وقد تقدم ذكره فيما مضى. وسكينة بنت الحسين، وأمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، كلبية، وهي أم عبد الله بن الحسين. وفاطمة بنت الحسين، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله، تيمية


[ 137 ]

باب ذكر الامام بعد الحسين بن علي عليهما السلام، وتأريخ مولده، ودلائل إمامته، ومبلغ سنه، ومدة خلافته، ووقت وفاته وسببها، وموضع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره والامام بعد الحسين بن علي ابنه أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين صلوات الله عليهم، وكان يكنى أيضا أبا الحسن، وأمه شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى، ويقال إن اسمها (شهربانوا) (1)، وكان أمير المؤمنين عليه السلام ولي حريث بن جابر الحنفي جانبا من المشرق، فبعث إليه بنتي يزدجرد بن شهريار بن كسرى، فنحل ابنه الحسين عليهما السلام شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين عليه السلام، ونحل الاخرى محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمد ابن أبي بكر، فهما ابنا خالة. وكان مولد علي بن الحسين عليه السلام بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة، فبقي مع جده أمير المؤمنين عليه السلام سنتين، ومع عمه الحسن عشر سنين، ومع أبيه الحسين عليه السلام إحدى عشرة سنة، وبعد أبيه أربعا وثلاثين سنة. وتوفي بالمدينة سنة خمس وتسعين للهجرة، وله يومئذ سبع وخمسون سنة.


(1) كذا في النسخ، وفي هامش ” ش “: نويه.

[ 138 ]

وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة، ودفن بالبقيع مع عمه الحسن ابن علي عليهما السلام، وثبتت له الامامة من وجوه: أحدهما: أنه كان أفضل خلق الله بعد أبيه علما وعملا، والامامة للافضل دون المفضول بدلائل العقول. ومنها: أنه كان أولى بأبيه الحسين عليه السلام وأحقهم بمقامه من بعده بالفضل والنسب، والاولى بالامام الماضي أحق بمقامه من غيره، بدلالة آية ذوي الارحام وقصة زكريا عليه السلام. ومنها: وجوب الامامة عقلا في كل زمان، وفساد دعوى كل مدع للامامة في أيام علي بن الحسين عليهما السلام أو مدعى له سواه، فثبتت فيه، لاستحالة خلو الزمان من إمام. ومنها: ثبوت الامامة أيضا في العترة خاصة، بالنظر والخبر عن النبي صلى الله عليه وآله، وفساد قول من ادعاها لمحمد بن الحنفية – رضي الله عنه – بتعريه من النص عليه بها، فثبت أنها في علي بن الحسين عليهما السلام، إذ لا مدعى له الامامة من العترة سوى محمد رضي الله عنه وخروجه عنها بما ذكرناه. ومنها: نص رسول الله صلى الله عليه وآله بالامامة عليه فيما روي من حديث اللوح – الذي رواه جابر – عن النبي صلى الله عليه وآله، ورواه محمد بن علي الباقر عليهما السلام عن أبيه عن جده عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهم (1) ؟ ونص جده أمير المؤمنين عليه


(1) للتحقق من شهرة حديث اللوح انظر: اثبات الوصية: 143، 227، 230، الكافي 1: =

[ 139 ]

السلام في حياة أبيه الحسين عليه السلام بما تضمن (1) ذلك من الاخبار (2)، ووصية أبيه الحسين عليه السلام إليه، وايداعه أم سلمة رضي الله عنها ما قبضه علي من بعده، وقد كان جعل التماسه من أم سلمة علامة على إمامة الطالب له من الانام (3)، وهذا باب يعرفه من تصفح الاخبار، ولم نقصد في هذا الكتاب إلى القول في معناه فنستقصيه على التمام.


442 / 3، إكمال الدين: 311 / 1، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 40 / 1، غيبة النعماني: 62، امالي الطوسي 1: 297، غيبة الطوسي: 143 / 108، القاب الرسول وعترته صلى الله عليه وآله: 170، فرائد السمطين 2: 136 / 432 – 435، والمصنف في الاختصاص: 210، ونقله العلامة المجلسي في البحار 36: 192 – 203. (1) في ” م “: ضمن. (2) من لا يحضره الفقيه 4: 139 / 484. (3) الكافي 1: 242 / 3، غيبة الطوسي: 195 / 159.

[ 140 ]

باب ذكر طرف من الاخبار لعلي بن الحسين عليهما السلام أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى قال: حدثنا جدي (1) قال: حدثني إدريس بن محمد بن يحيى (2) بن عبد الله بن حسن بن حسن، وأحمد بن عبد الله بن موسى، وإسماعيل بن يعقوب جميعا قالوا: حدثنا عبد الله بن موسى، عن أبيه، عن جده قال: كانت أمي فاطمة بنت الحسين عليه السلام تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين عليهما السلام، فما جلست إليه قط إلا قمت بخير قد أفدته: إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله تعالى، أو علم، قد استفدته منه (3).


(1) هو يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب عليهم السلام، أبو الحسين المعروف بالعبيدلي، العالم الفاضل الصدوق، صنف كتبا، منها كتاب نسب آل أبي طالب، كتاب المسجد، وقد روى عنه حفيده الحسن بن محمد بن يحيى، انظر رجال النجاثي: 441 / 1189. وستأتي له روايات كثيرة في أبواب أحوال الامامين زين العابدين والباقر عليهما السلام وأبواب احوال الامامين الكاظم والرضا عليهما السلام مصرحة بانها من روايات العبيدلي وبعض ما لم يصرح بالآخذ منه أخذ منه – كما سيأتي ذكر موارد منها – ولا يبعد أخذه من كتابه نسب آل ابي طالب. (2) في ” ش “: ” بحر ” بدل ” يحيى “، وفي هامشها: يحيى، ولعله تصحيح، وفي ” م ” و ” ح “: يحيى، وهو ما اثبتناه. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 73 / 59.

[ 141 ]

أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد العلوي، عن جده، عن محمد بن ميمون البزاز قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب الزهري قال: حدثنا علي بن الحسين عليهما السلام – وكان أفضل هاشمي أدركناه – قال: ” أحبونا حب الاسلام، فما زال حبكم لنا حتى صار شينا علينا ” (1). وروى أبو معمر، عن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين عليهما السلام (2). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى قال: حدثني جدي قال: حدثني أبو محمد الانصاري قال: حدثني محمد بن ميمون البزاز قال: حدثنا الحسين بن علوان، عن أبي علي زياد بن رستم، عن سعيد ابن كلثوم قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثم قال: ” والله ما أكل علي بن أبي طالب عليه السلام من الدنيا حراما قط حتى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قط هما لله رضى إلا أخذ بأشدهما عليه في دينه، وما نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله نازلة إلا دعاه فقدمه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله من


(1) رواه ابن سعد بسند آخر في الطبقات 5: 214، وابو نعيم في الحلية 3: 136، والذهبي في سير أعلام النبلاء 4: 389، وابن منظور في مختصر تاريخ دمشق 17: 242، ونقله المجلسي في البحار 46: 73 / 58. وفي هامش ” ش “: ” هذا نهي لهم عن الغلو، يقول: أحبونا الحب الذي يقتضيه الاسلام ولا تتجارزوا الحد فيكون غلوا “. (2) علل الشرائع: 232، حلية الاولياء 3: 141، وعن الحلية وتاريخ النسائي رواه ابن شهرآشوب في المناقب 4: 159، تذكرة الخواص: 297، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 73 / 60.

[ 142 ]

هذه الامة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة والنار، يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النار مما كد بيديه ورشح منه جبينه، وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس، إذا فضل شئ عن يده من كمه دعا بالجلم (1) فقصه، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليهما السلام. ولقد دخل أبو جعفر – ابنه – عليهما السلام عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر عليه السلام: ” فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له (2)، وإذا هو يفكر، فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي فقال: يا بني، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام، فأعطيته، فقرأ فيها شيئا يسيرا ثم تركها من يده تضجرا وقال: من يقوى على عبادة علي عليه السلام ؟ ! ” (3). وروى محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له


(1) الجلم: الذي يجز به الشعر والصوف، كالمقص ” مجمع البحرين – جلم – 6: 30 “. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: عليه. (3) ذكر ذيله ابن شهرآشوب في مناقبه 4: 49، وأورده الطبرسي في اعلام الورى: 254 مختصرا، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 74 / 65.

[ 143 ]

أهله: ما هذا الذي يغشاك ؟ ! فيقول: ” أتدرون لمن أتاهب للقيام بين يديه ” (1). وروى عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” كان علي بن الحسين عليهما السلام يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة ” (2). وروى سفيان الثوري، عن عبيدالله بن عبد الرحمن بن موهب قال: ذكر لعلي بن الحسين فضله فقال: ” حسبنا أن نكون من صالحي قومنا ” (3). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد، عن جده، عن سلمة بن شبيب، عن عبيدالله بن محمد التيمي قال: سمعت شيخا من عبد القيس يقول: قال طاووس: دخلت الحجر في الليل، فإذا علي بن الحسين عليهما السلام قد دخل فقام يصلي، فصلى ما شاء الله ثم سجد، قال: فقلت: رجل صالح من أهل بيت الخير، لاستمعن إلى دعائه، فسمعته يقول في سجوده: ” عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك “. قال طاووس: فما


(1) مختصر تاريخ دمشق 17: 236، وذكر ما يشابهه ابن سعد في طبقاته 5: 216، وابو نعيم في حليته 3: 133، والذهبي في سير اعلام النبلاء 4: 392، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 73 / 61. (2) مناقب ابن شهرآشوب 4: 150، اعلام الورى: 255، وانظر الخصال: 517 / 4 صدر الحديث، وكذا سير اعلام النبلاء 4: 392، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 74 / 62. (3) طبقات ابن سعد 5: 214، مختصر تاريخ دمشق 17: 235، مناقب ابن شهرآشوب 4: 162، اعلام الورى: 255، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 74 / 63.

[ 144 ]

دعوت بهن في كرب إلا فرج عني (1). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد، عن جده، عن أحمد بن محمد الرافعي، عن إبراهيم بن علي، عن أبيه قال: حججت مع علي بن الحسين عليه السلام فالتاثت (2) عليه الناقة في سيرها، فأشار إليها بالقضيب ثم قال: ” آه ! لولا القصاص ” ورد يده عنها (3). وبهذا الاسناد قال: حج علي بن الحسين عليهما السلام ماشيا، فسار عشرين يوما من المدينة إلى مكة (4). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثنا جدي قال: حدثنا عمار بن أبان قال: حدثنا عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين قال: سمع سائل في جوف الليل وهو يقول: أين الزاهدون في الدنيا، الراغبون في الآخرة ؟ فهتف به هاتف من ناحية البقيع يسمع صوته ولا يرى شخصه: ذاك علي بن الحسين عليه السلام (5). وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: لم أدرك أحدا من أهل هذا البيت – يعني بيت النبي عليه السلام – أفضل من علي


(1) سير أعلام النبلاء 4: 393، وفي هامشه عن ابن عساكر 12: 20 آ، ب، مختصر تاريخ دمشق 17: 235، وفي كفاية الطالب: 451، وتذكرة الخواص: 297، والفصول المهمة: 202، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 75 / 66. (2) التاثت الناقة: اي ابطأت في سيرها. ” مجمع البحرين – لوث – 2: 262 “. (3) مناقب ابن شهرآشوب 4: 155، اعلام الورى: 255، الفصول المهمة: 203، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 76 / 69. (4) مناقب ابن شهرآشوب 4: 155، اعلام الورى: 256، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 76 / 70. (5) مناقب ابن شهرآشوب 4: 148، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 76 / 67.

[ 145 ]

ابن الحسين عليهما السلام (1). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي قال: حدثنا أبو يونس محمد بن أحمد قال: حدثني أبي وغير واحد من أصحابنا: أن فتى من قريش جلس إلى سعيد بن المسيب، فطلع علي بن الحسين عليهما السلام فقال القرشي لابن المسيب: من هذا يا أبا محمد ؟ قال: هذا سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام (2). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي قال: حدثني محمد بن جعفر وغيره قالوا: وقف على علي بن الحسين عليهما السلام رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: ” قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه ” قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (3) فعلمنا أنه لا يقول له شيئا، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: ” قولوا له: هذا علي بن الحسين ” قال: فخرج إلينا متوثبا للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئا له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: ” يا


(1) الجرح والتعديل 6: 179، سير أعلام النبلاء 4: 389، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 76 / 71. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 76 / 72. (3) آل عمران 3: 134.

[ 146 ]

أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفا فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما في فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك ” قال: فقبل الرجل ما بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به. قال الراوي للحديث: والرجل هو الحسن بن الحسن (1). أخبرني الحسن بن محمد، عن جده قال: حدثني شيخ من أهل اليمن قد أتت عليه بضع وتسعون سنة (بما أخبرني به رجل) (2) يقال له عبد الله بن محمد قال: سمعت عبد الرزاق يقول: جعلت جارية لعلي بن الحسين عليهما السلام تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فنعست فسقط الابريق من يد الجارية فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية: إن الله يقول: (والكاظمين الغيظ) (3) قال: ” قد


(1) ذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 157، والذهبي في سير اعلام النبلاء 4: 397، وفي هامشه عن ابن عساكر 12: 24 آ، وابن منظور في مختصر تاريخ دمشق 17: 240، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 54 / 1. (2) كذا في ” ش ” و ” م ” و ” ح “، وفي هامش ” ش “: قال أخبرني رجل، وفوقه علامة النسخة، وفي هامش ” م ” كلمة قال، وكأن المراد منه هو نفس ما في هامش ” ش “، ونسخة البحار موافقة لهذه النسخة. وقد ورد الخبر في امالي الصدوق بنفس السند حيث قال: حدثنا الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: حدثني يحيى بن الحسين بن جعفر قال: حدثني شيخ من أهل اليمن يقال له: عبد الله ابن محمد قال: سمعت عبد الرزاق، كذا في النسخ المعتبرة من الامالي، وفي النسخة المطبوعة من الامالي: الحسين بن محمد بن يحيى، وهو تصحيف، وشيخه هو جده يحيى بن الحسن بن جعفر وما في نسخ الامالي المخطوطة تصحيف. (3) آل عمران 3: 134.

[ 147 ]

كظمت غيظي (1) ” قالت: (والعافين عن الناس) (2) قال لها: ” عفا الله عنك ” قالت: (والله يحب المحسنين) (3) قال: (اذهبي فأنت حرة ” (4). وروى الواقدي قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي قال: كان هشام بن إسماعيل يسئ جوارنا، ولقي منه علي بن الحسين عليهما السلام أذى شديدا، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، قال: فمر به علي بن الحسين وقد وقف عند دار مروان، قال: فسلم عليه، وكان علي بن الحسين عليه السلام قد تقدم إلى حامته ألا يعرض له أحد (5). وروي: أن علي بن الحسين عليه السلام دعا مملوكه مرتين فلم يجبه، ثم أجابه في الثالثة، فقال له: (يا بني، أما سمعت صوتي ؟ ” قال: بلى، قال: ” فما بالك (6) لم تجبني ؟ ” قال: أمنتك، قال: ” الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمني (7) ” (8).


(1) في ” ش “: الغيظ، وما في المتن من نسخة ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش ” ونسخة البحار، وكذا بعض المصادر. (2) و (3) آل عمران 3: 134. (4) مختصر تاريخ دمشق 17: 240، وذكره الصدوق في أماليه: 168 / 12، وابن شهرآشوب في مناقبه 4: 157، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 68 / 37. (5) انظر تاريخ الطبري 6: 428، كامل ابن الاثير 4: 526، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 55 / 5. (6) في ” م ” وهامش ” ش “: فما لك. (7) في هامش ” ش ” يأمنني. (8) مختصر تاريخ دمشق 17: 240، مناقب ابن شهرآشوب 4: 157، اعلام الورى: 256، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 56 / 6.

[ 148 ]

أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى قال: حدثني جدي قال: حدثنا يعقوب بن يزيد قال: حدذثنا ابن أبي عمير، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي جعفر الاعشى، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: ” اخرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهى، ثم قال: يا علي بن الحسين، ما لي أراك كئيبا (1) حزينا، أعلى الدنيا حزنك ؟ فرزق الله حاضر للبر والفاجر، قال: قلت: ما على هذا أحزن (2)، وإنه لكما تقول، قال: فعلى الآخرة ؟ فهو وعد صادق يحكم فيه ملك قاهر، [ قال: قلت: ولا على هذا أحزن، وإنه لكما تقول، قال: ] (3) فعلام حزنك ؟ قال: قلت: أتخوف من فتنة ابن الزبير قال: فضحك ثم قال: يا علي بن الحسين، هل رأيت أحدا قط توكل على الله فلم يكفه ؟ قلت: لا، قال: يا علي بن الحسين، هل رأيت أحدا قط خاف الله فلم ينجه ؟ قلت: لا، قال: يا علي بن الحسين، هل رأيت أحدا قط قد سأل الله فلم يعطه ؟. قلت: لا، ثم نظرت فإذا ليس قدامي أحد (4) ” (5).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: مكتئبا. (2) في هامش ” ش “: حزني. (3) ما بين المعقوفين اثبتناه من المطبوع وبعض المصادر الاخرى كأمالي المصنف والكافي ومختصر تاريخ دمثق. (4) في مخصر تاريخ دمشق هنا زيادة: “.. يا علي هذا الخضر عليه السلام ناجاك “. (5) التوحيد للصدوق: 373 / 17، مختصر تاريخ دمشق 17: 238، الكافي 2: 52 / 2 بطريق آخر، والمصنف في اماليه: 04 / 34، واخرج نحوه ابو نعيم في حليته 3: 134، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 450، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 203، والمناقب لابن شهرآشوب 4: 137، والخرائج والجرائح للراوندي 1: 269 / 13، = =

[ 149 ]

أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثنا جدي قال: حدثنا أبو نصر قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال: حدثنا يونس بن بكير، عن (ابن إسحاق) (1) قال: كان بالمدينة كذا وكذا أهل بيت يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه، لا يدرون من أين يأتيهم، فلما مات علي بن الحسين عليهما السلام فقدوا ذلك (2). أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثنا جدي قال: حدثنا أبو نصر قال: حدثنا محمد بن علي بن عبد الله قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الله بن هارون قال: حدثني عمرو بن دينار قال: حضرت زيد بن أسامة بن زيد الوفاة فجعل يبكي، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: ” ما يبكيك ؟ ” قال: يبكيني أن علي خمسة عشر ألف دينار ولم أترك لها وفاء، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: (لا تبك، فهي علي، وأنت منها برئ ” فقضاها عنه (3). وروى هارون بن موسى (4) قال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز


– ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 37 / 33. (1) كذا في ” م ” والبحار، وفي ” ح “: أبي اسحاق، وفي ” ش “: علي بن اسحاق. ويونس بن بكير الشيباني يروي عن محمد بن اسحاق كما في تهذيب التهذيب 11: 435، ونقل ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق عين الحديث عن محمد بن اسحاق. وهو الانسب. (2) مختصر تاريخ دمشق 17: 238، وذكره ابو نعيم في حلية الاولياء 3: 136، باختلاف يسير، وابن حجر في تهذيب التهذيب 7: 270 و 11: 382، وابن شهرآشوب في مناقبه 4: 153، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 56 / 7. (3) مختصر تاريخ دمشق 17: 239، وانظر حلية الاولياء 3: 141، وتذكرة الخواص: 298، مناقب آل أبي طالب 4: 163، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 56 / 8. (4) هارون بن موسى هذا من مشايخ يحيى بن الحسن العبيدلي، انظر غاية الاختصار: 22، 24، 32، وقد روى عن عبد الله بن نافع الزبيري في ص 32 من غاية الاختصار، وهو =

[ 150 ]

قال: لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة رد إلى علي بن الحسين صلوات الله عليهما صدقات رسول الله وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليهما، وكانتا مضمومتين، فخرج عمر بن علي إلى عبد الملك يتظلم إليه من نفسه (1) ؟ فقال عبد الملك: أقول كما قال ابن أبي الحقيق: إنا إذا مالت دواعي الهوى * وأنصت السامع للقائل واصطرع الناس بألبابهم * نقضي بحكم عادل فاصل لا نجعل الباطل حقاولا * نلظ (2) دون الحق بالباطل نخاف أن تسفه أحلامنا * فنخمل الدهر مع الخامل (3) أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثنا جدي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن إسماعيل قال: حج علي بن الحسين عليهما السلام فاستجهر (4) الناس من جماله، وتشوفوا إليه وجعلوا يقولون: من هذا ؟ ! من هذا ؟ ! تعظيما له وإجلالا لمرتبته، وكان الفرزدق هناك


= هارون بن موسى بن عبد الله المدني مولى آل عثمان الذي عنونه ابن حجر وذكر روايته عن عبد الله بن نافع الزبيري وروايته عن عبد الملك ابن الماجشون، و عبد الملك بن الماجشون هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التيمي مولاهم أبو مروان المدني المتوفى سنة 212 أو 214. ومن هذا كله يظهر أن الرواية مأخوذة من كتاب يحيى بن الحسن العبيدلي. (1) في هامش ” ش “: أي من اختلال احوال نفسه. (2) الظ به: لازمه لا يفارقه. ” الصحاح – لظظ – 3: 1178 “. (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 121 / 12. (4) لم نعثر على هذه الصيغة في بعض الموسوعات اللغوية المفصلة، وفي هامش النسختين ” ش ” و ” م “: جهرت الرجل واجتهرته [ صح – كما في هامش ” ش ” ] إذا استحسنته، وما أحسن جهره وجهرته.

[ 151 ]

فأنشأ يقول: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم أي الخلائق ليست قي رقابهم * لاولية هذا أو له نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الامم إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم (1) أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد، عن جده قال: حدثني داود ابن القاسم قال: حدثنا الحسين بن زيد، عن عمه عمر بن علي، عن أبيه علي بن الحسين عليهما السلام أنه كان يقول: ” لم أر مثل التقدم في الدعاء، فإن العبد ليس يحضره الاجابة في كل وقت (2) “. وكان مما حفظ عنه من الدعاء حين بلغه توجه مسرف بن عقبة إلى المدينة: ” رب كم من نعمة أنعمت بها علي قل لك عندها شكري، وكم


(1) ديوان الفرزدق 2: 178، وانظر الاغاني 21: 376، الاختصاص: 191، حلية الاولياء 3: 139، مرآة الجنان 1: 239، حياة الحيوان مادة – أسد – 1: 9، مناقب ابن شهرآشوب 4: 169، كفاية الطالب: 451، الفصول المهمة: 207، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 121 / 13، وثمة رواية أخرى للواقعة في المصادر آنفة الذكر. (2) جاء في هامش ” ش ” ما نصه: هذا أمر منه بالدعاء أيام الرخاء ليكون مفزعا وعدة أيام البلاء، فربما يوافق وقت الشدة الوقت الذي لا يستجاب الدعاء فيه.

[ 152 ]

من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري، فيامن قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، وقل (1) عند بلائه صبري فلم يخذلني، يا ذا المعروف الذي (لا ينقطع) (2) أبدا، وياذا النعماء التي لا تحصى عددا، صل على محمد (وآل محمد) (3) وادفع عني شره، فإني أدرأ بك في نحره، وأستعيذ بك من شره ” فقدم مسرف بن عقبة المدينة وكان يقال: لا يريد غير علي بن الحسين، فسلم منه وأكرمه وحباه ووصله (4). وجاء الحديث من غير وجه: أن مسرف بن عقبة لما قدم المدينة أرسل إلى علي بن الحسين عليهما السلام فأتاه، فلما صار إليه قربه وأكرمه وقال له: وصاني أمير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك، فجزاه خيرا، ثم قال: أسرجوا له بغلتي، وقال له: انصرف إلى أهلك، فإني أرى أن قد أفزعناهم وأتعبناك بمشيك إلينا، ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقك لوصلناك، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: (ما أعذرني للامير (5) ! ” وركب، فقال لجلسائه: هذا الخير لا شر فيه، مع موضعه من رسول الله ومكانه منه (6). وجاءت الرواية: أن علي بن الحسين عليه السلام كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم إذ سمع قوما يشبهون الله


(1) في هامش ” ش “: ويا من قل. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: لا ينقضي ولا ينقطع. (3) في هامش ” ش “: وآله. (4) مناقب آل أبي طالب 4: 164، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 122 / 14. (5) في هامش ” ش “: أي اعذر الامير، كما يقول: ما أضربني لزيد. (6) انظر تاريخ الطبري 5: 493، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 122.

[ 153 ]

تعالى بخلقه، ففزع لذلك وارتاع له، ونهض حتى أتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فوقف عنده ورفع صوته يناجي ربه، فقال في مناجاته له: ” إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة فجهلوك، (وقدروك بالتقدير على غير ما به أنت) (1)، شبهوك وأنا برئ ياإلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك (2) شئ إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يناولوك (3)، بل سؤوك بخلقك فمن ثم لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عما به المشبهون نعتوك ” (4). فهذا طرف مما ورد من الحديث في فضائل زين العابدين عليه السلام. وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والادعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والايام ما هو مشهور بين العلماء ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب وتقضى به الزمان. وقد روت الشيعة له آيات معجزات وبراهين واضحات لم


(1) العبارة في ” ش ” مضطربة ومكررة، وأثبتناها من ” م “. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: ليس مثلك. (3) في هامش ” ش “: يعني في خلقك مستغني باعتبار الاستدلال عن تناول ذلك والكلام فيها نفسها، وحقيقة المناولة ان تتناول ذاته عزت. (4) نقله العلامة المجلسي في البحار 3: 293 / 15، وذكره الصدوق في الامالي: 487 عن الامام الرضا عليه السلام وكذا في التوحيد: 124 / 2، والعيون 1: 116 / 5.

[ 154 ]

يتسع لذكرها المكان، ووجودها في كتبهم المصنفة ينوب مناب إيرادها في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.


[ 155 ]

باب ذكر أولاد علي بن الحسين عليهما السلام وولد علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولدا: محمد المكنى أبا جعفر الباقر عليه السلام، أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. و عبد الله والحسن والحسين، أمهم أم ولد. وزيد وعمر، لام ولد. والحسين الاصغر و عبد الرحمن وسليمان، لام ولد. وعلي – وكان أصغر ولد علي بن الحسين – وخديجة، أمهما أم ولد. ومحمد الاصغر، أمه أم ولد. وفاطمة وعلية وأم كلثوم، أمهن أم ولد.


[ 157 ]

باب ذكر الامام بعد علي بن الحسين عليهما السلام، وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، ومبلغ سنه، ومدة خلافته، ووقت وفاته وسببها، وموضع قبره وعدد أولاده، ومختصر من أخباره وكان الباقر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه علي بن الحسين ووصيه والقائم بالامامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكرا وأجلهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدرا، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر عليه السلام، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به علما لاهله تضرب به الامثال، وتسير بوصفه الآثار والاشعار، وفيه يقول القرظي: يا باقر العلم لاهل التقى * وخير من لبى على الا جبل (1) وقال مالك بن أعين الجهني فيه: إذا طلب الناس علم القرا * ن كانت قريش عليه عيالا وإن قيل: أين ابن بنت النب‍ * ي ؟ نلت بذاك فروعا طوالا


(1) سير أعلام النبلاء 4: 403، مختصر تاريخ دمشق 23: 78. (*)

[ 158 ]

نجوم تهلل للمدلجين * جبال تورث علما جبالا (1) وولد عليه السلام بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة، وقبض فيها سنة أربع عشرة ومائة، وسنه يومئذ سبع وخمسون سنة، وهو هاشمي من هاشميين علوي من علويين، وقبره بالبقيع من مدينة الرسول عليه وآله السلام. روى ميمون القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: ” دخلت على جابر بن عبد الله رحمة الله عليه فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال لي: من أنت ؟ – وذلك بعدما كف بصره – فقلت: محمد بن علي بن الحسين، فقال: يا بني ادن مني، فدنوت منه فقبل يدي ثم أهوى إلى رجلي يقبلها فتنحيت عنه، ثم قال لي: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يقرئك السلام، فقلت: وعلى رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته، وكيف ذلك يا جابر ؟ فقال: كنت معه ذات يوم فقال لي: يا جابر، لعلك أن تبقى حتى تلقى رجلا من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين، يهب الله له النور والحكمة فأقرئه مني السلام ” (2). وكان في وصية أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده ذكر محمد بن


(1) معجم الشعراء للمرزباني: 268، سير اعلام النبلاء 4: 404. (2) انظر الكافي 1: 390 / 2، امالي الصدوق: 289 / 9، كمال الدين 1: 254 / 3، علل الشرائع 1: 233، مختصر تاريخ دمشق 23: 78، الفصول المهمة: 211، المناقب لابن شهرآشوب 4: 196، وقد ورد فيها مضمون الخبر بطرق مختلفة. وقد روى هذا الخبر في غاية الاختصار: 104 باسناده إلى محمد بن الحسن العبيدلي، قال: أخبرني ابن أبي بزة: أخبرنا عبد الله بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه. ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 227 / 8.

[ 159 ]

علي والوصاة به. وسماه رسول الله وعرفه بباقر العلم (1)، على ما رواه أصحاب الاثار، وبما روي عن جابر بن عبد الله في حديث مجرد أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ” يوشك أن تبقى حتى تلقى ولدا لي من الحسين يقال له: محمد يبقر علم الدين بقرا، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام ” (2). وروت الشيعة في خبر اللوح الذى هبط به جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله من الجنة، فأعطاه فاطمة عليها السلام وفيه أسماة الائمة من بعده، وكان فيه: ” محمد ابن علي الامام بعد أبيه ” (3). وروت أيضا: أن الله تبارك وتعالى أنزل إلى نبيه عليه وآله السلام كتابا مختوما باثني عشر خاتما، وأمره أن يدفعه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ويأمره أن يفض أول خاتم فيه ويعمل بما تحته، ثم يدفعه عند وفاته إلى ابنه الحسن عليه السلام ويأمره أن يفض الخاتم الثاني ويعمل بما تحته، ثم يدفعه عند حضور وفاته إلى أخيه الحسين ويأمره أن يفض الخاتم الثالث ويعمل بما تحته، ثم يدفعه الحسين عند وفاته إلى ابنه علي بن الحسين عليهما السلام ويأمره بمثل ذلك ويدفعه علي بن الحسين عند وفاته إلى ابنه محمد بن علي الاكبر عليه السلام ويأمره بمثل ذلك، ثم يدفعه محمد بن علي إلى


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: العلوم. (2) مناقب آل أبي طالب 4: 197، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 222 / 6. (3) انظر ص 138 من هذا الكتاب.

[ 160 ]

ولده حتى ينتهي إلى آخر الائمة عليهم السلام أجمعين (1). ورووا أيضا نصوصا كثيرة عليه بالامامة بعد أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أمير المؤمنين وعن الحسين وعلى بن الحسين عليهم السلام. وقد روى الناس من فضائله ومناقبه ما يكثر به الخطب إن أثبتناه، وفيما نذكره منه كفاية فيما نقصده في معناه إن شاء الله. أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي قال: حدثنا محمد بن القاسم الشيباني قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الازدي، عن أبي مالك الجنبي (2)، عن عبد الله بن عطاء المكي قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين عليهم السلام، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة – مع جلالته في القوم – بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه (3). وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي عليهما السلام شيئا قال: حدثني وصف الاوصياء ووارث علم الانبياء محمد ابن علي بن الحسين عليهم السلام.


(1) انظر الكافي 1: 220 / 1، 2، أمالي الصدوق: 328 / 2، كمال الدين: 231 / 35، غيبة النعماني: 52 / 3، 4، أمالي الطوسي 2: 56. (2) كذا واضحا في ” ش ” و ” م ” و ” ح ” وفي ذيل الكلمة في ” ش “: ” هكذا ” وكأنه اشارة إلى أنه هو الموجود في نسخة قرئت عل المصنف، وقد تكررت الحكاية عن نسخة قرئت على الشيخ – يعنى المصنف – كما مر. وفي هامش ” ش “: ” الجنبي لا غير، ” وقد سقط (عن أبي مالك الجنبي) من نسخة البحار، وفي المطبوع من الارشاد (الجهني) وهو تصحيف من النساخ، وعلى هذه النسخة المصحفة بنى بعض المعاصرين الوهم الذي عقده في كتابه واعترض على المصنف وغيره. (3) مختصر تاريخ دمشق 23: 79، حلية الاولياء 3: 186، مناقب آل أبي طالب 4: 180 و 204، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 286 / 2.

[ 161 ]

وروى مخول بن إبراهيم، عن قيس بن الربيع قال: سألت أبا إسحاق عن المسح فقال: أدركت الناس يمسحون حتى لقيت رجلا من بني هاشم لم أر مثله قط، محمد بن علي بن الحسين، فسألته عن المسح على الخفين فنهاني عنه، وقال: ” لم يكن في أمير المؤمنين عليه السلام يمسح، وكان يقول: سبق الكتاب المسح على الخفين “. قال أبو إسحاق: فما مسحت منذ نهاني عنه. قال قيس بن الربيع: وما مسحت أنا منذ سمعت أبا إسحاق (1). أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي، عن يعقوب بن يزيد قال: حدثنا محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا – لفضل علي بن الحسين – حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني. فقال له أصحابه: بأي (2) شئ وعظك ؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيت محمد ابن علي – وكان رجلا بدينا – وهو متكئ عل غلامين له أسودين – أو موليين له – فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 286 / 4. (2) في ” ش “: اي.

[ 162 ]

هذه الحال (1) في طلب الدنيا ! أشهد لاعظنه ؟ فدنوت منه فسلمت عليه، فسلم علي ببهر (2) وقد تصبب عرقا، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا ! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال ؟ ! قال: فخلى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: (لو جاءني والله الموت وأنا (في هذه) (3) الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله “. فقلت: يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني (4). أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي قال: حدثني (شيخ من أهل الري) (5) قد علت سنه قال: حدثني يحيى ابن عبد الحميد الحماني، عن معاوية بن عمار الدهني، عن محمد بن علي ابن الحسين عليهم السلام في قول الله عزوجل: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” (6) قال: ” نحن أهل الذكر “.


(1) في ” ش “: الحالة. (2) البهر: تتابع النفس. ” الصحاح – بهر – 2: 598 “. (3) في هامش ” ش “: على هذه. (4) رواه الكليني في الكافي بسند آخر عن ابن ابي عمير 5: 73 / 10، والشيخ الطوسي في التهذيب 6: 325 / 894، ومختصرا في المناقب لابن شهرآشوب 4: 201، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 287. (5) كذا في ” ش ” و ” م “، وفي ” ح “: شيخ من مشايخ الري، وقد جعل في هامش ” ش “: من أشياخ، ومثله في هامش ” م ” بدون ” من ” والظاهر ان المراد ان في بعض النسخ (أشياخ) بدل (أهل). (6) النحل 16: 43، الانبياء 21: 7.

[ 163 ]

قال الشيخ الرازي: وقد سألت محمد بن مقاتل عن هذا فتكلم فيه برأيه، وقال: أهل الذكر: العلماء كافة، فذكرت ذلك لابي زرعة فبقي متعجبا من قوله، وأوردت عليه ما حدثني به يحيى بن عبد الحميد، قال: صدق محمد بن علي، إنهم أهل الذكر، ولعمري إن أبا جعفر عليه السلام لمن أكبر العلماء (1). وقد روى أبو جعفر عليه السلام أخبار المبتدأ (2) وأخبار الانبياء، وكتب عنه الناس المغازي وأثروا عنه السنن (3) واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصة والعامة الاخبار، وناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء، وحفظ عنه الناس كثيرا من علم الكلام. أخبرني الشريف أبو محمد قال: حدثني جدي قال: حدثني الزبير بن أبي بكر قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين عليهم السلام جالس في المسجد، فقال له سالم مولاه: يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي، قال هشام: المفتون به أهل العراق ؟ قال: نعم، قال: اذهب إليه فقل له يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة ؟


(1) انظر الكافي 1: 163 – 165 باب ان اهل الذكر هم الائمة عليهم السلام، المناقب لابن شهرآشوب 4: 178 باختصار، وفي بصائر الدرجات: 11 – 15، فلاحظ. (2) في هامش ” ش “: يعني ابتداء خلق العالم. (3) في ” ش ” و ” م ” و ” ح “: السير، وما اثبتناه من هامش ” ش ” و ” م “.

[ 164 ]

قال له أبو جعفر عليه السلام: ” يحشر الناس على مثل قرص النقي (1)، فيها أنهار متفجرة، يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب “. قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به، فقال: الله أكبر، اذهب إليه فقل له: ما أشغلهم عن الاكل والشرب يومئذ ؟ ! فقال له أبو جعفر عليه السلام: ” هم في النار أشغل ولم يشغلوا عن أن قالوا: (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ” (2) ” فسكت هشام لا يرجع كلاما (3). وجاءت الاخبار أن نافع بن الازرق جاء إلى محمد بن علي عليهما السلام فجلس بين يديه فسأله (4) عن مسائل في الحلال والحرام، فقال له أبو جعفر عليه السلام في عرض كلامه: ” قل لهذه المارقة: بم استحللتم فراق أمير المؤمنين عليه السلام وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى الله بنصرته ؟ ! فسيقولون لك: إنه حكم في دين الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه عليه السلام رجلين من خلقه فقال تعالى: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا


(1) النقي: الخبز الحواري ” النهاية 5: 112 “. (2) الاعراف 7: 50. (3) سير اعلام النبلاء 4: 405، وفي هامشه عن تاريخ ابن عساكر 15: 353 ب، مختصر تاريخ دمشق 23: 79، وذكر الكليني في الكافي 8: 121 / 93 نحوه، وكذا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 198، والطبرسي في الاحتجاج: 323، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 332 / 14. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: يسأله.

[ 165 ]

يوفق الله بينهما ” (1) وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم فيهم بما أمضاه الله، أوما علمتم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه، واشترط رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال، وقال حين قالوا له: حكمت على نفسك من حكم عليك، فقال: ما حكمت مخلوقا، وإنما حكمت كتاب الله، فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن واشترط رد ما خالفه ؟ ! لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان “. فقال نافع بن الازرق: هذا كلام ما مر بسمعي قط، ولا خطر مني ببال، وهو الحق إن شاء الله (2). وروى العلماء: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ليمتحنه بالسؤال، فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله عز اسمه: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتفناهما ” (3) ما هذا الرتق والفتق ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: ” كانت السماء رتقا لا تنزل القطر، وكانت الارض رتقا لا تخرج النبات ” فانقطع عمرو ولم يجد اعتراضا. ومضى ثم عاد إليه فقال له: خبرني – جعلت فداك – عن قوله جل ذكره: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ” (4) ما غضب الله ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: ” غضب الله عقابه يا عمرو، ومن ظن أن الله يغيره


(1) النساء 4: 35. (2) الاحتجاج: 324، البداية والنهاية 9: 339. (3) الانبياء 21: 30. (4) طه 20: 81.

[ 166 ]

شئ فقد كفر ” (1). وكان – مع ما وصفناه به من الفضل في العلم والسؤدد والرئاسة والامامة – ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفا بالفضل (2) والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله. حدثني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي قال: حدثنا أبو نصر قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا حبان (3) بن علي، عن الحسن بن كثير قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام الحاجة وجفاء الاخوان، فقال: ” بئس الاخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا ” ثم أمر غلامه فأخرج كيسا فيه سبعمائة درهم وقال: ” استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني ” (4). وقد روى (محمد بن الحسين) (5) قال: حدثنا عبد الله بن الزبير قال: حدثونا عن عمرو بن دينار و عبد الله بن عبيد بن عمير أنهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام إلا وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة، ويقول: ” هذه معدة لكم قبل أن تلقوني ” (6).


(1) اخرج صدره الكليني في الكافي 1: 86 / 5، والصدوق في التوحيد: 168 / 1، والمعاني: 18 / 1، والطبرسي في الاحتجاج: 326، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 354 / 7. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: بالتفضل. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: الصحيح حبان بالفتح، الا أن أصحاب الحديث قد أولعوا فيه بالكسر، وهو اخو مندل بن علي العنزي، منسوب إلى عنزة وهي قبيلة. (4) مناقب آل أبي طالب 4: 207، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 287 / 6. (5) يحتمل كونه محمد بن الحسين المذكور في الخبر السابق، فهذا أيضا مأخوذ من كتاب الحسين ابن يحيى جد الشريف أبي محمد الحسن بن محمد. (6) مناقب آل أبي طالب 4: 207، البداية والنهاية 9: 341 ونقله العلامة المجلسي في البحار =

[ 167 ]

وروى أبو نعيم النخعي، عن معاوية بن هشام، عن سليمان بن قرم قال: كان أبو جعفر محمد بن عللي عليهما السلام يجيزنا بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الالف درهم، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه (1). وروي عنه عن آبائه عليه وعليهم السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: ” أشد الاعمال ثلاثة: مواساة الاخوان في المال، وإنصاف الناس من نفسك، وذكر الله على كل حال ” (2). وروى إسحاق بن منصور السلولي قال: سمعت الحسن بن صالح يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام يقول: ” ما شيب شئ بشئ أحسن (3) من حلم بعلم ” (4). وروي عنه عليه السلام أنه سئل عن الحديث يرسله ولا يسنده فقال: ” إذا حدثت الحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي عن جدي عن أبيه عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله عن جبرئيل عليه السلام عن الله عزوجل ” (5). وكان عليه وآبائه السلام يقول: (بلية الناس علينا عظيمة، إن


= 46: 288 / 7. (1) مناقب آل أبي طالب 1: 207 مختصرا، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 288 / 9. (2) الخصال 1: 125 / ضمن ح 122 باختلاف يسير. (3) في هامش ” ش “: الضم على انه صفة شئ، والنصب على انه صفة مصدر محذوف، يعني ما شيب شوبا أحسن. (4) الخصال – 1: 4 / 10 باختلاف يسير. (5) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 288 / 11.

[ 168 ]

دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا ” (1). وكان عليه السلام يقول: ” ما ينقم الناس منا ؟ ! نحن أهل بيت الرحمة، وشجرة النبوة، ومعدن الحكمة، وموضع (2) الملائكة، ومهبط الوحي ” (3). وتوفي عليه وآبائه السلام وخلف سبعة أولاد، وكان لكل واحد من إخوته فضل وإن لم يبلغ فضله لمكانه من الامامة، ورتبته عند الله في الولاية، ومحله من النبي عليه وآله السلام في الخلافة. وكانت مدة إمامته وقيامه مقام أبيه في خلافة الله عزوجل على العباد تسع عشرة سنة.


(1) مناقب آل أبي طالب 4: 206، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 288 / ذيل ح 11. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: مختلف. (3) بصائر الدرجات: 77 / 5 باختلاف يسير، الكافي 1: 172 / 1 عن علي بن الحسين عليه السلام باختلاف يسير أيضا.

[ 169 ]

باب ذكر [ إخوته و ] (1) طرف من أخبارهم وكان عبد الله بن علي بي الحسين أخو أبي جعفر عليه السلام يلي صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وصدقات أمير المؤمنين عليه السلام وكان فاضلا فقيها، وروى عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبارا كثيرة، وحدث الناس عنه وحملوا عنه الآثار. فمن ذلك ما رواه (إبراهيم بن محمد بن داود بن عبد الله الجعفري) (2)، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية (3)، عن عبد الله بن علي بن الحسين (4) أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” إن البخيل كل البخيل الذي إذا ذكرت عنده لم يصل علي ” (5). وروى زيد بن الحسن بن عيسى قال: حدثنا (أبو بكر بن أبي


(1) ما بين المعقوفين ليس في النسخ الثلاث وما أثبتناه من المطبوع لضرورة السياق. (2) كذا في النسخ، لكن قد ترجم ابن حجر في تهذيب التهذيب 6: 353 لعبد العزيز بن محمد الدراوردي وذكر روايته عن عمارة بن غزية ورواية داود بن عبد الله الجعفري عنه، وقد ورد في غاية الاختصار: 22 عن رواية يحيى بن الحسن العبيدلي عن هارون بن موسى عن داود بن عبد الله الجعفري عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، فحينئذ لا يبعد وقوع تحريف في سند الكتاب، وكونه مأخوذا من كتاب العبيدلي كسائر روايات هذا الفصل. (3) ضبط في ” ش ” و ” م “: ” غزية “، وفي هامش ” ش “: ” غزية لا غير “، ولعله تعريض بقول آخر. (4) رواه عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله. كما في معاني الاخبار. (5) معاني الاخبار: 246 / 9 باختلاف يسير ونقله العلامة المجلسي في البحار 94: 61 / 47.

[ 170 ]

أويس) (1)، عن عبد الله بن سمعان قال: لقيت عبد الله بن علي بن الحسين فحدثني عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه كان يقطع يد السارق اليمنى في أول سرقته، فإن سرق ثانية قطع رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة خلده (2) السجن (3). وكان عمر بن علي بن الحسين فاضلا جليلا، وولي صدقات النبي صلى الله عليه وآله وصدقات أمير المؤمنين عليه السلام وكان ورعا سخيا. وقد روى (داود بن القاسم) (4) قال: حدثنا الحسين بن زيد قال: رأيت عمي عمر بن علي بن الحسين يشرط (5) على من ابتاع صدقات


(1) كذا في ” م ” و ” ح ” وفي ” ش. ” أبو بكر بن اويس ” وفي هامشها: ” أبي أو “، وفوقه: ” نسخة سيد ” والظاهر ان المراد ان في نسخة السيد – اي السيد فضل الله الراوندي -: أبو بكر بن أبي اويس، كيف كان فقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب 3: 407 زيد بن الحسن العلوي، روى عن عبد الله بن موسى العلوي وأبي بكر بن أبي اويس، وعنه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي النسابة، انتهى. ومنه يظهر ان الخبر من كتاب العبيدلي يحيى بن الحسن على الظاهر، وعلى أي حال فأبو بكر أبن أبي اويس هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن اويس الاصبحي أبو بكر بن أبي اويس المدني الاعشى كما ترجمه ابن حجر في تهذيب التهذيب 6: 118 وذكر وفاته سنة 202 ببغداد. ومن عنوان ابن حجر له يعلم صحة اطلاق أبي بكر بن اويس عليه أيضا. (2) في ” ش ” و ” م “: خلد. وما في المتن من نسخة ” ح “. (3) الكافي 7: 222 / 4 باختلاف يسير، وكذا دعائم الاسلام 2: 470 / 1674، ونقله العلامة المجلسي في البحار 79: 188 / 25. (4) قد مر في ص 151 رواية المصنف عن أبى محمد الحسن بن محمد عن جده عن داود بن القاسم عن الحسين بن زيد عن عمه عمر بن علي، والظاهر ان هذا الخبر أيضا مأخوذ من كتاب العبيدلي جد أبي محمد الحسن بن محمد. (5) في هامش ” ش “: يشترط.

[ 171 ]

علي عليه السلام أن يثلم في الحائط كذا وكذا ثلمة، ولا يمنع من دخله يأكل منه (1). أخبرني الشريف أبو محمد قال: حدثني جدي قال: حدثنا (أبو الحسن بكار بن أحمد الازدي) (2) قال: حدثنا الحسن بن الحسين العرني، عن عبيدالله بن جرير القطان قال: سمعت عمر بن علي بن الحسين يقول: المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا، لنا حق بقرابتنا من نبينا عليه وآله السلام وحق جعله الله لنا، فمن تركه ترك عظيما، أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به، ولا تقولوا فينا ما ليس فينا، إن يعذبنا الله فبذنوبنا، وإن يرحمنا فبرحمته وفضله (3). وكان زيد بن علي بن الحسين عين إخوته بعد أبي جعفر عليه السلام وأفضلهم، وكان عابدا ورعا فقيها سخيا شجاعا، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويطالب بثارات الحسين عليه السلام. أخبرني الشمريف أبو محمد الحسن بن محمد، عن جده، عن


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 167 / 10. (2) كذا في نسخة البحار المطبوع، وفي متن ” ش ” و ” م ” و ” ح “: بكار بن الحسن بن أحمد الازدي، وفي هامش ” م ” و ” ش ” كنيته: أبو الحسن بكار. ثم ان في متن ” ش “: محمد بدل أحمد وفوقه علامة تشبه أن تكون (سيد)، ولكن في هامشها أحمد / س صح، وهو ما اثبتناه، فقد عنونه الشيخ في فهرسته 39: 128: بكار بن أحمد، واثبت له كتبا روى بعضها علي بن العباس المقانعي وبعضها الحسين بن عبد الكريم الزعفراني. وعنونه في باب من لم يرو عنهم في الرجال: 456 / 2: بكار بن أحمد بن زياد، روى عنه ابن الزبير – والموجود في الفهرست رواية ابن الزبير عنه بتوسط علي بن العباس المقانعي لا مباشرة – ويأتي في ص 193 رواية علي بن العباس المقانعي عن بكار بن أحمد عن حسن بن حسين، وهو نفس من يروي عنه بكار بن أحمد في هذه الرواية (3) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 167.

[ 172 ]

الحسن بن يحيى قال: حدثنا الحسن بن الحسين، عن يحيى بن مساور، عن أبي الجارود زياد بن المنذر قال: قدمت المدينة فجعلت كلما سألت عن زيد بن علي قيل لي: ذاك حليف القرآن (1). وروى هشيم (2) قال: سألت خالد بن صفوان عن زيد بن علي – وكان يحدثنا عنه – فقلت: أين لقيته ؟ قال: بالرصافة (3)، فقلت: أي رجل كان ؟ فقال: كان – ما علمت – يبكي من خشية الله حتى تختلط دموعه بمخاطه (4). واعتقد فيه كثير من الشيعة الامامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف يدعو إلى الرضا من آل محمد فظنوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها به لمعرفته عليه السلام باستحقاق أخيه للامامة من قبله، ووصيته عند وفاته إلى أبي عبد الله عليه السلام. وكان سبب خروج أبي الحسين زيد رضي الله عنه – بعد الذي ذكرناه من غرضه في الطلب بدم الحسين عليه السلام – أنه دخل على هشام بن عبد الملك، وقد جمع له هشام أهل الشام وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول إلى قربه، فقال له زيد: إنه ليس من عباد الله أحد فوق أن يوصى بتقوى الله، ولا من عباده أحد دون أن يوصي بتقوى الله، وأنا أوصيك بتقوى الله – يا أمير المؤمنين – فاتقه.


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 186. (2) في ” ش ” و ” ح “: هشام، ولكن في ” م ” وهامش ” ش “: هشيم، وقد كتب في هامشهما: هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو شيخ البخاري ومسلم. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: الرصافة هذه بلدة بالشام. (4) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 186.

[ 173 ]

فقال له هشام: أنت المؤهل نفسك للخلافة الراجي لها ؟ ! وما أنت وذاك – لا أم لك – وإنما أنت ابن أمة، فقال له زيد: إني لا أعلم أحدا أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة، يا هشام ؟ ! وبعد، فما يقصر برجل أبوه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن علي بن أبي طالب، فوثب هشام عن مجلسه ودعا قهرمانه وقال: لا يبيتن هذا في عسكري. فخرج زيد رحمة الله عليه وهو يقول: إنه لم يكره قوم قط حر السيوف إلا ذلوا. فلما وصل الكوفة اجتمع إليه أهلها فلم يزالوا به حتى بايعوه على الحرب، ثم نقضوا بيعته وأسلموه، فقتل عليه السلام وصلب بينهم أربع سنين، لا ينكر أحد منهم ولا يغير ولا لسان. ولما قتل بلغ ذلك من أبي عبد الله عليه السلام كل مبلغ، وحزن له حزنا عظيما حتى بان عليه، وفرق من ماله على عيال من أصيب معه من أصحابه ألف دينار. (روى ذلك أبو خالد الواسطي قال: سلم إلي أبو عبد الله عليه السلام ألف دينار) (1)، وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد، فأصاب عيال عبد الله بن الزبير أخي فضيل الرسان منها أربعة دنانير (2).


(1) ما بين القوسين لم ترد في ” ش ” و ” م “، وما اثبتناه من ” ح “. (2) انظر اختيار معرفة الرجال: 338 / 622، نقله عن عبد الرحمن بن سيابة، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 187.

[ 174 ]

وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة، وكانت سنه يومئذ أثنتين وأربعين سنة. وكان الحسين بن علي بن الحسين فاضلا ورعا، وروى حديثا كثيرا عن أبيه علي بن الحسين وعمته فاطمة بنت الحسين وأخيه أبي جعفر عليهم السلام. وروى أحمد بن عيسى قال: حدثنا أبي قال: كنت أرى الحسين بن علي بن الحسين يدعو، فكنت أقول: لا يضع يده حتى يستجاب له في الخلق جميعا (1). وروى حرب الطحان قال: حدثني سعيد صاحب الحسن بن صالح قال: لم أر أحدا أخوف من الحسن بن صالح، حتى قدمت المدينة فرأيت الحسين بن علي بن الحسين عليهم السلام فلم أر أشد خوفا منه، كأنما أدخل النار ثم أخرج منها لشدة خوفه (2). وروى يحيى بن سليمان بن الحسين، عن عمه إبراهيم بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن الحسين قال: كان إبراهيم بن هشام المخزومي واليا على المدينة، فكان يجمعنا يوم الجمعة قريبا من المنبر، ثم يقع في علي ويشتمه. قال: فحضرت يوما وقد امتلا ذلك المكان، فلصقت بالمنبر فأغفيت، فرأيت القبر قد انفرج وخرج منه رجل عليه ثياب بياض، فقال لي: يا أبا عبد الله، ألا يحزنك ما يقول هذا ؟ قلت: بلى والله، قال: افتح عينيك، انظر ما يصنع الله به، فإذا هو قد ذكر


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 167. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 167.

[ 175 ]

عليا فرمي به من فوق المنبر فمات لعنه الله (1).


(1) اعلام الورى: 258، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 167.

[ 176 ]

باب ذكر ولد أبي جعفر عليه السلام وعددهم وأسمائهم قد ذكرنا فيما سلف أن ولد أبي جعفر عليه السلام سبعة نفر: أبو عبد الله جعفر بن محمد – وكان به يكنى – و عبد الله بن محمد، أمهما أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. وإبراهيم وعبيدالله، درجا (1)، امهما أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة الثقفية. وعلي وزينب، لام ولد. وأم سلمة، لام ولد (2). ولم يعتقد في أحد من ولد أبي جعفر عليه السلام الامامة إلا في أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام خاصة، وكان أخوه عبد الله رضي الله عنه يشار إليه بالفضل والصلاح. وروي: انه دخل على بعض بني أمية فأراد قتله، فقال له عبد الله رضي الله عنه: لا تقتلني فأكون (3) لله عليك عونا، وآستبقني أكن لك على الله عونا ؟ يريد بذلك أنه ممن يشفع إلى الله فيشفعه، فقال له الاموي:


(1) في هامش ” ش “: درجا اي لم يعقبا. (2) انظر الطبقات لابن سعد 5: 320. (3) في ” ش ” و ” م ” أكن، وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لنسخة ” ح “، وكذا صحح في هامش ” ش “.

[ 177 ]

لست هناك، وسقاه السم فقتله (1).


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 46: 365 / 3.

[ 179 ]

باب ذكر الامام القائم بعد أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام من ولده، وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، ومبلغ سنه، ومدة خلافته، ووقت وفاته، وموضعع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره وكان الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه محمد بن علي عليهما السلام ووصيه والقائم بالامامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل، وكان أنبههم ذكرا، وأعظمهم قدرا، وأجلهم في العامة والخاصة، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الاخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل (1). وكان له عليه السلام من الدلائل الواضحة في (2) إمامته، ما بهرت القلوب وأخرست المخالف عن الطعن (3) فيها بالشبهات. وكان مولده عليه السلام بالمدينة سنة ثلاث وثمانين من الهجرة،


(1) انظر مناقب ابن شهرآشوب 4: 247، واعلام الورى: 325، والمعتبر: 5. (2) في هامش ” ش “: على. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: الطعون.

[ 180 ]

ومضى عليه السلام في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة، وله خمس وستون سنة، ودفن بالبقيع مع أبيه وجده وعمه الحسن عليهم السلام. وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. وكانت إمامته عليه السلام أربعا وثلاثين سنة. ووصى إليه أبوه أبو جعفر عليه السلام وصية ظاهرة، ونص عليه بالامامة نصا جليا. فروى محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: ” لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيرا، قلت: جعلت فداك، والله لادعنهم (1) والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحدا ” (2). وروى أبان بن عثمان، عن أبي الصباح الكناني قال: نظر أبو جعفر عليه السلام إلى أبي عبد الله عليه السلام فقال: ” ترى هذا، هذا من الذين قال الله عزوجل: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (3) ” (4). وروى هشام بن سالم، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سئل


(1) في هامش ” ش “: أي اغنيهم. وهو تفسير لكل الجملة. (2) الكافي 1: 244 / 2، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 12 / 2. (3) القصص 28: 5. (4) الكافي 1: 243 / 1، مناقب ابن شهرآشوب 4: 214، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 13 / 4.

[ 181 ]

أبو جعفر عليه السلام عن القائم بعده، فضرب بيده على أبي عبد الله وقال: ” هذا والله قائم آل محمد عليهم السلام ” (1). وروى علي بن الحكم، عن طاهر – صاحب أبي جعفر عليه السلام – قال: كنت عنده فأقبل جعفر عليه السلام فقال أبو جعفر عليه السلام: ” هذا خير البرية ” (2). وروى يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الاعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إن أبي عليه السلام استودعني ما هناك، فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا، فدعوت أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر، قال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (3) وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه يوم الجمعة، وأن يعممه بعمامته، وأن يربع قبره ويرفعه أربع أصابع، وأن يحل عنه أطماره (4) عند دفنه، ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت، ما كان في هذا بأن يشهد عليه ؟ فقال: يا بني، كرهت أن تغلب، وأن يقال: لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجة ” (5).


(9) الكافي 1: 244 / 7، واشار المسعودي إليه في اثبات الوصية: 155، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 13 / 6. (2) الكافي 1: 244 / 4، 5، الامامة والتبصرة: 199 / 55، واشار إليه المسعودي في اثبات الوصية: 155، عن فضيل بن يسار، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 130 / 6. (3) البقرة 2: 132. (4) في هامش ” ش “: اطمار جمع طمر، وهو ثوب خلق. (5) الكافي 1: 244 / 8، مناقب ابن شهر آشوب 4: 278، الفصول المهمة: 222، ونقله =

[ 182 ]

وأشباه هذا الحديث في معناه كثير، وقد جاءت الرواية التي قدمنا ذكرها في خبر اللوح بالنص عليه من الله تعالى بالامامة (1). ثم الذي قدمناه – من دلائل العقول على أن الامام لا يكون إلا الافضل (2) – يدل على إمامته عليه السلام لظهور فضله في العلم والزهد والعمل على كافة إخوته وبني عمه وسائر الناس من أهل عصره. ثم الذي يدل على فساد إمامة من ليس بمعصوم كعصمة الانبياء عليهم السلام وليس بكامل في العلم، وظهور تعري من سواه ممن ادعي له الامامة في وقته عن العصمة، وقصورهم عن الكمال في علم الدين، يدل على إمامته عليه السلام، إذ لا بد من إمام معصوم في كل زمان، حسب ما قدمناه ووصفناه (3). وقد روى الناس من آيات الله الظاهرة على يده (4) عليه السلام ما يدل على إمامته وحقه، وبطلان مقال من ادعى الامامة لغيره. فمن ذلك ما رواه نقلة الآثار (5) من خبره عليه وآبائه السلام مع المنصور لما أمر الربيع باحضار أبي عبد الله عليه السلام فأحضره، فلما بصر به المنصور قال له: قتلني اللة إن لم أقتلك، أتلحد في سلطاني


= المجلسي في البحار 47: 13 / 9. (1) تقدم في باب ذكر الامام علي بن الحسين عليه السلام – دلائل امامته – وكذا باب ذكر الامام الباقر عليه السلام – دلائل امامته – فراجع. (2 و 3) تقدم في باب ذكر الامام علي بن الحسين عليه السلام، دلائل امامته. (4) في هامش ” ش “: يديه. (5) في ” م ” وهامش ” ش “: الاخبار.

[ 183 ]

وتبغيني الغوائل ؟ ! فقال له أبو عبد الله عليه السلام: (والله ما فعلت ولا أردت، فإن كان بلغك فمن كاذب، (ولو كنت) (1) فعلت لقد ظلم يوسف فغفر، وابتلي أيوب فصبر، وأعطي سليمان فشكر، فهؤلاء أنبياء الله وإليهم يرجع نسبك “. فقال له المنصور: أجل، ارتفع هاهنا، فارتفع، فقال له: إن فلان ابن فلان أخبرني عنك بما ذكرت. فقال: ” أحضره – يا أمير المؤمنين – ليواقفني على ذلك ” فأحضر الرجل المذكور. فقال له المنصور: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر ؟ قال: نعم، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ” فاستحلفه على ذلك “. فقال له المنصور: أتحلف ؟ قال: نعم، وابتدأ باليمين. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ” دعني – يا أمير المؤمنين – أحلفه أنا “. فقال له: افعل. فقال أبو عبد الله للساعي: ” قل: برئت من حول الله وقوته، والتجأت إلى حولي وقوتي، لقد فعل كذا وكذا جعفر، وقال كذا وكذا جعفر “. فامتنع منها هنيهة ثم حلف بها، فما برح حتى ضرب برجله.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: وان كنت.

[ 184 ]

فقال أبو جعفر: جروا برجله، فأخرجوه لعنه الله. قال الربيع: وكنت رأيت جعفر بن محمد عليهما السلام حين دخل على المنصور يحرك شفتيه، فكلما حركهما سكن غضب المنصور، حتى أدناه منه وقد رضي عنه. فلما خرج أبو عبد الله عليه السلام من عند أبي جعفر اتبعته فقلت: إن هذا الرجل كان من أشد الناس غضبا عليك، فلما دخلت عليه دخلت وأنت تحرك شفتيك، وكلما حركتهما سكن غضبه، فبأي شئ كنت تحركهما ؟ قال: ” بدعاء جدي الحسين بن علي عليهما السلام ” قلت: جعلت فداك، وما هذا الدعاء ؟ قال: ” يا عدتي (عند شدتي) (1)، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام “. قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء، فما نزلت بي شدة قط إلا دعوت به ففرج عني. قال: وقلت لجعفر بن محمد: لم منعت الساعي أن يحلف بالله ؟ قال: ” كرهت أن يراه الله يوحده ويمجده فيحلم عنه ويؤخر عقوبته، فاستحلفته بما سمعت فأخذه الله أخذة رابية ” (2). وروي أن داود بن علي بن عبد الله بن عباس قتل المعلى بن خنيس – مولى جعفر بي محمد عليهما السلام – وأخذ ماله، فدخل عليه جعفر وهو


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: في شدتي. (2) رواه ابن الصباغ في الفصول المهمة: 225، باختلاف يسير، واشار إلى الواقعة باختصار سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 309، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 455، ونفله العلامة المجلسي في البحار 47: 174 / 21.

[ 185 ]

يجر رداءه فقال له: ” قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب، أما والله لادعون الله عليك ” فقال له داود: أتتهددنا (1) بدعائك ؟ كالمستهزئ بقوله. فرجع أبو عبد الله عليه السلام إلى داره، فلم يزل ليله كله قائما وقاعدا، حتى إذا كان السحر سمع وهو يقول في مناجاته: ” يا ذا القوة القوية، ويا ذا المحال الشديد، ويا ذا العزة التي كل خلقك لها ذليل، اكفني هذا الطاغية وانتقم لي منه ” فما كان إلا ساعة حتى ارتفعت الاصوات بالصياح وقيل: قد مات داود. ابن علي الساعة (2). وروى أبو بصير قال: دخلت المدينة وكانت معي جويرية لي فأصبت منها، ثم خرجت إلى الحمام فلقيت أصحابنا الشيعة وهم متوجهون إلى جعفر ابن محمد عليهما السلام فخفت أن يسبقوني ويفوتني الدخول إليه، فمشيت معهم حتى دخلت الدار، فلما مثلت بين يدي أبي عبد الله عليه السلام نظر إلي ثم قال: ” يا أبا بصير، أما علمت أن بيوت الانبياء وأولاد الانبياء لا يدخلها الجنب ” فاستحييت وقلت له: يا ابن رسول الله، إني لقيت أصحابنا فخشيت أن يفوتنى الدخول معهم، ولن أعود إلى مثلها ؟ وخرجت (3). وجاءت الرواية عنه مستفيضة بمثل ما ذكرناه من الآيات والاخبار بالغيوب مما يطول تعداده.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: أتهددنا. (2) رواه مختصرا ابن الصباغ في الفصول المهمة: 226، وأشار إلى نحوه الكليني في الكافي 2: 372 / 5، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 230، والراوندي في الخرائج 2: 611 / 7. (3) روى نحوه الصفار في بصائره: 261 / 23، والطبري في دلائل الامامة: 137، وابن شهرآشوب في مناقبه 4: 226.

[ 186 ]

وكان يقول عليه وعلى آبائه السلام: ” علمنا غابر ومزبوز، ونكت في القلوب، ونقر في الاسماع ؟ وان عندنا الجفر الاحمر والجفر الابيض ومصحف فاطمة عليها السلام، وإن عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه “. فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال: (أما الغابر فالعلم بما يكون، وأما المزبور فالعلم بما كان، وأما النكت في القلوب فهو الالهام، والنقر في الاسماع حديث الملائكة، نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم، وأما الجفر الاحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ولن يظهر (1) حتى يقوم قائمنا أهل البيت، وأما الجفر الابيض فوعاء فمه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وكنت الله الاولى، وأما مصحف فاطمة عليها السلام ففيه ما يكون من حادث وأسماء كل من يملك (2) إلى أن تقوم الساعة، وأما الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعا، املاء رسول الله صلى الله عليه وآله من فلق فيه وخط علي بن أبي طالب عليه السلام بيده، فيه – والله – جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، حتى ان فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ” (3). وكان عليه وآبائه السلام يقول: ” حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله،


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: يخرج. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: ملك. (3) رواه مختصرا الكليي في الكافي 1: 207 / 3، والصفار في بصائر الدرجات: 338 / 2.

[ 187 ]

وحديث رسول الله قول الله عزوجل ” (4). وروى أبو حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: سمعته يقول: ” ألواح موسى عليه السلام عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين ” (2). وروى معاوية بن وهب، عن سعيد السمان قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجلان من الزيدية فقالا له: أفيكم إمام مفترض طاعته ؟ قال: فقال: ” لا ” قال: فقالا له: قد أخبرنا عنك الثقات أنك تقول به – وسموا قوما – وقالوا: هم أصحاب ورع وتشمير (3) وهم ممن لا يكذب، فغضب أبو عبد الله عليه السلام وقال: ” ما أمرتهم بهذا ” فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا. فقال لي: ” أتعرف هذين ؟ ” قلت: نعم، هما من أهل سوقنا، وهما من الزيدية وهما يزعمان أن سيف رسول الله صلى الله عليه وآله عند عبد الله بن الحسن بن الحسن فقال: ” كذبا لعنهما الله، والله ما رآه عبد الله ابن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه، ولا رآه أبوه، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين عليهما السلام، فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضه ؟ وما أثر في مضربه ؟ فإن عندي لسيف رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن عندي لدرع رسول الله، وإن عندي لراية رسول الله ولامته ومغفره، فإن كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله ؟ وإن


(1) الكافي 1: 42: 14. (2) الكافي 1: 180 / 2، بصائر الدرجات: 203 / 32، مناقب ابن شهرآشوب 4: 276. (3) التشمير: الجد في الشئ ” الصحاح – شمر – 2: 703 “. وفي ” ش ” وهامش ” م “: التمييز.

[ 188 ]

عندي لراية رسول الله المغلبة (1)، وإن عندي ألواح موسى وعصاه وإن عندي لخاتم سليمان بن داود، وان عندي الطست التي كان موسى يقرب فيها القربان، وإن عندي الاسم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم تصل من المشركين إلى المسلمين نشابة، وإن عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة، ومثل السلاح فينا كمثل التابوت (2) في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل في أي بيت وجد التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الامامة، ولقد لبس أبي درع رسول الله صلى الله عليه وآله فخطت عليه الارض خطيطا، ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملاها إن شاء الله ” (3). وروى عبد الاعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ” عندي سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله لا أنازع فيه، ثم قال: إن السلاح مدفوع عنه (4)، لو وضع عند شر خلق الله كان خيرهم. ثم قال: إن هذا الامر يصير إلى من يلوى له الحنك (5)، فإذا كانت من الله فيه المشيئة خرج، فيقول الناس: ما هذا الذي كان ؟ !


(1) ضبطناها كما في نسخة ” ش ” و ” م “، وفي مرآة العقول: ” المغلبة ” اسم آلة من الغلبة كأنها اسم احدى راياته صلى الله عليه وآله. (2) في هامش ” ش “: قال الشيخ المفيد (رحمه الله): يعني التابوت الذي جاءت به الملائكة إلى طالوت. (3) الكافي 1: 181 / 1، بصائر الدرجات: 194 / 2. (4) في مرآة العقول: اي تدفع عنه الآفات. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: اي يستحقر.

[ 189 ]

ويضع الله له يدا على رأس – رعيته ” (1). وروى عمر بن أبان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عما يتحدث الناس أنه دفع إلى أم سلمة – رضي الله عنها – صحيفة مختومة فقال: ” إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قبض ورث علي عليه السلام علمه وسلاحه وما هناك، ثم صار إلى الحسن، ثم صار إلى الحسين عليهما السلام “. قال: فقلت: ثم صار إلى علي بن الحسين، ثم إلى ابنه، ثم انتهى إليك ؟ قال: ” نعم ” (2). والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وفيما أثبتناه منها كفاية في الغرض الذي نؤمه إن شاء الله.


(1) الكافي 1: 182 / 2، بصائر الدرجات: 204 / 39. (2) الكافي 1: 183 / 8، بصائر الدرجات: 206 / 45.

[ 190 ]

باب ذكر طرف من أخبار أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وكلامه وجدت بخط أبي الفرج علي بن الحسين بن محمد الاصفهاني في أصل كتابه المعروف بمقاتل الطالبيين: أخبرني عمر بن عبد الله العتكي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي وابن داحة. قال أبو زيد (1)، وحدثني عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة قال: حدثني الحسن بن أيوب – مولى بني نمير – عن عبد الاعلى بن أعين. قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي الكرام الجعفري، عن أبيه. قال: وحدثني محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يحيى. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، وقد دخل حديث بعضهم في حديث الآخرين: أن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالابواء، وفيهم إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن


(1) أبو زيد. هو عمر بن شبة كما في هامش ” ش “، وقد عنونه في تاريخ بغداد 11: 208 وذكر ولادته في اول رجب سنة 173 ووفاته في جمادى الآخرة سنة 262 ه‍.

[ 191 ]

علي، و عبد الله بن الحسن، وابناه محمد وإبراهيم، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ؟ فقال صالح بن علي: قد علمتم أنكم الذين يمد الناس إليهم (9) أعينهم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إياها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين. فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن ابني هذا هو المهدي، فهلم فلنبايعه. قال أبو جعفر: لاي شئ تخدعون أنفسكم ؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور (2) أعناقا ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى – يريد به محمد بن عبد الله -. قالوا: قد – والله – صدقت، إن هذا الذي نعلم. فبايعوا محمدا جميعا ومسحوا على يده. قال عيسى: وجاء رسول عبد الله بن حسن إلى أبي: أن ائتنا فإنا مجتمعون لامر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد عليهما السلام. وقال غير عيسى (3): إن عبد الله بن الحسن قال لمن حضر: لا تريدوا جعفرا، فإنا نخاف أن يفسد عليكم أمركم. قال عيسى بن عبد الله بن محمد: (فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له، فجئتهم) (4) ومحمد بن عبد الله يصلي على طنفسة رحل مثنية فقلت لهم:


(1) في ” ح ” وهامش ” ش “: اليكم. (2) الصور: الميل. ” الصحاح – صور – 2: 716 “. (3) هو عبد الله الاعلى، كما صرح به في مقاتل الطالبيين. (4) في مقاتل الطالبيين هكذا: انظر إلى ما اجتمعوا عليه، وارسل جعفر بن محمد عليه السلام،

[ 192 ]

أرسلني أبي إليكم أسألكم لاي شئ اجتمعتم ؟ فقال عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد الله. قال: وجاء جعفر بن محمد فأوسع له عبد الله بن حسن إلى جنبه، فتكلم بمثل كلامه. فقال جعفر: ” لا تفعلوا، فإن هذا الامر لم يأت بعد، إن كنت ترى – يعني عبد الله – أن ابنك هذا هو المهدي، فليس به ولا هذا أوانه، وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضبا لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنا والله لا ندعك – وأنت شيخنا – ونبايع ابنك في هذا الامر “. فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ووالله ما أطلعك الله على غيبه، ولكنه يحملك على هذا الحسد لابني. فقال: ” والله ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم ” وضرب بيده على ظهر (أبي العباس) (1) ثم ضرب بيده على كتف عبد الله ابن حسن وقال: ” إنها – والله – ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم، وان ابنيك لمقتولان ” ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: ” أرأيت صاحب الرداء الاصفر ؟ ” يعني (أبا جعفر) (2) فقال له: نعم، فقال: (إنا والله نجده يقتله ” قال له عبد العزيز: أيقتل محمدا ؟ قال: ” نعم “. فقلت في نفسي: حسده ورب الكعبة ! قال: ثم والله ما خرجت


= محمد بن عبد الله الارقط بن على بن الحسين فجئناهم. الخ. (1) في هامش ” ش “: كأنه أبو العباس السفاح. (2) هو أبو جعفر المنصور.

[ 193 ]

من الدنيا حتى رأيته قتلهما. قال: فلما قال جعفر ذلك ونهض القوم وافترقوا، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا ؟ قال: ” نعم، أقوله – والله – وأعلمه “. قال أبو الفرج: وحدثني علي بن العباس المقانعي قال: أخبرنا بكار بن أحمد قال: حدثنا حسن بن حسين (1) عن (عنبسة بن بجاد) (2) العابد قال: كان جعفر بن محمد عليهما السلام إذا رأى محمد بن عبد الله ابن حسن تغرغرت عيناه، ثم يقول: ” بنفسي هو، إن الناس ليقولون فيه، وإنه لمقتول، ليس هو في كتاب علي من خلفاء هذه الامة ” (3). فصل وهذا حديث مشهور كالذي قبله، لا يختلف العلماء بالاخبار في صحتهما، وهما مما يدلان على إمامة أبي عبد الله الصادق عليه السلام وأن المعجزات كانت تظهر على يده لاخباره بالغائبات والكائنات قبل كونها، كما كان يخبر الانبياء عليهم السلام فيكون ذلك من آياتهم وعلامات


(1) كذا في ” ش ” و ” ح “، وحكاه في هامش ” م ” عن نسخة، وفي متنه: حسن، ومثله هامش ” ش ” وعليه علامة (س)، وهو تصحيف، والمراد منه هو الحسن بن الحسين العربي الذي مر في ص 171 برواية بكار بن أحمد عنه، انظر ترجمة العرني في رجال النجاشي: 51 / 111. (2) أثبتناه من ” م ” وهامش ” ش “، وهو محتمل ” ح “، وفي ” ش “: نجاد، وهو تصحيف، انظر ايضاح الاشتباه: 247 / 501، رجال العلامة: 129 / 3، رجال ابن داود: 147 / 1154. (3) مقاتل الطالبيين: 205 – 208، ورواه مرة اخرى في ص 253 – 257، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46: 187 / 53 و 47: 276 / 18.

[ 194 ]

نبوتهم وصدقهم على ربهم عزوجل. أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، (عن جماعة من رجاله) (9)، عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام فقال له: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك ؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ” كلامك هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله أو من عندك ؟ ” فقال: من كلام رسول الله بعضه، ومن عندي بعضه ؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ” فأنت إذن شريك رسول الله ؟ ! ” فقل: لا، قال: ” فسمعت الوحي عن الله ؟ ” قد: لا، قد: ” فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله ؟ ” قال: لا، فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلي فقال: ” يا يونس بن يعقوب، هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم “. ثم قال: ” يا يونس، لو كنت تحسن الكلام لكلمته “. قال يونس: فيالها من حسرة، ثم قلت: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ” ويل لاصحاب الكلام، يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله “. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ” إنما قلت: ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا إلى ما يريدون، ثم قال: اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله “.


(1) في الكافي: عمن ذكره.

[ 195 ]

قال: فخرجت فوجدت حمران بن أعين – وكان يحسن الكلام – ومحمد بن النعمان الاحول (1) – وكان متكلما – وهشام بن سالم وقيس الماصر – وكانا متكلمين – فأدخلتهم عليه، فلما استقر بنا المجلس – وكنا في خيمة لابي عبد الله عليه السلام على طرف جبل في طرف الحرم، وذلك قبل الحج بأيام – أخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة، فإذا هو ببعير يخب (2) فقال: ” هشام ورب الكعبة “. قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة لابي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم قد ورد، وهو أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلا من هو أكبر سنا منه، قال: فوسع له أبو عبد الله عليه السلام وقال: ” ناصرنا بقلبه ولسانه ويده “. ثم قال لحمران: ” كلم الرجل ” يعني الشامي، فكتمه حمران فظهر عليه. ثم قال: ” يا طاقي كلمه ” فكلمه فظهر عليه محمد بن النعمان. ثم قال: ” يا هشام بن سالم كلمه ” فتعارفا. ثم قال لقيس الماصر: ” كلمه ” فكلمه، وأقبل أبو عبد الله عليه السلام يتبسم من كلامهما، وقد استخذل الشامي في يده. ثم قال للشامي: ” كلم هذا الغلام ” يعني هشام بن الحكم. فقال: نعم، ثم قال الشامي لهشام: يا غلام، سلني في إمامة


(1) في هامش ” ش “: يعني مؤمن الطاق. (2) الخبب: ضرب من العدو، وخب الفرس إذا راوح بين يديه ورجليه. ” الصحاح – خبب – 1: 117 “.

[ 196 ]

هذا – يعني أبا عبد الله عليه السلام – فغضب هشام حتى ارتعد (1) ثم قال له: أخبرني يا هذا، أربك أنظر لخلقه أم هم لانفسهم ؟ فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه. قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا ؟ قال: كلفهم وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم، وأزاح في ذلك عللهم. فقال له هشام: فما الدليل الذي نصبه لهم ؟ قال الشامي: هو رسول الله صلى الله عليه وآله. قال له هشام: فبعد رسول الله من ؟ قال: الكتاب والسنة. قال له هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه، حتى رفع عنا الاختلاف ومكننا من الاتفاق ؟ قال الشامي: نعم. قال له هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت، وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم أن الرأي طريق الدين، وأنت مقر بأن الرأى لا يجمع على القول الواحد المختلفين ؟ فسكت الشامي كالمفكر.


(1) في ” ش “: أرعد، وما أثبتناه من ” م ” وهامش ” ش ” وهو موافق للكافى والاحتجاج ونسخة البحار.

[ 197 ]

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: (ما لك لا تتكلم ؟) قال: إن قلت إنا ما اختلفنا كابرت، وإن قلت إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لانهما يحتملان الوجوه، ولكن لي عليه مثل ذلك. فقال أبو عبد الله: ” سله تجده مليا “. فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق، ربهم أم أنفسهم ؟ فقال هشام: بل ربهم أنظر لهم. فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم، ويرفع اختلافهم، ويبين لهم حقهم من باطلهم ؟. قال هشام: نعم. قال الشامي: من هو ؟ قال هشام: أما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه وآله، وأما بعد النبي عليه السلام فغيره. قال الشامي: ومن هو غير النبي عليه السلام القائم مقامه في حجته ؟ قال هشام: في وقتنا هذا أم قبله ؟ قال الشامي: بل في وقتنا هذا. قال هشام: هذا الجالس – يعني أبا عبد الله عليه السلام – الذي تشد إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء، وراثة عن أب عن جد.


[ 198 ]

قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك ؟ قال هشام: سله عما بدا لك. قال الشاي: قطعت عذري، فعلي السؤال. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ” أنا أكفيك المسألة يا شامي، أخبرك عن مسيرك وسفرك، خرجت يوم كذا، وكان طريقك كذا، ومررت على كذا، ومر بك كذا “. فاقبل الشامي كلما وصف له شيئا من أمره يقول: صدقت والله. ثم قال له الشامي: أسلمت لله الساعة. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ” بل آمنت بالله الساعة، إن الاسلام قبل الايمان، وعليه يتوارثون ويتناكحون، والايمان عليه يثابون “. قال الشامي: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنك وصي الاوصياء. قال: فأقبل أبو عبد الله عليه السلام على حمران بن أعين فقال: ” يا حمران، تجري الكلام على الاثر فتصيب “. والتفت إلى هشام بن سالم فقال: ” تريد الاثر ولا تعرف “. ثم التفت إلى الاحول فقال: ” قياس رواغ (1)، تكسر باطلا بباطل، إلا أن باطلك أظهر “.


(1) راغ الثعلب: ذهب يمنة ويسرة في سرعة خديعة، فهو لا يستقر في جهة ” مجمع البحرين – راغ – 5: 10 “.

[ 199 ]

ثم التفت إلى قيس الماصر فقال: ” تكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله أبعد ما تكون منه، تمزج الحق بالباطل، وقليل الحق يكفي من كثير الباطل، أنت والاحول قفازان حاذقان “. قال يونس بن يعقوب: فظننت والله أنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما، فقال: ” يا هشام، لا تكاد تقع، تلوي رجليك، إذا هممت بالارض طرت، مثلك فلبكلم الناس، اتق الزلة، والشفاعة من ورائك ” (1). فصل وهذا الخبر مع ما فيه من إثبات حجة النظر ودلالة الامامة، يتضمن من المعجز لابي عبد الله عليه السلام بالخبر عن الغائب مثل الذي تضمنه الخبران المتقدمان، ويوافقهما في معنى البرهان. أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد القمي، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو (2) الفقيمي: أن ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الاعمى وابن


(1) الكافي 1: 130 / 4، وذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب. 4: 243، وروى الطبرسي في الاحتجاج: 364، مثله، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 203 / 7. (2) كذا في نسخة البحار والمطبوع، وفي النسخ الثلاث: عمر بدل عمرو، وفي ” م “: العباس عن عمر الفقيمي، والظاهر صحة ما اثبتناه، انظر: توحيد الصدوق: 60، 104، 144، 169، 243، 293، معاني الاخبار: 8، 20، الكافي 1: 80، 108، وان كان في ص 168 منه: العباس بن عمر الفقيمي، لكن حكى عن الطبعة القديمة (ابن عمرو). لاحظ معجم رجال الحديث 9: 237.

[ 200 ]

المقفع، في نفر من الزنادقة، كانوا مجتمعين في الموسم بالمسجد الحرام، وأبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فيه إذ ذاك يفتي الناس، ويفسر لهم القرآن، ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات. فقال القوم لابن أبي العوجاء: هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به ؟ فقد ترى فتنة الناس به، وهو علامة زمانه، فقال لهم ابن أبي العوجاء: نعم، ثم تقدم ففرق الناس وقال: أبا عبد الله، إن المجالس أمانات، ولا بد لكل من كان به سعال أن يسعل، فتأذن في السؤال ؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ” سل إن شئت “. فقال له ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ؟ ! من فكر في ذلك (1) وقدر، علم أنه فعل غير حكيم ولا ذى نظر، فقل فإنك رأس هذا الامر وسنامه، وأبوك أسه ونظامه. فقال له الصادق عليه وآبائه السلائم: ” إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليه وربه، يورده مناهل الهلكة، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال، خلقه قبل دحو الارض بألفي عام، فأحق من


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: هذا.

[ 201 ]

أطيع فيما أمر وانتهي عما زجر، الله عزوجل المنشئ للارواح والصور “. فقال له ابن أبي العوجاء: ذكرت – أبا عبد الله – فأحلت على غائب. فقال الصادق عليه السلام: ” كيف يكون – يا ويلك – عنا غائبا من هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد ؟ ! يسمع كلامهم ويعلم اسرارهم، لا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان، تشهد له بذلك آثاره، وتدل عليه أفعاله، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد صلى الله عليه وآله جاءنا بهذه العبادة، فإن شككت في شئ من أمره فاسأل عنه أوضحه لك “. قال: فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول، فانصرف من بين يديه، وقال لاصحابه: سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فالقيتموني على جمرة، قالوا له: اسكت، فوالله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه، فقال: ألي تقولون هذا ؟ ! إنه ابن من حلق رؤوس من ترون، وأومأ بيده إلى أهل الموسم (1). وروي:. أن أبا شاكر الديصاني وقف ذات يوم في مجلس أبي عبد الله عليه السلام فقال له: إنك لاحد النجوم الزواهر، وكان آباؤك بدورا بواهر، وأمهاتك عقيلات عباهر (2)، وعنصرك من أكرم العناصر، وإذا


(1) روى الكليني قطعة منه في الكافي 4: 197 / 1، والصدوق في الامالي: 493 / 4، والعلل: 403 / 4، والطبرسي في الاحتجاج: 335، ونقله العلامة المجلسي في البحار 10: 209 / 11. (2) العبهرة: هي المرأة التى جمعت الحسن والجسم والخلق ” لسان العرب – عبهر – 4: 536 “.

[ 202 ]

ذكر العلماء فبك ثني الخناصر (1) خبرنا أيها البحر الزاخر، ما الدليل على حدوث (2) العالم ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: ” من أقرب الدليل على ذلك ما أذكره لك، ثم دعا ببيضة فوضعها في راحته وقال: هذا حصن ملموم، داخله غرقئ (3)، رقيق، تطيف به كالفضة السائلة والذهبة المائعة، أتشك في ذلك ؟ قال أبو شاكر: لا شك فيه. قال أبو عبد الله عليه السلام: ” ثم إنه ينفلق عن صورة كالطاووس، أدخله شئ غير ما عرفت ؟ “. قال: لا. قال -: ” فهذا الدليل على حدث العالم “. فقال أبو شاكر: دللت – أبا عبد الله – فأوضحت، وقلت فأحسنت، وذكرت فأوجزت، وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا، أو سمعناه بآذاننا، أو ذقناه بأفواهنا، أو شممناه بأنوفنا، أو لمسناه ببشرتنا. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ” ذكرت الحواس الخمس وهي لا


(1) ثني الخناصر: بفلان تثنى الخناصر اي تبتدأ به إذا ذكر اشكاله ” لسان العرب – خنصر – 4: 261 “. (2) في ” ش ” و ” م “: حدث، وما في المتن من نسخة ” ح “. (3) الغرقى: قشر البيض الرقيق الذي تحت القشر الصلب ” الصحاح – غرقا – 1: 61 “.

[ 203 ]

تنفع في الاستنباط إلا بدليل، كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح ” (1) يريد عليه السلام أن الحواس بغير عقل لا توصل إلى معرفة الغائبات، وأن الذي أراه من حدوث الصورة معقول بني العلم به على محسوس. فصل ومما حفظ عنه عليه السلام في وجوب المعرفة بالله تعالى وبدينه، قوله: (وجدت علم الناس كلهم في أربع: أولها: أن تعرف ربك ؟ والثاني: أن تعرف ما صنع بك ؟ والثالث: أن تعرف ما أراد منك، والرابع: أن تعرف ما يخرجك عن دينك ” (2). وهذه أقسام تحيط بالمفروض من المعارف، لانه أول ما يجب على العبد معرفة ربه – جل جلاله – فإذا علم أن له إلها، وجب أن يعرف صنعه إليه، فإذا عرف صنعه عرف به نعمته، فإذا عرف نعمته وجب عليه شكره، فإذا أراد تأدية شكره، وجب عليه معرفة مراده ليطيعه بفعله، وإذا وجب عليه طاعته، وجب عليه معرفة ما يخرجه من دينه ليجتنبه فتخلص له طاعة ربه وشكر إنعامه.


(1) رواه الصدوق في التوحيد: 292 / 1، باختلاف يسير، وروى الكليني قطعة منه في الكافي 1: 63 / ذيل ح 4، ونقله العلامة المجلسي في البحار 10: 211 / 12. (2) الكافي 1: 40 / 11، الخصال: 239 / 87.

[ 204 ]

فصل ومما حفظ عنه عليه السلام في التوحيد ونفي التشبيه قوله لهشام بن الحكم رحمه الله: ” إن الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه ” (1). فصل ومما حفظ عنه عليه السلام من موجز القول في العدل قوله لزرارة بن أعين رحمه الله: ” يا زرارة، أعطيك جملة في القضاء والقدر “. قال له زرارة: نعم، جعلت فداك. قال له: ” إنه إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق سالهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم ” (2). فصل ومما حفظ عنه عليه السلام في الحكمة والموعظة قوله: ” ماكل من


(1) توحيد الصدوق: 80 / ذح 36، عن المفضل بن عمر. (2) توحيد الصدوق: 365 / 2، إعتقادات الصدوق: 71، وفيهما من قوله: إذا كان يوم =

[ 205 ]

نوى شيئا قدر عليه، ولا كل من قدر على شئ وفق له، ولا كل من وفق أصاب له موضعا، فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق والاصابة فهنالك تمت السعادة ” (1). فصل ومما حفظ عنه عليه السلام في الحث على النظر في دين الله، والمعرفة لاولياء الله، قوله عليه السلام: ” أحسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله، وانصحوا لانفسكم وجاهدوها (2) في طلب معرفة ما لا عذر لكم في جهله، فإن لدين الله اركانا لا ينفع فن جهلها شدة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضر من عرفها فدان بها حسن اقتصاده، ولا سبيل لاحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزوجل ” (3). فصل ومما حفظ عنه عليه السلام في الحث على التوبة قوله: ” تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف خيرة، والاعتلال على الله هلكة، والاصرار على الذنب أمن لمكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم


= القيامة… (1) الفصول المهمة لابن الصباغ: 228. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: وجاهدوا. (3) كنز الفوائد 2: 33.

[ 206 ]

الخاسرون ” (1). والاخبار فيما حفظ عنه عليه السلام من العلم والحكمة والبيان والحجة والزهد والموعظة وفنون العلم كله، أكثر من أن تحصى بالخطاب أو تحوى بالكتاب، وفيما أثبتناه منه كفاية في الغرض الذي قصدناه، والله الموفق للصواب. فصل وفيه عليه السلام يقول السند ابن محمد الحميري – رحمه الله – وقد رجع عن قوله بمذهب الكيسانية (2)، لما بلغه إنكار أبي عبد الله عليه السلام مقاله، ودعاؤه له إلى القول بنظام الامامة: يا راكبا نحو المدينة جسرة (3) * عذافرة (4) (يطوي بها) (5) كل سبسب (6) إذا ما هداك الله عاينت جعفرا * فقل لولي الله وابن المهذب ألا ياولي الله وابن وليه * أتوب إلى الرحمان ثم تأوبي إليك من الذنب الذي كنت مطنبا * أجاهد فيه دائبا كل معرب


(1) الفصول المهمة: 228. (2) الكيسانية: هم القائلون بامامة محمد بن الحنفية، وانه وصي الامام علي بن أبي طالب عليه السلام. ” فرق الشيعة: 23 “. (3) الجسرة: العظيمة من الابل. ” الصحاح – جسر – 2: 613 “. (4) العذافرة: العظيمة الشديدة من الابل. ” الصحاح – عذفر – 2: 742 “. (5) في هامش ” ش “: تطوي له. (6) السبسب: المفازة أو البادية ” الصحاح – سبب – 1: 145 “.

[ 207 ]

وما كان قولي في (ابن خولة) (1) دائبا * معاندة مني لنسل المطيب ولكن روينا عن وصي محمد * ولم يك فيما قال بالمتكذب بأن ولي الامر يفقد لا يرى * سنين كفعل الخائف المترقب فتقسم اموال الفقيد كأنما * تغيبه (2) بين الصفيح المنصب فإن قلت: لا، فالحق قولك والذي * تقول فحتم غير ما متغضب (3) وأشهد ربي أن قولك حجة * على الخلق طرا من مطيع ومذنب بأن ولي الامر والقائم الذي * تطلع نفسي نحوه وتطربي له غيبة لابد أن سيغيبها * فصلى عليه الله من متغيب فيمكث حينا ثم يظهر أمره * فيملا عدلا كل شرق ومغرب (4) وفي هذا الشعر دليل على رجوع السيد رحمه الله عن مذهب


(1) في هامش ” ش “: محمد بن الحنفية – رحمة الله عليه -. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: نغيبه. (3) في هامش ” ش “: متعصب. (4) روى الصدوق هذه القصيدة في إكمال الدين: 34، باضافة خمسة ابيات بعد قوله: تغيبه بين الصنيح المنصب: فيمكث حينا ثم ينبع نبعة * كنبعة جدي من الافق كوكب يسير بنصر الله من بيت ربه * على سؤدد منه وأمر مسبب يسير إلى اعدائه بلوائه * فيقتلهم قتلا كحران مغضب فلما روى ان ابن خولة غائب * صرفنا إليه قولنا لم نكذب وقلنا هو المهدي والقائم الذي * يعيش به من عدله كل مجدب وفي آخر القصيدة زاد آخر: بذاك أدين الله سرا وجهرة * ولست وان عوتبت فيه بمعتب

[ 208 ]

الكيسانية، وقوله بإمامة الصادق عليه السلام ووجود الدعوة ظاهرة من الشيعة في أيام أبي عبد الله عليه السلام إلى إمامته والقول بغيبة صاحب الزمان عليه السلام، وأنها إحدى علاماته، وهو صريح قول الامامية الاثنى عشرية.


[ 209 ]

باب ذكر أولاد أبي عبد الله عليه السلام وعددهم وأسمائهم وطرف من أخبارهم وكان لابي عبد الله عليه السلام عشرة أولاد: إسماعيل و عبد الله وأم فروة، أمهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام (1). وموسى وإسحاق ومحمد، لام ولد. والعباس وعلي وأسماء وفاطمة، لامهات أولاد شتى. وكان إسماعيل أكبر إخوته، وكان أبوه عليه السلام شديد المحبة له والبر به والاشفاق عليه، وكان قوم من الشيعة يظنون أنه القائم بعد أبيه والخليفة له من بعده، إذ كان أكبر إخوته سنا، ولميل أبيه إليه وإكرامه له، فمات في حياة أبيه بالعريض (2)، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن بالبقيع. وروي: أن أبا عبد الله عليه السلام جزع عليه جزعا شديدا، وحزن عليه حزنا عظيما، وتقدم سريره بلا (3) حذاء ولا رداء، وأمر بوضع سريره على الارض قبل دفنه مرارا كثيرة، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه،


(1) ذكر في عمدة الطالب (ص 233) انها: فاطمة بنت الحسين الاثرم بن الامام الحسن بن علي ابن ابي طالب عليهم السلام، والظاهر انه هو الصواب. (2) العريض: واد بالمدينة فيه بساتين نخل، انظر ” معجم البلدان 4: 114 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: بغير.

[ 210 ]

يريد عليه السلام بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنهم في حياته (1). ولما مات إسماعيل رضي الله عنه انصرف عن القول بإمامته بعد أبيه من كان يظن ذلك فيعتقده من أصحاب أبيه عليه السلام، وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ولا من الرواة عنه، وكانوا من الاباعد والاطراف. فلما مات الصادق عليه السلام انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر عليه السلام بعد أبيه، وافترق الباقون فريقين: فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل، لظنهم أن الامامة كانت في أبيه وأن الابن أحق بمقام الامامة من الاخ، وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل، وهم اليوم شذاذ لا يعرف منهم أحد يومأ إليه. وهذان الفريقان يسميان بالاسماعيلية، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الامامة بعد إسماعيل في ولده وولد ولده إلى آخر الزمان. فصل وكان عبد الله بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل، ولم تكن منزلته عند أبيه منزلة غيره من ولده في الاكرام، وكان متهما بالخلاف على أبيه في الاعتقاد، ويقال أنه كان يخالط الحشوية (2)، ويميل إلى مذاهب


(1) حكاه الطبرسي في اعلام الورى: 284، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 242. (2) الحشوية: هم القائلون ان عليا وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وأن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم، وأنهم يتولونهم جميعا ويتبرؤون من حربهم ويردون امرهم إلى الله عزوجل =

[ 211 ]

المرجئة (1)، وادعى بعد أبيه الامامة، واحتج بأنه أكبر إخوته الباقين، فاتبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام ثم رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى عليه السلام لما تبينوا ضعف دعواه، وقوة أمر أبي الحسن عليه السلام ودلالة حقه وبراهين إمامته، وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد الله، وهم الطائفة الملقبة بالفطحية، وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد الله وكان أفطح الرجلين، ويقال إنهم لقبوا بذلك لان داعيتهم إلى إمامة عبد الله كان يقال له عبد الله بن أفطح. وكان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد، وروى عنه الناس الحديث والآثار، وكان ابن كاسب إذا حدث عنه يقول: حدثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر. وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، وروى عن أبيه النص بالامامة على أخيه موسى عليه السلام (2). وكان محمد بن جعفر شجاعا سخيا، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ويرى رأي الزيدية في الخروج بالسيف. وروي عن زوجته خديجة بنت عبد الله بن الحسين أنها قالت: ما


= ” فرق الشيعة: 15 “. (1) المرجئة: هم القائلون بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون باقرارهم الظاهر بالايمان، ريؤخرون العمل عن النية ويرجون المغفرة للمؤمن العاصي. ” فرق الشيعة: 6 “. (2) حكاه الطبرسي في اعلام الورى: 290، وياتي هنا في باب النص على الامام موسى بن جعفر عليهما السلام.

[ 212 ]

خرج من عندنا محمد يوما قط في ثوب فرجع حتى يكسوه (1)، وكان يذبح في كل يوم كبشا لاضيافه. وخرج علي المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة، واتبعته الزيدية الجارودية، فخرج لقتاله عيسى الجلودي ففرق جمعه وأخذه وأنفذه إلى المأمون، فلما وصل إليه أكرمه المأمون وأدنى مجلسه منه ووصله وأحسن جائزته، فكان مقيما معه بخراسان يركب إليه في موكب من بني عمه، وكان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيته. وروي: أن المأمون أنكر ركوبه إليه في جماعة من الطالبيين الذين خرجوا على المأمون في سنة المائتين فآمنهم، فخرج التوقيع إليهم: لا تركبوا مع محمد ابن جعفر واركبوا مع عبيدالله بن الحسين، فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلهم، فخرج التوقيع: اركبوا مع من أحببتم، فكانوا يركبون مع محمد بن جمفر إذا ركب إلى المأمون وينصرفون بانصرافه (2). وذكر عن موسى بن سلمة أنه قال: أتي إلى محمد بن جعفر فقيل له: إن غلمان ذي الرئاستين قد ضربوا غلمانك على حطب اشتروه، فخرج مؤتزرا ببردتين معه هراوة وهو يرتجز ويقول: الموت خير لك من عيش بذل


(1) مقاتل الطالبيين: 538، تاريخ بغداد 2: 113، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 243. (2) اشار إلى ذلك ابو الفرج الاصفهانى في مقال الطالبيين: 357، وحكاه الطبرسي في اعلام الورى: 285.

[ 213 ]

وتبعه الناس حتى ضرب غلمان ذي الرئاستين وأخذ الحطب منهم. فرفع الخبر إلى المأمون، فبعث إلى ذي الرئاستين فقال له: ائت محمد بن جعفر فاعتذر إليه، وحكمه في غلمانك. قال: فخرج ذو الرئاستين إلى محمد بن جعفر. قال موسى بن سلمة: فكنت عند محمد بن جعفر جالسا حتى أتي فقيل له: هذا ذو الرئاستين، فقال: لا يجلس إلا على الارض، وتناول بساطا كان في البيت فرمى به هو ومن معه ناحية، ولم يبق في البيت إلا وسادة جلس عليها محمد بن جعفر، فلما دخل عليه ذو الرئاستين وسع له محمد على الوسادة فأبى أن يجلس عليها وجلس على الارض، فاعتذر إليه وحكمه في غلمانه (1). وتوفي محمد بن جعفر بخراسان مع المأمون، فركب المأمون ليشهده فلقيهم وقد خرجوا به، فلا نظر إلى السرير نزل فترجل ومشى حتى دخل بين العمودين، فلم يزل بينهما حتى وضع فتقدم وصلى ثم حمله حتى بلغ به القبر، ثم دخل قبره فلم يزل فيه حتى بني عليه، ثم خرج فقام على القبر حتى دفن، فقال له عبيدالله بن الحسين ودعا له: يا أمير المؤمنين، إنك قد تعبت فلو ركبت ؟ فقال المأمون: إن هذه رحم قطعت من مائتي سنة. وروي عن إسماعيل بن محمد بن جعفر أنه قال: قلت لاخي – وهو إلى جنبي والمأمون قائم على القبر -: لو كلمناه في دين الشيخ، فلا نجده أقرب منه في وقته هذا، فابتدأنا المأمون فقال: كم ترك أبو جعفر من الدين ؟ فقلت: خمسة وعشرين آلف دينار، فقال: قد قضى الله عنه دينه ؟ إلى من أوصى ؟ قلنا: إلى ابن له يقال له يحيى بالمدينة ؟ فقال: ليس


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 47: 244.

[ 214 ]

هو بالمدينة، وهو بمصر، وقد علمنا بكونه فيها، ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة لئلا يسوءه ذلك لعلمه بكراهتنا لخروجه عنها (1). وكان علي بن جعفر – رضي الله عنه – راوية للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، ولزم أخاه موسى عليه السلام وروى عنه شيئا كثيرا. وكان العباس بن جعفر – رضي الله عنه – فاضلا نبيلا. وكان موسى بن جعفر عليه السلام أجل ولد أبي عبد الله عليه السلام قدرا وأعظمهم محلا، وأبعدهم في الناس صيتا، ولم ير في زمانه أسخى منه ولا أكرم نفسا وعشرة، وكان أعبد أهل زمانه وأورعهم وأجلهم وأفقههم، واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتعظيم لحقه والتسليم لامره. ورووا عن أبيه عليه السلام نصوصا عليه بالامامة، وإشارات إليه بالخلافة، وأخذوا عنه معالم دينهم، ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يقطع به على حجته وصواب القول بإمامته.


(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 47: 244. (*)

[ 215 ]

باب ذكر الامام القائم بعد أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام من ولده، وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، ومبلغ سنه، ومدة خلافته، ووقت وفاته وسببها، وموضع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره وكان الامام – كما قدمناه – بعد أبي عبد الله ابنه أبا الحسن موسى ابن جعفر العبد الصالح عليه السلام، لاجتماع خلال الفضل فيه والكمال، ولنص أبيه بالامامة عليه وإشارته بها إليه. وكان مولده عليه السلام بالابواء (1) سنة ثمان وعشرين ومائة. وقبض عليه السلام ببغداد في حبس السندي بن شاهك لست خلون من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وله يومئذ خمس وخمسون سنة. وأمه أم ولد يقال لها: حميدة البربرية. وكانت مدة خلافته ومقامه في الامامة بعد أبيه عليهما السلام خمسا وثلاثين سنة. وكان يكنى أبا إبراهيم وأبا الحسن وأبا علي، ويعرف بالعبد


(1) الابواء: قرية من اعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا ” معجم البلدان 1: 79 “.

[ 216 ]

الصالح، وينعث أيضا بالكاظم. فصل في النص عليه بالامامة من أبيه عليهما السلام فممن روى صريح النص بالامامة من أبي عبد الله الصادق عليه السلام على ابنه أبي الحسن موسى عليه السلائم من شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين – رضوان الله عليهم – المفضل بن عمر الجعفي، ومعاذ بن كثير، وعبد الرحمن بن الحجاج، والفيض بن المختار، ويعقوب السراج، وسليمان بن خالد، وصفوان الجمال، وغيرهم ممن يطول بذكرهم الكتاب (1). وقد روى ذلك من إخوته إسحاق وعلي ابنا جعفر وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان. فروى موسى الصيقل، عن المفضل بن عمر رحمه الله قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل أبو إبراهيم موسى عليه السلام – وهو غلام – فقال لي أبو عبد الله: ” استوص به، وضع أمره عند من تثق به من


(1) يأتي تفصيل روايات هؤلاء بنفس الترتيب المذكور هنا، لكن قد ذكر بعد رواية الفيض ابن المختار رواية منصور بن حازم وعيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وطاهر بن محمد، ثم يذكر رواية يعقوب السراج وغيره ممن ذكروا هنا، والمناسب ذكر منصور بن حازم ومن بعده هنا كما هو المعهود في سائر الابواب، ولا يبعد وقوع سهو هنا في عدم ذكرهم.

[ 217 ]

أصحابك ” (9). وروى ثبيت، عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: أسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة، أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال: ” قد فعل الله ذلك ” قلت: من هو جعلت فداك ؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد، قال: ” هذا الراقد ” وهو يومئذ غلام (2). وروى أبو علي الارجاني عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: دخلت على جعفر بن محمد عليهما السلام في منزله، فإذا هو في بيت كذا من داره في مسجد له، وهو يدعو وعلى يمينه موسى بن جعفر عليهما السلام تؤمن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك، قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن ولي الامر بعدك ؟ قال: ” يا عبد الرحمن، إن موسى قد لبس الدرع واستوت عليه ” فقلت له: لا أحتاج بعدها إلى شئ (3). وروى عبد الاعلى، عن الفيض بن المختار قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: خذ بيدي من النار، من لنا بعدك ؟ قال: فدخل أبو إبراهيم – وهو يومئذ غلام – فقال: ” هذا صاحبكم فتمسك به ” (4). (1) الكافي 1: 246 / 4، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8،: 17 / 13. (2) الكافي 1: 245 / 2، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 17 / 15. (3) الكافي 1: 245 / 3، الفصول المهمة: 231، ونقله المجلسي في البحار 48: 17 / 17. (4) الكافي 1: 245 / 1، الفصول المهمة: 231، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 18 / 18.


[ 218 ]

وروى ابن أبي نجران، عن منصور بن حازم قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: بأبي أنت وأمي، إن الانفس يغدى عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: ” إذا كان ذلك فهو صاحبكم ” وضرب على منكب أبي الحسن الايمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسي، و عبد الله بن جعفر جالس معنا (1). وروى ابن أبي نجران، عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبي عبد الله عليه السلام ؟ قال: قلت له: إن كان كون – ولا أراني الله ذلك – فبمن أئتم ؟ قال: فأوما إلى ابنه موسى، قلت: فإن حدث بموسى حدث، فبس أئتم ؟ قال: ” بولده ” قلت: فإن حدث بولده حدث ؟ قال: ” بولده ” قلت: وإن حدث به حدث وترك أخا كبيرا وابنا صغيرا ؟ قال: ” بولده، ثم هكذا أبدا ” (2). وروى الفضل، عن طاهر بن محمد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: رأيته يلوم عبد الله ابنه ويعظه ويقول له: ” ما يمنعك أن تكون مثل أخيك ؟ ! ” فوالله إني لاعرف النور في وجهه ” فقال عبد الله: وكيف ؟ أليس أبي وأبوه واحدا، وأصلي وأصله واحدا ؟ فقال له أبو عبد الله عليهما السلام: ” إنه من نفسي وأنت ابني ” (3).


(1) الكافي 1: 6 / 246، الفصول المهمة: 232، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 18 / 20. (2) الكافي 1: 246 / 7، وباختلاف يسير في كمال الدين: 349 / 43، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 16 / 11. (3) الكافي 1: 247 / 10، الامامة والتبصرة: 210 / 63، وفيهما: فضيل، عن طاهر، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 18 / 22.

[ 219 ]

وروى محمد بن سنان، عن يعقوب السراج قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يساره طويلا، فجلست حتى فرغ فقمت إليه، فقال لي: ” ادن إلى مولاك فسلم عليه ” فدنوت فسلمت عليه، فرد علي بلسان فصيح ثم قال لي: ” اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله ” وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد الله: ” انته إلى أمره ترشد ” فغيرت اسمها (1). وروى ابن مسكان، عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد الله أبا الحسن عليهما السلام يوما ونحن عنده فقال لنا: ” عليكم بهذا بعدي، فهو والله صاحبكم بعدي ” (2). وروى الوشاء، عن علي بن الحسين، عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن صاحب هذا الامر فقال: ” صاحب هذا الامر لا يلهو ولا يلعب ” فأقبل أبو الحسن عليه السلام ومعه بهمة (3) له، وهو يقول لها: ” اسجدي لربك ” فأخذه أبو عبد الله عليه السلام وضمه إليه وقال: ” بأبي وأمي، من لا يلهو ولا يلعب ” (4). وروى يعقوب بن جعفر الجعفري قال: حدثني إسحاق بن جعفر


(1) الكافي 1: 247 / 11، دلائل الامامة: 161، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: (2) الكافي 1: 247 / 12، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 19 / 25. (3) يقال لاولاد الغنم ساعة تضعها – من الضأن والمعز جميعا، ذكرا كان أو أنثى -: سخلة ثم هي البهمة. ” لسان العرب – بهم – 12: 56 “. (4) الكافي 1: 248 / 15، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 19 / 27.

[ 220 ]

الصادق قال: كنت عند أبي يوما فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك، إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك ؟ فقال: ” إلى صاحب هذين الثوبين الاصفرين والغديرتين (1)، وهو الطالع عليك من الباب ” قال: فما لبثنا أن طلعت علينا كفان آخذتان بالبابين حتى انفتحا، ودخل علينا أبو إبراهيم موسى عليه السلام وهو صبي وعليه ثوبان أصفران (2). وروى محمد بن الوليد قال: سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يقول: سمعت أبي – جعفر بن محمد – يقول لجماعة من خاصته وأصحابه: ” استوصوا بابني موسى خيرا، فإنه أفضل ولدي ومن أخلف من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي ” (3). وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى والانقطاع إليه والتوفر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه وجوابات رواها سماعا منه. والاخبار فيما ذكرناه أكثر من أن تحصى على ما بيناه ووصفناه.


(1) الغدير: الذؤابة التي تسقط عل الصدر. ” لسان العرب – غدر – 5: 10 ” والذؤابة: هي العقيصة والمضفور من شعر الرأس. ” لسان العرب – ذأب – 1: 379 “. (2) الكافي 1: 246 / 5، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 20 / 29. (3) حكاه الطبرسي في اعلام الورى: 291، ونتله العلامة المجلسي في البحار 48: 20 / 30.

[ 221 ]

باب ذكر طرف من دلائل أبي الحسن موسى عليه السلام وآياته وعلاماته ومعجزاته أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطي، عن هشام بن سالم قال: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله عليه السلام أنا ومحمد بن النعمان صاحب الطاق، والناس مجمعون (1) على عبد الله بن جعفر أنه صاحب الامر بعد أبيه، فدخلنا عليه والناس عنده – فسألناه عن الزكاة في كم تجب، فقال: في مائتي درهم خمسة دراهم، فقلنا له: ففي مائة ؟ قال: درهمان ونصف ؟ قلنا: والله ما تقول المرجئة هذا، فقال: والله ما أدري ما تقول المرجئة. قال فخرجنا ضلالا لا ندري إلى أين نتوجه، أنا وأبو جعفر الاحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكيين لا ندري أين نتوجه إلى من نقصد، نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى المعتزلة، إلى الزيدية، [ إلى الخوارج ] (2)، فنحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخا لا أعرفه يومئ إلي بيده، فخفت أن يكون عينا من عيون أبي جعفر المنصور، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس على من يجتمع بعد جعفر الناس، فيؤخذ فيضرب عنقه، فخفت أن يكون منهم.


(1) في هامش ” م “: مجتمعون. (2) ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي ورجال الكشي، ليستقيم سياق ترديد الراوي مع جواب الامام عليه السلام فيما يأتي بعد من الحديث.

[ 222 ]

فقلت للاحول: تنخ فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني ليس يريدك، فتنح عني لا تهلك فتعين على نفسك، فتنحى عني بعيدا. وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه – وقد عرضت على الموت – حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى عليه السلام ثم خلاني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: ادخل رحمك الله. فدخلت فإذا أبو الحسن موسى عليه السلام فقال لي ابتداء منه: ” إلي إلي، لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، ولا إلى الزيدية ” قلت: جعلت فداك، مضى أبوك ؟ قال: ” نعم ” قلت: مضى موتا ؟ قال: ” نعم ” قلت: فمن لنا من بعده ؟ قال: ” إن شاء الله أن يهديك هداك ” قلت: جعلت فداك، إن عبد الله أخاك يزعم أنه الامام بعد أبيه، فقال: (عبد الله يريد ألا يعبد الله ” قال: قلت: جعلت فداك، فمن لنا بعده ؟ فقال: ” إن شاء الله أن يهديك هداك ” قال: قلت: جعلت فداك، فأنت هو ؟ قال: ” لا أقول ذلك “. قال: فقلت: في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثم قلت له: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال: ” لا ” قال: فدخلني شئ لا يعلمه إلا الله إعظاما له وهيبة، ثم قلت: جعلت فداك، أسألك كما كنت أسأل أباك ؟ قال: ” سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح ” قال: فسألته فإذا هو بحر لا ينزف، قلت: جعلت فداك، شيعة أبيك ضلال، فألقي إليهم هذا الامر وأدعوهم إليك ؟ فقد أخذت علي الكتمان، قال: ” من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه بالكتمان، فإن أذاع فهو الذبح “


[ 223 ]

وأشار بيده إلى حلقه. قال: فخرجت من عنده ولقيت أبا جعفر الاحول، فقال لي: ما وراءك ؟ قلت: الهدى ؟ وحدثته بالقصة. قال: ثم لقينا زرارة (1) وأبا بصير فدخلا عليه وسمعا كلامه وساءلاه وقطعا عليه، ثم لقينا الناس أفواجا، فكل من دخل عليه قطع عليه، إلا طائفة عمار الساباطي، وبقي عبد الله لا يدخل إليه من الناس إلا القليل (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الرافعي قال: كان لي ابن عم يقال له الحسن بن عبد الله، وكان زاهدا وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يتقيه السلطان لجده في الدين واجتهاده، وربما استقبل السلطان في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يغضبه، فكان يحتمل ذلك له لصلاحه، فلم تزل هذه حاله حتى دخل يوما المسجد وفيه أبو الحسن موسى عليه السلام فأومأ إليه فأتاه، فقال له: ” يا أبا علي، ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرني به ! إلا أنه ليست لك معرفة، فأطلب المعرفة ” فقال له: جعلت فداك، وما المعرفة ؟ قال: ” اذهب تفقه، واطلب الحديث ” قال: عمن ؟ قال: ” عن فقهاء أهل المدينة، ثم أعرض علي الحديث “. قال: فذهب فكتب ثم جاء فقرأه عليه فأسقطه كله، ثم قال له:


(1) في هامش البحار المطبوع قديما نقلا عن العلامة المجلسي رحمه الله: ” ذكر زرارة هنا غريب، إذ غيبته في هذا الوقت عن المدينة معروفة، والظاهر مكانه مفضل [ بن عمر ] كما مر [ من الكشي ] أو الفضيل كما في الكافي. (2) الكافي 1: 285 / 7، رجال الكشي 2: 565 / 502، وذكره مختصرا الصفار في البصائر: 270 / 1، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47: 343 / 35.

[ 224 ]

” اذهب فاعرف ” وكان الرجل معنيا بدينه، قال: فلم يزل يترصد أبا الحسن حتى خرج إلى ضيعة له، فلقيه في الطريق فقال له: جعلت فداك إني أحتج عليك بين يدي الله، فدلني على ما تجب علي معرفته ؟ قال: فأخبره أبو الحسن عليه السلام بأمر أمير المؤمنين عليه السلام وحقه وما يجب له، وأمر الحسن والحسين وعلي بي الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام ثم سكت. فقال له: جعلت فداك، فمن الامام اليوم ؟ قال: ” إن أخبرتك تقبل ؟ ” قال: نعم، قال: ” أنا هو ” قال: فشئ أستدل به ؟ قال: ” اذهب إلى تلك الشجرة – واشار إلى بعض شجر أم غيلان (1) – فقل لها: يقول لك: موسى بن جعفر: أقبلي ” قال: فأتيتها فرأيتها والله تخد (2) الارض خدا حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها بالرجوع فرجعت. قال: فأقر به، ثم لزم الصمت والعبادة، فكان لا يراه أحد يتكلم بعد ذلك (3). وروى أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن أبي بصير، قال: قلت لابي الحسن موسى بن جعفر: جعلت فداك، بم يعرف الامام ؟ قال: ” بخصال: أما أولهن فإنه بشئ قد تقدم فيه من أبيه، وإشارته إليه، ليكون حجة، ويسأل فيجيب، وإذا سكت عنه أبتدأ، ويخبر بما في غد، ويكلم الناس بكل لسان “. ثم قال: ” يا أبا محمد، أعطيك علامة قبل أن


(1) أم غيلان: من الاشجار المعروفة عند العرب، وتسمى أيضا السمرة أنظر. ” الصحاح – غيل – 5: 1788 “. (2) تخد الارض: تشقها. ” الصحاح – خدد – 2: 468 “. (3) الكافي 1: 286 / 8، بصائر الدرجات: 274 / 6، ونقله العلامة المجلسي في البحار: 48: 53 / 49.

[ 225 ]

تقوم ” فلم نلبث أن دخل عليه رجل من أهل خراسان فكلمه الخراساني بالعربية، فأجابه أبو الحسن بالفارسية، فقال له الخراساني: والله ما منعني أن أكلمك بالفارسية إلا أنه ظننت أنك لا تحسنها، فقال: ” سبحان الله، إذا كنت لا أحسن أجيبك، فما فضلي عليك فيما يستحق به الامامة ! ” ثم قال: ” يا أبا محمد، إن الامام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس، ولا منطق الطير (1)، ولا كلام شئ فيه روح ” (2). وروى عبد الله بن إدريس، عن ابن سنان، قال: حمل الرشيد في بعض الايام إلى علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها، وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب، فأنفذ علي بن يقطين جل تلك الثياب إلى موسى بن جعفر وأنفذ في جملتها تلك الدراعة، وأضاف إليها مالا كان عنده على رسم له فيما يحمله إليه من خمس ماله. فلما وصل ذلك إلى أبي الحسن عليه السلام قبل المال والثياب، ورد الدراعة على يد الرسول إلى علي بن يقطين وكتب إليه: ” إحتفظ بها، ولا تخرجها عن يدك، فسيكون لك بها شأن تحتاج إليها معه ” فارتاب علي بن يقطين بردها عليه، ولم يدر ما سبب ذلك، وآحتفظ بالدراعة. فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين على غلام كان يختص به


(1) في الكافي وقرب الاسناد بعده إضافة: ” ولا بهيمة “. (2) الكافي 1: 225 / 7، ورواه الحميري في قرب الاسناد: 146، والطبري في دلائل الامامة: 169، باختلاف يسير، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 299، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 47 / 35.

[ 226 ]

فصرفه عن خدمته، وكان الغلام يعرف ميل علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى عليه السلام، ويقف على ما يحمله إليه في كل وقت من مال وثياب وألطاف وغير ذلك، فسعى به إلى الرشيد فقال: إنه يقول بإمامة موسى ابن جعفر، ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة، وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمه بها أمير المؤمنين في وقت كذا وكذا. فاستشاط الرشيد لذلك وغضب غضبا شديدا، وقال: لاكشفن عن هذه الحال، فإن كان الامر كما تقول أزهقت نفسه. وأنفذ في الوقت بإحضار علي بن يقطين، فلما مثل بين يديه قال له: ما فعلت الدراعة التي كسوتك بها ؟ قال: هي يا أمير المؤمنين عندي في سفط مختوم فيه طيب، قد احتفظت بها، قلما أصبحت إلا وفتحت السفط ونظرت إليها تبركا بها وقبلتها ورددتها إلى موضعها، وكلما أمسيت صنعت بها مثل ذلك. فقال: أحضرها الساعة، قال: نعم يا أمير المؤمنين. واستدعى بعض خدمه فقال له: إمض إلى البيت الفلاني من داري، فخذ مفتاحه من خازنتي وافتحه، ثم افتح الصندوق الفلاني فجئني بالسفط الذي فيه بختمه. فلم يلبث الغلام أن جاء بالسفط مختوما، فوضع بين يدي الرشيد فأمر بكسر ختمه وفتحه. فلما فتح نظر إلى الدراعة فيه بحالها، مطوية مدفونة في الطيب، فسكن الرشيد من غضبه، ثم قال لعلي بن يقطين: ارددها إلى مكانها وأنصرف راشدا، فلن أصدق عليك بعدها ساعيا. وأمر أن يتبع بجائزة سنية، وتقدم بضرب الساعي به ألف سوط، فضرب نحو خمسمائة


[ 227 ]

سوط فمات في ذلك ” 1). وروى محمد بن إسماعيل، عن (محمد بن الفضل) (2) قال: إختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء، أهو من الاصابع إلى الكعبين، أم من الكعبين إلى الاصابع ؟ فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى عليه السلام: جعلت فداك، إن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين، فإن رأيت أن تكتب إلي بخطك ما يكون عملي بحسبه (3) فعلت إن شاء الله. فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام: ” فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا، وتستنشق ثلاثا، وتغسل وجهك ثلاثا، وتخلل شعر لحيتك (وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثا) (4) وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا، ولا تخالف ذلك إلى غيره “. فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين، تعجب مما رسم له فيه مما جميع العصابة على خلافه، ثم قال: مولاي أعلم بما قال، وأنا ممتثل


(1) ذكره ابن الصباغ في الفصول المهمة: 236، وأورده مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 289، والراوندي في الخرائج والجرائح 1: 334 / 25، والطبرسي في إعلام الورى: 293، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 137 / 12. (2) كذا في النسخ والمتكرر في الاسناد رواية محمد بن اسماعيل المتحد مع محمد بن اسماعيل بن بزيع عن محمد بن الفضيل، ولا يبعد وقوع التصحيف هنا أيضا، لاحظ معجم رجال الحديث 17: آخر 43 – 45. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: عليه. (4) ما بين القوسين سقط من نسختي ” م ” و ” ح ” وموجودة في نسخة ” ش ” وأشير إليها بأنها مثبتة من نسخة أخرى.

[ 228 ]

أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد، ويخالف ما عليه جميع الشيعة، امتثالا لامر أبي الحسن عليه السلام. وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقيل له: إنه رافضي مخالف لك، فقال الرشيد لبعض خاصته: قد كثر عندي القول في علي بن يقطين، والقرف (1) له بخلافنا، وميله إلى الرفض، ولست أرى في خدمته لي تقصيرا، وقد امتحنته مرارا، فما ظهرت منه عل ما يقرف به، وأحب أن أستبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز مني. فقيل له: إن الرافضة – يا أمير المؤمنين – تخالف الجماعة في الوضوء فتخففه، ولا ترى غسل الرجلين، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه. فقال: أجل، إن هذا الوجه يظهر به أمره. ثم تركه مدة وناطه بشئ من الشغل. في الدار حتى دخل وقت الصلاة، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته، فلا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو، فدعا بالماء للوضوء، فتمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه، وخلل شعر لحيته، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه، والرشيد ينظر إليه، فلما رآه قد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه، ثم ناداه: كذب – يا علي بن يقطين – من زعم أنك من الرافضة. وصلحت حاله عنده. وورد عليه كتاب أبي الحسن عليه السلام: ” ابتدئ من الآن يا


(1) القرف: الاتهام. ” الصحاح – قرف – 4: 1415 “.

[ 229 ]

علي بن يقطين، توضأ كما أمر الله، اغسل وجهك مرة فريضة وأخرى إسباغا، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كان يخاف عليك، والسلام ” (1). وروى علي بن أبي حمزة البطائني، قال: خرج أبو الحسن موسى عليه السلام في بعض الايام من المدينة إلى ضيعة له خارجة عنها، فصحبته أنا وكان راكبا بغلة وأنا على حمار لي، فلما صرنا في بعض الطريق اعترضنا أسد، فأحجمت خوفا وأقدم أبو الحسن موسى عليه السلام غير مكترث به، فرأيت الاسد يتذلل لابي الحسن عليه السلام ويهمهم، فوقف له أبو الحسن عليه السلام كالمصغي إلى همهمته، ووضع الاسد يده على كفل بغلته، وقد همتني نفسي من ذلك وخفت خوفا عظيما، ثم تنحى الاسد إلى جانب الطريق وحول أبو الحسن وجهه إلى القبلة وجعل يدعو، ويحرك شفتيه بما لم أفهمه، ثم أومأ إلى الاسد بيده أن امض، فهمهم الاسد همهمة طويلة وأبو الحسن يقول: ” آمين آمين ” وانصرف الاسد حتى غاب من بين أعيننا. ومضى أبو الحسن عليه السلام لوجهه واتبعته، فلما بعدنا عن الموضع لحقته فقلت له: جعلت فداك، ما شأن هذا الاسد ؟ فلقد خفته – والله – عليك، وعجبت من شأنه معك. فقال لي أبو الحسن عليه


(1) ذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 288، والراوندي في الخرائج والجرائح 1: 335 / 26، وذكر مرسلا الطبرسي في اعلام الورى: 293، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 38 / 14.

[ 230 ]

السلام: ” إنه خرج إلي يشكو عسر الولادة على لبوءته (1) وسألني أن أسأل الله أن يفرج عنها ففعلت ذلك، وألقي في روعي (2) أنها تلد ذكرا له، فخبرته بذلك، فقال لي: امض في حفظ الله، فلا سلط الله عليك ولا على ذريتك ولا على أحد من شيعتك شيئا من السباع، فقلت: آمين ” (3). والاخبار في هذا الباب كثيرة، وفيما أثبتناه منها كفاية على الرسم الذي تقدم، والمنة لله.


(1) اللبوءة: انثى الاسد، واللبوة ساكنة الباء غير مهموزة لغة فيها ” الصحاح – لبا – 1: 70 “. (2) الروع: القلب. ” الصحاح – روع – 3: 1223 “. (3) ذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 298، والراوندي في الخرائج والجرائح 2: 649 / 1، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 57 / 67.

[ 231 ]

باب ذكر طرف من فضائله ومناقبه وخلاله التي بان بها في الفضل من غيره وكان أبو الحسن موسى عليه السلام أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفا وأكرمهم نفسا. وروي: أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخر لله ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد (1) حتى يقرب زوال الشمس (2). وكان يدعو كثيرا فيقول: ” اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب ” (3) ويكرر ذلك. وكان من دعائه: ” عظم الذنب. من عبدك فليحسن العفو من عندك ” (4). وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع. وكان أوصل الناس لاهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة في الليل فيحمل


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: والتحميد. (2) أشار إلى نحو ذلك الخطيب في تاريخه 13: 31، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 238، وذكره الطبرسي في اعلام الورى: 296، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 101 / 5. (3) اعلام الورى: 296، مناقب آل أبي طالب 4: 318، الفصول المهمة: 237. (4) تاريخ بغداد 13: 27، ومناقب ابن شهر آشوب 4: 318 باختلاف يسير.

[ 232 ]

إليهم فيه العين (1) والورق (2) والادقة (3) والتمور، فيوصل إليهم ذلك، ولا يعلمون من أي جهة هو (4). أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى، قال: حدثنا جدي يحيى بن الحسن بن جعفر، قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن عبد الله البكري، قال: قدمت المدينة أطلب بها دينا فأعياني، فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى عليه السلام فشكوت إليه، فأتيته بنقمي (5) في ضيعته، فخرج إلي ومعه غلام معه منشف (6) فيه قديد مجزع (7)، ليس معه غيره، فأكل وأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل ولم يقم إلا يسيرا حتى خرج إلي، فقال لغلامه: ” اذهب ” ثم مد يده إلي فدفع إلي صرة فيها ثلاثمائة دينار، ثم قام فولى، فقمت وركبت دابتي وانصرفت (8).


(1) العين: الذهب والدنانير. ” الصحاح – عين – 6: 2170 “. (2) الورق: الفضة والدراهم. ” الصحاح – ورق – 4: 1564 “. (3) الادقة: جمع دقيق وهو الطحين ” الصحاح – دقق – 4: 1476 “. (4) ذكره ابن شهر آشوب في المناقب 4: 318، والطبرسي في اعلام الورى: 296، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 101 / ذيل الحديث 5. (5) نقمي: موضع من ريف المدينة المنورة كان لآل أبي طالب عليهم السلام. ” معجم البلدان 5: 300 “. وفي النسخ الخطية بنقمي، لكن الصحيح ” بنقمي “. كما في نسخة العلامة المجلسي رحمه الله من بحاره للارشاد 48: 102، وفي تاريخ بغداد 13: 28: ونقمى موضع. (6) في هامش ” ش “: ” المنشف: إزار له زئبر ” أي خمل كالقطيفة. (7) في هامش ” ش “: المجزع: الابيض والاحمر. المجزع: المقطع بألوان مختلفة من الجزع. بمعنى القطع. ” لسان العرب – جزع – 8: 48 “. (8) تاريخ بغداد 13: 28، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 102 / 6.

[ 233 ]

أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد، عن جده، عن غير واحد من أصحابه ومشايخه: أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه العسلام ويسبه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام. فقال له بعض جلسائه يوما: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن العمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: ” كم غرمت في زرعك هذا ؟ ” فقال له: مائة دينار، قال: ” وكم ترجو أن تصيب فيه ؟ ” قال: لست أعلم الغيب، قال: ” إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه ” قال: أرجو فيه مائتي دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن عليه السلام صرة فيها ثلاث مائة دينار وقال: (هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو ” قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن عليه السلام وانصرف. قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالسا، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك ؟ قد كنت تقول غير هذا، قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لابي الحسن عليه السلام فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: (أيما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت ؟ إنني أصلحت أمره


[ 234 ]

بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شره ” (1). وذكر جماعة من أهل العلم: أن أبا الحسن عليه السلام كان يصل بالمائتي دينار إلى الثلاثمائة دينار، وكانت صرار أبي الحسن موسى مثلا (2). وذكر ابن عمار – وغيره من الرواة -: أنه لما خرج الرشيد إلى الحج وقرب من المدينة استقبلته الوجوه من أهلها يقدمهم موسى بن جعفر عليهما السلام على بغلة، فقال له الربيع: ما هذه الدابة التي تلقيت عليها أمير المؤمنين، وأنت إن طلبت عليها لم تدرك، وإن طلبت لم تفت، فقال: ” إنها تطأطأت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلة العير (3)، وخير الامور أوساطها ” (4). قالوا: ولما دخل هارون الرشيد المدينة توتجه لزيارة النبي صلى الله عليه وآله ومعه الناس، فتقدم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن عم، مفتخرا بذلك على غيره، فتقدم أبو الحسن عليه السلام إلى القبر فقال: ” السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه ” فتغير وجه الرشيد


(1) اخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 13: 28، باختلاف يسير، ورواه مختصرا ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 499، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 319، والطبرسي في اعلام الورى: 296، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 102 / 7. (2) مقاتل الطالبيين: 499، تاريخ بغداد 13: 28، اعلام الورى: 296، مناقب آل ابي طالب 4: 318. 31) العير: الحمار الوحشي والاهلي ايضا ” الصحاح – عير – 2: 762 “. (4) مقاتل الطالبيين: 500، اعلام الورى: 296، مناقب آل ابي طالب 4: 320، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 103.

[ 235 ]

وتبين الغيظ فيه (1). وروى أبو زيد قال: أخبرني عبد الحميد قال: سأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى عليه السلام بمحضر من الرشيد – وهم بمكة – فقال له: أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله ؟ فقال له موسى عليه السلام: ” لا يجوز له ذلك مع الاختيار ” فقال له محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا ؟ فقال له: ” نعم ” فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك، فقال له أبو الحسن موسى عليه السلام: ” أتعجب من سنة النبي صلى الله عليه وآله وتستهزئ بها ! إن رسول الله صلى الله عليه وآله كشف الظلال في إحرامه، ومشى تحت الظلال وهو محرم، وإن أحكام الله – يا محمد – لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل عن سواء السبيل ” فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا (2). وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى عليه السلام فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه – حسب ما قدمناه – وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتا بالقرآن، وكان إذا قرأ يحدر (3) ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمونه زين المتهجدين. وسمي بالكاظم لما كظمه


(1) تاريخ بغداد 13: 31، كفاية الطالب: 457، تذكرة الخواص: 314، اعلام الورى: 297، مناقب ابن شهرآشوب 4: 320، الاحتجاج: 393، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 103. (2) اعلام الورى: 298، الاحتجاج: 394، ونقله العلامة المجلسي في البحار 99: 176 / 1. (3) في ” م “: يحزن.

[ 236 ]

من الغيظ، وصبر عليه من فعل الظالمين به، حتى مضى قتيلا في حبسهم ووثاقهم.


[ 237 ]

باب ذكر السبب في وفاته وطرف من الخبر في ذلك وكان السبب في قبض الرشيد على أبي الحسن موسى عليه السلام وحبسه وقتله، ما ذكره أحمد بن عبيدالله بن عمار، عن علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، وأحمد بن محمد بن سعيد، وأبو محمد الحسن ابن محمد بن يحيى، عن مشايخهم قالوا: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر عليهما السلام أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الاشعث، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك، وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمد – وكان يقول بالامامة – حتى داخله وأنس إليه، وكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد، ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه. ثم قال يوما لبعض ثقاته: تعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال، يعرفني ما أحتاج إليه، فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا، وكان موسى بن جعفر عليه السلام يأنس بعلي بن إسماعيل ويصله ويبره. ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغبه في قصد الرشيد ويعده بالاحسان إليه، فعمل على ذلك، وأحس به موسى عليه السلام فدعاه فقال له: ” إلى أين يابن أخي ؟ ” قال: إلى بغداد. قال: ” وما تصنع ؟ ” قال: علي دين وأنا معلق. فقال له موسى: ” فأنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع ” فلم يلتفت إلى ذلك، وعمل على


[ 238 ]

الخروج، فاستدعاه أبو الحسن فقال له: ” أنت خارج ؟ ” قال: نعم، لا بد لي من ذلك. فقال له: ” انظر – يا بن أخي – واتق الله، ولا تؤتم أولادي ” وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن موسى عليه السلام لمن حضره: ” والله ليسعين في دمي، ويؤتمن أولادي ” فقالوا له: جعلنا الله فداك، فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ! قال لهم: ” نعم، حدثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله، وإنني أردت أن أصله بعد قطعه لي، حتى إذا قطعني قطعه الله “. قالوا: فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد، فتعرف منه خبر موسى بن جعفر عليهما السلام ورفعه إلى الرشيد وزاد عليه، ثم أوصله إلى الرشيد فسأله عن عمه فسعى به إليه وقال له: إن الاموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وأنه اشترى ضيعة سماها اليسيرة بثلاثين ألف دينار، فقال له صاحبها – وقد أحضره المال – لا آخذ هذا النقد، ولا آخذ إلا نقد كذا وكذا، فأمر بذلك المال فرد وأعطاه ئلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه. فسمع ذلك منه الرشيد وأمر له بمائتي ألف درهم تسبيبا (1) على بعض النواحي، فاختار بعض كور المشرق، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم، فدخل في بعض تلك الايام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته (2) كلها فسقط، وجهدوا في


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: سبب. وسبب مشتق من السبب، وهو كل ما يتوصل به إلى الشئ، ومن هذا الباب تسبب مال الفئ، لان المسبب عليه المال جعل سببا لوصول المال إلى من وجب له من أهل الفئ. ” تهذيب اللغة – سبب – 12: 314، لسان العرب – سبب – 1: 458 “. (2) في هامش ” ش “: الحشوة: ما في البطن.

[ 239 ]

ردها فلم يقدروا، فوقع لما به (1)، وجاءه المال وهو ينزع، فقال: ما أصنع به وأنا في الموت ؟ ! وخرج الرشيد في تلك السنة إلى الحج، وبدأ بالمدينة فقبض فيها على أبي الحسن موسى عليه السلام. ويقال: انه لما ورد المدينة استقبله موسى بن جعفر في جماعة من الاشراف، وانصرفوا من استقباله، فمضى أبو الحسن إلى المسجد على رسمه، وأقام الرشيد إلى الليل وصار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، إني أعتذر إليك من شئ أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإنه يريد التشتيت بين أمتك وسفك دمائها. ثم أمر به فأخذ من المسجد فأدخل إليه فقيده، واستدعى قبتين فجعله في إحداهما على بغل، وجعل القبة الاخرى على بغل آخر، وخرج البغلان من داره عليهما القبتان مستورتان، ومع كل واحدة منهما خيل، فافترقت الخيل فمضى بعضها مع إحدى القبتين على طريق البصرة، والاخرى على طريق الكوفة، وكان أبو الحسن عليه السلام في القبة التي مضي بها على طريق البصرة. وإنما فعل ذلك الرشيد ليعمي على الناس الامر في باب أبي الحسن عليه السلام. وأمر القوم الذين كانوا مع قبة أبي الحسن أن يسلموه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور، – وكان على البصرة حينئذ – فسلم إليه فحبسه عنده سنة، وكتب إليه الرشيد في دمه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خاصته وثقاته فاستشارهم فيما كتب به الرشيد، فأشاروا عليه


(1) لما به: اي ان حالته حالة الموت.

[ 240 ]

بالتوقف عن ذلك والاستعفاء منه، فكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له: قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه فما دعا عليك ولا علي ولا ذكرنا في دعائه بسوء، وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إلي من يتسلمه مني وإلا خليت سبيله فإنني متحرج من حبسه. وروي: أن بعض عيون عيسى بن جعفر رفع إليه أنه يسمعه كثيرا يقول في دعائه وهو محبوس عنده: ” اللهم إنك تعلم أني كنت أسالك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد “. فوجه الرشيد من تسلمه من عيسى بن جعفر، وصير به إلى بغداد، فستلم إلى الفضل بن الربيع فبقي عنده مدة طويلة فأراده الرشيد على شئ من أمره فأبى، فكتب إليه بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلمه منه، وجعله في بعض حجر داره ووضع عليه الرصد، وكان عليه السلام مشغولا بالعبادة يحيي الليل كله صلاة وقراءة للقرآن ودعاءا واجتهادا، ويصوم النهار في أكثر الايام، ولا يصرف وجهه من المحراب، فوسع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه. فاتصل ذلك بالرشيد وهو بالرقة (1) فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى ويأمره بقتله، فتوقف عن ذلك ولم يقدم عليه، فاغتاظ الرشيد


(1) الرقة: مدينة مشهورة على الفرات معدودة في بلاد الجزيرة لانها من جانب الفرات الشرقي، وهي الآن احدى مدن سوريا، انظر ” معجم البلدان 3: 59 “.

[ 241 ]

لذلك ودعا مسرورا الخادم فقال له: اخرج على البريد (1) في هذا الوقت إلى بغداد، وادخل من فورك على موسى بن جعفر، فإن وجدته في دعة ورفاهية فأوصل هذا الكتاب إلى العباس بن محمد ومره بامتثال ما فيه. وسلم إليه كتابا آخر إلى السندي بن شاهك يأمره فيه بطاعة العباس بن محمد. فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد، ثم دخل على موسى بن جعفر عليه السلام فوجده على ما بلغ الرشيد، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك فأوصل الكتابين إليهما، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى، فركب معه وخرج مشدوها دهشا حتى دخل على العباس بن محمد، فدعا العباس بسياط وعقابين (2) وأمر بالفضل فجرد وضربه السندي بين يديه مائة سوط، وخرج متغير اللون خلاف ما دخل، وجعل يسلم على الناس يمينا وشمالا. وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد، فأمر بتسليم موسى عليه السلام إلى السندي بن شاهك، وجلس الرشيد مجلسا حافلا وقال: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه لعنه الله. فلعنه الناس من كل ناحية، حتى ارتج البيت والدار بلعنه. ويلغ يحيى بن خالد الخبر، فركب إلى الرشيد فدخل من غير


(1) في هامش ” ش “: حمل فلان على البريد، وخرج عل البريد: إذا كان رتب له في كل مرحلة مركوب فينزل عن المعيي الوجع ويركب القار المتودع، وكذا في جميع المنازل. (2) في هامش ” ش “: العقابان: آلة من آلات العقوبة لها طرفان إذا شال احدهما نزل الآخر وبالعكس حتى تأتيا على روحه.

[ 242 ]

الباب الذي تدخل الناس منه، حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر، ثم قال له: التفت – يا أمير المؤمنين – إلي، فأصغى إليه فزعا، فقال له: إن الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد، فانطلق وجهه وسر، وأقبل على الناس فقال: إن الفضل كان قد عصاني في شئ فلعنته، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه. فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت وقد توليناه. ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد، فماج الناس وأرجفوا بكل شئ، وأظهر أنه ورد لتعديل السواد والنظر في أمر العمال، وتشاغل ببعض ذلك أياما، ثم دعا السندي فأمره فيه بأمره فامتثله. وكان الذي تولى به السندي قتله عليه السلام سما جعله في طعام قدمه إليه، ويقال: انه جعله في رطب أكل منه فأحس بالسم، ولبث ثلاثا بعده موعوكا منه، ثم مات في اليوم الثالث (1). ولما مات موسى عليه السلام أدخل السندي بن شاهك عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره، فنظروا إليه لا أثر به من جراح ولا خنق، وأشهدهم على أنه مات حتف أنفه فشهدوا على ذلك. وأخرج ووضع على الجسر ببغداد، ونودي: هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرسون في وجهه وهو


(1) في هامش ” ش “: روي انه أذاب الرصاص فصبه في حلق الكاظم عليه السلام فكان سبب موته.

[ 243 ]

ميت، وقد كان قوم زعموا في أيام موسى أنه القائم المنتظر، وجعلوا حبسه هو الغيبة المذكورة للقائم، فأمر يحيى بن خالد أن ينادى عليه عند موته: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه، فنظر الناس إليه ميتا. ثم حمل فدفن في مقابر قريش (1) في باب التبن (2)، وكانت هذه المقبرة لبني هاشم والاشراف من الناس قديما. وروي: أنه عليه السلام لما حضرته الوفاة سأل السندي بن شاهك أن يحضره مولى له مدنيا ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب (3)، ليتولى غسله وتكفينه، ففعل ذلك. قال السندي بن شاهك: وكنت أسأله في الاذن لي في أن أكفنه فأبى، وقال: (إنا أهل بيت، مهور نسائنا وحج صرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفن، وأريد أن يتولى غسلي وجهازي مولاي فلان) فتولى ذلك منه (4).


(1) مقابر قريش: هي مدينة الكاظمية الحالية. (2، 3) باب التبن ومشرعة القصب من مناطق بغداد في تلك الايام. (4) رواه ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 501، وقد سقطت منه بعض الفقرات، والشخ الطوسي في الغيبة: 26 / 6 مثل ما في الارشاد، وذكره مختصرا الطبرسي في اعلام الورى: 299، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 238، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 234 / 39.

[ 244 ]

باب عدد أولاده وطرف من أخبارهم وكان لابي الحسن موسى عليه السلام، سبعة وثلاثون ولدا ذكرا وأنثى منهم: علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، لامهات أولاد. وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسين.، لام ولد. وأحمد، ومحمد، وحمزة، لام ولد. و عبد الله، وإسحاق، وعبيد الله، وزيد، والحسن، والفضل، وسليمان، لامهات أولاد. وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، وحكيمة، وأم أبيها، ورقية الصغرى، وكلثم، وأم جعفر، ولبابة، وزينب، وخديجة، وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم، لامهات أولاد. وكان أفضل ولد أبي الحسن موسى عليهم السلام وأنبههم وأعظمهم قدرا وأعلمهم وأجمعهم فضلا أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام. وكان أحمد بن موسى كريما جليلا ورعا، وكان أبو الحسن موسى عليه السلام يحبه ويقدمه، ووهب له ضيعته المعروفة باليسيرة. ويقال: إن


[ 245 ]

أحمد بن موسى رضي الله عنه أعتق ألف مملوك. أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى قال: حدثنا جدي قال: سمعت إسماعيل بن موسى يقول: خرج أبي بولده إلى بعض امواله بالمدينة – وأسمى ذلك المال إلا أن أبا الحسين يحيى نسي الاسم – قال: فكنا في ذلك المكان، وكان مع أحمد بن موسى عشرون من خدم أبي وحشمه، إن قام أحمد قاموا معه، وإن جلس جلسوا معه، وأبي بعد ذلك يرعاه ببصره ما يغفل عنه، فما انقلبنا حتى انشج (1) أحمد بن موسى بيننا (2). وكان محمد بن موسى من أهل الفضل والصلاح. أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى قال: حدثني جدي قال: حدثتني هاشمية مولاة رقية بنت موسى قالت: كان محمد بن موسى صاحب وضوء وصلاة، وكان ليله كله يتوضأ يصلي فنسمع سكب الماء والوضوء ثم يصلي ليلا ثم يهدأ ساعة فيرقد، ويقوم فنسمع سكب الماء والوضوء ثم يصلي ثم يرقد سويعة ثم يقوم فنسمع سكب الماء والوضوء، ثم يصلي فلا يزال ليله كذلك حتى يصبح، وما رأيته قط إلا ذكرت قول الله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) (3)، (4). وكان إبراهيم بن موسى سخيا شجاعا كريما، وتقلد الامرة على


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: أي اصابته مع تلك المراعاة العظيمة اصابته شجة. (2) نقله العلامة المجلسي في البحار 48: 287 / 2. (3) الذاريات 51: 17. (4) ذكره مختصرا ابن الصباغ في الفصول المهمة: 242، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48: 287 / 3.

[ 246 ]

اليمن في أيام المأمون من قبل محمد بن زيد (1، بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب الذي بايعه أبو السرايا بالكوفة، ومضى إليها ففتحها وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، فأخذ له الامان من المأمون. ولكل واحد من ولد أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام فضل ومنقبة مشهورة، وكان الرضا عليه السلام المقدم عليهم في الفضل حسب ما ذكرناه.


(1) هذا نسبة إلى الجد، وهو محمد بن محمد بن زيد كما صرح به الطبري في تاريخه 8: 529، والنجاشي في ترجمة علي بن عبيد الله بن حسين العلوي: 256 / 671.

[ 247 ]

باب ذكر الامام القائم بعد أبي الحسن موسى عليه السلام من ولده، وتاريخ مولده ودلائل إمامته، ومبلغ سنه، ومدة خلافته، ووقت وفاته وسببها، وموضع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره وكان الامام بعد أبي الحسن موسى بن جعفر ابنه أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام لفضله على جماعة إخوته وأهل بيته، وظهور علمه وحلمه وورعه واجتهاده، واجتماع الخاصة والعامة على ذلك فيه ومعرفتهم به منه، وبنص أبيه على إمامته عليه السلام من بعده وإشارته إليه بذلك دون جماعة إخوته وأهل بيته. وكان مولده بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة. وقبض بطوس من أرض خراسان، في صفر من سنة ثلاث ومائتين، وله يومئذ خمس وخمسون سنة، وأمه أم ولد يقال لها: أم البنين. وكانت مدة إمامته وقيامه بعد أبيه في خلافته عشرين سنة. فصل فممن روى النص على الرضا علي بن موسى عليهما السلام بالامامة


[ 248 ]

من أبيه والاشارة إليه منه بذلك، من خاصته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته: داود بن كثير الرقي، ومحمد بن إسحاق بن عمار، وعلي ابن يقطين، ونعيم القابوسي، والحسين بن المختار، وزياد بن مروان، والمخزومي، وداود بن سليمان، ونصر بن قابوس، وداود بن زربي، ويزيد ابن سليط، ومحمد بن سنان. أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب، عن أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان وإسماعيل بن غياث القصري جميعا عن داود الرقي قال: قلت لابي إبراهيم عليه السلام: جعلت فداك، إني قد كبرت سني فخذ بيدي وانقذني من النار، من صاحبنا بعدك ؟ قال: فأشار إلى ابنه أبي الحسن فقال: ” هذا صاحبكم من بعدي ” (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد يعقوب الكليني، عن الحسين (2) بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن إسحاق بن عمار قال: قلت لابي الحسن الاول عليه السلام: ألا تدلني على بن آخذ


(1) الكافي 1: 249 / 3، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 23 / 7، غيبة الطوسي: 34 / 9، الفصول المهمه لابن الصباغ: 243، اعلام الورى: 304، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 23 / 34. (2) في ” م “: ظاهره الحسن بن محمد، وهو الموجود في ” ش “، وفي ” ح “: الحسين، وهو الصواب وفقا للكافي وهو متكرر في اسناد الكافي، وهو الحسين بن محمد بن عامر الاشعري الذي يروي كتب معلى بن محمد البصري كما في رجال النجاشي: 418 / 1117، وفهرست الشيخ: 165 / 732، ونظيرهما في رجال الشيخ 515 / 132، ومشيخة الصدوق 4: 136.

[ 249 ]

عنه ديني ؟ فقال ؟ ” هذا ابني علي، إن أبي أخذ بيدي فأدخلني إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال لي: يا بني، إن الله جل وعلا قال: ” إني جاعل في الارض خليفة ” (1) وإن الله إذا قال قولا وفى به ” (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الحسين (3) بن نعيم الصحاف قال: كنت أنا وهشام بن الحكم وعلي ابن يقطين ببغداد، فقال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح فقال لي: ” يا علي بن يقطين، هذا علي سيد ولدي، أما إني قد نحلته كنيتي ” وفي رواية أخرى ” كتبي ” فضرب هشام براحته جبهته، ثم قال: ويحك، كيف قلت ؟ فقال علي بن يقطين: سمعته والله منه كما قلت، فقال هشام: إن الامر والله فيه من بعده (4). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معاوية بن حكيم، عن نعيم القابوسي، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: ” ابني علي أكبر ولدي، وآثرهم عندي، وأحبهم إلي، وهو ينظر معي في الجفر، ولم


(1) البقرة 2: 30. (2) الكافي 1: 249 / 4، غيبة الطوسي: 34 / 10، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 24 / 35. (3) كذا في ” م ” وهو الموجود في الكافي، وفي ” ش ” و ” ح “: الحسن، وهو تصحيف كما يعلم من رجال النجاشي: 53 / 120، وفهرست الشيخ: 56 / 217، ورجال الشيخ: 463 / 11. (4) الكافي 1: 248 / 1، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 21 / 3، غيبة الطوسي: 35 / 11.

[ 250 ]

ينظر فيه إلا نبي أو وصي نبي (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن أحمد ابن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان، وعلي بن الحكم – جميعا – عن الحسين بن المختار قال: خرجت إلينا ألواح من أبي الحسن موسى عليه السلام وهو في الحبس: ” عهدي إلى أكبر ولدي أن يفعل كذا وأن يفعل كذا، وفلان لا تنله شيئا حتى ألقاك أو يقضي الله علي الموت ” (2). وبهذا الاسناد عن أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن (زياد ابن مروان القندي) (3، قال: دخلت على أبي إبراهيم وعنده أبو الحسن ابنه عليهما السلام فقال لي: ” يا زياد، هذا ابني فلان، كتابه كتابي، وكلامه كلامي، ورسوله رسولي، وما قال فالقول قولي ” (4). وبهذا الاسناد عن أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل قال: حدثني المخزومي – وكانت أمه من ولد جعفر بن أبي طالب -، قال: بعث إلينا أبو الحسن موسى فجمعنا ثم قال: ” أتدرون لم


(1) الكافي 1: 249 / 2، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 31 / 27، وفيه ” واسمعهم لقولي واطوعهم لامري ” بدل: ” وآثرهم عندي واحبهم الي ” غيبة الطوسي: 36 / 12، مناقب ابن شهرآشوب 4: 367، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 24 / 36. (2) الكافي 1: 250 / 8، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 30 / 23، مختصرا، غيبة الطوسي: 36 / 13، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 24 / 37. (3) قال الصدوق – رحمة الله عليه – في عيون اخبار الرضا عليه السلام: ان زياد بن مروان القندي روى هذا الحديث ثم انكره بعد مضي موسى عليه السلام، وقال بالوقف وحبس ما كان عنده من مال موسى بن جعفر عليه السلام. (4) الكافي 1: 249 / 6، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 31 / 25، غيبة الطوسي: 37 / 14، الفصول المهمة: 244، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 19 / 23.

[ 251 ]

جمعتكم ؟ ” فقلنا: لا، قال: ” اشهدوا أن ابني هذا وصيي، والقيم بأمري، وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومن كانت له عندي عدة فليتنجزها منه، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلا بكتابه ” (1). وبهذا الاسناد عن محمد بن علي، عن أبي علي الخزاز، عن داود بن سليمان قال: قلت لابي إبراهيم عليه السلام: إني أخاف أن يحدث حدث ولا ألقاك، فأخبرني من الامام بعدك ؟ فقال: ” ابني فلان ” يعني أبا الحسن عليه السلام (2). وبهذا الاسناد عن ابن مهران، عن محمد بن علي، عن سعيد بن أبي الجهم، عن نصر بن قابوس، قال: قلت لابي إبراهيم عليه السلام: إنني سألت أباك: من الذي يكون من بعدك ؟ فأخبرني أنك أنت هو، فلما توفي أبو عبد الله عليه السلام، ذهب الناس يمينا وشمالا، وقلت بك أنا وأصحابي، فأخبرني من الذي يكون بعدك من ولدك ؟ قال: ” ابني فلان ” (3). وبهذا الاسناد عن محمد بن علي، عن الضحاك بن الاشعث، عن


(1) الكافي 1: 249 / 7، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 27 / 14، غيبة الطوسي: 37 / 15، الفصول المهمة: 244، ونقله المجلسي في البحار 499: 16 / 12. (2) الكافي 1: 250 / 11، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 23 / 8، باختلاف يسير، غيبه الطوسي: 38 / 16، ونقله المجلسي في البحار 49: 24 / 38. (3) الكافي: 1: 250 / 12، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 31 / 26، وفيه: ابني علي، رجال الكشي: 451 / 849، غيبة الطوسي: 38 / 17، ونقله المجلسي في البحار 49: 25 / 39.

[ 252 ]

داود بن زربي قال: جئت إلى أبي إبراهيم عليه السلام بمال، فأخذ بعضه وترك بعضه، فقلت: أصلحك الله لاي شئ تركته عندي ؟ فقال: ” إن صاحب هذا الامر يطلبه منك ” فلما جاء نعيه بعث إلي أبو الحسن الرضا عليه السلام فسألني ذلك المال فدفعته إليه (1). وبهذا الاسناد عن أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن يزيد بن سليط – في حديث طويل – عن أبي إبراهيم عليه السلام أنه قال في السنة التي قبض عليه فيها: ” إني أؤخذ في هذه السنة، والامر إلى ابني علي سمي علي وعلي، فأما علي الاول فعلي بن أبي طالب، وأما علي الآخر فعلي بن الحسين – صلوات الله عليهم – أعطي فهم الاول وحلمه ونصره وورعه وورده ودينه، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره ” (2) في الحديث (3) بطوله. أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن علي وعبيدالله بن المرزبان، عن ابن سنان قال: دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام من قبل أن يقدم العراق بسنة، وعلي ابنه جالس بين يديه، فنظر وقال: ” يا محمد، إنه سيكون في هذه السنة حركت فلا تجزع لذلك “.


(9) الكافي 1: 250 / 13، غيبة الطوسي: 93 / 18، مناقب آل أبي طالب 4: 368، وذكره باخلاف يسير الكشي في رجاله: 313 / 565، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 25 / (2) الكافي 1: 252 / ذيل الحديث 14، غيبة الطوسي: 40 / 19. (3) في هامش ” ش “: يعني المروى أو المورد.

[ 253 ]

قال: قلت: وما يكون جعلني الله فداك فقد أقلقتني ؟ قال: ” أصير إلى هذه الطاغية، أما إنه لا ينداني (1) منه سوء ولا من الذي يكون من بعده “. قال: قلت: وما يكون، جعلني الله فداك ؟ قال: ” يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ” (2). قال: قلت: وما ذاك، جعلني الله فداك ؟ قال: ” من ظلم ابني هذا حقه وجحده إمامته من بعدي، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب عليه السلام إمامته وجحده حقه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله “. قال: قلت: والله لئن مد الله لي في العمر لاسلمن له حقه ولاقرن بامامته. قال: ” صدقت – يا محمد – يمد الله في عمرك، وتسلم له حقه، وتقر له بإمامته وإمامة من يكون من بعده “. قال: قلت: ومن ذاك ؟ قال: ” ابنه محمد “. قال: قلت: له الرضى والتسليم (3).


(1) في هامش ” ش “: لا ينداني: أي لا يصيبني، وهو من حر الكلام. (2) ابراهيم 14: 27. (3) الكافي 1: 256 / 16، غيبة الطوسي: 32 / 8، واورده الصدوق في عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 32 / 29، باختلاف، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 22 / 27.

[ 254 ]

باب ذكر طرف من دلائله وأخباره أخبرني جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن أحمر قال: قال لي أبو الحسن الاول عليه السلام: ” هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم ؟ ” قلت: لا، قال: ” بلى، قد قدم رجل من أهل المغرب المدينة، فانطلق بنا ” فركب وركبت معه حتى انتهينا إلى الرجل، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق، فقلت له: إعرض علينا، فعرض علينا سبع جوار كل ذلك يقول أبو الحسن عليه السلام: ” لا حاجة لي فيها ” ثم قال: ” اعرض علينا ” فقال: ما عندي إلا جارية مريضة، فقال له: ” ما عليك أن تعرضها ؟ ” فأبى عليه، فانصرف. ثم أرسلني من الغد فقال لي: ” قل له: كم كان غايتك فيها ؟ فإذا قال لك: كذا وكذا، فقل: قد أخذتها ” فأتيته فقال: ما كنت أريد أن أنقصها من كذا وكذا، فقلت: قد أخذتها. قال: هي لك، ولكن أخبرني من الرجل الذي كان معك بالامس ؟ قلت: رجل من بني هاشم، قال: من أي بني هاشم ؟ فقلت: ما عندي أكثر من هذا. فقال: أخبرك أني اشتريتها من أقصى المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت: ما هذه الوصيفة معك ؟ قلت: اشتريتها لنفسي، فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه عند مثلك، إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل


[ 255 ]

الارض، فلا تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد غلاما لم يولد بشرق الارض ولا غربها مثله. قال: فأتيته بها فلم تلبث عنده إلآ قليلا حتى ولدت الرضا عليه السلام (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد (2)، عن صفوان بن يحيى قال: لما مضى أبو إبراهيم عليه السلام وتكلم أبو الحسن الرضا عليه السلام خفنا عليه من ذلك، فقيل له: إنك قد أظهرت أمرا عظيما، وإنا نخاف عليك هذا الطاغية، فقال: ” ليجهد جهده فلا سبيل له علي ” (3). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن إبراهيم بن عبد الله، عن (أحمد بن عبيدالله) (4)، عن الغفاري قال: كان لرجل من آل أبي رافع – مولى رسول الله صلى الله عليه وآله – يقال له: فلان، علي حق فتقاضاني وألح علي، فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم توجهت نحو الرضا عليه السلام – وهو يومئذ بالعريض (5) – فلما قربت من


(1) الكافي 1: 406 / 1، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 17 / 4، دلائل الامامة: 175، اثبات الوصية: 170، عيون المعجزات: 106، الخرائج والجرائح 2: 653 / 6، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 8 / 11. (2) في الكافي هنا زيادة: عمن ذكره.، وما هنا أوفق بسائر الاسناد. (3) الكافي 1: 406 / 2، عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 226 / 4، مناقب آل ابي طالب 4: 340، الفصول المهمة: 245، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 114 / 3. (4) كذا في النسخ الثلاث والبحار، وفي الكافي: أحمد بن عبد الله. (5) ذكر صاحب تاريخ قم نقلا عن بعض الرواة: أن العريض من قرى المدينة على بعد فرسخ منها، وكانت القرية ملكا للامام الباقر عليه السلام، وأوصى الامام الصادق عليه السلام بهذه القرية إلى ولده علي العريضي. تاريخ قم: 224.

[ 256 ]

بابه إذا هو قد طلع على حمار وعليه قميص ورداء، فلما نظرت إليه استحييت منه، فلما لحقني وقف ونظر إلي فسلمت عليه – وكان شهر رمضان – فقلت: جعلت فداك، إن لمولاك فلان علي حقا، وقد والله شهرني، وأنا أظن في نفسي أنه يأمره بالكف عني، ووالله ما قلت له كم له علي ولا سميت له شيئا، فأمرني بالجلوس إلى رجوعه. فلم أزل حتى صليت المغرب وأنا صائم، فضاق صدري وأردت أن أنصرف، فإذا هو قد طلع علي وحوله الناس، وقد قعد له السؤال وهو يتصدق عليهم، فمضى فدخل بيته ثم خرج، ودعاني فقمت إليه ودخلت معه، فجلس وجلست معه فجعلت أحدثه عن ابن المسيب (1) – وكان كثيرا ما أحدثه عنه – فلما فرغت قال: ” ما أظنك أفطرت بعد ” قلت: لا، فدعا لي بطعام فوضع بين يدي، وأمر الغلام أن يأكل معي، فأصبت والغلام من الطعام، فلما فرغنا قال: ” ارفع الوسادة وخذ ما تحتها ” فرفعتها فإذا دنانير فأخذتها ووضعتها في كمي. وأمر أربعة من عبيده أن يكونوا معي حتى يبلغوا بي منزلي، فقلت: جعلت فداك إن طائف (2) ابن المسيب يقعد وأكره أن يلقاني ومعي عبيدك، فقال لي: (أصبت، أصاب الله بك الرشاد) وأمرهم أن ينصرفوا إذا رددتهم. فلما قربت من منزلي وأنست رددتهم وصرت إلى منزلي ودعوت السراج ونظرت إلى الدنانير، فإذا هي ثمانية وأربعون دينارا، وكان حق الرجل علي ثمانية وعشرين دينارا، وكان فيها دينار يلوح فأعجبني حسنه فأخذته


(1) هو هارون بن المسيب كان والي المدينة. (2) الطائف: العاس بالليل. ” العين – طوف – 7: 458 “.

[ 257 ]

وقربته من السراج فإذا عليه نقش واضح: ” حق الرجل ثمانية وعشرون دينارا، وما بقي فهو لك ” لا والله ما كنت عرفت ما له علي على التحديد (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه خرج من المدينة – في السنة التي حج فيها هارون – يريد الحج فانتهى إلى جبل على يسار الطريق يقال له: فارع، فنظر إليه أبو الحسن عليه السلام ثم قال: ” يا فارع (2)، وهادمه يقطع إربا إربا ” فلم ندر ما معنى ذلك. فلما بلغ هارون ذلك المكان (3) نزله وصعد جعفر بن يحيى الجبل وأمر أن يبنى له فيه مجلس، فلما رجع من مكة صعد إليه وأمر بهدمه، فلما انصرف إلى العراق قطع جعفر بن يحيى إربا إربا (4). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن أحمد ابن محمد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عيسى، عن (محمد بن حمزة ابن الهيثم) (5)، عن إبراهيم بن موسى قال: ألححت على أبي الحسن


(1) الكافي 1: 407 / 4، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 97 / 12. (2) في الكافي والمناقب: باني فارع. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: الموضع. (4) الكافي 1: 407 / 5، مناقب آل ابي طالب 4: 340، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 56 / 70. (5) كذا في النسخ، والظاهر ان الصواب محمد بن حمزة بن القاسم، كما في الكافي والاختصاص والبصائر، وفيه: محمد بن حمزة بن القاسم أو عمن أخبره عنه قال: اخبرني ابراهيم بن موسى، ولا يبعد اتحاده مع محمد بن حمزة بن القاسم الذي عده الشيخ (قده) في اصحاب الامام الرضا عليه السلام: 392 / 67، والموجود في نقل دلائل الامامة للخبر: محمد بن حمزة الهاشمي، فيحتمل قويا كونه محمد بن حمزة بن القاسم بن الحسن بن زيد بن علي بن أبي طالب، وقد أورد اسمه في المجدي: 22، وذكر ان ابناءه قتلوا مع الكوكبي، والحسين =

[ 258 ]

الرضا عليه السلام في شئ أطلبه منه فكان يعدني، فخرج ذات يوم يستقبل والي المدينة وكنت معه، فجاء إلى قرب قصر فلان فنزل عنده تحت شجرات، ونزلت معه وليس معنا ثالث فقلت: جعلت فداك، هذا العيد قد أظلنا، ولا والله ما أملك درهما فما سواه، فحك بسوطه الارض حكا شديدا، ثم ضرب بيده فتناول منه سبيكة ذهب ثم قال: ” استنفع بها واكتم ما رأيت ” (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن مسافر قال: كنت مع أبي الحسن الرضا عليه السلام بمنى فمر يحيى بن خالد فغطى وجهه من الغبار، فقال الرضا عليه السلام: ” مساكين لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة ” ثم قال: ” وأعجب من هذا، هارون وأنا كهاتين ” وضم إصبعيه، قال مسافر: فوالله ما عرفت معنى حديثه حتى دفناه معه (2).


– الكوكي خرج سنة 250 كما في مروج الذهب، فيناسب كون والد المقتولين معه من اصحاب الرضا عليه السلام. (1) بصائر الدرجات: 394 / 2، الكافي 1: 408 / 6، دلائل الامامة: 190، الاختصاص: 270، الخراج والجرائح 1: 337 / 2، بتفصيل، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 48. (2) الكافي 1: 410 / ذيل الحديث 9، عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 225 / 2 و 226 / 1 و 2، اعلام الورى: 312، مناقب آل أبي طالب 4: 340 إلى قوله: اصبعيه، الفصول المهمة: 245، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 44 / 56.

[ 259 ]

فصل وكان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملهم إليه من المدينة وفيهم الرضا علي بن موسى عليهما السلام، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاؤوه بهم، وكان المتولي لاشخاصهم المعروف بالجلودي (1)، فقدم بهم على المأمون فأنزلهم دارا، وأنزل الرضا علي بن موسى عليهما السلام دارا، وأكرمه وعظم أمره، ثم أنفذ إليه: إني أريد أن أخلع نفسي من الخلافة وأقلدك إياها فما رأيك في ذلك ؟ فأنكر الرضا عليه السلام هذا الامر وقال له: ” اعيذك بالله – يا أمير المؤمنين – من هذا الكلام، وأن يسمع به أحد ” فرد عليه الرسالة: فإذ أبيت ما عرضت عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي، فأبى عليه الرضا إباءا شديدا، فاستدعاه إليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم وقال له: إني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك، فقال له الرضا عليه السلام: ” الله الله – يا أمير المؤمنين – إنه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه ” قال له: فإني موليك العهد من بعدي، فقال له: ” أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين ” فقال له المأمون كلاما فيه كالتهدد له على الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم أن تضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك،


(1) هو عيسى بن يزيد الجلودي.

[ 260 ]

فإنني لا أجد محيصا عنه، فقال له الرضا عليه السلام: ” فإني أجيبك (1) إلى ما تريد من ولاية العهد، على أنني لا آمر ولا أنهى ولا افتي ولا أقضي ولا أولي ولا أعزل ولا أغير شيئا مما هر قائم ” فأجابه المأمون إلى ذلك كله. أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد قال: حدثنا جدي قال: حدثني (2) موسى بن سلمة قال: كنت بخراسان مع محمد بن جعفر، فسمعت أن ذا الرئاستين خرج ذات يوم وهو يقول: واعجباه وقد رأيت عجبا، سلوني ما رأيت ؟ فقالوا: وما رأيت أصلحك الله ؟ قال: رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعلي بن موسى الرضا: قد رأيت أن أقلدك أمور المسلمين، وأفقسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك، ورأيت علي بن موسى يقول: ” يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوة ” فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها، إن أمير المؤمنين يتفصى (3) منها ويعرضها على علي بن موسى وعلي بن موسى يرفضها ويأبى (4). وذكر جماعة من أصحاب الاخبار ورواة السير والآثار وأيام الخلفاء: أن المأمون لما أراد العقد للرضا علي بن موسى عليه السلام وحدث نفسه بذلك، أحضر الفضل بن سهل فأعلمه ما قد عزم عليه من ذلك وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته،


(1) في ” م “: مجيبك. (2) في هامش ” ش “: حدثنا، وكأن في جنبه علامة التصحيح. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: يتفصى: اي يتنصل. (4) عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 141 / 6، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 136 / 11. (*)

[ 261 ]

فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما في إخراج الامر من أهله عليه، فقال له المأمون: إني عاهدت الله أنني إن ظفرت بالمخلوع (1) أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل على وجه الارض. فلما رأى الحسن والفضل عزيمته على ذلك أمسكا عن معارضته فيه، فأرسلهما إلى الرضا عليه السلام فعرضا ذلك عليه فامتنع منه، فلم يزالا به حتى أجاب، ورجعا إلى المأمون فعرفاه إجابته فسر بذلك وجلس للخاصة في يوم خميس، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى، وأنه قد ولاه عهده وسماه الرضا، وأمرهم بلبس الخضرة والعود لبيعته في الخميس الآخر، على أن ياخذوا رزق سنة. فلما كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القواد والحجاب والقضاة وغيرهم في الخضرة، وجلس المأمون ووضع للرضا وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا عليه السلام عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف، ثم أمر ابنه العباس بن المأمون يبايع له أول الناس، فرفع الرضا عليه السلام يده فتلقى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة، فقال الرضا عليه السلام: ” إن رسول الله صلى الله عليه وآله، هكذا كان يبايع ” فبايعه الناس ويده فوق أيديهم، ووضعت البدر (2) وقامت الخطباء والشعراء فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه السلام، وما كان من المأمون في أمره.


(1) المخلوع: هو محمد بن هارون الامين. (2) البذر: جمع بدرة، وهي عشرة آلاف درهم. ” الصحاح – بدر – 2: 587 “. (*)

[ 262 ]

ثم دعا أبو عباد بالعباس بن المأمون، فوثب فدنا من أبيه فقبل يده، وأمره بالجلوس، ثم نودي محمد بن جعفر بن محمد وقال له الفضل بن سهل: قم، فقام فمشى حتى قرب من المأمون فوقف ولم يقبل يده، فقيل له: امض فخذ جائزتك، وناداه المأمون: ارجع يا أبا جعفر إلى مجلسك، فرجع، ثم جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي فيقبضان جوائزهما حتى نفدت الاموال، ثم قال المأمون للرضا عليه السلام: اخطب الناس وتكلم فيهم، فحمد الله واثنى عليه وقال: ” إن لنا عليكم حقا برسول الله، ولكم علينا حقا به، فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم ” ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس. وأمر المأمون فضربت له الدراهم وطبع عليها اسم الرضا عليه السلام، وزوج إسحاق بن موسى بن جعفر بنت عمه إسحاق بن جعفر ابن محمد، وأمره فحج بالناس (1)، وخطب للرضا عليه السلام في كل بلد بولاية العهد (2). فروى أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدثني يحيى بن الحسن العلوي قال: حدثني من سمع (عبد الجبار بن سعيد) (3) يخطب في تلك السنة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، بالمدينة، فقال في الدعاء له: ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن (1) في هامش ” ش “: فحج بالناس: أي صار أمير الحاج. (2) مقاتل الطالبيين: 562 – 565، الفصول المهمة: 255، اعلام الورى: 320، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 145 / 13.. (3) كذا في النسخ، وفي العيون: عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي، وفي البحار عن الارشاد: عبد الحميد بن سعيد.


[ 263 ]

أبي طالب عليهم السلام. ستة آباءهم ما هم * أفضل من يشرب صوب الغمام (1) وذكر المدائني عن رجاله قال: لما جلس الرضا علي بن موسى عليه السلام، في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء وخفقت الالوية على رأسه، فذكر عن بعض من حضر ممن كان يختص بالرضا عليه السلام، أنه قال: كنت بين يديه في ذلك اليوم، فنظر إلي وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إلي أن ادن مني فدنوت منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: ” لا تشغل قلبك بهذا الامر ولا تستبشر به، فإنه شئ لا يتم ” (2). وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل بن علي الخزاعي، فلما دخل عليه قال: إني قد قلت قصيدة وجعلت على نفسي ألا أنشدها أحدا قبلك، فأمره بالجلوس حتى خف مجلسه، ثم قال له: ” هاتها ” قال: فأنشده قصيدته التي أولها: مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات حتى أتى على آخرها (3)، فلما فرغ من إنشاده قام الرضا عليه السلام فدخل إلى حجرته وبعث إليه خادما بخرقة خز فيها ستمائة دينار،


(1) مقاتل الطالبيين: 565، عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 145 / 14، وفيه: سبعة آباء هم، مناقب آل ابي طالب 4: 364، الفصول المهمة: 256، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 146، كما ان الشعر هو للنابغة الذبياني، راجع ديوانه: 117، وفيه: خمسة آباء هم، وانظر خزانة الادب 1: 288، وفيه: من يشرب صفو المدام. (2) الفصول المهمة: 256، اعلام الورى: 321، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 147. (3) انظر القصيدة في الديوان: 124.

[ 264 ]

وقال لخادمه: ” قل له: استعن بهذه على سفرك واعذرنا ” فقال له دعبل: لا والله ما هذا أردت ولا له خرجت، ولكن قل له: أكسني ثوبا من أثوابك، وردها عليه، فردها عليه الرضا عليه السلام وقال له: ” خذها ” وبعث إليه بجبة من ثيابه. فخرج دعبل حتى ورد ” قم ” فلما رأوا الجبة معه أعطوه بها ألف دينار فأبى عليهم وقال: لا والله ولا خرقة منها بألف دينار، ثم خرج من ” قم “، فاتبعوه وقطعوا عليه وأخذوا الجبة، – فرجع إلى ” قم ” وكلمهم فيها فقالوا: ليس إليها سبيل، ولكن إن شئت فهذه ألف دينار، قال لهم: وخرقة منها، فأعطوه ألف دينار وخرقة من الجبة (1). وروى علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعا قالا: لما حضر العيد وكان قد عقد للرضا عليه السلام الامر بولاية العهد، بعث إليه المأمون في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الرضا عليه السلام: ” قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الامر، فاعفني من الصلاة بالناس ” فقال له المأمون: إنما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك، ولم تزل الرسل تردد بينهما في ذلك، فلما ألح عليه المأمون أرسل إليه: ” إن أعفيتني فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ” فقال له المأمون: أخرج كيف شئت. وأمر القواد والناس أن يبكروا إلى باب الرضا عليه السلام. قال: فقعد الناس لابي الحسن عليه السلام في الطرقات والسطوح،


(1) رجال الكشي: 504 / 970، عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 263 – 265.

[ 265 ]

واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، وصار جميع القواد والجند إلى بابه، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس. فاغتسل أبو الحسن عليه السلام ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه، ومس شيئا من الطيب، وأخذ بيده عكازة، وقال لمواليه: ” إفعلوا مثل ما فعلت ” فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فمشى قليلا ورفع رأسه إلى السماء وكبر وكبر مواليه معه، ثم مشى حتى وقف على الباب، فلما رآه القواد والجند على تلك الحال (1) سقطوا كلهم عن الدواب إلى الارض وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها وتحفى. وكبر الرضا عليه السلام على الباب وكبر الناس معه، فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا أبا الحسن عليه السلام وسمعوا تكبيره. وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلتنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع، فبعث إليه المأمون: قد كلفناك شططا وأتعبناك، ولسنا نحب أن تلحقك مشقة فارجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه. فدعا أبو الحسن عليه السلام بخفه فلبسه وركب ورجع، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: الصورة. (*)

[ 266 ]

صلاتهم (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن إبراهيم، عن ياسر قال: لما عزم المأمون على الخروج من خراسان إلى بغداد، خرج وخرج معه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، وخرجنا مع أبي الحسن الرضا عليه السلام فورد على الفضل بن سهل كتاب من أخيه الحسن بن سهل ونحن في بعض المنازل: إني نظرت في تحويل السنة فوجدت فيه أنك تذوق في شهر كذا وكذا يوم الاربعاء حر الحديد وحر النار، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمام في هذا اليوم وتحتجم فيه وتصب على بدنك الدم ليزول عنك نحسه. فكتب ذو الرئاستين إلى المأمون بذلك، فسأله أن يسأل أبا الحسن عليه السلام ذلك، فكتب المأمون إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله فيه، فأجابه أبو الحسن: ” لست بداخل الحمام غدا ” فأعاد عليه الرقعة مرتين فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام: ” لست داخلا الحمام غدا، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه الليلة فقال لي: يا علي، لا تدخل الحمام غدا، فلا أرى لك – يا أمير المؤمنين – ولا للفضل أن تدخلا الحمام غدا ” فكتب إليه المأمون: صدقت – يا أبا الحسن – وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله، لست بداخل الحمام غدا، والفضل أعلم.


(1) الكافي 1: 408 / 7، وباختلاف يسير في عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 150، والفصول المهمة: 261، وذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 371، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 136. (*)

[ 267 ]

قال: فقال ياسر: فلما أمسينا وغابت الشمس، قال لنا الرضا عليه السلام: ” قولوا: نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة ” فلم نزل نقول ذلك، فلما صلى الرضا الصبح قال لي: ” اصعد السطح، استمع هل تجد شيئا ؟ ” فلما صعدت سمعت الضجة وكثرت وزادت فلم نشعر بشئ فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار أبي الحسن عليه السلام وهو يقول: يا سيدي، يا أبا الحسن، آجرك الله في الفضل، فإنه دخل الحمام ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه، وأخذ ممن دخل عليه ثلاثة نفر، أحدهم ابن خاله الفضل بن ذي القلمين. قال: واجتمع الجند والقواد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون فقالوا: هو اغتاله، وشغبوا (1 ا) عليه وطلبوا بدمه، وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب، فقال المأمون لابي الحسن عليه السلام: يا سيدي، نرى أن تخرج إليهم وترفق بهم حتى يتفرقوا، قال: ” نعم ” وركب أبو الحسن عليه السلام وقال لي: ” يا ياسر اركب ” فركبت فلما خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد ازدحموا عليه، فقال لهم بيده: ” تفرقوا ” قال ياسر: فأقبل الناس والله يقع بعضهم على بعض، وما أشار إلى أحد إلا ركض ومضى لوجهه (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن معلى ابن محمد، عن مسافر قال: لما أراد هارون بن المسيب أن يواقع محمد بن (1) في هامش ” ش ” و ” م “: وشنعوا. (2) الكافي 1: 4509 / 8، وباختلاف يسير في عيون اخبار الرضا عليه السلام 2: 159 / ضمن حديث 24، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 170 / 6. (*)


[ 268 ]

جعفر قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام: ” اذهب إليه وقل له: لا تخرج غدا، فإنك إن خرجت غدا هزمت وقتل أصحابك، فإن قال لك: من أين علمت هذا ؟ فقل: رأيت في النوم ” قال: فأتيته فقلت له: جعلت فداك، لا تخرج غدا، فإنك إن خرجت هزمت وقتل أصحابك، فقال لي: من أين علمت ؟ قلت في النوم، فقال: نام العبد ولم يغسل استه، ثم خرج فانهزم وقتل أصحابه (1).


(1) الكافي 1: 410 / 9، مناقب آل ابي طالب 4: 339، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 57 / 71.

[ 269 ]

باب ذكر وفاة الرضا علي بن موسى عليه السلام وسببها، وطرف من الاخبار في ذلك وكان الرضا علي بن موسى عليهما السلام يكثر وعظ المأمون إذا خلا به ويخوفه بالله ويقبح له ما يرتكبه من خلافه، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه ويتبطن كراهته واستثقاله. ودخل الرضا عليه السلام يوما عليه فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يده الماء، فقال: ” لا تشرك – يا أمير المؤمنين – بعبادة ربك أحدا ” فصرف المأمون الغلام وتولى تمام وضوئه بنفسه وزاد ذلك في غيظه ووجده. وكان عليه السلام يزري (1 ا) على الحسن والفضل – ابني سهل – عند المأمون إذا ذكرهما ويصف له مساوئهما وينهاه عن الاصغاء إلى قولهما، وعرفا ذلك منه فجعلا يحطبان (2) عليه عند المأمون ويذكران له عنه ما يبعده منه ويخوفانه من حمل الناس عليه، فلم يزالا كذلك حتى قلبا رأيه، وعمل على قتله عليه السلام، فاتفق أنه أكل هو والمأمون يوما طعاما، فاعتل منه الرضا عليه السلام (3) وأظهر المأمون تمارضا.


(1) الازراء: التهاون بالشئ. ” الصحاح – زرى – 6: 2368 “. (2) في هامش ” ش “: حطب فلان واحتطب: جذب عليه شرا. (3) في مقاتل الطالبيين: 566 بعده: ولم يزل الرضا عليلا حتى مات.

[ 270 ]

فذكر محمد بن علي بن حمزة، عن منصور بن بشير، عن أخيه عبد الله بن بشير قال: أمرني المأمون أن أطول أظفاري عن العادة ولا أظهر لاحد ذلك ففعلت، ثم استدعاني فأخرج إلي شيئا شبه التمر الهندي وقال لي: اعجن هذا بيديك جميعا ففعلت، ثم قام وتركني فدخل على الرضا عليه السلام فقال له: ما خبرك ؟ قال: ” أرجو أن أكون صالحا ” قال له: أنا اليوم بحمد الله أيضا صالح، فهل جاءك أحدذ من المترفقين في هذا اليوم ؟ قال: ” لا ” فغضب المأمون وصاح على غلمانه، ثم قال: خذ ماء الرمان الساعة، فإنه مما لا يستغنى عنه، ثم دعاني فقال: ائتنا برمان، فأتيته به، فقال لي: اعصره بيديك، ففعلت وسقاه المأمون الرضا عليه السلام بيده، فكان ذلك سبب وفاته، فلم يلبث إلا يومين حتى مات عليه السلام. وذكر عن أبي الصلت الهروي أنه قال: دخلت على الرضا عليه السلام وقد خرج المأمون من عنده، فقال لي: ” يا أبا الصلت قد فعلوها ” وجعل يوحد الله ويمجده (1). وروي عن محمد بن الجهم أنه قال: كان الرضا عليه السلام يعجبه العنب، فأخذ له منه شئ فجعل في موضع أقماعه (2) الابر أياما ثم نزعت منه، وجئ به إليه فأكل منه وهو في علته التي ذكرناها فقتله، وذكر


(1) مقاتل الطالبيين: 566، اعلام الورى: 325، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 308 / 18، وذيل الحديث في مناقب آل ابي طالب 4: 374. (2) في هامش ” ش “: اقماع: جمع قمع وقمع، وهو موصل حبة العنب بالعنقود.

[ 271 ]

أن ذلك من لطيف السموم (1). ولما توفي الرضا عليه السلام كتم المأمون موته يوما وليلة، ثم أنفذ إلى محمد بن جعفر الصادق وجماعة من آل أبي طالب الذين كانوا عنده، فلما حضروه نعاه إليهم وبكى وأظهر حزنا شديدا وتوجعا، وأراهم إياه صحيح الجسد، وقال: يعز علي يا أخي أن أراك في هذه الحال، قد كنت آمل أن أقدم قبلك، فأبى الله إلا ما أراد، ثم أمر بغسله وتكفينه وتحنيطه وخرج مع جنازته يحملها حتى انتهى إلى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن فدفنه. والموضع دار حميد بن قحطبة (2) في قرية يقال لها: ” سناباد ” على دعوة (3) من ” نوقان ” (4) بأرض طوس، وفيها قبر هارون الرشيد (5)، وقبر أبي الحسن عليه السلام بين يديه في قبلته. ومضى الرضا علي بن موسى عليه السلام ولم يترك ولدا نعلمه إلا ابنه الامام بعده أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام وكانت سنه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهرا.


(1) مقاتل الطالبيين: 567، اعلام الورى: 325، مناقب آل ابي طالب 4: 374، ونقله العلامة المجلسي في البحار 49: 308. (2) في هامش ” ش “: كان قحطبة قد وجهه الخليفة إلى بعض الامور فانجح فقال له: انت قحطبة. فقال: يا أمير المؤمنين وما معنى ذلك ؟ فقال: اردت هبط حق فقلبت لئلا يوقف عليه. (3) على دعوة: يعض مسافة بلوغ الصوت. (4) نوقان: احدى قصبتي طوس، والاخرى طابران ” معجم البلدان 5: 311 “. (5) انظر: مقاتل الطالبيين: 567.

[ 273 ]

باب ذكر الامام بعد أبي الحسن علي بن موسى عليهما السلام، وتاريخ مولده، ودلائل إمامته وطرف من أخباره ومدة إمامته، ومبلغ سنه، وذكر وفاته وسببها، وموضع قبره وعدد أولاده، ومختصر من أخبارهم وكان الامام بعد الرضا على بن موسى عليهما السلام ابنه محمد بن علي المرتضى بالنص عليه وإلاشارة من أبيه إليه، وتكامل الفضل فيه، وكل مولده عليه السلام في شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة، وقبض ببغداد في ذي القعدة سنة عشرين ومائتين وله يومئذ خمس وعشرون سنة، وكانت مدة خلافته لابيه وإمامته من بعده سبع عشرة سنة، وأمه أم ولد يقال لها: سبيكة، وكانت نوبية (1).


(1) في هامش ” ش “: النوبة: جنس من السمر. النوب والنوبة، والواحد نوب: بلاد واسعة للسودان، وأيضا جبل من السودان: ” لسان العرب – نوب – 1: 776 “.

[ 274 ]

باب ذكر طرف من النص على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام بالامامة، والاشارة بها إليه من أبيه عليهما السلام فممن روى النص عن أبي الحسن الرضا على ابنه أبي جعفر عليهما السلام بالامامة: علي بن جعفر بن محمد الصادق، وصفوان بن يحيى، ومعمر بن خلاد، و (الحسين بن يسار) (1)، وابن أبي نصر البزنطي، (وابن


(1) كذا في ” ش ” و ” م ” وكان اصلهما: بشارا فصحح بيسار، وفي ” ح “: بشار، وهذا الاختلاف يوجد عند ذكر روايته أيضا، ونسخ الكافي مختلفة هناك أيضا، وفي رجال الكشي: الحسين بن بشار. وفي المصادر اختلاف في اسم هذا الرجل، فقد أورده البرقي في اصحاب الامام الجواد عليه السلام: 56 بعنوان الحسن بن بشار، لكن في نسخة: بسر أو يسار، ويمكن ان يكون الحسن خطأ مطبعيا، إذ أورده في فهرست الكتاب: الحسين بن بشار، وأورده في باب اصحاب الامام الكاظم عليه السلام بعنوان: الحسين بن يسار. وأورده الشيخ في اصحاب الكاظم عليه السلام بعنوان الحسين بن بشار، وفي اصحاب الرضا والجواد عليهما السلام: الحسين بن يسار على ما في كثير من النسخ، كنسخة ابن سراهنك المؤرخة سنة 533 وفي بعضها في كلا البابين: بشار، وعبارة الشيخ في أصحاب الرضا عليه السلام بعد عنوانه: مدائني، مولى زياد ثقة صحيح، روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام، وأورده الشيخ في باب اصحاب الجواد عليه السلام أيضا: الحسن بن يسار، فظاهره تغاير الحسين بن يسار مع الحسن بن يسار. وقد ترجم العلامة الحلي للحسين بن بشار المدائني، وضبط بشار: بالباء المنقطة تحتها والشين المعجمة المشددة. (الخلاصة 49 / 6)، وأورده ابن داود بعنوان: الحسن بن بشار – بالباء المفردة والشين المعجمة – (رجال ابن داود 72 / 400). والروايات الواردة عن هذا الرجل مختلفة أيضا، فقد ذكر في اكثرها: الحسين بن بشار، وقد =

[ 275 ]

قياما الواسطي) (1)، والحسن بن الجهم، وأبو يحيى الصنعاني، والخيراني (2)، ويحيى بن حبيب الزيات، في جماعة كثيرة يطول بذكرهم الكتاب. أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه و (3) علي بن محمد القاساني جميعا عن زكريا ابن يحيى بن النعمان قال: سمعت علي بن جعفر بن محمد يحدث الحسن ابن الحسين بن علي بن الحسين فقال في حديثه: لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليه السلام لما بغى عليه إخوته وعمومته، وذكر حديثا طويلا حتى انتهى إلى قوله: فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام وقلت له: أشهد أنك إمام (4) عند الله، فبكى الرضا عليه السلام ثم قال: ” يا عم، ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه


= بدل الحسين في بعضها أو في بعض نسخها بالحسن، وكذلك بدل بشار بيسار، وقد وصفه في بعض الروايات بالواسطي، وفي رواية بالمدائني، انظر: معجم رجال الحديث 4: 290، 5: 116 و 202 و 204، 6: 115، والكشي رقم 747 و 766 و 786 و 942، بصائر الدرجات: 71 و 193 و 447، والرجعة: 209، واكمال الدين: 136، وعيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 118 و 2: 209، والتوحيد: 136. والظاهر كون الصواب: الحسين بن بشار، لكن الجزم به اعتمادا على ضبط العلامة الحلي وتأثره بضبط ابن داود مشكل، لاحتمال اعتمادهما في الضبط على بعض النسخ المصححة بنظرهما. (1) اثبتناه من هامش ” ش ” و ” م “، وفي هامش ” ش ” عليه علامة النسخة، ولم يذكروه في متن النسخ، ولعل وجه عدم الاتيان به في بعض النسخ – مع ذكر روايته في ما بعد – كونه واقفيا، والمعهود في الكتاب الاستدلال بروايات الثقات من اصحاب الامام السابق. فتأمل. (2) يروي الخيراني النص عن ابيه – كما يأتي – وليس هو الراوي بالمباشرة ولا يعلم توصيف والده بالخيراني في كتب الرجال أيضا. ويأتي في ص 298، 299. (3) كذا في ” م ” و ” ح “، وفي ” ش ” وهامش ” م “: عن، وهو تصحيف كما يظهر من سائر الاسناد، ومن كلمة (جميعا) في نفس السند. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: امامي.

[ 276 ]

وآله: بأبي ابن خيرة الاماء النوبية الطيبة، يكون من ولده الطريد الشريد، الموتور بأبيه وجده، صاحب الغيبة، فيقال: مات أو هلك أي واد سلك ؟ ” فقلت: صدقت جعلت فداك (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا عليه السلام: قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: ” يهب الله لي غلاما ” فقد وهبه الله لك وقر عيوننا به، فلا أرانا الله يومك، فإن كان كون فإلى من ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت له: جعلت فداك، وهذا ابن ثلاث سنين، قال: ” وما يضر من ذلك ! قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين ” (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا عليه السلام وذكر شيئا (3) فقال: ” ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني ” وقال: ” إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة (4) ” (5).


(1) الكافي 1: 259 / 14، اعلام الورى: 330، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 21 / 7. (2) الكافي 1: 258 / 10، اثبات الوصية: 185، الفصول المهمة: 265، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 21 / 8، وذكر نحوه الخزاز في كفاية الاثر: 279. (3) قال العلامة المجلسي (ره) في البحار 50: 22: وذكر شيئا أي من علامات الامام وأشباهه وربما يقرأ عل المجهول من باب التفعيل. (4) يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. ” النهاية – قذذ – 4: 28 “. (5) الكافي 1: 256 / 2، الفصول المهمة: 265، اعلام الورى: 331، ونقله العلامة المجلسي =

[ 277 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن يحيى، عن مالك ابن أشيم، عن الحسين بن يسار (1) قال: كتب ابن قياما (2) إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام كتابا يقول فيه: كيف تكون إماما وليس لك ولد ؟ فأجابه أبو الحسن عليه السلام: ” وما علمك أنه لا يكون لي ولد ؟ ! والله لا تمضي الايام والليالي حتى يرزقني الله ذكرا يفرق بين الحق والباطل ” (3). حدثني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن بعض أصحابه، عن محمد بن علي، عن معاوية بن حكيم، عن ابن أبي نصر البزنطي قال: قال لي ابن النجاشي: من الامام بعد صاحبك ؟ فأحب أن تسأله حتى أعلم. فدخلت على الرضا عليه السلام فأخبرته، قال: فقال لي: ” الامام: ابني ” وليس له ولد، ثم قال: هل يجترئ أحد أن يقول: ابني، وليس له ولد ؟ ! ولم يكن ولد أبو جعفر عليه السلام، فلم تمض الايام حتى ولد صلى الله عليه (4). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن (أحمد بن محمد) (5)، عن محمد بن علي، عن ابن قياما الواسطي – وكان


= في البحار 50: 21 / 9، وذكر الكليني قطعة منه بطريق آخر عن معمر بن خلاد 1: 257 / 6. (1) كذا في ” ش ” و ” م “، وفي ” ح “: بشار، وقد تقدم الكلام عنه آنفا. (2) في هامش ” ش “: ابن قياما الواسطي. (3) الكافي 1: 257 / 4، رجال الكشي: 553 / 1044، اعلام الورى: 331، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 22 / 10، وذكر نحوه الطبري في دلائل الامامة: 189، والمسعود في اثبات الوصية: 183. (4) الكافي 1: 257 / 5، اعلام الورى: 331، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 22 / 11. (5) كذا في ” م ” و ” ح ” ومثله في السندين الآتيين، وهو الموجود في هامش ” ش ” في الموارد الثلاثة =

[ 278 ]

واقفا – قال: دخلت على علي بن موسى، فقلت له: أيكون إمامان ؟ قال: ” لا، إلا أن يكون أحدهما صامتا ” فقلت له: هو ذا أنت، ليس لك صامت ؟ فقال لي: ” والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله، ويمحق (1) به الباطل وأهله ” ولم يكن في الوقت له ولد، فولد له أبو جعفر عليه السلام بعد سنة (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن أحمد بن محمد (3)، عن محمد بن علي، عن الحسن بن الجهم قال: كنت مع أبي الحسن عليه السلام جالسا فدعا بابنه وهو صغير فأجلسه في حجري وقال لي: ” جرده، انزع قميصه ” فنزعته فقال لي: ” أنظر بين كتفيه “: فنظرت، فإذا في إحدى كتفيه شبه الخاتم داخل اللحم، ثم قال لي: ” أترى هذا ؟ مثله في هذا الموضع كان من أبي عليه السلام ” (4).


= وقد جعل في جنبه هنا علامة النسخة، وفي السندين الآتيين علامة التصحيح، وفي متن ” ش “: أحمد بن هارون، وهو أصل نسخ ” م ” ثم غير وصحح بأحمد بن محمد. وهذه الروايات وردت في الكافي 1: 257 / 7 و 8 و 9 وسند حديث 6 هكذا: أحمد بن مهران عن محمد بن علي عن معمر بن خلاد.. وسند حديث 7: أحمد عن محمد بن علي وسند حديث 8: أحمد عن محمد بن علي.. وسند حديث 9: عنه عن محمد بن على وفي بعض النسخ المعتبرة (عنه) في السندين 7 و 8 أيضا. ولعل الموجود في نسخة الكافي التي عند المصنف (قده) في سند الحديث 6: أحمد بن محمد بدل أحمد بن مهران، فأخذ المفيد سائر الروايات منها، وأرجع الضمير إلى مرجعه أو أضاف (ابن محمد) بعد أحمد توضيحا. (1) في ” ش “: يمحو. (2) الكافي 1: 257 / 7 و 288 / 11، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 22 / 12. (3) مر آنفا ما يتعلق به. (4) الكافي 1: 257 / 8، اعلام الورى: 332، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50:

[ 279 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن أحمد بن محمد (1 ا)، عن محمد بن علي، عن أبي يحيى الصنعاني قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام فجئ بابنه أبي جعفر عليه السلام وهو صغير، فقال: ” هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه ” (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن (الحسين بن محمد) (3)، عن الخيراني، عن أبيه قال: كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضا عليه السلام بخراسان، فقال قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من ؟ قال: (إلى أبي جعفر ابني) فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر عليه السلام فقال أبو الحسن عليه السلام: (إن الله سبحانه بعث عيسى بن مريم رسولا نبيا صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر عليه السلام ” (4). أخبرني (أبو القاسم) (5)، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد،


= 23 / 13. (1) مر آنفا ما يتعلق به. (2) الكافي 1: 258 / 9، اعلام الورى: 332، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 23 / 14، وذكر المسعودي في اثبات الوصية: 184، نحوه. (3) كذا حكاه في البحار عن الارشاد، وهو الصواب الموافق للكافي وسائر الاسناد. وفي النسخ: الحسن بن محمد. (4) الكافي 1: 258 / 13، اعلام الورى: 331، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 23 / 15، وذكره باختلاف الطبري في دلائل الامامة: 204، والمسعودي في اثبات الوصية: 186. (5) في ” ش ” و ” م ” و ” ح “: جعفر بن محمد، لكن جعل عليه في ” ش ” علامة الزيادة، وضرب عليه خطأ في ” م “.

[ 280 ]

عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن يحيى بن حبيب الزيات قال: أخبرني من كان عند أبي الحسن عليه السلام جالسا، فلما نهض القوم قال لهم أبو الحسن الرضا عليه السلام: ” القوا أبا جعفر فسلموا عليه وأجدوا به عهدا ” فلما نهض القوم التفت إلي فقال: ” يرحم الله المفضل، إنه كان ليقنع بدون هذا ” (1). (1) الكافي 1: 256 / 1، اعلام الورى: 332، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 64 / 12، ورواه الكشي في رجاله 2: 620 / 593، بسند آخر، عن محمد بن حبيب، باختلاف يسير.


[ 281 ]

باب طرف من الاخبار عن مناقب أبي ب جعفر عليه السلام ودلائله ومعجزاته وكان المأمون قد شعف (1) بأبي جعفر عليه السلام لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة والادب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوجه ابنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفرا على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره. روى الحسن بن محمد بن سليمان، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الريان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الامر معه إلى ما انتهى مع الرضا عليه السلام فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الادنون منه فقالوا له: ننشدك الله – يا أمير المؤمنين – (أن تقيم) (2) على هذا الامر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله، وينزع منا عز قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا قي وهلة من عملك مع الرضا ما عملت، حتى كفانا الله المهم من ذلك، فالله الله أن تردنا إلى غم قد


(1) شعفت به وبحبه أي غشى الحب القلب من قوقه. القاموس – شعف – 3: 159 “. (2) في هامش ” ش “: أي أن لا تقيم.

[ 282 ]

انحسر عنا، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره. فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأما ما كان يفعله من كان قبلى بهم فقد كان قاطعا للرحم، أعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا، ولقد سألته أن يقوم بالامر وانزعه عن نفسي فأبى، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه، والاعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيت فيه. فقالوا ؟ إن هذا الصبي وإن راقك منه هديه، فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم إنني أعرف بهذا الفتى منكم، وإن هذا من أهل بنت علمهم من الله ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والادب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين به ما وصفت من حاله. قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولانفسنا بامتحانه، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم. فخرجوا من عنده


[ 283 ]

وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم وهو يومئذ قاضي القضاة (1) على أن يسأله مسالة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه ان تختار لهم يوما للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك. واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يفرش لابي جعفر عليه السلام دست (2)، وتجعل له فيه مسورتان (3)، ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر عليه السلام وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السلام. فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسال أبا جعفر ؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي – جعلت فداك – في مسألة ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: ” سل إن شئت ” قال يحيى: ما تقول – جعلت فداك – في محرم قتل صيدا ؟ فقال له أبو جعفر: ” قتله في حل أو حرم ؟ عالما كان المحرم أم جاهلا ؟ قتله عمدا أو خطأ ؟ حرا كان المحرم أم عبدا ؟ صغيرا كان أم كبيرا ؟ مبتدئا بالقتل أم معيدا ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها (4) ؟ مصرا على ما فعل أو نادما ؟ في


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الزمان. (2) أي جانب من البيت، وهي فارسية معربة. (3) في هامش ” ش “: المسورة: متكأ من أدم. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: كباره.

[ 284 ]

الليل كان قتله للصيد أم نهارا ؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ” ؟ فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي. ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر عليه السلام فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ؟ قال: ” نعم يا أمير المؤمنين ” فقال له المأمون: اخطب، جعلت فداك لنفسك، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك. فقال أبو جعفر عليه السلام: ” الحمد لله إقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته، وصلى الله على محمد سيد بريته والاصفياء من عترته. أما بعد: فقد كان من فضل الله على الانام أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمآئكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) (1) ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليهما السلام وهو خمسمائة درهم جيادا، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟ “.


(1) النور 24: 32.

[ 285 ]

قال المأمون: نعم، قد زوجتك أبا جعفر أم الفضل ابنتي على هذا الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح ؟ قال أبو جعفر عليه السلام: ” قد قبلت ذلك ورضيت به “. فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة. قال الريان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملاحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة مشدودة بالحبال من الابريسم على عجل مملوءة من الغالية (1)، فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية، ثم مدت إلى دار العامة فطيبوا منها، ووضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم، فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لابي جعفر: إن رأيت – جعلت فداك – أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده. فقال أبو جعفر عليه السلام: ” نعم، إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا، وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبيا فعليه شاة، فإن قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه


(1) الغالية: ضرب من الطيب مركب من مسك وعنبر وكافور ودهن البان وعود. ” مجمع البحرين – غلا – 1: 319).

[ 286 ]

الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكة. وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة “. فقال له المأمون: أحسنت – أبا جعفر – أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك. فقال أبو جعفر ليحيى: ” أسألك ؟ “. قال: ذلك إليك – جعلت فداك – فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك. فقال له أبو جعفر عليه السلام: (خبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟ “. فقال له يحيى بن أكثم: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه فقال له أبو جعفر عليه السلام: ” هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار


[ 287 ]

ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له). قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟ ! قالوا: لا والله، إن أمير المؤمنين أعلم وما رأى. فقال لهم: ويحكم، إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الاسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره. وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما، أفلا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم، وأنهم ذرية بعضها من بعض، يجري. لآخرهم ما يجري لاولهم ؟ ! قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين، ثم نهض القوم. فلما كان من الغد احضر الناس، وحضر أبو جعفر عليه السلام، وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه السلام، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك


[ 288 ]

وزعفران معجون، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته، فكان كل من وقع في يده بندقة، أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فاطلق له. ووضعت البدر، فنثر ما فيها على القواد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا. وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين. ولم يزل مكرما لابي جعفر عليه السلام معظما لقدره مدة حياته، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (1). وقد روى الناس: أن أم الفضل بنت المأمون كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر عليه السلام وتقول: إنه يتسرى (2) علي ويغيرني، فكتب إليها المأمون: يا بنية، إنا لم نزوجك أبا جعفر لتحرمي (3) عليه حلالا، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها (4). ولما توجه أبو جعفر عليه السلام من بغداد منصرفا من عند المأمون ومعه أم الفضل قاصدا بها المدينة، صار إلى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيعونه، فانتهى إلى دار المسيب. عند مغيب الشمس، نزل ودخل


(1) اعلام الورى: 335، الاحتجاج: 443، مثله، وذكر نحوه القمي في تفسيره 1: 182، والمسعودي في اثبات الوصية: 189، والطبري في دلائل الامامة: 206، والمصنف في الاختصاص: 98، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 267. (2) السرية: الجارية المتخذة للجماع منسوبة إلى السر ” القاموس 2: 47، لسان العرب 4: 358 “. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: لنحرم. (4) مناقب آل ابى طالب 4: 382، الفصول المهمة: 270، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 79 / 5.

[ 289 ]

المسجد، وكان في صحنه نبقة (1) لم تحمل بعد، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة فصلى بالناس صلاة المغرب، فقرأ في الاولى منها الحمد وإذا جاء نصر الله، وقرأ في الثانية الحمد وقل هو الله أحد، وقنت قبل ركوعه فيها، بل الثالثة وتشهد وسلم، ثم جلس هنيهة يذكر الله تعالى، وقام من غير تعقيب فصلى النوافل أربع ركعات، وعقب بعدها وسجد سجدتي الشكر، ثم خرج. فلما انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملا حسنا فتعجبوا من ذلك وأكلوا منها فوجدوه نبقا حلوا لا عجم له. وودعوه ومضى عليه السلام من وقته إلى المدينة، فلم يزل بها إلى أن أشخصه المعتصم في أول سنة عشرين (2) ومائتين إلى بغداد، فاقام بها حتى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة، فدفن في ظهر جده أبي الحسن موسى عليه السلام (3). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن علي بن خالد قال: كنت بالعسكر (4) فبلغني أن هناك رجلا محبوسا أتي به من ناحية الشام مكبولا، وقالوا: إنه تنبأ. قال: فأتيت الباب وداريت البوابين حتى وصلت إليه، فإذا رجل له فهم وعقل، فقلت له: يا هذا ما قصتك ؟ فقال: إنئي كنت رجلا بالشام أ عبد الله في الموضع الذي يقال: إنه نصب فيه رأس الحسين


(1) النبقة: النبق – بفتح النون وكسر الباء، وقد تسكن: ثمر السدر ” النهاية – نبق – 5: 10 “. (2) كان في النسخ: سنة خمس وعشرين، وما أثبتناه هو الصواب بقرينة ما في ص 273 و 295 من هذا الجزء وانظر: الكافي 1: 411 و 416 / 12، تاريخ أهل البيت (ع): 85. (3) اعلام الورى: 338، مناقب آل ابي طالب 4: 390، الفصول المهمة: 270، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 89. (4) العسكر: سامراء.

[ 290 ]

عليه السلام، فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب أذكر الله تعالى، إذ رأيت شخصا بين يدي، فنظرت إليه فقال لي: ” قم “، فقمت معه فمشى بي قليلا فإذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: ” أتعرف هذا المسجد ؟ ” فقلت: نعم هذا مسجد الكوفة، قال: فصلى فصليت معه ثم انصرف وانصرفت معه، فمشى قليلا فإذا نحن بمسجد الرسول عليه السلام فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وصلى وصليت معه، ثم خرج وخرجت فمشى قليلا فإذا أنا بمكة، فطاف بالبيت وطفت معه، ثم خرج فمشى قليلا فإذا أنا بموضعي الذي كنت أ عبد الله تعالى فيه بالشام، وغاب الشخص عن عيني، فبقيت متعجبا حولا مما رأيت. فلما كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به، ودعاني فأجبته، ففعل كما فعل في العام الماضي، فلما أراد مفارقتي بالشام قلت له: سألتك بحق الذي أقدرك على ما رأيت منك إلا أخبرتني من أنت ؟ فقال: ” أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر “. فحدثت من كان يصير إلي بخبره، فرقي ذلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فبعث إلي فأخذني وكبلني في الحديد وحملني إلى العراق وحبست كما ترى، وادعي علي المحال. فقلت له: فأرفع عنك قصة إلى محمد بن عبد الملك الزيات. فقال: افعل. فكتبت عنه قصة شرحت أمره فيها ورفعتها إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فوقع في ظهرها: قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى


[ 291 ]

الكوفة ومن الكوفة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة وردك من مكة إلى الشام، أن يخرجك من حبسك هذا. قال علي بن خالد: فغمني ذلك من أمره ورققت له وانصرفت محزونا عليه. فلما كان من الغد باكرت الحبس لاعلمه بالحال وآمره بالصبر والعزاء، فوجدت الجند وأصحاب الحرس وأصحاب السجن وخلقا عظيما من الناس يهرعون، فسألت عن حالهم فقيل لي: المحمول من الشام المتنبئ افتقد البارحة من الحبس، فلا يدرى أخسفت به الارض أو اختطفته الطير ! وكان هذا الرجل – أعني علي بن خالد – زيديا، فقال بالامامة لما رأى ذلك وحسن اعتقاده (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن علي، عن محمد بن حمزة، عن محمد بن علي الهاشمي قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام صبيحة عرسه ببنت المأمون، وكنت تناولت من الليل دواء، فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش، وكرهت أن أدعو بالماء، فنظر أبو جعفر عليه السلام في وجهي وقال: ” أراك عطشان ؟ ” قلت: أجل، قال: (يا غلام اسقنا ماء) فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء مسموم واغتممت لذلك، فأقبل الغلام ومعه الماء، فتبسم في وجهي


(1) بصائر الدرجات: 422 / 1، الكافي 1: 411 / 1، دلائل الامامة: 214، الاختصاص: 320، اعلام الورى: 332، الخرائج والجرائح 1: 380 / 10، واخرج نحوه ابن الصباغ في الفصول المهمة: 271، ومختصرا في مناقب آل ابي طالب 4: 393، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 40.

[ 292 ]

ثم قال: ” يا غلام ناولني الماء ” فتناول الماء فشرب ثم ناولني فشربت، وأطلت عنده فعطشت، فدعا بالماء ففعل كما فعل في المرة الاولى فشرب ثم ناولني وتبسم. قال محمد بن حمزة: فقال لي محمد بن علي الهاشمي: والله إنني أظن أن أبا جعفر يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابه، عن أحمد بن محمد، عن الحجال وعمرو بن عثمان، عن رجل من أهل المدينة، عن المطر في قال: مضى أبو الحسن الرضا عليه السلام ولي عليه أربعة آلاف درهم لم يكن يعرفها غيري وغيره، فأرسل إلي أبو جعفر عليه السلام: ” إذا كان في غد فأتني ” فأتيته من الغد فقال لي: ” مضى أبو الحسن ولك عليه أربعة آلاف درهم ؟ ” فقلت: نعم، فرفع المصلى الذي كان تحته فإذا تحته دنانير فدفعها إلي، فكان قيمتها في الوقت أربعة آلاف درهم (2). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، [ عن علي بن أسباط ] (3) قال: خرج علي أبو جعفر عليه


(1) الكافي 1: 414 / 6، دلائل الامامة: 215، الخرائج والجرائح 1: 379 / 9، ورواه بحذف اوله ابن شهرآشوب في المناقب 4: 390، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 54 / 28. (2) الكافي 1: 415 / 11 ” اعلام الورى: 334، وذكره باختلاف يسير ابن شهرآشوب في المناقب 4: 391، ونحوه في الخرائج والجرائح 1: 378 / 7. ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: (3) ما بين المعقوفتين سقط من السند في النسخ مع انه الراوي للخبر في المصادر، وقد نقل العلامة المجلسي في البحار الخبر عن الارشاد، وفيه: معلى بن محمد عن ابن اسباط، وهو اختصار علي ابن اسباط كما هو المعلوم من دأبه.

[ 293 ]

السلام (حدثان موت أبيه) (1) فنظرت إلى قده لاصف قامته لاصحابي (2)، فقعد ثم قال: ” يا علي (3)، إن الله احتج في الامامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال: (وآتيناه الحكم صبيا) (4) ” (5). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن داود بن القاسم الجعفري قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت علي فاغتممت فتناول إحداها وقال: ” هذه رقعة ريان بن شبيب ” ثم تناول الثانية فقال: ” هذه رقعة فلان ” فبهت أنظر إليه، فتبسم وأخذ الثالثة فقال: (هذه رقعة فلان، فقلت: نعم جعلت فداك. فأعطاني ثلاث مائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه وقال: ” أما إنه سيقول لك: دلني على حريف يشتري لي بها متاعا فدله عليه ” قال: فأتيته بالدنانير فقال لي: يا أبا هاشم دلني على حريف يشتري لي بها متاعا، فقلت: نعم. وكلمني في الطريق جمال سألني أن أخاطبه في إدخاله مع بعض


(1 ا) في هامش ” ش “: قريبا من موت أبيه (2) في هامش ” ش “: لاصحابنا. (3) كذا في ” ح ” لكن لم يأت فيه بعلي بن اسباط كما مر، والمناسب لعدم جوده هو (يا معلى) وكان في ” م ” و ” ش ” في الاصل: يا علي، ثم صحح فيهما ب‍ (معلى). (4) مريم 19: 12. (5) ذكر الخبر الصفار في بصائر الدرجات: 258 / 10، والكليني في الكافي 1: 315 / 7 و 413 / 3، والمسعودي في اثبات الوصية: 184. والطبرسي في مجمع البيان 3: 506، والراوندي في الخرائج والجرائح 1: 384 / 14، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 389، باختلاف يسير، ونقله المجلسي في البحار 50: 37 / 1.

[ 294 ]

أصحابه في أموره، فدخلت عليه لاكلمه فوجدته يأكل ومعه جماعة، فلم أتمكن من كلامه، فقال: ” يا أبا هاشم كل “، ووضع بين يدي ما آكل منه، ثم قال ابتداء من غير مسألة: ” يا غلام اتظر الجمال الذي أتانا به أبو هاشم فضمه إليك “. قال أبو هاشم: ودخلت معه ذات يوم بستانا، فقلت له: جعلت فداك، إني مولع بأكل الطين، فادع الله لي، فسكت ثم قال لي بعد أيام ابتداءا منه: ” يا أبا هاشم، قد أذهب الله عنك أكل الطين ” قال أبو هاشم: فما شئ أبغض إلي منه اليوم (1). والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وفيما أثبتناه منها كفاية فيما قصدنا له إن شاء الله.


(1) الكافي 1: 414 / 5، والطبرسي في أعلام الورى: 333 عن كتاب اخبار ابي هاشم الجعفري، والقطب الراوندي في الخرائج والجرائح 2: 664 – 665 / 1 و 2 و 3 و 4، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 390، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 41 / 4، 5، 6، 7…

[ 295 ]

باب ذكر وفاة أبي جعفر عليه السلام، وموضع قبره، وذكر ورلده قد تقدم القول في مولد أبي جعفر عليه السلام وذكرنا أنه ولد بالمدينة، وأنه قبض ببغداد. وكان سبب وروده إليها إشخاص المعتصم له من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم من سنة عشرين ومائتين، وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة. وقيل: إنه مضى مسموما (1) ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به. ودفن في مقابر قريش في ظهر جده أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، وكان له يوم قبض خمس وعشرون سنة وأشهر. وكان منعوتا بالمنتجب والمرتضى، وخلف بعده من الولد عليا ابنه الامام من بعده، وموسى، وفاطمة وأمامة ابنتيه، ولم يخلف ذكرا غير من سميناه.


(1) كما في تفسير العياشي 1: 320، ونقله ابن شهرآشوب عن ابن عياش في المناقب 4: 379.

[ 297 ]

باب ذكر الامام بعد أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، وطرف من أخباره، ومدة إمامته، ومبلغ سنه، وذكر وفاته وسببها، وموضع قبره، وعدد أولاده، ومختصر من أخباره وكان الامام بعد أبي جعفر عليه السلام ابنه أبا الحسن علي بن محمد، لاجتماع خصال الامامة فيه، وتكامل فضله، وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه، وثبوت النص عليه بالامامة والاشارة إليه من أبيه بالخلافة. وكان مولده بصريا (1) من المدينة للنصف بن ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين، وتوفي بسر من رأى في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، وله يومئذ إحدى وأربعون سنة وأشهر. وكان المتوكل قد أشخصه مع يحيى بن هرثمة بن أعين من المدينة إلى سر من رأى، فأقام بها حتى مضى لسبيله. وكانت مدة إمامته ثلاثا وثلاثين سنة، وأمه أم ولد يقال لها: سمانة.


(1) صريا: هي قرية اسسها موسى بن جعفر عليه السلام على ثلاثة اميال من المدينة. ” مناقب آل أبي طالب 4: 382 “.

[ 298 ]

باب طرف من الخبر في النص عليه بالامامة والاشارة إليه بالخلافة أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مهران قال: لما أخرج أبو جعفر عليه السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الاولة من خرجتيه قلت له عند خروجه: جعلت فداك، إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الامر بعدك ؟ قال: فكر بوجهه إلي ضاحكا وقال: ” ليس حيث (1) ظننت في هذه السنة “، فلما استدعي به إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك، أنت خارج، فإلى من هذا الامر من بعدك ؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ثم التفت إلي فقال: ” عند هذه يخاف علي، الامر من بعدي إلى ابني علي ” (2) أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين (3) بن محمد، عن الخيراني، عن أبيه أنه قال: كنت ألزم باب أبي جعفر عليه السلام للخدمة التي وكلت بها، وكان أحمد بن محمد بن


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: كما. (2) الكافي 1: 260 / 1، اعلام الورى: 339، مناقب آل أبي طالب 4: 408، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 118 / 2، وذكر ابن الصباغ في الفصول المهمة: 277 خروج الامام عليه السلام المرة الثانية من المدينة فقط. (3) كذا في ” ح ” وهو محتمل ” ش “، وفي ” م “: الحسن، والصواب ما أثبتناه موافقا للكافي.

[ 299 ]

عيسى الاشعري يجئ في السحر من آخر كل ليلة ليتعرف خبر علة أبي جعفر عليه السلام، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام احمد وخلا به. قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد بن عيسى عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول: إن مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ” إني ماض، والامر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبى “. ثم مضى الرسرل ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك ؟ قلت: خيرا، قال: قد سمعت ما قال، وأعاد علي ما سمع، فقلت له: قد حرم الله عليك ما فعلت، لان الله تعالى يقول: ” ولا تجسسوا ” (1) فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوما ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها. قال: وأصبحت وكتبت نسخة الرسالة في عشر رقاع، وختمتها ودفعتها إلى عشرة من وجوه أصحابنا، وقلت: إن حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها. فلما مضى أبو جعفر عليه السلام لم أخرج من منزلي حتى عرفت أن رؤساء العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج (2)، يتفاوضون في الامر. وكتب إلي محمد بن الفرج يعلمني باجتماعهم عنده ويقول:


(1) الحجرات 49: 12. (2) هو محمد بن الفرج الرخجي من اصحاب الرضا والجواد والهادي عليهم السلام.

[ 300 ]

لولا مخافة الشهرة لصرت معهم إليك، فأحب أن تركب إلي. فركبت وصرت إليه، فوجدت القوم مجتمعين عنده، فتجارينا في الباب (1)، فوجدت أكثرهم قد شكوا، فقلت لمن عنده الرقاع – وهم حضور: أخرجوا تلك الرقاع، فأخرجوها، فقلت لهم: هذا ما أمرت به. فقال بعضهم: قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الامر آخر ليتأكد القول. فقلت لهم: قد أتاكم الله بما تحبون، هذا أبو جعفر الاشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة فاسألوه، فسأله القوم فتوقف عن الشهادة، فدعوته إلى المباهلة، فخاف منها وقال: قد سمعت ذلك، وهي مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب، فأما مع المباهلة فلا طريق إلى كتمان الشهادة، فلم يبرح القوم حتى سلموا لابي الحسن عليه السلام (2). والاخبار في هذه الباب كثيرة جدا إن عملنا على إثباتها طال بها الكتاب، وفي إجماع العصابة على إمامة أبي الحسن عليه السلام، وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن يلتبس الامر فيه غنى عن إيراد الاخبار بالنصوص على التفصيل.


(1) في هامش ” ش “: الباب: صاحب السر الذي يتوصل إلى الامام به. (2) الكافي 1: 260 / 2، اعلاج الورى: 340، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 119 / 3.

[ 301 ]

باب ذكر طرف من دلائل أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام وأخباره وبراهينه وبيناته أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن خيران الاسباطي، قال: قدمت على أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام المدينة فقال لي: ” ما خبر الواثق عندك ؟ ” قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهدا به، عهدي به منذ عشرة أيام. قال: فقال لي: ” إن أهل المدينة يقولون: إنه مات ” فقلت: أنا أقرب الناس به عهدا. قال: فقال لي: ” إن الناس يقولون: إنه مات ” فلما قال لي: إن الناس يقولون، علمت أنه يعني نفسه. ثم قال لي: ” ما فعل جعفر ؟ ” قلت تركته أسوأ الناس حالا في السجن، قال: فقال: ” أما إنه صاحب الامر، ما فعل ابن الزيات ؟ ” قلت: الناس معه والامر أمره، فقال: ” أما إنه شؤم عليه “. قال: ثم سكت وقال لي: ” لا بد أن تجري مقادير الله وأحكامه، يا خيران مات الواثق، وقد قعد المتوكل جعفر، وقد قتل ابن الزيات ” قلت: متى جعلت فداك ؟ قال: ” بعد خروجك بستة أيام ” (1).


(1) الكافي 1: 416 / 1، اعلام الورى: 341، ونقله باختلاف يسير ابن شهرآشوب في المناقب 4: 410، والراوندي في الخرائج والجرائح 1: 407 / 13، وابن الصباغ في الفصول المهمة: =

[ 302 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن (علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد الطاهري) (1) قال: مرض المتوكل من خراج (2) خرج به فأشرف منه على الموت، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالا جليلا من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل – يعني أبا الحسن – فسألته فإنه ربما كان عنده صفة شئ يفرج الله به عنك. فقال: ابعثوا إليه. فمضى الرسول ورجع فقال: خذوا كسب (3) الغنم فديفوه بماء ورد، وضعوه على الخراج، فإنه نافع بإذن الله. فجعل من بحضرة المتوكل يهزأ من قوله، فقال لهم الفتح: وما يضر من تجربة ما قال، فوالله إني لارجو الصلاح به، فأحضر الكسب وديف بماء الورد ووضع على الخراج، فانفتح وخرج ما كان فيه.


= 279 ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 158 / 48. (1) كذا نقل العلامة المجلسي في البحار عن نسخة الارشاد، وهو الموجود في الكافي الذي هو مصدر الحديث، والنسخ هنا مشوشة، فقد ورد في ” ش ” و ” م “: علي بن ابراهيم بن محمد، وفي ” ح “: علي بن ابراهيم عن ابراهيم بن محمد، والظاهر صحة ما أثبتناه فقد يأتي في متن الحديث: قال ابراهيم بن محمد. ثم ان عمدة الاختلاف في النسخ في لقب ابراهيم بن محمد، ففي ” ش “: الطاهي وكتب في ذيله: هكذا، وفي هامش ” ش “: الطائفي ع صح، وأيضا في هامش ” ش ” نسخة اخرى: الطاهري وجعل فوقه علامة التصحيح وكتب تحته: لا غير، وفي ” م “: الطائفي وفوقه علامة التصحيح وجعل (الطاهري) في هامشه نسخة، وفي ” ح ” غير واضحة مرددة بين الطاهي والطائفي. (2) الخراج: ما يخرج في البدن من القروح. ” 5 الصحاح – خرج – 1: 309 “. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: يعني الكسب الذي يعلفه الغنم.

[ 303 ]

فبشرت أم المتوكل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن عليه السلام عشرة آلاف دينار تحت ختمها، واستقل المتوكل من علته. فلما كان بعد أيام سعى البطحاني بأبي الحسن عليه السلام إلى المتوكل وقال: عنده سلاح وأموال، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلا عليه، ويأخذ ما يجد عنده من الاموال والسلاح ويحمله إليه. قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى دار أبي الحسن عليه السلام بالليل، ومعي سلم فصعدت منه إلى السطح، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة، فلم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني أبو الحسن عليه السلام من الدار: ” يا سعيد، مكانك حتى يأتوك بشمعة ” فلم ألبث أن أتوني بشمعة، فنزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة. فقال لي: ” دونك البيوت ” فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئا، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أم المتوكل وكيسا مختوما معها، فقال لي أبو الحسن عليه السلام: ” دونك المصلى ” فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس. فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فسألها عن البدرة. فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت: كنت نذرت في علتك إن عوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها إليه، وهذا خاتمك (1) على الكيس ما حركه، وفتح الكيس


(1) هكذا في النسخ الخطية ونقل العلامة المجلسي عنه، والظاهر ان الصحيح: خاتمي، كما في الكافي واعلام الورى.

[ 304 ]

الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فأمر أن يضم إلى البدرة بدرة أخرى، وقال لي: إحمل ذلك إلى أبي الحسن، واردد عليه السيف والكيس بما فيه. فحملت ذلك إليه واستحييت منه، فقلت له: يا سيدي، عز علي بدخول دارك بغير إذنك ولكني مأمور، فقال لي: (سيعلم الذين ظلموا أي متقلب ينقلبون ” (1) ” (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن محمد النوفلي قال: قال لي محمد بن الفرج الرخجي: إن ابا الحسن عليه السلام كتب إليه: ” يا محمد، أجمع أمرك وخذ حذرك “. قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ما المراد (3) بما كتب به إلي، حتى ورد علي رسول حملني من مصر مصفدا بالحديد، وضرب على كل ما أملك، فمكثت في السجن ثماني سنين ثم ورد علي كتاب منه وأنا في السجن: ” يا محمد بن الفرج، لا تنزل في ناحية الجانب الغربي ” فقرأت الكتاب وقلت في نفسي: يكتب أبو الحسن إلي بهذا وأنا في السجن ! إن هذا لعجب. فما مكثت إلا أياما يسيرة حتى أفرج عني وحلت قيودي وخلي سبيلي.


(1) الشعراء 26: 227. (2) الكافي 1: 417 / 4، اعلام الورى: 344، دعوات الراوندي: 202 / 555، الخرائج والجرائح 1: 676 / 8، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 198 / 10، وذكر باختلاف يسير ابن الصباغ في الفصول المهمة: 281، وذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4: 415. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: ما الذي أراد.

[ 305 ]

قال: فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن يسأل الله أن يرد علي ضياعي، فكتب إلي: ” سوف ترد عليك، وما يضرك ألا ترد عليك “. قال علي بن محمد النوفلي: فلما شخص محمد بن الفرج الرخجي إلى العسكر، كتب له برد ضياعه، فلم يصل الكتاب حتى مات (1). قال: علي بن محمد النوفلي: وكتب علي بن الخصيب (2) إلى محمد بن الفرج بالخروج إلى العسكر، فكتب إلى أبي الحسن عليه السلام يشاوره، فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام: ” أخرج فإن فيه فرجك إن شاء الله ” فخرج فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات (3). وروى (أحمد بن عيسى) (4) قال: أخبرني (أبو يعقوب) (5) قال: رأيت


(1) الكافي 1: 418 / 5، اعلام الورى: 341، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 141، وذكره بحذف آخره المسعودي في اثبات الوصية: 196، والقطب الراوندي في الخرائج والجرائح 2: 679 / 9، وابن شهرآشوب في مناقب آل ابي طالب 4: 414. (2) كذا في النسخ وفي ما نقله الطبرسي في اعلام الورى عن الكافي، وقد جعله العلامة المجلسي في البحار عن الارشاد: نسخة، وفي مطبوعة الكافي: أحمد بن الخضيب وفي بعض نسخه المعتبرة: أحمد بن الخصيب، وهو الوارد في متن البحار، والظاهر صحته. فقد ذكره في اصحاب الامام الهادي عليه السلام الشيخ في رجاله: 409 / 5، والبرقي: 60 وفيه وفي بعض نسخ رجال الشيخ: الخضيب، ثم انه يأتي ذكر أحمد بن الخصيب في بعض الاحاديث الآتية، وهو الوزير أبوالعباص وزير المنتصر وبعده للمستعين، ثم نفاه المستعين إلى المغرب، وتوفي سنة 265، انظر ترجمته في سير اعلام النبلاء 12: 553 / 211 ومصادره. (3) الكافي 1: 418 / ذيل الحديث 5، اعلام الورى: 342، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 141. (4) كذا في النسخ، لكن ذكر الخبر وما بعده الطبرسي في اعلام الورى عن أحمد بن محمد ابن عيسى، وكذلك حكاه العلامة المجلسي في البحار عنه وعن الارشاد، وسند الكافي للخبرين: الحسين بن محمد عن رجل عن أحمد بن محمد قال أخبرني أبو يعقوب. (5) نقل في هامش ” ش ” عن نسخة: ابن يعقوب.

[ 306 ]

محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا، وقد استقبل أبا الحسن عليه السلام فنظر إليه نظرا شافيا، فاعتل محمد بن الفرج من الغد، فدخلت عليه عائدا بعد أيام من علته، فحدثني أن أبا الحسن عليه السلام قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجا تحت رأسه، قال: فكفن فيه والله (1). وذكر أحمد بن عيسى قال: حدثني أبو يعقوب قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام مع أحمد بن الخصيب يتسايران، وقد قصر أبو الحسن عليه السلام عنه، فقال له ابن الخصيب: سر جعلت فداك، فقال أبو الحسن: ” أنت المقدم ” فما لبثنا إلا أربعة أيام حتى وضع الدهق (2) على ساق ابن الخصيب (وقتل) (3). قال: وألح عليه ابن الخصيب في الدار التي كان قد نزلها وطالبه بالانتقال منها وتسليمها إليه، فبعث إليه أبو الحسن عليه السلام: ” لاقعدن بك من الله مقعدا لا يبقى لك معه باقية “، فأخذه الله في تلك الايام (4).


(1) الكافي 1: 419 / 6، باختلاف يسير، اعلام الورى: 34 2، ومختصرا في مناقب آل ابي طالب 4: 414. (2) الدهق: نوع من التعذيب ” الصحاح – دهق – 4: 1478 “. (3) كذا في نسخة ” ش ” و ” م ” وهو الموجود في اعلام الورى، وفي الكافي بدله: ثم نعي، وقد خلت نسخة ” ح ” منه وهو الصواب، فان أحمد بن الخصيب مات سنة 265 أي بعد وفاة الامام الهادي عليه السلام باحدى عشرة سنة، والظاهر ان الخبر ناظر إلى نفيه فقط. فقد نفاه المستعين إلى المغرب في جمادى الآخرة سنة 248 والظاهر انه المراد من: (فاخذه الله) في الخبر الآتي أيضا. (4) الكافي 1: 419 / ذيل الحديث 6، باختلاف يسير، اعلام الورى: 342، الخرائج والجرائح 2: 681 / 11، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 139 / 23.

[ 307 ]

وروى الحسين بن الحسن الحسني قال: حدثني أبو الطيب يعقوب ابن ياسر، قال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر (ابن الرضا) (1) وجهدت أن يشرب معي وأن ينادمني فامتنع، وجهدت أن اجد فرصة في هذا المعنى فلم أجدها. فقال له بعض من حضر: إن لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذه الحال، فهذا أخوه موسى قصاف عزاف (2) يأكل ويشرب ويعشق ويتخالع فأحضره واشهره، فإن الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك ولا يفرق الناس بينه وبين أخيه، ومن عرفه اتهم أخاه بمثل فعاله. فقال: اكتبوا بإشخاصه مكرما. فأشخص مكرما فتقدم المتوكل أن يتلقاه جميع بني هاشم والقواد وسائر الناس، وعمل على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة وبنى له فيها وحول إليها الخمارين والقيان (3)، وتقدم بصلته وبره، وأفرد له منزلا سريا (4) يصلح أن يزوره هو فيه. فلما وافى موسى تلقاه أبو الحسن عليه السلام في قنطرة وصيف – وهو موضع يتلقى فيه القادمون – فسلم عليه ووفاه حقه ثم قال له: ” إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذا قط، واتق الله يا أخي أن ترتكب محظورا ” فقال له موسى: إنما دعاني لهذا فما حيلتي ؟ قال: ” فلا تضع من قدرك، ولا تعص ربك، ولا


(1) المراد به ابو الحسن الثالث عليه السلام، واطلاقه على أبي جعفر الجواد وابي محمد العسكري عليهما السلام صحيح أيضا. (2) في هامش ” ش “: القصف: اللهو واللعب، والعزف: أيضا اللعب. (3) القيان: الاماء المغنيات. ” مجمع البحرين – قين – 6: 301 “. (4) في هامش ” ش “: السرو: الكرم، سريا: كريما.

[ 308 ]

تفعل ما يشينك، فما غرضه إلا هتكك “. فأبى عليه موسى، فكرر عليه أبو الحسن عليه السلام القول والوعظ، وهو مقيم على خلافه، فلما رأى أنه لا يجيب قال له: أما إن المجلس الذي تريد الاجتماع معه عليه لا تجتمع عليه أنت وهو أبدا. قال: فأقام موسى ثلاث سنين يبكر كل يوم إلى باب المتوكل، فيقال له: قد تشاغل اليوم، فيروح، فيقال له: قد سكر، فيبكر فيقال له: قد شرب دواء. فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه على شراب (1). وروى محمد بن علي قال: أخبرني زيد بن علي بن الحسين بن زيد قال: مرضت فدخل الطبيب علي ليلا ووصف لي دواء آخذه في السحر كذا وكذا يوما، فلم يمكني تحصليه من الليل، وخرج الطبيب من الباب، وورد صاحب أبي الحسن عليه السلام في الحال ومعه صرة فيها ذلك الدواء بعينه، فقال لي: أبو الحسن يقرئك السلام ويقول: ” خذ هذا الدواء كذا وكذا يوما ” فأخذته فشربت فبرأت. قال محمد بن علي: فقال لي زيد بن علي: يا محمد، أين الغلاة عن هذا الحديث (2) ؟ !


(1) الكافي 1: 420 / 8، باختلاف يسير وكذا اعلام الورى: 345، ومختصرا في مناقب آل أبي طالب 4: 409، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 3 / 6. (2) الكافي 1: 420 / 9، باختلاف يسير، الخرائج والجرائح 1: 406 / 12، وذكره الخصيبي في الهداية: 314 بتفصيل، وبحذف آخره في مناقب آل ابي طالب 4: 408، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 15 / 36.

[ 309 ]

باب ذكر ورود أبي الحسن عليه السلام من المدينة إلى العسكر، ووفاته بها وسبب ذلك، وعدد أولاده، وطرف من أخباره وكان سبب شخوص أبي الحسن عليه السلام إلى سر من رأى: أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول عليه السلام فسعى بأبي الحسن عليه السلام إلى المتوكل، وكان يقصده بالاذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد ويكذبه فيما سعى به، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب وهي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقك، مؤثر من الامور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبت به عزك وعزهم، ويدخل الامن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضى ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك


[ 310 ]

واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك (1) به ونسبك إليه من الامر الذي علم أمير المؤمنين براءتك منه، وصدق نيتك في برك وقولك، وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد ابن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك. وأمير المؤمنين مشتاق إليك، يحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك، على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك فالامر في ذلك إليك، وقد تقدمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له أثرة، ولا هو لهم أنظر، وعليهم أشفق، وبهم أبر، وإليهم أسكن، منه إليك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا من سنة ثلاث وأربعين ومائتين (2). فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن عليه السلام تجهز للرحيل،


(1) قرفك: اتهمك ” الصحاح – قرف – 4: 1415 “. (2) الكافي 1: 419 / 7، عن محمد بن يحيى، عن بعض اصحابنا قال: اخذت نسخة كتاب المتوكل إلى ابى الحسن الثالث عليه السلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث واربعين ومائتين…

[ 311 ]

وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى، فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك وأقام فيه يومه، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها. أخبرني جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن محمد بن يحيى، عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام يوم وروده فقلت له: جعلت فداك، في كل الامور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الاشنع خان الصعاليك. فقال: ” هاهنا أنث يا بن سعيد ! ” ثم أوما بيده فإذا بروضات أنفات (1)، وأنهار جاريات، وجنان فيها خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر تعجبي، فقال لي: ” حيث كنا فهذا لنا – يا ابن سعيد – لسنا في خان الصعاليك ” (2). وأقام أبو الحسن عليه السلام مدة مقامه بسر من رأى مكرما في ظاهر حاله، يجتهد المتوكل في إيقاع حيلة به فلا يتمكن من ذلك. وله معه أحاديث يطول بذكرها الكتاب، فيها آيات له وبينات، إن قصدنا لايراد ذلك خرجنا عن الغرض فيما نحوناه. وتوفي أبو الحسن عليه السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسر من رأى، وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه وهو


(1) في هامش ” ش “: أنيقات. الروض الانف: هو الروض الذي لم يرعه أحد. ” الصحاح – انف – 4: 1332 “. (2) الكافي 1: 417 / 2، اعلام الورى: 348، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 202.

[ 312 ]

الامام من بعده، والحسين، ومحمدا، وجعفرا، وابنته عائشة. وكان مقامه بسر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهرا. وتوفي وسنه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة.


[ 313 ]

باب ذكر الامام القائم بعد أبي الحسن علي ابن محمد عليهما السلام وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، والنص عليه من أبيه، ومبلغ سنه ومدة خلافته، وذكر وفاته وموضع قبره، وطرف من أخباره وكان الامام بعد أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام ابنه أبا محمد الحسن بن علي لاجتماع خلال الفضل فيه، وتقدمه على كافة أهل عصره فيما يوجب له الامامة ويقتضي له الرئاسة، من العلم والزهد وكمال العقل والعصمة والشجاعة والكرم وكثرة الاعمال المقربة إلى الله، ثم لنص أبيه عليه السلام عليه وإشارته بالخلافة إليه. وكان مولده بالمدينة في شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وقبض عليه السلام يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الاول سنة ستين ومائتين، وله يومئذ ثمان وعشرون سنة، ودفن في داره بسر من رأى في البيت الذي دفن فيه أبوه عليه السلام – وأمه أم ولد يقال لها: حديث. وكانت مدة خلافته ست سنين.


[ 314 ]

باب ذكر طرف من الخبر الوارد بالنص عليه من أبيه عليهما السلام والاشارة إليه بالامامة من بعده أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن (يحيى بن يسار العنبري) (1) قال: أوصى أبو الحسن علي بن محمد إلى ابنه الحسن عليهما السلام قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشار إليه بالامر من بعده، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن (يسار بن أحمد البصري) (3)، عن علي بن عمرو (4) النوفلي قال: كنت مع أبي الحسن عليه السلام في صحن داره فمر بنا محمد ابنه فقلت: جعلت فداك، هذا صاحبنا


(1) في مطبوعة الكافي واعلام الورى: القنبري، لكن في عدة من النسخ المعتبرة من الكافي: العنبري، وكذا في نسخ الارشاد، وفي غيبة الطوسي: بشار بدل يسار. (2) الكافي 1: 261 / 1، غيبة الطوسي: 200 / 166، اعلام الورى: 351، الفصول المهمة: 284، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 246 / 21. (3) في الكافي واعلام الورى هنا وفي السند الآتي: بشار، لكن في بعض النسخ المعتبرة من الكافي في السند الآتي: يسار، وفي غيبة الطوسي: سيار بن محمد البصري. (4) في مطبوعة الكافي: عمر، وفي بعض نسخه: عمرو كما هنا.

[ 315 ]

بعدك ؟ فقال: ” لا، صاحبكم بعدي الحسن) (1). وبهذا الاسناد عن يسار بن أحمد، عن عبد الله بن محمد الاصبهاني قال: قال أبو الحسن عليه السلام: ” صاحبكم بعدي الذي يصلي علي ” قال: ولم نكن نعرف أبا محمد قبل ذلك، قال: فخرج أبو محمد بعد وفاته فصلى عليه (2). وبهذ الاسناد عن (يسار بن أحمد) (3)، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن علي بن جعفر قال: كنت حاضرا أبا الحسن عليه السلام لما توفي ابنه محمد فقال للحسن: ” يا بني، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا ” (4).


(1) الكافي 1: 262 / 2، وعنه اعلام الورى: 350، غيبة الطوسي: 198 / 163، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 243 / 13. (2) الكافي 9: 262 / 3، وعنه اعلام الورى: 350، مناقب آل أبي طالب 4: 422، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 243 / 14. (3) أورد الخبر مع الخبرين المتقدمين في الكافي 1: 262 / 2 و 3 و 4، ونص سند الحديث 2: علي ابن محمد عن جعفر بن محمد الكوفي عن بشار بن أحمد البصري وسند الحديث 3: عنه، عن بشار (يسار خ ل) بن أحمد عن عبد الله بن محمد الآصفهاني وسند الحديث 4: عنه، عن موسى بن جعفر بن وهب. وكأن المصنف (قده) أرجع الضمير إلى يسار بن أحمد، والى مثله ذهب الطبرسي في اعلام الورى، لكن الظاهر وحدة مرجع الضمير في السندين 3 و 4، وأنه جعفر بن محمد الكوفي. وقد وقع نظير السند في الكافي 1: 341 / 22 وصورته: علي بن محمد عن جعفر بن محمد عن موسى بن جعفر البغدادي، وروى جعفر بن محمد بن مالك الفزاري عن موسى بن جعفر ابن وهب في غيبة النعماني: 252. (4) الكافي 1: 262 / 4، اعلام الورى: 350، ونقله العلامة المجلسي في البحار 55: 244 / 15، ونحوه في الغيبة للشيخ الطوسي: 203 / 170.

[ 316 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله بن مروان الانباري قال: كنت حاضرا عند مضي أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، فجاء أبو الحسن عليه السلام فوضع له كرسي فجلس عليه، وحوله أهل بيته وأبو محمد ابنه قائم في ناحية، فلما فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد عليه السلام فقال: ” يا بني، أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا ” (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن محمد بن أحمد القلانسي، عن علي بن الحسين بن عمرو، عن علي بن مهزيار، قال: قلت لابي الحسن عليه السلام: إن كان كون – وأعوذ بالله – فإلى من ؟ قال: ” عهدي إلى الاكبر من ولدي ” يعني الحسن عليه السلام (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد الاسترابادي (3)، عن علي بن عمرو العطار، قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام وابنه أبو جعفر يحيا وأنا أظن أنه هو الخلف من بعده، فقلت له: جعلت فداك، من أخص من ولدك ؟ فقال: ” لا تخصوا أحدا حتى يخرج إليكم أمري ” قال: فكتبت إليه بعد: في من يكون


(1) بصائر الدرجات: 492 / 13، الكافي 1: 262 / 5، اعلام الورى: 350، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 241 / 6. (2) الكافي 1: 262 / 6، اعلام الورى: 350،. ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 244 / 16. (3) كذا في نسخ الكتاب، وفي المطبوعة السابقة واعلام الورى: عن علي بن محمد عن أبي محمد الاسترآبادي، وكذا حكاه العلامة المجلسي (قده) عن الارشاد.

[ 317 ]

هذا الامر ؟ قال: فكتب إلي: ” في الاكبر من ولدي ” قال: وكان أبو محمد عليه السلام أكبر من جعفر (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، وغيره، عن سعد بن عبد الله، عن جماعة من بني هاشم منهم (الحسن بن الحسين الافطس) (2): أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار


(1) الكافي 1: 262 / 7، اعلام الورى: 350، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 244 / 17. (2) في الكافي: الحسن بن الحسن الافطس، والافطس هو الحسن بن علي بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أيى طالب على المشهور في كتب الانساب، لكن البخاري قال: وبعض الناس يقول: إن الافطس هو الحسين بن الحسن بن علي لا الحسن بن علي والحسن الافطس أراد قتل الصادق عليه السلام، وقد جزاه عليه السلام بإيصاء شئ له صلة للرحم، وله أولاد: منهم الحسين المعروف بابن الافطس: ظهر بمكة أيام أبي السرايا وأخذ مال الكعبة (المجدي: 213، عمدة الطالب: 337، مروج الذهب 3: 440) ومنهم الحسن المكفوف: غلب على مكة أيام ابي السرايا وأخرجه من مكة إلى الكوفة ورقاء ابن يزيد، كذا ذكره في المجدي: 215، وعمدة الطالب: 338، لكن خروج أبي السرايا في سنة 199 وقتله في سنة 200، ويبعد في النظر ظهور كلا الاخوين في هذه المدة القصيرة في مكة، يحتمل وقوع خلط هنا، فليحقق. وكيف كان، يبعد بقاء هذين الاخوين إلى ان يروي عن احدهما سعد بن عبد الله (المتوفى في حدود سنة 300) ولا يبعد كون الصواب الحسين بن الحسن الافطس وقد وقع في نسبه اختصار، وهو أبو الفضل الحسين بن الحسن بن الحسين بن الحسن الافطس، وقد ذكر في ترجمة تاريخ قم: 228: أن أبا الفضل الحسين جاء من الحجاز إلى قم وتوفي بها وكان من الفقهاء الذين رووا عن الحسن بن علي عليه السلام فيناسب رواية سعد بن عبد الله القمي عنه وهو قد هنأ الامام الحسن بن علي العسكري عليه السلام بولادة ابنه المهدي عجل الله تعالى فرجه كما في تاريخ قم: 205، وغيبة الشيخ: 230 وفيه: أبو الفضل الحسين بن الحسن العلوي، وص 251 وفي نسبه سقط. إكمال الدين باب 43 وفيه: أبو الفضل الحسن بن الحسين العلوي، وهو تصحيف، وقد ذكر في المنتقلة: 255 واخوه علي الدينوري ذكره في عمدة الطالب: 338 وقال: كان أبو جعفر محمد الجواد قد =

[ 318 ]

أبي الحسن عليه السلام وقد بسط له في صحن داره، والناس جلوس حوله، فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسون رجلا سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي عليهما السلام وقد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه، فنظر إليه أبو الحسن عليه السلام بعد ساعة من قيامه، ثم قال له: ” يا بني، أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا ” فبكى الحسن عليه السلام واسترجع فقال: (الحمد لله رب العالمين، وإياه أسأل تمام نعمه علينا، إنا لله وإنا إليه راجعون “. فسألنا عنه، فقيل لنا: هذا الحسن ابنه، فقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة ونحوها، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالامامة وأقامه مقامه (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن محمد بن يحيى قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام بعد مضي أبي جعفر – ابنه – فعزيته عنه، وأبو محمد جالس، فبكى أبو محمد، فأقبل عليه أبو الحسن عليه السلام فقال: ” إن الله تعالى قد جعل فيك خلفا منه فاحمد الله عزوجل ” (2). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن


= أمره ان يحل بالدينور، ففعل. (1) الكافي 1: 262 / 8، اعلام الورى: 351، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 245 / 18. (2) الكافي 1: 263 / 9، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 246 / 20.

[ 319 ]

عليه السلام بعدما مضى ابنه أبو جعفر، وإني لافكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما – أعني أبا جعفر وأبا محمد – في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد عليهما السلام وإن قصتهما كقصتهما، فأقبل في أبو الحسن قبل أن أنطق فقال: (نعم – يا أبا هاشم – بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، أبو محمد – ابني – الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه، ومعه آلة الامامة ” (1). وبهذا الاسناد عن إسحاق بن محمد، عن محمد بن يحيى بن رئاب (2)، عن أبي بكر الفهفكي قال: كتب إلي أبو الحسن عليه السلام: ” أبو محمد ابني أصح آل محمد غريزة، وأوثقهم حجة، وهو الاكبر من ولدي وهو الخلف، وإليه تنتهي عرى الامامة وأحكامها، فما كنت سائلي عنه فاسأله عنه، فعنده ما تحتاج إليه ” (3). وبهذا الاسناد عن إسحاق بن محمد، عن شاهوية (4) بن عبد الله


(1) الكافي 1: 263 / 10، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 241 / 7، وذكره باختلاف الشيخ الطوسي في غيبته: 200 / 167. (2) هكذا في النسخ، وفي الكافي هنا وفي الحديث الاسبق محمد بن يحيى بن درباب وبه ذكره الشيخ في رجاله في باب أصحاب الامام الهادي عليه السلام: 424 / 30. (3) الكافي: 1: 263 / 11، اعلام الورى: 351، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: (4) قد وضعت نقطتان على الهاء في النسخ الثلاث بوضوح، لكن الموجود في الكافي والمعهود من امثال هذا التركيب كسيبويه ونفطويه وقولويه هو الهاء لا التاء.

[ 320 ]

قال: كتب إلي أبو الحسن عليه السلام في كتاب: ” أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تقلق فإن الله لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، صاحبك أبو محمد ابني، وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء و (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ” (1) ” (2). وفي هذا بيان وإقناع لذي عقل يقظان. أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن رجل ذكره، عن محمد بن أحمد العلوي، عن داود بن القاسم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: ” الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ! ” فقلت: ولم ؟ جعلني الله فداك ! ؟ فقال: ” إنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه ” فقلت: فكيف نذكره ؟ فقال: ” قولوا الحجة من آل محمد عليه السلام وعليهم ” (3). والاخبار في هذا الباب كثيرة يطول بها الكتاب.


(1) البقرة 2: 106. (2) الكافي 1: 263 / 12، غيبة الطوسي: 200 / 168، ومختصرا في اعلام الورى: 351، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 243. (3) الكافي 1: 264 / 13، إكمال الدين: 381 / 5 و 648 / 4، علل الشرائع: 245 / 5، اثبات الوصية: 224، كفاية الاثر: 288، غيبة الطوسي: 202 / 169، اعلام الورى: 351، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 240 / 5. إلا أنه في العلل واثبات الوصية وكفاية الاثر وإكمال الدين: والخلف من بعدي ” ابني ” الحسن.

[ 321 ]

باب ذكر طرف من أخبار أبي محمد عليه السلام ومناقبه وآياته ومعجزاته أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين (1) بن محمد الاشعري ومحمد بن يحيى وغيرهما، قالوا: كان أحمد ابن عبيدالله بن خاقان على الضياع والخراج ب‍ (قم) فجرى في مجلسه يوما ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام فقال: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك كانت حاله عند القواد والوزراء وعامة الناس. فأذكر أنني كنت يوما قائما على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا رجلا بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى. فدخل رجل أسمر حسن القامة جميل الوجه جيد البدن حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة، فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما


(1) كذا في ” ح “، وفي ” ش ” و ” م “: الحسن، وهو تصحيف.

[ 322 ]

دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلا عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب فقال: الموفق (1) قد جاء، وكان الموفق إذا دخل على أبي يقدمه حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج. فلم يزل أبي مقبلا على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذ له: إذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا – يعني الموفق – فقام وقام أبي فعانقه ومضى. فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي وفعل به أبي هذا الفعل ؟ فقالوا: هذا علوي يقال له: الحسن بن علي يعرف ب‍: ابن الرضا، فازددت تعجبا، ولم أزل يومي ذلك قلقا مفكرا في أمره وأمر أبي وما رأيته منه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان. فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه، وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد، ألك حاجة ؟ فقلت: نعم يا أبه، فإن أذنت سألتك عنها، فقال: قد أذنت، قلت: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك ؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي، المعروف ب‍: ابن الرضا، ثم سكت ساعة وأنا ساكت، ثم قال: يا بني، لو زالت الامامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعغفافه وهديه


(1) هو أبو أحمد بن المتوكل العباسي وأخو الخلفاء المعتز والمهدي والمعتمد.

[ 323 ]

وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه رأيت رجلا جزلا نبيلا فاضلا. فازددت قلقا وتفكرا وغيظا على أبي وما سمعت منه فيه، ورأيت من فعله به، فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره. فما سألت أحدا من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الاجلال والاعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي إذ لم أر له وليا ولا عدوا إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه. فقال له بعض من حضر مجلسه من الاشعريين: فما خبر أخيه جعفر، وكيف كان منه في المحل ؟ فقال: ومن جعفر فيسأل عن خبره أو يقرن بالحسن ؟ ! جعفر معلن الفسوق (1) فاجر شريب للخمور، أقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه، ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ما تعجبت منه، وما ظننت أنه يكون، وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي: أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلا ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته، فيهم نحرير، وأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعهده صباح مساء.


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: الفسق.

[ 324 ]

فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أخبر أنه قد ضعف، فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار عشرة ممن يوثق به في دينه وورعه وأمانته، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلا ونهارا، فلم يزالوا هناك حتى توفي عليه السلام، فلما ذاع خئر وفاته صارت سر من رأى ضجة واحدة، وعطلت الاسواق، وركب بنو هاشم والقواد وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سر من رأى يومئذ شبيها بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل يأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه، فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين، وقال: هذا الحسن بن علي ابن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه، وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وصلى عليه وأمر بحمله. ولما دفن جاء جعفر (1) بن علي أخوه إلى أبي فقال: اجعل لي مرتبة أخي وأنا أوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي وأسمعه ما كره، وقال له: يا أحمق، السلطان – أطال الله بقاءه – جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة، ليردهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماما فلا حاجة بك إلى السلطان ليرتبك مراتبهم ولا غير السلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا، فاستقله أبي


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: جعفر هذا يلقب بالكذاب ويلقب أيضا بزق الخمر لانهماكه فيها وكان يسعى بأخيه ابي محمد عليه السلام إلى المتوكل.

[ 325 ]

عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات أبي. وخرجنا وهو على تلك الحال، والسلطان يطلب أثرا لولد الحسن بن علي إلى اليوم وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا، وشيعته مقيمون على أنه مات وخلف ولدا يقوم مقامه في الامامة (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: كتب أبو محمد إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو من عشرين يوما: ” إلزم بيتك حتى يحدث الحادث ” فلما قتل ترنجة (2) كتب إليه: قد حدث الحادث، فما تأمرني ؟ فكتب إليه: ” ليس هذا الحادث، الحادث الآخر ” فكان من المعتز ما كان. قال: وكتب إلى رجل آخر: ” بقتل [ ابن ] (3) محمد بن داود ” قبل قتله بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر قتل (4).


(1) الكافي 1: 421 / 1، اعلام الورى: 357، وذكره باختلاف يسير الصدوق في إكمال الدين: 40، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 329 / 2. (2) كذا في النسخ، وفي الكافي ونقل العلامة المجلسي عن الارشاد: بريحة، والظاهر ان الصحيح: ابن أترجة، وهو عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي بن أترجة من ندماء المتوكل والمشهور بالنصب والبغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وقد قتل بيد عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيين بالكوفة قبل موت المعتز بأيام. انظر: الكامل لابن الاثير 7: 56، تاريخ الطبري 9: 388. (3) في النسخ الخطية من الارشاد ونسخة البحار: محمد بن داود، والظاهر ان الصحيح: ابن محمد ابن داود – كما في الكافي – وهور عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف ب‍ (ابن أترجة) المشار إليه في صدر الحديث. (4) الكافي 1: 423 / 2، مناقب آل ابي طالب 4: 436، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 277 / 51.

[ 326 ]

أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن (علي بن محمد بن ابراهيم، المعروف بابن الكردي) (1)، عن محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: ضاق بنا الامر فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل – يعني أبا محمد – فإنه قد وصف عنه سماحة، فقلت: تعرفه ؟ قال: ما أعرفه ولا رأيته قط، قال: فقصدناه فقال لي أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمس مائة درهم: مائتي لرهم للكسوة، ومائتي درهم للدقيق، ومائة درهم للنفقة. وقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاث مائة درهم: مائة أشتري بها حمارا، ومائة للنفقة، ومائة للكسوة، فأخرج إلى الجبل (2). قال: فلما وافينا الباب خرج إلينا غلامه فقال: يدخل علي بن إبراهيم ومحمد ابنه، فلما دخلنا عليه وسلمنا قال لابي: ” يا علي، ما خلفك عنا إلى هذا الوقت ؟ ” قال: يا سيدي، استحييت أن ألقاك على هذه الحال. فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه، فناول أبي صرة وقال: هذه خمسمائة درهم: مائتان للكسوة، ومائتان للدقيق، ومائة للنفقة. وأعطاني صرة وقال: هذه ثلاث مائة درهم: فاجعل مائة في ثمن حمار، ومائة


(1) كذا في النسخ، وفي البحار: علي بن ابراهيم المعروف بابن الكردي، والظاهر ان الصواب ما في الكافي حيث رواه عن علي بن محمد عن محمد بن ابراهيم المعروف بابن الكردي، فقد يأتي في ذيل الحديث: قال محمد بن ابراهيم الكردي – (2) في ” م ” وهامش ” ش “: الخيل. الجبل والجبال اسم علم لعراق العجم، وهي ما بين اصفهان إلى زنجان وقزوين وهمدان والدينور وقرميسين (كرمانشاه) والري وما بين ذلك. ” معجم البلدان 2: 99 “.

[ 327 ]

للكسوة، ومائة للنفقة، ولا تخرج إلى الجبل (1) وصر إلى سوراء (2). قال: فصار إلى سوراء. وتزوج امرأة منها، فدخله اليوم ألفا دينار، ومع هذا يقول بالوقف. قال محمد بن ابراهيم الكردي: فقلت له: ويحك أتريد أمرا أبين من هذا ؟ ! قال: فقال: صدقت، ولكنا على أمر قد جرينا عليه (3). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن محمد بن علي بن إبراهيم قال: حدثني أحمد بن الحارث القزويني قال: كنت مع أبي بسر من رأى، وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمد عليه السلام، قال: وكان عند المستعين بغل لم ير مثله حسنا وكبرا، وكان يمنع ظهره واللجام، وقد كان جمع عليه الرواض فلم يكن لهم حيلة في ركوبه، قال: فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين، ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتى يجئ فإما أن يركبه وإما أن يقتله. قال: فبعث إلى أبي محمد ومضى معه أبي. قال: فلما دخل أبو محمد الدار كنت مع أبي، فنظر أبو محمد إلى البغل واقفا في صحن الدار فعدل إليه فوضع يده على كفله (4).


(1) في ” ش ” و ” م “: الخيل، وما أثبتناه من هامشهما. (2) سوراء: موضع بالعراق من أرض بابل، قريبة من الحلة ” معجم البلدان 3: 278 “. (3) الكافي 1: 424 / 3، مناقب آل ابي طالب 4: 437 بحذف آخره وكذلك ثاقب المناقب: 569 / 514، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 278 / 52. (4) في هامش ” ش “: كتفه.

[ 328 ]

قال: فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى سال العرق منه. ثم صار إلى المستعين فسلم عليه، فرحب به وقرب وقال: يا أبا محمد، ألجم هذا البغل. فقال أبو محمد لابي: ” الجمه ياغلابم ” فقال له المستعين: ألجمه أنت، فوضع أبو محمد طيلسانه ثم قام فألجمه، ثم رجع إلى مجلسه وجلس، فقال له: يا أبا محمد، أسرجه، فقال لابي: ” يا غلام أسرجه ” فقال له المستعين: أسرجه أنت، فقام ثانية فأسرجه ورجع، فقال له: ترى أن تركبه ؟ فقال أبو محمد: ” نعم ” فركبه من غير أن يمتنع عليه، ثم ركضه في الدار، ثم حمله على الهملجة (1) فمشى أحسن مشي يكون، ثم رجع فنزل. فقال له المستعين: يا أبا محمد، كيف رأيته ؟ قال: ” ما رأيت مثله حسنا وفراهة ” فقال له المستعين: فإن أمير المؤمنين قد حملك عليه، فقال أبو محمد لابي: ” يا غلام خذه ” فأخذه أبي فقاده (2). وروى (أبو علي بن راشد) (3)، عن أبى هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام الحاجة، فحك


(1) الهملجة: مشي شبيه الهرولة. ” مجمع البحرين – هملج – 2: 337 “. (2) الكافي 1: 424 / 4، الخرائج والجرائح 1: 432 / 11، ثاقب المناقب: 579 / 528، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 266. قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول 6: 151 تعليقا على هذا الحديث: يشكل هذا بأن الظاهر ان هذه الواقعة كانت في أيام امامه أبي محمد بعد وفاة أبيه عليهما السلام وما كانتا في جمادي الآخرة سنة 254 كما ذكره الكليني وغيره، فكيف يمكن ان تكون هذه في زمان المستعين. فلا بد اما في تصحيف المعتز بالمستعين، وهما متقاربان صورة، أو تصحيف أبي الحسن بالحسن، والاول أظهر للتصريح بأبي محمد في مواضع، وكون ذلك قبل امامته عليه السلام في حياة والده وان كان ممكنا، لكنه بعيد. (3) كذا في ” ش ” و ” م ” والبحار، وفي ” ح “: علي بن راشد، ورواه في الكافي عن علي عن أبي أحمد ابن راشد.

[ 329 ]

بسوطه الارض فأخرج منها سبيكة فيها نحو الخمس مائة دينار، فقال: ” خذها يا أبا هاشم وأعذرنا ” (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن أبي عبد الله بن صالح، عن أبيه، عن أبي علي (المطهري) (2): انه كتب إليه من القادسية يعلمه انصراف الناس عن المضي إلى الحج، وأنه يخاف العطش إن مضى، فكتب عليه السلام: ” امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله ” فمضى من بقي سالمين ولم يجدوا عطشا (3). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن علي بن الحسن بن الفضل اليماني قال: نزل بالجعفري من آل جعفر خلق كثير لا قبل له بهم، فكتب إلى أبي محمد عليه السلام يشكو ذلك، فكتب إليه: ” تكفونهم إن شاء الله “. قال: فخرج إليهم في نفر يسير – والقوم يزيدون على عشرين ألف نفس، وهو في أقل من ألف – فاستباحهم (4). وبهذا الاسناد، عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: حبس أبو محمد عليه السلام عند (علي بن اوتامش) (5) – وكان شديد العداوة لآل محمد


(1) الكافي 1: 425 / 5، مناقب آل أبي طالب 4: 431، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 279 / 53. (2) في الكافي: المطهر. (3) الكافي 1: 425 / 6، مناقب آل ابي طالب 4: 431، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 279 / 54. (4) الكافي 1: 425 / 7، مناقب آل ابي طالب 4: 431، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 280 / 55. (5) في الكافي: علي بن نارمش (نارش خ. ل)، وفي اعلام الورى: علي بن اوتاش.

[ 330 ]

عليه وعليهم السلام غليظا على آل أبي طالب – وقيل له: افعل به وافعل. قال: فما أقام إلا يوما حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالا له وإعظاما، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولا فيه (1). وروى إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثنى أبو هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمد عليه السلام ضيق الحبس وكلب القيد، فكتب إلي: ” أنت مصلي اليوم الظهر في منزلك ” فأخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال. وكنت مضيقا فأردت أن أطلب منه معونة في الكتاب الذي كتبته فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجه لي بمائة دينار وكتب إلي: ” إذا كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحتشم، واطلبها تأتك على ما تحب إن شاء الله ” (2). وبهذا الاسناد، عن أحمد بن محمد الاقرع قال: حدثني (أبو حمزة نصير الخادم) (3) قال: سمعت أبا محمد عليه السلام غير مرة يكلم


(1) الكافي 1: 425 / 8، اعلام الورى 359، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 307 / 4. (2) الكافي 1: 426 / 10، اعلام الورى: 354، الخرائج والجرائح 1: 435 / 13، وذكر صدره ابن شهرآشوب في المناقب 4: 432، وذيله في 4: 439، وذكر قطعا منه المسعودي في اثبات الوصية: 211، وعماد الدين الطوسي في ثاقب المناقب: 276 / 525، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 267 / 27. (3) كذا في النسخ، ونسخ الكافي هنا مختلفة بين نصر ونصير، وقد ورد في الفقيه 2: 184 / 827، وفي نسخه اختلاف أيضا، وهو من شهود وصية أبي جعفر الثاني عليه السلام إلى ابنه علي عليه السلام، وكتب شهادته بيده (الكافي 1: 261 / 3 والموجود هنا نصر لا غير) وفي الغيبة للشيخ: 245 / 213: ررى محمد بن علي الشلمغاني في كتاب الاوصياء قال: حدثني حمزة بن نصر غلام أبي الحسن عليه السلام عن أبيه قال: لما ولد السيد عليه السلام تباشر أهل الدار =

[ 331 ]

غلمانه بلغاتهم، وفيهم ترك وروم وصقالبة، فتعجبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة، ولم يظهر لاحد حتى مضى أبو الحسن عليه السلام ولا رآه أحد، فكيف هذا ؟ ! أحدث نفسي بذلك، فأقبل علي فقال: ” إن الله جل ذكره أبان حجته من سائر خلقه، وأعطاه معرفة كل شئ، فهو يعرف اللغات والاسباب والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق ” (1). وبهذا الاسناد قال: حدثني الحسن بن طريف قال: اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما إلى أبي محمد عليه السلام، فكتبت أسأله عن القائم إذا قام بم يقضي، وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ؟ وأردت (أن أسأله) (2) عن شئ لحمى الربع فأغفلت ذكر الحمى، فجاء الجواب: ” سألت عن القائم، وإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود لا يسأل البينة، وكنت أردت أن تسأل عن حمى الربع فأنسيت، فاكتب في ورقة وعلتقه على المحموم: ” يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم ” (3) ” فكتب ذلك وعلقته على المحموم (4) فأفاق وبرئ (5).


= بذلك الخبر، والظاهر ان نصر والد حمزة في هذا السند هو ابو حمزة الخادم الذي نبحث عنه، فحينئذ الاظهر صحة نصر وكون نصير تصحيفا. (1) الكافي 1: 426 / 11، اعلام الورى: 356، الخرائج والجرائح 1: 436 / 14، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 268 / 28، وذكره مختصرا المسعودي في اثبات الوصية: 214، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 428. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: ان اكتب إليه اسأله. (3) الانبياء 21: 69. (4) في ” م “: محموم لنا. (5) الكافي 1: 426 / 13، دعوات الراوندي: 209 / 567، اعلام الورى: 357، الخرائج والجرائح 1: 431 / 10، ومختصرا في مناقب آل ابي طالب 4: 431، ونقله العلامة المجلسي =

[ 332 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني إسماعيل بن محمد ابن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس قال: قعدت لابي محمد عليه السلام على ظهر الطريق، فلما مر بي شكوت إليه الحاجة، وحلفت أنه ليس عندي درهم فما فوقه ولا غداء ولا عشاء، قال، فقال: ” تخلف بالله كاذبا ! وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعا لك عن العطية، أعطه يا غلام ما معك ” فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم أقبل علي فقال لي: ” إنك تحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها) وصدق عليه السلام، وذلك أنني أتفقت ما وصلني به واضطررت ضرورة شديدة إلى شئ أنفقه، وأنغلقت علي أبواب الرزق، فنبشت عن الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها، فنظرت فإذا (ابن عم لي) (1) قد عرف موضعها فأخذها وهرب، فما قدرت منها على شئ (1). وبهذا الاسناد، عن إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثنا علي بن زيد بن علي بن الحسين قال: كان لي فرس وكنت به معجبا أكثر ذكره في المجالس، فدخلت على أبي محمد عليه السلام يوما فقال: ” ما فعل فرسك ؟ ” فقلت: هو عندي، وهو ذا، هو على بابك، الآن نزلت عنه، فقال لي: ” استبدل به قبل المساء إن قدرت على مشتر ولا تؤخر ذلك “


= في البحار 50: 265. (1) في ” م ” وهامش ” ش “: ابن لي. (2) الكافي 1: 426 / 14، اعلام الورى: 352، ثاقب المناقب: 578 / 527، الفصول المهمة: 286، وذكره مختصرا المسعودي في اثبات الوصية: 214، والراوندي في الخرائج والجرائح 1: 427 / 6، وابن شهرآشوب في المناقب 4: 432، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 280 / 56.

[ 333 ]

ودخل علينا داخل فانقطع الكلام، فقمت مفكرا ومضيت إلى منزلي فأخبرت أخي فقال: ما أدري ما أقول في هذا، وشححت به ونفست على الناس ببيعه، وأمسينا فلما صليت العتمة جاءني السائس فقال: يا مولاي، نفق فرسك الساعة، فاغتممت وعلمت أنه عنى هذا بذلك القول. ثم دخلت على أبي محمد عليه السلام بعد أيام وأنا أقول في نفسي: ليته أخلف علي دابة، فلما جلست قال قبل أن أحدث (1) بشئ: ” نعم نخلف عليك، يا غلام أعطه برذوني الكميت ” ثم قال: ” هذا خير من فرسك وأوطأ وأطول عمرا ” (2). وبهذا الاسناد قال: حدثني محمد بن الحسن بن شمون قال: حدثني أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام حين أخذ المهتدي في قتل الموالي (3): يا سيدي، الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك ويقول: والله لاجلينهم عن جدد (4) الارض. فوقع أبو محمد عليه السلام بخطه (5): ” ذلك أقصر لعمره، عد من يومك هذا خمسة أيام، ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به ” وكان كما قال عليه السلام (6).


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: اتحدث. (2) الكافي 1: 427 / 15، اعلام الورى: 352، الخرائج والجرائح: 1: 434 / 12، ثاقب المناقب: 572 / 516، وذكره مختصرا المسعودي في اثبات الوصية: 215، وابن شهرآشوب في مناقب آل ابي طالب 4: 430، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 267. (3) في هامش ” ش “: اي موالي نفسه. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: جديد. وفي ” ش ” هامش آخر: جديد الارض أي ظهرها. (5) قتل المهتدي يوم الثلاثاء لاربع عشر بقين من رجب سنة 256، فتوقع الامام كان في 8 رجب سنة 256. (6) الكافي 1: 427 / 16، اعلام الورى: 356، ومختصرا في مناقب آل ابي طالب 4: 436، =

[ 334 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر (1) قال: دخل العباسيون على (صالح بن وصيف) (2) عندما حبس أبو محمد عليه السلام فقالوا له: ضيق عليه ولا توسع، فقال لهم صالح: ما أصنع به ؟ ! قد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم. ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر الينا ارتعدت (3) فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا. فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين (4)، (5). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن جماعة من أصحابنا قالوا: سلم أبو محمد عليه السلام إلى نحرير (6) وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق الله، فإنك لا تدري من في منزلك، وذكرت له صلاحه وعبادته، وقالت: إني أخاف عليك منه، فقال: والله لارمينه بين السباع. ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها، ولم


= ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 308 / 5. (1) كذا في النسخ والبحار، وفي الكافي زيادة: عن علي بن عبد الغفار هنا. (2) صالح بن وصيف رئيس الامراء في خلافة المهتدي قتل سنة 256. ” دول الاسلام: 141 “. (3) في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “: أرعدت. (4) في هامش ” ش “: خائبين. (5) الكافي 1: 429 / 23، باختلاف يسير، اعلام الورى: 360، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 308 / 6. (6) هو نحرير الخادم من خواص خدم بنى العباس.

[ 335 ]

يشكوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه عليه السلام قائما يصلي وهي حوله، فأمر بإخراجه إلى داره (1). والروايات في هذا المعنى كثيرة، وفيما أثبتناه منها كفاية فيما نحوناه إن شاء الله تعالى.


(1) الكافي 1: 430 / 26، باختلاف يسير، اعلام الورى: 360، ثاقب المناقب: 580 / 530، ومختصرا في المناقب لابن شهرآشوب 4: 430، وفيه: انه سلم إلى يحيى بن قتيبة، عوض ” نحرير “. ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 309 / 7.

[ 336 ]

باب ذكر وفاة أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام وموضع قبره وذكر ولده ومرض أبو محمد عليه السلام في أول شهر ربيع الاول سنة ستين ومائتين، ومات في يوم الجمعة لثمان ليال خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة، وله يوم وفاته ثمان وعشرون سنة، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه من دارهما بسر من رأى. وخلف ابنه المنتظر لدولة الحق. وكان قد أخفى مولده وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الامامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده عليه السلام في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته. وتولى جعفر بن علي أخو أبي محمد عليه السلام أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد عليه السلام واعتقال حلائله، وشنع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم، وجرى على مخلفي أبي محمد عليه السلام بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل، ولم يظفر السلطان منهم بطائل. وحاز جعفر ظاهر تركة أبي محمد عليه السلام واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقده فيه، فصار إلى


[ 337 ]

سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، وبذل مالا جليلا، وتقرب بكل ما ظن أنه يتقرب به فلم ينتفع بشئ من ذلك. ولجعفر أخبار كثيرة في هذا المعنى، رأيت الاغراض (1) عن ذكرها لاسباب لا يحتمل الكتاب شرحها، وهي مشهورة عند الامامية ومن عرف أخبار الناس من العامة، وبالله استعين.


(1) في ” م ” وهامش ” ش،: الاضراب.

[ 339 ]

باب ذكر الامام القائم بعد أبي محمد عليه السلام وتاريخ مولده، ودلائل إمامته، وذكر طرف من أخباره وغيبته، وسيرته عند قيامه ومدة دولته وكان الامام بعد أبي محمد عليه السلام ابنه المسمى باسم رسول الله صلى الله عليه وآله، المكنى بكنيته، ولم يخلف أبوه ولدا غيره ظاهرا ولا باطنا، وخلفه غائبا مستترا (1) على ما قدمنا ذكره. وكان مولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين. وأمه أم ولد يقال لها: نرجس. وكان سنه عند وفاة أبي محمد (2) خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة وفضل الخطاب، وجعله آية للعالمين، وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبيا، وجعله إماما في حال الطفولية الظاهرة كما جعل عيسى بن مريم عليه السلام في المهد نبيا. وقد سبق النص عليه في ملة الاسلام من نبي الهدى عليه السلام ثم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام، ونص عليه الائمة عليهم السلام واحدا بعد واحد إلى أبيه الحسن عليه


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: مستورا. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: أبيه.

[ 340 ]

السلام، ونص أبوه عليه عند ثقاته وخاصة شيعته. وكان الخبز بغيبته ثابتا قبل وجوده، وبدولته مستفيضا قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمة الهدى عليهم السلام، والقائم بالحق، المنتظر لدولة الايمان، وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما اطول من الاخرى، كما جاءت بذلك الاخبار، فأما القصرى منهما فمنذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة. وأما الطولى فهي بعد الاولى وفي آخرها يقوم بالسيف. قال الله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ” (1). وقال جل ذكره: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون ” (2). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” لن تنقضي الايام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملؤها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ” (3). وقال عليه السلام: ” لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا من ولدي، يواطئ اسمه اسمي، يملؤها


(1) القصص 28: 5 – 6. (2) الانبياء 21: 105. (3) وردت قطعة منه في مسند أحمد 1: 376، وتاريخ بغداد 4: 388، ونقله ابن الصباغ في الفصول المهمة: 291.

[ 341 ]

عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ” (1).


(1) سنن ابي داود 4: 106 / 4282، سنن الترمذي 4: 505 / 2231، غيبة الشيخ الطوسي: 180 / 140.

[ 342 ]

باب ذكر طرف من الدلائل على إمامة القائم بالحق ” محمد بن الحسن ” (1) عليهما السلام فمن الدلائل على ذلك ما يقتضيه العقل بالاستدلال الصحيح، من وجود إمام معصوم كامل غني عن رعاياه في الاحكام والعلوم في كل زمان، لاستحالة خلو المكلفين من سلطان يكونون بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد، وحاجة الكل من ذوي النقصان إلى مؤذب للجناة، مقوم للعصاة، رادع للغواة، معلم للجهال، منبه للغافلين، محذر من الضلال، مقيم للحدود، منفذ للاحكام، فاصل بين أهل الاختلاف، ناصب للامراء، ساد للثغور، حافظ للاموال، حام عن بيضة الاسلام، جامع للناس في الجمعات والاعياد. وقيام الادلة على أنه معصوم من الزلات لغناه عن الامام بالاتفاق، واقتضاء ذلك. له العصمة بلا ارتياب، ووجوب النص على من هذه سبيله من الانام، أو ظهور المعجز عليه، لتميزه ممن سواه، وعدم هذه الصفات من كل أحد سوى من أثبت إمامته أصحاب الحسن بن علي عليهما السلام وهو ابنه المهدي، على ما بيناه. وهذا أصل لن يحتاج معه في الامامة إلى رواية النصوص وتعداد


(1) في ” م ” وهامش ” ش “: ابن الحسن.

[ 343 ]

ما جاء فيها من الاخبار، لقيامه بنفسه في قضية العقول وصحته بثابت الاستدلال. ثم قد جاءت روايات في النص على ابن الحسن عليه السلام من طرق ينقطع بها الاعذار، وأنا بمشية الله مورد طرفا منها على السبيل التي سلفت من الاختصار.


[ 345 ]

باب ما جاء من النص على إمامة صاحب الزمان الثاني عشر من الائمة صلوات الله عليهم في مجمل ومفصل على البيان أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن الفضيل (1)، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” إن الله عز اسمه أرسل محمدا صلى الله عليه وآله إلى الجن والانس، وجعل من بعده اثني عشر وصيا، منهم من سبق ومنهم من بقي، وكل وصي جرت به سنة، فالاوصياء الذين من بعد محمد عليه وعليهم السلام على سنة أوصياء عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر، وكان أمير المؤمنين عليه السلام على سنة المسيح عليه السلام ” (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن أبي عبد لله ومحمد ابن الحسين، عن سهل بن زياد جميعا عن الحسن بن عباس، عن أبي


(1) كذا في ” ح “، وفي ” ش ” و ” م “: الفضل، وهو تصحيف كما يعلم من تتبع الاسناد ومصادر الحديث، وفي عيون الاخبار والخصال وصف الراوي بالصيرفي وهو محمد بن الفضيل بن كثير الازدي الكوفي من أصحاب الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام. انظر معجم رجال الحديث 17: 145. (2) الكافي 1: 447 / 10، إكمال الدين: 326 / 4، الخصال: 478 / 43، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 55 / 21، الغيبة للطوسي: 141 / 151، اعلام الورى: 366. (*)

[ 346 ]

جعفر الثاني، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه: آمنوا بليلة القدر، فإنه ينزل فيها أمر السنة، وإن لذلك ولاة من بعدي علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولده ” (1). وبهذا الاسناد قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لابن عباس: ” إن ليلة القدر في كل سنة، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الامر ولاة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ” فقال له ابن عباس: من هم ؟ قال: ” أنا وأحد عشر من صلبي (2) أئمة محدثون ” (3). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد ابن يحيى، عن (محمد بن الحسين) (4)، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، عن جابر بن عبد الله الانصاري ” قال: دخلت عل فاطمة بنت رسول الله عليهما السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء والائمة من ولدها، فعددت اثني عشر اسما آخرهم القائم من ولد فاطمة، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم علي ” (5).


(1) الكافي 1: 448 / 12، والخصال: 480 / 48، واعلام الورى: 370، باختلاف يسير، مناقب آل ابي طالب 1: 298، مثله. (2) في ” م “: ولدي. (3) الكافي 1: 447 / 11، الخصال: 479 / 47، الغيبة للنعماني: 60 / 3، الغيبة للطوسي: 141 / 106، اعلام الورى: 369. (4) كذا في ” م ” وقد صحح الحسين بالحسن في ” ش ” و ” م “. (5) الكافي 1: 447 / 9، إكمال الدين: 269 / 13 و 311 / 3 و 313 / 4، الخصال: 477 / 42، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 47 / 6 و 7، والغيبة للطوسي: 139 / 103، اعلام الورى: 366.

[ 347 ]

أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن أبي علي الاشعري، عن (الحسن بن عبيدالله) (1)، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن علي ابن سماعة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن عمر بن أذينة، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ” الاثنا عشر الائمة من آل محمد كلهم محدث، علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولده، ورسول الله وعلي هما الوالدان، صلى الله عليهما ” (2). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعيد بن غزوان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” يكون بعد الحسين عليه السلام تسعة أئمة، تاسعهم قائمهم ” (3). أخبرني أبو القاسم.، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ” الائمة اثنا عشر إماما، منهم الحسن والحسين، ثم الائمة من ولد الحسين عليهم السلام ” (4).


(1) كذا في النسخ، والظاهر ان الصواب الحسين بن عبيدالله كما في الخصال والعيون، وانه الحسين ابن عبيدالله بن سهل السعدي، يروي عنه أحمد بن ادريس – أبو علي الاشعري – في حال استقامته. ” رجال النجاشي: 61 / 141 “. (2) الكافي 1: 448 / 14، وفي عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 56 / 24، والخصال: 480 / 49، والغيبة للطوسي.: 151 / 112، ومناقب آل ابي طالب 1: 298، واعلام الورى: 369، باختلاف يسير. (3) الكافي 1: 448 / 15، الخصال: 480 / 50، إكمال الدين: 350 / 45، دلائل الامامة: 24، الغيبة للنعماني: 94 / 25، اثبات الوصية: 2 27، الغيبة للطوسي: 140 / 104. (4) الكافي 1: 448 / 16، الخصال: 478 / 44 و 480 / 51، عيون اخبار الرضا عليه السلام 1: 56 / 22.

[ 348 ]

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن محمد بن علي بن بلال قال: خرج إلي أمر أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم خرج إلي من قبل مضيه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لابي محمد الحسن بن علي عليه السلام: جلالتك تمنعني عن مسألتك، فتأذن لي أن أسألك ؟ فقال: ” سل ” قلت: يا سيدي، هل لك ولد ؟ قال: ” نعم ” قلت: إن حدث حدث فأين أسأل عنه ؟ قال: ” بالمدينة ” (2). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن جعفر بن محمد المكفوف، عن عمرو الاهوازي قال: أراني أبو محمد ابنه عليهما السلام وقال: ” هذا صاحبكم بعدي ” (3). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن حمدان القلانسي، عن العمري (4) قال: مضى أبو محمد عليه السلام (1) الكافي 1: 264 / 1، اعلام الورى: 4 13، الفصول المهمة: 292 (2) الكافي 1: 264 / 2، الغيبة للطوسي: 232 / 199، اعلام الورى: 413، الفصول المهمة: (3) الكافي 1: 264 / 3، الغيبة للطوسي: 234 / 203، اعلام الورى: 414، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / 48. (4) كذا في ” ش ” وهامش ” م ” وهو الصواب، وفي ” م ” ضبطه: العمري، وفي ذيله: صح، وفي =


[ 349 ]

وخلف ولدا له (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال: خرج عن أبي محمد عليه السلام حين قتل الزبيري (2) لعنه الله: ” هذا جزاء من اجترأ على الله تعالى في أوليائه، زعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله فيه ” قال محمد بن عبد الله: وولد له ولد (3). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عمن ذكره، عن محمد بن أحمد العلوي، عن داود بن القاسم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد عليهما السلام يقول: ” الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ ! قلت: ولم ؟ جعلني الله فداك. فقال: ” لانكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه ” فقلت: فكيف نذكره ؟ قد: ” قولوا الحجة من آل محمد عليهم السلام ” (4).


= هامش ” ش “: العمري وفي جوانبه: صح ثلاث مرات ورمز: (ع) و (س) وفي هامشها أيضا: ” وقرأت في نسخة من لا يحضره الفقيه المقروءة على ابن بابويه رضي الله عنه، في باب نوادر الحج [ 2: 307 / 1525، 1526 ] العمري في عدة مواضع مضبوطا مصححا وكانت النسخة مقروءة عليه وعليها خطه “. (1) هذا الحديث نقل بالمعنى، روى اصله الكليني في الكافي 1: 264 / 4. (2) يقول العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول 4: 3 / 5: الزبيري: كان لقب بعض الاشقياء من ولد الزبير كان في زمانه عليه السلام فهدده وقتله الله على يد الخليفة أو غيره، وصحفه بعضهم وقرأ بفتح الزاء وكسر الباء من الزبير بمعنى الداهية كناية عن المهتدي العباسي، حيث قتله الموالي. (3) الكافي 1: 264 / 5، والغيبة للطوسي: 231 / 198، بزيادة في آخرهما. (4) الكافي 1: 264 / 13، إكمال الدين: 381 / 5 و 648 / 4، علل الشرائع: 245 / 5، اثبات =

[ 350 ]

وهذا طرف يسير مما جاء في النصوص على الثاني عشر من الائمة عليهم السلام، والروايات في ذلك كثيرة قد دونها أصحاب الحديث من هذه العصابة واثبتوها في كتبهم المصنفة، فممن اثبتها عل الشرح والتفصيل محمد بن إبراهيم المكنى أبا عبد الله النعماني في كتابه الذي صنفه في الغيبة، فلا حاجة بنا مع ما ذكرناه إلى إثباتها على التفصيل في هذا المكان (1).


= الوصية: 22 4، كفاية الاثر: 288، الغيبة للطوسي: 202 / 169، اعلام الورى: 351، ونقله العلامة المجلسي في البحار 50: 240 / 5. وفي علل الشرائع واثبات الوصية وكفاية الاثر وإكمال الدين صرح بأن: الخلف من بعدي ” ابني ” الحسن. (1 ا) للشيخ المفيد – رحمه الله – في الغيبة مصنفات منها: كتاب الغيبة، ومنها: مختصره (مختصر في الغيبة)، ومنها: ثلاثة مسائل مجموعة موجودة في خزانة الطهراني بسامراء، ومنها: كلام منه في كتابه ” العيون والمحاسن ” انتزعه منه السيد المرتضى – رحمه الله – وأدرجه في ” الفصول المختارة من العيون والمحاسن ” وقد أخرجه الطهراني من الفصول وأدرجه في مجموعة مسائل المفيد في الغيبة ” انظر: الذريعة 16: 80 “.

[ 351 ]

باب ذكر من رأى الامام الثاني عشر عليه السلام وطرف من دلائله وبيناته أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر – وكان أسن شيخ من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله بالعراق – قال: رأيت ابن الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام بين المسجدين وهو غلام (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن الحسين بن رزق الله قال: حدثني موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر قال: حدثتني حكيمة بنت محمد بن علي – وهي عمة الحسن عليه السلام – أنها رأت القائم عليه السلام ليلة مولده وبعد ذلك (2). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن حمدان القلانسي قال: قلت لابي عمرو العمري (3): قد مضى أبو محمد، فقال لي: قد مضى، ولكن قد خلف فيكم من رقبته مثل


(1) الكافي 1: 266 / 2، الغيبة للطوسي: 268 / 230، اعلام الورى: 396. (2) الكافي 1: 266 / 3، وانظره مفصلا في إكمال اللين: 424 / 1، وغيبة الشيخ: 237 / 205. (3) في هامش ” ش “: هو عثمان بن سعيد العمري وهو باب الامام.

[ 352 ]

هذه – وأشار بيده (1) – (2). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن فتح – مولى الزراري – قال: سمعت أبا علي بن مطهر يذكر أنه رآه، ووصف له قده (3). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن محمد بن شاذان بن نعيم، عن خادمة لابراهيم بن عبدة النيسابوري – وكانت من الصالحات – أنها قالت: كنت واقفة مع إبراهيم على الصفا، فجاء صاحب الامر عليه السلام حتى وقف معه وقبض على كتاب مناسكه، وحدثه بأشياء (4). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد عن محمد بن علي بن إبراهيم، عن أبي عبد الله بن صالح: آنه رآه بحذاء الحجر


(1) قال العلامة المجلسي – رحمه الله – في مرآة العقول 4: 2: ” وأشار بيده: أي فرج من كل من يديه اصبعيه الابهام والسبابة وفرج بين اليدين كما هو الشائع عند العرب والعجم في الاشارة إلى غلظ الرقبة، أي شاب قوي رقبته هكذا، ويؤيده أن في رواية الشيخ: وأومى بيده، وفي رواية اخرى رواه، قال: قد رأيته عليه السلام وعنقه هكذا، يريد أنه أغلظ الرقاب حسنا وتماما “. ويؤيده أيضا ما في رواية الشيخ في الغيبة: 251 / 220: ان أحمد بن اسحاق سأل أبا محمد عليه السلام عن صاحب هذا الامر فأشار بيده أي انه حي غليظ الرقبة، وما رواه الصدوق في إكمال الدين 2: 441 عن عبد الله بن جعفر الحميري انه سأل العمري: هل رأيت صاحبي ؟ قالى: نعم، وله عنق مثل ذي، وأوما بيديه جميعا إلى عنقه. (2) الكافي 1: 264 / 4 و 266 / 4، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / 45. (3) الكافي 1: 266 / 5، الغيبة للطوسي: 269 / 233، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / ذيل الحديث 45. (4) الكافي 1: 266 / 6، الغيبة للطوسي: 268 / 231، اعلام الورى: 397. (*)

[ 353 ]

والناس يتجاذبون عليه، وهو يقول: ” ما بهذا أمروا ” (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن أحمد بن إبراهيم بن إدريس، عن أبيه أنه قال: رأيته عليه السلام بعد مضي أبي محمد حين أيفع (2)، وقبلت يده ورأسه (3). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن أبي عبد الله بن صالح وأحمد بن النضر، عن القنبري (4) قال: جرى حديث جعفر بن علي فذمه، فقلت: فليس غيره ؟ قال: بلى، قلت: فهل رأيته ؟ قال: لم أره، ولكن غيري رآه، قلت: من غيرك ؟ قال: قد رآه جعفر مرتين (5). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن جعفر المكفوف، عن عمرو الاهوازي قال:


(1) الكافي 1: 267 / 7، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / 46. (2) اليافع: الشاب. ” لسان العرب – يفع – 8: 415 “. (3) الكافي 1: 297 / 8، الغيبة للطوسي: 268 / 230، اعلام الورى: 397. (4) اثبتناها من نسخة في هامش ” ش ” و ” م “، وتحتها في ” م “: صح وفي متنها: العنبري، وفوقها في ” ش “: م‍، وتحتها: صح، ونسخة ” ح “، غير واضحة، والظاهر صحة ما اثبتناه، وهو الموافق للمصادر، وقد وصفته بأنه رجل من ولد قنبر الكبير مولى أبي الحسن الرضا عليه السلام. وقد ذكر في الكافي والغيبة للشيخ في ذيل هذه الرواية: وله حديث، والظاهر أنه اشار إلى ما رواه في إكمال الدين: 442 / 15 باسناده عن أبي عبد الله البلخي عن محمد بن صالح بن علي ابن محمد بن قنبر الكبير مولى الرضا عليه السلام قال: خرج صاحب الزمان عليه السلام على جعفر الكذاب… الخبر، ومنه يظهر المراد من القنبري هنا. (5) الكافي 1: 267 / 9، الغيبة للطوسي: 248 / 217، اعلام الورى: 397، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / 47.

[ 354 ]

أرانيه أبو محمد وقال: ” هذا صاحبكم ” (1). أخبرني أبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن الحسن بن علي النيسابوري، عن إبراهيم بن محمد، عن أبي نصر طريف الخادم أنه رآه عليه السلام (2). وأمثال هذه الاخبار في معنى ما ذكرناه كثيرة، والذي اختصرناه منها كاف فيما قصدناه، إذ العمدة في وجوده وإمامته عليه السلام ما قدمناه، والذي يأتي من بعد زيادة في التأكيد لو لم نورده لكان غير مخل بما شرحناه، والمنة لله عزوجل.


(1) الكافي 1: 264 / 2 و 267 / 12، الغيبة للطوسي: 234 / 203، اعلام الورى: 414، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / 48. (2) الكافي 1: 267 / 13، اعلام الورى: 396، وفيهما: ابو نصر ظريف، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 60 / 49.

[ 355 ]

باب طرف من دلائل صاحب الزمان عليه السلام وبيناته وآياته أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن محمد بن حمويه، عن محمد بن إبراهيم بن مهزيار (1) قال: شككت عند مضي أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام واجتمع عند أبي مال جليل فحمله، وركبت السفينة معه مشيعا له، فوعك وعكا شديدا فقال: يا بني، ردني فهو الموت، وقال لي: اتق الله في هذا المال، وأوصى إلي ومات بعد ثلاثة أيام. فقلت في نفسي: لم يكن أبى ليوصي بشئ غي صحيح، أحمل هذا المال إلى العراق، وأكتري دارا على الشط، ولا أخبر أحدا بشئ، فإن وضح لي كوضوحه في أيام أبي محمد أنفذته، وإلا أنفقته في ملاذي وشهواتي. فقدمت العراق واكتريت دارا على الشط ولقيت أياما، فإذا أنا برقعة مع رسول، فيها: ” يا محمد، معك كذا وكذا ” حتى قص علي جميع


(1) في ” ش ” و ” م “: مهران بدل مهزيار وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه من ” ح ” وهو الموافق للمصادر، وقد عده الشيخ من اصحاب أبي محمد العسكري: 436 / 15، وذكره الصدوق في إكمال الدين: 442 ممن وقف على معجزات صاحب الزمان عليه السلام وكان من الوكلاء وقد ذكر في ص 486 رواية ورود محمد بن ابراهيم بن مهزيار إلى العراق شاكا مرتادا بالفاظ اخرى.

[ 356 ]

ما معي، وذكر في جملته شيئا لم أحط به علما، فسلمته إلى الرسول، وبقيت أياما لا يرفع بي رأس، فاغتممت فخرج إلي: ” قد أقمناك مقام أبيك، فاحمد الله ” (1). وروى (محمد بن أبي عبد الله السياري) (2) قال: أوصلت أشياء للمرزباني الحارثي فيها سوار ذهب، فقبلت ورد علي السوار، وأمرت بكسره فكسرته، فإذا في وسطه مثاقيل حديد ونحاس وصفر، فأخرجته وأنفذت الذهب بعد ذلك فقبل (3). علي بن محمد قال: أوصل رجل من أهل السواد مالا، فرد عليه وقيل له: ” أخرج حق ولد عمك منه، وهو أربعمائة درهم ” وكان الرجل في يده ضيعة لولد عمه، فيها شركة قد حبسها عنهم، فنظر فإذا الذي لولد عمه من ذلك المال أربعمائة درهم، فأخرجها وأنفذ الباقي فقبل (4). القاسم بن العلاء قال: ولد لي عدة بنين، فكنت أكتب وأسأل الدعاء لهم فلا يكتب إلي بشئ من أمرهم، فماتوا كلهم، فلما ولد لي


(1) الكافي 1: 434 / 5، الغيبة للطوسي: 281 / 239، اعلام الورى: 417، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 311 / 32. (2) كتب في ” ش ” في ذيل ” أبي ” و ” السياري ” كلمة: ” كذا “، وكأنها أشارة إلى اختلاف الارشاد مع المصادر، حيث ان في الكافي: محمد بن أبى عبد الله عن أبى عبد الله النسائي، وفي بعض نسخه واعلام الورى: الشيباني بدل النسائي. (3) الكافي 1: 435 / 6، اعلام الورى: 418، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 297 / 12. (4) الكافي 1: 435 / 8، اعلام الورى: 418، ورواه باختلاف يسير الطبري في دلائل الامامة: 286، والصدوق في إكمال الدين: 486 / 6، وعماد الدين الطوسي في ثاقب المناقب: 597 / 540، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 326 / 45.

[ 357 ]

الحسين (1) – ابني – كتبت أسأل الدعاء له فاجبت فبقي والحمد لله (2). علي بن محمد، عن أبي عبد الله بن صالح قال: خرجت سنة من السنين إلى بغداد، واستأذنت في الخروج فلم يؤذن لي، فأقمت اثنين وعشرين يوما بعد خروج القافلة إلى النهروان، ثم اذن لي بالخروج يوم الاربعاء، وقيل لي: ” اخرج فيه ” فخرجت وأا آيس من القافلة أن ألحقها، فوافيت النهروان والقافلة مقيمة، فما كان إلا أن علفت جملي حتى رحلت القافلة فرحلت، وقد دعي لي بالسلامة فلم ألق سوء والحمد لله (3). علي بن محمد، عن نصر بن صباح البلخي (4)، عن محمد بن يوسف الشاشي قال: خرج بي ناسور (5) فأريته الاطباء، وأنفقت عليه مالا عظيما فلم يصنع الدواء فيه شيئا، فكتبت رقعة أسأل الدعاء، فوقع إلي: ” ألبسك الله العافية، وجعلك معنا في الدنيا والآخرة ” فما أتت علي جمعة حتى عوفيت وصار الموضع مثل راحتي، فدعوت طبيبا من أصحابنا وأريته إياه


(1) في الكافي: الحسن، والظاهر انه هو الصحيح كما يظهر من كتب الرجال ومن رواية رواها الشيخ في الغيبة: 310 / 263. (2) الكافي 1: 435 / 9، اعلام الورى: 418. (3) الكافي 1: 435 / 10، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 297 / 13. (4) كذا في ” ح ” وهامش ” ش ” والبحار، وفي ” ش ” و ” م “: علي بن محمد بن نصر بن صباح، وفي مطبوعة الكافي: علي عن النضر بن صباح البجلي، وفي بعض نسخه: علي بن نصر بن صباح، وعن بعض نسخه: نضر بن الصباح، والظاهر أن صحة سند الكافي هو: علي عن نصر بن صباح – أو الصباح – البلخي، والمراد من علي في السند هو علي بن محمد المتقدم في السند السابق، ولذلك ذكر المصنف اسمه الكامل، ونصر بن صباح كان من أهل بلخ يروي عنه الكشي في غير واحد من مواضع رجاله، وقد ترجمه النجاشي في رجاله: 428 / 1149، والشيخ في رجاله: 515. (5) الناسور: العرق الذى لا تنقطع علته ” القاموس المحيط – نسر – 2: 141 “.

[ 358 ]

فقال: ما عرفنا لهذا دواء، وما جاءتك العافية إلا من قبل الله بغير احتساب (1) علي بن محمد، عن علي بن الحسين اليماني قال: كنت ببغداد فتهيأت قافلة لليمانيين، فأردت الخروج معهم فكتبت ألتمس الاذن في ذلك، فخرج: ” لا تخرج معهم، فليس لك في الخروج معهم خيرة، وأقم بالكوفة ” قال: فأقمت، وخرجت القافلة فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم. قال: وكتبت أستاذن في ركوب الماء فلم يؤذن لي، فسألت عن المراكب التي خرجت تلك السنة في البحر، فعرفت أنه لم يسلم. منها مركب، خرج عليها قوم يقال لهم: البوارج فقطعوا عليها (2). علي بن الحسين قال: وردت العسكر فأتيت الدرب مع المغيب (3)، ولم أكلم أحدا ولم أتعرف إلى أحد، فأنا أصلي في المسجد بعد فراغي من الزيارة (4)، فإذا بخادم قد جاءني فقال لي: قم، فقلت له: إلى أين ؟ فقال: إلى المنزل، قلت: ومن أنا ! لعلك أرسلت إلى غيري، فقال: لا، ما أرسلت إلا إليك (أنت علي بن الحسين، وكان معه غلام فساره) (5)، فلم


(1) الكافي 1: 436 / 11، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 297 / 14، كما ذكر. الراوندي بحذف آخره في الخرائج والجرائح 2: 695 / 9. (2) الكافي 1: 436 / صدر حديث 12، اعلام الورى: 418، وباختلاف يسير في إكمال الدين: 491 / صدر حديث 14، ورواه في الهداية الكبرى: 372، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 330 / 53. (3) في هامش ” ش “: أي عند غيبوبة الشمس. (4) قال الفيض الكاشاني في الوافي 3: 872: لعله أراد بالزيارة زيارة الصاحب (عجل الله فرجه) من خارج داره كما يدل عليه قوله: ” من داخل ” في آخر الحديث. (5) في الكافي بدله: أنت علي بن الحسين رسول جعفر بن ابراهيم، فمر بي حتى انزلني في بيت =

[ 359 ]

أدر ما قال حتى أتاني بجميع ما أحتاج إليه، وجلست عنده ثلاثة أيام، واستأذنته في الزيارة من داخل الدار، فأذن لي فزرت ليلا (1). (الحسين بن الفضل الهماني) (2) قال: كتب أبي بخطه كتابا فورد جوابه، ثم كتب بخطي فورد جوابه، ثم كتب بخط رجل جليل من فقهاء أصحابنا فلم يرد جوابه، فنظرنا فإذا ذلك الرجل قد تحول قرمطيا (3).


الحسين بن أحمد ثم ساره. (1) الكافي 1: 436 / ذيل الحديث 12، وباختلاف يسير في إكمال الدين: 491 / ذيل الحديث 14، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 330 / ذيل الحديث 53. (2) في ” ش “: الحسين بن المفضل الهماي وقد كتب في ذيل المفضل والهماني كلمة: هكذا، وفي هامشها: الفضل بدل المفضل، وأيضا في هامشها: الهماي، ع وفوقه: صح، وفي متن ” م “: الحسين بن المفضل الهماي، وفي هامشها: الهماي وذيله: صح. وفي هامش كلا النسختين: كان من فقهاء اصحابنا. وفي نسخة ” ح “: الحسين بن الفضل ولقبه مردد بين الهماني والعماني. وروى الخبر في الكافي عن الحسن بن الفضل بن زيد (يزيد خ. ل) اليماني (الهمداني، الهماني خ. ل) وقد عد في إكمال الدين: 443 ممن وقف على معجزات صاحب الزمان عليه السلام ورآه من غير الوكلاء جماعة كان من ضمنهم، بقوله: ومن اليمن الفضل بن يزيد والحسن ابنه. وفي ص 490 من نفس الكتاب ذكر هذا الخبر عن الحسن بن الفضل اليماني. فالظاهر ان الصواب: الحسن بن الفضل اليماني. (3) في هامش ” ش ” و ” م “: القرامطة هؤلاء المبطلون وهم منسوبون إلى انسان كان ملقبا بكوميته، والقرمطي هو ابو سعيد الجنابي، وجنابة: بليدة على سيف أو قريبة من البحرين وكان ابو سعيد يستعرض الحاج فأهلك عالما منهم، وابنه ابو طاهر هو الذي تعرض للحاج فقتلهم عن آخرهم واخذ الخفالذي كان معهم وقلع الحجر الاسود فحمله إلى الاحساء وبنى بيتا وركب الحجر في ركنه وجعل يحج الناس إليه فبقي الحجر بالاحساء عشر سنين ثم نقل إلى الكوفة فبقي في مسجدها سنتين، ثم رد إلى الكعبة، وروي ان ابا طاهر الجنابي لما قتل الحاج رؤي وهو يقول: أنا لله ولله أنا * يخلق الخلق وأفنيهم أنا * الخف: المال الخفيف من الذهب والفضة والابريسم والجواهر وغير ذلك.

[ 360 ]

وذكر (الحسين بن الفضل) (1) قال: وردت العراق وعملت على ألا أخرج إلا عن بينة من أمري ونجاح من حوائجي، ولو احتجت أن أقيم بها حتى أتصدق (2،، قال: وفي خلال ذلك يضيق صدري بالمقام، وأخاف أن يفوتني الحج. قال: فجئت يوما إلى محمد بن أحمد – وكان السفير يومئذ – أتقاضاه فقال لي: صر إلى مسجد كذا وكذا، فإنه يلقاك رجل، قال: فصرت إليه، فدخل علي رجل، فلما نظر إلي ضحك وقال لي: لا تغتم، فإنك ستحج في هذه السنة وتنصرف إلى أهلك وولدك سالما قال: فأطمأننت وسكن قلبي وقلت: هذا مصداق ذلك. قال: ثم وردت العسكر (3) فخرجت إلي صرة فيها دنانير وثوب، فاغتممت وقلت في نفسي: جدي (4) عند القوم هذا ! واستعملت الجهل فرددتها، ثم ندمت بعد ذلك ندامة شديدة وقلت في نفسي: كفت بردي على مولاي، وكتبت رقعة أعتذر من فعلي وأبوء بالاثم وأستغفر من زللي وأنفذتها، وقمت أتطهر للصلاة وأنا إذ ذاك أفكر في نفسي وأقول: إن ردت علي الدنانير لم أحلل شدها، ولم أحدث فيها شيئا حتى أحملها إلى أبي فإنه أعلم مني. فخرج إلي الرسول الذي حمل الصرة وقال: قيل لي: ” أسأت إذ لم تعلم الرجل، إنا ربما فعلنا ذلك بموالينا ابتداء، وربما سألونا ذلك يتبركون به ” وخرج إلي: ” أخطأت في ردك برنا،


(1) كذا في ” م ” و ” ح ” وهامش ” ش “، وفي متن ” ش “: الحسين بن المفضل، وقد مر ما يتعلق به آنفا. (2) تصدق: من الاضداد، يقال: قد تصدق الرجل إذا أعطى، وقد تصدق إذا سأل، والمراد هنا الثاني. انظر ” الاضداد للانباري: 179 “. (3) العسكر: مدينة سامراء في العراق. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: جدي: أي حظي ونصيبي كأنه استصغره.

[ 361 ]

فإذا استغفرت الله فالله يغفر لك، وإذا كانت عزيمتك وعقد نيتك فيما حملناه إليك ألا تحدث فيه حدثا إذا رددناه اليك ولا تنتفع به في طريقك فقد صرفناه عنك، فأما الثوب فخذه لتحرم فيه “. قال: وكتبت في معنيين وأردت أن أكتب في الثالث فامتنعت منه، مخافة أن يكره ذلك، فورد جواب المعنيين والثالث الذي طويت مفسرا، والحمد لله. قال: وكنت واقفت جعفر بن إبراهيم النيسابوري – بنيسابور – على أن أركب معه إلى الحج وأزامله، فلما وافيت بغداد بدا لي (1) وذهبت أطلب عديلا، فلقيني ابن الوجناء (2) وكنت قد صرت إليه وسألته أن يكتري لي فوجدته كارها، فلما لقيني قال لي: أنا في طلبك، وقد قيل لي: ” إنه يصحبك فأحسن عشرته واطلب له عديلا واكتر له ” (3). علي بن محمد، عن الحسن بن عبد الحميد قال: شككت في أمر حاجز (4)، فجمعت شيئا ثم صرت إلى العسكر، فخرج إلي: ” ليس فينا


(1) في الكافي: بدا لي فاستقلته. (2) قال العلامة المجلسي – رحمه الله – في مرآة العقول 6: 188: يظهر من كتب الغيبة ان ابن الوجناء هو أبو محمد ابن الوجناء، وكان من نصيبين وممن وقف على معجزات القائم عجل الله فرجه. (3) الكافي 1: 436 / 13، وذكره الطبرسي بحذف قطعة من آخره في اعلام الورى: 419، والصدوق باختلاف يسير في اكمال الدين: 490 / 13. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: حاجر، هكذا مهملا، وعلى آخره في هامش ” ش ” صح، وما أثبتناه من ” ش ” و ” ح “، وفي المصادر وكتب الرجال: حاجز بالمعجمة أيضا، وقد ورد اسمه في إكمال الدين: 442 / 16 في من وقف على معجزات صاحب الزمان ورآه من الوكلاء ببغداد، ويستفاد ذلك من نفس المصدر ص 488 / 9 و 10 وقد عبر عنه بالحاجزي أيضا، وهو: حاجز ابن يزيد الوشاء كما يظهر من آخر الحديث.

[ 362 ]

شك ولا فيمن يقوم مقامنا بأمرنا، فرد ما معك إلى حاجز بن يزيد ” (1). علي بن محمد، عن محمد بن صالح قال: لما مات أبي وصار الامر إلي (2)، كان لابي على الناس سفاتج (3) من مال الغريم، يعني صاحب الامر عليه السلام. – قال الشيخ المفيد: وهذا رمز كانت الشيعة تعرفه قديما بينها، ويكون خطابها عليه للتقية -. قال: فكتبت إليه أعلمه، فكتب إلي: ” طالبهم واستقص عليهم ” فقضاني الناس إلا رجلا واحدا وكانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار، فجئت إليه أطلبه فمطلني واستخف بي ابنه وسفه علي، فشكوته إلى أبيه فقال: وكان ماذا ؟ ! فقبضت على لحيته وأخذت برجله وسحبته إلى وسط الدار، فخرج ابنه مستغينا بأهل بغداد وهو يقول: قمي رافضي قد قتل والدي. فاجتمع علي منهم خلق كثير، فركبت دابتي وقلت: أحسنتم – يا أهل بغداد – تميلون مع الظالم على الغريب المظلوم، أنا رجل من أهل همذان من أهل السنة، وهذا ينسبني إلى قم ويرميني بالرفض ليذهب بحقي ومالي، قال: فمالوا عليه وأرادوا أن يدخلوا إلى حانوته حتى سكنتهم، وطلب إلي صاحب السفتجة أن آخذ مالها وحلف


(1) الكافي 1: 437 / 14، اعلام الورى: 420. (2) يعني أمر الوكالة. (3) السفاتج: جمع سفتجة، وهي ان تعطي مالا لآخر له مال في بلد آخر وتأخذ منه ورقة فتأخذ مالك من ماله في البلد الآخر، فتستفيد أمن الطريق وهي في عصرنا الحوالة المالية، انظر. ” مجمع البحرين – سفتج – 2: 310 “.

[ 363 ]

بالطلاق أن يوفيني مالي في الحال، فاستوفيته منه (1). علي بن محمد، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن الحسن والعلاء بن رزق الله، عن بدر غلام أحمد بن الحسن، عنه (2) قال: وردت الجبل وأنا لا أقول بالامامة، احبهم جملة، إلى أن مات يزيد بن عبد الله فأوصى في علته أن يدفع (الشهري السمند) (3) وسيفه ومنطقته إلى مولاه، فخفت إن لم أدفع الشهري إلى أذكوتكين (4) نالني منه استخفاف، فقومت الدابة والسيف والمنطقة سبعمائة دينار في نفسي، ولم أطلع عليه أحدا، ودفعت الشهري إلى أذكوتكين، وإذا الكتاب قد ورد علي من العراق أن وجه السبع مائة دينار التي لنا قبلك من ثمن الشهري والسيف والمنطقة (5). علي بن محمد قال: حدثني بعض أصحابنا قال: ولد لي ولد فكتبت أستأذن في تطهيره يوم السابع، فورد: ” لا تفعل ” فمات يوم السابع أو الثامن، ثم كتبت بموته، فورد: ” ستخلف غيره وغيره، فسم الاول أحمد، ومن بعد أحمد جعفرا ” فجاء كما قال.


(1) الكافي 1: 437 / 15. (2) ظاهره رجوعه إلى أحمد بن الحسن فهو راوي الخبر ففي السند تحويل، لكن قد خلت المصادر من كلمة (عنه) فراوي الخبر هو بدر غلام أحمد بن الحسن. (3) الشهري السمند: اسم فرس. ” مجمع البحرين – شهر – 3: 357 “. (4) اذكوتكين: قائد عسكري تركي للعباسيين وقد أغار على بلاد الجبل. ومن اراد التوضيح فليراجع المحاسن للبرقي بقلم المحدث الارموي ص (لا – نب). (5) الكافي 1: 438 / 16، الغيبة للطوسي: 282 / 241، وفيه: يزيد بن عبد الملك بدل: يزيد بن عبد الله، ورواه الطبري في دلائل الامامة: 285 باختلاف يسير، والطبرسي في اعلام الورى: 420، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 311 / 34.

[ 364 ]

قال: وتهيأت للحج وودعت الناس وكنت على الخروج، فورد: ” نحن لذلك كارهون، والامر إليك ” فضاق صدري واغتممت وكتبت: أنا مقيم على السمع والطاعة، غير اني مغتم بتخلفي عن الحج، فوقع: ” لا يضيقن صدرك، فإنك ستحج قابلا إن شاء الله ” قال: فلما كان من قابل كتبت أستأذن، فورد الاذن، وكتبت: إني قد عادلت محمد بن العباس، وأنا واثق بديانته وصيانته، فورد: ” الاسدي نعم العديل، فإن قدم فلا تختر عليه ” فقدم الاسدي وعادلته (1). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد، عن الحسن بن عيسى العريضي قال: لما مضى أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام ورد رجل من مصر بمال إلى مكة لصاحب الامر، فاختلف عليه، وقال بعض الناس: إن أبا محمد قد مضى عن غير خلف. وقال آخرون: الخلف من بعده جعفر. وقال آخرون: الخلف من بعده ولده. فبعث رجلا يكنى أبا طالب إلى العسكر يبحث عن الامر وصحته ومعه كتاب، فصار الرجل إلى جعفر وسأله عن برهان، فقال له جعفر: لا يتهيأ لي في هذا الوقت. فصار الرجل إلى الباب وأنفذ الكتاب إلى أصحابنا المرسومين بالسفارة، فخرج إليه: ” آجرك الله في صاحبك فقد مات، وأوصى بالمال الذي كان معه إلى ثقة يعمل فيه بما


(1) الكافي 1: 438 / 17، والغيبة للطوسي: 283 / 242 و 416 / 393، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 308 / 24، وذكر صدره باختلاف يسير الطبري في دلائل الامامة: 288، والصدوق في إكمال الدين: 489. والاسدي هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الاسدي ابو الحسين الرازي احد الابواب. رجال الشيخ: 496 / 28 – في من لم يرو -، رجال النجاشي: 373 / 1020.

[ 365 ]

يجب واجيب عن كتابه ” وكان الامر كما قيل له (1). وبهذا الاسناد عن علي بن محمد قال: حمل رجل من أهل آبة (2) شيئا يوصله ونسي سيفا كان أراد حمله، فلما وصل الشئ كتب إليه بوصوله وقيل في الكتاب: ” ما خبر السيف الذي أنسيته ؟ ” (3). وبهذا الاسناد عن علي بن محمد، عن محمد بن شاذان (4) النيسابوري قال: اجتمع عندي خمسمائة درهم ينقص عشرون درهما، فلم أحب أن أنفذها ناقصة، فوزنت من عندي عشرين درهما وبعثت بها إلى الاسدي ولم أكتب ما لي فيها، فورد الجواب: ” وصلت خمسمائة درهم، لك منها عشرون درهما، (5). الحسن (6) بن محمد الاشعري قال: كان يرد كتاب أبي محمد عليه السلام في الاجراء على الجنيد – قاتل فارس بن حاتم بن ماهويه (7) –


(1) الكافي 1: 439 / 19، إكمال الدين: 498، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: (2) آبة: بليدة تقابل ساوة، وأهلها شيعة ” معجم البلدان 1: 50 “. (3) الكافي 1: 439 / 20، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 299 / 17. (4) في الكافي: محمد بن علي بن شاذان و (علي بن) زائد كما يظهر من سائر المصادر. (5) الكافي 1: 439 / 23، رجال الكشي 2: 814 / 1017، إكمال الدين: 485 / 5 و 509 / 38، والغيبة للشيخ: 416 / 394، دلائل الامامة: 286، اعلام الورى: 420، الخرائج والجرائح 2: 697 / 14 وفيه: بعثت بها إلى احمد بن محمد القمي بدل الاسدي، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 425 / 44. (6) كذا في النسخ والبحار، والظاهر ان الصواب: الحسين كما في سائر المصادر ومن تتبع الاسناد. (7) في الكشي 2: 807 / 1006 سنده عن محمد بن عيسى بن عبيد: ان فارس كان فتانا يفتن الناس ويدعو إلى البدعة وان أبا الحسن عليه السلام أمر بقتله وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جنيد =

[ 366 ]

وأبي الحسن، وأخي، فلما مضى أبو محمد عليه السلام ورد استئناف من الصاحب عليه السلام بالاجراء لابي الحسن وصاحبه، ولم يرد في أمر الجنيد شئ. قال: فأغتممت لذلك، فورد نعي الجنيد بعد ذلك (1). علي بن محمد، عن أبي عقيل عيسى بن نصر قال: كتب علي بن زياد الصيمري (2) يسأل كفنا، فكتب إليه: ” إنك تحتاج إليه في سنة ثمانين، (3). فمات في سنة ثمانين، وبعث إليه بالكفن قبل موته (4). علي بن محمد، عن محمد بن هارون بن عمران الهمداني قال: كان


= ورمى الساطور الذي قتله به من يدبه وأخذه الناس ولم يجدوا هناك أثرا من السلاح. انظره مفصلا في الكشي. (1) الكافي 1: 439 / 24، اعلام الورى: 420، وفيهما: آخر بدل أخي، ونقله العلامة المجلسي في البحار 51: 299 / 18. (2) في إكمال الدين: كتب علي بن محمد الصيمري. فورد: أنه يحتاج إليه سنة ثمانين أو احدى وثمانين. وبعث إليه بالكفن قبل موته بشهر. وفي غيبة الشيخ: علي بن محمد الكليني قال: كتب محمد بن زياد الصيمري يسأل صاحب الزمان عليه السلام كفنا.. فورد: انك تحتاج إليه سنة احدى وثمانين وبعث إليه بالكفن قبل موته بشهر. وروى في ما يقرب منه في دلائل الامامة باسناده إلى الكليني قال: كتبت علي بن محمد السمري، انتهى. والظاهر انه علي بن محمد بن زياد الصيمري، وقد يعبر عنه بعلي بن زياد الصيمري نسبة إلى الجد اختصارا، لاحظ: رجال الشيخ: 418 / 12 و 419 / 25 و 432 / 3، معجم رجال الحديث 12: 142. (3) يقول العلامة المجلسي – رحمه الله – في المرآة 6: 199: أي في سنة ثمانين من عمرك، أو أراد الثمانين بعد المائتين من الهجرة. (4) الكافي 1: 440 / 27، الغيبة للطوسي: 284 / 244، اعلام الورى: 421، ومرسلا في عيون المعجزات: 146، ورواه باختلاف يسير الصدوق في إكمال الدين: 501 / 26، والطبري في دلائل الامامة: 285.

[ 367 ]

للناحية (1) علي خمسمائة دينار فضقت بها ذرعا، ثم قلت في نفسي: لي حوانيت اشتريتها بخمسمائة دينار وثلاثين دينارا قد جعلتها للناحية بخمسمائة دينار، ولم أنطق بذلك، فكتب إلى محمد بن جعفر: ” اقبض الحوانيت من محمد بن هارون بالخمسمائة ديناري التي لنا عليه ” (2). أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن علي ابن محمد قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش (3) والحائر على ساكنيهما السلام، فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي (4) فقال له: إلق بني فرات والبرسيين وقل لهم: لا تزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يفتقد كل من زاره فيقبض عليه (5). والاحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي موجودة في الكتب المصنفة المذكورة فيها أخبار القائم عليه السلام وإن ذهبت إلى إيراد جميعها طال بذلك هذا الكتاب، وفيما اثبته منها مقنع والمنة لله.


(1) الناحية: كناية عن صاحب الامر عليه السلام كما يقال: الجهة الفلانية والجانب الفلاني هامش ” ش ” و ” م “. (2) الكافي 1: 440 / 28، اعلام الورى: 421، الخرائج والجرائح 1: 472 / 16، وروى نحوه الصدرق في كمال الدين: 492 / 17. (3) أي: مشهد الكاظم والجواد عليهما السلام ببغداد. (4) باقطايا بالعراق كلمة نبطية، وهي قرية، وكذلك باكسايا وبادرايا قريتان بالعراق. هامش قال يا قوم الحموي في معجم البلدان: باقطايا ويقال: باقطيا من قرى بغداد على ثلاثة فراسخ من ناحية قطربل. ” معجم البلدان 1: 327 “. (5) الكافي 1: 441 / 31، الغيبة للطوسي: 284 / 244، اعلام الورى: 421، وفيها: يتفقد (بدل) يفتقد.

[ 368 ]

باب ذكر علامات قيام القائم عليه السلام ومدة أيام ظهوره، وشرح سيرته وطريقة أحكامه، وطرف مما يظهر في دولته وأيامه صلوات الله عليه قد جاءت الاخبار (1) بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي عليه السلام وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات: فمنها: خروج السفياني، وقتل الحسني، واختلاف بني العباس في الملك الدنياوي، وكسوف الشمس في النصف من شهر رمضان، وخسوف القمر في آخره على خلاف العادات، وخسف بالبيداء، وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وركود الشمس من عند الزوال إلى وسط أوقات العصر، وطلوعها من المغرب، وقتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين، وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، وهدم سور (2) الكوفة، لاقبال رايات سود من قبل خراسان، وخروج اليماني، وظهور المغربي بمصر وتملكه للشامات، ونزول الترك الجزيرة، ونزول الروم الرملة، وطلوع نجم بالمشرق يضئ كما يضئ القمر ثم ينعطف حتى يكاد يلتقي طرفاه، وحمرة تظهر في السماء وتنتشر (3) في آفاقها، ونار


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: الاثار. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: حائط مسجد. (3) في ” ح ” وهامش ” ش “: ويلتبس.

[ 369 ]

تظهر بالمشرق طولا وتبقى في الجو ثلاثة أيام أو سبعة أيام، وخلع العرب أعنتها وتملكها البلاد وخروجها عن سلطان العجم، وقتل أهل مصر أميرهم، وخراب الشام، واختلاف ثلاثة رايات فيه، ودخول رايات قيس والعرب إلى مصر ورايات كندة إلى خراسان، وورود خيل من قبل المغرب حتى تربط بفناء الحيرة، واقبال رايات سود من المشرق نحوها، وبثق (1) في الفرات حتى يدخل الماء أزقة الكوفة، وخروج ستين كذابا كلهم يدعي النبوة، وخروج اثني عشر من آل أبي طالب كلهم يدعي الامامة لنفسه، وإحراق (2) رجل عظيم القدر من شيعة بني العباس بين جلولاء وخانقين، وعقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة السلام (3)، وارتفاع ريح سوداء بها في أول النهار، وزلزلة حتى ينخسف كثير منها، وخوف يشمل أهل العراق (4)، وموت ذريع فيه، ونقص من الانفس والاموال والثمرات، وجراد يظهر في أوانه وفي غير أوانه حتى يأتي على الزرع والغلات، وقلة ريع لما يزرعه الناس، واختلاف صنفين من العجم، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم، وخروج العبيد عن طاعة ساداتهم وقتلهم مواليهم، (ومسخ لقوم) (5) من أهل البدع حتى يصيروا قردة وخنازير، وغلبة العبيد على بلاد السادات، ونداء من السماء حتى يسمعه أهل الارض كل أهل لغة بلغتهم، ووجه وصدر يظهران من السماء للناس في عين الشمس، وأموات


(1) انبثق الماء: انفجر وجرى ” مجمع البحرين – بثق – 5: 136 “. (2) في ” م ” وهامش ” ش “: وخروج. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: بغداد. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: بغداد والعراق. (5) في هامش ” ش ” و ” م “: ومسخ قوم.

[ 370 ]

ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون. ثم يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة تتصل فتحيى بها الارض من بعد موتها وتعرف بركاتها، وتزول بعد ذلك كل عاهة عن معتقدي الحق من شيعة المهدي عليه السلام، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة فيتوجهون نحوه لنصرته. كما جاءت بذلك الاخبار. ومن جملة هذه الاحداث محتومة ومنها مشترطة (1)، والله أعلم بما يكون، وإنما ذكرناها على حسب ما ثبت في الاصول وتضمنها الاثر المنقول، وبالله نستعين وإياه نسأل التوفيق. أخبرني أبو الحسن علي بن بلال المهلبي قال: حدثني محمد بن جعفر المؤدب، عن أحمد بن إدريس، عن علي بن محمد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن إسماعيل بن الصباح قال: سمعت شيخا من أصحابنا يذكر عن سيف بن عميرة قال: كنت عند أبي جعفر المنصور فقال لي ابتداء: يا سيف بن عميرة، لا بد من مناد ينادي من السماء بآسم رجل من ولد أبي طالب، فقلت: جعلت فداك يا أمير المؤمنين تروي هذا ؟ قال: إي والذي نفسي بيده لسماع أذني له، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن هذا الحديث ما سمعته قبل وقتي هذا ! فقال: يا سيف، إنه لحق، وإذا كان فنحن أول من يجيبه، أما إن النداء إلى رجل من بني عمنا، فقلت: رجل من ولد فاطمة ؟ فقال: نعم يا سيف، لولا أنني سمعت من أبي جعفر محمد بن علي يحدثني به، وحدثني به أهل الارض كلهم ما قبلته


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: محتوم ومنها مشترط.

[ 371 ]

منهم، ولكنه محمد بن علي (1) (2). وروى يحيى بن أبي طالب، عن علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” لا تقوم الساعة حتى يخرج المهدي من ولدي، ولا يخرج المهدي حتى يخرج ستون كذابا كلهم يقول: أنا نبي ” (3). الفضل بن شاذان، عمن رواه، عن أبي حمزة قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: خروج السفياني من المحتوم ؟ قال: ” نعم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من مغربها محتوم، واختلاف بني العباس في الدولة محتوم، وقتل النفس الزكية محتوم، وخروج القائم من آل محمد محتوم، قلت له: وكيف يكون النداء ؟ قال: ” ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن الحق مع علي وشيعته، ثم ينادي إبليس في آخر النهار من الارض: ألا إن الحق مع عثمان (4) وشيعته، فعند ذلك يرتاب


(1) في هامش ” ش ” و ” م “: محمد بن علي هو: محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. انتهى. والمراد من هامش النسختين تفسيره بوالد المنصور، وهو تأويل ضعيف، إذ لا دلالة فيه، لاستبعاد تعبير المنصور عن ابيه بهذا الشكل، مضافا إلى ان المذكور يكنى بابي عبد الله لا ابي جعفر نظر: ” وفيات الاعيان 4: 186، شذرات الذهب 1: 166 “. والظاهر ان المراد به هو الامام ابو جعفر الباقر عليه السلام، لعدم استبعاد رواية المنصور عن الامام عليه السلام، بل قد وقع نظيرها، حيث عده الشيخ الطوسي في اصحاب الصادق عليه السلام. فتأمل. (2) الكافي 8: 209 / 255، بطريق آخر عن اسماعيل بن الصباح، والغيبة للطوسي: 433 / 423، بطريق آخر عن احمد بن ادريس، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 288 / 25. (3) الغيبة للطوسي: 434 / 424، اعلام الورى: 426، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 209 / 46. (4) المراد به عثمان بن عنبسة، وهو السفياني، وقد جاء في اكمال الدين الدين: 652 / 14: أن الحق مع السفياني وشيعته.

[ 372 ]

المبطلون ” (1). الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” لا يخرج القائم حتى يخرج قبله اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه ” (2). محمد بن أبي البلاد، عن علي بن محمد الاودي، عن أبيه، عن جده قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (بين يدي القائم موت أحمر وموت أبيض، وجراد في حينه وجراد في غير حينه كألوان الدم، فأما الموت الاحمر فالسيف، وأما الموت الابيض فالطاعون ” (3). الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” الزم الارض ولا تحرك يدا ولا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدرك ذلك: اختلاف بني العباس، ومناد ينادي من السماء، وخسف قرية من قرى الشام تسمى الجابية (4)، ونزول الترك الجزيرة، ونزول الروم الرملة. واختلاف كثير عند ذلك في كل أرض، حتى تخرب الشام ويكون سبب خرابها


(1) اعلام الورى: 426، ورواه الصدوق باختلاف يسير عن ابي حمزة الثمالي قال: قلت لابي عبد الله: ان ابا جعفر كان يقول:… وفي إكمال الدين: 652 / 14، والغيبة للطوسي: 435 / 425، وقطعة منه في: 454 / 461. (2) الغيبة للطوسي: 437 / 428، اعلام الورى: 426، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 209 / 47. (3) غيبة النعماني: 277 / 61، بطريق آخر عن ابراهيم بن ابي البلاد، عن علي بن محمد بن الاعلم الازدي.، غيبة الطوسي: 438 / 430، اعلام الورى: 427، الفصول المهمة: 301، ورواه الصدوق في إكمال الدين: 655 / 27 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 211 / 59. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: الجابية: هي في غربي دمشق في طريق صيداء.

[ 373 ]

اجتماع ثلاث رايات فيها: راية الاصهب، وراية الابقع، وراية السفياني ” (1). علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن موسى عليه السلام في قوله جل قائلا: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (2) قال: ” الفتن في الآفاق، والمسخ في أعداء الحق ” (3). وهيب بن حفص، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) (4) قال: ” سيفعل الله ذلك بهم ” قلت: من هم ؟ قال: ” بنو أمية وشيعتهم ” قلت: وما الآية ؟ قال: ” ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر، وخروج صدر (5) ووجه في عين الشمس يعرف بحسبه ونسبه، وذلك في زمان السفياني، وعندها يكون بواره وبوار قومه ” (6). عبد الله بن بكير، عن عبد الملك بن اسماعيل، عن أبيه، عن سعيد ابن جبير قال: إن السنة التي يقوم فيها المهدي عليه السلام تمطر الارض أربعا وعشرين مطرة، ترى آثارها وبركاتها (7).


(1) غيبة الطوسي: 441 / 434، اعلام الورى: 427، الفصول المهمة: 301، وروى نحوه مفصلا النعماني في غيبته: 279 / 67، الاختصاص: 255، والعياشي في تفسيره 1: 64 / 117، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 212 / 62. (2) فصلت 41: 53. (3) اعلام الورى: 428، ونقل العلامة المجلسي في البحار 52: 221 / 83. (4) الشعراء 26: 4. (5) في ” ح ” زيادة: رجل. وفي ” ش “: رجل، معلم عليها بانها زائدة. (6) اعلام الورى: 428، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 221 / 84. (7) الغيبة للطوسي: 443 / 435، اعلام الورى: 429.

[ 374 ]

الفضل بن شاذان، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ثعلبة الازدي (1) قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ” آيتان تكونان قبل القائم: كسوف الشمس في النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره ” قال: قلت: يا ابن رسول الله، تنكسف (2) الشمس في آخر الشهر، والقمر في النصف. فقال أبو جعفر عليه السلام: ” أنا أعلم بما قلت، إنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم عليه السلام ” (3). ثعلبة بن ميمون، عن شعيب الحداد (4)، عن صالح بن ميثم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ” ليس بين قيام القائم عليه السلام وقتل النفس الزكية أكثر من خمس عشرة ليلة ” (5). عمرو بن شمر، عن جابر قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: متى يكون هذا الامر ؟ فقال: ” أنى يكون ذلك – يا جابر – ولما يكثر القتل


(1) كذا في النسخ، وأورد الخبر في البحار عن الارشاد وغيبة الطوسي عن ثعلبة عن بدر بن الخليل الازدي. وثعلبة هو ثعلبة بن ميمون كما في سائر المصادر، فالظاهر سقوط ” عن بدر بن الخليل ” من السند هنا. (2) في ” ش “: أتكسف، وفي هامش ” ش ” و ” م “: لم تنكسف، وما أثبتناه من ” م “. (3) الغيبة للطوسي: 444 / 439، اعلام الورى: 429، وروى نحوه الكليني في الكافي 8: 212 / 258، والنعماني في غيبته: 271 / 45، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 213 / 67. (4) في إكمال الدين واعلام الورى والبحار: الحذاء. وهو تصحيف كما يعلم من كتب الرجال، وهو شعيب بن اعين الحداد، لاحظ: رجال النجاشي: 195 / 521، فهرست الشيخ الطوسي: 82 / 343، رجال الشيخ الطوسي: 217 / 2 و 476 / 2، رجال البرقي: 29، معجم رجال الحديث 9: 29 و 37، تنقيح المقال 3: 62. (5) إكمال الدين: 649 / 2، الغيبة للطوسي: 445 / 440، اعلام الورى: 427، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 203 / 30.

[ 375 ]

بين الحيرة والكوفة ” (1). محمد بن سنان، عن الحسين بن المختار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إذا هدم حائط مسجد الكوفة مما يلي دار عبد الله بن مسعود، فعند ذلك زوال ملك القوم، وعند زواله خروج القائم عليه السلام ” (2). سيف بن عميرة، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” خروج الثلاثة: السفياني والخراساني واليماني، في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، وليس فيها راية أهدى من راية اليماني، لانه يدعو إلى الحق ” (3). الفضل بن شاذان، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: ” لا يكون ما تمدون إليه أعناقكم حتى تميزوا وتمحصوا فلا يبقى منكم إلا القليل (4)، ثم قرأ: (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ” (5) ثم قال: إن من علامات الفرج حدثا يكون بين المسجدين (6)، ويقتل فلان من ولد فلان خمسة


(1) الغيبة للطوسي: 445 / 441، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 209 / 50. (2) روى نحوه النعماني في غيبته: 276 / 57، والطوسي في غيبته: 446 / 442، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 210 / 51. (3) الغيبة للنعماني: 255 نحوه، الغيبة للطوسي: 446 / 443، اعلام الورى: 429، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 210 / 52. (4) في هامش ” ش ” و ” م “: الاندر. (5) العنكبوت 29: 1 – 2. (6) في هامش ” ش “: ” مسجد البصرة والكوفة أو مسجد الكوفة والمدينة والله اعلم “. وفي هامش ثان: ” رأيت في موضع آخر من قول السيد أدام الله ظله (يعني السيد فضل الله الراوندي الذي قوبلت على نسخته هذه النسخة) كأنهما مسجد الكوفة ومسجد السهلة “.

[ 376 ]

عشر كبشا من العرب ” (1). الفضل بن شاذان، عن معمر بن خلاد (2)، عن أبي الحسن عليه السلام قال: ” كأني برايات من مصر مقبلات خضر مصبغات، حتى تأتي الشامات فتهدى إلى ابن صاحب الوصيات “. حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا يذهب ملك هؤلاء حتى يستعرضوا (3) الناس بالكوفة في يوم الجمعة، لكأني أنظر إلى رؤوس تندر (4) فيما بين باب الفيل وأصحاب الصابون ” (5). علي بن أسباط، عن الحسن (6) بن الجهم قال: سأل رجل أبا الحسن عليه السلام عن الفرج فقال: ” تريد الاكثار أم اجمل لك ؟ ” قال: بل تجمل لي، قال: ” إذا ركزت رايات قيس بمصر، ورايات كندة


(1) أنظر: ذيله في الغيبة للطوسي: 448 / 447، ونقل ذيله العلامة المجلسي في البحار 52: 210 / 56. (2) في ” ش ” و ” م “: ميمون بن خلاد، وما اثبتناه من ” ح ” وهامش ” ش ” عن نسخة، وهو الصواب، انظر ” رجال النجاشي: 421 / 1128، رجال الشيخ في اصحاب الرضا عليه السلام: 390 / 45، وفي فهرسته: 170 / 742، ومعمر هذا ممن روى النص على الامام الجواد عليه السلام في ج 2: 276 من هذا الكتاب. (3) الاستعراض: عرض القوم على السيف من غير تمييز. هامش ” ش ” و ” م “. (5) تندر: تسقط ” الصحاح – ندر – 2: 825 “. (4) الغيبة للطوسي: 448 / 448، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 211 / 57. (6) في ” ش ” و ” م “: عن ابي الحسن، وما اثبتناه من ” ح ” وهو الصواب. انظر ” رجال البرقي: 52، رسالة ابي غالب الزراري: 8، رجال النجاشي: 50 / 109، رجال الشيخ: 347 / 10 “.

[ 377 ]

بخراسان ” (1). الحسين بن أبي العلاء، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إن لولد فلاني عند مسجدكم – يعني مسجد الكوفة – لوقعة في يوم عروبة (2)، يقتل فيها أربعة آلاف من باب الفيل إلى أصحاب الصابون، فإياكم وهذا الطريق فاجتنبوه، وأحسنهم حالا من أخذ في درب الانصار “. علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إن قدام القائم عليه السلام لسنة غيداقة، يفسد فيها الثمار والتمر في النخل، فلا تشكوا في ذلك ” (3). إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن سعد (4)، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” سنة الفتح ينبثق الفرات حتى يدخل على أزقة الكوفة ” (5). وفي حديث محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ” إن قدام القائم بلوى من الله ” قلت: ما هو، جعلت


(1) الغيبة للطوسي: 448 / 449، اعلام الورى: 429، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 214 / 68. (2) يوم عروبة: اي يوم الجمعة ” الصحاح – عرب – 1: 180 “. (3) الغيبة للطوسي: 449 / 450، اعلام الورى: 428 “. (4) كذا في ” ش ” و ” م ” وفي ” ح “: جعفر بن سعيد. وقد ذكر الشيخ في أصحاب الصادق عليه السلام سعدا والد جعفر بن سعد الاسدي (رجال الشيخ الطوسي: 203 / 13). وقد وقع تحريف في اعلام الورى، فذكر: ابراهيم بن محمد بن جعفر، عن أبيه، عن أبي عبد الله. وفي الغيبة للشيخ الطوسي: جعفر بن سعيد الاسدي. (5) الغيبة للطوسي: 451 / 456، اعلام الورى: 429.

[ 378 ]

فداك ؟ فقرأ: (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين) (1) ثم قال: ” الخوف من ملوك بني فلان، والجوع من غلاء الاسعار، ونقص من الاموال من كساد التجارات وقلة الفضل فيها، ونقص الانفس بالموت الذريع، ونقص الثمرات بقلة ريع الزرع وقلة بركة الثمار) ثم قال: ” وبشر الصابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم عليه السلام ” (2). الحسين بن يزيد، عن منذر الخوزي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: ” يزجر الناس قبل قيام القائم عليه السلام عن معاصيهم بنار تظهر في السماء، وحمرة تجلل السماء، وخسف ببغداد، وخسف ببلد البصرة، ودماء تسفك بها، وخراب دورها، وفناء يقع في أهلها، وشمول أهل (4) العراق خوف لا يكون لهم معه قرار ” (5). فصل فأما السنة التي يقوم فيها عليه السلام واليوم بعينه، فقد جاءت فيه آثار عن الصادقين عليهم السلام. روى الحسن بن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن


(1) البقرة 2: 155. (2) رواه باختلاف في الفاظه الطبري في دلائل الامامة: 259، والصدوق في إكمال الدين: 649 / 3، والنعماني في غيبته: 250 / 5، والطبرسي في اعلام الورى: 427. (3) في البحار عن الكتاب: الحسين بن زيد عن منذر الجوزي. (4) إلى هنا آخر الموجود في نسخة ” ح “. (5) اعلام الورى: 429، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 221 / 85.

[ 379 ]

أبي عبد الله عليه السلام قال: ” لا يخرج القائم عليه السلام إلا في وتر من السنين: سنة إحدى، أو ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع ” (1). الفضل بن شاذان، عن محمد بن علي الكوفي، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (ينادى باسم القائم عليه السلام في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي عليهما السلام، لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائما بين الركن والمقام، جبرئيل عليه السلام على (يده اليمنى) (2) ينادي: البيعة لله، فتصير إليه شيعته من أطراف الارض تطوى لهم طيا حتى يبايعوه، فيملا الله به الارض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ” (3). فصل وقد جاء الاثر بأنه – عليه السلام – يسير من مكة حتى يأتي الكوفة فينزل على نجفها، ثم يفرق الجنود منها في (4) الامصار. وروى الحجال، عن ثعلبة، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: ” كأني بالقائم عليه السلام على نجف الكوفة،


(1) اعلام الورى: 429، الفصول المهمة: 302، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 291 / 36. (2) في هامش ” ش ” و ” م “: يمينه. (3) اعلام الورى: 430، وفيه: ليلة ست وعشرين من شهر رمضان، وبحذف اوله في الفصول المهمة: 302، وباختلاف يسير في غيبة الطوس: 452 / 458. (4) في ” م ” وهامش ” ش “: إلى.

[ 380 ]

قد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يفرق الجنود في البلاد ” (1). وفي رواية عمرو بن شمر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ذكر المهدي فقال: ” يدخل الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت فتصغو (2) له، ويدخل حتى يأتي المنبر فيخطب فلا يدري الناس ما يقول من البكاء، فإذا كانت الجمعة الثانية سأله الناس أن يصلي بهم الجمعة، فيأمر أن يخط له مسجد على الغري ويصلي بهم هناك، ثم يأمر من يحفر من ظهر مشهد الحسين عليه السلام نهرا يجري إلى الغريين حتى ينزل الماء في النجف، ويعمل على فوهته القناطير والارحاء (3)، فكأني بالعجوز على رأسها مكتل (4) فيه بر تأتي تلك الارحاء فتطحنة بلا كراء ” (5). وفي رواية صالح بن أبي الاسود، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ذكر مسجد السهلة فقال: ” أما إنه منزل صاحبنا إذا قدم بأهله ” (6). وفي رواية المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ” إذا قام قائم آل محمد عليه السلام بنى في ظهر الكوفة مسجدا له ألف باب، واتصلت بيوت أهل الكوفة بنهري كربلاء ” (7).


(1) اعلام الورى: 430، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 336 / 75. (2) تصغو: تميل. ” الصحاح – صغا – 6: 2400 ” وفي هامش ” ش ” فتصفو. (3) الارحاء: جمع رحى، وهي آلة طحن الحنطة، انظر ” الصحاح – رحا – 6: 2353 “. (4) المكتل: الزنبيل. ” الصحاح – كتل – 5: 1809 “. (5) اعلام الورى: 430، ورواه الشيخ في الغيبة: 468 / 485، باختلاف يسير مع زيادة، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 331 / 53. (6) الكافي 3: 495 / 2، التهذيب 3: 252 / 692، الغيبة للطوسي: 471 / 488. (7) رواه الشيخ (ره) في الغيبة مع زيادة: 280، والطبرسي في اعلام الورى: 430، ونقله =

[ 381 ]

فصل آخر وقد وردت الاخبار بمدة ملك القائم عليه السلام وأيامه، وأحوال شيعته فيها، وما تكون عليه الارض ومن عليها من الناس. روى عبد الكريم الخثعمي قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: كم يملك القائم عليه السلام ؟ قال: ” سبع سنين، تطول له الايام والليالي حتى تكون السنة من سنيه مقدار عشر سنين من سنيكم، فيكون سنو ملكه سبعين سنة من سنيكم هذه، وإذا آن قيامه مطر الناس جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب مطرا لم ير الخلائق مثله، فينبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم، فكأني أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة ينفضون شعورهم من التراب ” (1). وروى المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ” إن قائمنا إذا قام أشرف الارض بنور ربها (2)، واستغنى الناس (3) عن ضوء الشمس، وذهبت الظلمة، ويعمر الرجل في ملكه حتى يولد له ألف ذكر لا يولد فيهم أنثى، وتظهر الارض كنوزها حتى يراها الناس على وجهها، ويطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ منه زكاته فلا. يجد أحدا يقبل منه ذلك، استغنى الناس بما زرقهم الله من فضله ” (4).


= العلامة المجلسي في البحار 52: 337 / 86. (1) اعلام الورى: 432، وذكر قطعة منه الشيخ في الغيبة: 474 / 497، وابن الصباغ في الفصول المهمة: 302، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 337 / صدر الحديث 77. (2) في ” م “: بنورها. (3) في ” م ” وهامش ” ش “: العباد. (4) اعلام الورى: 434، وصدره في غيبة الطوسي: 467 / 484، ونقله العلامة المجلسي في = (*)

[ 382 ]

فصل وقد جاء الاثر بصفة القائم وحليته عليه السلام. فروى عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ” سال عمر بن الخطاب أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن المهدي ما اسمه ؟ فقال: اما اسمه فإن حبيبي عليه السلام عهد إلي ألا أحدث به حتى يبعثه الله، قال: فأخبرني عن صفته، قال: هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر يسيل شعره على منكبيه، ويعلو نور وجهه سواد شعر لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الاماء ” (1). فصل فأما سيرته عليه السلام عند قيامه، وطريقة أحكامه، وما يبينه الله تعالى من آياته، فقد جاءت الآثار به حسسب ما قدمناه. فروى المفضل بن عمر الجعفي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ” إذا أذن الله عز اسمه للقائم في الخروج صعد المنبر، فدعا الناس إلى نفسه، وناشدهم بالله، ودعاهم إلى حقه، وأن يسير فيهم


= البحار 52: 337 / ذيل الحديث 77. (1) الغيبة للطوسي: 487 / 470، اعلام الورى: 434، وذكر صدره باختلاف يسير الصدوق في إكمال الدين: 648 / 3.

[ 383 ]

بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ويعمل فيهم بعمله، فيبعث الله جل جلاله جبرئيل عليه السلام حتى يأتيه، فينزل على الحطيم يقول له: إلى أي شئ تدعو ؟ فيخبره القائم عليه السلام فيقول جبرئيل: أنا أول من يبايعك، أبسط يدك، فيمسح على يده، وقد وافاه ثلاثمائة (1) وبضعة عشر رجلا فيبايعوه، ويقيم بمكة حتى يتم أصحابه عشرة آلاف نفس، ثم يسير منها إلى المدينة ” (2). وروى محمد بن عجلان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إذا قام القائم عليه السلام دعا الناس إلى الاسلام جديدا، وهداهم إلى أمر قد دثر فضل عنه الجمهور، وإنما سمي القائم مهديا لانه يهدي إلى أمر قد ضلوا عنه، وسمي بالقائم لقيامه بالحق ” (3). وروى عبد الله بن المغيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إذا قام القائم من آل محمد عليه السلام أقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة فضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة اخرى حتى يفعل ذلك ست مرات ” قلت: ويبلغ عدد هؤلاء هذا ؟ قال: ” نعم، منهم ومن مواليهم ” (4). وروى أبو بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ” إذا قام القائم هدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه، وحول المقام إلى الموضع الذي كان فيه، وقطع أيدي بني شيبة وعلقها بالكعبة،


(1) في ” م “: بثلثمائة. (2) اعلام الورى: 431، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 337 / 78. (3) اعلام الورى: 431. (4) اعلاج الورى: 431، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 338 / 79.

[ 384 ]

وكتب عليها: هؤلاء سراق الكعبة ” (1). وروى أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل أنه ” إذا قام القائم عليه السلام سار إلى الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر ألف نفس يدعون البترية عليهم السلاح، فيقولون له: ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم، ويدخل الكوفة فيقتل بها كل منافق مرتاب، ويهدم قصورها، ويقتل مقاتلتها حتى يرضى الله عز وعلا ” (2). وروى أبو خديجة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إذا قام (3) القائم عليه السلام جاء بأمر جديد، كما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله في بدو الاسلام إلى أمر جديد ” (4). وروى علي بن عقبة، عن أبيه قال: إذا قام القائم عليه السلام حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الارض بركاتها، ورد كل حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ويعترفوا بالايمان، أما سمعت الله تعالى يقول: (وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون ” (5) وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمد عليهما السلام، فحينئذ تظهر الارض كنوزها وتبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته ولا لبره


(1) اعلام الورى: 431، ونحوه في غيية الطوسي: 472 / 492، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 338 / 8. (2) اعلام الورى: 431، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 338 / 81. (3) من هنا سقط من نسخة ” م ” إلى لفظة: قد أوردنا في كل باب من هذا الكتاب طرفا…. (4) نقله العلامة المجلسي في البحار 52: 338 / 82. (5) آل عمران 3: 83. (*)

[ 385 ]

لشمول الغنى جميع المؤمنين. ثم قال: إن دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله تعالى: (والعاقبة للمتقين) (1) (2). وروى أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السلام – في حديث طويل – أنه قال: ” إذا قام القائم عليه السلام سار إلى الكوفة فهدم بها أربعة مساجد، فلم يبق مسجد على وجه الارض له شرف إلا هدمها وجعلها جماء، ووسع الطريق الاعظم، وكسر كل جناح خارج في الطريق، وأبطل الكنف والمآزيب إلى الطرقات، ولا يترك بدعة إلا أزالها ولا سنة إلا أقامها، ويفتح قسطنطينية والصين وجبال الديلم، فيمكث على ذلك سبع سنين مقدار كل سنة عشر سنين من سنيكم هذه، ثم يفعل الله ما يشاء “. قال: قلت له: جعلت فداك، فكيف تطول السنون ؟ قال: ” يأمر الله تعالى الفلك باللبوث وقلة الحركة، فتطول الايام لذلك والسنون ” قال: قلت له: إنهم يقولون: إن الفلك إن تغير فسد. قال: ” ذلك قول الزنادقة، فأما المسلمون فلا سبيل لهم إلى ذلك، وقد شق الله القمر لنبيه عليه السلام ورد الشمس من قبله ليوشع بن نون وأخبر بطول يوم القيامة وأنه (كألف سنة مما تعدون) (3) ” (4).


(1) الاعراف 7: 128، القصص 28: 83. (2) اعلام الورى: 432، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 338 / 83. (3) الحج 22: 47. (4) اعلام الورى: 432، ومختصرا في الفصول المهمة: 302، ونحو في الغيبة للطوسي:

[ 386 ]

وروى جابر، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: اإذا قام قائم آل محمد عليه السلام ضرب فساطيط لمن يعلم الناس القرآن على ما أنزل الله جل جلاله فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لانه يخالف فيه التأليف “. وروى المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” يخرج القائم عليه السلام من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلا، خمسة عشر من قوم موسى عليه السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الانصاري، والمقداد، ومالكا الاشتر، فيكونون بين يديه أنصارا وحكاما ” (2). وروى عبد الله بن عجلان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” إذا قام قائم آل محمد عليه وعليهم السلام حكم بين الناس بحكم داود لا يحتاج إلى بينة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كل قوم بما استبطنوه، ويعرف وليه من عدوه بالتوسم، قال الله سبحانه وتعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم) (3) ” (4). وقد روي (5) أن مدة دولة القائم عليه السلام تسع عشرة سنة


= 475 / 498، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 339 / 84. (1) نقله العلامة المجلسي في البحار 52: 339 / 85. (2) تفسير العياشي 2: 32 / 90، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 346 / 92. (3) الحجر 15: 75 – 76. (4) نقله العلامة المجلسي في البحار 52: 339 / 86. (5) اعلام الورى: 434، ونقله العلامة المجلسي في البحار 52: 340 / 87.

[ 387 ]

تطول أيامها وشهورها، على ما قدمناه، وهذا أمر مغيب عنا، وإنما ألقي إلينا منه ما يفعله (1) الله عزوجل بشرط يعلمه من المصالح المعلومة – له جل اسمه – فلسنا نقطع على أحد الامرين، وإن كانت الرواية بذكر سبع سنين أظهر وأكثر. وليس بعد دولة القائم عليه السلام لاحد دولة إلا ما جاءت به الرواية من قيام ولده إن شاء الله ذلك، ولم ترد به على القطع والثبات، وأكثر الروايات أنه لن يمضي مهدى هذه الامة عليه السلام إلا قبل القيامة بأربعين يوما يكون فيها الهرج، وعلامة (2) خروج الاموات، وقيام الساعة للحساب والجزاء، والله اعلم بما يكون، وهو ولي التوفيق للصواب، وإياه نسأل العصمة من الضلال، ونستهدي به إلى سبيل الرشاد. (وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين) (3).


(1) في هامش ” ش “: ما يعلمه. (2) في المطبوع: وعلامات. (3) اثبتناه من المطبوع.

[ 388 ]

قد اوردنا في كل باب من هذا الكتاب طرفا من الاخبار بحسب ما احتملته الحال، ولم نستقص ما جاء في كل معنى منه كراهية الانتشار في القول ومخافة الاملال به والاضجار، وأثبتنا


(1) في هامش ” ش “: ما يعلمه. (2) في المطبوع: وعلامات. (3) اثبتناه من المطبوع.

[ 388 ]

قد اوردنا في كل باب من هذا الكتاب طرفا من الاخبار بحسب ما احتملته الحال، ولم نستقص ما جاء في كل معنى منه كراهية الانتشار في القول ومخافة الاملال به والاضجار، وأثبتنا من أخبار القائم المهدي عليه السلام ما يشاكل المتقدم منها في الاختصار، وأضربنا عن كثير من ذلك بمثل ما ذكرناه، فلا ينبغي ان ينسبنا أحد فيما تركناه من ذلك إلى الاهمال، ولا يحمله على عدم العلم منا به أو السهو عنه والاغفال. وفيما رسمناه من موجز الاحتجاج عل إمامة الائمة عليهم السلام ومختصر من أخبارهم كفاية فما قصدناه، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل (1).


(1) في ” ش “: تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله اجمعين. وقع الفراغ منه يوم الجمعة لاربع عشر بقين من شوال سنة خمس وستين وخمس مائة لمحرره العبد المذنب المحتاج إلى غفران الله ورضوانه الحسن بن محمد بن الحسين الحسيني الهراركاني بخطه وقد أربى على خمس وسبعين سنة سنه. وفي ” م “: تم الكتاب بحمد الله ومنه وصلواته على رسوله محمد وآله الطاهرين. فرغ من كتبه في خدمة القاضيين الامامين الاخوين عز الدين ابي الفضائل وموفق الدين ابي المحاسن يوم الجمعة الرابع عشر من محرم سنة خمس وسبعين وخمس مائة ابو الحسن بن ابي سعد ابن أبي الحسن محمد بن أحمد بن عبدويه حامدا لله ومصليا على نبيه وعترته الطاهرين. (*)

اترك تعليقاً