العدة في أصول الفقه

الشيخ الطوسي ج 2


[ 413 ]

العدة في اصول الفقه تأليف شيخ الطائفة الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن بن الطوسي (رحمه الله) 385 – 460 ه‍ الجزء الثاني تحقيق محمد رضا الأنصاري القمي


[ 414 ]

طبع هذا الكتاب على نفقة المحسن الكريم الحاج محمد تقي علاقبنديان، وفقه الله تعالى لكل خير العدة في آصول الفقه لشيخ الطائفة الامام محمد بن الحسن الطوسي تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي الطبعة الأولى: ذو الحجة 1417 ه‍ ق، 1376 ه‍ ش، 3000 نسخة تنضيد الحروف: قسم الكمبيوتر لمؤسسة البعثة الفلم والالواح الحساسة: تيز هوش – قم المطبعة: ستاره – قم. حقوق الطبع محفوظة للمحقق


[ 415 ]

العدة في اصول الفقه


[ 417 ]

بسم الله الرحمن الرحيم فصل [ 3 ] ” في ذكر الوجوه التي تحتاج الأشياء فيها إلى بيان، وما به يقع البيان ” إذا كان البيان عبارة عن الدلالة – على ما قدمنا القول فيه – فكل وجه لا يعلم كون الشئ عليه ضرورة، فإنه يحتاج إلى بيان، كما أن ذلك يحتاج إلى دلالة، وسواء كان عقليا أو شرعيا. فأما ما علم كون الشئ عليه ضرورة، فإنه يستغنى بحصول العلم فيه عن بيان ذلك، وكذلك ما يعلم بالدلالة إذا حصل العلم بالمعلوم، فإنه يستغنى بحصول العلم به عن بيان ثان


[ 418 ]

فإذا ثبت هذه الجملة، فالعقليات كلما لا يعلم منها ضرورة، و (1) ما يجرى مجرى الضرورة، فلابد فيه من بيان، كما لابد فيه من دلالة. والشرعيات بأجمعها تحتاج إلى بيان، كما تحتاج بأجمعها إلى دلالة. هذا إذا أردنا بالبيان الدلالة، ومتى أردنا ما يرجع إلى الخطاب، والفرق بين ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج، فقد قدمنا القول في ذلك، وقلنا: إن ما يحتاج من ذلك إلى بيان على وجوه: منها ما يحتاج في تخصيصه إذا كان عاما وعلم في الجملة أنه مخصوص، فانه يحتاج في تعيين ما خص به إلى بيان. ومنها: ما يحتاج إلى بيان النسخ إذا كان مما ينسخ، لأنه إذا قيل: ” افعلوا كذا إلى وقت ما ينسخ عنكم ” فإن وقت النسخ يحتاج إلى بيان. ومنها ما يحتاج إلى بيان أوصافه وشروطه إذا كانت له أوصاف وشروط، كما قلناه في الأسماء الشرعية من الصلاة والزكاة وغيرها. وقد يحتاج الفعل أيضا إلى بيان، كما يحتاج القول إليه إذا لم ينبئ بنفسه عن المراد، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. فأما ما به يتبين الشئ فأشياء: منها الكتابة، وذلك نحو ما كتب النبي عليه وآله السلام (2) إلى عماله بالأحكام التي بينها لهم ولمن بعدهم، من كتب الصدقات، والديات، وغيرها من الأحكام. ومنها: القول والكلام، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشريعة أكثرها بذلك. ومنها: الأفعال، وذلك نحو ما روي عن النبي عليه وآله السلام (3) أنه صلى


(1) أو. (2) صلى الله عليه وآله.


[ 419 ]

وحج، وتوضأ، قال: ” صلوا كما رأيتموني اصلي ” (1)، وقال: ” خذوا عنى مناسك دينكم (2)، وقال: ” هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ” (3) فأحال جميع ذلك على أفعاله عليه السلام. ومنها: الإشارة، وذلك نحو ما بين النبي عليه وآله السلام (4) الشهر بأصابعه فقال: ” الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابعه العشرة كلها ” (5) وأراد بها أن الشهر يكون ثلاثين يوما، ثم قال: ” الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في الثالثة ” (6) (5) فبين أنه قد يكون تسعة وعشرين يوما. وألحق بذلك من خالفنا في القياس والإجتهاد أنه قد بين أحكاما كثيرة بالتنبيه على طريقة القياس على ما يذهبون إليه، وذلك عندنا باطل. وأما بيان الله تعالى فقد يكون بالكتابة وبالقول، لأنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ، وبين ذلك للملائكة، وبين بخطابه، وما أنزل على النبي عليه وآله السلام (4) من القرآن لنا المراد، وبين أيضا بأن دلنا على التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بفعله. فأما الإشارة، فلا يجوز عليه تعالى، لأنها لا تكون إلا بالآلات، والله تعالى ليس بذي آلة، إلا أنه من أوجب علينا الإقتداء بالنبي عليه وآله السلام، وقد


(1) المعتبر 2: 227، بحار الأنوار 85: 279، صحيح البخاري، ب 18 كتاب الأذان ح 27، مسند أحمد بن حنبل 5: 53 السنن الكبرى 2: 345. (2) السنن الكبرى 5: 125 ” خذوا عني مناسككم “، وأيضا رواه مسلم عن جابر، والنسائي بلفظ الأمر ” يا أيها الناس خذوا عني مناسككم “. (3) من لا يحضره الفقيه 1: 38 ح 76، ونحوه في كنز العمال 9: رقم 26957 و 26938. (4) صلى الله عليه وآله وسلم. (5) التهذيب 4: 160 ح 21 و 162 ح 30 و 164 ح 38 و 167 ح 48. (6) الثالث. (7) وأما.


[ 420 ]

بين عليه وآله السلام بالإشارة، لجاز (1) أن يضاف ذلك إلى الله تعالى. كما أن أفعال الجوارح لا تجوز أيضا عليه، وقد أضفنا إليه تعالى (2) ما بينه النبي عليه السلام (3) بأفعاله من حيث أوجب علينا الإتقداء به فكذلك القول في الإشارة. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


(1) جاز. (2) زيادة من النسخة الثانية. (3) صلى الله عليه وآله.


[ 421 ]

فصل [ 4 ] ” في ذكر جملة ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج من الأفعال ” الفعل على ضربين: ضرب منه: يقع على وجه، من وجوب، أو ندب، أو إباحة، ويعلم وقوعه على ذلك الوجه، فما يكون كذلك لا يحتاج إلى بيان ليعلم به الوجه الذي وقع عليه، لأن ذلك قد حصل العلم به. والضرب الآخر: أن يعلم مجرد الفعل ولا يعلم الوجه الذي وقع عليه، ويجوز فيه وقوعه واجبا، وندبا، ومباحا على حد واحد، فما يكون كذلك يحتاج إلى بيان يعلم به الوجه الذي وقع عليه. وجرى الفعل في هذا الباب مجرى القول، لأن القول لما انقسم إلى قسمين: قسم أنبأ عن المراد بظاهره وصريحه استغنى بذلك عن بيان المراد، والقسم الآخر لم ينبئ عن المراد على التعيين، احتاج في العلم بتعيينه إلى بيان، فساوى القول الفعل من هذا الوجه على ما بيناه. ونحن وإن ذهبنا إلى أن الأفعال كلها لابد من أن يعرف المراد بها، ويعرف على أي وجه وقعت عليه بدليل، فذلك لا يمنع من أن يكون حالها ما وصفناه، كما أن الأقوال كلها قد علم أنها تحتاج في معرفة ما وضعت له، وأن الحكيم مريد بها ذلك


[ 422 ]

إلى الدليل، ومع ذلك انقسمت إلى القسمين اللذين ذكرناهما، فكذلك الفعل (1) على ما بيناه. وإذا ثبت ذلك، وكان في أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ينبئ بظاهره عن الوجه الذي وقع عليه، فينبغي أن يستغني ذلك عن البيان، وما كان فيه من أفعاله لا ينبئ بظاهره عن الوجه الذي وقع عليه، احتاج إلى بيان. ونظير القسم الأول أنه إذا روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلوة بأذان وإقامة جماعة، علم بذلك أنها واجبة، لأن ذلك من شعار كون الصلاة واجبة دون كونها نفلا، فما يجري هذا المجرى مما وضع في الشرع لشئ مخصوص فلا يقع على غير ذلك الوجه، فإنه يحتاج إلى بيان. ومثل ذلك أيضا: إذا شوهد النبي عليه وآله السلام (2) فعل فعلا في الصلوة على طريق العمد، علم بذلك أن ذلك الفعل من الصلاة، ولذلك قلنا: إنه لما شوهد ركع ركوعين وأكثر من ذلك في ركعة واحدة في صلاة الكسوف علم أن ذلك من حكم هذه الصلوة، ونظائر ذلك كثيرة. وأما ما يقع من أفعاله عليه السلام على وجه الإجمال، ولا يعلم الوجه الذي وقع عليه، فنحو أن يرى عليه السلام (2) يصلي منفردا بنفسه (3)، فإنه يجوز أن تكون تلك الصلوة واجبة، ويجوز أن تكون ندبا، فيقف العلم بوجهها على البيان. وكذلك إذا قيل: أنه توضأ ومسح على رأسه (4)، احتمل أنه فعل ذلك ببقية النداوة، واحتمل أن يكون بماء جديد، فإذا قيل أنه فعل ذلك ببقية النداوة – على ما


(1) في الأصل: القول. (2) صلى الله عليه وآله وسلم. (3) بنفسه. (4) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثنانية 1: 21 ح 61 و 62، صحيح البخاري: باب 34 أبواب الوضوء، ح 49.


[ 423 ]

نذهب إليه (1) -، أو بماء جديد – على ما يذهب إليه المخالف – كان ذلك بيانا له، فينبغي أن يجري ما يرد من الأفعال على القسمين اللذين ذكرناهما، فليس يخرج عنهما شئ من الأفعال.


(1) التهذيب 1: 58.


[ 424 ]

فصل [ 5 ] ” في أن تخصيص العموم لا يمنع من التعلق بظاهره ” (1) إختلف العلماء في العموم إذا خص: فذهب عيسى بن أبان البصري إلى أنه متى دخله التخصيص (2) صار مجملا فاحتاج إلى بيان، ولا يصح التعلق بظاهره (3).


(1) إن الخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة إنما هو تفريع على القول بأن للعموم صيغة مستغرقة، وأما إذا استعملت الصيغة المستغرقة في الخصوص فإنه لا ترديد في مجازيته عند القوم، وبناء على الأول فمتى اطلقت الصيغد المستغرقة وخص واحد من الجملة لا يبقى عاما حقيقة. والقائلون بهذا من العامة اختلفوا على خمسة أقوال: 1 – العام مجاز مطلقا وبأي دليل خص. 2 – نفي كونه مجازا مطلقا. 3 – العام مجاز، إلا أن يخص بدليل لفظي متصل أو منفصل عنه. 4 – العام مجاز إلا أن يخص بقول منفصل. 5 – العام مجاز إلا أن يخص بشرط أو استثناء. وأما الإمامية: فقد ذهب الشيخ المفيد – وتبعه على ذلك الشريف المرتضى والشيخ الطوسي – إلى صحة التعلق بألفاظ العموم وإن كان مخصوصا. انظر: ” الذريعة 1: 239، التذكرة: 35 “. (2) سواء كان دليل الخصوص متصلا أو منفصلا عنه، سمعيا كان أو عقليا، أو دلالة حالية. (3) انظر: ” التبصرة: 122، ميزان الاصول 1: 422، المعتمد 1: 265، شرح اللمع 1: 344، الذريعة 1: 239.


[ 425 ]

وذهب الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة إلى انه يصح التعلق به – وإن خص – على كل حال (1). وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أ نه إذا خص بالاستثناء، أو بكلام متصل صح التعلق به وإذا خص بدليل (2) لم يصح (3). وحكى عبد الجبار بن أحمد (4) عن أبي عبد الله البصري أنه قال: ” يحتاج أن ينظر في ذلك، فإن كان الحكم الذي تناوله العموم يحتاج إلى شروط أو أوصاف لا ينبئ اللفظ عنها جرى في الحاجة إلى بيان مجرى قول الله تعالى: (أقيموا الصلاة) (5) لأنه يساويه في أن المراد بها لا يصح أن يعرف بالظاهر. قال: ولا فصل بين ألا يعلم ما لا يتم قطع السارق إلا به من الأوصاف بالظاهر، وبين ألا يعلم الصلاة بالظاهر، لأن الجهل بما يتم الحكم إلا به كالجهل بنفس الحكم، فالحاجة إلى العلم بأحدهما كالحاجة إلى العلم بالآخر.


[ حيث أشار الشريف المرتضى إلى دليله دون الإشارة إلى قائله ] الإبهاج 2: 80، المستصفى 2: 54، الاحكام 3: 390 “. ومذهب عيسى بن أبان، وأبي ثور، وهو مختار أصحاب الحديث، وبه قالت المعتزلة، وهو رأي جمهور الأشاعرة، وآخرون كالآمدي، وابن الحاجب، والبيضاوي. (1) وهذا المذهب مختار جمهور فقهاء العامة كالشافعي، وأكثر أتباعه كالشيرازي، وابن السمعاني، والإسفراييني، وابن السبكي والحنابلة، وعامة أصحاب أبي حنيفة، وعامة أهل الحديث. انظر: ” التبصرة: 122، وميزان الاصول 1: 422 – 421، اصول السرخسي 1: 144، روضة الناظر: 209، المعتمد 1: 265، شرح اللمع 1: 344، الاحكام 3: 390 “. (2) المقصود من الدليل هو المخصص المنفصل، سواء كان عقليا أو لفظيا. (3) وهذا الرأي مختار فخر الدين الشيرازي، والباقلاني – كما نسب إليه. انظر: ” التبصرة: 123 – 122، الأبهاج 2: 81، والمعتمد 1: 267 – 265، ميزان الاصول 1: 422، روضة الناظر: 210 شرح اللمع 1: 344، اصول السرخسي 1: 145 “. (4) أي القاضي عبد الجبار المعتزلي. (5) البقرة: 43.


[ 426 ]

ويقول: كل عام خص وأمكن تنفيذ الحكم من غير شرط ووصف فيما عدا ما خص منه، جرى في صحة التعلق به مجرى العموم إذا إتصل به الاستثناء. قال: والظاهر من كتب أبي علي وأبي هاشم جميعا صحة التعليق بعموم قوله: (والسارق والسارقة) (1) وما شاكله، وقد صرحا بأن التخصيص وإن أحوج إلى شروط لا ينبئ الظاهر عنها، أنه لا يمتنع من التعلق بالظاهر، وعلى ذلك بينا الكلام في الوعيد لأنهما استدلا به، وإن كان العاصي الذي تعلق الوعيد به يحتاج إلى شروط عندهما ” (2). هذه الألفاظ بعينها حكيناها عنه على ما ذكره في كتابه ” العمد ” (3) والذي أذهب إليه: أن العموم إذا خص صح التعلق بظاهره، سواء خص بالإستثناء أو بكلام متصل، أو منفصل، أو دليل وعلى كل حال، إلا أنه يحتاج أن ينظر في ألفاظ العموم الذي يتعلق الحكم بها، فإن كانت متى استعملناها على ظاهرها وعمومها نفذنا الحكم فيما اريد منا وفيما لم يرد، يحتاج إلى أن يبين لنا ما لم يرد منا لنخصه من جملة ما تناوله اللفظ، فأما ما اريد منا فقد علمنا بالظاهر وذلك نحو قوله: (والسارق والسارقة) (4)، و (اقتلوا المشركين) (5) وما يجرى مجرى ذلك لأنا لو خلينا وظاهر ذلك لقطعنا من يستحق القطع ومن لا يستحق القطع إذا كان سارقا، لكن لما كان في جملة السراق من لا يجب قطعه وهو من لا يكون عاقلا ويسرق من غير حرز، أو سرق ما دون النصاب، أو كانت هناك شبهة وغير ذلك من الصفات والشروط المراعاة في ذلك، احتاج أن يبين لنا من لا يجب قطعه، فإذا بين ذلك بقى الباقي على عمومه وشموله، وعلمنا حينئذ انه يستحق القطع. وكذلك قوله: (واقتلوا


(1) المائدة: 38. (2) انظر: ” المعتمد 1: 266 – 265 “. (3) انظر التعليقة رقم 501. (4) المائدة: 38. (5) التوبة: 5.


[ 427 ]

المشركين) (1) وما جرى مجراه. وإن كانت ألفاظ العموم متى خلينا وظاهرها لم يمكننا أن نستعملها فيما اريد منا على وجه، كان ذلك مجملا واحتاج إلى بيان ما اريد منا، وذلك نحو قوله: (اقيموا الصلاة) (2)، لأنا لو خلينا وظاهر الآية لم يمكننا أن نستعملها فيما اريد منا على وجه، فوقف ذلك على البيان. والذي يدل على صحة ما إخترناه: أن الخطاب إذا ورد وكان الحكم متعلقا باسم معقول في اللغة، وجب حمله عليه ولا ينتظر به أمر آخر، إلا أن يدل دليل على أنه لم يرد ما وضع له في اللغة، ولولا ذلك لما صح التعلق بشئ من الخطاب، لأنه يجوز أن يراد بكل خطاب غير ما وضع له، ولا مخص من ذلك إلا بأن يقال لو اريد به غير ما وضع له ليبين، وذلك بعينه موجود في ألفاظ العموم، ولا يلزمنا مثل ذلك في قوله (اقيموا الصلاة) (3) لأنا قد علمنا أنه لم يرد بذلك ما وضع له في اللغة، فلذلك وقف على البيان. والذي يبين أيضا ما ذكرناه: أن ما خص بالإستثناء إنما يصح التعلق به لما قدمناه من أن ما عدا الإستثناء يمكن أن يعلم به، وإن كان الإستثناء قد صيره مجازا على ما دللنا عليه فيما مضى، فيجب مثل ذلك في كل عموم خص بدليل وإن كان منفصلا. ويدل على ذلك أيضا: أنه لو كان من شرط صحته التعلق بألفاظ العموم أن لا يكون قد خصت، أو أن لا يحتاج إلى معرفة أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها، أدى إلى ألا يصح التعلق بشئ من ألفاظ العموم، لأنه ليس هاهنا شئ من ألفاظ العموم إلا وهو إما مخصوص، وإما أن يحتاج إلى أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها، وذلك يؤدي


(1) التوبة: 5. (2) البقرة: 43. (3) البقرة: 43.


[ 428 ]

إلى بطلان ما تعلقت الصحابة ومن بعدهم به، ألا ترى أن أمير المؤمنين عليه السلام تعلق بقوله: (وأن تجمعوا بين الاختين) (1) في تحريم الجمع بين المملوكتين، وكذلك تعلق بقوله: (أو ما ملكت أيمانكم) (2)، ومن ثم قال: ” أحلتهما آية وحرمتهما اخرى ” (3)، وكذلك حكي عن عثمان (4). وتعلق ابن عباس بقوله: (وأمهاتكم اللاتي أرضعتكم وأخواتكم من الرضاعة) (5) حتى رد خبر ابن الزبير (6) لأجله وقال: ” إن قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير ” (7) وغير ذلك مما لا يحصى كثرة. وإن كان جميع ذلك يحتاج إلى بيان أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها، وقد جعل مجازا بدخول التخصيص فيه، فعلم بذلك أن صحة التعلق بألفاظ العموم صحيح و إن كان مخصوصا.


(1) النساء: 23. (2) النساء: 3. (3) انظر: ” المعتمد 1: 268 – 167، الجامع لأحكام القرآن 5: 117، التهذيب 7: 289 ح 1251، وعلق الشيخ الطوسي عليه بقوله: ” أحلتهما آية يعني آية الملك دون الوطء، وقوله عليه السلام وحرمتهما آية اخرى يعني في الوطء دون الملك، ولاتنافي بين الآيتين ولا بين القولين “. (4) انظر: ” المعتمد 1: 268، الجامع لأحكام القرآن 5: 117، المحلى 9: 522 “. (5) النساء: 23. (6) روى الترمذي في سننه بسنده عن عبد الله بن الزبير: [ (عن عائشة) أو (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) أو (عن الزبير) ] أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” لا تحرم المصة ولا المصتان “. سنن الترمذي باب 3 كتاب الرضاع، ح 1150، وأخرجه أيضا مسلم في باب 17 كتاب الرضاع، ح 117، وأبو داود في سننه: باب 10، كتاب النكاح، ح 2. قال القرطبي في تفسيره (5: 111): ” وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والاملاجتين لا يثبت لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومرة يرويه عن عائشة ومرة يرويه عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه “. (7) المعتمد 1: 269.


[ 429 ]

وأما من نصر خلاف ما ذهبنا إليه، فقد حكى عبد الجبار (1) عن أبي عبد الله البصري: ” أنه ربما جمع بين قوله: (والسارق والسارقة) (2)، وبين قوله: (واقتلوا المشركين) (3)، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” الجار أحق بصقبه ” (4) ” وفيما سقت السماء العشر ” (5) في امتناع التعلق بظاهرها مرة، وربما فرق بينهما اخرى، ويقول عند الفصل بينهما: ” إن العشر متعلق بما سقته السماء، والذي يحتاج إلى بيانه صفة الأرض لا صفته، فهو كالحاجة إلى بيان صفة المخاطب في أنه لا يمنع من التعلق بالظاهر. وأما (السارق والسارقة) (2)، فالحاجة إنما هي إلى بيان صفته، فهو كالحاجة التي يتعلق القطع بها من اعتبار القدر وغير ذلك، فلذلك امتنع التعلق بالظاهر. ويقول: الصفة المتعلق بها في الشرك هي في إسقاط قتله لا في إثبات قتله، والصفة المتعلق بها في السارق هي في إثبات قتله، فلذلك افترقا. وربما يقول في الجميع: إن التعلق بظاهره لا يمكن، وإن الواجب ألا يعترض على الاصول بالفروع، بل يجب بناؤها عليه “. (6) وهذه ألفاظه بعينها ذكرناها. وقد قلنا في هذه الأمثلة ما عندنا وقلنا ” في أن قوله: (والسارق والسارقة) (2)،


(1) أي القاضي عبد الجبار المعتزلي. (2) المائدة: 38. (3) التوبة: 5. (4) كنز العمال 7: ص 7 رقم 17700. الصقب: القرب والملاصقة، ويرى بالسين والمراد به الشفعة. (النهاية 30 / 41 غريب الحديث 1: 337). (5) كنز العمال 7: 328 رقم 15880. (6) لخص أبو الحسين البصري (المعتمد: 1 / 266 – 265) مذهب أبي عبد الله البصري الملقب بالجعل بقوله: ” قال الشيخ أبو عبد الله: إن كان المخصص والشرط قد منعا من تعلق الحكم بالإسم العام وأوجبنا تعلقه بشرط لا يبتنئ عنه الظاهر، لم يجز التعلق به عنه. وإن لم يمنعا من تعلقه بالإسم العام فإنه يصح التعلق به… “.


[ 430 ]

وقوله: (اقتلوا المشركين) (1)، أن القطع يتعلق بنفس السرقة، وإنما يحتاج إلى بيان مراعاة الصفات والشروط فيمن لا يجب ذلك، وجرى ذلك مجرى قوله: (اقتلوا المشركين) وأن القتل يتعلق بالشرك، وإنما يحتاج أن يبين صفة من لا يجب قتل من أهل الكتاب وغيرهم من النساء والصبيان. فأما قوله ” الجار أحق بصقبه ” فالأولى فيه أيضا أن يحمل على عمومه في كل شئ إلا ما يخرجه الدليل، وذلك يجري مجرى ألفاظ العموم، وكذلك قوله: ” وفيما سقت السماء العشر ” (3) عام في جميع ذلك، فإن دل الدليل على وجوب اعتبار صفات في الأرض، قلنا به وخصصناه منه وبقينا الباقي على عمومه. وكلما يرد من هذه الأمثلة يجري هذا المجرى، والطريقة واحدة في الكلام عليه


(1) التوبة: 5. (2) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (4) صفحة 429 (3) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (5) صفحة 429


[ 431 ]

فصل [ 6 ] ” في ذكر وقوع البيان بالأفعال ” (1) ذهب الفقهاء بأسرهم، والمتكلمون إلى أن البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول (1). وقال بعض المتأخرين: إن البيان لا يقع بالفعل (1). والذي يدل على صحة مذهب الأول أشياء: منها: أنه إذا كان الفعل مما يقع به التبيين كما يقع بالقول، فينبغي أن يجوز وقوعه، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول: ” صلوا صلاة أوجبها الله عليكم “، ثم يبين صفتها وكيفيتها بالقول، وبين أن يقوم فيصلى، في أنه يقع في الحالين التبيين على حد واحد. ولو قيل: أن التبيين يقع بالفعل آكد مما يقع بالقول، لكان ذلك سائغا (2)،


(1) وهو أن يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض ما دخل تحريمه في العموم، ويدل ذلك الفعل على تخصيص العموم، ولا خلاف في حكم هذا الفعل البياني، وأن البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول، وعليه إجماع الجمهور الأكبر من الاصوليين والفقهاء – من العامة والخاصة – ولم يخالفهم إلا طائفة شاذة حيث نسب لأبي إسحاق الإسفراييني وأبي الحسن الكرخي. انظر: ” التبصرة: 247، الذريعة 1: 339، الأحكام لآمدي 3: 25، المعتمد 1: 313 – 312، روضة الناضر: 163، شرح اللمع 1: 379، اصول السرخسي 2: 27، المنخول: 66 “. (2) في الأصل: شائعا.


[ 432 ]

ولأجل ذلك رجعت الصحابة في بيان صفة الوضوء إلى كيفية فعل النبي (1) صلى الله عليه وآله، فمن دفع وقوع البيان بالأفعال كان مبعدا، فلا فرق بين قوله في ذلك، وبين من دفع ثبوت الأحكام بالأفعال، وفي ذلك خروج عن الإجماع. فإن قال: أليس من حق بيان الكلام أن يكون متصلا به أو في حكم المتصل به، ولا يصح في الفعل مع الوقف، فكيف يصح أن يكون بيانا له ؟ قيل له: لا نسلم أن من حق البيان أن يكون متصلا بالكلام على كل، حال بل يجوز عندنا ان يتأخر البيان عن حال الخطاب إذا لم يكن الوقت وقت الحاجة على ما نبينه (2)، فعلى هذا يصح ان يتأخر البيان ويقع بالفعل، ومتى فرضنا أن الوقت وقت الحاجة، فذلك أيضا لا يمنع من وقوع البيان بالفعل، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول: ” صلوا إذا زالت الشمس صلاة أوجبها الله عليكم ” فإذا زالت الشمس بينها وبين كيفيتها وصفاتها، وبين أن يقوم عند الزوال فيصلي صلاة، فإنا نعلم به بيان تلك الصلاة بفعله كما نعلم بقوله لو بينها به. وليس يلزم من حيث كان الفعل لا يقع إلا في زمان ممتد أن يمنع ذلك من وقوع البيان به كما يمنع ذلك في القول، لأن البيان بالقول أيضا يمتد الزمان فيه كما يقع بالقول الذي لا يمتد الزمان فيه من وجيز الكلام، فليس امتداد أحدهما إلا كامتداد الآخر، وإن كان أحدهما أكثر والآخر أقل. فإن قيل: كيف يعلم تعلق الفعل بالمبين حتى يعلم أنه بيان له ؟، مع تجويز أن يكون ذلك الفعل وقع ابتداء لا بيانا لما تقدم، [ و ] في هذا ارتفاع التبيين به. قيل له: إذا خاطب بالمجمل، ولم يكن الوقت وقت الحاجة، جاز أن يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم: ” ابين صفة ما أو أجبت عليكم بالفعل “، فإذا جاء


(1) وهو المشهور بالوضوءات البيانية، انظر: ” الكافي 3: 24 أو 25 6 3 ح 4 و 5، التهذيب 1: 55 ح 157 و 1: 56 ح 158، الإستبصار 1: 57 ح 168، شرح معاني الآثار 1: 35، المصنف لعبد الرزاق 1: 21 ح 61، وغيرها من الأحاديث البيانية الواردة في أبواب الوضوء من المجاميع الروائية “. (2) انظر كلام المصنف في صفحة 450.


[ 433 ]

وقت الحاجة فعل فعلا يمكن أن يكون بيانا له، فإنا نعلم بذلك بيان ما خاطبنا به أولا. وإن كان الوقت وقت الحاجة، ففعل عقيب الخطاب فعلا يمكن أن يكون بيانا له، فإنا نعلم به المراد، ونعلم انه متعلق به، لأنه لو لم يكن متعلقا به لكان قد أخلى خطابه من بيان مع الحاجة إليه، وذلك لا يصح، ولهذا قلنا إنه لا فرق بين أن يقول: ” صلوا صلاة الساعة ” ثم يتبعها بالقول، وبين أن يقوم فيصلى عقيب هذا القول صلاة، فإنا نعلم تلك الصلاة بيانا لما قدم القول فيه، ولا فرق بين الموضعين. فإن قيل: إذا قلتم: إنه لا يمتنع أن يقول لنا: ” إذا خاطبتكم بالمجمل وفعلت بعده فعلا فاعلموا أنه بيان له “، فقد عدتم إلى أن البيان حصل بالقول ودون الفعل. قيل له: ليس الأمر على ذلك، بل البيان لا يقع إلا بالفعل في الموضع الذي ذكروه، وإنما يعلم بقوله تعلق فعله بالقول المجمل، وأما بيان صفته فإنه يحصل بالفعل دون القول على ما بيناه. ويدل على ذلك أيضا: رجوع المسلمين بأجمعهم في عهد الصحابة ومن بعدهم في بيان صفة الصلاة، والحج، والطهارة، إلى أفعال النبي (1) عليه السلام وتبينوا بذلك قوله تعالى: (أقيموا الصلوة) (2) و (لله على الناس حج البيت) (3)، فلولا أنهم علموا أن ذلك يقع به البيان، وإلا لم يجز الرجوع إليه. ويدل أيضا على ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحابه: ” صلوا كما رأيتموني اصلي ” (4) و ” خذوا عنى مناسككم ” (5) فأحالهم في بيان (1) صلى الله عليه وآله وسلم. (2) البقرة: 43. (3) آل عمران: 97. (4) المعتبر 2: 227، بحار الأنوار 85: 279، صحيح البخاري: ب 18 كتاب الأذان ح 27، مستند أحمد 5: 53، السنن الكبرى 2: 345. (5) السنن الكبرى 5: 125، ورواه أيضا مسلم عن جابر، والنسائي بلفظ ” يا أيها الناس خذوا عني مناسككم “.


[ 434 ]

ذلك على أفعاله، فلولا أن البيان واقع بها وإلا لم يجز أن يحيلهم عليها. وقد يبين الفعل بالفعل، كما يبين به القول، نحو أن يقنت النبي عليه السلام في الفجر وغيره من الصلوات (1)، ثم نراه يتركه في تلك الصلاة، فيعلم بذلك أنه لم يكن واجبا، لأنه لو كان واجبا لما تركه على حال، ونحو جلسته إلى الركعة الثانية تارة وتركها لها اخرى (2)، فإن ذلك يدل على أنها لم تكن واجبة. وقد يدل تركه للشئ على حالة له اخرى، نحو أن يترك الصلاة في وقت مخصوص، فإن ذلك يدل على أنها ليست بواجبة، فإن كان قد تقدم دليل يدل على وجوبها في ذلك الوقت، فإن تركه لها في ذلك الوقت يدل على أنها قد نسخت أو خصت. ومتى حدثت حادثة ولم يبين الحكم فيها، فإن ذلك يدل على أنها باقية على حكم العقل، لأنه لو كان لها حكم شرعى لبينه أو نبه عليه، فإذا (3) ترك النكير على من أقدم بحضرته على فعل ولم يتقدم منه بيان لقبحه، دل على أنه ليس بقبيح. فعلى هذه الوجوه تعتبر أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم، لا بأعيان المسائل. ومتى حصل قول وفعل يمكن أن يكون كل واحدا منهما بيانا للمجمل وجب العمل بالقول، لأنه إنما نلتجئ إلى الفعل ونجعله بيانا للمجمل عند الضرورة، فأما مع وجود البيان بالقول فلا حاجة بنا إلى ذلك. والبيان من حقه أن يكون في حكم المبين، فإن كان المبين واجبا كان بيانه واجبا، وإن كان ندبا كان بيانه ندبا، وإن كان مباحا كان بيانه مباحا، ولأجل ذلك نقول: إن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كانت بيانا لجملة واجبة كانت واجبة، وإذا كانت بيانا لجملة مندوب إليها كانت كذلك.


(1) سنن الترمذي: باب 294 و 295 من أبواب الصلاة. (2) سنن الترمذي: باب 213 و 214 من أبواب الصلاة. (3) وإذا.


[ 435 ]

والمجمل على ضروب: منها: ما يكون لازما لجميع المكلفين، فما هذا حكمه يجب أن يكون بيانه في حكمه في الظهور، وذلك مثل الصلاة والطهارة وما أشبههما. ومنها: ما يختص بفرضه الأئمة عليهم السلام فينبغي أن يكون للأئمة طريق إلى العلم بها، ولا يجب ذلك في غيرهم. ومنها: ما يختص بالعلماء، فينبغي أن يكون لهم طريق إلى معرفته. وقد أجاز من خالفنا، وقوع البيان بخبر الواحد والقياس، كما أجازوا العمل بهما (1). وعندنا أن ذلك غير جائز على ما بينا القول فيه (2). فأما على المذهب الذي اخترناه (2) من العمل بالأخبار التي تنقلها الطائقة المحقة، فإنه لا يمتنع العمل بها في بيان المجمل، ولذلك رجعت الطائفة في كثير من أحكام الصلاة، والوضوء، وأحكام الزكاة، والصوم، والحج إلى الأخبار التي رووها ودونوها في كتبهم واصولهم. ومن قال من أصحابنا: أنه لا يجوز العمل بها إلا إذا كانت معلومة، ينبغي أن يقول: لا يقع بها البيان أصلا، وهذا خلاف ما عليه عمل الطائفة على ما بيناه (2). وهذه جملة كافية في هذا الباب


(1) راجع تفصيل الأقوال في صفحة 97 فصل (4). (2) انظر استدلال المصنف في صفحة 100.


[ 436 ]

فصل [ 7 ] ” في ما الحق بالمجمل وليس منه، وما اخرج منه وهو داخل فيه ” ذهب أبو عبد الله البصري وحكاه أبو الحسن الكرخي إلى أن قوله: (حرمت عليكم امهاتكم) (1) الآية، وقوله: (حرمت عليكم الميتة) (2) وما أشبههما من الآيات التي علق التحريم فيها بالأعيان مجمل (3). وذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن ذلك مفهوم من ظاهره وليس بمجمل (4)، وإن كان أبو هاشم ربما ذكر أن ذلك مجاز. والصحيح هو القول الأخير. وشبهة من ذهب إلى القول الأول هي أن قال: إن ما يعلق التحريم من الأفعال في الأعيان إذا لم يكن مذكورا في الظاهر لم يجز التعلق بظاهره، فإن ذلك يكون


(1) النساء: 23. (2) المائدة: 3. (3) انظر ” المعتمد 1: 307، الأحكام لآمدي 3: 12، التبصرة: 201، شرح اللمع 1: 458 “، وهو أيضا مذهب بعض الشافعية. (4) المعتمد 1: 307، التبصرة: 201، شرح اللمع 1: 458، الأحكام لآمدي 3: 112 ” وهذا المذهب مختار القاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، وإبي إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والغزالي، والرازي، والبيضاوي، وجماعة من الأحناف.


[ 437 ]

مجازا، وجرى مجرى قوله: (واسئل القرية) (1) وأراد أهلها. وهذا الذي ذكروه غير صحيح ولا شبهة فيه، وذلك أن التحليل والتحريم وإن استحال تعلقهما بالأعيان من حيث كانت موجودة كافية لا يصح وقوعها، ولا هي في مقدورنا فيصح أن نتعبد بها، وإنما ينصرف إلى الفعل الذي يصح ان يقع منا، فقد صار بعرف الشرع يستعمل في الأعيان ويراد به الأفعال فيها، وقد بينا فيما مضى (2) أن الإسم إذا انتقل عن أصل الوضع إلى عرف الشرع وجب حمله على ما يقتضيه عرف الشرع، لأن ذلك صار حقيقة فيه، ألا ترى إنه إذا قال: (حرمت عليكم امهاتكم) (1) لا يسبق إلى فهم أحد تحريم الذوات، وإنما يفهم من ذلك تحريم الوطء والعقد لا غير، ولا فرق بين من دفع ذلك وبين من دفع أن تكون لفظة ” الغائط ” منتقلا عما وضع له في اللغة، ويتوصل بذلك إلى أن قول القائل: ” أتيت الغائط ” لا ينبئ عن الحدث المخصوص، والمعلوم خلاف ذلك. وإذا ثبت ذلك صار لفظ ” التحريم ” إذا علق بالعين فهم منه تحريم الفعل فيها، فصار كفحوى الخطاب الذي يدل على الشئ وإن لم يتناوله لفظا. ولا فرق بين من دفع الإستدلال بظاهر قوله: (حرمت عليكم الميتة) (4) على تحريم الفعل فيها، وبين من دفع الإستدلال بقوله: (ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما) (5) على تحريم ضربهما وشتمهما. وليس لهم أن يقولوا: لو كان أمره على ما ذهبتم إليه لما اختلفت فائدة مفهوم ذلك، ألا ترى أن قوله: (حرمت عليكم امهاتكم) (3)، التحريم يتناول هاهنا العقد


(1) يوسف: 82. (2) انظر بيان المصنف في صفحة 54 و 55. (3) النساء: 23. (4) المائدة: 3. (5) الإسراء: 23.


[ 438 ]

والوطء، وليس كذلك في قوله: (حرمت عليكم الميتة) (1)، بل المراد هاهنا غير المراد هناك، وذلك أنه لا يمتنع أن يتعارف استعمال التحريم المعلق بالعين في اعيان مختلفة بحسب ما جرت العادة بفعلها في الأعيان، ويتعارف عن تحريم الامهات الإستمتاع، ومن تحريم الميتة الأكل، لأن اللفظة الواحدة لا يمتنع ان يختلف المعقول بها بحسب اختلاف ما تعلق به، ألا ترى أن النظر بالعين لا يعقل منه ما يعقل من النظر بالقلب، فلما جاز أن يختلف المعقول من النظر بحسب اختلاف ما تعلق به من العين والقلب، فكذلك القول في التحريم. وليس لأحد أن يقول: إذا كان المحرم من الامهات غير المحرم من الميتة، علم أن اللفظ لا يفيد، إذ لو أفاده لاتفق ما يفيده في الموضعين، أو يكون ذلك مجازا على ما مر في كلام أبي هاشم، وذلك أن الذي يقال في ذلك أنه مجاز في اللغة وإن كان حقيقة في العرف، كما تقول في ” الغائط ” و ” الدابة ” وما أشبههما. وذهب قوم ممن تكلم في اصول الفقه إلى أن قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) (2) الآية، وقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) (3) الآية، وغير ذلك من الآيات التي ذكر فيها المدح أو (4) الذم مجمل، وقالوا: إن القصد بها تعليق الذم بالفعل المذكور فيها أو المدح لا بيان الحكم بها وتفصيله، فالتعلق بها في الحكم وفي شروطه لا يصح (5).


(1) المائدة: 3. (2) المؤمنون: 5. (3) التوبة: 34. (4) و. (5) أقول: نسب أبو إسحاق الشيرازي في (التبصرة: 193)، (وايضا الشريف المرتضى (في الذريعة 1: 345) هذا القول إلى بعض أصحابه من الشافعية دون أن يسميهم، إلا أن الآمدي (الأحكام 2: 485 م 25) نسبه إلى الشافعي حيث قال ” اللفظ العام إذا قصد به المخاطب الذم أو المدح كقوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) الآية، نقل عن الشافعي أنه منع من عمومه حتى أنه منع من التمسك به في وجوب زكاة الحلي، مصيرا منه إلى أن العموم لم يقع مقصودا في الكلام وإنما سيق لقصد الذم والمدح مبالغة في الحث


[ 439 ]

وذهب أكثر من تكلم في اصول الفقه إلى خلاف ذلك، وقالوا: إن ذلك عموم (1)، وهو الصحيح. والذي يدل على ذلك: أن القصد إلى الوعيد والذم لا يمنع من القصد إلى الحكم وبيانه، فكيف يصح أن يتعلق في بطلان التعلق به ما ذكروه من أن القصد به الوعيد، ولا فرق بين من قال ذلك، وبين من قال: إن الآية إذا قصد بها الزجر لا يصح أن يبين الحكم بها، فيتوصل بذلك إلى إبطال التعلق بآية السرقة والزنا وغير ذلك. وهذا بعيد من الصواب. وأيضا: فإن ذكر الذم على الحكم المذكور يؤكد وجوبه ويقوي ثبوت ما ذكر من أوصافه، فكيف يقال إنه يخرج الآية من صحة التعلق بها ؟ وذهب قوم: إلى أن قوله: (وآمسحوا برؤسكم) (2) مجمل، وجعلوا بيانه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3). وامتنع آخرون من ذلك وقالوا: إن الباء تفيد إلصاق المسح بالرأس من غير أن


على العمل أو الزجر عنه. وخالفه الأكثرون، وهو الحق “. وقال: شارح: ” التبصرة في اصول الفقه ” ص 193 هامش (4): ” قال ابن السبكي في رفع الحاجب (1: 434 – أ) معقبا عليه: ” وهو وجه ضعيف في المذهب نقله الجلائي عن القفال. والثابت عن الشافعي والصحيح من مذهبه، العموم “. (1) إن القول بالعموم هو مختار أعيان الاصوليين بل أكثرهم وجمهورهم كالشريف المرتضى،، وأبي إسحاق الشيرازي، والآمدي، وأبن الحاجب، وأبن السبكي، والغزالي، وابن السمعاني وغيرهم. أنطر: ” التبصرة: 193، الذريعة 1: 345، الأحكام 2: 485 “. (2) المائدة: 6. (3) قال: أبو الحسين البصري (المعتمد 1: 308): ” ومن ذلك قول العراقيين [ ويقصد بهم أحناف العراق ] إن قول الله سبحانه (فامسحوا برؤوسكم) مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس، ويحتمل مسح بعضه، فإذا إحتمل كل واحد منهما بدلا من الآخر، افتقر إلى بيان، فإذا روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مسح بناصيته) كان ذلك بيانا للآية ووجب مسح ذلك المقدار من الرأس “. انظر أيضا: ” الأحكام للآمدي 3: 14، الذريعة 1: 349 – 348، اصول السرخسى 1: 228 “.


[ 440 ]

يقتضي مقدارا من المسح، فمن مسح بشئ من رأسه فقد أدى ما يوجبه الظاهر، ولا حاجة به إلى البيان (1). والذي نقوله في هذه الآية: إن الباء تفيد عندنا التبعيض – على ما بيناه فيما مضى – من أنها إنما تدخل للإلصاق إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول به بنفسه، فيحتاج إلى إدخال الباء ليلصق الفعل به، فأما إذا كان الفعل مما يتعدى بنفسه فلا يجوز أن يكون دخولها لذلك، فإذا ثبت ذلك فقوله: (وإمسحوا برؤوسكم) (2) يتعدى بنفسه، لأنه يحسن أن يقول: (إمسحوا رؤسكم) فيجب أن يكون دخولها لفائدة اخرى وهي التبعيض، إلا أن ذلك البعض لما لم يكن معينا، كان مخيرا بين أي بعض شاء، فإن علم بدليل أنه اريد منه موضع معين لا يجوز غيره، وقف ذلك على البيان، وصارت الآية مجملة من هذا الوجه. ومن الناس من قال: إن قوله: (فاقطعوا أيديهما) (3) يقتضى قطع اليد إلى المنكب لأن ذلك يسمى يدا (4). وقال آخرون: إنه مجمل لإحتماله له ولغيره (5). وقال آخرون: إنه ليس بمجمل، لأن ” اليد ” في الحقيقة تتناول جملة العضو فيجب حمله عليها، ولو كانت تقع على العضو إلى المنكب والزند جميعا لوجب حمله على أقل ما يتناوله، إلا أن يدل الدلالة على خلافه، فادعاء الإجمال فيه لا


(1) وهو مذهب الشافعي، والحسن البصري، وأبي علي الجبائي، والقاضي عبد الجبار، وابن جني، والآمدي، وأبي الحسين البصري، والسرخسي وآخرون. انظر: ” المعتمد 1: 308، الأحكام للآمدي 3: 14، الذريعة 1: 349، اصول السرخسي 1: 229 “. (2) المئدة: 6. (3) المائدة: 38. (4) نسب أبو الحسين البصري في (المعتمد 1: 310) هذا القول إلى بعض الأحناف العراقيين. انظر أيضا: ” الذريعة 1: 350، الأحكام للآمدي 3: 19 “. (5) وهذا المذهب كختار الشريف المرتضى في (الذريعة 1: 350) حيث ذهب إلى إجمال الآية، لأن اليد تقع على العضو بكامله وتقع على أبعاضه. (*)


[ 441 ]

يصح (1). والوجه الآخر أقرب إلى الصواب. وذهب قوم: إلى أن قول القائل: (أعط فلانا دراهم) مجمل، لأنه يمكن أن يراد به أكثر من ثلثة. وقال آخرون: إن هذا غلط، لأن تجويز ذلك لا يمنع من أن يكون ظاهره يقتضى ما قلناه، فسبيل هذا القائل كسبيل من قال: إن لفظ الخاص مجمل، لجواز أن يراد به العام. وهذا الوجه أقرب إلى الصواب. وذهب قوم: إلى أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” في الرقة ربع العشر ” (2) إنما يدل على وجوب ربع العشر في هذا الجنس، ويحتاج إلى بيان القدر الذي يؤخذ منه ذلك (3). وقال آخرون: إن ذلك ليس بمجمل، لأن ظاهره يقتضي ربع العشر في الجنس كله، فلا معنى للتوقف في ذلك، فلولا قوله عليه السلام (4): ” ليس فيما دون خمسة أواق صدقة ” (5) مخصصا به ذلك العموم، لكان يجب حمله على ظاهره (6)، وهذا هو الصحيح دون الأول. وذهب قوم: إلى أن ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ” لا صلاة إلا


(1) وهذا مذهب أبي الحسين البصري في (المعتمد 1: 310)، انظر أيضا: ” الأحكام للآمدي 3: 19 “. (2) جامع الاصول 4: 594، الرقة: هي الدراهم المضروبة. (3) الذريعة (1: 347) حيث نسب هذا القول إلى (قوم) دون أن يسميهم. (4) صلى الله عليه وآله وسلم. (5) كنز العمال 6: 15870، جامع الاصول 4: 587، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 5: 117 – 119. (6) الذريعة 1: 348 – 347.


[ 442 ]

بفاتحة الكتاب ” (1) ” ولا صلاة إلا بطهور ” (2)، ” ولا نكاح إلا بولي ” (3)، مجمل، وقالوا: إن حرف النفى لا يصح أن يكون داخلا على الفعل مع صحة وقوعه عاريا من هذه الشروط، فيجب أن يكون داخلا على الحكم، والحكم قد يكون الأجزاء، وقد يكون للتمام والفضل، لأنه قد يقال: (لا صلاة كاملة الا بفاتحة الكتاب)، كما يقال: (لا صلوة لجار المسجد إلا في مسجده) (4) وأراد بذلك ما قلنا من نفي الفضل، ولم يرد نفي الأجزاء بالإتفاق، ويمكن أن يريد: (لا صلوة مجزية إلا بفاتحة الكتاب) وإذا لم يكن في اللفظ تصريح بأحديهما وجب أن تكون الآية مجملة. قالوا: ولا يصح حمله على المعنيين معا، لأن نفى التمام والفضل يقتضي حصول الإجزاء، ونفى الإجزاء يقتضي أنه لم يحصل ذلك، وذلك ينافي أن يراد بعبارة واحدة (5). وذهب عبد الجبار بن أحمد (6) إلى أن ذلك ليس بمجمل وقال: ” لأن حرف النفي يدخل في الفعل الشرعي، وما يقع منه مع عدم الشرط المذكور لا يكون شرعيا فكأنه قال: ” لا صلوة شرعية إلا بطهور “، فإذا وقعت من غير طهور لم تكن شرعية، فحرف النفي قد استعمل في الحقيقة فيما دخل فيه. لكن ما ذكرناه إنما يصح إذا دخل حرف النفي في الفعل الشرعي، فإما إذا حصل فيما عداه فيجب أن ينظر فيه، فإن دخل على الحكم في الحقيقة قضى بنفيه


(1) الحديث رواه أصحاب المسانيد والسنن، انظر: ” البخاري، كتاب الصلاة 94، مسلم 4: 100، الترمذي 247، أبو داود 822، النسائي 2: 106، ابن ماجه 837،. ” (2) السنن الكبرى 2: 255. (3) الحديث رواه أحمد بن حنبل، والدارقطني، والبهيقي في العلل، ونسبه السيوطي لأبي داود، والترمذي، والنسائي ئابن ماجه. (4) كنز العمال: 7 / 20737، المستدرك على الصحيحين: 1 / 246 (5) وهذا المذهب مختار أبي عبد الله البصري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وبعض الشافعية كما نسبه إليهم أبو إسحاق الشيرازي. انظر: ” التبصرة: 203، المستصفى 1: 345، الأحكام للآمدي 3: 17 “. (6) هو القاضي عبد الجبار المعتزلي.


[ 443 ]

إذا لم يحصل الشرط المذكور وإن دخل على الفعل، والمعلوم من حاله أنه يقع فعلا صحيحا مع عدم الشرط، فيجب أن يكون مجملا على ما ذكروه. وكذلك لا يصح التعلق بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنما الأعمال بالنيات ” (1) لأنه إذا دخل حرف الشرط على الفعل الذي يصح وقوعه وإن خلا منه، فيجب أن يسند إلى غيره إذا احتج به “. هذه ألفاظه بعينها ذكرها في كتابه ” العمد ” (2) وهي قريبة إلى الصواب. فأما ما الحق بالعموم وهو من المجمل: فنحو ما يتعلق به أصحاب الشافعي بقوله تعالى (أقيموا الصلاة) (3) في وجوب الصلوة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التشهد الأخير، وتقول إن ذلك دعاء، وإن هذه اللفظة حقيقة فيه (4). وهذا بعيد من الصواب، لأن لفظة ” الصلوة ” وإن كانت موضوعة للدعاء في


(1) وسائل الشيعة: باب 5 أبواب مقمة العبارات، كنز العمال 3: 793 رقم 8779 (2) انظر هامش رقم (2) صفحة 502 (3) البقرة: 43 (4) يعتقد أصحاب الشافعي أن ألفاظ الوضوء، والصلاة،. الزكاة، والصوم، والحج، أسماء منقولة من اللغة إلى معن وأحكام شرعية مستحدثة مخترعة، بناء على ذلك إذا وردت هذه الألفاظ مطلقة وبدون تعيين لمعانيها تصير مجملة فلا يعرف المراد منها ولا تحمل على معانيها المستحدثة إلا بالبيان من جهة الشرع. وهذا المذهب مختار جمهور أهل السنة من الاصوليين والفقهاء كالجويني، والشيرازي، والغزالي، والآمدي، والرازي، وابن الحاجب، وإليه ذهبت المعتزلة والخوارج. وذهب آخرون إلى إنكار نقل الأسماء إلى معاني مخترعة شرعية، وقالوا لم ينقل شئ من ذلك وإنما ورد الشرع بشرائط وأحكام مضافة إلى ما وضع له اللفظ في اللغة، وهذا مذهب الأشاعرة المرجئة، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني وتابعه على ذلك أبو نصر القشيري. انظر: ” التبصرة: 191 و 195، الابهاج 1: 181، الذريعة 1: 357 – 355، روضة الناظر: 154 – 153 المعتمد 1: 18، المنخول: 73 – 70، المستصفى 1: 146، الاحكام لابن حزم 1: 37 – 32، ميزان الاصول 1: 539 – 538، شرح اللمع 1: 464، الاحكام للآمدي 3: 22 – 21 “.


[ 444 ]

أصل اللغة، فقد صارت بعرف الشرع موضوعة لأفعال مخصوصة، فالتعلق بذلك فيما وضعت في أصل اللغة لا يصح لما قدمناه. ومن ذلك أيضا: حملهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” من رعف في صلاته فليتوضأ ” (1) على غسل اليد. وهذا أيضا يصح، لأن الوضوء صار بعرف الشرع عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة ومسحها، وإنما يمكن حمل اللفظ على غسل العضو إذا علم بدليل أن الرعاف لا ينقض الوضوء، فحينئذ يصرف عن ظاهره ويحمل على موجب اللغة، كما تصرف ألفاظ كثيرة عن حقيقتها إلى ضرب من المجاز لقيام دليل على ذلك ومن ذلك تعلقهم بقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (2) في أن الرقبة الكافرة لا تجزي في الظهار، وينبغي أن تكون مؤمنة، لأن الكافرة خبيثة (3). وهذا أيضا لا يصح، لأن المعني بقوله: (ولا تيمموا الخبيث) أي لا تقصدوا إلى الإنفاق من الخبيث، فالقصد متعلق بالإنفاق، والعتق ليس من الإنفاق في شئ، يبين ذلك أن قوله بعد ذلك: (منه تنفقون) كون المنفق منه (4) من بعض ما وصفه بأنه خبيث، وذلك لا يتأتى في العتق، وكذلك قوله: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) (5) إشارة إلى ما تقدم ذكره. وكل ذلك لا يصح في العتق، فالتعلق به لا يصح. ومن ذلك تعلقهم بقوله: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) (6) في أن المؤمن لا يقتل بكافر، لأن نفى الإستواء إذا اطلق فيما قد ثبت بالدليل أنه متماثل


(1) كنز العمال 7: 492 رقم 19933. (2) البقرة 267. (3) انظر: ” الذريعة 1: 358 – 357 “. (4) في النسخة الثانية: يدل على كون النهي عن الإنفاق من بعض ما… (5) البقرة: 267. (6) الحشر: 20.


[ 445 ]

في الذات إنما يعني به في بعض أوصافه، فهو إذا مجمل (1). ومتى عقب الكلام بشئ فرق بينهما فيه، وجب حمل أوله عليه، وقد ذكر في آخر الآية قوله: (أصحاب الجنة هم الفائزون) (2) فينبغي أن يكون المراد نفي الإستواء في الفوز بالجنة. ومن ذلك اعتراض من اعترض على قوله عليه السلام: ” لا يقتل مؤمن بكافر ” (3) وحمل ذلك على الكافر الحربي لما عطف عليه من قوله: ” ولا ذو عهد في عهده ” فجعل هذا المعطوف عليه مؤثرا في التعلق بما تقدم. وهذا لا يصح، لأن الجملة الاولى لا يمتنع حملها على ظاهرها وإن خص بعضها بالذكر في الثاني، وأكثر ما في ذلك أن يكون عليه السلام قال: ” ولا ذو عهد في عهده يقتل بكافر “، ولو قال ذلك لم (4) يمتنع دخول جميع الكفار تحت قوله: ” لا يقتل مؤمن بكافر “. ولو قال قائل: ” لا يقتل عربي بعجمي، ولا البالغ من العجم بالأطفال ” لم يوجب تخصيص الكلام الأول. فأما التعلق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” رفع عن امتي الخطأ والنسيان ” (5)،


(1) نسب الشريف المرتضى في (الذريعة 1: 358) هذا القول لأصحاب الشافعي. (2) الحشر: 20. (3) نحوه في وسائل الشيعة: ص 435 رقم 47 أبواب قصاص النفس، كنر العمال 4: ص 435 رقم 11289. (4) لا. (5) كنز العمال 4: ص 435 رقم 11289، رواه الطبراني، والنووي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني في المستدرك. الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب ما رفع عن الامة ح 2، من لا يحضره الفقيه 1: 36 ب 14 ح 4.


[ 446 ]

فلا يصح، لأن المرفوع غير مذكور، ولا جرت العادة باستعمال هذه اللفظة في حكم خطأ مخصوص، وإنما يمكن التعلق به بأن يقال: لا يصح أن يكون نفس الخطأ والنسيان مرفوعا، وذلك محال مع وقوعه، أو يكون المرفوع العقاب والثواب، وذلك معلوم عقلا (1). فالواجب: حمل الكلام على رفع أحكام الدين لأن قول النبي صلى الله عليه وآله إذا أمكن حمله على ما يستفاد من جهته، كان أولى من حمله على ما قد علم بالعقل. وهذه الجملة تنبه على ما عداها، فينبغي أن يتأمل ليقاس عليها غيرها. وجملة القول في ذلك: أن ما يتعلق به من الخطاب إنما يصح التعلق به إن كان اللفظ في أصل الوضع يفيد ما يتعلق به فيه، أو فحواه، أو دليله أو يعلم (2) من حال المخاطب أنه لا يخاطب بمثله إلا ويريد ذلك به، وإلا خرج خطابه من أن يكون مفيدا، أو يفيد بالعرف ما استعمل فيه، أو بالشرع، فمتى خرج من هذه الوجوه لم يصح التعلق به، وإنما يختلف حال الخطاب ومواقعه، فربما لطف (3) الوجه الذي لأجله لا يصح التعلق به، وربما ظهر، فالواجب للسامع أن يجتهد في البحث عنه، فإنه لن يعدم الوقوف على ذلك إذا كان قد ضبط الاصول في هذا الباب.


(1) قال أبو عبد الله البصري وأبو الحسين والقاضي أبو بكر الباقلاني – كما نسبه الغزالي في المستصفى – وبعض الشافعية: إن هذا الحديث مجمل إذ لا يعقل أن يكون المقصود من رفع الخطأ والنسيان حقيقتهما لوقوعهما من الامة بالضرورة، ولا الإثم إذ لا مزية لهذه الامة على سائر الامم، فإذا يكون الموضوع هو أحكام الخطأ، ومثل هذا المعنى المضمر بحاجة إلى البيان لعدم دلالة لفظ الحديث عليه فيصير مجملا. انظر: ” المعتمد 1: 310، الأحكام للآمدي 3: 15، اصول السرخسي 1: 251، المستصفى 1: 345، التبصرة: 203، شرح اللمع 1: 463، روضة الناظر: 162 “. (2) ويعلم. (3) اللطيف من الكلام: ما غمض معناه وخفي [ لسان العرب: 12: 283 ].


[ 447 ]

فصل [ 8 ] ” في ذكر جواز تأخير التبليغ (1)، والمنع من جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ” (2) ذهب كثير من الناس إلى أن تأخير التبليغ لا يجوز، ثم افترقوا: فمنهم: من حمله على تأخير البيان (2). ومنهم: من تعلق في ذلك بقوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك) (3)، وقالوا أمره على الفور (2). وذهب أكثر المحصلين إلى أن ذلك يجوز (2)، وهو الصحيح. والذي يدل على ذلك: أنه إنما يجب أن يؤدى بحسب ما يتعبد به من تقديم أو تأخير، فإن تعبد بالتبليغ عاجلا وجب عليه ذلك، وإن تعبد آجلا كان مثل ذلك.


(1) تعرض العدلية المعتزلة (كأبي الحسين البصري والشريف المرتضى والشيخ الطوسي) وغيرهم لمسألة جواز تأخير التبليغ من النبي صلى اله عليه وآله وسلم وذهبوا إلى أن التبليغ موقوف على المصلحة التي يراها عليه السلام فإن اقتضت تقديمه تقدم، وإن اقتضت تأخيره تأخر. وذهب بعضهم إلى وجوب التبليغ وإنه لا يجوز تأخيره واستندوا بالأدلد العقلية (اللطف) والسمعية (آية التبليغ). انظر: ” الذريعة 1: 360، المعتمد 1: 315 – 314 ” الأحكام 3: 44 “. (2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 449 والمصادر الواردة فيها. (3) المائدة: 67.


[ 448 ]

فأما تعلقهم في المنع من ذلك بحمله على قبح تأخير البيان، فعندنا أن تأخير البيان يجوز عن وقت الخطاب، وإنما لا يجوز عن وقت الحاجة، وكذلك نقول في التبليغ، فسقط بذلك ما قالوه. ومن منع من ذلك في تأخير البيان فرق بينهما بأن قال: إنما قبح تأخير البيان لشئ يرجع إلى حال الخطاب، وإلى أن لا يستفاد به شئ، وذلك وجه قبح (1). فأما تأخير التبليغ فليس كذلك، لأنه إذا لم يبلغ لا يخاطب أصلا، فكيف يكون ذلك قبيحا ؟. وأيضا: فإذا جاز أن يؤخر الله تعالى خطاب المكلف إلى الوقت الذي يعلم مصلحته فيه، فكذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فأما تعلقهم بقوله: (بلغ ما انزل اليك) (2)، فإنما يقتضي وجوب التبليغ على الوجه الذي أمر به، وليس في ذلك منع من جواز التأخير (3). وأما تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا خلاف أنه لا يجوز والوجه في ذلك، أن تأخيره عن وقت الحاجة يجرى مجرى تكليف ما لا يطاق، لأنه يتعذر عليه فعل ما كلف، وذلك يمنع من صحة الأداء، لأن الأداء لا يصح إلا بعد أن يعرف المكلف ما كلف، أو يتمكن من معرفته، أو معرفة ما يجب عليه من سببه، ويصح أداؤه معه. وأما تأخير التبين عن وقت الحاجة: فجائز، لأن المكلف يجوز أن يخطأ فلا يتبين ولا يوجب ذلك قبح الخطاب، لأنه لم يؤت في ذلك من قبل المكلف، وإنما أتى من قبل نفسه، وذلك لا يقبح التكليف.


(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 449. (2) المائدة: 67. (3) انظر المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 449.


[ 449 ]

فصل [ 9 ] ” في ذكر جواز تأخير البيان عن وقت ” الخطاب، وذكر الخلاف فيه ” (1) ذهب أبو علي، وأبو هاشم، ومن تبعهما من المتكلمين، وأهل الظاهر إلى أن


(1) إن تأخير البيان تارة يكون عن وقت الحاجة إليه، واخرى عن وقت الخطاب: أما تأخيره عن وقت الحاجة: فقد إتفق الكل على امتناعه، سوى من يقول بجواز التكليف بما لا يطاق كالأشعرية. وأما تأخيره عن وقت الحاجة إليه: ففيه مذاهب عديدة عند العامة: 1 – الجواز: وهو مذهب الشافعي وعموم أصحابه، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، والمزني، وأبن سريج، وأبي سعيد الأصطخري، وأبي بكر القفال، والغزالي، وأبن السبكي، والرازي وأتباعه، والآمدي، وأبي إسحاق الشيرازي، وغيرهم. 2 – عدم الجواز: وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الأحناف، والحنابلة، والظاهرية، والمعتزلة، ومختار أبي إسحاق المروزي، وأبي بكر الصيرفي، وأبي الحسين البصري، والجبائيين أبي علي وأبي هاشم، والقاضي عبد الجبار، والقاضي أبي حامد، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي الحسن التميمي، وأبي حاتم الرازي. 3 – جواز تأخير بيان المجمل دون بيان العموم: وهو مذهب الكرخي، وبعض الشافعية، وحكي عن أبي عبد الله البصري وجماعة من الفقهاء. 4 – جواز تأخير بيان الأمر والنهي دون الخبر. 5 – جواز تأخير بيان العموم دون المجمل. 6 – جواز تأخير بيان النسخ دون غيره: وإليه ذهب الجبائيان، والقاضي عبد الجبار. 7 – جواز تأخير ما ليس له ظاهر كالمجمل دون ماله ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره كالعام.


[ 450 ]

تأخير البيان عن حال الخطاب لا يجوز، لا في العموم ولا في المجمل (1). وقال كثير من أصحاب الشافعي: إن تأخير بيان المجمل يجوز، وامتنع من تأخير البيان في العموم وسائر ما ينبئ ظاهره عن المراد به، وهو قول أبي الحسن، وكان أبو عبد الله حكى عنه جواز تأخير البيان في المجمل، وخرج على قوله الامتناع من تأخير بيان العموم (1). والذي أذهب إليه: أنه لا يجوز تأخير بيان العموم، ويجوز تأخير بيان المجمل، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهما الله (2). والذي يدل على ذلك: أن العقلاء يستحسنون خطاب بعضهم لبعض بالمجمل، وإن لم يبنوا المراد به في الحال، ألا ترى أن القائل يقول لغلامه: ” إذا كان يوم الجمعة ادخل السوق، واشتر الثياب، والفاكهة، وغير ذلك من الحوائج ما أثبته لك في رقعة ” وإن لم يكتب الرقعة في الحال، وكذلك يقول بعض الرؤساء لوكيل له: ” اخرج إلى القرية الفلانية أو البلد الفلاني وتول العمل بها، واعمل في جباية الأموال، واستخرج الحقوق ما أكتب لك به تذكرة، وأثبتها لك ” ويكون ذلك حسنا، وإن لم يكتب التذكرة في الحال، ويكون الغرض بجميع ذلك أن يعزم المخاطب وينطوي على امتثال جميع ما يأمره به ويبينه فيما بعد، وإذا كان ذلك حسنا في الشاهد وجب


والمطلق والمنسوخ: وهذا مختار أبي الحسين البصري. انظر: ” المعتمد 1: 315، التبصرة: 207، الأحكام للآمدي 3: 30، الإبهاج 2: 139، اصول السرخسي: 2 / 31 – 27، ميزان الاصول: 1 / 520 – 519، روضة الناظر: 96، المستصفى: 1 / 373، الإحكام لابن حزم 1: 83 – 81، شرح اللمع 1: 473، المنخول: 68، تقريب الوصول: 77 “. أما الإمامية: فقد ذهب الشيخ الفيد إلى ” جواز تأخير بيان المجمل إذا كان في ذلك لطف للعباد، وأما العموم فلا يجوز تأخير بيانه لأن العموم موجب بمجرده الاستيعاب فمتى أطلقه الحكيم ومراده التخصيص ولم يبين ذلك فقد أتى بألغاز ” وتابعه على ذلك الشزيف المرتضى، والشيخ الطوسي. انظر: ” التذكرة: 40 – 39، الذريعة 1: 363 “. (1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 449. (2) رحمه الله.


[ 451 ]

أن يكون حسنا في كل خطاب. فإن قيل: لو جاز أن يخاطب بالمجمل ولا يبين المراد في الحال، لجاز من العربي أن يخاطب غيره بالزنجية وإن لم يفهم منه شيئا أصلا (1). فإم قلتم: المخاطب بالزنجية لا يفهم منه شيئا أصلا، والمجمل يستفاد منه أمر ما وهو أنه مأمور، ألا ترى أنه إذا قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (2)، (وأقيوا الصلوة) (3)، وغير ذلك، فالمخاطب يستفيد أنه مأمور بأخذ صدقة من ماله وإن جهل مبلغه ووقف ذلك على البيان، وهو مكلف بالعزيمة على ذلك والانطواء عليه حتى يبين له، وكذلك في الصلاة يعلم أنه مكلف بفعل هو صلاة وعبادة، إلا أنه لا يعرف كيفية هذه العبادة، فهو منتظر بيانها، والخطاب بالزنجية بخلاف هذا كله. قيل لكم: يمكن أنه جميع ما أخرجتموه في المجمل أن يكون في الزنجية، لأن الحكيم إذا خاطب بالزنجية للعربي فلا بد أن يقطع المخاطب على أنه عليه أن يعزم على فعل ما يبين له أنه أمره، به والكف عما لعله يبين له أنه نهاه عنه، ويوطن نفسه على ذلك وتتعلق مصلحته به، فأي فرق بين الأمرين ؟ فإن فرقتم بين الأمرين بأن الفائدة بالزنجية أقل أو أشد إجمالا، جاز أن يقال لا اعتبار في حسن الخطاب بكثرة الفائدة، لأنه يحسن من الخطاب ما يخرجه من كونه عبثا، وقليل الفائدة ككثيرها. والجواب عن ذلك: أن من المعلوم قبح خطاب العربي بالزنجية كما ذكرتم، كما أن من المعلوم الذي لا يختلف العقلاء فيه حسن الخطاب بالمجمل في الموضع الذي ذكرناه، وإذا ثبت ما ذكرناه وقبح ما ذكروه، احتجنا أن ننظر في ذلك ونعلل


(1) التبصرة: 211، المعتمد 1: 316. (2) التوبة: 103. (3) البقرة: 43.


[ 452 ]

لم حسن ما ذكرناه، ولم قبح ما قالوه ؟ فلا نعلل قبح ما قالوه بعلة توجد في حسن ما ذكرناه، لأن ذلك يؤدى إلى اجتماع وجه والقبح في شئ واحد، وذلك لا يجوز، ولا نعلل أيضا حسن ما ذكرناه بعلة توجد فيما استقبحوه لمثل ذلك. وإنما قلنا ذلك: لأنا متى عللنا قبح الخطاب بالزنجية، بأنا لا نفهم بها مراد المخاطب، وجدنا ذلك فيما علمنا حسنه ضرورة من خطاب الملك الخليفة، والواحد منا لغلامه، لأن خليفة الملك ووكيل أحدنا لا يعرف من خطابه المجمل الذي حكيناه مراده الذي أحاله في تفصيله على البيان، وإن عللنا قبحه بأنه مما لا فائدة فيه، فقد بينا أنه يمكن أن يدعى فيه فائدة وأنه لا يعدو أحد أقسام الكلام المعهود، ولابد أن يكون مريدا إذا كان حكيما لبعضها، وإن عللنا حسن الأمثلة التي علمنا حسنها بأنه يفيد فائدة ما أو مما يتعلق بالمخاطب به مصلحة، بأن يعتقد ويعزم على الامتثال عند البيان، ويوطن نفسه على ذلك، فهذا كله قائم في الخطاب بالزنجية، فلابد من التعليل بما لا يقتضي قبح ما علمنا حسنه، ولا حسن ما علمنا قبحه. ويمكن تعليل قبح الخطاب بالزنجية بأنه غير مفهوم منه نوع الخطاب، ولا أي ضرب هو من ضروبه، ألا ترى أنه لا يفصل المخاطب بين كونه أمرا، أو نهيا أو خبرا، أو استخبارا، أو عرضا، أو يمينا، وفي المجمل يفصل بين هذه الأنواع والضروب، وإنما يلتبس عليه تفصيل ما تعلق الأمر به مما هو واقف به عن البيان، فهذه علة صحيحة في قبح الخطاب بالزنجية لا نجدها فيما علمنا حسنه من الأمثلة، ولا في المجمل الذي يجرى في الحسن مجراه. وإن شئت ان تقول: العلة في قبح الخطاب بالزنجية أن المخاطب لا يستفيد منه فائدة معينة مفصلة، ولابد في كل خطاب من أن يستفاد منه فائدة مفصلة، وإن جاز أن يقترن بذلك فائدة اخرى مجملة، والخطاب المجمل مستفاد منه فائدة معينة


[ 453 ]

مفصله وإن استفاد اخرى مجملة، لأنه إذا قال: (أقيموا الصلوة) (1) و (خذ من أموالهم صدقة) (2) فقد استفاد المخاطب أنه مأمور وقطع على ذلك، وأنه مأمور بعبادة هي صلاة أو صدقة، وإن شك في كيفيتها. ثم يقال لهم: كيف توجبون أن يعلم المخاطب فائدة جميع ما يخاطب به قبل زمان الحاجة، ومراد المخاطب على جهة التفصيل، وإنكم تجوزون تأخير بيان مدة الفعل المأمور به عن وقت الخطاب، ولا توجبون ذلك وهو من فوائد الخطاب ومراد المخاطب، لأنه إذا قال: ” صلوا ” فظاهر هذا القول عندكم يتناول كل صلاة وكل زمان بلا حصر، فإذا أراد بذلك مدة معينة وإلى غاية منقطعة، وأخر بيانه في حال الخطاب، فقد أراد في حال الخطاب ما لم يبينه ويفصله، وهذا من هذا الوجه نظير المجمل ومثل الخطاب بالزنجية. فإن قلتم: ليس يجب أن يبين في حالة الخطاب كل مراد له بالخطاب. قلنا: أصبتم، فاقبلوا في الخطاب بالمجمل مثل ذلك، لأن الخطاب بالمجمل يستفاد منه فائدة معينة مفصلة، وإن لم يستفد على سبيل التفصيل جميع فوائده. وإن قالوا: لا حاجة به إلى بيان مدة النسخ وغاية العبادة التي تخرج بالبلوغ إليها من أن تكون مصلحة، لأن ذلك بيان لما لا يجب أن يفعله، وهو غير محتاج إلى بيان ما لا يجب عليه أن يفعله، وإنما يحتاج في هذه الحال إلى بيان صفة ما يفعله، وكلف الإتيان به. قلنا: هذا خروج منكم عن السنن (3) الذي كنا فيه، لأنكم أوجبتم البيان للمراد كله في حال الخطاب لأمر يتعلق بحسن الخطاب، فأوجبتم قبحه متى لم يعلم المخاطب فوائده كلها على التفصيل، فلما ألزمناكم بيان مدة النسخ عدلتم إلى شئ


(1) البقرة: 43. (2) التوبة: 103. (3) السنن: هو الطريق. [ لسان العرب: مادة ” سنن ” 13: 226 ].


[ 454 ]

آخر وهو – وإن كان غير صحيح – نقض لعلتكم، وهدم لاعتمادكم، لأنكم توجبون بيان فوائد الخطاب ومراد المخاطب، لأنه يتعلق بحسن الخطاب. وإذا أجزتم تأخير بيان بعض فوائده، نقصتم اعتلالكم على كل حال وعدنا إلى أنكم قد أجزتم حسن ما هو نظير للمجمل الذي أخبرنا حسنه، لأنا لم نجز إلا تأخير بيان بعض فوائد الخطاب، ونراكم أبدا تذكرون في كتبكم أن قبح تأخير البيان لم يكن لشئ يتعلق بإزاحة علة المكلف في الفعل وإنما هو راجع إلى وقوع الخطاب على وجه يقتضي القبح، وهذا ينقض قولكم الآن أنه لا يحتاج في فعل ما كلف إلى معرفة غاية المصلحة، ويحتاج في الفعل إلى العلم بصفته، لأن هذه منكم مراعاة لما به يتمكن من إيقاع الفعل. ويجب أن يعلم أن فقد القدرة أو الآلة التي لا يقع الفعل إلا بها أقوى وأشد تأثيرا في تعذر الفعل من فقد العلم بصفته، وأنتم تجيزون خطاب من لا يقدر على الفعل ولا يتمكن منه في حال الخطاب إذا كان من يقدر في حال الحاجة، فأجيزوا تأخير بيان صفة الفعل في حال الخطاب، ولا حاجة به في هذه الحال إلى العلم بصفته، كما لا حاجة به إلى القدرة عليه والتمكن بآلات وغيرها منه ثم. ثم إنكم ليس تخلون من أن توجبوا بيان صفة الفعل المأمور به في حال الخطاب لأمر يتعلق بإزاحة العلة في الفعل، أو لأمر يرجع إلى حسن الخطاب، وأن فوائده ومراد المخاطب به إذا لم يعلم تفصيلا في وقت الخطاب قبح: فإن كان الأول، لزم عليه أن يكون في حال الخطاب قادرا متمكنا، وليس توجبون ذلك. وإن كان الثاني، فغاية الفعل من مراد المخاطب ومقصوده من الخطاب، ومع ذلك فلم يبينها في حال الخطاب، وإذا جاز أن لا يبين بعض المقصود ولا يكون الخطاب قبيحا، جاز في المجمل مثل ذلك بعينه. ومما يمكن أن يستدل به على جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب ويورد على المخالف على سبيل المعارضة والإلزام: أنه لا خلاف بيننا وبينهم في أنه قد يجوز أن يخاطب في المخاطب بالمجمل وإن لم يقرنه بالبيان، بل يحيله في معرفة البيان على


[ 455 ]

الرسول عليه السلام، والرجوع في تفصيل ذلك إليه، وإذا جاز أن يخاطب (1) بما لا يفهمه تعويلا على أنا نعرف المراد من جهة غيره، وإلا جاز أن يخاطبنا بذلك ويعول بنا على الرجوع إليه في معرفة البيان. فإن فرقوا بين الأمرين بأن يقولوا: إذا كان البيان عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبنا بالمجمل، فنحن متمكنون من العلم بالمراد. قلنا: وإذا خاطبنا بالمجمل، وعول بنا على مسألتنا (2) عن بيانه والرجوع إليه في تفصيله، فنحن أيضا متمكنون من العلم بالمراد، ولا فرق بين الأمرين وقد استويا في أن البيان لم يقترن بالخطاب، وإنما التعويل فيه على الرجوع إلى مترجم ومبين، فأي فرق بين أن يكون هذا المبين هو الله تعالى أو رسوله ؟ فإن قال: ما ذكرتموه يقتضي أن يكون ذلك عبثا، لأنه طول زمان المعرفة بغير فائدة، وقد كان قادرا بدلا من أن يخاطبه بالمجمل ثم يلزمه سؤاله عن معناه فيبين له، أن يبتدي ببيان ذلك له. قلنا: فالآن كان ما ذكرتموه وأجزتموه أيضا عبثا، لأنه كان قادرا على أن يخاطبه مقترنا بالبيان ولا يكلفه الرجوع إلى الرسول عليه السلام ومعرفة المراد، لأنه تطويل للبيان وطريق المعرفة. فإن قلتم: هذا التطويل يمكن أن يتعلق به مصلحة. قيل لكم: فيما أنكرتم مثل ذلك ؟ ومما يضيق عليهم الكلام، أنهم يجيرون أن يخاطب بالمجمل ويكون بيانه في الاصول، ويكلف المخاطب الرجوع إلى الاصول فيعرف المراد. فإذا قيل لهم: ما الذي يجب أن يعتقد هذا المخاطب إلى أن يرجع إلى الاصول فيعرف المراد ؟


(1) يخاطبه. (2) في الأصل: مسألته.


[ 456 ]

قالوا: يجب أن يتوقف عن اعتقاد التفصيل، ويعتقد على الجملة أنه يمتثل ما يبين له، وهذا تطرق عليهم ما قاله: يجوز تأخير بيان المجمل، من وجوب اعتقاد الجملة دون التفصيل وانتظار البيان. وأي فرق بين أن يكلف زمانا قصيرا من غير فهم المراد – على سبيل التفصيل – الإعتقاد الذي ذكروه ويحسن ذلك، وبين أن يكلف زمانا طويلا مثل ذلك ؟ فإذا قال: إذا كان البيان في الاصول فهو يتمكن من معرفة. قلنا: أو ليس هذا المخاطب إلى أن يتأمل الاصول، ويقف على البيان مكلف الإعتقاد المجمل الذي ذكرتموه على وجه حسن ؟ ولابد من زمان مقصود لا يمكنه معرفة المراد فيه، لأن تأمل الاصول والرجوع إليها حتى يعلم حصول البيان فيها أو خلوها منه، لابد فيه من زمان قصر أو طال، وإذا جاز أن يخاطب بما لا يتمكن من معرفة المراد به في قصير الزمان جاز في طويله. على أنا قد ألزمناهم إذا قالوا إنه متمكن من المراد به بالرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بتأمل الاصول، أن يجوز وأن يكون متمكنا من ذلك بالرجوع إليه تعالى، ولا فرق بين الأمرين. وبعد ذلك، فإذا كان الخطاب يحسن بالمجمل وفي الاصول بيانه متى تأمل، وكذلك إذا عول به على بيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحسن أيضا، فأي فرق بين ذلك وبين خطاب العربي بالزنجية ؟ أو ليس الموضعان متساويين في أن المراد في حال الخطاب غير مفهوم ؟ فإن قلتم: الفرق بينهما أن الخطاب بالزنجية لا طريق إلى العلم بالمراد به، وهاهنا إلى العلم بالمراد طريق، أما بالنظر في الاصول ومعرفة البيان منها، أو بالرجوع إلى بيان الرسول. قلنا لكم: فأجيروا أن يخاطبه بالزنجية ويعول به على سؤال من يعرف الزنجية في تفسير ذلك وبيان الغرض فيه، أو يعول به على أن يتعلم لغة الزنج، فذلك ممكن له وسهل عليه، كما يخاطبه من المجمل بما لا يفهم المراد به وعول به على تصفح


[ 457 ]

الاصول والنظر فيها حتى يعثر على البيان، فإن كان ما قلتموه تمكينا من العلم، فالذي ألزمناكم أيضا تمكين، ولا شبهة على عاقل في قبح الخطاب بالزنجية لما ذكرنا حاله، وهو نظير ما ذهبوا إلى جوازه. ومما يدل أيضا: على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا آدع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) (1). ووجه الدلالة من الآية (2): ” إنه تعالى أمرهم بذبح بقرة هذه الصفات كلها لها (3)، ولم يبين ذلك في أول الخطاب حتى سئلوا عنه، وراجعوا فيه، واستفهموه، فبين لهم المراد شيئا بعد شئ، وهذا يدل على جواز تأخير البيان (4). فإن قالوا (5): لم زعمتم أن الصفات المذكورة كلها في البقرة الأولى التي امروا في الخطاب الأول بذبحها ؟ وما أنكرتم أن يكونوا امروا ان الخطاب الأول بذبح بقرة من عوض البقر من غير اشتراط هذه الصفات ؟ فلو (6) ذبحوا بقرة من غير أن تكون


(1) البقرة: 67 – 71. (2) بداية لفقرة طويلة ينقلها المصنف من كتاب ” الذريعة إلى اصول الشريعة ” للشريف المرتضى – رحمه الله – مع تصرف بسيط منه فيها ونحن نشير في الهامش إلى اختلاف النصين. (3) في المصدر: أمرهم بذبح بقرة لها هذه الصفات المذكورة كلها ولم يبين في أول وقت الخطاب ذلك. (4) في المصدر: وهذا صريح في جواز تأخير البيان. (5) في المصدر: فإن قيل. (6) في المصدر: فلو امتثلوا وذبحوا أي بقرة اتفقت.


[ 458 ]

بهذه الصفات المذكورة فيما بعد، لكانوا قد فعلوا الواجب، فلما راجعوا (1) تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة غير فارض ولا بكر من غير مراعات الصفات الباقية، فلما توقفوا أيضا تغيرت المصلحة في تكليفهم، فأمروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها، فلما توقفوا تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة لها الصفات الأخيرة المذكورة (2)، وإنما يكون ذلك حجة في تأخير البيان لو صح لكم أن الصفات الواردات كلها للبقرة الأولى، وما أنكرتم أن يكون الأمر بخلاف ذلك. ؟ قلنا: هذا تأويل (3) من لا يعرف حكم اللغة العربية وما جرت به عادة أهلها في خطابهم وكناياتهم، لأن الكناية في قوله تعالى: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) لا يجوز عند محصل (4) أن يكون كناية إلا عن البقرة التي تقدم ذكرها وأمروا (5) بذبحها، ولم يجز في الكلام ما يجوز أن تكون هذه الكناية كناية عنه إلا البقرة، و (6) يجري ذلك مجرى قول أحدنا لغلامه: ” أعطني تفاحة ” فيقول غلامه: ” ما هي بينها لي ؟ “، ولا يصرف أحد من العقلاء هذه الكناية إلا إلى التفاحة المأمور بإعطائها إياه. ثم قال تعالى بعد ذلك: (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك)، وقد علمنا أن الهاء في قوله: (إنه يقول) هي كناية عنه تعالى، لأنه لم يتقدم ما يجوز رد هذه الكناية إليه إلا اسمه تعالى، فكذلك يجب أن يكون قوله: (إنها) كناية عن البقرة المقدم ذكرها، وإلا فما الفرق بين الأمرين ؟


(1) في المصدر: فلما توقفوا وراجعوا. (2) في المصدر: فامروا بذبح ما له كل الصفات. (3) في المصدر: هذا سؤال من لا يعرف عادة أهل اللغة في كناياتهم. (4) في المصدر: عند تأمل. (5) في المصدر: لأنه لا يجر ذكر لغيرها، فيكنى عنه. (6) في المصدر: ولا يجوز على ما ذهب إليه القوم أن تكون كناية عن البقرة التي يريد – تعالى – أن يأمرهم بذبحها ثانيا، لأنهم لا يعرفون ذلك، ولا يخطر لهم ببال، فكيف يسألون عن صفة بقرة لا يعلمون إنهم يؤمرون بذبحها ؟


[ 459 ]

وكذلك الكلام في الكناية بقوله: (ما لونها)، وبقوله: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها)، والكناية في قوله: (ماهي إن البقرة تشابه علينا)، ثم الكناية في قوله: (إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض). ولا يجوز أن تكون الكناية في قوله تعالى (إنها) في المواضع كلها عن القصة والحال، لأن الكناية في (إنها) لابد من أن يتعلق بما تعلقت به الكناية في قوله (هي)، ولا شبهة في أن المراد بلفظ (هي) البقرة التي امروا بذبحها فيجب أن يكون كناية الجواب يعود إلى ما كني عنه بالهاء في السؤال، ولو جاز تعلق (إنها) بالقصة والشأن جاز تعليق (ما هي) بذلك، وجاز أيضا أن تكون الكناية في قوله: (إنه يقول) عن غير الله تعالى ويكون عن الحال (1) والقصة كما قالوا في ” أنه زيد منطلق ” وكنوا عن الشأن والقصة. وكيف قوله (إنها) كذا وكذا كناية عن غير ما كني عنه بما هي، وبما لونها أو ليس ذلك يوجب أن يكون جوابا عن غير ما سئل عنه (2) ؟، لأنهم سئلوا عن صفات البقرة التي تقدم ذكرها، وأمرهم بذبحها، فاجيبوا عن غير ذلك. وسواء جعلوا الهاء (في إنها) عن الشأن والقصة، أو عن البقرة التي امروا ثانيا وثالثا بذبحها، فكيف يجوز أن يسألوا عن صفة ما تقدم أمره لهم بذبحه، فيترك ذلك جانبا ويذكر صفة ما لم يتقدم الأمر بذبحه ؟ وإنما امروا أمر مستأنفا به. ولو كان الأمر على ما قالوه: من أنه تكليف بعد تكليف لكان، الواجب لما قالوا له: (ما هي) وإنما عنوا البقرة التي امروا ابتداء بذبحها، أن يقولوا لهم أي بقرة شئتم ؟ وعلى أي صفة كانت ؟ وما أمرتكم بذبح بقرة لها صفة معينة، والآن تغيرت مصلحتكم فاذبحوا الآن بقرة من (3) صفتها كذا وكذا، فإذا قالوا: (ما لونها) ؟ يقول: أي لون


(1) في المصدر: عن الأمر. (2) في المصدر: جوابا عن غير المسئول عنه ؟ (3) في المصدر: ما.


[ 460 ]

شئتم وما أردت لونا بعينه، والآن تغيرت المصلحة، والذي تؤمرون به الآن بقرة صفراء، ولما قالوا في الثالث: (ما هي إن البقرة تشابه علينا) ؟ أن يقول لهم: المأمور به بقرة صفراء على صفة كانت وبعد ذلك، وقد تغيرت المصلحة، فاذبحوا بقرة لا ذلول تثير الأرض، إلى آخر الصفات، فلما عدل عن ذلك إلى نعت بعد آخر دل على أنه كلها نعوت للبقرة (1) الأولى. على أنه لو جاز صرف الهاء في قوله: (إنها) إلى الشأن والقصة، – وإن كان المفسرين كلهم قد أجمعوا على خلاف ذلك – فإنهم كلهم قالوا: هي كناية عن البقرة (المتقدم ذكرها) (2)، وقالت المعتزلة بالأسر (3) إنه كناية عن البقرة التي تعلق التكليف المستقبل بذبحها، ولم يقل أحد إنها للقصة والحال، لكان ذلك يفسد من وجه آخر، وهو أنه إذا تقدم ما يجوز أن يكون هذه الكناية راجعة إليه متعلقة به، ولم يجز للقصة والحال ذكر، فالأولى أن تكون متعلقة بما ذكر، وتقدم الأخبار عنه دون ما لا ذكر لها في الكلام. وإنما استحسنوا (4) الكناية عن الحال والقصة في بعض المواضع، بحيث تدعو الضرورة إليه، ولا يقع اشتباه، ولا يحصل التباس. وبعد، فإنما يجوز إضمار القصة والشأن بحيث يكون الكلام مع (5) تعلق الكناية بما تعلقت به مفيدا مفهوما، لأن القائل إذا قال: ” إنه زيد منطلق “، و ” إنها قائمة هند ” فتعلقت الكنايه بالحال والقصة، أفاد ما ورد من (6) الكلام، وصار كأنه قال: ” زيد


(1) في الأصل: البقرة. (2) زيادة من المصدر. (3) انظر: ” المعتمد 1: 326، الأحكام للآمدي 3: 34، أمالي المرتضى 2: 39 – 36، تفسير الرازي 3: 123 “. (4) إستحسن. (5) زيادة من المصدر. (6) في.


[ 461 ]

منطلق ” و ” قايمة هند “، والآيات بخلاف هذا الموضع، لأنا متى جعلنا الكناية في قوله: (إنها بقرة لا فارض) و (إنها بقرة صفراء)، و (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) متعلقة بالحال والقصة، بقي معنا في الكلام ما لا فائدة فيه ولا يستقل بنفسه، لأنه لا فائدة في قوله: (بقرة صفراء) و (بقرة لا فارض ولا بكر)، ولابد من ضم كلام إليه حتى يستقل ويفيد، فإن ضممنا إلى (بقرة لا فارض) أو (بقرة صفراء)، (التي امرتم بذبحها) أفاد لعمري، فتبطل صرف الكناية إلى غير البقرة، ووجب أن تصرف الكناية إلى البقرة حتى لا يحتاج أن يحذف خبر المبتدأ، والاكتفاء بما في الكلام أولى من تأويل يقتضي العدول إلى غيره، وحذف شئ ليس موجودا في الكلام. ومما يدل على صحة ما اخترناه (1): أن جميع المفسرين للقرآن أطبقوا على أن الصفات المذكورات كلها للبقرة (2)، أعوز اجتماعها للقوم حتى توصلوا إلى ابتياع بقرة لها هذه الصفات كلها بمل ء جلدها ذهبا، ولو كان الأمر على ما قال (3) المخالفون لوجب أن لا يعتبروا (4) فيما يبتاعونه (5) إلا الصفات الأخيرة دون ما تقدمها، ويلغى ذكر الصفراء، والتي ليست بفارض ولا بكر، وأجمعوا على أن الصفات كلها معتبرة وعلم (6) أن البيان تأخر، وأن الصفات كلها للأولى (7) المأمور بذبحها. فإن قيل: فلم عنفوا على تأخيرهم امتثال الأمر الأول ؟، وعندكم أن بيان (8)


(1) في المصدر: نصرناه. (2) تفسير الطبري 1: 123، الكشاف 1: 152 – 148. (3) في المصدر: قاله. (4) في المصدر: يعتبر (5) في المصدر: يبتاعونه ويذبحونه. (6) في المصدر: فعلم. (7) في المصدر: للبقرة الأولى. (8) في المصدر: البيان بالمراد.


[ 462 ]

المراد بالإمر الإول تأخر، فلم قال: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) (1) ؟. قلنا: ما عنفوا بتأخير امتثال الأمر الأول، وليس في القرآن ما يشهد بذلك أو يدل عليه، بل كان البيان يأتي شيئا بعد شئ كلما طلبوه واستخرجوه، من غير تعنيف ولا قول يدل على أنهم بذلك عصاة. فأما قوله في آخر القصة: (وما كادوا يفعلون) فإنما يدل على انهم كادوا يفرطون في آخر القصة وعند تكامل البيان، ولا يدل على أنهم فرطوا في أول القصة، ويجوز أن يكون ذبحوا بعد تثاقل، ثم فعلوا ما امروا به، وهذا كله واضح “. هذان دليلان ذكرهما سيدنا المرتضى (2) رحمه الله أوردتهما بألفاظه، لأنه لا مزيد عليهما، وفيهما كفاية إن شاء الله. وقد استدل قوم على صحة هذا المذهب بأن قالوا: أليس في العقل ما يمنع من صحة ذلك ولا في الشرع ؟ فينبغي أن يكون ذلك جائزا، فمتى توزعوا في ذلك وأشاروا إلى شئ فيما يدعونه أنه وجه قبح كلموهم بما مضى في تضاعيف الكلام مما يمكن أن يكون جوابا عنه. واستدلوا أيضا: بما روى أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وآله عن مواقيت الصلوة فأخر بيانها. واعترض المخالف على ذلك بأن قال: إنما أحاله على بيان متقدم. فمتى قيل لهم: لم ينقل ذلك. قالوا: يكفي أن يكون ذلك جائزا. وهذا الدليل لا يمكن الاعتماد عليه، لأن الخبر خبر واحد، وهذه مسألة طريقها العلم، فكيف يمكن الاستدلال على صحتها بخبر واحد. ؟


(1) البقرة: 71. (2) الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 373 – 365.


[ 463 ]

واستدلوا أيضا: بما رووا من أن أهل اليمن سألوا معاذا عن وقص البقر فلم يعرفه (1). وقال المخالف: إن ذلك مما قد بين، لأنه بقي على ما كان عليه من قبل في إسقاط الزكاة عنه (2). وهذا أيضا نظير الأول في أنه خبر واحد لا يمكن الاعتماد عليه. ونظائر ذلك لا يمكن الاعتماد على شئ (3) منها، فالمعتمد في هذا الباب الدليلان الأولان. فأما (4) الذي يدل على أن تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب فهو: إنا قد دللنا على أن العموم له صيغة تختص به (5) وله ظاهر، فمتى خاطب الحكيم به ينبغي أن يحمل على ظاهره، لأنه لو أراد غير ظاهره، أو أراد بعضه لبينه، وإلا كان قد دل على الشئ بخلاف ما هو به، وذلك لا يجوز، كما لا يجوز تصديق الكذاب وإظهار المعجز على يده، ولو جاز ذلك لجاز أن يخاطب بألفاظ خاصة ولا


(1) قال الآمدي في (الأحگام 3: 37): ” إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفذ معاذ إلى اليمن ليعلمهم الزكاة وغيرها، فسألوه عن الوقص، فقال: ما سمعت فيه شيئا من رسول الله صاى الله عليه وآله وسلم حتى أرجع إليه فأسأله “، انظر أيضا: ” المعتمد 1: 328 “. والوقص، بفتحتين وقد تسكن القاف: ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شئ فيه. (2) قال الآمدي في (الأحكام 3: 37): ” ويمكن أن يقال: الأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص وغيرها، غير أن الشارع أوجب فيما أوجب وبقى الباقي على حكم العقل “. (3) مثل استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الزابنة ثم أرخص في العرايا، وأن عمر استفسر عن ” الكلالة ” فأحاله على آية الصيف، فأخر عليه السلام البيان، وكذلك الروايات المفسرة للآيات القرآنية حيث وردت مستفيضة في بيان الآيات لكن بعد فترة وتأخير، مثل لزوم أخذ الجزية من المجوس والتي تخصص العموم. انظر: ” المصادر الواردة في نهاية التعليقة رقم (1) صفحة 449 “. (4) وأما. (5) راجع كلام المصنف في صفحة 278 فصل [ 2 ].


[ 464 ]

يريد حقيقتها ولا ظاهرها، ويريد بها ضربا من المجاز ولا يبين، وذلك يؤدي إلى أن لا نستفيد بالخطاب شيئا أصلا. فأما من قال: إن لفظ العموم مشترك، فهو يجوز تأخير بيان المراد به، لأنه يكون مجملا عنده، وقد بينا نحن خلاف ذلك (1). وهذه جملة كافية في هذا الباب إن شاء الله تعالى.


(1) راجع استدلال المصنفذ في فصل [ 2 ] صفحة 278


[ 465 ]

فصل [ 10 ] ” في أن المخاطب بالعام هل يجوز أن يسمعه وإن لم يسمع الخاص، أو لا يجوز ؟ (1) ” إعلم أنه يجوز أن يسمع المخاطب العام دون الخاص، ويلزمه طلب الخاص والبحث عنه في الاصول، فإن وجده حمل العام عليه، وإلا اعتقد ظاهره، وهو مذهب النظام، وأحد قولي أبي هاشم، وهو الذي يدل عليه قول الشافعي وغيره من الفقهاء (2).


(1) إن بين الاصوليين في جواز إسماع الله للمكلف العام دون إسماعه للدليل المخصص له، فإن من يذهب إلى عدم جواز الإسماع يقول لا يجوز أن يسمع العام إلا مع الخاص، بل يصرفه الله تعالى عن سماع ذلك إلى حين سماع الخاص، ويفهم من عبارة المصنف ان الخلاف عنده محصور في اعتقاد العموم وعدمه دون العمل، وقد نسبه إلى جماعة من المتكلمين والفقهاء ومنهم الشافعي، وتبعه الآمدي في (الأحكام 3: 43) وابن الحاجب، إلا أن المستفاد من تصريحات أصحاب الشافعي (انظر: التبصرة: 119، شرح اللمع 1: 326) تعميم الحكم في الاعتقاد والعمل، بأنه إذا ورد العموم وفحص المكلف عن المخصص في الاصول ولم يجده فإن عليه أن يعتقد بعمومه والعمل بمقتضاه. وممن عمم النقل عنه أيضا ابن سريج، وأبو اسحاق الإسفراييني (أو المروزي) وأبو الحسن الخلاني، وأبو سعيد الاصطخري وتابعهم الرازي وأتباعه. (2) انظر: ” المعتمد 1: 331، الذريعة 1: 391، الأحكام للآمدي 3: 45، المستصفى 2: 35، التبصرة: 119، الإبهاج 2: 76، شرح اللمع 1: 326 “.


[ 466 ]

وكان أبو على يقول (1): إن تخصيص الخطاب إذا لم يكن بدليل، ولا كان المخاطب به قد عرفه، فإنه لا يجوز أن يسمع العام ولا يسمع الخاص، بل يصرفه (2) عن سماع العام بضرب من الصرف، وإذا أسمعه، أسمع معه الخاص، وكان يعتل لذلك بأن يقول: ” إن خطابه إياه بالعام يبيح له اعتقاد ما لا يقتضيه ظاهره وذلك جهل، ولا يجوز من الحكيم أن يبيح الجهل، فيجب أن لا يحسن دون أن لا يسمعه الخاص، وكان يقول إن ذلك بمنزلة خطاب العربي بالزنجية، لأن المراد به لا يصح أن يعلم في الحال “. وقد قال بهذا أبو هاشم أيضا، وكان يقول في اسماع الناسخ دون المنسوخ مثل ما ذكرناه أيضا (3). والذي يدل على صحة المذهب الأول: إنا قد اتفقنا على أنه يجوز أن يخاطب بالعام وإن كان مخصوصا بدليل القعل، وإن لم يستدل المخاطب على خصوصه، بل يلزمه البحث عنه، وإنما حسن ذلك لأنه متمكن من معرفة ذلك، فيجب أن يحسن أيضا أن يخاطب به، وإذا كان له تخصيص في الاصول لم يسمع، لما كان متمكنا من معرفته بالنظر في الاصول. وما ذكرناه قد أسقط سائر ما قدمناه (4) لأنه إذا جاز عند من خالف أن يخاطب بالعموم، وإن لم يستدل على خصوصه بالعقل، ولم يوجب ذلك إباحة الجهل، والإجراء مجرى خطاب العربي بالزنجية، فكذلك لا يلزمنا وإن جوزنا ما قدمناه.


(1) انظر: ” المعتمد 1: 332، الذريعة 1: 391 “. (2) يصرف. (3) انظر: ” المعتمد 1: 332 “. (4) قال المصنف في صفحة 304: ” إلا أنه – أي القديم تعالى – متى تكلم بلفظ العام وأراد به الخاص، فلابد من أن يدل عليه، ويقرن به ما يدل على، تخصصه، وإلا كان موجبا لا عتقاد الجهل “.


[ 467 ]

فصل [ 11 ] ” في القول في دليل الخطاب، واختلاف الناس فيه ” اختلف اهل العالم في أن الحكم إذا علق بصفة الشئ هل يدل على أن حاله مع انتفاء ذلك الوصف بخلاف حاله مع وجوده، أم لا يدل، بل يحتاج إلى بيان ودليل سواه ؟ فذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى أن الحكم إذا علق في الموصوف بصفة دل على انتفاء ذلك الحكم إذا زالت تلك الصفة (1)، قاله في مسائل كثيرة (2). وتجاوز بعضهم إلى أن قال: إن الحكم إذا علق بعين دل على أن غيره


(1) وهذا مذهب مالك، وأحمد بن حنبل، والأشعري وأكثر أتباعه، وجماعة من المتكلمين، والفقهاء، واللغوييين كأبي عبيدة بن معمر بن المثنى. انظر: ” المعتمد 1: 149، التبصرة: 218، الأحكام للآمدي 3: 70، شرح اللمع 1: 428، الإبهاج 1: 235، المنخول: 213، تقريب الوصول: 79 “. هذا وذهب بعض أصحاب الشافعي كاجويني والغزالي (في المنخول دون المستصفى) إلى الفرقة بين الصفة المناسبد مع الحكم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” في سائمة الغنم زكاة ” فقالوا فيه بالمفهوم، وبين الصفة التي لا توجد فيها مناسبة الحكم كقول القائل ” الأبيض يشبع إذا أكل ” فقالوا فيه بعدم المفهوم. (2) انظر فتوى الشافعي في الام 2: 4 و 20 حيث ذهب إلى أنه إذا علق الحكم في الشئ على صفة من صفاته دل على أن ما عداها يخالفة.


[ 468 ]

بخلافه (1). ومنهم من قال: إنه لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وهو الذي نصره أبو عبد الله البصري (2)، وحكاه عن أبي الحسن، وهو قول أبي العباس ابن سريج (3)، ومن تبعه من أصحاب الشافعي، كأبي بكر الفارسي (4) وأبي بكر القفال (5) وغيرهما (6). وذكر أبو العباس: أن الحكم إذا علق بصفة إنما يدل على ما يتناوله لفظه إذا تجرد، وقد تحصل فيه قرائن أو أسباب يدل معها على أن ما عداه بخلافه، نحو قوله


(1) وهو مذهب أبي بكر الدقاق من أصحاب الشافعي. (2) إن أبا عبد الله البصري لم يحكم بعدم المفهوم في الحكم المعلق على الصفة مطلقا بل له تفصيل في المقام، يقول: ” الخطاب المتعلق بالصفة دال على النفي عما عداها في أحد أحوال ثلاث، وهي: أن يكون الخطاب قد ورد للبيان كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” في الغنم السائمة زكاة “، أو التعليم كما في خبر ” التالف عند التخالف والسلعة قائمة “، أو يكون ما عدا الصفة داخلا تحتها كالحكم بالشاهدين، فإنه يدل على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين، ولا يدل على النفي فيما سوى ذلك “. انظر: ” المعتمد 1: 150، الأحكام 3: 70 “. (3) في النسختين: ابن شريح، تصحيف صوابه ما أثبتناه وهو: أحمد بن عمر بن سريج، أبو العباس، من كبار فقهاء الشافعية ومتكلميهم، توفي سنة 306. انظر ” طبقات الشافعية 3: 256، تاريخ بغداد 4: 287، وفيات الأعيان 1: 49. ” (4) هو أحمد بن الحسين بن سهل، أبو بكر الفارسي الشافعي، عد في الطبقة الخامسة من فقهاء الشافعية، وقد تفقه على ابن سريج، له مصنفات منها: عيون المسائل في نصوص الشافعي، الاصول، كتاب الإنتقاد على المزني، قيل انه توفي سنة 305 أو 361 ه‍. (5) هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، أبو بكر القفال الصغير، وصف ب‍ ” الإمام، الفقيه، الورع، شيخ طريقة خراسان ” كان في شبابه يعمل الأقفال وبرع في صناعتها، لكنه اتجه إلى الفقه وآشتغل على أبي زيد، فصار فقيه خراسان على المذهب الشافعي، وسمع الحديث، وحدث، وأملى بخراسان. له مصنفات: شرح التلخيص، شرح الفروع، كتاب الفتاوى. توفي سنة 417 ه‍ بمرو. (6) أمثال أبي حامد المروزي القاضي، وأبي بكر الباقلاني، والغزالي (في المستصفى دون المنخول)، وأصحاب أبي حنيفة، والآمدي، والرازي، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري. انظر: ” التبصرة: 218، المستصفى 2: 204، المعتمد 1: 150، الأحكام 3: 70، الإبهاج 1: 235، المنخول، 209 – 208، شرح اللمع 1: 428، الذريعة 1: 392 “.


[ 469 ]

تعالى: (إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا) (1) وقوله تعالى: (واشهدوا ذوى عدل منكم) (2)، وقوله تعالى: (وإن كن اولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (4)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” في سائمة الغنم زكاة ” (5). قال: وقد يقتضي ذلك أن حكم ما عداه مثل حكمه، نحو قوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمدا) (6)، وقوله: تعالى (ولا تقل لهما اف) (7) وقوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) (8)، وهذا تصريح منه بأن القول إذا تجرد لم يقتض نفيا ولا إثباتا فيما عدا المذكور، وأن بالقرائن يعلم تارة النفي، ويعلم تارة الإيجاب (9). وقد أضاف ابن شريج (10) هذا القول إلى الشافعي وتأول كلامه المقتضي بخلافه وبناه عليه، وأكثر أصحاب الشافعي وجلهم وجمهورهم على المذهب الأول (11). وهذا المذهب – أعني الأخير – هو الذي اختاره سيدنا المرتضى (12)، رحمه الله،


(1) الحجرات: 6. (2) الطلاق: 2. (3) النساء: 43. (4) الطلاق: 6. (5) وسائل الشيعة: باب 7 ابواب زكاة الأنعام، ح 1 و 2، الام 1: 23. (6) المائدة: 95. (7) الإسراء: 23. (8) التوبة: 36. (9) انظر: ” الأحكام 3: 84، الذريعة 1: 392 ” وتابعه على هذا المذهب الهراسي – نت أصحاب الشافعي – والكرخي، وأبو الحسين البصري. (10) في النسختين: ابن شريح، تصحيف وصوابه ما أثبتناه، انظر هامش رقم (3) ص 468 (11) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 467. (12) الذريعة 1: 394.


[ 470 ]

وإليه ذهب أبو علي، وأبو هاشم، وأكثر المتكلمين (1)، وكان شيخنا (2) رحمه الله يذهب إلى المذهب الأول. وأقوى ما نصر به مذهب من منع من ذلك، ما ذكره سيدنا المرتضى رحمه الله في مسألة له أنا أحكيها على ما وجهها، قال (3): ” قد ثبت أن تعليق الحكم بالاسم اللقب لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وقد ثبت أن الصفة كالاسم في الإبانة والتميز، وإذا ثبت هذان الأمران صح ما نذهب إليه. والذي يدل على الأمر الأول. أن تعليق الحكم بالاسم لو دل على أن ما عداه بخلافه، لوجب أن يكون قول القائل: ” زيد قائم ” و ” عمرو طويل “، و ” السكر حلو ” مجازا معدولا به عن الحقيقة، لأنه قد يشارك زيدا وعمروا في القيام والطول غيرهما، ويشارك السكر في الحلاوة غيره، ويجب أيضا أن لا يمكن أن يتكلم بهذه الألفاظ على سبيل الحقيقة، ومعلوم ضرورة (4) من مذهب أهل اللغة أن (5) هذه الألفاظ حقيقة وأنها مما لا يجب أن يكون مجازا، ويلزم على هذا المذهب أن يكون أكثر الكلام مجازا، لأن الإنسان إذا أضاف إلى نفسه فعلا من قيام، أو قعود، أو أكل، أو تصرف (6)، وما جرى مجراه ليس يضيف إليها إلا ما له فيه مشارك، والإضافة إليه تقتضي بظاهرها – على مذهب من قال بدليل الخطاب – نفى ذلك الأمر عمن عداه فلا تكون هذه الأوصاف (7) في موضع من المواضع إلا مجازا، وهذا يقتضي أن الكلام


(1) المعتمد 1: 149، الأحكام للآمدي 70 6 3، الذريعة 1: 392. (2) وهو الشيخ المفيد – رضي الله عنه – حيث يقول (التذكرة: 39): ” إن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى في الذكر، دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الاسم بخلاف ذلك الحكم ” (3) أي الشريف المرتضى، حيث يبدأ المصنف بنقل فقرة طويلة من كلام المرتضى – رحمه الله – من كتابه الذريعة 2: 413 – 392. (4) في المصدر: ضرورة خلاف ذلك (5) في المصدر: وأن (6) أو ضرب. (7) في المصدر والنسخة الثانية: فلا يكون هذا إلا ما قال هذا قط.


[ 471 ]

كله مجاز. ويدل أيضا على ذلك: أن من المعلوم أنه لا يحسن أن يخبر بأنه ” زيدا طويلا ” إلا وهو عالم بطوله، (لأن كلامه يقتضي تعليق الطول عليه، فلابد من أن يكون عالما به، وإلا لم يؤمن أن يكون كاذبا) (1)، فلو كان قوله: ” زيد طويل ” كما يقتضي الإخبار عن طول زيد، يقتضي نفي الطول عن كل من عداه، لوجب أن لا يحسن منه أن يخبر بأن زيدا طويل (على الحقيقة) (1) إلا بعد أن يكون عالما بأن غيره لا يشاركه في الطول، ويجب أن يكون علمه بحال الغير شرطا في حسن الخبر، كما أن علمه بحال المذكور شرط في حسن الخبر، ومعلوم خلاف ذلك عند كل عاقل. وأيضا: فإن ألفاظ النفي مفارقة لألفاظ الإثبات في لغة العرب، ولا يجوز أن يفهم من لفظ الإثبات النفي، كما لا يفهم من لفظ النفي الإثبات، وقولنا: ” زيد طويل ” لفظة إثبات، وكيف يعقل منه نفي الحكم عن غير المذكور وليس هاهنا لفظ نفي ؟ ويمكن أن يستدل بهذه الطريقة خاصة على أن تعليق الحكم بصفة لا يدل على نفيه عما ليست له، من غير حمل الصفة على الاسم. ومما (2) يقوي أيضا ما ذكرناه: أن أحدا من العلماء لم يقل في ذكر الأجناس الستة في خبر الربا أن تعليق الحكم بها يدل على نفي الربا عن غيرها، لأن العلماء بين رجلين: أحدهما يقول يبقى غير هذه الأجناس على الإباحة، والآخر يقيس غيرها عليها. فإن تعلق من سوى بين الاسم والصفة، بأن جماعة من أهل العلم استدلوا على أن غير الماء لا يطهر (3) بقوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (4) فنفوا الحكم عن غير الماء، وهو معلق بالاسم لا بالصفة.


(1) زيادة غير موجودة في نسخة المصدر المطبوعة (2) في المصدر: وربما قوى. (3) في المصدر: لا يطهر كالماء. (4) الفرقان: 48.


[ 472 ]

والجواب: أن من فعل ذلك فقد أخطأ في اللغة، وقد حكينا أن في الناس من سوى – مخطئا – بين الإسم والصفة في تعليق الحكم بكل واحد منهما. ويمكن من استدل بهذه الآية أن يكون إنما عول على أن الاسم فيها يجري مجرى الصفة، لأن مطلق الماء يخالف مضافه، فأجراه مجرى كون الغنم سائمة ومعلوفة (1). وأما الدلالة على أن الصفة كالاسم في الحكم الذي ذكرناه: فهي أن الغرض في وضع الأسماء في أصل اللغة هو التمييز والتعريف، وليمكنهم أن يخبروا عمن غاب عنهم بالعبارة، كما أخبروا عن الحاضر بالإشارة، فوضعوا الإسماء لهذا الغرض، ولما وقع الإشتراك بالإتفاق في الإسماء، بطل الغرض الذي هو التمييز والتعريف، فاحتاجوا إلى إدخال الصفة (2) وإلحاقها بالاسم (3) ليكون الاسم مع الصفة بمنزلة الاسم ولم يقع اشتراك فيه، ولولا الاشتراك الواقع في الأسماء لما احتيج إلى الصفات، ألا ترى أنه لو لم يكن مسمى بزيد (4) إلا شخصا واحدا، لكفى في الإخبار عنه أن يقال: ” قام زيد “، ولم يحتج إلى إدخال الصفة، فبان بهذه الجملة أن الصفة كالاسم في الغرض وأن الصفات كبعض الأسماء، إذا ثبت ما ذكرناه في الاسم ثبت فيما يجري مجراه ويقوم مقامه. ومما يبين أن الاسم كالصفة أن المخبر قد يحتاج إلى أن يخبر عن شخص بعينه، فيذكره بلقبه، وقد يجوز أن يحتاج أن يخبر عنه في حال دون اخرى، فيذكره بصفته، فصارت الصفة مميزه للأحوال، كما أن الأسماء مميزة للأعيان فحلا محلا واحدا في الحكم الذي ذكرناه. ومما يدل ابتداء على بطلان دليل الخطاب: أن اللفظ إنما يدل على ما يتناوله،


(1) في المصدر: فأجراه كون الإبل سائمة ومعلوفة. (2) في المصدر: الصفات. (3) في المصدر: بالأسماء. (4) في المصدر: لو لم يكن في العالم من اسمه زيد.


[ 473 ]

أو على ما يكون بأن يتناوله أولى، فأما أن يدل على ما لم يتناوله ولا هو بالتناول أولى فمحال، وإذا كان الحكم المعلق بصفة لم يتناول غير المذكور، ولا هو بأن يتناوله أولى لم يدل إلا على ما اقتضاه لفظه. (فإن قيل: اشرحوا هذه الجملة) (1). قلنا: قوله عليه السلام: ” في سائمة الغنم الزكاة ” (2) معلوم حسا وإدراكا أنه لم يتناول المعلوفة، ولا يمكن الخلاف فيما لا يدخل تحت الجنس (3)، ولا هو بتناولها أولى، بدلالة أنه لو قال: ” في سائمة الغنم الزكاة وفي معلوفتها ” لما كان مناقضا (4)، ومن شأن اللفظ إذا دل على ما [ لم ] (5) يتناوله بلفظه لكنه بأن يتناوله أولى، أن يمنع من التصريح بخلافه، ألا ترى أن قوله تعالى: (ولا تقل لهما اف) (6) لما تناول النهي عن التأفف بلفظ، وكان بأن يتناول ساير المكروه أولى لم يجز أن يتبعه ويلحقه بأن يقول: ” لا تقل لهما اف واضربهما واشتمهما ” لأنه نقض، فبان أن قوله عليه السلام: ” في سائمة الغنم الزكاة ” (2) ليس يتناول المعلوفة أولى. والذي يدل على أن اللفظ لا يدل على ما لا يتناوله ولا يكون بالتناول أولى، أنه لو دل على ذلك لم ينحصر مدلوله، لأن ما لا يتناوله اللفظ لا يتناهى، وليس [ بعضه ] (7) بأن يدل عليه اللفظ مع عدم التناول بأولى من بعض. ومما يدل أيضا على ما ذكرناه: حسن استفهام القائل: ” ضربت طوال غلماني،


(1) زيادة غير موجودة في نسخة المصدر المطبوعة (2) وسائل الشيعة باب 7 زكاة الأنعام ح 1 و 2، الام 1: 23، وقد أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود، والنسائي والدارقطني، والبيهقي، والحاكم النيسابوري كلهم في كتاب الزكاة. (3) في المصدر: ولا يمكن الخلاف فيخما يدخل تحت الحس. (4) في المصدر: متناقضا. (5) زيادة تقتضيها العبارة. (6) الإسراء: 23. (7) أثبتناه من المصدر.


[ 474 ]

ولقيت أشراف (1) جيراني “، فيقال له: ” أضربت القصار من غلمانك أم لم تضربهم ؟، ولقيت العامة من جيرانك أم لم تلقهم ؟ “، فلو كان تعليق الحكم بالصفة يقتضي وصف الحكم عما ليس له تلك الصفة كاقتضائه ثبوته لما له تلك الصفة، لكان هذا الاستفهام قبيحا، كما يقبح أن يستفهمه عن حكم ما تعلق لفظه (2) به، فلو كان الأمران مفهومين من اللفظ لاشتركا في حسن الاستفهام وقبحه. فإن قيل: إنما يحسن الاستفهام عن ذلك لمن لم يقل بدليل الخطاب، فأما من تكلم بما ذكرتموة من الذاهبين إلى دليل الخطاب، فإنه (3) لا يستفهم عن مراده إلا على وجه واحد، وهو أن يكون أراد على سبيل المجاز والاستعارة خلاف ما يقتضيه دليل الخطاب، فيحسن استفهامه لذلك. قلنا: حسن استفهام كل قائل أطلق مثل هذا الخطاب معلوم ضرورة، علمنا (4) مذهبه في دليل الخطاب أم لم نعلمه. فأما تجويزنا أن يكون المخاطب عدل الحقيقة إلى المجاز في الكلام الذي حكيناه، وأن هذا هو علة حسن الاستفهام، فباطل، لأنه يقتضي حسن دخول الاستفهام في كل كلام، لأنه لا كلام نسمعه ونحن نجوز من طريق التقدير (5) أن يكون المخاطب به أراد المجاز ولم يرد الحقيقة، وفي علمنا بقبح الاستفهام في كثير من المواضع دلالة على فساد هذه العلة، على أن المخاطب لنا إذا كان حكيما وأراد المجاز بخطابه، قرن كلامه بما يدل على أنه متجوز به ولم يحسن منه إطلاقه (6).


(1) في الأصل: شراف. (2) في المصدر: يتعلق اللفظ به. (3) في المصدر: فهو. (4) في المصدر: سواء علمكنا مذهبه في دليل الخطاب أو شككنا فيه، وأهل اللغة يستفهم بعضهم بعضا في مثل هذا الخطاب، وليس لهم مذهب مخصوص في دليل الخطاب. (5) في الأصل والنسخة الثانية (التقرير) والصحيح ما أثبتناه من المصدر. (6) في المصدر: قرن به ما يدل على أنه متجوز، ولا يحسن منه الإطلاق.


[ 475 ]

وحكى (1) في هذه المسألة ما استدل به من خالفه، فقال: وإستدل المخالف بأشياء (2): منها: إن تعليق الحكم بالسوم (3) لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة، لم يكن لتعليقه بالسوم معنى، وكان عبثا. ومنها: إن تعليق الحكم بالسوم (4) يجري مجرى الاستثناء من الغنم، ويقوم مقام قوله: (ليس في الغنم إلا السائمة الزكاة)، فكما أنه لو قال ذلك لوجب أن تكون الجملة المستثنى منها بخلاف حكم الاستثناء، فكذلك تعليق الحكم بالصفة. ومنها: إن تعليق الحكم بالشرط إذا دل على انتفائه بانتفاء الشرط، فكذلك الصفة، والجامع بينهما أن كل واحد منهما كالآخر في التمييز والتخصيص، لأنه لا فرق بين أن يقول: (في سائمة الغنم الزكاة)، وبين أن يقول فيها: (إذا كانت سائمة الزكاة). ومنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (4)، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” لأزيدن عن السبعين ” (5)، فلو لم يعلم من جهة دليل الخطاب أن ما فوق السبعين بخلافها لم يقل ذلك. ومنها: تعلقهم بما روي عن عمر بن الخطاب أن يعلى بن امية (6) سأله فقال: ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له عمر: عجبت مما عجبت منه، فسئلت رسول الله صلى الله عليه وآله


(1) أي: وحكى الشريف المرتضى استدلالات من خالفه في هذه المسألة. (2) في المصدر: وقد استدل المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء. (3) أي تعليق الحكم في قوله عليه السلام ” في سائمة الغنم زكاة “. (4) التوبة: 80. (5) انظر: تفسير الطبري: المجلد السادس، ج 10: 138 – 137. (6) هو يعلى بن امية بن أبي عبيدة بن همام التميمي، صحابي شهد صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام وقيل أنه قتل بها، وقيل مات سنة 47 ه‍ له روايات عديدة في صحاح أهل السنة.


[ 476 ]

وسلم عن ذلك (1) فقال: ” صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته “. وتعجبهما من ذلك يدل على أنهما فهما من تعلق القصر بالخوف أن حال الأمن بخلافه. ومنها: ما روي عن الصحابة كلهم أنهم قالوا: ” الماء من الماء منسوخ ” (2) ولا يكون ذلك منسوخا إلا من جهة دليل الخطاب، وأن لفظة الخبر يقتضي نفي وجوب الاغتسال من غير إنزال الماء. ومنها: أن الامة إنما رجعت في أن التيمم لا يجب إلا عند عدم الماء إلى ظاهر قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (3)، وكذلك الصيام في الكفارة وأنه لا يجزي إلا عند عدم الرقبة، إنما رجع فيه إلى الظاهر. قال (4) والجواب عن الأول: أن في تعليق الحكم بالسوم فائدة، لأنا [ به ] (5) نعلم وجوب الزكاة في السائمة، وما كنا نعلم ذلك قبله، ويجوز أن يكون حكم المعلوفة في الزكاة حكم السائمة، وإن علمنا بدليل آخر، وليس يمتنع في الحكمين المتماثلين أن يعلمنا بدليلين مختلفين بحسب المصلحة، ألا ترى أن حكم ما يقع النص عليه من الأجناس في الربا حكم المنصوص عليه، ومع ذلك دلنا على ثبوت الربا في الأجناس المذكورة بالنص، ووكلنا في إثباته في غيرها إلى القياس أو غير ذلك من الأدلة (6). والجواب عن الثاني: أن الاستثناء من العموم لم يدل بلفظه ونفسه على أن ما


(1) في المصدر: فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (2) كنز العمال 9: 380 رقم 26565، وص 540 رقم 27325. الحديث رواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجة، الترمذي ونصه: ” إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها “. (3) النساء: 43. (4) أي قال الشريف المرتضى رحمه الله. (5) زيادة في المصدر. (6) في المصدر: ووكلنا في غيرها إلى دلالة اخرى من قياس أو غيره.


[ 477 ]

لم يتناوله بخلاف حكمه، وإنما دل العموم غلى دخول الكل فيه، فلما أخرج الاستثناء بعض ما يتناوله العموم علمنا حكم المستثنى بلفظ الاستثناء وتناوله لما يتناوله، وعلمنا أن حكم ما لم يتناوله بخلافه بلفظ العموم، مثال ذلك: أن القائل إذا قال: ” ضربت القوم إلا زيدا ” فإنما يعلم بالاستثناء أن زيدا ليس بمضروب، ويعلم أن عداه من القوم مضروب بظاهر العموم، لا من أجل دليل الخطاب في الاستثناء، وليس هذا موجودا في قوله عليه السلام: ” في سائمة الغنم الزكاة ” (1)، لأنه عليه السلام ما استثنى من جملة مذكورة، ولو كان لسائمة الغنم اسم يختص بها من غير إضافة إلى الغنم تعلق (2) الزكاة به، وليس كل شئ معناه معنى الاستثناء له حكم الاستثناء، لأن للاستثناء ألفاظا موضوعة له، فلما (3) لم يدخل فيه لم يكن مستثنى منه، ولا يكون واردا (4) إلا على جملة مستقلة بنفسها، وكل هذا إذا أوجبت مراعاته لم يجز أن يجرى قوله عليه السلام: ” في سائمة الغنم الزكاة ” (2) مجرى الجمل المستثنى منها. والجواب عن (5) الثالث: أن الشرط عندنا كالصفة في أنه لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وبمجرد الشرط لا يعلم ذلك، وإنما نعلمه في بعض المواضع بدليل (6)، لأن تأثير الشرط أن يتعلق الحكم به، وليس يمتنع أن يخالفه وينوب عنه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج من أن يكون شرطا، ألا ترى أن قوله تعالى: (وإستشهدوا شهيدين من رجالكم) (7) إنما يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينظم إليه الآخر، فانضمام


(1) الام 1: 23، وقد أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبهيقي، والحاكم النيسابوري كلهم في كتاب الزكاة. (2) في المصدر: لتعلق. (3) في المصدر: فلما. (4) في المصدر: ولا يكون الاستثناء واردا. (5) في المصدر: (على). (6) في المصدر: بدليل منفصل. (7) البقرة: 282.


[ 478 ]

الثاني إلى الأول شرط في القبول، ثم يعلم أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول يقوم مقامه (1)، ثم يعلم بدليل أن ضم اليمين إلى الشاهد الواحد يقوم مقام الثاني، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن يحصى. والصحيح أن الحكم إذا علق بغاية أو عدد فإنه لا يدل بنفسه على أن ما عداه بخلافه، لأنا إنما نعلم أن ما زاد على الثمانين في حد القاذف لا يجوز، لأن ما زاد على ذلك محظور بالعقل، فإذا وردت العبادة بعدد مخصوص خرجنا عن الحظر بدلالة وبقينا فيما زاد على ذلك العدد على حكم الأصل، وهو الحظر. وكذلك إذا قال الرجل لغلامه: ” أعط زيدا مائة درهم ” فإنه يعلم (2) حظر الزائد على المذكور بالأصل. ولو قال: ” أعطيت فلانا مائة (3) ” لم يدل لفظا ولا عقلا على أنه لم يعط أكثر من ذلك. فأما تعليق الحكم بغاية، فإنما يدل على ثبوته إلى تلك الغاية، وما بعدها يعلم انتفائه أو إثباته بدليل، وإنما علمنا في قوله: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (4) وقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (5)، وقوله تعالى: (حتى يطهرن) (6) أن ما بعد الغاية بخلافها بدليل، وما يعلم بدليل غير ما يدل اللفظ عليه، كما يعلم أن ما عدا السائمة بخلافها في الزكاة بدليل. ومن فرق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه بغاية ليس معه إلا الدعوى، وهو كالمناقض لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما.


(1) في المصدر: مقام الثاني. (2) في المصدر: فإنا نعلم. (3) في المصدر: مائة درهم. (4) البقرة: 187. (5) البقرة: 187. (6) البقرة: 222.


[ 479 ]

فإذا قال: فأي معنى لقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (1) إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم (2) ؟ وأي (3) معنى لقوله عليه السلام: ” في سائمة الغنم الزكاة “، والمعلوفة مثلها ؟ فإذا قيل (4): لا يمتنع أن تكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النص، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا: كذلك لا يمتنع فيما علق بغاية حرفا بحرف. والصحيح أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه على كل حال، بخلاف قول من يقول إنه يدل على ذلك إذا كان بيانا، وإنما قلنا ذلك لأن ما وضع له القول لا يختلف أن يكون مبتدءا، أو بيانا، وإذا لم يدل تعليق الحكم بصفة (5) على نفي ما عداه، فإنما لم يدل على ذلك لشئ يرجع إلى اللفظ، فهو في كل موضع كذلك. والجواب عن الرابع: أن ما طريقه العلم لا يرجع فيه إلى أخبار الآحاد، لا سيما إذا كانت ضعيفة، وهذا الخبر يتضمن أنه عليه السلام استغفر للكفار، وذلك لا يجوز، وأكثر ما فيه أنه عليه السلام عقل (6) أن ما فوق السبعين بخلاف السبعين، فمن أين أنه فهم ذلك من ظاهر الآية من غير دليل (7) يدله ؟ ولقائل أن يقول: إن الاستغفار لهم كان مباحا (8)، فلما ورد النص بحظر


(1) البقرة: 187. (2) في المصدر: الصوم. (3) زيادة من النسخة الثانية. (4) في المصدر: فإن قيل. (5) في المصدر: بالصفة. (6) في الأصل: أعقل. (7) في المصدر: دليل سواه. (8) في المصدر: في الأصل مباحا.


[ 480 ]

السبعين، بقي ما زاد عليه على الأصل وقد روي في هذا الخبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” لو علمت أنى إن زدت على السبعين يغفر الله لهم لفعلت ” (1) وعلى هذه الرواية لا شبهة في الخبر (2). والجواب عن الخامس: فهو (3) أيضا خبر واحد لا يحتج به في هذا الموضع، ومع ذلك لا يدل على موضع الخلاف، لأنا لا نعلم أن تعجبهما من القصر مع زوال الخوف هو لأجل تعليق القصر بالخوف، ويجوز أن يكون تعجبهما لأنهما عقلا من الآيات الواردات في إيجاب الصلاة وجوب الإتمام في كل حال، واعتقدوا أن المستثنى من ذلك هو حال الخوف، فتعجبا لهذا الوجه. والجواب عن السادس: أنه إذا صح قولهم: ” إن الماء من الماء منسوخ ” (4)، من أين لهم أنهم عقلوا من ظاهره نفي وجوب الغسل من غير الماء ؟، ولعلهم علموه بدليل سوى اللفظ، لأنهم إذا حكموا بإنه منسوخ فلابد من أن يكونوا قد فهموا أن ما عداه بخلافه، فمن أين لهم أنهم فهموا ذلك اللفظ دون دليل آخر ؟ وقد روى هذا الخبر بلفظ آخر، وهو أنه عليه السلام قال: ” إنما الماء من الماء ” (5) وبدخول لفظ ” إنما ” يعلم أن ما عداه بخلافه، لأن القائل إذا قال: ” إنما لك عندي درهم ” يفهم من قوله “: (وليس لك سواه) وعلى الوجه تعلق ابن عباس


(1) تفسير غرائب القرآن (المطبوع بهامش تفسير الطبري ط بولاق): المجلد السادس / الجزء العاشر: 138 ولفظه: ” ولو أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت “. (2) في المصدر: والنبي – عليه السلام – أفصح وأفطن لأغراض العرب، من أين يجوز عليه مثل ذلك ؟ لأن معنى الآية النهي عن الاستغفار للكفار، فإنك لو أكثرت في الاستغفار ما غفر الله لهم، فعبر عن الإكثار بالسبعين، ولا فرق بينهما وبين ما زاد عليها، كما تقول العرب: ” لو جئتني كثيرا أو قليلا ما جئتك ” ولا فرق بين الأعداد المختلفة في الغرض، فكأنة يقول: ” لو جئتني كثيرا أو قليلا ما جئتك ” وأي عدد تضمنه لفظه فهو كغيره. (3) أنه. (4) كنز العمال 9: 380 رقم 26565 وص 540 رقم 27325. والحديث رواه أبو داود، أحمد، وابن ماجة، والترمذي ونصه: ” إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنهما “. (5) جامع الاصول 7: 272 و 273 رقم 5305 و 5308 نقله عن مسلم والترمذي.


[ 481 ]

في نفي الربا عن غير النسية بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ” إنما الربا في النسية ” (1) وقد روى أيضا هذا الخبر بلفظ آخر، وهو أنه عليه السلام قال: ” لا ماء إلا من الماء ” وعلى هذا اللفظ لا شبهة في الخبر، على أن الصحابة لم تبين جهة قولها في هذا الخبر أنه منسوخ، وهذا النسخ يتناوله، أو دليله أو ما علم منه بقرينة ؟ وقد علمنا أن المذكور من الحكم في اللفظ وهو وجوب الغسل بالماء من إنزال الماء ليس بمنسوخ، فمن أين النسخ تناول دليل هذا اللفظ دون ما علم منه بقرينة ؟ (2) والجواب عن السابع: أن آية التيمم وآية الكفارات بين فيها حكم الأصل وحكم البدل، لأنه تعالى أوجب الطهارة عن وجوب الماء، وأوجب التيمم عند عدمه، وكذلك في الكفارة، لأنه أوجب الرقبة في الأصل وعند عدمها أوجب الصيام، فعلمنا حكم البدل والمبدل جميعا (3)، وليس لدليل الخطاب في هذا مدخل. هذه المسألة أوردناها على وجهها لأنها مستوفاة، وفيها بيان نصرة كل واحد من المذهبين، وما يمكن الاعتماد عليه لكل فريق. وفي هذه المسألة نظر.


(1) كنز العمال 4: 9814. (2) في المصدر: وليس لهم أن يقولوا: المراد بذلك الاقتصار من الماء على الماء، لأنهم ليسوا بأولى منا أن نقول: المراد به أن التوضؤ من الماء منسوخ بوجوب الاغتسال منه، فقد روي أنهم كانوا يتوضأون من إلتقاء الختانين، فأوجب عليه السلام الغسل في ذلك. (3) في المصدر: جميعا بالنص. الباب السابع الكلام في الناسخ والمنسوخ


[ 483 ]

الباب السابع الكلام في الناسخ والمنسوخ


[ 485 ]

فصل [ 1 ] ” في ذكر حقيقة النسخ، وبيان شرائطه، والفصل بينه وبين البداء ” النسخ في اللغة يستعمل على وجهين: أحدهما: بمعنى الإزالة، كما يقال: ” نسخت الشمس الظل ” و ” نسخت الريح آثارهم “. والآخر: بمعنى النقل، كما يقال: ” نسخت الكتاب “. وذهب أبو هاشم (1) إلى أنه حقيقة في الإزالة، مجاز في النقل، قال: لأن من نسخ الكتاب لم ينقل ما فيه، وإنما أثبت مثله، فلما كان كذلك فيجب أن يكون مجازا. والأولى أن يقال إنه حقيقة فيهما، لأنا وجدنا أهل اللغة يستعملون ذلك، لأنهم يعتقدون أن ذلك نقل على الحقيقة وإن كان اعتقادهم فاسدا، ويجري ذلك


(1) اختلف الاصوليون في اللغوي لاسم النسخ على مذاهب: 1 – إنه حقيقة في الإزالة ومجاز في النقل، وهذا مذهب الأكثرين، وهو مختار أبي هاشم الجبائي، وأبي الحسين البصري، وابن الهمام، والفخر الرازي. 2 – إنه حقيقة في النقل والتحويل، وهذا مذهب القفال الشاشي – من أصحاب الشافعي. 3 – = نه مشترك بين معنى الإزالة والنقل، وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب والغزالي وآخرون. انظر: ” الأحكام للآمدي 3: 96، المعتمد 12: 364، تقريب الاصول: 122، اصول السرخسي 2: 53 “.


[ 486 ]

مجرى تسميتهم الأصنام بأنها آلهة، لما اعتقدوا أنه يستحق العبادة، فتسميتهم لها آلهه كان صحيحا وإن كان اعتقادهم فيها أنها تستحق العبادة فاسدا، فلو لزم هذا للزم أبا هاشم أن لا يكون أيضا حقيقة في الإزالة لأن الريح في الحقيقة لا تزيل شيئا وإنما الله تعالى يزيل بها، وكذلك القول في الشمس. فان اعتذر من ذلك بأن قال: لما اعتقدوا أن الريح هي التي تزيل في الحقيقة أضافوه إليها. قيل له مثل ذلك في النقل سواء. فأما استعمال هذه اللفظة في الشريعة، فعلى خلاف موضوع اللغة وإن كان بينهما تشبيه، ووجه التشبيه: أن النص إذا دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا صار بمنزل المزيل لذلك الحكم، لأنه لولاه لكان ثابتا، فأجرى استعمال لفظ النسخ فيه مجرى الريح المزيلة للآثار. هذا قول أبي هاشم. وقال أبو عبد الله البصري: إن هذه التسمية مستعملة على غير طريقة (1) اللغة في الشريعة، فهي لفظة شرعية منقولة عما وضعت له، لأن استعمالها في ذلك غير معقول في اللغة، فهي كسائر الأسماء الشرعية. فأما حد الدليل الموصوف بأنه ناسخ فهو: ” ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالمنسوخ، الذي هو النص المتقدم، غير ثابت في المستقبل، على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه “. والموصوف بأنه منسوخ هو النص الأول. وقد تستعمل هذه اللفظة في أشياء، فيقال في الله تعالى أنه ينسخ الحكم، فهو ناسخ إذا نصب الدلالة على ذلك. ويقال إن النص الثاني ناسخ للأول، إذا دل من حاله على ما ذكرناه.


(1) طريقة.


[ 487 ]

وقد يقال: إن الحكم الثاني ينسخ الحكم الأول، وهو ناسخ له، من حيث علم سقوط الأول به، كقولهم: ” نسخ التوجه إلى الكعبة الاستقبال إلى بيت المقدس “. ومثل ما روى أن الزكاة نسخت كل واجب في المال، ونسخ شهر رمضان صوم عاشور. وقد يتسع أيضا فيقال: ” إن فلانا ينسخ كذا كذا “، إذا اعتقد ذلك وذهب إليه، كما يقال الشافعي لا ينسخ القرآن بالسنة (1)، والحنفي ينسخ ذلك (2). وأما لفظ المنسوخ: فإنه يستعمل في الدليل والحكم دون ما عداهما، والأغلب في استعمال هذه اللفظة ” الدلالة ” و ” الحكم ” دون ما عداهما، وإن كان لا يستعمل في الحكم إلا إذا كان ثبوته يقتضي نفي الحكم الأول، أو علم بالدليل ذلك من حاله. فهذه الوجوه هي جملة ما يستعمل هذه العبارة فيها، وحقيقتها ما ذكرناه. فأما شرائط النسخ فأشياء: منها: أن الدليل الموصوف بأنه ” ناسخ ” وبأنه ” منسوخ ” جميعا يكونان شرعيين. وإنما قلنا ذلك: لأنه إذا كانت الإباحة معلومة بالعقل، ثم ورد الشرع بحظره لا يسمى ذلك نسخا، ألا ترى أنه لا يقال: ” حظر الخمر نسخ إباحته ” لما كانت إباحته معلومة عقلا، فكذلك لا يقال: ” إن الجنون، والموت والعجز نسخ واحد منها ما كان واجبا عليه ” لما كان زوال ذلك عن المكلف معلوم عقلا. وهذا الذي ذكرناه إنما يمنع من إطلاق عبارة النسخ عليه، فأما معنى النسخ


(1) وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، انظر: ” الأحكام للآمدي 3: 138، المنخول: 292: شرح اللمع 1: 501، التبصرة: 264 “. (2) نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز عند جمهور المتكلمين من الأشاعرة، والمعتزلة، والظاهرية، وهو مختار مالك، وأصحاب أبي حنيفة، وابن سريج وآخرون. انظر: ” الأحكام للآمدي 3: 138، المنخول: 292، شرح اللمع 1: 501، الأحكام لابن حزم 4: 505، التبصرة: 264 “.


[ 488 ]

فحاصل فيه على كل حال، ألا ترى أنه لا فرق في سقوط التكليف بين زوال العقل أو حصول الموت والعجز، وبين ورود النهي عنه، في أن في الحالين جميعا يسقط التكليف ؟ وإنما يمنع ذلك من إجراء العبارة عليه على ما قلناه. ومن شرط الناسخ: أن يكون المراد به غير المراد بالمنسوخ، لأنه لو كان مرادا به لدل على البداء، ولاقتضى ذلك كون الأمر أو النهي قبيحا، فعلى هذا يجب أن يكون الناسخ دالا على أن ما تناوله لم يرد قط بالمنسوخ. وبذلك يبطل قول من حد النسخ بأنه: ” زوال الحكم بعد استقراره “، لأن الحكم إذا استقر وثبت أنه مراد، لم يصح أن يرفع، لما يؤدي إليه من الفساد الذي قلناه. وبمثل ما قلناه يبطل قول من حد ذلك بأنه: ” رفع المأمور به بالنهي عنه ” لأنه لو كان كذلك لوجب كونه مرادا بالأمر، ومكروها بالنهي، وذلك يؤدي إلى ما قدمناه من الفساد. ومن شرط الناسخ أيضا: أن يكون منفصلا عن المنسوخ، لأنه إذا كان متصلا به لم يوصف بأنه ناسخ، ألا ترى أنه لا يقال: إن قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فآتوهن من حيث أمركم الله) (1) نسخ للحظر المتقدم، لما كان متصلا به. ومن شرط المنسوخ: أن لا يكون موقتا بوقت يقتضي ارتفاع ذلك الحكم، لأن ما يكون كذلك لا يوصف بأنه ناسخ، ولذلك لا يقال الإفطار بالليل ناسخ الصوم بالنهار، ولكن الواجب أن ينظر في الغاية، فإن كانت غاية معلومة كالليل، لم يوصف الحكم المتعلق بها بأنه ناسخ، وإن كانت مما لا يعلم إلا بنص بأن يرد فتبين حاله، ولولاه لوجب إدامة حكم النص الأول، فإنه يوصف بأنه ناسخ، لأنه جار مجرى قوله تعالى: (إفعلوا كذا وكذا أبدا إلى أن أنسخه عنكم)، وقد علم أن ما يرد من الدلالة بعد ذلك يوصف بأنه ناسخ، وإن كان قد قيد به الكلام الأول، وكذلك ما جرى مجراه من


(1) البقرة 222.


[ 489 ]

الغايات، ولذلك لم يصح ما قاله بعض أصحاب الشافعي من أن قوله تعالى: (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) (1) لا يجوز أن يكون منسوخا بقوله: ” وقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ” (2) الحديث، لأن الآية وإن كانت مشروطة بالسبيل، فهي غاية غير معلومة إلا بدليل لولاه لكان الحكم ثابتا فيه. ويفارق ذلك تعليق الحكم بغاية يجب انقطاعه عندها، كتعليقه بالموت لأن ذلك إنما يزول بحصول ذلك لا بدليل آخر شرعي وهذا ظاهر. ومن حد الناسخ أن يكون في حكم المنسوخ في وقوع العلم به، أو العمل، على ما سنذكره من أن خبر الواحد لا ينسخ به الكتاب. ومن شرطه أيضا: أن لا يكون قياسا، ولا ما يجري مجراه من الأدلة المستنبطة عند المخالف، ونحن ندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى. وليس من شرط الناسخ، أن يكون لفظ المنسوخ متناولا له، لأنه لا يمتنع أن تدل الدلالة على أن المراد بالأمر المطلق تكرار الفعل، فيكون سبيله سبيل الأمر المقيد بما يقتضي التكرار في أن النسخ يصح فيه، وعلى هذا النسخ في الشريعة، لأنه ليس شئ من ألفاظ المنسوخ ظاهره يقتضي التكرار، وإنما علم ذلك من حاله بدليل، وهذا بين لأنه كما لا يمتنع نسخ الفعل وما شاكله من الشرعيات، وإن لم يكن ذلك كلاما، لا يمتنع أن يعلم بدليل أن المراد بالأمر التكرار، فيعترضه النسخ. ويفارق التخصيص الذي قد بينا إنه لا يصح دخوله إلا فيما يتناوله اللفظ العام من هذا الوجه. وليس من شرط الناسخ أن لا يتأخر عن المنسوخ، كما قلنا في تخصيص العام،


(1) النساء: 15. (2) أخرج الحديث مسلم، والترمذي، وابن ماجة، وأبو داود، وابن حنبل، كلهم في كتاب الحدود، انظر أيضا: تفسير التبيان 3: 143


[ 490 ]

وبيان المجمل عن وقت الحاجة، بل هو بالعكس من ذلك في وجوب تأخره عن المنسوخ على ما بيناه. وليس من شرطه أن يكون متناولا لجملة، بل لا لم يمتنع أن يكون متناولا لما يصح نسخ الدليل الشرعي فيه، وإن كان متناولا لحكم في عين واحدة، ويفارق التخصيص في ذلك. وفي الناس من شرط في ذلك (1) أن لا يكون لفظه مقيدا مقتضيا للتأبيد، فقال: لو قال الله تعالى: ” افعلوا الصلوة أبدا ” لما ساغ نسخه، وإنما يجوز إذا أطلق ذلك (2). وهذا بعيد، لأن لفظ التأبيد عندنا في الأمر لا يقتضي الدوام على ما تعورف استعماله، لأن قول القائل لغيره: ” لازم غيرمك أبدا “، أو لابنه: ” تعلم العلم أبدا ” لا يقتضي عندهم الدوام. ويفارق ذلك حال الخبر الذي يتناول ما يصح الإدامة فيه، على أن الصحيح في الخبر أيضا أنه لا يفيد الادامة، ولأجل ذلك يمنع أصحاب الوعيد (3) من التعلق بآيات الوعيد المتضمنة للفظ التأبيد، وإذا لم يقتض ذلك، فكيف


(1) أي في المنسوخ. (2) رأي جمهور الفقهاء والمتكلمين والأصوليين على جواز النسخ وإن اقترن بالمنسوخ ذكر التأييد، إلا أن بعض المتكلمين قالوا: لا يجوز النسخ إلا في خطاب مطلق، فأما إذا قيد بالتأبيد فلا يجوز نسخه، وذهب إلى هذا الرأي أعيان الحنفية كالقاضي أبي زيد الدبوسي، وأبي منصور الماتريدي، والبزودي، والسرخسي، وأبي بكر الجصاص وغيرهم. النظر: ” التبصرة: 255، الأحكام للآمدي 3: 123، شرح اللمع 1: 491، الذريعة 1: 491، المعتمد 2: 373 – 370 و 383 – 382. اصول السرخسي 2: 60 “. (3) الوعيد: التهديد، وفي اصطلاح المتكلمين التهديد بالخلود بالنار، وقيل لا فرق بين الوعد والوعيد سوى أن الوعد صادر عن كرم والوعيد صادر عن غضب في الشاهد، وقد اختلف المتكلمون فيمن يتوجه إليه آيات الوعيد، هل هم الكفار خاصة أم يشمل مرتكبي الذنوب من المسلمين ؟ قال الشيخ المفيد في (أوائل المقالات: 46): ” اتفقت الامامية على ان الوعيد في النار متوجه الى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وإصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أن


[ 491 ]

المنع من نسخه في ذلك ؟ ولو إنه تناول ما قال لم يمنع ذلك من نسخه، لأنه كان يدل على أنه لم يرد باللفظ ما وضع له، فيجري النسخ في ذلك مجرى التخصيص. ومن شرط النسخ: ألا يقع إلا في الأحكام الشرعية دون أجناس الأفعال وضروبها، لأنه إنما ينسخ عن الفعل الذي وجب، بأن يبين أن أمثاله ليست بواجبة، والفعل المحظور يبين أن أمثاله غير محظورة. وليس من شرطه أن يكون للحكم المنسوخ بدل في الأحكام الشرعية، على ما زعم بعضهم (1) وذلك أن ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول ساقط في المستقبل يكون ناسخا له وإن سقط لا إلى حكم آخر، بل عاد حاله إلى ما كانت عليه في العقل، وعلى هذا الوجه نسخ الله تعالى الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه السلام بقوله: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدى نجويكم صدقات) (2) فأسقط لا إلى بدل، فكذلك أسقط ما زاد على الاعتداد على أربعة أشهر وعشرا عن المتوفى عنها زوجها (3) لا إلى بدل. ولأن زوال الحكم إلى بدل لم يكن نسخا لأجل البدل، وإنما كان منسوخا لزواله، فلا فصل بين زواله إلى بدل وإلى غير بدل، وكذلك وصف صوم عاشوراء بأنه منسوخ، وإن كان صوم رمضان لا يجوز أن يكون بدلا منه، لجواز وجوبه مع وجوبه وارتفاع التنافي بينهما. فأما نسخ الحكم ببدل فقد يقع على وجوه: منها: أن يسقط وجوبه إلى الندب، نحو نسخه ثبات الواحد للعشرة (4)، إلى


الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة “. (1) هذا الزعم لبعض الشواذ من الاصوليين المغموريين حيث لم يتي رق المصنفون لذكر أسمائهم، ومذهب اجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل. انظر: ” المعتمد 1: 384، الأحكام للآمدي 3: 124، الذريعة 1: 417 “. (2) المجادلة: 13. (3) راجع سورة البقرة: آية 234. (4) أي نسخ وجوب ثبات الرجل الواحد للعشرة.


[ 492 ]

ثباته للاثنين، لأن ثباته للعشرة مندوب إليه، وكذلك نسخ وجوب قيام الليل فجعله ندبا. وقد يسقط وجوبه إلى وجوب غيره، وذلك على ضربين: أحدهما: أن يسقط الواجب المخير فيه إلى واجب مضيق، وذلك نحو نسخ التخيير بين الصوم والفدية (1) بحتم الصوم بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (2). وقد يسقط الواجب إلى الإباحة، نحو سقوط ما أوجب الله تعالى من ترك الأكل والمباشرة في ليال الصوم إلى إباحة ذلك (3). وقد يسقط المحظور إلى المباح، نحو ما روي عنه عليه السلام أنه قال: ” نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزروها وإدخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها ” (4)، فعلى هذا يجب أن يجري الباب. وليس من شرط نسخ الحكم ألا يقع إلا بما هو أخف منه أو مثله، على ما يذهب إليه بعض أهل الظاهر (5).


(1) إن الله تعالى أوجب في ابتداء الإسلام صيام رمضان مخيرا بينه وبين الفداء بالمال، ونسخه بحتم الصوم. النظر: ” الأحكام للآمدي 3: 125 “. (2) البقرة: 185. (3) الآية الناسخة لحكم وجوب ترك الأكل والمباشرة في ليللي رمضان هي قوله تعالى (البقرة: 187) (احل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم). الآية. (4) جامع الاصول 11: 152، السنن الكبرى 4: 77، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7: 382 – 385. (5) لا خلاف بين جمهور الاصوليين على جواز نسخ الشئ إلى مثله، وإلى أخف منه، وأما نسخ الشئ إلى ما هو أغلظ وأثقل منه فإن الجمهور أيضا على جوازه ووقوعه، إلا أن بعض الشافعية – لا نعرف أسماءهم بالتحديد وقد نسب ذلك للشافعي نفسه إلا أن بعض أعلام الشافعية نفوها عنه – وبعض الظاهرية ذهبوا إلى عدم الجواز. وقال ابن السبكي (الإبهاج 2: 154): إن ابن داود الظاهري هو القائل بعدم الجواز. وقال ابن حزم الأندلسي: (الإحكام 4: 493): ” قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والشئ بمثله، ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل “. (*)


[ 493 ]

وذلك أن الله تعالى إنما ينسخ الحكم بغيره إذا علم أن صلاح المكلف في الثاني، وقد يجوز أن يكون صلاحه فيما هو أشق من الأول كما يجوز أن يكون صلاحه فيما هو أخف، فإذا صح ذلك، ولم يكن الأمر في التكليف موقوفا على اختيار المكلف، لكنه بحسب المعلوم، فكيف يمنع من جواز نسخ الشئ مما هو أشق منه ؟ وهل يذهب ذلك إلا على من لا يعرف أصل هذا الباب ؟ ولا فرق بين من قال هذا، وبين من قال: ” لا يجوز أن يكلف الله ابتدا ما يشق ” على ما يذهب إليه قوم من التناسخيه (1) والقرامطة (2)، وقد ورد النسخ بذلك، ألا ترى


ومن الظاهرية من أجاز عقلا، ومنع منه سمعا. انظر: ” التبصرة: 258، المعتمد 1: 385، الأحكام للآمدي 3: 125، الذريعة 1: 420، شرح اللمع 1: 493، روضة الناظر: 43، ميزان الاصول 2: 1000، اصول السرخسي 2: 62 “. (1) التناسخ = عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن لآخر من غير تخلل زمان بين التعليقين، وذلك لوجود الارتباط الوثيق بين الروح والجسد، بحيث يستحيل وجود ئبقاة أحدهما دون الآخر. ويقال: إن أول من ابتدع هذه الفكرة هو عبد الله بن الحارث المدائني استنادا إلى بعض الآيات والروايات. وتدور هذه الفكرة حول انتقال الروح في أجسام عديدة بحسب قربها وبعدها عن الخير، فالكفار تنتقل ارواحهم الى أجساد الحيوانات المشوهة المذمومة، والمؤمنين تنتقل أرواحهم إلى أجساد طاهرة، فهذه حالهم إلى أبد الآبدين. وبناء على هذه المقولة فإن استقرار الروح في إحدى الجسدين يعد عاقبة الصالحين والطالحين، فلا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. وقد اعتقدت أكثر فرق الغلاة والمشبهة والمجسمة بالتناسخ وقالت به. (2) من فرق الإسماعيلية الناطنية، وهذه النسبة جاءت من رجل يدعى حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط من أهالي الأهواز، الذي كان على مذهب عبد الله بن ميمون القداح، وقد تمكن القرمطي من تبوء الرياسة بين أتباع ابن ميمون وبعث بدعاته إلى بلاد هجر وجنوب العراق، وفي أواخر القرن الثالث للهجرة استطاع أتباعه من احتلال البحرين وإقامة دولتهم فيها ومن هناك بدءوا بنشر دعوتهم في الأهواز والعراق والشام واليمن وكانوا يدعون للثورة ضد الخلافة العباسية وحاربوها مرارا وهزموا جيوشها في البصرة عام 288 ه‍ وفي الشام ومواقع اخرى. وكانوا يكفرون جميع المسلمين ويسنكرون حجهم إلى بيت الله الحرام، وقد هاجموا قوافل الحجيج مرات عديدة وقتلوا منهم عشرات الالوف، وإخيرا أغار أبو طاهر القرمطي يوم 8 ذي الحجة عام 317 ه‍ على مكة المكرمة وقتل وإسر الآف الحجيج وأخذ معه حجر الأسود إلى الإحساء فبقى فيها مدة عشرين سنة إلى أن أعيد إلى مكانه بمساعي الخليفة الفاطمي. وبقيت القرامطة إلى القرن الخامس الهجري لكنها تبدلت إلى لصوص وقطاع طرق تهجم على القوافل إلى أن اضمحلت وبادت.


[ 494 ]

إلى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) (1) آقتضى كون المكلف مخيرا في الصوم (2)، ثم حتم ذلك وألزمه (3)، مع ما فيه من زيادة المشقة على التخيير، ونسخ عن الزاني المحصن الحد المذكور في القرآن (4) بالرجم (5) مع ما فيه من زيادة الألم عند من لم يقل بالجمع بينهما. على أن ما قالوه يقتضي ضد قولهم في الحقيقة، لأنه متى نسخ الحكم بما هو أشق منه كان مؤديا إلى ثواب زائد على ما يؤدي إليه الأخف، صار في الحقيقة أخف عليه وأنفع له لعظم النفع الذي فيه، ومن منع من ذلك فكأنه منع من أن يعرض الله تعالى المكلف لتكليف زائد يؤديه إلى زيادة ثواب، وهذا جهل. فأما تعلقهم بقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) (6) وأنه نبه على أن من حق النسخ أن يكون تخفيفا، وبأن النسخ مأخوذ من ” الإزالة ” فكلما


(1) البقرة: 184. (2) وذلك في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية مسكين ومن تطوع خيرا فهو خير له وإن تصوموا خير لكم) [ البقرة: 185 ]. (3) وذلك بقوله تعالى: (والآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوهاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) [ النساء: 15 ]. (5) روى الشريف المرتضى في ” رسالة المحكم والمتشابه ” بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن أمير المؤمنين – عليه السلام – في حديث الناسخ والمنسوخ: قال: ” كان من شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت وأقيم بأودها حتى يأتيها الموت، وإذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم، وآذوه وعيروه، ولا يكونوا يعرفوا غير هذا، قال الله تعالى في أول الإسلام (والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم….) الآية، فلما كثر المسلمون وقوى الإسلام واستوحشوا امور الجاهلية أنزل الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهم مائة جلدة) الآية، فنسخت هذه آية الحبس والأذى “. انظر: ” وسائل الشيعة: البا ب الأول من حد الزنا من كتاب الحدود، ح 19 “. (6) الأنفال: 66.


[ 495 ]

ما كان ذهب في الإزالة كان من شرطه، فيجب أن لا ينسخ بما هو أشق منه (1). فما بيناه من أن النسخ تابع للمصلحة يسقط جميع ذلك، ويعارض قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (2) لأن هذه الآية تدل على أن ما يأتي به أشق من الأول، أو في حكم الأشق حتى يصح أن يكون خيرا منها، ولم يمنع ذلك من جواز نسخ الشئ بأخف منه، فكذلك القول فيما تعلقوا به من الآية. وأما البداء فحقيقته في اللغة هو ” الظهور ” (3) ولذلك يقال: ” بدا لنا سور المدينة ” و ” بدا لنا وجه الرأي ” وقال الله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا) (4) و (بدا لهم سيئات ما كسبوا) (5) ويراد بذلك كله: ” ظهر “. وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ بعد أن لم يكن حاصلا، وكذلك في الظن. فأما إذا اضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه، ومنه ما لا يجوز: فأما ما يجوز من ذلك، فهو ما أفاد النسخ بعينه، ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهما السلام (6) من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه، من حصول العلم بعد أن لم يكن، ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالى والتشبيه هو أنه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم، اطلق على ذلك لفظ البداء.


(1) انظر: المصادر الئاردة في هامش رقم (5) صفحة 492. (2) البقرة 109. (3) قال ابن فارس: بدو، الباء ئالدال والواو أصل واحد وهو ظهور الشئ، يقال بدأ الشئ يبئو، إذا ظهر. انظر: ” معجم مقاييس اللغة 1: 212، لسان العرب 1: 347، المصباح المنير 1: 40 “. (4) الجاثية: 33. (5) الزمر: 48. (6) انظر الأحاديث الواردة في كتاب الكافي 1: 146 باب البداء.


[ 496 ]

وذكر سيدنا الأجل المرتضى رحمه الله (1) وجها آخر في ذلك وهو أن قال: ” يمكن حمل ذلك على حقيقته، بأن يقال: ” بدا له تعالى ” بمعنى أنه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهرا له، وبدا من النهي ما لم يكن ظاهرا له، لأن قبل وجود الأمر والنهي لا يكونان ظاهرين مدركين، وإنما يعلم أنه يأمر أو ينهي في المستقبل. فأما كونه آمرا أو ناهيا، فلا يصح أن يعلمه إلا إذا وجد الأمر والنهي، وجرى ذلك مجرى أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) (2) بأن نحمله على أن المراد به حتى نعلم جهادكم موجودا، لأن قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودا، وإنما يعلم كذلك بعد حصوله، فكذلك القول في البداء ” (3). وهذا وجه حسن جدا. وأما ما لا يجوز إطلاقه عليه تعالى، هو أن يأمر تعالى المكلف بنفس ما نهاه عنه، على الوجه الذي نهاه عنه، في الوقت الذي نهاه عنه. وإنما شرطنا هذه الوجوه كلها، لأن المنهي عنه لو كان غير المأمور به لم يمتنع أن تقتضي المصلحة الأمر به والنهي عن مثله، وكان لا مدخل له في البداء: ولأن النهي لو تعلق به على غير الوجه الذي تناوله الأمر كان حسنا، نحو أن يأمر الله بالصلاة على وجه العبادة له تعالى، وينهى عنها على وجه العبادة للشيطان. وإنما شرطنا الوقت الواحد، لأن المأمور به في وقت لو نفى عنه في وقت آخر وصح وقوعه لكان ذلك حسنا في الحكمة، كما يصح أن يحسن من الله تعالى فعل الجسم في بعض الأوقات، وإن كان لو فعله بعينه في وقت آخر وقد أفناه لم يمتنع أن يكون قبيحا.


(1) قدس الله روحه. (2) محمد: 31. (3) لم نعثر على مصدر هذا القول في مصنفات الشريف المرتضى (ره) ولعل المصنف نقله عن مجالس الشريف المرضى مشافهة.


[ 497 ]

وإنما يقبح ذلك لا لأنه يدل على البداء، لكن لأنه تكليف ما لا يطاق، ولأن ما يصح أن نفعله في وقت، لا يصح أن نفعله في وقت آخر، لاختصاص مقدور القدر بالأوقات على ما دل عليه الدليل. وإنما جعلنا المأمور هو المنهي، لأنه لو صح كون المقدور الواحد لقادرين لم يمتنع أمر أحدهما به ونهى الآخر عنه على بعد ذلك. وإنما قلنا إن ما اجتمعت فيه هذه الشرائط لا يجوز على القديم تعالى، لأنا قد بينا أن الله تعالى إنما يأمر العبد بالشئ لتعلق المصلحة به، وينهاه لتعلق المفسدة به، ومحال في الشئ الواحد، في الوقت الواحد، أن يكون مصلحة ومفسدة. وأما نسخ الشريعة فمخالف لما قدمناه، لأنا قد بينا في حده أنه إسقاط الحكم الذي تناوله النص المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه، وذلك يقتضي أن المأمور به غير المنهي، عنه وأن وقت المنهي غير وقت المأمور به. وقد بينا أيضا الفرق بين النسخ والتخصيص (1)، وذكرنا أن تخصيص العموم هو: ” ما دل على أنه لم يرد به إلا بعض ما تناوله اللفظ “، وأنه لا يصح دخوله مما لم يتناوله لفظ العموم، والنسخ بخلافه، وبينا أيضا أن شروطهما وأحكامهما تختلف، لأن النسخ يصح فيما لا يصح التخصيص فيه، ويصح التخصيص فيما لا يصح النسخ فيه، وذلك واضح. والذي يعتمد في هذا الباب أن النسخ والتخصيص جميعا يتناولان الأفعال دون الأعيان والأوقات والأحوال، على خلاف ما يدعيه بعض من يتكلم في هذا الباب، لأن التخصيص يدل على أنه لم يرد بالعموم ما لولاه لكان يدل على أنه مراد، وكذلك النسخ. والذي يريده المخاطب الحكيم هو الأفعال دون الأعيان والأوقات، لأن الأعيان لا يصح أن تراد، والأوقات لا يحتاج إلى إرادتها، لأنها ليست متعلقة بالتكليف، وكذلك الأحوال، فإذا صح هذا صح ما قلناه.


(1) راجع كلام المصنف في ص 336 فصل [ 11 ].


[ 498 ]

وإنما يقال: إن التخصيص يخص الأعيان، ويراد به أنه اريد بالعموم الفعل من بعض الأعيان دون بعض، أو في بعض الأوقات فيرجع التخصيص في التحقيق الى الأفعال، لكنها لما كانت تقع من الأعيان في الأوقات وجب أن تذكر، فإن لم تكن هي المراد بالكلام، وهذا هو الذي يجب الاعتماد عليه دون غيره، لأن الكلام على المعاني دون العبارات.


[ 499 ]

فصل [ 2 ] ” في ذكر ما يصح معنى النسخ فيه من أفعال المكلف، وما لا يصح، وبيان شرائطه ” أفعال المتكلف على ضربين: أحدهما: لا يصح معنى النسخ فيه. والآخر: يصح ذلك فيه. فالذي لا يصح معنى النسخ فيه على ضربين: أحدهما: لا يصح ذلك فيه لأن الصفة التي يقع عليها الفعل لا يجوز خروجه عنها، ولا حصول ضدها فيه، وذلك مثل وجوب الإنصاف، وشكر المنعم، وقبح الكذب والجهل، وغير ذلك من الواجبات العقلية (1) التي لا يجوز خروجها عن كونها على تلك الصفة، فما يكون كذلك لا يصح معنى النسخ فيه، لأن من المحال أن يكون الإنصاف مع كونه إنصافا، وشكر النعمة مع كونه (2) شكرا للنعمة يخرجان من كونهما واجبين، وكذلك لا يصح أن يخرج الجهل والكذب عن القبح إلى الحسن، فعلم بذلك أن معنى النسخ (لا يصح في جميع ذلك.


(1) في الاصل: العقليات. (2) في الاصل: كونها.


[ 500 ]

وذهب المعتزلة إلى أن معنى النسخ (1) يصح في شكر النعمة، لأنه يجوز أن يفعل المنعم من الإسائة ما يوفي على النعمة، فيبطل الشكر عليها، وذلك يصح على مذهبهم في الإحباط (2) لا على ما نذهب إليه من فساد القول بالإحباط (2) لأن (1) زيادة من النسخة الثانية. (2) مما يعد من الضروريات عند المسلمين گون الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة، وأن الإيمان يزيل استحقاق عقاب المعاصي السايقة، كما أنه لا خلاف في استحقاق المكلف للثواب والعقاب الاخرويين إذا تفرد بالطاعة أو تفرد بالمعصية، وأما إذا جمع بين المعاصي والطاعات ففي هذا الحال إما أن تتساوى الطاعات والمعاصي أو تزيد إحداهما على الاخرى، ففي صورة التساوي فإن المعتزلة متفقون على عدم إمكان وقوعها لاستحالة استواء الثواب والعقاب عندهم، ولأنه يلزم دخول العاصي للجنة والمطيع إلى النار (انظر استدلال القاضي عبد الجبار في كتاب ” شرح الاصول الخمسة ” ص 623). وأما في صورة زيادة الطاعات على المعصي أو العكس، فقد اختلف المتكلمون في أنه هل يجوز اجتماع واستحقاق والعقاب والثواب من غير أن يزيل ويحبط أحدهما الآخر أم لا ؟، فالمعتزلة ترى أن الثواب يسقط بوجهين: أحدهما: ندم الفاعل على ما أتى به من الطاعات، والثاني: إتيانه بمعصية هي أعظم منه، أي أن الأكثر يزيل الأقل ويسقطه، وهذا هو معنى الإحباط والتكفير عندهم، أي إن الأكثر يحبط الأقل ويكفره. والبدع لهذا النظرية هو أبو علي الجبائي، فقد نسب إليه قوله: ” إن من الذنوب كبائر وصغائر، وإن الصغائر يستحق غفرانها باجتناب الكبائر، وإن الكبائر تحبط الثواب على الإيمان، واجتناب الصغائر يحبط عقاب الكبائر… ” [ انظر مذاهب الإسلاميين للأشعري ط ريتر ص 270 وط مصر 1: 305 ] وبعبارة أوضح حينما يكون العبد مطيعا وعاصيا في الدنيا فإنه يستحق العقاب والمدح الاخرويين، لكن في بعض الحالات يكون عظم المعصية بحيث يترجح جانب المعصية على الطاعة ويزيلها فلا يستحق العبد إلا العقاب والذم. وأما الرأي السائد عند الإمامية: فهو عدم التحابط، وأن المكلف يعاقب على طاعته ويعاقب على عصيانه، يقول الشيخ المفيد: [ أوائل المقالات: 82 رقم 61 ]: ” أقول: إنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات ولا الثواب ولا العقاب، وهذا مذهب جماعة من الإمامية والمرجئة، وبنو نوبخت يذهبون إلى التحابط فيما ذكرناه ويوافقون في ذلك أهل الاعتزال “. وقال المصنف في ” الإقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: ص 193 “: ” ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ولا بيت المستحق عليهما من ثواب وعقاب، ومتى ثبت استحقاق الثواب فإنه لا يزيله سئ من الأسياء، والعقاب إذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شئ من الأشياء عندنا إلا التفضل ” انظر: ” الأحاديث الواردة في اصول الكافي 1: باب الذنوب ص 268 و 1: باب الكبائر: ص 276، كشف المراد: المسألة السابعة في الإحباط والتكفير، مناهج اليقين في اصول الدين: 352، مذاهب


[ 501 ]

بالإسائة عندنا لا يبطل شكر النعمة، وإنما يستحق بها الذم والعقاب فيمن يصح ذلك فيه لا غير. والقسم الآخر: لا يصح معنى النسخ فيه لأنه لا يصح خروجه عن كونه لطفا، وذلك نحو وجوب المعرفة بالله تعالى وصفاته، ونحو وجوب الرياسة التي نوجبها عقلا، فإنه لا يصح خروج ذلك أجمع عن كونها لطفا، فإذا لا يصح معنى النسخ فيها اصلا. فأما ما يصح معنى النسخ فيه: فهو كل فعل يجوز أن يتغير من حسن إلى قبح، فيقع على وجه فيكون حسنا وعلى آخر فيكون قبيحا، ويقع في وقت فيكون حسنا، وفي آخر فيكون قبيحا، ويقع من شخص فيكون حسنا، ومن آخر فيكون قبيحا، وذلك نحو المنافع والمضار، ولا اعتبار في ذلك بجنس الفعل، بل الاعتبار في ذلك بالوجوه التي يقع عليها الفعل، وعلى ذلك جميع الشرعيات لأنها قد تكون واجبة في وقت دون آخر، وعلى شخص دون غيره، وعلى وجه دون آخر ألا ترى أن القعود في موضع مباح قد يكون حسنا ثم يعرض فيه وجه قبح بأن يخاف سبعا أو لصا أو وقوع حائط عليه وما شاكله، فيصير القعود نفسه قبيحا. ولما ذكرناه اختلفت الشرايع ودخل النسخ فيها، واختص بعض المكلفين بما لم يشركه فيه غيره، وذلك أن الإمساك في السبت كان واجبا في شرع موسى عليه السلام، ثم صار قبيحا في شرع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك من الشرائع. ويجب على الحائض ترك الصلاة والصوم ولا يجب ذلك على غيرها، بل يكون ذلك قبيحا منه، فعلى هذا ينبغي أن يجري هذا الباب. فأما النسخ في الأخبار: (1) فقد اختلف العلماء في ذلك:


الإسلاميين 1: 298، شرح المواقف 8: 308 “. (1) النسخ في الأخبار إما أن يكون لنسخ أصل الخبر أو لنسخ ودلوله وفائدته: أما الأول: أما أن يختص النسخ بتلاوته أو يتعلق بتكليفنا بذلك الخبر، بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشئ فينسخ عنا التكليف ووكل واحد من الأمرين جائز بين الاصوليين القائلين بجواز النسخ، لأن


[ 502 ]

فذهب أكثر من تكلم في اصول الفقه من المعتزلة وغيرهم – وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم – إلى أن النسخ في الأخبار لا يجوز، وعللوا ذلك بأن قالوا: تجويز ذلك في أخبار الله تعالى يوجب أن يكون أحد الخبرين كذبا، وفصلوا بينه وبين الأمر والنهي (1). وذهب أبو عبد الله البصري، وصاحب ” العمد ” (2) وهو الذي اختاره سيدنا


نسخ التلاوة مطلقا أو نسخ تكليف الأخبار يعدان من الأحكام الشرعية، فجاز أن يكون مصلحة في وقت فيثبته الشارع ومفسدة في آخر فينسخه، وهذا مما لا خلاف فيه وقد اتفق الجميع على إمكان ثبوته ونسخه، إنما الخلاف في أنه هل يجوز أن ينسخ تكلفنا بالأخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالأخبار بنقيضه أم لا ؟ قالت المعتزلة: انه لا يجوز ذلك لأنه كذب، والتكليف بالكذب قبيح على الشارع بناء على أصل التحسين والتقبيح العقليين: وإنه يلزم على الله تعالى رعاية المصلحة في أوامره ونواهيه. أما الثاني: إن مدلول الخبر وثمرته اما أن يكون مما لا يتغير ويعد من الثوابت الضرورية، كمدول الخبر بوجود الإله وحدوث العالم وبعثة الأنبياء، أو مما يتغير وليس له ثبوت بالضرورة. أما الأول منسخه محال بالإجماع، وأما الثاني فقد اختلف الاصوليون والمتكلمون في حكمه على أقوال: 1 – المنع من النسخ: قالوا: إن الأخبار عما يتغير مدلوله وثمرته سواء كان ماضيا كالإخبار عن إيمان زيد وكفره، أو مستقبلا، وسواء كان وعدا أو وعيدا أو حكما شرعيا فإنه يمتنع دفعه، وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، والجبائيان وأبي إسحاق الشيرازي، وابن حزم الأندلسي. 2 – الجواز: وهو مذهب القاضي عبد الجبار، وأبي عبد الله البصري، وأبي الحسين البصري، والبيضاوي. 3 – التفصيل بيت الخبر الماضي والمستقبل: فمنع في الماضي وجوز في المستقبل، وهو مذهب أبي بكر الدقاق، ومحمود بن عبد الرحمن الإصفهاني. انظر: ” الذريعة 1: 427 – 426، الأحكام للآمدي 3: 130، اللمع: 57، شرح اللمع 1: 489، شرح المهاج 1: 475، المعتمد 1: 387، الأحكام لابن حزم 4: 474، ميزان الاصول 2: 993 اصول السرخسي 2: 59 “. (1) النظر التعليقة رقم (1) صفحة 501. (2) هو القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني الأسد آبادي المعتزلي، وكتابه (العمد) أحد الكتب الأربعة التي قام عليها علم اصول الفقة عند أهل السنة، قال ابن خلدون (ص 455): ” وكان من أحسن ما ألف في علم اصول الفقة كتاب (البرهان) لإمام الحرمين الجويني، و (المستصفى) للغزالي، وهما من الأشعرية، وكتاب (العمد) لعبد الجبار، وشرحه (المعتمد) لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة، وكانت هذه الكتب الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه) ” وقد أخطأ ابن خلدون حين جعل المعتمد شزحا للعمد !، ولم يصلنا كتاب


[ 503 ]

المرتضى رحمه الله إلى أن ذلك يجوز، ولا فرق بين الخبر والأمر والنهي في هذا الباب (1). واعلم (2) أن الأخبار على ضربين: أحدهما: يتضمن معنى الأمر والنهي. والآخر: لا يتضمن ذلك بل يكون خبرا محضا عن صفة الشئ في نفسه. فما يكون معناه معنى الأمر والنهي، فإنه يجوز دخول النسخ فيه، لأنه لا فرق بين أن يقول: (صلوا الجمعة يوم الجمعة)، وبين أن يقول، (صلاة الجمعة يوم الجمعة واجبة)، في أنه يجب في الحالين الصلاة، ومع ذلك يجوز معنى النسخ فيه بأن تخرج الصلاة من كونها واجبة، وقد ورد القران بمثل ذلك، قال الله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء) (3)، وقال: (الطلاق مرتان) (4) وقال: (من دخله كان آمنا) (5)، وقال: (ولله على الناس حج البيت) (6)، وكل ذلك خبر، إلا أنه لما كان معناه معنى الأمر جاز دخول النسخ فيه لجواز تغيره من حسن إلى قبح. أما ما لا يكون معناه معنى الأمر أو النهي، وهو الذي يتضمن خبرا محضا عن صفة الشئ في نفسه، فهو على ضربين.


(العمد) ويعتبر في عداد المفقود والضائع من تراث المعتزلة ويرى فؤاد سزكين (تاريخ التراث العربي مج 1: 4: ص 82). أنه من المحتمل أن يكون (العمد) هو الكتاب الموجود بمكتبة الفاتيكان برقم 1100 باسم (الإختلاف في اصول الفقة) إلا أنه يمكن الوصول إلى آراء عبد الجبار ومنهاجه عبر مصدرين رئيسين هما: (المعتمد) لأبي الحسين البصري الذي كان تلميذه وصفيه ورفيقه على درب الاعتزال والاصول معا وقد اهتم بكتاب العمد دارسا له ومستوعبا إباه واستشهد به في كثير من مواضع كتابه. والآخر كتاب (المغني) للقاضي نفسه فإنه برغم أن تأليف الكتاب كان لأجل بيان آرائه في علم الكلام واصول الاعتقاد، نجده يجعل الجزء السابع خاصا بالأدل ء الشرعية. (1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 500 (2) والذي ينبغي أن يحصل في هذا البا ب. (3) البقرة: 228. (4) البقرة: 229. (5) آل عمران: 97. (6) آل عمران.


[ 504 ]

أحدهما: أن لا يجوز تغير تلك الصفة، عما هو عليه (1)، فما يكون كذلك يجوز معنى النسخ في الأخبار عنه، فأما الانتقال إلى ضده فلا يجوز لأن ذلك جهل وذلك نحو الإخبار عن صفات الله تعالى، ووحدانيته، فإنه يجوز أن نتعبد بالإخبار عن ذلك، وتارة ينسخ عنا الإخبار عنها، ولا يجوز أن نتعبد بالإخبار عن ضدها، لأن ذلك جهل على ما قدمناه. والضرب الآخر: هو ما يجوز انتقاله عن تلك الصفة، فإنه لا يمتنع أن نتعبد بالإخبار عن تلك الصفة مادام الموصوف عليها، فإذا انتقل إلى غيرها نتعبد بالنهي عن أن يخبر عما كنا (2) نخبر به، لتغير المخبر في نفسه. وهذه جملة كافية في هذا الباب وشرحها يطول، وفيما ذكرناه مقنع إن شاء الله. فأما شرائط أن يأمر المكلف بنفس ما نهي عنه فهي: إن يأمره به على غير الوجه الذي نهاه عنه، وذلك نحو نهيه تعالى، المكلف أن يصلي الصلوة عبادة للشيطان، وأمره إياه بأن يفعلها عباده له تعالى، ونحو أمره تعالى، بالإخبار عن نبوة نبينا محمد عليه السلام (3) ونهيه عن نبوة غيره. وإنما قلنا: إن الأمر بالشئ والنهي عنه على هذا الوجه يكون قبيحا، لأن ذلك يدل على البداء على ما قدمنا القول فيه، ويؤدي إلى أن يكون الأمر به قبيحا إن كان المأمور به قبيحا، وإلى أن يكون النهي عنه قبيحا إن كان الفعل حسنا. وكذلك: لا يجوز أيضا أن يأمر بالشئ وينهاه عنه بعينه في وقتين، لأن ذلك تكليف ما يطاق، لأن مقدور المكلف في أحد الوقتين لا يصح أن يفعله في الوقت الآخر، فمتى نهاه عن الوقت الآخر، فقد نهاه عما لا يقدر عليه، وذلك قبيح. وكذلك: لا يجوز أن يأمر زيدا بالشئ الذي نهى عنه عمرا، لأن كونه مقدورا لأحدهما يمنع من كونه مقدورا للآخر.


(1) في الاصل: تلك الموصوف. (2) لنا أن. (3) صلى الله عليه وآله وسلم.


[ 505 ]

وكذلك: لا يحسن أن يأمر بالشئ على وجه يحسن عليه، وينهى عنه على وجه آخر يحسن أيضا عليه، لأن ذلك يقتضي قبح النهي، لأن النهي عن الحسن قبيح. فأما النهي عن غير المأمور به فلقد يحسن على وجوه: منها: أن يأمر زيدا بمثل ما نهى عنه عمرو تعالى، لأن ما يقع حسنا من زيد لا يمنع أن يقع من عمرو قبيحا، وذلك أمر الله تعالى الطاهر بالصلاة، ونهيه الحائض عنها، وهذا على ضربين: أحدهما: أن يقع منهما على وجه واحد. والآخر: أن يقع منهما على وجهين، والحال فيهما سواء. ومنها: أن يأمر عز وجل زيدا (1) الثاني بمثل ما نهاه عنه في الأول فيحسن، لأن كونه قبيحا في الأول لا يمنع من وقوعه حسنا في الثاني، ونسخ الشريعة على هذا الوجه، ولا فصل في ذلك بين أن يقع في الوقت الثاني على الوجه الذي وقع عليه في الأول، وبين أن يقع على غير ذلك الوجه. فأما نهي زيد عن مثل ما أمر به في وقت واحد، فإنما لا يحسن لأنه يبعد أن يكون الفعلان المثلان الواقعان منه على وجه واحد يختلف معهما في الصلاح فيكون أحدهما مصلحة والآخر مفسدة. وقد يصح الأمر بالشئ والنهي عن غيره على وجوه اخر، وكذلك الأمر بغير ما وقع الأمر به والنهي عن مثل ما وقع النهي عنه، ولم يذكر ذلك لأن الغرض بيان ما يحسن من ذلك ليبين بذلك أن نسخ الشريعة منها. وهذه جملة في هذا الباب.


(1) في الحجرية زيادة في الوقت.


[ 506 ]

فصل [ 3 ] ” في ذكر جواز نسخ الشرعيات ” الخلاف المعروف في هذه المسألة مع اليهود، وقد حكي حكاية عمن لا يعتد بقوله من أهل الصلاة الامتناع من نسخ الشرائع، وقوله مطروح لا يلتفت إليه (1).


(1) أظن أن الشيخ يشير بذلك إلى قول الإصفهاني حيث نسب إليه الاصوليون أنه – يقول بعدم جواز نسخ الشرائع، وقد اختلف في إسمه فقال الشيرازي: هو أبو مسلم عمرو بن يحيى الإصفهاني (التبصرة: 251) وقال آخرون: أن أبا مسلم الذي يخالف في النسخ هو أبو مسلم بن محمد بن بحر الإصفهاني لا عمرو بن يحيى، وقيل: أنه محمد بن عمر، وفي كل الأحوال فقد وصف الإصفهاني بأنه رجل معروف بالعلم، وكان نحويا، كاتبا، معتزليا، عالما بالتفسير، له تفسير (جامع التأويل لمحكم التنزيل) في أربعة عشر مجلدا على هذهب المعتزلة، ولد سنة 254 وتوفي سنة 322 ه‍، وقد روى الشريف المرتضى في أماليه في سبعة مواضع عن تفسيره، ولقد كثرت النقول عن الإصفهاني في مسألة جواز النسخ وعدمه، فقيل: يمنعه بين الشرائع، وقيل: في الشريعة الواحدة، وقيل: في القرآن خاصة، وقيل: يمنعه شرعا ويجوزه شرعا، إلا أن الشريف المرتضى – وتبعه ابن السبكي في (رفع الحاجب 2 ق – 132 / ب) [ انظر: التبصرة ص 251 هامش رقم 2 ] رد الخلاف فيها إلى خلاف لفظي، والشريف أدرى الناس بكلام الإصفهاني إذا وقف على تفسيره واطلع على آرائه ونقل عنه في أماليه [ انظر: غرر الفوائد 1: 13، 367، 454، و 2: 99، 234، 304، 305 ] حيث يقول في: (الذريعة 1: 425): ” ومن شذ من جملة المسلمين فخالف في هذه المسألة، فإنما خلاف يرجع إلى عبارة، ولا مضايقة في العبارات مع سلامة المعاني “.


[ 507 ]

واليهود على ثلاث فرق (1): أحدهما: يمنع من نسخ الشرائع عقلا. والفرقة الثانية: تجوز النسخ عقلا، وتمنع منه سمعا. والفرقة الثالثة: تجوز النسخ عقلا وسمعا، وإنما تنكر نبوة نبينا عليه السلام (3) وإذا بين الدلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الظاهرة على يده من القرآن وغيره من الآيات التي ظهرت على يده، ودل على وجه الإعجاز منها، ثبتت نبوته عليه السلام (4)، وإذا ثبتت نبوته بطل قول من أنكر نبوته عليه السلام، وإن جاز ذلك عقلا وسمعا. وكذلك يبطل بصحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم قول من منع من النسخ عقلا، غير إنا نبين أن ما يدعون من الشبهة العقلية باطل، ليعلم بذلك أن الذي تعلقوا بع غير صحيح، وأنه لو لم تثبت نبوة نبينا ولا نبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام لكان ما ذكرناه جائزا سائغا.


(1) قال الشريف المرتضى في معرض تعليقه على نقل آراء اليهود (الذريعة 1: 452): ” ولا معنى للكلام على اليهود في أبواب اصول الفقه “، وهو كذلك لأن حكاية خلاف اليهود في كتب اصول الفقه مما لا يليق، لأن الكلام في اصول الفقه فيما هو مقر في الإسلام وفي اختلاف الفرق والمذاهب الإسلامية، وأما حكاية خلاف الكفار في هذه المسألة وغيرها فالمناسب ذكرها في كتب الكلام واصول الدين. ولكن برغم ذلك فإن أغلب الاصوليين قد تعرضوا لأقوال اليهود والإجابة عنها، راجع: ” التبصرة: 252، المستصفى 1: 111، المنخول: 288، اللمع: 55، الأحكام للآمدي 3: 106، شرح اللمع 1: 482، شرح المنهاج 1: 464 المعتمد 1: 370، الأحكام لابن حزم 4: 470، ميزان الاصول 2: 983 “. (2) صلى الله عليه وآله وسلم. (3) قيل إن هذه الفرقة من اليهود والتي تسمى ب‍ (العيسوية) تقول بجواز نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لكن يقولون إن نبوته إلى العرب خاصة لا إلى الامم كافة. [ انظر: الأحكام للآمدي 3: 106 ]. (4) صلى الله عليه وآله وسلم.


[ 508 ]

وليس هذا موضع الكلام في النبوة، فكنا ندل عليه وهو مذكور في كتب الاصول مستقصاة. والذي يدل على جواز النسخ من جهة العقل هو: أنه ثبت أن العبادات الشرعيات تابعة للمصالح، ولكونها ألطافا في الواجبات العقلية، ولولا ذلك لما وجبت (1) على حال. وإنما قلنا ذلك: لأن الشئ لا يجب بإيجاب موجب، وإنما يجب لصفة هو عليها يقتضي وجوب الشئ وانما يدل ايجاب الحكيم له على ان له صفة الوجوب بان (2) يصبر واجبا بايجابه لان ايجاب ما ليس له صفة الوجوب يجرى في القبح مجرى ايجاب الظلم والقبيح أو اباحتهما، وقد علم قبح ذلك. وإذا ثبت هذه الجملة فلا يخلو وجه وجوب هذه العبادات ان يكون عقليا أو ما ندعيه من كونها مصالح والطافا فلو كان وجه وجوبها عقليا لوجب ان يعلم بالعقل وجوب هذه العبادات، وكما علم وجوب جميع الواجبات العقلية من وجوب هذه الاشياء بيانا في العقل وقد علمنا انا لا نعلم بالعقل وجوب الصلاة ولا الزكاة، ولا الصوم، ولا غير ذلك من العبادات التي جاءت الشرايع بها، بل لا يحسن فعلها بالعقل وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع ان تتغير المصالح، فيصير ما كان داعيا الى فعل الواجب صارفا عن فعله أو يصير داعيا الى فعل القبيح وما يكون مصلحة لزيد لا يكون مصلحة لعمرو وما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة في وقت آخر، وذلك يوجب النسخ والا قبح التكليف. فان قيل: لم لا يجوز ان يكون وجه وجوب هذه العبادات هو ان لنا فيها ثوابا


(1) وجب. (2) لا ان. (*)


[ 509 ]

دون كونها الطافا ؟ قيل: (1) الشىء لا يجب (2) من حيث كان فيه ثواب لانه لو كان كذلك، لكانت النوافل كلها واجبة، ولم يكن فرق بينهما وبين الواجبات، فلا بد من القول بما قلناه من انهما انما وجبت لكونها الطافا وانما قلنا بذلك لان ما يقع عنده الواجب لولاه لم يقع يجب كوجوبه لا محالة وقد ورد القرآن ايضا منبها على ما قلناه قال الله تعالى: (ان الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (3) فبين انها انما وجبت من حيث كانت صارفة عن فعل القبيح وقال في تحريم الخمر (انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة) (4) فبين ان وجه قبحها كونها صادة عن ذكر الله وموقعة للعداوة والبغضاء وذلك امرا مطلقا فإذا تغير وجه الحسن فيه الى وجه القبح نهى عنه. وذلك هو النسخ الذي قلناه. وقد تعلق من خالف في ذلك باشياء (5). منها: ان قالوا: ان ذلك يؤدي الس البداء. ومنها: انه يؤدي الى كون الحسن قبيحا. ومنها: انه يقتضى استحقاق الثواب على ما يستحق به العقاب والوعيد على ما يستحق به الوعد. ومنها: انه يقتضى استحقاق الثواب على ما يستحق بع العقاب والوعيد على ما يستحق به الوعد. ومنها: انه إذا اطلق الامر على حسن المأمور به ابدا فلو نهى عنه لانتقضت دلالته على ذلك. ومنها انه إذا اطلق الامر اقتضى حسن المأمور به ابدا لانه لو كان حسنا الى


(1) قيل له. (2) يوجب. (3) العنكبوت: 45. (4) المائدة: 91. (5) لاحظ اقوال المخالفين في المصادر الواردة في ذيل هامش رقم (1) صفحة 507. (*)


[ 510 ]

وقت لبين ذلك الوقت كما يجب ان يبين خصوص العام وتفسير المجمل والا كان الخطاب قبيحا، فإذا لم يبين دل على ان الفعل حسن ابدا، وإذا كان حسنا ابدا فالنهي عنه قبيح. ومنها: انه إذا اطلق الامر بفعل وجب اعتقاد لزوم المأمور له ابدا والعزم على فعله دائما والنهي عنه يقتضي كون العزم والاعتقاد قبيحين. ومنها: انه إذا اطلق الامر وغرضه في الخطاب افادة المخاطب، فلولا ان المأمور به يلزم ابدا لبين له ولما ابهم له ما امره به، لان ذلك تلبس. ومنها: انه إذا امر إذا بالشىء مطلقا دائما، فلو جوزنا النهي عنه لادى الى الا يوصف بالقدرة على ان لا يخاطبنا بخطاب يقتضى الدوام ويقطع عليه. فهذه الوجوه اقوى ما يتعلقون به ونحن نجيب عن واحد واحد منها على وجه يزول معه الشك انشاء الله تعالى. والجواب عن الشبهة الاولى والثانية والثالثة بشئ واحد: وهو انا قد بينا فيما مضى ان النسخ الذي نجيزه هو أن يكون النهى متناولا لمثل ما تناوله الامر لا لعين ما تناوله، وذلك يبطل قولهم: انه يؤدى إلى البداء ويبطل قولهم: انه يؤدى إلى كون الحسن قبيحا، لان الحسن غير القبيح على ما قررناه، ويبطل ايضا قولهم: انه يستحق العقاب بما يستحق به الثواب، لان على التقرير الذي قررناه ما يستحق به الثواب غير الذي يستحق به العقاب. والجواب عن الشبهة الرابعة: وهي قولهم: ” ان الامر باطلاقه يدل على حسن المأمور به ابدا فلو نهى عنه لانتقضت دلالته على ذلك ” فهو ان الامر عندنا لا يقتضى التكرار بمجرده وانما يقتضى الفعل مرة واحدة (1)، فعلى هذا سقطت الشبهة. فإن اقترن باللفظ قول الامر ” إفعل أبدا ” فلفظ التأبيد لا يفيد الدوام على كل حال، لان هذه اللفظة تستعمل فيما لا يراد الدوام، الا ترى ان القائل يقول ” الزم فلانا أبدا ” أو ” امض


(1) انظر استدلال المصنف في ص 199 فصل [ 7 ] (*)


[ 511 ]

في طلب العلم أبدا ” أو ” اتجر أبدا ” وغير ذلك، ونحن نعلم انه لا يراد بجميع ذلك الدوام، لانه لا بد من انقطاع المأمور به. وان اقرن باللفظ دليل يدل على ان المراد بالامر التكرار، فذالك ايضا لا يدل على الدوام، لانه انما يقتضى تكرار الفعل ما دام مصلحة، فأما إذا تغيرت فلا يقتضيه، لان دلالة السمع تترتب على دلالة العقل ومعلوم بالعقل ان الله تعالى إنما يأمرنا بالفعل مادام مصلحة لنا، فإذا صار مثله مفسدة وجب أن ينهى عنه ويجري ذلك مجرى ما علم بالعقل انه يأمرنا بالفعل ما دمنا قادرين، فإذا عجزنا عنه سقط التكليف عنا، فإذا ثبت ذلك كان أمره تعالى مرتبا على دليل العقل، ويصير ذلك في حكم المنطوق به. وإذا ثبت ما قلناه فقولهم: ” ان النهي ينقض دلالة الامر ” كقول القائل إن العجز المزيل للزوم المأمور به ينقض دلالة الامر، وذلك بين الفساد والجواب عن الشبهة الخامسة، وهى انه إذا اطلق الامر، فلو كان المراد به إلى وقت لبينه كما يجب بين الخصوص والمجمل، فهو: ان الامر انما يجب أن يبين ما قصد بالامر إليه وما لا يصح مع عدم بيانه، إذ المأمور به من المكلف، فاما ما عداه فلا يجب بيانه في، الحال وقد علمنا ان المكلف متى بين له صفة ما امر وأمكنه أداه على الوجه الذي كلفه، وان لم يبين له الوقت الذي يزول وجوب ذلك فيه، ولا يصح منه اداء المأمور به بالخطاب المجمل إلا بعد البيان، وكذلك القول في تخصيص العموم فلذلك ساغ تأخير بيان النسخ عن حال الخطاب، وامتنع ذلك في تخصيص العام وبيان المجمل، والشاهد يشهد بصحة ما قلناه ولان السيد لو أمر غلامه يأخذ وظيفة له في كل يوم وفي نيته إلى غاية، لم يجب ان يبينها له وان كان لابد من أن يبين له صفة الوظيفة التي امره باخذها، وهذا بين. والجواب عن الشبهة السادسة وهي قولهم: إنه إذا اطلق الامر فقد أوجب اعتقاد لزوم المأمور به أبدا، أو العزم على فعله أبدا، والنهى يقتضى كونهما قبيحين فهو: ان الامر إذا ورد فإنما يجب أن يعتقد المأمور فعله مادام مصلحة، والعزم على


[ 512 ]

فعله على هذا الشرط وورود النهى عن أمثاله لا يؤثر في، ذلك هذا إذا كان الخطاب في حال يجوز فيها النسخ، فاما بعد انقطاع الوحى، فيجب أن يعتقد بمثل ذلك ويعزم عليه ما دام على صفة يلزمه ففي الحالين لابد من دخول الشرط في العزم والاعتقاد، وإن كان في أحد الحالين مشترطا لشيئين وفي الحال الاخرى بوجه واحد. والجواب عن الشبهة السابعة، وهي قولهم: إذا اطلق الامر وغرضه إفادة المخاطب، فلو لم يلزم المأمور به أبدا لبين، لانه لا يجوز أن يقصد التلبيس، فاذالم يبين علم دوامه، فهو أن يقال لهم: أليس الامر لم يبين الوقت الذي يزول فيه التكليف ؟ فلابد من نعم. فيقال له: أفتنسبه إلى انه ليس ؟ فإن قال: نعم، التزم ما اراد إلزامنا. وان قال: لا، لانه قد دل من جهة العقل عليه في الجملة. قيل له: وكذلك قد دل على جواز النسخ من جهة العقل في الجملة. على أنه انما يقال: ليس إذا يبين ما يجب بيانه ويحتاج المكلف إليه فيما كلف، واما إذا لم يبين ما ليس هذه حاله، والمعلوم انه سيبينه في حال الحاجة، فالتلبيس زائل. والجواب عن الشبهة الثامنة، وهي قولهم: إن أمره بالشئ مطلقا لو لم يمنع من النسخ، لما كان موصوفا بالقدرة على أن يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوال التكليف، فهو: أنه يصح ان يعرف ذلك بأن يضطر إلى قصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه، كما اضطررنا إلى قصده في ان شرعه دائم، وفي أنه لا نبى بعده. ويجوز أن يعرف ذلك بانقطاع الوحي أيضا، ويعرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعرف أن صلاح امته في هذا الشرع ماداموا مكلفين. على انه لو لم يصح ان يعرف ذلك على التفصيل، – وقد عرفنا على الجملة – لعلمنا انه مادام صلاحا لنا، فلابد من أن يلزمنا لما أثر في ما نقوله، على انا نعلم أن


[ 513 ]

المأمور به لا يجوز دوام لزومه، لان ما (1) يحسن من الله تعالى إلزامه إنما يقتضي انقطاعه، وهو استحقاق الثواب عليه، ولذلك يعلم أنه إنما يلزم ما دام صلاحا ولا حاجة بنا إلى علم آخر لا يفتقر التكليف إليه وهذا واضح. وقد استدل الخلق على جواز النسخ بما يفعله القديم تعالى من الامراض بعد الصحة، والفقر بعد الغنى، وأنه إذا جاز أن يختلف ذلك بحسب مصالح العباد، فكذلك ما يكلفونه. وهذا قريب، وان كان الاول هو الاصل. فاما من أبى النسخ من أهل الملة، فما قدمناه يبطل قوله، ويبطله أيضا وقوع النسخ في شريعتنا بلا ارتياب، لانه لا خلاف بين الامة أن القبلة كانت إلى بيت المقدس وأنه نسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة، وكذلك نسخ الحول في عدة المتوفى عنها زوجها باربعة اشهر وعشرا، ونسخ ايضا تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة بثبات الواحد للاثنين، ونظائر ذلك كثيرة فلا معنى للاكثار فيه. فهذه جملة كافية في هذا الباب.


(1) في الاصل: لان ماله. (*)


[ 514 ]

فصل [ 4 ] ” في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم (1) ” جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه، لان التلاوة إذا كانت عبادة، والحكم عبادة اخرى جاز وقوع النسخ في إحداهما مع بقاء الاخر كما يصح ذلك في كل عبادتين، وإذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة. فان قيل (2): كيف يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ؟ وهل ذلك إلا نقض ؟ لكون التلاوة دلالة على الحكم، لانها إذا كانت دلالة على الحكم فينبغي أن تكون دلالة ما دامت ثابتة، وإلا كان نقضا على ما بيناه. قيل له: ليس ذلك نقضا، لكونها دلالة، لانها إنما تدل على الحكم ما دام الحكم


(1) أتفق اكثر الاصوليين على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معا، واستدلوا على ذلك بدليل العقل والنقل، وخالفهم شواذ من المعتزلة حيث نسب إليهم القول بأنه لا يجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لانه يبقى الدليل ولا مدلول معه، وأيضا لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم تابع لها فلا يجوز ارتفاع الاصل وبقاء التابع. انظر ” الاحكام للآمدي 3: 128، اللمع 58، شرح اللمع 1: 496 – 495، المعتمد 1: 386، الذريعة 1: 429 – 428، شرح المنهاج 1: 474 – 473، ميزان الاصول 2: 110 – 1008، المنخول: 297 “. (2) انظر تفاصيل هذه الاعتراضات والنقوض في المصادر الواردة في ذيل التعليقة السابقة. (*)


[ 515 ]

مصلحة، واما إذا تغير حال الحكم وخرج من كونه مصلحة إلى غيره لم تكن التلاوة دلالة عليه. وليس لهم أن يقولوا: لا فائدة في بقاء التلاوة إذا ارتفع الحكم، وذلك انه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بنفس التلاوة وإن لم يقتض الحكم، وإذا لم يمتنع ذلك جاز بقاؤها مع ارتفاع الحكم. وليس لهم أن يقولوا: إن هذا المذهب يؤدى إلى انه يجوز أن يفعل جنس الكلام بمجرد المصلحة دون الافادة، وذلك مما تأبونه. لانا إنما نمنع في الموضع الذي اشاروا إليه إذا خلا الكلام من فائدة اصلا، وليس كك بقاء التلاوة مع ارتفاع الحكم، لانها افادت في الابتداء تعلق الحكم بها وقصد بها ذلك، وانما تغيرت المصلحة في المستقبل في الحكم فنسخ وبقيت (1) التلاوة لما فيها من المصلحة، وذلك يخالف ما سأل السائل عنه. وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم (2)، فلا شبهة فيه لما قلناه من جواز تعلق المصلحة بالحكم دون التلاوة. وليس لهم أن يقولوا: أن الحكم قد ثبت بها، فلا يجوز مع زوال التلاوة بقاؤه. وذلك أن التلاوة دلالة على الحكم، وليس في عدم الدلالة عدم المدلول عليه، الا ترى أن انشقاق القمر ومجئ الشجرة دال على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يوجب عدمهما خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من كونه نبيا وكذلك القول في التلاوة والحكم، ويفارق ذلك الحكم العلم الذي يوجب عدمه خروج العالم من كونه عالما، لان العلم موجب لا أنه دال. واما جواز النسخ فيهما، فلا شبهة أيضا فيه لجواز تغير المصلحة فيهما.


(1) في النسختين: بقي. (2) لاحظ التعليقة رقم (1) صفحة 514. (*)


[ 516 ]

وقد ورد النسخ بجميع ما قلناه، لان الله تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص اربعة اشهر وعشرا، ونسخ التصدق قبل المناجات، ونسخ ثبات الواحد للعشرة وإن كانت التلاوة باقية في جميع ذلك. وقد نسخ أيضا التلاوة وبقي الحكم على ما روي من آية الرجم من قول: ” الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ” (1) وإن كان ذلك مما أنزله الله والحكم باق بلا خلاف. وكذلك روي تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبد الله بن مسعود (2) لانه


(1) إن حديث آية الرجم ونسخ تلاوتها وبقاء حكمها قد اخرجه الشيعة والسنة في كتبهم الحديثية في أبواب الحدود فقد أخرجه الكليني في ” الكافي ” والصدوق في ” من لا يحضره الفقيه ” والشيخ الطوسي في ” التهذيب ” و ” عدة الاصول ” وأيضا ورد في ” صحيح البخاري ” و ” صحيح مسلم ” و ” مسند أحمد ” و ” موطأ مالك ” وغيرها من مسانيد أهل السنة (أنظر: جامع الاصول 4: 116، كنز العمال 5: 418 باختلاف يسير) والاصل في هذه القضية هو تفرد عمر بنقله للآية المنسوخة تلاوتها دون حكمها ولا يبعد أنه لو كان قد عثر على من يشفعه بالشهادة على دعواه الاضافها إلى القرآن، قال السمرقندي (ميزان الاصول 2: 1010): ” وفي رواية عن عمر – إنه قال: ” لولا أن الناس يقولون أن عمر زاد في كتاب الله تعالى لكتبت على حاشية المصحف (الشيخ والشيخة… الاية) إلا أن الله تعالى صرف قلوب الناس عن حفظها سوى عمر ولا يكون إلا لحكمة بالغة لانقف عليها ! ! ” وقد روى الشوكاني في نيل الاوطار (7: 102 ط مصر): ” أخرج أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن مما انزل الله من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زينا فأرجموهما البتة بما قضيا من اللذة) وأخرجه ابن حبان في صحيحة من حديث أبي بن كعب بلفظ (كانت سورة الاحزاب توازي سورة البقرة) وكان فيها آية الشيخ والشيخة ” ! ! والتدقيق في هذه الآية المزعومة ومقارنتها مع سياق بقية الآيات القرآنية ونفسها واسلوبها يؤدي إلى انكار كونها قرانا، هذا فضلا عن أن عليا – عليه السلام – قد أنكر – بالملازمة وليس بالصراحة – كونها آية قرآنية، فإنه – عليه السلام – لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال: ” حددتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” (انظر جواهر الكلام 41: 30، عوالي اللالئ 2: 152 و 3: 553، ورواه أحمد والبخاري والنسائي والحاكم وغيرهم) فلو كان عليه السلام يرى أن حكم الرجم ثابت بآية قرآنية قد نسخت تلاوتها كما رأى عمر لم يقل ذلك. (2) قال ابن قدامة في كفارة حنث اليمين (المغني 11: 274 رقم 8050): ” إن لم يجد طعاما ولا كسوة وعتقا انتقل إلى صيام ثلاثة أيام لقوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين… فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)


[ 517 ]

قد نسخ التلاوة والحكم باق عند من يقول بذلك. واما نسخهما معا، فمثل ما روي عن عائشة أنها قالت: ” كانت فيما انزله تعالى عشرة رضعات يحرمن، ثم نسخت بخمس ” (1) فجرت بنسخة تلاوة وحكما. وانما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال ولو لم يقع شئ منها لما أخل بجواز ما ذكرناه وصحته، لان الذي اجاز ذلك ما قدمناه من الدليل، وذلك كاف في هذا الباب.


وهذا لا خلاف فيه إلا في اشتراط التتابع في الصوم… ولنا أن في قراءة ابي وعبد الله بن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) كذلك ذكره الامام أحمد في التفسير عن جماعة “، وانظر أيضا: اصول السرخسي 2: 81. (1) أخرجه أبو داود ومالك، والدرامي، والنسائي ومسلم 2: 1075، والترمذي 3: 456، انطر أيضا: ” ميزان الاصول 2: 1009، اللاحكام 3: 128، شرح اللمع 1: 497، اصول السرخسي 2: 79 “. (*)


[ 518 ]

فصل [ 5 ] ” في نسخ الشئ قبل وقت فعله، ما حكمه ؟ ” (1) اختلف العلماء في ذلك، فذهب طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم إلى


(1) إن نسخ الشئ قبل فعله له صورتان: 1 – نسخ الشئ قبل فعله وبعد مضي وقت يسعه. 2 – نسخ الشئ قبل دخول وقت فعله. أما الاولى: فإن الجميع على جواز النسخ، فعل المكلف المأمور به أم لم يفعله، لانه يحسن من الله تعالى أن يأمر بالفعل من يطيعه، كما يحسن أن يأمر من يعصيه، وقد خالف أبو الحسن الكرخي الجمهور حيث قال: لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما يسعه أو لم يمض أما الثانية: فقد اختلف الاصوليون والمتكلمون في حكمها: 1 – عدم الجواز: وهو مذهب أكثر المتكلمين، والمعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، كالكرخي، والجصاص، والماتريدي، والدبوسي. وهو مختار الشريف المرتضى منن الامامية – وتبعه المصنف -. انظر: ” الذريعة 1: 430، التبصرة: 260، المستصفى 1: 112، الاحكام للآمدي 3: 115، الابهاج 2: 257 – 256، اللمع: 56، شرح اللمع 1: 485، شرح المنهاج 1: 469 المعتمد 1: 376 – 375، الاحكام لابن حزم 4: 499، المنخول: 297 – 298 روضة الناظر: 70 “.


[ 519 ]

جواز نسخ الشئ قبل وقت فعله (1) وإلى ذلك كان يذهب شيخنا أبو عبد الله. وذهب المتكلمون من المعتزلة، وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي إلى أن ذلك لا يجوز (1)، وهو الذي يختاره سيدنا المرتضى (2) رحمه الله (3)، وهو الذي يقوى في نفسي. والذي يدل على ذلك ان القول بجواز ذلك يؤدي إلى أن ينهى الله تعالى عن نفس ما أمر به، لانه إذا أمر بشئ بعينه في وقت بعينه ثم نهاه عنه قبل مجئ الوقت عن ذلك الفعل بعينه، فقد نهاه عن نفس ما أمر به، وذلك قبيح من وجهين: أحدهما: أن ذلك الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو حسنا، فإن كان قبيحا فالامر به قبيح وان كان حسنا فالنهي عنه قبيح، وهذا يوجب كونه فاعلا للقبح، تعالى الله عن ذلك. والوجه الاخر: انه يؤدى إلى البداء، لانه لو كان حال ما أمر به على ما كان عليه قبل الاخر لما نهى عنه، فدل نهيه على أنه قد ظهر له من حاله ما لم يكن ظاهرا، أو استتر عنه ما كان عالما به، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لان البداء إذا لم يجز عليه لم يجز أن يفعل ما يدل على البداء. فان قيل: إنا إنما نجيز أن ينهى قبل الوقت عن مثل ما أمر به لا عنه بعينه، فلا يلزم ما ذكرتموه قيل له إن الامر الاول اقتضى فعلا واحدا في هذا الوقت، فإذا نهى عن مثله لم يوصف ذلك بانه نسخ أصلا. فان قال (4): لو اقتضى الفعلين جميعا فكيف كان جوابكم ؟ قيل له ان كان أرادهما جميعا بالامر، فإذا نهى عن أحدهما فقد نهى عما أمر


(1) انظر التعليقه رقم (1) صفحة 519 (2) الذريعة 1: 430. (3) قدس الله روحه. (4) قالوا. (*)


[ 520 ]

به وهذا هو (1) الذي افسدناه آنفا. وان كان اراد احدهما فهو المأمور به دون الاخر، والنهي أنبأ عن أنه لم يرد غير هذا الفعل فقط، وهذا جائز عندنا. هذا إذا صح الجمع بين الفعلين فأما إن تعذر ذلك فالامر بهما مستحيل إلا على وجه التخيير، ومتى أمر بهما على وجه التخيير فقد اريدا جميعا، والنهي عن أحدهما كالنهي عنهما جميعا في أنه نهي عما أمر به. فإن قال: أفيجوز عندكم أن يأمر بالشئ في وقت وينهى عنه قبل وقته عن مثله، وإن لم يكن ذلك نسخا ؟ قيل له: إذا كانا مثلين وواقعين على وجه واحد فبعيد أن يكون أحدهما مصلحة والاخر مفسدة، فكذلك لم يحسن النهي عن مثل ما امر به في وقته. فإن قالوا: إنا نجوز النسخ قبل وقت الفعل، بأن يأمر الله تعالى بالفعل ويريد منا اعتقاده أو العزم عليه، ثم ينهى عن الفعل بعينه فيكون المنهي عنه غير المأمور به. قيل لهم: إن الاعتقاد يتبع المعتقد، لانه إنما يتناول الشئ على ما هو به حتى يحسن أن يؤمر به لانه لو كان على خلاف ما هو به لكان جهلا وذلك قبيح لا يحسن الامر به، فإذالابد من أن يكون اعتقاد للشئ على ما هو به وليس يخلو أن يكون متناولا لكون المعتقد واجبا، أو لكونه مرادا، أو مأمورا، أو يكون اعتقادا لان يفعله. وانما قلنا ذلك، لانه لابد من أن يكون لهذا الاعتقاد معتقد على صفة، فان كان اعتقادا لوجوبه فلابد أن يكون المعتقد واجبا، والا كان الاعتقاد جهلا، وإذا وجب أن يكون واجبا فالنهي عنه قبيح، وكذلك إن كان اعتقادا لكونه مرادا أو مأمورا به، وإن كان اعتقادا لان يفعله، فيجب أن يقطع على أنه يفعله لا محالة، وذلك لا يصح من المكلف، لانه يجوز الاخترام دونه. فإن قال: إنه أمرا بأن يعتقد كونه واجبا بشرط أن لا ينهى عنه، أو أن يعتقد أنه


(1) في الاصل: تلو. (*)


[ 521 ]

يفعل ذلك على هذا الشرط. قيل له: إن تعلقت بذلك فقل مثل ذلك في نفس الفعل، بأن تقول أمر به في الحقيقة بشرط أن لا ينهى عنه، فإذا صح أن يتعلق بمثل ذلك في نفس المأمور به، فأي حاجة بك إلى ذكر الاعتقاد ؟ وهذا قول يدل على أن قائله لا يعرف ماله يتأول الامر على أن المراد به الاعتقاد، وقد بينا من قبل أن الاعتقاد والعزم يتبعان المعتقد في الوجوب، فلا يصح وجوبهما دونه، وفي ذلك إسقاط سؤاله. فان قيل: إنما نجوز ذلك إذا أمرنا بالشئ واراد الاختبار، ثم نهى عنه في الحقيقة. قيل له: القديم تعالى عالم بالعواقب فلا يجوز منه تعالى الاختبار، لان ذلك إنما يجوز على من لم يعرف حال الشئ فيختبر هل يطيع المأمور أم لا ؟ والقديم تعالى إنما يأمر العباد بمصالحهم فكيف يأمرهم بها ولا يريدها منهم ؟ ولو جاز ذلك لجاز في النهي مثله، فمن أين لهذا القائل ان النهي هو نهي عن الفعل، مع قوله في الامر أنه اختبار ؟ فإن قال: اجوز النسخ قبل الفعل إذا أمر تعالى بالفعل في وقت بشرط تبقية الامر، أو بشرط انتفاء النهي، فإذا نهى عنه فقد زال الشرط، فإذا قد نهى عن الفعل على غير الوجه الذي قد امر به، وهذا كقولهم أنه أمر بالصلاة عبادة لله ونهى عنها عبادة للشيطان في الجواز. قيل له: إن تبقية الامر لا يجوز أن تكون وجها لحسن المأمور به، ولا إنتفاء النهي، فلا يدلان ايضا على كون الفعل على وجه يحسن عليه حتى يقضى بأن في زوالهما خروج الفعل من أن يكون واقعا على ذلك الوجه، فإذا صح ذلك بطل ما سأل عنه وفارق حاله حال الصلاة التي مثل بها. ومن حق الامر أن يدل على كون المأمور به على وجه يحسن أمره به، فبقاء الامر وانتفاء النهي أو وجوده لا يخلو كونه على هذه الصفة فإذا صح ذلك فالنهي


[ 522 ]

عنه لا يحسن. فإن قالوا: كما يحسن أن يأمر بالفعل بشرط ألا يمنع منه ولا يخترم دونه، فكذلك يحسن أن يأمر بشرط ألا ينهى عنه. قيل له: إن الذي جعله أصلا في الفساد مثل ما يثبت عليه، لان الامر بما يمنع منه قبيح، كما يقبح الامر بما لا يطاق، لان مراد الامر عزوجل أن يفعل المأمور ما أمره به من الصلاح، فلو لم يكن هذا مراده لقبح، ولا يصح أن يكون ذلك مقصده ومع ذلك يأمره بما يعلم أنه يمنعه منه. وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء (1). منها: قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت) (2) فأخبر أنه يمحو ما يشاء، فيجب أن يكون أمره بالشئ ثم ازالته عنه بنهي أو غيره جائزا. ومنها: أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخ عنه قبل الذبح لانه قال: (يا بني إني أرى في المنام اني اذبحك فانظر ماذا ترى) (3) ثم قال بعد ذلك: (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) (4) فمنعه من الذبح، وفداه بذبح عظيم، وهذا هو نسخ الشئ قبل وقت الفعل. ومنها: ما روي أن الله تعالى أوجب على نبينا عليه السلام ليلة المعراج خمسين صلاة ثم أزالها إلى خمس قبل وقت الفعل. قالوا: وقد صالح النبي عليه السلام قريشا على رد النساء، ثم نسخه قبل وقت الفعل. والجواب عن الاول: أنه ليس في الاية أنه يثبت ما محا، ويمحو ما اثبت، ولا يمتنع عندنا أن يمحو غير ما أثبت ويثبت غير ما محا فأى تعلق لهم بالظاهر ؟


(1) انظر تفصيل استدلال المخالفين في المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 518. (2) الرعد: 39. (3) الصافات: 102. (4) الصافات: 104. (*)


[ 523 ]

وليس المراد بذلك النسخ لان ظاهره لا يقتضي ذلك. وقد قيل: أنه يمحو ما يشاء مما يثبته الملك الموكل بالعبد في الصحيفة من المباحات، ويثبت ما يشاء مما يستحق عليه ثواب أو عقاب. وقد قيل في تأويله غير ذلك مما قد بين في التفاسير (1). والجواب عما تعلقوا به ثانيا من أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه: أنه إنما أمر بمقدمات الذبح من الاضجاع، وأخذ الحديد، وشد اليد والرجل، وغير ذلك، وقد يسمى مقدمة الشئ باسمه كما يسمى المريض المدنف بأنه ميت، فجاز أن يقول: (انى أرى في المنام اني اذبحك) (4) ومراده ما قلناه. ويدل على صحة ذلك: ما قدمناه من دليل العقل في أنه لا يجوز أن يأمر بالشئ ثم ينسخه قبل وقت الفعل (2). ويدل عليه أيضا: قوله (صدقت الرؤيا) (3) فلو كان المراد به الذبح على الحقيقة لكان لا يكون مصدقا، ولما ذبح، فدل على أن المأمور به ما قدمناه. وليس لاحد أن يقول: إذا كان الذبح غير مأمور به، فكيف نقول للذبيح: (فانظر ماذا ترى) (4) وهذا كلام جزع ؟، وكيف قال: (ان هذا لهو البلاء المبين) (5) ومقدمة الذبح ليس فيها كل ذلك، وكيف فدى بذبح عظيم وليس المأمور به الذبح ؟ وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما امر بمقدمات الذبح، وكان في العادة أن مثل ذلك يراد بالذبح، ظن أنه سيؤمر بالذبح، فلذلك قال ما قال، فأما الفداء فلا يمتنع أن يكون ذبحا ويكون فداء عن الذي ظن انه يؤمر به من الذبح أو عن مقدمة الذبح، لان الفداء لا يجب أن يكون من جنس ما فدى به، ألا ترى أن الهدي يفدى به حلق الرأس


(1) انظر: ” تفسير التبيان 6: 263، تفسير الطبري 13: 111، تفسير فخر الرازي 19: 64 “. (2) انظر استدلال المصنف في ص 519. (3) الصافات: 105. (4) الصافات: 102. (5) الصافات: 106. (*)


[ 524 ]

وان لم يكن من جنسه. وقال قوم: إنه أمر بالذبح على الحقيقة وإنه كان يذبح، ثم كان يلتحم ما ذبح إذا تجاوز موضع الذبح، فإذا قد فعل ما امر به، ولم يسقط عنه. وهذا قريب، والاول اقوى (1) فأما من قال: أنه جعل صفحة عنقه نحاسا فامتنع الذبح عليه ! فلا يصح، لانه يقتضى الامر بما يمنع منه، وذلك قبيح لا يجوز على الله تعالى على ما قدمنا القول فيه. والجواب عما تعلقوا به ثالثا من الخبر: فأول ما فيه أنه خبر واحد ولا يجوزأن يتعلق بمثله فيما طريقه العلم به، على أنه فاسد من وجوه: منها: أنه يوجب نسخ الشئ قبل أن يعلم المكلف أنه مأمور به، لانه في الحديث أنه نسخ عنهم ذلك تلك الليلة. ومنها: أنه يوجب نسخ شئ عنهم من حيث اشار به موسى عليه السلام، وسأل محمدا صلى الله عليه وآله أن يخفف عن امته، والتكليف لا يتعلق باختيار الانبياء، ولا يؤثر فيه مسألتهم التخفيف فيه. ومنها: أن في الخبر من التشبيه ما يقتضى أنه موضوع لا أصل له، وان كان فيه ما لا يمتنع أن يكون صدقا. والجواب عما تعلقوا به رابعا من أنه نسخ وجوب رد النساء على المشركين قبل فعله، فهو أنه عليه السلام لم يكن شرط لهم أن يرد عليهم النساء أبدا ولا إلى وقت بعينه فنسخ قبل ذلك، بل اطلق ذلك اطلاقا، ولا يمتنع أن يكون المصلحة اقتضت امضاء ذلك إلى الوقت الذي نسخه، ولو كان قبل ذلك لم ينسخ ولو هاجرت امرأة قبل ذلك لكان يردها عليهم، وهذا لا ينافى ما قدمناه.


(1) انظر: تفسير التبيان 8: 518. (*)


[ 525 ]

فأما من تعلق في هذا الباب بنسخ تقديم الصدقة قبل المناجات (1) فغلط، لانه إنما نسخ عزوجل قبل الفعل لا قبل وقته، لانهم عصوا إلا عليا عليه السلام، فلم يفعلوا ما أمر الله تعالى به في وقته فنسخ عنهم، وهذا جائز عندنا. وقد يتعلق في هذا الباب بأخبار آحاد لا يصح التعويل عليها في مثل هذه المسائل، أو بشئ ليس بنسخ قبل وقت الفعل، وإنما هو نسخ قبل الفعل فينبغي أن يعرف هذا الباب ويتأمل في ما يرد منه إن شاء الله فإنه لا يختل على من ضبط أصل هذا الباب. فأما الذي يدل على ان النسخ قبل الفعل يجوز (2) على ما قدمنا القول فيه، فهو:


(1) إن اختصاص آية التصدق قبل المناجات بعلي بن أبي طالب عليه السلام من المشهورات التي نقلها السنة والشيعة، قال ابن البطريق الحلي في كتابه ” خصائص الوحي المبين: 144 ” في معرض تفسيره لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بيين يدي نجويكم صدقة) (المجادلة: 58): ” قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن فرج، قال: حدثنا أبو عمر الداوري، قال حدثنا محمد بن مروان، عن محمد بن السايب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا) الاية، قال إن الله عز وجل حرم كلا ام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يتصدقوا قبل التكلم معه، وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه، قال: وتصدق علي ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره. ومن تفسير الثعلبي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) الاية بالاسناد المتقدم، قال: قال مجاهد نهى الله المسلمين عن مناجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب عليه السلام قدم دينارا فتصدق به ثم نزلت الرخصة. وقال علي صلوات الله عليه: إن في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجويكم صدقة). وقال علي صلوات الله عليه: بي خفف الله عزوجل عن هذه الامة أمر هذه الاية فلم تنزل في أحد قبلي ولم تنزل في أحد بعدي. قال: وقال ابن عمر: كان لعلي بن أبي طالب عليه السلام ثلاثة لو كان لي واحدة منهن كان أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة صلى الله عليها، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى “. (2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 518. (*)


[ 526 ]

أنه متى امر بالفعل في وقت وتقضى وقته، فغير ممتنع أن ينهى عن أمثاله، كما كان لا يمتنع أن ينهى عن ذلك لو فعل، لان ما ينهى عنه انما ينهى عنه لانه مفسدة له في التكليف، فتقدم فعله لما امره به، أو تركه له لا يؤثر في ذلك، ولذلك نسخ تقديم الصدقة قبل مناجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمن أوجب عليه وإن لم يفعلوه وعصوا فيه، وما روي من أن أمير المؤمنين عليه السلام فعله (1) لا يخرج غيره من أن يكون حاله ما وصفناه، فالتعلق بذلك غير صحيح. وإنما ذكرنا هذا الفصل عقيب المسألة الاولى لان في المتفقهه (2) من يقول: إن النسخ قبل الفعل لا يجوز، ويظن أن ذلك يجرى مجرى النسخ قبل وقت الفعل !، وبينهما من الفرق ما قدمناه.


(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 525. (2) انظر آراء وأقوال وأدلة هؤلاء المتفقهة القائلين بعدم جواز النسخ قبل الفعل في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 518. (*)


[ 527 ]

فصل [ 6 ] ” في أن الزيادة في النص هل يكون نسخا أو لا ؟ ” ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن الزيادة في النص ليست بنسخ على كل حال،


(1) ليس المقصود من الزيادة في كلام المصنف زيادة عبادة مستقلة ومتغايرة جنسا عن العبادة الاولى كزيادة وجوب الصلاة على وجوب الزكاة، وليس زيادة عبادة غير مستقلة ولا متغايرة كزيادة صلاة على الفرائض الخمس، بل المقصود زيادة ما ليس له استقلال في حد نفسه بل يعد جزءا كزيادة ركعة أو ركوع، أو زيادة صفة كشرط الايمان في الرقبة. وهذا موضع الخلاف حيث اختلف الاصوليون والمتكلمون في ناسخية هذه الزيادة على الحكم الثابت بالنص وعدمها وإليك مذاهب أعيانهم وهي: 1 – أنها لا تنسخ مطلقا: وهذا هو رأي جمهور اهل السنة، فهو مذهب الشوافع، والحنابلة، وبعض المعتزلة كالجبائيتين. 2 – التفصيل بين إذا ما كانت الزيادة توجب تغيير الحكم المزيد عليه في المستقبل فتكون ناسخة وإلا فلا تنسخ: وهذا مذهب أصحاب أبي حنيفة وبعض الشافعية. 3 – التفصيل بين أن تكون الزيادة شرطا في صحة المأمور به وإجزائه معها لا دونها فتكون ناسخة، وإلا فلا تكون ناسخة: وهذا مذهب الشيخ المفيد، وتبعه الشريف المرتضى، والمصنف، وهو مختار القاضي عبد الجبار المعتزلي في (العمد). 4 – إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا كزيادة التقريب في المستقبل على الحد المفروض، وإلا لو كانت الزيادة مقارنة صرفة فلا تنسخ: وهذا مذهب أبي عبد الله البصري المعروف بالجعل، وأبي الحسن الكرخي. 5 – إن تضمنت الزيادة رفعا فهو نسخ وإلا فلا: وهذا مذهب الباقلاني، والجويني، وأبي الحسين (*)


[ 528 ]

وهو مذهب كثير من أصحاب الشافعي (1). ومنهم من قال إنه نسخ إذا كان المزيد عليه قد دل على أن ما عداه بخلافه، مثل أن يكون النص الثمانين في حد القاذف يدل عنده على ان ما فوقه ليس بحد، فإذا زيد عليه كان نسخا من هذا الوجه (1). وذهب أبو عبد الله البصري إلى أن الزيادة على النص إذا اقتضت بغير حكم المزيد عليه في المستقبل كان (2) نسخا، وإن لم تقض ذلك لم يكن نسخا (2)، وحكي ذلك عن أبي الحسن. والذي اختاره سيدنا المرتضى، واليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهما الله من قبل، وهو الذي ذكره عبد الجبار بن أحمد في ” العمد ” (3) أن الزيادة على ضربين: أحدهما: يغير حكم المزيد عليه حتى لو فعل بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعل قبل الزيادة لما كان مجزيا، ووجب إعادته فذلك يوجب نسخ المزيد (1). والاخر: هو الذي لا يغير حكم المزيد عليه، ولو فعل بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعل قبلها لكان مجزيا، وانما يجب أن يضاف إليه الزيادة، فما هذا سبيله


البصري والامدي، وابن الحاجب، والرازي، والبيضاوي، والاسترابادي. 6 – إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه إتصال إتحاد دافع للتعدد والانفصال، كما لو زيد في الصبح ركعتان فهذا نسخ، وإن لم توجب الاتحاد بل كانت ملحقة كزيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة فلا تنسخ وهذا مختار الغزالي. انظر ” التبصرة: 276، الابهاج 2: 284 – 283 المستصفى 1: 75، المنخول: 167 و 299، الاحكام للآمدي 3: 154، الذريعة 1: 344، ميزان الاصول 2: 1011، اللمع: 62، شرح اللمع 1: 519، شرح المنهاج 1: 489، المعتمد 1: 405، اصول السرخسي 2: 82، روضة الناظر: 73، إرشاد الفحول: 290 “. (1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 527 والمصادر الواردة فيها. (2) في الاصل والنسخة الثانية: (قبيحا) تصحيف صحيحه ما اثبتناه. (3) راجع التعليقة رقم (2) صفحة 502. (*)


[ 529 ]

لا يوجب نسخ المزيد عليه (1) وهذا هو الصحيح. فمثال القسم الاول: أن يوجب الله الصلاة ركعتين (2) ثم يضيف إليهما ركعتين اخريين حتى يصير الفرض اربعا، فإن ذلك يوجب نسخ الركعتين، لان بعد هذه الزيادة معلوم من حال الركعتين أنهما لا يجزيان، فمتى لم يضف اليهما الركعتين، وجب إعادة الصلاة من اولها، فكذلك روي عن عائشة أنها قالت ” كانت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر ” (3). وانما قلنا: إن هذا نسخ لان الفعل الاول إذا وقع على الحد الذي كان واجبا قبل الزيادة صار كأنه لم يكن، ومتى فعل مع الزيادة صح، فصار هو مع الزيادة بمنزلة حكم فساد الاول في انه يجب أن يكون ناسخا له. واما مثال القسم الثاني: فهو زيادة النفى على حد الزاني للبكر، وزيادة الرجم على حد المحصن، وإنما قلنا إن هذا ليس بنسخ لان الحد المفعول في الحالين لا يختلف وإنما يجب ضم الزيادة ولم يجب استئنافه، لان هذه الزيادة الواردة في حكم زيادة (4) ثانية في أنها لم تؤثر في حال المزيد عليه، الا ترى أنه لو فعل الاول بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعله قبلها لكان ذلك مجزيا، وإنما يجب أن يضم إليه الزيادة فحسب، ففارق حكم هذا القسم الاول. وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون لما اوجب ذلك نسخا لان الثمانين إذا فعلت بعد ما زيد عليه من غير أن يضم الزيادة إليها أجزأ، كما كان يجزى لو فعلت ولما زيد عليها شئ، وانما يجب ضم الزيادة عليها فقط. فإن قيل: فهذا أوجب ذلك كونه نسخا لان حد الثمانين كان يتعلق به رد


(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 527 (2) صلاة ركعتين. (3) روى البخاري في [ كتاب الصلاة: باب 1: ح 16 ] عن عائشة أنها قالت: ” فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر “. (4) عبادة. (*)


[ 530 ]

الشهادة، فإذا زيد عليه العشرون لم يتعلق به ذلك، فقد تغير حكمه الشرعي فوجب أن يكون نسخا. قيل له: إن رد الشهادة لا يتعلق عندنا بإقامة الحد وإنما يتعلق بالقذف الذي يوجب التفسيق دون إقامة الحد كما أن رد الشهادة يتعلق بسائر أفعال الفسق دون إقامة الحد الجواب فيه مثل شرب الخمر، واللواط، والسرقة، وغير ذلك، فسقط السؤال. ولو سلم ان رد الشهادة يتعلق بإقامة الحد ما أوجب ذلك نسخا لان رد الشهادة عبادة اخرى منفصلة عن إقامة الحد فيه، ألا ترى أن الحد فيه يصح وإن لم يرد الشهادة. فإذا صح ذلك لم يوجب نسخ المزيد عليه، وصار ذلك بمنزلة إباحة تزويج المعتدة إذا انقضت عدتها في أن عدتها وإن زيد فيها أو نقص منها لا يوجب نسخا لذلك، لانه حكم اخر يتعلق بانقضاء العدة، طالت العدة أم قصرت، فتغير العبادة لم يوجب نسخه وكذلك لو تغير حكم ستر العورة، والوضوء، والقبلة في الصلاة ما أوجب ذلك نسخ الصلاة، فكذلك القول في رد الشهادة فإن قيل: أليس حد القذف إذا كان ثمانين، فمتى فعل ذلك يكون قد استوفى الحد، فإذا زيد عليه عشرون لم يكن بفعل الثمانين استوفى الحد، فوجب لذلك أن يكون نسخا ؟ قيل له: هذا كلام في عبارة (1) لان تحصيله (2) أنه يجب على الامام أن يضم إلى الثمانين عشرين حتى يكون قد استوفى الحد الواجب، وقد بينا أن ذلك لا يوجب نسخا. فإن قيل: فيجب على هذا أن تقولوا إن النقصان من العبادة إذا اقتضى ألا تصح


(1) أي أن الاختلاف لفظي وليس بمعنوي. (2) أي حاصله. (*)


[ 531 ]

العبادة إذا أتى بها على حد ما كان يؤتى بها من قبل أن يكون نسخا ؟ قيل له: كذلك نقول، وسنبينه بعد هذا الفصل انشاء الله تعالى. فأما زيادة الشرط في بعض العبادات، فإنه لا يوجب النسخ إذا كان منفصلا من العبادة، وتصح من دونه، لانه إذا كان كك صار في حكم عبادة اخرى ويفارق ذلك ما قلناه من الصلاة من أن زيادة ركعة فيها تقتضي النسخ، لان الصلاة بعد الزيادة تصير مع المزيد في حكم الشئ الواحد، فلم يكن ذلك موجبا للنسخ. وإذا (1) ثبت (2) ما قدمناه، فكل زيادة تصح دون المزيد عليه، أو يصح المزيد عليه دونها، فأحدهما لا يوجب نسخ الاخر، كما ان زيادة صلاة على ما أوجب الله تعالى من الصلوات لا يقتضى نسخا لها فأما الكفارات الثلاث المخير فيها، فمتى فرضنا ان الله تعالى زاد فيها رابعا، فان ذلك يوجب نسخ تحريم ترك الثلاثة، لانه كان من قبل يحرم تركها أجمع، والان لا يحرم، ولكن لا يقتضى ذلك نسخ الكفارات الثلاث، لما قدمناه من أنها لو فعلت على الحد الذي فعلت قبل العبادة بالرابعة لكانت واقعة موقعها فلم توجب ذلك نسخا. فإن قيل: فما قولكم في الذي تذهبون إليه من وجوب الحكم بالشاهد واليمين، يقتضى ذلك نسخ ما أوجب الله تعالى من الحكم بالشاهدين أو بشاهد وامرأتين ؟ فان قلتم: ذلك قلتم بجواز نسخ القرآن بخبر الواحد، وذلك خلاف مذهبكم، بل هو خلاف الاجماع ! وان قلتم: أن ذلك ليس بنسخ، بينوا القول فيه ؟ قيل له: إن ذلك ليس بنسخ لان القرآن إذا دل على أن الحكم بالشاهد الواحد لا يتم إلا بأن يضاف إليه الثاني، أو تضاف امرأتان لا يمنع من قيام الدلالة على كون غيره شرطا فيه، وقد أجمعت الطائفة المحقة على جواز ذلك، فكان ذلك موجبا


(1) فإذا. (2) زيادة من النسخة الثانية. (*)


[ 532 ]

للعلم، وخرج من باب خبر الواحد الذي ذكره السائل. وأما تقييد الرقبة الواجبة في الظهار بالايمان فقد تقدم القول فيه (1). وأمامن قال: إن زيادة العشرين في حد القاذف نسخ له، وان تقييد الرقبة بالايمان نسخ، فهو موافق لمن أنكر أن يكون ذلك نسخا في المعنى، لانهما معا يقولان: ان الدليل الاول يقتضى جواز الكافرة واقتضى كون الحد ثمانين وإن الدليل الثاني دل على أن الحد مائة وأن الرقبة الكافرة لا تجزى وإنما يختلفان في العبارة، وأحدهما يعبر عن ذلك بانه نسخ، والاخر يعبر عنه بأنه تخصيص، فلا طائل في ذلك. فإن قيل: من جعله نسخا لا يقبل فيه خبر الواحد، ومن جعله تخصيصا يقبل خبر الواحد فيه والقياس ؟ قيل له: أما على مذهبنا فلا يقبل في الموضعين خبر الواحد ولا القياس على ما مضى القول فيه (2). ومن أجاز خبر الواحد في التخصيص وأبى قبوله في النسخ، فلخصمه أن يقول له: إذا قلت لا أقبل خبر الواحد فيه لانه نسخ، ولم يرجع في ان ذلك نسخ إلا إلى ما وافقتك عليه في المعنى الذي ليس بنسخ عندي، فعليك أن تدل على ذلك، وأنه لا يجوز قبول خبر الواحد فيه ! فإن عنيت بقولك إنه نسخ من حيث إنه لا يقبل فيه خبر الواحد والقياس، كنت بانيا (3) للشئ على نفسه، وذلك غير صحيح. فأما من يقول إن الزيادة نسخ على كل حال (4)، فيقول فيما ثبت من الزيادة التي علم أنه ليست نسخا أن ذلك اقترن بحال الخطاب فلم يوجب ذلك نسخا، وذلك نحو وجوب النية في الصلاة ونحو كون الرقبة سليمة من العيوب التي تمنع من


(1) راجع كلام المصنف في صفحة 329. (2) راجع رأي المصنف ومختاره في صفحة 345 و 354. (3) ثابتا. (4) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 527. (*)


[ 533 ]

إجزائها، وغير ذلك من المسائل. ويقول: ان الزيادة إنما توجب النسخ إذا دل عليها ما يصح النسخ به. ويقول: إذا دل خبر الواحد أو القياس على نسخ شئ من القرآن، وجب رده لان نسخ القرآن بذلك لا يجوز. وعلى هذا يبنى المسائل في الفروع كل واحد (1) على ما يذهب إليه (2). وهذه جملة كافية في هذا الباب.


(1) أحد. (2) انظر تفاصيل هذه ااسدلالات والردود والنقوض الواردة عليها في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 527. (*)


[ 534 ]

فصل [ 7 ] ” في أن النقصان من النص هل هو نسخ أم لا ؟ والخلاف فيه ” (1) حكى أبو عبد الله البصري عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول: إن العبادة إذا نسخ بعضها لا يكون ذلك نسخا لجميعها ويجرى ذلك مجرى العموم إذا خص أو


(1) لا خلاف أن النقصان من العبادة يقتضي نسخ المنقوص، وإنما الكلام في أنه هل يقتضي النقصان نسخ المنقوص منه أم لا ؟ ويمكن حصر المذاهب والاقوال في هذه المسألة كالاتي: 1 – إذا نسخ بعض العبادة لم يكن ذلك نسخا للباقي: وهذا مذهب الكرخي، وأبي عبد الله البصري، وهو منسوب لجمهور أصحاب الشافعي ولغيرهم كالآمدي، والرازي، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي الحسين البصري، وهو مختار الحنابلة. 2 – إذا نسخ بعض العبادة نسخ جميعها: وهذا مذهب أبي حامد الغزالي، والحنيفية. 3 – التفصيل بين كون النسخ نسخا لبعض الجملة كالقبلة والركوع، أو نسخ الشئ منفصل عن العبادة كالطهارة، وبعبارة اخرى التفصيل بين كون المنقوص ركنا أو شرطا، فنسخ في الاول دون الثاني: وهذا مذهب القاضي عبد الجبار، والقرطبي، ونسبه الشوكاني للغزالي. 4 – التفصيل بين ما إذا كانت للعبادة المنقوصة فيها حكم شرعي بعد النقصان فلا نسخ، وأماا إذا كان ما بقي بعده العبادة متى فعل لم يكن له حكم في الشريعة ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان، عد هذا النقصان نسخا له: وهذا مذهب الشريف المرتضى وتبعه المصنف. انظر: ” الرسالة للشافعي 121: 359 و 220: 601، التبصرة: 281، المستصفى 1: 75، الذريعة 1: 452، ميزان الاصول 2: 1016، الاحكام للآمدي 3: 160، اللمع: 62، شرح اللمع 1: 524، المعتمد 1: 414، روضة الناظر: 75، إرشاد الفحول: 292 “. (*)


[ 535 ]

استثني منه فإن ذلك لا يكون تخصيصا للكل، فكان يعتل لذلك بأن القبلة نسخت بالقبلة، ولم يوجب ذلك نسخا للصلاة وكان يلحق بذلك صيام عاشوراء ونسخه بشهر رمضان ويقول: إن النسخ تناول الوقت لا العبادة، وأن الواجب من الصوم في شهر رمضان هو الذي كان واجبا في عاشوراء وكان يجعل ذلك أصلا في أن الشرط الحاصل للعبادة الاولة يجب أن يكون حاصلا للثانية أيضا ويقول: إذا كان المتقرر في صوم عاشوراء أنه يجوز بنية غير مبنية فكذلك يجب في رمضان لان صوم رمضان هو صوم عاشوراء وانماء نسخ وقته. وذهب بعضهم: إلى ان النقصان من العبادة يقتضى النسخ وفي كلام الشافعي ما يدل على ذلك. ولا خلاف ان النقصان يقتضى نسخ ما اسقط، لانه كان واجبا في جملة العبادة ثم ازيل وجوبه، وانما الخلاف في انه يقتضى نسخ ما بقى من العبادة ام لا ؟ والذي ينبغي أن يعتمد في هذا الباب أن يقال العبادات الشرعية قد تكون جملة ذات شروط كالصلوة، وتكون فعلا واحدا وله شروط، وقد يكون فعلا مجردا عن الشرط. فإذا كانت العبادة فعلا واحدا، فالنسخ انما يصح فيها بأن يسقط وجوبها، ولا يصح ان ينسخ بعضها لانه لا بعض لها. فاما نسخ شروطها، فانه لا يوجب نسخها، وكذلك نسخ شروط الجملة التي هي ذات شرط لا يوجب نسخها، لان من حق الشروط أن يكون في حكم التابع للمشروط، لانه يجب لاجله، وليس في نسخه تغيير حال المشروط، وهذا مثل أن ينسخ الطهارة فان ذلك لا يوجب نسخ الصلوة، بل يجب بقاء حكم الصلوة على ما كان عليه من قبل. فاما إذا نسخ بعض تلك الجملة كنسخ القبلة، أو كنسخ ركوع، أو سجود فان ذلك يوجب نسخ الجملة لان تلك الجملة في المستقبل لو اوقعت على الحد الذي كانت واجبة أو لا لم تجز ووجب اعادتها، فصار نقصان القبلة بمنزلة اخراج الصلوة من


[ 536 ]

كونها واجبة وجائزة، فلذلك وجب أن يكون نسخا، وهو بمنزلة الزيادة أيضا في هذا الوجه، فيجب أن يكون مثلها في انه نسخ فان قيل: ان القبلة إذا نسخت فما بقي من الصلوة هي عبادة مبتداة لم يكن مثلها (1) من قبل واجبا، فكيف يصح أن يقولوا: انه نسخ ؟ قيل له: وان لم يجب الصلاة من قبل على هذا الوجه، فما كان واجبا من قبل من الصلاة لو فعل الان لم يجز، فوجب أن يكون اسقاط القبلة نسخا له من هذا الوجه. فاما صوم عاشوراء، فانما يقال انه نسخ برمضان، بمعنى انه عند سقوط وجوبه امر بصيام رمضان مما نسخ له، لان الحكم انما ينسخ حكما اخر إذا لم يصح ان يجتمعا على وجه، فاما إذا صح وجوب الثاني مع الاول، ويمكن فعلهما جميعا فاحدهما لا يكون ناسخا للاخر ولذلك قلنا: ان قول الله تعالى: (ولابويه لكل واحد منهما السدس) (2) لا يعلم وجوب نسخ الوصية للوالدين والاقربين، لان اجتماع الوصية والميراث لهما غير منكر، بل هو الصحيح الذي نذهب إليه، ومن خالفنا في ذلك يرجع إلى ما يروى (3) من قول النبي عليه السلام: ” لا وصية لوارث ” (4) ويدعى ان ذلك مجمع عليه، وعندنا ان هذا خبر واحد لا ينسخ به ظاهر القران. ولو سلم ان صوم عاشوراء نسخ – في الحقيقة – برمضان (5)، لما صح ان يصرف النسخ إلى الوقت، لان من حق النسخ ان يتناول الافعال الواقعة في الاوقات لا الاوقات نفسها، لانها ليست من فعل المكلف


(1) في النسختين: مثله. (2) النساء: 11. (3) روي. (4) كنز العمال 16: 615: رقم 46062، جامع الاصول 9: 622 و 633 – 632 و 11: 75. (5) نسب الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قوله: (نسخ صوم رمضان كل صوم قبله) (انظر: ميزان الاصول 2: 1005) وايضا روي الترمذي انه (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه، فلما افترض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه) (ميزان الاصول 2: 1055 هامش رقم (2) تفلا عن الشمائل المحمدية: 224). (*)


[ 537 ]

فصل [ 8 ] ” في نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة ونسخ الاجماع والقياس وتجويز القول في النسخ بهما ” لا خلاف بين اهل العلم ان نسخ الكتاب بالكتاب يجوز (3)، والعلة في ذلك بينة، وذلك لانهما في وجوب العلم والعمل سواء، فكما يجوز تخصيص احدهما بصاحبه، فكذلك يجوز نسخ احدهما بالاخر. ولا يلزم على ذلك دليل العقل الذي لا ينسخ الكتاب به، لانا قد بينا ان من شرط النسخ أن يكون واقعا بدليل شرعى. فاما معنى النسخ: فقد يقع بدليل العقل، وقد وقع ما قلنا انه، جائز لان الله تعالى نسخ الاعتداد حولا بالاعتداد اربعة اشهر وعشرا، ونسخ الصدقة قبل المناجات، ونسخ ثبات الواحد للعشرة، كل ذلك بالكتاب، وان كان المنسوخ به ثابتا.


(1) زاد في الحجرية: في النسخ. (2) في الاصل: فيهما. (3) انظر ” ميزان الاصول 2: 1005، الذريعة 1: 455، التذكرة باصول الفقه: 43، الاحكام للآمدي 3: 132 اللمع: 59 شرح اللمع 1: 498، شرح المنهاج 1: 477، المعتمد 1: الاحكام لابن حزم: 505، اصول السرخسي 2: 67، روضة الناضر: 77، المنخول: 292، ارشاد الفحول: 28 4 “. (*)


[ 538 ]

اما السنة: فانما تنسخ بالسنة ايضا إذا تساويا في الدلالة فان كانت الاولى من اخبار الاحاد، فعلى مذهبنا ذلك ساقط، لانا لا نعمل بها، وعلى مذهب الفقهاء يجوز نسخها بمثلها، لانهما إذا كان طريقهما العلم فحكمهما حكم الكتاب. وان كانا مما طريقهما العمل فحالهما ايضا متساوية فيجب صحة نسخ احدهما بالاخرى، وقد وقع ذلك ايضا على ما روى ان النبي عليه السلام: ” نهى عن ادخار لحوم الاضاحي وزيارة القبور ” (1) نسخ ذلك فاباح الزيارة والادخار للحوم الاضاحي (2)، ولا فصل بين نسخ قوله بفعله، أو قوله بقوله، وقد وقع ذلك عند الفقهاء لانه كان امر عليه السلام – على ما روى – بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ثم اخذه وقد شرب رابعة فحده ونسخ به قوله (3). وعندنا ان هذا الحكم غير منسوخ، بل هو ثابت. واما نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب فسنبين القول فيه ان شاء الله (4). واما الاجماع: فعندنا لا يجوز نسخه، لانه دليل لا يتغير، بل هو ثابت في جميع الاوقات، لان العقل عندنا يدل على صحة الاجماع، وما هذا حكمه لا يجوز تغيره فيطرق عليه النسخ.


(1) ولفظ الحديث الناسخ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” كنت نهيتكم عن زيارة القبور الا فزوروها ” وقد روي هذا الحديث عن الامام علي، وابي سعيد الخدري، وابن مسعود، وجابر، وبريدة وغيرهم، واخرجه مسلم في كتب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه في زيارة قبر امه، وايضا اخرجه النسائي وابو داود في كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، وابن قدامة في (المغني): 2: 425. (2) ولفي الحديث الناسخ للنهي عن ادخار اللحوم قوله: صلى الله عليه وآله وسلم -: ” كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الاضاحي فادخروها ” وروى الحديث جماعة من الصحابة، فقد اخرجه مسلم، وابن ماجه والحاكم النيسابوري في مستدركه كلهم في كتاب الاضاحي. (3) الاحكام لابن حزم الاندلسي 4: 517. (4) انظر تفصيل الكلام في هاتين االمسالتين في صفحة 543 فصل (9). (*)


[ 539 ]

وكذلك لا يصح النسخ به، لان من شأن الناسخ أن يكون دليلا شرعيا متأخرا عن المنسوخ، وذلك لا يتأتى في الاجماع على مذهبنا، فجرى ذلك مجرى ادلة العقل التي لا يجوز النسخ بها على ما مضى القول فيه. واما على مذهب الفقهاء فلا يجوز ايضا نسخه، لانه دليل قد استقر بعد ارتفاع الوحى، ومعلوم ان بعده لا يصح النسخ، فيجب امتناع النسخ فيه (1). وكذلك لا يصح النسخ به لمثل ما قلناه نحن، من ان من شأن الناسخ أن يكون متأخرا عن المنسوخ، والحكم إذا كان ثابتا فلا يجوز أن يجمع الامة بعد ذلك على خلافه، لان ذلك يؤدى إلى بطلان الاجماع (1) فاما إذا اجمعوا على شئ ثم ورد الخبر بخلافه، نحو اجماعهم على ان ” لا غسل على من غسل ميتا ” (2) على مذهبهم. ” ولا وضوء على حامله ” (2) وقد وردت السنة به (3)، فانما يستدل بالاجماع على ان الخبر غير صحيح ولا يجب قبوله. واما أن يكون منسوخا به فلا (1)، وانما قالوا ذلك: لانه لو كان صحيحا لما اجمعت الامة على خلافه، لانهم يتبعون الادلة ولا يخالفونها، أو يستدل بالاجماع على انه نسخ بغيره لا به نفسه. فان قيل: فهل يجوز أن ينسخ اجماعهم على قولين باجماعهم على احدهما ؟


(1) انظر: ” الذريعة 1: 356، الاحكام للآمدي 3: 144، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 490، شرح المنهاج 1: 484، المعتمد 1: 400، روضة الناظر 80، الاحكام لابن حزم 4: 517، ارشاد الفحول: 287 “. (2) قال ابن قدامة في (المغني 1: 243، فصل 297): ” ولا يجب الغسل من غسل الميت، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، والحسن، والنخعي، والشافعي، وابو ثور، وابن المنذر، واصحاب الرأي “. (3) قال ابن قدامة (المغني 1: 243 رقم 297) ” وعن علي وابي هريرة انهما قالا: ” من غسل ميتا فليغتسل “، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهري، واختاره أبو اسحاق الجوزجاني لما روي عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ” من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمل ميتا فليتوضأ “، قال الترمذي: هذا حديث حسن “. (*)


[ 540 ]

لان هذ الاجماع قد دل على ان القول الاخر الذي سوغوه من قبل القول به قد حرم القول به، وهذا نسخ للاجماع. قيل له: هذا يسقط على مذهبنا، لانهم إذا اجمعوا على ان كل واحد من القولين جائز لا يجوز أن يجمعوا بعد ذلك على احد القولين، لان ذلك ينقض الاجماع الاول. وانما يصح ذلك على مذهب من قال بالاجتهاد (1) بأن يقول: قالوا بقولين من طريق الاجتهاد ثم اداهم الاجتهاد إلى قول واحد، وعلى هذا ايضا لا يكون ذلك نسخا، لانهم انما سوغوا القول بالاول بشرط أن لا يكون هناك ما يمنع من الاجتهاد، كما ان من غاب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فانما يجتهد في المسألة بشرط أن لا يكون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص، فإذا وجد الاجماع على احدهما عدم الشرط الذي له جوزوا القول بالاخر فخرم القول به لهذه العلة لا لانه منسوخ. واما القياس: فعندنا انه غير معمول به في الشرع على ما ندل عليه في المستقبل، فلا يصح نسخه ولا النسخ به. واما على مذهب من قال بالعمل به، فلا يصح ايضا نسخه (2)، لانه يتبع الاصول فما دامت الاصول ثابتة فنسخه (3) لا يصح (4). والنسخ به لا يصح ايضا، لان من شرط صحته أن لا يكون في الاصول ما يمنع


(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 8 حول مفهوم اجتهاد عند متقدمين الامامية. (2) ان عدم جواز النسخ بالقياس هو رأى الجماهير من الفقهاء المتكلمين، وقد فضل اخرون بيين القياس الجلي والخفي فاجازوه في الاول دون الثاني. انظر: ” التبصرة: 274، المستصفى 1: 126، الابهاج 2: 278، الذريعة 1: 459، الاحكام للاملي 3: 147، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 512، المعتمد 1: 402، روضة الناظر: 80، ارشاد الفحول: 288 “. (3) النسختين: نسخه. (4) ان القائلين بجواز العمل بالقياس يمنعون صيرورة القياس ناسخا ومنسوخا، ما عدم ناسخية لان شرط صحة القياس ان لا يكون في لاصول ما يمنع منه ومع وجوده فلا مجال لناسخية، وما عدم كونه منسوخا لان القياس تابع لاصله وباق ببقاء اصله، فلا يتصور نسخ حكمه مع بقاء اصله. (*)


[ 541 ]

منه فلو جوزوا نسخ الاصول به، لجوزوا نسخ الاصول بقياس لم يوجد على الشرط الذي يصح عليه (1). فاما الاجتهاديات (2) على مذهب الفقهاء: فلا يصح النسخ فيها، لانه يجوز أن يرجع من اجتهاد الى اجتهاد ويجوز أن لا يرجع. وليس يجوز أن يقال: ان احد القولين ينسخ الاخر، ولذلك قال معاذ: ” اجتهد رأيى إذا لم اجد في الكتاب ولا في السنة (3) وكذلك غيره من الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم للنصوص. واما فحوى القول: فلا يمتنع نسخه لان اللفظ يدل عليه كما يدل على ما يتناوله صريحة. فان قيل: هل يجوز أن ينسخ ما يقتضيه فحوى الخطاب مع ثبوت صريحه ؟، كان ينسخ ضرب الوالدين ويبقى تحريم قوله لهما اف. قيل له لا يمتنع، ويفارق القياس لان نسخه مع ثبات اصله لا يصح، لان بصحة الاصل يصح الفرع، فما دام ثابتا فيجب صحته. وكذلك لا يجوز بقاء القياس مع نسخ اصله لما ذكرناه من العلة (1). ومن الناس من منع من ذلك وقال: لا يجوز ان يثبت صريحه ويرتفع فحواه، لان ذلك مناقضة ويستحيل في العرف، لانه لا يجوز أن يقال: ” فلان لا يظلم مثقال ذرة ” وهو يظلم القناطير، أو ” فلان لا يأكل رغيفا ” ثم يقول: ” هو يأكل مائة رطل “، فإذا


(1) راجع هامش رقم (1) صفحة 540. (2) في الاصل: الاجتهاد، ولمعرفة مفهوم اصطلاح ” الاجتهاد ” عند مدرسة الامامية واهل السنة راجع التعليقة رقم (1) ص 8. (3) عن معاذ بن جبل: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله إذ بعثه الى اليمين: بماذا تقضي ؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو ” سنن الدرامي 1: 70، عون المعبود 3: 330. (*)


[ 542 ]

كان كذلك فدخول النسخ في ذلك لا يصح. واما النسخ باقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفعل فسنبين في باب الافعال ان شاء الله.


[ 543 ]

فصل (9) ” في ذكر نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن ” ذهب المتكلمون باجمعهم من المعتزلة وغيرهم، وجميع اصحاب أبي حنيفة، ومالك، إلى أن نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها جائز (1)، واليه ذهب سيدنا المرتضى (2) (رحمه الله). وذهب الشافعي (3) وطائفة من الفقهاء (4) إلى ان ذلك لا يجوز، وهو الذي


(1) انظر: ” المعتمد 1: 391، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 501، شرح المنهاج 1: 477، الاحكام للامدي 3: 138 – 135، روضة الناظر: 79، المستصفى: 1 / 124، المنخول: 292، التبصرة: 264، ارشاد الفحول: 285 “. قال الشوكاني في ارشاد الفحول: (ص 285): ” يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور كما حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبري، وابن برهان، وابن الحاجب، قال ابن فورك في شرح مقالات الاشعري: واليه ذهب شيخنا أبو الحسن الاشعري…، وقال ابن السمعاني: وهو مذهب ابي حنيفة وعامة المتكلمين، وقال سليم الرازي: وهو قول اهل العراق، قال: وهو مذهب الاشعري والمعتزلة وسائر المتكلمين قال، الدبوسي: هو قول علمائنا يعني الحنيفة. قال الباجي: قال به عامة شوخنا، وحكاه ابن الفرج عن مالك “. (2) الذريعة 1: 462. (3) قال الشافعي في (الرسالة: ص 106): ” ان السنة لا ناسخة للكتاب، وانما هي تبع للكتاب “. (4) كأبي إسحاق الشيرازي، والحارث بن اسد المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القلانسي، وابي حامد الاسفراييني، وعبد القاهر البغدادي، وسهل بن ابي سهل الصعلوكي، والصيرفي، والخفاف، واحمد بن حنبل في احدى الروايتين عنه، وقد ذهب أبو العباس ابن سريج الى جواز نسخ القرآن بالسنة عقلا ولكنه ممتنع شرعا. (*)


[ 544 ]

اختاره شيخنا أبو عبد الله (1) (رحمه الله). ولا خلاف بين اهل العلم ان القرآن لا ينسخ باخبار الاحاد، الا أن من اجاز نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها، يقول: كان يجوز نسخه ايضا باخبار الاحاد ولكن الشروع منع منه، وهو الاجماع على ان خبر الواحد لا ينسخ به القران، والا كان ذلك جائزا، كما ثبت عندهم تخصيص عموم القران وبيان مجمله باخبار الاحاد. ولي في هذه المسألة نظر، الا اني اذكر ما تعلق به كل واحد من الفريقين على ضرب من الايجاز: فاستدل (2) من قال بجواز ذلك: انه إذا اوجبت السنة المقطوع بها العلم والعمل ساوت الكتاب في ذلك، فيجب جواز حصول نسخها كما يجوز أن يبين بها، ويخص بها، وانما لا يجوز نسخه بخبر الواحد للاجماع الذي ذكرناه والا كان ذلك جائزا. وقالوا ايضا: النسخ إذا كان واقعا في الاحكام التي هي تابعة للمصالح، وكانت السنة في الدلالة على الاحكام كالقرآن لا يختلفان، فيجب جواز نسخه بها. قالوا: ومزية القرآن في باب الاعجاز على السنة لا يخرجها من التساوى فيما ذكرناه، يبين ذلك ان نسخ الشريعة انما يصح من حيث كان دلالة على ان الحكم المراد بالاول اريد (3) به إلى غاية وقد علم ان قوله تعالى كذا وإذا كان وحيا ولم يكن قرانا في باب الدلالة على ذلك كالقرآن، فكذلك حال السنة في ذلك يجب أن يكون حال القرآن في جواز نسخ القرآن به، لان الذي يختص القرآن به من الاعجاز لا تأثير له


راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) (1) قال الشيخ المفيد في (التذكرة باصول الفقه: 43): ” العقول تجوز نسخ… الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب، غير ان السمع ورد بان الله تعالى لا ينسخ كلامه بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) الاية، فعلمنا انه لا ينسخ الكتاب بالسنة “. (2) في الاصل: وستدل. (3) في الاصل: ان يريد. (*)


[ 545 ]

فيما به يصح النسخ من الدلالة على الحكم، لان نفى كونه معجزا مع كونه قولا له تعالى لا يخرجه من ان يدل على الحكم كهو إذا لم تكن معجزا، الا ترى ان قوله عليه السلام دلالة على الحكم وان لم يكن معجزا، فإذا صح ذلك لم يكن بكون القرآن معجزا اعتبار، فوجب صحة نسخه بالسنة على ما قدمناه. واستدل من امتنع من جواز نسخه بالسنة باشياء (1): منها قوله تعالى: (وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (2)، قالوا: فجعله الله تعالى مبينا للقرآن، فلو نسخه لكان قد ازاله، والازالة ضد البيان. واعترض من خالف في ذلك بأن قال: انه إذا نسخه بالسنة فقد بين الوقت الذي تزول فيه العبادة، وهذا في أنه بيان جار مجرى التخصيص، ولو لم يكن ذلك بيانا لم يكن في وصف الله تعالى له بانه مبين دليل على انه لا يفعل ما ليس ببيان، كما لا يدل على انه لا يبتدى باحكام شرعها. وقال أبو هاشم: ان معنى قوله: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، أي لتبلغ وتؤدي لان ” الاداء ” بيان، ومتى حملنا الاية على هذا وفينا حقها في العموم لانه مؤد لكل ما انزل الله. ومتى حملت على البيان الذي هو التفسير حملت على التخصيص، وإذا امكن حمل الاية على العموم كان اولى من حملها على الخصوص (3). واستدلوا ايضا بقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية) (4) قالوا: فتبين انه تبدل الاية بالاية، وذلك يمنع من أن ينسخ بالسنة.


(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 543. (2) النحل 44. (3) نسب أبو الحسين البصري (المعتمد 1 / 394) للجبائي ان: ” الشيخ ابا هاشم – رحمه الله – يحمل قوله تعالى (لتبين للناس): لتظهر لهم ذلك، وتؤديه، وإذا حمها على ذلك، لاستوعب جميع ما انزل الينا، وإذا حمل على بيان المجمل لم يستوعبه، فكان هذا التأويل اولى لمطابقته العموم “. (4) النحل: 101. (*)


[ 546 ]

واعترض على ذلك من خالف بان قال: ليس فيه بانه لا يجوز أن يبدل الاية الا بالاية، فالتعلق به لا يصح ولانه لا يدل على موضع الخلاف من نسخ حكم الاية بالسنة، لانه انما ذكر ان الاية تبدل بالاية ولم يذكر الحكم. واستدلوا: بقوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقائنا ائت بقران غير هذا أو بدله قل ما يكون لى ان ابدله من تلقاء نفسي) (1) فبين ان تبديله لا يقع الا بالكتاب. وقال من خالف في ذلك: ان قوله تعالى: (قل ما يكون لى ان ابدله من تلقاء نفسي) يدل على انه لا تنسخ الاية الا بوحى من الله تعالى قرآنا كان أو غير قرآن، وكذلك نقول لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينسخ القرآن من قبل نفسه على حال. واقوى ما استدلوا به في هذا الباب قوله تعالى: (ما ننسخ من اية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (2)، فاستدلوا بهذه الاية من وجوه: منها: ما ذكره أبو العباس بن سريج (3) انه قال: لما قال الله تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها) احتمل أن يراد به الكتاب، واحتمل غيره، فلما قال بعده: (الم تعلم ان الله على كل شئ قدير) (4) علم انه اراد بما تقدم ما يختص هو بالقدرة عليه، وهو القرآن المعجز، فكأنه قال: (نأت بخير منها أو مثلها) مما نختص بالقدرة عليه. ومنها: انه تعالى قال: (نات بخير منها أو مثلها) فاضاف ما نسخ به الاية إلى نفسه والسنة لا تضاف إليه تعالى في الحقيقة. ومنها: ان الظاهر في الاستعمال انه إذا قيل لاحد: ” لا آخذ منك ثوبا الا اعطيك خيرا منه ” انه يراد به من جنس الاول، وكذلك قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) لما ذكر في الاول آية فيجب أن يكون هي المراد بقوله: (نات بخير منها أو مثلها) فكأنه


(1) يونس: 15. (2) البقرة: 106. (3) في الاصل والنسخة الثانية: أبو العباس بن شريح وهو تصحيف، راجع هامش رقم (3) صفحة 468. (4) البقرة: 106. (*)


[ 547 ]

قال: نات بآية خير منها أو مثلها ومنها: ان الاية انما تكون خيرا من الاية بأن تكون انفع منها، والمنفعة بالاية تفع بتلاوتها وبامتثال حكمها، فيجب أن يكون ما يأت به يزيد في النفع على ما ينسخه، ولا يكون زائدا عليه الا ويحصل به النفع من كلا الوجهين، والسنة لا يصح ذلك فيها. وذكر من خالف هذا المذهب في تأويل هذه الاية وجها قويا وهو المحكي عن أبي هاشم وهو انه قال (1): ” ليس في قوله: (نأت بخير منها) دلالة على ان ما يأتي بها هو الناسخ، لانه لم يقل نأت بخير منها ناسخا، فيجوز أن ينسخ الاية بشئ اخر ثم يأت بخير منها واجاب من نصر المذهب الاول عن هذا بان قال: إذا ثبت انه لابد أن يأتي بآية اخرى، وكل من قال بذلك قال لانها تكون ناسخه، وليس في الامة من قال لابد من أن يأتي بآية اخرى وإن لم يكن ناسخه، لان من جوزنسخ القرآن بالسنة قال: يجوز ان ينسخه بالسنة وان لم يأت بآية اخرى، وكل قول خالف الاجماع وجب اطراحه. واعترضوا (2) على الاستدلال بالاية ايضا بان قالوا: قوله: (ما ننسخ من اية أو ننسها نات بخير منها) يقتضى ثبوت النسخ قبل الاتيان بخير منها، فلو كان النسخ بما يأتي به يقع، لما صح حصول نسخ الاية قبل أن يأتي بخير منها. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: لا يمتنع أن يقول: نأت بخير منها ناسخا وأن تقدم قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها)، كما ان القائل إذا قال: ” انا لا ابطل الحركة الا وافعل السكون “، ” ولا يعدم السواد عن المحل الا ويطرؤ عليه البياض “، وان كان المبطل للسواد هو البياض الطارئ وكذلك المبطل للحركة السكون الذي يطرأ عليه، فكذلك القول في الاية.


(1) المعتمد 1: 397. (2) واعترض. (*)


[ 548 ]

واعترض ايضا على الاستدلال بالاية بأن قالوا: ليس في ظاهر الاية نسخ حكم الاية، وهو موضع الخلاف، وهذا ايضا يسقط بالاجماع، لان احدا لا يفصل بين نسخ الاية وبين نسخ حكمها، فمن فصل بينهما كان مخالفا للاجماع. وقالوا ايضا: ان نسخ الاية انساؤها إذا حمل على ان المراد به انه ينسيه عن صدور الرجال، فالله تعالى هو الفاعل لذلك فلا يصح وقوع ذلك بالسنة. ومتى حمل على ان المراد به أن يبين ان تلاوتها ليس بطاعة، فذلك يصح بالسنة والقرآن جميعا. ولمن نصر الاول أن يقول: انا احمل الاية على الامرين جميعا، على انه لا ينسها عن صدور الرجال الا الله، ولا يبين ان تلاوتها ليس بطاعة الا بقرآن آخر خير منه أو مثله، وان ذلك لا يقع بالسنة اصلا، لهذا الظاهر. واعترضوا ايضا الاستدلال بها بان قالوا: قولنا: ” كذا خير من كذا “، يستعمل بمعنى انه انفع لنا منه، وانه وقد زاد في باب النفع على غيره وإذا ثبت ذلك جاز أن يقال انه نأت بخير منها، أي بانفع لكم منها، والمنفعة في هذا الموضع هي (1) ما يستحق بالفعل من الثواب، وليس يمتنع أن يكون الثواب بما يدل السنة عليه من الفعل اكثر مما يستحقه على الفعل الذي دلت الاية عليه وعلى تلاوتها، فيجب من هذا الوجه صحة نسخ الاية بالسنة وان يستدل بنفس الاية على ما نقوله. واجاب من نصر المذهب الاول عن ذلك بان قال: فكان يجب على هذا التقدير ان يقال بالاطلاق: ان السنة خير من القرآن، ويراد بذلك انه اكثر ثوابا، وفي اطلاق ذلك خروج من الاجماع. واعترضوا على الوجه الاول من الاستدلال بالاية بان قالوا: قوله: (نأت بخير منها) مضيفا ذلك إلى نفسه لا يدل على ما قالوه، لان عندنا النسخ انما يقع بالوحي الذي إلى الله تعالى، به وان كان بالسنة فنستدل عليه ونعمله، وقد اعطينا الاضافة


(1) في الاصل: متى. (*)


[ 549 ]

حقها. وقالوا ايضا في الوجه الثاني: انه لا يمتنع أن يقول القائل: ” آخذ منك كذا واعطيك ما هو انفع منه ” وان لم يكن من جنسه، لانه قد يقول الرجل لصاحبه مصرحا: لا آخذ منك كذا ثوبا الا واعطيك ما هو خير منه من الدنانير “، ” ولا آخذ منك دارا الا واعطيك ما هو انفع لك منه من البستان ” وغير ذلك. وقالوا في الوجه الثالث من قوله تعالى: (الم تعلم ان الله على كل شئ قدير) (1): انما يريد به انه قادر على أن ينسخ الاية بما يعلم انه اصلح للعباد من المنسوخ، والذي يختص بذلك هو الله تعالى. واستدل بعض اصحاب الشافعي على صحة ما ذهبوا إليه بان قالوا (2): لا يجوز ذلك من جهة العقل لان في ذلك ارتيابا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستدل على ذلك بقوله: (واذ بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون) (3) ثم بين انه ليس يرفع هذا بقوله، وان المبدل هو الله تعالى بما انزله. وهذا غلط، لان الله تعالى ذكر انهم نسبوه إلى الافتراء عند تبديله الاية بالاية، ان كان ما يلحقهم من الارتياب قد يمنع من نسخ الاية بالسنة، فيجب أن يمنع من نسخ الاية بالاية ايضا، وكيف يمنع العقل من ذلك ؟ ومن علم كون القرآن معجزا يعلم صدقه، وعلمه بصدقه ينفى الارتياب بقوله إذا نسخ الاية بالسنة، وليس نسخه بالسنة نسخا من تلقاء نفسه، بل هو نسخ له بالوحى النازل عليه، فهو في الحكم كأنه نسخ آية بآية. وفي الناس من قال: ان العقل يجيز ذلك لكن لم يرد ذلك في السنة ولم


(1) البقرة: 106. (2) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) ص 543. (3) النحل: 101. (*)


[ 550 ]

يثبت (1). فهذا وجه، الا انه ليس بكلام في هذه المسألة لان صاحبها مقر بجواز ذلك، وانما انكرو وجوده، فالواجب أن يبين له الوجود. ومن يذهب إلى ذلك فله اشياء يذكرها، فيتعلق بها، ربما ذكرناها ان عرض ما يحتاج إليه، ولايجوز له إذ يبين ذلك ان يتأوله، لانه ليس بمستند إلى دليل يصح له التأويل. واما من قال: انى لا اقول ان نسخ القرآن بالسنة جائز في العقل أو لا يجوز، لان الجواز شك، وقد علمت بالشرع المنع منه، فذهاب عن معنى هذه اللفظة، لان المراد بها ان نسخ القرآن بالسنة من القبيل الذي شك في حاله هل يتعبد الله تعالى به ام لا ؟ وانه من حيز ما لا يجوز ذلك فيه ؟ وهذا لا يصح الامتناع منه كما لا يصح الامتناع من أن يقول: كان يجوز أن يتعبد الله تعالى بصلاة سادسة أو لا وان علمنا بالسمع انه لم يتعبد بها ! وهذا جملة كافية في هذا الباب. واما نسخ السنة بالكتاب: فالظاهر من مذهب الشافعي (2) المنع منه، وهو الذي صرح به في رسالتيه جميعا، وفي اصحابه من يضيف إليه جواز ذلك (3). والاول أظهر من قوله، لكنه لما رأى هذه المسألة تضعف على النظر جعل


(1) نسب هذا القول لابي العباس بن سريج، فقد رجح القول بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة عقلا، ولكنه يخالف في الوقوع فيرى انه لم يقع، فالخلاف منه في الوقوع لا في الجواز (انظر المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 543). (2) قال الشافعي في (رسالته: ص 108 فقرة 324): ” وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها الاسنة لرسول الله. ولو احدث الله لرسوله في امر سن فيه غير ما سن رسول الله لسن فيما احدث الله إليه، حتى يبين للناس ان له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها “. وقد ذهب الى المنع كل من ابي الطيب الصعلوكي، وابي إسحاق الاسفراييني، وابي منصور البغدادي. (3) التبصرة: 272، اللمع 60 – 59، شرح اللمع 1: 499. (*)


[ 551 ]

قولا اخر على حسب ما يفعله كثير منهم ! ! (1) واما الباقون من الفقهاء والمتكلمين فعلى جواز ذلك (2). وتعلق من منع من ذلك بان قال: إذا لم يجز نسخ القرآن الا بقرآن لمساواته له في الرتبة، فكذلك لا تنسخ السنة بالكتاب لمثل ذلك، ولانه جعل مبينا فلا يجوز أن تنسخ سنة القرآن، لان في ذلك اخراجا له من أن يون مبينا بل، يجب كون سنته مبينة بالقرآن. والذي يعتمد في ذلك جواز نسخ السنة بالقرآن، والذي يدل على ذلك انه قد


(1) ان بعض الأراء تعين القارئ على معرفته بمبلغ علم صاحب الرأي ومقدار فهمه وتضلعه، القائل: بعدم قدرة الكتاب على نسخ السنة النبوية لا يرفع برأيه هذا شأن السنة وإنما يدل عى جهله بحقيقة القرآن وبعده عن فهم محتوى هذا الكتاب الذي نزل تبيانا للناس ولا يأتيه الباطل من بين يديه وللا من خلفه. وقد كبر هذا الرأي على اصحاب الشافعي والمدافعين عن آرائه فحاولوا نفيه عنه أو تأويله كما هو شأنهم وديدنهم في كثير من الظواهر الصريحة من الكتاب والسنة. قال ابن السبكي: (الإبهاج 2: 270): ” أما نسخ السنة بالكتاب فالجمهور على جوازه ووقوعه… وذهب قوم إلى امتناعه، ونقل عن الشافعي – رضي الله عنه – وقد استنكر جماعة من العلماء ذلك من الشافعي حتى قال الكيا الهراسي: هفوات الكبار على أقدارهم، ومن عن خطؤه عظم قدره، وقد كان عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الاصول والفروع فلما وصل إلى هذا الموضع قال: هذا الرجل كبير لكن الحق اكبر منه، قال: والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره، كيف وهو الذي مهد هذا افن ورتبه وأول من أخرجه، قالوا: لا بد وأن يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها، وأورد الكيان بعضها. واعلم انهم صعبوا أمرا سهلا وبالغو في غير عظيم، وهذا إن صح عن الشافعي فهو غير منكر وإن جبن جماعة من الاصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه ! ! (2) القول بجواز نسخ السنة بالقرآن عقلا ووقوعه شرعا هو مذهب الجمهور الأشاعرة، والمعتزلة، والأحناف، والحنابلة، معظم الفقهاء كأبي إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والرازي، والبيضاوي، وابن السبكي، والغزالي والسرخسي والشوكاني وغيرهم. انظر: ” التبصرة: 272، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 499، المستصفى 1: 124، المنخول: 295، الأحكام للآمدي 3: 135، الذريعة 1: 470 أصول السرخسي 2: 67، الإبهاج 270 2 – 271، ميزان الأصول 2: 1006، المعتمد 1: 91، روضة الناظر: 78، شرح المنهاج 477 1، الأحكام لابن حزم 4: 508 – 505، إرشاد الفحول: 286 “. (*)


[ 552 ]

ثبت ان القرآن اقرى اقوى في باب الدلالة من السنة على الاحكام، فإذا كان اقوى منها جاز نسخها (به كما جاز نسخها بالسنة) (1) التي هي دونها في القول. ومن ذهب إلى المنع من جواز نسخ القران بالسنة، واجاز نسخ السنة بالقران يقول: لم امنع من ذلك من حيث التساوى في باب الدلالة، بل امتنعت من ذلك للآيات التي دلت على المنع من ذلك، والا كان ذلك جائزا، وان كان بعضه ادون من بعض كما إذا كانا متساويين في باب الدلالة. ومن ذهب إلى الجواز في الموضعين كانت هذه الشبهة عنه ساقطة. فان قالوا: ان الله تعالى لو نسخ سنة نبيه عليه السلام باية ينزلها، لامر نبيه بأن يبين سنة ثانية ينسخ بها سنة الاولى لئلا يلتبس النسخ بالبيان. قيل له: ان الاية لا تخلو من أن تدل بظاهرها على نسخ السنة أو لا تدل بظاهرها على ذلك: فان دل على ذلك، فالنسخ بها يقع والسنة تكون مؤكدة. وان لم يدل الا ببيان السنة جاز القول بالسنة، فان السنة (2) تنسخ من حيث كانت بها يعلم نسخ السنة الاولى. وإذا صح ذلك فما الذي يجوج إلى بيان سنة ثانية، والاية دالة بظاهرها على نسخ السنة الاولى، وكيف يلتبس ذلك بالبيان ؟ ومن حق البيان أن يكون بيانا لما لا يعرف المراد به بظاهره، والنسخ بالضد منه، ومن حق الدليل أن لا يتأخر عن المبين، والنسخ مخالف له. واما قوله: (لتبين للناس ما نزل إليهم) (3) لا يمنع من أن ينسخ سنته بالقران، ولانه ليس في نسخها به اخراج لها من أن يكون قد بين ما اريد بها، وانما يبنى النسخ


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) في الاصل: بأن السنة. (3) النحل: 44. (*)


[ 553 ]

على ان نظائر ما اريد بها زال حكمه في المستقبل. ومما يبين جواز نسخ السنة بالقران وقوع ذلك، وهو ان تأخير الصلوة عن اوقاتها في الخوف كان هو الواجب اولا ثم نسخ ذلك المنع من تأخيرها بقوله تعالى: (فإذا خفتم فرجالا أو ركابنا) (1). فاما نسخ الكتاب بالكتاب: فقد وقع ايضا، وقد قدمنا الامثلة في ذلك، ومن ذلك انه كان حد الزانية الامساك في البيوت حتى تموت بقوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) (2) الاية، وحد الرجال الاذى، ثم نسخ ذلك بقوله: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (3). وذهب من خالفنا في ذلك إلى ان ذلك نسخ عن المحصن بالرجم. فاما على ما يذهب إليه اصحابنا فانه تجتمع له الجلد والرجم جميعا، ولا يسلمون أن احدهما منسوخ. وهذه جملة كافية في هذا الباب.


(1) البقرة: 239. (2) النساء: 15. (3) النور: 2. (*)


[ 554 ]

فصل (10) ” في ذكر الطريق الذي يعرف به الناسخ والمنسوخ، ومعرفة تاريخهما ” يعلم الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا بشيئين: احدهما: أن يكون الثاني منبئا عن نسخ الاول لفظا، أو يقتضى ذلك من جهة المعنى. ولهذين الوجهين تفصيل، واما يقتضيه ذلك لفظا فعلى وجوه: احدهما: أن يرد الخطاب بأن الثاني قد نسخ الاول، نحو ما روى ان رمضان نسخ عاشورا (1)، وان الزكاة نسخت الحقوق الواجبة في الاموال (2). وثانيها: أن يرد بلفظ التخفيف، نحو قوله تعالى: (الان خفف الله عنكم) (3) في نسخ ثبات الواحد للعشرة بالواحد للاثنين، ونحو قوله تعالى: (اشفقتم ان تقدموا بين يدى نحويكم صدقة فان لم تفعلوا وتاب الله عليكم) (4) فنبه بذلك على


(1) راجع هامش رقم (4) صفحة 536. (2) تفسير القرطبي 7: 100. (3) الانفال: 66. (4) المجادلة: 13. (*)


[ 555 ]

وجوب اسقاط ذلك. وثالثها: نحو ما روى عنه عليه السلام منن قوله: ” كنت نهتيكم عن زيارة القبور الا فزوروها، وعن ادخار لحوم الاضاحي فادخروها ” (1). وكل ذلك ادلة تقتضي زوال الحكم الثابت بنص متقدم عن نظائر ذلك، على وجه لولاه لكان ثابتا بالاول، فيجب أن يكون ناسخا له والاول منسوخا به، وان اختلف عبارته. واما ما يعلم ذلك من جهة المعنى: نحو أن يوجب الشئ ثم يوجب ما يضاده على وجه لا يمكن الجمع بينهما بأي وجه علم ذلك من الالفاظ، فيعلم بذلك انه ناسخ للاول، فعلى هذا يجرى هذا الباب. وقد يعلم ايضا الناسخ ناسخا ببيان إذا كان اللفظ والمعنى لا ينبئان عن ذلك، وذلك نحو ما يقوله الفقهاء من نسخ الوصية للوالدين والاقربين باية المواريث، لان بظاهر الاية لا يعلم نسخ ذلك، وانما يعلم ذلك على تسليم بقوله عليه السلام: ” ان الله تعالى قد اعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث ” (2). وهذا وان كان عندنا غير صحيح، لان عندنا تصح الوصية للوارث، فانما ذكرناه لان ذلك وجه كان يمكن أن يقع به النسخ. واما طاووس (3) فذهب إلى أن الوالدين ثبت لهم الوصية إذا كانا كافرين، فلم ينسخ الاية وانما خصصها بالخبر (4).


(1) كنز العمال 15: 42555، 42998، 42554 – السنن الكبرى 4: 77. وايضا انطر هامش رقم 1 و 2 صفحة 538 (2) كنز العمال 5: 12916، 14574 – ج: 16: 46065، والحديث اخرجه الترمذي، والنسائي، واحمد، وابن ماجة. (3) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني، أبو عبد الرحمن، من اكابر التابعين فقها ورواية للحديث وزهدا وتقشفا. اصله من بلاد فارس، ولد باليمن سنة 33 ه‍ ونشأ بها وتوفى بمكة حاجا عام 106 ه‍. (4) قال ابن قدامة: (المغني 6: 444 رقم 4591): ” ولا تجب الوصية الا على من عليه دين أو عنده وديعة أو (*)


[ 556 ]

واما تاريخ الناسخ والمنسوخ فيعرف من وجوه: احدها: أن يكون في لفظ الناسخ ما يدل على انه بعده مثل ما قدمنا ذكره (1). ومنها: أن يكون الناسخ مضافا إلى وقت أو غزاة يعلم انه بعد وقت المنسوخ. ومنها: أن يكون المعلوم من حال الراوى لاحدهما انه صحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما صحبه الاخر، أو عند صحبته انقطعت صحبة الاول أو المعلوم من حال الحكم الاول انه كان في وقت قبل وقت صحبته الثاني، وذلك نحو ماروى قيس بن طلق انه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يؤسس المسجد، فسأله عن مس (2) الذكر، ومعلوم من حال أبي هريرة انه صحب


عليه واجب يوصي بالخروج منه… فأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبة على احد في قول الجمهور… وقال أبو بكر عبد العزيز: هي واجبة للاقربين الذين لا يرثون، وهو قول داود، وحكي ذلك عن مسروق، وطاوس، واياس، وقتادة، وابن جرير، واحتجوا بالاية وخبر ابن عمر، وقالوا: نسخت الوصية للوالدين والاقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الاقربين “. (1) قول المصنف اشارة الى الوجوه الخمسة التى مرت في الصفحة (554 و 555) وهي ان يكون الثاني منبئا عن نسخ الاول لفظا أو معنى. (2) في حكم مس الذكر ثلاث روايات: الاولى: ان لا ينقض بحال، وهي رواية قيس بن طلق عن ابيه، وقد رواها أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وهي: ” قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا ملازم بن عمرو الحنفي، ثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن ابيه: قال: قدمنا على نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبى الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ ؟ فقال: هل هو الا مضغة منه، أو قال: بضعة منه ” سنن أبو داود 1: 28 باب الرخصة في مس الذكر. الثانية: لا ينقض الا ان يقصد مسه، اي يقبض ذكره بيديه. الثالثة: ينقض الوضوء بكل حال، قال ابن قدامة في شرحه الكبير على المغني (1: 216): ” ينقض الوضوء بكل حال وهي ظاهر المذهب، وهو مذهب ابن عمر، وسعيد ابن المسيب، وعطاء، وعروة، وسليمان بن يسار، والزهري، والاوزاعي، والشافعي، وهو المشهور عن مالك لما روت بسرة بنت صفوان ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” من مس ذكره فليتوضأ “. وعن جابر م ل ذلك رواهما ابن ماجة. قال الترمذي: حديث بسرة حسن صحيح. وقال البخاري: اصح شئ في هذا الباب حديث بسرة، وصححه الامام أحمد. فأما حديث قيس فقال أبو زرعة وأبو حاتم: قيس ممن لا تقوم بروايته حجة ووهنا ولم يثبتاه. (*)


[ 557 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده وقد يعلم التاريخ بقول الصحابي بأن يقول أو يحكم ان احد الحديثين كان بعد الاخر. وليس يجب، من حيث لم يجز أن ينسخ بقول الصحابي الكتاب الا يعرف بقوله التاريخ، لان التاريخ شرط في صحة النسخ، فطرق العلم به الحكاية، فصح الرجوع إلى قوله لانه لا يقع فيه لبس، كما صح اثبات الاحصان بالشاهدين وان لم يصح بهما الحكم بحد الزنا وليس يجب إذا علمنا التاريخ بقول الصحابي ان نقلده إذا اخبرنا ان: ” كذا نسخ كذا “، بل يجب أن ننظر فيما أوصفه بانه منسوخ، فان علمنا انه كما قال اخذنا به، والا وقفنا فيه، لان ذلك يجوز دخول الشبهة فيه، ولذلك لم يقبل كثير من الفقهاء قول من قال من الصحابة ان المسح على الخفين نسخ الكتاب (1)، لما علمنا انه ليس طريقه النسخ، وكذلك لم يقبل قول من قال: ” ان الماء من الماء منسوخ ” (2). واما إذا قال الصحابي ” ان كذاوكذا كان حكما ثابتا من قبل وانه قد نسخ ” ولم يذكر ما به نسخ، فان ابا عبد الله البصري حكى عن أبي الحسن (3) انه كان يرجع إلى قوله، وذلك نحو قول ابن مسعود (4) حين ذكر له التشهد التحيات الزكيات فقال:


ثم ان حديثنا متأخر لان أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الاسلام، وأنما صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم اربع سنين، وكان قدوم طلق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يؤسسون المسجد فيكون حديثنا ناسخا له. وقياس الذكر على سائر البدن لا يصح لانه يتعلق به احكام ينفرد بها، من وجوب الغسل بايلاجه والحد والمهر وغير ذلك ” ! ! (1) انظر: تفسير التبيان 3: 457. (2) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (2) صفحة 467. (3) في الاصل: ابى الحسين، والصحيح ما اثبتناه وهو أبو الحسن الكرخي من اعلام الحنفية. (4) هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن وابن ام عبد. من اكابر الصحابة علما وفقها ومعرفة بالقرآن والسنة ومن السابقين الى الاسلام، واول من جهر بقراءة القرآن بمكة، عذب في بداية الدعوة وابلى بلاء حسنا في الاسلام، كان من المقربين الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخادمه وصاحب سره، (*)


[ 558 ]

” كان (1) مرة ثم نسخ بتشهده ” (2). ونحو ماروى عن ابن عمر، وابن عباس في الرضاع انهما قالا: ” كان الواجب التوقيت واما الان فلا ” (3). وذهب غيره (4) إلى انه لا يرجع إلى قول الصحابي في ذلك، لانه إذا جاز فيما صرح بانه ناسخ الا يكون ناسخا في الحقيقة، فان اعتقد هو فيه ذلك فغير ممتنع ان يطلق ذلك اطلاقا ولا يذكر ما لاجله قال انه منسوخ، ولو ذكره كان مما لا يقع النسخ به (5). ولو علم من حاله انه انما ذكرانه منسوخ لامر لا يلتبس، لوجوب الرجوع إلى قوله. وقد يعلم التاريخ، بأن يكون احد الخبرين يقتضى حكما معلوما بغير شرع، والاخر يقتضى حكما شرعيا، فيكون ذلك هو الطارى على الاول نحو ما ذكر من


كان من الموالين لاهل البيت عليهم السلام ومن الناقمين على عثمان والحزب الاموي، ابتعد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة فولى بيت مال الكوفة، وكان يعلم الناس قراءة القرآن في المسجد الجامع، فاختلف مع الوليد – حاكم كوفة الاموي وهو اخو عثمان بالرضاعة – في تقسيم بيت المال، فكان الحاكم يرى ان ارض السواد بستان لبني امية، فشكا الحاكم امره الى عثمان فعزله عن منصبه، وعاد الى المدينة ولكنه لم يدع النكير على تصرفات عثمان وعماله برغم ان عثمان كان يردعه، واخيرا ضاق صبر الخليفة فاخذه غلمانه وضربه عثمان وداس على بطنه في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأغمي عليه وحمل الى غرفة ام سلمة ام المؤمنين، وتوفي بالمدينة سنة 32 ه‍. (1) هذا. (2) قال أبو الحسين البصري في (المعتمد 1: 418): ” حكى الشيخ أبو عبد الله عن الشيخ ابى الحسن ان الراوي إذا عين الناسخ فقال: (هذا نسخ هذا) جاز ان يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه، وان لم يعين الناس بل قال: (هذا منسوخ) قبل ذلك، نحو قول عبد الله في التشهد: (كان ذلك مرة ثم نسخ) “. (3) لم نجد هذا الحديث في المصادر المتوفرة لدينا. (4) وهذا مختار القاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر: ” الحكام للامدي 3: 163، المعتمد 1418 “. (5) لانه يستلزم نسخ المتواتر بقول الواحد. (*)


[ 559 ]

حديث مس الذكر (1) لان وجوب الوضوء من مسه هو الطارئ فيصح أن ينسخ به حديث قيس. وقد يعلم ذلك بأن يكون احد الحديثين يقتضى حكما شرعيا معلوم من حاله انه المبتدأ به في الشرع، والاخر يقتضى حكما ثابتا فيعلم انه بعده. فالتاريخ لا يعلم الا بهذه الوجوه التي حصرناها أو ما قارنها (2). فاما إذا عدم التاريخ، فقد بينا القول في ذلك في باب (في) (3) باب الاخبار المتعارضة. وهذه الجملة كافية في هذا الباب


(1) راجع هامش رقم (2) صفحة 556 (2) في الاصل: ماكان بها. (3) زيادة تقتضيها العبارة. (*)


[ 561 ]

الباب الثامن الكلام في الافعال


[ 563 ]

فصل (1) ” في ذكر جملة من احكام الافعال، وما يضاف إليه، واختلاف احوالهم ” إذا اردنا أن نبين احكام الافعال فلابد من أن نبين أولا معنى الفعل وحده ليعلم ذلك، ثم يبين حكمه. فحد الفعل: ما حدث وقد كان مقدورا قبله، وهو على ضربين: منه: ما لا صفة له زائدة على حدوثه، نحو كلام الساهي، والنائم، وحركاته التي لا تتعداه. والضرب الاخر: له صفة زائدة على حدوثه (1)، وهو على ضربين:


(1) ذهبت ااشاعرة والمجبرة ومن تابعهم من الذاهب السنية الى ان الافعال لاتوصف بالحسن والقبح لذواتها، وان العقل لا يحسن ولا يقبح، وانما يطلق الحسن والقبح باعتبار ارادة الشارع واختياره فما وافق غرض الشارع أو ما امر الشارع بالثناء على فاعله من الواجبات والمندوبات فهو حسن، وما خالف غرضه أو ذم على فعله من المحرمات يعد قبيحا. واما العدلية من الامامية والمعتزلة قالوا: بأن الافعال منقسمة الى حسنة وقبيحة لذواتها، لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل كحسن الايمان وقبح الكفر، وحسن الصدق وقبح الكذب الضار، أو بالسمع كحسن العبادات وقبح المحرمات. وهذه المسألة مشهورة عندهم بالتحسين والتقبيح العقليين. انظر: ” المعتمد 1: 335، الحكام للامدي 1: 37، الذريعة 2: 92 – 86، الذخيرة: 300 – 286، الاقتصاد (*)


[ 564 ]

أحدهما قبيح والاخر حسن. فحد القبيح: هو كل فعل وقع من عالم بقبحه أو متمكن من العلم بذلك على وجه كان يمكنه ان لا يفعله، فيستحق به الذم من العقلاء، ولا ينقسم ذلك في كونه قبيحا (1)، وربما انقسمت اسماؤه إلى كفر، وفسق، وكبيرة، وصغيرة عند من قال بذلك (2). واما الحسن فينقسم ستة اقسام: احدها: ما ليس له صفة زائدة على حسنه، وحده ما يتساوى فعله وتركه، فلا يستحق بفعله مدحا ولا بتركه ذما، وهو المسمى ” مباحا ” و ” طلقا ” وغير ذلك، الا انه لا يسمى بذلك الا إذا اعلم فاعله ذلك أو دل عليه، ولذلك لا يوصف الفعل القديم تعالى العقاب بالعصاة بانه مباح وان كان بصفته، لما ذكرناه من انه لم يعلم ولم يدل عليه، بل هو من عالم به لنفسه. والثاني: ما له صفة زائدة على حسنه، وحده ما يستحق بفعله المدح، وهو على ضربين: احدهما: لا يستحق بتركه الذم. والاخر: يستحق بتركه الذم. فما لا يستحق بتركه الذم هو المسمى ندبا، ومستحبا، ومرغبا فيه، الا أنه لا يسمى بذلك الا إذا أعلم فاعله ذلك بمثل ما قلناه في المباح، وينقسم هذا القسم قسمين: احدهما: أن يكون نفعا واصلا ألى غير فاعله، فيسمى بانه تفضل واحسان،


فيما يتعلق بالاعتقاد: 86، اصول الدين للجرجاني: 251، الاعتقاد للبهيقي: 114 و 124، الانصاف للباقلاني: 62، شرح الاصول الخمسة: 332، مذاهب الاسلاميين: 449 و 555 و 743 “. (1) لان مفهوم القبح عند المصنف امر بسيط لا ينقسم الى الصغير والكبير كما ذهب إليه المعتزلة (المعتمد 1: 335). (2) المعتمد 1: 335. (*)


[ 565 ]

ويتساوى فيه فعل القديم والمحدث في التسمية بذلك والقسم الاخر: لا يتعدى إلى الغير، وهو المسمى بأنه ندب ومستحب على ما قدمناه. واما الذي يستحق بتركه الذم فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: انه متى لم يفعله الفاعل ولا ما يقوم مقامه استحق الذم، وهو المسمى بانه واجب مخير فيه، وذلك نحو الكفارات الثلاث وما اشبه ذلك، وقضاء الدين، وغير ذلك والثاني ما إذا لم يفعله بعينه استحق الذم، وهو الموصوف بانه واجب مضيق، وذلك نحو رد الوديعة، ووجوب رد ما تناوله الغصب بعينه، وغير ذلك. والثالث: انه إذا لم يفعله من وجب عليه ولا من يقوم فعله استحق الذم، وذلك المسمى من فروض الكفايات نحو الصلاة على الاموات، وتغسيلهم، ودفنهم، ونحو الجهاد، وغير ذلك واما قولنا في الفعل: ” انه مفروض وواجب ” فعبارتان عن معنى واحد، الا انه لا يسمى فرضا الا إذا اعلم فاعله وجوبه، أو دل عليه كما قلناه في المباح والندب. وقد يعبر بالفرض عما وقع في الشرع مقدرا، وذلك نحو ما قيل: ان ذلك من فرائض الصدقة والمراد به مقاديرها، ونحو ما روى عنه عليه السلام انه فرض صدقة الفطر صاعا من تمر (1) والمعنى بذلك انه قدرها، ويحتمل أن يكون المراد به انه أوجبها. واما قولنا في الشئ: ” انه سنته ” فهو ان النبي عليه السلام قد امر بادامته إذا كان يديم فعله ليقتدى به، وهو مأخوذ من: سننت الماء، إذا واليت بين صبه (2)، ولا


(1) الكافي 1: 211، التهذيب 4: 80 الأستبصار 2: 46، من لا يحضره الفقيه 2: 115. (2) قال أحمد بن فارس: سن: السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشئ واطراده في سهولة، والأصل قولهم سننت الماء على وجهي اسنة سنا أذا أرسلته إرسالا. ومما اشتق منه السنة، وهي السيرة وأنما سميت بذلك لأنها تجري جريا. (*)


[ 566 ]

فصل بين أن يكون واجبا أو ندبا، أو مباحا، وربما استعمل (1) الفقهاء هذه اللفظة فيما يكون مندوبا إليه من الشرعيات ليفصلوا بينه وبين الواجب فيقولون ” ركعتا الفجر سنة ” وصلاة الليل سنة، وصلاة الغداة (2) فريضة ” والاصل ما قدمناه فاما الفعل الحسن: فعلى جميع مراتبه يقع من كل فاعل، قديما كان أو محدثا، الا أنه يمنع من التسمية في بعض الاقسام في افعال القديم القديم لما قدمناه من الشرط المفقود منه واما القبيح: فانه يختلف احوال الفاعلين فيه: فالقديم تعالى لا يجوز أن يقع منه شئ من القبيح لعلمه بقبحه، وبانه غنى عنه (3). واما الانبياء عليهم السلام فكذلك لا يقع منهم شئ من القبيح اصلا (وكذا الرسل) (4) سواء كانوا من البشر أو من الملائكة، وكذلك حكم الائمة الحافظين


(1) استعملت. (2) في الأصل: العراة. (3) قال المصنف في (الإقتصاد فيما يتعلق بالأعتقاد: 88): ” فالذي يدل على أنه لا يفعله (أي القبيح) علمه بقبح القبائح، وعلمه بأنه غني عنه، والعالم بقبح القبيح، وبأنه غني عنه لا يجوز أن يختاره. ألا ترى أن من خير بين الصدق والكذب في باب الوصول إلى غرضه، وهو عالم بقبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار الكذب على الصدق مع تساويهما في باب الغرض، ولا علة لذلك إلا كونه عالما بقبح الكدب، وبأنه غني عنه بالصدق، فيجب أن يكون تعالى لا يفعل القبيح لثبوت الأمرين، على أنه لو جازت عليه الحاجة لما جاز أن يفعل القبيح لأنه من جنسه من الحسن على ما لا يتناهى “. (4) زيادة من النسخة الثانية، وفي الأصل: سواء كان من البشر. (5) قد اختلفت آراء المتكلمين حول مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام وارتكابهم القبائح، فمذهب الإمامية هو: ” أن أنبياء الله صلوات الله عيهم معصومون من كل الكبائر قبل النبوة وبعدها، ومما يستخف فاعله من الصغائر كلها. وأما ماكان من صغر لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع منهم بعدها على كل حال. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممن لم يعص الله عز وجل منذ خلقه الله عز وجل إلى إن قبضة ولا تعهد خلافا ولا أذنب ذنبا على التعمد ولا النسيان ” وجمهور أهل السنة والمعتزلة والزيدية تخالف الأمامية، ولهم تفصيل في هذا الكتاب، وأليك خلاصة مذاهبهم كما أوردها عبد القاهر = (*)


[ 567 ]

لشرع (1) فاما من ليس بنبى أو رسول أو امام، فانه يجوز أن يقع منه الفعل القبيح، إلا


= الجرجاني في كتابه (أصول الدين: 169 – 167): ” أجمع أصحابنا على وجوب كون الأنبياء معصومين يعد النبوة عن الذنوب كلها، وأما السهو والخطاء فليسا من الذنوب فلذلك ساغا عليهم. وقد سها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في صلوته حتى سلم عن الركعتين تم بنى عليها وسجد سجدتي السهو، وأجازوا عليهم الذنوب قبل النبوة وتأولوا على ذك كل ما حكى في القرآن من ذنوبهم، وأجاز ابن كرام في كتابه الذنوب من الأنبياء من غير تفصيل منه، ولأصحابه اليوم في ذلك تفصى يقولون: يجوز عليهم الذنوب ما لا يوجب حدا ولا تفسيقا، وفيهم من يجيز الخطاء في التبليغ، وأختلف القدرية فمنهم من قال: أن ذنوب الأنبياء خطاء من جهة التأويل والاجتهاد ولم يجوز عليهم ان يفعلوا ما علموا أنه جنسها فأخطاء في التأويل، وهذا تأويل الجبائي، وقال ابنه أبو هاشم: إن ذلك كان ذنبا منه، ثم قال أبو هاشم: يجوز عليهم الصغائر التي لا تنفر، وقال النظام وجعفر بن مبشر: إن ذنوبهم على السهو والخطأ، وهم مأخوذون بما وقع منهم على هذا الجهة وإن كان ذلك موضوعا عن اممهم. وقال أصحابنا: لا معنى لدعوى القدرية عصمة الانبياء ولا يصح هم على أصولهم أن يقولوا: أن الله عصمهم عن شئ من الذنوب لإنه قد فعل بهم ما فعله بسائر المكلفين من النكير والعذر كلهما عندهم يصلح للطاعة والمعصية وإنما هم عصموا أنفسهم عن المعاصي وليس لله في عصمتهم تأثير “. أنظر: ” أوائل المقالات: 62، الإقتصاد فيما يتعلق بالأعتقاد: 260، تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى، الذخيرة في علم الكلام: 338، شرح الأصول الخمسة: 575، المواقف: 358، مقالات الإسلاميين 1: 1 16 و 213 و 272، مذاهب الإسلاميين: 478، الأحكام للآمدي 1: 145 “. (1) تعد قضية عصمة الأئمة عليهم السلام من أمهات المسائل الخلافية والمثيرة للجدل والأخذ والرد بين الشيعة ومذاهب أهل السنة الكلامية، فقد أجمعوا على نفيها وأصرت الأمامية على إثباتها ولزومها بالأدلة العقلية والنقلية، وللإمامية تأليفات مطولة في هذا المجال، ومن أهمها كتاب ” الشافي في الأمامة ” للشريف المرتضى وهو رد على فصل الإمامة من كتاب ” المغني ” للقاضي عبد الجبار الهمداني، ولخصه الشيخ الطوسي وسماه ” تلخيص الشافي ” وقد طبع مرارا، واليك مختار الإمامة كما صرح به الشيخ المفيد في (أوائل المقالات: 65): ” إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء صلوات الله عليهم في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء وإنهم لا يجوز منهم صغيرة إلا ما قدمت ذكر جوازه على الأنبياء، وإنه لا يجوز منهم سهو في شئ من الدين ولا ينسون شيئا من الأحكام، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية. والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك وتجوز من الأئمة وقوع الكبائر والردة عن الإسلام ” راجع المصادر والواردة في ذيل التعليقة السابقة. (*)


[ 568 ]

من أخبر الله عنه أنه لا يختار القبيح فيعلم ذلك من حاله وسواء كانوا من البشر أو من الملائكة لا يختلف حالهم في ذلك وقد لا يقع من الانبياء والمرسلين والائمة عليهم السلام ما ينفر عن قبول اقوالهم وان لم يكن ذلك قبيحا وامثلته كثيرة لا يحتاج إلى ذكرها هاهنا. وقد يجوز أن تختص الانبياء بافعال شرعية دون غيرهم وكذلك يجوز في احاد الائمة أن يختص واحد منهم بشئ من الشرع دون غيره. فهذه جملة كافية في هذا الباب انشاء الله تعالى.


[ 569 ]

فصل [ 2 ] ” في ذكر معنى التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله، وهل يجب اتباعه عقلاأو سمعا ؟ و (1) القول فيه ” التأسي لا يكون الا باعتبار شيئين احدهما: صورة الفعل. الثاني: الوجه الذي وقع عليه الفعل. والذي يدل على ذلك انه صلى الله عليه وآله وسلم لو صلى لم يكن لنا اتباعه والتأسى به بأن نصوم أو نحج أو نعتكف، وانما كان ذلك لمخالفة أفعالنا لفعله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك لو صلى عليه السلام على جهة الندب لم يكن من صلى على جهة الوجوب متبعا له، وكذلك إذا صلى على جهة الوجوب لم يكن من صلى على جهة الندب متبعا له ولا متاسيا به، وانما كان كذلك لمخالفة فعلنا لفعله في الوجه الذي وقع عليه الفعل، وكذلك لو أخذ من انسان دراهم على جهة الزكوة لم يكن من اخذ الدراهم منه مثلا غصبا، أو عن ثمن مبيع متبعا له، لمخالفة الوجهين على ما قدمناه. بل متى كان فعلنا مخالفا في الوجه، كان ذلك مخالفة له كما لو خالف فعلنا لفعله في الصورة – على ما بيناه – وقد كان يصح من جهة العقل ان يلزمنا جميع افعاله


(1) وكيف القول فيه. (*)


[ 570 ]

التي يفعلها، وان لم نراع وجوه ما يفعله، سواء فعله على جهة الوجوب أو الندب، ويكون واجبا علينا ذلك على كل حال، لكن ذلك يحتاج إلى دليل شرعى، ولم يدل دليل على ذلك اصلا، ولو دل الدليل عليه لما كان ذلك اتباعا له ولا تأسيا به، بل يكون واجبا علينا القيام الدلالة على ذلك لانه إذا فعل الفعل على جهة الوجوب أو الندب أو الاباحة، وفعلناه على غير ذلك الوجه لا نكون متبعين له لما قلناه فإذا ثبت ان معنى التأسي ما قلناه، وجب أن يراعى فيه حصول العلم بصورة الفعل وبالوجه الذي حصل عليه الفعل ليصح لنا التأسي به. والوجه الذي يقع عليه الفعل على ضربين: أحدهما: يقارن الفعل، نحو نية الوجوب أو الندب أو الاباحة، وهذا هو الذي ينبئ عن هذا اللفظ على الحقيقة والثاني: المعنى الذي له ان يفعله وان لم يصح أن يكون مقارنا، وذلك نحو أن يزيل النجاسة عن ثوبه لاجل الصلوة، وانما يكون الواحد منا متبعا له بان يزيله لما له ازاله، فأما من ازاله تنظيفا فلا يكون متبعا له، وكذلك ان توضاء لازالة الحدث أو الصلوة، فاتباعه له انما يكون بأن يفعل على هذا الوجه. فاما موافقته له عليه السلام في الفعل فيطلق على وجهين. احدهما: أن يراد به مساواته في صورة الفعل. والثاني: مساواته في صورته، وفي الوجه الذي وقع عليه الفعل، وهذا اظهر في الاستعمال. واما مخالفته: فقد يكون في القول والفعل معا: فمخالفته في الفعل: هو أن يعلم بالدليل وجوب التأسي به، فإذا لم يتأسا به كان مخالفا له. فاما، ذا لم يدل الدليل على ذلك فان هذه اللفظة لا تستعمل الا على ضرب من المجاز، ولذلك لا يقال ان الحائض خالفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الصلاة.


[ 571 ]

فأما مخالفته في القول: هو أن يأمرنا بفعل فلا نفعله، أو نفعل خلافه فنكون مخالفين له. واما اتباع المأموم للامام في الصلاة، فعند اكثر الفقهاء (1) جاز على الوجه الذي قدمناه. ومنهم: اجاز ان يكون الامام مؤديا فرضا، والمأموم أن يكون متنفلا، ولمن قال ذلك ان يقول: انما قلت ذلك لدليل دل عليه، والا فالظاهر من اتباعه يقتضى خلاف ذلك. وأيضا أن يقول: إن اتباعه لم يصح بأن يفعل (3) الفعل متقربا به أو بأن نوافق في نية الصلوة فقط دون وجوبها أو ندبها، فليس ذلك نقضا لما قدمناه وقد. وقد وصف من انكر جواز التأسي به صلى الله عليه وسلم في افعاله بانه مخالف، لكن هذا الخلاف يرجع إلى القول لا إلى الفعل. واما الذي يدل على انه لا يجب من جهة العقل التأسي به واتباعه في افعاله فهو ان مصالح العباد يجوز أن تختلف في الشرعيات كما ثبت في كثير من ذلك، الا ترى ان الحائض يفارق حكمها حكم الطاهر، وحكم الغنى يفارق (4) حكم الفقير في وجوب الحج والزكوة عليه، وكذلك يخالف حكم الصحيح حكم العليل في كيفية اداء الصلاة، وكذلك يخالف حكم المسافر حكم الحاضر، وامثله ذلك اكثر من ان تحصى. وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع ايضا ان تكون مصالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم تخصه، ويكون حالنا بخلاف حاله، بل ربما كانت مفسده لنا حتى متى فعلناها


(1) المغني لابن قدامة 2: 52 رقم 1187. (2) المغني لابن قدامة 2: 53 رقم 1188. (3) في النسختين: نفعل. (4) يخالف. (*)


[ 572 ]

كنا مقبحين، فإذا ثبت ذلك وجب الرجوع في مشاركتنا له في ذلك إلى السمع، فان دل الدليل عليه حكم به، والا بقى على الاصل على ما بيناه. ويفارق افعاله عليه السلام في هذا الباب اقواله، لانه بعث ليعرفنا مصالحنا، وتعريفه لنا ذلك يكون بالقول، فلو لم نرجع إلى قوله لادى إلى خروجه من أن يكون رسولا، وليس كذلك فعله. ولانه إذا امرنا بشئ فقد اراده منا فيجب أن نفعله ان كان واجبا، وان نرغب فيه ان كان ندبا، ولا يجب ان نفعل فعلا رأيناه يفعله لان ذلك لا يدل على انه اراده منا. ويدل على ذلك ايضا: ان افعاله تخصه ولا تتعدى إلى غيره الا بدليل واقواله تتناول غيره، وانما يعلم انه داخل فيها بدليل، فعلم بذلك الفرق بين القول والفعل. فان قيل: ان هذا المذهب يوجب عليكم القول بأن تجوزوا مخالفته في افعاله الشرعية (1)، وتجويز ذلك يقتضى التنفير عن قبول قوله، فيجب الحكم بفساده. قيل لهم: لا خلاف ان النبي عليه السلام لو نص لنا على ان لنا مخالفتة في افعاله الشرعية لجاز ولم يوجب ذلك التنفير عن قبول قوله فكذلك إذا دل العقل على ما ذكرناه يجب القول بجوازه ولم يوجب ذلك التنفير عن قبول قوله، وكذلك لو خص بجميع افعاله لم يوجب التنفير عن قبول قوله. وصحة ما قلناه يبين فساد قول من قال أن افعاله على الوجوب عقلا (2). واما الذي يدل على وجوب التأسي به في جميع افعاله الا ما خص به من جهة السمع: فمما لا خلاف فيه بين الامة في الرجوع إلى افعاله صلى الله عليه وآله وسلم في تعرف الاحكام في الحوادث، كما انه يرجع إلى أقواله عليه السلام في مثل ذلك، فإذا صح ذلك فكما ان اقواله حجة يجب أن تكون افعاله ايضا حجة، ولا خلاف في


(1) جميع افعاله الشرعية. (2) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 575 (*)


[ 573 ]

أنه إذا فعل الفعل على وجه الاباحة، وعلم من ذلك من حاله لا يجوز أن نفعله على وجه الوجوب، ولا ان نحكم بوجوبه علينا. وانما اختلفوا في افعاله التي لا يعلم على أي وجه وقعت منه، هل نحكم بوجوب مثلها علينا أم لا (1) ؟، ولم يختلفوا في أن افعاله التي هي عبادة نحو الصلاة، والصيام، يجب التأسي به فيها واختلفوا في ما عدا ذلك: فمنهم من يقول: لا يجب التأسي به الا بدليل يخص ذلك. ومنهم من يقول: ان ما دل على وجوب التأسي به في بعضه يدل على التأسي به في سائره فجميع افعاله سواء في انه يتأسى به، الا ما استثنى منها. وما قدمناه يدل على صحة ذلك. وقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة) (2) وقوله تعالى: (فاتبعوه) (3) يدلان على ان التأسي به واتباعه فيما يصح اتباعه فيه من قول أو فعل. وما ظهر من حال الصحابة من رجوعهم إلى افعاله صلى الله عليه وآله، نحو ما روى عن عمر انه قبل الحجر وقال ” اعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك ما قبلتك (4). ورجوعهم إلى ازواجه عليه السلام في ثبوت ما كان يفعله ليفعلوه (5) يدل، –


(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 575 (2) الاحزاب: 21. (3) الانعام: 153. (4) الحديث مما تواتر نقله عن عمر، فقد رواه البخاري، ومسلم، وابو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدرامي، ومالك، واحمد بن حنبل وغيرهم من اصحاب المجاميع الحديثية كلهم في باب فضل تقبيل الحجر الاسود من كتاب الحج والمناسك واليك نصه بلفظ البخاري: ” عن عباس ابن ربيعة، عن عمر، انه جاء الى الحجر الاسود فقبله فقال: اني اعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا اني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك “. (5) فيفعلوه. (*)


[ 574 ]

على ذلك ايضا – ونحو ما روى عن ام سلمه انها سئلت عن القبلة للصائم فأجابت: ” ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك ” (1)، فرجع السائل إليه وقال: ان الله غفر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وليس سبيله سبيل غيره، فاخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فانكر ذلك وقال: ” اني لارجو أن أكون اخشاكم لله ” (2)، يدل على ذلك ايضا. واعلم ان التأسي به انما يكون فيما يعلم حكمه بفعله، فاما إذا كان قوله بيانا، أو كان تنفيذا، أو امتثالا لقول متقدم فانه يفعله ذلك، لان القول قد دل على وجوبه، لا لانه عليه السلام فعله. ولا معنى لقول من قال: لنا ان نتأسى به في ذلك، كما انا لا نقول: انا نتأسى به في العقليات، لان ماله يفعل ذلك وبالطريق الذي عرف به عليه السلام وجوب الفعل، به نعرف وجوبه، فحاله كحالنا في ذلك.


(1) صحيح البخاري: كتاب الصوم – باب 23 حديث رقم 37. (2) صحيح مسلم 2: كتاب الصيام، باب 12، ح رقم 74 ولفظه: ” اما والله اني لاتقاكم لله، واخشاكم له “. (*)


[ 575 ]

فصل (3) ” في الدلالة على ان افعاله عليه وآله السلام كلها ليست على الوجوب ” (1) ذهب مالك واصحابه وطائفة من اصحاب الشافعي إلى ان افعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها على الوجوب.


(1) اختلفت كلمات الاصوليين فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلم على اي وجه فعله ولم يقترن به ما يدل على انه للبيان الشرعي نفيا أو اثباتا: 1 – وجوب التوقف في التأسي به حتى يقوم الدليل عليه: وهذا قول عامة الاشعرية، واكثر اصحاب الشافعي كالصيرفي، وابن السبكي، والقاضي ابي الطيب الباقلاني، والغزالي والرازي واتباعه، وابي القاسم بن كج وآخرون، وهو مختار ابي الدقاق. 2 – يقتضي الندب: وهذا القول منسوب للشافعي وبعض اتباعه، وهو مذهب اكثر الحنفية، وبعض المعتزلة، والظاهرية، والقفال وإمام الحرمين الجويني، وحكي ذلك عن ابي بكر الصيرفي، والقفال الكبير، والقاضي ابي حامد المروزي. 3 – يقتضي الوجوب: وهو مذهب مالك، ومشايخ الاحناف في العراق وسمر قند، وحكي ذلك عن ابن سريج، وابي سعيد الاصطرخي، والحسين بن صالح بن خيزران، وابي علي بن ابي هريرة، وجماعة من المعتزلة. 4 – الاباحة: وهو مذهب بعض مشايخ احناف العراق كالكرخي، والبزودي، والدبوسي، ونسبه الآمدي لمذهب مالك. (*)


[ 576 ]

وذهب الباقون إلى انها ليست على الوجوب، واختلفوا: فقال بعضهم انها على الاباحة. وقال بعضهم: انها على الندب. وقال بعضهم: انها موقوفة على الدليل. وذهب المتكلمون، وأبو الحسن الكرخي الى ان افعاله عليه السلام على اقسام. فمنها: ما يكون لمجمل، فذلك في حكم المبين، ان كان واجبا فعلى الوجوب، وان كان ندبا فعلى الندب، وان كان مباحا فعلى الاباحة. ومنها: ما يكون امتثالا للخطاب، وذلك لا مدخل له في هذا الباب، لان الخطاب إذا كان يتناوله ويتناولنا على العموم فعلينا امتثاله كما عليه ذلك. ومنها: ما يكون فاعلا له على ما يقتضيه العقل، أو يفعله لمصالح الدنيا، وذلك ايضا لا مدخل له في هذا الباب. ومنها: ما يفعله من الشرعيات، فهذا يجب أن يعلم الوجه الذي عليه وقع فعله عليه السلام فيتبع فيه بأن يفعل ذلك على الوجه، ولا يصح أن يقال في جملتها انها على الوجوب، أو على الندب، أو على الاباحة (1). والذي يدل على ذلك: انا قد بينا ان ذلك لا يجب من جهة العقل في الفصل الاول (2)، وادلة السمع خالية من ذلك، فينبغي أن ينتفى كونها على الوجوب.


5 – التفصيل: وهو ظهر قصد القربة فمندوب والا فمباح، وهو مذهب الغزالي. 6 – الحظر. انظر ” التبصرة: 242، المستصفى 2: 49، نهاية السؤال 2: 172، الاحكام للآمدي 1: 149، المنخول 225، المعتمد 1: 347، الذريعة 2: 578، اللمع: 67، ارشاد الفحول: 58، شرح المنهاج 2: 501، الاحكام لابن حزم 4: 447، تقريب الوصول: 113، ميزان الاصول 2: 673، شرح اللمع 1: 546 “. (1) راجع المصادر الواردة في ذيل التعليقة السابقة. (2) انظر بيان المصنف في صفحة 569. (*)


[ 577 ]

ويدل على ذلك ايضا: ان فعله عليه السلام إذا كان يقع على وجوه كثيرة فليس يخلوا من أن يكون على الوجوب من غير اعتبار ذلك الوجه، فالواجب أن يحكم بوجوب الفعل علينا، وان علمنا انه فعله على طريق الندب أو الاباحة، وهذا باطل بالاجماع. وان كانت على الوجوب، بأن يعتبر الوجوه التي عليها يقع، فهذا تناقض لان اعتبار وجوهه ينفي وجوب جميعه. ويدل على ذلك ايضا: ان بظاهر فعله لا يعلم وجوبه عليه، فبان لا يعلم وجوبه علينا اولى، ويخالف القول في ذلك لان القول منه عليه السلام يعلم به وجوب ما تناوله علينا دونه من حيث كان امرا لنا ويختص بنا دونه، وليس كك فعله، لانا تبع له فيه، فإذا لم يدل على وجوبه عليه، فبأن يدل على وجوبه علينا اولى. ويدل على ذلك ايضا: ان فعله عليه السلام لا يدوم في جميع الاحوال، بل قد يتركه احيانا كما يفعله احيانا، وإذا صح ذلك فليس بأن يحكم بوجوبه لانه فعله بأولى من أن يحكم بوجوب تركه لانه تركه، إذ القول فعل منه فهو بمنزلة الفعل في ذلك، ويفارق ذلك الامر الذي ليس تركه بمنزلته فيما يختص به. وهذا معتمد ما نستدل به في هذا الباب دون ما اكثر الناس فيه. واما من خالف في هذا الباب (1) فليس يخلو خلافه من ان يقول ان ذلك يجب من جهة العقل من حيث كان نبيا، أو من حيث كان في مخالفته تنفير: فان قال بذلك: فقد بينا في الفصل انه لا يمتنع ان يخالف حالنا لحاله في المصالح، وذلك يبطل ما قالوه. أو يقول ان ذلك واجب لدليل سمعي دل على ذلك، فالواجب علينا أن نبين ان ما ادعوه دليلا أو تعلقوا به ليس فيه دلالة على حال، لانا لا ننكر أن يقوم على وجوب ذلك دليل، لكن لم يثبت ذلك.


(1) راجع اقوالهم في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 575. (*)


[ 578 ]

وقد استدل القوم على ذلك باشياء (1). منها: قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن امره) (2). قالوا: فحذرنا عن مخالفته، والامر يتناول الفعل كما يتناول القول، لان الله تعالى قال: (يدبر الامر من السماء إلى الارض) (3)، وقال: (واليه يرجع الامر كله) (4)، وقال: (وما امر فرعون برشيد) (5)، وإذا ثبت ان الامر يتناول الفعل كما يتناول القول، وجب أن تكون افعاله عليه السلام على الوجوب، والا لم يجب التحذر من مخالفتها. والجواب عن ذلك: ان الاية لا تدل على ما قالوه من وجوه: احدها: ان لفظ الامر موضوع في الحقيقة للقول بدلالة ما قدمناه في اول الكتاب في باب الاوامر (6)، وإذا صح ذلك لم تتناول الاية الفعل، وذلك يبطل التعلق بها، وما تقدم من قوله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) (7) يدل على ان المراد بالاية القول دون الفعل، وانه اراد ما ندبهم إليه وامرهم به. ومنها: انه قيل ان الهاء في قوله (عن امره) (8) يرجع إلى اقرب المذكورين وهو الله تعالى، وإذا ثبت ذلك فحملها على الرسول عليه السلام ورجوعها إليه حتى يمكن الاستدلال بها لا يصح. ولا يمكن ان يقال: انها (9) ترجع اليهما، لان الكناية عن واحد، فكيف يحمل


(1) راجع استدلال القوم على مذاهبهم في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 575. (2) النور: 63. (3) السجدة: 5. (4) هود: 123. (5) هود: 97. (6) راجع الفصل الاول من باب الاوامر صفحة 159. (7) النور: 63. (8) النور: 63. (9) إنما. (*)


[ 579 ]

على الاثنين ؟ ومنها: ان قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن امره) لا يمكن حمله على العموم، ولابد من كون القول مرادا به، وإذا وجب ذلك فلا يجوز أن يراد به الفعل. وهذا انما يعتمده من ذهب إلى ان العبارة الواحدة لا يراد بها المعنيان المختلفان، وقد بينا ان الصحيح خلاف ذلك، فالمعتمد إذا ما قدمناه. ويجرى مجرى ذلك ايضا ان يقال: ان التحذير من مخالفة يقتضى وجوب الموافقة، والموافقة له عليه السلام في الفعل تقتضي ان يفعل الفعل على الوجه الذي فعل – على ما قدمناه القول فيه – وذلك يبطل كون افعاله كلها على والوجوب. واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: [ فاتبعوه ] (1)، فأنه أمرنا باتباعه، وأمره تعالى على الوجوب فيجب كون اتباعه في افعاله واجبا. فهذا يبطل ما قدمناه من تفسير الاتباع، لانه قد بينا ان المتبع له انما يكون متبعا إذا فعله على الوجه الذي فعله، ومتى فعله على غير ذلك الوجه لا يكون متبعا بل يكون مخالفا، ويجرى ذلك مجرى ان يفعل فعلا اخر، لان اختلاف الوجهين في الفعل الواحد يجرى مجرى الفعلين (2). وقد قال قوم في الجواب عن ذلك: ان المتبع فيه محذوف ذكره، لانه لا يصح اتباعه في اشياء مختلفة. وهذا ليس بصحيح، لان لقائل أن يقول: ان الظاهر يقتضى وجوب اتباعه في كلما يصح ان يتبع فيه. واستدلوا ايضا بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة) (3)، وانه إذا جعله اسوة لزمنا التأسي به، سيما وقد قال في سياق الاية: (لمن كان يرجو


(1) سبأ: 20. (2) فعلين. (3) الاحزاب: 21. (*)


[ 580 ]

الله واليوم الاخر) (1) وهذا تهديد لمن ترك التأسي به. وهذا ايضا يسقط بما قدمناه من معنى التأسي. وقوله: (لمن كان يرجو الله واليوم الاخر) (2) ليس بتهديد ولا وعيد، لان الرجاء انما يكون في المنافع، فكأنه قال تعالى: لمن كان يرجو اثواب الله، والثواب قد يستحق بالندب كما يستحق بالواجب. وقد قيل في الجواب عن ذلك: ان الله سبحانه لما قال: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة (3) ولم يقل عليكم، دل على انه يرغبنا في ذلك، وذلك لا يقتضى الوجوب والاول اقوى. واستدلوا ايضا: بقوله تعالى: (اطيعوا الله واطيعوا الرسول) والاستدلال بذلك لا يصح، لان طاعته لا تكون الا بفعل ما امر به، وليس للفعل في ذلك مدخل، الا أن يقترن به قول يقتضى التأسي به. واستدلوا ايضا: بقوله تعالى (وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (5). والتعلق بذلك ايضا لا يصح، لان معنى قوله: (وما اتيكم) ما اعطاكم وادى اليكم، وذلك لا يصح الا في القول الذي نسمعه منه ونمتثله لان سمعنا له وحفظنا اياه وامتثالنا له يجرى مجرى ما تناولنا منه. واستدلوا باخبار رووها في هذا الباب كلها اخبار احاد لا يصح الاعتماد عليها في هذا الباب، وما قلناه في تأويل الايات قد نبه على طريق القول فيها، نحو ما روى


(1) الاحزاب: 21. (2) الاحزاب: 21. (3) الاحزاب: 21. (4) النساء: 59. (5) الحشر: 7. (*)


[ 581 ]

عنه عليه السلام انه خلع نعله في الصلاة فخعلوا نعالهم (1) وما شاكله (2)، لان ذلك انما يدل على ان ما فعلوه حسن يجوز فعله، ولا يدل على انه واجب لا يجوز خلافه. واستدل بعضهم على ذلك بأن قال: ان الفعل اكد من القول، لانه كان عليه السلام إذا اراد تحقيق امر فعل ذلك ليقتدى به، كذلك فعل في غير شئ من المناسك، والوضوء والصلاة، وغيرها، فبان يكون الفعل على الوجوب اولى وهذا يبطل بما قدمناه لان القول يقتضى انه قد اراد منا ما يقتضيه والفعل بخلافه، وانما يكون فعلا تحقيقا للامر إذا وقع عقيبه فيقع موقع التأكيد، واما إذا كان مبتداء فلا يصح ذلك فيه واستدل بعضهم بان قال: ان الوجوب اعلى مراتب الفعل، فإذا عدمنا الدليل، على أي حال فعله وعلى أي وجه اوقعه لزمنا التأسي به فيه فيجب أن نتبعه على الوجه الذي هو اعلا مراتبه. وهذا كلام ليس تحته فائدة، لان كون الوجوب على ما قاله لا يقتضى ان حالنا كحاله، ولا ان ما فعله واجب علينا، فما في ذلك مما يتعلق به. واما من قال: ان فعله على الندب أو الاباحة، فقوله يبطل بمثل ما ابطلنا به قول من قال انه على الوجوب سواء، فلا فائدة ليزداد القول فيه. وهذه جملة كافية في هذا الباب، والله الموفق للصواب.


(1) الحديث أخرجه احمد بن حنبل، وأبو داود، والحاكم النيسابوري، وابن حبان، والبيهقي (في سننه 2: 432) في باب ” المصلى إذا خلع نعليه ” من كتاب الصلاة، ولفظ الحديث عندهم: ” روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلع نعله في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، ثم قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا “. (2) أنطر استشهادهم بأخبار الآحاد في هذا الباب في المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 575. (*)


[ 582 ]

فصل (4) ” في ذكر الوجوه التي تقع عليها افعاله عليه السلام، وبيان الطريق إلى معرفة ذلك ” أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة اقسام: فعل، وترك (1)، واقرار للفاعل على فعله، وهى اجمع على ثلاثة اقسام: واجب، وندب، ومباح. فما هو له فعل له عليه السلام ينقسم ثلاثة اقسام: إلى بيان لما هو بيان له، والى امتثال الخطاب والى ابتداء. فما هو بيان لمبين على ضروب. منها بيان المجمل. ومنها تخصيص العموم. ومنها النسخ. وينقسم قسمة اخرى. منها: ما هو قضاء على الغير. ومنها: ما هو متعلق بالغير. ومنها: ما لا تعلق له باحد.


(1) وقول. (*)


[ 583 ]

وليس يخرج عن هذه الاقسام شئ من افعاله الشرعية. فاما ما لا تعلق له بالشرع فلا طائل في ذكره. ونحن نبين الطريق إلى معرفة كل واحد من هذه الاقسام، لان معرفة طرقها تختلف. اما الذي به يعلم ان فعله بيان: فهو ان يعلم ان فعله تقدمه ما يحتاج إلى بيان، ويعدم هناك قول يمكن أن يكون بيانا له، فيعلم حينئذ ان الذي يمكن أن يبين ذلك به بيان، والا ادى إلى عدم البيان مع الحاجة إليه. ومنها: أن يعلم ثبوت ما يحتاج إلى بيان، ونبه على أن ما فعله بيان له بقول أو غيره. وقد يعلم ان فعله تخصيص العموم، بأن يقتضى رفع ما يقتضيه العام، وقد تقدم القول في ذلك. وكذلك قد مضى القول فيما يكون من فعله نسخا في موضعه، ويعلم ان فعله بيان على جهة الاباحة أو الندب أو الوجوب بحسب ما يحصل لنا من العلم بالمبين لانا بينا ان بيان الشئ في حكمه، وقد مضى القول فيه. واما (1) ما به يعلم ان فعله امتثال: فهو أن يتقدم علمنا بخطاب يقتضى وجوب ذلك الفعل عليه على (2) الحد الذي فعله، فيعلم به انه امتثال للاية، وكذلك القول إذا اقتضى الندب أو الاباحة. وأما ما يعلم به ان فعله ابتداء شرع: فهو أن يعلم عدم هذين الوجهين، وانه ليس هناك قول يقتضى ما اقتضاه ذلك الفعل. واما ما يعلم به فعله من تركه، والفضل بينهما، وبين اقراره غيره على الفعل، فالذي يجب أن يعلم في ذلك حكم تركه واقراره لان ما عداه لا اشكال فيه.


(1) فأما. (2) وعلى الحد. (*)


[ 584 ]

اما تركه لما يتركه، فقد يكون تركا لامر يخصه، وليس لذلك مدخل في هذا الباب. وقد يكون تركا لفعل يقتضى بعض الخطاب وجوبه، فذلك تخصيص له. وإذا ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع يد سارق اقل من ربع دينار مع انه لا وجه يقتضى لاسقاط قطعه، علم بذلك أن القدر الذي سرق لا يستحق به القطع. فاما إذا جوزنا أن يكون ماله ترك قطعه امر آخر، فلا يدل على ذلك. ولو ترك عليه السلام الفعل في وقت اقتضى القرآن وجوبه فيه، لعد ذلك نسخا أو تخصيصا. وإذا ترك عليه السلام عند قيامه إلى الثانية الرجوع إلى القعود، دل على انه ليس من اركان الصلاة. واما تركه الصلاة في وقت لعذر، فليس يدل على سقوطه، بل يجوز أن يؤخر إلى وقت اخر. واما اقراره الغير على فعل: فانه ان كان لم يتقدم منه بيان قبحه، فان اقراره يدل على حسنه، لانه لو لم يكن حسنا لبينه قبل فعله فضلا عن ذلك في حال فعله. وان كان قد تقدم بيان قبحه نظر فيه: فان كان قد علم من حاله انه يظن انه إذا انكر ترك المنكر عليه فعله فلم ينكره، دل على حسنه. وان لم يعلم ذلك من حاله نظر، فان كان قبح ذلك مستفادا بالشرع لا بالعقل، فاذالم ينكره ولم يحصل ما يجرى مجرى الانكار دل على حسنه، لانه إذا كان قبيحا ويعلم قبحه من جهته فاقر عليه، أوهم انه منسوخ، فادى تركه النكير لذلك إلى التنقير عن القبول منه، فعلى هذا يجب أن يجرى اقراره. واما الطريق الذي يعلم به ان فعله مباح، فوجوه:: منها انه لو كان قبيحا لما فعله، فيعلم بذلك انه حسن، فإذا عدمنا الدليل على وجوبه أو كونه ندبا علمنا انه مباح.


[ 585 ]

ومنها: أن يعلم قبوله انه مباح بأن ينص عليه. ومنها: أن يكون فعله بيان لجملة تقتضي فعلا مباحا. واما الطريق الذي به يعرف (1) كون فعله ندبا فبان يعلم ان ما فعله قربة شرعية، ويعلم ذلك بوجوه: منها: أن يكون بيانا للندب. ومنها: أن يكون ما يفعله عليه السلام تارة في وقت مخصوص، ويتركه اخرى بلا عذر. ومنها: أن يعلم انه قصد إلى فعله في الصلاة مرة ولم يفعله اخرى مع جواز الصلاة. ومنها: أن يعلم انه قد مدح عليه ولم يذم على تركه ولم ينكر ذلك. فاما به يعلم ان فعله وقع على جهة الوجوب فاشياء: منها: أن يكون بيانا لواجب. ومنها: أن يكون مما لو لم يكن واجبا لما جاز أن يفعله، نحو أن يركع في الصلاة ركوعين على سبيل القصد ومنها: ان يفعله على وجه قد صار امارة للوجوب، نحو أن يؤذن للصلاة، ويأخذ من مال غيره بعد العد والاحصاء. فبهذه الوجوه وما شاكلها يعلم حال فعله عليه السلام. واما ما هو قضاء على الغير، فالحال في انه قضاء على الغير ظاهر ويكون على وجوه، لكن جميعها سواء في ان قضاه يلزم المقتضى عليه، هذا إذا كان حكما. واما إذا كان جوابا لسؤال، فقد سوغ ويجب أن يحكم فيه بوجوب أو غيره بحسب الدلالة. واما ما يتعلق بالغير من فعله، فنحو مدحه، وذمه، وعقابه.


(1) يعلم. (*)


[ 586 ]

أما المدح، فانه يدل على ان الممدوح عليه ندب. واما الذم: فانه يدل على ان الفعل الذي ذمه عليه قبيح، فان ذمه لانه لم يفعل الفعل، أو تركه دل على وجوبه. واما عقابه الغير على بعض الافعال: فانه يدل على قبحه، ويدل مع ذلك على انه كبيرة عند من قال بالصغائر (1). فينبغي أن يجرى مجرى افعاله عليه السلام على هذه الوجوه، ويتبع فيها على الوجه الذي عليه يقع، وبالله التوفيق


(1) انظر التعليقة رقم (4) صفحة 618. (*)


[ 587 ]

فصل (5) ” في ذكر افعاله إذا اختلف، هل يصح فيها التعارض ام لا ؟ ” لا يصح التعارض في افعاله عليه السلام لان التعارض انما يقع في فعلين ضدين، أو فعل الشئ وتركه، ونحن نعلم انه لا يقع منه عليه السلام الفعلان الضدان، ولا الفعل وتركه في حال واحدة، وانما يقع منه الفعل في حال وضده في حال اخرى، وما يقع منه في حالين وان تضادا فانه يمكن التأسي به فيهما، كما يمكن امتثال الامر والنهي إذا تضمنا فعلين في حالين، وما هذه حاله لا يصح التعارض فيه، فصار فعله في هذا الباب مخالفا لقوله، ولهذا لا يصح نسخ فعله في الحقيقة، وذلك ان فعله الاول لا ينتظم الاوقات حتى يكون فعله الثاني رافعا ما لولا رفعه له لتناوله الاول على ما بيناه من نسخ القول، لكن الامر وان كان كذلك فان الفعل الاول إذا علم انه قد اريد به ادامته في المستقبل صح كون ما بعده ناسخا له، وذلك ان الفعل إذا وقع بهذا الموقع جرى مجرى قول يتناول ايجاب الفعل في الاوقات المستقبلة، فكما يصح النسخ بقول هذا حاله فكذلك يصح نسخ الفعل إذا كانت هذه صفته، وقد بينا ان النسخ قد يدخل في غير القول من ادلة الشرع، كما يدخل في القول، فانه يخالف التخصيص الذي من حقه ان يتناول الفعل إلى غاية فقط. وليس لاحد أن يعترض ما قدمناه من نسخ الفعل بالفعل بان يقول: كيف يصح نسخ الافعال وليست بافعال ؟


[ 588 ]

لان ما بيناه قد اسقط ذلك. فاما تخصيص الفعل بالفعل: فلا يصح لان الفعل لا يتناول اشياء يخص منها بعضها. فاما من جهة المعنى: فان التخصيص في الفعل انما يكون بان يعلم ان المراد بالفعل الاول جميع المكلفين وذلك الفعل واجب، فإذا رأيناه قد اقر بعضهم على تركه أو مدحه عليه، علم انه مخصوص من جملتهم، وسواء كان المدح والاقرار منه عقيب الفعل الاول أو بعده بزمان متراخ على ما جوزناه من تأخير البيان عن وقت الخطاب. فاما من ابي ذلك، فانه لا يجوز ذلك الا إذا كان عقيب الفعل الاول على بعد ذلك عنده. واما تخصيصه عليه السلام نفسه: فانه لا يصح لان التخصيص يدل على ان المخصوص من الجملة لم يرد، وفعله عليه السلام قد انبأ على انه مراد، فيستحيل تخصيصه نفسه في الحال من هذا الوجه، فاما في المستقبل فانه لا يمتنع ذلك فيه. واما القول في فعله وامره إذا تضادا وتعارضا، فانه يجب أن ينظر فيهما: فان كان القول متقدما، وقد مضى الوقت الذي يجب فعله فيه، ثم فعل عليه السلام ما يعارض ذلك فهو نسخ، وذلك نحو تركه قتل شارب الخمر في المرة الرابعة بعد قوله: ” فان شربها الرابعة فاقتلوه ” (1) على ما يرويه مخالفونا، وانما ذكرناه مثلا لو ثبت. فان فعل ذلك قبل مجيئ الوقت الذي تعبدنا بالفعل فيه، فلا يصح أن يكون نسخا، بل يجب حمله على انه مخصوص، لان النسخ قبل الوقت لا يجوز. فاما إذا تقدم الفعل ثم وجد القول يقتضى رفع ما اقتضاه الفعل، فذلك نسخ لا محالة، لانه متأخر عن حال استقرار الفرض.


(1) كنز العمال: 495 رقم 13723. (*)


[ 589 ]

فإذا لم نعلم المتقدم من المتأخر، وكان قوله يقتضى وجوب الفعل أو حظره، وكان فعله يقتضى خلاف ذلك، فالاخذ بالقول اولى، لأن فعله لا يتعداه الا بدليل، ومن حق قوله ان يتعداه، ولا يصح أن يكون مقصورا عليه، فإذا صح ذلك واجتمعا فالواجب أن يتمسك بقوله ويحمل فعله على انه مخصوص به، لان قوله لا يصح قصره عليه، ويصح قصر فعله عليه، فإذا اجتمعا فبان يتمسك بالقول الذي من حقه ان يتناولنا اولى من الفعل، سيما وقد اثبت ان اقواله على الوجوب، وان افعاله موقوفة على الدلالة، وكل ذلك يوجب ترجيح قوله عليه السلام على فعله.


[ 590 ]

فصل [ 6 ] ” في انه عليه السلام هل كان متعبدا بشريعة من كان قبله من الانبياء ام لا ؟ ” عندنا ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الانبياء، لا قبل النبوة ولا بعدها، وان جميع ما تعبد به كان شرعا له. ويقول اصحابنا: انه عليه السلام قبل البعثة كان يوحى إليه باشياء تخصه، وكان يعمل بالوحى لا اتباعا لشريعة قبله. واما لفقهاء فقد اختلفوا في ذلك والمتكلمون (1): فالذي ذهب إليه اكثر المتكلمين من اهل العدل، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم انه لم يكن متعبدا بشريعة من تقدمه، وان جميع ما تعبد به كان شرعا له دون من تقدمه، وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن (2) انه ربما نص هذا وربما نص خلافه. وفي العلماء من قال: انه كان متعبدا بشريعة من تقدمه، واختلفوا:


(1) لاحظ أقوالهم ومذاهبهم واستدلالهم في المصادر التالية: ” المعتمد ” 2: 336، الذريعة 2: 599، المستصفى 1: 246، ميزان الاصول 2: 686، المنخول: 231، الأحكام للآمدي 4: 376، شرح المنهاج 2: 516 الأحكام لابن حزم 5: 149، أصول الدين للجرجاني: 266 “. (2) أي أبو عبد الله البصري عن أبي الحسن الكرخي. (*)


[ 591 ]

فمنهم من قال: تعبد بشريعة ابراهيم عليه السلام. ومنهم من قال: تعبد بشريعة موسى عليه السلام. واختلف المتكلون في انه عليه السلام قبل البعثة هل كان متعبدا بشئ من الشرايع ام لا (1) ؟ فمنهم: من [ قطع على انه كان متعبدا بشريعة بعض من تقدمه من الانبياء. ومنهم: من ] (2) قطع على خلافه. ومنهم: من توقف في ذلك وجوز كلا الامرين. والذي يدل على ما ذهبنا إليه: اجماع الفرقة المحقة، لانه لا اختلاف بينهم في ذلك، واجماعها حجة على ما سندل (3) عليه ان شاء الله. ويدل على ذلك ايضا: ما ثبت بالاجماع من انه عليه السلام افضل من سائر الانبياء، ولا يجوز أن يؤمر الفاضل باتباع المفضول على ما دللنا عليه في غير موضع. فان قيل: فمن اين يعلم انه كان قبل النبوة افضل من ساير الانبياء ؟ قيل: لم يخص احد تفضيله على ساير الانبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون افضل في جميع الاوقات، ويدل على ذلك ايضا: انه لو كان متعبدا بشريعة من تقدمه فانما يكون شرعا لذلك المتقدم، ويكون في حكم المؤدى عنه، فكان (4) يجب أن لا يضاف جميع الشرع إليه، كما لا يضاف الشرع إلى من يؤدى عنه عليه السلام لما كان مؤديا عنه عليه السلام، وفي علمنا باضافة جميع الشرع إليه دليل على انه لم يكن متعبدا بشرع من تقدمه. ويدل على ذلك ايضا: انه لو كان متعبدا بشرع من تقدم لم يخل من أن يكون


(1) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 590. (2) زيادة من النسخة الثانية. (3) نستدل. (4) في الأصل: وكان. (*)


[ 592 ]

متعبدا بشريعة موسى أو عيسى عليه السلام، لان شريعة من قبلهما مندرسة، وهي مع ذلك منسوخة بشريعتها. فان قالوا: كان (1) متعبدا بشريعة موسى عليه السلام. فان ذلك فاسد من حيث كانت شريعته منسوخة بشريعة عيسى عليه السلام. وان قالوا: كان متعبدا بشريعة عيسى عليه السلام كان فاسدا (2) من وجهين: احدهما: ان شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة الذي تقتضي ما هي عليه نقلها وإذا لم يتصل لم يصح ان تعلم، وفي ذلك اخراج له من أين يكون متعبدا بها. والثاني: ان القول بذلك يبطل ما يعتمدون عليه من رجوعه عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهوديين (3)، لانه كان يجب أن يرجع إلى الانجيل دونها. ويدل على صحة ما قلناه: ان الذي يخالف في ذلك لا يخلو قوله من انه تعبد بشريعة موسى عليه السلام بأن دعاه موسى إلى شريعته ما لم ينسخ والحجة قائمة عليه بذلك، أو يقول انه تعبد بشريعة موسى عليه السلام بأن امر بالتمسك بها امرا مبتدأ، وان كان يحتاج أن يرجع إليهم في تعرف ما يتمسك به من شريعته، أو يقول أنه تعبد بشريعته بان امر باشياء قد كانت شريعة له وان علمها هو من جهة الله تعالى. فان ذهبوا إلى ما قلنا اولا، فليس يخلو من ان يقول: انه عليه السلام كان يمكنه أن يعرف شريعتهم من غير جهة الله تعالى، بل بالرجوع إليهم في تعرف ذلك، أو يقول ما كان يصح له ذلك وانما كان يعرف ذلك من قبل الله تعالى. فان قالوا بالاول: فهو خلاف في المعنى، والذي يبطل قوله اشياء:


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) فسد ذلك. (3) المعتمد 2: 341، الذريعة 2: 603، الاحكام للآمدي 4: 380. (*)


[ 593 ]

منها: ما استدل به أبو علي وأبو هاشم من أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشريعة من قبله لكان لا يتوقف في قصة الظهار (1)، وقصة الميراث (2)، وقصة الافك (3)، على نزول الوحى عليه، لان هذه الحوادث معلوم ان لها احكاما في التوراة ظاهرة فيما بينهم، فلو كان متعبدا بذلك لرجع إلى التوراة وبحث – بزعمهم – عن الرجم، ولكان توقفه على الوحى يجرى مجرى توقفه في شئ قد بين له على الوحى، وفي فساد ذلك دليل على انه لم يكن متعبدا الا بما ينزله الله تعالى عليه. وكان يجب ايضا أن يرجع الصحابة في معرفة الاحكام إلى التوراة واهلها كرجوعهم إلى القران، وفي تركهم ذلك دليل على انهم لم يتعبدوا بذلك ولا النبي عليه السلام. ومنها: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوب معاذا في قوله: ” اجتهد رائى ” (4) عند عدم الكتاب والسنة، فلو كان متعبدا بشريعتهم لعده في جملة ذلك، ولنبه معاذا على خطئه بترك ذلك. وان اراد القسم الاخير: فليس في ذلك خلاف، ولا يوجب ذلك أن يكون متعبدا بشرع من تقدم، لان الامر بمثل شريعتهم إذا ورد عن الله تعالى وبين المأمور به فذلك تعبد من الله تعالى ابتداء، وليس يجب إذا امر بفعل تعبد به موسى عليه السلام ان يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعبدا بشريعته، لانه لا فضل بين أن يتعبده بذلك الفعل بأن يذكره ويبين صفته، وبين أن يلزمه ويضيقه إلى موسى عليه السلام، لان في الحالين جميعا هو تعالى المتعبد به. واما من قال: انه عليه السلام كان متعبدا بشريعة موسى عليه السلام، وقال


(1) انظر: تفسير الطبري 28: 4. (2) انظر: ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل: 7. (3) انظر: تفسير الطبري 18: 71. (4) سنن الدارمي 1: 70، عون المعبود 3: 330، (5) راجع المصادر الواردة في ذيل هامش رقم (1) صفحة 575. (*)


[ 594 ]

لانه لا يصح أن يعرف الشريعة من جهته (1)، فقد ناقض، لان التعبد بشريعة يقتضى صحة العلم بها من جهته فاما (2) من قال: انه تعبد باشياء من شريعته بامر مبتدا وامر ثان يرجع في معرفة ذلك إليهم. فالذي يدل على بطلان قوله: ما قدمناه من الادلة، وان كان هذا الوجه لا يقتضى كونه متعبدا بشريعتهم إذا امر بذلك امرا مبتدا، لو صح ما ادعوه، فكيف وذلك لا يصح ! واعلم انه لولا ما قدمناه من الدليل على كونه افضل الانبياء، ما كا يمتنع عقلا أن يتعبد يتعبد بمثل شريعتهم، لان المصالح تختلف وتتفق وكلا الامرين يجوز فيها، فلا يمتنع ان يعلم الله تعالى ان صلاح النبي الثاني وصلاح امته بخلاف شريعة الاول فيتعبده به، وعلى هذا جرت سنة الله تعالى في اكثر الانبياء. ولا يمتنع ايضا ان يعلم أن صلاح الثاني وامته في مثل شريعة الاول فيتعبده بها. وليس لاحد أن يقول: ذلك لا يجوز، لانه لو كان كذلك لم يكن في بعثة النبي الثاني واظهار المعجزة عليه فائدة، لان شريعته معلومة من جهة غيره. وذلك إنا إنما نجوز بعثة النبي الثاني بشريعة النبي الاول إذا كانت تلك الشريعة قد اندرست وصارت بحيث لا يعلم الا من جهة النبي الثاني، أو بأن يكون النبي الاول مبعوثا إلى قوم باعيانهم ويبعث الثاني إلى غيرهم، أو أن يراد في شريعة الثاني زيادة لا تعلم الا من جهته. فبهذه الوجوه تخرج بعثته من أن تكون عبثا. فان قيل: كيف يجري (3) هذا التقدير على ما تعتقدون انتم من ان كل شرع لابد


(1) جهة. (2) وأما. (3) يجوز. (*)


[ 595 ]

له من حافظ معصوم لا يجوز عليه الغلط ؟ وإذا كان لابد من ذلك على مذهبكم فمتى اندرست الشريعة أمكن الرجوع إليه فيها فلا يحتاج إلى نبى اخر. قيل له: نحن انما نوجب حافظا للشرع معصوما إذا علمنا ارتفاع الوحى وانقطاع النبوة، ونحن نعلم ان التواتر لا يمكن حفظ الشرع به، لانه يجوز أن يصير احادا، فإذا لابد لها من حافظ معصوم، وليس كذلك في الشرائع المتقدمة لانه لا يمتنع أن تكون تلك الشرائع محفوظة بالتواتر، فمتى فرضنا انها صارت احادا وبحيث لا ينقطع عذر المكلفين بنقلها بعث الله تعالى نبيا اخر يبينها ويستدركها، هذا إذا فرضنا بقاء التكليف بالشريعة الاولة على من يجيئ فيما بعد. فاما إذا فرضنا انه يجوز أن يكون التكليف للشريعة الاولى إذا صارت احادا قد ارتفع ووجب التمسك بما في العقل، فان ذلك لا يجب أيضا معه أن يكون لها حافظ ولابعث (1) نبى اخر، وكان يجوز ايضا ان يتعبد باخبار الاحاد إذا صارت الشريعة إلى حد لا ينقل الا من جهة الخبر الواحد، وكل ذلك مفقود في شريعتنا، لان الوحى قد ارتفع، والرسالة قد انقطعت، والتكليف باق إلى يوم القيمة، والعمل بخبر الواحد غير صحيح على ما بيناه فيما مضى، فلو لم يكن لها معصوم، والتواتر يجوز أن يصير احادا، كان ذلك يؤدى إلى ان الشرع غير محفوظ اصلا، وذلك لا يجوز. واستدل من خالفنا على صحة قوله باشياء (2). منها: انه لو لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم لم يذكى قبل بعثته، ولا يأكل اللحم المذكى، ولا كان يحج ويعتمر، ولا كان يركب البهايم ويحمل عليها، لان جميع ذلك يحسن سمعا، وفي علمنا بأنه كان يفعل ذلك دليل على صحة ما قلناه. وهذا لا يلزمنا على ما قررنا من مذهبنا في هذا الباب (3)، لانا قلنا: انه قبل بعثته


(1) بعثه. (2) لاحظ استدلال المخالفين ودفاعهم عن اقواهم في المصادر التالية: ” المعتمد 2: 337، الذريعة 2: 259، المستصفى 1: 246، ميزان الاصول 2: 694، الاحكام للآمدي 4: 337، شرح المنهاج 2: 516 “. (3) انظر كلام المصنف في بداية هذا الفصل في صفحة 591. (*)


[ 596 ]

كان موحى (1) إليه بما يخصه، فلاجل ذلك كان يفعل ما يفعله من الاشياء التي ذكروها ان صح منه فعلها. واما من وافقنا في هذا المذهب وخالفنا في هذه الطريقة فانه يقول: ان تذكية البهائم، وفعله الحج والعمرة لو ثبت لدل، لكن ذلك لم يثبت، وما يروى من ذلك فانما طريقة اخبار الاحاد لا يعول عليها في هذا الباب. واما اكله اللحم المذكى فحسن في العقل، وليس فيه دليل على ما قاله السائل، لانه بمنزلة اكل سائر المباحات، ولم يثبت عنه عليه السلام انه كان يأمر بالتذكية ليأكل اللحم فيسوغ التعلق به. واما ركوب البهيمة والحمل عليها: فذلك بحسن عند كثير منهم لما لها في ذلك من المنافع التي يوصل إليها من العلف وغير ذلك، ويخالف الذبح لان الذبح يقطعها عن المنافع. وتعلقوا ايضا: برجوعه عليه وآله السلام إلى التوراة في رجم اليهوديين. (2) وذلك لا يصح، لان ذلك من اخبار الاحاد التي لا تعتمد في هذا الباب، فلو كان كذلك لرجع إلى التوراة في سائر الاحكام، ولما كان ينتظر الوحى ما بيناه، وفي تركه الرجوع إليها دليل على انه لم يرجع إليها في الرجم ان صح مما قالوه، فسقط بذلك ما تعلقوا به. وقد قيل في الجواب عن ذلك: انه انما رجع إليهم لانه كان قد اخبر ان في التوراة رجم الزانى، فاراد أن يتحقق صدقه ليدلهم على نبوته بالرجوع إليهم، لا انه رجع إليهم ليعرف ثبوت الرجم من جهتهم. قالوا: ولو كان رجوعه إليهم لما قالوه لرجع في غيره ايضا ! ولوجب أن يتعرف هل الرجم في التوراة على كل زان أو هو على محصن فقط ؟ ولوجب أن لا يقبل قول


(1) يوحى. (22) انظر ” المعتمد 2: 341، الذريعة: 603، الاحكام للآمدي 4: 380 “. (*)


[ 597 ]

اليهود الذين رجع إليهم لان يقول مثلهم، [ و ] لا يقع العلم ولا هم على صفة يقبل قولهم في الديانات، ولما مدحهم في ان ذلك في التوراة، لانه قد ظهر تحريفهم لكثير منها، فدل جميع ذلك على بطلان تعلقهم به. وتعلقوا ايضا: بقوله تعالى [ واتبع ملة ابراهيم حنيفا ] (1) وبقوله: [ فبهداهم اقتده ] (2) وبقوله: [ انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ] (3) وهو عليه السلام من جملتهم، وذلك يقتضى صحة ما قالوه. قيل له: اما الملة التي امرنا باتباعها فهو دين ابراهيم عليه السلام، لأن الملة هي ” الدين ” لان المراد بذلك التوحيد والعدل، بين ذلك قوله: [ ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ] (4) وقد علمنا ان الملة التي يستحق الراغب عنها هذا الوصف هي العقليات. واما قوله تعالى: [ فبهديهم اقتده ] (5) فانه اراد بذلك ادلتهم التي تدل على العقليات، لان ذلك هو الذي يضاف إليهم. فاما الشريعة فقوله هو الدليل فيها، فالاضافة لا تصح فيها. واما قوله تعالى: [ فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ] (6): فالمراد به ما قدمناه، يدل على ذلك قوله تعالى: [ يحكم بها النبيون ] فظاهر ذلك يقتضى ان كل من كان قبل موسى عليه السلام قد حكم بذلك، ولا يصح مع ذلك حمله على الشرعيات. فهذه جملة كافية في هذا الباب.


(1) النساء: 125. (2) الانعام: 90. (3) المائدة: 44. (4) البقرة: 130. (5) الانعام: 90. (6) المائدة: 44. (*)


[ 599 ]

الباب التاسع الكلام في الاجماع


[ 601 ]

الباب التاسع الكلام في الاجماع فصل [ 1 ] ” في ذكر اختلاف الناس في الاجماع هل هو دليل ام لا ؟ ” ذهب المتكلمون باجمعهم، والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم ” (1) إلى ان الاجماع حجة. وحكى عن النظام، وجعفر بن حرب (2)، وجعفر بن مبشر (3) انهم قالوا:


(1) أنظر: ” ارسالة للشافعي: 476 – 471، الذريعة 2: 604، التذكرة: 45، أوائل المقالات: 121، للتبصرة: 348، الابهاج 2، 391، منتهى السؤول 1: 50، المستصفى 1: 173، المنخول: 303، أصول السرخسي 1: 295، المعتمد 2: 3 و 4، اللمع: 85، شرح اللمع 2: 665، إرشاد الفحول: 134، ميزان الاصول 2: 717، شرح المنهاج 2: 581 الاحكام لابن حزم 4: 525، روضة الناظر: 116، تقريب الأصول: 127، الاحكام للآمدي 1: 170 “. (2) هو أبو الفضل جعفر بن حرب الهمداني، من كبار المتكلمين وإءمة الاعتزال، عد في الطبقة السابعة من أعلامهم، أخذ الكلام عن ابي الهذيل العلاف بالبصرة، كان جدليا ومناطرا قديرا، له مصنفات عديدة منها ” الايضاح ” و ” نصيحة العامة ” و ” المسترشد ” والمتعلم أصول الخمس ” ولد سنة 177 ه‍ وتوفى سنة 236 ه‍. (3) هو أبو محمد جعفر بن مبشر بن احمد الثقفي، متكلم ومن كبار مدرسة الاعتزال، وعد في الطبقة السابعة من اعلامهم، كان الى جانب علمه وفضله، ورعا، زاهدا مجانبا لابواب السلاطين والامراء. توفى ببغداد سنة 234 ه‍. (*)


[ 602 ]

الإجماع ليس بحجة (1). واختلف من قال حجة: فمنهم من قال: انه حجة من جهة العقل وهم الشذاذ (1). وذهب الجمهور الاعظم والسواد الاكثر إلى ان طريق كونه حجة السمع دون العقل (1) ثم، اختلفوا: فذهب داود (2)، وكثير من اصحاب الظاهر إلى ان اجماع الصحابة هو الحجة دون غيرهم من اهل الاعصار (1). وذهب مالك ومن تابعه (1) إلى ان الاجماع المراعى هو اجماع اهل المدينة دون غيرهم، غير انه حجة في كل عصر. وذهب الباقون (1) إلى ان الاجماع حجة في كل عصر، ولا يختص ذلك بعصر الصحابة ولا باجماع اهل المدينة. والذي نذهب إليه: ان الامة لا يجوز أن تجتمع على خطاء، وان ما يجمع عليه لا يكون الا حجة، لان عندنا انه لا يخلو عصر من الاعصار من امام معصوم حافظ للشرع، يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول عليه السلام، وقد دللنا على ذلك في كتابنا ” تلخيص الشافي ” (3) واستوفينا كلما يسأل عن ذلك من الاسئلة، وإذا ثبت ذلك، فمتى اجمعت الامة على قول فلابد من كونها حجة لدخول الامام المعصوم في جملتها. ومتى قيل: جوزوا أن يكون الامام منفردا عن اجماعهم .


(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 601 (2) هو داود بن علي بن خلف الأصفهاني الظاهري، ينسب إليه المذهب الظاهري وسمي بذلك لجموده على ظواهر الكتاب والسنة، وقد عظم أممره وأمر مذهبه فيما بعد حيث تبعه جماعة كبيرة من المتفقهة القشريين وانتشرت آرواؤه في بعض الحواضر الأسلامية وخاصة في الأندلس. ولد بالكوفة سنة 201 ه‍ وتوفي ببغداد سنة 270 ه‍ له تصانيف كثيرة. (3) تلخيص الشافي 1: 102 – 59. (*)


[ 603 ]

قلنا: متى فرضنا انفراد الامام عن الاجماع فان ذلك لا يكون اجماعا، بل لو انفرد واحد من العلماء عند من خالفنا من الاجماع اخل ذلك باجماعهم. فان قيل: إذا كان المراعى في باب الحجة قول الامام المعصوم فلا فائدة معلومة وهى انه قد لا يتعين لنا قول الامام في كثير من الاوقات فيحتاج حينئذ إلى اعتبار الاجماع ليعلم باجماعهم ان قول المعصوم عليه السلام داخل فيهم، ولو تعين لنا قول المعصوم الذي هو الحجة لقطعنا على ان قوله هو الحجة، ولم نعتبر سواه على حال من الاحوال. ومتى فرضنا ان الزمان يخلو من معصوم حافظ للشرع لم يكن الاجماع حجة على وجه من الوجوه. والذي يدل على ذلك: انه لا دليل على كونهم حجة لا من جهة العقل ولا من جهة الشرع، وإذا لم يكن دليل وجب القطع على نفى كونه حجة، لفقد ما يدل عليه. ونحن نتبع ما يعتمده الخصوم في هذا الباب من جهة العقل والشرع معا، ونبين انه لا دلالة في شئ من ذلك اعتمد من قال انهم حجة من جهة العقل، على انهم مع كثرتهم وانتشارهم في البلاد واختلاف آرائهم وبعد همهم لا يجوز أن يجمعوا على خطاء ولو جاز ذلك لجاز أن يتفقوا على اكل طعام واحد، ولبس لباس واحد، وفعل واحد، ويأتي الشعراء الكثيرون بقصيدة واحدة في معنى واحد وغرض واحد، وكل ذلك يعلم بطلانه ضرورة، وفي صحة ذلك دليل على انهم لا يجمعون على خطاء. وهذا ليس بشئ، لان جميع ما ذكروه لا يشبه مسألة الاجماع لان جميعه تابع للدعاوى والآراء واختلاف الهمم، والعادة مانعة من اتفاقهم في الدعاوى والاراء


[ 604 ]

في الامثلة التي ذكروها، وليس (1) مسألة الاجماع من هذا الباب، لانه يجوز أن تدخل عليهم الشبهة فيعتقدوا فيما ليس بدليل انه دليل فيجمعوا عليه، وقد دخلت الشبهة في مثل امتنا – واكثر منهم – فيما يتعلق بباب الديانات، الا ترى ان اليهود والنصارى ومن خالف الاسلام قد اتفقوا على ابطال الاسلام، وتكذيب نبينا عليه السلام وهم اكثر من المسلمين اضعافا مضاعفة، وليس اجماعهم على ذلك دليلا على بطلان الاسلام، لانهم انما اجمعوا لدخول الشبهة عليهم، وانهم لم يمعنوا النظر في الطرق الموجبة (2) للقول بصحة الاسلام. فكذلك القول في اجماع الامة، على ان ذلك إذا دل الدليل على كونه حجة وثبت ذلك، فأما قبل ثبوته فنحن في سبر (3) ذلك، فالمنع منه غير صحيح. فان قالوا: لو جاز عليهم الخطا فيما يجمعون عليه، لجاز على المتواترين الخطاء فيما يخبرون به، لان الامة باجمعها اكثر من قوم متواترين ينقطع بنقلهم الحجة، ولو جاز ذلك على (4) المتواترين ادى ذلك إلى الا نثق بشئ من الاخبار، ولا نعلم شيئا نقلوه، وذلك يؤدى إلى ما يعلم ضرورة خلافه. قيل التواتر لم يكن حجة من حيث انه لا يجوز فيهم الخطاء، وانما كان حجة لانهم نقلوا نقلا يوجب العلم الضروري عند من قال بذلك، أو علما لا يتخالج فيه الشكوك عند من قال بالاكتساب، فالحجة في نقلهم بحصول العلم بما نقلوه لا بمجرد النقل، وكان يجوز أن لا ينقلوا ما نقلوه اما خطاء أو عمدا، فيخرج خبرهم من أن يكون موجبا للعلم، فيلحق حينئذ بباب الاجماع الذي نحن في اعتبار كونه حجة أم لا، وهذا بين لا اشكال فيه، ولم يعتمد هذه الطريقة الا شذاذ من القائلين بالاجماع، والمحصلون منهم عولوا على ادلة السمع في هذا الباب


(1) ليست. (2) الطرق الموجب. (3) السبر استخراج كنه شئ. (4) في. (*)


[ 605 ]

ونحن نذكر ما اعتمدوه (1) ونتكلم عليه ان شاء الله تعالى احد ما اعتمدوا عليه: قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (2). قالوا: فتوعد الله تعالى على اتباع غير سبيل المؤمنين، كما توعد على مشاققة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلولا انهم حجة يجب اتباعهم فيما اجمعوا عليه والا لم يجز ذلك. والكلام على هذه الاية من وجوه: اولها: ان في اصحابنا من ذهب إلى ان الالف واللام لا يقتضيان الاستغراق والشمول، بل هما مشتركان لهما ولغيرهما (3)، فإذا كان كذلك كانت الاية كالمجملة تحتاج إلى بيان، ويحتمل أن يكون اريد بها جميع المؤمنين، ويحتمل أن يكون اراد بعضهم، ولا يمكن حملها على الجميع لفقد دلالة الخصوص لان القائل ان يقول: احملها على الاقل لفقد الدليل على ان المراد بها الكل، وإذا جاز ان يكون المراد بها بعضهم فليسوا بان يحمل على بعض المؤمنين باولى منا إذا حملناها على الائمة من آل محمد عليهم السلام ويسقط بذلك غرضهم، ونحن نكون احق من حيث قام الدليل على عصمتهم وطهارتهم، وامنا وقوع الخطأ من جهتم. وثانيها: ان لفظة ” سبيل ” ايضا محتملة، بل هي تقتضي الوحدة ولا يجب حملها على كل سبيل، فكيف يمكن الاستدلال بها على ان كل سبيل المؤمنين صواب فيجب اتباعه ؟ وليس لهم ان يقولوا: إذا فقدنا دليل الاختصاص حملناها على العموم. لان القائل أن يقول: إذا فقدنا دلالة العموم حملناها على الخصوص، كما قلناه


(1) انظر الى الادلة التي اقاموها واعتمدوها في المقام في المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 601. (2) النساة: 115. (3) راجع تفسير التبيان 3: 329. (*)


[ 606 ]

في الوجه الاول. وثالثها (1). انه تعالى توعد على اتباع غير سبيلهم، وليس في ذلك دلالة على وجوب اتباع سبيلهم، فيجب أن يكون اتباع سبيلهم موقوفا على الدلالة. وليس لهم أن يقولوا: ان الوعيد لما علقه تعالى باتباع غير سبيلهم حل محل ان يعلقه بالعدول على سبيل المؤمنين وترك اتباعهم، في انه لا يقتضى لا محالة ان اتباع سبيل المؤمنين صواب، وان الوعيد واجب لتركه ومفارقته. وذلك ان هذا دعوى محضة (2)، لانه لا يمتنع أن يكون اتباع غير سبيلهم محرما، واتباع سبيلهم مباحا أو محرما. ايضا: يبين ذلك انه لو صرح بما تأولناه حتى يقول: اتباع غير سبيل المؤمنين محظور عليكم، واتباع سبيلهم يجوز أن يكون قبيحا وغير قبيح فاعملوا فيه بحسب الدلالة، أو يقول: اتباع سبيلهم مباح لكم، لساغ هذا الكلام ولم يتناقض، وإذا كان سايئغا بطل قول من قال: ان النهى عن اتباع غير سبيلهم موجب لاتباع سبيلهم، وانه يجرى مجرى التحريم، لمفارقة سبيلهم والعدول عنها. وليس لهم ان يقولوا: ان من لم يتبع غير سبيل المؤمنين فلابد من أن يكون متبعا لسبيلهم، فمن هاهنا حكمنا بان النهي عن احد الامرين ايجاب للاخر، وذلك ان بين الامرين واسطة، وقد يجوز أن يخرج المكلف من اتباع غير سبيلهم واتباع سبيلهم معا بأن لا يكون متبعا سبيل احد. وليس لهم أن يقولوا: ان ” غير ” هاهنا بمعنى الا، فكأنه قال تعالى: (لا يتبع الا سبيل المؤمنين). لان احدنا لو قال لغيره: من (اكل غير طعامي فله العقوبة)، فالمتعارف من ذلك


(1) الوجه الثالث منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتاب (الشافعي في الامامة 1: 217) ردا على دليل القاضي عبد الجبار في (المغني). (2) في الاصل: محض. (*)


[ 607 ]

ان اكل طعامه مخالف لذلك، وان العقوبة انما تتعلق بخروجه عن أن يكون اكلا لطعامه لان ” غير ” هاهنا ليس بواجب أن يكون بمعنى ” الا ” الموضوعة للاستثناء، بل جائز أن يكون بمعنى خلاف، فكأنه قال: (لا يتبع خلاف سبيل المؤمنين وما هو غير سبيلهم) ولم يرد لا يتبع الا سبيلهم. وقول القائل: (من اكل غير طعامي عاقبته) لا يفهم من ظاهر لفظه ومجرده ايجاب اكل طعامه، بل المفهوم حظر اكل كلما هو غير لطعامه، وحال طعامه في الحظر والاباحة موقوفة على الدليل. واقل احوال هذا اللفظ عند من ذهب إلى ان لفظة ” غير ” مشتركة بين الاستثناء وغيره، وان ظاهرها لا يفيد احد الامرين، أن يكون محتملا لما ذكرناه من حظر أكل غير طعامه، ومحتملا لايجاب أكل طعامه، ووضع لفظة ” غير ” مكان لفظة ” إلا ” وانما يكون في بعض المواضع يفهم عن مستعمل هذه اللفظة ايجاب اكل طعامه لا بمجرد اللفظ، بل بان يعرف قصده إلى الايجاب أو بغير ذلك من دلائل الحال، ولولا ذلك لما حسن أن يقول: القائل: (من اكل غير طعامي عاقبته، ومن اكل طعامي أيضا عاقبته)، وكان يجب أن يكون نقضا، أو جاريا مجرى قوله: (من اكل الا طعامي عاقبته، ومن اكل طعامي عاقبته)، فلما حسن ذلك مع استعمال لفظة ” غير ” ولم يحسن مع استعمال لفظة ” إلا ” دل على صحة ما قلناه. فان قيل: لو لم يكن اتباع سبيل المؤمنين حجة وصوابا لكان حاله في انه قد يكون صوابا أو خطاء، بحسب قيام الدلالة على ذلك حال اتباع غير سبيلهم في انه قد يكون صوابا أو خطأ، ولو كان كذلك لم يصح ان يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم دون اتباع سبيلهم، فكان يبطل معنى الكلام. قيل له: غير منكر ان يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم، من حيث علم ان ذلك لا يكون الا خطأ، ويكون اتباع سبيلهم مما يجوز أن يكون خطأ وصوابا، ولو لم يكن كذلك وكان الامران متساويين لجاز أن يعلق الوعيد باحدهما دون الاخر، ويكون الصلاح للمكلفين ان يعلموا خطر اتباع غير سبيلهم بهذا اللفظ، ويعلموا مساواة اتباع


[ 608 ]

سبيلهم له في الحظر بدليل اخر، كما يقوله اكثر خصومنا: ان قوله عليه السلام ” في سائمة الغنم الزكاة ” (1) لا يجب أن يفهم منه دفع الزكوة عما ليس بسائم، ومفارقة حاله لحال السائمة، بل يجوز أن يكون الحكم واحدا، ويعلم بالسائمة بهذا القول، وفي غيرها بدليل اخر. فان قيل: ان ذلك يجرى مجرى قول احدنا لغيره: (لا تتبع غير سبيل الصالحين) في انه بعث على اتباع سبيل الصالحين، والا يخرج عن ذلك. قيل: القول في هذا المثال كالقول فيما تقدم، وظاهر اللفظ واطلاقه لا يدل على وجوب اتباع طريقة الصالحين و يحث عليها، وما يعلم لا من حيث ظاهر اللفظ خارج عما نحن فيه. ولو ان احدنا قال بدلا من ذكر الصالحين: (لا يتبع غير طريقة زيد) لم يجب أن يفهم من اطلاقه ايجاب اتباع طريقته. ولولا ان الامر فيما تقدم على ما قلناه دون ما ادعاه السائل، لوجب فيما قال لغيره: (لا تضرب غير زيد) ثم قال: (ولا زيدا) أن يكون مناقضا في كلامه، من حيث كان قوله: (لا تضرب غير زيد) ايجابا لضربه وقوله: (ولا زيدا) حظر لذلك. وفي العلم بصحة هذا القول من مستعمله، وانه غير جار مجرى قوله: (اضرب زيدا ولا تضربه) دلالة على استقامة تأويلنا للاية. ورابعها (2): انه تعالى حذر من مخالفة سبيل المؤمنين وعلق الكلام بصفة من كان مؤمنا، فمن أين لخصومنا انهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين إذا خرجوا عن الايمان خرجوا عن الصفة التي تعلق الوعيد بخلاف من كان عليها ؟ وليس له أن يقول (3): لا يصح أن يتوعد الله تعالى وعيدا (4) مطلقا على العدول


(1) وسائل الشيعة باب 7 ابواب زكاة الانعام حديث 1 و 2 (2) الوجه الرابع منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الامامة 1: 217) (3) القائل هو القاضي عبد الجبار في كتابه (المغني 177: 168)، انظر أيضا: الشافي في الامامة (1: 224). (4) في المصدر: توعدا. (*)


[ 609 ]

عن اتباع سبيل المؤمنين، الا وذلك ممكن في كل حال ولا يصح دخوله في أن يكون ممكنا الا بأن يثبت في كل عصر جماعة من المؤمنين. يبين ذلك: انه كما توعد على العدول عن اتباع سبيلهم، فكذلك توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا وجب في كل حال صحة المشاقة ليصح الوعيد المذكور، فكذلك يجب أن يصح في كل حال اتباع سبيلهم والعدول عنها، لانه ليس يجب من حيث توعد تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع غير سبيل المؤمنين، ثبوت مؤمنين في كل عصر، انما (1) تقتضي الاية التحذير من العدول عن اتباعهم إذا وجدوا وتمكن من اتباعهم وتركه. ولسنا نعلم من أي وجه ظن ان التوعد على الفعل يقتضى امكانه في كل حال. وليس هذا مما يدخل فيه عندنا شبهة على متكلم، ونحن نعلم ان البشارة بنبينا عليه السلام قد تقدم على لسان من سلفت نبوته كموسى عليه السلام وعيسى وغيرهما من الانبياء عليهم السلام، وقد امر الله تعالى اممهم باتباعه وتصديقه واشار لهم إلى صفاته (2) وعلاماته، وتوعدهم على مخالفته وتكذيبه، ولم يكن ما توعد (3) عليه من مخالفته واوجبه من تصديقه واتباعه ممكنا في كل وقت، ولا مانعا (4) من اطلاق الوعيد. وقد قال شيخهم أبو هاشم، وتبعه على هذه المقالة جميع اصحابه (5): ان قوله تعالى: [ السارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ] (6)،


(1) في المصدر: وإنما. (2) في المصدر: واشار لهم إليه بصفاته. (3) في المصدر: ولم يازم ان يكون ما توعد (4) في الاصل والحجرية: (مانع) وهو تصحيف وصحيحه ما اثبتناه. (5) الشافي في الامامة 1: 225، وقد جاء فيه: ” قال شيخ اصحابه (اي القاضي عبد الجبار) أبو هاشم، وتبعه على هذه المقالة جميع اصحابه “. (6) المائدة: 38. (*)


[ 610 ]

ولا يقتضى ثبوت من يستحق القطع على سبيل النكال، ولو لم يقع التمكن ابدا (1)، والوقوف على من هذه حاله لما اخل بفائدة الاية، وعول في قطع من يقطع من السراق المشهود عليهم أو المقرين على الاجماع. وإذا (2) صح هذا، فكيف يجب من حيث اطلق الوعيد على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين، وجود مؤمنين في كل عصر ؟ وما المانع من أن يكون الوعيد يتعلق بحال مقدرة كانه تعالى قال: [ ولا تتبعوا غير سبيل المؤمنين ] إذا حصلوا ووجدوا ؟ فعلم بذلك بطلان ما تعلق به السائل. وخامسها: انه تعالى توعد على اتباع غير سبيلهم على تسليم عموم المؤمنين والسبيل، فان الاية لا تدل على وجوب اتباعهم في عصر، بل هو كالمجمل المفتقر إلى بيان، فلا يصح التعلق بظاهره. وليس لاحد أن يقول: انى أحمله على كل عصر من حيث لم يكن اللفظ مختصا بعصر دون عصر. لان هذه الدعوى نظيره الدعوى المتقدمة التى بينا فسادها. وليس لاحد أن يقول: انى اعلم وجوب اتباعهم في الاعصار كلها بما علمت به وجوب اتباع النبي عليه السلام في كل عصر، فما قدح في عموم احد الامرين قدح في عموم الاخر، لانا لا نعلم عموم وجوب اتباع الرسول عليه السلام في كل عصر بظاهر الخطاب: بل بدلالة لا يمكن دفعها، فمن ادعى في عموم وجوب اتباع المؤمنين دلالة فليحضرها ! وليس له أن يقول: إذا لم يكن فيها تخصيص وقت وجب حملها على جميع الاعصار. (1) في المصدر: ولا يفتقر إليه وإنما يوجب أن من واقع السرقة المخصوصة على الوجه المخصوص يستحق القطع على سبل التنكيل، ولو لم يقع التمكن أبدا الدهر. (2) فإذا. (*)


[ 611 ]

لأن المخالفة أن يقول: وإذا لم يكن فيها دليل على عموم الاعصار، وجب حملها على أهل عصر واحد، وهو حال زمن الصحابة به على ما ذهب إليه داود (1)، والا فما الفصل ؟ وسادسها (2): ان قوله تعالى [ المؤمنين ] لا يخلو ان يريد به المصدقين بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو المستحقين للثواب على الله تعالى (3)، فان كان الاول بطل، لان الاية تقتضي التعظيم والمدح لمن تعلقت به من حيث اوجب اتباعه، ولا يجوز أن يتوجه إلى من لا يستحق التعظيم والمدح، وفي الامة من يقطع على كفره (4) وانه لا يستحق شئ منها، ولانه كان يجب لو كان المراد [ بالمؤمنين ] المصدقين دون المستحقين للثواب أن يعتبر في الاجماع دخول كل مصدق في شرق وغرب، فهذا يعلم تعذره، وعموم القول يقتضيه، وليس يذهب اكثر المخالفين إليه (5). وان اراد [ بالمؤمنين ] مستحقي الثواب والمدح والتعظيم، فمن أين ثبوت مؤمنين (6) بهذه الصفة في كل عصر يجب اتباعهم ؟ ويجب ايضا: الا يثبت الاجماع الا بعد القطع على ان كل مستحق للثواب في بر وبحر وسهل وجبل قد دخل فيه، لان عموم القول يقتضيه، وهذا يؤدى إلى أن لا


(1) راجع قول داود الظاهري في بعض المصادر المذكورة في هامش رقم (1) صفحة 601. (2) الوجه السادس منقول عن استدالال الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الامامة 1: 218). (3) في المصدر: أو المستحقين للثواب على الحقيقة. (4) إن الامامية تعتقد بكفر وضلال جماعة ممن امنوا برسول الله صلى الله عليه واله وسلم وصدقوه في دعوته وهم المنافقين، والناكثون والقاسطون من أهل البصرة والشام أجمعين، والخوارج على أمير المؤمنين، وكل من انكر أمامة أحد الائمة وجحد ما أوجبه الله تعالى من فرض الطاعة، وجميع أصحاب البدع، فهؤلاء كفار ضلال، ملعونون، وفي النار بظلمهم مخلدون. أنظر: ” أوائل المقالات: ص 41 و 42 و 43 و 44 و 49 “. (5) في المصدر: ” وليس يذهب صاحب الكتاب واهل نحلته إلى هذا الوجه ” ويقصد به القاضي عبد الجبار الهمداني وجماعة من المعتزلة. (6) في المصدر: مؤمن. (*)


[ 612 ]

يثبت الاجماع ابدا. وان حمل على بعض المؤمنين، وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه، جاز حمله (1) على طائفته من المؤمنين وهم ائمتنا عليهم السلام. وسابعها (2) انا لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه، لم يكن في الاية دلالة تتناول الخلاف في الحقيقة، لانه جاز (3) ان يكون تعالى انما امر (4) باتباع المؤمنين من حيث ثبت بالعقول ان في جملة المؤمنين في كل عصر اماما معصوما لا يجوز عليه الخطاء، وإذا جاز ما ذكرناه سقط غرضهم في الاستدلال على صحة الاجماع، لانهم انما اجروا (5) بذلك إلى أن يصح الاجماع، وتنحفظ، الشريعة به ويستغنى به عن الامام، وإذا كان ما استدلوا به على صحة الاجماع يحتمل ما ذكرناه، بطل التعلق به. وثامنها ان الله تعالى توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين على وجه الجمع بينهما، فمن اين انه لو انفرد اتباع غير سبيلهم عن المشاقة استحق به الوعيد. وليس لهم ان يقولوا: ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مما كان بانفرادها يستحق بها الوعيد، فكذلك اتباع غير سبيل المؤمنين، ولو جاز أن لا يستحق عليه العقاب ويذكر مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعلق الوعيد به، لجاز أن يضاف إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شئ من المباحات مثل الاكل والشرب وغير ذلك، وتعلق الوعيد به، فلما لم يجز ذلك علم أن اتباع غير سبيلهم يجب أن يستحق الوعيد به على الانفراد، وذلك انا لا نعلم بظاهر الاية ان


(1) في المصدر: وإن حمل على بعض المؤمنين دون بعض، وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه، خرجنا عن موجب العموم وجاز حمله. (2) الوجه السابع منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة 1: 219). (3) في المصدر: جائز. (4) في المصدر: أمرنا. (5) في الحجرية: (أخذوا) وفي الأصل وفي كتاب (الشافي): أجروا. (*)


[ 613 ]

مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستحق بها الوعيد إذا انفردت عن اتباع غير سبيل المؤمنين. ولو خلينا وظاهر الاية لما علقنا الوعيد الا على من جمع بينها، لكن علمنا بالدليل ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بها على الانفراد الوعيد، فلاجل ذلك قلنا به. فاما ضم المباحات إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فانما لم يجز لانا قد علمنا ان حكم المباحات عند الانضمام حكمها عند الانفراد في أنه لا يستحق بها الوعيد، وقد كان يجوز أن يستحق بها الوعيد إذا انضم إلى المشاقة، ولم يكن ذلك بابعد من شيئين مباحين على الانفراد، فإذا جمع بينها صار محظورين، الا ترى انه يجوز للحر المسلم العقد على ثلاث من النسوة على الانفراد، وعلى امرائتين ايضا على الانفراد، ولا يجوز له بجمع في عقد واحد ثلاثا وثنتين لان ذلك محظور ولذلك نظائر كثيرة في الشرع، لكن هذا وان كان جائزا علمنا انه لم يثبت، لانا علمنا ان فعل شئ من المباحات من الاكل والشرب وان انضم إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فانه لا يستحق به الوعيد، فلاجل ذلك لم يجز ضم ذلك إلى المشاقة. وتعلقوا ايضا بقوله تعالى: [ وكذلك جعلناكم امة وسطا ] (1). قالوا: ” والوسط ” العدل، ولا يكون هذه حالهم الا وهم خيار، لان الوسط من كل شئ هو المعتدل منه، وقوله تعالى: [ قال اوسطهم الم اقل لكم ] (2) المراد به خيرهم، وعلى هذا الوجه يقال: انه عليه السلام من اوسط العرب، يعنى بذلك من خيرهم. وايضا: فانه جعلهم كذلك ليكونوا: [ شهداء على الناس ] (3) كما انه عليه


(1) البقرة: 143. (2) القلم: 28. (3) البقرة: 143. (*)


[ 614 ]

السلام شهيد عليهم، فكما انه لا يكون شهيدا الا وقوله حق [ وحجة ] (1) فكذلك القول فيهم. وهذه الاية لا تدل ايضا على ما يدعونه، لا يصح ان يكون المراد بها جميع الامة المصدقة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضها، وقد علمنا انه لا يجوز أن يريد به جميعها، لان كثيرا منها ليس بخيار، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يصف جماعة بانهم خيار عدول وفيهم من ليس بعدل، ولا خير (3)، وهذا مما يوافقنا عليه اكثر من خالفنا (4). وان كان اراد بعضها، لم يخل ذلك البعض أن يكون جميع المؤمنين المستحقين للثواب، ويكون بعضا منهم غير معين: فان كان الاول: فلا دلالة توجب عمومها في الكل دون حملها على بعض غير معين، لانه لا لفظ هاهنا من الالفاظ التي تدعى للعموم كما هو في الاية المتقدمة (5). وان كان المراد بعضا معينا، خرجت الاية من أن تكون فيها دلالة لخصومنا على الخلاف بيننا وبينهم. ولم يكن بعض المؤمنين بأن يقتضى تناولها [ له ] (6) اولى من بعض، فساغ (7) لنا ان نقصرها على الائمة من ال محمد عليهم السلام، ويكون قولنا اثبت في الاية من كل قول لقيام الدلالة على عصمة من عدلنا بها إليه (8) وطهارته، وتمييزه من كل الأمة.


(1) زيادة من المصدر. (2) زيادة من المصدر. (3) بخير. (4) في المصدر: (وهذا مما يوافقنا عليه صاحب الكتاب). ويقصد به القاضي عبد الجبار في كتابه (المغني). (5) في المصدر: في الأيتين المتقدمتين. (6) زيادة في المصدر. (7) وساغ. (8) أي عدلنا بالآية إلى الإمام المعصوم. (*)


[ 615 ]

فان قيل: اطلاق القول يقتضى دخول كل الامة فيه، لولا الدلالة التي دلت من حيث الوصف المخصوص على تخصيص من يستحق (1) المدح منهم والثواب، فإذا خرج من لا يستحقها بدليل وجب عمومها في كل المستحقين للثواب والمدح، لانه ليس هي بأن تتناول بعضها (2) اولى من بعض. قيل له: ان اطلاق القول لا يقتضى كل الامة على اصلنا حتى يلزم إذا اخرجنا من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره، ولو اقتضى ذلك ووجب تعليق الاية بكل من عدا الخارجين من استحقاق الثواب، لوجب القضاء بعمومها في جميع من كان بهذا الصفة في سائر الاعصار، لان ظاهر العموم يقتضيه على مذهب من قال به، فكان لا يسوغ حمل القول على إجماع كل عصر (3) وهذا يبطل الغرض في الاحتجاج بالاية. وليس لاحد أن يقول: كيف يكون اجتماع جميع اهل الاعصار على الشهادة حجة (4)، ولا يكون اجماع اهل كل عصر حجة وصوابا (5) ؟ فإنه يقال: لهم: كما تقولون: إن إجماع اهل كل عصر حجة، وليس اجماع كل فرقة من فرقها حجة (6). فان قيل: بأي شئ يشهد جميعهم، وهم لا يصح ان يشاهدوا كلهم شيئا واحدا فيشهدوا به ؟


(1) في المصدر: استحق. (2) في المصدر: بعضا. (3) في المصدر: لانه تخصيص لا يجد مقترحه فرقا بينه وبين من اقترح تخصيص فرقة من كل عصر. (4) في المصدر: حجة وصوابا. (5) في المصدر: على ما الزمتموه ولا يكون اجماع جميع اهل كل عصر كذلك ؟ (6) في المصدر: لان هذا مما لم ينكر، كما لم يكن منكرا عند خصومنا ان يكون اجماع اهل العصر حجة وصوابا، وان لم يكن اجماع كل فرقة من فرقهم كذلك. (*)


[ 616 ]

قيل لهم: قد تصح الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات، كشهادتنا بتوحيد الله تعالى، وعدله ونبوة انبيائه، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. ولو قيل ايضا: فعلى من تكون الشهادة إذا كان جميع اهل الاعصار هم الشهداء (1) ؟ قلنا: تكون شهادتهم على من لا يستحق ثوابا، ولا يدخل تحت القول من الامة ؟، ويصح ايضا أن يشهدوا على باقى الامم الخارجين عن الملة، وكل هذا غير مستبعد. ويمكن ايضا ان يقال في اصل تأويل الاية: ان قوله تعالى: [ جعلناكم امة وسطا ] (2) إذا سلم ان المراد به جعلناكم عدولا خيارا، لا يدل ايضا على ما يريد الخصم، لانه لم يبين هل جعلهم عدولا في كل اقوالهم وافعالهم، أو في بعضها ؟ فالقول محتمل وممكن أن يكون تعالى اراد انهم عدول فيما يشهدون به في الاخرة، أو في بعض الاحوال. فان رجع راجع إلى أن يقول: اطلاق القول يقتضى العموم وليس هو بأن يحمل على بعض الاحوال أو الامور (3) أولى من بعض، فقد مضى الكلام على ما يشبه هذا مستقصى (4). فاما حملهم ” الامة ” على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في باب الشهادة وكونه حجة من فيها، فلم يكن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة من حيث كان شهيدا، بل من حيث كان نبيا ومعصوما، فتشبيه احد الامرين بالاخر من البعيد. ومما يسقط التعلق (5) بالاية ايضا: ان قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس)، يقتضى حصول واحد منهم بهذه الصفة، لان ما جرى هذا المجرى من


(1) في المصدر: لو قيل ايضا: فعلى من تكون الشهاادة إذا كان المؤمنو ن جميعا في الاعصار هم الشهداء ؟ (2) البقرة: 143. (3) من المصدر: الاقوال. (4) راجع فصل [ 2 ] ص 278. (5) في المصدر: التعليق. (*)


[ 617 ]

الاوصاف لابد أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة، الا ترى انه لا يسوغ ان يقال في جماعة انهم مؤمنون الا وكل واحد منهم مؤمن، وكذلك لا يسوغ أن يقال في جماعة انهم شهداء الا وكل واحد منهم شهيد، لان ” شهداء ” جمع شهيد، كما ان ” مؤمنين ” جمع مؤمن، وهذا يوجب أن يكون كل واحد من الامة حجة مقطوعا على صواب فعله وقوله. وإذا لم يكون هذا مذهبا لاحد وكان استدلال الخصم بالاية يوجبة، فسد قولهم ووجب صرف الاية إلى جماعة يكون كل واحد منهم شهيدا وحجة، وهم الائمة عليهم السلام الذين قد ثبت عصمتهم وطهارتهم. على ان الاية لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه فيها، لا يقتضى كون جميع اقوال الامة وافعالها حجة، لانها غير مانعة من وقوع الصغائر التي لا تسقط العداله (1) منهم، فان امكن تمييز الصغائر من غيرها كانوا حجة فيما قطع عليه، وان لم يكن وعلم في الجملة أن الخطاء الذي يكون كبيرا ويؤثر في العدالة مأمون منهم وغير واقع من جهتهم، وان ما عداه مجوز (2) عليهم، فسقط بما ذكرناه تعلق المخالف بالاية في نصرة الاجماع. وليس لاحد أن يقول (3): ان كونهم عدولا كالعلة والسبب في كونهم شهداء، وانه قد صح في العقل (4) انه لا يجوز أن ينصب للشهادة الا من يعلم عدالته، أو تعرف الامارات (5) التي تقتضي غالب الظن، وصح أن من ينصبه الغالب الظن (6) إذا تولى الله تعالى نصبه يجب أن يعلم من حاله ما يظنه


(1) انظر التعليقة رقم (4) صفحة 618. (2) يجوز. (3) القائل هو القاضي عبد الجبار في كتابه المغني 20: القسم الاول: ص 80. (4) في المصدر: التعبد. (5) في النسختين: بالامارات. (6) في النسختين: بغالب لبظن. (*)


[ 618 ]

وإذا ثبت ذلك، لم يخل من أن يكونوا حجة فيما يشهدون أولا يكونوا، فان لم يكونوا حجة (1) بطلت شهادتهم لان من حق الشاهد إذا اخبر عما يشهد به أن يكون خبره حقا، وان لم يجرى مجرى الشهادة، فلابد من أن يكون قولهم صحيحا، ولا يكون كذلك الا وهم حجة، وليس بعض اقوالهم وافعالهم بذلك اولى من بعض، وذلك انه لو سلم لهم جميع ما ذكروه (2) ولم يلزم أن يكونوا حجة في جميع اقوالهم وافعالهم، لان اكثر ما تدل عليه الاية فيهم أن يكونوا عدولا رشحوا (3) للشهادة، فالواجب أن ينفى عنهم ما جرح شهادتهم واثر في عدالتهم دون ما لم يكن بهذه المنزلة. وإذا كانت الصغائر على مذهبهم غير مخرجة عن العدالة (4)، لم يجب بمقتضى الاية نفيها عنهم، وبطل قوله: ” انه ليس بعض اقوالهم وافعالهم بذلك اولى من بعض ” لانا قد بينا فرق ما بين الافعال المسقطة للعدالة والافعال التي لا تسقطها. ثم يقال لهم: اليس لرسول صلى الله عليه وآله السلام مع كونه شهيدا لا يمنع من وقوع الصغائر منه، فهلا جاز ذلك في الامة ؟


(1) في النسختين: يكن. (2) في المصدر: فلو سلم له جميع ما ذكره. (3) في النسختين: (روشحوا) وهو تصحيف صحيحه ما اثبتناه نقلا عن المصدر. (4) اجمعت المعتزلة على انه لا يجوز ان يبعث الله نبيا يكفر ويرتكب الكبيرة أو يفسق، بل ان معاصي الانبياء لا تكون الاصغائر، وقال أبو هاشم الجبائي: انه يجوز عليهم الصغائر التي لاتنفر. اما الاشاعرة فقد اجمعوا على عصمة الانبياء بعدة النبوة عن الذنوب كلها، واما السهو والخطأ فليسا من الذنوب عندهم ولذلك يجوز صدورهما منهم. واما الامامية فتعتقد بأن جميع انبياء الله معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، ومما يستخف فاعله من الصغائر كلها، واما ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد، وممتنع منهم بعدها على كل حال. انظر ” مقالات الاسلاميين 1: 272 و 306، اصول الدين للجرجاني: 168، اوائل المقالات: 62 “. (*)


[ 619 ]

وليس لهم أن يقولوا (1): ان حالهم مخالفة لحال الرسول (2)، لانه ما نجوزه عليه من الصغائر لا يخرج ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجة فيه من أن يكون متميزا، فيصح كونه حجة وليس كذلك لو جوزنا على الامة الخطاء في بعض ما تقوله وتفعله لان ذلك يوجب خروج كل ما يجمع عليه (3) من أن يكون حجة، لان الطريقة في الجمع (4) واحدة، فيسقط بما ذكرناه، لانه إذا كان تجويز الصغائر على الرسول (5) لا يخرجه فيما يؤديه من ان يكون حجة ويتميز ذلك للمكلف، فكذلك إذا كانت الاية مما تقتضي كون الامة عدولا فيجب نفى ما اثر في عدالتهم، والقطع على انتفاء (6) الكبير من المعاصي (7) عنهم، وتجويز ما عدا هذا عليهم، ولا يخرج (8) هذا التجويز من أن يكونوا حجة، فيما لو كان خطاء لكان كبيرا. وقد يصح تمييز ذلك على وجه فان في المعاصي ما يقطع على كونها كبائر ولو لم يكن إلى تمييزه سبيل لصح الكلام ايضا من حيث كان الواجب علينا اعتقاد نفي الكبائر عنهم وتجويز الصغائر، وان شهادتهم بما لو لم يكن حقا لكانت الشهادة به كبيرة لا تقع منهم، وان جاز وقوع ما لم يبلغ هذه المنزلة، ويكون هذا الاعتقاد مما يجب علينا على سبيل الجملة، وان تعذر علينا تفصيل افعالهم (9) التي يكونون فيها


(1) القائل هو عبد الجبار في المغني 17: 178. (2) في المصدر: ويخالف حالهم حال الرسول عليه السلام. (3) في المصدر: تجتمع عليه. (4) في المصدر الجميع. (5) هذا الجواز بناء على مذهب المعتزلة، انظر هامش رقم (4) صفحة 618. (6) في المصدر: بانتفاء. (7) راجع هامش رقم (4) صفحة 618. (8) في المصدر: يخرجهم. (9) في المصدر: اعمالهم واحوالهم. (*)


[ 620 ]

حجة من خالفها (1) لاسيما وشهادتهم ليست عندنا، فيجب علينا تمييز خطأهم من صوابهم، وانما هي عند الله تعالى، وإذا كانت عنده جاز أن يكون الواجب علينا هذا الاعتقاد الذي ذكرناه. فان قيل (2): ليس المراد بالاية الشهادة في الاخرة، وانما هو القول بالحق والاخبار بالصدق كقوله تعالى: [ شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولوا العلم ] وكل من قال حقا وهو شاذ به، وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو تتحمل بسبيل، وان كانوا مع شهادتهم بالحق يشهدون في الاخرة باعمال العباد، فيجب في كل ما اجمعوا عليه قولا أن يكون حقا، وفعلهم يقوم مقام قولهم، فيجب أن يكون هذا حاله، لانهم إذا جمعوا على الشئ واظهروه اظهار ما يعتقد انه حق حل محل الخبر، وهذا يوجب انه لا فرق بين الصغير والكبير في هذا الباب. قيل له: هذا غير مؤثر فيما قدحنا به في الاستدلال بالاية، لان التعلق في (4) الاية انما هو بكونهم عدولا لا بلفظ الشهادة، لان التعليق لو كان بالشهادة لم يكن في الكلام شبهة من حيث كانت الشهادة لا تدل بنفسها على كونها حجة كما تدل العدالة. ولو تعلق متعلق بكونهم شهودا ويذكر شهادتهم، لم نجد بدا من اعتبار العدالة والرجوع إليها، وإذا كانت الصغائر لا تؤثر في العدالة ولا يمتنع وقوعها على مذهب المعتزلة (5) من العدل المقبول الشهادة، فما الموجب من الاية نفيها عن الامة ؟، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكونوا شهداء في الدنيا والاخرة معا، وبين أن يكونوا شهداء


(1) في المصدر: خالفهم. (2) القائل هو القاضي عبد الجبار في ” المغني: 17 / 179 ” (3) آل عمران: 18. (4) في المصدر: من. (5) في المصدر: على مذهب صاحب الكتاب واهل مقالته. راجع ايضا التعليقة رقم (4) صفحة 618. (*)


[ 621 ]

في الاخرة دون الدنيا (1). واستدلوا ايضا: بقوله تعالى: [ كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ] (2). قالوا: وصف الله تعالى ” بانها ” خير الامة “، وانها ” تأمر بالمعروف ” ” وتنهى عن المنكر “، فلا يجوز أن يقع منها خطأ، لان ذلك يخرجها من كونها خيارا، ويخرجهما ايضا من كونها امرة بالمعروف وناهية عن المنكر، الا أن تكون آمرة بالمنكر وناهية عن المعروف، ولا ملجاء من ذلك الا بالامتناع من وقوع شئ من القبائح من جهتهم. والكلام على هذا الدليل مثل الكلام على الاية التي ذكرناها قبل هذه الاية على حد واحد من المنازعة في أن تكون لفظة ” الامة ” تستحق الجمع والشمول. ومع التسليم انها تشتمل جميع اهل الاعصار دون اهل كل عصر، وفي انها لا يجوز ان يوصفوا بانهم خيارالا وكل واحد منهم بهذه الصفة، وفي ان اكثر ما تقتضيه الاية ان لا يقع منهم ما يخرجهم من كونهم خيارا من الكبائر، ولا يجب من ذلك الا يقع منهم الصغير الذي يتحبط (3) عقابه، ولا يخرجهم من كونهم بهذه الصفة فالكلام في الايتين على حد واحد. ويمكن أن يقال في هذه الاية وفي التي تقدمت: ان المراد بها قوم معينون لما يتضمنان من حرف الاشارة في المخاطبين، وليس فيهما ما يقتضى لفظ العموم، لان الفاظ العموم معلومة، وليس فيهما شئ منها. فان رجعوا إلى ان يقولوا: لو كان المراد به ما دون الاستغراق لبين قيل لهم: ولو كان المراد بها الاستغراق لبين، وإذا تقابل القولان سقط


(1) الشافي في الامامة 1: 236) للشريف المرتضى. وفيه: فما نراه في الكلام الذي عدل إليه شيئا ينتفع به. (2) آل عمران 110. (3) في المصدر: زيادة في (لقوله). (*)


[ 622 ]

الاحتجاج بالاية. وكل ما يسأل على هذه الطعون فقد مضى الجواب عنه في الاية المتقدمة فلا وجه لتكراره واستدلوا ايضا بقوله تعالى: [ فاتبع سبيل من اناب إلي ] (1) قالوا: فاوجب الله تعالى اتباع سبيل من اناب إليه وهم المؤمنون، لأنهم المختصون بهذه الطريقة. والكلام في هذه الاية كالكلام في الاية (2) المتقدمة، واكثر ما اعترضنا به عليها فهو اعتراض على هذه الاية ايضا (3). ومما يختص بهذه (4) الاية ان ” الانابة ” حقيقتها في اللغة هي الرجوع (5) وانما يستعمل في التائب من حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة، وليس يصح اجزاؤها على المتمسك بطريقة واحدة لم يرجع إليها من غيرها على سبيل الحقيقة، ولو استعمل فيمن ذكرناه لكان مستعملها متجوزا عند جميع اهل اللغة. وإذا كانت حقيقة ” الانابة ” في اللغة هي الرجوع لم يصح اجراء قوله تعالى: [ اتبع سبيل من اناب ] (6) على جميع المؤمنين حتى يعم بها من كان متمسكا بالايمان وغير خارج عن غيره إليه، ومن رجع الى اعتقاده واناب إليه بعد ان كان على غيره، لانا لو فعلنا ذلك لكنا عادلين باللفظة عن حقيقتها من غير ضروره، فالواجب أن يكون ظاهرها متناولا للتائبين من المؤمنين الذين انابوا إلى الايمان وفارقوا غيره، وإذا


(1) لقمان: 15. (2) الآيات. (3) نص منقول عن كتاب (الشافز في االامامة 1: 228) للشريف المرتضى (4) في جميع النسخ: (بهذه) وفي المصدر: هذه. (5) لسان العرب 319، المصباح المنير 2: 629 مادة ” نوب “. (6) لقمان: 15. (*)


[ 623 ]

تناولت هذا (1) لم تكن دلالة على مكان الخلاف بيننا وبين خصومنا في الاجماع (2). واستدلوا ايضا بقوله تعالى: [ فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ] (3). قالوا: فاوجب علينا الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع، فيجب إذا ارتفع التنازع الا يجب الرد، ولا يسقط وجوب الرد اليهما الا لكونه حجة. والكلام على هذه الاية من وجوه: احدها: ان هذا خطاب لجماعة مواجهين بالخطاب، وليس فيها لفظ يقتضى الاستغراق لجميع الامة، وإذا لم يكن فيها ذلك لم يكن لاحد أن يحملها على الاستغراق. وليس لهم ان يقولوا: نحملها على الجمع لفقد الدلالة على ان المراد به الاستغراق. وثانيها: ان اكثر ما في الاية ان تفيد ان عند وجود التنازع يجب الرد إلى الكتاب والسنة، وليس فيها ذكر ما يرتفع التنازع فيه الا من حيث دليل الخطاب الذي اكثر من خالفنا يبطلة، وفرق من فرق بين تعليق الحكم بالصفة وبينه إذا علق بشرط فاسد لما بيناه فيما تقدم من هذا الكتاب. وثالثها: ان ما يرتفع التنازع فيه لابد من أن يكون مردود إلى الكتاب والسنة، لانهم لا يجمعون الا عن دليل، ولا يخلو ذلك الدليل من الكتاب والسنة، فكأنهم في حال وجود التنازع يجب عليهم الرد وعند ارتفاعه يكون قد ردوا، فلا فرق بين وجود التنازع وبين ارتفاعه.


(1) في المصدر: هؤلاء. (2) نهاية النص النقول عن الشافي. (3) النساء: 59.


[ 624 ]

وارابعها: ان المراد بالاية انه يجب الرد إلى الكتاب والسنة فيما طريقه العلم، لانه لو كان فيما طريقة العمل وكان المنازعون مجتهدين فيما تنازعوا فيه لم يجب عليهم الرد، وانما يجب عليهم الرد على كل حال إذا كان ما اختلفوا فيه لا يسوغ الخلاف فيه. وهذه جملة كافية في ابطال التعلق بهذه الاية. واستدل بعضهم على صحة الاجماع بقوله: [ وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون ] (1). قالوا: فاخبر الله تعالى ان فيمن خلق امة تهدى بالحق، وهذا يؤمننا من اجتماعهم على ضلال وكفر. والكلام على هذه الاية أيضا من وجوه: احدها: انه اخبر عمن خلق فيما مضى لان قوله: (خلقنا) يفيد المضي في الازمان، فمن اين لهم ان ذلك حكمهم في المستقبل من الزمان ؟ وليس لهم ان يقولوا: ان قوله: (يهدون بالحق) يفيد الاستقبال. ذلك ان هذه اللفظة تصلح للحال والاستقبال، وإذا صلحت لذلك فلا يمتنع أن يكون اريد بها الحال، فكأنه قال: (ممن خلقنا امة هادية بالحق عادلة به). وثانيها: ان قوله: (امة) يقع على الواحد وعلى جماعة، ويقع على جميع الامة على وجه الاستغراق، الا ترى ان الله تعالى وصف ابرهيم عليه السلام بانه كان امة وهو واحد، وقال: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه امة من الناس) (2) اريد به جماعة، وإذا كان الامر على ذلك فمن اين للخصم ان المراد به جميع الامة ؟ وثالثها: انه لا يمتنع أن يكون اراد تعالى بقوله امة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو من يجرى قوله مجرى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه حجة


(1) الاعراف: 181. (2) القصص: 23. (*)


[ 625 ]

وموجبا للعلم، وإذا احتمل ذلك لم يكن للخصم الاحتجاج بالاية. واستدلوا ايضا على صحة الاجماع: بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ” لا تجتمع امتى على خطاء “، وبلفظ آخر ” لم يكن الله ليجمع امتى على خطاء ” وبقوله: ” كونوا مع الجماعة “، و ” يد الله على الجماعة ” وما اشبه ذلك من الالفاظ. (1) وهذه الاخبار لا يصح التعلق بها، لانها كلها اخبار احاد لا توجب علما، وهذه مسألة طريقها العلم. وليس لهم أن يقولوا: ان الامة قد تلقتها بالقبول وعلمت بها الانا اولا نسلم ان الامة كلها تلقتها بالقبول. ولو سلمنا ذلك لم يكن ايضا فيها حجة، لان كلامنا في صحة الاجماع الذي لا يثبت الا بعد ثبوت الخبر، والخبر لا يصح حتى يثبت انهم لا يجمعون على خطاء.


(1) الحديث روااه الترمذي، وابن ماجة، وابو داود، واحمد ابن حنبل، والدارقطني، والحاكم النيسابوري آخرون. ولفظ الحديث عند ابي داود: (لن تجتمعوا على ضلالة)، وعند الدارقطني، والترمذي، وابن عمر والحاكم النيسابوري، وابن ماجة: (ان الله لا يجمع امتي، أو قال: امة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ الى النار). قال ابن السبكي: واما الحديث فلا شك انه اليوم غير متواتر، بل ولا يصح. وقال الغزالي في المستصفى 1: 111: تظاهرات الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الامة من الخطأ. وقال في المنخول (306 – 305): ومما تمسك به الاصوليون قوله عليه السلام: (لا تجتمع امتي على ضلالة) وروي (على خطأ) ولا طريق الى رده بكونه من اخبار الاحاد، فأن القواعد القطعية يجوز اثباتها بها وان كانت مطنونة ! ! فأن قيل: فما المختار عندكم في اثبات الاجماع ؟ قلنا: لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه ولم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر ولا نص كتاب، وإثبات الاجماع بالاجماع تهافت، والقياس المظنون لا مجال له في القطعيات. ورواه ابن ماجة ايضا في كتاب الفتن باب السواد الاعظم ولفظ الحديث عنده: ” إن امتي لا تجتمع على ضلالة ” وعلق عليه محقق الكتاب بقوله: ” في الزوائد: في اسناده أبو خلف الاعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف، وقد جاز الحديث بطرق في كلها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج احاديث البيضاوي “. (*)


[ 626 ]

وليس لهم أن يقولوا: انه قد عملوا بهذه الاخبار وعولوا في صحة الاجماع عليها في كل زمان. فقد جرت عادتهم ألا يقبلوا ما جرى هذا المجرى ولا يعملوا به الا إذا كان قاطعا لعذرهم لانا اولا: لا نسلم انهم استدلوا على صحة الاجماع بهذه الاخبار، ولا يمتنع ان يكون اعتمدوا في صحة الاجماع على الايات التي ذكرناها وان كانوا مخطئين في صحة الاستدلال بها، فمن اين انهم استدلوا بها على صحة الاجماع ؟ ولو سلم انهم استدلوا، جاز أن يكونوا مخطئين في الاستدلال بها، ويكونوا اعتقدوا انها قاطعة للعذر، وان لم يكن كذلك لضرب من الشبهة دخلت عليهم. وقولهم: انه ما جرت عادتهم فيما يجرى هذا المجرى ان يقبلو الا الصحيح. فلو سلمنا غاية ما يقترحونه لم يكن فيه اكثر من ان لا يستدلوا الا بما يعتقدون صحته وانه طريقه العلم، فمن اين ان ما اعتقدوه صحيح ؟ وذلك لا يثبت الا بعد صحة الخبر أو غيره من الادلة. ولو سلم من جميع ذلك، لجاز أن يحمل الخبر على طائفة من الامة وهم الائمة من آل محمد عليهم السلام لان لفظة ” الامة ” لا يفيد الاستغراق على ما مضى القول فيه، وذلك اولى من حيث دلت الدلالة على عصمتهم من القبايح. وان قالوا: يجب حمله على جميع الامة لفقد الدلالة على ان المراد بعض الامة. كان لغيرهم أن يقول: انا احمل الخبر على جميع الامة من لدن النبي إلى أن تقوم الساعة من حيث ان لفظ ” الامة ” يشملهم ويتناولهم، فمن اين ان اجماع كل عصر حجة ؟ على انه قد قيل ان الخبر الاول لا يمتنع أن يكون رواية سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجزوما، ويكون المراد النهى لهم عن أن يجمعوا على خطاء، وليس من عادة اصحاب الحديث ضبط الاعراب فيما يجرى هذا المجرى، وإذا كان


[ 627 ]

ذلك محتملا سقط الاحتجاج به. واما الخبر الثاني: من قوله: ” لم يكن الله ليجمع امتى على خطاء ” (1) فصحيح ولا يجئي من ذلك انه لا يجمعون على خطاء. وليس لهم أن يقولوا: ان هذا لااختصاص فيه لامتنا بذلك دون سائر الامم، لان الله تعالى لا يجمع سائر الامم على خطاء. وذلك انه وان كان الامر على ما قالوه، فلا يمتنع أن يخص هؤلاء بالذكر، ومن عداهم يعلم ان حالهم كحالهم بدليل آخر، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن والاخبار. على ان هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده اكثر من خالفنا (2). فهذه جملة كافية في الكلام على الايات والاخبار التي اعتمدوها في نصرة الاجماع على ما يذهبون إليه.


(1) راجع تخريج الحديث في هامش رقم (1) صفحة 625. (2) راجع اقوالهم في فصل [ 11 ] صفحة 467. (*)


[ 628 ]

فصل [ 2 ] ” في كيفية العلم بالاجماع، ومن يعتبر قوله فيه ” إذا كان المعتبر في باب كونهم حجة، قول الامام المعصوم عليه السلام، فالطريق إلى معرفة قوله شيئان: احدهما: السماع منه، والمشاهدة لقوله. والثاني: النقل عنه بما يوجب العلم، فيعلم بذلك ايضا قوله. هذا إذا تعين لنا قول الامام عليه السلام، فإذا لم يتعين لنا قول الامام ولا ينقل عنه نقلا يوجب العلم، ويكون قوله في جملة اقوال الامة متميز منها، فانه يحتاج أن ينظر في احوال المختلفين: فكل من خالف ممن يعرف نسبه، ويعلم منشأه، وعرف انه ليس بالامام الذي دل الدليل على عصمته وكونه حجة، وجب إطراح قوله والا يعتد به. وتعتبر اقوال الذي لا يعرف نسبهم، لجواز أن يكون كل واحد منهم الامام الذي هو الحجة، وتعتبر اقوالهم في باب كونهم حجة. فان قيل: فعلى هذا التقدير هل تراعون قول من خالفكم في الاصول، ام تراعون قول من وافقكم فيها ؟ قلنا: لا نراعى قول من خالفنا في شئ من الاصول من التوحيد، والعدل،


[ 629 ]

والامامة، والارجاع (1) وغير ذلك لان جميع ذلك معلوم بالادلة الصحيحة التي لا يجوز خلافها، ولابد أن يكون الامام قائلا بها، وإذا كان لابد أن يكون قائلا بها فمن خالف الامامية في شئ من هذه الاصول فينبغي أن يكون قوله مطروحا، ويكون ذلك ابلغ من إطراح قول من علمنا نسبه، لان التعيين بخلاف الحق مثل التعيين بالنسب، بل ذلك آكد لانه معلوم من طريق لا يحتمل خلافه. فان قيل: ولم لا يجوز أن يكون الامام المعصوم عليه السلام مظهرا لبعض هذه المذاهب المخالفة لمذاهب الامامية لضرب من التقية على ما تجوزون عليه ؟ وان كان قوله حقا فيما يرجع إلى الفروع، فلا يجب أن يقطعوا على ان المعتبر قول الامامية. قيل: انما يجب إطراح قول من خالف في الاصول إذا علم أنه قائل به تدينا ومعتقدا، فاما إذا جوزنا انه قائل به لضرب من التقية فيجب أن لا يطرح قوله، ويعتبر قوله وقول من جوزنا ذلك فيه مع اقوال المظهرين للحق ليصح لنا العلم بدخول قول الامام عليه السلام في جملة اقوالهم. فان قيل: فما قولكم إذا اختلفت الامامية في مسألة، كيف يعلمون ان قول الامام عليه السلام داخل في جملة اقوال بعضها دون بعض ؟ قلنا: إذا اختلفت الامامية في مسألة نظرنا في تلك المسألة: فان كان عليها دلالة توجب العلم من كتاب أو سنة مقطوع بها تدل على صحة بعض اقوال المختلفين، قطعنا على ان قول المعصوم موافق لذلك القول ومطابق له. وان لم يكن على احد الاقوال دليل يوجب العلم نظرنا في احوال المختلفين: فأن كان ممن عرفناه بعينه ونسبه قائلا بقول والباقون قائلون بالقول الاخر، لم


(1) الارجاع، والمقصود منه الرجعة، وهي من المصطلحات الكلامية عند الامامية، وقد فسرها الشيخ المفيد (ره) حيث قال (اوائل المقالات: 46): ” واتفقت الامامية على وجوب رجعة كثير من الاموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف “. (*)


[ 630 ]

نعتبر قول من عرفناه، لانا نعلم انه ليس فيهم الامام المعصوم الذي قوله حجة. فان كان في الفريقين اقوام لا نعرف اعيانهم، ولا انسابهم وهم مع ذلك مختلفون، كانت المسألة من باب ما نكون فيها مخيرين بأي القولين شئنا اخذنا، ويجرى ذلك مجرى الخبرين المتعارضين الذي لا ترجيح لاحدهما على الاخر على ما مضى القول فيما تقدم. وانما قلنا ذلك، لانه لو كان الحق في احدهما لوجب أن يكون مما يمكن الوصول إليه، فلما لم يكن دل على انه من باب التخيير. ومتى فرضنا أن يكون الحق في واحد من الاقوال، ولم يكن هناك ما يميز ذلك القول من غيره، فلا يجوز للامام المعصوم الاستتار ووجب عليه ان يظهر ويبين الحق في تلك المسألة، أو يعلم بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحق من تلك الاقوال حتى يؤدى ذلك إلى الامة، ويقترن بقوله علم معجز يدل على صدقه، لانه متى لم يكن كذلك لم يحسن التكليف. وفي علمنا ببقاء التكليف وعدم ظهوره، أو ظهور من يجرى مجراه دليل على ان ذلك لم يتفق. فان قيل: بجواز ان يختلف الامامية على قولين يكون احد القولين قول الامام والباقون قولهم على خلافه، ومتى اجزتم ذلك كان في ذلك تعيين الامام وتمييزه وذلك لا تقولونه ! وان امتنعتم من ذلك قيل لكم: وما المانع من ذلك ؟ قيل: الذي نقول في ذلك انه لا يمتنع ما فرض في السؤال على وجه، ويمتنع على وجه، فالجائز من ذلك هو أن يجمع كل من عدا الامام على قول إذا لم نعرفهم كلهم باسمائهم، ونجوز أن يكون الامام فيهم ومن جملتهم، ونجوز ايضا مع ذلك أن يكون المنفرد الذي قال بالقول الاخير – وهذا لا يؤدى إلى العلم – بعين الامام وتمييزه. والذي لا يجوز، أن تكون الجماعة الذين خالفوا الواحد معروفين باسمائهم وانسابهم، لانه متى كان كذلك علم به ان الامام هو الاخر، وذلك ينافى غيبته عليه


[ 631 ]

السلام. فان قيل: فإذا اتفق ما اجزتموه من القسمين كيف يكون قولكم فيه ؟ قيل: متى اتفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الامام عليه السلام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك، لان ما هو موجود من دليل الكتاب والسنة كاف في باب ازاحة التكليف، ومتى لم يكن على القول على الذي انفرد به دليل على ما قلناه وجب عليه الظهور أو اظهار من يبين الحق في تلك المسألة على ما قد مضى القول فيه، والا لم يحسن التكليف. ولا ينقض هذا ما قدمناه من اختلاف الطائفة على قولين، ولا يكون لاحد القولين ترجيح على الاخر، ولا دليل على ان المعصوم مع احدهما، بان قلنا نكون مخيرين في العمل بأي القولين شئنا، لان هذه المسألة مفروضة إذا كان الحق فيما عند الامام دون غيره من الاقوال، ويكون من الامور المضيقة، وانما يجوز ما قدمناه اولا إذا كان من باب ما يجوز التخيير فيه، ولا تنافى بين المسألتين. وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه اخيرا: ” انه يجوز أن يكون الحق فيما عند الامام، والاقوال الاخر يكون كلها باطلة، ولا يجب عليه الظهور، لانه إذا كنا نحن السبب في استتاره، فكلما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الاحكام نكون قد اتينا من قبل نفوسنا فيه، ولو ازلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به، وادى الينا الحق الذي عنده ” (1). وهذا عندي غير صحيح، لانه يؤدي إلى الا يصح الاحتجاج باجماع الطائفة اصلا، لانا لا نعلم دخول الامام فيها الا بالاعتبار الذي بيناه، فمتى جوزنا انفراده عليه السلام بالقول ولا يجب ظهوره، منع ذلك من الاحتجاج بالاجماع.


(1) لم نعثر على هذا النص في كتب الشريف المرتضى المطبوعة ” كالذريعة ” و ” الامالى ” و ” مجموعة رسائله “، ولعل المصنف سمعه منه مشافهة، وجاء في (الذريعة 2: 606 – 605) ما مضمونه يقارب هذا (*)


[ 632 ]

فان قيل: كيف تعلمون اجماع الامامية على مسألة وهم منتشرون في اطراف الارض، وفي البلاد التي يكاد ينقطع خبر اهلها عن البلاد الاخر، وهل هذا الا متعذر مستحيل ؟ قيل له: السائل عن هذا السؤال لا يخلو من أن يريد به الطعن في الاجماع على كل حال، فان ذلك مما لا يصح العلم به على حال أو يريد اختصاص الامامية بهذا السؤال دون غيرهم: فان اراد الاول: فقوله يسقط، لان من هو في اطراف الارض وفي البلاد البعيدة، اخبارهم متصلة وخاصة العلماء منهم، لان الدين تراعى اقوالهم هم العلماء دون العامة الذين لا يعتبرون في هذا الباب، ولهذا لا يشك (1) احد من العلماء في الارض من يعتقد الفرض في غسل اعضاء الطهارة مرتين مرتين (2)، بل نعلم (3) اجماع العلماء في جميع المواضع على ان الفرض واحد من الغسلات، وكذلك نعلم انه ليس في الامة من يورث المال إذا اجتمع جد واخ للاخ دون الجد، لان المتقرر بين العلماء والذين اجمعوا عليه القول بان المال اما للجد كله أو بينهما، ولا يقول احد ان المال للاخ دون الجد، ونظاير ذلك كثيرة جدا من المسائل التي يعلم اجماع العلماء عليها، فمن اراد بهذا السؤال احالة ذلك فقد ابطل. وان اراد اختصاص الامامية بالسؤال: فذلك لا يخصهم لان على كل من اعتبر الاجماع مثل هذا السؤال، بل ان كان ذلك محالا في الامامية لانتشارهم في البلدان، كان ذلك في المسلمين كلهم اشد استحالة، لانهم اكثر واشد انتشارا، فعلم بذلك ان السؤال ساقط على الوجهين معا فان قيل: من الذي يجب أن يعتبر قوله إذا لم يتميز قول الامام المعصوم، ام اقول


(1) تشك في ان لا. (2) دفعتين. (3) يعلم. (*)


[ 633 ]

جميع الامامية، ام قول العلماء منهم ؟ قيل: إذا لم يتميز قول المعصوم يجب ان يراعى قول العلماء الذين يعرفون الاصول والفروع دون العامة والمقلدين، وانما قلنا ذلك لان الذي قوله حجة إذا كان هو الامام المعصوم، وكان هو عالما بجميع احكام الشريعة، ولابد أن يكون عالما بالاصول، ويجب أن يكون المراعى من يشتبه حاله بحاله عليه السلام، ومن لا يعرف الاصول ولا الفروع يعلم منه انه ليس بامام، وإذا علم انه ليس بامام معصوم وجب اطراح قوله ولا يلتفت إليه. وليس لاحد أن يقول: ان هذا يؤدى إلى ان اصحاب الحديث والفقهاء الذين لا يعرفون الاصول أن لا يعتد باقوالهم، وفي ذلك اسقاط قول اكثرهم. قلنا: لا يلزم ذلك، لان الفقهاء واصحاب الحديث على ضربين: ضرب منهم: يعلم انه لا يعرف الاصول، ولا كثيرا من الفروع (1) فان ذلك لا محالة يجب إطراح قوله، لانه قد علم انه ليس بامام. والضرب الاخر منهم: لا يعلم ذلك من حالهم، بل يجوز أن يكونوا مع كونهم متظاهرين بالحديث والفقه قيمين بالاصول وعارفين بها، فإذا شككنا في حالهم وجب اعتبار اقوالهم لجواز أن يكون الامام في جملتهم. والذي يجب أن يراعى اقوالهم فيه هو: كل شئ لا يصح أن يعلم الا من جهة السمع، لان ما لا يعلم وجود قبل حصول العلم به لا يصح أن يعلم بقول الامة التي قول المعصوم داخل فيها وذلك مثل التوحيد، والعدل، وجميع صفات القديم، لان العلم بان هاهنا معصوما يفتقر إلى تقدم هذه العلوم، ومتى لا يقدم لا يمكننا ان نعلم ان هاهنا معصوما، لان ذلك فرع على حكمة الله تعالى وعدله، وانه لابد ان يزيح علة المكلفين بنصب رئيس لهم معصوم، وذلك لا يمكن أن يعلم بالاجماع على حال.


(1) في الاصل: الفروض. (*)


[ 634 ]

واما (1) النبوة فقد كان يصح أن يعلم باجماع الامة الذين قول المعصوم داخل في جملتها، لان ذلك [ لا ] يفتقر (2) إلى العلم بالنبوة، لانا إذا علمنا ان الله تعالى حكيم وعدل لابد أن نعلم انه يزيح علة المكلفين في التكليف بنصب رئيس معصوم لهم ليكونوا متمكنين مزاحي العلة فيما كلفوه، فإذا علمنا ذلك، واجمعوا على نبوة شخص، يعلم باجماعهم نبوته. فان قيل: كيف يصح هذا القول والامام عينه الا بنص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لان الله تعالى يعلمه ذلك بالوحي والامام لا يوحى إليه، فيعلم انه امام، فكيف يدعى انه امام، وكيف يعلم صحة دعواه ؟ قيل له: اما العلم بكونه اماما، فقد يحصل لنا العلم المعجز الذي يظهره الله تعالى على يده، يتضمن تصديقه فيما يدعيه ويدعى هو انه الامام المعصوم الذي لا يخلو الزمان منه، واظهار المعجزات يجوز عندنا على الائمة والصالحين ايضا، وقد دللنا على ذلك في كتاب ” تلخيص الشافعي ” (3). فأما الامام نفسه فانما يعلم كونه اماما – إذا كان ممن لا يوحى إليه على ما (4) في السؤال – بقول نبى يتقدمه، ثم ينص هو على من بعده، وكذلك في مستقبل الاوقات، فإذا اجمعوا على قول كان معصوم العصر فيه على نبوة نبى آخر علم صحة نبوته، ولا يحتاج إلى علم معجز، بل كان ذلك كافيا في العلم بصدقة. وقد يجوز أن يكون الامام الاول نبيا، لانه لا تنافى بين المنزلتين، بل يصح اجتماعهما، وإذا جاز ذلك فإذا فرضنا ان اول الائمة نبى جاز أن يعلم امامة من بعده، وكذلك نبوة من يأتي في المستقبل بنص عليه أو باعتبار الاجماع الذي يدخل فيهم. فان قيل: هذا القول يؤدى إلى ان العقل لا ينفك من السمع، لانه إذا كان لابد


(1) فأما. (2) في الاصل: يفتقر والصحيح ما اثبتناه. (3) تلخيص الشافعي 1: 136 – 132. (4) في الحجرية زيادة قرر. (*)


[ 635 ]

للمكلفين من امام معصوم في كل حال وفي اول حال التكليف، ولابد لهم من امام ولا يعلم كونه اماما الا بنبوته أو بنبوة من تقدمه فينص عليه، فقد صار التكليف لا ينفك من السمع، وذلك يأباه كثير منكم ! قيل: من اصحابنا من قال بذلك، فعلى مذهبه سقط السؤال: ومن قال: انه لم يجوز أن يخلو العقل من السمع (1)، فانما يريد بذلك السمع الشرع الذي يتضمن العبادات والاحكام، فاما سمعا يتضمن الدلالة على عين الامام المعصوم فانه لا يجيز احد من الطائفة خلو التكليف منه، وعلى هذا المذهب ايضا قد سقط السؤال. فاما كيفية اجماعهم فيكون على ضروب: منها: ان يجمعوا على مسألة قولا، فيعلم بذلك صحة المسألة. ومنها: أن يجمعوا عليها فعلا، فيعلم بذلك ايضا صحتها. ومنها: ان يجمعوا عليها قولا وفعلا، بأن يقول بعضهم ويفعل بعضهم، فيعلم بذلك ايضا صحتها. ولابد (2) في هذه الوجوه كلها أن يعلم انهم لم يجمعوا على ذلك بضروب من التقية، لان ما يوجب التقية يحمل على اظهار القول بغير الحق، وكذلك يحمل على كل فعل وان كان الحق في خلافه، فلذلك شرطنا فيه ارتفاع التقية. ومنها: أن يعلم رضاهم بالمسألة واعتقادهم بصحتها، فان ذلك ايضا يدل على صحتها. وهذا الوجه لا يحتاج أن يعلم منه زوال التقية، لان الرضا من افعال القلوب، والتقية لا تحمل على ذلك، وانما تحمل على افعال الجوارح.


(1) قال الشيخ المفيد في ” أوائل المقالات: 44 “: (اتفقت الامامية على ان العقل محتاج في علمه ونتائجه إلى السمع وانه غير منفك عن سمع ينبه العاقل على كيفية الاستدلال، وانه لابد في اول التكليف وابتدائه في العلم من رسول). (2) في الحجرية زيادة: حينئذ. (*)


[ 636 ]

ولا يجوز ان يجمعوا على الذهاب عما يجب ان يعلموه، لان الامام يجب عندنا ان يكون عالما بجميع ما نصب فيه وجعل حاكما فيه، فلا يجوز أن يكون امر يجب أن يعلم فلا يعلمونه كلهم، لان ذلك يؤدى إلى نقض كون الامام عالما بجميع الاحكام، ويؤدى ايضا إلى نقض كون المعصوم في جملتهم، لان المعصوم لا يجوز أن يخل بما تجب معرفته. فاما ما لا يجب العلم به، فلا يمتنع ان يذهب عن جميعهم، لانه ليس هاهنا وجه يوجب علمهم بذلك. وإذا قلنا: ان المراعى في اجماع الطائفة باجماع العلماء بالاصول والفروع، فلا ينبغي أن يعتبر قول من ليس هو من جملة العلماء. فان كان هناك من لا يعلم حاله، وهل هو عالم بذلك أم لا ؟ ويكون قوله مخالفا لقول الباقين، فينبغي أن يكون خلافه خلافا، لانا لانامن أن يكون ممن يعلم جميع ذلك، وإذا جوزنا أن يكون عالما بجميع ذلك، جوزنا أن يكون اماما، وإذا جوزناه اماما لم يمكن اسقاط خلافه. واعلم ان الطائفة إذا اختلتف على قولين، وجوزنا كون المعصوم داخلا في كل واحد من الفريقين، فان ذلك لا يكون اجماعا. ولاصحابنا في ذلك مذهبان: منهم من يقول: إذا تكافأ الفريقان، ولم يكن مع احدهما دليل يوجب العلم، أو يدل على ان المعصوم داخل معهم فيه، سقطا جميعا، ووجب التمسك بمقتضى العقل من حظر أو اباحة على اختلاف مذاهبهم. وهذا المذهب ليس بقوى عندي، لانهم إذا اختلفوا على قولين علم ان قول الامام موافق لاحدهما لا محالة، لانه لا يجوز أن يكون قوله خارجا عن القولين، لان ذلك ينقض كونهم مجمعين على قولين، وإذا علمنا دخول قول الامام في جملة القولين، كيف يجوز اطراحها والعمل بمقتضى العقل ؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يتعين ايضا قول الامام، ومع ذلك يجوز لنا تركه والعمل بما في العقل، وذلك باطل بالاتفاق.


[ 637 ]

ومنهم من يقول: نحن مخيرون في الاخذ بأي القولين شئنا، ويجرى ذلك مجرى خبرين تعارضا، ولا يكون لاحدهما مزية على الاخر، فانا نكون مخيرين في العمل بهما، وهذا الذي يقوى في نفسي. ومتى قيل بالمذهب الاول، فمتى فرض اجماعهم بعد ذلك على احد القولين كان جائزا، ويعلم باجماعهم صحة ذلك القول، وان الاخر لم يكن صحيحا، ووجب المصير إلى ما اجمعوا عليه. ومتى قلنا بالمذهب الاخير، لم يجز أن يجمعوا على احد القولين، لانهم لو اجمعوا على احدهما لدل ذلك على ان القول الاخر باطل، وقد قلنا انهم مخيرون في العمل بايهما شاءوا، واجماعهم على احدهما ينقض ذلك. ولسنا ممن يقول: انهم يقولون بالقولين اجتهادا ثم يؤدى اجتهادهم إلى احد القولين فيجمعوا عليه، لان ذلك انما يصح على مذهب من يقول بالاجماع، ولم يراع قول المعصوم الذي نراعيه (1). فاما إذا اجمعوا على قول، فلا يجوز أن يراعى الخلاف الذي يحدث بعده، لان بالاجماع الاول علم قول المعصوم في تلك المسألة، وإذا علم علم أنه هو الحجة، فكل قول يخالفه يجب أن يحكم بفساده. وكذلك إذا اجمعوا على قولين، فاحداث القول الثالث والرابع ينبغي أن يكون فاسدا، لان قول المعصوم موافق للقولين، والقول الثالث والرابع بخلافه، فينبغي أن يحكم بفساده. ولا يجوز أن تجمع الامة على مسألتين مخطئة فيهما، لا على مذهبنا ولا على مذهب من خالفنا: فاما على مذهبنا: فلانه لابد أن يكون قول الامام مع احدهما، ولا يجوز مع ذلك أن يكو خطأ.


(1) في اللاصل: يراعيه (*)


[ 638 ]

واما على مذهب مخالفينا: فلا يجوز ذلك، قالوا: لان النبي عليه السلام نفى عنهم الخطأ خطأ عاما، ولم يخص واحدا دون ما زاد عليه، فوجب نفيهما معا. ولان في ضمن ذلك الاجماع على نفيهما القول بما هو الحق. مثال ذلك: ان تفترق الامة فرفتين، فرقة تقول المال للاخ دون الجد، فذلك خطأ لا محالة، والاخرى تقول ان النصف للجد لا محالة على جميع الاحوال، لان في القول بهذين المذهبين خروجا عن الاجماع الذي هو ان المال اما للجد كله أو هو كواحد منهم (1)، وذلك [ فاسد ] (2) بالاتفاق. * (هامسش) * (1) أو هو لواحد منهم. (2) زيادة من النسخة الثانية. (*)


[ 639 ]

فصل [ 3 ] ” فيما يتفرع على الاجماع، من حيث كان اجماعا عند من قال بذلك، كيف القول على ما نذهب إليه ؟ ” فمن ذلك: انهم إذا اجمعوا على الاستدلال بدليل أو دليلين هل يجوز أن يستدل بغير ما استدلوا به ام لا. ؟ فالذي نذهب إليه: انه لا يستبعد (1) أن يستدل بدليل آخر إذا كان مما يوجب العلم، اما من جهة عقل (2)، أو قران، أو سنة مقطوع بها، وانما قلنا ذلك لان اجماعهم على الاستدلال بدليل انما يدل على صحة ذلك الدليل وكونه موجبا للعلم، وذلك لا يمتنع من أن يكون هناك دليل اخر لم يجمعوا عليه. اللهم الا أن نفرض المسألة فيقال: فإذا اجمعوا على انه لا دليل سواه، هل يجوز الاستدلال بدليل آخر ؟ فنقول حينئذ: ان ذلك لا يجوز، لان اجماعهم على انه لا دليل غير ما استدلوا به يوجب العلم، بان ما عدا ذلك الدليل شبهة، فلا يصح الاستدلال بها. فان قيل: لو كان هناك دليل اخر لما وسع المعصوم الا يبينه ويترك الاستدلال


(1) لا يمتنع. (2) حجة عقل. (*)


[ 640 ]

به حتى يستدركه انسان آخر ! قيل له: انما يجب أن يبين المعصوم ما يقف ازاحة العلة عليه، وقد بين ما هو دليل موجب للعلم وهوما اجمعوا عليه، فاما غيره من الادلة فقد سبق بيانه من الله تعالى ومن الرسول، وجاز أن لا يجدد المعصوم بيانه، وانما يجب عليه بيان ما لا يكون هناك ما يقوم مقامه. فان قيل: فعلى هذا كان يجوز أن لا يبين ايضا ما قد بينه (1) واجمعوا عليه، لان هناك ما يقوم مقامه في ازاحة العلة، وهو الذي استدل به من بعد (2). قيل: كذلك نقول، ولو لم نبين اصلا شيئا إذا هناك طريق للمكلف إلى علم ما كلفه لكان ذلك جائزا سائغا، وانما يجب عليه بيان ما هو موقوف عليه، ولا يكون هناك ما يقوم مقامه. ومن ذلك: انهم إذا اجمعوا على العمل بخبر هل يقطع على صحة ذلك الخبر ام لا ؟ وهل يعلم انهم قالوا ما قالوه لاجل الخبر ام لا ؟ فالذي نقوله في ذلك انهم إذا اجمعوا على العمل بمخبر خبر، وكان الخبر من اخبار الاحاد – لانه إذا كان من باب المتواتر فهو يوجب العلم فلا يحتاج إلى الاجماع فيكون قرينه في صحته – فانه يحتاج أن ينظر في ذلك: فان اجمعوا على انهم قالوا ما قالوه لاجل ذلك الخبر، قطعنا بذلك على ان الخبر صحيح صدق. وان لم يظهر لنا من اين قالوه، ولا ينصوا لنا على ذلك، فانا نعلم باجماعهم ان ما تضمنه الخبر صحيح، ولا يعلم بذلك صحة الخبر، لانه لا يمتنع أن يكونوا قالوا بما وافق مخبر الخبر بدليل اخر، أو خبر اخر اقوى منه في باب العلم، أو سمعوه من الامام المعصوم عليه السلام فاجمعوا عليه ولم ينقلوا ما لاجله اجمعوا اتكالا على


(1) بيناه. (2) من بعد. (*)


[ 641 ]

الاجماع، وكل ذلك جائز فيجب بذلك التوقف في هذا الخبر ولا يقطع على صحته، ويجوز كونه صدقا وكذبا، وان قطعنا على ان مخبره صحيح يجب العمل به. ومتى فرضنا على انهم اجمعوا على انه ليس هناك ما لاجله اجمعوا على ما اجمعوا عليه غير هذا الخبر، فان هذا يوجب القطع على صحة ذلك الخبر، لان ذلك يجرى مجرى ان يقولوا اجمعنا لاجل هذا الخبر، لانه لا فرق بين ان يسندوا اجماعهم إلى الخبر بعينه فيعلم به صحته، ومن (1) أن ينفوا إسنادهم (2) إلى سواه فان به يعلم ايضا صحته. فان قيل: كيف يجوز أن يجمعوا على مخبر خبر ثم لا ينقلوه اصلا، وهو اصل لصحة اجماعهم. قلنا: يجوز ذلك لان اجماعهم اقوى من ذلك، لانه مقطوع به ولا يحتمل التأويل، ولو نقلوا ذلك الخبر لكان يجوز أن يصير خبرا واحدا فيخرج بذلك من باب كونه دلالة إلى أن يوجب غلبة الظن، فيعلم بذلك أن الاجماع اقوى. ومن ذلك (3): القول إذا ظهر بين الطائفة ولم يعرف له مخالف، هل يدل ذلك على انه اجماع منهم على صحة أم لا ؟ فالذي نقول: ان القول إذا ظهر بين الطائفة، ولم يعرف له مخالف، احتاج ان ينظر فيه: فان جوزنا أن يكون قول من نجوزه معصوما بخلافه، لا ينبغي أن نقطع على صحته. وان لم نجوز أن يكون قول المعصوم بخلافه، قطعنا على صحة ذلك القول. فان قيل: وأى طريق لنا إلى أن نعلم ان قول المعصوم يوافقه أو يخالفه ؟ * (هامش) (1) وبين. (2) إسناده. (3) أي ومما يتفرع على الاجماع من حيث كان إجماعا، وهذا هو الفرع الثاني وقد سبق للمصنف أن ذكر الفرع الاول في صفحة 639. (*)


[ 642 ]

قلنا: قد نعلم ذلك بأن يكون هناك دليل يوجب العلم يدل على صحة ذلك، فيعلم به ان القول موافق لقول المعصوم لمطابقته للدليل الموجب للعلم، وإذا كان هناك دليل يدل على خلاف ذلك القول علمنا ان المعصوم قوله يخالفه، وإذا خالفه وجب القطع على بطلان ذلك القول. [ فان عدمنا الطريقين معا، ولم نجد ما يدل على صحة ذلك القول ] (1) ولا على فساده، وجب القطع على صحة ذلك القول، وانه موافق لقول المعصوم، لانه لو كان قول المعصوم مخالفا له، لوجب أن يظهره والا كان يقبح التكليف الذي ذلك القول لطف فيه (2)، وقد علمنا خلاف ذلك.


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) إختلف المتكلمون في اصل اللطف، فالاشاعرة أنكروه وأثبته العدلية من الامامية والمعتزلة والزيدية، ويجب التنبيه إلى أن منشأ الخلاف بينهما يعود إلى أن اعدلية ترى أن اللطف يرتبط بأصل العدل ومبدأ خلق العباد لافعالهم، وأن اللطف واجب على الله تعالى، بينما ينكره الاشاعرة. والمقصود من اللطف عند العدلية هو الفعل الذي يقرب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لم يكن له حظ في التمكين ولا يبلغ حد الالجاء. وبعبارة اخرى: اللطف هو ان يمكن الله سبحانه العبد من الطاعة وذلك بتوفير القدرة والصحة له و إزالة الموانع التي تحول بينه وبين الطاعة، وكل هذا مترتب على التكليف، لان التكليف ليس الا تعريض العبد للثواب وإبعاده عن المعاصي والعقاب. فأذا عرضه الله للثواب فإنه لابد ان يمكنه من الحصول على هذا الثواب اقتضاء لعدله ورحمة بعباده، وجميع تعريفات العدلية من الامامية والمعتزلة تدور حول هذا المعنى، وهو الفعل الذي لولاه لما كان الانسان قريبا الى الطاعة بعيدا عن المعصية. وقسم القاضي عبد الجبار اللطف إلى قسمين: فإنه قد يسمى توفيقا وذلك حينما يوافق فعل الطاعة فيكون صاحبه موفقا، وقد يسمى عصمة حينما يمنع معه وقوع فعل المعصية على وجه الحتم، وهذا النوع من اللطف خاص بالانبياء، لكن الشيخ الطوسي قسم اللطف إلى التوفيق واللطف المجرد عن أي وصف سوى انه لطف لا غيره. ويترتب على تبعية اللطف للتكليف بناء على مذهب العدلية حرية الانسان في تصرفاته واختياره بأن لا يكون ممنوعا منه ولا ملجأ ومضطر إلى فعله، إذ لو كان اللطف يلجئ الانسان ويضطره إلى فعل الطاعة فإنه لا يسمى لطفا أذ لا يستحق المكلف حينئذ الثواب بالاختيار، وأيضا لو عجز عن احضار الفعل لوجود المانع فإنه لا يستحسن عقابه. ولم يشذ عن المعتزلة في القول باللطف إلا ضرار بن عمرو، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب. (*)


[ 643 ]

ومن قال من اصحابنا (1) على ما حكيناه عنهم فيما تقدم: ” انه لا يجب على المعصوم اظهار ما عليه من حيث ان من سبب غيبته هو المسبب لفوت ما يتعلق بمصلحته فيكون قد اتى من قبل نفسه، كما ان ما يفوته من الانتفاع بتصرف الامام وامره ونهيه قد اتى فيه من قبل نفسه ” ينبغي أن يقول: يجب أن يتوقف في ذلك القول، ويجوز كونه موافقا لقول الامام ومخالفا له، ويرجع في العمل إلى ما يقتضيه العقل حتى يقوم دليل يدل على وجوب انتقاله عنه. وقد قلت: ان هذه الطريقة غير مرضية عندي، لانها تؤدى إلى أن لا يستدل باجماع الطائفة اصلا، لجواز أن يكون قول الامام مخالفا لها، ومع ذلك لا يجب عليه اظهار ما عنده، وقد علمنا خلاف ذلك.


أما الاشاعرة المجبرة فإنهم لا يقولون بوجوب اللطف على الله تعالى ويقولون: حتى وان علم سبحانه أن المكلف يختار الايمان عند فعل اللطف فله أن يفعله وان لا يفعله بل هو متفضل به إن شاء فعله فيكون إنعاما على العبد وإن شاء لم يفعل. وفي المقام فإن المصنف حينما يقول: ” لانه لو كان قول المعصوم مخالفا… ” يقصد به هذا المفهوم الذي شرحناه على مذهب اهل العدل [ راجع: الشافعي في الامامة 1: 167 – 161 ]، فبناء على وجوب اللطف على الله تعالى، فإنه يجب بعثة الانبياء والاوصياء والائمة، ويجب على هؤلاء بيان التكاليف التي هي ألطاف للعباد ومقربهم إلى الثواب ومبعدهم عن العقاب. انظر: ” المغني للقاضي عبد الجبار 1: 291 و 13: 4 و 5 و 12، أوائل المقالات: 59، الانتصار للخياط: 64، اصول الدين للجرجاني: 144 – 130، الاقتصاد: 130، الذخيرة: 186 المواقف: 328، شرح الاصول الخمسة: 64 و 519 و 780، المنقذ من التقليد 1: 297). (1) القائل هو الشريف المرتضى (ره) حيث نقل المصنف رأيه بقوله: ” وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه أخيرا… ” في صفحة 631. (*)


[ 645 ]

الباب العاشر الكلام في القياس


[ 647 ]

فصل [ 1 ] ” في ذكر حقيقة القياس، واختلاف الناس في ورود العبادة به ” حد القياس: ” هو اثبات مثل حكم المقيس عليه في المقيس “. ولا فرق في ذلك بين أن يكون القياس عقليا أو شرعيا، وانما يختلفان من وجوه آخر سنذكرها، لا تؤثر في ان الحقيقة ما قلناه. والذي يدل على صحة ما قلناه من الحد: ان الانسان متى اثبت للفرع مثل حكم الاصل كان قايسا ومتى لم يثبت له مثل حكمه وان علم جميع صفاته لا يكون قايسا، فعلم بذلك ان الحقيقة ما قلناه. ” والاثبات ” الذي ذكرناه لامر يرجع إلى عرف الشرع، عبارة عن العلم وما جرى مجراه من الاعتقاد، ثم الخبر تابع لذلك، وهو في اصل اللغة (1) عبارة عن ” الايجاب ” كمايقال: ” اثبت السهم في القرطاس ” أي أوجبته، ثم يعبر عن الاعتقاد، والظن، والخبر (3)، لكن بعرف الشرع يجب أن يقصر على ما قلناه.


(1) في اغلب مصادر اللغة التي بين ايدينا أن ” الاثبات ” بمعنى الدوام، والاستقرار، والاقامة، والتحقق، والتاكد، ولم يرد بمعنى ” الايجاب من مرادفات المعاني التي ورد ذكرها في المصادر. (2) في جميع النسخ ” الايجاد ” وهو تصحيف والصحيح ما اثبتناه. (3) قال المصنف في صفحة 13: ” ويعبر ايضا في الخبر عن وجوب الشئ كما يقال في المجبرة أنهم مثبتة “. (*)


[ 648 ]

وفي الناس من قال: حد القياس هو: ” اثبات مثل حكم الاصل في الفرع بعلة جامعة بينهما ” (1). وهذا ايضا نظير لما قلناه، غير ان ما قلناه من العبارة اخصر (2) لان، قولنا: ” المقيس والمقيس عليه ” يغنى عن ذكر علة جامعة بينهما، لان لفظة المقيس تتضمن انه جمع بينهما بعلة فلا يحتاج ان يذكر في اللفظ، لانه متى لم يكن جمع بينهما بعلة لا يكون ذلك قياسا. وقد اكثر الفقهاء والاصوليون في حد القياس (3)، واحسن الالفاظ ما قلناه.


(1) هذا التعريف لابي الحسين البصري في ” المعتمد 2: 443 “. (2) في الاصل: أخص. (3) وإليك تعاريف جماعة من اعيان الاصولين والمتكلمين: 1 – القاضي أبو بكر الباقلاني: ” القياس حمل معلوم على معلوم في اثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من اثبات حكم اوصفة أو نفيهما ” وقد اختار هذا التعريف الجويني، والغزالي، والرازي، وقال الآمدي: هو مختار اكثر اصحابنا. 2 – القاضي عبد الجبار: ” القياس حمل الشئ في بعض احكامه بضرب من الشبهه “. 3 – أبو هاشم الجبائي: ” القياس حمل الشئ على غيره وإجراء حكمه عليه “. 4 – الشريف المرتضى: ” القياس إثبات حكم المقيس عليه للمقيس “، وإليه ذهب الشيخ الطوسي. 5 – أبو الحسين البصري: ” القياس هو اثبات حكم الاصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم “. 6 – أبو منصور الماتريدي: ” القياس إبانة مثل حكم احد المذكورين بمثل علة في الاخر بالرأي “. 7 – أبو إسحاق الشيرازي: ” القياس حمل فرع على اصل في بعض احكامه بمعنى يجمع بينهما “. 8 – ابن الحاجب: ” القياس مساواة فرع لاصل في علة حكمه “. 9 – سيف الدين الآمدي: ” القياس عبارة عن الاستواء بين الفرع والاصل في العلة المستنبطة من حكم الاصل “. 10 – ابن السبكي: ” هو حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه عند الحامل “. انظر: ” الرسالة: 476، الذريعة 2: 669، المعتمد 2: 195 و 443، اللمع: 93، شرح اللمع 2: 755، الاحكام للآمدي 3: 171 – 166، المنخول: 324 – 323، المستصفى 2: 54، الاحكام لابن حزم 7: 368 ميزان الاصول 2: 793، اصول السرخسي 2: 118، ارشاد الفحول: 295، الابهاج 3: 5 شرح المنهاج 2: 634، روضة الناظر: 247، تقريب الوصول: 131، مباحث العلة في القياس: 39 – 25 “. (*)


[ 649 ]

وللقياس شروط وهى: انه لابد أن يكون الاصل الذي هو المقيس عليه وحكمه معلومين. ويعلم ايضا الفرع الذي هو المقيس، والشبه الذي الحق احدهما بالاخر. وان كان القياس عقليا فلابد من كون العلة في الاصل معلومة كونها علة، وان كان شرعيا اجازه الفقهاء. ومن اثبت القياس أن تكون مظنونة، ويخالف القياس العقلي السمعى فيما يرجع إلى احكام العلة، لان العلة العقلية موجبة ومؤثرة تأثير الايجاب، والسمعية – عند من قال بها – ليست كذلك، بل هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار، ولا دخول للايجاب فيما يجري هذا المجرى، وهي في القياس العقلي لا تكون الا معلومة، وفي السمع لا يجب أن تكون معلومة، بل يجوز أن تكون مظنونة، ومتى علمت في العقلي علق الحكم بها، ولم يحتج في تعليق الحكم عليها إلى دليل مستأنف، وليس كذلك علة السمع فانها عند اكثرهم لا يكفى في تعليق الحكم بها في كل موضع ان تعلم، بل يحتاج فيها إلى التعبد بالقياس. وعلة السمع قد تكون ايضا مجموع اشياء، وقد يحتاج إلى شروط في كونها علة، وقد يكون علة في وقت دون وقت، وفي عين دون اخرى، والوقت واحد، عند من اجاز تخصيص العلة، وقد تكون العلة الواحدة علة للاحكام كثيرة. وكل هذا واشباهه تفارق فيه علة العقل لعلة الشرع. [ واختلف (1) الناس في القياس في الشريعة، فمنهم من نفاه، ومنهم من اثبته ] (2).


(1) يبدأ المصنف من هنا إلى نهاية بحث القياس في صفحة 719 بنقل نص كلام الشريف المرتضى في (الذريعة 2: 791 – 673) مع بعض التصرفات البسيطة التى لا تؤثر في تغيير معاني الاستدلالات التي اوردها المرتضى رحمه الله. (2) الزيادة من النسخة الثانية. وقد اختلف الاصوليون في حجية القياس وكونه أصلا ومصدرا للتشريع الفقهي وعدم ذلك، وقد كثر الحديث بين الفقهاء حول القياس وحجيته كثرة غير متعارفة وكتبت عنه المجلدات، (*)


[ 650 ]

واختلف من نفاه. فمنهم: من احال ورود العبادة به جملة، وانكر أن يكون طريقا لمعرفة شئ من الاحكام، وربما أحال من حيث تعلق بالظن (1) الذي يخطئ ويصيب، أو من حيث يؤدى إلى تضاد الاحكام وتناقضها. ومنهم: من ابطله من حيث لا سبيل إلى العلم بماله يثبت الحكم في الاصل، ولا إلى غلبة الظن في ذلك لفقد دلالة وامارة تقتضيه، وهذه الطريقة التي كان ينصرها


واهم المذاهب في ذلك مذهبان: المذهب الاول: إن القياس اصل من اصول التشريع ومصدر لاستنباط الاحكام الشرعية، وتعد حجة شرعية، بمعنى ان القياس اصل ودليل نصه الشارع ليستنبط منه من هو اهل الاستنباط الحكم الشرعي، وشأنه في ذلك شأن الكتاب والسنة والاجماع. وهذا هو رأي جمهور أهل السنة من السلف والخلف، ولكنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من يرى جوازه عقلا وشرعا، ومنهم من يرى وجوبه عقلا ويأتي الشرع مؤكدا له، وآخرون يرون وجوبه عقلا فقط وغيرهم يرى وجوبه عقلا وشرعا. المذهب الثاني: ان التعبد بالقياس مستحيل وممنوع عقلا وشرعا. وهذا رأي الامامية والظاهرية. وأما المذاهب المتفرعة عن هذين المذهبين فهي: 1 – القول بالمنع شرعا (لا عقلا) عن العمل بالقياس في الاستنباطات الشرعية، وهذا هو رأي الامامية استنادا الى تواتر اخبار اهل البيت – عليهم السلام – في الردع عن العمل به. 2 – القول باستحالة التعبد بالقياس عقلا، وهو رأي بعض المعتزلة كالنظام، والظاهرية. 3 – القول بوجوب التعبد بالقياس عقلا. 4 – القول بأنه لا حكم للعقل في القياس بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز. 5 – القول بوجوب التعبد به شرعا وإن لم يوجبوه من وجهة عقلية، وهذا قول بعض الشافعية. 6 – القول بالجواز العقلي ووقوع التعبد الشرعي، وهو قول جمهور اهل السنة. انظر ” المعتمد 2: 200 التبصرة: 419، المستصفى 2: 56 الاحكام للآمدي 4: 272، للمع: 930، شرح اللمع 2: 760، الذريعة 2: 675، التذكرة باصول الفقه: 38، روضة الناظر: 251، المنخول: 330، ميزان الاصول 2: 798 اصول السرخسي 2: 118، ارشاد الفحول: 296، الابهاج 3: 11، شرح المنهاج 3: 638، الاصول العامة للفقه المقارن: 358 – 303، مباحث العلة في القياس: 55 – 40 والمصادر الواردة فيه، ملخص ابطال القياس والرأي لابن حزم، الاحكام لابن حزم 7: 483 – 368 و 8: 519 – 487 “. (1) في الاصل: بطن. (*)


[ 651 ]

الشيخ المفيد رحمه الله (1). ومن الناس: من اجاز التعبد به، ونفاه (2) من حيث وقعت الشريعة على وجه لا يسوغ معه القياس، وهذه الطريقة محكية عن النظام (3). وذهب بعض اصحاب الظاهر من داود وغيرهم: إلى انه لا يجوز أن يقتصر الله تعالى بالمكلف على ادون البيانين رتبة مع قدرته على اعلاهما (4) ومنهم: من نفاه مع اجازته ورود العبادة به من حيث لم يثبت التعبد به، أو من حيث ورود السمع بخلافه (5). فاما من اثبته فاختلفوا: فمنهم: من اثبته عقلا، وهم شذاذ غير محصلين (6). ومنهم: من اثبته سمعا وزعم ان العقل لا يدل على ثبوته، وهم المحصلون من مثبتى القياس، وفيهم الكثرة من الفقهاء والمتكلمين (7)، وكلامهم اقوى شبهة.


(1) شيخنا أبو عبد الله (2) في الاصل: انفاه. (3) روي عن النظام قوله: ” ان الله عز وجل قد دل بوضع الشريعة على انه منعنا من القياس لانه فرق بين المتفقين وجمع بين المفرقين، فاباح النظر الى شعر الامة الحسناء وحظر النظر إلى شعر الحرة وإن كانت شوهاء… ” وتابعه على هذا الرأي قوم من المعتزلة البغداديين فمنهم يحيى الاسكافي، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب. انظر ” المعتمد 2: 230، التبصرة: 419، الاحكام 4: 272 “. (4) قال الزرشكي في ” البحر المحيط ” نقلا عن ابي منصور ان داود قال ” لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة، أو مدلول عليه بفحوى النص ودليله، وذلك مغن عن القياس ” انظر ” المعتمد 2: 208 التبصرة: 424 هامش رقم (2) (5) انظر المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (3) صفحة 648. (6) ذهب أبو الحسين البصري، والقفال الى ان العقل يدل على ورود التعبد بالقياس، ونسبه الشيرازي في اللمع لابي بكر الدقاق. انظر: ” اللمع: 93، شرح اللمع 2: 760، الاحكام 4: 272، المعتمد 2: 200 “. (7) انظر ” التبصرة: 425 – 424، الذريعة 2: 675، اللمع: 93، شرح اللمع 2: 761، الاحكام للآمدي 4: 272، المعتمد 2: 215، روضة الناظر: 251، المنخول: 330، ميزان الاصول 2: 798، اصول السرخسي 2: 118، (*)


[ 652 ]

والذي نذهب إليه، وهو الذي اختاره المرتضى رحمه الله (1) في كتابه (2) في ابطال القياس: ” ان القياس محظور استعماله في الشريعة، لان العبادة لم تأت به، وهو مما لو كان جائزا في العقل مفتقرا في صحة استعماله في الشرع إلى السمع القاطع للعذر (2). ويلحق بهذا في القوة الطريقة التى كان ينصرها شيخنا (3) رحمه الله من منع حصول الظن وفقد الامارات التي يحصل عندها الظن. وذكر المرتضى رحمه الله ان لهذه الطريقة بعض القوة (4). ونحن نتكلم على هذه المذاهب كلها على وجه الاختصار، ثم نبين نصرة ما اخترناه من بعد انشاء الله.


إرشاد الفحول: 296، الابهاج 3: 11، شرح المنهاج 2: 638 “. (1) سيدنا المرتضى رحمه الله. (2) قال الشريف المرتضى في كتاب ” الذريعة إلى اصول الشريعة ” 2: 675. (والذي نذهب إليه ان القياس محظور في الشريعة استعماله، الان العبادة لم ترد به، وإن كان العقل مجوزا ورود العبادة باستعماله). (3) هو أبو عبد الله محمد بن النعمان، الشيخ المفيد – رحمه الله – حيث قال في التذكرة بأصول الفقه: 38 “: ” فأما القياس والرأي فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما، ولا يخصان عاما، ولا يعمان خاصا، ولا يدلان على حقيقة “، وقد شرح الشريف المرتضى في (الذريعة 2: 683 – 681) استدلال الشيخ المفيد على ابطال القياس شرحا وافيا. (4) الذريعة 2: 683. (*)


[ 653 ]

فصل [ 2 ] ” في الكلام على من احال القياس عقلا على اختلاف عللهم ” اما من عقلا (1) من حيث لا يمكن بأن يكون طريقا لمعرفة الاحكام، فنحن إذا بينا ان ذلك ممكن جرى مجرى سائر الادلة من النصوص وغيرها من الكتاب والسنة والذي يدل على صحة معرفة الاحكام به: انه لا فرق في صحة معرفتنا بتحريم النبيذ المسكر بين أن ينص الله على تحريم المسكر من الانبذة، وبين أن ينص على تحريم الخمر وينص على ان العلة في تحريمها شدتها، أو يدلنا بدليل غير النص على انه حرم الخمر لهذه العلة، أو ينصب لنا امارة تغلب عند نظرنا فيها ظننا ان تحريمها لهذه العلة، مع ايجاب القياس علينا في الوجوه كلها، لان بكل طريق من هذه الطرق نصل إلى المعرفة بتحريم النبيذ، فمن دفع جواز العبادة باحدها كمن دفع جواز ورودها بسائرها. ولما ذكرناه امثال في العقليات، لانه لا فرق في العلم بوجوب تجنب سلوك بعض الطرق بين أن نعلم فيه سبعا مشاهدة، وبين أن نعلمه بخبر يوجب العلم، أو


(1) وهم جمهور فقهاء العامة، إلا الظاهرية ونفر قليل لا يعتد العامة بآرائهم. انظر اقوالهم واستدلالاتهم في المصادرر الواردة في هامش رقم (7) صفحة 651. (*)


[ 654 ]

خبر يقتضى الظن، والافضل (من) (1) جميع ذلك في الحكم، الذي ذكرناه، ما (2) بين أن ينص لنا على صفة الطريق الذي فيه السبع، أو ينصب لنا امارة على تلك الصفة. فاما من احاله من حيث تعلق بالظن الذي يخطئ ويصيب، فينقض قوله بكثير من الاحكام في العقل والشرع يتعلق بالظن، الا ترى انا نعلم في العقل (3) حسن التجارة عند ظن الربح، ونعلم قبحها عند الظن للخسران (4)، ونعلم قبح سلوك الطريق عند غلبة الظن بان فيه سبعا أو لصا أو ما يجرى مجراهما، ونعلم وجوب النظر (5) في طريق معرفة الله تعالى عند دعا الداعي، أو الخاطر (6) الذي يحصل عنده الظن والخوف، ووجوب معرفة الرسل والنظر في معجزاتهم على هذه الوجه. فاما تعلق الاحكام الشرعية بالظن فاكثر من أن تحصى، نحو وجوب التوجه إلى القبلة عند الظن بانها في جهة مخصوصة، وتقدير النفقات، وارش الجنايات، وقيم المتلفات، والعمل بقول الشاهدين. ويجب أن يعلم ان الظن وان كان طريقا إلى العلم بوجوب احكام على نحو ما ذكرنا، وساوى هذا الوجه العلم، لانه لا فصل بين أن نظن جهة القبلة، وبين أن نعلمها في وجوب التوجه إليها، وكذلك لا فصل بين أن نظن الخسران في التجارة أو نعلمه في قبحها، فانه لا يساوى العلم من وجوه اخر ولا يقوم فيها مقامه، لان الفعل الذي يلزم المكلف فعله لابد أن يكون معلوما له، أو في حكم المعلوم بأن يكون متمكنا من العلم به، أو يكون سببه معلوما إذا تعذر العلم بعينه. ولابد ايضا ان يعلم وجوبه ووجه وجوبه اما على جملة أو تفصيل.


(1) بين. (2) و. (3) بالعقل. (4) بالخسران. (5) في الاصل: الظن. (6) في المصدر: أو خطور الخاطر. (*)


[ 655 ]

والظن في كل هذه الوجوه لا يقوم مقام العلم، لانه متى لم يكن عالما بما ذكرناه أولا، أو متمكنا من العلم به، لم يكن علته مزاحة فيما يعتدى به وجرى مجرى الا يكون قادرا، لانه متى لم يعلم الفعل ويميزه لم يتمكن من القصد إليه بعينه، وبالظن لا يتميز الاشياء، وانما تتميز بالعلم، ومتى لم يكن عالما بوجوب الفعل كان مجوزا كونه غير واجب، فيكون متى اقدم عليه مقدما على ما لا يأمن كونه قبيحا، والاقدام على ذلك في القبح يجرى مجرى الاقدام على ما يعلم قبحه. ومتى علم كونه واجبا، فلابد من أن يعلم وجه وجوبه على جملة أو تفصيل، لانه لو كان ظانا لوجه وجوبه كان مجوزا انتفاء وجه الوجوب عنه، ودعا الامر إلى تجويز كونه غير واجب. وهذه الجملة إذا تؤملت بطل بها قول من انكر تعلق الاحكام بالظنون. ومن توهم على من سلك هذه الطريقة انه قد اثبت الاحكام بالظنون فقد ابعد نهاية البعد، لان الاحكام لا تكون الا معلومة ولا تثبت الا من طريق العلم، إلا أن الطريق إليها قد يكون تارة العلم واخرى الظن، لانا (1) إذا ظننا في طريق سبعا وجب علينا تجنب سلوكه، فالحكم الذي هو قبيح سلوكه ووجوب تجنبه معلوم لا مظنون. وان كان الطريق إليه هو الظن، ومتعلق الظن غير متعلق العلم، لان الظن يتعلق بكون السبع في الطريق، والعلم يتعلق بقبح سلوك الطريق، والقول في العلم بوجوب التوجه إلى جهة القبلة عند الظن بانها في بعض الجهات يجرى على ما ذكرناه، ويكون الحكم فيه معلوما وان كان الطريق إليه مظنونا. فاما من منع من القياس من حيث يؤدى إلى تضاد الاحكام، فاعتماده على أن يقول: إذا كان للفرع شبه باصل محرم واصل محلل، فلابد على مذهب القايسين (2) من رده اليهما جميعا، وهذا يؤدى في العين الواحدة إلى أن يكون محرمة محللة.


(1) الاننا. (2) القائلين بالقياس. (*)


[ 656 ]

ومن اثبت القياس يقول في جواب ذلك ان كان الفرع مشتبها لاصل محرم واصل محلل عند اثنين، لزم كل واحد منهما ما اداه اجتهاده إليه، فيلزم التحريم من اشبه عنده الاصل المحرم، والتحليل من اشبه عنده الاصل المحلل، ولا تضاد في ذلك وان (1) اشبه الاصلين المختلفين عند واحد، فهو عند كثير منهم يكون مخيرا بين الامرين، فايهما اختار لزمه، كما يقال في الكفارات الثلاث، ولا تضاد في ذلك. وعند قوم منهم: انه لابد في هذا الموضع من ترجيح يقتضى حمل الفرع على احدهما دون صاحبه. فاما من ابطل القياس من حيث لا طريق إلى غلبة الظن في الشريعة – وهي الطريقة التى حكيناها عن شيخنا رحمه الله – فوجه اعتماده عليها ان نقول: من قد علمنا أن القياس لابد فيه من حمل فرع على اصل بعلة أو شبه والعلة التي يتعلق الحكم بها في الاصل لا يصح من أن يكون طريق اثبات كونها علة العلم أو الظن، والعلم لا مدخل له في هذا الباب. وجميع من اثبت القياس في الشرع – الا الشذاذ منهم – يجعلون العلة المستخرجة المستدل عليها تابعة للظن، وانما يجعلها معلومة من طريق الاستخراج من حيث اعتقد ان العلل الشرعية ادلة توصل إلى العلم كالعقليات، وقول هؤلاء واضح البطلان لا معنى للتشاغل به. ولانا إذا بينا ان الظن لا يصح حصوله في علل الشرع، فالاولى ان لا يحصل العلم، وان كان العلة تثبت علة بالظن، فنحن نعلم ان الظن لابد له من امارة وطريق، وإلا كان مبتدا لا حكم له. وليس في الشرع امارة على ان التحريم في الاصل المحرم انما كان لبعض صفاته، فكيف يصح ان يظن ذلك ؟ وليس هذا ما لا يزالون يمثلون به من ظن الربح، والخسران، أو التجارة، أو الهلاك، وان القبلة في جهة مخصوصة، وغلبة الظن في قيم


(1) في الاصل: ما إن. (*)


[ 657 ]

المتلفات، وارش الجنايات التي يستند الظن فيها إلى عادات، وتجارب، وامارات معلومة متقررة، ولهذا نجد من لم يتجر قط ولم يخبره مخبر عن احوال التجارة لا يصح ان نظر فيها ربحا ولا خسرانا، وكذلك من لم يسافر ولم يخبر عن الطريق لا يظن نجاة ولا عطبا، ومن لم يعرف امارة في القيم يمارسها لا يظن ايضا فيها شيئا. وجميع ما يغلب فيه الظنون متى تأملته وجدته مستندا إلى ما ذكرناه مما لا يصح دخوله في الشرعيات على وجه ولا سبب. ولقوة ما اوردناه، ما قال قوم من اهل القياس: ان العلل الشرعية لا تكون الا منصوصا عليها اما صريحا أو تنبيها (1)، ونزل الباقون رتبه فقالوا: لا تثبت الا بادلة شرعية. والذي يمكن أن يقرض به على هذه الطريقة ان يقال: من اعتمد هذه الطريقة على هذا التلخيص لابد من أن يكون مجوزا للعبادة به ومعرفة الاحكام من جهته لو حصل الظن الذي منع من حصوله، ولابد من ان يقول: ان الله تعالى لو نص على العلة، أو امر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالنص عليها، وتعبد بالقياس لوجب حمل الفروع على الاصول. بل الذاهب إلى هذه الطريقة ربما (2) يقول: لو نص الله تعالى على العلة في تحريمه مثلا للخمر وذكر انها الشدة، لوجب حملها فيه هذه العلة عليها وان لم يتعبد بالقياس، لانه يجرى مجرى ان ينص على تحريم كل شديد. وان كان هذا غير صحيح، لان العلل الشرعية انما تنبئ عن الدواعى إلى


(1) هذا الشرط ذكره بعض الشافعية وبعض الحنفية، وهو مذهب المالكية، وعللوا لهذا الشرط بأن المقصود من الوصف المعلل به إثبات الحكم في الفرع، ومتى كان خفيا في الاصل فإنه لا يمكن إثبات الحكم به في الفرع. انظر المصادر التي ورد ذكرها في كتاب (مباحث العلة: 203) وهي: ” البحر المحيط 3: 180، تيسير التحرير 3: 302، مفتاح الوصول: 171، جامع الجوامع 2: 234 نشر البنود 2: 132 “. (2) في الاصل: وإنما (*)


[ 658 ]

الفعل، أو عن وجه المصلحة. وقد يشترك الشيئان في صفة، فيكون في احدهما داعية إلى فعله دون الاخر مع ثبوتها فيه، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة، وقد يدعو الشئ إلى غيره في حال دون حال، وعلى وجه وقدر دون [ وجه ] (1) وقدر (2) وهذا معروف في الدواعى، ولهذا جاز أن نعطى لوجه الاحسان فقيرا دون فقير، ودرهما دون درهم، وفي حال دون حال، وان كان فيما لم نفعله الوجه الذي لاجله فعلنا بعينه. فإذا صحت هذه الجملة، لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي، وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه، إذ قد بينا ان ماله كان صلاحا وداعيا إلى الفعل لا يمكن ان يشترك فيه المختلفان في هذا الحكم. وليس لاحد ان يقول: إذا لم يوجب النص على العلة التخطي كان عبثا. وذلك انه يفيدنا ما لم نكن نعلمه لولاه، وهو ماله كان الفعل المعين مصلحة. وفي الناس من فضل بين داعى الفعل وداعي الترك فقال: إذا كان النص على علة الفعل لم يجب القياس الا بدليل مستأنف – وان كان واردا بعلة الترك – وجب التخطي من غير دليل مستأنف، وفصل بين الامرين بان ماله يترك احدنا الفعل له، يترك غيره إذا شاركه فيه، لانه لا يجوز أن يترك اكل السكر لحلاوته ويأكل شيئا حلوا، ولا يجب هذا في الفعل لانه قد يفعل الفعل لامر يثبت في غيره وان لم يكن فاعلا له. وهذا صحيح لا شبهة فيه، ومتى كان النص الوارد بالعلة كاشفا عن الداعي ووجه المصلحة، أو عن الداعي فقط، فاما ان كان مختصا بوجه المصلحة لم يجب ذلك لان الدواعى [ قد يتفق تارة وتختلف وجوه المصالح وتختلف الدواعي ] (2) مع


(1) وعلى وجه دون وجه، وقدرا دون قدر. (2) زياد من النسخة الثانية. (*)


[ 659 ]

إتفاق وجوه المصالح. واقوى ما يدخل على هذه الطريقة ان يقال: قد بينتم استناد الظنون إلى العادات والتجارب، وان الشرع لا يتم ذلك فيه، وهذا صحيح، فلم انكرتم ان تحصل فيه طريقة يحصل عندها الظن وان لم تكن عادة ولا تجربة ؟ بل يجرى في حصول الظن عندها مجرى ما ذكرتم، وهذا مثل ان نجد العين المسمات خمرا يحصل على صفاته كثيرة، فتكون مباحة غير محرمة، فمتى وجدت فيها الشدة المخصوصة حرمت، ومتى خرجت عن الشدة بأن تصير خلا حلت، فيظن عند ذلك ان العلة هي الشدة، لان الذي ذكرناه من حالها امارة قوية على كونها علة، فمتى انضم إلى هذا الظن التعبد بالقياس وان يحمل ما حصل فيه علة التحريم من الفروع على الاصول، ساغ القياس وصح ولم يمنع منه مانع. وهكذا إذا رأينا بعض صفات الاصل هي المؤثرة في الحكم المعلل دون غيره، كانت بان تجعل علة أولى من غيرها، وقوي الظن في انها العلة. مثال ذلك: انا إذا اردنا ان نعلل ولاية المرأة على نفسها وملكها لامرها، ووجدنا بلوغها هو المؤثر في هذا الحكم مع سلامة احوالها في الحرية والعقل دون كونها مزوجه، لان التزويج متى اعتبر لم يوجد له تأثير في باب الولاية وما يرجع إليها، وللبلوغ التأثير القوى فيها جعلناه العلة دون التزويج. ويكفى ان يقال لمعتمدي هذه الطريقة: لم زعمتم ان الظن إذا استند في بعض المواضع إلى عادة فانه لا يقع في كل موضع الا على هذا الوجه، وان العادة لا يقوم مقامها غيرها ؟ فانهم لا يجدون معتصما ! ويمكن ايضا ان يقال لهم: خبرونا عمن ابتداه الله تعالى كاملا في بعض الدور، معه صاحب له، جالس عنده، وهو لا يعرف العادات، ولا سمع الاخبار عنها، الا انه وجد الصاحب (1) الجالس معه حتى دخل إليه (2) بعض الناس، انصرف وخرج


(1) صاحب. (2) عليه. (*)


[ 660 ]

عن الدار، وهو مع دخول غيره من الناس لا يفارق مكانه، اليس هذا مع عقله وكماله يصح ان يقوى في ظنه ان علة خروج صاحبه انما هي دخول ذلك الرجل ؟ فان قالوا: لا يصح ان يغلب ما ذكرتم في ظنه، طولبوا بما يمنع منه، ولن يجدوه. وان اجازوه (1)، بطلت عليهم ذكر العادات والتجارب في باب الظنون، وقيل لهم: فما تنكرون من أن تكون هذه حالة الظنون في الشرع ؟ ويمكن أن يقول من نصر الطريقة التي قدمناها: ان ما فرضتموه من جلوس بعض الناس عند من لم يعرف العادات وانصرافه إذا دخل عليه انسانا اخر وتكرر منه ذلك، وانما يغلب على ظنه كون دخول صاحبه علة الخروج الاخر، لان ذلك يصير عادة، وليس يلزم فيمن عرف عادة في شئ بعينه ان يعرف العادات كلها، ألا ترى ان العادات تختص البلاد والازمان ولا تكاد تتفق على حد واحد فكذلك القول فيما فرضتموه في السؤال فاما طعن مثبتى القياس على الطريقة المتقدمة تصحيحهم غلبة الظنون في الشريعة بقولهم: ” انا وجدنا اهل القياس والاجتهاد مع كثرتهم وتدينهم يخبرون عن انفسهم بالظنون ويعلمون عليها، ومثل هؤلاء أو طائفة منهم لا يجوز أن يكذبوا على انفسهم، فكيف تدفع الظنون وهذه حالها ” ؟. فليس بشئ، لان لمن [ نفى ] (2) الظن أن يقول: ألست اكذب هؤلاء المجتهدين في انهم يجدون انفسهم على اعتقاد ما، وانما اكذبهم في قولهم انه ظن وواقع عن امارة، والعلم بالفرق بين الاعتقاد المبتدأ والعلم والظن ليس بضرورة (3)، فكان القوم سبقوا إلى اعتقادات ليست ظنونا، ودخلت عليهم الشبهة، فاعتقدوا ان


(1) جازوه. (2) زيادة من النسخة الثانية. (3) بضروري. (*)


[ 661 ]

لها احكام الظنون، وليست كذلك ! على ان هذا يرجع عليهم فيمن يدعى من اهل القياس ان على الاحكام ادلة توجب العلم. فيقال لهم: كيف يصح على هؤلاء مع كثرتهم أن يدعوا انهم عالمون ويخبرون عن نفوسهم بما يجدونها عليه من السكون، وهم مع ذلك كذبه ؟ وهكذا السؤال عليهم في المخالفين لهم في اصول الديانات، إذا ادعوا العلم بمذاهبهم وسكونهم إلى اعتقاداتهم ؟ فلابد لهم في الجواب مما ذكرناه، من ان القوم لم يكذبوا في انهم معتقدون، وانما غلطوا في ان تلك الاعتقادات علوم. فاما طريقة النظام ومن تابعه في ابطال القياس (1): فاعتمادهم على ان الشرعيات واقعة (2) على وجوه لا يمكن معها دخول القياس، فالذي يعولون عليه أن يقولوا: ” وجدنا الشرع واردا باختلاف المتفقين واتفاق المختلفين، كايجاب القضاء على الحائض في الصوم، واسقاطه عنها في الصلاة وهي أوكد من الصوم، وايجابه على المسافر القضاء فيما قصر في الصوم واسقاطه عنه فيما قصر من الصلاة، وكايجاب الغسل بخروج الولد والمني، وهما انظف من البول والغائط اللذين يوجبان الطهارة، واباحة النظر إلى الامة الحسناء والى محسانها، وخطر ذلك من الحرة وان كانت شوهاء. قالوا: فكيف (3) يسوغ القياس فيما هذه حاله ؟ ومن حقه ان (4) يدخل فيما يتفق فيه احكام المتفقات وتختلف احكام المختلفات “. وهذا لا يصح اعتماده في نفى القياس، وذلك ان لمثبته ان يقول:


(1) راجع هامش رقم (3) ص 651 والمصادر الواردة فيه (2) وقعت. (3) كيف. (4) في الاصل: ومن حقه إن عقد أن لا. (*)


[ 662 ]

اما اطلاق القول بان المتفقين لا يختلفان في الحكم، والمختلفين لا يتفقان في الحكم فغلط، والصحيح أن يقال: ان المتفقين يتفقان (1) في الحكم يقتضيه اتفاقهما، وكذلك المختلفان لا يتفقان في الحكم الذي يقتضيه اختلافهما، لان المراعى في هذا الباب هو الاسباب والعلل، والاحكام التي يجب اتفاق المتفقات واختلاف المختلفات هي الراجعة إلى صفات الذات، وانما وجب ذلك فيها لان المتفقين قد اشتركا في سبب الحكم وعلته، والمختلفين قد افترقا في ذلك فلابد مما ذكرناه. فاما إذا لم يكن الحكم راجعا إلى الذوات، فهو موقوف على الدلالة، فان اتفق المختلفان في علته وسببه اتفقا فيه، وان اختلف المتفقان فيما (2) اختلفا فيه، وعلى هذا لا ينكر أن يكون الحيض وان كان سببا لسقوط الصوم والصلاة معا، واتفقا في ذلك أن يختلفا في حكم اخر يوجب في احدهما الاعادة ولا يوجبها في الاخر، فيكون الاختلاف من وجه الاتفاق من اخر وقد زال التناقض، لان القضاء إذا اختص بعلة غير علة السقوط لم يكن باتفاقهما في علة السقوط معتبر. وفي العقل مثال ذلك: لانا نعلم ان النفع المحض إذا حصل في الفعل اقتضى حسنه، وقد يحصل في الكذب النفع فلا يكون الا قبيحا، لان وجه قبحه هو كونه كذبا، فصار اتفاق الكذب مع غيره من الافعال في النفع لا يمنع من اختلافهما في القبح، لان ما اختلفا فيه غير ما اتفقا من اجله. فان كان ما اورده النظام مانعا من القياس الشرعي، فيجب أن يمنع من القياس العقلي ايضا، على انه قد اعترف بورود النص باتفاق المختلفين واختلاف المتفقين، ولم يلزمه أن يكون متناقضا، وأن يسوغ القياس (3)، واعتذر له بما يعتذر به


(1) لا يختلفان. (2) فيهما. (3) في الاصل: في القياس. (*)


[ 663 ]

للنصوص. فان قال: انى لم اوجب التناقض في هذه الاحكام فتلزموني ذلك في ورود النص بها، وانما منعت وحالها هذه من التطرق بالقياس إليها. قيل: ليس يمتنع ما ظننت امتناعه إذا نصب الله تعالى لقضاء الصوم امارة توجبه، واخلي قضاء الصلاة من مثلها. على ان للقوم (1) أن يقولوا: انا لا نثبت القياس في كل حكم وعلى كل اصل، وانما نثبته بحيث يسوغ ويصح، واكثر ما يقتضيه ما اوردته مما هو بخلاف القياس (أولا) (2)، فلا يسوغ دخوله فيه أن يمتنع فيه من القياس وفيما جرى مجراه، فلم إذا امتنع القياس في هذه الامور امتنع في غيرها ؟ فاما من نفى القياس واعتمد في نفيه على ان الحكيم لا يجوز أن يقتصر على ادون البيانين رتبة مع قدرته على اعلاهما، وان النصوص ابلغ في البيان من (3) القياس، فيجب أن تكون العبادة في معرفة الاحكام مقصورة عليها (4) والكلام (5) عليه أن يقال له: اول ما في كلامك انه اعتراف بأن القياس يوصل به إلى الاحكام، لانه لا يجوز أن تقول انه اخفض رتبة في باب البيان من غيره ما التبيين (6) ويقع به، وإذا ثبت كونه بيانا فما الذي يمنع من العبادة به – وان كان ادون رتبة – لما يعلمه الله تعالى من صلاح المكلف فيه، وانه إذا توصل إلى الحكم به ولحقته المشقة في طريق كان اقرب إلى فعله، واستحق عليه من الثواب ما لا يستحقه لو وصل إلى معرفته بالنص ؟


(1) في الاصل: القوم. (2) زيادة من الاصل. (3) في الاصل: و. (4) القائل بهذه المقولة أصحاب الظاهر كداود الظاهري وغيره، راجع هامش رقم (4) صفحة 651. (5) فالكلام. (6) إلا والتبيين. (*)


[ 664 ]

على انه يلزم على هذه العلة أن يكون في جميع التكليف ضروريا، لانه أقوى في البيان من العلم المكتسب. ومن يعتمد على هذه الطريقة لابد له من المناقضة، لانه تعلق كثيرا من الاحكام في الشريعة بالظنون نحو الاجتهاد في جهة القبلة، وتقدير النفقات، وجزاء الصيد، وما اشبه ذلك، فإذا جازت العبادة بالظنون في هذه الاحكام – مع امكان ورود البيان فيها بالنص الموجب للعلم ولم يكن خارجا عن الحكمة – جاز مثله في سائر الاحكام. فاما من نفى القياس (1) من حيث لم يأت العبادة به، ولم يقطع السمع العذر في صحته، فهو الصحيح الذي نختاره ونذهب إليه، لان القياس متى جاز في العقل ورود العبادة إذا تعلقت به مصلحة في التكليف، فلابد في جواز استعماله في الشرع من دليل سمعي، لانه يجرى مجرى سائر الافعال الشرعية التي إذا جاز في العقل ان تدخل في العبادة لبعض المصالح، فلابد في استعمالها من دليل سمعي. والذي يلزمنا ان نورد ما يعتمده مثبتوه من الطرق التي ظنوا انها ادلة عليه سمعية، ونبين انها شبة وليست بادلة ولا موجبة للتعبد به. فاما من يذهب إلى ان العبادة وردت بما يمنع منه فهو ايضا مذهبنا، ونحن نبين في الفصل الذي يلى هذا الفصل ما عندنا فيه انشاء الله تعالى


(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 650. (*)


[ 665 ]

فصل [ 3 ] ” في ان القياس في الشرع لا يجوز استعماله ” لنا في المنع من استعمال القياس في الشريعة طريقتان: احدهما: انه إذا ثبت جواز العبادة به من جهة العقل، فثبوت العبادة به تحتاج إلى دليل شرعى، وقد علمنا انه ليس في الشرع دليل على ان القياس دين الله تعالى يجوز استعماله، ولا من جهة الكتاب، ولا من جهة السنة المتواتر بها، ولا من الاجماع. وانما قلنا ذلك: لانا قد استقرينا جميع ذلك فعلمنا انه ليس فيه ما يدل على وجوب العمل بالقياس، ونحن نذكر المواضع التي يستدل بها من ظاهر القرآن على وجوب العمل بالقياس، ونبين انه لا دلالة في شئ منها. والسنة على ضربين متواتر واحاد. والتواتر (1): يوجب العلم الضرورى على مذهب الخصم (2) وعلى مذهبنا


(1) فالتواتر. (2) قال أبو إسحاق الشيرازي: ” يقع العلم بالاخبار المتواترة ” ونقل الآمدي اتفاقهم عليه، ونسبوا للبراهمة والسمنية انهما قالا: لا يقع العلم بالاخبار المتواترة، وقال البزدوي في اصوله: ” وقال قوم: إن المتواتر يوجب علم الطمأنينة لا اليقين، ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك إو يعتريه وهم، أي إن جانب الصدق يترجح فيه بحيث يطمئن له القلب ولكن لا ينتفي عندهم توهم الكذب والغلط “. وأما المعتزلة فإن الجبائيان ذهبا إلى أن العلم الواقع عند التواتر ضروري غير مكتسب، وأما أبو القاسم البلخي (*)


[ 666 ]

يوجب العلم الذي لا يتخالج (1) فيه الشك، وكان مما يستدل على صحته إذا كان شرط التواتر فيه. والضرب الاخر: اخبار احاد. فالقسم الاول: مفقود في الاخبار التي يستدل بها على صحة العمل بالقياس، لانها ليست معلومة جملة، لا ضرورة، ولا استدلالا. والقسم الاخر: لا يجوز استعماله في هذه المسألة، لانها من باب العلم دون العمل، وخبر الواحد يوجب غلبة الظن، فلا يجوز استعماله فيما طريقه العلم بلا خلاف. واما الاجماع: فليس فيه ايضا، لان هذه مسألة خلاف، ونحن نبين ما يدعونه من اجماع الصحابة ونتكلم عليه انشاء الله. والطريقة الثانية: ان نقول: قد ورد الشرع بما يمنع من العمل بالقياس (2)، واقوى ما اعتمد في ذلك اجماع الطائفة المحقة، وقد ثبت ان اجماعهم حجة، لانه يشتمل على قول معصوم لا يجوز عليه الخطأ على ما بيناه فيما تقدم، وقد علمنا انهم مجمعون على ابطال القياس والمنع من استعماله. وليس لاحد ان يعارض هذا الاجماع لمن يذهب إلى مذهب الزيدية


فقال: انه ضروري مكتسب. انظر: ” التبصرة: 291، المستصفى 2: 132، المنخول: 235، المعتمد 2: 81، اللمع 69، شرح اللمع 2: 569، اصول السرخسي 1: 281، الاحكام للآمدي 2: 259، شرح المنهاج 2: 524 روضة الناظر: 86 “. (1) يتخالجنا. (2) راجع تفصيل اقوال القائلين بحجية القياس والنافين لها في: ” التبصرة: 435 – 424، الذريعة 2: 791 – 705، المعتمد 2: 234 – 215، الابهاج 3: 23 – 11، الاحكام للآمدي 4: 312 – 272، اصول السرخسي 2: 143 – 118، المستصفى 2: 54، المنخول: 324 – 323، اللمع: 94 – 93، ارشاد الفحول 304 – 296، ميزان الاصول 2: 814 – 800، شرح المنهاج 2: 657 – 638، الرسالة للشافعي: 476، شرح اللمع 2: 782 – 760، مباحث العلة في القياس 55 – 40، الاحكام لابن حزم 7: 438 – 368، ملخص ابطال القياس والرأي لابن حزم، الاصول العامه للفقه المقارن 358 – 303 “. (*)


[ 667 ]

والمعتزلة، من اهل البيت عليهم السلام وقال مع ذلك بالقياس، لان هؤلاء لا اعتبار بمثلهم، لان من خالف في الاصول الخلاف الذي يوجب التكفير أو التفسيق لا يدخل قوله في جملة من يعتبر اجماعهم ويجعله حجة. لانا قد بينا ان كل من علمنا انه ليس بامام، فانا لا نعتد بخلافه ونرجع إلى الفرقة الاخرى التي نعلم كون الامام في جملتهم. على انا كما نعلم من مذهب أبي حنيفة، والشافعي القياس، كذلك نعلم ان من مذهب أبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام نفى القياس، وتظاهر الاخبار عنهما بالمنع (1) منه، والمناظرة للمخالفين فيه، كتظاهرها عمن ذهب إليه في خلاف ذلك. وليس يدفع عنهما هذا الا من استحسن المكابرة، وقد علما ان قولهما حجة وقول كل واحد منهما، لانهما الامامان المعصومان، ولا يجوز عليهما الخطاء في الفعل والاعتقاد. وقد اعتمد من نصر هذه الطريقة التي ذكرناها على ايات ليس فيها ما يدل على ذلك مما يمكن الاعتماد عليه، وعلى جميعها اعتراض. فمن ذلك تعلقهم بقوله تعالى: (لا تقدموا بين يدى الله ورسوله) (2) وأن القياس تقدم بين يدي الله ورسوله. وهذا غير معتمد، لان للمخالف أن يقول: إذا دلنا الله تعالى على صحة القياس، لم يكن استعماله تقدما بين يدي الله ولا بين يدي رسوله، وصار ذلك بمنزلة ما نص عليه، وانما يكون تقدما بين ايديهما لو قيل به من غير دلالة ولا استناد إلى علم. وتعلقوا ايضا بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (3)، وبقوله: (وان


(1) انظر: ” الكافي 1: 56، 57 و 4: 234 و 7: 26، 321، 322، 323، التهذيب 5: 360 و 8: 233 و 9: 217، الاستبصار 2: 206 و 4: 8، من لا يحضره الفقيه 2: 260 و 4: 276 ” (2) الحجرات: 1. (3) الاسراء: 36. (*)


[ 668 ]

تقولوا على الله مالا تعلمون) (1). وللمخالف ان يقول: ما قلنا بالقياس الا بالعلم وعن العلم، فلم نخالف ظاهر الكتاب، وانما ظننتم علينا ان نعلق الاحكام بالظنون وليس نفعل ذلك بل الحكم عندنا معلوم وان كان الطريق إليه الظن على الوجه الذي مثلنا به من العقليات. وتعقلوا: بقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (2)، وقوله: (تبيانا لكل شئ) (3)، وقوله: (اليوم اكملت لكم دينكم) (4). وللمخالف أن يقول: ان القياس إذا دل الله عليه واوجب العمل به، فقد دخل في جملة ما بين في الكتاب ولم يقع فيه تفريط، لان الكتاب قد دل على صحة اجماع الامة، ووجوب اتباع السنة، فإذا علمنا بالاجماع والسنة صحة القياس، جاز اضافة هذا العلم والبيان إلى الكتاب، وان كان على سبيل الجملة دون التفصيل، لانه ليس يمكن أن يدعى ورود الكتاب بكل شئ مفصلا، فصار العامل بالقياس عاملا بما امر الله تعالى به في كتابه وبينه واكمله (5). وهذه الجملة تنبه على طريقة الطعن فيما جرى هذا المجرى من الاستدلالات، فانهم يتعلقون بشئ من هذا الجنس لا فائدة في ذكر جميعه


(1) البقرة: 169. (2) الانعام: 38. (3) النحل: 89. (4) المائدة: 3. (5) في الاصل: يحمله. (*)


[ 669 ]

فصل [ 4 ] ” في ان العبادة لم ترد بوجوب العمل بالقياس ” الذاهبون إلى القول بالقياس في الشرع فريقان: احدهما: يوجب العمل به عقلا، وهم الشذاذ على ما ذكرناه (1). والاخرون: يوجبون العمل به سمعا وان لم يثبتوه عقلا (1). ونحن نفسد كلا القولين ليتم لنا ما قصدناه. فاما من اثبته عقلا فالاصل في الكلام عليه ان يقال: ان الفعل الواجب لابد له (2) من أن يكون له وجه وجوب لولاه لم يجب، لانه لو لم يكن كذلك لم يكن بالوجوب اولى من غيره، وماله يجب الفعل ينقسم قسمين: احدهما: صفة تختصه ولا تتعداه إلى غيره، وذلك جميع الواجبات العقليه، نحو رد الوديعة، والانصاف، وشكر المنعم. والاخر: أن يكون وجوبه لتعلقه بغيره على سبيل اللطف، نحو أن يختار المكلف عنده واجبا اخر، أو يمتنع عن قبيح، وليس يكون كذلك الا بعد أن يختص في نفسه بصفة تدعو إلى اختيار ما يختار عنده، وهذا القسم على ضربين:


(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 650. (2) زيادة من النسخة الاصلية. (*)


[ 670 ]

احدهما: يعلم (1) بالعقل، كوجوب معرفة الله تعالى، لان جهة وجوبها متقررة في العقل، وهو انا يكون عندها اقرب إلى الفعل الواجب والامتناع من القبيح، وكعلمنا ايضا بان الرسول عليه السلام لا يجوز أن يكون على احوال تنفر عن القبول منه، نحو الفسق، والاحوال الدنية المستخفة، ومثل ما يلحقه (2) بالمعرفة من وجوب الرئاسة لكونها لطفا، لانه مستقر في العقل (3) وان الناس في الجملة لا يجوز أن يكونوا مع فقد الرؤساء في باب الصلاح والفساد على ما يكونون عليه مع وجودهم. والضرب الثاني: لا يعلم الا بالسمع لفقد الطرق إليه من جهة العقل وهو جميع الشرعيات. والسمع الذي به يعلم وجوب ذلك قد يرد تارة بوجه الوجوب، فيعلم عنده الوجوب، وتارة يرد بالوجوب فيعلم عنده وجه الوجوب باحد (4) الامرين يقوم مقام الاخر في العلم بالوجوب، [ الا أنه إذا ورد بوجوبه لم يعلم وجه الوجوب الا على جهة الجملة، وان ورد بوجه وجوبه مفصلا أو مجملا علمنا وجوبه مفصلا، لان العلم بوجوبه لابد فيه من التفصيل لتنزاح علة المكلف في الاقدام على الفعل. والعلم بوجه الوجوب قد يكون ] (5) مجملا ومفصلا. ويقوم احد الامرين مقام الاخر، فلو قال تعالى: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (6) ولم يوجبها لعلمنا وجوبها، ولو نص على وجوبها بلفظ الايجاب لعلمنا في الجملة انها تنهى عن قبيح أو تدعوا إلى واجب. فاما ماله قلنا: ” إذا علمنا وجوب الفعل، علمنا وجه وجوبه، وإذا علمنا وجه


(1) يعرف. (2) يلحق. (3) عقل العقلاء. (4) واحد. (5) زيادة من النسخة الثانية. (6) العنكبوت: 45. (*)


[ 671 ]

الوجوب، علمناه واجبا “، فهو ان من علم بالعقل رد الوديعة مع المطالبة علم وجوبه، ومتى لم يعلم ذلك لم يعلم وجوبه، وكذلك من علم الفعل ظلما على قبحه، فان شك في كونه ظلما لم يعلم القبح، وكما وجب هذا، فهكذا ايضا متى علم كون الفعل الذي هو رد الوديعة واجبا علمه رد للوديعة، فتعلق كل واحد من الامرين بصاحبه (1) كتعلق صاحبه به. فان قيل: من اين قلتم: ان الواجبات في الشرع لا تجب الا لكونها الطافا ؟ ثم من اين قلتم: ان ذلك لا يعلم من حالها الا بالسمع ليتم ما ذكرتموه ؟ قلنا: لان وجوبها إذا ثبت وكان لابد له من وجه لم يخل من القسمين اللذين قدمناهما، وهما اما صفة يختص الفعل ولا يتعداه، أو لتعلقه بغيره على وجه اللطف، وليس يجوز في الشرعيات الوجه الاول، لانه لو وجبت لصفة تخصها تجري مجرى رد الوديعة في انه وجه الوجوب، لوجوب أن يعلم (على) (2) تلك الصفة، ويعلم وجوبها متى علمناها، لانه لا يصح ان يجب لصفة تختص بها ولا تختص بها، ولا يصح ايضا أن يعلم علتها ولا يعلم وجوبها، وقد علمنا ان الصلوة وسائر الشرعيات يعلم بالعقل صفاتها، وان لم يعلم وجوبها، فدل ذلك على بطلان القسم الاول ولم يبق الا الثاني. وإذا ثبت انها تجب اللالطاف، ولم يكن في العقل (3) دليل على ان وقوع بعض الافعال منا، نختار عنده فعلا آخر، لان العقل لا يدل على ما يختاره الانسان أو لا يختاره، ولان دلالة العقل ايضا طريقتها واحدة ولم يصح ان يدل على الشئ ونفيه، والحكم وضده – كما تراه في الشرائع – من اختلاف المكلفين، والناسخ والمنسوخ، فلم يبق الا ان الطريق إليها السمع، ولولا ما ذكرناه لما احتيج في معرفة المصالح الشرعية إلى بعثة الانبياء عليهم السلام.


(1) في الاصل: كصاحبه. (2) زيادة من الاصل. (3) في العقل. (*)


[ 672 ]

فان قالوا: العقل يقتضى في كل مشتبهين (1) ان حكمهما واحد من حيث اشتبها، فوجب أن يحكم الارز بحكم البر عقلا وان لم يأت السمع. قيل لهم: الاشتباه الذي يقتضى المشاركة في الحكم هو فيما يعلم ان الحكم فيه يجب عن ذلك الشبه، أو يكون في حكم الموجب عنه، نحو علمنا بان ما شارك العالم في وجود العلم في قلبه يجب كونه عالما، أو ما شارك رد الوديعة في هذه الصفة كان واجبا، فاما العلل التي هي امارت فلا يجب بالمشاركة فيها المشاركة في الحكم، لان العقل لا يعلم به كونه علة، ولو علم كونها علة لم يجب فيما شاركة فيها مثل حكمها، لان المصالح الشرعية مختلفة من حيث تعلقت بالاختيار، فلا مدخل للايجاب فيها، ولهذا جاز أن يكون الشئ في الشرع مصلحة وما هو مثله مفسدة، وجاز اختلاف الاعيان والاوقات في ذلك. فان قيل (2): إذا حرم الله تعالى الخمرة (3) ورأيت التحريم تابعا للشدة يثبت بثبوتها ويزول بزوالها، علمت ان علة التحريم الشدة، ولا احتياج إلى السمع كما لا يحتاج إليه في العقليات (4). قيل له: ليس يكون ما ذكرته من الاعتبار (5) باقوى (6) من أن ينص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر ان علة تحريمها هي الشدة، وقد بينا ان ذلك لا يوجب التخطي، ولا يقتضى اثبات التحريم في كل شديد الا بعد التعبد بالقياس، لانه غير ممتنع ان يخالف (7) في المصلحة وان وافقه في الشدة، وبينا ان النص على العلة


(1) شبيهتين. (2) قال. (3) الخمر. (4) كما لااحتياج في العقليات إليه. (5) في الاصل: الاختيار. (6) اقوى. (7) يخالفا. (*)


[ 673 ]

الشرعية يجرى مجرى النص على الحكم في امتناع التخطي الا بدليل مستأنف. فامامن زعم ان السمع قد ورد بالتعبد بالقياس (1)، فنحن نذكر قوى ما اعتمده ونتكلم على شئ منه. احد ما اعتمدوه قوله تعالى: (فاعتبروا يا اولى الابصار) (2). قالوا: والاعتبار هو المقايسة، لان الميزان يسمى معيارا من حيث قيس به مساوات الشئ بغيره. ولما روى عن ابن عباس من قوله في الاسنان: ” اعتبروا حالها بالاصابع التي ديتها متساوية ” (3). وربما استدلوا بالاية على وجه اخر فقالوا: قد دل الله تعالى بهذه الاية على ان المشاركة في العلة تقتضي المشاركة في الحكم، وذلك انه قال: (هو الذي اخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا انهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم من حيث لا يحتسبون وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بايديهم وايدى المؤمنين فاعتبروا يا اولى الابصار) (4)، فذكر ما حل بهم، ونبه على علته وسببه ثم امر بالاعتبار، وذلك تحذير من مشاركتهم في السبب، فلو لم تكن المشاركة في السبب تقتضي المشاركة في الحكم ما كان لهذا القول معنى ! والكلام على ذلك ان يقال (5) لهم: ما تنكرون أن يكون لفظ ” الاعتبار ” لا يستفاد منه الحكم بالقياس، وانما يستفاد به


(1) لاحظ تفصيل اقوالهم واستدلالاتهم في المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) الحشر: 2. (3) حديث التسوية بين الاصابع والاسنان عن ابن عباس رواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجة وغيرهم في باب ديات الاعضاء مع اختلاف الالفاظ وإتحاد المعنى. (4) الحشر: 2. (5) في الاصل: نقل. (*)


[ 674 ]

الاتعاظ والتدبر والتفكر، وذلك هو المفهوم من ظاهره واطلاقه، لانه لا يقال لمن يستعمل بالقياس العقلي انه معتبر، [ كما يقال فيمن يتفكر في معاده، ويتدبر أمر منقلبه ويتعظ بذلك انه معتبر ] (1) وكثير الاعتبار، وقد يتقدم بعض الناس في العلوم واثبات الاحكام من طريق القياس، ويقل فكره في معاده وتدبره فيقال انه غير معتبر، أو قليل الاعتبار. وقد يستوى في المعرفة بحال الشئ واثبات حكمه اثنان، فيوصف احدهما بالاعتبار دون الاخر على المعنى الذي ذكرناه، ولهذا يقولون عند الامر العظيم: ان في هذا لعبرة، وقال الله تعالى: (وان لكم في الانعام لعبرة). وما روى عن ابن عباس خبر واحد لا تثبت بمثله اللغة، ولو صح لكان محمولا على المجاز بشهادة الاستعمال الذي ذكرناه. على انا لو سلمنا جواز استعمال الاعتبار في المقايسة، لم يكن في الاية دلالة الا على ما ذكر منها من امر الكفار، وظنهم ان حصونهم ما نعتهم من الله تعالى، ووقوع ما وقع بهم، فكأنه قال الله تعالى: فاعتبروا بذلك يا اولى الابصار، وليس يليق هذا الموضع بالقياس في الاحكام (2) الشرعية، لانه تعالى لو صرح بعقب ما ذكر من حال الكفار بأن يقول: فقيسوا في الاحكام الشرعية واجتهدوا، لكان الكلام لغوا لا فائدة فيه، فلا يليق بعضه ببعض. فثبت انه اراد الاتعاظ والتفكر. على انه يمكن ان يقال لهم: على تسليم تناول اللفظة للقياس باطلاقها، ما تنكرون انا نستعمل موجب الاية، بان نقيس الفروع على الاصول، في انا نثبت لها الاحكام الا بالنصوص، لان هذا ايضا قياس فقد ساويناكم في التعلق بالاية، فمن اين لكم ان القياس الذي تناولته الاية هو ما تذكرونه دون ما ذكرناه، وكلاهما قياس على


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) وفي الاحكام. (*)


[ 675 ]

الحقيقة ؟ وليس لهم أن يقولوا: نحن نجمع بين الامرين لانهما يتنافيان، والجمع بينهما لا يصح. ولا لهم ايضا ان يقولوا: قولنا ارجح خ من حيث كان فيه اثبات للاحكام، وقولكم فيه نفى لها. وذلك لان الترجيح بما ذكروه انما يصح متى ثبت كلا وجهى القياس، فيصح الترجيح والتفرقة، فاما الخلاف فيهما هل يثبتان أو يثبت [ احدهما فلا ] (1) ترجيح يمكن في ذلك. ويقال لهم: في تعلقهم بالاية ثانيا: إذا كان الله تعالى قد نبه على ما زعمتم بالاية على ان المشاركة في السبب والعلة تقتضي المشاركة في الحكم، فيجب أن يكون كل من فعل مثل فعل الذين اخبر الله تعالى عنهم في الاية، يحل بهم مثل ما حل بهم. فان قالوا: هو كذلك. اريناهم بطلان قولهم ضرورة لو جوزنا من يشارك المذكورين في المخالفة والمعصية وان لم يصبه ما اصابهم، وهذا من ضعيف ما يتمسك به. وتعلقوا ايضا بقوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذواعدل منكم) (2)، وقوله تعالى: (وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره) (3). قالوا: والمثلية والمقدار طريقه غالب الظن. وبقوله: (فان خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم) (4) قالوا وذلك طريقه غالب الظن. وهذه الايات لا تخلو أن يكون المستدل بها يعتمدها في جواز التعبد بالظنون،


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) المائدة 95. (3) البقرة: 236. (4) النساء: 3. (*)


[ 676 ]

أو في وجوب التعبد بها: فان كان الاول، كان ذلك صحيحا، وذلك مما قدمنا جوازه. وان اراد الثاني، كان ذلك باطلا، لانه ليس إذا ثبت التعبد في شئ بغالب الظن ينبغي أن يحمل غيره عليه، لان ذلك يصير قياسا، وكلامنا في مسألة القياس، فكيف يستدل بالشئ على نفسه ! على [ ان ] (1) من اصحابنا من قال ان المثلية والقدر منصوص عليه، فعلى هذا المذهب سقط السؤال. وتعلقوا ايضا: بأن قالوا: قد ظهر (2) عن الصحابة القول بالقياس، واتفق جميعهم عليه، نحو اختلافهم في مسألة الحرام (3)، والجد (4)، والمشركة (5)، والايلاء، وغير ذلك ورجوع كل منهم في قوله إلى طريقة القياس، لانهم اختلفوا في الحرام فقالوا باربعة أقاويل: احدها: انه في حكم التطليقات الثلاث، وذلك مروى عن امير المؤمنين عليه السلام وزيد، وابن عمر (6).


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) ظهرت. (3) في الاصل: الحرم. والحرام هو فيما إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي حرام. (4) فقد نقلوا الخلاف في مسألة ميراث الجد، ونسبوا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: ” من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والاخوة ” ورووا عن ابن مسعود قوله: ” سلونا عن عضلكم واتركونا من الجد، لا الله ولا بياه “. [ راجع: التبصرة: 428، والمصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 650 ]. (5) ويقال لها المشتركة، والحمارية، والحجرية، واليمية، والمنبرية، وفيها آراء مختلفة. وتعد المسألة المشتركة فيما إذا اجتمع زوج وام وجدة، واثنان فصاعدا من ولد الام، وعصبة من ولد الابوين. وسبب هذه التسمية أن بعض أهل العلم شرك فيها بين ولد الابوين وولد الام في فرض ولد الام فقسمه بينهم بالسوية. [ راجع الاقوال في ” المغني للابن قدامة “: 7: 22 ]. (6) الاحكام 4: 320 [ راجع ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666 ]. (*)


[ 677 ]

والقول الاخر: قول من جعله يمينا يلزم فيهما الكفارة، وهو المحكى عن أبي بكر، وعمر وابن مسعود وعايشة (1) والثالث: قول من جعله ظهارا، وهو المروى عن ابن عباس وغيره (1). والرابع: قول من جعله تطليقة واحدة، وهو المروى عن ابن مسعود، وابن عمر وغيرهما (2). ثم اختلفوا: فمنهم من لغاه، ومنهم من جعلها واحدة رجعية، وبعضهم جعلها بائنة، وكل ذلك تفريع للقول الرابع (2). وحكى في المسألة قول خامس عن مسروق (3) وهو انه ليس بشئ، لانه تحريم لما احله الله تعالى ووجوده كعدمه. (2) واختلافهم ايضا في الجد ايضا ظاهر، وكذلك ما عددناه من المسائل، وانما شرحنا مسألة الحرام لان الخلاف فيها اكثر منه في غيرها قالوا: وقد علمنا انه لاوجه لاقاويلهم الا طريقة القياس والاجتهاد، لان من جعل الحرام طلاقا ثلثا معلوم انه لم يرد انه طلاق ثلاث على الحقيقة، بل اراد انه كالطلاق الثلاث وجار مجراه وكذلك من جعله يمينا وظهارا محال ان يريد الا الشبه دون أن يكون عنده يمينا أو ظهارا في الحقيقة. ولانه قد نقل عنهم النص الصريح في انهم قالوا بذلك قياسا، لان من ذهب إلى ان الجد بمنزلة الاب نص على انه مع فقد الاب بمنزلة ابن الابن مع فقد الابن (4)، حتى صرح ابن عباس بأن قال: ” الا لا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا


(1) الاحكام 4: 320 [ راجع ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666 ]. (2) المغني لابن قدامة 8: 304 و 561. (3) هو مسروق بن الاجدع بن مالك بن امية بن عبد الله الهمداني، أبو عائشة، تابعي، قدم المدينة من اليمن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وروى عن جماعة من الصحابة، ثم سكن الكوفة وكان يلي الخيل لعبيد الله بن زياد، ثم خرج الى قزوين فمات بها. (4) المغني لابن قدامة 7: 64. (*)


[ 678 ]

يجعل اب الاب أبا ؟ ” (1) وقد علمنا انه لم يرجع في ذلك إلى نص، لان الحد لا نص عليه في الكتاب، فلم يبق الا سلوكهم فيه طرق التمثيل والمقايسة. وثبت ايضا: عمن قال بالمقايسة (2) بين الاخ والجد انه شبههما بغصنى شجرة وبجدولى نهر، ولهذا يبطل قول من يدعى انهم قالوا ذلك على طريق الصلح والبور (3)، أو لانه اقل ما قيل فيه، أو حكموا بحكم العقل، أو لنص خفى. ويبطل ذلك زائدا على ما تقدم، انهم اختلفوا فيما لا يسوغ فيه الصلح لتعلقه بتحريم الفروج وتحليلها كمسألة الحرام والايلاء. ولان ما يقال من طريق الصلح لا يفرع عليه ويبنى بحسبه المذاهب. ولانهم اختلفوا في مواضع لا يصح أن يقال فيها باقل ما قيل، ولانهم قد اختلفوا فيما زاد على اقل ما قيل. وقالوا ايضا: باقاويل كلها خارجة عما في اصل العقل، ولو قالوا ايضا لنص لوجب أن يظهر، لان الدواعى إلى اظهاره قوية. وإذا ثبت ذلك من حالهم فهم بين قائل بالقياس، ومصوب لقائله غير منكر عليه، فصاروا مجمعين على القول به، واجماعهم حجة، ولا يجوز أن ينعقد على خطاء. فيقال لهم لنا في الكلام عليكم وجهان: احدهما: أن نبين بطلان ما حكمتم به وقطعتم عليه من ان القول في المسائل التي ذكرتموها لم يكن الا بالقياس، ونبين انه يحتمل أن يكون النص اما بظاهره أو دليله، والاحتمال في هذا الموضع يكفى ويأتي على استدلالهم. والوجه الاخر: ان ننازع فيما ادعيتموه من ارتفاع النكير للقياس، ونبين انه ورد


(1) التبصرة: 427، راجع ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) التبصرة: 428. (3) أي الاختبار، فيقال: برت كذا: اختبرته. (*)


[ 679 ]

عنهم من ذلك ما في بعضه كفاية، وابطال لقول من يدعى خلافه. ولنا ايضا: إذا سلمنا انهم قالوا في تلك المسائل بالقياس، وتجاوزنا عن الخلاف في ارتفاع النكير، وفرضنا انه لم يكن ان نقول ارتفاع النكير لا يدل في كل موضع على الرضا والتسليم، وانما يدل على ذلك إذا علمنا انه لا وجه لارتفاعه الا الرضا، فاما مع تجويز كونه للرضا ولغيره فلا دلالة فيه. غير ان هذه الطريقة توحش من خالفنا في هذه المسألة لانها تطرق عليهم فساد اصول هي اهم إليهم من الكلام فيها، وينبغي أن يتجاوز عن هذا الكلام في هذا المعنى ويقتصر على الوجهين الذين قدمناهما، لان الكلام في هذا الوجه له موضوع غير هذا هو اليق به وقد ذكرناه في كتاب ” الامامة ” (1) مستوفى. فيقال لهم: لم زعمتم ان القول في المسائل التي عددتموها انما كان بالقياس ؟ فلم نجدكم اقتصرتم الا على الدعوى المجردة من برهان، ولم إذا اختلفوا وتباينت اقوالهم وجب أن تستند تلك المذاهب إلى القياس، وانتم تعلمون ان الاختلاف في المذاهب المستندة إلى النصوص ممكن كإمكانه في المستندة إلى القياس ؟ ولم انكرتم أن يكون كل واحد منهم انما ذهب إلى ما حكى عنه لتمسكه بدليل نص اعتقد انه دال على ما ذهب إليه ؟ فان قالوا: لو كانوا قالوا بذلك للنصوص، لوجب أن تنتقل تلك النصوص وتشتهر لان الدواعى تقوى إلى نقلها والاحتجاج بها ! قلنا: اول ما نقوله انا لا نلزمكم أن يكونوا اعتمدوا في هذه المسائل نصوصا صريحة استدلوا بها على المذاهب التي اعتقدوها، بل الزمناكم ان يكونوا اعتمدوا


(1) ويقصد به المصنف كتاب (المفصح في الامامة) وهي رسالة مختصرة وموجزة، الفها قبل تأليف كتاب (تلخيص الشافعي) وأشار إليه في فهرسته وتلخيصه، وقد طبعت بتصحيح المحقق الشيخ رضا الاستادي مدرجة في مجموعة (الرسائل العشر) من ص: 138 – 115 للشيخ الطوسي، لكن النسخة المعتمدة ناقصة فلم نعثر على كلام المصنف فيها، ولمعرفة تفصيل استدلال المصنف راجع كتابه (تلخيص الشافعي): ص 17 – 103. (*)


[ 680 ]

فيها ادلة النصوص التي تحتاج فيها إلى ضرب من الاستدلال والتأول، سواء كانت تلك النصوص على هذه نصوصا ظاهرة للكل معلومة للجميع، أو كانت مختصة، فلا يجب ان تفرضوا كلامنا في غير ما فرضناه فيه. على انا نقول لهم: ولو كانوا اعتمدوا في ذلك على علة قياسية لوجب نقلها وظهورها، لان الدواعى إلى نقل مذاهبهم تدعو إلى نقل طرقها، وما به احتجوا، وعليه عولوا، وما نجد في ذلك رواية، فان كان فقد ما اعتمدوه من دليل النص وارتفاع روايته دليلا على انهم قالوا بالقياس، فكذلك يجب أن يكون فقدنا لرواية عنهم تتضمن انهم قالوا بذلك قياسا دليلا على القول به من طريق النصوص ! فان قالوا الفرق بين الامرين ان القياس لا يجب اتباع العالم فيه، والنصوص يجب اتباعه، فوجب نقل النص ولا يجب مثله في القياس. قلنا: اطلاقكم ان القياس لا يجب فيه الاتباع لا يصح على مذاهبكم، بل يجب فيه الاتباع إذا ظهر وجه القول به وامارات غلبة الظن فيه، وانما لا يجب القول به بارتفاع هذا الشرط، وعلى العالم أن يظهر وجه القول لمن خالفه ليظهر له منه ما يكون فرضه معه الانتقال عما كان عليه. ولولا هذا ما حسنت مناظرة اصحاب القياس والاجتهاد بعضهم لبعض، ولم ينقل عن الصحابة وجه قولهم في مسألة الحرام (1) التي وقع النص من مخالفينا عليها لقوتها عندهم، ولم يرو عن احد منهم العلة التي من اجلها جعله طلاقا ثلاثا، أو ظهارا، أو يمينا ! على انه انما يجب على المعتقد للمذهب أن يظهر وجه قوله عند المناظرة والحاجة الداعية إليه، فاما أن يكون ظهور وجه القول كظهور القول والمذهب فغير واجب فكيف (2)، يقال ذلك ونحن نعلم ان كثيرا من الصحابة والتابعين ومن كان


(1) راجع كلام المصنف حول مسألة الحرام في صفحة 676. (2) وكيف. (*)


[ 681 ]

بعدهم قد ظهرت عنهم مذاهب كثيرة فيما طريقه العلم والدليل القاطع من غير أن يظهر عنه أو ينقل ما كان دليله بعينه لاى طريق قال بذلك المذاهب واعتقده ؟ فان قالوا: فقد تناظروا ورد بعضهم على بعضهم ولم يذكر عنهم احتجاج بنص. قلنا: ليس يمكن أن يحكى عنهم في مسألة الحرام وغيرها من المسائل انهم اجتمعوا فيها لمناظرة ومنازعة، وحاج بعضهم بعضا، ورد بعضهم على بعض، ولم يذكروا ادلة النص، ولا وردت بشئ من ذلك رواية ! واكثر ما روى اضافة هذه المذاهب إلى القائلين بها. على انهم ان كانوا تناظروا وتنازعوا فلابد من أن يظهر كل واحد منهم وجه قوله، سواء كان نصا أو قياسا، وفي مثل هذه الحال لا يسوغ الاعراض عن ذكر وجه القول وان جاز في غيرها، ولهذا لا نجد احدا من الفقهاء ينازع خصومه ويرد مذاهبهم عليهم على سبيل المناظرة، ولا يظهر وجه قياسه والعلة التي من اجلها ذهب إلى ما ذهب إليه، بل لابد له من تحرير علله وتهذيبها والاحتراز فيه من النقض، وإذا كنا لم نجد رواية منهم بوجه قياسه وبالعلة التي من اجلها جمع بين الامرين اللذين شبه احدهما بالاخر، فيجب أن ينفى عنهم القول بالقياس ان كان ما فرضتموه صحيحا. فان قالوا: من شأن العلماء أن يذكروا النصوص الشاهدة لاقوالهم ومذاهبهم لترتفع عنهم التهمة في الخطاء أو القول بغير دليل. قلنا: ومن شأنهم أن يذكروا الوجه القياسي المصحح لمذاهبهم، لترتفع عنهم التهمة. وبعد: فلعل القوم كانوا آمنين من ان يتهموا بالتخيت (1) والاعتقادات المبتدأة فلم يحتاجوا إلى ذلك. فان قالوا: ليس نجد في نصوص الكتاب والسنة ظاهرا ولا دليلا يدل على هذه المذاهب التي حكينا اختلافهم فيها، الا ان يدعوا نصوصا غير ظاهرة، بان اختص كل


(1) اي النقيصة. (*)


[ 682 ]

واحد منهم بها، فيظهر بطلان قولكم لكل احد ويلزم حينئذ أن تكون تلك النصوص قد اشيعت وظهرت لتعلم وتعرف، والا طرق ذلك ابطال الشريعة وأكثرها. قلنا: اما ما ضمنا لكم أن يكون كل واحد من القوم ذهب إلى مذهبه للدليل عليه من جهة النص، وانما الزمناكم تجويز سبب كل قابل منهم بوجه اعتقده دليلا قد يجوز أن يكون فيه مخطئا ومصيبا، ولو اخطأت الجماعة في استدلالها على اقوالها الا واحدا فيها لم يضرنا فيما قصدناه، لان الذي امن من اجماعهم على الخطأ لا يؤمن من اجماع اكثرهم، ففقدكم نصوص الكتاب والسنة ادلة لتلك المذاهب لا يدخل على ما قلناه. اللهم الا أن يريدوا انا فقدنا ما (1) يمكن التعلق به، أو الاعتقاد فيه انه دليل. فهذا إذا ادعيتموه علمتم ما فيه، وقيل لكم: من اين قلتم ذلك ؟ وكيف يحاط علما بمثله ويقطع عليه ؟ وهل هذا الا الحجر في الشبه طريف ! وليس يجب في الشبه ما يجب في الادلة، فان تلك تنحصر والشبه لا تنحصر. على انا نقول: وما نجد لقول كل واحد من الجماعة علة تقتضي القول بمذهبه، فيجب أن ينفى اعتمادهم في هذه المذاهب على العلل القياسية. فان قالوا: انكم لم تجدوا علة يجب عندها الحكم بكل ما حكى من المذاهب، والا فانتم تجدون ما يمكن ان يجعل علة ويعتقد عنده (2). قلنا: وكذلك نقول لكم فيما تقدم. على انا نقول لهم: لم انكرتم ان يكون من ذهب في الحرام إلى الطلاق الثلاث، انما قال بذلك من حيث جعله ككنايات الطلاق التي هي طلاق على الحقيقة ولها احكام الطلاق عند كثير منهم من غير اختيار الشبه، ورجع في ذلك إلى النص في الطلاق، وادخله في جملة ما يتناوله الاسم ؟ ومن قال انه يمين يرجع ايضا إلى


(1) في الأصل: لا. (2) يعتقد عنده المذهب. (*)


[ 683 ]

نص الكتاب الذي يرجع إليه القائلون في زماننا بان الحرام يمين، وهو قوله تعالى: [ يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغى مرضات ازواجك ] (1)، ثم قوله بعد: (قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم) (2)، وان النبي صلى الله عليه وآله حرم (3) على نفسه مارية القبطية (4)، أو شرب العسل (5) على اختلاف الرواية في ذلك، فانزل الله تعالى ما تلوناه وسماه يمينا بقوله: (قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم) فدخل فيما يتناوله اللفظ. ومن عجيب الامر انهم يجدون كثيرا من الفقهاء في زماننا يعتمدون ذلك في هذه المسألة، ويعولون على هذا الظاهر ويتعجبون أن يكون بعض الصحابة رجع في شئ من المذاهب التي حكوها إلى النص، ويقطعون على انه لا مخرج لها في النصوص، وهذا يدل على قلة التأمل. ويمكن ايضا مثل ذلك: فيمن ذهب إلى انه ظهار (6)، وأن يكون اجراه مجرى الظهار في تناول الاسم له، وان كان لفظه مخالفا للفظ الظهار، كما كانت كنايات الطلاق مخالفة للفظ الطلاق واجريت مجراه، وكذلك لفظ الحرام مخالف لليمين واجري في تناول الاسم مجراه.


(1) التحريم: 1. (2) التحريم: 2. (3) تفسير الطبري 28: 100، تفسير التبيان 10: 44. (4) ام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي جارية بعث بها المقوقس ملك الاقباط وصاحب الاسكندرية الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاسلمت وأنزلها النبي في العالية في المال الذي اشتهر بمشربة ام ابراهيم، ووطئها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بملك اليمين ووضعت مولودها في ذي الحجة سنة ثمان. كانت مارية بيضاء، جميلة، جعدة – كما وصفها الرواة والمورخون – وماتت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين ودفنت في البقيع. (5) تفسير الطبري 28: 102، تفسير التبيان 10: 44 (6) أي الحرام، وهو منقول عن ابن عباس وغيره. راجع صفحة 676. (*)


[ 684 ]

ومن ذهب إلى انه تطليقة واحدة (1)، كأنه ذهب إلى الطلاق والى اقل ما يقع به. والذاهب إلى الثلاث ذهب إلى الاكثر والاعم. وكل هذا ممكن أن يتعلق فيه بالظواهر والنصوص، ويكفى الاشارة إلى ما يمكن أن يكون متعلقا وليس يلزم أن يكون حجة قاطعة ودليلا صحيحا. فاما قول مسروق (2)، فواضح انه لم يقل (3) قياسا، وانه لما لم يجعل لهذا القول تأثيرا تمسك بالاصل في الحكم أو ببعض الظواهر التي تخظر تحريم المحلل. قال: قالوا: لو كانوا رجعوا في هذه الاقوال إلى ظواهر النصوص و (4) ادلتها على ما ذكرتم، لوجب أن يخطئ بعضهم بعضا، لان الحق لا يكون الا في احد الاقوال. قلنا: لا شئ ابلغ في التخطئة من المجاهرة بالخلاف، والفتوى بخلاف المذهب، وهذا قد كان منهم، وزاد بعضهم عليه حتى انتهى إلى ذكر المباهلة والتخويف من الله. فاما السباب واللعن والشتم والرجوع عن الولاية، فليس يجب عندنا بكل خطاء، وسنبين القول في ذلك إذا تكلمنا على الطريقة التي نذكرها عنهم من الاستدلال فيما بعد انشاء الله تعالى فاما قولهم في الاستدلال: ” انهم جعلوه طلاقا تمثيلا وتشبيها “، فقد بينا انه غير ممتنع أن يكونوا الحقوه بما يتناوله الاسم بناء على انهم لا يقدرون أن يحكوا عنهم انهم قالوا: قلنا بكذا تشبيها بكذا، وانما روى انهم جعلوا الحرام طلاقا وحكموا فيه بحكم الطلاق، فاما من أي وجه فعلوا ذلك ؟ وهل الحقوه تمثيلا وتشبيها ؟ أو في تناول الاسم له فليس بمنقول على انه لا يمتنع أن يشبه الشئ بالشئ ويذكر له نظير لا على سبيل المقايسة


(1) وهو منقول عن ابن مسعود، وابن عمر وغيرهما راجع صفحة 676. (2) راجع هامش (2) صفحة 677. (3) يقله. (4) أو. (*)


[ 685 ]

بل على سبيل التقريب (1) والافهام، فيقول من ينفى القياس مثلا: المصاحفة والمعانقة يجريان مجرى المجامعة في نقض الطهر، وان لم يكن حاملا لهما عليها بالقياس، بل يذهب إلى تناول ظاهر اللفظ للكل، فلو نقل عنهم التصريح بالتمثيل والتشبيه لم يكن فيه دلالة على أن (2) القياس ليس هو ان يقول القائل: الحكم في هذا الشئ التحريم كما كان في غيره مما تناول النص تحريمه، بل القياس هو أن يثبت للمسكوت عن حكمه مثل حكم المنطوق بحكمه لعلة جمعت بينهما، وتكون العلة معلومة متميزة مستدلا على كونها علة من دون سائر صفات الاصل بالدليل، وهذا مما لا يروى عن احد من الصحابة انه استعمله على وجه من الوجوه، فكيف يدعى مع ذلك التصريح منهم بالقياس ؟ فاما ادعائهم انهم صرحوا بالقياس وتعلقوا في ذلك بما روى عن ابن عباس من قوله: ” الا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل اب الاب ابا ” (3)، وما روى من التشبيه بغصنى شجرة وبجدولى نهر، فلان تعلق بمثله: لان اول ما فيه انه لا يجب أن يعتمد في ايجاب العلم بالقياس على وجه واحد غير مقطوع به، لان هذه المسألة من المسائل المعلومة التي لا يعتمد فيها الا الادلة الموجبة للعلم، وما رووه عن ابن عباس وغيره من اخبار الاحاد التي لا يقطع بها، فكيف يستدل بها لو كان فيها دلالة وهي غير معلومة ؟ وليس لاحد أن يدعى الاجماع على صحة الاخبار من حيث تلقوا هذه الاخبار بالقبول، أو يدعوا تواترها وانتشارها. وذلك انها وان ظهرت بين الفقهاء، وذكرت في كتب الفرائض، فلا شبهة في انها اخبار آحاد.


(1) التعريف. (2) بناء على ان. (3) راجع هامش رقم (1) صفحة 678. (*)


[ 686 ]

ولا فرق بين من يدعى تواترها، وبين من يدعى تواتر جميع اخبار الاحاد التي ظهرت بين الفقهاء، وكثر احتجاجهم بها في كتبهم ومناظراتهم وان كانت اصولها احادا. فاما الاجماع والتلقى بالقبول، فانه غير مسلم، لانه لم يكن منهم في هذه الاخبار الا ما كان منهم في [ خبر الوضوء من ] (1) مس الذكر (2)، وقوله ” انما الاعمال بالنيات ” (3) وما شاكل ذلك من اخبار الاحاد، وقد علمنا ان هذه الاخبار التي ذكرناها وما جرى مجراها ليس مما يوجب الحجة، ولا تثبت بمثله الاصول التي طريقها العلم. فان قالوا: خبر ” مس الذكر ” و ” الاعمال بالنيات ” ما قبلوه من حيث قطعوا على صحته، وانما عملوا به كما يعلمون على اخبار الاحاد. قلنا: وهكذا خبر غصنى الشجرة وما يجرى مجراه، فليس يمكن بين الامرين فرق. وبعد: فلو سلمنا قيام الحجة بما رووه، وان لم يكن كذلك لم يكن فيه دليل على قولهم، لان اكثر ما في الرواية عن ابن عباس انه انكر على زيد انه لم يحكم للجد بحكم الاب الادنى كما حكم في ابن الابن، وليس في الرواية انه انكر ذلك عليه وجمع بين الامرين بعلة قياسية أوجبت الجمع بينهما ! وظاهر نكيره يحتمل أن يكون، لان ظاهرا من القول اوجب عنده اجراء الاب مجرى الجد كما ان ظاهر اخر اوجب اجراء ابن الابن مجرى الابن للصلب، الا ترى انه يحسن من نافى القياس، العامل في مذهبه كله على النصوص أن يقول لمن خالفه في حكم الملامسة: اما تتقى الله توجب انتقاض الطهر بالتقاء الختانين، ولا توجب انتقاضه بالقبلة ؟ ! وهو


(1) زيادة من النسخة الثانية. (2) راجع هامش رقم (2) صفحة 556. (3) الحديث رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابو داود، وابن ماجه وغيرهم. (*)


[ 687 ]

يذهب الا ان الذي يقتضى الجمع بينهما ظاهر قوله تعالى: (أو لامستم النساء) (1) فلا يمنع أن يكون ابن عباس انما دعا زيدا إلى القول بالظاهر، وقال له إذا اجريت ابن الابن مجرى ابن الصلب لوقع اسم الولد عليه وتناول قوله (يوصيكم الله في اولادكم) لهما، فاجر ايضا الحد مجرى الاب لوقوع اسم الاب عليهما، وقد روى عن ابن عباس في ذلك التعلق بالقرآن تصريحا (3)، على ان ظاهر قول ابن عباس يشهد لمذهبنا، لانه نسب زيدا إلى مفارقة التقوى وخوفه بالله تعالى، فلولا ان زيدا عنده كان في حكم العادل عن النص لم يصح منه اطلاق ذلك القول، لان من يعدل عن موجب القياس إلى اختلاف مذاهب مثبتيه لا ينسب إلى مفارقة التقوى، لان اكثرهم يقول انه مصيب، ومن خطاه يقول انه معذور، ولا يبلغ به إلى هذه الحال. فاما ذكرهم غصنى الشجرة وجدولى النهر، فلا يوجب القول بالقياس، وانما سلكوا ذلك تقريبا للقول من الفهم وتنبيها عليه من غير أن يجعلوا ذلك علة موجبة للحكم، كما يفعل المعلم مع المتعلم من ضرب الامثال، وتقريب البعيد، وازالة اللبس عن المشتبه. وكيف يصح أن يدعى في ذلك انه على طريق المقايسة، وقد علمنا ان القدر الذي اعتمدوه من ذكر الغصن والجدول لا يصح أن يكون عند احد اصول (4) في الشريعة يقاس عليها وتثبت الاحكام لها ؟ على ان الوجه في ذكرهم لما حكى ظاهر، وذلك انهم توصلوا بما ذكر عنهم إلى معرفة أقرب الرجلين من المتوفى والصقهما به نسبا، ثم رجعوا في توريثه إلى الدليل الموجب للاقرب الميراث، وهذا كما يتنازع رجلان في ميراث ميت ويدعى كل واحد منهما انه اقرب، إليه من الاخر، فيصح لمن اراد اعتبار أمرهما ان يعد الاباء


(1) النساء: 43. (2) النساء: 11. (3) صريحا. (4) اصولا. (*)


[ 688 ]

بين الميت وبين كل واحد منهما ويحصيهم، ليعلم ان الاقرب هو من قل عدد الآباء بينه وبين الميت، دون من كثر عددهم بينه وبينه وله ايضا ان يوضح ذلك لمن التبس عليه بذكر الامتثال والنظائر، وان كان كل ذلك مما لا يثبت به التوريث، وانما يعرف به الاقرب، والميراث يثبت بالنصوص. فاما الوجه الثاني من الكلام على استدلالهم هذا ان نقول لهم: لم زعمتم ان النكير مرتفع، وقد روى عن كل واحد من الصحابة – الذين اضفتم إليهم القول بالقياس – ذمة، وتوبيخ فاعله، والازراء عليه: فروى عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال: ” لو كان الدين يؤخذ بالقياس (1) لكان باطن الخف اولى بالمسح من ظاهره ” (2) وهذا تصريح منه عليه السلام بانه لا قياس في ذلك (3). وروى عنه عليه السلام انه قال: ” من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه ” (4) وهذا اللفظ يروى عن عمر (5) (6). وما روى عنه عليه السلام في ذم القياس والذم لفاعله اكثر من أن يحصى (7). وروي عن أبي بكر انه قال: ” أي سماء تظلنى واى ارض تقلني إذا قلت في


(1) قياسا. (2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيفية المسح: ” عن علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان اسفل الخف أولى بالمسح من اعلاه. الحديث “. [ انظر ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (7) صفحة 651 ]. (3) في الدين. (4) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (5) زاد في الحجرية (ايضا). (6) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 1 / 61. (7) راجع: ” ملخص ابطال القياس والرأي لابن حزم الاندلسي: 46 – 3، الاحكام: 7 / 483 – 386 و 8 / 542 – 487 “. (*)


[ 689 ]

كتاب الله برأيى ” (1). وعن عمر انه قال: ” اياكم واصحاب الرأى فانهم اعداء السنن اعيتهم الاحاديث ان يحفضوها فقالوا بالرأى فضلوا واضلوا ” (2). وروي عنه انه قال: ” اياكم والمكايلة، قيل: وما هي ؟ قال: المقايسة ” (2). وروى عن شريح انه قال: ” كتب إلى عمر بن الخطاب – وهو يومئذ من قبله – اقض بما في كتاب الله، فان جاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فان جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما اجمع عليه اهل العلم، فان لم تجد فلا عليك الا تقضى ” (2). وروي عن عمر ايضا قال: ” اجراكم على الجد اجراكم على النار ” (3). وعن عبد الله بن مسعود انه قال: ” يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الامور برأيهم ” (2). وعنه انه قال: ” إذا قلتم في دينكم بالقياس احللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما احلل الله ” (2). وروى عن عبد الله بن عباس انه قال: ” ان الله تعالى قال لنبيه: احكم بينهم بما اراك الله (4) ولم يقل بما رأيت (2). وروي عنه ايضا انه (2) قال: ” لو جعل لاحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول تعالى: (وان احكم بينهم بما انزل الله) (5). وروي عنه ايضا انه قال: ” اياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر


(1) تفسير القرطبي: 19 / 221، تفسير ابن كثير 4 / 472، والمصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (3) انطر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666، وراجع ايضا هامش رقم (3) صفحة 701. (4) قال تعالى شأنه: (إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله). [ النساء: 105 ] (5) المائدة: 49. (*)


[ 690 ]

بالمقاييس (1). وروى عن عبد الله بن عمر انه قال: ” السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه ” وآله وسلم، ولا تجعلوا الرأى سنة للمسلمين ” (1). وقال مسروق: ” لا اقيس شيئا بشئ اخاف أن تزل قدمى بعد ثبوتها ” (1). وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول: ” اول من قاس ابليس ” (1). وروي عنه انه كان لا يكاد يقول شيئا برأيه (1). وقال الشعبي (2) لرجل ” لعلك من القايسين ” (1). وقال: ” ان اخذتم بالقياس احللتم الحرام وحرمتم الحلال (1). وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن (3) لا يفتى برأيه. وإذا كان القوم قد صرحوا بذم القياس وانكاره هذا التصريح، فكيف يدعى ارتفاع نكيرهم ؟، واى نكير يتجاوز ما ذكرناه ورويناه عنهم ؟ وليس لهم ان يتأولوا الالفاظ التي رويناها ويستكره‍ [ وا ] التأويل فيها ويتعسفوه، مثل ان يحملوها على انكار بعض القياس دون بعض، أو على وجه دون وجه، ليسلم لهم ما حكوه من قولهم بالرأى والقياس ! لان ذلك انما يسوغ لو كان ما استدلوا به على قولهم بالقياس غير محتمل للتأويل، وكان صريحا في دلالته على ذلك، فانا قد بينا ان جميع ما تعلقوا به من اختلافهم في مسألة الحرام وغيرها من المسائل لا يدل على القياس، ولا له ايضا


(1) انطر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، الشعبي، الحميري، من التابعين ولد ومات بالكوفة سنة 103 ه‍ كان من المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام والموالين لبني أمية، إتصل بعبد الملك بن مروان فكان نديمه وسميره، واستقضاه عمر بن عبد العزيز، يعده أهل السنة من الفقهاء والمحدثين الثقات ! ! (3) في اسمه اختلاف، قيل: ليس له اسم، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: اسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قيل: إنه أحد الفقهاء السبعة في المدينة، يعد من الفقهاء والمحدثين الثقات عند أهل السنة، وفي سنة 94 أو 104. (*)


[ 691 ]

ظاهر في الدلالة عليه، وسنبين بمشية الله مثل ذلك في تعلقهم بالرأى واضافة الاحكام إليه، وانه لا ظاهر له في الدلالة على القياس، فضلا عن ان يحتمل التأويل، فلا وجه لتأويلهم ما رويناه من الاخبار، لا سيما وجميعها له ظاهر في نفى القياس لا بدلهم من العدول عنه، إذا صح تأويلهم، فكيف يعدل عما له ظاهر في الدلالة على امر لاجل ما لا ظاهر له ؟ ولو تساوى الامران في الظاهر ايضا، لم يكن لهم ان يحملوا اخبارنا على التأويلات التي ذكروها لتسلم دلالة ما تعلقوا به على القياس، ولو كانوا بذلك اولى منا إذا تأولنا ما رووه وحملنا على ان القول فيه انما كان بالنصوص وادلتها ليسلم دلالة ما رويناه على نفي القياس. وما لا يزالون يتعلقون به في ذلك من قولهم: ان المنكرين لذلك هم المستعملون له، فلابد من حمل النكير على ما يوافق ما ظهر عنهم من استعمال القياس. فتعلل (1) بالباطل، وذلك ان لا نعلم انهم استعملوا القياس ضرورة، أو من وجه لا يسوغ فيه التأويل ولا يدخله الاحتمال، وانما ادعى ذلك عليهم وتعلق مدعيه بما لا ظاهر له ولا شهادة فيه بالقول بالقياس، واحسن احواله أن يكون محتملا، فكيف يصح ما ذكروه ؟ وهذه الجملة [ التي ] ذكرناها تسقط قولهم ان الرأى الذي أبوه هو الذي يصدر عن الهوى، والذي يستعمل في غير موضعه، وان امير المؤمنين عليه السلام إنما نفى أن يكون جميع الدين يؤخذ قياسا (2)، وكذلك أبو بكر انما استكبر استعماله الرأى في كتاب الله على وجه لا يسوغ فيه (2)، إلى غير ذلك مما يقولونه ويفزعون إليه، لان كل ذلك منهم عدول عن الظاهر، وتخصيص لاطلاقه، وتأول لا يجب المصير إليه الا بعد


(1) فتعللوا. (2) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (*)


[ 692 ]

القطع على صحة القياس، وقول القوم به بما لا يحتمل التأويل. فاما قول بعضهم (1): انهم فعلوا ذلك تشددا واحتياطا للدين حتى لا يقول الفقهاء على القياس، ويعدلوا عن تتبع الكتاب والسنة. فظاهر السقوط، وذلك ان التشدد لا يجوز أن يبلغ إلى انكار ما اوجبه الله تعالى، أو فسخ فيه، ولا يقتضى أن يخرجوا انكارهم المخرج الموهم لانكار الحق، ولو كان ذلك غرضهم لوجب أن يصرحوا بذم العدول عن الكتاب والسنه، والاعراض عن تأملهما والتشاغل بغيرهما من غير ان يطلقوا انكار القياس والرأى الذين هما عندكم اصلان من اصول الدين تاليان للكتاب والسنة والاجماع ! على انه يمكن أن يقال لهم: مع تسليم ارتفاع النكير، لم انكرتم ان يكون بعض الصحابة الذين حكيتم عنهم الاختلاف في مسألة الحرام وغيرها قد رجع في مذهبه إلى القياس، وهو من كان قوله منهم ابعد من أن يتناوله شئ من ظواهر الكتاب والسنة ؟ وأن يكون الباقون رجعوا في مذاهبهم إلى النصوص وادلتها ؟ غير ان من ذهب إلى القياس منهم لم يظهر وجه قوله، ولا علمت الجماعة انه قاله قياسا، ولو علموا بذلك لانكروه، غير انهم لا يعلمونه واحسنوا الظن بالقائل وظنوا انه لم يقل الا عن نص أو طريق يخالف القياس. وليس يجب أن يكون وجه قول كل واحد منهم على التفصيل معلوما للجماعة، ومتى اوجبوا ذلك وادعوه طالبنا هم بالدليل على صحته ولن يجدوه، وهذا ايضا مما لا انفكاك لهم منه. واستدلوا ايضا بأن (1) قالوا: قد ظهر عن الصحابة القول بالرأى واضافة المذاهب إليه، ولفظة ” الرأى ” إذا اطلقت لم تفد القول بالحكم من طريق النص، لان ما طريقه العلم لا يضاف إلى الرأى جليا كان الدليل أو خفيا، ولا يستفاد من ذلك الا القول من طريق القياس والاجتهاد، والاخبار الواردة في ذلك كثيرة:


(1) راجع المصادر الواردة في الهامش رقم (2) صفحة 666. (*)


[ 693 ]

نحو ما روى عن أبي بكر في الكلالة: ” اقول فيها برايى ” (1) وقول عمر: ” اقض برايى ” (1)، وقوله: ” هذا ما رأى عمر ” (1)، ونحو قول امير المؤمنين عليه السلام في امهات الاولاد: ” كان رأيى ورأى عمر ان لا يبعن ثم رأيت بيعهن ” (1)، وهذه الجملة لا تدل على القياس والاجتهاد من الوجه الذي ذكرناه في اطلاق لفظة ” الرأى ” واضافة المذهب إليه. ولانه ايضا: لو كان رجوعهم فيما ذكرناه من اختلافهم إلى طرق العلم، لما صح منهم الرجوع من رأى إلى رأى، ولا التوقف فيه، وتجويز كونه صوابا وخطاء، ولا ان يمسكوا عن تخطئة المخالف والنكير عليه. ولان الادلة لا تتناقض ولا تختلف، فكيف يجوز أن يرجع كل واحد إلى دليل مع اختلاف اقوالهم. ؟ فيقال لهم: قد ادعيتم في معنى ” الرأى ” ما لا يصح، لان ” الرأى ” إذا اطلق تناول كل ما كان متوصلا إليه بضرب من الاستدلال الذي يصح فيه اعتراض الشبهات، واختلاف اهل الاسلام لا يختص ما قيل قياسا دون ما قيل من جهة اعتبار الظواهر والاستدلال بها الا ترى انهم يقولون: ” فلان يرى العدل و ” فلان يرى القدر ” و ” فلان يرى الارجاء ” وفلان يرى القطع على عقاب الفساق ” وان كان ذلك متوصلا إليه بالادلة الموجبة للعلم. وكذلك يقولون: ” ان ابا حنيفة يرى الوضوء بنبيذ التمر (2) وان ذلك رأيه ” كما يقال: ” ان ذلك مذهبه ” وان كان لا يرجع في ذلك إلى قياس واجتهاد. ويقال ايضا: ” ان القضاء بالشاهد واليمين ” رأى الشافعي (3) ومالك (3) وان كان


(1) راجع المصادر الواردة في الهامش رقم (2) صفحة 666. (2) الفتاوي الهندية 1 / 22 – 21. (3) المغني لابن قدامة: 12 / 13. (*)


[ 694 ]

مرجعهما فيه إلى الخبر، وان الاقراء التي تعتبر في العدة على رأي أبي حنيفة الحيض (1) وعلى رأى الشافعي وغيره الاطهار (2) وان كان رجوع كل واحد منهما في ذلك إلى ضرب من الاستدلال يخالف القياس. وإذا كان معنى ” الرأى ” والمستفاد به المذهب والاعتقاد على ما ذكرناه، لم يكن في اضافة الصحابة اقوالها إلى الرأى لادلة على ما توهمه خصومنا من القياس، لانهم لم ينصوا على ان الرأى الذي رواه هو الصادر عن القياس دون غيره، وإذا لم ينصوا والقول محتمل لما يقولونه لم يكن للخصم فيه دلالة. فان قالوا: ان كان القول في ” الرأى ” على ما ذكرتم فلم لا يقال: ان المسلمين يرون أن التمسك بالصلاة والصوم وما اشبه ذلك من الامور المعلومة ؟ قلنا: انما لا يقال ذلك لما قدمناه من ان لفظ ” الرأى ” يفيد الامور المعلومة من الطرق التي يصح أن تعترضها الشبهات ويختلف فيها اهل القبلة، ولهذا لا يضيفون الامور المعلومة ضرورة من واجبات العقول إلى الرأى، كقبح الظلم، ووجوب الانصاف، ورد الوديعة. ولا يضيفون ايضا إليه العلم بدعاء الرسول عليه السلام لامته إلى صلوات الخمس، وصوم شهر بعينه، لانه معلوم ضرورة، أو باستدلال لا يدخل فيه شبهة. وكذلك ايضا: لا يضيفون إليه سائر الامور المعلومة بالادلة التي لا يختلف المسلمون فيها، كوجوب التمسك بالصلاة، والصوم، والعلم بنبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصدق دعوته، وقد بينا انهم يطلقون ” الرأى ” في القول بالعدل، والقدر وغير ذلك. فان قالوا: انما صح ان يقول العدلى: ” فلان يرى القدر “، ويقول: القدري: ” فلان يرى العدل ” لان كل واحد منهما ينسب صاحبه إلى القول بغير علم، وان اجتهد، فشبه


(1) الفتاوي الهندية: 1 / 526، المغني لابن قدامة: 8 / 246. (2) المغني لابن قدامة: 8 / 246. (*)


[ 695 ]

بالقول بالرأى الذي هو القياس. قيل لهم: هذا الاطلاق الذى حكيناه ليس يختص بواحد دون اخر، بل العدلى يقول في نفسه وفيمن يقول بقوله انه يرى العدل، وكذلك القدر والارجاء وسائر ما حكيناه من المذاهب، على ان العدلى لا يرى ان القدري قايل بالقدر الا عن تقليد أو شبهة، وليس يرى انه قائل من اجتهاد يقتضى غلبة الظن حتى يطلق عليه لفظ ” الرأى ” المختص عندهم بالمذاهب الحاصلة من طريق القياس. فان قالوا: كيف يصح ان ينازعوا في اختصاص ” الرأى ” بما ذكرناه ؟ ومعلوم ان القائل إذا قال: ” هذا مذهب اهل الرأى “، و ” قال اهل الرأي كذا ” لم يفهم عنه الا القياس دون غيره. قيل: هذا تعارف حادث في اهل القياس، لانه حدث الاختلاف بين الامة في القياس، فنفاه قوم واثبته اخرون، وغلب على مثبتيه الاضافة إلى الرأى، ومعلوم ان هذا التعارف لم يكن في زمن الصحابة، فكيف يحمل خطابهم عليه ؟ على انه ليس معينا عن احد من الصحابة انه قال: ” انا من اهل الرأى ” واكثر ما رووه قولهم ” رأينا كذا ” و ” كان رائى ورأى فلان كذا ” ! وليس يمتنع أن يكون في بعض تصرف اللفظة من التعارف ما ليس هو في جميع تصرفها، ويكون الاضافة إلى ” الرأى ” قد غلب فيها ما ذكروه، وان لم يغلب في قولهم: ” رأيت كذا ” و ” كان كذا من رأي “. هذا مما لا يمكن دفعه، فانه لا شبهة على احد في ان قولهم: ” فلان من اهل الرأي ” لا يجري في الاختصاص بالاضافة الى الاجتهاد والقياس مجرى قولهم ” رأى فلان كذا ” و ” كان رأى فلان أن يقول بكذا “، وان الثاني لا تعارف فيه يخصصه وان كان في الاول. وإذا صح ما ذكرناه، لم يمتنع أن يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ” كان رائي


[ 696 ]

ورأى عمر الا يبعن ” (1) اي مذهبي وما افتي به وكذلك قول ابي بكر: ” اقول فيها برأيي ” (1) اي ما اعتقده وادانى الاستدلال إليه، وكذلك قول عمر: ” اقضي فيها برأيي ” (1). فان قالوا لو كان الامر على ما ذكرتم فلم قالوا ان كان صوابا فمن الله وان كان خطاء فمنى ومن الشيطان ” (1) والادلة والنصوص لا يكون فيها خطاء ؟ قيل: قد يخطئ المحتج بالكتاب والسنة والمستدل بادلتهما، بان يضع الاستدلال في غير موضعه، مثلا يقدم مؤخرا أو يؤخر مقدما، أو يخص عاما أو يعم خاصا، أو يتمسك بمنسوخ، أو يعمل على ما هناك اولى منه، فيكون الخطاء منه أو من الشيطان، فالكتاب والسنة وان لم يكن فيهما خطاء، فالمستدل بهما قد يخطئ من حيث قلنا. على انا إذا تأملنا المسائل التي قالوا فيها بما قالوه واضافوه إلى رأيهم، وجدنا جميعها لها مخرجا من ادلة النصوص، فالذاهب (2) إليها متعلق بغير القياس. اما بيع ام الولد فيمكن أن يعول من منع منه على ما روى عنه عليه السلام في مارية القبطية لما ولدت ابراهيم: ” اعتقها ولدها ” (4). ومن ذهب إلى جواز بيعها امكنه التعلق باشياء: منها: ان اصل الملك جواز التصرف، والولادة غير مزيلة للملك بدلالة ان لسيدها وطؤها بعد الولادة من غير ملك ثان ولا عقد نكاح، وذلك يقتضى بقاء السبب المبيح للوطئ وهو الملك. ومنها: انه لا خلاف في ان عتقها بعد الولادة جائز، ولو كان الملك زائلا ما جاز العتق.


(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) في الاصل: والذاهب. (3) كنز العمال: 10: 328 حديث 29654. (4) كنز العمال: 11: 470 حديث 32209 و 11: 471 حديث 32213. (*)


[ 697 ]

ومنها: قوله تعالى: (احل الله البيع) (1) ويتعلق بعمومه في كل موضع إلا ما اخرجه (2) الدليل، فلعل من اجاز البيع في الصدر الاول تعلق ببعض ما اشرنا إليه واعتمده. ومن تأمل احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في بيع امهات الاولاد (3) وجده مخالفا لطريقة القياس، لان المروى عنه عليه السلام انه قال: ” سبق كتاب الله بجواز بيعها ” (4)، فاضاف جواز البيع إلى الكتاب دون غيره. فاما قول ابى بكر وقد سئل عن الكلالة ” اقول فيها برأيي، فان كان حقا فمن الله، وان كان خطاء فمنى: هو ما عدا الوالد والولد ” (4) فليس يجوز أن يكون الرأى الذي ذكره (5) هو القياس، لان السؤال وقع عن معنى اسم، والاسماء لا مدخل للقياس فيها، وانما المرجع فيها إلى المواضعة وتوقيف اهل اللسان، وكتاب الله تعالى يدل على معنى الكلالة، لانه تعالى قال: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) (6)، وما تولى الله تفسيره والفتوى به لم يدخله الرأى والذي هو الاجتهاد والقياس. ويبين ذلك ايضا: قول النبي صلى الله عليه وآله لعمر وقد كرر عليه السؤال عن الكلالة ” يكفيك اية الصيف ” (7) وهذا يدل على ان الاية نفسها تفيد الحكم. وكذلك ان تعلقوا بما روي عن ابن مسعود وانه ” سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها ؟ فرد السائل شهرا ثم قال: ” اقول فيها برأيي، فان كان حقا فمن الله، وان كان خطاء فمنى أو من الشيطان، والله ورسوله منه بريان:


(1) البقرة: 275. (2) في الاصل: أحوجه. (3) الولد. (4) راجع المصادر الواردة في ها امش رقم (2) صفحة 666. (5) ذكروه. (6) النساء: 176. (7) راجع تخريج القول في هامش رقم (3) صفحة 370. (*)


[ 698 ]

عليها العدة، ولها الميراث، ولها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط ” (1) فقال معقل بن يسار: ” اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق بما قضيت ” (1) فسر عبد الله. وذلك ان لقول عبد الله ظاهرا في كتاب الله يمكن أن يرجع إليه، وهو عموم قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا يتربصن بانفسهن اربعة اشهر) وعشرا) (2)، لان عموم الاية تقتضي العدة على كل زوجة توفى عنها زوجها، ولم يخص بالجملة من لم يسم لها صداقا. ويمكن أن يكون اوجب الميراث لكل زوجة كقوله (3) تعالى: (ولهن الربع مما تركتم) (4) [ ولم يخص ] (5) من لم يطأها زوجها ولم يسم لها صداقا، واوجب المهر بقوله تعالى: (فانكحوهن باذن اهلهن واتوهن اجورهن بالمعروف) (6) وذلك موجب لمهر المثل، لان المسمى لا يتجاوز ولا يعتبر فيه العرف. وإذا كان لكل افتى به وجه في الظاهر، فما السبب في القطع على قوله بالقياس ؟ فان قيل: لم رددهم شهرا ؟ ولم قال: ” وان كان خطاء فمنى ” (1) ؟ فكيف يكون الحكم المأخوذ من ظاهر الكتاب خطأ ؟ قلنا: يجوز أن يكون توقفه وترداده للسائل لطلبه ما عساه يقتضى تخصيص الايات التي ذكرناها والتماسا لما لعله أن يعثر عليه مما يجب له ترك الظاهر. ويمكن أن يكون ايضا: انه لم يتعين عليه فرض الفتيا لوجود غيره من علماء الصحابة، فاثر طلب السلامة بالاعراض عن الجواب والفتيا، ثم الحوا عليه وسألوه اجاب.


(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) البقرة: 224. (3) بقوله. (4) النساء: 12. (5) زيادة من النسخة الثانية. (6) النساء: 25. (*)


[ 699 ]

فاما قوله: ” ان كان خطاء فمنى ” (1) فيمكن لما أن يكون لانه جوز أن يكون هناك ما هو أولى من الظاهر من دليل يخص، أو رواية تقتضيه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مثل ما سئل منه يخالف قضيته، أو غير ذلك مما يكون العدول إليه اولى. على انهم يقولون: ” كل مجتهد مصيب “، فيلزمهم السؤال عن قوله: ” أن كان خطأ فمني “، وكيف نسب نفسه إلى الخطأ وهو مجتهد ؟ فلا بد لهم من الرجوع إلى تجويزه على نفسه التقصير في طلب خبر لو استقصى لظفر به، وما جرى مجرى ذلك. ومتى تأملت جميع المسائل التي حكي عنهم اضافة القول فيها إلى رأيهم وجدت لها مخرجا في الظواهر وطرقا تخالف القياس ! فاما قولهم: ” ولو كان رجوعهم في ذلك إلى طرق العلم لما صح منهم الرجوع من رأى إلى اخر، ولا التوقف فيه، وتجويز كونه خطأ وصوابا “. فمن بعيد ما يقال، وذلك ان الرجوع عن المذاهب وادلتهالا يدل على القول فيها بالقياس والظن، لان ذلك قد يصح فيما طريقه العلم والادلة، الا ترى ان القائل بالجبر قد يعدل عنه إلى العدل، وكذلك قد يعدل عن القطع على عقاب الفساق من اهل القبلة إلى القول بالارجاء (2)، وسائر مسائل الاصول ذلك ممن فيها، فليس التنقل من رأى إلى اخر


(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) الارجاء اما ان يكون مشتقا من الرجاء بمعنى الامل، أو من الارجاء بمعنى التأخير، والمرجئة فرقة قالت: لا يضر مع الايمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، وان الايمان قول بلا عمل، فكأنهم قدموا الايمان وأرجئوا العمل، وخلاصة القول: انهم يذهبون إلى أن اصحاب الكبائر إذا ماتوا غير تائبين فإن حساب اعمالهم مرجو ومؤخر ليوم القيامة، وانهم لا يحكمون عليهم بالنعوت والصفات في الدنيا، فلا يحكمون عليهم بالفسق، أو الكفر، وانهم مؤمنون أو فاسقون، أو فاسق، أو من اهل النار، والجنة، بل يرجئونه الى الاخرة. والمرجئة على اصناف وفرق عديدة. وقد اختلف ارباب الملل والنحل في مبدع هذه الفكرة، والرأي السائد عند المحققين أنها من الفرق التي أبدعتها السياسة الاموية لتبرئة جرائمها والموبقات، ولاراء المرجئة تأثيرات كبيرة بعيدة المدى في اصول الدين عند المذاهب السنية لا زالت باقية. (*)


[ 700 ]

دلالة على ما ظنوا (1). وأما التوقف: فقد يجوز أن يكون طلبا للاستدلال والتأمل، كما يتوقف الناظرون في كثير من مسائل الاصول التي يتوصل إليها بالادلة المفضية إلى العلم ويتثبتون تحرزا من الغلط، واحتياطا في اصابة الحق. فاما: ” تجويز كونه خطأ وصوابا “، فالوجه فيه ما ذكرناه في خبر ابن مسعود، أو أن ذلك يحسن أن يقال بحيث يكون التجويز لورود ما هو اولى من الظاهر ثانيا، لان الناظر ربما كان متهما نفسه بالتقصير ويجوز أن يكون في المسألة مخصص أو معنى يقتضى العدول إليه لم يمعن النظر في طلبه والفحص عنه. واما قولهم: ” ولا ان يمسكوا عن تخطئة المخالف والنكير عليه، ولان الادلة لا تتناقض ولا تختلف، فكيف يجوز أن يرجع كل واحد منهم في قوله إلى دليل ” ؟ فقد بينا انا لا نقول ان مع كل واحد دليلا على الحقيقة، وانما قلنا: يجوز أن يكون كل واحد تعلق بطريقة من الظاهر وادلة النصوص، اعتقدها دليلا لا شبهة في ان الادلة لا تتناقض، الا أن ما يعتقد بالشبهة دليلا لا يجب ذلك فيه. فاما الامساك عن النكير (2) والتخطئة، فلم يمسكوا عنهما، والعلم بان بعضهم خطأ بعضا يجرى مجرى العلم بانهم اختلفوا، فدافع احد الامرين كدافع الاخر. ويدل على ما ذكرناه ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام وقد استفتاه عمر في امرأة وجه إليها، فألقت ما في بطنها، وقد افتاه كافة من حضره من الصحابة بأن لا شئ عليه، فانه مؤدب فقال عليه السلام: ” ان كان هذا جهد رأيهم فقد اخطأوا، وان كانوا قاربوك فقد غشوك ” (3) وهذا تصريح بالتخطئة.


(1) ظنوه. (2) التنكير. (3) راجع (نقلا عن الغدير في الكتاب والسنة: 6: 119): ” ابن الجوزي في سيرة عمر ص 117، وأبو عمر في العلم: 146، والسيوطي في جمع الجوامع: 7: 300 نقلا عن عبد الرزاق، والبهيقي، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 1: 58 “. (*)


[ 701 ]

والخبر الذي رويناه متقدما عنه عليه السلام يشهد بذلك، وهو قوله عليه السلام: ” من أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه ” (1). وروى عن ابن عباس انه قال: ” من شاء باهلته ان الذي احصى رمل عالج ما جعل للمال نصفين وثلثا ” (2). وروي عنه انه قال: ” من شاء باهلته ان الجد أب ” (3). وقد رويت المباهلة عن ابن مسعود ايضا في قصة اخرى، وروي عن ابن عباس الخبر الذي تقدم من قوله: ” الا يتقى الله زيد بن ثابت ” (1).، وهذا ايضا تصريح بالتخطئة وتخويف بالله تعالى في المقام على المذهب. والخبر الذي رويناه ايضا عن عمر انه قال: ” أجرأكم على الجد أجرأكم على النار ” (4) واضح في هذا الباب. وروي عن عائشة انها بعثت إلى زيد بن ارقم، وقد اشترى ما باعه بأقل مما باعه به قبل أن يقبض الثمن: ” انك ان لم تثبت فقد بطل جهادك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ” (5). وقيل لابن المسيب: ان شريحا قضى في مكاتب عليه دين: ان الدين والكتابة بالحصص فقال: ” اخطأ شريح “.


(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) الاحكام للآمدي 4: 417. (3) اختلف الصحابة في الجد فألحقه بعضهم بالاب في اسقاط الاخوة كابن عباس، وألحقه بعضهم بالاخوة كزيد بن ثابت. انظر أقوالهم في هذه المسألة في: ” الاحكام للآمدي ” 3: 302. (4) نسب ابن ابي الحديد المعتزلي في ” شرح نهج البلاغة 1: 611 ” هذا القول لعمر حيث يقول: ” كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي ضده وخلافه، قضى في الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من اراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه “. راجع ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (5) وفي ” الاحكام لآمدي 3: 304 “: قالت عائشة: ” أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة “. (*)


[ 702 ]

وفي هذا من الاخبار ما لا يحصى كثرة، وفيما اوردناه كفاية لما اردناه. فاما ما لا يزالون يستكرهونه ويتعسفونه من تأويل هذه الاخبار التي ذكرناها، مثل قولهم في قصة المجهضة ولدها ” ان الخطأ والغش انما اراد به ترك ما هو الاولى في النصح والمذهب ” (1)، وان ابن عباس دعا إلى المباهلة لانه خطئ في اجتهاده، فدعا من خطأه في ذلك – لافي نفس المذهب – إلى المباهلة، وان ذكر جهنم والنار على سبيل التشدد والتحرز، وان ذلك تخويف لمن اقدم عليه من غير فكر ولا تحفظ. وفي حديث احباط الجهاد، ان ذلك مشروط بأن يكون ذاكر للخبر المقتضي لخلاف قوله، إلى غير ذلك مما يتناولون به الاخبار الواردة في هذا المعنى، فكله عدول عن ظواهر الاخبار وحملها على ما لم تحتمله، وذلك انما يسوغ انساغ، متى ثبت لنا تصويب القوم بعضهم لبعض في مذاهبهم من وجه لا يحتمله التأويل. فاما ولا شئ نذكر في ذلك الا وهو محتمل للتصويب وغيره على ما ذكرناه وسنذكره، فلا وجه للالتفات إلى تأويلاتهم البعيدة. فإن قالوا: نحن وان صوبنا المجتهدين، فليس نمنع أن يكون في جملة المسائل ما الحق فيه في واحد، فلا يسوغ في مثله الاجتهاد، واكثر ما تقتضيه الاخبار التي رويتموها أن يكون الاجتهاد غير سائغ في هذه المسائل بعينها، وهذا لا يدل على ان سائر المسائل كذلك. قلنا: لا فرق بين هذه المسائل التي روينا فيها الاخبار وبين غيرها، وليس لها صفة تباين بها ما عداها مسائل الاجتهاد، الا يرون انه لا نص في شئ منها يقطع العذر، كما ان ذلك ليس في غيرها من مسائل الاجتهاد، وإذا لم يتميز من غيرها بصفة لم يسغ ما ادعيتموه واشترك الكل في جواز الاجتهاد فيه أو المنع منه. واستدلوا ايضا بان قالوا ليس تخلو أقوالهم في هذه المسائل التي اضافوها


(1) انظر تخريجه في هامش رقم (3) صفحة 700. (*)


[ 703 ]

إلى آرائهم وامثالها من أن يكونوا ذهبوا إليها من طرق الادلة الموجبة للعلم، أو من جهة الاجتهاد والقياس. ولو كان الاول: لوجب أن يكون الحق في واحد من الاقوال دون جميعها، ولوجب أن يكون ما عدا المذهب الواحد الذي هو الحق منها باطلا خطأ، ولو كان كذلك لوجب أن يقطعوا ولاية قائله، ويبرءوا منه، ويلعنوه، ولا يعظموه، الا ترى انهم في امور كثيرة خرجوا إلى المقاتلة، ورجعوا عن التعظيم والولاية، لما لم يكن من باب الاجتهاديات، ولو كان الكل واحدا لفعلوا في جميعه فعلا واحدا. ولو كان الامر على خلاف قولنا، لم يحسن ان يولى بعضهم بعضا مع علمه بخلافه عليه في مذهبه، كما ولى امير المؤمنين عليه السلام شريحا مع علمه بخلافه له في كثير من الاحكام، وكما ولى أبو بكر زيدا وهو يخالف في الجد، فلولا اعتقاد المولي أن المولى محق، وان الذي يذهب إليه – وان كان مخالفا لمذهبه – صواب لم يجز ذلك، ولا جاز ايضا ان يسوغ له الفتيا ويحيل عليه بها، وقد كانوا يفعلون ذلك. وكذلك كان يجب أن ينقض بعضهم على بعض الاحكام التي يخالفه فيها لما تمكن من ذلك، وان ينقض الواحد على نفسه ما حكم به لهم في حال ثم رجع إلى ما يخالفه في اخرى، لان كثيرا منهم قد قضى بقضايا مختلفة ولم ينقض على نفسه ما تقدم، فلولا ان الكل عندهم صواب لم يسغ ذلك ! وايضا: فقد اختلفوا فيما لو كان خطأ لكان كبيرا، نحو اختلافهم في الفروج، والدماء، والاموال، وقضى بعضهم بأراقة الدم، واباحة المال والفرج، فلو كان منهم من اخطأ، لم يجر ان يكون خطأه كبيرا، ويكون سبيله سبيل من إبتداء إراقة دم محرم بغير حق، وأخذ مالا عظيما بغير حق، واعطاء من لا يستحقه، وفي ذلك تفسيقه ووجوب البرائة منه. وفي علمنا بفقد كل ذلك دليل على انهم قالوا بالاجتهاد وان الجماعة


[ 704 ]

مصيبون. وهذه الطريقة هي عمدتهم في ان كل مجتهد مصيب في احكام الشريعة. قيل لهم: ما تنكرون أن يكون الخطأ الواقع ينقسم: إلى ما يوجب البرائة، وحمل السلاح، واللعن، وقطع الولاية. والى ما لا يوجب شيئا من ذلك وان يكون اشتراك الفعلين في كونهما خطأ لا يقتضى اشتراكهما فيما يستحق عليهما ويعامل به فاعلهما، إلا يرى ان (1) الصغيرة تشارك الكبيرة في القبح والخطأ، فلا (2) يدل ذلك على تساويهما فيما يعامل به فاعلهما. والزنا (3) والكفر يشتركان في القبح والمعصية، ولا يجب تساويهما في سائر الاحكام. وإذا اجاز اشتراك الشيئين في القبح مع اختلافهما فيما يستحق عليهما، لم يمتنع أن يكون الحق في احد ما قاله القوم، وما عداه خطأ، ولا يجب مساواه ذلك الخطأ لما يوجب من الخطاء والتبرى، واللعن، وحمل السلاح، والحرب. ثم يقال لهم: اليس الصحابة قد اختلفت قبل العقد لابي بكر حتى قالت الانصار: ” منا امير ومنكم امير ؟ ” (4) فإذا اعترفو به ولابد منه، قيل لهم: أو ليس الذي دعوا إلى ذلك مخطئين لمخالفتهم الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ” الائمة من قريش ” (5) فلا بد من الاقرار بخطئهم ؟


(1) يرون. (2) ولا. (3) الربا. (4) انظر: ” تاريخ الطبري “: حوادث سنة 11 ه‍. (5) من الاحاديث المشهورة والمتواترة، فقد نقله العامة والخاصة في المجاميع الروائية، ورواه أحمد بن حنبل في مسندة والبخاري وغيرهم. (*)


[ 705 ]

فيقال لهم: افتقولون انهم كانوا فساقا، ضلالا، يستحقون اللعن والبراءة والحرب ؟ فان قالوا: نعم، لزمهم تفسيق الانصار، ولعنهم، والبراءة منهم. وهذا اقبح مما يعيبونه على من يرمونه بالرفض ! فان قالوا: انهم لم يصروا على ذلك، بل راجعوا الحق، فلم يستحقوا تفسيقا ولا براءة. قيل لهم: كلامنا عليهم قبل التسليم وسماع الخبر، وعلى ما قضيتم به يجب أن يكونوا في تلك الحال فساقا يستحقون البراءة واللعن والعدول عن الولاية والتعظيم، وهذا مما لم يقله احد منهم. على ان فيهم من لم يرجع بعد سماع الخبر واقام على امره، فيجب أن يحكموا فيه بكل الذي ذكرناه. فان قالوا: ان الانصار لم تفسق بما دعت إليه، وان كان الحق في خلاف قولها، ولا استحقت اللعن والبراة. قيل لهم: فما تنكرون أن يكون الحق في احد ما قالته الصحابة من المسائل التي ذكرتموها دون ما عداه، وان يكون من خالفه لا يستحق شيئا مما ذكرتم ؟ ويسئلون ايضا: على هذا الوجه في جميع ما اختلفت فيه الصحابة مما الحق فيه في واحد، كاختلافهم في مانعي الزكاة هل يستحقون القتال ؟، وغير ذلك من المسائل. ويقال: يجب إذا كان من فارق الحق في مثل هذه المسائل من الصحابة قد اخطأ، أن يكون في تلك الحال فاسقا، منقطع الولاية، ملعونا، مستحقا للمحاربة. ويسألون ايضا: عن قضاء عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم، حتى قال (له) (1) أمير المؤمنين عليه السلام: ” ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في


(1) زيادة من الاصل. (*)


[ 706 ]

بطنها ” (1). فيقال لهم: اتقولون ان قضاءه بذلك حق ؟ فان قالوا: نعم، غلطوا وفارقوا ما عليه الامة، لان الكل يقولون لا يجوز رجمها وهي حامل، وفي رجوع عمر إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام، وقوله: ” لولا علي لهلك عمر ” (1)، دلالة على تنبيه الخطاء في قضيته. فيقال لهم: اتقولون إذا كان قد اخطاء انه مستحق للعن والبراءة والتفسيق، فلا بد لهم من أن ينفوا ذلك، ويجعلوا الخطأ الواقع منه مما لا يقتضى تفسيقا ولا براءة، فيقال لهم في المجتهدين مثله. فان قالوا: ان الخطاء الذي لم تقم الدلالة على انه فسق، يجوز أن يكون فسقا، وأن يكون صاحبة صاحبه مستحقا لقطع الولاية واللعن والبراءة، فيقولون في الصحابة مثل ذلك. قلنا: هكذا يجب أن يقال، وانما منعنا من ايجابكم تفسيقهم والرجوع عن ولايتهم باختلافهم في مسائل الاجتهاد، واعلمناكم ان ذلك لا يجب في كل خطأ ومعصيه، وليس هذا مما يوحش، فان تجويز كون خطئهم في حوادث الشرع كبيرا من حيث لا يعلم، كتجويز كل احد عليهم أن يكون مستسرا بكبيرة يجب لها قطع الولاية، ويستحق بها البرائة واللعن، غير أن يجوز ذلك عليهم في حوادث الشرع لا يوجب الاقدام على قطع ولايتهم وإسقاط تعظيمهم، كما ان تجويز الكبائر عليهم لا يوجب ذلك، وانما يوجبه تيقن وقوع الكبائر منهم. وفيمن يوافقنا في كون الحق في هذه المسائل في واحد، من يقول: انى آمن من كون خطائهم في حوادث الشرع كبيرا من حيث الاجماع، والاول امر على النظر.


(1) راجع (نقلا عن الغدير في الكتاب والسنة 6: 110): ” الرياض النضرة 2: 196، ذخائر العقبى: 80، مطالب السئول: 13، المناقب للخوارزمي: 48، الاربعين للفخر الرازي: 466 “. (*)


[ 707 ]

على ان مذهبنا فيمن جمع بين الايمان والمعصية (1) معروف، وعندنا ان معاصي المؤمنين من اهل الصلاة لا تسقط ولايته وتعظيمه، والمعاصي عندنا وان كان جميعها كبيرا، وانها تسمى صغائر بالاضافة، فليس يجوز أن نلعن فاعلها، أو نحاربه، أو نحده، أو نستعمل معه الاحكام التي تستعمل مع العصاة، الا بتوقف على ذلك. وانما تستعمل هذه الاحكام مع بعض عصاة اهل الصلاة بالتوقيف، وما لم يرد فيه سمع من معاصيهم لا تقدم على المساواة بينه وبين غيره فيما ذكرناه، بل يقتصر على الذم المشروط ايضا ببقاء استحقاق العقاب، لانا نجوز من اسقاط الله تعالى لعقابهم تفضلا ما يمنع من استحقاقهم الذم، كما منع من استحقاق العقاب. فالقول فيما ذكرناه واضح، وما الزموناه باطل على كل مذهب. فاما تعلقهم بولاية بعضهم بعضا مع المخالفة في المذهب، وان ذلك يدل على التصويب، فليس على ما ظنوا، وذلك انهم لم يول احد منهم واليا، لا شريحا ولا زيدا ولا غيرهما، الا على أن يحكم بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما اجمع عليه المسلمون، ولا يتجافوا (2) الحق في الحوادث، ولا يتعداه، وإذا قلده بهذا الشرط لم يمكن ان يقال انه يسوغ (3) له الحكم بخلاف مذهبه، لانهم لا يتمكنون من ان يقولوا انه نص له على شئ مما يخافه فيه، واباحة الحكم فيه بخلاف رأيه. وجملة ما نقوله: انه ليس لاحد أن يقلد حاكما على أن يحكم بمذهب كذا، أو يقضى برأي فلان بل يقلده على ان يحكم بالكتاب والسنة والاجماع، ولم يول القوم احدا الا على هذا.


(1) هذا بناء على إنكار مبدأ التحاابط بين المعاصي والطاعات عند الامامية – خلافا للمعتزلة -. انظر: ” أوائل المقالات: 82، الذخيرة: 321 – 302. (2) يتجاوزوا. (3) سوغ. (*)


[ 708 ]

فاما تعلقهم بتسويغ الفتيا، واحالة بعضهم على بعض بها. فغير صحيح، وذلك انهم يدعون في تسويغ الفتيا ما لا نعلمه، وكيف يسوغون الفتيا على جهة التصويب لها ؟ ونحن نعلم ان بعضهم قد رد على بعض وخطأه، وخوفه بالله تعالى من المقام على الهوى، وهذا غاية النكير. وان ارادوا انهم سوغوها (1) من حيث لم ينقضوها ويبطلوا الاحكام المخالفة لهم. فذلك ليس بتسويغ، وسنتكلم عليه. وما نعرف ايضا احدا منهم ارشد في الفتيا إلى من يخالفه فيما يخالفه فيه، ولا يقدرون على أن يعينوا واحدا فعل ذلك، وانما كانوا يحيلون بالفتيا في الجملة على اهل العلم، والعالمين بالحق، والتفصيل غير معلوم من الجملة. فاما الزامهم لنا: أن ينقض بعضهم على بعض حكمه، والواحد على نفسه فيما حكم به ورجع (2) عنه. فغير واجب لان اقرار الحكم وورود العبادة بالامساك عن نقضه لا يوجب كونه صوابا، الا ترى انا قد نقر اهل الذمة على ابتياعاتهم الفاسدة، ومناكحتهم الباطلة إذا ادوا الجزية، ونقتصر على انكاره على اظهار الخلاف، مع انا لا نرى شيئا من ذلك صوابا، فليس مجيئ العبادة باقرار حكم من الاحكام مع النهى عنه مما يفسد أو يستحيل، وسبيل ذلك سبيل ابتداء العبادة به فكما يجوز ورودها بهذا الحكم ابتداء جاز ورودها باقراره بعد وقوعه وان كان خطاء. على انه قد ورد ان شريحا قضى في ابن عم احدهما اخ لامه بمذهب ابن مسعود فنقض امير المؤمنين عليه السلام حكمه فقال: ” في اي كتاب وجدت ذلك، أو في اي سنة “، وهذا يبطل دعوى من ادعى ان احدا منهم لم ينقض حكم من خالفه


(1) في الاصل: سوغنا. (2) فرجع. (*)


[ 709 ]

على العموم، والقول في نقض الواحد منهم على نفسه يجرى على الوجه الذي ذكرناه. فاما تعلقهم بان الخطاء في الدماء والفروج، والاموال، لا يكون الا كبيرا فظاهر البطلان. لانا نقول لهم: لم زعمتم ان الحكم بإراقة الدم، وإباحة الفروج، والاموال، لا يكون إلا كبيرا ؟ ولم إذا كان كبيرا في بعض المواضع، ومن بعض الفاعلين، وجب أن يكون كذلك في كل حال ومن كل فاعل ؟ أو لا ترون انه قد يشترك (1) فاعلان في اراقة دم غير مستحق ويكون فعل احدهما كفرا والاخر غير كفر !، وإذا جاز ذلك لم يمتنع ان يشترك فاعلان ايضا في اراقة دم ويكون من احدهما فسقا وكبيرا، ولا يكون من الاخر كذلك. ثم يسئلون عما اختلفت فيه الصحابة وكان الحق فيه في احد الاقوال كاختلافهم في مانعي الزكاة وهل يستحقون القتال ؟ واختلافهم في الامامة يوم السقيفة ؟ ويقال لهم: يجب أن يكون خطأهم كبيرا، لانهم مخالفون للنصوص وما الحق، فيه في واحد، ويجب أن يكونوا بمنزلة من ابتداء خلاف النصوص في غير ذلك، فكل شئ يعتذرون به ويفصلون قوبلوا بمثله. على انهم يقولون: ان قتلا وقع من موسى عليه السلام صغيرة، ولا يلزمهم ان يكون كل قتل صغيرة، ولا إذا حكموا بكبر القتل منا ان يحكموا بكبره من موسى عليه السلام، فكيف سوغ مع ذلك ان يلزموا مخالفهم في نفى القياس ما اعتمدوه ؟ وتعلقوا ايضا: بما روى من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما انفذ معاذ إلى اليمن قال له: ” بماذا تقضى ؟ قال: بكتاب الله، قال: فان لم تجد في كتاب الله ؟ قال:


(1) قد اشترك. (*)


[ 710 ]

بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فان لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيي (1)، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” (2). وبما قد روى عن ابن مسعود مثل ذلك، وهو انه قال له: ” اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما، فإذا لم تجد الحكم فيهما فاجتهد رأيك ” (3). وبما روى عن عمر في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الاشعري انه قال: ” قس الامور برأيك ” (3). والكلام على ما ذكروه من وجوه. اولها: ان هذه اخبار احاد لا تقبل في مثل هذه المسألة التي طريق اثباتها العلم المقطوع على صحته ! على ان الاصول لو ثبتت باخبار الاحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ، لان رواته مجهولون (4)، وقيل: رواه جماعة من اصحاب معاذ، ولم يذكروا.


(1) برأيي. (2) سنن الدرامي 1: 70، عون المعبود 3: 330 باختلاف يسير، جامع الاصول 10: 177، سنن ابي داود: رقم 3592 في الاقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، سنن الترمذي: رقم 1327 أو 1328 باب ما جاء في القاضي كيف يقضي. انظر ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (3) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (4) قال صاحب (عون المعبود في شرح سنن ابي داود) 3: 330: ” وهذا الحديث اورده الجوزقاني في الموضوعات وقال: هذا باطل رواه جماعة عن شعبة، وقد تصفحت هذا الحديث في اسانيد الكبار والصغار وسألت من لقيته من اهل العلم بالنقل عنه فلم اجد له طريقا غير هذا. والحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة مجهول، وأصحاب معاذ من اهل حمص لا يعرفون. فإن قيل: إن الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه في اصل الشريعة. قيل: هذا طريقه، والخلف قلد فيه السلف، فإن أظهروا طريقا غير هذا مما يثبت عند اهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم البتة ! “. وكذلك ناقش ابن حزم الاندلسي (الاحكام في اصول الاحكام 6: 97) سند هذا الحديث وخلص إلى = (*)


[ 711 ]

على ان روايته قد وردت مختلفة فجاء في بعضها انه لما قال ” اجتهدوا رأيى ” قال عليه السلام له: ” لا اكتب إلى اكتب اليك ” (1)، وهذا يوجب أن يكون الامر فيما لا يجده في الكتاب والسنة موقوفا على ما يكتب إليه لا على اجتهاده. فان قالوا: الدليل على صحة روايته تلقى الامة له عصرا بعد عصر بالقبول، ولان الصحابة إذا ثبت انهم عملوا بالقياس والاجتهاد فلا بد فيه من نص، لان اصل القياس في الشرع لا يستدرك قياسا، ولا نص يدل ظاهره على ذلك الا خبر معاذ أوما خبر معاذ اقوى منه، فيجب من ذلك صحة الخبر. قلنا: اما تلقى الامة له بالقبول فغير معلوم (1)، وقد بينا ان قبول الامة لامثال هذه الاخبار كقبولهم لخبر مس الذكر (2) وما جرى مجراه مما لا يقطع به ولا يعلم صحته. =


سقوطه وبطلان العمل به، يقول: ” هذا حديث ساقط لم يروه أحد من غير هذا الطريق، واول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا فلا حجة فيمن لايعرف من هو، وفيه الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يعرف من وهو، لم يأت هذا الحديث قط من غير طريقة ” ثم نقل عن البخاري أنه قال: (ولا يعرف الحارث الا بهذا، ولا يصح “. وقال ابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) 2: 132: ” الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، روى عن اناس من اهل حمص من اصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد. وعنه أبو عون محمد بن عبيدالله الثقفي ولا يعرف إلا بهذا، قال البخاري: لا يصح ولا يعرف. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. قلت: لفظ البخاري روى عنه أبو عون ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا مرسل، هكذا قال في التاريخ الكبير، وقال في الاوسط في فصل من مات بين المائة إلى عشر ومائة: لايعرف إلا بهذا ولا يصح. وذكره العقيلي، وابن الجارود، وابو العرب في الضعفاء، قال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر إمام الحرمين أبو المعالي الجويني أن هذا الحديث مخرج في الصحيح، ووهم في ذلك “. وأيضا راجع جامع الاصول في احاديث الرسول: 10 / هامش ص 178 لمعرفة العلل الموجودة في إسناد هذا الحديث. (1) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (2) صفحة 556. (*)


[ 712 ]

فاما ادعاؤهم بثبوت عملهم بالقياس، وانه يجب أن يكون لهذا الخبر لانه لا نص غيره، فبناء على ما لم يثبت ولا يثبت، وقد بينا بطلان ما ظنوه دليلا على اجماعهم على ذلك. ولو سلم لهم على ما فيه، لجاز أن يكونوا اجمعوا لبعض ما في الكتاب أو لخبر اخر، على انهم قد اعتمدوا في تصحيح الخبر على ما إذا صح لم يحتج إلى الخبر، ولم يكن دليلا على المسألة، لانا إذا علمنا اجماعهم على القياس والاجتهاد، فأي فقر بنا إلى تأمل خبر معاذ ؟ وكيف يستدل به على ما قد علمناه لغيره ؟ فان قالوا: نعلم باجماعهم صحة الخبر ويصير الخبر دليلا، كما ان اجماعهم دليل، ويكون المستدل مخيرا في الاستدلال بايهما شاء. قلنا: لسنا نعلم باجماعهم صحة الخبر الا بعد أن نعلم انهم اجمعوا على القياس والاجتهاد، وعلمنا بذلك يخرج (1) الخبر من أن يكون دلالة وانما كان يمكن ما ذكروه لو جاز أن يعلم اجماعهم على صحة الخبر من غير أن يعلم اجماعهم على القول بالقياس، وذلك لا يصح. على انا إذا تجاوزنا ذلك ولم نعرض للكلام في اصل الخبر ووروده، لم يكن فيه دلالة، لانه قال: ” اجتهد رأيى ” ولم يقل في ماذا ؟ ولا ينكر ان يكون معناه اجتهد رأيى حتى اجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذا كان في احكام الله فيهما ما لا يتوصل إليه الا بالاجتهاد ولا يوجد في ظواهر النصوص، فادعاؤهم ان الحاق الفرع بالاصل في الحكم لعلة يستخرجها القياس هو الاجتهاد زيادة في الخبر بما لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. فان قالوا: ما يوجد في دليل النص من كتاب أو سنة فهو موجود فيهما، وقوله: ” فان لم يجد ” يجب أن يحمل على عمومه، وعلى انه لم يجد على كل حال، وإذا حمل على ذلك، فليس وراءه الا الرجوع إلى القياس الذي تقوله.


(1) في الاصل: خروج. (*)


[ 713 ]

قلنا: ليس يجب حمل الكلام على عمومه عند اكثر اصحابنا، فعلى هذا المذهب سقط هذا الكلام. على انهم لا يقولون بذلك، لان القياس والاجتهاد عندهم من المفهوم بالكتاب والسنة وهما لا يدلان عليه، فكيف يصح حمل قوله: ” فان تجد ” على العموم ؟ وهذا يقتضى انهم قائلون في النفى ايضا بالخصوص، فكيف عابوه علينا ؟ وبعد، فان جاز اثبات القياس بمثل خبر معاذ، فان من نفاه يروي ما هو اقوى منه واوضح لفظا، نحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ” ستفترق امتى على بضع وسبعين فرقة اعظمها فتنة على امتى قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام ” (1). والروايات في هذا كثيرة ومن تتبعها وجدها. فاما خبر ابن مسعود الذي ذكروه، فالكلام كالكلام على خبر معاذ بعينه. فاما كتاب عمر إلى أبي موسى الاشعري وقوله: ” اعرف الاشباه والنظائر وقس الامور برأيك ” فاضعف في باب الرواية من خبر معاذ، وابعد من أن يتعلق به في مثل هذا الباب ! على انه إذا سلم لم يكن فيه دلالة، وذلك ان القياس الذي دعاه إليه هو الحاق الشئ بشبهة، ولهذا قال: ” اعرف الاشباه والنظائر “، والمشابهة الموجبة للقياس وحمل الشئ على نظيره انما هي المشاركة في امر مخصوص به تعلق الحكم، فمن عرف ذلك وحصله وجب عليه الجمع به بين الاصل والفرع، وهذا المقدار لا ينازعون فيه ولكن لا سبيل إلى معرفته. ولو امكن فيه ما يدعونه من الظن لم يكن في الخبر ايضا دلالة لهم، لانه ليس فيه الامر بقياس النوع على الاصل إذا شاركة في


(1) المستدرك على الصحيحين 3: 547، كنز العمال 1: 1056، 1057، 1058، انظر ايضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (*)


[ 714 ]

معنى يغلب على الظن انه علة الحكم. وللمخالف أن يقول لهم: ان الارز ليس بمشابه للبر، ولا النبيذ التمرى يشابه الخمر، ولا بينهما شبه يوجب التساوى في الحكم، والخبر انما تناول المساواة بين المشتبهين ولا اشتباه هاهنا. فان قالوا: هاهنا اشتباه مظنون. قلنا: ليس في الخبر عمل على ما تظنه مشتبها قال: ” اعرف الاشباه والنظائر ” وذلك يقتضى حصول العلم بالاشباه. على الامر الذي يقع به التشابه في الحكم غير مذكور في الخبر، فان جاز لهم ان يدعوا انه عنى المشابهة في المعاني التي يدعيها القايسون كالكيل في البر والشدة في الخمر، جاز لخصومهم أن يدعوا انه اراد المشابهة في اطلاق الاسم واشتمال اللفظ، فيكون ذلك دعامته إلى القول بحمل اللفظ على كل ما تحته من المسميات لتساويها في تناول اللفظ، فكأنه تعالى إذا قال: (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) (1) وعلم ان كل سارق يقع عليه هذا الاسم وشارك سائر السراق في تناول اللفظ، وجب التسوية بين الجميع في الحكم، الا أن تقوم دلالة. واستدلوا ايضا: بأن قالوا: إذا ثبت في انه لابد في الفروع الشرعية من حكم، ولا نص ولا دليل على حكم ما يجب أن كون متعبدين فيها بالقياس. وربما استدلوا بهذه الطريقة من وجه فقالوا: قد ثبت عن الصحابة انهم رجعوا في طلب احكام الحوادث إلى الشرع، فإذا علم ذلك من حالهم في جميع الحوادث على كثرتها واختلافها، وصح انه لا نص يدل على هذه الاحكام بظاهره ولا دليله، فليس بعد ذلك الا القياس والاجتهاد، لان التبخيت والقول بما اتفق يمنع منه العقل. وهذا الاستدلال يخالف الطريقة الاولى، لانهم لم يرجعوا في هذا إلى


(1) المائدة: 38. (*)


[ 715 ]

اجماعهم على نفس القول بالقياس والاجتهاد، بل رجعوا إلى اجماعهم في طلب الاحكام من جهة الشرع. وفي الطريقة الاولى اعتبروا اجماعهم على نفس القول بالقياس. فيقال لهم: في الحوادث حكم لكنه ما كان في العقل، أو فيها حكم ولم يكلف معرفته، أو لا حكم فيها جمله، فكل ذلك جائز لا مانع منه. واما تعلقهم بهذه الطريقة على الوجه الثاني، فمبنى على انه لا نص يدل بظاهره ولا دليله على احكام الحوادث، فيجب لذلك الرجوع إلى القياس فيها، ودون ما ظنوه خرط القتاد، لانا قد بينا ان جميع ما اختلف فيه الصحابة من الاحكام له وجوه في النصوص، وأنما لا يقف على وجه بعينه يمكن ان يكون له وجه، وان القطع على انتفاء مثل ذلك لا يمكن بما يستغني عن اعادته. على أن اكثر ما في هذا أن يكون جميع الحوادث التي علمنا طلبهم فيها للاحكام من جهة الشرع لا يدخل حكم العقل فيها، فانه لابد فيها من حكم شرعي، ثم نقول: انهم ما رجعوا فيما طلبوه من جهة الشرع الا إلى النصوص، وعلى من ادعى خلاف ذلك الحجة. من أين لهم ان جميع ما يحدث إلى يوم القيمة هذا حكمه ؟ وانه لابد من أن يكون المرجع فيه إلى الشرع ؟ ولا يجوز أن يحكم فيه بحكم العقل ؟ ولم إذا كانت الحوادث التي بليت به الصحابة لها مخرج في الشريعة وجب ذلك في كل حادثة ؟ وهل هذا الا تمن وتحكم. ؟ على انه قد روى عن بعضهم ما يقتضى انه رجع إلى حكم العقل في مسألة الحرام، وهو مسروق (1) لانه جعل مسألة الحرام بمنزلة تحريم قصعة من تريد مما يعلم بالعقل اباحته. واستدل الشافعي وجماعة معه على ذلك بالقبلة، قالوا: لما وجب طلبها بما


(1) راجع كلام المصنف في صفحة 676 و 677 واختلاف الفقهاء في مسألة الحرام. (*)


[ 716 ]

يمكن طلب به عند عدم العين (1). فكذلك يجب طلب الحكم في الفروع عند عدم النص بما يمكن طلبه به. يقال لهم: ان ما ذكرتموه ان دل فانما يدل على جواز التعبد بالاجتهاد في الشرعيات، فاما أن يعتمد في اثبات العبادة به في الشرع فباطل لان معتمد ذلك لابد له من أن يقيس سائر حوادث الفروع في جواز استعمال الاجتهاد فيها على القبلة وذلك منه قياس، والكلام انما هو في اثبات القياس، وهل وردت به العبادة ام لا ؟ فكيف يستسلف صحته ؟ ولمن ينفى القياس ان يقول: ان الذي يجب أن اثبت الحكم في القبلة بالاجتهاد لورود النص، واقف عند ذلك ولا اتجاوزه، وهذا بمنزلة أن ترد العبادة بايجاب صلاة فيقيس قايس عليها وجوب اخرى، فكما انه ممنوع من ذلك الا أن يتعبد بالقياس، فكذلك من قاس على القبلة غيرها ممنوع من قياسه، ولما اثبت ورود العبادة بالقياس. على ان الحكم عند الغيبة ثابت بالنص في الجملة، لان المكلف قد الزم أن يصلى إلى جهتها (2)، فإذا (3) كان الحكم الشرعي ثابتا في الجملة [ ولم يكتف المكلف في امكان الفعل في الجملة ] (4) وجب أن يجتهد ليمكنه الفعل الواجب عليه في الجملة، فالاجتهاد منه ليس يتوصل به إلى اثبات الحكم الشرعي، وانما يصل به إلى تمييز الحكم المجمل الذي ورد النص به، وتفصيله وعروض ذلك ان يرد النص في الارز ان فيه ضربا من ضروب الربا، ويكون هناك طريق الاجتهاد في اثباته، فيتصل المكلف إلى تمييز ذلك الربا وتفصيله لاجل النص المجمل، وهذا مما يثبت لهم.


(1) الرسالة: 481 – 480، الام 1: 94. (2) في الاصل: جمعة. (3) وإذا. (4) زيادة من النسخة الثانية. (*)


[ 717 ]

على انه يقال للمتعلق بهذه الطريقة: اليس انما اجتهدت عند الغيبة في القبلة لما ثبت بالنص حكم لا سبيل لك إلى معرفته الا بالاجتهاد ؟ فإذا اعترف بذلك قيل له: فثبت في الفرع انه لابد فيه من حكم لا يمكن معرفته الا بالاجتهاد حتى يتساوى الامران ؟ ولا سبيل لك إلى ذلك. وقد علمت ان في نفاة القياس من يقول ان حكم الفرع معلوم عقلا، وفيهم من يقول انه معلوم بالنصوص اما بظواهرها أو بادلتها، وبعد فليس مثبت القياس بأن يتعلق بالقبلة في اثبات الحكم للفرع قياسا على الاصل باولى من نافى الناس إذا تعلق بها في حمل الفرع على الاصل، في انه لا يثبت له حكم الا بالنص. ومتى قيل له: فاجمع بين الامرين ؟ امتنع لتنافيهما. ومتى قيل له: الاثبات ارجح وادخل في الفائدة. قال: هذا انما يصح فيما ثبت وصح، لا فيما الكلام واقع فيه. واستدلوا: بما روى عنه عليه السلام من قوله للخثعمية: ” أرأيت لو كان على ابيك دين اكنت تقضينه ؟ قالت: نعم، قال فدين الله احق واولى أن يقضى ” (1)، وبقوله لعمر حين سأله عن القبلة للصائم: ” ارأيت لو تمضمضت بماء اكنت شاربه ” (2) ؟ وقوله في حديث ابي هريرة حين سأله السائل عن رجل ولد له غلام اسود فقال له: ” الك ابل ؟ قال: نعم، قال: ما الوانها ؟ قال: حمر، قال: فيها أورق (3) ؟ قال:


(1) رواها البخاري، ومسلم، وأبو داود، ومالك في الموطأ، والترمذي، والنسائي عن ابن عباس عن أخيه الفضل بن عباس عن امرأة أو رج من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، راجع: جامع الاصول 3: 418 وكنز العمال 5: 123 رقم 12331، 12851، 12856 ولفظ الحديث فيه: (أكنت قاضية، قاضيا عنه). انطر ايضا: المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666. (2) كنز العمال 8: 615 رقم 24401 ولفظ الحديث فيه (أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم ؟…) (3) الاورق: الذي لونه بين السواد والغبرة، وقال الاصمعي: الاورق الذي في لونه بياض الى سواد. غريب الحديث للهروي 1: 261 و 2: 207. (*)


[ 718 ]

نعم، قال: وانى ذلك ؟ قال لعل عرقا نزعه، قال: وهذا لعل عرقا نزعه ” (1). وغير ذلك من الاحاديث لم نذكرها لضعفها وبيان وهنها. يقال لهم: اول ما في هذا الاخبار انها اخبار احاد لا توجب علما، وما هذا حكمه لا يثبت به اصل معلوم، وثبوت العبادة بالقياس أصل معلوم عندهم مقطوع على صحته، فلا يجوز اثباته بما يوجب غلبة الظن. على ان تنبيههه عليه على علة الحكم ليس باكثر من أن ينص صريحا عليها، ولو نص على العلة لم يجب القياس بهذا العذر (2) دون أن يدل على العبادة به بغيره على انه – عليه السلام – بتنبيههه قد اغنى عن (3) القياس، فكيف يجعل ذلك دليلا على القياس ؟ ولانه ايضا: مع التنبيه على العلة قد اثبت الحكم في الفرع والاصل معا، وما هذا حاله لا يدخل القياس في. على انه عليه السلام اخبر ان الحج يجرى مجرى الدين في وجوب القضاء، وكذلك ما نبه عليه في باب القبلة، والمولود الاسود، ولم يذكر لاى سبب جرى مجراه ؟ وما العلة ؟ وهل ظاهر نص اوجب ذلك ؟ أو طريقه من القياس ؟ وإذا كان الامر متحملا لم يجز القطع على احد الوجهين بغير دليل. على ان اسم الدين يقع على الحج كوقوعه على المال، وإذا كان كذلك دخل في قوله تعالى: (من بعد وصية توصون بها أو دين) (4) ] (5). وهذا القدر كاف من الكلام في هذه الاخبار، وبطلان التعلق بها، فان الاكثار في


(1) رواه احمد في المسند: 2: 279. (2) القدر. (3) من. (4) النساء: 11. (5) نهاية الفقرة الطويلة التي إبتدأت في صفحة 649 والتي نقلها المصنف عن كتاب ” الذريعة إلى اصول الشريعة 2: 791 – 673 ” للشريف المرتضى رحمه الله. (*)


[ 719 ]

تأويلاتها لا فائدة فيه. وقد اثبت في هذه المسألة اكثر الفاظ المسألة التي ذكرها سيدنا المرتضى رحمه الله في ابطال القياس (1)، لانها سديدة في هذا الباب، واضفت إلى ذلك مواضع لم يذكرها، وحذفت اشياء يستغنى عن ايرادها، وفي القدر الذي اوردناه كفاية وتنبيه على كل ما يتعلق به في الباب


(1) الذريعة 2: 791 – 673. (*)


[ 723 ]

فصل [ 1 ] الكلام في الاجتهاد اعلم ان كل امر (1) لا يجوز تغيره عما هو عليه من وجوب إلى حظر، و (2) من حسن إلى قبح، فلا خلاف بين اهل العلم المحصلين ان الاجتهاد في ذلك لا يختلف، وان الحق في واحد، وان من خالفه ضال فاسق، وربما كان كافرا، وذلك نحو القول بأن العالم قديم أو محدث ؟ وإذا كان محدثا هل له صانع ام لا ؟ والكلام في صفات الصانع، وتوحيده، وعدله، والكلام في النبوة والامامة وغير ذلك، وكذلك، الكلام في ان الظلم، والعبث، والكذب قبيح على كل حال، وان شكر المنعم، ورد الوديعة، والانصاف حسن على كل حال، وما يجرى مجرى ذلك. وانما قالوا ذلك: لان هذه الاشياء لا يصح تغيرها في نفسها، ولا خروجها عن صفتها التي هي عليها، الا ترى ان العالم إذا ثبت انه محدث، فاعتقاد من اعتقد انه قديم لا يكون الا جهلا، والجهل لا يكون الا قبيحا. وكذلك إذا ثبت ان له صانعا، فاعتقاد من اعتقد انه ليس له صانع لا يكون الا جهلا.


(1) في الاصل: من. (2) أو. (*)


[ 724 ]

وكذلك القول في صفاته، وتوحيده، وعدله. وكذلك إذا ثبت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق، فاعتقاد من اعتقد كذبه لا يكون الا جهلا. وكذلك المسائل الباقية. وحكي عن قوم شذاذ لا يعتد باقوالهم انهم قالوا: ان كل مجتهد فيها مصيب (1). وقولهم باطل بما قلناه. واما ما يصح تغييره في نفسه، وخروجه من الحسن إلى القبح، ومن الحظر إلى الاباحة، فلا خلاف بين اهل العلم انه كان يجوز أن تختلف المصلحة في ذلك فيما تكون حسنا من زيد يكون قبيحا من عمرو، وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن منه في حالة اخرى، ويختلف ذلك بحسب اختلاف احوالهم وبحسب اجتهادهم. وانما قالوا ذلك: لان هذه الاشياء تابعة للمصالح والالطاف، وما حكمه هذا فلا يمتنع ان يتغير الحال فيه، ولهذه العلة جاز النسخ، ونقل المكلفين عما كانوا عليه إلى خلافه بحسب ما تقتضيه مصالحهم. الا أن مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك في الشرع ام لا ؟ فقد اختلف العلماء في ذلك (2): فذهب اكثر المتكلمين والفقهاء إلى ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي


(1) حكي هذا القول الشاذ عن الجاحظ وعن عبد الله بن الحسن العنبري المعتزلي، وقيل ان العنبري كان يعمم قوله في العقليات حتى يشمل جميع اصول الديانات، وأن اليهود والنصارى والمجوس على صواب ! !. انظر: ” االتبصرة: 496، المستصفى 2: 359، المنخول: 451، الاحكام للآمدي 4: 409، اللمع: 122، ميزان الاصول 2: 1053، شرح اللمع 2: 1042 “. (2) انظر اختلاف أقولهم وآرائهم في: ” الذريعة 3: 792، لمعتمد 2: 370، التبصرة: 496، المستصفى 2: 359، المنخول: 451، الاحكام للآمدي 4: 409، الاحكام لابن حزم 8: 587، اللمع: 122، شرح اللمع 2: 105 – 1043، ميزان الاصول 2: 1053 – 1050، ارشاد الفحول: 383، شرح المنهاج 2: 837، روضة الناظر: 324، الرسالة للشافعي: 503 – 494، تقريب الوصول: 157 – 156 “. (*)


[ 725 ]

الحكم، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم (1)، وأبي الحسن (2)، واكثر المتكلمين، واليه ذهب أبو حنيفة واصحابه فيما حكاه أبو الحسن (2) عنهم، وقد حكى غيره من العلماء عن أبي حنيفة خلافه (3). وذهب الاصم، وبشر المريسي إلى ان الحق في واحد من ذلك وهو ما يقولون به، وان ما عداه خطأ، حتى قال الاصم: ان حكم الحاكم ينقض به، ويقولون: ان المخطئ غير معذور في ذلك، الا أن يكون خطؤه صغيرا، وان سبيل ذلك سبيل الخطاء في اصول الديانات (3). وذهب اهل الظاهر فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره إلى ان الحق من ذلك في واحد (3). واما الشافعي فان كلامه مختلف في كتبه: فربما قال: ان الحق في واحد، وعليه دليل قائم، وان ما عداه خطأ. وربما مر في كلامه ان كل مجتهد قد ادى ما كلف. وربما يقول: انه قد اخطأ خطأ موضوعا عنه (3). وقد اختلف اصحابه في حكاية مذهبه (3). فمنهم من يقول: ان الحق في واحد من ذلك، وان عليه دليلا وان لم يقطع على الوصول إليه، وان ما عداه خطأ، لكن الدليل على الصواب من القولين لما غمض ولم يظهر، كان المخطئ معذورا. ومنهم من يحكي: ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم، وان كان احدهما يقال فيه قد اخطأ، الاشبه عند الله (3). والذي اذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلمين، المتقدمين


(1) الجبائيان. (2) هو أبو الحسن الكرخي. (3) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 724. (*)


[ 726 ]

والمتأخرين، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى (1) قدس الله روحه، واليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمه الله: ” ان الحق في واحد (2) وان عليه دليلا، من خالفه كان مخطئا فاسقا “. واعلم الاصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل باخبار الاحاد، لان ما طريقه التواتر وظواهر القرآن، فلا خلاف بين اهل العلم ان الحق فيما هو معلوم من ذلك، وانما اختلفت القائلون بهذين الاصلين فيما ذكرناه، وقد دللنا على بطلان العمل بالقياس (3)، وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته (4). وإذا ثبت ذلك، دل على ان الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة. واما على ما اخترته من القول في الاخبار المختلفة المروية من جهة الخاصة، فلا ينقض ذلك لان غرضنا في هذا المكان ان نبين ان الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة دون الجهة التي خالفها، وان كان حكم ما تختص به الطائفة والاختلاف التي بينها الحكم الذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الاخبار، فلا تنافى بين القولين. وهذه الجملة كافية في هذا الباب، وانما لم نتتبع كلام المخالف وطرقهم التي يستدلون بها على صحة ذلك، لان فيما مضى من الكلام في ابطال القياس كلاما عليه، واكثر شبههم داخلة فيها، فلا معنى للاعادة في هذا الباب.


(1) المرتضى رحمه الله. (2) في واحد. (3) انظر استدلال المصنف في مبحث القياس في هذا الكتاب. (4) انظر: استدلال المصنف في مبحث (خبر الواحد وأحكامه) صفحة 97. (*)


[ 727 ]

فصل [ 2 ] ” في ذكر صفات المفتى والمستفتي، وبيان احكامهما ” لا يجوز لاحد أن يفتى بشئ من الاحكام الا بعد أن يكون عالما به، لان المفتى يخبر عن حال ما يستفتى فيه، فمتى لم يكن عالما به فلا يأمن أن يخبر بالشئ على غير ما هو به وذلك لا يجوز، فإذا لابد من أن (1) يكون عالما به، ولا يكون عالما الا بعد امور: منها: أن يعلم جميع ما لا يصح العلم (2) بتلك الحادثة الا بعد تقدمه، وذلك نحو العلم بالله تعالى، وصفاته، وتوحيده، وعدله. وانما قلنا ذلك: لانه متى لم يكن عالما بالله لم يمكنه أن يعرف النبوة، لانه لا يأمن أن يكون الذي ادعى النبوة كاذبا، ومتى عرفه ولم يعرف صفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، لم يأمن أن يكون قد صدق الكاذب، فلا يصح أن يعلم ما جاء به الرسول. فإذا لابد من أن يكون عالما بجميع ذلك، ولابد أن يكون عالما بالنبي الذي جاء بتلك الشريعة، لانه متى لم يعرفه لم يصح ان يعرف ما جاء به من الشرع. ولابد من أن يعرف ايضا: صفات النبي، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، لانه


(1) من ان. (2) في الحجرية زيادة: به. (*)


[ 728 ]

متى لم يعرف جميع ذلك لم يؤمن أن يكون غير صادق فيما يؤديه، أو يكون ما ادى جميع ما بعث به، أو يكون اداه على وجه لا يصح له معرفته. فإذا لابد من أن يعرف جميع ذلك، وإذا عرف جميع ذلك فلابد ايضا أن يعرف الكتاب لانه (2) يتضمن كثيرا من الاحكام التي هي المطلوبة. ولابد من أن يعرف ما لا يتم العلم بالكتاب الا به، وذلك يوجب أن يعرف جملة من الخطاب العربي، وجملة من الاعراب والمعاني، ويعرف الناسخ والمنسوخ، لانه متى عرف المنسوخ ولم يعرف الناسخ اعتقد الشئ على خلاف ما هو به من وجوب ما لا يجب عليه. وقد كان يجوز أن يعرف الناسخ وان لم يعرف المنسوخ لان المنسوخ لا يتعلق به فرضه، وان كان له في تلاوته مصلحة، إلى ان ذلك على الكفاية، غير انه لو كان كذلك، لم يمكنه ان يعرفه ناسخا الا بعد أن يعرف المنسوخ، اما على الجملة أو التفصيل. ولابد أن يعرف العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، لانه متى لم يعلم ذلك لا يأمن أن يكون المراد بالعموم الخصوص، وبالمطلق المقيد. ولابد أن يكون عالما بانه ليس هناك دليل يصرفه عن الحقيقة إلى المجاز، لانه متى جوز (3) ذلك لم يكن عالما به. ولابد ايضا أن يكون عالما بالسنة، وناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها، ومطلقها ومقيدها، وحقيقتها ومجازها، وانه ليس هناك ما يمنع من الاستدلال بشئ من ظواهرها كما قلناه في الكتاب، لانه متى جوز ذلك لم يكن عالما بها. ولابد أن يكون عارفا بالاجماع واحكامه، وما يصح الاحتجاج به وما لا يصح. ولابد أن يكون عارفا بافعال النبي عليه السلام ومواقعها من الوجوب،


(1) ما نافيه. (2) فإنه. (3) يجوز. (*)


[ 729 ]

والندب، والاباحة، حتى يصح أن يكون عالما بما يفتى به. فان اخل بذلك أو بشئ منه، لم يأمن أن يكون ما افتى به بخلاف ما افتى به، وذلك قبيح. وقد عد من خالفنا في هذه الاقسام انه لابد أن يكون عالما بالقياس، والاجتهاد، واخبار الاحاد، ووجوه العلل والمقاييس، واثبات الامارات المقتضية لغلبة الظن، واثبات الاحكام (1). وقد بينا نحن فساد ذلك وانها ليست من ادلة الشرع. واما المستفتى فعلى ضربين: احدهما: أن يكون متمكنا من الاستدلال والوصول إلى العلم بالحادثة مثل المفتي، فمن هذه صورته لا يجوز له أن يقلد المفتى ويرجع إلى فتياه، وانما قلنا ذلك، لان قول المفتى غاية ما يوجبه غلبة الظن، وإذا كان له طريق إلى حصول العلم فلا يجوز له أن يعمل على غلبة الظن على حال. واما إذا لم يمكنه الاستدلال ويعجز عن البحث عن ذلك، فقد اختلفت قول العلماء في ذلك. فحكي عن قوم من البغداديين (2) انهم قالوا: لا يجوز له أن يقلد المفتى، وانما ينبغي أن يرجع إليه لينبهه على طريقة العلم بالحادثة، وان تقليده محرم على كل حال، وسووا في ذلك بين احكام الفروع والاصول. وذهب البصريون (3)، والفقهاء بأسرهم (4) إلى ان العامي لا يجب عليه


(1) انظر: ” المعتمد 2: 359 – 357، الاحكام للآمدي 4: 398 – 397، ارشاد الفحول: 374 – 371، اللمع: 120، شرح اللمع 2: 1035 – 1033، الرسالة للشافعي: 509، شرح المنهاج 2: 832، روضة الناظر: 320 – 319، المنخول: 464 – 463 “. (2) الاحكام للآمدي 4: 451، المعتمد 2: 360، وقد وصفهم بقوله: ” قوم من شيوخنا البغداديين “. (3) أي معتزلة االبصرة. (4) انظر: ” المعتمد 2: 361، الذريعة 2: 796، التبصرة: 414، الاحكام للآمدي 4: 450، ارشاد الفحول: 399 = (*)


[ 730 ]

الاستدلال والاجتهاد، وانه يجوز له أن يقبل قول المفتى. فاما في اصوله وفي العقليات فحكمه حكم العالم في وجوب معرفة ذلك عليه، ولا خلاف بين الناس انه يلزم العامي معرفة الصلاة اعدادها، وإذا صح ذلك وكان علمه بذلك لا يتم الا بعد معرفة الله تعالى، ومعرفة عدله، ومعرفة النبوة، وجب أن لا يصح له أن يقلد في ذلك، ويجب أن يحكم بخلاف قول من قال يجوز تقليده في التوحيد مع ايجابه منه العلم بالصلوات. والذي نذهب إليه: انه يجوز للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم. يدل على ذلك: انى وجدت عامة الطائفة من عهد امير المؤمنين عليه السلام والى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها، ويستفتونهم في الاحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويسوغون لهم العمل بما يفتونهم به وما سمعنا احدا منهم قال لمستفت لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت، ولا انكر عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الائمة عليهم السلام، ولم يحك عن واحد من الائمة النكير على احد من هؤلاء ولا ايجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم خلافه. فان قيل: كما وجدناهم يرجعون إلى العلماء فيما طريقة الاحكام الشرعية، وجدناهم ايضا كانوا يرجعون إليهم في اصول الديانات، ولم نعرف احدا من الائمة عليهم السلام والعلماء انكر عليهم، ولم يدل ذلك على انه يسوغ تقليد العالم في الاصول. قيل له: لو سلمنا انه لم ينكر احد منهم ذلك لم يطعن ذلك في هذا الاستدلال، لان على بطلان التقليد في الاصول ادلة عقلية وشرعية من كتاب وسنة وغير ذلك، =


– اللمع: 119، شرح المنهاج 2: 846، روضة الناظر: 344، المنخول: 473، شرح اللمع 2: 1010 “. (*)


[ 731 ]

وذلك كاف في النكير. وايضا: فان المقلد في الاصول يقدم على ما لا يأمن أن يكون جهلا، لان طريق ذلك الاعتقاد، والمعتقد لا يتغير في نفسه عن صفة إلى غيرها، وليس كذلك الشرعيات لانها تابعة للمصالح، ولا يمتنع أن يكون من مصلحتهم تقليد العلم (1) في جميع تلك الاحكام، وذلك لا يتأتى في اصول الديانات. [ على ان الذي يقوى في نفسي: ان المقلد للمحق في اصول الديانات ] (2) وان كان مخطئا في تقليده، غير مؤاخذ (3) به، وانه معفو عنه، وانما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدمناها لاني لم أجد احدا من الطائفة ولا من الائمة عليهم السلام قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم، وان لم يسند ذلك إلى حجة عقل أو شرع. وليس لاحد أن يقول: ان ذلك لا يجوز لانه يؤدى إلى الاغراء بما لا يؤمن أن يكون جهلا. وذلك انه لا تؤدى إلى شئ من ذلك، لان هذا المقلد لا يمكنه أن يعلم ابتداء ان ذلك سائغ له، فهو خائف من الاقدام على ذلك، ولا يمكنه ايضا ان يعلم سقوط العقاب عنه ويستديم (4) الاعتقاد، لانه انما يمكنه أن يعلم ذلك إذا عرف الاصول وقد فرضنا انه مقلد في ذلك كله، فكيف يعلم اسقاط العقاب ؟ فيكون مغرى باعتقاد ما لا يأمن كونه جهلا أو باستدامته. وانما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالاصول وسبروا احوالهم، وان العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا انكروا عليهم، ولم يسغ ذلك لهم الا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم، وذلك يخرجه عن باب الاغراء. وهذا القدر كاف في هذا الباب ان شاء الله تعالى.


(1) العلماء. (2) زيادة من النسخة الثانية. (3) في الاصل: واجد. (4) فيستديم. (*)


[ 732 ]

وأقوى مما ذكرنا، أن لا يجوز التقليد في الاصول، إذا كان للمكلف طريق إلى العلم إما جملة أو تفصيلا، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلف، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلفة بحال (1).


(1) ليس في الحجرية. (*)


[ 733 ]

فصل [ 3 ] ” في ان النبي عليه السلام هل كان مجتهدا في شئ من الاحكام ؟ وهل كان يسوغ ذلك له عقلا ام لا ؟ وان (1) من غاب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته هل كان يسوغ له الاجتهاد أو لا ؟ وكيف حال من بحضرته في جواز ذلك ؟ ” اعلم ان هذه المسألة تسقط عن (2) اصولنا، لانا قد بينا ان القياس والاجتهاد (3) لا يجوز استعمالها في الشرع، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ولا لاحد من رعيته حاضرا كان أو غايبا، لا حال حياته ولا بعد وفاته استعمال ذلك على حال. واما على مذهب المخالفين لنا في ذلك فقد اختلفوا (4):


(1) في الاصل: وأن كان. (2) على. (3) لاحظ التعلييقة رقم (1) الواردة في صفحة (9) حول مفهوم الاجتهاد والتطورات التاريخية المتعاقبة على هذا المفهوم عند الامامية. (4) وأليك تفصيل أقوالهم وآراءهم المتباينة. 1 – الجواز: وهو مذهب الشافعي وجل اصحابه، وأحمد ابن حنبل، والقاضي ابي يوسف، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، والشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وابن السبكي. = (*)


[ 734 ]

فذهب أبو على، وابو هاشم إلى انه لم يتعبد في الشرعيات بذلك، ولا وقع منه الاجتهاد فيها، واوجب (1) كونه متعبدا بالاجتهاد في الحروب (2). وحكي عن أبي يوسف القول بأن النبي عليه السلام قد اجتهد في الاحكام (3). وذكر الشافعي في كتاب ” الرسالة ” ما يدل على انه يجوز أن يكون في احكامه ماقاله من جهة الاجتهاد (4). وادعى أبو علي الاجماع على انه لم يجتهد النبي عليه السلام في شئ من الاحكام (5): وإستدل أيضا على ذلك بأن قال: لو إجتهد في بعض الاحكام لم يجب ان يجعل اصلا ولا يكفر من رده، بل كان يجوز مخالفته كما يجوز مثل ذلك في اقاويل المجتهدين، فلما ثبت كفر من رد بعض احكامه وخالفه، وساغ جعل جميعها اصولا دل على انه حكم به من جهة الوحى (6). وهذا الدليل ليس بصحيح، لانه لا يمتنع أن يقال: ان في احكامه ما حكم به من جهة الاجتهاد، ومع ذلك لا يسوغ مخالفته من حيث اوجب الله تعالى اتباعه


= 2 – عدم الجواز: وهو مذهب بعض الشافعية، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، وابن حزم. 3 – التوقف: وهو مذهب بعض الاصوليين كالباقلاني، والغزالي، وقد نسب للشافعي ايضا. 4 – التفصيل: حيث جوزوه في امور الحرب دون الاحكام الشرعية، وفصل آخرون وقالوا بالجواز فيما لا نص فيه. انظر: ” الرسالة: 487، التبصرة: 521، المعتمد 2: 242، المستصفى 2: 355، الاحكام للآمدي 4: 398، إرشاد الفحول: 379 – 378، اللمع: 126، اصول السرخسي 2: 91، ميزان الاصول 2: 678، شرح المنهاج 2: 823، روضة الناظر: 322، المنخول: 468 “. (1) أوجبنا. (2) المعتمد 2: 240. (3) المعتمد 2: 240. (4) الرسالة: 503 – 487. (5) المعتمد 2: 241. (6) المعتمد 2: 242 انظر أيضا المصادر الواردة في التعليقة رقم (4) صفحة 733. (*)


[ 735 ]

وسوى في اتباعه ذلك بين ماقاله بوحى، وبين ما قاله من جهة الاجتهاد، كما يقول من قال ان الامة يجوز أن تجمع على حكم من طريق الاجتهاد وان كان لا يجوز خلافه، وإذا ثبت ذلك لم يمكن التعلق بما حكينا. ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى) (1) فحكم بان جميع ما يقوله وحى يوحى، فينبغي أن لا يثبت بعض ذلك من جهة الاجتهاد. والمعتمد ما قلناه اولا من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد في جميع المكلفين، وعلى جميع الاحوال. واما من حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فذهب أبو علي إلى انه لا يجوز أن يجتهد، ويجوز ذلك لمن غاب (2). ومن الناس من يقول: ان لمن حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ايضا ان يجتهد (2)، ويستدل على ذلك بخبر يروى ان النبي عليه السلام امر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر (3) ان يقضيا بحضرته بين خصمين، وقال لهما: ” ان اصبتما فلكما عشر حسنات، وان اخطأتما فلكما حسنة ” (4). وهذا خبر ضعيف من اخبار الاحاد التي لا تعتمد في مثل هذه المسألة، لان طريقها العلم. والمعتمد في هذه المسألة ايضا ما قدمناه من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد، وذلك عام في جميع الاحوال.


(1) النجم 3 و 4. (2) المعتمد 2: 242 أنظر أيضا المصادر الواردة في التعليقة رقم (4) صفحة 733. (3) هو عقبة بن عامر الجهني – صحابي انظر ترجمته في: ” الاصابة 4: 250، تهذيب التهذيب 7: 216، التاريخ الصغير 1: 150 “. (4) كنز العمال 6: 99 – 100 حديث رقم 1508، 15019، 15020، 15022، المغني 11: 375. (*)


[ 737 ]

الكلام في الحظر والاباحة


[ 739 ]

فصل [ 1 ] ” في ذكر حقيقة الحظر والاباحة، والمراد بذلك ” اعلم ان معنى قولنا في الشئ انه محظور: ” انه قبيح لا يجوز له فعله ” الا انه لا يسمى بذلك الا بعد أن يكون فاعله اعلم حظره، أو دل عليه، ولاجل هذا لا يقال في افعال الله تعالى انها محظورة، لما لم يكن اعلم قبحها ولا دل عليه، وان كان في افعاله ما لو كان (1) فعله لكان (2) قبيحا. وكذلك (3) لا يقال في افعال البهائم والمجانين انها محظورة، لما لم يكن هذه الاشياء اعلم قبحها ولا دل عليه. ومعنى قولنا: ” انه مباح ” أنه حسن وليس له صفة زائدة على حسنه، ولا يوصف بذلك الا بالشرطين الذين ذكرناهما من اعلام حسن فاعله ذلك أو دلالته عليه، وكذلك لا يقال ان فعل الله تعالى العقاب باهل النار مباح، لما لم يكن اعلمه ولا دل عليه، وان لم يكن لفعله العقاب صفة زائدة على حسنه وهي كونه مستحقا. وكذلك لا يقال في افعال البهائم انها مباحة، لعدم هذين الشرطين


(1) في الحجرية: مالو. (2) في الاصل: فكان. (3) فكذلك. (*)


[ 740 ]

ولاجل ذلك نقول: أن المباح يقتضي مبيحا، والمحظور يقتضى حاضرا. وقد قيل في حد المباح: هو ان لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف ضررا في ذلك، لا عاجلا ولا اجلا. وفي حد الحظر: انه ليس له الانتفاع به، وان عليه في ذلك ضررا اما عاجلا أو اجلا، وهذا يرجع إلى المعنى الذي قلناه.


[ 741 ]

فصل [ 2 ] ” في ذكر بيان الاشياء التي يقال انها على الحظر والاباحة، والفصل بينها وبين غيرها، والدليل على الصحيح من ذلك ” افعال المكلف لا تخلو من أن تكون حسنة، أو قبيحة. والحسنة لا تخلو من أن تكون واجبة، أو ندبا، أو مباحا. وكل فعل يعلم جهة قبحه بالعقل على التفصيل، فلا خلاف بين اهل العلم المحصلين في انه على الحظر، وذلك نحو الظلم، والكذب، والعبث، والجهل، وما شاكل ذلك. وما يعلم جهة وجوبه على التفصيل، فلا خلاف ايضا انه على الوجوب، وذلك نحو وجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، والانصاف، وما شاكل ذلك. وما يعلم جهة كونه ندبا، فلا خلاف ايضا انه على الندب، وذلك نحو الاحسان والتفضل. وانما كان الامر في هذه الاشياء على ما ذكرناه، لانها لا يصح ان تتغير من حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن. واختلفوا في الاشياء التي ينتفع بها هل هي على الحظر، أو الاباحة، أو على الوقف ؟


[ 742 ]

وذهب كثير من البغداديين، وطائفة من اصحابنا الامامية إلى انها على الحظر، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء (1). وذهب اكثر المتكلمين من البصريين، وهي المحكي عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء إلى انها على الاباحة (1)، وهو الذي يختاره (2) سيدنا المرتضى (3) رحمه الله. وذهب كثير من الناس إلى انها على الوقف (1)، ويجوز كل واحد من الامرين فيه، وينتظر ورود السمع بواحد منهما، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله (4) وهو الذي يقوى في نفسي. والذى يدل على ذلك: انه قد ثبت في العقول ان الاقدام على مالا يؤمن المكلف كونه قبيحا، مثل اقدامه على ما لم قبحه، الا ترى ان من اقدم على الاخبار بما لا يعلم صحة مخبره، جرى في القبح مجرى من اخبر مع علمه بأن مخبره على خلاف ما اخبر به على حد واحد، وإذا ثبت ذلك وفقدنا الادلة على حسن هذه الاشياء قطعا ينبغي أن يجوز كونها قبيحة، وإذا جوزنا ذلك فيها قبح الاقدام عليها. فان قيل: نحن نأمن قبحها، لانها لو كانت قبيحة لم تكن الا لكونها مفسدة، لانه ليس لها جهة قبح يلزمها مثل الجهل، والظلم، والكذب، والعبث وغير ذلك، ولو كانت لمفسدة لوجب على القديم أن يعلمنا ذلك والا قبح التكليف، فلما لم يعلمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك، وذلك يفيدنا الاباحة. قيل: لا تمتنع ان تتعلق المفسدة باعلامنا جهة الفعل على التفصيل فيقبح


(1) المعتمد 2: 315، التبصرة: 532، الذريعة 2: 808، اللمع: 116، شرح اللمع 2: 977. (2) إختاره. (3) الذريعة 2: 809 – 808. (4) قال الشيخ المفيد – رحمه الله – [ التذكرة باصول الفقه: 43 ]: ” إن العقول لا مجال لها في العلم باباحة ما يجوز ورود السمع فيها باباحتة، ولا يحظر ما يجوز وروده فيها بحظره، ولكن العقل لم ينفك قط من السمع باباحة وحظر، ولو اجبر الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرهم إلى مواقعه ما يقبح في عقولهم من استباحة ما لاسبيل لهم إلى العلم باباحته من حظره وألجأهم إلى الحيرة التي لا تليق بحكمته “. (*)


[ 743 ]

الاعلام، وتكون المصلحة لنا في التوقف في ذلك والشك وتجويز كل واحد من الامرين، وإذا لم يمتنع ان تتعلق المصلحة بشكنا والمفسدة باعلامنا جهة الفعل، لم يلزم اعلامنا على كل حال، وصار ذلك موقوفا على تعلق المصلحة بالاعلام أو المفسدة بالشك، فحينئذ يجب الاعلام، وذلك موقوف على السمع. وليس لاحد أن يقول: ان هذا الذي فرضتموه يكاد يعلم ضرورة تعذره، لان الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك: فان كان قبيحا، فلا يكون كذلك الا للمفسدة. وان لم يكن قبيحا، فذلك الحسن. وهذه قسمة مترددة بين النفى والاثبات، فكيف اخترتم انتم قسما ثالثا لا يكاد يعقل ؟، وذلك ان الفعل كما قالوا لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك، ولكن لا يمتنع أن يكون للمكلف حالة اخرى تتعلق بها المفسدة والمصلحة، وهي الحالة التي يقطع فيها على جهة الفعل على التفصيل، وإذا كان ذلك جائزا لم ينفعنا تردد الفعل في نفسه بين القبح والحسن، واحتجنا ان نراعى حال المكلف، فمتى وجدنا المصلحة تعلقت باعلامه جهة الفعل وجب ذلك فيه، ومتى تعلقت المفسدة بذلك وجب أن لا يعلم ذلك، وكان فرضه الوقف والشك، وهو الذي لحضناه، ينبغي أن يتأمل جيدا فانه يسقط معتمد القوم في ادلتهم. وربما لم يتصور كثيرا من الذين يتكلمون في هذا الباب ما بيناه، ومتى تأمله من يضبط الاصول وقف على وجه الصواب في ذلك. فان قيل: كيف يمكنكم ان تدفعوا حسن هذه الاشياء ونحن نعلم ضرورة حسن التنفس في الهواء، وتناول ما تقوم به الحياة طول مدة النظر في حدوث العالم واثبات الصانع، وبيان صفاته ؟، وعلى ما قلتموه ينبغي أن يمتنع في هذه الاوقات من الغذاء وغير ذلك، يؤدى إلى تلفه وعطبه (1) ومن ارتكب ذلك علم بطلان قوله ضرورة.


(1) في الاصل: خطئه. (*)


[ 744 ]

قيل له: اما التنفس في الهواء، فالانسان ملجاء إليه مضطر، وما يكون ذلك حكمه فهو خارج عن حد التكليف، فان فرضتموه فيما زاد على قدر الحاجة فلا نسلم ذلك، بل ربما كان قبيحا على جهة القطع، لانه عبث لا فائدة فيه ولا نفع في ذلك يعقل. واما احوال النظر فمستثناه ايضا، لانه في تلك الاحوال ليسن بمكلف أن يعلم حسن هذه الاشياء ولا قبحها، لانه لا طريق له إلى ذلك، وانما يمكنه ذلك إذا عرف الله تعالى بجميع صفاته، وانه ينبغي أن يعلمنا مصالحنا ومفاسدنا، وإذا علم جميع ذلك حينئذ تعلق فرضه بأن يعلم هذه الاشياء هل على الحظر أو على الاباحة ؟ وفي الاحوال لا يجوز له أن يقدم الا على قدر ما يمسك رمقه ويقوم به حياته. ومن (1) اصحابنا من قال: ان في هذه الاحوال لابد من أن يعلم الله تعالى ذلك بسمع ببعثه إليه فيعلمه ان ذلك مفسدة يتجنبه، أو مصلحة يجب عليه فعله، أو مباح يجوز له تناوله. وعلى ما قررته من الدليل لا يجب ذلك، لانه إذا فرضنا تعلق المصلحة والمفسدة بحال المكلف لم يمتنع أن يدوم ذلك زمانا كثيرا، ويكون فرضه فيه كله الوقف والشك والاقتصار على قدر ما يمسك رمقه وحياته. وهذا الدليل الذي ذكرناه هو المعتمد في هذا الباب. والذي يلى ذلك في القوة أن يقال: إذا فقدنا الدلاله على حظر هذه الاشياء وعلى اباحتها، وجب التوقف فيها وتجويز كل واحد من الامرين، وليس يلزمنا اكثر من أن نبين ان ما تعلق به كل واحد من الفريقين ليس بدليل في هذا الباب. فما استدل به من قال ان الاشياء على الحظر قطعا ان قالوا: قد علمنا ان هذه الاشياء لها مالك، ولا يجوز لنا ان نتصرف في ملك الغير الا باذنه، كما علمنا قبح التصرف فيما لا نملكه في الشاهد. واعترض القائلون بالاباحة هذه الطريقة بان قالوا: انما قبح في الشاهد التصرف


(1) وفي. (*)


[ 745 ]

في ملك الغير لانه يؤدى إلى ضرر مالكه بدلالة ان ما لا ضرر عليه في ذلك جاز لنا ان نتصرف فيه مثل الاستظلال بفئ داره والاستصباح بضوء ناره، والاقتباس منها واخذ ما يتساقط من حبه عند الحصاد، وغير ذلك من حيث لا ضرر عليه في ذلك، فعلمنا ان الذي قبح من ذلك انما قبح لضرر مالكه لا لكونه مالكا، والقديم تعالى لا يجوز عليه الضرر على حال، فينبغي أن يسوغ لنا التصرف في ملكه. ولمن نصر هذا الدليل أن يقول: انما حسن الانتفاع في المواضع التي ذكرتموها لا لارتفاع الضرر بل لان هذه الاشياء لا يصح تملكها، لان فيئ الحائط ليس بشئ يملك إذا كان في طريق غير مملوك، ومتى كان الفئ في ملك صاحبه قبح الدخول إليه، وكذلك القول في المصباح. فاما اخذ ما يتناثر من حبة فلا نسلم انه يحسن، وكيف نسلم وله أن يمنعه من ذلك وان يجمعه لنفسه، ولو كان مباحا لم يجز له منعه منه، على انه على العلة التي ذكروها من اعتبار دخول الضرر على مالكه كان ينبغي أن لا يسوغ له اخذ ما يتناثر من حبة، لانا نعلم ان ذلك يدخل عليه فيه ضرر وان كان يسيرا. وعلى المذهبين جميعا، كان ينبغي أن يقبح ذلك، على ان ذلك لو قبح لضرر – لا لفقد الاذن من مالكه – لكان ينبغي ان لو اذن فيه يحسن ذلك لان الضرر حاصل. وليس لهم أن يقولوا: انه يحصل له عوض اكثر منه من الثواب أو السرور عاجلا. وذلك انا نفرض في من لا يعتقد العوض على ذلك من الملاحدة (1) وليس هو ايضا مما يسر به بل ربما شق عليه واغتم به، ومع ذلك حسن التصرف منه إذا اذن فيه. وليس لاحد أن يقول: ان دليل العقل الدال على اباحة هذه الاشياء يجري مجرى اذن سمعي، فجاز لنا التصرف فيها. وذلك ان لمن نصر هذا الدليل أن يقول: لم يثبت ذلك، ولو ثبت لكان الامر على ما قالوه. ونحن نتبع ما يستدل به اصحاب الاباحة ونتكلم عليه انشاء الله.


(1) في الاصل والحجرية: الملحدة. (*)


[ 746 ]

واستدل كثير من الفقهاء على ان الاشياء ليست على الحظر (1) أو الوقف بقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (2) وبقوله: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (3). فقالوا: بين الله تعالى انه لا يستحق احد العقاب، ولا يكون لله عليهم حجة الا بعد انفاذ الرسل، وذلك يفيد ان من جهتهم يعلم حسن هذه الاشياء أو قبحها. وهذا لا يصح الاستدلال به من وجوه: احدها: ان هاهنا امورا كثيرة معلومة من جهة العقل وجوبها وقبحها، مثل رد الوديعة، وشكر المنعم والانصاف، وقضاء الدين، وقبح الظلم، والعبث، والكذب، والجهل، وحسن الاحسان الخالص، وغير ذلك، فعلمنا انه ليس المراد بالاية ما ذكروه. ومتى ارتكبوا دفع كون هذه الاشياء معلومة الا بالسمع، علم بطلان قولهم، وكانت المسألة خارجة عن هذا الباب. ومنها: ان لله حججا كثيرة غير الرسل من ادلة العقل الدالة على توحيده، وعدله، وجميع صفاته التي من لا يعرفها لا يصح أن يعرف صحة السمع، فكيف يقال: لا تقوم الحجة الا بعد انفاذ الرسل ؟ والمعني في الايتين ان يحملا على انه إذا كان المعلوم ان لهم الطافا ومصالح لا يعلمونها الا بالسمع، وجب على القديم تعالى اعلامهم اياها، ولم يحسن ان يعاقبهم على تركها الا بعد تعريفهم اياها، فلم تقم الحجة عليهم الا بعد انفاذ الرسل، ومتى كان الامر على ذلك وجبت بعثة الرسل، لانه لا يمكن معرفة هذه الاشياء الا من جهتهم. واستدل من قال: ان هذه الاشياء على الاباحة بأن قالوا: نحن نعلم ضرورة ان


(1) انظر المعتمد 2: 315، التبصرة: 532، الذريعة 2: 809 – 808، اللمع: 116، شرح اللمع 2: 977. (2) الاسراء: 15. (3) النساء: 165. (*)


[ 747 ]

كل ما يصح الانتفاع به ولا ضرر على احد فيه عاجلا ولا اجلا فانه حسن كما يعلم ان كل الم لا نفع فيه عاجلا ولا اجلا قبيح، فدافع احد الامرين كدافع الاخر، وإذا ثبت ذلك وكانت هذه الاشياء لا ضرر فيها عاجلا ولا اجلا فيجب أن تكون حسنة. قالوا: ولا يجوز أن يكون فيها ضرر اصلا، لانه لو كان كذلك لم يكن الا لكونها مفسدة في الدين، ولو كان كذلك لوجب على القديم تعالى اعلامنا ذلك، فلما لم يعلمنا ذلك علمنا انه حسنة. وقد مضى في دليلنا ما يمكن أن يكون كلاما على هذه الشبهة، وذلك انا قلنا: ان هذه الاشياء لا نأمن أن تكون فيها ضرر اجل، وإذا لم نأمن ذلك قبح الاقدام عليها، كما لو قطعنا ان فيها ضررا. واجبنا عن قولهم: ” لو كان فيها ضررا لكان ذلك لاجل المفسدة، وذلك يجب على القديم اعلامنا اياه ” بأن قلنا: لا يمتنع ان تتعلق المفسدة باعلامنا جهة الفعل على وجه التفصيل، ويكون مصلحتنا في الوقف والشك، وتجويز كل واحد من الوجهين في الفعل، واذ كان ذلك جائزا لم يجب عليه تعالى اعلامنا ذلك، وجاز ان يقتصر بالمكلف على هذه المنزلة. واستدلوا ايضا بأن قالوا: إذا صح أن يخلق تعالى الاجسام خالية من الالوان والطعوم، فخلقته تعالى للطعم واللون لابد أن يكون فيه وجه حسن، فلا يخلو ذلك من أن يكون لنفع نفسه، أو لنفع الغير، أو خلقها ليضر بها ؟ ولايجوز أن يخلقها لنفع نفسه، لانه يتعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولا يحسن أن يخلقها ليضر بها، لان ذلك قبيح الابتداء به، فلم يبق الا أنه خلقها لنفع الغير، وذلك يقتضى كونها مباحة. والجواب عن ذلك من وجوه: احدها: انه انما خلق هذه الاشياء إذا كانت فيها ومصالح، وان لم يجز لنا ان ننتفع بها بالاكل، بل نفعنا بالامتناع منها، فيحصل لنا بها الثواب، كما انه خلق اشياء كثيرة يصح الانتفاع بها، ومع ذلك فقد حظرها بالسمع مثل شرب الخمر،


[ 748 ]

والميتة، والزنا وغير ذلك. وليس لهم أن يقولوا: ان هذه الاشياء انما حظرها لما كانت مفسدة في الدين واعلمنا ذلك، وليس كذلك ما يصح الانتفاع به ولا يعلم ذلك فيه: وذلك انا قد بينا انه لا فرق في أن تتعلق المصلحة باعلامنا جهة الفعل من قبح أو حسن فيجب عليه أن يعلمنا ذلك، وبين أن تتعلق المصلحة بحال لنا جوز معها كل واحد من الامرين فيجب أن يقتصر بنا على تلك الحال، لان المراعى حصول المصلحة، وإذا ثبت ذلك لحق ثبوت ما علمنا قبحه على طريق القطع والثبات في انه لا يحسن منا الاقدام عليه. ومنها: ان على مذهب كثير من اهل العدل انما خلق الطعوم والاراييح في والاجسام لانها لا تصح أن تخلو منها، فجرت في هذا الباب مجرى الاكوان التي لا يصح خلو الجسم منها، وخلق الجسم إذا ثبت انه مصلحة وجب أن يخلق معه جميع ما يحتاج إليه في وجوده. ومنها: ان الانتفاع بهذه الاشياء قد يكون بالاستدلال بها على الله تعالى وعلى صفاته، فليس الانتفاع مقصورا على التناول فحسب. وليس لهم أن يقولوا: انه كان يمكن الاستدلال بالاجسام على وحدانية الله تعالى وعلى صفاته، فلا معنى لخلق الطعوم. وذلك انه لا يمتنع ان يخلقها لما ذكرناه، وان كان الجسم يصح الاستدلال به ويكون ذلك زيادة في الادلة (1). ولسنا ممن يقول: لا يجوز أن ينصب على معرفته ادلة كثيرة، لانا ان قلنا ذلك ادى إلى فساد اكثر الادلة التي يستدل بها على وحدانيته تعالى، فإذا ينبغي أن يجوز أن يخلقها للاستدلال بها وذلك يخرجها عن حكم العبث ويدخلها في باب ما خلقت للانتفاع بها.


(1) الاستدلال. (*)


[ 749 ]

وليس لهم أن يقولوا: إذا صح الانتفاع بها من الوجهين بالاستدلال والتناول فينبغي ان يقصد به الوجهين. وذلك ان هذا محض الدعوى لا برهان عليها بل الذي يحتاج إليه ان يعلم انه لم يخلقها الا بوجه، فاما أن يقصد بها جميع الوجوه التي يصح الانتفاع بها لا يجب ذلك. على انا قد بينا انه لا يمتنع ان يفرض في احد الوجهين مفسدة في الدين فيحسن أن يخلقها للوجه الاخر، ويعلمنا ان فيها فساد الدين (1) ومتى تناولناها، فيجب علينا أن نمتنع منها. فان قيل: إذا امكن خلقها للوجهين، ولم يقصدهما كان عبثا من الوجه الذي لم يقصد الانتفاع به، وجرى ذلك مجرى فعلين يقصد بهما الانتفاع ولا يقصد بالاخر ذلك، فيكون ذلك عبثا. قيل له: ليس الامر على ذلك، لان الفعل الواحد إذا كان فيه وجه من وجوه الحكمة خرج من باب العبث، وان كان له وجوه اخر كان يجوز ان يقصد، وليس كذلك الفعلان لانه إذا قصد وجه الحكمة في احدهما بقى الاخر خاليا من ذلك وكان عبثا، وليس كذلك الفعل الواحد على ما بيناه. فان قيل: الانتفاع بالاعتبار بالطعوم لا يمكن الا بعد تناولها، لان الطعم ليس مما يدرك بالعين فينتفع به من هذه الجهة، فإذا لابد من تناوله حتى يصح الاعتبار به. قيل: الاعتبار يمكن بتناول القليل منه وهو قدر ما يمسك الرمق وتبقى معه الحياة، وقد بينا ان ذلك القدر في حكم المباح، وليس الاعتبار موقوفا على تناول شئ كثير من ذلك. ويمكن أن يقال ايضا: انه يصح أن يعتبر بها إذا تناولها غير المكلف من سائر اجناس الحيوان، فانه إذا شاهد اجناس الحيوان تتناول تلك الاشياء ويصلح عليها


(1) للذين. (*)


[ 750 ]

اجسامها أو ينفسد بحسب اختلافها واختلاف طبائعها، جاز معه أن يعتبر بذلك وان لم يتناولها المكلف اصلا. وبمثل هذا اجاب المخالف من قال بالفرق بين السموم والاغذية، بان قال: يرجع إلى حال الحيوانات التي ليست مكلفة إذا شاهدها يتناول اشياء ينتفع بها جعلها ذلك طريقا إلى تجربته، وان ذلك ممن ينصلح عليه ايضا جسمه، وذلك مثل ما اجبنا به عن السؤال الذي أوردوه في هذا الباب. واستدلوا ايضا: بقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) (1)، وبقوله (واحل لكم الطيبات) (2)، وما شاكل ذلك من الايات، وهذه الطريقة مبنية على السمع. ونحن لا نمتنع ان يدل دليل السمع على ان الاشياء على الاباحة بعد ان كانت على الوقف، بل عندنا الامر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقط المعارضة بالايات. واستدل كثير من الناس على ان هذه الاشياء على الحظر أو الوقف، بأن قالوا: قد علمنا ان التحرز من المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجبا لم يحسن منا ان نقدم على تناول ما لا نأمن أن يكون سما قاتلا فيؤدى ذلك إلى العطب، لانا لا نفرق بين ما هو سم وما هو غذا، وانما ننتظر ذلك اعلام الله تعالى لنا ما هو غذاؤنا، والفرق بينه وبين السموم القاتلة واعترض من خالف في ذلك هذا الاستدلال بأن قال: يمكننا ان نعلم ذلك بالتجربة، فانا إذا شاهدنا الحيوان الذي ليس بمكلف يتناول بعض الاشياء فيصلح عليه جسمه، علمنا انه غذاء، وإذا تناول شيئا يفسد عليه علمنا انه مضار، فحينئذ اعتبرنا باحوالهما.


(1) الاعراف: 32. (2) المائدة: 4. (*)


[ 751 ]

وقال من نصر هذا الدليل: ان الحيوان يختلف طباعه، فليس ما يصلح الحيوان المستبهم يعلم انه يصلح الحيوان الناطق، لان هاهنا اشياء كثيرة تغذي كثيرا من الحيوان وتصلح عليها اجسامها، وان كان متى تناولها ابن ادم هلك، منها ان الظبايا يأكل شحم الحنظل ويتغذى به، ولو اكل ذلك ابن ادم لهلك في الحال، وكذلك النعامة تأكل النار وتحصل في معدتها، ولو اكل ذلك ابن ادم لهلك في الحال، وكذلك يقال ان الفارة تأكل البيش (1) فتعيش به، ورايحة ذلك تقتل ابن ادم. فليس طبايع الحيوان على حد واحد، وإذا لم يكن على حد واحد لم يجز أن يعتبر باحوال غيرنا احوال نفوسنا. ولمن خالفهم في ذلك أن يقول: احسب انه لا يمكن أن يعتبر باحوال الحيوان المستبهم احوال الحيوان من البشر، اليس لو اقدم واحد منهم على طريق الخطاء أو الجهل على ما يذهبون إليه على تناول هذه الاشياء يعرف بذلك الخطاء ما هو غذا، وفرق بينه وبين السم، فينبغي أن يجوز لغيره أن يعتبر به، ويجوز له بعد ذلك التناول منها، وان لم يرد سمع، لانه قد امن العطب والهلاك. فالمعتمد في هذا الباب ما ذكرناه اولا في صدر هذا الباب، فهذه جملة كافية في هذا الباب ان شاء الله.


(1) بكسر الباء نبت ببلاد الهند وهو سم. (لسان العرب 6: 269). (*)


[ 752 ]

فصل [ 3 ] ” في ذكر النافي، هل عليه دليل ام لا ؟ (1)، والكلام في استصحاب الحال ” ذهب قوم (1) إلى ان النافي ليس عليه دليل، كما ان من قال لست عالما بالشئ لا دليل عليه، وكما ان المنكر للدعوى ليس عليه بينة، وكما لا دليل على من نفى نبوة المدعى للنبوة. ومنهم من قال: ان على النافي للاحكام العقلية دليلا، وليس على النافي


(1) إختلف الاصوليون في حكم من ينفي وجود وحدوث حكم من الاحكام، سواء في الامور العقلية أو الشرعية، واليك مذاهبهم: 1 – ليس على النافي إبراز الدليل. 2 – النافي للحكم عليه الدليل مطلقا سواء من نفى حكما عقليا أو سمعيا: وهذا مذهب جمهور المتكلمين والاصوليين والفقهاء. 3 – التفصيل بين النافي الذي يدعي عدم علمه بما ينفيه فليس عليه ابراز الدليل لانه مدع للجهل ولا دلالة على الجاهل، وكذلك من ينفي مع إدعائه العلم الضروري بنفيه وبين من ينفي ولكن عن نظر ودليل فلا بد من إظهار علمه. 4 – التفصيل بين العقليات والشرعيات، فقالوا عليه إبراز الدليل في نفي العقليات دون الشرعيات. انظر: ” التبصرة: 530، الذريعة 2: 827، اللمع: 117، المعتمد 2: 323، الاحكام للآمدي 4: 442، ميزان الاصول 2: 940، شرح المنهاج 2: 766، روضة الناظر: 139، شرح اللمع 2: 995 “. (*)


[ 753 ]

للاحكام الشرعية ذلك (1). وذهب المحصلون من المتكلمين والفقهاء إلى ان كل من نفى حكما من الاحكام، عقليا كان أو سمعيا، كان عليه الدليل (1)، واليه اذهب لانه الصحيح. والذي يدل على ذلك: ان النافي للحكم مدع (2) للعلم بان ما نفاه منفى، لانه ان ادعى الشك في ذلك فلا يلزمه الدلالة، لان قوله لا يعد مذهبا ولا يناظر عليه، وإذا كان مدعيا للعلم وقد ثبت ان العلوم المكتسبة لابد لها من اوله وطرق موصلة إلى العلم، فإذا ثبت ذلك فمتى طولب النافي بالدلالة، فانما يطالب بما اداه النظر إليه إلى نفى ما نفاه، فعليه بيان دلالته، كما يجب على المثبت ذلك، لكن طريق الاستدلال يختلف في ذلك، لان النافي للحكم يستدل بأن يقول: الحكم الشرعي إذا تعبد الله تعالى به فلابد من أن يدل عليه، فإذا عدمت الدلالة على ذلك من الكتاب والسنة والاجماع وجميع طرق الادلة علمت ان الحكم منتف، فليستدل بانتفاء التعبد به على نفى لزومه. وكذلك قد يستدل بانتفاء ظهور العلم المعجز على يد المدعى للنبوة على نفى نبوته بأن يقال: لو كان نبيا لوجب ظهور المعجز على يده، فإذا لم يظهر علمت بانتفائه انتفى كونه نبيا. وكذلك يستدل بانتفاء احكام الصفات عن الموصوف على نفي الصفات، كما يستدل على نفي المائية (3) على القديم تعالى بانتفاء حكم لها. ونقول: لو كان له مائية لوجب أن يكون لها حكم، فلما لم نجد لها حكما علمنا انتفاءها. وكذلك نستدل على انتفاء الصفات الزائدة على الصفات المعقولة في الجواهر


(1) انظر: المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 752. (2) مدعي. (3) أي الماهية. (*)


[ 754 ]

والاعراض بان نقول: لو كانت لها صفات اكثر من ذلك لكانت لها احكام معلومة اما ضرورة أو استدلالا، فلما لم نجدها معلومة من هذين الطريقين علمنا انتفائها وكل هذه ادلة على الحقيقة، لانا عولنا في نفى ما نفيناه على القول بانا لا نحتاج إلى دليل، فطرق الادلة تختلف. وقد طول من تكلم في هذا الباب الكلام فيه، وهذا القدر الذي لخصناه كاف فانه ياتي على المعتمد من ذلك. فاما قول من قال (1): ” ليس عليه دليل، كما لابينة على المنكر “. فبعيد، لان طريق ذلك الشرع وليس هو مما عليه دليل عقلي أو سمعي، وما هذا حكمه يحكم فيه بحسب ما ورد الشرع به ويفارق ذلك المذاهب على ما ذكرناه. على ان المنكر لو كان لا دليل عليه لما وجب عليه اليمين، كما لا يحتاج النافي إلى دليل ولا غيره. على انه قد قيل: ان كون الشئ في يده حكم الدلالة، ولذلك لو لم يكن في يده لكان حاله حال المدعى الاخر، فقد ثبت سقوط التعلق بذلك. فاما من نفى نبوة المتنبي، فقد بينا ان عليه دليلا، وهو ان يقول: لو كان نبيا: لوجب ظهور العلم على يده، فلما لم يظهر علمت انه ليس بنبي، وانه كاذب في دعواه. وهذه الجملة التي ذكرناها تبين لنا ان النافي عليه دليل، فان ذلك لا يخص حكما عقليا من حكم شرعى، فيجب القضاء بتساويهما في ذلك.


(1) راجع المصادر الواردة في هامش التعليقة رقم (1) صفحة 752. (*)


[ 755 ]

[ الكلام في استصحاب الحال ] (1) فاما استصحاب الحال فصورته ما يقوله اصحاب الشافعي: ” من ان المتيمم إذا دخل في الصلاة ثم رأى الماء، فانه قد ثبت انه قبل رؤيتة للماء يجب عليه المضى


(1) إختلف الاصوليون في تعريف الاستصحاب، وقيل: إن أخصر تعاريفه انه (إبقااء ما كان على ما كان) أي الحكم بثبوت حكم في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الاول، وقد اختلفوا في ثبوته وحجيته: 1 – ان الاستصحاب ليس بدليل: وهو مذهب اكثر المتكلمين، وكثير من فقهاء العامة، وخاصة أصحاب أبي حنيفة، وهو مختار الشريف المرتضى من الامامية. 2 – إن الاستصحاب دليل شرعي لا يمكن الاعتماد عليه وإثبات الحكم به في الموارد المشكوكة: وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، والمزني، وأبي ثور، وداود، والصيرفي، وابن سريح، وابن خيران، والآمدي، والغزالي، وابن الحاجب – وهو مختار الشيخ المفيد من الامامية. قسم اصحاب الشافعي الاستصحاب إلى قسمين: 1 – إستصحاب حال العقل: وهو الرجوع إلى براءة الذمة في الاصل. 2 – إستصحاب حال الاجماع: وهو كما يصفه الشيرازي في ” اللمع: 117 ” بقوله: ” وذلك مثل أن يقول الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء في اثناء صلاته إنه يمضي فيها، لانهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته فيجب أن تستصحب هذه الحال بعد رؤية الماء حتى يقوم دليل ينقله عنه “. ولم يعلق المصنف على القسم الاول، واكتفى بالاشارة إلى الخلاف الموجود في القسم الثاني، وأنكر مقولة الشافعية القائلين بحجية الاستصحاب، بل قال إن مرجعه إلى الفصل السابق أي نفي الحكم وكان مذهبه أن على النافي إقامة الدليل على إنكاره. = (*)


[ 756 ]

في الصلاة بالاتفاق، فإذا حدث رؤية الماء فيجب أن يكون على ما كان عليه من حكم الحال الاولى ” وغير ذلك من المسائل. وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب اكثر المتكلمين، وكثير من الفقهاء من اصحاب ابي حنيفة وغيرهم إلى ان ذلك ليس بدليل (1)، وهو الذي ينصره المرتضى (2) رحمه الله (3). وذهب اكثر اصحاب الشافعي وغيرهم – وهو الذي كان ينصره شيخنا أبو عبد الله (4) – إلى ان ذلك دليل (1). وفي ذلك نظر غير انه يمكن أن يقال في المثال الذي ذكروه أن يقال: قد ثبت وجوب المضى في الصلاة قبل رؤية الماء، ولم يدل دليل على ان رؤية الماء حدث، ولو كان حدثا لكان عليه دليل شرعى، فلما لم يكن عليه دليل دل على انه ليس بحدث، ووجب حينئذ المضي في الصلاة، غير ان هذا يخرج عن باب استصحاب الحال ويرجع إلى الطريقة الاولى من الاستدلال بطريقة النفي. واعترض من نفى استصحاب الحال طريقة من قال به بأن قال (5): الحالة الثانية غير الاولى، بل الحالة الثانية مختلف فيها، والحالة الاولى متفق عليها، فكيف يحكم


= انظر: ” الذريعة 2: 830، التبصرة: 526، اللمع: 117، التذكرة: 45، المعتمد 2: 325، المستصفى 1: 217، الاحكام للآمدي 4: 367، ميزان الاصول 2: 936، إرشاد الفحول: 352، شرح المنهاج 2: 755، روضة الناظر: 139، شرح اللمع 2: 978). (1) انظر المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 755. (2) يقول الشريف المرتضى – رحمه الله – (الذريعة 2: 819): ” اما استصحاب الحال، فعند التحقيق لا يرجع المتعلق بها إلا أنه أثبت حكما بغير دليل “. (3) قدس الله روحه. (4) يقول الشيخ المفيد – رحمه الله – (التذكرة: 45): ” والحكم باستصحاب الحال واجب، لان حكم الحال ثابت باليقين فلا تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه “. (5) والمعترض هو أبو إسحاق الشييرازي، راجع تفصيل استدلاله في نفي دليلية الاستصحاب في: ” التبصرة: 527 – 526 “. (*)


[ 757 ]

في احدهما بحكم الاخرى بلا دليل ؟ ولانه لا فرق بين من عول في ذلك على ما قالوه، وبين من عول في حمل مسألة على اخرى، على ان قال انها مثلها من غير أن يبين فيها علة توجب الجمع بينهما، وذلك ظاهر البطلان. قالوا: والذي يكشف عن ذلك ان الذي لاجله قلنا في الحالة الاولى ما (1) قلناه، انما كان للاتفاق (2) أو لدليل (3) دل على ذلك، وذلك مفقود في الحالة الثانية، [ فيجب أن لا يكون حكمها حكم الاولى، بل كان يجب أن لا يقول في الحالة الثانية ] (4) الا بما يقوم عليه دليل كما قلناه في الاولى، وذلك يبطل استصحاب الحال. وقولهم: ” انا على ما كنا عليه ” ليس بدليل على ان الحالة الثانية حال اجتهاد عند من قال بذلك، والحالة الاولى متفق عليها لا يجوز فيها الاجتهاد. فان قالوا: ان حدوث الحوادث لا يغير الاحكام الثابته، ولم يحصل في الحال الثانية الا حدوث حادث، فيجب أن لا يزيل الحكم الاول الا بدليل. قيل: ان حدوث الحوادث انما لا يؤثر في ثبوت الحكم إذا كان الدليل قد اقتضى دوامه، فاما إذا اقتضى اثباته في في وقت مخصوص فطرو الوقت الثاني يقتضي زوال حكمه لا محاله. على ان كل الحوادث وان كانت لا تؤثر في الحكم الثابت، فان الحوادث التي اختلفت الناس عند حدوثها في بقاء الحكم الاول عندها مؤثر في ذلك، لان الاتفاق قد زال عند حدوثه، فعلى من استصحب الحكم الاول دليل مبتدا، كما ان على المتنقل عنه دليل مبتدأ. واستدل من نصر استصحاب الحال بما روى عن النبي (ص) انه قال: ” ان


(1) بما. (2) في الاصل: الإتفاق. (3) دليل. (4) ليس في الحجرية. (*)


[ 758 ]

الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه فيقول احدثت احدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ” (1)، فبقاه على الحالة الاولى. وايضا: فقد اتفقوا على ان من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، ان عليه أن يستصحب الحال الاولى، فينبغي أن يجعل ذلك عبرة في نظائره. واعترض ذلك من نفى القول به بأن قال (2): انما قلنا في هذين الموضعين لقيام دليل وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويته بين الحالين، وكذلك الاتفاق على ان حال الشك في الحدث مثل حال يقين الطهارة فلا شك معها، فنظير ذلك ان يقوم في كل موضع دليل على ان الحالة الثانية مثل الحالة الاولى حتى يصير إليه. والذي يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما اومأنا إليه من أن يقال: لو كانت الحالة الثانية مغيرة للحكم الاول لكان على ذلك دليل، وإذا تتبعنا جميع الادلة فلم نجد ما فيها ما يدل على ان الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولى، دل على ان حكم الحالة الاولى باق على ما كان. فان قيل: هذا رجوع إلى الاستدلال بطريقة النفى، وذلك خارج عن استصحاب الحال ؟ قيل: الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه، فاما غير ذلك فليس يكاد يحصل غرض القائل به. وهذه الجملة كافية في هذا الباب


(1) نحوه في الجامع الصغير 1: رقم 2027 عن مسندلحمد وابي يعلى، وفي كنز العمال 1: – 251 252 حديث رقم 1269، 1270، 1271. انظر أيضا المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 755. (2) راجع المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 755. (*)


[ 759 ]

فصل [ 4 ] ” في ذكر ما يعلم بالعقل والسمع ” المعلومات على ضربين: ضرورية، ومكتسبة. والمكتسبة على ضربين: عقلي وسمعي. فالعقلي على ضربين: ضرب منه: لا يصح ان يعلم الا بالعقل. والضرب الاخر: يصح أن يعقل بالعقل والسمع معا. فالضروريات نحو العلم بأن الواحد لا يطابق اثنين، وان الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حال واحدة، والعلم بوجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، والانصاف وقبح الظلم، والكذب، والعبث، وما يجرى مجراه مما هو لازم لكمال العقل. واما المكتسب الذي لا يصح أن يعلم الا بالعقل، فهو كل علم لو لم يحصل للمكلف لم يمكنه معرفة السمع، وما لا يتم هذا العلم الا به، وذلك نحو العلم بان هاهنا حوادث لا يقدر عليها أحد من المحدثين، وان لها محدثا، قادرا، عالما، حيا، قديما، لا يشبه الاجسام ولا تشبهه ولا الاعراض، وانه غنى لا يجوز عليه الحاجة، وانه يستحق هذه الصفات لذاته لا لمعان قديمة أو محدثة سواه، وانه لا يفعل الا الحسن، ولا يجوز عليه شئ من القبائح، ولا الاخلال بالواجب. فمتى علم هذه الجملة صح ان يعلم صحة السمع، متى لم يعلمها أو لم يعلم


[ 760 ]

شيئا منها لا يصح أن يعلم صحة السمع. وإنما قلنا ذلك: لانه متى لم يعلم ما قلناه، لم نأمن ان يكون الذي فعل المعجز غير الحكيم، وأنه ممن يجوز عليه تصديق الكذاب، فلا نثق بصحة السمع. وأما ما يصح أن يعلم بالسمع والعقل معا: فنوا ان الله تعالى لا يجوز عليه الرؤية على الحد الذي يجوزها الاسعري وأصحابه (1) عليه، لان نفي ذلك يصح ان


إن مسألة جواز رؤية الله تعالى وعدمه تعد من موارد النزاع والخلاف وتضارب الاراء بين الاشاعرة والعدلية، أما الاشعري وأصحابه فقد أجمعوا على جواز رؤية الله تعالى، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد ! ! وعدوا رؤية المؤمنين له تعالى من اعلى العطايا واسنى الكرامات التي يمنحها الله تعالى لهم، وقالوا انه هي الزيادة المذكورة في قوله: (للذين احسنوا الحسنى وزيادة) [ يونس: 26 ]، ولم يكتفوا بهذا المقدار بل قالوا: ان للانسان لمسه وذوقه وشمه ! ! واقاموا على دعواهم الحجج العقلية والسمعية، وانكروا تأويل العدلية للايات الدالة على جواز الرؤية، واليك خلاصة رأي الاشاعرة وحججهم كما اوردها عبد القاهر الجرجاني في كتابه ” اصول الدين: 98 – 97 ” وهي نص كلام الاشعري في كتابيه ” الابانة ” و ” اللمع ” دون ان يضيف اليهما شيئا جديدا، يقول: ” قال اصحابنا: اجمع اهل الحق على ان الله راء برؤية ازلية، يرى بها جميع المرئيات، ولم يزل رائيا لنفسه، واختلف اصحابنا فيما يجوز كونه مرئيا، وقال أبو الحسن الاشعري: يجوز رؤية كل موجود واحالة رؤية المعدوم. وقال عبد الله بن سعيد والقلانسي بجواز رؤية ما هو قائم بنفسه واحالا رؤيته، ومنع من رؤية الاعراض، وزعم البغداديون من المعتزلة ان الله لا يرى شيئا، وتأولوا ما في القرآن من ذكر رؤيته وبصره على معنى انه عامل بالاشياء، وزعم البصريون منهم ان الله يرى غيره ولايرى نفسه ويستحيل ان يكون مرئيا “. اما الامامية فقد انكروا القول بالرؤيا وجوازها يقول اللشييخ المفيد: ” لا يصح رؤية الباري سبحانه بالابصار وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر عن ائمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليه جمهور اهل الامامة وعامة متكلميها الا من شذ منهم لشبهة عرضة له في تأويل الاخبار، والمعتزلة بأسرها توافق اهل الامامة في ذلك، وجمهور المرجئة وكثير من الخوارج والزيدية وطوائف من اصحاب الحديث، يخالف في المشبهة واخونهم من اصحاب الصفات “. انظر: ” اصول اللدين للجرجاني: 98 – 97، الاقتصاد فيما يتعلق إبالاعتقاد: 74، اوائل المقالات: 57، الاعتقاد للبيهقي: 58، الانصاف للباقلاني: 200، المعتمد في اصول الدين للخوارزمي: 407، مذاهب الاسلاميين 1: 554 – 548 وايضا لاحظ اراء المذاهب الاسلاميه حول هذا الموضوع في كتاب (مقالات الاسلاميين) لابي الحسن الاشعري “. (*)


[ 761 ]

يعلم بالسمع كما يصح أن يعلم بالعقل، وغير ذلك مما يقدح فيما قدمناه. فاما ما لا يعلم الا بالسمع فعلى اضرب: منها ما تتعلق به الاحكام من سبب أو علة من قال باثبات العلل. ومنها: ما هي ادلة على الاحكام. ومنها ما يتعلق بذلك من شروطه وفروعه واوصافه. وكل ذلك لا يصح ان يعلم الا بالسمع. فاما الاحكام: فنحو الاباحة الشرعية، نحو ذبح البهائم وغير ذلك عند من قال ان الاشياء على الاباحة. فاما على ما نذهب إليه من الوقف، وعلى ما مذهب من قال انها على الحظر، فجميع المباحات – لان الطريق إلى العلم بها السمع لا غير – وكذلك القبائح الشرعية نحو شرب الخمر، ونحو الاكل في ايام الصوم، ونحو الربا وما شاكلها، فان جميع ذلك لولا السمع لما علم قبحها على طريق القطع. فاما القتل والظلم: فمعلوم بالعقل قبحه. واما ما يستفاد بالسمع: نحو ما يحسن من الالام والقتل، وهو ما كان قودا أو غيره، ونحو جهاد الكفار وغير ذلك. واما ما يقبح من البياعات وغيرها: فما يقف التمليك فيها على شروط لا تعرف الا بالشرع فشرعي، وما لم يكن كذلك فهو مما يعلم بالعقل وبالعادة. وأما ما رغب فيه الشرع (1): فهو كل فعل لولا الشرع لكان قبيحا كالصوم والصلاة وما شاكلهما. فاما الاحسان: فإنه يعلم بالعقل انه ندب، الا ما ورد الشرع به على اوصاف يرجع إليه أو إلى المعطى. واما الواجب الشرعي: فهو كل ما لولا دليل السمع لم يعلم وجوبه على الوجه الذي وجب عليه وكان قبيحا، وذلك نحو الصوم، والصلاة، والزكاة.


(1) في الاصل: بالشرع (*)


[ 762 ]

وشروط جميع ذلك واوصافه، وما يفسد منه، وما يصح، وما يفسده أو يصححه، وما يجزى منه ما لا يجزى ويجب فيه القضاء، وما يفسخ من العقود وما لا يفسخ، ولا يقع به التمليك الا بشروط، أو على اوصاف، وما يجب من نوع الاملاك وغير ذلك، فجميع ذلك يعلم شرعا. وهذه الجملة تنبه على ما يعلم بالشرع من الاحكام، اختلف الاحوال المحكوم لهم أو عليهم أو اتفق، مختارا كان أو مكرها، مكلفا أو غير مكلف. واما سبب الاحكام: فكالشهادات وسائر الامارات التي يتعلق الاحكام بها، أو يسوغ للحاكم الحكم لاجلها، وكذلك سائر اسباب المواريث، وكثير من التمليكات من موت، أو غنيمة، وما شاكله، وكثير من الولايات التي هي سبب لتصرف الوالي فيما يتصرف فيه من امارة وقضاء، وولاية على عجوز وغير ذلك، فجميع ذلك وجميع اوصافه وشروطه يعلم بالشرع، ولولاه لم يعلم. واما علل الاحكام فعباد من قال بالقياس لا يعلم الا بالشرع. واما الادلة التي تعلم بالشرع فنحو القياس، والاجتهاد (1) عند من اثبتهما وجوز العمل بهما، وما يتعلق بهما من العلل والامارات والاحكام. واما على مذهبنا، فنحو الافعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وآله، لان بالشرع يعلم كونها ادلة على ما تقدم القول فيها. فاما الادلة الموجبة للعلم: فبالعقل يعلم كونها ادلة، ولا مدخل للشرع في ذلك، فان كان يتعلق الشرع في بعض الوجوه لانا نقول الرسول عليه السلام يعلم ان القرآن كلام الله، وان كان علمنا بما يدل عليه، أو بانه دلالة يرجع فيه إلى العقل. واما المباحات: فقد بينا ان طريق العلم بها كلها الشرع على ما مضى القول فيها على مذهبنا في الوقف.


(1) لمعرفة معنى ” الاجتهاد ” في مصطلح الامامية راجع التعليقة رقم (1) صفحة (8). (*)


[ 763 ]

قد ذكرنا في هذا الكتاب جملة موجزة في كل باب بأخصر ما خصرنا، ولو شرعنا في شرح ذلك لطال الكتاب، وفيما لخصناه كفاية لمن ضبط هذا الفن، وتنبيه بالشرع يعلم كونها ادلة على ما تقدم القول فيها. فاما الادلة الموجبة للعلم: فبالعقل يعلم كونها ادلة، ولا مدخل للشرع في ذلك، فان كان يتعلق الشرع في بعض الوجوه لانا نقول الرسول عليه السلام يعلم ان القرآن كلام الله، وان كان علمنا بما يدل عليه، أو بانه دلالة يرجع فيه إلى العقل. واما المباحات: فقد بينا ان طريق العلم بها كلها الشرع على ما مضى القول فيها على مذهبنا في الوقف.


(1) لمعرفة معنى ” الاجتهاد ” في مصطلح الامامية راجع التعليقة رقم (1) صفحة (8). (*)


[ 763 ]

قد ذكرنا في هذا الكتاب جملة موجزة في كل باب بأخصر ما خصرنا، ولو شرعنا في شرح ذلك لطال الكتاب، وفيما لخصناه كفاية لمن ضبط هذا الفن، وتنبيه بذلك على ما عداه، ونسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه، وينفعنا بذلك ومن نظر فيه، انه ولي ذلك، والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وآله الطاهرين. * * * تم الكتاب وربنا محمود * وله المكارم والعلى والجود على النبي محمد صلواته * ما ناح قمري وأورق عود وقع الفراغ من كتبه عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد في ذي الحجة سنة ثمان عشر وخمس مائة هجرية. حامدا لله ومصليا على نبيه محمد وآله الطاهرين (1).


(1) جاء في نهاية النسخة الثانية: ” قد تم هذا الكتاب المستطاب بعون الملك الوهاب على يد العبد الآثم الجاني محمد صادق بن محمد رضا التويسركاني في شهر ربيع الثاني سنة 1314

اترك تعليقاً