تاريخ اليعقوبي

اليعقوبي ج 2


[ 1 ]

تاريخ اليعقوبي


[ 2 ]


[ 3 ]

تاريخ اليعقوبي وهو تاريخ أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح الكاتب العباسي المعروف باليعقوبي المجلد الثاني ناشر: مؤسسه ونشر فرهنگ اهل بيت (ع) – قم خيابان حجت صندوق پستى 11 – تلفن 27348 دار صادر بيروت


[ 4 ]

دار صادر بريد 10 – بيروت


[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي التوفيق، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. إنه لما انقضى كتابنا الاول الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الاوائل من الامم المتقدمة والممالك المفترقة والاسباب المتشعبة ألفنا كتابنا هذا على ما رواه الاشياخ المتقدمون من العلماء والرواة وأصحاب السير والاخبار والتأريخات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لانا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والاعمال، وزاد بعضهم ونقص بعض، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لان الواحد لا يحيط بكل العلم، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: العلم أكثر من أن يحفظ، فخذوا من كل علم محاسنه. وقال جعفر بن حرب بن الاشج: وجدت العلم كالمال، في يد كل إنسان منه شئ، فإذا حوى الرجل منه جملة سمي موسرا، ويحوي الآخر ما هو أكثر منه فيسمى موسرا، وكذلك العلم لا يحوي منه شيئا إلا سمي عالما وإن كان غيره أعلم منه. ولو كنا لا نسمي العالم عالما حتى يحوي العلم كله لم يقع هذا الاسم على أحد من الآدميين. وقال بعض الحكماء: ليس طلبي للعلم طمعا في بلوغ قاصيته والاستيلاء على غايته. ولكن ألتمس شيئا لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه. وقال بعض الحكماء:


[ 6 ]

إن لم تكن عالما فتعلم وإن لم تكن حكيما فتحكم فإنه قل ما يتشبه رجل بقوم إلا يوشك أن يكون منهم. وقال بعضهم: العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل بمكان العلم ولم يكن العلم بمكان العمل. وقال بعضهم: من طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهوة كان حظه منه على حسب الرهبة، ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الاستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وانتفاعه به حسب استحقاقه. وقال بعضهم: كل شئ يحتاج إلى العقل والعقل يحتاج إلى العلم. وأبتدئ كتابنا هذا من مولد رسول الله وخبره في حال بعد حال ووقت بعد وقت إلى أن قبضه الله إليه، وأخبار الخلفاء بعده وسيرة خليفة بعد خليفة وفتوحه، وما كان منه وعمل به في أيامه وسني ولايته. وكان من روينا عنه ما في هذا الكتاب: اسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخ بني هاشم، وأبو البختري وهب بن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله، وأبان بن عثمان عن جعفر بن محمد، ومحمد بن عمر الواقدي عن موسى بن عقبة وغيره من رجاله، وعبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن اسحاق المطلبي، وأبو حسان الزيادي عن أبي المنذر الكلبي وغيره من رجاله، وعيسى بن يزيد بن دأب، والهيثم بن عدي الطائي عن عبد الله بن عباس الهمداني، ومحمد بن كثير القرشي عن أبي صالح وغيره من رجاله، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، وأبو معشر المدني، ومحمد بن موسى الخوارزمي المنجم، وما شاء الله، الحاسب في طوالع السنين والاوقات. وأثبتنا عن غير هؤلاء الذين سمينا جملا جاء بها غيرهم ورواها سواهم وعلمناها من سير الخلفاء وأخبارهم، وجعلناه كتابا مختصرا، حذفنا منه الاشعار وتطويل الاخبار، وبالله المعونة والتوفيق والحول والقوة.


[ 7 ]

مولد رسول الله وكان مولد رسول الله في عام الفيل، بينه وبين الفيل خمسون ليلة، وكان على ما رواه بعضهم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، وقيل ليلة الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الاول. وقال من رواه عن جعفر بن محمد يوم الجمعة حين طلع الفجر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وولد على ما قال أصحاب الحساب بقران العقرب. قال، ما شاء الله، المنجم: كان طالع السنة التي كان فيها القران الذي دل على مولد رسول الله الميزان اثنتين وعشرين درجة حد الزهرة وبيتها والمشتري في العقرب ثلاث درجات وثلاثا وعشرين دقيقة، وزحل في العقرب ست درجات وثلاثا وعشرين دقيقة راجعا، وهما في الثاني من الطوالع، والشمس في نظير الطالع في الحمل أول دقيقة، والزهرة في الحمل على درجة وست وخمسين دقيقة، وعطارد في الحمل على ثماني عشرة درجة وست عشرة دقيقة راجعا، والمريخ في الجوزاء اثنتي عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر وسط السماء في السرطان درجة وعشرين دقيقة. وقال الخوارزمي: كانت الشمس يوم ولد رسول الله في الثور درجة، والقمر في الاسد على ثماني عشرة درجة وعشر دقائق، وزحل في العقرب تسع درجات وأربعين دقيقة راجعا، والمشتري في العقرب درجتين وعشر دقائق راجعا، والمريخ في السرطان درجتين وخمسين دقيقة، والزهرة في الثور اثنتي عشرة درجة وعشر دقائق. وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصي بن كلاب لجلالة قصي، فلما كان عام الفيل أرخت به لاشتهار ذلك العام، فكان تأريخهم


[ 8 ]

من مولد رسول الله. ولما ولد رسول الله رجمت الشياطين وانقضت الكواكب. فلما رأت ذلك قريش أنكرت انقضاض الكواكب وقالوا: ما هذا إلا لقيام الساعة، وأصابت الناس. زلزلة عمت جميع الدنيا حتى تهدمت الكنائس والبيع، وزال كل شئ يعبد دون الله، عزوجل، عن موضعه، وعميت على السحرة والكهان أمورهم وحبست شياطينهم، وطلعت نجوم لم تر قبل ذلك، فأنكرتها كهان اليهود، وزلزل إيوان كسرى فسقطت منه ثلاث عشرة شرافة، وخمدت نار فارس ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام. ورأى عالم الفرس وحكيمهم وهو الذي تسميه الفرس موبذان موبذ التيم بشرائع دينهم كأن إبلا عرابا تقود خيلا صعابا حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. فراع ذلك كسرى أنوشروان وأفزعه، فوجه إلى النعمان فقال: هل بقي من كهان العرب أحد ؟ قال: نعم ! سطيح الغساني بدمشق من أرض الشأم. قال: فجئني بشيخ من العرب له عقل ومعرفة أوجهه إليه. فأتاه بعبد المسيح بن بقيلة، فوجهه إليه. فخرج عليه عبدالمسيح على جمل حتى قدم دمشق. فسأل عنه فدل عليه وهو ينزل في باب الجابية، فوجده في آخر رمق. فنادى في أذنه بأعلى صوته: أصم أم تسمع غطريف اليمن * يا فارج الكربة أعيت من ومن وفاصل الخطبة في الامر العنن * أتاك شيخ الحي من آل يزن فقال: عبدالمسيح، على جمل مشيح، نحو سطيح، حين أشفى على الضريح. بعثك ملك بني ساسان بهدم الايوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلا عرابا تقود خيلا صعابا حتى قطعت دجلة وانتشرت في البلاد. يا ابن ذي يزن تكون هنة وهنات ويموت ملوك وملكات بعدد الشرافات. إذا غاضت بحيرة ساوه وظهرت التلاوه بأرض تهامه وظهر صاحب الهراوه فليست الشأم لسطيح


[ 9 ]

شاما. ثم فاضت نفسه. وجاء رجل من أهل الكتاب إلى ملاء من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فقال: ولد لكم الليلة مولود. قالوا: لا. قال: أخطأكم والله معشر قريش فقد ولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد، به شامة كلون الحر الادكن يكون به هلاك أهل الكتاب، فلم يريموا حتى قيل لهم إنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام. فمضى الرجل حتى نظر إليه ثم قال: هو والله هو ! ويل أهل الكتاب منه. فلما رأى سرور قريش بما سمعت منه قال: والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب. وكان تزويج عبد الله بن عبد المطلب لآمنة بنت وهب بعد حفر زمزم بعشر سنين، وقيل بضع عشرة سنة. وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة، فكان اسم عبد الله أبي رسول الله عبدالدار، وقيل: كان اسمه عبد قصي. فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب: هذا عبد الله، فسماه يومئذ كذلك. وكان بين تزويج أبي رسول الله لامه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد عشرة أشهر، وقال بعضهم سنة وثمانية أشهر. وروي عن أمه أنها قالت: رأيت لما وضعته نورا بدا مني ساطعا حتى أفزعني، ولم أر شيئا مما يراه النساء. وروى بعضهم أنها قالت: سطع مني النور حتى رأيت قصور الشأم، ولما وقع إلى الارض قبض قبضة من تراب ثم رفع رأسه إلى السماء.. 1 فكان أول لبن شربه بعد أمه لبن ثويبة مولاة أبي لهب. وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وأبا سلمة بن عبد الاسد المخزومي. وقال رسول الله، بعد ما بعثه الله: رأيت أبا لهب في النار يصيح العطش العطش فيسقى في نقر إبهامه. فقلت: بم هذا ؟ فقال: بعتقي ثويبة لانها أرضعتك.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 10 ]

وتوفي عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله على ما روى جعفر بن محمد بعد شهرين من مولده. وقال بعضهم إنه توفي قبل أن يولد، وهذا قول غير صحيح لان الاجماع على أنه توفي بعد مولده. وقال آخرون بعد سنة من مولده، وكانت وفاة عبد الله بالمدينة عند أخوال أبيه بني النجار في دار تعرف بدار النابغة، وكانت سنه يوم توفي خمسا وعشرين سنة. واسترضع في بني سعد بن بكر بن هوازن. وكان عبد المطلب دفعه إلى الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فلم يزل مقيما في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كان من شأنه في الذي أتاه في صورة رجل، فشق عن بطنه وغسل جوفه، ما كان. فخافوا عليه وردوه إلى جده عبد المطلب وله خمس سنين، وقيل أربع سنين، وهو في خلق ابن عشر وقوته. وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بعد ما أتى عليه ست سنين وثلاثة أشهر، ولها ثلاثون سنة. وكانت وفاتها بموضع يقال له الابواء بين مكة والمدينة. وكان عبد المطلب جد رسول الله يكفله، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحدا، وسقاه زمزم وذا الهرم، وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبو طالب: ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد ورفض عبادة الاصنام ووحد الله، عزوجل، ووفى بالنذر وسن سننا نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الابل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزناء، والحد عليه، والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عريانا، وإضافة


[ 11 ]

الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الاشهر الحرم، ونفي ذوات الرايات. ولما قدم صاحب الفيل خرجت قريش من الحرم فارة من أصحاب الفيل، فقال عبد المطلب: والله لا أخرج من حرم الله وأبتغي العز في غيره. فجلس بفناء البيت ثم قال: لهم إن تعف فإنهم عيالك *.. إلا فشئ ما بدا لك فكانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني. وكان المبشر لقريش بما فعل الله بأصحاب الفيل عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله. فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيرا ونذيرا. فأخبرهم بما نزل بأصحاب الفيل. فقالوا: إنك كنت لعظيم البركة لميمون الطائر منذ كنت. وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة. ومن الاناث أربع: عبد لله أبو رسول الله، وأبو طالب وهو عبد مناف، والزبير وهو أبو الطاهر، وعبد الكعبة وهو المقوم، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وهي أم أم حكيم البيضاء. وعاتكة وبرة وأروى وأميمة بنات عبد المطلب، والحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى، وقثم، وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة، وحمزة وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم صفية بنت عبد المطلب، والعباس، وضرار، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط، وأبو لهب وهو عبد العزى، وأمه لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي، والغيداق وهو جحل وإنما سمى الغيداق لانه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي. فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته. وكان لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد. وحج عامر بن مالك ملاعب الاسنة البيت فقال: رجال


[ 12 ]

كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع مكة. وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة يلحقون الارض جيرانهم. فقال: يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء. هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال. وكان يفرش لعبد المطلب بفناء الكعبة، فلا يقرب فراشه حتى يأتي رسول الله، وهو غلام، فيتخطى رقاب عمومته، فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابني، إن لابني هذا لشأنا. وكان عبد المطلب قد وفد على سيف بن ذي يزن مع جلة قومه لما غلب على اليمن، فقدمه سيف عليهم جميعا وآثره. ثم خلا به فبشره برسول الله ووصف له صفته، فكبر عبد المطلب وعرف صدق ما قال سيف، ثم خر ساجدا. فقال له سيف: هل أحسست لما قلت نبأ ؟ فقال له: نعم ! ولد لابني غلام على مثال ما وصفت، أيها الملك. قال: فاحذر عليه اليهود وقومك، وقومك أشد من اليهود، والله متمم أمره ومعل دعوته. وكان أصحاب الكتاب لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب. فقال: أما والله لئن نفستني قريش الماء، يعني ماء سقاه الله من زمزم وذي الهرم، لتنفسني غدا الشرف العظيم والبناء الكريم والعز الباقي والسناء العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر. وتوالت على قريش سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع، ففزعوا وقالوا: قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى فادع الله أن يسقينا، وسمعوا صوتا ينادي من بعض جبال مكة: معشر قريش إن النبي الامي منكم، وهذا أوان توكفه، ألا فانظروا منكم رجلا عظاما جساما له سن يدعو إليه وشرف يعظم عليه فيلخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلموا الركن، وليدع الرجل وليؤمن القوم فخصبتم ما شئتم إذا وغثتم، فلم يبق أحد بمكة إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة الحمد. فخرج عبد المطلب ومعه رسول الله، وهو يومئذ مشدود الازار، فقال عبد


[ 13 ]

المطلب: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، مسؤول غير مبخل، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثا مريعا مغدقا. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجه، وفي ذلك يقول بعض قريش: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا * وقد فقدنا الكرى واجلوذ المطر منا من الله بالميمون طائره * وخير من بشرت يوما به مضر مبارك الامر يستسقى الغمام به * ما في الانام له عدل ولا خطر وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم، وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب العرب. وقال لابي طالب: أوصيك يا عبد مناف بعدي * بمفرد بعد أبيه فرد فارقه وهو ضجيع المهد * فكنت كالام له في الوجد تدنيه من أحشائها والكبد * فأنت من أرجى بني عندي لدفع ضيم أو لشد عقد وتوفي عبد المطلب ولرسول الله ثماني سنين ولعبد المطلب المطلب مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وأربعون سنة. وأعظمت قريش موته، وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب، وطرح عليه المسك حتى سترة، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام إعظاما وإكراما وإكبارا لتغييبه في التراب. واحتبى ابنه بفناء الكعبة لما غيب عبد المطلب واحتبى ابن جدعان التيمى من ناحية والوليد بن ربيعة


[ 14 ]

المخزومي، فادعى كل واحد الرئاسة. وروي عن رسول الله أنه قال: إن الله يبعث جدي عبد المطلب أمة واحدة في هيئة الانبياء وزي الملوك. فكفل رسول الله بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه، فكان خير كافل. وكان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا مع إملاقه. قال علي بن أبي طالب: أبي ساد فقيرا، وما ساد فقير قبله. وخرج به إلى بصرى من أرض الشأم وهو ابن تسع سنين، وقال: والله ! لا أكلك إلى غيري. وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميعا. ويروى عن رسول الله لما توفيت، وكانت مسلمة فاضلة، أنه قال: اليوم ماتت أمي، وكفنها بقميصه ونزل على قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له: يارسول الله، لقد اشتد جزعك على فاطمة. قال: إنها كانت أمي، إن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمي. ولما بلغ العشرين ظهرت فيه العلامات وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره ويتوصفون حاله ويقربون ظهوره، فقال يوما لابي طالب: يا عم إني أرى في المنام رجلا يأتيني ومعه رجلان فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به، والرجل لا يتكلم. فوصف أبو طالب ما قال لبعض من كان بمكة من أهل العلم. فلما نظر إلى رسول الله قال: هذه الروح الطيبة ! هذا والله النبي المطهر. فقال له أبو طالب: فاكتم على ابن أخي لا تغر به قومه، فوالله إنما قلت لعلي ما قلت، ولقد أنبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الاعادي.


[ 15 ]

الفجار وشهد رسول الله الفجار وله سبع عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، وكان سبب الفجار، وهي الحرب التي كانت بين كنانة وقيس، أن رجلا من بني ضمرة يقال له البراض بن قيس، وكان بمكة في جوار حرب بن أمية، وثب على رجل من هذيل يقال له الحارث فقتله. وأخرجه حرب بن أمية من جواره فلحق بالنعمان بن المنذر، فاجتمع هو وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب. وكان النعمان يوجه في كل سنة بلطيمة إلى عكاظ للتجارة، ولا يعرض لها أحد من العرب، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس، فكان بلعاء بعد ذلك يغير على لطائم النعمان. فلما اجتمع عروة والبراض عنده قال: من يجير لطائمي ؟ فقال البراض: أنا، وقال عروة: أنا، مثله، فتنازعا كلاما. فلما خرجا وتوجه عروة لينصرف، عارضه البراض فقتله وأخذ ما كان معه من لطائم النعمان. فاجتمعت قيس على قوم البراض، ولجأت كنانة إلى قريش فأعانتها وخرجت معها، فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء. فسمي الفجار لانهم فجروا في شهر حرام. وكان على كل قبيل من قريش رئيس، وعلى بني هاشم الزبير بن عبد المطلب. وقد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها. وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية: لا نحضر أمرا تغيب عنه بنو هاشم، فخرج الزبير. وقيل: إن أبا طالب كان يحضر في الايام ومعه رسول الله، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا فعرفوا البركة بحضوره فقالوا: يا ابن مطعم الطير وساقى


[ 16 ]

الحجيج لا تغب عنا فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة. قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذاك لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم. وروي عن رسول الله أنه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب وأنا غلام. وروى بعضهم أنه شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة وطعن أبا براء ملاعب الاسنة فأرداه عن فرسه، وجاء الفتح من قبله (فجمعنا جميع الروايات) ومات حرب بن أمية بن عبد شمس بالشأم بعد الفجار بأشهر.


[ 17 ]

حلف الفضول حضر رسول الله حلف الفضول وقد جاوز العشرين، وقال بعدما بعثه الله: حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لاجبت. وكان سبب حلف الفضول أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية والمنعة، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وما بل بحر صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه. وقيل إن الطيب كان لام حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي توأم عبد الله أبي رسول الله، وتحالفت اللعقة وهم بنو عبدالدار وبنو مخزوم وبنو جمح وبنو سهم وبنو عدي على أن يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها، فكانت قريش تظلم في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له حتى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلم قريشا واستجار بها وسألها إعانته على أخذ حقه فلم يأخذ له أحد بحقه فصعد الاسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته: يا أهل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الاهل والنفر إن الحرام لمن تمت حرامته * ولا حرام لثوبي لابس الغدر وقد قيل: لم يكن رجل من بني أسد ولكنه قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقه، فقال هذا الشعر، وقيل بل قال: يال قصي كيف هذا في الحرم * وحرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع مني من ظلم


[ 18 ]

فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي. وكانت الاحلاف هاشم وأسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر فقالت قريش: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقال بعضهم: حضره ثلاثة نفر يقال لهم الفضل بن قضاعة والفضل بن حشاعة والفضل بن بضاعة فسمي بهذا حلف الفضول. وقد قيل إن هؤلاء النفر حضروا حلفا لجرهم فسمي حلف الفضول بهم وشبه بالحلف في تلك السنة.


[ 19 ]

بنيان الكعبة ووضع رسول الله الحجر في موضعه حين اختصمت قريش وهو ابن خمس وعشرين سنة، وذلك أن قريشا هدمت الكعبة بسبب سيل أصابهم فهدمها. وقيل: بل كانت امرأة من قريش تجمر الكعبة فطارت شررة فأحرقت باب الكعبة، وكان طولها تسعة أذرع فنقضوها. وكان أول من ضرب فيها بمعول الوليد بن المغيرة المخزومي. وحفروا حتى انتهوا إلى قواعد إبراهيم فقلعوا منها حجرا فوثب الحجر ورجع مكانه فأمسكوا. ويقال إن الذي بدر الحجر من يده أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وخرج عليهم ثعبان فحال بينهم وبين البناء، فاجتمعوا، فقال: ماذا ترون ؟ فقال أبو طالب: إن هذا لا يصلح أن ينفق فيه إلا من طيب المكاسب فلا تدخلوا فيه مالا من ظلم ولا عدوان، فأحضروا ما لم يشكوا فيه من طيب أموالهم ورفعوا أيديهم إلى السماء، فجاء طائر فاختطف الثعبان حتى ذهب. فوضعوا أزرهم يعملون عراة إلا رسول الله فإنه أبى أن ينزع ثوبه فسمع صائحا يصيح: لا تنزع ثوبك. ونقلت الحجارة التي بني بها البيت من جبل يقال له السيادة من أعلى الوادي وصيروها ثماني عشرة ذراعا، وكانت كل قبيلة تلي طائفة منها فكانت بنو عبد مناف تلي الربع وسائر ولد قصي بن كلاب وبنو تيم الربع ومخزوم الربع وبنو سهم وجمح وعدي وعامر بن فهر الربع. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر اختصموا فيه، وقالت كل قبيلة: نحن نتولى وضعه. فأقبل رسول الله، وكانت قريش تسميه الامين، فلما رأوه مقبلا قالوا: قد رضينا بحكم محمد بن عبد الله، فبسط رسول الله رداءه ثم وضع الحجر في وسطه وقال: لتحمل كل قبيلة بجانب من جوانب الرداء ثم ارفعوا جميعا. ففعلوا ذلك، فحمل عتبة بن ربيعة


[ 20 ]

أحد جوانب الرداء وأبو زمعة بن الاسود وأبو حذيفة بن المغيرة وقيس بن عدي السهمي، وقيل العاص بن وائل. فلما بلغ الموضع أخذه رسول الله ووضعه بموضعه الذي هو به وسقفوها، ولم يكن لها قبل ذلك سقف. تزويج خديجة بنت خويلد وتزوج رسول الله خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة، وقيل: تزوجها وله ثلاثون سنة، وولدت له، قبل أن يبعث، القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم، وبعد ما بعث عبد الله، وهو الطيب والطاهر لانه ولد في الاسلام، وفاطمة. وروى بعضهم عن عمار بن ياسر أنه قال: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله خديجة بنت خويلد: كنت صديقا له، فإنا لنمشي يوما بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة. فلما رأت رسول الله جاءتني هالة أختها فقالت: يا عمار ! ما لصاحبك حاجة في خديجة ؟ قلت: والله ما أدري. فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوما نأتيها فيه، ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ودهنت لحيته بدهن أصفر، وطرحت عليه حبرا. ثم جاء رسول الله في نفر من أعمامه تقدمهم أبو طالب فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وبارك لنا في بلدنا الذي نحن به، ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه، وإن كان في المال قل فإن المال رزق حائل وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة وصداق ما سألتموه عاجله من مالي، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع. فتزوجها وانصرف. فلما أصبح عمها عمرو بن أسد أنكر ما رأى فقيل له:


[ 21 ]

هذا ختنك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أهدى لك هذا. قال: ومتى زوجته ؟ قيل له: بالامس. قال: ما فعلت. قيل له: بلى، نشهد أنك قد فعلت. فلما رأى عمرو رسول الله قال: اشهدوا أني إن لم أكن زوجته بالامس فقد زوجته اليوم، وأنه ما كان مما يقول الناس انها استأجرته بشئ ولا كان أجيرا لاحد قط. وروى محمد بن اسحاق أن خويلد بن أسد بن عبد العزى زوج خديجة ابنته من رسول الله ومات بعد الفجار بخمس سنين، وروى بعضهم أنه قتل في الفجار أو مات عام الفجار.


[ 22 ]

المبعث وبعث رسول الله لما استكمل أربعين سنة، فكان مبعثه في شهر ربيع الاول، وقيل في رمضان، ومن شهور العجم في شباط. وكانت سنته التي بعث فيها سنة قران في الدلو. قال، ما شاء الله، الحاسب: كان طالع السنة التي بعث فيها رسول الله وهو القران الثالث من قران مولده السنبلة أربع درجات، والقمر في الميزان سبع عشرة درجة، والمريخ من الطالع في السنبلة ثلاث عشرة درجة راجعا، والمشتري في الخامس في الجدي إحدى وعشرين درجة، وزحل في الدلو في السادس في تسع درجات حد الزهرة في الحوت، والشمس في الثامن في الحمل دقيقة، وعطارد في الحمل أربع عشرة درجة، وحد مدخل السنة منذ أول يوم دخلت فيه الشمس. وقال الخوارزمي: كانت الشمس يومئذ في الدلو أربعا وعشرين درجة وخمس عشرة دقيقة، والقمر في السرطان سبع عشرة درجة، وزحل في الدلو تسع عشرة درجة، والمشتري….. 1 اثنتي عشرة درجة، والمريخ في الحوت خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحمل إحدى عشرة درجة، وعطارد في الدلو ثلاثا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة. وكان جبريل يظهر له فيكلمه. وربما ناداه من السماء ومن الشجرة ومن الجبل فيذعر من ذلك رسول الله، ثم قال له: إن ربك يأمرك أن تجتنب الرجس من الاوثان، فكان أول أمره. فكان رسول الله يأتي خديجة ابنة خويلد ويقول لها ما سمع وتكلم به. فتقول له: استر يا ابن عم، فوالله إني لارجو أن يصنع الله بك خيرا. وأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الاحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين، وقال بعضهم يوم الخميس، وقال من رواه عن


1 بياض في الاصل (*).

[ 23 ]

جعفر بن محمد يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان ولذلك جعله عيدا للمسلمين وعلى جبريل جبة سندس وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة فأجلسه عليه وأعلمه أنه رسول الله وبلغه عن الله وعلمه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. وأتاه من غد وهو متدثر، فقال: يا أيها المدثر قم فأنذر. وقال رسول الله: أول ما نهاني عنه جبريل بعد عبادة الأصنام ملاحاة الرجال. وروى بعضهم أن إسرافيل وكل به ثلاث سنين وأن جبريل وكل به عشرين سنة، وقال آخرون: ما زال جبريل موكلا به، وقد كان ورقة بن نوفل قال لخديجة بنت خويلد: اسأليه من هذا الذي يأتيه ؟ فإن كان ميكائيل فقد أتاه بالخفض والدعة واللين، وإن كان جبريل فقد أتاه بالقتل والسبي. فسألته، فقال: جبريل، فضربت خديجة جبهتها. وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء، فتوضأ رسول الله كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلي، فصلى رسول الله. وروى بعضهم أن الظهر الصلاة الوسطى أول صلاة صلاها رسول الله، وكان يوم جمعة. ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل. ولما بعث رميت الشياطين بشهب من السماء ومنعت من أن تسترق السمع. فقال إبليس: ما هذا إلا لامر قد حدث ونبي قد بعث، وأصبحت الاصنام في جميع الدنيا منكسة، وخمدت النيران التي كانت تعبد. وكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء وعلي بن أبي طالب من الرجال، ثم زيد بن حارثة ثم أبو ذر، وقيل أبو بكر قبل أبي ذر، ثم عمرو بن عبسة السلمي ثم خالد بن سعيد بن العاص ثم سعد بن أبي وقاص ثم عتبة بن غزوان ثم خباب بن الارت ثم مصعب بن عمير. وروي عن عمرو بن عبسة السلمي قال: أتيت رسول الله أول ما بعث وبلغني أمره فقلت: صف لي أمرك. فوصف لي أمره وما بعثه الله به. فقلت: هل يتبعك على هذا أحد ؟ قال: نعم ! امرأة وصبي وعبد، يريد خديجة بنت


[ 24 ]

خويلد وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة. وأقام رسول الله بمكة ثلاث سنين يكتم أمره وهو يدعو إلى توحيد الله، عزوجل، وعبادته والاقرار بنبوته، فكان إذا مر بملا من قريش، قالوا: إن فتى ابن عبد المطلب ليكلم من السماء حتى عاب عليهم آلهتهم وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا ثم أمره الله، عزوجل، أن يصدع بما أرسله، فأظهر أمره وأقام بالابطح فقال: إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الاصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت. فاستهزأت منه قريش وآذته وقالوا لابي طالب: إن ابن أخيك قد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وضلل أسلافنا فليمسك عن ذلك وليحكم في أموالنا بما يشاء. فقال: إن الله لم يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها وإنما بعثني لابلغ عنه وأدل عليه. وآذوه أشد الايذاء، فكان المؤذون له منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط وعدي بن حمراء الثقفي وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي: وكان أبو لهب أشد أذى له. وروى بعضهم أن رسول الله قام بسوق عكاظ، عليه جبة حمراء، فقال: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا. وإذا رجل يتبعه له غديرتان كأن وجهه الذهب وهو يقول: يا أيها الناس إن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه. فقلت: من هذا ؟ فقيل لي: هذا محمد بن عبد الله، وهذا أبو لهب ابن عبد المطلب عمه. وكان المستهزئون به العاص بن وائل السهمي والحارث ابن قيس بن عدي السهمي والاسود بن المطلب بن أسد والوليد بن المغيرة المخزومي والاسود بن عبد يغوث الزهري، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب حتى إنهم نحروا جزورا بالحزورة ورسول الله قائم يصلي، فأمروا غلاما لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد. فانصرف فأتى أبا طالب، فقال: كيف موضعي فيكم ؟ قال: ما ذاك يا ابن أخي ؟ فأخبره ما صنع به. قال: فأقبل أبو طالب مشتملا على السيف يتبعه


[ 25 ]

غلام له فاخترط سيفه وقال: والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته. ثم أمر غلامه فأمر ذلك السلى والفرث على وجوههم واحدا واحدا. ثم قالوا: حسبك هذا فينا يا ابن أخينا. واجتمعت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: ندعوك إلى نصفة، هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أحسن قريش وجها وأكملهم هيئة فخذه فصيره ابنك وصير إلينا محمدا نقتله. فقال: ما أنصفتموني ! أدفع إليكم ابني تقتلونه، وتدفعون إلي ابنكم أغذوه ! وقال أبو طالب في ذلك: عجبت لحلم يا ابن شيبة عارف * وأحلام أقوام لديك سخاف يقولون شايع من أراد محمدا * بسوء وقم في أمره بخلاف أصاميم إما حاسد ذو خيانة * وإما قريب منه غير مصافي ولا يركبن الدهر منك ظلامة * وأنت امرؤ من خير عبد مناف وإن له قربى إليكم وسيلة * وليس بذي حلف ولا بمضاف ولكنه من هاشم في صميمها * إلى أبحر فوق البحور طوافي فإن عصبت فيه قريش فقل لها * بني عمنا ما قومكم بضعاف فما قومكم بالقوم يخشون ظلمهم * وما نحن فيما ساء كم بخفاف وقال أيضا: وينهض قوم نحوكم غير عزل * ببيض حديث عهدها بالصياقل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للارامل


[ 26 ]

الاسراء وأسري به وأتاه جبريل بالبراق، وهو أصغر من البغل واكبر من الحمار مضطرب الاذنين خطوه مد بصره له جناحان يحفزانه من خلفه عليه سرج ياقوت، فمضى به إلى بيت المقدس فصلى به ثم عرج به إلى السماء، فكان بينه وبين ربه كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى، ثم هبط به فنزل في بيت أم هانئ بنت أبي طالب. فقص عليها القصة فقالت له: بأبي أنت وأمي، لا تذكر هذا لقريش فيكذبوك. وفي الليلة التي أسري به افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو قتلته، فجمع سبعين رجلا من بني عبد المطلب معهم الشفار وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش، وقال لهم: إن رأيتموني ومحمدا معي فأمسكوا حتى آتيكم وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنتظروني. فوجدوه على باب أم هانئ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه فأعظموا ذلك وجل في صدورهم وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شئ يكرهه أبدا.


[ 27 ]

النذارة وأمره الله، عزوجل، أن ينذر عشيرته الاقربين، فوقف على المروة ثم نادى بأعلى صوته: يا آل فهر، فاجتمعت إليه بطون قريش حتى لم يبق أحد منهم. فقال له أبو لهب: هذه فهر. ثم نادى: يا آل غالب، فانصرفت بنو محارب وبنو الحارث بن فهر. ثم نادى: يا آل لؤي، فانصرفت بنو تيم الادرم بن غالب. ثم نادى: يا آل كعب، فانصرفت بنو عامر وبنو عوف بن لؤي. ثم نادى: يا آل مرة، فانصرفت بنو عدي بن كعب وبنو سهم وجمح ابني هصيص بن كعب. ثم نادى: يا آل كلاب، فانصرفت بنو تيم ابن مرة وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة. ثم نادى: يا آل قصي، فانصرفت بنو زهرة. ثم نادى: يا آل عبد مناف، فانصرفت بنو عبدالدار وبنو عبد العزى ابني قصي. ثم نادى: يا آل هاشم، فانصرفت بنو عبد شمس وبنو نوفل. وأقام بنو عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه هاشم قد اجتمعت، فجمعهم في بعض دورهم. وحدثني أبو عبد الله الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث أنهم كانوا في دار الحارث بن عبد المطلب وكانوا أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. وكان جميع طعامهم رجل شاة وشرابهم عس من لبن وان منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثم أنذرهم كما أمره الله ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، وأعلمهم تفضيل الله إياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم. فقال أبو لهب: خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قتلتم وإن تركتموه ذللتم. فقال أبو طالب: يا عورة، والله لننصرنه ثم لنعيننه. يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى


[ 28 ]

نخرج معك بالسلاح. وأسلم يومئذ جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين. فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الاسلام والشتم لرسول الله، فكان ممن يعذب في الله عمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمة حتى قتل أبو جهل سمية، طعنها في قبلها فماتت، فكانت أول شهيد في الاسلام، وخباب بن الارت وصهيب بن سنان وأبو فكيهة الازدي وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح. وقال خباب بن الارت: يا رسول الله ادع لنا. قال: إنكم لتعجلون، لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه، والله ليتممن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على عنزه. واشتد على القوم العذاب ونالهم منه أمر عظيم فرجع عن الاسلام خمسة نفر وهم: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة….. 1 فروي أن فيهم نزلت هذه الآية: ” الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ” إلى آخر الآية.


1 بياض في الاصل (*).

[ 29 ]

مهاجرة الحبشة ولما رأى رسول الله ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الامن بمنع أبي طالب عمه إياه قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار. فخرج في المرة الاولى اثنا عشر رجلا وفي المرة الثانية سبعون رجلا سوى أبنائهم ونسائهم، وهم المهاجرون الاولون، فكان لهم عند النجاشي منزلة، وكان يرسل إلى جعفر فيسأله عما يريد. فلما بلغ قريشا ذلك وجهت بعمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي إلى النجاشي بهدايا وسألوه أن يبعث إليهم بمن صار إليه من أصحاب رسول الله، وقالوا: سفهاء من قومنا خرجوا عن ديننا وضللوا أمواتنا وعابوا آلهتنا، وإن تركناهم ورأيهم لم نأمن أن يفسدوا دينك. فلما قال عمرو وعمارة للنجاشي هذا، أرسل إلى جعفر فسألة، فقال: إن هؤلاء على شر دين يعبدون الحجارة ويصلون للاصنام ويقطعون الارحام ويستعملون الظلم ويستحلون المحارم، وإن الله بعث فينا نبيا من أعظمنا قدرا وأشرفنا سررا وأصدقنا لهجة وأعزنا بيتا، فأمر عن الله بترك عبادة الاوثان واجتناب المظالم والمحارم والعمل بالحق والعبادة له وحده، فرد على عمرو وعمارة الهدايا وقال: أدفع إليكم قوما في جواري على دين الحق وأنتم على دين الباطل ! وقال لجعفر: اقرأ علي شيئا مما أنزل على نبيكم. فقرأ عليه: كهيعص، فبكى وبكى من بحضرته من الاساقفة. فقال له عمرو وعمارة: أيها الملك إنهم يزعمون أن المسيح عبد مملوك، فأوحشه ذلك وأرسل إلى جعفر فقال له: ما تقول وما يقول صاحبكم في المسيح ؟ قال: إنه يقال إنه روح الله وكلمته، ألقاها إلى العذراء البتول. فأخذ عودا بين إصبعيه ثم قال: ما يزيد المسيح على ما قلت ولا مقدار هذا.


[ 30 ]

وكان عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد تلاحيا في طريقهما، وكان عمارة رجلا مغرما بالنساء وكان معه امرأته رابطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. فقال عمارة: قل لها فلتقبلني. فقال: سبحان الله ! أتقول هذا لابنة عمك ؟ قال: والله لتفعلن أو لاضربنك بهذا السيف. فقال لها: قبليه. ثم إن عمارة اعتقل عمرا فألقاه في البحر، فعام عمرو وأوهمه أنه فعل هذا مزاحا. فقال: ألق إلى ابن عمك الحبل، سبحان الله أهكذا يكون المزاح ؟ فألقى إليه الحبل، فخرج. فلما أراد عمرو وعمارة الانصراف وأيسا من عند النجاشي، قال عمرو لعمارة: لو أرسلت إلى امرأة الملك النجاشي فلعلنا ننال منها حاجتنا عنده. ففعل ذلك ولاطفها حتى أرسلت إليه بطيب من طيب الملك، فكاد عمرو عمارة، وقال للنجاشي: إن صاحبي هذا أرسل إلى امرأة الملك حتى أطمعته في نفسها وبعثت إليه بطيب من طيب الملك. فأخذه النجاشي فنفخ في أنثييه السم وقيل الزئبق، فهام مع الوحوش على وجهه، فلم يزل هائما حتى قدم قوم من بني مخزوم فسألوه أن يأذن لهم في أخذه، فنصبوا له فأخذوه. فلم يزل يضطرب في أيديهم حتى مات. وانصرف عمرو إلى المشركين خائبا، وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الاولاد. وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة. واسم النجاشي أصحمة.


[ 31 ]

حصار قريش لرسول الله وخبر الصحيفة وهمت قريش بقتل رسول الله وأجمع ملاها على ذلك، وبلغ أبا طالب فقال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أغيب في التراب دفينا ودعوتني وزعمت أنك ناصح * ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله، وأن أبا طالب لا يسلمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحدا من بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلوه. وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار، فشلت يده. ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ست سنين من مبعثه. فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله ماله، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حد الضر والفاقة. ثم نزل جبريل على رسول الله فقال: إن الله بعث الارضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلا المواضع التي فيها ذكر الله. فخبر رسول الله أبا طالب بذلك ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله وأهل بيته حتى صار إلى الكعبة، فجلس بفنائها وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا: قد آن لك يا أبا طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق إلى قومك وتدع


[ 32 ]

اللجاج في ابن أخيك. فقال لهم: يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجا وسببا لصلة الارحام وترك القطيعة، وأحضروها وهي بخواتيمهم. فقال: هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها. قالوا: نعم. قال: فهل أحدثتم فيها حدثا ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فإن محمدا أعلمني عن ربه أنه بعث الارضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله، أفرأيتم إن كان صادقا ماذا تصنعون ؟ قالوا: نكف ونمسك. قال: فإن كان كاذبا دفعته إليكم تقتلونه. قالوا: قد أنصفت وأجملت، وفضت الصحيفة فإذا الارضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله، عزوجل. فقالوا: ما هذا إلا سحر، وما كنا قط أجد في تكذيبه منا ساعتنا هذه. وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا إليه. وفاة القاسم ابن رسول الله وتوفي القاسم ابن رسول الله، فقال وهو في جنازته، ونظر إلى جبل من جبال مكة: يا جبل لو أن ما بي بك لهدك. وكان للقاسم يوم توفي أربع سنين. ثم توفي عبد الله ابن رسول الله بعده بشهر، ولم يفطم. فقالت خديجة: يا رسول الله لو بقي حتى أفطمه ! قال: فإن فطامه في الجنة. وسألت خديجة رسول الله فقالت: أين أولادي منك ؟ قال: في الجنة. قالت: بغير عمل ؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قالت: فأين أولادي من غيرك ؟ قال: في النار. قالت: بغير عمل ؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.


[ 33 ]

ما نزل من القرآن بمكة ونزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة، على ما رواه محمد بن حفص ابن أسد الكوفي عن محمد بن كثير ومحمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وكان أول ما نزل على رسول الله: ” اقرأ باسم ربك الذي خلق ” ثم: ” نون والقلم وما يسطرون ” ثم: ” والضحى ” ثم: ” يا أيها المزمل ” ثم ” يا أيها المدثر ” ثم ” فاتحة الكتاب ” ثم ” تبت ” ثم ” إذا الشمس كورت ” ثم ” سبح اسم ربك الاعلى ” ثم ” والليل إذا يغشى ” ثم ” والفجر ” ثم ” ألم نشرح لك صدرك ” ثم ” الرحمن ” ثم ” والعصر ” ثم ” إنا أعطيناك الكوثر ” ثم ” ألهاكم التكاثر ” ثم ” أرأيت الذي يكذب بالدين ” ثم ” ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ” ثم ” والنجم إذا هوى ” ثم ” عبس وتولى ” ثم ” إنا أنزلناه في ليلة القدر ” ثم ” والشمس وضحاها ” ثم ” والسماء ذات البروج ” ثم ” والتين والزيتون ” ثم ” لايلاف قريش ” ثم ” القارعة ” ثم ” لا أقسم بيوم القيامة ” ثم ” ويل لكل همزة ” ثم ” والمرسلات عرفا ” ثم ” ق والقرآن المجيد ” ثم ” لا أقسم بهذا البلد ” ثم ” والسماء والطارق ” ثم ” اقتربت الساعة ” ثم ” ص والقرآن ذي الذكر ” ثم ” الاعراف ” ثم ” سورة الجن ” ثم ” سورة يس ” ثم ” تبارك الذي نزل الفرقان ” ثم ” حمد الملائكة ” ثم ” سورة مريم ” ثم ” سورة طه ” ثم ” طسم الشعراء ” ثم ” طس النمل ” ثم ” طسم القصص ” ثم ” سورة بني إسرائيل ” ثم ” سورة يونس ” ثم ” سورة هود ” ثم ” سورة يوسف ” ثم ” الحجر ” ثم ” الانعام ” ثم ” الصافات ” ثم ” لقمان ” ثم ” حم المؤمن ” ثم ” حم السجدة ” ثم ” حم عسق ” ثم ” الزخرف “


[ 34 ]

ثم ” حمد سبأ ” ثم ” تنزيل الزمر ” ثم ” حم الدخان ” ثم ” حم الشريعة ” ثم ” الاحقاف ” ثم ” والذاريات ” ثم ” هل أتاك حديث الغاشية ” ثم ” سورة الكهف ” ثم ” سورة النحل ” ثم ” إنا أرسلنا نوحا ” ثم ” سورة إبراهيم ” ثم ” إقترب للناس حسابهم ” ثم ” قد أفلح المؤمنون ” ثم ” الرعد ” ثم ” والطور ” ثم ” تبارك الذي بيده الملك ” ثم ” الحاقة ” ثم ” سأل سائل ” ثم ” عم يتساءلون ” ثم ” والنازعات غرقا ” ثم ” إذا السماء انفطرت ” ثم ” سورة الروم ” ثم ” العنكبوت “. وقد اختلف الناس في هذا التأليف في غير رواية ابن عباس، وكان الاختلاف أيضا يسيرا. وروى محمد بن كثير ومحمد بن السائب عن ابن صالح عن ابن عباس أنه قال: كان القرآن ينزل مفرقا، لا ينزل سورة سورة، فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة وإن كان تمامها بالمدينة، وكذلك ما نزل بالمدينة وإنه كانه يعرف فصل ما بين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم، فيعلمون أن الاولى قد انقضت وابتدئ بسورة أخرى. وروى بعضهم أن التوراة أنزلت لست خلون من شهر رمضان والزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد التوراة بألف وخمسمائة عام، والانجيل لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بثمانمائة عام، وقيل ستمائة. وروى آخرون أن القرآن نزل لعشرين ليلة خلت من شهر رمضان. وروى جعفر بن محمد أنه قال: إن الله لم يبعث قط نبيا إلا بما هو أغلب على أهل زمانه، فبعث موسى بن عمران إلى قوم كان الاغلب عليهم السحر فأتاهم بما ضل معه سحرهم من العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر وانفجار الحجر حتى خرج منه الماء والطمس على وجوههم، فهذه آياته، وبعث داود في زمن أغلب الامور على أهله الصنعة والملاهي فألان له الحديد وأعطاه حسن الصوت فكانت الوحوش تجتمع لحسن صوته، وبعث سليمان في زمان قد غلب على الناس فيه حب البناء واتخاذ الطلسمات والعجائب فسخر له الريح والجن، وبعث عيسى في زمان أغلب الامور على أهله الطب فبعثه


[ 35 ]

بإحياء الموتى وإبراء الاكمة والابرص، وبعث محمدا في زمان أغلب الامور على أهله الكلام والكهنة والسجع والخطب فبعثه بالقرآن المبين والمحاورة. وفاة خديجة وأبي طالب وتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله وهي تجود بنفسها، فقال: بالكره مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيرا كثيرا، إذا لقيت ضراتك في الجنة يا خديجة فاقرئيهن السلام. قالت: ومن هن يا رسول الله ؟ قال: إن الله زوجنيك في الجنة وزوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثوم أخت موسى. فقالت: بالرفاء والبنين. ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي ؟ أين أمي ؟ فنزل عليه جبريل فقال: قل لفاطمة إن الله تعالى بنى لامك بيتا في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب. وتوفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الايمن أربع مرات وجبينه الايسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيرا، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيرا، وقال: اجتمعت على هذه الامة في هذه الايام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب. وروي عنه أنه قال: إن الله، عزوجل، وعدني في أربعة: في أبي وأمي وعمي وأخ كان لي في الجاهلية.


[ 36 ]

عرض رسول الله نفسه على القبائل وخروجه إلى الطائف واجترأت قريش على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد أخرى، وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف كل قوم، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به، فعمد لثقيف بالطائف، فوجد ثلاثة نفر إخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم: عبد ياليل بن عمرو وحبيب بن عمرو ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء، فقال أحدهم: ألا يسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك ؟ وقال الآخر: أعجز على الله أن يرسل غيرك ؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وتهزأوا به وأفشوا في قومهم ما قالوه له، وقعدوا له صفين. فلما مر رسول الله رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله، فقال رسول الله: ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر. ووافاه بالطائف عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ويقال له عداس، فوجها به إلى رسول الله، فلما سمع كلامه أسلم. ورجع رسول الله إلى مكة.


[ 37 ]

قدوم الانصار مكة وكانت الاوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة أهل عز ومنعة في بلادهم حتى كانت بينهم الحروب التى أفنتهم في أيام لهم مشهورة منها يوم الصفينة وهو أول يوم جرت الحرب فيه ويوم السرارة ويوم وفاق بني خطمة ويوم حاطب ابن قيس ويوم حضير الكتائب ويوم أطم بني سالم ويوم أبتروه ويوم البقيع ويوم بعاث ويوم مضرس ومعبس ويوم الدار ويوم بعاث الآخر ويوم فجار الانصار، وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها ويقتتلون قتالا شديدا. فلما ضرستهم الحرب وألقت بركها عليهم وظنوا أنها الفناء، واجترأت عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود خرج قوم منهم إلى مكة يطلبون قريشا لتقويهم، وعزوا فاشترطوا عليهم شروطا لم يكن لهم فيها مقنع، وكان المشترط عليهم أبو جهل بن هشام المخزومي، وقد قيل إن قريشا قد كانت أجابتهم حتى قدم أبو جهل من سفر له وكان غائبا فنقض الحلف واشترط عليهم شروطا لم يقنعوا بها. ثم صاروا إلى الطائف فسألوا ثقيفا فأبطأوا عنهم فانصرفوا. وقدم رجل منهم بعد مبعث رسول الله يقال له سويد بن الصامت من الاوس حاجا أو معتمرا فبلغه أمر رسول الله فلقيه وكلمه فدعاه رسول الله إلى الله. فقال له سويد: إن معي مجلة لقمان. قال: فاعرضها علي، فعرضها عليه. فقال رسول الله: إن هذا الكلام لحسن، والذي معي أحسن منه: كلام الله، وقرأ عليه. فقال: يا محمد إن هذا الكلام حسن. ثم انصرف إلى المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، ثم قدم نفر منهم أيضا إلى مكة، وهم بنو عفراء، يتفاخرون مع أسعد بن زرارة، فلقيهم رسول الله ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال رجل منهم يقال له إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله النبي الذي


[ 38 ]

كانت اليهود تعدكم به، فلا يسبقنكم إليه أحد، فأسلموا، وأخذ عليهم رسول الله الايمان بالله وبرسوله، ثم انصرفوا فأخبروا قومهم الخبر وقد كانوا سألوه أن يوجه معهم رجلا من قبله يدعو الناس بكتاب الله. فبعث إليهم رسول الله مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وجعل يدعوهم إلى الله، عزوجل، ويعلمهم الاسلام، وكان أول من قدم المدينة. ثم خرج اثنا عشر رجلا منهم إليه فلقوه وهم أصحاب العقبة الاولى فآمنوا بالله وصدقوه، وانصرفوا إلى المدينة وكثر خبره وفشا الاسلام فيها. فلما كان العام القابل خرج إليه جماعة من الاوس وجماعة من الخزرج فوافى منهم سبعون رجلا وامرأتان فأسلموا وصدقوه، وأخذ رسول الله عليهم بيعة النساء. فسألوه أن يخرج معهم إلى المدينة، وقالوا: إنه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشر، ولعل الله أن يجمعنا بك ويجمع ذات بيننا فلا يكون أحد أعز منا. فقال لهم رسول الله قولا جميلا، ثم انصرفوا إلى قومهم فدعوهم إلى الاسلام فكثر حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والاسود والاحمر، قال له العباس بن عبد المطلب: وإني فداك أبي وأمي آخذ العهد عليهم، فجعل ذلك إليه وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم وعلى أن يحاربوا معه الاسود والاحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة.


[ 39 ]

خروج رسول الله من مكة وأجمعت قريش على قتل رسول الله، وقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب، فأجمعوا جميعا على أن يأتوا من كل قبيلة بغلام نهد فيجتمعوا عليه فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فلا يكون لبني هاشم قوة بمعاداة جميع قريش. فلما بلغ رسول الله أنهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي اتعدوا فيها، خرج رسول الله لما اختلط الظلام ومعه أبو بكر، وإن الله، عزوجل، أوحى في تلك الليلة إلى جبريل وميكائيل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يواسي صاحبه ؟ فاختار الحياة كلاهما، فأوحى الله إليهما: هلا كنتما كعلي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار علي الموت وآثر محمدا بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوه. فهبط جبريل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوه ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات ! وخلف عليا على فراشه لرد الودائع التي كانت عنده وصار إلى الغار فكمن فيه وأتت قريش فراشه فوجدوا عليا فقالوا: أين ابن عمك ؟ قال: قلتم له اخرج عنا، فخرج عنكم. فطلبوا الاثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع فوقفوا على باب الغار وقد عششت عليه حمامة، فقالوا: ما في هذا الغار أحد، وانصرفوا. وخرج رسول الله متوجها إلى المدينة، ومر بأم معبد الخزاعية فنزل عندها. ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة، وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه. وروى بعضهم أنه قال: ما علمت قريش أين توجه رسول الله حتى سمعوا هاتفا من بعض جبال مكة يقول:


[ 40 ]

فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى خلاف المخالف وقال أبو سفيان: من السعود سعد هذيم وسعد تميم وسعد بكر، فسمعوا في الليلة المقبلة قائلا يقول: فيا سعد سعد الاوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أنيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف فعلمت قريش أنه قد مضى إلى يثرب، واتبعه سراقة بن جعشم المدلجي لما صار إلى ماء بني مدلج. فلما لحقه قال رسول الله: اللهم اكفنا سراقة، فساخت قوائم فرسه، فصاح: يا ابن أبي قحافة، قل لصاحبك أن يدعو الله بإطلاق فرسي، فلعمري لئن لم يصبه مني خير لا يصبه مني شر. فلما رجع إلى مكة خبرهم الخبر فكذبوه، وكان أشدهم له تكذيبا أبو جهل، فقال سراقة: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لامر جوادي حيث ساخت قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه


[ 41 ]

قدوم رسول الله المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الاول، وقيل يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت منه، والشمس يومئذ في السرطان ثلاثا وعشرين درجة وست دقائق، والقمر في الاسد ست درجات وخمسا وثلاثين دقيقة، وزحل في الاسد درجتين، والمشتري في الحوت ست درجات راجعا، والزهرة في الاسد ثلاث عشرة درجة، وعطارد في الاسد خمس عشرة درجة، فنزل على كلثوم بن الهدم، فلم يلبث إلا أياما حتى مات كلثوم، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف فمكث أياما. ثم كان سفهاء بني عمرو ومنافقوهم يرجمونه في الليل، فلما رأى ذلك قال: ما هذا الجوار ؟ فارتحل عنهم وركب راحلته وقال: خلوا زمامها، فجعل لا يمر بحي من أحياء الأنصار إلا قالوا له: يا رسول الله انزل بنا، فإنك تنزل في العدة والكثرة، فيقول: خلوا زمام الراحلة فإنها مأمورة، حتى وقفت على باب أبي أيوب الأنصاري فبركت، فنخست بقضيب فلم تبرح، فنزل بأبي أيوب فأقام عنده أياما ثم انتقل إلى حجراته، وقيل إن ناقته بركت في موضع المسجد فنزل فجاء أبو أيوب فأخذ رحله فمضى بها إلى منزله، وكلمته الأنصار في النزول بها، فقال: المرء مع رحله. وقدم علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله وذلك قبل نكاحه إياها، وكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم فنزل مع رسول الله. ثم زوجها رسول الله من علي بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها إلى رسول الله، فلما زوجها عليا قالوا في ذلك، فقال رسول الله: ما أنا زوجته ولكن الله زوجه. وقدم العباس بن عبد المطلب بزينب بنت رسول الله، وكانت


[ 42 ]

بالطائف حين هاجر رسول الله عند أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان الثقفي، ثم رجع العباس إلى مكة وقدم المهاجرون فنزلوا منازل الانصار فواسوهم بالديار والاموال افتراض الصوم والصلاة وافترض الله، عزوجل، شهر رمضان، وصرفت القبلة نحو المسجد الحرام في شعبان بعد مقدمه بالمدينة بسنة وخمسة أشهر، وقيل بسنة ونصف. وأنزل الله، عزوجل: ” قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام “. وكان بين نزول افتراض شهر رمضان وبين توجه القبلة إلى الكعبة ثلاثة عشرة يوما. وروى بعضهم أن رسول الله كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة، فلما صلى ركعتين نزل عليه: ” صرف القبلة إلى الكعبة “. واستدار حتى جعل وجهه إلى الكعبة، فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين وبنى مسجدا باللبن وسقفه بالجريد، وقيل له: يا رسول الله لو وسعت المسجد فقد كثر المسلمون. فقال: لا عرش كعرش موسى. وعمل غلام للعباس يقال له كلاب منارة، ولم تكن للمسجد منارة على عهد رسول الله، وكان بلال يؤذن ثم أذن معه ابن أم مكتوم، وكان أيهما سبق أذن فإذا كانت الصلاة أقام واحد. وروى الواقدي أن بلالا كان إذا أذن وقف على باب رسول الله فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة حى على الفلاح.


[ 43 ]

ما نزل من القرآن بالمدينة ونزل عليه بالمدينة من القرآن اثنتان وثلاثون سورة، أول ما نزل: ” ويل للمطففين ” ثم ” سورة البقرة “، ثم ” سورة الانفال “، ثم ” سورة آل عمران “، ثم ” الحشر ” ثم ” سورة الاحزاب ” ثم ” سورة النور ” ثم ” الممتحنة ” ثم ” إنا فتحنا لك ” ثم ” سورة النساء ” ثم ” سورة الحج ” ثم ” سورة الحديد ” ثم ” سورة محمد ” ثم ” هل أتى على الانسان ” ثم ” سورة الطلاق ” ثم ” سورة لم يكن ” ثم ” سورة الجمعة ” ثم ” تنزيل السجدة ” ثم ” المؤمن ” ثم ” إذا جاءك المنافقون ” ثم ” المجادلة ” ثم ” الحجرات ” ثم ” التحريم ” ثم ” التغابن ” ثم ” الصف ” ثم ” المائدة ” ثم ” براءة ” ثم ” إذا جاء نصر الله والفتح ” ثم ” إذا وقعت الواقعة ” ثم ” والعاديات ” ثم ” المعوذتين جميعا ” وكان آخر ما نزل ” لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم ” إلى آخر السورة. وقد قيل: إن آخر ما نزل عليه ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا “. وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة. وكان نزولها يوم النفر على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه، بعد ترحم. وقيل: آخر ما نزل ” واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله “. وقال ابن عباس: كان جبريل إذا نزل على النبي بالوحي يقول له: ضع هذه الآية في سورة كذا في موضوع كذا، فلما نزل عليه ” اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ” قال: ضعها في سورة البقرة. قال ابن مسعود: نزل القرآن بأمر ونهي وتحذير وتبشير، وقال جعفر بن محمد: نزل القرآن بحلال وحرام، وفرائض وأحكام، وقصص وأخبار، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وعبر وأمثال، وظاهر وباطن، وخاص


[ 44 ]

وعام. وأقام رسول الله يتلوم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله، عزوجل: ” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ” والآية التي بعدها. وقال ” فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ” إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله، عزوجل: ” الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ” وأنزل الله عليه سيفا من السماء له غمد، فقال له جبريل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لاإله إلا الله وإنك رسول الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا لمحقها وحسابهم على الله. فكان أول سرية سارت، ولواء عقد في الاسلام لحمزة بن عبد المطلب، وقد ذكرنا هذا وغيره في كتابنا هذا بعد انقضاء الغزوات التي غزاها رسول الله.


[ 45 ]

وقعة بدر العظمى وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، بعد مقدمه بثمانية عشر شهرا، وكان سببها أن أبا سفيان بن حرب قدم من الشأم بعير لقريش تحمل تجارات وأموالا، فخرج رسول الله يعارضه وجاء الصريخ إلى قريش بمكة يخبرهم الخبر. وكان الرسول بذلك ضمضم بن عمرو الغفاري، فخرجوا نافرين مستعدين، وخالف أبو سفيان الطريق فنجا بالعير. وأقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله وعدتهم ألف رجل، وقيل تسعمائة وخمسون، وكانوا ينحرون كل يوم من الجزور عشرا وتسعا، فنحر أبو جهل بن هشام عشرا وأمية بن خلف الجمحي تسعا وسهيل بن عمرو عشرا وعتبة بن ربيعة عشرا وشيبة بن ربيعة تسعا ومنبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشرا وأبو البختري العاص بن هشام الاسدي عشرا والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف عشرا والعباس بن عبد المطلب عشرا. وقيل: إن العباس نحر يوم الوقعة فأكفئت القدور، وإنه خرج مستكرها كالاسير. وقال عبد الله بن العباس: إن أبي أطعم أسيرا، وما أطعم أسير قبله. وروى ابن إسحاق أن حكم بن حزام كان من المطعمين، وكان أبو لهب عليلا فلم يمكنه الخروج فأعانهم بأربعة آلاف درهم، وقيل بل كان أبو لهب قامر العاص بن هشام المخزومي فقمره نفسه فدفعه إليهم مكانه. وخرج رسول الله في ثلاثمائة، وقيل: تسعين رجلا منهم من المهاجرين واحد وثمانون، ومن الانصار مائتان واثنان وثلاثون رجلا، ومعه فرسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن عمرو البهراني، ويقال فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي ومعه سبعون راحلة، فالتقوا يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان فقتل من المسلمين أربعة عشر رجلا وقتل من المشركين


[ 46 ]

من سادات قريش سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا. فأمر رسول الله برجلين من الاسارى فضربت أعناقهما وهما عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو ابن أمية والنضر بن الحارث بن كلدة بن عبدمناف بن عبدالدار، وأخذ الفداء من ثمانية وستين رجلا، وافتدى العباس نفسه وابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفا لهما من بني فهر. وقال العباس لرسول الله: إنه لامال لي فدعني أسأل الناس بكفي. فقال: أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل ؟ يعني لبابة بنت الحارث الهلالية امرأته، وقلت لها يكون عدة. فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك غيري وغيرها، فافتدى نفسه بسبعين أوقية وابني أخيه بسبعين أوقية. وقال رسول الله في الليلة التي بات فيها العباس أسيرا: لقد أسهرني أنين العباس عمي في القد منذ الليلة، وأسلم العباس وخرج إلى مكة يكتم إسلامه. وتوفي أبو لهب بعد وقعة بدر بأيام أو بعد أن أتاهم الخبر بتسعة أيام. وكان أول من قدم مكة وخبر بخبر قريش ومن قتل منها عمرو بن جحدم الفهري. وأعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار، فقالوا: عليكم بشعار التهامي، فنادوا: يا محمد، يا محمد، فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم. فقال رسول الله: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة أو خمسة. وضحى رسول الله بالمدينة، وخرج الناس إلى المصلى بعيديهم، ولم يخرج قبل ذلك، وكانت العنزة بين يديه، وذبح شاتين بالمصلى بيده، وقيل شاة، ومضى في طريق ورجع في أخرى.


[ 47 ]

وقعة أحد وكانت وقعة أحد في شوال بعد بدر بسنة: اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثأرها يوم بدر، واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان، وقالوا: لا تنفقوا منه شيئا إلا في حرب محمد. فكتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله بخبرهم، وبعث بالكتاب مع رجل من جهينة. فخبر رسول الله أصحابه بخبرهم، وخرج المشركون وعدتهم ثلاثة آلاف ورئيسهم أبو سفيان بن حرب. وكان رأي رسول الله ألا يخرج من المدينة لرؤيا رآها في منامه: أن في سيفه ثلمة وأن بعيرا يذبح له، وأنه أدخل يده في درع حصينة، وتأولها محمد أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع المدينة. فأشارت عليه الانصار بالخروج، فلما لبس لباس الحرب ردت إليه الانصار الامر، وقالوا: لا نخرج عن المدينة. فقال: الآن وقد لبست لامتي، والنبي إذا لبس لامته لا ينزعها حتى يقاتل، ويفتح الله عليه. فخرج وخرج المسلمون وعدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى أحد، ووافى المشركون فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، رماه وحشي عبد لجبير بن مطعم بحربة، فسقط ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة وشقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه رسول الله جزعا شديدا وقال: لن أصاب بمثلك، وكبر عليه خمسا وسبعين تكبيرة، وانهزم المسلمون حتى بقي رسول الله وما معه إلا ثلاثة نفر: علي والزبير وطلحة. وقال المنافقون: قتل محمد، ورماه عبد الله بن قمئة فأثر في وجهه واقتحم خالد بن الوليد. وكان على ميسرة المشركين الثغرة، فقتل عبد الله بن جبير وجماعة من المسلمين ناشبة. كان رسول الله صيرهم على تلك الثغرة، ودخل عسكر


[ 48 ]

رسول الله وفيه كانت هزيمة المسلمين. قال الله تعالى: ” إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم “. وعاتب الله المسلمين في آيات من كتابه. وقتل من المسلمين ثمانية وستون رجلا، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلا، ثم رجع المشركون وفرق الله جمعهم. وجاء يهودي حتى وقف على باب الاطم الذي فيه النساء وكان حسان بن ثابت معهن فصاح اليهودي: اليوم بطل السحر، ثم ارتقى يصعد. فقالت صفية بنت عبد المطلب: يا حسان انزل إليه. فقال: رحمك الله يا بنت عبد المطلب، لو كنت ممن ينازل الابطال خرجت مع رسول الله أقاتل. فأخذت صفية السيف، وقيل: أخذت هراوة فضربت اليهودي حتى قتلته، ثم قالت: انزل فاسلبه. فقال: لا حاجة لي في سلبه. وروي أن رسول الله ضرب لصفية يومئذ بسهم، فلما كان من غد يوم أحد، نادى رسول الله فخرجوا على علتهم وعلى ما أصابهم من الجروح، وخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الاسد ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فهم الذين أجابوا الله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح.


[ 49 ]

وقعة بني النضير ثم كانت وقعة بني النضير، وهم فخذ من جذام إلا أنهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به، وكذلك قريظة بعد أحد بأربعة أشهر. وكان رسول الله بعث إليهم بعد أن وجه من يقتل كعب بن الاشرف اليهودي الذي أراد أن يمكر برسول الله: أن اخرجوا من دياركم وأموالكم. فوجه إليهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقون: لا تخرجوا فإنا نعينكم، فلم يخرجوا. فسار إليهم رسول الله بعد العصر فقاتلهم، فقتل منهم جماعة، وخذلهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه. فلما رأوا أنه لا قوة لهم على حرب رسول الله، طلبوا الصلح فصالحهم على أن يخرجوا من بلادهم ولهم ما حملت الابل من خرثي متاعهم لا يخرجون معهم بذهب ولا فضة ولا سلاح، فتحملوا إلى الشأم وأسلم سلام بن…… 1 ويامين النضيري. وكانت غنائمهم لرسول الله خالصة، ففرقها بين المهاجرين دون الانصار إلا رجلين: أبا دجانة وسهل بن حنيف، فإنهما شكيا حاجة. وفي هذه الغزاة شرب المسلمون الفضيخ فسكروا، فنزل تحريم الخمر.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 50 ]

وقعة الخندق ثم كانت وقعة الخندق، وهو يوم الاحزاب، في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله بالمدينة بخمسة وخمسين شهرا، وكانت قريش تبعث إلى اليهود وسائر القبائل فحرضوهم على قتال رسول الله، فاجتمع خلق من قريش إلى موضع يقال له سلع، وأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقا، فحفر الخندق وجعل لكل قبيلة حدا يحفرون إليه، وحفر رسول الله معهم حتى فرغ من حفر الخندق وجعل له أبوابا وجعل على الابواب حرسا، من كل قبيلة رجلا، وجعل عليهم الزبير بن العوام وأمره إن رأى قتالا أن يقاتل. وكانت عدة المسلمين سبعمائة رجل. ووافى المشركون فأنكروا أمر الخندق وقالوا: ما كانت العرب تعرف هذا. وأقاموا خمسة أيام. فلما كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبدود وأربعة نفر من المشركين: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعكرمة ابن أبي جهل وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، فخرج علي بن أبي طالب إلى عمرو بن عبدود فبارزه وقتله وانهزم الباقون، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسه فلحقه علي فقتله. وبعث الله، عزوجل، على المشركين ريحا وظلمة فانصرفوا هاربين لا يلوون على شئ حتى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقولة. فلما بلغ رسول الله ذلك، قال: عوجل الشيخ. وكانت الحرب على ما روى بعضهم ثلاثة أيام بالرمي بغير مجالدة ولا مبارزة. واتصلت في اليوم الثالث حتى فاتت صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة، فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة، ملا الله بطونهم وقبورهم نارا. ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وذلك قبل أن ينزل عليه: ” فإن خفتم فرجالا أو ركبانا “،


[ 51 ]

وفي هذه الوقعة ظهر النفاق، وقال المنافقون: تعد يا محمد بقصور كسرى وقيصر ولاحدنا لا يقدر على الغائط، ما هذا إلا غرور. فأنزل الله، عزوجل، سورة الاحزاب، وقص فيها ما قص. فكان قوم من اليهود صاروا إلى رسول الله: منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، فقالوا له: يا محمد نزل الم. قال: نعم: جاءك بها جبريل من عند الله. قال: نعم. قال حيي بن أخطب: ما بعث الله نبيا إلا أعلمه قدر ملكه، فالالف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فذلك إحدى وسبعون سنة، فهل غير هذا ؟ قال: نعم المص. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون والميم أربعون وصاد ستون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، فهل غير هذا ؟ قال: نعم، الر. قال: هي أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا ؟ قال: نعم، المر. قال: هذا أثقل وأطول، ألف واحد ولام ثلاثون وميم أربعون وراء مائتان، فهذا مائتان وإحدى وسبعون، لقد لبس علينا أمرك يا محمد فلا ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ؟ ولعلك قد أعطيت الم والمص والر والمر، فذلك سبعمائة وأربع وستون سنة. وقتل يوم الخندق من المسلمين ستة ومن المشركين ثمانية.


[ 52 ]

وقعة بني قريظة ثم كانت وقعة بني قريظة، وهي فخذ من جذام إخوة النضير، ويقال إن تهودهم كان في أيام عاديا أي السموأل. ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة، فنسبوا إليه. وقد قيل إن قريظة اسم جدهم بعقب الخندق. وكان بينهم وبين رسول الله صلح فنقضوه، ومالوا مع قريش. فوجه إليهم سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فذكروهم العهد وأساءوا الاجابة. فلما انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله عليا، فقال له: قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة، وقال: عزمت عليكم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وركب حمارأ له. فلما دنا منهم لقيه علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لا تدن. فقال: أحسب أن القوم أساءوا القول، فقال: نعم يا رسول الله، فيقال إنه قال بيده هكذا وهكذا. فانفرج البجل حين رأوه، وقال: يا عبدة الطاغوت يا وجوه القردة والخنازير فعل الله بكم وفعل. فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشا. فاستحيا، فرجع القهقرى ولم يتخلف عنه من المهاجرين أحد. وأفاء عامة الانصار ففتل من بني قريظة ثم تحصنوا فحاصرهم رسول الله أياما حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الانصاري، فحضر سعد عليلا، فقالوا له: قل يا أبا عمرو وأحسن. فقال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، أرضيتم بحكمي ؟ قالوا: نعم. ثم قال: قد حكمت أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الانصار. فقال رسول الله: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات. ثم قدمهم عشرة عشرة، فضرب أعناقهم. وكانت عدتهم سبعمائة وخمسين، فانصرف رسول الله واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء هاشم وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال


[ 53 ]

لها ريحانة. وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم وأعلم سهم الفارس وسهم الراجل، فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهما، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس. وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرسا. وقعة بني المصطلق ثم كانت وقعة بني المصطلق من خزاعة، لقيهم رسول الله بالمريسيع وهزمهم وسباهم. فكان ممن سبى في غزاته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وقتل أبوها وعمها وزوجها فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي. فكاتبها، فأتت رسول الله في مكاتبتها فقضى عليها مكاتبتها وتزوجها وجعل صداقها عتقها. فلم يبق عنده من سبي بني المصطلق أحد إلا أعتقه، وتزوجوا من فيهم من النساء لتزويج رسول الله جويرية. وفي هذه الغزاة قال أصحاب الافك في عائشة ما قالوا، فأنزل الله، عز وجل، براءتها. وكانت تخلفت لبعض شأنها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي فصيرها على بعيره وقادها. فقال من قال فيها الافك وجلد رسول الله حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول، وهو الذي تولى كبره، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش. وأسلم بنو المصطلق وبعثوا إلى رسول الله بإسلامهم، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبض صدقاتهم فانصرف إلى رسول الله فأنزل الله، عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا إن جاء كم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين “.


[ 54 ]

غزاة الحديبية ثم كانت غزاة الحديبية. خرج رسول الله في سنة 6 يريد العمرة، ومعه ناس وساق من الهدي سبعين بدنة. وساق أصحابه أيضا، وخرجوا بالسلاخ، فصدته قريش عن البيت، فقال: ما خرجت أريد قتالا وإنما أردت زيارة هذا البيت، وقد كان رسول الله رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح. فأرسلت إليه قريش مكرز بن حفص فأبى أن يكلمه، وقال: هذا رجل فاجر. فبعثوا إليه الحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألهون، فلما رأى الهدي قد أكلت أوبارها رجع فقال: يا معاشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صده عن البيت. فبعثوا بعروة بن مسعود الثقفي، فكلم رسول الله، فقال له رسول الله: يا عروة أفي الله أن يصد هذا الهدي عن هذا البيت ؟ فانصرف إليهم عروة بن مسعود فقال: تالله ما رأيت مثل محمد لما جاء له. فبعثوا إليه سهيل بن عمرو فكلم رسول الله وأرفقه وقال: نخليها لك من قابل ثلاثة أيام. فأجابهم رسول الله وكتبوا بينهم كتاب الصلح ثلاث سنين، وتنازعوا بالكتاب لما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، حتى كادوا أن يخرجوا إلى الحرب. وقال سهيل بن عمرو والمشركون: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك. وقال المسلمون: لا تمحها. فأمر رسول الله أن يكفوا، وأمر عليا فكتب: باسمك اللهم، من محمد بن عبد الله، وقال: اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي. وشرطوا أنهم يخلون مكة له من قابل ثلاثة أيام ويخرجون عنها حتى يدخلها بسلاح الراكب، وأن الهدنة بينهم ثلاث سنين لا يؤذون أحدا من أصحاب رسول الله ولا يمنعونه من دخول مكة، ولا يؤذي أحد من أصحاب رسول الله أحدا منهم، ووضع الكتاب على يد سهيل بن


[ 55 ]

عمرو. فأمر رسول الله المسلمين أن يحلقوا وينحروا هديهم في الحل، فامتنعوا وداخل أكثر الناس الريب، فحلق رسول الله ونحر فحلق المسلمون ونحروا. وانصرف رسول الله إلى المدينة ثم خرج من قابل وهي عمرة القضاء فدخل مكة على ناقة بسلاح الراكب، وأخلتها قريش ثلاثا وخلفوا بها حويطب بن عبد العزى، فاستلم رسول الله الركن بمحجنه وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وخرج عنها بعد ثلاث فابتنى بميمونة بنت الحارث الهلالية زوجته بسرف، وغدرت قريش فقتلت رجلا من خزاعة ممن دخل في شرط رسول الله.


[ 56 ]

وقعة خيبر ثم كانت وقعة خيبر في أول سنة 7 ففتح حصونهم وهي ستة: حصون السلالم والقموص والنطاة والقصارة والشق والمربطة، وفيها عشرون ألف مقاتل، ففتحها حصنا حصنا، فقتل المقاتلة وسبى الذرية. وكان القموص من أشدها وأمنعها، وهو الحصن الذي كان فيه مرحب بن الحارث اليهودي. فقال رسول الله: لادفعن الراية غدا إن شاء الله إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا ينصرف حتى يفتح الله على يده، فدفعها إلى علي فقتل مرحبا اليهودي واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون. وقدم جعفر بن أبي طالب في ذلك اليوم من أرض الحبشة، فقال إليه رسول الله فقبل ما بين عينيه ثم قال: والله ما أدري بأيهم أنا أشد سرورا، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر. واصطفى صفية بنت حيي بن أخطب وأعتقها وتزوجها وقسم بين بني هاشم نساءهم ورجالهم وأوساق التمر والقمح والشعير ثم قسم بين الناس كافة. وبلغه ما فيه أهل مكة من الضر والحاجة والجدب والقحط فبعث إليهم بشعير ذهب، وقيل نوى ذهب، مع عمرو بن أمية الضمري وأمره أن يدفعه إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية بن خلف وسهل بن عمرو ويفرقه ثلاثا ثلاثا، فامتنع صفوان بن أمية وسهل بن عمرو من أخذه، وأخذه أبو سفيان كله وفرقه على فقراء قريش، وقال: جزى الله ابن أخي خيرا فإنه وصول لرحمه. وجاءته زينب بنت الحارث أخت مرحب بالشاة المسمومة فأخذ منها لقمة،


[ 57 ]

وكلمته الذراع فقالت: إني مسمومة. وكان يأكل معه بشر بن البراء بن معرور فمات. فقال الحجاج بن علاط السلمي لرسول الله: قد أسلمت، ولي بمكة ما لي، فتأذن لي أن أتكلم بشئ يطمئنون إليه لعلي أن آخذ مالي. فأذن له فخرج حتى قدم مكة فأتته قريش فقالوا: مرحبا بك يا ابن علاط، هل عندك خبر من هذا القاطع ؟ قال: نعم ! إن كتمتم علي، فتعاهدوا أن يكتموا عليه حتى يخرج، قال: إنى والله ما جئت حتى هزم محمد وأصحابه هزيمة وحتى أخذ أسيرا. وقالوا: نقتله بسيدنا حيي بن أخطب، فاستبشروا وشربوا الخمور. وبلغ العباس والمسلمين الخبر، فاشتد جزعهم وأخذ الحجاج كل ما كان له ثم أتى العباس وأخبره بما فتح الله على نبيه وأن سهام الله قد جرت على خيبر وقتل ابن أبي الحقيق وبات رسول الله عروصا بابنة حيي بن أخطب ثم خرج من مكة فأصبح العباس مسرورا، فقال له أبو سفيان: تجلدا للمصيبة يا أبا الفضل ! فقال العباس: إن الحجاج، والله، خدعكم حتى أخذ ماله، وقد أخبرني بإسلامه وأنه ما انصرف حتى فتح الله على نبيه وقتل ابن أبي الحقيق وبات عروسا بابنة حيي بن أخطب وفتح جميع الحصون، فأعولت امرأة الحجاج واجتمع إليها نساء المشركين واشتدت كآبة المشركين وغمهم.


[ 58 ]

فتح مكة وكانت خزاعة في عقد رسول الله وكنانة في عقد قريش، فأعانت قريش كنانة فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم. فجاءت خزاعة إلى رسول الله فشكوا إليه ذلك فأحل الله لنبيه قطع المدة التي بينه وبينهم وعزم على غزو مكة وقال: اللهم أعم الاخبار عنهم، يعني قريشا. فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش بخبر رسول الله وما اعتزم عليه. فنزل جبريل فأخبره بما فعل حاطب، فوجه بعلي بن أبي طالب والزبير وقال: خذا الكتاب منها، فلحقاها وقد كانت تنكبت الطريق فوجد الكتاب في شعرها، وقيل في فرجها. فأتيا به إلى رسول الله، فأسر إلى كل رئيس منهم بما أراد وأمره أن يلقاه بموضع سماه له، وأن يكتم ما قال له. فأسر إلى خزاعي بن عبد نهم أن يلقاه بمزينة بالروحاء وإلى عبد الله بن مالك أن يلقاه بغفار بالسقيا وإلى قدامة بن ثمامة أن يلقاه ببني سليم بقديد وإلى الصعب بن جثامة أن يلقاه ببني ليث بالكديد. وخرج رسول الله يوم الجمعة حين صلى العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 8، وقيل لعشر مضين من رمضان، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر. ولقيته القبائل في المواضع التي سماها لهم، وأمر الناس فأفطروا، وسمي الذين لم يفطروا العصاة. ودعا بماء فشربه، وتلقاه العباس بن عبد المطلب في بعض الطريق. فلما صار بمر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب يتجسس الاخبار ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وهو يقول لحكيم: ما هذه النيران ؟ فقال: خزاعة أحمشتها الحرب. فقال: خزاعة أقل وأذل. وسمع صوته العباس فناداه: يا أبا حنظلة ! فأجابه، فقال له: يا أبا الفضل ما هذا الجمع ؟


[ 59 ]

قال: هذا رسول الله. فأردفه على بغلته ولحقه عمر بن الخطاب وقال: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. فسبقه العباس إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد جاء ليسلم طائعا. فقال له رسول الله: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وجعل يمتنع من أن يقول: وانك رسول الله، فصاح به العباس، فقال. ثم سأل العباس رسول الله أن يجعل له شرفا وقال إنه يحب الشرف. فقال رسول الله: من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن. وأوقفه العباس حتى رأى جند الله، فقال له: يا أبا الفضل لقد أوتي ابن أخيك ملكا عظيما. فقال: إنه ليس بملك إنما هي النبوة. ومضى أبو سفيان مسرعا حتى دخل مكة فأخبرهم الخبر، وقال: هو اصطلام إن لم تسلموا، وقد جعل أن من دخل داري فهو آمن. فوثبوا عليه وقالوا: وما تسع دارك ؟ فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وفتح الله على نبيه وكفاه القتال. ودخل مكة ودخل أصحابه من أربعة مواضع، وأحلها الله له ساعة من نهار ثم قال رسول الله فخطب فحرمها، وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب حموين لها: الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة، فأراد علي قتلهما، فقال رسول الله: يا علي قد أجرنا من أجارت أم هانئ، وآمنهم جميعا إلا خمسة نفر أمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وأربع نسوة وهم: عبد الله بن عبد العزى بن خطل من بني تيم الادرم بن غالب، وكان رسول الله وجهه مع رجل من الانصار فشد على الانصاري فقتله وقال: لاطاعة لك ولا لمحمد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان يكتب لرسول الله فصار إلى مكة فقال: أنا أقول كما يقول محمد، والله ما محمد نبي وقد كان يقول لي: اكتب عزيز حكيم، فأكتب لطيف خبير، ولو كان نبيا لعلم. فآواه عثمان وكان أخاه من الرضاع، وأتى به إلى رسول الله، فجعل يكلمه فيه ورسول الله ساكت ثم قال لاصحابه: هلا قتلتموه ! فقالوا: انتظرنا أن تومئ.


[ 60 ]

فقال: إن الانبياء لا تقتل بالايماء، ومقيس بن صبابة أحد بني ليث بن كنانة، وكان أخوه قتل فأخذ الدية من قاتله ثم شد عليه فقتله، والحويرث ابن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، كان ممن يؤذي رسول الله بمكة ويتناوله بالقول القبيح. والنسوة: سارة مولاة بني عبد المطلب، وكانت تذكر رسول الله بالقبيح، وهند بنت عتبة، وقريبة وفرتنا جاريتا ابن خطل، كانتا تغنيان في هجاء رسول الله. وأسلمت قريش طوعا وكرها وأخذ رسول الله مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب بيده وستره ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده ونصر عبده وغلب الاحزاب وحده، فلله الحمد والملك لا شريك له، ثم قال: ما تظنون وما أنتم قائلون ؟ قال سهيل: نظن خيرا ونقول خيرا، أخ كريم وابن عم كريم وقد ظفرت. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، ثم قال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا وإن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لاحد من قبلي ولا تحل لاحد من بعدي وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت، فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ألا إن في القتل شبه العمد الدية مغلظة والولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال: ألا لبئس جيران الذين كنتم فاذهبوا فأنتم الطلقاء. ودخل مكة بغير إحرام وأمر بلالا أن يصعد على الكعبة فأذن فعظم ذلك على قريش، وقال عكرمة بن أبي جهل وخالد بن أسيد إن ابن رباح ينهق على الكعبة، وتكلم قوم معهما فأرسل إليهم رسول الله. فقالوا: قد قلنا، فنستغفر الله. فقال: ما أدري ما أقول لكم ولكن يحضر الصلاة فمن صلى فسبيل ذلك وإلا قدمته فضربت عنقه. وأمر بكل ما في الكعبة من صورة فمحيت وغسلت


[ 61 ]

بالماء. ودعا بعثمان بن طلحة فقال: رأيت في الكعبة قرني الكبش فخمرها فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شئ، فصيروا في بعض الجدر. وروى بعضهم أن رسول الله قسم ما كان في الكعبة من المال بين المسلمين. وقال آخرون: أقره ونادى منادي رسول الله: من كان في بيته صنم فليكسره، فكسروا الاصنام. ودعا رسول الله بالنساء فبايعنه، وكانت الخيل يوم الفتح أربعمائة فرس، ونزلت عليه سورة: ” إذا جاء نصر الله والفتح “، فقال: نعيت إلي نفسي. وبعث رسول الله، وهو بمكة، خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، وهم بالغميصاء، وقد كانوا في الجاهلية أصابوا من بني المغيرة وقتلوا عوفا أبا عبد الرحمن بن عوف، فخرج عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد ورجال من بني سليم وقد كانوا قتلوا ربيعة بن مكدم في الجاهلية، فخرج جذل الطعان فقتل من بني سليم بدم ربيعة مالك بن الشريد، وبلغ جذيمة أن خالدا قد جاء ومعه بنو سليم، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح. فقالوا: إنا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، فانظر ما بعثك رسول الله له فإن كان بعثك مصدقا فهذه إبلنا وغنمنا فاعد عليها. قال: ضعوا السلاح. قالوا: إنا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية. فانصرف عنهم وأذن القوم وصلوا، فلما كان في السحر شن عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذرية، فبلغ رسول الله فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ! وبعث علي بن أبي طالب فأدى إليهم ما أخذ منهم حتى العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى وبقيت معه منه بقية، فدفعها علي إليهم على أن يحللوا رسول الله مما علم ومما لا يعلم. فقال رسول الله: لما فعلت أحب إلي من حمر النعم، ويومئذ قال لعلي: فداك أبواي. وقال عبد الرحمن بن عوف: والله لقد قتل خالد القوم مسلمين، فقال خالد: إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف. فقال له عبد الرحمن: ما قتلت بأبي ولكنك قتلت بعمك الفاكه بن المغيرة.


[ 62 ]

وقعة حنين ثم كانت وقعة حنين، بلغ رسول الله، وهو بمكة، أن هوازن قد جمعت بحنين جمعا كثيرا ورئيسهم مالك بن عوف النصري، ومعهم دريد ابن الصمة من بني جشم، شيخ كبير يتبركون برأيه، وساق مالك مع هوازن أموالهم وحرمهم. فخرج إليهم رسول الله في جيش عظيم عدتهم اثنا عشر ألفا: عشرة آلاف أصحابه الذين فتح بهم مكة وألفان من أهل مكة ممن أسلم طوعا وكرها، وأخذ من صفوان بن أمية مائة درع وقال عارية مضمونة، فأعجبت المسلمين كثرتهم، وقال بعضهم: ما نؤتى من قلة، فكره رسول الله ذلك من قولهم، وكانت هوازن قد كمنت في الوادي، فخرجوا على المسلمين. وكان يوما عظيم الخطب وانهزم المسلمون عن رسول الله حتى بقي في عشرة من بني هاشم، وقيل تسعة، وهم: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وقيل أيمن بن أم أيمن. قال الله، عزوجل: ” ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضافت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها “، وأبدى بعض قريش ما كان في نفسه. فقال أبو سفيان: لا تنتهي، والله، هزيمتهم دون البحر، وقال كلدة بن حنبل: اليوم بطل السحر، وقال شيبة بن عثمان: اليوم أقتل محمدا، فأراد رسول الله ليقتله فأخذ النبي الحربة منه فأشعرها فؤداه. فقال رسول الله للعباس: صح يا للانصار، وصح يا أهل


[ 63 ]

بيعة الرضوان، صح يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب السمرة. ثم انفض الناس وفتح الله على نبيه وأيده بجنود من الملائكة، ومضى علي بن أبي طالب إلى صاحب راية هوازن فقتله، وكانت الهزيمة، وقتل من هوازن خلق عظيم، وسبي منها سبايا كثيرة، وبلغت عدتهم ألف فارس وبلغت الغنائم اثني عشر ألف ناقة سوى الاسلاب، وقتل دريد بن الصمة فأعظم الناس ذلك، فقال رسول الله: إلى النار وبئس المصير ! إمام من أئمة الكفر إن لم يكن يعين بيده فإنه يعين برأيه. قتله رجل من بني سليم وقتل ذو الخمار سبيع بن الحارث، فقال رسول الله: أبعده الله إنه كان يبغض قريشا. وصارت السبايا والاموال في أيدي المسلمين وبلغت هزيمة المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، وكان جميع من استشهد أربعة نفر. وجاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله من الرضاعة إلى رسول الله فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال: ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لك. فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل إلا الاقرع ابن حابس وعيينة بن حصن، فقال رسول الله: اللهم نوه سهميهما، فخرج لهما عجوز وكلمته في مالك بن عوف النصري رئيس جيش هوازن، وآمنه، فجاء مالك فأسلم. ووجهه رسول الله لحصار الطائف وأعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن وأعطى اثني عشر رجلا مائة مائة من الابل، وهم: أبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة العبدري والحارث بن هشام بن المغيرة وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية بن خلف وحويطب بن عبد العزى والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة ومالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري والاقرع ابن حابس، وأعطى الباقين ما دون ذلك. وسألته الانصار ودخلها غضاضة، فقال رسول الله: إني أعطي قوما تألفا وأكلكم إلى إيمانكم. وتكلم بعضهم فقال: قاتل بنا محمد حتى إذا ظهر أمره وظفر أتى قومه وتركنا. فأسقط الله


[ 64 ]

سهمهم وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهما في الصدقات. وخرج رسول الله إلى الطائف ووجه بعلي بن أبي طالب فلقي نافع بن غيلان ابن سلمة بن معتب في خيل من ثقيف فقتله، وانهزم أصحابه. وحصرها رسول الله بضعة وعشرين يوما، ونزل إليه أربعون رجلا. وأمر رسول الله بقطع الكروم، فكلموه فتركها وأمر ألا تقطع. ثم انصرف رسول الله وخلف أبا سفيان بن حرب على حصار الطائف ووجه عليا لكسر الاصنام فكسرها.


[ 65 ]

غزاة مؤتة ووجه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في جيش إلى الشأم لقتال الروم سنة 8، وروى بعضهم أنه قال: أمير الجيش زيد بن حارثة، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون من أحبوا. وقيل: بل كان جعفر المقدم ثم زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة، وصار إلى موضع يقال له مؤتة، من الشأم من البلقاء من أرض دمشق، فأخذ زيد الراية فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقطعت يده اليمنى فقاتل باليسري فقطعت يده اليسرى ثم ضرب وسطه، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، فرفع لرسول الله كل خفض، وخفض له كل رفع حتى رأى مصارعهم، وقال: رأيت سرير جعفر المقدم فقلت: يا جبريل إني كنت قدمت زيدا. فقال: إن الله قدم جعفرا لقرابتك. ونعاهم رسول الله فقال: أنبت الله لجعفر جناحين من زبرجد يطير بهما من الجنة حيث يشاء، واشتد جزعه وقال: على جعفر فلتبك البواكي، وتأمر خالد بن الوليد على الجيش. قالت أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت امرأة جعفر وأم ولده جميعا: دخل علي رسول الله، ويدي في عجين، فقال: يا أسماء أين ولدك ؟ فأتيته بعبدالله ومحمد وعون، فأجلسهم جميعا في حجره وضمهم إليه ومسح على رؤوسهم ودمعت عيناه. فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ! لم تفعل بولدي كما تفعل بالايتام ؟ لعله بلغك عن جعفر شئ ؟ فغلبته العبرة وقال: رحم الله جعفرا ! فصحت: وا ويلاه واسيداه ! فقال: لا تدعي بويل ولا حرب، وكل ما قلت فأنت صادقة. فصحت: وا جعفراه ! وسمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله،


[ 66 ]

فجاءت وهي تصيح: وابن عماه ! فخرج رسول الله يجر رداءه، ما يملك عبرته، وهو يقول: على جعفر فلتبك البواكي، ثم قال: يا فاطمة اصنعي لعيال جعفر طعاما فإنهم في شغل، فصنعت لهم طعاما ثلاثة أيام، فصارت سنة في بني هاشم. الغزوات التي لم يكن فيها قتال وكانت غزوات فيما بين ذلك لم يكن فيها قتال. كان رسول الله يخرج فلا يلقى كيدا وينصرف، وإنما قدمنا ما كان فيها القتال على التي لا قتال فيها لنفرد الغزوات التي لم يكن فيها قتال. غزاة الابواء: خرج رسول الله إلى ودان فرجع ولم يلق كيدا. وغزاة بواط: مثل ذلك. وغزاة ذي العشيرة: من بطن ينبع وادع بها بني مدلج وحلفاء لهم من بني ضمرة، وكتب بينهم كتابا، والذي قام بذلك بينهم مخشي بن عمرو الضمري. وغزاة قرقرة الكدر: خرج رسول الله في طلب مكدر بن جابر الفهري، ويقال كرز بن جابر، حين كان أغار على سرح المدينة، وذلك أن أبا سفيان ضاف سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فقراه وسقاه خمرا ثم خرج من تحت ليلته حتى مر بمكان يقال له العريض، فوجد بها رجلين من الانصار في صور لهما من النخل فقتلهما وانصرف إلى مكة، فبلغ رسول الله الخبر، فبلغ قرقرة الكدر ولم يلق كيدا وانصرف. وغزاة حمراء الاسد: خرج رسول الله من غد يوم أحد، وقد ذكرناها


[ 67 ]

مع خبر أحد. وغزاة بدر الصغرى: وهي بدر الموعد، لميعاد أبي سفيان بن حرب. فخرج رسول الله في شعبان في السنة الرابعة فأقام عليها ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، ووافق السوق وكانت عظيمة، فتسوق المسلمون فربحوا ربحا حسنا. وقال المنافقون للمؤمنين حين خرجوا لميعاد أبي سفيان: قد قتلوكم عند بيوتكم، فكيف إذا أتيتموهم في بلادهم وقد جمعوا لكم، والله لا ترجعون أبدا فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك: ” الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم “. وانصرف رسول الله ولم يلق كيدا وخلفهم أبو سفيان، وقال: هذا عام جدب ولا يصلحكم يا معشر قريش إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإني راجع، فرجعوا بعد أن كان قد بلغ مر الظهران. وغزاة تبوك: سار رسول الله في جمع كثير إلى تبوك من أرض الشأم يطلب بدم جعفر بن أبي طالب، ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد، وحض رسول الله أهل الغنى على النفقة، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء. وقال رسول الله: أفضل الصدقة جهد المقل. فأتاه البكاؤون يستحملونه، وهم: هرمى بن عبد الله من بني عمرو بن عوف وسالم بن عمير وعمرو بن الحمام وعبد الرحمن بن كعب وصخر بن سلمان. فقال: ما أجد ما أحملكم عليه. وأتاه قوم من الاغنياء فاستأذنوه وقالوا: دعنا نكن مع من تخلف. فقال الله تعالى: ” رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ” وهم: الجد بن قيس ومجمع بن جارية وخدام بن خالد. فأذن لهم رسول الله، فقال الله، عزوجل: ” عفا الله عنك لم أذنت لهم “. وخرج رسول الله غرة رجب سنة 9 واستخلف عليا على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين وطلحة على الميمنة وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة،


[ 68 ]

وخرج النساء والصبيان يودعونه عند الثنية، فسماها ثنية الوداع. وسار رسول الله فأصاب الناس عطش شديد، فقالوا: يا رسول الله لو دعوت الله لسقانا، فدعا الله فسقاهم. وقدم رسول الله تبوك في شعبان فأتاه يحنة بن رؤبة أسقف أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكتب له كتابا وانصرف رسولا الله فجلس له أصحاب العقبة لينفروا به ناقته، فقال لحذيفة: نحهم وقل لهم: لتنحن أو لادعونكم بأسمائكم وأسماء آبائكم وعشائركم، فصاح بهم حذيفة. وكان خروجه في رجب وانصرف في شهر رمضان وكان حذيفة يقول: إني لاعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.


[ 69 ]

الامراء على السرايا والجيوش ووجه رسول الله على السرايا والجيوش الامراء وعقد لهم الالوية والرايات. فأول ذلك حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر، وقيل: إن أولهم عبيدة بن الحارث بن المطلب على سرية إلى ثنية المرة في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الانصار أحد. فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي به جمعا عظيما من قريش فلم يكن منهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، وكان أول سهم رمي في الاسلام، ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وجاء المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة وعتبة بن غزوان بن جابر الحارثي حليف بني نوفل، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا فتوصلا بالكفار، وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل. وسعد بن أبي وقاص على سرية الخرار وهو ماء من الجحفة، فأصاب نعما لبني ضمرة، فأرسلوا إلى رسول الله فردها بالحلف الذي بينهم وبينه. وحمزة بن عبد المطلب على سرية إلى ساحل البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الانصار أحد، فلقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعا، وانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن قتال. وعبد الله بن جحش بن رثاب (رئاب) على سرية إلى نخلة في ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم أحد من الانصار، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ينظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف لترصد بها قريشا


[ 70 ]

وتعلم أخبارها. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد، فلما نزل نخلة مرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي فقاتلوه فأسروا منهم رجلين، فكانا أول أسير من المشركين، وأفلت القوم. وأخذوا ما كان معهم، فعزل رسول الله خمس العير وقسم سائرها لاصحابه، فكان أول خمس قسم في الاسلام. ووجه مرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب على سرية إلى جمع وذلك أنه قدم على النبي نفر من العضل وديش، وهما حيان من الهون بن خزيمة، فقالا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا أصحابك تهوننا ويقرئوننا القرآن. فبعث فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن البكير حليف بني عدي وعاصم بن ثابت بن أبي الاقلح العمري وزيد بن دثنة البياضي وعبد الله بن طارق الظفري وخبيب بن عدي العمري، فلما كانوا على ماء يقال له الرجيع لهذيل خرج بعض الناس حتى انتهى إلى هذيل، فقال: إن هاهنا نفرا من أصحاب محمد، هل لكم أن نأخذهم ونسلبهم ونبيعهم من قريش ؟ فما راع المسلمين إلا الرجال بأيديهم السيوف. فقالوا: استأسروا فلكم العهد والعقد ولا نقتلكم ولكن نبيعكم من قريش. فنادى مرثد، وهو أمير القوم، وعاصم وخالد فصاحوا بالقوم وسلوا سيوفهم وتهيأوا للقتال، وأما خبيب وعبد الله وزيد فلانوا وأعطوا بأيديهم فقاتل أصحابهم قتالا شديدا وقتل مرثد وخالد بن البكير وقاتل عاصم بن ثابت حتى قتل. وزيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله على سرية إلى قردة. لما انصرف رسول الله من بدر الصغرى، ميعاد أبي سفيان، هابت قريش أن يأخذوا طريقهم إلى الشأم على بدر، فتركوا ذلك الطريق وسلكوا طريق العراق، فخرج أبو سفيان وأبو العاص بن الربيع في عير قريش في مال كثير إلى الشأم، فبعث رسول الله فأصابهم وما فيها. وخرج القوم هاربين: أبو سفيان وأصحابه، فسبقوهم، فقدم زيد بذلك المال وأسر معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن


[ 71 ]

مروان، وقيل إنه قدم به. وأقبل أبو العاص بن الربيع حتى دخل المدينة فاستجار بزينب ابنة رسول الله، فلما صلى رسول الله الغداة نادت زينب: ألا إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله حين انصرف: أسمعتم ؟ قالوا: نعم ! قال: قد أجرت من أجارت، إن أدنى المؤمنين يجير على أقصاهم. وقام فدخل عليهما فقال: لا يفوتنك، أكرمي مثواه. ورد عليه ما أخذ له، فرجع إلى مكة فرد إلى كل ذي حق حقه ثم أسلم ورجع إلى رسول الله فرد عليه زينب بالنكاح الاول. وأيضا زيد بن حارثة على سرية إلى الجحوم أو الجموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا في تلك المحلة نعما وأسارى. وكان في أولئك الاسارى زوج حليمة. فلما قفل بها وهب رسول الله للمزينية زوجها ونفسها. ومرة أخرى لزيد على جيش إلى جذام. وكان ابن خليفة الكلبي لما انصرف من عند قيصر مر بأرض جذام فأغار عليه الهنيد بن عارض الجذامي فسلبه ما كان معه، وأدركه نفر من المسلمين فاستنقذوا ما أخذ منه فدفعوه إلى دحية. فوجه رسول الله زيد بن حارثة فسبى وقتل وأخذ الهنيد وابنه فضرب أعناقهما. ووجه أيضا زيدا على جيش إلى وادي القرى، وكانت أم قرفة ابنة ربيعة ابن بدر قد زوجها مالك بن حذيفة بن بدر، بعثت إلى رسول الله بأربعين رجلا من بطنها وقالت: ادخلوا عليه المدينة. فبعث رسول الله زيد بن حارثة في خيل فلقيهم بوادي القرى فهزم أصحابه وارتث زيد من القتلى، فحلف ألا يغسل ولا يدهن حتى يغزوهم. فسأل رسول الله أن يبعث به إليهم، فبعثه في خيل عظيمة فالتقوا بوادي القرى فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمت بنو فزارة وقتلوا وسبيت يومئذ أم قرفة فقتلها قتلا عنيفا، شقها بين بكرين. وأما ابنتها فوقعت في سهم قيس بن المحسر فاستوهبها رسول الله منه لخاله حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فولدت عبد الرحمن بن حزن.


[ 72 ]

ومرة على جيش الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فهربت الاعراب وخافوا أن يكون رسول الله سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ولم يكن بينهم قتال. والمنذر بن عمرو الانصاري على سرية إلى بئر معونة. وذلك أن أسد بن معونة قدم على رسول الله بهدية من قبل عمه أبي براء بن مالك ملاعب الاسنة، وأهدى له فرسين ونجائب، وكان صديقا للنبي. فقال رسول الله: والله لا أقبل هدية مشرك. فقال لبيد بن ربيعة: ما كنت أرى أن رجلا من مضر يرد هدية أبي براء. فقال: لو كنت قابلا من مشرك هدية لقبلتها منه. قال: فإنه يستشفيك من دبيلة في بطنه قد غلبت عليه. فتناول رسول الله جبوبة من تراب فأمرها على لسانه ثم دفها بماء ثم سقاه إياه، فكأنما أنشط من عقال. وكان أبو براء سأل رسول الله أن يبعث إليه بنفر من أصحابه ليفقهوهم في الدين ويبصروهم شرائع الاسلام، فقال رسول الله: إني أخاف أن يقتلهم بنو عامر، فأرسل أبو براء انهم في جواري. فبعث إليه المنذر بن عمرو ونفرا من أصحابه في تسعة وعشرين عامتهم بدري. فأغار عليهم عامر بن الطفيل وتابعه ثلاثة أحياء من بني سليم رعل وذكوان وعصية فلذلك لعنهم رسول الله، وأقبل عامر إلى حرام بن ملحان، وهو يقرأ كتاب رسول الله، فطعنه بالرمح. فقال: الله أكبر فزت بالجنة. واقتتل القوم قتالا شديدا وكثرتهم بنو سليم، فقتلوا من عند آخرهم ما خلا المنذر بن عمرو فإنه قال لهم: دعوني أصلي على أخي حرام ابن ملحان. قالوا: نعم. فصلى عليه ثم أخذ سيفا وأعنق نحوهم فقاتلهم حتى قتل. وقال الحارث بن الصمة: ما كنت لارغب بنفسي عن سبيل مضى فيه المنذر، والله لاذهبن فلئن ظفر لاظفرن ولئن قتل لاقتلن. فذهب فقتل وأعتق عامر بن الطفيل أسعد بن زيد الديناري عن رقبة كانت على أمه. وبعث جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة إلى البلقاء من أرض الشأم فأصيبوا بمؤتة، وقد قدمنا ذكرهم قبل هذا الموضع.


[ 73 ]

وبعث رسول الله غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني مدلج وهم حلفاؤه وهم الذين قال الله فيهم: ” أو جاؤوكم حصرت صدورهم ” فقالوا: لسنا عليك ولسسنا معك، ولم يجيبوه، فقال الناس: اغزهم يا رسول الله. فقال: إن لهم سيدا أديبا لن يأخذ إلا خيرة أمره، وإنهم إذا نحروا ثجوا وإذا لبوا عجوا، رب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله. وبعث نميلة بن عبد الله الليثي إلى بني ضمرة فرجع إلى رسول الله فقال: يا رسول قالوا لا نحاربه ولا نسالمه ولا نصدقه ولا نكذبه. فقال الناس: يا رسول الله اغزهم. فقال: دعوهم فإن فيهم عددا وسوددا، ورب شيخ صالح من بني ضمرة غاز في سبيل الله. وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل فرجع فقال: يا رسول الله أدركتهم فلولا وجئتهم حلولا، دعوتهم إلى الله ورسوله فأبوا أشد الاباء. فقال الناس: اغزهم يا رسول الله. فقال رسول الله: دعوا بني الديل، إياكم ! ألا إن سيدهم قد صلى وأسلم فيقول: أسلم، فيقولون: نعم. وبعث رسول الله عبد الله بن سهيل بن عمرو العامري إلى بني معيص ومحارب ابن فهر ومن يليهم من السواحل في خمسمائة، فلقيهم على المدثرا. فلما واقعهم دعاهم إلى الاسلام، فجاء معه نفر فقال رسول الله: ها قطيعة الايمان كجذع النخل حلو أوله حلو آخره. وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جيش إلى ذات القصة، وكان بها قوم من محارب وثعلبة وأنمار. فخرج أبو عبيدة وأصحابه يسيرون ليلتهم حتى أصبحوا. فلما أبصر القوم بهم هربوا وخلفوا إبلهم فغنموا الاموال وأخذوا رجلا واحدا فأتوا به رسول الله فخمس رسول الله فأخذ الخمس وفرق الباقي على أصحاب السرية، وأسلم الرجل فتركه. وعمر بن الخطاب على جيش إلى زبية قريبة من الطائف فلم يلق كيدا. وعلي بن أبي طالب على جيش إلى فدك. وبلغ رسول الله أن بها جمعا


[ 74 ]

يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار علي بن أبي طالب الليل وكمن النهار حتى صبحهم فقتلهم. وأبا العوجاء السلمي على سرية، فاستشهد كل من كان في السرية فلم ينصرف منهم أحد. وعكاشة بن محصن بن حرثان الاسدي أسد بن خزيمة، على سرية إلى الغمرة. وأبا سلمة بن عبد (عيد) الاسد بن هلال المخزومي إلى قطن. ومحمد بن مسلمة الانصاري أخا بني حارثة على جيش إلى القرطاء من هوازن. وبشير بن سعد الانصاري على سرية إلى فدك فأصيب أصحابه جميعا ولم يرجع منهم أحد. ثم بعث إليهم غالب بن عبد الله الملوحي، فجاء بمرداس ابن نهيك الفدكي. ومرة أخرى إلى صروحان من أرض خيبر. وعبد الله بن رواحة الانصاري على سرية إلى خيبر مرتين، إحداهما إلى أصحاب اليسير بن رزام اليهودي وأصحابه، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله. وعبد الله بن أنيس الانصاري إلى خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لرسول الله الناس ليغزوه، فقتله، ويقال لم تكن سرية إنما كان وحده. وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على جيش إلى بلعنبر فأصابهم وهم خلوف، فجاء بسباياهم فطرحهم في المسجد. فركب إليه رجالاتهم، فلما دخلوا المسجد صاحوا: يا محمد اخرج إلينا. وكان فيهم بسامة بن الاعور وسمرة ابن عمرو، قال الله، عزوجل: ” ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ” فخرج إليهم رسول الله، فسألوه وطلبوا إليه أن يحكم سمرة بن عمرو وأن يهب لهم ثلاثا ويؤخر ثلاثا ويأخذ ثلاثا، فبلغنا أن رسول الله قال: من أراد أن يعتق من ولد اسماعيل فليعتق من هؤلاء.


[ 75 ]

وكعب بن عمير الانصاري على سرية إلى ذات أطلاح، ويقال ذات أباطح، فاستشهدوا جميعا ولم يرجع من السرية أحد. وبعث رسول الله عمرو بن العاص على جيش إلى ذات السلاسل من أرض الشأم، وبها ناس من بني عذرة وبلي وقبائل من اليمن، وكان معه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وأعطاه مالا وقال: استنفر من قدرت عليه. فلما شارف القوم نهاهم ألا يوقدوا نارا فشق ذلك على المسلمين لشدة القر، فقال: قد أمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا. فكلموا أبا بكر في ذلك فأتى عمرا فلم يأذن له. فصاح به أبو بكر: يا ابن بياعة العباء اخرج إلي، فأبى. قال: يا ابن دباغة القرظ اخرج إلي، فأبى. فلما كان في السحر أغار بهم فأصاب وظفر، فقال لابي بكر: كيف رأيت رأي ابن بياعة العباء ؟ وصلى عمرو بن العاص بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله أخبره أبو عبيدة بن الجراح، فقال عمرو: يا رسول الله كان البرد شديدا ولو اغتسلت لمت، فضحك رسول الله. وعبد الله بن أبي حدرد الاسملي على سرية إلى إضم، فلقي عامر بن الاضبط الاشجعي، فحمل عليه محلم بن جثامة بن قيس فطعنه فخاصمه عيينة ابن حصن إلى رسول الله بديته فعجل نصفا وأخر نصفا. فقام إليه محلم بن قيس فقال: يا رسول الله استغفر لي. قال: قتلت مسلما، لعنك الله ! فما لبث بعدها إلا خمسا حتى مات. وعبد الرحمن بن عوف على سرية إلى كلب، وعممه رسول الله بعمامة سوداء وأسدلها بين يديه ومن خلفه وقال: هكذا فاعتم فإنه أشبه وأعرف، وأمره إن فتح الله عليه أن يزوجه ابنة سيدهم، ففتح الله عليه فتزوج تماضر بنت الاصبغ التي صولحت عن ربع الثمن عن ثمانين ألف دينار. وأمر علي بن أبي طالب حين خرج إلى تبوك…. 1. وكان


1 بياض في الاصل.

[ 76 ]

المهاجر بن أبي أمية أميره على صنعاء وزياد بن لبيد البياضي على حضرموت وصدقاتها وعذي بن حاتم على صدقات طئ ومالك بن نويرة اليربوعي على صدقات حنظلة والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات بني سعد وعلي ابن أبي طالب إلى أهل نجران بجمع صدقاتهم وأخذ جزيتهم وخالد بن الوليد على سرية إلى دومة الجندل وعتاب بن أسيد بن أبي أمية على مكة وأبو سفيان ابن حرب على نجران ويزيد بن أبي سفيان على تيماء وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صنعاء، فقبض النبي وهو عليها، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى عربية وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية على الخط بالبحرين والوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق. وكذب عليهم وقد جئنا بحديثه في غزاة بني المصطلق، والعلاء حليف سعيد بن العاص على الغطيف بالبحرين ومعيقيب ابن أبي فاطمة الدوسي على الغنائم وأبورنم الغفاري أميره على المدينة حين غزا خيبر، ويقال أبورهم كلثوم بن الحصين الغفاري وأبورهم الغفاري أيضا على المدينة في غزاة الفتح وأميره على الموسم، والناس بعد على الشرك، عتاب بن أسيد، فوقف عتاب بالمسلمين ووقف المشركون على حدتهم، وأبو بكر أميره على الموسم في سنة 9 وبعض الناس مشركون، فوقف أبو بكر بالمسلمين ووقف المشركون ناحية على مواقفهم. وفي تلك السنة وجه علي بن أبي طالب بسورة براءة فأخذها من أبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله ! هل نزل في شئ ؟ فقال: لا، ولكن جبريل قال لي: لا يبلغ هذا إلا أنت أو رجل من أهلك. فقرأها على أهل مكة، ويقال قرأها على سقاية زمزم. وأمن فنادى أن من كان له عهد من رسول الله في تأجيله أربعة أشهر فهو على عهده ومن لم يكن له عنده عهد فقد أجله خمسين ليلة. وأميره على صلاة وفد ثقيف عثمان بن أبي العاص الثقفي ومعاذ بن جبل على نعض ؟ اليمن وعلى المقاسم يوم بدر محمية بن جزء بن عبد يغوث الزبيدي حليف بني جمح وأسامة بن زيد مولى رسول الله على جيش إلى ناحية الشأم،


[ 77 ]

فأنفذه أبو بكر بعد وفاة رسول الله. وكان أبو بكر وعمر في الجيش وكان رسول الله إذا بعث السرايا والجيوش قال: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. ووجه رسول الله إلى الملوك يدعوهم إلى الاسلام. فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن عليك أثام المجوس. وكتب إليه كسرى كتابا جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكا، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمه وناوله أصحابه، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلن في أمري أو لآتينك بنفسي ومن معي وأمر الله أسرع من ذلك. فأما كتابك فأنا أعلم به منك، فيه كذا وكذا، ولم يفتحه ولم يقرأه. ورجع الرسول إلى كسرى فأخبره، وقد قيل إن كسرى لما وصل إليه كتاب وكان…. 1 راع أدم قده شتورا، فقال رسول الله: يمزق الله ملكهم كل ممزق. ووجه دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بداعية الاسلام فأسلم تسلم، ويؤتك الله أجرك مرتين، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين. فكتب هرقل: إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى من قيصر ملك


1 بياض في الاصل (*)

[ 78 ]

الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الانجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك. فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم. ووجه عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي وشجاع بن وهب إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية وجرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى من بني تميم بالبحرين وعمار بن ياسر إلى الايهم بن النعمان الغساني وسليط بن عمرو بن عبدشمس العامري إلى ابني هوذة بن علي الحنفي باليمامة والمهاجر بن أبي أمية إلى الحارث بن عبد كلال الحميري وخالد بن الوليد إلى الديان وبني قنان وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندا إلى عمان، وكتب إليهم جميعا بمثل ما كتب به إلى كسرى وقيصر، وسليم بن عمرو الانصاري إلى حضرموت. وبعث قوما من أصحابه في قتل قوم من المشركين. فوجه عمرو بن أمية الضمري بقتل أبي سفيان بن حرب فلم يقتله. وبعث محمد بن مسلمة وأبا نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر وأبا عبس بن جبر والحارث بن أوس في قتل كعب بن الاشرف اليهودي فقتلوه في النضير. وبعث عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام اليهودي الخيبري فقتله. وبعث عبد الله بن عتيك وأبا قتادة ابن ربعي وخزاعي بن الاسود ومسعود بن سنان وابن عتيك أميرهم في قتل سلام بن أبي الحقيق فقتلوه بخيبر. وبعث في قتل ابن أبي حدعه وقال للموجه: إن أصبته حيا فاقتله واحرقه بالنار، فأصابه قد لسعته حية فمات. وبعث عبد الله بن أبي حدرد في قتل رفاعة بن قيس الجشمي فقتله، وبعث علي بن أبي طالب في قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية فقتله.


[ 79 ]

وفود العرب الذين قدموا على رسول الله وقدمت عليه وفود العرب، ولكل قبيلة رئيس يتقدمهم. فقدمت مزينة ورئيسهم خزاعي بن عبد نهم، وأشجع ورئيسهم عبد الله بن مالك، وأسلم ورئيسهم بريدة، وسليم ورئيسهم وقاص بن قمامة، وبنو ليث ورئيسهم الصعب بن جثامة، وفزارة ورئيسهم عيينة بن حصن، وبنو بكر ورئيسهم عدي بن شراحيل، وطئ ورئيسهم عدي بن حاتم، وبجيلة ورئيسهم قيس ابن غربة، والازد ورئيسهم صرد بن عبد الله، وخثعم ورئيسهم عميس بن عمرو، ووفد نفر من طئ ورئيسهم زيد بن مهلهل وهو زيد الخيل، وبنو شيبان…. 1 وعبد القيس ورئيسهم الاشج العصري، ثم وفد الجارود ابن المعلى فولاه رسول الله على قومه، وأوفدت ملوك حمير بإسلامهم وفودا وهم: الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وكتبوا إليه بإسلامهم فبعث إليهم معاذ بن جبل، وعكل ورئيسها خزيمة بن عاصم، وجذام ورئيسها فروة بن عمرو، وحضرموت ورئيسها وائل بن حجر الحضرمي، والضباب ورئيسها ذو الجوشن، وبنو أسد ورئيسها ضرار بن الازور وقيل نقادة بن العايف، وعامر بن الطفيل في بني عامر فرجع ولم يسلم، وأربد ابن قيس رجع ولم يسلم، وبنو الحارث بن كعب ورئيسهم يزيد بن عبد المدان، وبنو تميم وعليهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم ومالك ابن نويرة، وبنو نهد وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب، وكنانة ورئيسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بني عليم، وهمدان ورئيسهم ضمام بن مالك، وثمالة والحدان فخذ من الازد ورئيسهم مسلمة بن هزان الحداني، وباهلة


1 بياض في الاصل. (*)

[ 80 ]

ورئيسهم مطرف بن كاهن الباهلي، وبنو حنيفة ومعهم مسيلمة بن حبيب الحنفي، ومراد ورئيسهم فروة بن مسيك، ومهرة ورئيسهم مهري بن الابيض. كتاب النبي وكتب إلى رؤساء القبائل يدعوهم إلى الاسلام. وكان كتابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص ابن أمية ومعاوية بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والمغيرة بن شعبة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وحنظلة بن الربيع وأبي بن كعب وجهيم بن الصلت والحصين النميري. وكتب إلى أهل اليمن: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى اهل اليمن فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. وقع بنا رسولكم مقدمنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة فبلغنا ما أرسلتم به وأخبرنا ما كان قبلكم ونبأنا بإسلامكم وان الله قد هداكم إن أصلحتم وأطعتم الله وأطعتم رسوله وأقمتم الصلاة وآتيم الزكاة وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي والصفي وما على المؤمنين من الصدقة عشر ما سقي البعل وسقت السماء وما سقي بالغرب نصف العشر، وإن في الابل من الاربعين حقة قد استحقت الرحل وهي جذعة، وفي الخمس والعشرين ابن مخاض، وفي كل ثلاثين من الابل ابن لبون، وفي كل عشرين من الابل أربع شياه، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ذكر أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم شاة، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين، فمن زاد خيرا فهو خير له، فمن أعطى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على الكافرين فإنه من


[ 81 ]

المؤمنين له ذمة الله وذمة رسوله محمد رسول الله، وانه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها وعليه الجزية في كل حالم من ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافري أو عرضه. فمن أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، وإن رسول الله مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا أهله إنما هي زكاة تؤدونها إلى فقراء المؤمنين في سبيل الله، وإن مالك بن مرارة قد أبلغ الخبر وحفظ الغيب فآمركم به خيرا، اني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي كتابهم وأولي علمهم فآمركم به خيرا فإنه منظور إليه والسلام. وكان الرسول بالكتاب معاذ بن جبل. وكتب إلى همدان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى عمير ذي مران ومن أسلم من همدان سلم أنتم فإني أحمد الله إليكم، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد ذلك فإنه بلغني إسلامكم مرجعنا من أرض الروم فابشروا فإن الله قد هداكم بهداه وإنكم إذا شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فإن لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم وأرض البور التي أسلمتم عليها سهلها وجبلها وعيونها وفروعها غير مظلومين ولا مضيق عليكم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لاهل بيته إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين، وإن مالك ابن مرارة الرهاوي قد حفظ الغيب وبلغ الخبر فآمركم به خيرا فإنه منظور إليه، وكتب علي بن أبي طالب. وكتب إلى نجران: بسم الله، من محمد رسول الله إلى أسقفة نجران: بسم الله فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أما بعد ذلكم فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام.


[ 82 ]

وكتب إلى أهل هجر: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى أهل هجر سلم أنتم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني أوصيكم بالله وأنفسكم ألا تضلوا بعد إذ هديتم ولا تغووا بعد إذ رشدتم، أما بعد ذلكم فإنه قد جاءني وفدكم فلم آت فيهم إلا ما سرهم وإني لو جهدت حقي كله فيكم أخرجتكم من هجر فشفعت شاهدكم ومننت على غائبكم اذكروا نعمة الله عليكم. أما بعد فإنه قد أتاني ما صنعتم وإن من يجمل منكم لا يحمل عليه ذنب المسئ فإذا جاءكم أمراؤكم فأطيعوهم وانصروهم على أمر الله وفي سبيله فإنه من يعمل منكم عملا صالحا فلن يضل له عند الله ولا عندي. أما بعد يا منذر بن ساوى فقد حمدك لي رسولي وأنا، إن شاء الله، مثيبك على عملك. وقدم عليه أهل نجران ورئيسهم أبو حارثة الاسقف، ومعه العاقب والسيد وعبد المسيح وكوز وقيس والايهم، فوردوا على رسول الله. فلما دخلوا أظهروا الديباج والصلب ودخلوا بهيئة لم يدخل بها أحد. فقال رسول الله: دعوهم، فلقوا رسول الله فدارسوه يومهم وساءلوه ما شاء الله. فقال أبو حارثة: يا محمد ! ما تقول في المسيح ؟ قال: هو عبد الله ورسوله. فقال: تعالى الله عما قلت، يا أبا القاسم هو كذا وكذا. ونزل فيهم: ” إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ” إلى قوله: ” فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين “. فرضوا بالمباهلة، فلما أصبحوا قال أبو حارثة: انظروا من جاء معه. وغدا رسول الله آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وعلي بن أبي طالب بين يديه وغدا العاقب والسيد بابنين لهما عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة. فقال أبو حارثة: من هؤلاء معه ؟ قالوا: هذا ابن عمه وهذه ابنته وهذان ابناها. فجثا رسول الله على ركبتيه ثم ركع. فقال أبو حارثة: جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة.


[ 83 ]

فقال له السيد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة. فقال: إني أرى رجلا حريا على المباهلة وإني أخاف أن يكون صادقا فإن كان صادقا لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام. قال أبو حارثة: يا أبا القاسم لا نباهلك ولكنا نعطيك الجزية. فصالحهم رسول الله على ألفي حلة من حلل الاواقي، قيمة كل حلة أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. وكتب لهم رسول الله كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي محمد رسول الله لنجران وحاشيتها إذ كان له عليهم حكمة في كل بيضاء وصفراء وثمرة ورقيق كان أفضل ذلك كله لهم غير ألفي حلة من حلل الاواقي قيمة كل حلة أربعون درهما، فما زاد أو نقص فعلى هذا الحساب ألف في صفر وألف في رجب، وعليهم ثلاثون دينارا مثواة رسلي شهرا فما فوق. وعليهم في كل حرب كانت باليمن دروع عارية مضمونة لهم بذلك جوار الله وذمة محمد فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة. فقال العاقب: يا رسول الله إنا نخاف أن تأخذنا بجناية غيرنا. قال فكتب: ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. شهد على ذلك عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وكتب علي بن أبي طالب. فلما قدموا نجران أسلم الايهم وأقبل مسلما.


[ 84 ]

أزواج رسول الله وتزوج إحدى وعشرين امرأة، وقيل ثلاثا وعشرين. دخل ببعضهن وطلق بعضا ولم يدخل ببعض، واللاتي دخل بهن: أولهن خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وولدت أولاده أجمعين خلا إبراهيم، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي، تزوجها بمكة. ثم عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، تزوجها بمكة ودخل بها بالمدينة. ثم غزية بنت دودان بن عوف بن جابر بن ضباب من بني عامر بن لؤي، وهي أم شريك التي وهبت نفسها للنبي. ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب. ثم بنت نفيل بن عبد العزى العبدوي. ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، ولم يمت من نسائه عنده غيرها وغير خديجة. ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبدشمس بن عبد مناف. ثم زينب بنت جحش بن رئاب بن قيس بن يعمر بن صبرة من بني أسد ابن خزيمة. ثم أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ثم جويرية واسمها برة بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية من خزاعة. ثم صفية بنت حيي بن أخطب من بني النجار من سبط هارون النبي. ثم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالي.


[ 85 ]

ثم مارية أم إبراهيم، هؤلاء اللاتي دخل بهن، طلق منهن أم شريك، وأرجأ منهن سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة. والنسوة اللاتي لم يدخل بهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة الثعلبية، هلكت في الطريق قبل وصولها إليه. وشراف أخت دحية بن خليفة الكلبي، حملت إليه فهلكت قبل دخولها عليه. وسنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة السلمي، ماتت قبل أن يصل إليها. وريحانة بنت شمعون القريظية عرض عليها النبي الاسلام فأبت إلا اليهودية فعزلها ثم أسلمت بعد، فعرض عليها التزويج فأجابت وضرب الحجاب، فقالت: بل تتركني في ملكك، يارسول الله. فلم تزل في ملكه حتى قبض. وأسماء بنت النعمان الكندي، من بني آكل المرار، كانت من أجمل نسائه وأتمهن فقال لها نساؤه: إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله إذا دخلت عليه. فلما دخل وأرخى الستر، قالت: أعوذ بالله منك ! فصرف وجهه عنها. ثم قال: أمن عائذ الله ! الحقي بأهلك. فخلف على أسماء بنت النعمان الكندي المهاجر بن أمية المخزومي ثم خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادي. وقتيلة بنت قيس بن معدي كرب، وهي أخت الاشعث بن قيس بن فلان، قبض رسول الله قبل خروجها إليه من اليمن، فخلف عليها عكرمة ابن أبي جهل. وعمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس الكلابي، بلغه أن بها بياضا فطلقها ولم يدخل بها. والعالية بنت ظبيان بن عمرو الكلابي، طلقها. والجونية امرأة من كندة وليست بأسماء، كان أبو أسيد الساعدي قدم بها عليه، فوليت عائشة وحفصة مشطها وإصلاح أمرها، فقالت إحداهما لها:


[ 86 ]

إن رسول الله يعجبه من المرأة إذا دخل عليها ومد يده إليها ان قالت: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك فوضع يده على وجهه واستتر بها وقال: عذت، فعاذت ثلاث مرات. ثم خرج وأمر أبا أسيد الساعدي أن يمتعها برازقيتين ويلحقها بأهلها، فزعموا أنها ماتت كمدا. وليلى بنت الحطيم الاوسي أتته وهو غافل فحطأت منكبه. فقال: من هذا أكله الاسود ؟ قالت: أنا بنت الحطيم، وأبي مطعم الطير، وقد جئتك أعرض نفسي عليك. قال: قد قبلتك. فأتت نساءها فقلن لها: بئس ما صنعت ! أنت امرأة غيور ورسول الله كثير الضرائر، إنا نخاف أن تغاري فيدعو عليك فتهلكي، استقيليه، فأتته فاستقالته، فأقالها، ودخلت حائطا من حيطان المدينة فأكلها الاسود. وصفية بنت بشامة العنبرية، عرض عليها المقام عنده أو ردها إلى أهلها فاختارت أهلها فردها. وضباعة بنت عامر القيسية، كانت عند عبد الله بن جدعان فطلقها ثم تزوجها هشام بن المغيرة فأولدها سلمة، فخطبها رسول الله إلى سلمة، فقال: استأمرها. فقالت: أفي رسول الله ؟ قد رضيت. فبلغه عنها كبر، فأمسك عنها.


[ 87 ]

مولد ابراهيم ابن رسول الله وولد ابراهيم ابن رسول الله وأمه مارية القبطية في ذي الحجة سنة 8، ولما ولد هبط جبريل إلى رسول الله فقال: السلام عليك يا أبا ابراهيم ! وتنافست فيه نساء الانصار أيهن ترضعه، فدفعه رسول الله إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد من بني النجار، وعق رسول الله بكبش. وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله امرأة أبي رافع، فجاء أبو رافع إلى رسول الله فأخبره فوهب له عبدا. وغارت نساء رسول الله واشتد عليهن حيث رزق منها ولدا فروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله ومعه ابنه إبراهيم يحمله، فقال: انظري إلى شبهه بي: قالت عائشة: أرى شبهها. قال: أما ترين بياضه ولحمه ؟ قالت: من قصر عليه اللقاح ابيض وسمن. وتوفي ابراهيم في سنة 10 وله سنة وعشرة أشهر، وكسفت الشمس ساعتين من النهار، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. وقال رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى مساجدكم. وقال: إن العين تدمع والقلب يخشع وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولكنا لا تقول ما يسخط الرب. وأعتق جماعة عبيدا وإماء منهم: زيد بن حارثة بن شراحيل وأسامة بن زيد وأبو رافع، قبطي أهداه له المقوقس، وأنسة، وكان حبشيا، وأبو كبشة، وكان فارسيا، وأبو لبابة وأبو لقيط وأبو أيمن وأبو هند ورافع وسفينة وثوبان وصالح، وهو شقران، وأم أيمن حبشية كان أبو طالب خلفها عليه واسمها بركة، ويقال خضرة، ويقال إنه ورثها عن أبيه وكان يسمي كل شئ لها.


[ 88 ]

وكان رسم رايته العقاب وكانت سوداء على عمل الطيلسان، وكان له سيف يقال له المخدام وسيف يقال له الرسوب وسيفه الذي يلزمه ذو الفقار. وقد روي أن جبريل نزل به من السماء فكان طوله سبعة أشبار وعرضه شبرا وفي وسطه كال وكانت عليه قبيعة فضة ونعل فضة وفيه حلقتان فضة ورمحه المثوي حربته العنزة، وكان يمشي بها في الاعياد بين يديه ويقول: هكذا أخلاق السنن، وقوسه الكتوم وكنانته الكافور ونبله المتصلة وترسه الزلوق ومغفره السبوع ودرعه ذات الفضول وفيها زردتان زائدتان وفرسه السكب وفرس آخر المرتجز وفرس آخر السجل وفرس آخر البحر. وأجرى الخيل فجاء فرسه سابقا فجثا على ركبتيه وقال: ما هو إلا البحر، وكان يقول: الخيل في نواصيها الخير. وكانت له ناقة يقال لها القصوى وناقة يقال لها العضباء وناقة يقال لها الجذعاء. وسابق بالابل فجاءت ناقته العضباء سابقة، وعليها أسامة بن زيد. فقال الناس: سبق رسول الله. فقال رسول الله: سبق أسامة. وكانت بغلته الشهباء يقال لها الدلدل أهداها له المقوقس وبغلة أخرى طويلة مرتفعة يقال لها الابلية. وحماره اليعفور. وكانت له شاة يشرب من لبنها يقال لها غيثة. وقدح يقال له الريان وقدح يقال له العير. وقضيب يقال له الممشوق. وجبة يقال لها الكن. وعمامة سوداء يقال لها السحاب. وذكر أبوالبختري أنه كان له منطقة من أديم مبشورة، فيها إبزيم وثلاث حلقات كالفلك من فضة، فإنه كان يلبس برود الحبر أزرا أو أردية البيضاء والقلنسوة الحبر والجبة السندس الخضراء وليس بالذي عن عن لبسهما فما لبس الصوف حتى قبضه الله إليه. وكان له فراش أدم وكان يلبس الملحفة المصبوغة بالزعفران والورس ويلبس الازار الواحد يعقده بين كتفيه. وكان يتطيب حتى يصبغ الطيب رداءه من موضع رأسه وحتى يرى وميض المسك من مفرقه وحتى يعرف مجيئه بطيب رائحته من بعيد قبل أن يرى. وكان يقول: أطيب الطيب المسك. وكان لا يعرض عليه طيب إلا تطيب منه. وكان إذا أراد الخروج من منزله امتشط وسوى جمته وأصلح


[ 89 ]

شعره. وكان يقول: إن الله يحب من عبده أن يكون له حسن الهيئة. ويروى أنه كان يلبس البرنس والشملة وكان له ثوبان. وكان يلبس الخاتم ويصير فضة فصه مما يلي الكف ويلبسه في اليد اليمنى واليد اليسرى ويضعه في إصبعه الوسطى في المفصل ويديره في أصابع يده. خطب رسول الله ومواعظه وتأديبه بالاخلاق الشريفة وكان يخطب أصحابه ويعظهم ويعلمهم محاسن الاخلاق ومكارم الافعالى. خطب رسول الله فقال في خطبته: أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى ولا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي ما يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته: في الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. وخطب يوما فقال في خطبته: إن الله ليس بينه وبين أحد قرابة يعطيه بها خيرا ولا حق يصرف به عنه سوءا إلا بطاعته واتباع مرضاته واجتناب سخطه. إن الله، تبارك وتعالى، على إرادته ولو كره الخلق ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب. وخطب رسول الله فقال في خطبته: طوبى لعبد طاب كسبه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وأنفق الفضل من ماله، وترك الفضول من قوله، وكف عن الناس شره وأنصفهم من نفسه، إنه من عرف الله خاف الله ومن خاف الله شحت نفسه عن الدنيا.


[ 90 ]

وخطب يوما فقال في خطبته: اذكروا الموت فإنه آخذ بنواصيكم، إن فررتم منه أدرككم وإن أقمتم أخذكم…. 1 لا خير بعده أبدا، وفرقة لا ألفة بعدها، وإن العبد لا تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن إمامه من هو ؟ قال الله، عزوجل: ” يوم ندعو كل أناس بإمامهم ” إلى آخر الآية. وقال: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به كتبه الله شاكرا وصابرا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسفه على ما فضله الله لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا. وقال: من أعطي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وبدنا صابرا وزوجة صالحة فقد أعطي الدنيا والآخرة. وقال: الرغبة في الدنيا تورث الهم والحزن، والزهد فيها يريح القلب والبدن. وقال: السعادة في اثنتين الطاعة والتقوى. وقال: يقول الله، عزوجل: حسب عندي المؤمن حقيقة إيمانه في ضميره وصدق ورع نيته حتى أجعل نومه عملا وصمته ذكرا. وقال: من أتى الناس بما يحبون وبارز الله بما يكره لقي الله وهو عليه غضبان آسف. وقال: إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه أمركم، ويكره لكم قالا وقيلا، ويكره السؤال وإضاعة المال. وقال: يقول ابن آدم مالي ! مالي ! وليس لك من مالك إلا ما أكلت


1 بياض في الاصل. (*)

[ 91 ]

فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت. وقال: الدنيا حلوة خضرة، والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون. وقال: إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا الموطوؤن أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون. وقال له رجل: أوصني يا رسول الله. فقال: أكثر ذكر الموت يسلك عن الدنيا، وعليك بالشكر تزد في النعمة، وأكثر الدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وإياك والبغي فإن الله، عزوجل، قضى أن ينصر من بغي عليه، وإياك والمكر فإن الله قضى ألا يحيق المكر السئ إلا بأهله. وقيل له: أي الاعمال أفضل ؟ فقال: اجتناب المحارم وألا يزال لسانك رطبا من ذكر الله، عزوجل، قيل: فأي الاصحاب أفضل ؟ قال: الذي إذا نسيت ذكرك وإذا دعوت أعانك. قيل: أي الناس شر ؟ قال: العلماء إذا فسدوا. وقال: إذا ساد القبيل فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل الذي اتقي شره فانتظروا البلاء. وقال: من ذب عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقيقا على الله، عز وجل، أن يحرم لحمه على النار. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت، أنت تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت تريد لنفسك ما تريد، وبقوتي أديت فريضتي، وبنعمتي قويت على معصيتي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني بذلك، وإني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. وقال: إن الله فرض على الاغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاع الفقراء كان حقيقا على الله أن يحاسب أغنياء هم ويكبهم في نار جهنم على وجوههم. وقال: يقول الله، عزوجل: إني لم أغن الغني لكرامة به علي، ولكنه


[ 92 ]

مما ابتليت به الاغنياء، ولولا الفقراء لم يستوجب الاغنياء الجنة. وقال: أربع من أتى الله، عزوجل، بواحدة منهن وجبت له الجنة: من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا جائعة أو كسا جلدة عارية أو أعتق رقبة عانية. وقال: كل عين ساهرة يوم القيامة إلا ثلاث عيون: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله. وقال: يقول الله، عزوجل: عبدي إذا صليت ما افترضت عليك فأنت أعبد الناس، فإذا قنعت بما رزقتك فأنت أغنى الناس. وجمع بني عبد المطلب فقال: يا بني عبد المطلب افشوا الاسلام وصلوا الارحام وتهجدوا والناس نيام وأطعموا الطعام وأطيبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام. وقال: أربعة من كنوز البر: كتمان الحاجة وكتمان الصدقة وكتمان الوجع وكتمان المصيبة. وقال: أقربكم مني غدا في الموقف أصدقكم في الحديث وآداكم للامانة أوفاكم بالعهد وأحسنكم خلقا وأقربكم من الناس. وقال: الابقاء على العمل أشد من العمل، إن الرجل ليعمل في السر فلا يزال به الشيطان حتى يحدث به أو يظهره فيسبح في العلانية فيكتب في الرياء. وقال: إن علامة النفاق جمود العبرة وقساوة القلب والاصرار على الذنب والحرص على الدنيا. وقال: السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار. وقال: العبد إذا استوت سريرته وعلانيته، قال الله، عزوجل: عبدي حقا. وقال: المؤمن من خلط حلمه بعلمه، ينطق ليفهم، ويجلس ليعلم، ويصمت


[ 93 ]

ليسلم، ويحدث أمانته الاصدقاء، ويكتم شهادته الاعداء، ولا يعمل شيئا من الحق رياء ولا يتركه حياء حتى إذا زكا خاف ما يقولون فاستغفر مما لا يعلمون، والمنافق لا يعبره قول من ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، إذا قام إلى الصلاة… 1 وإذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس سعد، يمسي وهمه الطعام وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، إن حدثك كذبك وإن وعدك أخلفك، وإن ائتمنته خانك وإن حالفك اغتابك. وقال: من أجهد نفسه لدنياه ضر بآخرته، ومن اجتهد لآخرته كفاه الله ما همه. وقال: من رأى موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال: إياكم وجدال المفتين، فإن كل مفت ملقن حجته إلى انقضاء مدته فإذا انقضت أحرقته فتنته بالنار. وقال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية لله، عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه. وقال: الحياء من الايمان والايمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار، والله، عزوجل، يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف، وإن الله يبغض البذي السائل الملحف. إن أسرع الخير ثوابا البر وأسرع الشر عقوبة البغي. وقال: ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الاحبة الباغون للبراء العيب، ومن كف عن أعراض الناس أقاله الله نفسه، ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذابه يوم القيامة. وقال: بئس العبد عبدا ذا الوجهين وذا اللسانين يطري أخاه في وجهه ويأكله غائبا عنه، إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله. وقال: إن الله حرم الجنة على المنان والنمام ومدمن الخمرة.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 94 ]

وقال لعلي بن أبي طالب: عليك بالصدق فلا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والورع فلا تجترئ على خيانة أبدا، والخوف من الله كأنك تراه، والبكاء من خشية الله يبن لك بكل دمعة بيتا في الجنة، والاخذ بسنتي. وقال: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من وعظ به غيره، وأكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وشر الرواية الكذب، وشر الامور محدثاتها، وشر العماء عماء القلب، وشر الندامة يوم القيامة، وأعظم الخطاء عند الله لسان كذاب، وشر المأكل أكل مال اليتيم ظلما، وأحسن زينة الرجل هدى حسن مع إيمان، وأملك أمر يديه قوله وخواتمه، من يتبع السمعة يسمع الله به، ومن ينوي الدنيا تعجز عنه، ومن يعرف الله يصير إليه، ولا تسخطوا الله برضى أحد، ولا تنفروا إلى أحد من الخلق بما يباعد من الله. وقال: لا تستصغروا قليل الحسنات فإنه لا يصغر ما ينفع يوم القيامة، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف، وسارعوا إلى طاعة الله واصدقوا الحديث وأدوا الامانة فإنما ذلك لكم، ولا تظلموا ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم فإنما ذلك عليكم. وقال: إذا كثر الربا كثر موت الفجاءة، وإذا طفف المكيال أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الارض من زكاتها، وإذا جاروا في الاحكام وتعاونوا وخانوا العهود سلط عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الارحام جعلت الاموال في أيدي الاشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتبعوا الاخيار سلط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم. وقال: أصل المرء قلبه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، والناس في آدم شرع سواء. وقال: إن الله خص أولياءه بمكارم الاخلاق فامتحنوا أنفسكم فإن كانت فيكم فاحمدوا الله وإلا فارغبوا إليه. قيل له: وما هي ؟ قال: اليقين


[ 95 ]

والقنوع والصبر والشكر والعقل والمروة والحلم والسخاء والشجاعة. وقال: ثلاث لا يموت صاحبهن حتى يرى ما يكره: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم، وإن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون، وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تترك الديار بلاقع وتقطع السبل، ومن صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زاد الله في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته زاد الله في عمره. وقال: ثلاث لم يجعل الله لاحد فيها رخصة: بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، ووفاء العهد للبر والفاجر، وأداء الامانة إلى البر والفاجر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره وليكرم ضيفه وليقل خيرا وليشكر. وقال: المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يحزنه ولا يغتابه ولا يحسده ولا يبغي عليه، فإن إبليس يقول لجنوده: ألقوا بينهم البغي والحسد فإنه يعدل عند الله الشرك. وقال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإياكم وما تعتذرون منه فإن المؤمن لا يسئ ويعتذر وإن المنافق يسئ كل يوم فلا يعتذر، وللغيبة أسرع في دين المسلم من الاكلة في جوفه. إن أهل الارض مرحومون ما تحابوا وأدوا الامانة وعملوا بالحق. وقال: يقول الله عزوجل: ابن آدم أنا الحي لا أموت، فأطعني أجعلك حيا لا تموت وأنا على كل شئ قدير، ابن آدم صل رحمك أفك عنك عسرك وأيسرك ليسرك. وقال: من أصبح وهو على الدنيا حزين أصبح على الله ساخطا، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه، ومن أتى ذا ميسرة فخشع له لينال من دنياه ذهب ثلثا دينه، ومن تمنى شيئا هو لله رضى لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه. وقال: يقول الله، عزوجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملا قلبك غنى ولا


[ 96 ]

أكلك في طلب معاشك إلى طلبك، وعلي أن أسد فاقتك وأملا قلبك خوفا مني، وإلا تفرغ لعبادتي أملاه شغلا بالدنيا ثم أسدها عنك وأكلك إلى طلبك. وقال: لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، فمن سألكم بالله فأعطوه ومن استعاذكم بالله فأعيذوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن اصطنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تكافئوه فاشكروه. وقال: من حق جلال الله على العباد إجلال الامام المقسط وذي الشيبة في الاسلام وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه. أربع من فعلهن فقد خرج من الاسلام: من رفع لواء ضلالة، ومن أعان ظالما أو سار معه أو مشى معه وهو يعلم أنه ظالم، ومن احترم بذمة، ورجلان لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: أمير ظلوم ورجل غال في الدين مارق منه، والامير العادل لا ترد دعوته. وقال: لا يشغلنك طلب دنياك عن طلب دينك، فإن طالب الدنيا ربما أدرك فهلك بما أدرك وربما فاته فهلك بما فاته. الاكثرون في الدنيا هم الاقلون في الآخرة إلا من قال: هكذا، وهكذا، وحثا بيده. وما أعطي أحد من الدنيا شيئا إلا كان أنقص من حقه في الآخرة حتى سليمان بن داود فإنه آخر من يدخل الجنة من الانبياء لما أعطي من الدنيا. ورأس كل خطيئة حب الدنيا. وقال: جاء الموت بما فيه الراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لاهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه الشقوة والندامة والكرة الخاسرة إلى نار حامية لاهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم. وقال: أفضل ما توسل به المتوسلون الايمان بالله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة، وتمام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها مثراة في المال منسأة في الاجل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان. ألا فاصدقوا فإن الصادق على شفا منجاه وكرامته، وإن الكاذب على شفا


[ 97 ]

مخزاه ومهلكه. ألا وقولوا خيرا تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الامانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من جهل عليكم. وقال: من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر فيها ولم يرزق الصبر عليها، فحسب المؤمن عزاء إذا رأى المنكر أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وقال: إن لله عبادا من خلقه يخصهم بنعمه يقرهم فيها ما بذلوها فإذا منعوها نقلها منهم وحولها إلى غيرهم. وقال: ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤونة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرض النعمة للزوال. وقال لبني سلمة: من سيدكم اليوم يا بني سلمة ؟ قالوا: الجد بن قيس، يا رسول. الله. قال: فكيف حاله فيكم ؟ قالوا: من رجل نبخله. قال: وأي داء أدوأ من البخل ! لا سؤدد لبخيل بل سيدكم الابيض الجعد عمرو بن الجموح. أو قال، قال: قيس بن البراء. وقال لوافد وفد عليه واطلع منه على كذبة: لولا سخاء فيك ومعك الله تشرب بلبن وافد. وقال: خلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق. وقال: تجافوا عن زلة السخي فإن الله، عزوجل، يأخذ بناصيته كلما عثر. وقال: الجنة دار الاسخياء. وقال: الشاب الجواد الزاهد هو أحب إلى الله من الشيخ البخيل العابد. وقال: إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الاخلاق ويبغض سفسافها. وقال: إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم فهم الآمنون يوم القيامة. وقال: أحسنوا مجاورة نعم الله ولا تملوها ولا تنفروها فإنها قلما نفرت من قوم فرجعت إليهم.


[ 98 ]

وقال: الحوائج إلى الله، وأسبابها إلى الناس، فاطلبوها إلى الله بهم، فمن أعطاكموها فخذوها عن الله بشكر، ومن منعكموها فخذوها عن الله بصبر. وقال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق. وقال: رأس العقل بعد الايمان مداراة الناس، فإن عرض بلاء فقدم مالك قبل نفسك ودينك، فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك، واعلم أن المحروب من حرب دينه. وقال: إن لكل شئ شرفا، وإن أشرف المنازل ما استقبل به القبلة. من أحب أن يكون أعز الناس فليثق بالله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. ثم قال: ألا أنبئكم بشرار الناس ؟ من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده. ألا أنبئكم بشر من ذلك ؟ من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ألا أنبئكم بشر من ذلك ؟ من يبغض الناس ويبغضونه. وقيل له: ما أفضل ما أعطي العبد ؟ قال: نحيزة من عقل يولد معه. قالوا: فإذا أخطأه ذلك ؟ قال: فليتعلم عقلا. قالوا: فإن أخطأه ذلك ؟ قال: فليتخذ صاحبا في الله غير حسود. قالوا: فإن أخطأه ذلك ؟ قال: عليه بالصمت. قالوا: فإن أخطأه ذلك ؟ قال: فميتة قاضية. وقال لرجل من ثقيف: ما المروة فيكم ؟ فقال: الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وسخاء النفس وحسن الخلق. فقال: كذلك هي فينا. وقال: من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه، إن الله عند لسان كل قائل فلينظر قائل ما يقول. وقال: ما أتاني جبريل إلا ووعظني، وقال في آخر قوله: إياك والمشازرة فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز. وسأله رجل، فقال له: ما عندي شئ. وقال له: عدني. فقال: إني


[ 99 ]

لاستعمل الرجل وغيره أن يكون أنفض عينا وأمثل رجلة وأشد مكيدة، وإني لا أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه أعطيه تألفا. وقال: من لم يحمد عدلا ويذم جورا فقد بارز الله بالمحاربة. وقال: أشرف الاعمال ثلاثة: ذكر الله، عزوجل، على كل حال، وإنصاف الناس من نفسك، ومواساة الاخوان. وقال: موت البنات من المكرمات. وقال: الصبر عند الله ضد الغيرة ولا يكمله أحد، وعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإذا أحب الله عبدا ابتلاه. وقال: إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا. وقال: كل معروف صدقة وما وقي به اللسان صدقة، فقيل لمحمد بن المنكدر: وما ذاك ؟ قال: إعطاء الشاعر وذي اللسان. وقال: ما من ذنب إلا وله عند الله التوبة إلا سوء الخلق إنه لا يخرج من شئ إلا وقع في شر منه. وقال: إياك ومهلك، فإن ذا مهل قتل أخاه ونفسه وسلطانه. وأتاه رجل فقال له: ألك مأكل ؟ قال: نعم من أكل المال. فقال: إذا الله أنعم عليك بنعمته فليثن عليك. وقال: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله، إني لاحب أن تكون دابتي فارهة وثيابي جيادا، حتى ذكر شراك فعله وعلاقة سواطه، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فإنما الكبر أن يمنع الحق ويغمض الباطل. وسأل سائل رسول الله فقال: ما أصبح في بيت آل محمد غير صاع من طعام وإنهم لاهل تسعة أبيات فهل لهم عنه غنى ؟ ولم يرد سائلا قط. وإنه كان يعالج حظاء من جريد، فمر به رجل فقال: اكفيكه يا رسول الله ؟ فقال: شأنك. فلما فرغ منه قال له: ألك حاجة ؟ قال: نعم تضمن لي على الله الجنة.


[ 100 ]

فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: ذلك لك. فلما ولى ناداه: يا عبد الله أعني بطول السجود. وخطب على ناقته فقال: يا أيها الناس كأن الموت على غيرنا كتب، وكأن الحق على غيرنا وجب، وكأن الذين يشيعون من الاموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال قد اكتسبه من غير معصية ورحم وصاحب أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة. طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم يبعدها إلى البدعة. وقال: وعظني جبريل فقال لي: أحبب من شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه. وقال: من طلب الرزق من حله فليبذر على الله. وقال: استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا. وقال: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا صمت إلا من غدوة إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا يمين لامرأة مع زوجها، ولا يمين لولد مع والده، ولا يمين للمملوك مع سيده، ولا تغرب بعد الهجرة، ولا يمين في قطيعة رحم، ولا نذر في معصية. ولو أن أعرابيا حج عشر حجج ثم هاجر كان فريضة الاسلام عليه إذا استطاع إليه سبيلا، ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم عتق كان فريضة الاسلام عليه إن استطاع إليه سبيلا. وقال: أعظم الذنوب عند الله أصغرها عند العباد، وأصغر الذنوب عند الله أعظمها عند العباد. وقال: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، والناس سواء كأسنان المشط، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى


[ 101 ]

له، واليد العليا خير من اليد السفلى، والمسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، والمستشار مؤتمن، ولن يهلك امرؤ عرف قدره، ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم. وذكر الخيل فقال: معقود في نواصيها الخير، وبطونها كنز وظهورها حرز، وأجرى الخيل فجاء فرس له أدهم سابقا فجثا على ركبتيه ثم قال: ما هو إلا البحر. وقال: يحمل هذا العلم من كل حلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وقال: إن الله، عزوجل، يقول: ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناسع وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية إياى يغرون أم علي يجترئون فإني حلفت لاتيحنهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. وروي عنه أنه قال: كان تحت الجدار الذي ذكره الله، عزوجل، في كتابه كنز لهما، كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. عجبا لمن يوقن بالموت كيف يفرح. عجبا لمن يوقن بالقدر كيف يحزن. عجبا لمن يوقن بالنار كيف يضحك. عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله ومحمد رسول الله. وقال: للطاعم الشاكر أجر الجائع الصابر، ولان يعافى أحدكم فيشكر خبر له من أن يبيت قائما ويصبح صائما معجبا. وقال: لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه. قيل: يا رسول الله فكيف تذل ؟ قال: بعرضها لما لا تطيق من البلاء. وقال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. ووجد في كتاب عند أسماء بنت عميس من كلام رسول الله: الآجلات الجانيات المعقبات رشدا باقيا خير من العاجلات العابدات المعقبات غيا باقيا. المسلم عفيف من المظالم عفيف من المحارم. بئس العبد عبد هواه يضله، بئس


[ 102 ]

العبد عبد رغب إليه بذلة، بئس العبد عبد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا. وقال: أربع من قواصم الظهر: إمام تطيعه ويضلك، وزوجة تأمنها وتخونك، وجار سوء إن علم سوءا أذاعه وإن علم خيرا ستره، وفقير إذا نحل لم يجد صاحبه. وقال: ما من عبد إلا وفي علمه وحلمه نقص، ألا ترون أن رزقه يجري بالزيادة فيظل مسرورا مغتبطا وهذان الليل والنهار بجريان بنقص عمره لا يحزنه ذلك ولا يحتفل به ضل ضلاله، ما أغنى عنه رزق يزيد وعمر ينقص. وقال: إن بني إسرائيل أذهبوا خشية الله من قلوبهم فحضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، وإن الله لا يقبل من عبد لا يحضر من قلبه ما يحضر من بدنه. وقال: من ازداد علما ثم لم يزدد زهدا لم يزدد من الله إلا بعدا. من أعان إماما جائرا ولم يخطئه لم يفارق قدمه قدمه بين يدي الله حتى يأمر به إلى النار. وأتاه رجل من بني قشير يقال له قرة بن هبيرة فقال: يا رسول الله كانت لنا أرباب وربات فهدانا الله بك. فقال: أكثر أهل الجنة البله وأهل عليين ذوو الالباب. وقال: الائمة من قريش لكم عليهم حق، ولهم عليكم حق ما حكموا فعدلوا واسترحموا فرحموا وعاهدوا فوفوا. ووقف على بيت فيه جماعة من قريش فقال: إنكم ستولون هذا الامر ومن وليه منكم فاسترحم فلم يرحم وحكم فلم يعدل وعاهد فلم يف فعليه لعنة الله. وقال: الدين النصيحة، الدين النصيحة ! قيل: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولائمة الحق. وقال بالخيف من منى: نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها حتى يبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل وصحة الورع والنصيحة لولاة الامر.


[ 103 ]

وقال: للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ست: يسلم عليه إذا لقيه وينصح له إذا غاب عنه ويعوده إذا مرض ويشيع جنازته إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس. وقال: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله كيف ننصره ظالما ؟ قال: بكفه عن الظلم. وقال: إذا مات الانسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. وقال: ثلاثة لا يرد لهم دعوة: المظلوم وإمام عادل والصائم حتى يفطر. وقال: ثلاث يتبعن ابن آدم بعد موته: سنة سنها في المسلمين فعمل بها فله أجرها وأجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شئ، وصدقة تصدق بها من مال أو ثمر فما جرت تلك الصدقة فهي له، ورجل ترك ذرية يدعون له. وقال في خطبته: شر الامور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ولكل شئ آفة وآفة هذا الرأي الهوى. وقال: اكفلوا لي ستا أكفل لكم الجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا. كفوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم وصونوا فروجكم. وقال: يقول الله، عزوجل: لا يزال عبدي يصدق حتى يكتب صديقا ولا يزال عبدي يكذب حتى يكتب كذابا. وقال: ويل للذي يتحدث بالكذب ليضحك به القوم، ويل له وويل له. وروي أنه قال: عليكم بالصدق وإن ظننتم فيه الهلكة فإن عاقبته النجاة، وإياكم والكذب وإن ظننتم فيه النجاة فإن عاقبته الهلكة. وقال: من خلف على مال أخيه ظالما فليتبوأ مقعده من النار. فقال رجل: وإن كان يسيرا يا رسول الله ؟ فقال: ولو كان قضيبا من أراك. ومن اقتطع حق امرئ مؤمن بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة.


[ 104 ]

وكان أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، وقال: والذي نفسي بيده لو كان لي مثل شجر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لم تجدوني كذوبا ولا جبانا ولا بخيلا. وقال له رجل: يارسول الله أعطني رداءك. فألقاه إليه. فقال: ما أريده. فقال: قاتلك الله ! أردت أن تبخلني ولم يجعلني الله بخيلا. وقال: خياركم من يرجى خيره ولا يتقى شره، وشراركم من يتقى شره ولا يرجى خيره، فإن الله أكرمكم بالاسلام فزينوه بالسخاء وحسن الخلق. وقال: الخير أسرع إلى البيت الذي يعشى من الشفرة إلى سنام البعير. وقال: إياكم والشح ! فإنما أهلك من كان قبلكم، الشح ! أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا. اللؤم كفر والكفر في النار. قال الله، عزوجل: ” ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. ” وقال: رأس العقل بعد الايمان مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولا أهل المعروف. وقال: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحي الشئ عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تلقاه ووجهك إليه منطلق، وأن رجلا سبك بأمر يعلمه فيك تعلم فيه نحوه فلا تسبه ليكون لك أجر ذلك ويكون عليه وزره. وقال: إن الله جعل للمعروف وجوها من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما ييسر الغيث إلى الارض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله جعل للمعروف أعداء


[ 105 ]

من خلقه بغض إليهم المعروف وبغض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف الطلب وحظر عليهم إعطاءه كما يحظر الغيث عن الارض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها أو يعفو الله عنه أكثره. وقال: الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله أحسن الناس إلى عياله. وسأله رجل فقال: أي الناس أحب إلى الله ؟ قال: أنفع الناس للناس. قال: فأي الاعمال أحب إلى الله ؟ قال: إدخال سرور على مسلم، إطعام جوعته وكساء عورته وقضاء دينه. وقال: إن الله، عزوجل، ينصب للغادر لواء يوم القيامة فيقال ألا إن هذا لواء فلان. وقال له بعضهم: أخبرنا بخصال يعرف المنافق بها. فقال: من حلف فكذب ووعد فأخلف وخاصم ففجر واؤتمن فخان وعاهد فغدر. وقال: إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى إنه يقول له: فما منعك إن رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبده حجته قال: يا رب إني وثقت بك وخفت من الناس. وقال: من أعطي عطاء فوجد فليجزه، فإن لم يجزه فليثن به، ومن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره. وقال له قوم من المهاجرين: يا رسول الله إن إخواننا من الانصار واسونا وبذلوا لنا وقد خشينا أن يذهبوا بالاجر كله. فقال: إلا ما أثنيتم به عليهم ودعوتم الله لهم. وقال: والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد شيئا بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة. وقال: الهدية تذهب السخيمة وتجدد الاخوة وتثبت المودة. وقال: لو أهدي إلي كراع لقبلته، ولو دعيت إليه لاجبت. وقال: ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته، وصدقة


[ 106 ]

المؤمن ظله أو ظله من صدقته. وروي عنه أنه قال: ما من الاعمال شئ أحب إلي من ثلاثة: إشباع جوعة المسلم وقضاء دينه وتنفيس كربته. من نفس عن مؤمن كربته نفس الله عنه كرب يوم القيامة، والله في عون عبده ما كان العبد في عون أخيه. وقال: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع ولذي عسر مفظع ولذي دم مفجع. وقال: من سأل وله أوقية، والاوقية أربعون درهما، فقد سأل الناس إلحافا. وسأله رجلان، وهو يقسم مغانم خيبر، فقال: لا حظ لغني ولا لقوي مكتسب. وقال: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي. وقال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قيل: يا رسول الله ما يغنيه ؟ قال: لغدائه أو لعشائه. وقيل له: يا رسول الله ما الغناء ؟ قال: غداء وعشاء. وقال: من سأل عن ظهر غنى جاء يوم القيامة بوجهه كدوح يعرف بها. قالوا: يارسول الله ما ظهر غنى ؟ قال: قوت ليلة أو قوت يوم. وسأله حكيم بن حزام فأعطاه فقال: إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بطيب نفس بشير بورك له فيه ومن أخذه بإشراف لم يبارك له فيه فكان كآكل يأكل ولا يشبع. وسأله الانصار، فلم يسألوه شيئا إلا أعطاهم حتى أنفدوا ما عنده، ثم قال: أما بعد يا معشر الانصار ما يكن عندنا من خير فلن أؤخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يصبر يصبره الله ولن يعطى عبد أفضل ولا أوسع من الصبر. وقال: من يضمن لي خلة أضمن له الجنة. فقيل: ما هي يا رسول الله ؟


[ 107 ]

قال: ألا تسأل أحدا شيئا. وقال لابي ذر: يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد حتى لا تستطيع أن تنهض من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تتعفف. وقال: لا يفتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. وقال: الايدي ثلاث: فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال ما استطعت. وقال لبعضهم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه فتموله أو تصدق به. وقال: لا صدقة إلا عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف. وقال: المسألة خروج في وجه الرجل يوم القيامة إلا أن يسأل سلطانه أو من لابد منه. وقيل له: أي الصدقة أفضل ؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا. وقال: من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهو له صدقة، ومن سره الانساء في الاجل والمد في الرزق فليصل رحمه. وقال: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. وأتاه رجل فقال: من أبر ؟ قال: أمك وأباك وأخاك وأختك وأدناك أدناك. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى: من وقر أباه أطلت في أيامه ومن وقر أمه رأى لبنيه بنين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور.


[ 108 ]

وقال من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة. وقال: أربع من سنن المرسلين: الحياء والنكاح والحلم والسواك. وقال: قال الله، سبحانه وتعالى: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لاولين عليكم شراركم ولاجعلن أموالكم في أيدي بخلائكم ولامنعنكم قطر السماء ثم ليدعوني خياركم فلا أستجيب لهم، ويسترحموني فلا أرحمهم، ويستسقوني فلا أسقيهم. وقال: أربع من كن فيه كمل إسلامه، وإن كان ما بين قرنه إلى قدمه خطأ: الامر بالمعروف، والحياء، والشكر، وحسن الخلق. وأربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة: إيواء اليتيم، ورحمة… 1، ورفق بمملوكه، وشفق على والديه. وقال: التودد إلى الناس نصف الايمان، والرفق نصف العيش، وما عال امرؤ وفى اقتصاده.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 109 ]

حجة الوداع وحج رسول الله حجة الوداع سنة 10، وهي حجة الاسلام. خرج رسول الله من المدينة، حتى أتى ذا الحليفة وقد لبس ثوبين صحاريين إزارا ورداء. وقيل: خرج من المدينة وقد لبس الثوبين ودخل المسجد بذي الحليفة وصلى ركعتين وكان نساؤه جميعا معه، ثم خرج من المسجد فأشعر بدنه من الجانب الايمن ثم ركب ناقته القصوى فلما استوت به على البيداء أهل بالحج. وقال الواقدي عن الزهري عن سالم عن أبيه وعن الزهري في إسناد له عن سعد بن أبي وقاص قالا: أهل رسول الله متمتعا بالعمرة إلى الحج، وقال بعضهم بالحج مفردا. وقال بعضهم بحجة وعمرة. ودخل مكة نهارا من كداء، وهي عقبة المدنيين، على راحلته حتى انتهى إلى البيت. فلما رأى البيت رفع يديه فوق زمام ناقته وبدأ بالطواف قبل الصلاة. وخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ويوم عرفة، حين زالت الشمس، على راحلته قبل الصلاة من غد يوم منى. فقال في خطبته: نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فوعاها وحفظها ثم بلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة الحق، واللزوم لجماعة المؤمنين، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. ودعا بالبدن فصفت بين يديه وكانت مائة بدنة، فنحر منها بيده ستين بدنة، وقيل أربعا وستين، وأعطى عليا سائرها، فنحرها وأخذ من كل ناقة بضعة، فجمعت في قدر واحدة فطبخت بالماء والملح، ثم أكل هو وعلي، وحسا من المرق، ورمى جمرة العقبة على ناقته، ووقف عند زمزم وأمر ربيعة بن أمية بن خلف فوقف تحت صدر


[ 110 ]

راحلته، وكان صبيا، فقال: يا ربيعة ! قل يا أيها الناس إن رسول الله يقول: لعلكم لا تلقونني على مثل ما لي هذه وعليكم هذا. هل تدرون أي بلد هذا ؟ وهل تدرون أي شهر هذا ؟ وهل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال الناس: نعم ! هذا البلد الحرام والشهر الحرام واليوم الحرام. قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وكحرمة يومكم هذا. ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. ثم قال: واتقوا الله ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الارض مفسدين. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها. ثم قال: الناس في الاسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء لا فضل عربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا، ولكم هكذا، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول دم أضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان آدم بن ربيعة مسترضعا في هذيل، فقتله بنو سعد بن بكر، وقيل في بني ليث، فقتلته هذيل، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله منها أربعة حرم: رجب الذي بين جمادى وشعبان يدعونه مضر، وثلاثة متوالية: ذوالقعدة وذو الحجة والمحرم، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد.


[ 111 ]

ثم قال: أوصيكم بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم لا يملكن لانفسهن شيئا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق كسوتهن ورزقهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يوطئن فراشكم أحدا، ولا يأذن في بيوتكم إلا بعلمكم وإذنكم، فإن فعلن شيئا من ذلك فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: فأوصيكم بمن ملكت أيمانكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، وإن أذنبوا فكلوا عقوباتهم إلى شراركم، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يغشه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شئ من ماله إلا بطيبة نفسه، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بعد اليوم، ولكن يطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون، فقد رضي به، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: أعدى الاعداء على الله قاتل غير قاتله وضارب غير ضاربه، ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد، ومن انتمى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: ألا إني إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وإني رسول الله، وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق، وحسابهم على الله، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل


[ 112 ]

بيتي. ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم ! قال: اللهم اشهد. ثم قال: إنكم مسؤولون فليبلغ الشاهد منكم الغائب. ولم ينزل مكة، وقيل له في ذلك: لو نزلت يا رسول الله بعض منازلك ؟ فقال: ما كنت لانزل بلدا أخرجت منه. ولما كان يوم النفر دخل البيت، فودع ونزل عليه: ” اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا. ” وخرج ليلا منصرفا إلى المدينة، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدير خم، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، وقام خطيبا وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله ! قال: فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثم قال: أيها الناس أني فرطكم وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم، حين تردون علي، عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما. وقالوا: وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال: الثقل الاكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي.


[ 113 ]

الوفاة ولما قدم المدينة أقام أياما وعقد لاسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والانصار، وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه من أرض الشأم، وروي عن أسامة أنه قال: أمرني رسول الله أن اغز يبنى من أرض فلسطين صباحا ثم احرق. وروى آخرون أن رسول الله أمره أن يوطئ الخيل أرض البلقاء، وكان في الجيش أبو بكر وعمر، وتكلم قوم وقالوا: حدث السن، وابن سبع عشرة سنة ! فقال: لئن طعنتم عليه، فقبله طعنتم على أبيه، وإن كانا لخليقين للامارة. واشتكى رسول الله قبل أن ينفذ الجيش، وكان أسامة مقيما بالجرف، فلما اشتدت عليه قال: انفذوا جيش أسامة ! فقالها مرارا، واعتل أربعة عشر يوما، وتوفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، ومن شهور العجم آذار، وكان قران العقرب. قال، ما شاء الله، المنجم: كان طالع السنة التي توفي فيها رسول الله، وهو القران الرابع من مولده، الجدي ثماني عشرة درجة، والزهرة في…. 1. سبع عشرة درجة، والشمس في الحمل دقيقة، والقمر في الحمل درجتين وثلاثين دقيقة، وعطارد…. 2 إحدى عشرة درجة وثلاث عشرة دقيقة، والمشتري في الميزان ثلاثا وعشرين درجة وأربع دقائق راجعا، والمريخ في الجدي خمس دقائق. وقال الخوارزمي: كانت الشمس يوم توفي رسول الله في الجوزاء ست درجات، والقمر في الجوزاء ثلاثا وعشرين، وزحل في القوس تسعا وعشرين درجة، والمريخ في الحوت إحدى عشرة درجة، والزهرة في السرطان ثماني عشرة درجة، وعطارد في الجوزاء ثمانيا وعشرين درجة، والرأس في الجدي خمسا


1 و 2 بياض في الاصل. (*)

[ 114 ]

وعشرين درجة، وكان سنة ثلاثا وستين سنة، وغسله علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب وأسامة بن زيد يناولان الماء، وسمعوا صوتا من البيت، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص، فقال: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، انه حميد مجيد، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت، ويطهركم تطهيرا، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا أذى كثيرا، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور، إن في الله خلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، عظم الله أجوركم، والسلام ورحمة الله. فقيل لجعفر بن محمد: من كنتم ترونه ؟ فقال: جبريل ! وكفن في ثوبين صحاريين وبرد حبرة، ونزل قبره علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وقيل الفضل بن العباس وشقران مولى رسول الله، ونادت الانصار: اجعلوا لنا في رسول الله نصيبا في وفاته كما كان لنا في حياته ! فقال علي: ينزل رجل منكم. فأنزلوا أوس بن خولي أحد بني الحبلى، وكان حفر قبره أبو طلحة بن سهل الانصاري، ولم يكن بالمدينة من يحفر غيره وغير أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق ويحفر وسطا وأبو طلحة يلحد، فقيل انهما سابقا حفرا، فسبق أبو طلحة بالحفر، وصلي عليه أياما، والناس يأتون ويصلون أرسالا، ودفن ليلة الاربعاء في بعض الليل، وطرحت تحته قطعة رحله وكانت من ارجوان، وربع قبره ولم يسنم، ولما توفي قال الناس: ما كنا نظن أن رسول الله يموت حتى يظهر على الارض، وخرج عمر فقال: والله ما مات رسول الله ولا يموت، وإنما تغيب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ثم يعود، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم. وقال أبو بكر: بل قد نعاه الله إلينا فقال: انك ميت، وانهم ميتون. فقال عمر: والله لكأني ما قرأتها


[ 115 ]

قط. ثم قال: لعمري لقد أيقنت أنك ميت * ولكنما أبدى الذي قلته الجزع ولم يخلف من الولد إلا فاطمة، وتوفيت بعده بأربعين ليلة، وقال قوم بسبعين ليلة، وقال آخرون ثلاثين ليلة، وقال آخرون ستة أشهر، وأوصت عليا زوجها أن يغسلها، فغسلها وأعانته أسماء بنت عميس، وكانت تخدمها وتقوم عليها، وقالت: ألا ترين إلى ما بلغت ؟ أفأحمل على سرير ظاهرا ؟ قالت: لا لعمري، يا بنت رسول الله، ولكني أصنع لك شيئا كما رأيته يصنع بالحبشة. قالت: فأرينيه ! فأرسلت إلى جرائد رطبة فقطعتها، ثم جعلتها على السرير نعشا، وهو أول ما كانت النعوش، فتبسمت، وما رئيت متبسمة إلا يومئذ، ودفنت ليلا، ولم يحضرها أحد إلا سلمان وأبو ذر، وقيل عمار. وكان بعض نساء رسول الله أتينها في مرضها فقلن: يا بنت رسول الله ! صيري لنا في حضور غسلك حظا ! قالت: اتردن تقلن في كما قلتن في أمي ؟ لا حاجة لي في حضوركن. ودخل إليها في مرضها نساء رسول الله وغيرهن من نساء قريش فقلن: كيف أنت ؟ قالت: أجدني والله كارهة لدنياكم، مسرورة لفراقكم، ألقى الله ورسوله بحسرات منكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت مني الذمة، ولا قبلت الوصية، ولا عرفت الحرمة، وكان سنها ثلاثا وعشرين سنة.


[ 116 ]

صفة رسول الله وكان رسول الله فخما مفخما، ظاهر الوضاءة، مبتلج الوجه، حسن الخلق، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيما، قسيما، لم يماشه أحد من الناس إلا طاله، وإن كان المماشي له طويلا، عظيم الهامة، رجل الشعر إن تفرقت عقيقته انفرقت فرقا، لا يجاوز شعره شحمة أذنه، أزهر اللون، مشربا حمرة، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثافة، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن وفي رأسه في فودي رأسه، سهل الخدين، ضليع الفم، حلو المنطق لا نزر ولا هدر، دقيق المسربة، معتدل الخلق، عريض الصدر والكتف، بعيد ما بين المنكبين، واسع الظهر، غير ما تحت الازرار من الفخذ والساق، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري ما سوى ذلك من الشعر، أشعر الذراعين والمنكبين واعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحتين، شثن الكفين والقدمين، شائل الاطراف، خمصان الاخمصين، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب أو يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت معا خافض الطرف، نظره إلى الارض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدأ من لقي بالسلام، وكان جل جلوسه القرفصى، وكان يأكل على الارض، وكان إذا دعاه رجل فقال: يا رسول الله ! قال: لبيك، وإذا قال: يا أبا القاسم ! قال: يا أبا القاسم، وإذا قال: يا محمد ! قال: يا محمد، وإذا أخذ الرجل بيده لم ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا نازعه رداءه لا يجاذبه حتى يخليه، وإذا سأله سائل حاجة لم يرده إلا بحاجته أو بميسور من القول.


[ 117 ]

المشبهون برسول الله وكان المشبهون برسول الله جعفر بن أبي طالب. قال رسول الله: اشبهت خلقي وخلقي، والحسن بن علي. وكانت فاطمة تقول: بأبي ! شبيه بأبي غير شبيه بعلي، ويقال: إن أبا بكر قال له، وقد لقيه في بعض طرق المدينة: بأبي ! شبيه بالنبي غير شبيه بعلي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأسهد بن العبره 1، وهاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف، ومسلم بن معتب بن أبي لهب.


1 هكذا في الاصل دون نقط. (*)

[ 118 ]

نسبة رسول الله وامهاته إلى إبراهيم والعواتك والفواطم اللاتي ولدنه هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن اد بن أدد بن هميسع بن يشجب بن أمين بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم ابن تارح بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ، وهو ادريس النبي، بن يرد بن مهلائيل ابن قينان بن انوش بن شيث بن آدم، وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبدالدار ابن قصي. وأم عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأم عبد المطلب، وهو شيبة الحمد بن هاشم، سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، واسمه زيد مناة، ويقال: بل اسمه تيم اللات، ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهئة ابن سليم. وأم عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة. وأم قصي، واسمه زيد بن كلاب، فاطمة بنت سعد بن سيل بن عامر


[ 119 ]

الجادر…. 1 من الازد ازد شنوءة، وهم حلفاء بني نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. وأم مرة بن كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن الاسد ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وأم كعب بن لؤي وحشية بنت شيبان. وأم لؤي بن غالب سلمى بنت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن خزاعة. وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعد بن الحارث بن مضاض بن عامر بن دب بن جرهم. وأم مالك بن النضر عاتكة، وهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. وأم النضر بن كنانة برة بنت مر بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر. وأم كنانة بن خزيمة هند بنت قيس بن عيلان. وأم خزيمة بن مدركة سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار. وأم مدركة بن الياس خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة. وأم الياس بن مضر الحنفاء بنت إياد بن نزار بن معد بن عدنان. وأم مضر بن نزار شقيقة بنت عك بن عدنان بن ادد. وأم نزار بن معد ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب بن جرهم.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 120 ]

وأم معد بن عدنان تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان… 1. وأم اد بن ادد العحا 2 بنت عمرو بن تبع بن سعد ذي فائش ابن حمير. وأم ادد بن الهميسع حية بنت قحطان. وأم الهميسع بن يشجب حارثة بنت مراد بن زرعة بن ذي رعين بن حمير. وأم يشجب بن أمين قطامة بنت علي بن جرهم… 3. وأم اسماعيل بن إبراهيم هاجر أمة كانت لسارة أم إسحاق، وهي قبطية، يزعم آخرون أنها رومية. وأم إبراهيم، وهو ابراهيم بن تارح، ادنيا بنت لر 4 بن ارغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ. وروي أن رسول الله كان يكثر أن يقول: أنا ابن العواتك، وربما قال: أنا ابن العواتك من سليم، واللاتي ولدنه من العواتك اثنتا عشرة عاتكة: عشر منهن مضريات، وقحطانية وقضاعية، والمضريات: ثلاث من قريش وثلاث من سليم، وعدوانيتان، وهذلية، وأسدية، فأما القرشيات فولدته، من قبل أسد بن عبد العزى، أم أسد بن عبد العزى الحطيا، وهي ريطة بنت كعب ابن سعد بن تيم بن مرة، وأمها قبلة بنت حذاقة بن جمح، وأمها أميمة بنت عامر بن الحان بن الحارث، وهو غسان بن خزاعة، وأمها عاتكة بنت هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأم هلال بن وهيب عاتكة بنت عتوارة بن الطرب بن الحارث بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر ابن كنانة بن خزيمة. وأما السليميات، فولدته، من قبل هاشم، أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن سليم بن منصور، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت مرة بن عدي بن سليمان بن قصي بن خزاعة، ويقال: هي عاتكة بنت


1 و 3 بياض في الاصل. 2 و 4 هكذا في الاصل دون نقط (*)

[ 121 ]

جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهشة بن سليم. وأما العدوانيتان فولدتاه من قبل أمهات أبيه عبد الله، ومن قبل مالك بن النضر، فأما التي ولدته من قبل عبد الله، فهي السابعة من أمهاتة، ويقال الخامسة، وهي عاتكة بنت عامر بن ظرب بن عمرو بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، ومن قال: هي الخامسة، فيقول عاتكة بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن ظرب بن عمرو، وأما العدوانية الثانية فأم مالك بن النضر بن كنانة، وهي عاتكة بنت عدوان بن عمرو ابن قيس بن عيلان. وأما الهذلية فوالدته من قبل هاشم، وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال، وأمها ماوية بنت حورة بن عمرو بن سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأم معاوية بن بكر بن هوازن عاتكة بنت سعد بن هذيل. وأما الاسدية فوالدته من قبل كلاب بن مرة، وهي الثالثة من أمهاته، وهي عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة. وأما القحطانية فوالدته من غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة، وأمها سلمى بنت طابخة بن الياس بن مضر، وأمها عاتكة بنت الازد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي الثالثة من أمهات النضر بن كنانة. وأما القضاعية فوالدته من قبل كعب بن لؤي، وهي الثالثة من أمهاته، عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.


[ 122 ]

تسمية من ولدنه من الفواطم قال: وأخبرني غير واحد من أهل العلم أنه كان يكثر يوم حنين ويقول: أنا ابن الفواطم، فأخبرني النسابون أنه ولده من الفواطم أربع فواطم: قرشية، وقيسيتان، وأزدية، فأما القرشية، فوالدته من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والقيسيتان أم عمرو بن عائذ بن عمران، وهي فاطمة بنت ربيعة بن عبد العزى بن رزام بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور، والازدية أم قصي بن كلاب، وهي فاطمة بنت سعد بن سيل. وكان عمال رسول الله، لما قبضه الله، على مكة: عتاب بن أسيد بن العاص، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوى التميمي. وبعضهم يقول مكان العلاء: أبان بن سعيد بن العاص، وعلى عمان عباد وجيفر ابنا الجلندا. وقال بعضهم: عمرو بن العاص، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن معاذ بن جبل وأبو موسى عبد الله بن قيس الاشعري يفقهان الناس، وعلى مخاليف الجند وصنعاء المهاجر بن أبي أمية المخزومي، وعلى حضرموت زياد بن لبيد الانصاري، وعلى مخاليف اليمن خالد بن سعيد بن العاص، وعلى ناحية من نواحيها يعلى بن منية التميمي، وعلى نجران فروة ابن مسيك المرادي، وقال بعضهم: أبو سفيان بن حرب، وعلى صدقات أسد وطئ عدي بن حاتم، وعلى صدقات حنظلة مالك بن نويرة الحنطلي، وقال بعضهم: على صدقات بني يربوع، وعلى صدقات بني عمرو وتميم سمرة بن عمرو بن جناب العنبري، وعلى صدقات بني سعد الزبرقان بن بدر، وعلى صدقات مقاعس والبطون قيس بن عاصم.


[ 123 ]

خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر واجتمعت الانصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله… 1 يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، وعصبته بعصابة، وثنت له وسادة. وبلغ أبا بكر وعمر والمهاجرين، فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الانصار ! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه. وقالت الانصار: منا أمير ومنكم أمير ! فقال أبو بكر: منا الامراء وأنتم الوزراء. فقام ثابت بن قيس ابن شماس، وهو خطيب الانصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منكم، وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم اعز الدين به ! وهذا أبو عبيدة بن الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الامة، فبايعوا أيهما شئتم ! فأبيا عليه وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش. ثم نادى أبو عبيدة: يا معشر الانصار ! إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الانصار، إنكم، وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلا لو طلب هذا الامر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 124 ]

فوثب بشير بن سعد من الخزرج، فكان أول من بايعه من الانصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة، وحتى وطئوا سعدا. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعدا. وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب الكعبة. وكان المهاجرون والانصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال: ما كنت أحسب أن الامر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن عن أول الناس إيمانا وسابقة، * وأعلم الناس بالقرآن والسنن وآخر الناس عهدا بالنبي، ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن من فيه ما فيهم لا يمترون به، * وليس في القوم ما فيه من الحسن فبعث إليه علي فنهاه. وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والانصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي ؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الامر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو


[ 125 ]

بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا نبيا وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمورا ليختاروا لانفسهم في مصلحتهم مشفقين، فاختاروني عليهم واليا ولامورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما انفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه المنيع وخطبه البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الامر نصيبا يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك… 1 عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله منا ومنكم. فقال عمر بن الخطاب: إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرها أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لانفسكم. فحمد العباس الله وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا، فمن على أمته به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لانفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضا، ولا حللنا وسطا، ولا برحنا سخطا، وإن كان هذا الامر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك


1 بياض في الاصل. (*)

[ 126 ]

بخليفة رسول الله من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقا للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الامر عليكم غيركم ؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال: بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الامر إلا فيكم وإليكم، * وليس لها إلا أبو حسن علي أبا حسن، فاشدد بها كف حازم، * فإنك بالامر الذي يرتجى ملي وإن امرأ يرمي قصي وراءه * عزيز الحمى، والناس من غالب قصي وكان خالد بن سعيد غائبا، فقدم فأتى عليا فقال: هلم أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم: اغدوا على هذا محلقين الرؤوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر. وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والانصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لاكشفن شعري ولا عجن إلى الله ! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياما. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوما.


[ 127 ]

ايام ابي بكر وكانت بيعة أبي بكر يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة 11، في اليوم الذي توفي فيه رسول الله. واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر، وكان يسمى عتيقا لجماله، وأمه سلمى بنت صخر من بني تيم بن مرة، وكان منزله بالسنح خارج المدينة، وكانت امرأته حبيبة بنت خارجة فيه، وكان له ايضا منزل بالمدينة فيه أسماء بنت عميس، فلما ولي كان منزله المدينة، وأتته فاطمة ابنة رسول الله تطلب ميراثها من أبيها، فقال لها: قال رسول الله: إنا معشر الانبياء لا نورث، ما تركنا صدقة. فقالت: أفي الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ أما قال رسول الله: المرء يحفظ ولده ؟ فبكى أبو بكر بكاء شديدا. وأمر أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه. وسأله أن يترك له عمر يستعين به على أمره. فقال: فما تقول في نفسك ؟ فقال: يا ابن أخي ! فعل الناس ما ترى فدع لي عمر، وانفذ لوجهك. فخرج أسامة بالناس وشيعه أبو بكر فقال له: ما أنا بموصيك بشئ، ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله، فنفذ أسامة، فأقام منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا ستين يوما، أو أربعين يوما، ثم دخل المدينة ولواؤه معقود، حتى يدخل المسجد، فصلى، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي عقده رسول الله معه، وصعد أبو بكر المنبر عند ولايته الامر، فجلس دون مجلس رسول الله بمرقاة، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني ! لا أقول إني أفضلكم فضلا، ولكني أفضلكم حملا. وأثنى على الانصار خيرا وقال: أنا وإياكم، معشر الانصار، كما قال القائل:


[ 128 ]

جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت * بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا * تلاقي الذي يلقون منا لملت فاعتزلت الانصار عن أبي بكر، فغضبت قريش، وأحفظها ذلك، فتكلم خطباؤها، وقدم عمرو بن العاص فقالت له قريش: قم فتكلم بكلام تنال فيه من الانصار ! ففعل ذلك، فقام الفضل بن العباس فرد عليهم ثم صار إلى علي، فأخبره وأنشده شعرا قاله، فخرج علي مغضبا حتى دخل المسجد، فذكر الانصار بخير، ورد على عمرو بن العاص قوله. فلما علمت الانصار ذلك سرها وقالت: ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي، واجتمعت إلى حسان ابن ثابت، فقالوا: اجب الفضل، فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني. فقالوا: فاذكر عليا فقط، فقال: جزى الله خيرا، والجزاء بكفه، * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن تمنت رجال من قريش أعزة * مكانك، هيهات الهزال من السمن وأنت من الاسلام في كل منزل *….. 1 البطين من الرسن وكنت المرجى من لؤي بن غالب * لما كان منه والذي بعد لم يكن حفظت رسول الله فينا وعهده * إليك ومن أولى به منك من ومن ألست أخاه في الاخا ووصيه، * وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن وتنبأ جماعة من العرب، وارتد جماعة، ووضعوا التيجان على رؤوسهم، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي بكر.


1 هكذا بياض في الاصل، ولم نجد هذه الابيات في ديوان حسان. (*)

[ 129 ]

وكان ممن تنبأ طليحة بن خويلد الاسدي بنواحيه، وكان أنصاره غطفان، ورئيسهم عيينة بن حصن الفزاري، والاسود العنسي باليمن، ومسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة، وسجاح بنت الحارث التميمية، ثم تزوجت بمسيلمة، وكان الاشعث بن قيس مؤذنها. فخرج أبو بكر في جيشه إلى ذي القصة. ودعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنك ذو رأي قريش، وقد تنبأ طليحة. فما ترى في علي ؟ قال: لا يطيعك ! قال: فالزبير ؟ قال: شجاع حسن ! قال: فطلحة ؟ قال: للخفض والطعن ! قال: فسعد ؟ قال: محش حرب ! قال: فعثمان ؟ قال: أجلسه واستعن برأيه ! قال: فخالد بن الوليد ؟ قال: بسوس للحرب، نصير للموت. له أناة القطاة، ووثوب الاسد. فلما عقد له قام ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا معشر قريش، أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون له ؟ أما والله ما نحن عميا عما نرى، ولا صما عما نسمع، ولكن أمرنا رسول الله بالصبر، فنحن نصبر. وقام حسان فقال: يا للرجال لخلفة الاطوار * ولما أراد القوم بالانصار لم يدخلوا منا رئيسا واحدا * يا صاح في نقض ولا إمرار فعظم على أبي بكر هذا القول، فجعل على الانصار ثابت بن قيس، وأنفذ خالدا على المهاجرين، فقصد طليحة ففرق جمعه، وقتل خلقا من أتباعه، وأخذ عيينة بن حصن، فبعث به إلى أبي بكر مع ثلاثين أسيرا، وهو مكبل بالحديد، فجعل الصبيان يصيحون به لما دخل المدينة. يا مرتد ! فيقول: ما آمنت طرفة عين قط ! فاستتابه وأطلق سبيله، ولحق طليحة بالشأم، وجاور بني حنيفة، وبعث بشعر إلى أبي بكر يعتذر إليه، ويراجع الاسلام، يقول فيه: فهل يقبل الصديق أني مراجع * ومعط بما أحدثت من حدث يدي وأني من بعد الضلالة شاهد * شهادة حق لست فيها بملحد


[ 130 ]

فلما انتهى قوله إلى أبي بكر رق له، وبعث إليه، فرجع، وقد هلك أبو بكر، وقام عمر على قبره. وبعث به مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق، وأمره أن لا يستعمله. وأما الاسود بن عنزة العنسي، فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله، وهو سكران، فقتلاه. وقد كان أبو بكر عقد لشرحبيل بن حسنة، وأمره أن يقصد لمسيلمة الكذاب وألا يأتيه رأيه، ثم عقد لخالد وبعثه على شرحبيل، فكتب خالد إلى شرحبيل: ألا تعجل حتى آتيك ! ونفذ خالد بن الوليد مسرعا إلى اليمامة، إلى مسيلمة الحنفي الكذاب، وكان قد أسلم ثم تنبأ في سنة 10، وزعم أنه شريك لرسول الله في النبوة، وكان كتب إلى رسول الله: إني أشركت معك، فلك نصف الارض، ولي نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فكتب إليه رسول الله: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الارض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، فلقي خالد مجاعة في جماعة، فأسرهم وضرب أعناقهم، واستبقى مجاعة، وزحف إلى مسيلمة، فخرج مسيلمة فقاتله بمن معه من ربيعة وغيرها قتالا شديدا، وقتل من المسلمين خلق عظيم، ثم قتل مسيلمة في المعركة، طعنه أبو دجانة الانصاري، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله، ورماه وحشي بحربته فقتله، وهو يومئذ ابن مائة وخمسين سنة. وأتى مجاعة الحنفي إلى خالد، فأوهمه أن في الحصن قوما بعد، وقال: ما أتاك إلا سرعان الناس، ودعا إلى الصلح فصالحهم خالد على الصفراء والبيضاء ونصف السبي، ثم نظروا وليس في الحصن أحد إلا النساء والصبيان، فألبسهم السلاح ووقفهم على الحصون، ثم أشار إلى خالد فقال: أبوا علي، فتأخذ الربع ؟ ففعل ذلك خالد، وقبل منهم. فلما فتحت الحصون لم يجد إلا النساء والصبيان فقال: أمكرا يا مجاعة ؟ قال: إنهم قومي. وأجاز لهم وافتتحت


[ 131 ]

اليمامة، وهربت سجاح، فماتت بالبصرة. وكان فتح مسيلمة في سنة 11 وقتل في شهر ربيع الاول سنة 12. وخطب خالد إلى مجاعة ابنته، فزوجه إياها، فكتب إليه أبو بكر: تتوثب على النساء وعند اطناب بيتك دماء المسلمين ؟ وأمر أبو بكر خالدا أن يسير إلى أرض العراق، فسار ومعه المثنى بن حارثة، حتى صار إلى مدينة بانقيا، فافتتحها وسبى من فيها، ثم صار إلى مدينة كسكر، فافتتحها وسبى من فيها، ثم سار حتى لقي بعض ملوك الاعاجم يقال له جابان، فهزمه وقتل أصحابه، ثم سار حتى انتهى إلى فرات بادقلى يريد الحيرة، وملكها النعمان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم النعمان فلحق بالمدائن، ونزل خالد الخورنق، وسار حتى صير الحيرة خلف ظهره، وكانوا على محاربته، ثم دعوا إلى الصلح، فصالحهم على سبعين ألفا عن رؤوسهم، وقيل مائة ألف درهم. وتجرد أبو بكر لقتال من ارتد، وكان ممن ارتد، وممن وضع التاج على رأسه من العرب، النعمان بن المنذر بن ساوى التميمي بالبحرين، فوجه العلاء بن الحضرمي فقتله، ولقيط بن مالك ذو التاج بعمان وجه إليه حذيفة ابن محصن فقتله بصحار من أرض عمان. وكان ذو التاج.. 1 من بني ناجية وبشر كثير من عبد القيس، فقتل الله ذا التاج، وسبى المسلمون ذراريهم، وبعثوا بها إلى أبي بكر، فباعها بأربعمائة درهم، ثم وجه لقتال من منع الزكاة، وقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم. وكتب إلى خالد بن الوليد أن ينكفئ إلى مالك بن نويرة اليربوعي، فسار إليهم، وقيل إنه كان ندأهم، فأتاه مالك بن نويرة يناظره، واتبعته امرأته، فلما رآها خالد أعجبته فقال: والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك، فنظر مالكا، فضرب عنقه، وتزوج امرأته، فلحق أبو قتادة بأبي بكر، فأخبره


1 بياض في الاصل. (*)

[ 132 ]

الخبر، وحلف ألا يسير تحت لواء خالد لانه قتل مالكا مسلما. فقال عمر بن الخطاب لابي بكر: يا خليفة رسول الله ! إن خالدا قتل رجلا مسلما، وتزوج امرأته من يومها. فكتب أبو بكر إلى خالد، فأشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله إني تأولت، وأصبت، وأخطأت. وكان متمم بن نويرة شاعرا فرثى أخاه بمراث كثيرة، ولحق بالمدينة إلى أبي بكر، فصلى خلف أبي بكر صلاة الصبح، فلما فرغ أبو بكر من صلاته قام متمم فاتكأ على قوسه، ثم قال: نعم القتيل إذا الرياح تناوحت * خلف البيوت قتلت يا ابن الازور أدعوته بالله ثم غدرته * لو هو دعاك بذمة لم يغدر فقال: ما دعوته ولا غدرت به. وكتب أبو بكر إلى زياد بن لبيد البياضي في قتال من ارتد باليمن. ومنع الزكاة، فقاتلهم وكان لكندة ملوك عدة يتسمون بالملك، ولكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره، فأغار زياد ليلا، وهم في محاجرهم، فأصاب الملوك: جمدا ومخوصا ومشرحا وأبضعة، وسبى النعم وسبايا كثيرة، فعارضهم الاشعث بن قيس، فانتزع السبايا من أيديهم. وانتهى إلى أبي بكر بارتداد الاشعث، وما فعل، فوجه عكرمة بن أبي جهل في جيش لمحاربتهم، فوافى وقد حصرهم زياد بن لبيد والمهاجر بن أبي أمية، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فقال المهاجر وزياد لمن معهما: قد قدم إخوانكم من الحجاز، فأشركوهم، وأعطوهم، وطلب الاشعث الصلح، وأخذ الامان لعشيرته، ونسي نفسه، فلما قرأ عكرمة الصحيفة وليس فيها اسم الاشعث كبر وأخذه، فأتى به أبا بكر في وثاق، فمن عليه أبو بكر، وأطلق سبيله، وزوجه أم فروة أخته. وأراد أبو بكر أن يغزو الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله،


[ 133 ]

فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب، فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت. فقال: بشرت بخير ! فقام أبو بكر في الناس خطيبا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، فسكت الناس، فقام عمر فقال: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتموه. فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المناقين يا ابن الخطاب، فما يمنعك أنت ما عبت علينا فيه ؟ فتكلم خالد بن سعيد، وأسكت أخاه فقال: ما عندنا إلا الطاعة، فجزاه أبو بكر خيرا، ثم نادى في الناس بالخروج، وأميرهم خالد بن سعيد، وكان خالد من عمال رسول الله باليمن، فقدم وقد توفي رسول الله، فامتنع عن البيعة، ومال إلى بني هاشم، فلما عهد أبو بكر لخالد قال له عمر: أتولي خالدا وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك ؟ فوالله ما أرى أن توجهه. فحل لواءه، ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم، وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو عبيدة. وقدمت عليه العشائر من اليمن، فأنفذهم جيشا بعد جيش، فلما قدمت الجيوش الشأم كتب إليه أبو عبيدة يعلمه إقبال ملك الروم في خلق عظيم، فجعل يسرح إليه الجيش بعد الجيش، والاول فالاول ممن يقدم عليه من قبائل العرب، ثم تتابعت عليه كتب أبي عبيدة بكل أخبار جمع الروم، فوجه أبو بكر عمرو بن العاص في جيش من قريش وغيرهم، ثم كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى الشأم ويخلف المثنى بن حارثة بالعراق، فنفذ خالد في أهل القوة ممن كان معه، وخلف المثنى بن حارثة الشيباني في بقية الجيش بالعراق. وسار خالد نحو الشأم، فلما صار إلى عين التمر لقي رابطة لكسرى عليهم عقبة بن أبي هلال النمري، فتحصنوا منه، ثم نزلوا على حكمه، فضرب عنق النمري. ثم سار حتى لقي جمعا لبني تغلب عليهم الهذيل بن عمران، فقدمه فضرب عنقه، وسبى منهم سبايا كثيرة بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلاما، وصار إلى الانبار، فأخذ دليلا يدله على


[ 134 ]

طريق المفازة، فمر بتدمر، فتحصن أهلها، فأحاط بهم، ففتحوا له وصالحهم، ثم مضى إلى حوران، فقاتلهم قتالا شديدا، فقيل: إن خالدا سار في البرية والمفازة ثمانية أيام حتى وافاهم، فافتحوا بصرى، وفحل، وأجنادين من فلسطين. وكانت بينهم وبين الروم وقعات بأجنادين صعبة في كل ذلك يهزم الله الروم تكون العاقبة للمسلمين. وروى بعضهم: أن خالد بن الوليد صار إلى غوطة دمشق، ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء تدعى العقاب، فبها سميت ثنية العقاب، وصار إلى حوران، فقصد مدينة بصرى فحاربهم، فسألوه الصلح، فصالحهم، ثم صار إلى أجنادين، وبها جمع للروم، فحاربهم محاربة شديدة، وتفرق جمع الكفرة. وكانت وقعة أجنادين يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الاولى سنة 13. وبعث أبو بكر عثمان بن أبي العاص، وندب معه عبد القيس، فسار في جيش إلى توج فافتتحها وسبى أهلها، وافتتح مكران وما يليها، ووجه العلاء ابن الحضرمي في جيش، فافتتح الزارة وناحيتها من أرض البحرين، وبعث إلى أبي بكر بالمال، فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس بين الاحمر والاسود، والحر والعبد، دينارا لكل إنسان. وقدم اياس بن عبد الله بن الفجاءة السلمي على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله ! إني قد أسلمت، فأعطاه أبو بكر سلاحا، فخرج من عنده، فبلغه أنه يقطع الطريق، فكتب إلى طريفة بن حاجزة: إن عدو الله ابن الفجاءة خرج من عندي، فبلغني أنه قطع الطريق، وأخاف السبيل، فسر إليه حتى تأخذه. وتقدم طريفة، فسار إليه، فقتل قوما من أصحابه، ثم لقيه، فقال: إني مسلم، وإنه مكذوب علي ! فقال طريفة: فإن كنت صادقا، فاستأسر حتى تأتي أبا بكر فتخبره ! فاستأسر. فلما قدم به على أبي بكر أخرجه إلى البقيع فحرقه بالنار، وحرق أيضا رجلا من بني أسد يقال له شجاع بن ورقاء


[ 135 ]

كان ينكح… 1 وقال عمر بن الخطاب لابي بكر: يا خليفة رسول الله، إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة، فلو جمعت القرآن، فإنى أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله ؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف. وكان مفترقا في الجريد وغيرها، وأجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش، وخمسين رجلا من الانصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح. وروى بعضهم أن علي بن أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله وأتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جرأه سبعة أجزاء، فالجزء الاول البقرة، وسورة يوسف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، وحم السجدة، والذاريات، وهل أتى على الانسان، والم تنزيل السجدة، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت، وسبح اسم ربك الاعلى، ولم يكن، فذلك جزء البقرة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة. الجزء الثاني: آل عمران، وهود، والحج، والحجر، والاحزاب، والدخان، والرحمن، والحاقة، وسأل سائل، وعبس، والشمس وضحاها، وإنا أنزلناه، وإذا زلزلت، وويل لكل همزة، وألم تر، ولايلاف قريش، فذلك جزء آل عمران ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء الثالث: النساء، والنحل، والمؤمنون، ويس، وحمعسق، والواقعة، وتبارك الملك، ويا أيها المدثر، وأرأيت، وتبت، وقل هو الله أحد، والعصر، والقارعة، والسماء ذات البروج، والتين والزيتون، وطس النمل، فذلك جزء النساء ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء الرابع: المائدة، ويونس، ومريم، وطسم الشعراء، والزخرف،


1 بياض في الاصل. (*)

[ 136 ]

والحجرات، وق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة، والممتحنة، والسماء والطارق، ولا أقسم بهذا البلد، وألم نشرح لك، والعاديات، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل يا أيها الكافرون، فذلك جزء المائدة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة. الجزء الخامس: الانعام، وسبحان، واقترب، والفرقان، وموسى وفرعون، وحم المؤمن، والمجادلة، والحشر، والجمعة، والمنافقون، ون والقلم، وإنا أرسلنا نوحا، وقل أوحي إلي، والمرسلات، والضحى، وألهاكم، فذلك جزء الانعام ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء السادس: الاعراف، وإبراهيم، والكهف، والنور، وص، والزمر، والشريعة، والذين كفروا، والحديد، والمزمل، ولا أقسم بيوم القيامة، وعم يتساءلون، والغاشية، والفجر، والليل إذا يغشى، وإذا جاء نصر الله، فذلك جزء الاعراف ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء السابع: الانفال، وبراءة، وطه، والملائكة، والصافات، والاحقاف، والفتح، والطور، والنجم، والصف، والتغابن، والطلاق، والمطففين، والمعوذتين، فذلك جزء الانفال ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة. وقال بعضهم: إن عليا قال: نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع أمثال، وربع محكم ومتشابه. وقسم أبو بكر بين الناس بالسوية لم يفضل أحدا على أحد، وكان يأخذ في كل يوم من بيت المال ثلاثة دراهم أجرة، وكان تسمى خليفة رسول الله. واعتل أبو بكر في جمادى الآخرة سنة 13. فلما اشتدت به العلة عهد إلى عمر بن الخطاب، فأمر عثمان أن يكتب عهده، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله إلى المؤمنين والمسلمين: سلام


[ 137 ]

عليكم، فإني أحمد إليكم الله، أما بعد، فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا، وأطيعوا، وإني ما ألوتكم نصحا، والسلام. وقال لعمر بن الخطاب: يا عمر، أحبك محب وأبغضك مبغض. فلئن أبغض الحق، فلقديما ما، ولئن استمر في الباطل، فلربما. ودخل عبد الرحمن بن عوف في مرضه الذي توفي فيه. فقال: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله ؟ فقال: أصبحت موليا، وقد زدتموني على ما بي ان رأيتموني استعملت رجلا منكم فكلكم قد أصبح وارم أنفه، وكل يطلبها لنفسه. فقال عبد الرحمن: والله ما أعلم صاحبك إلا صالحا مصلحا، فلا تأس على الدنيا ! قال: ما آسى إلا على ثلاث خصال صنعتها ليتني لم أكن صنعتها، وثلاث لم أصنعها ليتني كنت صنعتها، وثلاث ليتني كنت سألت رسول الله عنها، فأما الثلاث التي صنعتها، فليت أني لم أكن تقلدت هذا الامر. وقدمت عمر بين يدي، فكنت وزيرا خيرا مني أميرا، وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال، ولو كان أغلق على حرب، وليتني لم أحرق الفجاءة السلمي، إما أن أكون قتلته سريحا، أو أطلقته نجيحا، والثلاث التي ليت أني كنت فعلتها، فليتني قدمت الاشعث بن قيس تضرب عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شيئا من الشر إلا أعان عليه، وليت أني بعثت أبا عبيدة إلى المغرب وعمر إلى أرض المشرق فأكون قدمت يدي في سبيل الله، وليت أني ما بعثت خالد بن الوليد إلى بزاخة، ولكن خرجت فكنت ردأ له في سبيل الله. والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله عنهن: فلمن هذا الامر، فلا ينازعه فيه، وهل للانصار فيه من شئ، وعن العمة والخالة أتورثان أو لا ترثان، وإني ما أصبت من دنياكم بشئ، ولقد أقمت نفسي في مال الله وفئ المسلمين مقام الوصي في مال اليتيم إن استغنى تعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف، وإن والي الامر بعدي عمر بن الخطاب، وإني استسلفت من بيت المال مالا، فإذا مت فليبع حائطي في موضع كذا وليرد إلى بيت المال.


[ 138 ]

وأوصى أبو بكر بغسله أسماء بنت عميس امرأته، فغسلته ودفن ليلا، وورثه أبو قحافة السدس. وكان الغالب على أبي بكر عمر بن الخطاب، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى الآخرة، ومن شهور العجم في آب، وقيل لليلتين بقيتا منه سنة 13، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن في البيت الذي فيه قبر رسول الله، وكان له يوم توفي ثلاث وستون سنة، وكان له من الولد الذكور ثلاثة توفي أحدهم في حياته، وهو عبد الله، وخلف اثنين محمدا وعبد الرحمن، وكان حاجبه مولاه سديدا، وكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر، وحج بالناس سنة 12. وكان عمال أبي بكر لما توفي: عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ورجلا من الانصار على اليمامة، وحذيفة بن محصن على عمان، والعلاء بن الحضرمي على البحرين، وخالد بن الوليد على جيش الشأم، والمثنى بن حارثة الشيباني على الكوفة، وسويد بن قطبة على البصرة. صفة أبي بكر: وكان أبو بكر أبيض، نحيفا، خفيف العارضين، أحنى، لا يستمسك إزاره على حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، عاري الاشاجع، يخضب لحيته بالحناء والكتم. وكان من يؤخذ عنه الفقه، في أيام أبي بكر، علي بن أبي طالب، وعمر ابن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن مسعود.


[ 139 ]

ايام عمر بن الخطاب ثم استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل لسبع بقين منه سنة 13، وكان ذلك من شهور العجم في آب، وكانت الشمس يومئذ في الاسد ست عشرة درجة، والقمر في العقرب أربعا وعشرين درجة وعشر دقائق، وزحل في القوس ثلاثين درجة راجعا، والمشتري في الحوت تسع درج وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في الثور إحدى وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والزهرة في الحوت تسع درجات، وعطارد في السنبلة عشر درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في القوس اثنتي عشرة درجة وخمسا وثلاثين دقيقة، فصعد المنبر، فجلس دون مجلس أبي بكر بمرقاة، وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وذكر أبا بكر، وفضله، وترحم عليه. ثم قال: ما أنا إلا رجل منكم، ولولا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله لما تقلدت أمركم. فأثنى الناس عليه خيرا. وكان أول ما عمل به عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنة على العرب، وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح يخبره بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وكتب بعقده وولايته الشأم مكان خالد بن الوليد مع شداد بن أوس، وصير خالدا موضع أبي عبيدة، وكان عمر سئ الرأي في خالد، على أنه ابن خاله، لقول كان قاله في عمر، وقد كان خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فتحوا مرج الصفر من أرض دمشق، وحاصروا مدينة دمشق، قبل وفاة أبي بكر، بأربعة أيام، فستر أبو عبيدة


[ 140 ]

الخبر عن خالد، حتى ورد كتاب ثان من عمر على أبي عبيدة يأمره أن يتوجه إلى حمص ونواحي الشأم، فعلم بذلك خالدا، فقال: رحم الله أبا بكر ! لو كان حيا ما عزلني. وكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن كذب خالد نفسه فيما كان قاله عمله، وإلا فانزع عمامته وشاطره ماله. فشاور خالد أخته، فقالت: والله ما أراد ابن حنتمة إلا أن تكذب نفسك، ثم ينزعك من عملك، فلا تفعلن. فلم يكذب نفسه، فقام بلال فنزع عمامته وشاطره أبو عبيدة ماله، حتى نعله فأفرد واحدة عن الاخرى. وأقاموا على ما كانوا عليه في حصار دمشق حولا كاملا وأياما، وكان أبو عبيدة بباب الجابية، وخالد بباب الشرقي، وعمرو بن العاص بباب توما، ويزيد بن أبي سفيان بباب الصغير، فلما طال على صاحب دمشق الامر أرسل إلى أبي عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على باب الشرقي لما بلغه أن أبا عبيدة عزم على أن يصالح القوم، وأن القوم قد وثقوا به للصلح، ففتحه عنوة، فقال خالد لابي عبيدة: اسبهم، فإني دخلتها عنوة ! فقال: لا، قد أمنتهم ! ودخل المسلمون المدينة، وتم الصلح، وذلك في رجب سنة 14. وروى الواقدي أن خالد بن الوليد صالحهم، وكتب للاسقف كتابا للصلح، وأعطاهم الامان، فأجاز أبو عبيدة ذلك. وفي هذه السنة سن عمر بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يصليا بالناس، فقيل له في ذلك: إن رسول الله لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله. فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة. ووجه أبو عبيدة عمرو بن العاص إلى الاردن وفلسطين، فجمع القوم جموعا ليدفعوا عمرا وأصحابه، فوجه أبو عبيدة إلى عمرو شرحبيل بن حسنة، وتوجه أبو عبيدة نحو جمع الروم، ففتح الاردن عنوة ما خلا طبرية، فإن


[ 141 ]

أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم، وكان المتولي لذلك شرحبيل بن حسنة. وقد كان الروم لما بلغهم إقبال أبي عبيدة تحولوا إلى فحل، فعبأ أبو عبيدة المسلمين، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعد بن زيد، وعلى الخيل خالد بن الوليد. وأقبلت الروم، فكان أول من لقيهم خالد، فهزم الله الروم، وطلبوا الصلح على أن يؤدوا الجزية، فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك، وانصرف، وخلف عمرو بن العاص على باقي الاردن، ووجه بخالد على مقدمته إلى بعلبك وأرض البقاع، فافتتحها وصار إلى حمص، ولحقه أبو عبيدة، فحصروا أهل حمص حصارا شديدا، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم عن جميع بلادهم على أن عليهم خراجا مائة وسبعين ألف دينار، ثم دخل المسلمون المدينة، وبث أبو عبيدة عماله في نواحي حمص. ثم أتاه خبر ما جمع طاغية الروم من الجموع في جميع البلدان، وبعثه إليهم من لا قبل لهم به، فرجع إلى دمشق، وكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، وكتب إليهم عمر أنه قد كره رجوعكم من أرض حمص إلى دمشق، وجمع أبو عبيدة إليه المسلمين، وعسكر باليرموك، وكان جبلة بن الايهم الغساني على مقدمة الروم في جيش من قومه، وجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد على مقدمته، فواقع المشركين، ولقي ماهان صاحب الروم، واقتتلوا قتالا شديدا، ولحقه أبو عبيدة والمسلمون، وكانت وقعة جليلة الخطب. فقتل من الروم مقتلة عظيمة وفتح الله على المسلمين، وكان ذلك في سنة 15. وأوفد أبو عبيدة إلى عمر وفدا فيهم حذيفة بن اليمان، وقد كان عمر أرق عدة ليال، واشتد تطلعه إلى الخبر، فلما ورد عليه الخبر خر ساجدا وقال: الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة، فوالله لو لم يفتح لقال قائل: لو كان…… 1 خالد بن الوليد. ورجع أبو عبيدة إلى حمص ووجه بخالد في آثار الروم حتى صار إلى


(1) بياض في الأصل. [ * ]

[ 142 ]

قنسرين. وانتهى إلى جلب، فتحصن أهلها، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليها، وطلبوا الصلح والامان، فقبل أبو عبيدة ذلك منهم، وكتب لهم أمانا، ووجه بمالك بن الحارث الاشتر على جمع إلى الروم، وقد قطعوا الدرب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه. ورجع أبو عبيدة نحو الاردن، فحاصر أهل إيلياء، وهي بيت المقدس، فامتنعوا عليه وطاولوه، ووجه أبو عبيدة عمرو بن العاص إلى قنسرين، فصالحهم أهل حلب، وقنسرين، ومنبج، ووضع عليهم الخراج على نحو ما فعل أبو عبيدة بحمص، وجمعت غنائم اليرموك بالجابية، وكتبوا إلى عمر، فكتب إليهم: لا تحدثوا فيها حدثا، حتى تفتحوا بيت المقدس. وكان جبلة بن الايهم الغساني لما انهزمت الروم من اليرموك صار إلى موضعه في جماعة قومه، فأرسل إليه يزيد بن أبي سفيان أن اقطع على أرضك بالخراج وأداء الجزية، فقال: إنما يؤدي الجزية العلوج، وأنا رجل من العرب. وكان عمر قد بعث أبا عبيد بن مسعود الثقفي في جيش مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى العراق، وكان كسرى قد توفي، وقامت بوران ابنته بالملك، وصيرت رستم والفيرزان القيمين بأمر الملك، وكان ضعيفين مهينين، فتقدم أبو عبيد الثقفي، فلقي مسلحة من مسالح الفرس، فأوقع بهم، واقتتلوا قتالا شديدا، ثم أظفر الله المسلمين بهم، ومنحهم أكتافهم. وبعث إليهم رستم، لما بلغه الخبر، برجل يقال له جالينوس، فالتقوا بموضع يقال له باروسما، فانهزمت الفرس، وافتتح أبو عبيد باروسما، فوجه إليهم رستم بذي الحاجب، وبعث معه بالفيل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فجعلت خيل المسلمين تنفر من الفيل، فشد عليه أبو عبيد الثقفي بالسيف، فقطع مشفره، وبرك عليه الفيل فقتله، وقام بالجيش المثنى بن حارثة الشيباني، فلما انتهى الخبر إلى عمر اشتد غمه بذلك. وقدم جرير بن عبد الله البجلي من اليمن في ركب من بجيلة، رئيسهم


[ 143 ]

عرفجة بن هرثمة، حليف لهم من الازد، فأمرهم عمر بالنفوذ إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فغضب جرير وقال: والله ما الرجل منا ! فقال عرفجة: صدق ! فوجه عمر جرير بن عبد الله، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع مرزبان المذار، فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة، ثم صار إلى النخيلة، وبها مهران في جمعه، فواقعه، فاقتتلوا قتالا شديدا، وشد المنذر بن حسان على مهران فطعنه فألقاه عن دابته، فبادر جرير فاحتز رأسه، فاختصما في سلبه، فأخذ جرير السلاح، والمنذر المنطقة، وذلك في سنة 14. فلما رأت الفرس ما هم فيه من الضعف والمهانة وظهور المسلمين عليهم اجتمعوا على قتل رستم والفيرزان، ثم قالوا: إن في هذا إشتاتا لامرنا، فطلبوا ابن كسرى حتى وجدوا يزدجرد، وهو ابن عشرين سنة، فملكوه عليهم، فضبط أمورهم، وحسن تدبيره، واشتدت المملكة، وقوي أمر الفرس، وأخرجوا المسلمين عن المروج، فارتد أهل السواد وخرقوا العهود التي كانت في أيديهم، وصار المسلمون في الاطراف، فلما بلغ ذلك عمر أراد الخروج إلى العراق، ثم استشار، فأشير عليه بسعد بن أبي وقاص، فوجهه بثمانية آلاف، فسار حتى نزل القادسية، ووجه عتبة بن غزوان إلى كور دجلة والابلة وأبرقباذ وميسان ففتحها، واختط البصرة، وبنى مسجدها بالقصب، وقد قيل: إن عمر وجهه لذلك. وأقام سعد بالقادسية، ثم ظفر المسلمون ببنت ازاذمرد، وهي تزف إلى بعض الملوك، وأخذوا ما كان معها من الاموال والاثقال، وفرقوها على المسلمين فطابت أنفسهم، وحسنت قوتهم. ثم وجه سعد إلى كسرى بالنعمان بن مقرن وجماعة معه يدعونه إلى الاسلام، فدخلوا عليه في أحسن زي، وعليهم البرود والنعل، فأخبروه بما وجههم له سعد، ودعوه إلى الاسلام وإلى شهادة الحق وإلى أداء الجزية، فأغضبه ذلك، ودعا بتليس تراب فقال: احملوه على رأس سيدهم، فلولا


[ 144 ]

أن الرسل لا تقتل لقتلتهم. فقال عصام بن عمرو التميمي: أنا سيد القوم فحملوه التراب. فمضى مسرعا. وقال: قد ظفرنا والله بهم، ووطئنا أرضهم. وبلغ رستم الخبر، فغلظ ذلك عليه، وقال: ما لابن الحجامة ولتدبير الملك ويقال: إن أم يزد جرد كانت حجامة، ثم وجه رسلا في آثارهم، ففاتوا الرسل. فاشتد رعب كسرى والفرس منهم، وأمر رستم أن يتوجه إليهم. فكره ذلك، فحمل عليه بالقول حتى خرج وهو مكره، فلما صار إلى النجف وجه إلى سعد أن ابعث إلي بقوم من عندكم لاناظرهم، فأرسل سعد المغيرة بن شعبة، وبشر بن أبي رهم. وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة ابن محصن. وربعي بن عامر، وقرفة بن زاهر، ومذعور بن عدي، ومضارب بن يزيد، وشعبة بن مرة، وكانوا من دهاة العرب، فدخلوا عليه رجلا رجلا. يقول كل واحد منهم مثل مقالة صاحبه، ويدعونه إلى الاسلام، أو أداء الجزية، فتبينوا فيه أنه يهوى الدخول في الاسلام، ويخاف من أصحابه، وكلما عرض على واحد منهم لم ير عنده مسارعة، ثم خرج رستم في التعبية للجيش، وجلس على سرير من ذهب، وأقام مصافه، وعدل أصحابه، وأيقن بالهلكة. وكان منجما، وكتب إلى أخيه: بسم الله ولي الرحمة، من الاصبهبد رستم إلى أخيه. أما بعد، فإني رأيت المشتري في هبوط، والزهرة في علو، وهو آخر العهد منك. والسلام عليك الدهر الدائم. وخطب سعد بن أبي وقاص المسلمين، فرغبهم في الجهاد، وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين، ورغب كل رجل من المسلمين صاحبه، وأنشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر، واقتتلوا قتالا شديدا وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم، وكان سعد يومئذ عليلا فصار إلى قصر العذيب فنزله، وتحصن فيه، فبلغ رستم فوجه خيلا، فأحدقت بالقصر، فلما بلغ المسلمين ذلك صاروا إلى القصر، فانهزم أصحاب رستم، ثم أصبحوا من غد، فوافاهم ستة آلاف من جيش أبي عبيدة بن الجراح، وهم الذين كانوا مع خالد بن الوليد:


[ 145 ]

خمسة آلاف من مضر وربيعة، وألف من افناء المسلمين، عليهم المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان فتح الشأم قبل القادسية بشهر، فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم، وأخرج رستم الفيلة فلما نظرت إليها الكتائب كادت أن تفترق، ثم حمل المسلمون عليها ففقأوا أعينها، وقطعوا مشافرها. وزحف المسلمون وأصبحوا، في اليوم الرابع، وللمسلمين العلو، وقتل رستم، وقع عليه عدل كان على بغل فقتله، وكان الذي طرح عليه العدل هلال ابن علفة، وصعد على سريره وصاح: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي إلي ! وقيل: قتله زهير بن عبد شمس ابن أخي جرير بن عبد الله، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانكشفوا مدبرين، وجمعت الاموال والاسلاب وبيع سلب رستم، فبلغ سهم الرجل لكل فارس أربعة عشر ألفا، وسهم الراجل سبعة آلاف ومائة، ورضخ لعيال الشهداء من صلب الفئ، ورضخ للنساء من صلب الفئ، فأما العبيد فإنهم عفوا، وأوفد سعد إلى عمر وفدا، فأجازهم عمر ثمانين دينارا ثمانين دينارا. وكان بالقادسية من أصحاب رسول الله من أهل بدر سبعون رجلا، ومن أهل بيعة الرضوان ومن شهد الفتح مائة وعشرون، ومن أصحاب رسول الله مائة. ونفرت جميع الفرس إلى المدائن منهزمين لا يلوون على شئ، ويزدجرد الملك بها، فاتبعهم سعد بالمسلمين، فحاصرهم شهرا وخمسة عشر يوما، ثم خرج الفرس هاربين، وفتحت المدائن، وقيل إن ذلك كان في سنة 16. وفيها أرخ عمر الكتب، وأراد أن يكتب التأريخ منذ مولد رسول الله، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه علي بن أبي طالب أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة. وتوجه عتبة بن غزوان إلى عمر، واستخلف على البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، والمغيرة بن شعبة في الجيش، فلما شخص عتبة جاء من كان بميسان، ومن كان بكور دجلة من الاعاجم، وعليهم الفيلكان، فجمع لهم المغيرة بن


[ 146 ]

شعبة عدة من المسلمين، فسار بهم حتى لقي الاعاجم بميسان، فهزمهم وسبى أهلها عنوة، وكتب المغيرة بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لعتبة: استعمل أهل الوبر على أهل المدر، وكتب إلى المغيرة: انك خليفة عتبة بن غزوان حتى يقدم عتبة. وخرج عتبة من عند عمر، فلما كان بين المدينة والبصرة توفي عتبة، فكتب عمر إلى المغيرة بولايته على البصرة. فلما كانت وقعة القادسية صار المغيرة إلى سعد ثم رجع إلى عمله، وكان يختلف إلى امرأة من بني هلال يقال لها: أم جميل زوجة الحجاج بن عتيك الثقفي، فاستراب به جماعة من المسلمين، فرصده أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، وزياد بن عبيد، حتى دخل إليها فرفعت الريح الستر فإذا به عليها، فوفد على عمر، فسمع عمر صوت أبي بكرة وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة ؟ قال: نعم. قال: لقد جئت ببشر ؟ قال: إنما جاء به المغيرة. ثم قص عليه القصة، فبعث عمر أبا موسى الاشعري عاملا مكانه، وأمره أن يشخص المغيرة، فلما قدم عليه جمع بينه وبين الشهود، فشهد الثلاثة، وأقبل زياد، فلما رآه عمر قال: أرى وجه رجل لا يخزي الله به رجلا من أصحاب محمد، فلما دنا قال: ما عندك يا سلح العقاب ؟ قال: رأيت أمرا قبيحا، وسمعت نفسا عاليا، ورأيت أرجلا مختلفة، ولم أر الذي مثل الميل في المكحلة. فجلد عمر أبا بكرة، ونافعا، وشبل بن معبد، فقام أبو بكرة وقال: أشهد أن المغيرة زان، فأراد عمر أن يجلده ثانية، فقال له: علي إذا توفي صاحبك حجارة. وكان عمر إذا رأى المغيرة قال: يا مغيرة ! ما رأيتك قط إلا خشيت أن يرجمني الله بالحجارة. وكان بالبصرة من أصحاب رسول الله ثمانية وستون رجلا. رجع الحديث إلى خبر أبي عبيدة بن الجراح وحصاره أهل بيت المقدس لانا جعلنا كل خبر في سنته ووقته. وكتب أبو عبيدة إلى عمر يعلمه مطاولة أهل إيلياء وصبرهم، وقال بعضهم:


[ 147 ]

إن أهل إيلياء سألوه أن يكون الخليفة المصالح لهم، فأخذ عليهم العقود والمواثيق، وكتب إلى عمر فخرج إلى الشأم، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقرب خالدا، وأدناه، وأمره. فسار في الناس على مقدمته، وذلك في رجب سنة 16، فنزل الجابية من أرض دمشق ثم صار إلى بيت المقدس، فافتتحها صلحا، وكتب لهم كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لاهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم، وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب، إلا أن تحدثوا حدثا عاما، وأشهد شهودا، وأتاه عمرو بن العاص بالطلاء فقال: كيف يصنع هذا ؟ فقال: يطبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه، فقال: ما أرى بذلك بأسا. واختلف القوم في صلح بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: النصارى، والمجمع عليه النصارى، وقام إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجناد الشأم ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي، وما يجد ذلك عامة الناس. فأخذ عمر أمراء الشأم بأن ضمنوا له القوت للمسلمين في كل يوم خبزين لكل رجل وما يصلحه من الخل والزيت، وأمر عمر أن تقسم الغنائم بين الناس بالسوية خلا لخم وجذام، وقال: لا أجعل من خرج من الشقة إلى عدوه كمن خرج من بيته. فقام إليه رجل فقال: إن كان الله جعل الهجرة إلينا فخرجنا من بيوتنا إلى عدونا نحرم حظنا. ومر عمر راجعا إلى المدينة فمر على قوم قد أقيموا يعذبون في الخراج، فقال عمر: دعوهم ولا تعذبوهم، فإني سمعت رسول الله يقول: إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله في الآخرة، يوم القيامة، فأرسل إليهم، فخلى سبيلهم. فأتاه جبلة بن الايهم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع بالعرب ؟ قال: بل الجزية، وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفا من قومه، حتى لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره. ووجه عمرو بن العاص فقال له: يا أمير المؤمنين تأذن لي في أن أصير


[ 148 ]

إلى مصر، فإنا إن فتحناها كانت قوة للمسلمين، وهي من أكثر الارض أموالا، وأعجزه عن القتال، ولم يزل يعظم أمرها في نفسه، ويهون عليه فتحها، حتى عقد له على أربعة آلاف كلهم من عك، وقال له: سيأتيك كتابي سريعا، فإن لحقك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخل شيئا من أرضها، فانصرف، فإن دخلتها ثم جاءك كتابي فامض، واستعن بالله. وسار عمرو مسرعا، فلما كان برفح، وهي آخر عمل فلسطين، أتاه رسول عمر ومعه كتاب، فلم يفض الكتاب، ونفذ حتى صار إلى قرية بالقرب من العريش، وقرأ الكتاب، ثم قال: من أين هذه القرية ؟ قالوا: من مصر ! قال: فإن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه، وقد دخلت شيئا من أرض مصر، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله، حتى أتى الفرما، فقاتلوه نحوا من ثلاثة أشهر، ثم فتح الله عليه، ومضى حتى صار إلى أدم دنين، فقاتلوه قتالا شديدا، وأبطأ عنه الفتح، وكتب إلى عمر يستمده، فوجه بأربعة آلاف، وكتب إليه: إنه قد صير على كل ألف رجل رجلا يقوم مقام ألف رجل منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الاسود، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، وقيل مسلمة بن مخلد، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم قال الزبير: إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع السلم ليلا إلى جانب الحصن، ثم اقتحم معه جماعة، وكبر المسلمون، فلما استحر القتل دعوا إلى الصلح، فقال بعضهم: صالح المقوقس عمرو بن العاص على دينارين دينارين لكل رجل، وقيل لم يكن صلح، وإنما افتتح عنوة. ثم مضى حتى صار إلى الاسكندرية وبها جموع الروم، وعليها ثلاثة حصون، فقاتلوه قتالا شديدا، فطالت المدة بينهم ثلاثة أشهر. وكان المقوقس قد سأل عمرا أن يصالحه عن الاسكندرية على أن يطلق من أراد منهم أن يمضي إلى بلاد الروم، ومن أقام فعليه ديناران خراج، فأجابه إلى ذلك، فلما بلغ هرقل ملك الروم غضب… 1


1 بياض في الاصل (*)

[ 149 ]

فقال المقوقس: إني قد نصحت لهم فاستغشوني، فلا تجبهم إلى ما أجبتني إليه. وخرج عمر إلى مكة سنة 17، فاعتمر عمرة رجب، ووسع المقام، وباعده من البيت، ووسع الحجر، وبنى المسجد الحرام، ووسع فيه، واشترى من قوم منازلهم، وامتنع آخرون، فهدم عليهم ووضع أثمان منازلهم في بيت المال. وكان فيما هدم بيت العباس بن عبد المطلب، فقال له: تهدم داري ؟ قال: لاوسع بها في المسجد الحرام ! فقال العباس: سمعت رسول الله يقول: إن الله أمر داود أن يبني له بيتا بإيلياء فبناه ببيت المقدس، وكان كلما ارتفع البناء سقط فقال داود: يا رب إنك أمرتني أن أبني لك بيتا، واني كلما بنيت سقط البناء، فأوحى الله إليه: إني لا أقبل إلا الطيب، وانك بنيت لي في غصب، فنظر داود فإذا قطعة أرض لم يكن شراها، فابتاعها من صاحبها بحكمه، ثم بنى فتم البناء. قال: ومن يشهد أنه سمع هذا من رسول الله ؟ فقام قوم فشهدوا. قال: فتحكم إلينا يا أبا الفضل، وإلا امسكنا ؟ قال: فإني قد تركتها لله. وانصرف عمر بعد عشرين يوما، وكان العباس يسايره، وتحت العباس دابة مصعب، فتقدمه عمر ثم وقف له حتى لحقه فقال له: تقدمتك، وما لاحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم قوم…….. 1 فيكم ضعف. قال: رآنا الله نقوى على النبوة، ونضعف على الخلافة. ثم خرج يريد الشأم حتى بلغ إلى سرغ، فبلغه أن الطاعون قد كثر، فرجع، فلقيه أمراء الشأم، وكلمه أبو عبيدة بن الجراح أشد كلام، وقال: أفرار من قدر الله تعالى ؟ قال عمر: نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله. وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: إنها صغيرة ! فقال: إني لم أرد حيث ذهبت. لكني سمعت رسول الله يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله.


1 بياض في الاصل (*)

[ 150 ]

فتزوجها، وأمهرها عشرة آلاف دينار. وفي هذه السنة نزل المسلمون الكوفة، واختطوا بها الخطط، وبنوا المنازل. وقيل كان ذلك في أول سنة 18، ونزلها من أصحاب رسول الله ثمانون رجلا. وأصاب الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة في عام الرمادة، وهي سنة 18، فخرج عمر يستسقي، وأخرج الناس، وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك ! اللهم فلا تخيب ظنهم في رسولك، فأسقوا. واجري عمر الاقوات في تلك السنة على عيالات قوم من المسلمين، وأمر أن تكون نفقات أولاد اللقط ورضاعهم من بيت المال. وفي هذه السنة سمي عمر أمير المؤمنين، وكان يسمى خليفة خليقة رسول الله، وكتب إليه أبو موسى الاشعري: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، وجرت عليه، وقيل إن المغيرة بن شعبة دخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لتحرجن مما قلت. فقال: ألسنا مسلمين ؟ قال: بلى ! قال: وأنت أميرنا ؟ قال: اللهم نعم. وكان أبو عبيدة بن الجراح قد وجه عياض بن غنم الفهري إلى الجزيرة، فلم يزل يحاصر عليهم ثم افتتح الرقة، وسروج، والرها، ونصيبين، وسائر مدن الجزيرة، وكانت صلحا كلها، ووضع عليها الخراج على الارضين ورقاب الرجال، على كل إنسان أربعة وخمسة دنانير وستة في سنة 18، فانصرف إلى أبي عبيدة. وكثر الطاعون بالشأم، وكان طاعون عمواس، فمات أبو عبيدة بن الجراح، واستخلف عياض بن غنم على حمص، وما والاها من قنسرين، ومعاذ بن جبل على الاردن، ولم يلبث معاذ بن جبل إلا أياما حتى توفي، ومات يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، فأقر عمر معاوية على عمل يزيد، ومات في تلك السنة في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا سوى من لم


[ 151 ]

يحصر منهم، وغلا السعر، واحتكر الناس، فنهى عمر عن الاحتكار. وفيها توفي الفضل بن العباس بن عبد المطلب بفلسطين، وكانت فلسطين قد افتتحت خلا قيسارية، وكان معاوية بن أبي سفيان مقيما عليها، فافتتحها سنة 18، وقيل كان بها ثمانون ألف مقاتل، وبعث رجلين من جذام إلى عمر بالبشارة، ثم اردفهما برجل من خثعم يقال له: زهير، وقال له: ان قدرت أن تسبق الجذاميين فافعل، فمر بهما الخثعمي، وهما نائمان، فجازهما، وقدم المدينة ليلا، فأتى عمر فأخبره، فكبر وحمد الله، ثم خرج إلى المسجد، وأمر بنار، فأتي بها، فحمد الله، وأعلمهم بفتح قيسارية. وكتب سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى عمر بعد مقامه بثلاث سنين يعلمه اجتماع الفرس بجلولاء، وهي قرية من قرى السواد، بالقرب من حلوان، وكتب إليه أن ينهض إليهم فيمن معه، ووجه عبد الله بن مسعود، فأقامه مقام سعد، وقيل صير سلمان بالمدائن، وكان ابن مسعود يفقههم ويعلمهم، فكانت وقعة جلولاء سنة 19، فلم يزل يقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، وهرب يزدجرد فيمن بقي معه، فلحق بأصبهان، ثم سار إلى ناحية الري، وأتاه صاحب طبرستان، فأعلمه حصانة بلاده، فامتنع عليه، ومضى إلى مرو، وكان معه ألف اسوار من اساورته، وألف جبار، وألف صناجة، فكاتب نيزك طرخان، فعلاه بعمود، فمضى منهزما حتى دخل بيت طحان، ولحقوه فقتلوه في بيت الطحان، فصارت أساورته إلى بلخ، ووقعت صناجته إلى هراة وجباروه إلى مرو، وافترقت جموع الفرس وأذهب الله ملكهم، وفرق جمعهم، ورجع سعد إلى الكوفة، فاختط مسجدها، وقصر إمارتها، فاختط الاشعث جبانة كندة، واختط كندة حوله، واختط يزيد بن عبد الله ناحية البرية، واختطت بجلة حوله. وشاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور عليا، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجئ بعدنا


[ 152 ]

شئ، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك الله ! هذا الرأي. ووجه عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان، فمسحا السواد، وأمرهما أن لا يحملا أحدا فوق طاقته، فاجتبى خراج السواد ثمانين ألف ألف درهم، وأجرى على عثمان بن حنيف خمسة دراهم في كل يوم وجرابا من دقيق، وأمره أن لا يمسح تلا، ولا أجمة، ولا مستنقع ماء، ولا ما لا يبلغه الماء، وأن يمسح بالذراع السوداء، وهو ذراع وقبضة، وأقام إبهامه فوق القبضة شيئا يسيرا، فمسح عثمان كل شئ دون جبل حلوان إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات، فكتب إلى عمر: اني وجدت كل شئ بلغه الماء من عامر وغير عامر، بلغه الماء، عمله صاحبه أو لم يعمله…….. 1 درهما وقفيزا وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطاب خمسة دراهم. وفرض على رقابهم: على الموسر ثمانية وأربعين، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين، وعلى من لا يجد اثني عشر درهما، وقال: درهم في الشهر لا يعوز رجلا ! فحمل من خراج السواد، في أول سنة، ثمانون ألف ألف درهم، وحمل من قابل عشرون ومائة ألف ألف درهم. واجتمع الدهاقين إلى عثمان بن حنيف في الكرم، فقالوا: إنما في قرب من المصر يباع العنقود منه بدرهم، فكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر أن يحمل من هذا، ويوضع على هذا بقدر الموضعين. وكان عمر يأخذ الجزية من أهل كل صناعة من صناعتهم بقيمة ما يجب عليهم، وكذلك فعل علي، وكتب عمر إلى أبي موسى أن يضع على أرض البصرة من الخراج مثل ما وضع عثمان بن حنيف على أرض الكوفة، وكتب إلى عثمان بن حنيف: ان احمل إلى أهل المدينة أعطياتهم، فإنهم شركاؤهم. فكان يحمل ما بين العشرين ألف ألف إلى الثلاثين ألف ألف.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 153 ]

ودون عمر الدواوين وفرض العطاء سنة 20، وقال: قد كثرت الاموال، فأشير عليه أن يجعل ديوانا، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وقال: اكتبوا الناس على منازلهم، وابدأوا ببني عبد مناف. فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف، وقيل بدأ بالعباس بن عبد المطلب في ثلاثة آلاف، وكل من شهد بدرا من قريش في ثلاثة آلاف، ومن شهد بدرا من الانصار في أربعة آلاف، ولأهل مكة من كبار قريش مثل أبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان في خمسة آلاف، ثم قريش على منازلهم ممن لم يشهد بدرا، ولأمهات المؤمنين ستة آلاف ستة آلاف، ولعائشة وأم حبيبة وحفصة في اثني عشر ألفا، ولصفية وجويرية في خمسة آلاف خمسة آلاف، ولنفسه في أربعة آلاف، ولابنه عبد الله ابن عمر في خمسة آلاف، وفي أهل مكة الذين لم يهاجروا في ستمائة وسبعمائة، وفرض لأهل اليمن فئ أربعمائة، ولمضر في ثلاثمائة، لربيعة، في مائتين. وكان أول مال أعطاه مالا قدم به أبو هريرة من البحرين، مبلغه سبعمائة ألف درهم. قال: اكتبوا الناس على منازلهم، وكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه على الخلافة. فلما نظر عمر قال: وددت والله اني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن ابدأوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه، حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله. وفرض للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن، وكانت فريضته لهن في ألفين، وألف وخمسمائة، وألف، وفرض لأسماء بنت عميس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وخولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون في ألفين، وفرض لأم عبد في ألف وخمسمائة، وفرض لأشراف الاعاجم، وفرض لفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك والنخير خان، ولخالد وللجميل ابني بصبهرى دهقان الفلوجة، وللهرمزان، ولبسطام بن نرسي دهقان


[ 154 ]

بابل، وجفينة العبادي في ألفين ألفين، وقال: قوم أشراف أحببت أن أتألف بهم غيرهم. وقال عمر في آخر سنيه: اني كنت تألفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض، وإن عشت هذه السنة ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربيا على عجمي، وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر. ومصر الأمصار في هذه السنة. وقال: الامصار سبعة: فالمدينة مصر، والشأم مصر، والجزيرة مصر، والكوفة مصر، والبصرة مصر…. 1. وجند الأجناد فصير فلسطين جندا، والجزيرة جندا، والموصل جندا، وقنسرين جندا. وفي هذه السنة فتح عمرو بن العاص الاسكندرية وسائر أعمال مصر، واجتباها أربعة عشر ألف ألف دينار من خراج رؤوسهم، لكل رأس دينارا، وخراج غلاتهم من كل مائة إردب إردبين، وأخرج أصحاب هرقل، ومات هرقل ملك الروم، فزاد ذلك في وهنهم وضعفهم. ولما فتح عمرو بن العاص الاسكندرية أوفد إلى عمر بن الخطاب معاوية بن حديج الكندي، فقال له معاوية: اكتب معي ! فقال: وما أصنع بالكتاب معك ؟ خبره بما رأيت وأد إليه الرسالة. فلما أتى عمر وخبره الخبر خر ساجدا، وكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يحمل طعاما في البحر إلى المدينة يكفي عامة المسلمين، حتى يصير به إلى ساحل الجار، فحمل طعاما إلى القلزم، ثم حمله في البحر في عشرين مركبا في المركب ثلاثة آلاف إردب وأقل وأكثر، حتى وافى الجار. وبلغ عمر قدومها، فخرج ومعه جلة أصحاب رسول الله، حتى قدم الجار، فنظر السفن، ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبنى هنالك قصرين، وجعل ذلك الطعام فيهما، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس، ثم يختم أسافلها، فكان


1 بياض في الأصل. (*)

[ 155 ]

أول من صك وختم أسفل الصكاك. رجع الحديث إلى خبر سعد بن أبي وقاص. وقد رجع سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وأقام بها، واختطت الخطط، وبنيت المنازل والمحال، ثم إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا: لا يحسن يصلي، فعزله عمر عنهم، فدعا عليهم سعد ألا يرضيهم الله عزوجل عن أمير، ولا يرضي أميرا منهم. وولى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر….. 1 ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم ؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله، ووجه جبير بن مطعم، فمكر به المغيرة، وحمل عنه خبرا إلى عمر، وقال له: ولني، يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل فاسق. قال: وما عليك مني ؟ كفايتي ورجلتي لك، وفسقي على نفسي. فولاه الكوفة، فسألهم عن المغيرة، فقالوا: أنت أعلم به وبفسقه. فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة ! إن وليتكم مسلما تقيا قلتم: هو ضعيف، وإن وليتكم مجرما قلتم: هو فاسق. فيقال إنه رد سعد بن أبي وقاص. وأخرج عمر يهود خيبر من الحجاز لما قتل مظهر بن رافع الحارثي وقال: سمعت رسول الله يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وقسم خيبر على ستة عشر سهما. ووجه ميسرة بن مسروق العبسي إلى أرض الروم، فكان أول جيش دخلها جيش ميسرة في هذه السنة، وهي سنة 20، وأغزى حبيب بن مسلمة الفهري، وقدر له أجلا، فجاز ذلك الوقت، واشتد غم عمر حتى وافى، فقال له: ما أخرك عن الوقت الذي وقته لك ؟ قال: اعتل رجل من المسلمين، فأقمنا عليه حتى قضى الله ما قضى. ولم يغز عمر بلاد الروم بعد حبيب، وكان عمر يقول: إذا ذكر الروم والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم، لنا ما دونه وللروم ما وراءه، لما كان يكره قتالهم. ووجه علقمة بن مجزز المدلجي في


1 بياض في الاصل. (*)

[ 156 ]

عشرين مركبا، أو نحوها، فأصيبوا جميعا، فحلف عمر لا يحمل في البحر أحدا أبدا. وفي هذه السنة كانت زلازل لم ير مثلها. وافتتحت نهاوند سنة 21، وأمير الناس النعمان بن مقرن المزني، وكانت الاعاجم قد اجتمعت من الري وقومس واصبهان وعدة بلدان، حتى صاروا إلى نهاوند، وقالوا: قد غلبنا على بلدنا، ونالنا الذل في دارنا. فبعث عمر النعمان في جيش، فصار إلى نهاوند، وقد ملك الاعاجم عليهم ملكا يقال له دوبر 1. واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل النعمان بن مقرن، ثم هزم الله الاعاجم، وفتحت نهاوند. وفي غزاة نهاوند كان عمر بن الخطاب على منبر رسول الله يخطب، فبينا هو يخطب إذ قال: يا سارية الجبل الجبل. وكان سارية في جيش نهاوند، فقال سارية لما قدم من نهاوند: أحدق بنا العدو، فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى الجبل، فسلمنا. وفتح عمرو بن العاص برقة، وصالحهم على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا في جزيتهم في هذه السنة، ثم سار حتى أتى أطرابلس افريقية، فافتتحها، وكتب إلى عمر يستأذنه في غزو باقي افريقية، فكتب إليه أنها مفرقة، ولا يغزوها أحد ما بقيت. ووجه بسر بن أبي أرطاة، فصالح أهل ودان وأهل فزان، وبعث عقبة بن نافع الفهري، وكان أخا العاص ابن وائل السهمي لامه، إلى أرض النوبة، ولقي المسلمون من النوبة قتالا شديدا. ولما انصرف المسلمون من بلاد النوبة اختطوا الجيزة، وكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: لا تجعل بيني وبينك ماء، وانزلوا موضعا متى أردت أن أركب راحلتي وأصير إليكم فعلت. وافتتحت اذربيجان سنة 22، وأمير الناس المغيرة بن شعبة. وقيل هاشم


1 هكذا دون نقط في الاصل. (*)

[ 157 ]

ابن عتبة بن أبي وقاص، وافتتح أبو موسى الاشعري كور الاهواز واصطخر سنة 23، وكتب إليه عمر أن ضع عليها الخراج كما وضع على سائر أرض العراق، ففعل ذلك، وافتتح عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي همذان واصبهان في هذه السنة، واففتح قرظة بن كعب الانصاري الري، وافتتح معاوية بن أبي سفيان عسقلان، وولى عمر خالد بن الوليد الرها وحران ورقة وتل موزن وآمد، فأقام بها سنة، ثم استعفى، فأعفاه، وقدم المدينة، فأقام بها أياما، ثم توفي خالد بالمدينة. وقال الواقدي إن خالد بن الوليد توفي بحمص، فأوصى إلى عمر، ولما ورد إليه خبر وفاته بكته حفصة وآل عمر، وكثر بكاؤهن عليه، فقال عمر: حق لهن أن يبكين على أبي سليمان، وأظهر عليه جزعا. ووجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة مددا له، فلم يصل إليه إلا بعد قتل عمر. وأذن عمر لازواج النبي في الحج في هذه السنة، وحج معهن. قال بعضهم: فرأيت أزواج رسول الله في الهوادج، وعليهن الطيالسة الزرق سنة 23، وكان يكون أمامهن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وراءهن، فلا يدعان أحدا يدنو منهن. وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم. قيل: إن فيهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال: والله لئن كان هذا المال لله، فما يحل لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضا، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر: إما أن تكون مؤمنا لا تغل أو منافقا أفك. فقال: بل مؤمن لا أغل. واستأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله. قال: إني


[ 158 ]

آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة. لا تخرجوا ! فتسللوا بالناس يمينا وشمالا. قال عبد الرحمن بن عوف، فقلت: نعم، يا أمير المؤمنين، ولم تمنعنا من الجهاد ؟ فقال: لان أسكت عنك، فلا أجيبك، خير لك من أن أجيبك. ثم اندفع يحدث عن أبي بكر، حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه. وروي عن ابن عباس قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل، فقال: اخرج بنا نحرس نواحي المدينة ! فخرج، وعلى عنقه درته، حافيا، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتأوه صعدا، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما أخرجك إلى هذا الامر ؟ قال: أمر الله يا ابن عباس ! قال: إن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: غص غواص، إن كنت لتقول فتحسن. قال: ذكرت هذا الامر بعينه وإلى من تصيره. قال: صدقت ! قال فقلت له: أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف ؟ فقال: ذاك رجل ممسك، وهذا الامر لا يصلح إلا لمعط في غير سرف ومانع في غير إقتار. قال فقلت: سعد بن أبي وقاص ؟ قال: مؤمن ضعيف ! قال فقلت: طلحة بن عبد الله ؟ قال: ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره، وفيه بأو وكبر. قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الاسلام ؟ قال: ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى يفوته الصلاة. قال فقلت: عثمان بن عفان ؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته. ثم سكت. قال فقال: امضها يا ابن عباس ! أترى صاحبكم لها موضعا ؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه ؟ قال: هو والله كما ذكرت ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق، فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه خصالا: الدعابة في المجلس،


[ 159 ]

واستبداد الرأي، والتبكيت للناس مع حداثة السن. قال قلت: يا أمير المؤمنين. هلا استحدثتم سنة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبدود، وقد كعم عنه الابطال، وتأخرت عنه الاشياخ، ويوم بدر إذ كان يقط الاقران قطا، ولا سبقتموه بالاسلام، إذ كان جعلته السعب 1 وقريش يستوفيكم ؟ فقال: إليك يا ابن عباس ! أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه ؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت. فقال: والله يا ابن عباس إن عليا ابن عمك لاحق الناس بها، ولكن قريشا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليتحاربن. وحج عمر جميع سني ولايته، إلا السنة الاولى، وهي سنة 13، فإن عبد الرحمن بن عوف حج بالناس، وكان الغالب عليه عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان. وروى بعضهم أن عبد الله بن عباس كان على شرطه، وكان حاجبه يرفأ مولاه، فطعن عمر يوم الاربعاء لاربع ليال بقين من ذي الحجة سنة 23، وكان ذلك من شهور العجم في تشرين الآخر، وكان الذي طعنه أبو لؤلؤة، عبد للمغيرة بن شعبة، وجأه بخنجر مسموم، وكانت سنو عمر يومئذ ثلاثا وستين سنة، وقيل أربعا وخمسين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وثمانية أشهر. ولما طعن عمر قال لابنه: إني كنت استسلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفا، فليرد من مال ولدي، فإن لم يف مالهم فمال آل الخطاب، فإن لم يف فمال بني عدي، وإلا قريش عامة، ولا تعدوهم. ولما حضرته الوفاة اجتمع إليه الناس فقال: إني قد مصرت الامصار، ودونت الدواوين، وأجريت العطايا، وغزوت في البر والبحر، فإن أهلك،


1 هكذا دون نقط في الاصل. (*)

[ 160 ]

فالله خليفتي عليكم، وسترون رأيكم. إني قد تركتكم على الواضحة، إنما أخاف عليكم أحد رجلين: إما رجلا يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتله عليه…. 1. وإني قد قرأت في كتاب الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عليم حكيم، فلا تهلكوا عن الرجم. وقد رجم رسول الله، ورجمنا، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي، فقد قرأتها في كتاب الله. وصير الامر شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته مني. فقيل له في ابنه عبد الله بن عمر، قال: حسب آل الخطاب ما تحملوا منها ! إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد، واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الانصاري، وقال: إن رضي أربعة وخالف اثنان، فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة، فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وإن جازت الثلاثة الايام ولم يتراضوا بأحد، فاضرب أعناقهم جميعا. وكانت الشورى بقية ذي الحجة سنة 23، وصهيب يصلي بالناس، وهو الذي صلى على عمر، وكان أبو طلحة يدخل رأسه إليهم ويقول: العجل العجل، فقد قرب الوقت، وانقضت المدة. ودفن عمر إلى جانب أبي بكر، وخلف من الولد الذكور ستة: عبد الله، وعبيدالله، وعبد الرحمن، وعاصما، وزيدا، وأبا عبيدالله، ووثب ابنه عبيدالله فقتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته. واغتر الهرمزان فقتله، وكان عبيدالله يحدث أنه تبعه ؟، فلما أحس الهرمزان بالسيف قال: أشهد أن لا إله


1 بياض في الاصل. (*)

[ 161 ]

إلا الله وأن محمد رسول الله. وروى بعضهم أن عمر أوصى أن يقاد عبيدالله بالهرمزان، وأن عثمان أراد ذلك، وقد كان قبل أن يلي الامر أشد من خلق الله على عبيدالله، حتى جر بشعره، وقال: يا عدو الله قتلت رجلا مسلما، وصبية طفلة، وامرأة لا ذنب لها ! قتلني الله إن لم أقتلك. فلما ولي رده إلى عمرو بن العاص. وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر أنه قال: يغفر الله لحفصة، فإنها شجعت عبيدالله على قتلهم. صفة عمر بن الخطاب: وكان عمر طوالا، أصلع، أقبل، شديد الادمة، أعسر يسرا، يعمل بيديه جميعا، ويصفر لحيته، وقيل يغيرها بالحناء والكتم. وكان الفقهاء في أيامه الذين يؤخذ عنهم العلم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الاشعري وأبو الدرداء وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس. وكان عمال عمر، وقت وفاته: سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وقيل المغيرة، وأبو موسى الاشعري على البصرة، وعمير بن سعد الانصاري على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشأم، وعمرو بن العاص على مصر، وزياد بن لبيد البياضي على بعض اليمن، وأبو هريرة على عمان، ونافع بن الحارث على مكة، ويعلى بن منية التميمي على صنعاء، والحارث بن أبي العاص الثقفي على البحرين، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند.


[ 162 ]

ايام عثمان بن عفان ثم استخلف عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبدشمس، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري، لما توفي عمر، واجتمعوا للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلا، ففعلوا ذلك، فأقام ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال: لنا الله عليك، إن وليت هذا الامر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الامر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الاولى، فأجابه مثل الجواب الاول، ثم خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الاولى، فأجابه مثل ما كان أجابه، ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الاولى، فقال: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى إجيرى أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الامر عني. فخلا بعثمان فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده. وخرج عثمان، والناس يهنئونه، وكان ذلك يوم الاثنين، مستهل المحرم، سنة 24، ومن شهور العجم في تشرين الآخر، وكانت الشمس يومئذ في العقرب ثلاث عشرة درجة، وزحل في الحمل إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الجدي أربع درجات وأربعين دقيقة، والمريخ في الميزان خمسين دقيقة، والزهرة في العقرب إحدى عشرة درجة راجعا، والرأس في الثور أربعا وعشرين درجة، فصعد عثمان المنبر، فجلس في الموضع الذي كان


[ 163 ]

يجلس فيه رسول الله، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة، فتكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: اليوم ولد الشر، وكان عثمان رجلا حييا فأرتج عليه. فقام مليا لا يتكلم، ثم قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب، وإن تعيشوا فسيأتيكم الخطبة. ثم نزل. وروى بعضهم أن عثمان خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة، وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد بن عمرو، فقال: ما هذا البدعة ! ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان. فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجبا لقريش، ودفعهم هذا الامر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الاسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحا للامة ولا صوابا في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين. فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل ؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال فقلت: ألا تقوم بهذا الامر فأعينك عليه ؟ فقال: يا ابن أخي ! إن هذا الامر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي المقداد، ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فذكرت ذلك له فقال: لقد أخبرنا فلم نأل. وأكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيدالله بن عمر، فصعد عثمان المنبر، فخطب الناس، ثم قال: ألا إني ولي دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر، وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى


[ 164 ]

لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال: فننظر وتنظرون. ثم أخرج عثمان عبيدالله بن عمر من المدينة إلى الكوفة، وأنزله دارا، فنسب الموضع إليه، كويفة ابن عمر، فقال بعضهم: أبا عمرو عبيدالله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان وافتتح المغيرة بن شعبة همذان، وكتب إلى عثمان أنه قد دخل الري وأنزلها المسلمين. وكانت الري قد افتتحت في حياة عمر، وقيل لم تفتح، ولكنها محاصرة، وافتتحت سنة 24. وكتب عثمان إلى الحكم بن أبي العاص أن يقدم عليه، وكان طريد رسول الله، وقد كان عثمان لما ولي أبو بكر اجتمع هو وقوم من بني أمية إلى أبي بكر، فسألوه في الحكم، فلم يأذن له، فلما ولي عمر فعلوا ذلك، فلم يأذن له، فأنكر الناس إذنه له، وقال بعضهم: رأيت الحكم بن أبي العاص يوم قدم المدينة عليه فزر خلق، وهو يسوق تيسا، حتى دخل دار عثمان، والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان. وانتقضت الاسكندرية سنة 25، وحاربهم عمرو بن العاص، حتى فتحها وسبى الذراري، ووجه بهم إلى المدينة، فردهم عثمان إلى ذمتهم الاولى، وعزل عمرو بن العاص، وولى عبد الله بن أبي سرح، فكان ذلك سبب العداوة بين عثمان وعمرو. وقال عثمان لعمرو لما قدم: كيف تركت عبد الله بن سعد ؟ قال: كما أحببت ! قال: وما ذاك ؟ قال: قوي في ذات نفسه، ضعيف في ذات الله. قال: لقد أمرته أن يتبع أثرك. قال: لقد كلفته شططا. واجتبى عبد الله مصر اثني عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو: درت اللقاح ! قال: ذاك ان يتم يضر بالفصلان. ووسع عثمان في المسجد الحرام، وزاد فيه سنة 26، وابتاع من قوم منازلهم، وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الاثمان في بيت المال، فصاحوا


[ 165 ]

بعثمان، فامر بهم ؟ للحبس. وقال: ما جرأكم علي إلا حلمي، وقد فعل هذا عمر، فلم تصيحوا، وجدد أنصاب الحرم. وفي هذه السنة افتتح عثمان بن أبي العاص الثقفي سابور. وفيها ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة مكان سعد، وصلى بالناس الغداة، وهو سكران، أربع ركعات، ثم تهوع في المحراب، والتفت إلى من كان خلفه، فقال: أزيدكم ؟ ثم جلس في صحن المسجد، وأتى بساحر يدعى بطروى من الكوفة، فاجتمع الناس عليه، فجعل يدخل من دبر الناقة ويخرج من فيها، ويعمل أعاجيب، فرآه جندب بن كعب الازدي، فخرج إلى بعض الصياقلة، فأخذ منه سيفا ثم أقبل في الزحام وقد ستر السيف حتى ضرب عنقه، ثم قال له: أحي نفسك، إن كنت صادقا ! فأخذه الوليد، فأراد أن يضرب عنقه، فقام قوم من الازد، فقالوا: لا تقتل والله صاحبنا، فصيره في الحبس. وكان يصلي الليل كله، فنظر إليه السجان، وكان يكنى أبا سنان، فقال: ما عذري عند الله إن حبستك على الوليد يقتلك ؟ فأطلقه، فصار جندب إلى المدينة، وأخذ الوليد أبا سنان فضربه مائتي سوط فوثب عليه جرير بن عبد الله، وعدي بن حاتم، وحذيفة بن اليمان، والاشعث بن قيس، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه. فلما قدم الوليد قال عثمان: من يضربه ؟ فأحجم الناس لقرابته، وكان أخا عثمان لامه، فقام علي فضربه، ثم بعث به عثمان على صدقات كلب وبلقين. وأغزى عثمان الناس افريقية سنة 27، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلقي جرجيس ودعاه إلى الاسلام، أو أدله الجزية، فامتنع، وكان جرجيس في جمع عظيم، ففض الله ذلك الجمع، فطلب جرجيس الصلح، فأبي عليه، وهزموه حتى صار إلى مدينة سبيطلة، والتحمت الحرب حتى قتل جرجيس، وكثرت الغنائم، وبلغت ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار.


[ 166 ]

وروى بعضهم أن عثمان زوج ابنته من مروان بن الحكم، وأمر له بخمس هذا المال. ووجه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عبد الله بن الزبير إلى عثمان بالبشارة، فسار عشرين ليلة، حتى قدم المدينة، وأخبر عثمان، فصعد عثمان المنبر، فخبر به الناس. ووجه عبد الله بن سعد جيشا إلى أرض النوبة، فسألوا الموادعة والصلح على أن عليهم في كل سنة ثلاثمائة رأس، ويبعث إليهم مثل ذلك من الطعام والشراب، فكتب إلى عثمان بذلك، فأجابهم إلى ذلك. وافتتح معاوية بن أبي سفيان قبرس. وفي هذه السنة بنى عثمان داره، وبنى الزوراء، ووسع مسجد رسول الله في سنة 29، وحملت له الحجارة من بطن نخل، وجعل في عمده الرصاص، وجعل طوله مائة وستين ذراعا وعرضه مائة ذراع وخمسين ذراعا، وأبوابه ستة على ما كانت عليه على عهد عمر. وعزل أبا موسى الاشعري، وولى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، فلما بلغ أبا موسى ولاية عبد الله بن عامر قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: قد جاءكم غلام كثير العمات والخالات والجدات في قريش، يفيض عليكم المال فيضا. فلما قدم ابن عامر البصرة وجه الجنود لفتح سابور وفسا ودرابجرد واصطخر من أرض فارس، وعلى ذلك الجند الذي فتح اصطخر عبيدالله بن معمر التيمي، فقتل عبيدالله بن معمر في أصل مدينة اصطخر، فقام مكانه عمر بن عبيدالله حتى فتح المدينة، ثم سار عبد الله بن عامر بنفسه إلى اصطخر ووجه عبد الرحمن بن سمرة، وكانت له صحبة، إلى سجستان، فافتتح زرنج بعد نكبة شديدة. ولما ولى عثمان عبد الله بن عامر البصرة وولى سعيد بن العاص الكوفة كتب إليهما: أيكما سبق إلى خراسان، فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن


[ 167 ]

عامر وسعيد بن العاص، فأتى دهقان من دهاقين خراسان إلى عبد الله بن عامر، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك ؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة. فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس، وعبد الله بن خازم السلمي على مقدمته، فسار إلى نيسابور. وأقام على المدينة، ولقيه عبد الله بن عامر، فافتتح نيسابور عنوة في سنة 30، وصالح أهل الطبسين على خمسة وسبعين ألفا، ثم سار حتى صار إلى مدينة أبرشهر، فحاصرهم شهورا، ثم فتحها وصالحهم، وكتب إلى أهل هراة، فكتبوا إليه: إن فتحت أبرشهر أجبناك إلى ما سألت، وبوشنج وبادغيس يومئذ إلى هراة، وكانت طوس ونيسابور إلى أبرشهر، ثم فتحها وصالحهم على ألف ألف درهم. وبعث الاحنف بن قيس إلى هراة ومرو الروذ، فسار إلى هراة، فلقيه صاحبها بالميرة والظاعة، ثم سار إلى مرو الروذ، ففتحها عنوة، وفتح الطالقان والفارياب، وطخارستان، ولم يرجع إلى عبد الله بن عامر، حتى شرب من نهر بلخ. وقال بعض أهل خراسان: وجه عبد الله بن عامر حين افتتح نيسابور بالجيوش فبعث الاحنف بن قيس إلى مرو الروذ، وبعث أوس بن ثعلبة التميمي إلى هراة، وبعث حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرو، وعبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس، ففتح القوم جميعا ما بعثوا له خلا مرو، فإنها صالحت حاتما على ألفي ألف ومائتي ألف أوقية وعلى أن يوسعوا للمسلمين في منازلهم. ولما فتح عبد الله بن عامر هذه الكور انصرف إلى عثمان، وخالف بين الترك والديلم، وكان قد صير خراسان أرباعا، وولى قيس بن الهيثم السلمي على ربع، وراشد بن عمرو الجديدي على ربع، وعمران بن الفصيل البرجمي على ربع، وعمرو بن مالك الخزاعي على ربع، فلما رده عثمان وجه أمير ابن أحمد اليشكري إلى خراسان، فصار إلى مرو، فأناخ بها، ثم أدركه الشتاء وأدخله أهل مرو، وبلغه أنهم يريدون الوثوب به، فجرد فيهم السيف


[ 168 ]

حتى أفناهم، ثم قفل إلى عثمان، فلما رآه عثمان خوفه، فانصرف عنه مغضبا، وكان عثمان أنكر عليه قتل أهل مرو. ورجع عبد الله بن عامر إلى البصرة، ثم صار إلى كرمان، فأناخ بها فنالهم مجاعة شديدة، حتى كان الرغيف بدينار، ثم أتاه الخبر بأن عثمان قد حوصر، فانصرف، وخلف بخراسان قيس بن الهيثم ابن الصلت، فافتتح قيس طخارستان، وكان عثمان قد وجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة الباهلي مددا له، فلما قدم عليه تنافرا، وقتل عثمان وهم على تلك المنافرة. وقد كان حبيب بن مسلمة فتح بعض أرمينية، وكتب عثمان إلى سلمان بإمرته على أرمينية، فسار حتى أتى البيلقان، فخرج إليه أهلها، فصالحوه ومضى حتى أتى برذعة، فصالحه أهلها على شئ معلوم. وقيل إن حبيب بن مسلمة افتتح جرزان. ثم نفذ سلمان إلى شروان، فصالحه ملكها، ثم سار حتى أتى أرض مسقط، فصالح أهلها، وفعل مثل ذلك ملك اللكز وأهل الشابران وأهل فيلان، ولقيه خاقان ملك الخزر في جيشه، خلف نهر البلنجر، في خلق عظيم، فقتل سلمان ومن معه، وهم أربعة آلاف، فولى عثمان حذيفة بن اليمان العبسي، ثم صرفه، وولى المغيرة بن شعبة. وزوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة. وحدث أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم ابن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله، فألح عليه، فقال: إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال: كذبت والله ! ما أنا لك بخازن، ولا لاهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين.


[ 169 ]

وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولاهل بيته، وإنما كنت خازنا للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى زيد بن ثابت. وفي هذه السنة توفي أبو سفيان بن حرب، وصلى عليه عثمان وهي سنة 31. وأغزى عثمان جيشا، أميرهم معاوية، على الصائفة سنة 32، فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية، وفتحوا فتوحا كثيرة، وصير عثمان إلى معاوية غزو الروم على أن يوجه من رأى على الصائفة، فولى معاوية سفيان بن عوف الغامدي فلم يزل عليها أيام عثمان… 1 لشئ شجر بينهما في خلافة عثمان. وروي أن عثمان اعتل علة اشتدت به، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهدا لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتب بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن، وغضب غضبا شديدا: أستعمله علانية، ويستعملني سرا. ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدنية. وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بحمران مولاه، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرحمن بن عوف. ووجه إليه عبد الرحمن بن عوف بابنه، فقال له قل له: والله لقد بايعتك، وإن في ثلاث خصال أفضلك بهن: اني حضرت بدرا، ولم تحضرها، وحضرت بيعة الرضوان، ولم تحضرها، وثبت يوم أحد وانهزمت. فلما أدى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له قل له: أما غيبتي عن بدر، فإني أقمت على بيت رسول الله، فضرب لي رسول الله سهمي وأجري، وأما بيعة الرضوان، فقد صفق لي رسول الله بيمينه على شماله، فشمال رسول الله خير من أيمانكم، وأما يوم أحد فقد كان ما ذكرت إلا أن الله قد عفا عني. ولقد فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا. وكان عبد الرحمن قد أطلق امرأته تماضر بنت


1 بياض في الاصل (*)

[ 170 ]

الاصبغ الكلبية لما اشتدت علته، فورثها عثمان، فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار، وقيل ثمانين ألف دينار. وجمع عثمان القرآن وألفه، وصير الطوال مع الطوال، والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل أحرقها، فلم يبق مصحف إلا فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: أن أشخصه، إنه لم يكن هذا الدين خبالا وهذه الامة فسادا. فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء، فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان، فجز برجله حتى كسر له ضلعان، فتكلمت عائشة، وقالت قولا كثيرا، وبعث بها إلى الانصار، وبعث بمصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى البصرة، ومصحف إلى المدينة، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى مصر، ومصحف إلى الشأم، ومصحف إلى البحرين، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرأوا على نسخة واحدة. وكان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون قرآن آل فلان، فأراد أن يكون نسخة واحدة، وقيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه، فلما بلغه أنه يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا. وقيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان، واعتل ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك ؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، انك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر، ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك ! قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا غني عنه ؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان


[ 171 ]

عثمان غائبا فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر، فقال: قبر من هذا ؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا: ولي أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء ! أما لقد كنت به عليما. وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح، فالاول من إبراهيم، والسلالة من اسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك زبدها، ومحمد وارث علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الامة المتحيرة بعد نبيها ! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لاكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وبلغ عثمان أيضا أن أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر، فسيره إلى الشأم إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد،


[ 172 ]

فيقول كما كان يقول، ويجتمع إليه الناس، حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق، إذا صلى صلاة الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له. وكتب معاوية إلى عثمان: إنك قد أفسدت الشأم على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن احمله على قتب بغير وطاء، فقدم به إلى المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل إليه وعنده جماعة قال: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله يقول: إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. فقال: نعم ! سمعت رسول الله يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله يقول ذلك ؟ فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر ؟ وقص عليه الخبر. فقال علي: نعم ! قال: وكيف تشهد ؟ قال: لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر. فلم يقم بالمدينة إلا أياما حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها ! قال: أتخرجني من حرم رسول الله ؟ قال: نعم، وأنفك راغم. قال: فإلى مكة ؟ قال: لا ! قال: فإلى البصرة قال: لا ! قال: فإلى الكوفة ؟ قال: لا ! ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها. يامروان ! أخرجه، ولا تدع أحدا يكلمه، حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته، فخرج وعلي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون، فلما رأى أبو ذر عليا قام إليه فقبل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي ! فذهب علي يكلمه فقال له مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة مروان، وقال: تنح، نحاك الله إلى النار ! ثم شيعه، فكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل رجل من القوم وانصرفوا، وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين


[ 173 ]

علي في هذا بعض الوحشة، وتلاحيا كلاما، فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي. ولما حضرته الوفاة قالت له ابنته: إني وحدي في هذا الموضع، وأخاف أن تغلبني عليك السباع. فقال: كلا إنه سيحضرني نفر مؤمنون، فانظري أترين أحدا ؟ فقالت: ما أرى أحدا ! قال: ما حضر الوقت، ثم قال: انظري، هل ترين أحدا ؟ قالت: نعم أرى ركبا مقبلين، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، حولي وجهي إلى القبلة، فإذا حضر القوم فاقرئيهم مني السلام، فإذا فرغوا من أمري، فاذبحي لهم هذه الشاة، وقولي لهم: أقسمت عليكم إن برحتم حتى تأكلوا، ثم قضي عليه، فأتى القوم، فقالت لهم الجارية: هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفي، فنزلوا، وكانوا سبعة نفر، فيهم حذيفة بن اليمان، والاشتر، فبكوا بكاء شديدا، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه. ثم قالت لهم: إنه يقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تأكلوا ! فذبحوا الشاة، وأكلوا، ثم حملوا ابنته، حتى صاروا بها إلى المدينة. فلما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال: رحم الله أبا ذر ! قال عمار: نعم ! رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان. وبلغ عثمان عن عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضا، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب، وسألوه إعانتهم، فقال علي: لا ندع عثمان ورأيه. فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فأمسك عنه، وسير عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله إلى القموس من خيبر، وكان سبب تسييره إياه أنه بلغه كرهه مساوئ ابنه وخاله، وأنه هجاه. وكان عثمان جوادا وصولا بالاموال، وقدم أقاربه وذوي أرحامه، فسوى بين الناس في الاعطية وكان الغالب عليه مروان بن الحكم بن أبي العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعلى شرطه عبد الله بن قنفذ التيمي، وحاجبه حمران ابن أبان مولاه. ونقم الناس على عثمان بعد ولايته بست سنين، وتكلم فيه من تكلم،


[ 174 ]

وقالوا: آثر القرباء، وحمى الحمى، وبنى الدار، واتخذ الضياع والاموال بمال الله والمسلمين، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله، وعبد الرحمن بن حنبل، وآوى الحكم بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي رسول الله، وأهدر دم الهرمزان، ولم يقتل عبيدالله بن عمر به، وولى الوليد بن عقبة الكوفة، فأحدث في الصلاة ما أحدث، فلم يمنعه ذلك من إعاذته إياه، وأجاز الرجم، وذلك أنه كان رجم امرأة من جهينة دخلت على زوجها، فولدت لستة أشهر، فأمر عثمان برجمها، فلما أخرجت دخل إليه علي بن أبي طالب فقال: إن الله عزوجل يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقال في رضاعه حولين كاملين، فأرسل عثمان في أثر المرأة، فوجدت قد رجمت وماتت. واعترف الرجل بالولد. وقدم عليه أهل البلدان فتكلموا، وبلغ عثمان أن أهل مصر قدموا عليهم السلاح، فوجه إليهم عمرو بن العاص وكلمهم، فقال لهم: إنه يرجع إلى ما تحبون، ثم كتب لهم بذلك وانصرفوا، فقال لعمرو بن العاص: اخرج فاعذرني عند الناس، فخرج عمرو، فصعد المنبر، ونادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر محمدا بما هو أهله، وقال: بعثه الله رأفة ورحمة، فبلغ الرسالة، ونصح الامة، وجاهد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أفليس ذلك كذلك ؟ قالوا: بلى. فجزاه الله خير ما جزى نبيا عن. أمته، ثم قال: وولي من بعده رجل عدل في الرعية، وحكم بالحق، أفليس ذلك كذلك ؟ قالوا: بلى ! فجزاه الله خيرا. قال: ثم ولي الاعسر الاحول ابن حنتمة، فأبدت له الارض أفلاذ كبدها، وأظهرت له مكنون كنوزها، فخرج من الدنيا، وما أنبل عصاه، أفليس ذلك كذلك ؟ قالوا: بلى ! فجزاه الله خيرا. قال: ثم ولي عثمان، فقلتم، وقال، تلومونه ويعذر نفسه، أفليس ذلك كذلك ؟ قالوا: بلى ! قال: فاصبروا له، فإن الصغير يكبر والهزيل يسمن، ولعل تأخير أمر خير من تقديمه. ثم نزل، فدخل أهل عثمان عليه


[ 175 ]

فقالوا له: هل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو ؟ فلما دخل عليه عمرو قال: يا ابن النابغة ! والله ما زدت ان حرضت الناس علي. قال: والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت، ولقد ركبت من الناس، وركبوها منك، فاعتزل إن لم تعتدل ! فقال: يا ابن النابغة قمل درعك مذ عزلتك عن مصر. وسار الركب الذين قدموا من مصر، فلما صاروا في بعض الطريق، إذا براكب على جمل، فأنكروه، ففتشوه، فوجدوا معه صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد: إذا قدم عليك النفر، فاقطع أيديهم وأرجلهم، فقدموا واتفقوا على الخروج، وكان من يأخذون عنه محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وكنانة بن بشر، وابن عديس البلوي، فرجعوا إلى المدينة، وكان بين عثمان وعائشة منافرة وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر ابن الخطاب، وصيرها أسوة غيرها من نساء رسول الله، فإن عثمان يوما ليخطب إذ دلت عائشة قميص رسول الله، ونادت: يا معشر المسلمين ! هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته ! فقال عثمان: رب اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم. وحصر ابن عديس البلوي عثمان في داره، فناشدهم الله، ثم نشد مفاتيح الخزائن، فأتوا بها إلى طلحة بن عبيدالله، وعثمان محصور في داره، وكان أكثر من يؤلب عليه طلحة والزبير وعائشة، فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجه إليه في اثني عشر ألفا، ثم قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشأم، حتى آتي أمير المؤمنين لاعرف صحة أمره، فأتى عثمان، فسأله عن المدة، فقال: قد قدمت لاعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله، ولكنك أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر. ارجع، فجئني بالناس ! فرجع، فلم يعد إليه حتى قتل. وصار مروان إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين ! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس ؟ قالت: قد فرغت من جهازي، وأنا أريد الحج.


[ 176 ]

قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين، قالت: لعلك ترى أني في شك من صاحبك ؟ أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري، واني أطيق حمله، فأطرحه في البحر. وأقام عثمان محاصرا أربعين يوما. وقتل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة 35، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وقيل ست وثمانين سنة، وكان الذين تولوا قتله: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن حزم، وقيل كنانة بن بشر التجيبي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الرحمن ابن عديس البلوي، وسودان بن حمران، وأقام ثلاثا لم يدفن، وحضر دفنه حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، وحويطب بن عبد العزى، وعمرو بن عثمان ابنه. ودفن بالمدينة ليلا في موضع يعرف بحش كوكب، وصلى عليه هؤلاء الاربعة، وقيل لم يصل عليه، وقيل أحد الاربعة قد صلى عليه، فدفن بغير صلاة. وكانت أيامه أثنتي عشرة سنة، وحج عثمان بالناس أيامه كلها إلا السنة الاولى. وهي سنة 24. فإنه حج بالناس عبد الرحمن بن عوف، والسنة التي قتل فيها. فإنه حج بالناس عبد الله بن عباس، وهي سنة 35، وكان له من الولد الذكور سبعة: عمرو وعمر وخالد وأبان والوليد وسعيد وعبد الملك. صفة عثمان بن عفان: وكان عثمان بن عفان مربوعا، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثير اللحية، عظيمها، أسمر، عظيم الكرادس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، أسنانه مشدودة بالذهب، يصفر لحيته. وكان عمال عثمان: على اليمن يعلى بن منية التميمي. وعلى مكة عبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلى همذان جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي. وعلى الكوفة أبا موسى الاشعري، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز. وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعلى الشأم معاوية بن أبي سفيان بن حرب.


[ 177 ]

وكان الفقهاء في أيام عثمان أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الاشعري، وعبد الله بن عباس، وأبا الدرداء، وأبا سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وسلمان بن ربيعة الباهلي.


[ 178 ]

خلافة امير المؤمنين علي بن ابي طالب واستخلف علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف، يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة 35، ومن شهور العجم في حزيران، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء ستا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الدلو ثماني عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في السنبلة خمسا وعشرين درجة، والمريخ في الجدي سبع درجات… 1 بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والانصار، وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيدالله، فقال رجل من بني أسد: أول يد بايعت يد شلاء، أو يد ناقصة، وقام الاشتر فقال: أبايعك يا أمير المؤمنين على أن علي بيعة أهل الكوفة، ثم قام طلحة والزبير فقالا: نبايعك يا أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب، فقالوا: نبايعك على أن علينا بيعة الانصار، وسائر قريش. وبايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وكان لسان القوم. فقال: يا هذا إنك قد وترتنا جميعا، أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه… 2 على ذلك بنو عبد مناف، فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتلة صاحبنا. فغضب علي وقال: أما ما ذكرت من وتري إياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله


1 و 2 بياض في الاصل. (*)

[ 179 ]

وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم. فقال مروان: بل نبايعك، ونقيم معك، فترى ونرى. وقام قوم من الانصار فتكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الانصاري، وكان خطيب الانصار، فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك. ثم قام خزيمة بن ثابت الانصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين ! ما أصبنا لامرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلا إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلانت أقدم الناس إيمانا، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك. وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الاشتر فقال: أيها الناس، هذا وصي الاوصياء، ووارث علم الانبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالايمان، ورسوله بجنة الرضوان. من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الاواخر، ولا الاوائل. ثم قام عقبة بن عمرو فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والامام الاهدى الذي لا يخاف جوره، والعالم الذي لا يخاف جهله. وعزل علي عمال عثمان عن البلدان خلا أبي موسى الاشعري، كلمه فيه الاشتر، فأقره، وولى قثم بن العباس مكة، وعبيدالله بن العباس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف الانصاري البصرة. وأتاه


[ 180 ]

طلحة والزبير فقالا: إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة، فأشركنا في أمرك ! فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والاود. وروى بعضهم أنه ولى طلحة اليمن، والزبير اليمامة والبحرين، فلما دفع إليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم ! قال: وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين. واسترد العهد منهما، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا ! فقال: لولا ما ظهر من حرصكما لقد كان لي فيكما رأي. وروى بعضهم أن المغيرة بن شعبة قال له: يا أمير المؤمنين ! انفذ طلحة إلى اليمن، والزبير إلى البحرين، واكتب بعهد معاوية على الشأم، فإذا استقامت الامور، فشأنك وما تريده فيهم ! فأجابه في ذلك بجواب، فقال المغيرة: والله ما نصحت له قبلها، ولا أنصح له بعدها. وكانت عائشة بمكة، خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان ؟ قال: قتل ! قالت: بعدا وسحقا ! قالت: فمن بايع الناس ؟ قال: طلحة. قالت: أيها ذو الاصبع. ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس ؟ قال: بايعوا عليا. قالت: والله ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه. ثم رجعت إلى مكة، وأقام علي أياما، ثم أتاه طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج. وروى بعضهم أن عليا قال لهما، أو لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة. فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت أبي أمية، زوج رسول الله، فقالت: إن ابن عمي وزوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوما، وأن أكثر الناس لم يرض ببيعة علي، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا، فلو خرجت بنا لعل الله أن يصلح أمر أمة محمد على أيدينا ؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات النساء غض الابصار، وخفض الاطراف، وجر الذيول. إن الله وضع عني


[ 181 ]

وعنك هذا، ما أنت قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك ؟ فنادى مناديها: ألا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا. وأتاها طلحة والزبير وأزالاها عن رأيها، وحملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، ومعها طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير، فاستعانا به، وسارا نحو البصرة. ومر القوم في الليل بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء ؟ قال بعضهم: ماء الحوأب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ! ردوني ردوني ! هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكوني التي تنبجك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلا، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب. وقدم القوم البصرة، وعامل علي عثمان بن حنيف، فمنعها ومن معها من الدخول، فقالا: لم نأت لحرب، وإنما جئنا لصلح، فكتبوا بينهم وبينه كتابا أنهم لا يحدثون حدثا إلى قدوم علي، وأن كل فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا، فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه، وانتهبوا بيت المال، وأخذوا ما فيه، فلما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير، وجذب كل واحد منهما صاحبه، حتى فات وقت الصلاة، وصاح الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد ! فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوما وعبد الله بن الزبير يوما، فاصطلحوا على ذلك. فلما أتى عليا الخبر سار إلى البصرة، واستخلف على المدينة أبا حسن بن عبد عمرو، أحد بني النجار، وخرج من المدينة، ومعه أربعمائة راكب من أصحاب رسول الله، فلما صاروا إلى أرض أسد وطئ تبعه منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار، ووجه الحسن وعمار بن ياسر، فاستنفر أهل الكوفة، وعامله يومئذ على الكوفة أبو موسى الاشعري، فخذل الناس عنه،


[ 182 ]

فوافاه منهم ستة آلاف رجل، ولقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد ! وقص عليه القصة. ثم قدم أمير المؤمنين البصرة، وكانت وقعة الجمل بموضع يقال له الخريبة في جمادى الاولى سنة 36. وخرج طلحة والزبير فيمن معهما، فوقفوا على مصافهم، فأرسل إليهم علي: ما تطلبون وما تريدون ؟ قالوا: نطلب بدم عثمان ! قال علي: لعن الله قتلة عثمان ! واصطف أصحاب علي، فقال لهم: لا ترموا بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسيف…. 1 اعذروا. فرمى رجل من عسكر القوم بسهم، فقتل رجلا من أصحاب أمير المؤمنين، فأتي به إليه، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى آخر، فقتل رجلا من أصحاب علي، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى رجل آخر، فأصاب عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله، فقال علي: اللهم اشهد، ثم كانت الحرب، وأطافت بنو ضبة بالجمل، وكانت تحمل الراية، فقتل منهم ألفان، وحفت به الازد، فقتل منهم ألفان وسبعمائة. وكان لا يأخذ خطام الجمل أحد إلا سالت نفسه، فقتل طلحة بن عبيدالله في المعركة، رماه مروان بن الحكم بسهم فصرعه، وقال: لا أطلب والله بعد اليوم بثأر عثمان، وأنا قتلته، فقال طلحة لما سقط: تالله ما رأيت كاليوم، قط، شيخا من قريش أضيع مني ! إني والله ما وقفت موقفا قط إلا عرفت موضع قدمي فيه، إلا هذا الموقف. وقال علي بن أبي طالب للزبير: يا أبا عبد الله، ادن إلي أذكرك كلاما سمعته أنا وأنت من رسول الله ! فقال الزبير لعلي: لي الامان ؟ قال علي: عليك الامان، فبرز إليه فذكره الكلام، فقال: اللهم إني ما ذكرت هذا إلا هذه الساعة، وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له عبد الله: إلى أين ؟ قال: ذكرني علي كلاما قاله رسول الله. قال: كلا، ولكنك رأيت سيوف بني


1 بياض في الاصل (*)

[ 183 ]

هاشم حدادا تحملها شداد. قال: ويلك ! ومثلي يعير بالجبن ؟ هلم إلي الرمح. وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي، فقال علي: افرجوا للشيخ، انه محرج، فشق الميمنة والمسيرة والقلب ثم رجع فقال لابنه: لا أم لك ! ايفعل هذا جبان ؟ وانصرف، فاجتاز بالاحنف بن قيس، فقال: ما رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله يسوقها، فهتك عنها حجاب رسول الله، وستر حرمته في بيته، ثم أسلمها وانصرف. ألا رجل يأخذ لله منه ! فاتبعه عمرو بن جرموز التميمي، فقتله بموضع يقال له وادي السباع، وكانت الحرب أربع ساعات من النهار، فروى بعضهم أنه قتل في ذلك اليوم نيف وثلاثون ألفا. ثم نادى منادي علي: ألا لا يجهز على جريح، ولا يتبع مول، ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ثم آمن الاسود والاحمر، ووجه ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالرجوع، فلما دخل عليها ابن عباس قالت: أخطأت السنة يا ابن عباس مرتين، دخلت بيتي بغير إذني، وجلست على متاعي بغير أمري. قال: نحن علمنا إياك السنة، إن هذا ليس ببيتك، بيتك الذي خلفك رسول الله به، وأمرك القرآن أن تقري فيه. وجرى بينهما كلام موضعه في غير هذا من الكتاب. وأتاها علي، وهي في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: إيها يا حميراء ! ألم تنتهي عن هذا المسير ؟ فقالت: يا ابن أبي طالب ! قدرت فأسجح ! فقال: اخرجي إلى المدينة، وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله أن تقري فيه. قالت: أفعل. فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة، وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحدا على أحد، وأعطى الموالي كما أعطى الصلبية، وقيل له في ذلك، فقال: قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، وأخذ عودا من الارض، فوضعه بين إصبعيه. ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب


[ 184 ]

المخزومي إلى خراسان، وقدم عليه ماهويه مرزبان مرو، فكتب له كتابا، وأنفذ له شروطه، وأمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه عليه، فحمل إليه مالا على الوظيفة المتقدمة. وخرج علي من البصرة متوجها إلى الكوفة، وقدم الكوفة في رجب سنة 36، وكان جرير بن عبد الله على همذان، فعزله، فقال لعلي: وجهني إلى معاوية، فإن جل من معه قومي، فلعلي أجمعهم على طاعتك ! فقال له الاشتر: يا أمير المؤمنين ! لا تبعثه، فإن هواه هواهم. فقال: دعه يتوجه، فإن نصح كان ممن أدى أمانته، وإن داهن كان عليه وزر من اؤتمن ولم يؤد الامانة، ووثق به فخالف الثقة. ويا ويحهم مع من يميلون ويدعونني، فوالله ما أردتهم إلا على إقامة حق، ولا يريدهم غيري إلا على باطل. فقدم جرير على معاوية، وهو جالس، والناس حوله، فدفع إليه كتاب علي، فقرأه، ثم قام جرير فقال: يا أهل الشأم ! إنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد كانت بالبصرة ملحمة لن يشفع البلاء بمثلها، فلا بقاء للاسلام، فاتقوا الله يا أهل الشأم، وروا في علي ومعاوية خيرا، فانظروا لانفسكم، ولا يكونن أحد أنظر لها منكم. ثم سكت، وصمت معاوية، فلم ينطق، فقال: أبلعني ريقي ياجرير. وبعث معاوية من ليلته إلى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب إليه: أما بعد، فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة، وقدم علي جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فاقدم على بركة الله تعالى. فلما انتهى الكتاب إليه دعا ابنيه عبد الله ومحمدا، فاستشارهما، فقال له عبد الله: أيها الشيخ ! إن رسول الله قبض وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية فتضجعان غدا في النار، ثم قال لمحمد: ما ترى ؟ قال: بادر هذا الامر، فكن فيه رأسا قبل


[ 185 ]

أن تكون ذنبا، فأنشأ يقول: تطاول ليلي للهموم الطوارق، * وخوف التي تجلو وجوه العواتق فإن ابن هند سألني أن أزوره، * وتلك التي فيها بنات البوائق أتاه جرير من علي بخطة * أمرت عليه العيش مع كل دانق فإن نال منه ما يؤمل رده، * فإن لم ينله ذل ذل المطابق فوالله ما أدري، وإني لهكذا * أكون، ومهما قادني، فهو سائقي أأخدعه، فالخدع فيه دنية، * أم اعطيه من نفسي نصيحة وامق أم اجلس في بيتي، وفي ذاك راحة * لشيخ يخاف الموت في كل شارق وقد قال عبد الله قولا تعلقت * به النفس، إن لم يعتقلني عوائقي وخالفه فيه أخوه محمد، * وإني لصلب العود عند الحقائق فلما سمع عبد الله شعره قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينه بدنياه، فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال له: ارحل يا وردان، ثم قال حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت أبا عبد الله، فإن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: هات ! قال: اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة، وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فلست تدري أيهما تختار. قال: لله درك ما أخطأت مما في نفسي شيئا، فما الرأي يا وردان ؟ قال: الرأي أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغن عنك. قال عمرو: الآن، وقد شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان ! ثم أنشأ يقول: يا قاتل الله وردان وفطنته، * أبدى لعمرك ما في الصدر وردان


[ 186 ]

فقدم على معاوية، فذاكره أمره، فقال له: أما علي، فوالله لا تساوي العرب بينك وبينه في شئ من الاشياء، وإن له في الحرب لحظا ما هو لاحد من قريش إلا أن تظلمه. قال: صدقت، ولكنا نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو: واسوءتاه ! ان أحق الناس ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال: ولم ويحك ؟ قال: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشأم حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي، فسار إليه، وأما أنا فتركته عيانا، وهربت إلى فلسطين. فقال معاوية: دعني من هذا ! مد يدك فبايعني ! قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك. قال له معاوية: لك مصر طعمة، فغضب مروان بن الحكم وقال: ما لي لا أستشار ؟ فقال معاوية: اسكت، فإنما يستشار بك. فقال له معاوية: يا أبا عبد الله ! بت عندنا الليلة، وكره أن يفسد عليه الناس، فبات عمرو، وهو يقول: معاوي لا أعطيك ديني، ولم أنل * به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة * أخذت بها شيخا يضر وينفع وما الدين والدنيا سواء، وإنني * لآخذ ما أعطى، ورأسي مقنع ولكني أعطيك هذا، وإنني * لاخدع نفسي، والمخادع يخدع أأعطيك أمرا فيه للملك قوة، * وأبقى له، إن زلت النعل أخدع وتمنعني مصرا، وليست برغبة * وإن ثرى القنوع يوما لمولع فكتب له بمصر شرطا، وأشهد له شهودا، وختم الشرط، وبايعه عمرو، وتعاهدا على الوفاء. واحتال معاوية لقيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر، فجعل يكاتبه رجاء أن يستميله، وكتب إليه قيس بن سعد: من قيس بن سعد إلى معاوية بن


[ 187 ]

صخر: أما بعد، فإنما أنت وثن من أوثان مكة دخلت في الاسلام كارها، وخرجت منه طائعا. وكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص: إن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش، الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصره طلحة والزبير، وهما شريكاك في الامر ونظيراك في الاسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، ولا تكرهن ما رضوا، ولا تردن ما قبلوا ! فكتب إليه سعد: أما بعد، فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن عليا قد كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان خيرا لهما، والله يغفر لام المؤمنين. وبلغ عليا أن معاوية قد استعد للقتال، واجتمع معه أهل الشأم، فسار على في المهاجرين والانصار، حتى أتى المدائن، فلقيه الدهاقين بالهدايا، فردها، فقالوا: ولم ترد علينا، يا أمير المؤمنين ؟ قال: نحن أغنى منكم بحق أحق بأن نفيض عليكم، ثم صار إلى الجزيرة، فلقيه بطون تغلب والنمر بن قاسط، فسار معه منهم خلق عظيم، ثم سار إلى الرقة، وجل أهلها العثمانية الذين هربوا من الكوفة إلى معاوية، فغلقوا أبوابها، وتحصنوا، وكان أميرهم سماك ابن مخرمة الاسدي، فغلقوا دونه الباب، فصار إليهم الاشتر مالك بن الحارث النخعي، فقال: والله لتفتحن، أو لاضعن فيكم السيف ! ففتحوا، وأقام بها أمير المؤمنين يومه. ثم عبر إلى الجانب الشرقي من الفرات، حتى صار إلى صفين، وقد سبق معاوية إلى الماء ووسعه المناخ، فلما وافى علي وأصحابه لم يصلوا إلى الماء، فتوسل الناس إلى معاوية، وقالوا: لا تقتل الناس عطشا، فيهم العبد والامة والاجير. فأبى معاوية، وقال: لا سقاني الله، ولا أبا سفيان من حوض رسول الله إن شربوا منه أبدا. فوجه علي الاشتر والاشعث في الخيل، والاشعث ابن قيس في الرجالة، وكانت خيل معاوية مع أبي الاعور السلمي، فقاتله أصحاب


[ 188 ]

علي حتى صارت سنابك الخيل في الفرات، وغلبوا على المشرعة، وكان الواقف عليها عبد الله بن الحارث أخو الاشتر، فلما غلب علي على المشرعة قال أصحاب معاوية: إنه لا قوام لنا وقد أخذ علي الماء ! فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يستحل منك ومن أصحابك ما استحللت منه ومن أصحابه، فأطلق علي الماء. وكان ذلك في ذي الحجة سنة 36. ثم وجه علي إلى معاوية يدعوه ويسأله الرجوع، وألا يفرق الامة بسفك الدماء، فأبى إلا الحرب، فكانت الحرب في صفين سنة 37، وأقامت بينهم أربعين صباحا. وكان مع علي يوم صفين من أهل بدر سبعون رجلا، وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين والانصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الانصار إلا النعمان بن بشير، ومسلمة بن مخلد، وصدقت نيات أصحاب علي في القتال، وقام عمار بن ياسر، فصاح في الناس، فاجتمع إليه خلق عظيم، فقال: والله إنهم لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل. ثم قال: ألا هل من رائح إلى الجنة ؟ فتبعه خلق، فضرب حول سرادق معاوية، فقاتل القوم قتالا وقتل عمار بن ياسر، واشتدت الحرب في تلك العشية، ونادى الناس: قتل صاحب رسول الله، وقد قال رسول الله: تقتل عمارا الفئة الباغية. وزحف أصحاب علي وظهروا على أصحاب معاوية ظهورا شديدا، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين ؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك ؟ قال: لم يبق إلا حيلة واحدة، أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفهم وتكسر من حدهم، وتفت في أعضادهم. قال معاوية: فشأنك ! فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكم بما فيما، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله. فقال علي: إنها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن. فاعترض الاشعث بن قيس الكندي، وقد كان معاوية استماله،


[ 189 ]

وكتب إليه ودعاه إلى نفسه، فقال: قد دعا القوم إلى الحق ! فقال علي: إنهم إنما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم. فقال الاشعث: والله لئن لم تجبهم انصرفت عنك. ومالت اليمانية مع الاشعث، فقال الاشعث: والله لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه، أو لندفعنك إليهم برمتك، فتنازع الاشتر والاشعث في هذا كلاما عظيما، حتى كاد أن يكون الحرب بينهم، وحتى خاف علي أن يفترق عنه أصحابه. فلما رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة، وقال علي: أرى أن أوجه بعبدالله بن عباس. فقال الاشعث: إن معاوية يوجه بعمرو بن العاص، ولا يحكم فينا مضريان، ولكن توجه أبا موسى الاشعري، فإنه لم يدخل في شئ من الحرب. وقال علي: إن أبا موسى عدو، وقد خذل الناس عني بالكوفة، ونهاهم أن يخرجوا معي. قالوا: لا نرضى بغيره. فوجه علي أبا موسى على علمه بعداوته له ومداهنته فيما بينه وبينه، ووجه معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا كتابين بالقضية: كتابا من علي بخط كاتبه عبد الله بن أبي رافع، وكتابا من معاوية بخط كاتبه عمير بن عباد الكناني، واختصموا في تقديم علي أو تسمية علي بإمرة المؤمنين، فقال أبو الأعور السلمي: لا نقدم عليا، وقال أصحاب علي: ولا تغير اسمه ولا نكتب إلا بامرة المؤمنين، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالايدي، فقال الاشعث: امحوا هذا الاسم ! فقال له الاشتر: والله يا أعور لهممت أن أملا سيفي منك، فلقد قتلت قوما ما هم شر منك. وإني أعلم أنك ما تحاول إلا الفتنة، وما تدور إلا على الدنيا وإيثارها على الآخرة. فلما اختلفوا قال علي: الله أكبر ! قد كتب رسول الله يوم الحديبية لسهيل بن عمرو: هذا ما صالح رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك. فمحا رسول الله اسمه بيده، وأمرني فكتبت: من محمد بن عبد الله، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي، وكذلك كتبت الانبياء، كما كتب رسول الله إلى الآباء، وإن اسمي واسم أبي لا يذهبان بامرتي، وأمرهم فكتبوا: من علي بن أبي طالب، وكتب كتاب القضية على


[ 190 ]

الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله، واشترط على الحكمين في الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته لا يتجاوزان ذلك، ولا يحيدان عنه إلى هوى، ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، فإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فلا حكم لهما. ووجه علي بعبدالله بن عباس في أربعمائة من أصحابه ونفذ معاوية أربعمائة من أصحابه، واجتمعوا بدومة الجندل في شهر ربيع الاول سنة 38. فخدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذكر له معاوية فقال: هو ولي ثأر عثمان وله شرفة في قريش، فلم يجد عنده ما يحب، قال: فابني عبد الله ؟ قال: ليس بموضع لذلك. قال: فعبدالله بن عمر ؟ قال: إذا يحيي سنة عمر، الآن حيث به 1. فقال: فاخلع عليا وأخلع أنا معاوية، ويختار المسلمون. وقدم عمرو أبا موسى إلى المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله ابن قيس، فدنا منه، فقال: إن كان عمرو فارقك على شئ، فقدمه قبلك، فإنه غدر. فقال: لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر، فخلع عليا، ثم صعد عمرو بن العاص فقال: قد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي. فصاح به أبو موسى: غدرت يا منافق، إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنك مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا. وتنادى الناس: حكم والله الحكمان بغير ما في الكتاب، والشرط عليهما غير هذا. وتضارب القوم بالسياط، وأخذ قوم بشعور بعض، وافترق الناس ونادت الخوارج: كفر الحكمان، لا حكم إلا لله. وقيل: أول من نادى بذلك عروة بن أدية التميمي قبل أن يجتمع الحكمان، وكانت الحكومة في شهر رمضان سنة 38. قال ابن الكلبي: أخبرني عبد الرحمن بن حصين بن سويد… 2 قال:


1 قوله: الآن حيث به، هكذا في الاصل. 2 بياض في الاصل (*)

[ 191 ]

إني لاساير أبا موسى الاشعري على شاطئ الفرات، وهو إذ ذاك عامل لعمر، فجعل يحدثني، فقال: إن بني إسرائيل لم تزل الفتن ترفعهم وتخفضهم أرضا بعد أرض، حتى حكموا ضالين أضلا من اتبعهما. قلت: فإن كنت يا أبا موسى أحد الحكمين، قال فقال لي: إذا لا ترك الله لي في السماء مصعدا، ولا في الارض مهربا إن كنت أنا هو. فقال سويد: لربما كان البلاء موكلا بالمنطق. ولقيته بعد التحكيم، فقلت: إن الله إذا قضى أمرا لم يغالب. وانصرف علي إلى الكوفة، فلما قدمها قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ! إن أول وقوع الفتن هوى يتبع، وأحكام تبتدع، يعظم فيها رجال رجالا، يخالف فيها حكم الله، ولو أن الحق أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا، فيخلط فيغمل (فيعمل) به، فعند ذلك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى. وصارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، وبها سموا الحرورية، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وابن الكوا، وشبث بن ربعي، فجعلوا يقولون: لا حكم إلا لله، فإذا بلغ عليا ذلك قال: كلمة حق أريد بها باطل. ثم خرجوا في ثمانية آلاف، وقيل: في اثني عشر ألفا، فوجه إليهم علي عبد الله بن عباس، فكلمهم، واحتجوا عليه، فخرج إليهم علي فقال: أتشهدون علي بجهل ؟ قالوا: لا ! قال: فتنفذون أحكامي ؟ قالوا: نعم ! قال: فارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر، فرجعوا من عند آخرهم، ثم جعلوا يقومون فيقولون: لا حكم إلا لله، فيقول علي: حكم الله أنتظر فيكم. وخرجوا من الكوفة، فوثبوا على عبد الله ابن خباب بن الارت، فقتلوه وأصحابه، فخرج إليهم علي، فناشدهم الله، ووجه إليهم عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس قل لهؤلاء الخوارج ما نقمتم على أمير المؤمنين ؟ ألم يحكم فيكم بالحق، ويقيم فيكم العدل، ولم


[ 192 ]

يبخسكم شيئا من حقوقكم ؟ فناداهم عبد الله بن عباس بذلك، فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه. وقالت الاخرى: والله لنجيبنه ثم لنخصمنه، نعم، يا ابن عباس، نقمنا على علي خصالا كلها موبقة لو لم نخصمه منها إلا بخصلة خصمناه، محا اسمه من امرة أمير المؤمنين يوم كتب إلى معاوية، ورجعنا عنه يوم صفين، فلم يضربنا بسيفه حتى نفئ إلى الله، وحكم الحكمين، وزعم أنه وصي، فضيع الوصية، وجئتنا يا ابن عباس في حلة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه ؟ فقال ابن عباس: قد سمعت، يا أمير المؤمنين، مقالة القوم، وأنت أحق بالجواب. فقال: حججتهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، قل لهم: ألستم راضين بما في كتاب الله، وبما فيه من أسوة رسول الله ؟ قالوا: بلى ! قال: فعلي بذلك أرضى. كتب كاتب رسول الله يوم الحديبية، إذ كتب إلى سهيل ابن عمرو وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين: من محمد رسول الله، فكتبوا إليه: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، فاكتب إلينا: من محمد بن عبد الله لنجيبك، فمحا رسول الله اسمه بيده، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري، فكتب: من محمد بن عبد الله، وكذلك كتب الانبياء كما كتب رسول الله إلى الآباء، ففي رسول الله أسوة حسنة. وأما قولكم إني لم أضربكم بسيفي يوم صفين حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله عزوجل يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وكنتم عددا جما، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة. وأما قولكم إني حكمت الحكمين، فإن الله عزوجل حكم في أرنب يباع بربع درهم. فقال: يحكم به ذوا عدل منكم، ولو حكم الحكمان بما في كتاب الله لما وسعني الخروج من حكمهما. وأما قولكم إني كنت وصيا فضيعت الوصية، فإن الله عزوجل يقول: ” ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله


[ 193 ]

غني عن العالمين ” أفرأيتم هذا البيت، لو لم يحجج إليه أحد كان البيت يكفر، إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلا كفر، وأنتم كفرتم بترككم إياي لا أنا كفرت بتركي لكم. فرجع يومئذ من الخوارج ألفان، وأقام أربعة آلاف، والتحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس، فأقامت مقدار ساعتين من النهار، فقتلوا من عند آخرهم، وقتل ذو الثدية، ولم يفلت من القوم إلا أقل من عشرة، ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، وكانت وقعة النهروان سنة 39. ولما قدم علي الكوفة قام خطيبا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد وذكره بما فضله الله به، أما بعد أيها الناس ! فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون، ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فإني عن قليل مقتول، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها، فوالذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم القيامة. إن القرآن لا يعلم علمه إلا من ذاق طعمه. وعلم بالعلم جهله، وأبصر عمله، واستمع صممه وادرك به مأواه، وحي به إن مات، فأدرك به الرضى من الله، فاطلبوا ذلك عند أهله، فإنهم في بيت الحياة، ومستقر القرآن، ومنزل الملائكة، وأهل العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم هم الذين لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، قد مضى فيهم من الله حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين. واما أنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا وسيفا قاتلا وأثرة قبيحة يتخذها الظالمون عليكم سنة تفرق جموعكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون ما أقول لكم عن قليل، ولا يبعد الله إلا من ظلم. ووجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له،


[ 194 ]

فقدمها سنة 38، ومعه جيش عظيم من أهل الشأم، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي، وعلى أهل الاردن أبو الاعور السلمي، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة، فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة، فحاربهم محاربة شديدة، وكان عمرو يقول: ما رأيت مثل يوم المسناة، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية، فمايل عمرو بن العاص اليمانية، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده، فجالد ساعة، ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة، واتبعه ابن حديج الكندي، فأخذه وقتله، وأدخله جيفة حمار، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف. وبلغ عليا ضعف محمد بن أبي بكر وممالاة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي محمد من حرض، ووجه مالك بن الحارث الاشتر إلى مصر قبل أن ينتهي إليه قتل محمد بن أبي بكر، وكتب إلى أهل مصر: إني بعثت إليكم سيفا من سيوف الله لا نابي الضربة، ولا كليل الحد، فإن استنفركم فانفروا، وإن أمركم بالمقام فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي، فلما بلغ معاوية أن عليا قد وجه الاشتر عظم عليه، وعلم أن أهل اليمن أسرع إلى الاشتر منهم إلى كل أحد، فدس له سما، فلما صار إلى القلزم من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل رجل من أهل المدينة يقال له.. 1. فخدمه وقام بحوائجه، ثم أتاه بقعب فيه عسل قد صير فيه السم، فسقاه إياه، فمات الاشتر بالقلزم وبها قبره، وكان قتله وقتل محمد بن أبي بكر في سنة 38. ولما بلغ عليا قتل محمد بن أبي بكر والاشتر جزع عليهما جزعا شديدا، وتفجع، وقال علي: على مثلك فلتبك البواكي يا مالك، وأنى مثل مالك ؟ وذكر محمد بن أبي بكر، وتفجع عليه، وقال: إنه كان لي ولدا ولولدي وولد أخي أخا، وخرج الخريت بن راشد الناجي في جماعة من أصحابه، فجردوا السيوف بالكوفة، فقتلوا جماعة، وطلبهم الناس، فخرج الخريت


1 بياض في الاصل (*)

[ 195 ]

وأصحابه من الكوفة، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان. وكان علي قد وجه الحلو بن عوف الازدي عاملا على عمان فوثبت به بنو ناجية فقتلوه، وارتدوا عن الاسلام، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه، وسبى بني ناجية، فاشتراهم مصقلة ابن هبيرة الشيباني، وأنفذ بعض الثمن ثم هرب إلى معاوية، وأمر علي بهدم داره، وأنفذ عتق بن ناجية، وكانوا يدعون أنهم من ولد سامة ابن لؤي. ووجه معاوية النعمان بن بشير، فأغار على مالك بن كعب الارحبي، وكان عامل علي على مسلحة عين التمر، فندب علي فقال: يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع ليس بكثير لعل الله أن يقطع من الظالمين طرفا. فأبطأوا، ولم يخرجوا، فصعد علي المنبر فتكلم كلاما خفيا لا يسمع، فظن الناس أنه يدعو الله، ثم رفع صوته فقال: أما بعد يا أهل الكوفة أكلما أقبل منسر من مناسر أهل الشأم أغلق كل امرئ بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره ؟ أف لكم ! لقد لقيت منكم يوما أناجيكم ويوما أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء. فلما دخل بيته قام عدي بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبيح ! ثم دخل إليه فقال: يا أمير المؤمنين ! معي ألف رجل من طئ لا يعصونني، وإن شئت أن أسير بهم سرت ؟ فقال علي: جزاك الله خيرا، يا أبا طريف، ما كنت لاعرض قبيلة واحدة لحد أهل الشأم، ولكن اخرج إلى النخيلة ! فخرج واتبعه الناس فسار عدي على شاطئ الفرات، فأغار على أدنى الشأم. وأغار الضحاك بن قيس على القطقطانة، فبلغ عليا إقباله، وأنه قد قتل ابن عميش، فقام علي خطيبا فقال: يا أهل الكوفة اخرجوا إلى جيش لكم


[ 196 ]

قد أصيب منه طرف، وإلى الرجل الصالح بن عميش، فامنعوا حريمكم، وقاتلوا عدوكم. فردوا ردا ضعيفا، فقال: يا أهل العراق ! وددت أن لي بكم بكل ثمانية منكم رجلا من أهل الشأم، وويل لهم قاتلوا مع تصبرهم على جور، ويحكم ! اخرجوا معي، ثم فروا عني إن بدا لكم، فوالله إني لارجو شهادة، وإنها لتدور على رأسي مع ما لي من الروح العظيم في ترك مداراتكم كما تدارى البكار الغمرة، أو الثياب المتهتكة، كلما حيصت من جانب تهتكت من جانب. فقام إليه حجر بن عدي الكندي فقال: يا أمير المؤمنين ! لا قرب الله مني إلى الجنة من لا يحب قربك، عليك بعادة الله عندك، فإن الحق منصور، والشهادة أفضل الرياحين، اندب معي الناس المناصحين، وكن لي فئة بكفايتك، والله فئة الانسان وأهله، إن الشيطان لا يفارق قلوب أكثر الناس حتى تفارق أرواحهم أبدانهم. فتهلل وأثنى على حجر جميلا، وقال: لا حرمك الله الشهادة، فإني أعلم أنك من رجالها. وجلس علي في المسجد فندب الناس، وانتدب أربعة آلاف، فسار بهم في طلب القوم، وأغذ المسير حتى لقيهم بتدمر من عمل حمص، فقاتلهم فهزمهم، حتى انتهوا إلى الضحاك، وحجز بينهم الليل، فأدلج الضحاك على وجهه منصرفا، وشن حجر بن عدي، ومن معه الغارة في تلك البلاد يومين وليلتين، ثم أغار سفيان بن عوف على الانبار، فقتل أشرس بن حسان البكري، فأتبعه علي سعيد بن قيس، فلما أحس به انصرف موليا، وتبعه سعيد إلى عانات، فلم يلحقه. وبعث معاوية عبد الله بن مسعدة بن حذيفة بن بدر الفزاري في جريدة خيل، وأمره أن يقصد المدينة ومكة، فسار في ألف وسبعمائة، فلما أتى عليا الخبر وجه المسيب بن نجبة الفزاري، فقال له: يا مسيب ! إنك ممن أثق بصلاحه وبأسه ونصيحته، فتوجه إلى هؤلاء القوم وأثر فيهم، وإن كانوا قومك. فقال له المسيب: يا أمير المؤمنين ! إن من سعادتي ان كنت من ثقاتك، فخرج


[ 197 ]

في ألفي رجل من همدان وطئ وغيرهم، وأغذ السير، وقدم مقدمته، فلقوا عبد الله بن مسعدة، فقاتلوه، فلحقهم المسيب، فقاتلهم حتى أمكنه أخذ ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصن بتيماء، وأحاط المسيب بالحصن، فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثا، فناداه: يا مسيب ! إنما نحن قومك، فليمسك الرحم. فخلى لابن مسعدة وأصحابه الطريق ونجا من الحصن. فلما جنهم الليل خرجوا من تحت ليلتهم حتى لحقوا بالشأم، وصبح المسيب الحصن، فلم يجد أحدا، فقال عبد الرحمن بن شبيب: داهنت والله يا مسيب في أمرهم، وغششت أمير المؤمنين، وقدم على علي فقال له علي: يا مسيب ! كنت من نصاحي، ثم فعلت ما فعلت ! فحبسه أياما، ثم أطلقه وولاه قبض الصدقة بالكوفة. ووجه معاوية بسر بن أبي أرطاة، وقيل ابن أرطاة العامري، من بني عامر ابن لؤي، في ثلاثة آلاف رجل، فقال له: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وانهب مال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لابراءة لهم عندك، ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لاحد، وارهب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة، وقد جاءني كتابهم. فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية، حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الانصاري، فتنحى عن المدينة، ودخل بسر، فصعد المنبر ثم قال: يا أهل المدينة ! مثل السوء لكم، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله، شاهت الوجوه. ثم ما زال يشتمهم حتى نزل. قال: فانطلق جابر بن عبد الله الانصاري إلى أم سلمة زوج النبي، فقال:


[ 198 ]

إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلال. قالت: إذا فبايع، فان التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الاعياد مع قومهم. وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى اليمن، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، عامل علي، وبلغ عليا الخبر، فقام خطيبا فقال: أيها الناس ! إن أول نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين يحدثون فيصدقون، ويقولون فيفعلون، وإني قد دعوتكم عودا وبدأ، وسرا وجهرا، وليلا ونهارا، فما يزيدكم دعائي إلا فرارا، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة، أما والله إني لعالم بما يصلحكم، ولكن في ذلك فسادي، امهلوني قليلا، فوالله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم ويعذبه الله بكم، إن من ذل الاسلام وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الاراذل والاشرار فيجيبون، وأدعوكم، وأنتم لا تصلحون، فتراعون. هذا بسر قد صار إلى اليمن وقبلها إلى مكة والمدينة. فقام جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أمير المؤمنين ! لاعدمنا الله قربك، ولا أرانا فراقك، فنعم الادب أدبك، ونعم الامام والله أنت. أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم ! قال: تجهز، فإنك ما علمتك رجل في الشدة والرخاء، المبارك الميمون النقيبة، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي فقال: أنا أنتدب يا أمير المؤمنين. قال: انتدب، بارك الله عليك. فخرج جارية في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين، وأمرهما علي أن يطلبا بسرا حيث كان حتى يلحقاه، فإذا اجتمعا فرأس الناس جارية، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة، حتى التقيا بأرض الحجاز، ونفذ بسر من الطائف، حتى قدم اليمن، وقد تنحى عبيدالله بن عباس عن اليمن، واستخلف بها عبد الله بن عبدالمدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله، وقتل ابنه مالك بن عبد الله، وقد كان عبيدالله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة قارظ الكنانية، وهي أمهما، وخلف معها رجلا من كنانة، فلما انتهى بسر إليها دعا ابني عبيدالله ليقتلهما، فقام الكناني


[ 199 ]

فانتضى سيفه وقال: والله لاقتلن دونهما فألاقي عذرا لي عند الله والناس، فضارب بسيفه حتى قتل، وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن: يا بسر ! هذا، الرجال يقتلون، فما بال الولدان، والله ما كانت الجاهلية تقتلهم، والله إن سلطانا لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء. فقال بسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف. وقدم الطفلين فذبحهما، فقالت أمهما ترثيهما: ها من أحس بنيي اللذين هما * سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف ها من أحس بنيي اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف ها من أحس بنيي اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا * من قولهم ومن الافك الذى اقترفوا أنحى على ودجي إبني مرهفة * مشحوذة وكذاك الامر مقترف من دل والهة حرى وثاكلة * على صبيين ضلا إذ غدا السلف ثم جمع بسر أهل نجران فقال: يا إخوان النصارى ! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لاكثرن قتلاكم. ثم سار نحو جيشان، وهم شيعة لعلي، فقاتلهم، فهزمهم، وقتل فيهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلى صنعاء. وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسرا، فهرب منه في الارض، ولم يقم له، وقتل من أصحابه خلقا، وأتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ مكة، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شئ، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة بالبيعة، فقالوا: قد هلك علي فلمن نبايع ؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي بعده، فتثاقلوا، فقال: والله لتبايعن ولو بأستاهكم، فبايعوا ودخل المدينة، وقد اصطلحوا على أبي هريرة فصلى بهم ففر منه أبو هريرة، فقال جارية: يا أهل المدينة بايعوا للحسن بن علي ! فبايعوا، ثم خرج يريد الكوفة،


[ 200 ]

فرد أهل المدينة أبا هريرة. قال غياث عن فطر بن خليفة: حدثني أبو خالد الوالبي قال: قرأت عهد علي لجارية بن قدامة: أوصيك يا جارية بتقوى الله، فإنها جموع الخير، وسر على عون الله، فالق عدوك الذي وجهتك له، ولا تقاتل إلا من قاتلك، ولا تجهز على جريح، ولا تسخرن دابة، وإن مشيت ومشى أصحابك، ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم، ولا تشربن إلا فضهلم عن طيب نفوسهم، ولا تشتمن مسلما ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه، ولا تظلمن معاهدا، ولا معاهدة، واذكر الله، ولا تفتر ليلا ولا نهارا، واحملوا رجالتكم، وتواسوا في ذات أيديكم، وأجدد السير، وأجل العدو من حيث كان، واقتله مقبلا، واردده بغيظه صاغرا، واسفك الدم في الحق، واحقنه في الحق، ومن تاب فاقبل توبته، واخبارك في كل حين بكل حال، والصدق الصدق، فلا رأي لكذوب. قال وحدث. أبوالكنود أن جارية مر في طلب بسر فما كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شئ حتى انتهى إلى اليمن ونجران، فقتل من قتل وهرب منه بسر، وحرق تحريقا، فسمي محرقا. وكتب علي إلى عماله يستحثهم بالخروج، فكتب إلى الاشعث بن قيس، وكان عامله باذربيجان: أما بعد، فإنما غرك من نفسك وجرأك على آخرك املاء الله لك، إذ ما زلت قديما تأكل رزقه، وتلحد في آياته، وتستمتع بخلاقك، وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا، فأقبل، واحمل ما قبلك من مال المسلمين، إن شاء الله. فلما قرأ الاشعث كتابه أقبل إليه. وكتب إلى يزيد بن قيس الارحبي: أما بعد، فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك. غير أني أوصيك بتقوى الله وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله ونزه نفسك عن الحرام، ولا تجعل لي عليك سبيلا، فلا أجد بدا من الايقاع بك، وأعزز المسلمين ولا


[ 201 ]

تظلم المعاهدين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين. وكتب إلى سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد، وهو على المدائن: أما بعد، فإنك قد أديت خراجك، وأطعت ربك، وأرضيت إمامك، فعل المبر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك، وتقبل سعيك وحسن مآبك. وكتب إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي، وهو ابن أم سلمة زوج النبي، وكان عامله على البحرين: أما بعد، فإني قد وليت النعمان بن العجلان البحرين بلا ذم لك، فأقبل، غير ظنين، واخرج إليه من عمل ما وليت، فقد أردت الشخوص إلى ظلمة أهل الشأم وبقية الاحزاب، فأحببت أن تشهد معي لقاءهم، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين ونصر الهدى، جعلنا الله وإياك من الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر، فشهد معه، ثم انصرف وتبع عليا إلى الكوفة، فمكث معه سنة وبعض أخرى. فبلغه أن النعمان بن العجلان قد ذهب بمال البحرين، فكتب إليه علي: أما بعد، فإنه من استهان بالامانة ورغب في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه، أخل بنفسه في الدنيا، وما يشفي عليه بعد أمر وأبقى وأشقى وأطول، فخف الله ! إنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك، وراجع، إن كان حقا ما بلغني عنك، ولا تقلبن رأيي فيك، واستنظف خراجك، ثم اكتب إلي ليأتيك رأيي وأمري إن شاء الله. فلما جاءه كتاب علي، وعلم أنه قد علم حمل المال، لحق معاوية. وكتب إلى مصقلة بن هبيرة، وبلغه أنه يفرق ويهب أموال اردشير خرة، وكان عليها: أما بعد، فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدقه أنك تقسم فئ المسلمين في قومك ومن اعتراك من السألة والاحزاب وأهل الكذب من الشعراء، كما تقسم الجوز، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لافتش عن ذلك تفتيشا شافيا،


[ 202 ]

فإن وجدته حقا لتجدن بنفسك علي هوانا، فلا تكونن من الخاسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. فكتب مصقلة إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين فليسأل إن كان حقا فليعجل عزلي بعد نكالي، فكل مملوك لي حر، وعلي أيام ربيعة ومضر إن كنت رزأت من عملي دينارا، ولا درهما، ولا غيرهما، منذ وليته إلى أن ورد علي كتاب أمير المؤمنين، ولتعلمن أن العزل أهون علي من التهمة. فلما قرأ كتابه قال: ما أظن أبا الفضل إلا صادقا. ووجه رجلا من أصحابه إلى بعض عماله مستحثا، فاستخف به فكتب إليه: أما بعد، فإنك شتمت رسولي وزجرته، وبلغني أنك تبخر وتكثر من الادهان وألوان الطعام، وتتكلم على المنبر بكلام الصديقين، وتفعل، إذا نزلت، أفعال المحلين، فإن يكن ذلك كذلك فنفسك ضررت وأدبي تعرضت، ويحك ان تقول العظمة والكبرياء ردائي فمن نازعنيهما سخطت عليه، بل ما عليك أن تدهن رفيها، فقد أمر رسول الله بذلك، وما حملك أن تشهد الناس عليك بخلاف ما تقول، ثم على المنبر حيث يكثر عليك الشاهد، ويعظم مقت الله لك، بل كيف ترجو، وأنت متهوع في النعيم جمعته من الارملة واليتيم، أن يوجب الله لك أجر الصالحين، بل ما عليك، ثكلتك أمك، لو صمت لله أياما، وتصدقت بطائفة من طعامك، فإنها سيرة الانبياء وأدب الصالحين. أصلح نفسك وتب من ذنبك وأد حق الله عليك والسلام. وكتب إلى قيس بن سعد بن عبادة، وهو على اذربيجان: أما بعد، فأقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك بالانصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله، ثم إن عبد الله بن شبيل الاحمسي سألني الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيرا، فقد رأيته وادعا متواضعا، فألن حجابك وافتح بابك، واعمد إلى الحق، فإن وافق الحق ما يحبو أسره، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.


[ 203 ]

قال غياث: ولما أجمع علي القتال لمعاوية كتب أيضا إلى قيس: أما بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الاحمسي خليفة لك، وأقبل إلي، فإن المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجل الاقبال، فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال، إن شاء الله، وما تأخري إلا لك، قضى الله لنا ولك بالاحسان في أمرنا كله. وكتب إلى سهل بن حنيف، وهو على المدينة: أما بعد، فقد بلغني أن رجالا من أهل المدينة خرجوا إلى معاوية، فمن أدركته فامنعه، ومن فاتك فلا تأس عليه، فبعدا لهم، فسوف يلقون غيا، أما لو بعثرت القبور، واجتمعت الخصوم، لقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وقد جاءني رسولك يسألني الاذن، فأقبل، عفا الله عنا وعنك، ولا تذر خللا، إن شاء الله تعالى. وكتب علي إلى عمر بن مسلمة الارحبي: أما بعد، فإن دهاقين عملك شكوا غلظتك، ونظرت في أمرهم فما رأيت خيرا، فلتكن منزلتك بين منزلتين: جلباب لين بطرف من الشدة في غير ظلم ولا نقص، فإنهم أحيونا صاغرين، فخذ ما لك عندهم وهم صاغرون، ولا تتخذ من دون الله وليا، فقد قال الله عزوجل: ” لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا “، وقال عزوجل في أهل الكتاب: ” لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء “، وقال تبارك وتعالى: ” ومن يتولهم منكم فإنه منهم “، وقرعهم بخراجهم. وقابل في ورائهم وإياك ودماءهم والسلام. وكتب إلى قرظة بن كعب الانصاري: أما بعد، فإن رجالا من أهل الذمة من عملك ذكروا نهرا في أرضهم قد عفا وادفن، وفيه لهم عمارة على المسلمين، فانظر أنت وهم، ثم اعمر وأصلح النهر، فلعمري لان يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا، وأن يعجزوا أو يقصروا في واجب من صلاح البلاد والسلام. وكتب إلى المنذر بن الجارود، وهو على اصطخر: أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، فإذا أنت لا تدع انقيادا لهواك أزرى ذلك بك. بلغني أنك


[ 204 ]

تدع عملك كثيرا، وتخرج لاهيا بمنبرها، تطلب الصيد وتلعب بالكلاب، وأقسم لئن كان حقا لنثيبنك فعلك، وجاهل أهلك خير منك، فأقبل إلي حين تنظر في كتابي والسلام. فأقبل فعزله وأغرمه ثلاثين ألفا، ثم تركها لصعصعة بن صوحان بعد أن احلفه عليها، فحلف، وذلك أن عليا دخل على صعصعة يعوده، فلما رآه علي قال: إنك ما علمت حسن المونة خفيق المؤونة. فقال صعصعة: وأنت والله، يا أمير المؤمنين، عليم وأبه في صدرك عظيم. فقال له علي: لا تجعلها أبهة على قومك أن عادك إمامك. قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنه من من الله علي أن عادني أهل البيت وابن عم رسول رب العالمين. قال غياث فقال له صعصعة: يا أمير المؤمنين ! هذه ابنة الجارود تعصر عينيها كل يوم لحبسك أخاها المنذر، فأخرجه، وأنا أضمن ما عليه في أعطيات ربيعة. فقال له علي: ولم تضمنها، وزعم لنا أنه لم يأخذها، فليحلف ونخرجه. فقال له صعصعة: أراه والله سيحلف. قال: وأنا والله أظن ذلك. وقال علي: أما أنه نظار في عطفيه، مختال في برديه، نقال في شراكيه، فليحلف بعد، أو ليدع، فحلف فخلى سبيله. وكتب إلى زياد وكان عامله على فارس: أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه: إن الاكراد هاجت بك، فكسرت عليك كثيرا من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين. يا زياد ! وأقسم بالله انك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا. وكتب إلى كعب بن مالك: أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب، ثم ارجع إلى البهقباذات فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها، واعلم أن كل عمل ابن آدم محفوظ عليه


[ 205 ]

مجزي به، فاصنع خيرا صنع الله بنا وبك خيرا، وأعلمني الصدق فيما صنعت، والسلام. قال: وقدم على علي أبو مريم القرشي المكي، كان صديقا له، فلما رآه قال: ما أقدمك يا أبا مريم ؟ قال: والله ما جئت في حاجة، ولكن عهدي بك قديم، فأحببت أن أراك، ولو اجتمع أهل الارض عليك لاقمتم على الطريق. فقال: يا أبا مريم، والله إني لصاحبك الذي تعلم، ولكن منيت بشرار خلق الله إلا من رحم الله، يدعونني فآبى عليهم ثم أجيبهم، فيتفرقون عني، والدنيا محنة الصالحين، جعلنا الله وإياك منهم، ولولا ما سمعت من حبيبي أنه يقول لضاق ذرعي غير هذا الضيق، سمعته يقول: الجهد والبلاء أسرع إلى من أحب الله وأحبني من السيل إلى مجاريه. وكتب أبو الأسود الدئلي، وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة، إلى علي يعلمه أن عبد الله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يأمره بردها، فامتنع، فكتب يقسم له بالله لتردنها، فلما ردها عبد الله بن عباس، أو رد أكثرها، كتب إليه علي: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحا، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعا، واجعل همك لما بعد الموت، والسلام. فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير المؤمنين. وقال كميل بن زياد: وأخذ بيدي علي، فأخرجني إلى ناحية الجبانة، فلما أصحر تنفس الصعداء ثلاثا، ثم قال: يا كميل، إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل ! العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، مات خزان المال وهم


[ 206 ]

أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثلتهم في القلوب موجودة، ها إن هاهنا، وأشار إلى صدره، لعلما جما لو أصبت له حملة، اللهم إلا أن أصيب لقنا غير مأفون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا، ويستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعمه على خلقه، آو منقادا لحملة الحق لا بصيرة في احيائه، يقدح الشك في قلبه لاول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة، سلس القيادة للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار، ليسوا من رعاة الدين في شئ، أقرب شبها بهم الانعام السائمة، اللهم كلا ! لا تخلو الارض من قائم بحق إما ظاهر مشهور، وإما خائب مغمور، لئلا يبطل حجج الله عزوجل وبيناته أولئك الاقلون عددا، والاعظمون خطرا، هجم بهم العلم، حتى حقائق الامور، وباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الاعلى، يا كميل ! أولئك أولياء الله من خلقه والدعاة إلى دينه، بهم يحفظ الله حججه، حتى يودعوها أمثالهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هاه شوقا إلى رؤيتهم. وقال: لو أن حملة العلم حملوه لحقه لاحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا، فمنعهم الله، وهانوا على الناس. وقال: قيمة كل امرئ ما يحسن. وقال: أيها الناس لا ترجوا إلا ربكم، ولا تخشوا إلا ذنوبكم، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من يعلم أن يعلم، واعلموا أن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد. وقال: من كان يريد العز بلا عشيرة، والنسل بلا كثرة، والغناء بلا مال، فليتحول من ذل المعصية إلى عز الطاعة. وقال: كم من مستدرج بالاحسان إليه، وكم من مغرور بالستر عليه، وكم من مفتون بحسن القول فيه. وما ابتلي أحد بمثل الاملاء له، ألم تسمع


[ 207 ]

قول الله عزوجل: ” إنما نملي لهم ليزدادوا إثما “. وقال: من اشتاق إلى الجنة تسلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات. وخطب فتلا قول الله عزوجل: ” إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين. ” ثم قال: إن هذا الامر ينزل من السماء كقطر المطر إلى كل نفس بما كتب الله لها من نقصان في نفس أو أهل أو مال، فمن أصابه نقص في أهله وماله، ورأى عند أخيه عفوة، فلا يكونن ذلك عليه فتنة، فإن المرء المسلم ما لم يأت دنياه يخشع لها وتذله، إذا ذكرت تغري به ليألم. الناس كالياسر الفالح الذي ينتظر أول فوزه من قداحه يوجب له المغنم، ويدفع عنه المغرم، كذلك المرء البرئ من الخيانة والكذب يترقب كل يوم وليلة إحدى الحسنيين: إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما فتحا من الله، فإذا هو ذو أهل ومال، ومعه حسبه ودينه. المال والبنون حزب الدنيا، والعمل الصالح حزب الآخرة، وقد يجمعهم الله لاقوام. وقال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وكملت مرونه، وظهر عدله، ووجب وصله. وخرج يوما فقال: يا طالب العلم ! إن للعالم ثلاثة علامات: العلم بالله، وبما يحب الله، وبما يكره الله. وللعامل ثلاث علامات: الصلاة، والزكاة، والورع. وللمتكلف من الرجال ثلاث علامات: ينازع من هو فوقه، ويقول بما لا يعلم، ويتعاطى ما لا ينال. وللظالم ثلاث علامات: يظلم من هو فوقه بالمعصية، ومن هو دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة والآثم. وللمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان من يراه، ويحب أن يحمد في


[ 208 ]

جميع أموره. وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتقرب إذا شهد، ويشمت بالمصيبة. وللمنافق ثلاث علامات: يخالف لسانه قلبه، وقوله فعله، وعلانيته سريرته، وللمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشرب ما ليس له، ويلبس ما ليس له، وللكسلان من الرجال ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم. وإنما هلك الذين قبلكم بالتكلف، فلا يتكلف رجل منكم أن يتكلم في دين الله بما لا يعرف، فإن الله عزوجل يعذر على الخطإ إن أجهدت رأيك. وقال لعمر بن الخطاب: ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفيتك ما سواهن، وان تركتهن، فلا ينفعك شئ سواهن. قال: وما هن ؟ فقال: الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضى والسخط، والقسم بالعدل بين الاحمر والاسود. فقال له عمر: أبلغت وأوجزت. وسمع رجلا يذم الدنيا، فقال: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة فربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد أذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، مثل ببلاها البلا، وشوقت بسرورها السرور، راحت بفجيعة، وأبكرت بعافية ترغيبا وترهيبا وتحذيرا وتخويفا، ذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، فيا ذام الدنيا، المغتر بغرورها ! متى استذمت إليك بل متى غرتك ؟ أبمضاجع آبائك من البلى، أو بمنازل أمهاتك من الثرى ؟ كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك، من تبتغي له الشفاء وتستوصف له الاطباء، فلم ينفعه تطبيبك ولم يستعف له بعافيتك، مثلت به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا يغني عنك بكاؤك ولا ينفعك أحباؤك. وخطب فقال: إن من أخوف ما أخاف عليكم خصلتين: اتباع الهوى،


[ 209 ]

وطول الامل. فاما طول الامل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. من أصبح ؟ في سربه، معافى في بدنه، له قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا، إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي وجمالي وبهائي وعلوي وارتفاعي في مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت همه في الآخرة وغناءه في قلبه، وضمنت السموات والارض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة. وقال: حصر بالبلاء من عرف الناس، ومن جهلهم عاش معهم. وقال: يأتي على الناس زمان لا يعز فيه إلا الماحل، ولا يستظرف إلا الفاجر، ولا يضعف إلا المنصف، يتخذون الفئ مغنما، والصدقة مغرما، والعبادة استطالة على الناس، وصلة الرحم منا، والعلم متجرا، فعند ذلك يكون سلطان النساء ومشورة الاماء وامارة الصبيان. وقال: لا تصلح الناس إمارة يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الكتاب الاجل. وغزا فقال لرجل: لئن جزعت إن الرحم ليستحق ذاك، وإن صبرت كأني بها مأجورا، وإلا صبرت كارها مأزورا. وقيل لعلي: كم بين السماء والارض ؟ قال: دعوة مظلوم. وقيل له: كم مسافة الدنيا ؟ فقال: مسير الشمس يوما إلى الليل. وقال يوم الجمل: الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم، ولا يفوته الهارب، اقدموا ولا تنكلوا ليس عن الموت محيص، إنكم إن لم تقتلوا تموتوا، وإن أشرف الموت القتل، والذي نفسي بيده لالف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش. وقال له رجل: أوصني. فقال: أوصيك بتقوى الله، واجتناب الغضب، وترك الاماني، وأن تحافظ على ساعتين من النهار: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى غروبها، ولا تفرح بما علمت، ولكن بما عملت فيها. وأتي برجل جنى جناية، فرأى ناسا يعدون خلفه، فقال: لا مرحبا بوجوه


[ 210 ]

لا ترى إلا عند كل سوء. وقال له الحارث بن حوط الراني: أظن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل. فقال: يا حارث ! إنه ملبوس عليك، وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه. ورأى رجلا يسأله عشية عرفة، فقال: ويحك تسأل في هذا اليوم غير الله ! وروي عنه أنه قال: يا معشر الفتيان حصنوا أعراضكم بالادب ودينكم بالعلم. وكان إذا انصرف من صلاته أقبل على الناس بوجهه فقال: كونوا مصابيح الهدى، ولا تكونوا أعلام ضلالة، واكرهوا المزاح بما يسخط الله. وليهن عليكم الذم فيما يرضي الله. علموا الناس الخير بعبر ألسنتكم، وكونوا دعاة لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع. وقال: الصمت حلم، والسكوت سلامة، والكتمان سعادة. واجتمع عنده جماعة فتذاكروا المعروف، فقال: المعروف كنز من أفضل الكنوز، وزرع من أزكى الزروع، فلا يزهدنكم في المعروف كفر من كفره وجحد من جحده، فإن من يشكرك عليه ممن لم يصل إليه منه شئ أعظم مما ناله أهل منة، فلا تلتمس من غيرك ما أسديت إلى نفسك، إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله، فإذا صغرته فقد عظمته، وإذا سترته فقد أتممته، وإذا عجلته فقد هنأته. وقدم عليه قوم من أهل الغرب فقال لهم: أفيكم من قد شهر نفسه حتى لا يعرف إلا به ؟ فقالوا: نعم ! قال: وفيكم قوم بين ذلك يتصونون من السيئات ويعملون الحسنات ؟ قالوا: نعم ! قال أولئك خير أمة محمد، أولئك النمرقة الوسطى، بهم يرجع الغالي، وبهم يلحق المقصر. وروي عنه أنه قال: ألهم البهائم كل شئ إلا أربع خصال: أن الله عزوجل خالقها ورازقها… 1، وإتيان الذكر الانثى، والفرار من


1 بياض في الاصل. (*)

[ 211 ]

الموت، وطلب الرزق. وقال: ستة لا يسلم عليهم: اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والشاعر يقذف المحصنات، وقوم يتفكهون بسب الامهات، وقوم على مائدة يشرب عليها الخمر. وقال: الائمة من قريش خيارهم على خيارهم، وشرارهم على شرارهم. وقضى على رجل بقضية فقال: يا أمير المؤمنين ! قضيت علي بقضية هلك فيها مالي، وضاع فيها عيالي ! فغضب حتى استبان الغضب في وجهه، ثم قال: يا قنبر ! ناد في الناس الصلاة جامعة. فاجتمع الناس ورقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فذمتي رهينة، وأنا به زعيم، بجميع من صرحت له العبر ألا يهيج على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ على التقوى سنخ أصل، وإن الخير كله فيمن عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره، إن من أبغض خلق الله إلى الله العبد وكله إلى نفسه جائرا عن قصد السبيل، مشغوفا بكلام بدعة، قد قمس في أشباهه من الناس عشواء، غارا بأغباش الفتنة قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة على من تبعه، قد سماه أشباه الناس عالما، ولم يغن فيه يوما، سالما بكر، فاستكثر مما قل منه، فهو خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا، ضامنا بتخليص ما التبس على غيره، إن قايس شيئا بشئ لم يكذب نفسه، وإن التبس عليه شئ كتمه من نفسه لكيلا يقال لا يعلم، ولا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل بما قرظ به من حسن، مفتاح عشوات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعرض في العلم ببصيرة، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بمرضاته الفرج الحلال، فأين يتاه بكم، بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم ؟ إنا من سنخ أصلاب أصحاب السفينة، وكما نجا في هاتيك من نجا ينجو في هذه من ينجو، ويل رهين لمن تخلف عنهم،


[ 212 ]

إني فيكم كالكهف لاهل الكهف، وإني فيكم باب حطة من دخل منه نجا، ومن تخلف عنه هلك، حجة من ذي الحجة في حجة الوداع، إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. وحكم بأحكام عجيبة، حتى إنه حرق قوما، ودخن على آخرين، وقطع بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول: استتروا ببيوتكم، والتوبة وراءكم، من أبدى صفحنه للحق هلك، إن الله أدب هذه الامة بالسوط والسيف، وليس لاحد عند الامام هوادة. وقدم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة 40، فلما بلغ عليا قدومه قال: وقد وافى ؟ أما إنه ما بقي علي غيره، هذا أوانه، فنزل على الاشعث بن قيس الكندي. فأقام عنده شهرا يستحد سيفه، وكانوا ثلاثة نفر توجهوا. فواحد منهم إلى معاوية بالشأم، وآخر إلى عمرو بن العاص بمصر، والآخر إلى علي، وهو ابن ملجم، فأما صاحب معاوية فضربه، فوقعت الضربة على إليته، وبادر فدخل داره، وأما صاحب عمرو بن العاص فإنه ضرب خارجة بن حذافة خليفة عمرو في الصبح، وكان عمرو تخلف لعلة، فقال الخارجي: أردت عمرا وأراد الله خارجة، وأما عبد الرحمن بن ملجم، فإنه وقف له عند المسجد، وخرج علي في الغلس، فتبعه إوز كن في الدار، فتعلقن بثوبه، فقال: صوائح تتبعها نوائح، وأدخل رأسه من باب خوخة المسجد، وضربه على رأسه، فسقط، وصاح: خذوه ! فابتدره الناس، فجعل لا يقرب منه أحد إلا نفحه بسيفه، فبادر إليه قثم بن العباس، فاحتمله وضرب به الارض، فصاح: يا علي نح عني كلبك، وأتى به إلى علي، فقال: ابن ملجم ؟ قال: نعم ! فقال: يا حسن شأنك بخصمك، فاشبع بطنه، واشدد وثاقه، فإن مت فألحقه بي أخاصمه عند ربي، وإن عشت فعفو أو قصاص. وأقام يومين ومات ليلة الجمعة أول ليلة من العشر الاواخر من شهر رمضان سنة 40، ومن شهور العجم في كانون الآخر، وهو ابن ثلاث وستين سنة،


[ 213 ]

وغسله الحسن ابنه بيده، وصلى عليه وكبر عليه سبعا، وقال: أما إنه لا يكبر على أحد بعده، ودفن بالكوفة في موضع يقال له الغري، وكانت خلافته أربع سنين وعشرة أشهر. وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكرا: الحسن، والحسين، ومحسن، مات صغيرا، أمهم فاطمة بنت رسول الله، ومحمد الاكبر، أمه خولة بنت جعفر الحنفية، وعبيدالله، وأبو بكر، لا عقب لهما، أمهما ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تميم، والعباس وجعفر قتلا بالطف، وعثمان وعبد الله، أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وعمرو، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية، ومحمد الاصغر، لا عقب له، أمه امامة بنت أبي العاص، وعثمان الاصغر ويحيى وأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية، وكان له من البنات ثماني عشرة ابنة، منهن من فاطمة ثلاث، والباقيات لعدة نسوة، وأمهات أولاد شتى، وكان على شرطه معقل بن قيس الرياحي، وحاجبه قنبر مولاه. ولما مات قام الحسن خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: ألا إنه قد مضى في هذه الليلة رجل لم يدركه الاولون، ولن يرى مثله الآخرون، من كان يقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، والله لقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم، وأنزل القرآن، ألا وإنه ما خلف صفرا ولا بيضا إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لاهله. فقام القعقاع بن زرارة على قبره، فقال: رضوان الله عليك، يا أمير المؤمنين، فوالله لقد كانت حياتك مفتاح خير، ولو أن الناس قبلوك لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة، وآثروا الدنيا على الآخرة. وأقام الحج للناس في خلافته في سنة 36 عبد الله بن العباس، وفي سنة 37 قثم بن العباس، وقيل عبد الله بن العباس، وفي سنة 38 عبيدالله بن العباس، وفي سنة 39 شيبة بن عثمان. وكان أصحاب علي الذين يحملون عنه العلم:


[ 214 ]

الحارث الاعور، أبو الطفيل عامر بن واثلة، حبة العرني، رشيد الهجري، حويزة بن مسهر، الاصبغ بن نباتة، ميثم التمار، الحسن بن علي. خلافة الحسن بن علي واجتمع الناس، فبايعوا الحسن بن علي، وخرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع، فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم فقال: عبد الرحمن ! ما الذي أمرك به أبوك ؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش أقتص أو أعفو، وإن مات ألحقنك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في حال الغضب والرضى، فضربه الحسن بالسيف فالتقاه بيده فندرت، وقتله. وأقام الحسن بن علي بعد أبيه شهرين، وقيل أربعة أشهر، ووجه بعبيد الله ابن العباس في اثني عشر ألفا لقتال معاوية، ومعه قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، وأمر عبيدالله أن يعمل بأمر قيس بن سعد ورأيه، فسار إلى ناحية الجزيرة، وأقبل معاوية لما انتهى إليه الخبر بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوما، والتقى العسكران، فوجه معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني ! فيقال: إنه أرسل إلى عبيدالله بن عباس وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته. وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية، وأجابه.


[ 215 ]

ووجه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز، وعبد الرحمن بن أم الحكم، وأتوه، وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكن به الفتنة وأجاب إلى الصلح، فاضطرب المسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الاسدي، فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها فدق عنقه. وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية العراق، فغلب على الامر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن أن لا قوة به، وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس ! إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.


[ 216 ]

ايام معاوية بن ابي سفيان وملك معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبدشمس، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبدشمس، وبويع بالكوفة في ذي القعدة سنة 40، وكانت الشمس في الحمل درجتين، والقمر في الثور خمس عشرة درجة، وزحل في العقرب تسعا وعشرين درجة، والمشتري في الثور تسعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والمريخ في الثور ست عشرة درجة، والزهرة في الثور أربع درجات، وعطارد في الحوت ست عشرة درجة. وقدم الكوفة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الامة، فإن حقها غلب باطلها. ثم نزل. وأحضر الناس لبيعته، وكان الرجل يحضر فيقول: والله يا معاوية ! إني لابايعك، وإني لكاره لك، فيقول: بايع، فإن الله قد جعل في المكروه خيرا كثيرا، ويأبى الآخر فيقول: أعوذ بالله من شر نفسك ! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس ! قال: إن كنت لاكره مثل هذا اليوم، يا معاوية. فقال له: مه، رحمك الله ! فقال: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله، يا ابن أبي سفيان، إلا ما أحب. قال: فلا يرد أمر الله. قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس ! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من الايمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب العالمين، وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف نجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم


[ 217 ]

لا تعقلون ؟ فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده وقال: اقسمت عليك ! ثم صفق على كفه، ونادى الناس: بايع قيس ! فقال، كذبتم، والله، ما بايعت، ولم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الايمان، فكان أول من استحلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك. فغضب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين ؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك إنما أنت منتز. وخرج فروة بن نوفل الاشجعي سنة 40، وكان معتزلا بشهرزور في جماعة من الخوارج، فلما بلغه قتل علي وغلبة معاوية أقبل في ألف وخمسمائة حتى صار بالنخيلة، فوجه إليه معاوية خيلا، فكشفهم، فأخذ معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم، فخرجوا خوفا منه، فلما لقوهم قال لهم فروة بن نوفل: دعونا فإن معاوية عدونا وعدوكم، فقاتلهم أهل الكوفة أشد قتال، حتى قتل فروة، وأفرخ روع معاوية. ورجع معاوية إلى الشأم سنة 41، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وإحكامه، فوجه إليه، فصالحه على مائة ألف دينار. وكان معاوية أول من صالح الروم. وكان صلحه إياهم في أول سنة 42، فلما استقام الامر لمعاوية أغزى أمراء الشأم على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، وقد ذكرنا أسماءهم في موضع الصوائف. وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال، فلم يجبه. وولى عبد الله بن عامر بن كريز البصرة، فلما قدمها وجه عبد الرحمن ابن سمرة إلى خراسان، فغزا بلخ وكابل، ومعه عبد الله بن خازم السلمي، فافتتح بلخ بعد حرب شديدة، وصار إلى كابل، فأقام عليها ليالي، ثم أتاه بواب باب المدينة، فجعل له شيئا حتى فتح الباب، وكانت الحرب في المدينة،


[ 218 ]

ثم طلبوا الصلح، فصالحهم ابن سمرة، وانصرف وخلف ابن خازم بخراسان. وولى معاوية عبد الله بن دراج مولاه خراج العراق، وكتب إليه: احمل إلى من مالها ما أستعين به ! فكتب إليه ابن دراج يعلمه أن الدهاقين أعلموه أنه كان لكسرى وآل كسرى صوافي يجتبون مالها لانفسهم ولا تجري مجرى الخراج، فكتب إليه: أن أحص تلك الصوافي واستصفها، واضرب عليها المسنيات، فجمع الدهاقين، فسألهم، فقالوا: الديوان بحلوان. فبعث فأتى به، فاستخرج منه كل ما كان لكسرى وآل كسرى، وضرب عليه المسنيات، واستصفاه لمعاوية، فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من أرض الكوفة وسوادها. وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة بمثل ذلك في أرض البصرة، وأمرهم أن يحملوا إليه هدايا النيروز والمهرجان، فكان يحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف. وكان زياد بن عبيد عامل علي بن أبي طالب على فارس، فلما صار الامر إلى معاوية كتب إليه يتوعده ويتهدده، فقام زياد خطيبا فقال: إن ابن آكلة الاكباد وكهف النفاق وبقية الاحزاب كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله في تسعين ألفا واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم لا يلتفت أحدهم حتى يموت، أما والله لئن وصل إلي ليجدني أحمز، ضرابا بالسيف. فوجه معاوية إليه المغيرة بن شعبة، فأقدمه ثم ادعاه، وألحقه بأبي سفيان، وولاه البصرة، وأحضر زياد شهودا أربعة، فشهد أحدهم أن علي بن أبي طالب أعلمه أنهم كانوا جلوسا عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الاشعري، فتكلم زياد بكلام أعجبه، فقال: أكنت قائلا للناس هذا على المنبر ؟ قال: هم أهون علي منك، يا أمير المؤمنين، فقال أبو سفيان: والله لهو ابني، ولانا وضعته في رحم أمه، قلت: فما يمنعك من ادعائه ؟ قال: مخافة هذا العير الناهق.


[ 219 ]

وتقدم آخر فشهد على هذه الشهادة. قال زياد الهمداني: لما سأله زياد كيف قولك في علي ؟ قال: مثل قولك حين ولاك فارس، وشهد لك أنك ابن أبي سفيان. وتقدم أبو مريم السلولي فقال: ما أدري ما شهادة علي، ولكني كنت خمارا بالطائف، فمر بي أبو سفيان منصرفا من سفر له، فطعم وشرب، ثم قال: يا أبا مريم طالت الغربة، فهل من بغي ؟ فقلت: ما أجد لك إلا أمة بني عجلان. قال: فأتني بها على ما كان من طول ثدييها ونتن رفغها، فأتيته بها، فوقع عليها، ثم رجع إلى فقال لي: يا أبا مريم ! لاستلت ماء ظهري استلالا تثيب ابن الحبل 1 في عينها. فقال له زياد: إنما أتينا بك شاهدا، ولم نأت بك شاتما. قال: أقول الحق على ما كان، فأنفذ معاوية… 2 قال ما قد بلغكم وشهد بما سمعتم، فإن كان ما قالوا حقا، فالحمد لله الذي حفظ مني ما ضيع الناس، ورفع مني ما وضعوا، وإن كان باطلا، فمعاوية والشهود أعلم. وما كان عبيد إلا ولدا مبرورا مشكورا. ونزل وولى المغيرة ابن شعبة الكوفة في جمادى…. 3 سنة 42 فأقام عليها حينا، ثم بدا له وولى عبد الله بن عامر بن كريز الكوفة، فلما بلغ أهل الكوفة الخبر خرج كثير من الناس إلى عبد الله بن عامر، فجعل المغيرة لا يسأل عن أحد إلا قيل له قد خرج إلى عبد الله بن عامر، حتى سأل عن كاتبه، فقيل له: قد لحق بعبدالله، فقال: يا غلام شد رحلي وقدم بغلي، فخرج حتى أتى دمشق، فدخل على معاوية، فلما رآه قال: ما أقدمك يا مغيرة، تركت العمل، وأخللت بالمصر وأهل العراق، وهم أسرع شئ إلى الفتن ؟ قال: يا أمير المؤمنين كبرت سني، وضعفت قوتي، وعجزت عن العمل، وقد بلغت من الدنيا حاجتي، والله ما آسى علي شئ منها إلا على شئ واحد قدرت به قضاء حقك، ووددت أنه لا يفوتني أجلي


1 قوله: تثيب ابن الحبل: هكذا في الاصل. 2 و 3 بياض في الاصل (*)

[ 220 ]

وان الله أحسن عليه معونتي. قال: وما هو ؟ قال: كنت دعوت أشراف الكوفة إلى البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بولاية العهد بعد أمير المؤمنين، فأجابوا إلى ذلك، ووجدتهم سراعا نحوه، فكرهت أن أحدث أمرا دون رأي أمير المؤمنين، فقدمت لاشافهه بذلك، وأستعفيه من العمل. فقال: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن ! إنما يزيد ابن أخيك، ومثلك إذا شرع في أمر لم يدعه حتى يحكمه، فنشدتك الله الا رجعت فتممت هذا. فخرج من عنده، فلقي كاتبه، فقال: ارجع بنا إلى الكوفة، فوالله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلا سفك الدماء. وانصرف إلى الكوفة. وكتب معاوية إلى زياد، وهو بالبصرة، أن المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد بعدي، وليس المغيرة بأحق بابن أخيك منك، فإذا وصل إليك كتابي فادع الناس قبلك إلى مثل ما دعاهم إليه المغيرة، وخذ عليهم البيعة ليزيد. فلما بلغ زيادا وقرأ الكتاب دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه، فقال: إني أريد أن آتمنك على ما لم آتمن عليه بطون الصحائف، ايت معاوية فقل له: يا أمير المؤمنين إن كتابك ورد علي بكذا، فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولا وحولين، فعسينا أن نموه على الناس. فلما صار الرسول إلى معاوية وأدى إليه الرسالة قال: ويلي على ابن عبيد ! لقد بلغني أن الحادي حدا له أن الامير بعدي زياد، والله لاردنه إلى أمه سمية، وإلى أبيه عبيد. وقدم المغيرة الكوفة منصرفا من عند معاوية، وقد خرج شبيب بن بجرة الاشجعي الخارجي، فلما علم أن قدم المغيرة هرب إلى معاوية فقال: أنا قاتل علي بن أبي طالب، وكان شبيب بن بجرة مع ابن ملجم في الليلة التي ضرب


[ 221 ]

فيها عليا، فقال له معاوية: لا أراك ولا تراني. فرجع إلى الكوفة فقاتل المغيرة، فوجه إليه جيشا فقتله. وخرج المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب سنة 43 فوجه إليه المغيرة خيلا، فقتل بأسفل ساباط، وقتل أصحابه جميعا. وخرج بعده معاذ بن جوين الطائي أبو المستورد، فوجه إليه المغيرة خيلا عليها رجل من همدان، فقتلوه. وخرجت عصابة من الموالي، أميرهم أبو علي من أهل الكوفة، وهو مولى لبني الحارث بن كعب، وكانت أول خارجة خرجت فيها الموالي، فبعث المغيرة إليهم رجلا من بجيلة، فالتقوا ببادوريا، فناداهم البجلي: يا معشر الاعاجم ! هذه العرب تقاتلنا على الدين، فما بالكم ؟ فنادوه: يا جابر ! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وإن الله بعث نبينا للناس كافة، ولم يزوه عن أحد. فقاتلهم حتى قتلهم. وكانت مصر والمغرب لعمرو بن العاص طعمة شرطها له يوم بايع، ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص مصر، أعطاه أهلها، فهم له حياته، ولا تنقص طاعته شرطا. فقال له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك، فجعل عمرو يقرأ الشرط، ولا يقف على ما وقف عليه وردان، فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا كظم ء حمار، هلا شرطت لعقبك من بعدك ؟ فاستقال معاوية، فلم يقله، فكان عمرو لا يحمل إليه من مالها شيئا، يفرق الاعطية في الناس، فما فضل من شئ أخذه لنفسه. وولي عمرو بن العاص مصر عشر سنين، منها لعمر بن الخطاب أربع سنين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي وله ثمان وتسعون سنة، وكان داهية العرب رأيا وحزما وعقلا ولسانا، وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى رجلا يكلم فلا يقيم كلامه يقول: سبحان من


[ 222 ]

خلقك وخلق عمرو بن العاص. وقال بعضهم: سمعت عمرا يقول: سلطان عادل خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم، وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقي ولا تذر، واستراح من لا عقل له. ولما حضرت عمرا الوفاة قال لابنه: لود أبوك أنه كان مات في غزاة ذات السلاسل. إني قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها. ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته، فقال: يا ليته كان بعرا، يا ليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمي علي رشدي حتى حضرني أجلي، كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي. وتوفي عمرو ليلة الفطر سنة 43، فأقر معاوية ابنه عبد الله بن عمرو، ثم استصفى مال عمرو، فكان أول من استصفى مال عامل، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلا شاطر ورثته ماله، فكان يكلم في ذلك، فيقول: هذه سنة سنها عمر بن الخطاب. ثم عزل معاوية عبد الله بن عمرو، وولى أخاه عتبة ابن أبي سفيان مصر. وكتب معاوية إلى زياد بن أبي سفيان: إن قبلك رجلا من أصحاب رسول الله فوله خراسان، وهو الحكم بن عمرو الغفاري، فولاه زياد خراسان، فقدمها سنة 44، فصار إلى هراة، ثم مضى منها إلى الجوزجان، فافتتحها، ونالتهم شدة حتى أكلوا دوابهم، وكان المهلب مع الحكم بن عمرو في ذلك الوقت، وقد عرف بلاء المهلب وبأسه، وتوفي الحكم بن عمرو، فولى زياد مكانه الربيع بن زياد الحارثي، وفتحت خوارزم في ذلك الوقت، وكان الذي افتتحها عبد الله بن عقيل الثقفي. وحج معاوية سنة 44، وقدم معه من الشأم بمنبر، فوضعه عند باب البيت الحرام، فكان أول من وضع المنبر في المسجد الحرام. ولما صار إلى المدينة أتاه


[ 223 ]

جماعة من بني هاشم، وكلموه في أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم، وقد قتلتم عثمان، حتى تقولوا ما تقولون ؟ فوالله لا أنتم أجل دما من كذا وكذا، وأعظم في القول، فقال له ابن عباس: كل ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دفتيك، أنت والله أولى بذلك منا، أنت قتلت عثمان، ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه. فانكسر معاوية، فقال ابن عباس: والله ما رأيتك صدقت إلا فزعت وانكسرت. قال: فضحك معاوية، وقال: والله ما أحب أنكم لم تكونوا كلمتموني. ثم كلمه الانصار، فأغلظ لهم في القول، وقال لهم: ما فعلت تواضحكم ؟ قالوا: أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك وجدك وخالك، ولكنا نفعل ما أوصانا به رسول الله. قال: ما أوصاكم به ؟ قالوا: أوصانا بالصبر. قال: فاصبروا. ثم أدلج معاوية إلى الشأم، ولم يقض لهم حاجة. وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين، وخطب الخطبة قبل الصلاة، وذلك أن الناس، إذا صلوا، انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي، فقدم معاوية الخطبة قبل الصلاة، ووهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله. واستعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله، فاعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف، فقتله، فحبسه معاوية أياما، ثم أغرمه ديته، ولم يقده منه. وكان ابن أثال قتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، دس إليه شربة سم، فعيره بن المنذر بن الزبير بن العوام، وقال: تتلكم، وابن أثال بحمص يأمر وينهى ؟ فلما قتله قال خالد بن عبد الرحمن: أما أنا فقد قتلت ابن أثال وهذا عمرو بن جرموز التميمي قاتل الزبير آمن السرب. وكان عبد الرحمن بن العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشأم، فجفاه معاوية، ولم يقض له حاجة، ودخل إليه يوما، فقال له: يا ابن العباس !


[ 224 ]

كيف رأيت الله فعل بنا وبأبي الحسن ؟ فقال: فعلا، والله، غير مختل عجله إلى جنة لن تنالها، وأخرك إلى دنيا قد كان أمير المؤمنين نالها. قال: وإنك لتحكم على الله ! قال: بما حكم الله به على نفسه، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون. قال معاوية: والله لو عاش أبو عمرو حتى يراني لرأى نقم ابن العم. فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك خذلته حين كانت النصرة له ونصرته حين كانت النصرة لك. قال: وما دخولك بين العصا ولحائها ؟ قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلان تحسن فأجازي أحب إلي من أن تسئ فأكافي، ثم نهض.


[ 225 ]

وفاة الحسن بن علي وتوفي الحسن بن علي في شهر ربيع الاول سنة 49، ولما حضرته الوفاة قال لاخيه الحسين: يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السم، ولم أسقه مثل مرتي هذه، وأنا ميت من يومي، فإذا أنا مت فادفني مع رسول الله، فما أحد أولى بقربه مني، إلا أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم. ولما لف في أكفانه قال محمد بن الحنفية: رحمك الله أبا محمد، فوالله لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك، ونعم الروح روح عمر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك، وأنت سليل الهدى، وحلف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك كف الحق، وربيت في حجر الاسلام، وأرضعتك ثديا الايمان، فطب حيا وميتا، فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسا غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك. ثم أخرج نعشه يراد به قبر رسول الله، فركب مروان بن الحكم، وسعيد ابن العاص، فمنعا من ذلك، حتى كادت تقع فتنة. وقيل إن عائشة ركبت بغلة شهباء، وقالت: بيتي لا آذن فيه لاحد. فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقال لها: يا عمة ! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الاحمر، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء ؟ فرجعت. واجتمع مع الحسين بن علي جماعة وخلق من الناس، فقالوا له: دعنا وآل مروان، فوالله ما هم عندنا كأكلة رأس. فقال: إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم. فدفن الحسن في البقيع، وكانت سنة سبعا وأربعين سنة، وتوفي الحسن بن علي وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لما أتاه نعي الحسن، فقال له: يا ابن عباس ! إن حسنا مات. قال: إنا لله وإنا إليه


[ 226 ]

راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن مات، فما ينسئ موته في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك، ولقد مضى إلى خير وبقيت على شر. قال: لا أحسبه قد خلف إلا صبية صغارا. قال: كلنا كان صغيرا فكبر. قال: بخ بخ، يا ابن عباس، أصبحت سيد قومك. قال: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن رسول الله، فلا. وكان الحسن بن علي جوادا كريما وأشبه برسول الله خلقا وخلقا وسئل الحسن: ماذا سمعت من رسول الله ؟ فقال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك، فإن الشر ريبة والخير طمأنينة. وعقلت عنه أني بينا أنا أمشي معه إلى جنب جرن الضيقة، تناولت تمرة فأدخلتها في فمي. قال: فأدخل رسول الله اصبعه في فمي، فاستخرجها، فألقاها، وقال: إن محمدا وآل محمد لا تحل لهم الصدقة. وعقلت عنه الصلوات الخمس. وحج الحسن خمس عشرة حجة ماشيا، وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله عزوجل ثلاث مرات، حتى كان يعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك أخرى. وقال معاوية للحسن: يا أبا محمد ثلاث خلال ما وجدت من يخبرني عنهن. قال: وما هن ؟ قال: المروة، والكرم، والنجدة. قال: أما المروة فإصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، ولين الكف، وإفشاء السلام والتحبب إلى الناس. والكرم العطية قبل السؤال، والتبرع بالمعروف، والاطعام في المحل، ثم النجدة الذب عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد. وقال جابر: سمعت الحسن يقول: مكارم الاخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء. وقيل للحسن: من أحسن الناس عيشا ؟ قال: من أشرك الناس في عيشه.


[ 227 ]

وقيل: من شر الناس عيشا ؟ قال: من لا يعيش في عيشه أحد. وقال الحسن: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشد من المصيبة سوء الخلق، والعبادة انتظار الفرج. ودعا الحسن بن علي بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي ! إنكم صغار قوم، وتوشكون أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم يرويه أو يحفظه، فليكتبه وليجعله في بيته. وقال رجل للحسن: إني أخاف الموت ! قال: ذاك أنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به. وقال معاوية: ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسن بن علي وبين عمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض، فعرض الحسن ابن علي أمرا لم يرضه عمرو، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط. وقال له معاوية يوما: ما يجب لنا في سلطاننا ؟ قال: ما قال سليمان بن داود. قال معاوية: وما قال سليمان بن داود ؟ قال: قال لبعض أصحابه: أتدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره ؟ إذا أدى الذي عليه منه، وإذا خاف الله في السر والعلانية، وعدل في الغضب والرضى، وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الاموال غصبا، ولم يأكلها إسرافا وبذارا لم يضره ما تمتع به من دنياه، إذا كان ذلك من خلته. وقال الحسن: كان رسول الله إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها وبميسور من القول. ومر الحسن يوما وقاص يقص على باب مسجد رسول الله، فقال الحسن: ما أنت ؟ فقال: أنا قاص يا ابن رسول الله. قال: كذبت، محمد القاص، قال الله عزوجل: فاقصص القصص. قال: فأنا مذكر. قال: كذبت، محمد


[ 228 ]

المذكر، قال له عزوجل: فذكر إنما أنت مذكر. قال: فما أنا ؟ قال: المتكلف من الرجال. وكان للحسن من الولد ثمانية ذكور، وهم: الحسن بن الحسن، وأمه خولة بنت منظور الفزارية، وزيد بن الحسن، وأمه أم بشير بنت أبي مسعود الانصاري الخزرجي، وعمر والقاسم وأبو بكر وعبد الرحمن لامهات أولاد شتى، وطلحة وعبيدالله. ولما توفي الحسن وبلغ الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، غفر الله ذنبه وتقبل حسناته، وألحقه بنبيه، وضاعف لك الاجر في المصاب به وجبر بك المصيبة من بعده فعند الله نحتسبه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الامة عامة، وأنت وهذه الشيعة خاصة، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي، علم الهدى، ونور البلاد المرجو لاقامة الدين وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله على ما أصابك، إن ذلك لمن عزم الامور، فإن فيك خلفا ممن كان قبلك، وإن الله يؤتي رشده من يهدى بهديك، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لامرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، ورد عليك حقك. وبايع معاوية لابنه يزيد بولاية العهد، بعد وفاة الحسن بن علي، ولم يتخلف عن البيعة إلا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. وقال عبد الله بن عمر: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب، ويشرب الخمر، ويظهر الفسوق ! ما حجتنا عند الله ! وقال عبد الله بن الزبير: لا طاعة لمخلوق في معصية خالق، وقد أفسد علينا ديننا.


[ 229 ]

وحج معاوية تلك السنة فتألف القوم، ولم يكرههم على البيعة، وأغزى معاوية يزيد ابنه الصائفة، ومعه سفيان بن عوف العامري، فسبقه سفيان بالدخول إلى بلاد الروم، فنال المسلمين في بلاد الروم حمى وجدري، وكانت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر تحت يزيد بن معاوية، وكان لها محبا، فلما بلغه ما نال الناس من الحمى والجدري قال: ما ان أبالي بما لاقت جموعهم * بالغذقذونة من حمى ومن موم إذا اتكأت على الانماط في غرف * بدير مران عندي أم كلثوم فبلغ ذلك معاوية فقال: أقسم بالله لتدخلن أرض الروم فليصيبنك ما أصابهم، فأردف به ذلك الجيش، فغزا به حتى بلغ القسطنطينية. ووجه معاوية عقبة بن نافع الفهري إلى افريقية فافتتحها واختط قيروانها، وبناه، وكان موضع دغل وحلفاء تنزله الاسد، وكان ذلك سنة 50، ثم ولى معاوية دينارا أبا المهاجر، مولى الانصار، مكان عقبة بن نافع الفهري، فأخذ عقبة بن نافع، فحبسه وقيده، فأقام في الحبس شهورا، ثم أطلقه، فلما صار إلى مصر رده عمرو بن العاص إلى المغرب. وقيل ورد كتاب من معاوية على عمرو يأمره بذلك، فلما قدم عقبة افريقية أخذ دينارا فحبسه، وخرج على عقبة رجل من البربر يقال له ابن الكاهنة، ولم يزل عقبة على البلد أيام معاوية ويزيد بن معاوية. وتوفي المغيرة بن شعبة سنة 51، فولى معاوية الكوفة زيادا، وضمها إليه مع البصرة، فكان أول من جمع له المصران. وكتب زياد إلى معاوية: إني قد شغلت شمالي بالعراق ويميني فارغة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يوليني الموسم ؟ فكتب إليه بولاية الحجاز، وقيل بولاية الموسم. وكان عبد الله بن عمر يدخل فيقول: ارفعوا أيديكم فادعوا الله أن


[ 230 ]

يكفيكم يمين زياد. وروى بعصهم أن أبا بكرة أخاه أتاه، فخاطب صبيا له، وكان قد حلف ألا يكلمه ما ؟ كاع عن الشهادة على المغيرة، فقال: يا بني أبوك ركب في الاسلام عظيما، شتم أمه، وانتفى من أبيه، ثم هو الآن يريد أن يفعل ما هو أكبر من هذا، يمر بالمدينة، فيستأذن على أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإن أذنت فأعظم بها مصيبة على رسول الله، وعلى المسلمين، فإن لم تأذن له فأعظم بها فضيحة على أبيك. فتأخر عن الخروج. – وكان حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب، إذا سمعوا المغيرة وغيره من أصحاب معاوية، وهم يلعنون عليا على المنبر، يقومون فيردون اللعن عليهم، ويتكلمون في ذلك. فلما قدم زياد الكوفة خطب خطبة له مشهورة لم يحمد الله فيها، ولم يصل على محمد، وأرعد فيها وأبرق، وتوعد وتهدد، وأنكر كلام من تكلم، وحذرهم ورهبهم، وقال: قد سميت الكلبة، على المنبر، الصلعاء، فإذا أو عدتكم أو وعدتكم، فلم أف لكم بوعدي ووعيدي، فلا طاعة لي عليكم. وكانت بينه وبين حجر بن عدي مودة، فوجه إليه فأحضره، ثم قال له: يا حجر ! أرأيت ما كنت عليه من المحبة والموالاة لعلي ؟ قال: نعم ! قال: فإن الله قد حول ذلك بغضة وعداوة، أو رأيت ما كنت عليه من البغضة والعداوة لمعاوية ؟ قال: نعم ! قال: فإن الله قد حول ذلك محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت عليا بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر. ثم بلغه أنهم يجتمعون، فيتكلمون ويدبرون عليه وعلى معاوية، ويذكرون مساويهما، ويحرضون الناس، فوجه صاحب شرطه إليهم، فأخذ جماعة منهم فقتلوا، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعي إلى الموصل وعدة معه، وأخذ زياد حجر بن عدي الكندي وثلاثة عشر رجلا من أصحابه فأشخصهم إلى معاوية، فكتب فيهم أنهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة، فخرجوا بذلك من الطاعة،


[ 231 ]

وأنفذ شهادات قوم أولهم بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري، فلما صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال، أمر معاوية بإيقافهم هناك، ثم وجه إليهم من يضرب أعناقهم، فكلمه قوم في ستة منهم، فوقف عنهم، فقتل سبعة: حجر بن عدي الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة ابن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب التميمي، وكدام بن حيان العنزي، ولما أراد قتلهم قال حجر بن عدي: دعوني حتى أصلي، فصلى ركعتين خفيفتين ثم أقبل عليهم فقال: لولا أن تظنوا بي خلاف ما بي لأحببت أن تكونا أطول مما هما، وإني لأول من رمى بسهم في هذا الموضع، وأول من هلك فيه. فقيل له: أجزعت ؟ فقال: ولم لا أجزع، وأنا أرى سيفا مشهورا، وكفنا منشورا، وقبرا محفورا ؟ ثم ضربت عنقه وأعناق القوم، وكفنوا ودفنوا، وكان ذلك في سنة 52. وقال معاوية للحسين بن علي: يا أبا عبد الله ! علمت أنا قتلنا شيعة أبيك، فحنطناهم، وكفناهم، وصلينا عليهم، ودفناهم ؟ فقال الحسين: حجرك، ورب الكعبة، لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما كفناهم، ولا حنطناهم، ولا صلينا عليهم ولا دفناهم. وقالت عائشة لمعاوية حين حج، ودخل إليها: يا معاوية ! أقتلت حجرا وأصحابه، فأين عزب حلمك عنهم ؟ أما إني سمعت رسول الله يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السموات. قال: لم يحضرني رجل رشيد، يا أم المؤمنين. وروي أن معاوية كان يقول: ما أعد نفسي حليما بعد قتلي حجرا وأصحاب حجر. وبلغ عبد الرحمن ابن أم الحكم، وكان عامل معاوية على الموصل، مكان عمرو بن الحمق الخزاعي، ورفاعة بن شداد، فوجه في طلبهما، فخرجا هاربين، وعمرو بن الحمق شديد العلة، فلما كان في بعض الطريق لدغت عمرا


[ 232 ]

حية، فقال: الله أكبر ! قال لي رسول الله: يا عمرو ليشترك في قتلك الجن والانس. ثم قال لرفاعة: امض لشأنك، فإني مأخوذ ومقتول. ولحقته رسل عبد الرحمن ابن أم الحكم، فأخذوه وضربت عنقه، ونصب رأسه على رمح، وطيف به، فكان أول رأس طيف به في الاسلام. وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق، فلما أتى رأسه بعث به، فوضع في حجرها، فقالت للرسول: ابلغ معاوية ما أقول: طالبه الله بدمه، وعجل له الويل من نقمه، فلقد أتى أمرا فريا، وقتل برا نقيا. وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال. وخرج قريب وزحاف الخارجيان بالبصرة في جماعة من الخوارج، فاستعرضا الشرط، فقتلا منهم خلقا عظيما، وصارا إلى المسجد الجامع، فقتلا خلقا من الناس، ومالوا إلى القبائل، ففعلوا مثل ذلك. وكان زياد بالكوفة وعامله على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فحاربهم، فلما لم يكن له بهم طاقة كتب إلى زياد، فأقبل زياد حتى صار إلى البصرة، فصار إلى دار الامارة، ثم قال: يا أهل البصرة ما هذا الذي قد اشتملتم عليه ؟ إني أعطي الله عهدا لا يخرج علي خارجي بعدها فأدع من حيه وقبيلته أحدا، فاكفوني بوائقكم. فقام خطباء البصرة، فتكلموا واعتذروا. وكان معاوية أول من أقام الحرس والشرط والبوابين في الاسلام، وأرخى الستور، واستكتب النصارى، ومشي بين يديه بالحراب، وأخذ الزكاة من الاعطية، وجلس على السرير، والناس تحته، وجعل ديوان الخاتم، وبنى وشيد البناء، وسخر الناس في بنائه، ولم يسخر أحد قبله، واستصفى أموال الناس، فأخذها لنفسه. وكان سعيد بن المسيب يقول: فعل الله بمعاوية وفعل، فإنه أول من أعاد هذا الامر ملكا. وكان معاوية يقول: أنا أول الملوك. ورحل إليه عبد الله بن عمر يوما، فقال: يا أبا عبد الله ! كيف ترى بنياننا ؟ قال: إن كان من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كان من مالك


[ 233 ]

فأنت من المسرفين. ودخل إليه عدي بن حاتم، فقال له: كيف زماننا هذا يا أبا طريف ؟ قال: إن صدقناكم خفناكم، وإن كذبناكم خفنا الله. قال: أقسمت عليك ! قال: عدل زمانكم هذا جور زمان قد مضى، وجور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي. واستقر خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام معاوية على ستمائة ألف ألف وخمسة وخمسين ألف ألف درهم. وكان خراج السواد مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وخراج فارس سبعين ألف ألف، وخراج الاهواز وما يضاف إليها أربعين ألف ألف، وخراج اليمامة والبحرين خمسة عشر ألف ألف درهم، وخراج كور دجلة عشرة آلاف ألف درهم، وخراج نهاوند وماه الكوفة، وهو الدينور، وماه البصرة، وهو همذان، وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل أربعين ألف ألف درهم، وخراج الري وما يضاف إليها ثلاثين ألف ألف درهم، وخراج حلوان عشرين ألف ألف درهم، وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم، وخراج اذربيجان ثلاثين ألف ألف درهم، بعد أن أخرج معاوية من كل بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه لانفسها من الضياع العامرة وجعله صافية لنفسه، فأقطعه جماعة من أهل بيته. وكان صاحب العراق يحمل إليه من مال صوافيه في هذه النواحي مائة ألف ألف درهم، فمنها كانت صلاته وجوائزه، واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار، وكان عمرو بن العاص يحمل منها إليه الشئ اليسير، فلما مات عمرو حمل المال إلى معاوية، فكان يفرق في الناس أعطياتهم، ويحمل إليه ألف ألف دينار، واستقر خراج فلسطين على أربعمائة وخمسين ألف دينار، واستقر خراج الاردن على مائة وثمانين ألف دينار، وخراج دمشق على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج جند حمص على ثلاثمائة وخمسين ألف دينار، وخراج قنسرين والعواصم على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج


[ 234 ]

الجزيرة، وهي ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج اليمن على ألف ألف ومائتي ألف دينار، وقيل تسعمائة ألف دينار، وكان معاوية قد ولى اليمن، لما استقامت له الامور، فيروز الديلمي، ثم استعمل مكانه عثمان بن عفان الثقفي، ثم استعمل ابن بشير الانصاري. وفعل معاوية بالشأم والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة، وأقطعها أهل بيته وخاصته. وكان أول من كنت له الصوافي في جميع الدنيا، حتى بمكة والمدينة، فإنه كان فيهما شئ يحمل في كل سنة من أوساق التمر والحنطة. وكان معاوية وجه إلى ثغر الهند ابن سوار بن همام، فشخص في أربعة آلاف حتى أتى مكران، فأقام بها شهورا، ثم غزا القيقان، فقاتلهم، وصبر على قتالهم، فقتل ابن سوار وعامة ذلك الجيش، ورجع من بقي معه إلى مكران، فكتب معاوية إلى زياد أن يوجه رجلا له حزم وجزالة. فوجه سنان بن سلمة الهذلي فأتى مكران، فلم يزل بها مقيما ثم صرفه زياد، وولى راشد بن عمرو الجديدي الازدي، فغزا القيقان، فظفر وغنم، وغزا بعض بلاد السند، وفتح بلاد الهند، وكانت الهند يومئذ أهون شوكة من السند، فقتل راشد ببلاد السند. وأقام زياد على ولاية العراق اثنتي عشرة سنة، وكان لزياد دهاء ورجلة وصولة، وكان أول من دون الدواوين ووضع النسخ للكتب، وأفرد كتاب الرسائل من العرب والموالي المتفصحين. وكان زياد يقول: ينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الاعاجم العالمين بأمور الخراج. وكان زياد يقول: ملاك السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسئ، وصدق اللسان. وكان زياد أول من بسط الارزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين ألف درهم.


[ 235 ]

وكان زياد يقول: ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم. فقام إليه رجل فقال: أصلح الله الامير ! تعرفني ؟ فقال: نعم المعرفة الجامعة ! أعرفك باسمك واسم أبيك، وكنيتك، وعريفك، وعشيرتك، وفصيلتك، ولقد بلغ من معرفتي بكم أني أرى البرد على أحدكم، ثم آخر عارية، فأعرفه. واختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: أصلح الله الامير ! إنه يدل بناحية ذكر أنها له من الامير. قال: صدق ! سأخبرك بما ينفعه من ذلك، ويضرك، إن وجب له الحق عليك أخذتك له أخذا عنيفا، وإن وجب عليه حكمت وأديت عنه. وقال زياد وهو على المنبر: إن أعظم الناس كذبا أمير يقف على المنبر، وتحته مائة ألف من الناس، فيكذبهم، وإني والله لا أعدكم أجرا إلا أنجزته، ولا أعاقبكم حتى أتقدم عليكم. وكان زياد يقول لاصحابه: ليس كل يصل إلي ولا كل من وصل إلي أمكنه الكلام، فاستشفعوا لمن وراءكم، فإني من ورائكم أمنع إن أردت أن أمنع. وكان زياد يقول: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذه: الثغر، والصائفة، والشرط، والقضاء. وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسنا، عفيفا، مأمونا، لا يطعن عليه. وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وإحكام للعمل، وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه. وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا، فطنا، قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم. وتوفي زياد بالكوفة سنة 54. وروي أنه كان أحضر قوما بلغه أنهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم، وكانوا سبعين رجلا، فصعد المنبر، وجعل


[ 236 ]

يتكلم بالوعيد والتهديد، فنام بعض القوم، وهو جالس، فقال له بعض أصحابه: تنام وقد أحضرت لتقتل ؟ فقال: من عمود إلى عمود فرقان، لقد رأيت في نومتي هذه عجبا. قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيت رجلا أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف، فقلت: من أنت يا هذا ؟ فقال: أنا النقاد داق الرقبة. قلت: وأين تريد ؟ قال: أدق عنق هذا الجبار الذي يتكلم على هذه الاعواد. فبينا زياد يتكلم على المنبر إذ قبض على اصبعه، ثم صاح: يدي ! وسقط عن المنبر مغشيا عليه، فأدخل القصر، وقد طعن في خنصره اليمنى، فجعل لا يتغاذ، فأحضر الطبيب، فقال له: اقطع يدي ! قال: أيها الامير ! اخبرني عن الوجع تجده في يدك، أو في قلبك ؟ قال: والله إلا في قلبي. قال: فعش سويا. فلما نزل به الموت كتب إلى معاوية: إني كتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، وقد استخلفت على عملي خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلما توفي زياد ووضع نعشه ليصلى عليه تقدم عبيد الله ابنه فنحاه، وتقدم خالد بن عبد الله فصلى عليه، فلما فرغ من دفنه خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية، فلما قيل لمعاوية هذا عبيدالله قال: يا بني ! ما منع أباك أن يستخلفك ؟ أما لو فعل لفعلت. فقال: نشدتك الله، يا أمير المؤمنين، أن يقولها لي أحد بعدك ما منع أباه وعمه أن يستعملاه ؟ فولاه خراسان، وصير إليه ثغري الهند. وتوفي المنذر فولى مكانه سنان بن سلمة، فقاتل القيقان، والبوقان، وظفر، ورزقه الله النصر عليهم. وصار عبيد الله بن زياد إلى خراسان، فبدأ ببخارى، وعليها ملكة يقال لما خاتون، فقاتلهم حتى فتحها، ثم قطع نهر بلخ، وكان أول عربي قطع


[ 237 ]

نهر بلخ، وحاربة القوم محاربة شديدة، وكان الظفر له، ثم انصرف من خراسان إلى معاوية فولاه البصرة سنة 56، وقيل أول سنة 57. وولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان، فاستضعفه، فعزله، وولى عبد الرحمن بن زياد، فلم يحمده، فعزله، فقدم عبد الرحمن بمال عظيم، فقيل إنه قال: قدمت معي بمال يكفيني مائة سنة لكل يوم ألف درهم، فذهب ذلك المال، حتى نظر إليه في أيام الحجاج على حمار، فقيل له: أين المال ؟ فقال: لا يكفي إلا وجه الله، والحمار أيضا ليس لي، إنما هو عارية. وولى معاوية خراسان بعد عبد الرحمن بن زياد سعيد بن عثمان بن عفان، فقطع النهر، وصار إلى بخارى، فطلبت خاتون ملكة بخارى الصلح، فأجابها إلى ذلك، ثم رجعت عن الصلح، وطمعت في سعيد، فحاربهم سعيد، فظفر، وقتل مقتلة عظيمة. وسار إلى سمرقند، فحاصرها، فلم يكن له طاقة بها، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح، فحلف ألا يبرح حتى يدخل المدينة، ففتح له باب المدينة، فدخلها، ورمى القهندز بحجر، وكان معه قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند. فلما بلغ عبد الله بن عباس موته قال: ما أبعد ما بين مولده ومقبره، مولده بمكة، وقبره بسمرقند، فانصرف سعيد بن عثمان إلى معاوية، فولى معاوية مكانه أسلم بن زرعة. وصار سعيد إلى المدينة، ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد، فوثبوا عليه، وقتلوه، وقتل بعضهم بعضا، حتى لم يبق منهم أحد. وأقام أسلم بن زرعة شهورا، وكان عمال خراسان ينزلون هراة، ثم ولى معاوية خليد بن عبد الله الحنفي، فكان آخر ولاته على خراسان. وأراد سعد بن أبي وقاص أن يعمل له، فامتنع عليه، ولزم منزله، وكان يسكن قصرا له خارج المدينة على عشرة أميال، فلم يزل نازلا به حتى توفي، وكانت وفاته سنة 55، وحمل على أيدي الرجال من قصره إلى المدينة، حتى


[ 238 ]

دفن بالبقيع. وتوفي أيام معاوية أربع من أزواج رسول الله: حفصة بنت عمر، توفيت سنة 45، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو عامل المدينة، وصفية بنت حيي بن أخطب توفيت سنة 50، وخولة بنت الحارث توفيت سنة 56، وعائشة بنت أبي بكر توفيت سنة 58، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة ؟ ؟ على المدينة، فقال بعض من حضر: صلى عليها أعدى الناس لها. وتوفي أبو هريرة سنة 59. وكان لمعاوية حلم ودهاء، وجود بالمال على المداراة من رجل يبخل على طعامه. وقال سعيد بن العاص: سمعت معاوية يوما يقال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين ؟ قال: كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها. وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالاعطاء، وربما احتال عليه فبعث به في الحروب، وقدمه، وكان اكثر فعله المكر والحيلة. وحج بالناس، في جميع سني ولايته، حجتين سنة 44 وسنة 50، وأراد أن يحمل منبر رسول الله، فنال المنبر زلزلة، حتى ظن أنه آخر الدنيا، فتركه ثم زاد فيه خمس مراق من أسفله، واعتمر عمرة رجب في سنة 56. وكان أول من كسا الكعبة الديباج، واشترى لها العبيد. وكان يغلب عليه عمرو بن العاص، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري، وكان الضحاك على شرطته، وعلى حرسه أبو مخارق مولى حمير، وحاجبه رباح، مولاه. وكان معاوية جهم الوجه، جاحظ العين، وافر اللحية، عريض الصدر، عظيم الاليتين، قصير الساقين والفخذين، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي مستهل رجب، ويقال للنصف من رجب سنة 60،


[ 239 ]

وهو ابن سبع وسبعين سنة، ويقال ثمانين سنة، وقد كان ضعف ونحل، وسقطت ثنيتاه. قال صالح بن عمرو: ورأيت معاوية على المنبر معتما بعمامة سوداء، قد سدلها على فيه، وهو يقول: معشر الناس ! كبرت سني، وضعفت قوتي، وأصبت في أحسني، فرحم الله من دعا لي ! ثم بكى، فبكى معه الناس. وخرج الضحاك بن قيس، لما مات معاوية، فوضع أكفانه على المنبر، ثم قال: إن معاوية كان ناب العرب وحبلها، وقد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، وموردوه قبره، ثم هو آخر اللقاء. وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري لغيبة يزيد في ذلك الوقت، ودفن بدمشق، وخلف من الذكور أربعة: يزيد، وعبد الله، ومحمدا، وعبد الرحمن. وأقام الحج في أيامه سنة 41 و 42 عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة 43 مروان ابن الحكم، وفي سنة 44 معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة 45 مروان بن الحكم، وفي سنة 46 عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة 47 عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة 48 مروان بن الحكم، وفي سنة 49 سعيد بن العاص، وفي سنة 50 معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة 51 يزيد بن معاوية، وفي سنة 52 سعيد بن العاص، وفي سنة 53 سعيد بن العاص أيضا، وفي سنة 54 مروان بن الحكم، وفي سنة 55 مروان ابن الحكم أيضا، وفي سنة 56 الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة 57 الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان أيضا، وفي سنة 58 الوليد بن عتبة أيضا، وفي سنة 59 عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وغزا بالناس في ولايته سنة 41، وجه حبيب بن مسلمة، فصالح صاحب الروم، وكره أن يشغله. وسنة 43 غزا بسر بن أبي ارطاة أرض الروم، ومشتاه بها. سنة 44 غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى بلغ قلونية. سنة 45 عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشتا بأرض الروم.


[ 240 ]

وبلغ انطاكية سة 46 مالك بن عبد الله الخثعمي، وقيل مالك بن هبيرة السكوني، وشتا بأرض الروم. سنة 47 مالك بن هبيرة السكوني وشتا بأرض الروم. سنة 48 عبد الرحمن العتبي وبلغ انطاكية السوداء. سنة 49 فضالة بن عبيد، ففتح الله على يده، وسبى سبيا كثيرا. سنة 50 غزا بسر بن أبي ارطاة، وشتا سفيان بن عوف. سنة 51 غزا محمد بن عبد الرحمن، وشتا فضالة بن عبيد الانصاري. سنة 52 سفيان بن عوف، فتوفي، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري. سنة 53 محمد بن مالك، وقيل فتحت طرسوس في هذه السنة، فتحها جنادة بن أبي أمية الازدي. سنة 55 مالك بن عبد الله الخثعمي، وشتا بأرض الروم. سنة 56 يزيد بن معاوية، فبلغ القسطنطينية، وشتا مسعود بن أبي مسعود، وكان على البر يزيد بن شجرة، وعلى البحر عياض بن الحارث، كل هذا يقال. سنة 57 عبد الله بن قيس. سنة 58 مالك بن عبد الله الخثعمي، ويقال عمرو بن يزيد الجهني، وقيل يزيد بن شجرة في البحر. سنة 59 عمرو بن مرة الجهني في البر، لم يكن عامئذ غزوة بحر. وكان الفقهاء في أيام معاوية عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر بن الخطاب، المسور بن مخرمة الزهري، السائب بن يزيد، عبد الرحمن بن حاطب، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، عطاء أبن يسار، القاسم بن محمد بن أبي بكر، عبيدة بن قيس السلماني، الربيع ابن خشيم الثوري، زر بن حبيش، الحارث بن قيس الجعفي، عمرو بن عتبة بن فرقد، الاحنف بن قيس، الحارث بن عمير الزبيدي، سويد بن غفلة الجعفي، عمرو بن ميمون الاودي، مطرف بن عبد الله بن الشخير شقيق بن


[ 241 ]

سلمة، عمرو بن شرحبيل، عبد الله بن يزيد الخطمي، الحارث الاعور الهمداني، مسروق بن الاجدع، علقمة بن قيس الخثعمي، شريح بن الحارث الكندي، زيد بن وهب الهمداني. ايام يزيد بن معاوية وملك يزيد بن معاوية، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبي، في مستهل رجب سنة 60، وكانت الشمس يومئذ في الثور درجة وعشرين دقيقة، والقمر في العقرب……… 1 درجات وثلاثين دقيقة، وزحل في السرطان إحدى عشرة درجة، والمشتري في الجدي تسع عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الجوزاء ثماني درجات وخمسين دقيقة، وعطارد في الثور عشرين درجة وثلاثين دقيقة، وكان غائبا فلما قدم دمشق كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو عامل المدينة: إذا أتاك كتابي هذا، فأحضر الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث لي برؤوسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، والسلام. فورد الكتاب على الوليد ليلا، فوجه إلى الحسين وإلى عبد الله بن الزبير، فأخبرهما الخبر، فقالا: نصبح ونأتيك مع الناس. فقال له مروان: انهما والله إن خرجا لم ترهما، فخذهما بأن يبايعا، وإلا فاضرب أعناقهما. فقال: والله ما كنت لاقطع أرحامهما ! فخرجا من عنده وتنحيا من تحت ليلتهما، فخرج الحسين إلى مكة، فأقام بها أياما، وكتب أهل العراق إليه، ووجهوا بالرسل على أثر الرسل، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم كتاب هانئ بن أبي هانئ،


1 بياض في الاصل (*)

[ 242 ]

وسعيد بن عبد الله الخثعمي: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحي هلا، فإن الناس ينتظرونك، لاإمام لهم غيرك، فالعجل ثم العجل والسلام. فوجه إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكتب إليهم، وأعلمهم انه اثر كتابه، فلما قدم مسلم الكوفة اجتمعوا إليه، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة والوفاء. وأقبل الحسين من مكة يريد العراق، وكان يزيد قد ولى عبيدالله بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أن أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وانه قد خرج من مكة متوجها نحوهم، وقد بلي به بلدك من بين البلدان، وايامك من بين الايام، فإن قتلته، وإلا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عبيد، فاحذر أن يفوتك.


[ 243 ]

مقتل الحسين بن علي وقدم عبيدالله بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هانئ بن عروة، وهانئ شديد العلة، وكان صديقا لابن زياد، فلما قدم ابن زياد الكوفة أخبر بعلة هانئ، فأتاه ليعوده، فقال هانئ لمسلم بن عقيل وأصحابه، وهم جماعة: إذا جلس ابن زياد عندي وتمكن، فإني سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه، فأدخلهم البيت وجلس في الرواق. وأتاه عبيدالله بن زياد يعوده، فلما تمكن قال هانئ بن عروة: اسقوني ! فلم يخرجوا، فقال: اسقوني، ما يؤخركم ؟ ثم قال: اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، ففهم ابن زياد، فقام، فخرج من عنده، ووجه بالشرط يطلبون مسلما، وخرج وأصحابه، وهو لا يشك في وفاء القوم، وصحة نياتهم، فقاتل عبيدالله، فأخذوه، فقتله عبيدالله، وجر برجله في السوق، وقتل هانئ ابن عروة لنزول مسلم منزله وإعانته إياه. وسار الحسين يريد العراق، فلما بلغ القطقطانة أتاه الخبر بقتل مسلم بن عقيل، ووجه عبيدالله بن زياد، لما بلغه قربه من الكوفة، بالحر بن يزيد، فمنعه من أن يعدل، ثم بعث إليه بعمر بن سعد بن أبي وقاص في جيش، فلقي الحسين بموضع على الفرات يقال له كربلاء، وكان الحسين في اثنين وستين، أو اثنين وسبعين رجلا من أهل بيته وأصحابه، وعمر بن سعد في أربعة آلاف، فمنعوه الماء، وحالوا بينه وبين الفرات، فناشدهم الله عزوجل، فأبوا إلا قتاله أو يستسلم، فمضوا به إلى عبيدالله بن زياد فيرى رأيه فيه، وينفذ فيه حكم يزيد، فروي عن علي بن الحسين أنه قال: إني لجالس في العشية التي قتل أبي الحسين ابن علي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني، إذ دخل أبي، وهو يقول:


[ 244 ]

يا دهر أف لك من خليل، * كم لك في الاشراق والاصيل من طالب وصاحب قتيل، * والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الامر إلى الجليل، * وكل حي سالك السبيل ففهمت ما قال، وعرفت ما أراد، وخنقتني عبرتي، ورددت دمعي، وعرفت أن البلاء قد نزل بنا، فأما عمتي زينب، فإنها لما سمعت ما سمعت، والنساء من شأنهن الرقة والجزع، لم تملك أن وثبت تجر ثوبها حاسرة، وهي تقول: واثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ! ماتت فاطمة وعلي والحسن ابن علي أخي، فنظر إليها فردد غصته، ثم قال: يا أختي اتقي الله، فإن الموت نازل لا محالة ! فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشيا عليها، وصاحت: وا ويلاه ! واثكلاه ! فتقدم إليها، فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه، تعزي بعزاء الله، فإن لي ولكل مسلم أسوة برسول الله، ثم قال: اني أقسم عليك، فابري قسمي، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، فإني لمريض مدنف، وخرج إلى أصحابه. فلما كان من الغد خرج فكلم القوم، وعظم عليهم حقه، وذكرهم الله عزوجل ورسوله، وسألهم أن يخلوا بينه وبين الرجوع، فأبوا إلا قتاله، أو أخذه حتى يأتوا به عبيد الله بن زياد، فجعل يكلم القوم بعد القوم والرجل بعد الرجل، فيقولون: ما ندري ما تقول، فأقبل على أصحابه فقال: ان القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حل. فقالوا: لا والله، يا ابن رسول الله، حتى تكون أنفسنا قبل نفسك، فجزاهم الخير. وخرج زهير بن القين على فرس له فنادى: يا أهل الكوفة ! نذار لكم من عذاب الله ! نذار عباد الله ! ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ولد سمية، فإن: لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم. أيها الناس ! انه ما أصبح على ظهر الارض


[ 245 ]

ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغصه الله الدنيا، وعذابه أشد عذاب الآخرة. ثم تقدموا رجلا رجلا، حتى بقي وحده ما معه أحد من أهله، ولا ولده، ولا أقاربه، فإنه لواقف على فرسه إذ أتي بمولود قد ولد له في تلك الساعة، فأذن في أذنه، وجعل يحنكه، إذ أتاه سهم، فوقع في حلق الصبي، فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه، وجعل يلطخه بدمه ويقول: والله لانت أكرم على الله من الناقة، ولمحمد اكرم على الله من صالح ! ثم أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه، ثم حمل عليهم، فقتل منهم خلقا عظيما، وأتاه سهم فوقع في لبته، فخرج من قفاه، فسقط، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وبعثوا به إلى عبيدالله بن زياد، وانتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا ؟ وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشأم، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون من المحرم سنة 61، واختلفوا في اليوم، فقالوا: يوم السبت، وقالوا: يوم الاثنين، وقالوا: يوم الجمعة، وكان من شهور العجم في تشرين الاول. قال الخوارزمي: وكانت الشمس يومئذ في الميزان سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة، وزحل في السرطان تسعا وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الجدي اثنتي عشرة درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في السنبلة خمس درجات وخمسين دقيقة، وعطارد في الميزان خمس درجات وأربعين دقيقة، والرأس في الجوزاء درجة وخمسا وأربعين دقيقة. ووضع الرأس بين يدي يزيد، فجعل يزيد يقرع ثناياه بالقصب وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول، كان


[ 246 ]

دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إن جبريل أعلمني ان أمتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دما صاحت: واحسيناه ! وابن رسول الله ! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجة التي ما سمع بمثلها قط. وكانت سن الحسين يوم قتل ستا وخمسين سنة، وذلك انه ولد في سنة 4 من الهجرة. وقيل للحسين: ما سمعت من رسول الله ؟ قال: سمعته يقول: إن الله يحب معالي الامور ويكره سفسافها، وعقلت عنه انه يكبر فأكبر خلفه، فإذا سمع تكبيري أعاد التكبير حتى يكبر سبعا، وعلمني: قل هو الله أحد، وعلمني الصلوات الخمس، وسمعته يقول: من يطع الله يرفعه، ومن يعص الله يضعه، ومن يخلص نيته لله يزينه، ومن يثق بما عند الله يغنه، ومن يتعزز على الله يذله. وقال بعضهم: سمعت الحسين يقول: الصدق عز، والكذب عجز، والسر أمانة، والجوار قرابة، والمعونة صداقة، والعمل تجربة، والخلق الحسن عبادة، والصمت زين، والشح فقر، والسخاء غنى، والرفق لب. ووقف الحسين بن علي بالحسن البصري، والحسن لا يعرفه، فقال له الحسين: يا شيخ هل ترضى لنفسك يوم بعثك ؟ قال: لا ! قال: فتحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك من نفسك يوم بعثك ؟ قال: نعم بلا حقيقة. قال: فمن أغش لنفسه منك يوم بعثك، وأنت لا تحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك بحقيقة ؟ ثم مضى الحسين، فقال الحسن البصري: من هذا ؟ فقيل له: الحسين بن علي. فقال: سهلتم علي. وكان للحسين من الولد: علي الاكبر، لا بقية له، قتل بالطف، وأمه


[ 247 ]

ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وعلي الاصغر، وأمه حرار بنت يزدجرد، وكان الحسين سماها غزالة. وقيل لعلي بن الحسين: ما أقل ولد أبيك ! قال: العجب كيف ولدت له، إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يفرغ للنساء ؟ وأقام عبد الله بن الزبير بمكة خالعا يزيد، ودعا إلى نفسه، وأخرج عامل يزيد. ووجه إليه يزيد ابن عضاه الاشعري، وكتب إليه يعطيه الامان، ويعلمه أنه كان حلف ألا يقبل بيعته إلا وهو في جامعة حديد، حتى يبايع ثم يطلقه. وكان مروان بن الحكم عامل المدينة، فكره ابن الزبير أن يجيب إلى ذلك، وداخله الهلع عندما بلغه من قتل الحسين، فوجه إليه مع بعض ثقاته بشعر يقول فيه: فخذها فليست للعزيز بخطة * وفيها مقال لامرئ متذلل وكان ابن الزبير شديد العزة، فلم يفعل، وأجاب ابن عضاه بجواب غليظ، فقال ابن عضاه: إن الحسين بن علي كان أجل قدرا في الاسلام وأهله من قبل، وقد رأيت حاله. فقال له ابن الزبير: إن الحسين بن علي خرج إلى من لا يعرف حقه، وإن المسلمين قد اجتمعوا علي. فقال له: فهذا ابن عباس، وابن عمر لم يبايعك، وانصرف. وأخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس: أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا، وأنك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لارحامهم، فإني ما أنس من الاشياء فلست بناس برك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنت مني


[ 248 ]

أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر، رحمك الله، فيمن قبلك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للمحل الملحد، والسلام. فكتب إليه عبد الله بن عباس: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردت، ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليم. وزعمت انك لست بناس ودي فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذلهم عن ابن الزبير، فلا، ولا سرورا، ولا حبورا، وأنت قتلت الحسين بن علي، بفيك الكثكث، ولك الأثلب، إنك إن تمنك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لانت المفند المهور. لا تحسبني، لا أبا لك، نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصر عين في صعيد، مرملين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنشي بهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواما لم يشتركوا في دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، يا يزيد. وما أنس من الاشياء، فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر، ابن العاهر، البعيد رحما، اللئيم أبا وأما، الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة والاولى، وفي الممات والمحيا، إن نبي الله قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنة جهلا وأحيا البدع والأحداث المضلة عمدا.


[ 249 ]

وما أنس من الاشياء، فلست بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا يترقب، وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديما، وأعز أهلها بها حديثا، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم، وأنت ؟ لانت المستحل فيما أظن بل لا شك فيه أنك للمحرف العريف، فإنك حلف نسوة، صاحب ملاه، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضرابا، وكان أمر الله قدرا مقدورا. ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته، والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، فنحن أولئك لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير. ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شئ عندي أعجب من طلبك ودي ونصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذ ثأري، فإن يشإ الله لا يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصرا، ومن الظالمين منتقما. فلا يعجبنك ان ظفرت بنا اليوم، فوالله لنظفرن بك يوما. فأما ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك، وإني لأعلم أن ابني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا


1 هذه اللفظة هكذا في الأصل (*).

[ 250 ]

الأمر من أبيك، ولكنكم، معاشر قريش، كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعدا على من يجترئ على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا. فبعدا لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذبو المرسلين. ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهر العجيب، حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغارا من ولده إليك بالشأم كالسبي المجلوب، تري الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمنا لجرح يدي، إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلا قليلا، حتى يأخذك أخذا أليما، فيخرجك الله من الدنيا ذميما أثيما، فعش لا أبا لك، فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله. وولى يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا، عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنه أراد حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة والتمر، وأن أهل المدينة منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم، فكلمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمن كان معه بالمدينة من بني أمية، وأخرجوهم من المدينة واتبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلما انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو مريض، فأدخله منزله، ثم قص عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين ! وجهني إليهم، فوالله لأدعن أسفلها أعلاها، يعني مدينة الرسول، فوجهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرة، فقاتله أهل المدينة قتالا شديدا، وخندقوا على المدينة، فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مائة فارس، فأتبعه الخيل حتى دخلت المدينة، فلم يبق بها كثير أحد إلا قتل، وأباح حرم رسول الله، حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهن، ثم أخذ الناس على أن يبايعوا على أنهم عبيد يزيد بن معاوية،


[ 251 ]

فكان الرجل من قريش يؤتى به، فيقال: بايع آية أنك عبد قن ليزيد، فيقول: لا ! فيضرب عنقه، فأتاه علي بن الحسين فقال: علام يريد يزيد أن أبايعك ؟ قال: على أنك أخ وابن عم. فقال: وإن أردت أن أبايعك علي أني عبد قن، فعلت. فقال: ما أحشمك هذا، فلما أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين قالوا: هذا ابن رسول الله بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد، وكان ذلك سنة 62. وكان جيش مسلم خمسة آلاف رجل: من فلسطين ألف رجل عليهم روح ابن زنباع الجذامي، ومن الاردن ألف رجل عليهم حبيش بن دلجة القيني، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاري، ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني، ومن قنسرين ألف رجل عليهم زفر بن الحارث الكلابي. وكان المدبر لامر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشأم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الانصاري. وخرج مسلم بن عقبة من المدينة يريد مكة لمحاربة ابن الزبير، فلما صار بثنية المشلل احتضر، واستخلف الحصين بن نمير، وقال له: يا برذعة الحمار ! لولا حبيش بن دلجة القيني لما وليتك، فإذا قدمت مكة، فلا يكون عملك إلا الوقاف ثم الثقاف، ثم الانصراف، ثم قال: اللهم إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرة، فإني إذا لشقي. ثم خرجت نفسه فدفن بثنية المشلل، وجاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته وصلبته على المشلل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه، وقتل جماعة من أهل ذلك الموضع، وقيل لم يدع منهم أحدا. وقدم الحصين بن نمير مكة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة. وكان عبد الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشأم ! هذا حرم الله الذي كان مأمنا في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله، يا أهل


[ 252 ]

الشأم ! فيصيح الشاميون: الطاعة الطاعة ! الكرة الكرة ! الرواح قبل المساء ! فلم يزل على ذلك حتى أحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نطفئ النار، فمنعهم، وأراد أن يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشأم: إن الحرمة والطاعة اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة 63. وولى يزيد سلم بن زياد خراسان، وبعث معه بعدة من الاشراف، أحدهم طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب ابن أبي صفرة، وعمر بن عبيدالله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السلمي، فصار إلى خراسان، فأقام بنيسابور، ثم صار إلى خوارزم، ففتحها. ثم صار إلى بخارى، وملكتها خاتون، فلما رأت كثرة جمعه هالها ذلك، وكتبت إلى طرخون ملك السغد: إني متزوجتك، فأقبل إلي لتملك بخارى، فأقبل إليها في مائة ألف وعشرين ألفا، فوجه سلم المهلب بن أبي صفرة طليعة له لما بلغه إقبال طرخون، فخرج وتبعه الناس، فلما أشرفوا على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم، والتحم القتال، ورشقهم المسلمون بالنبل، فقتل طرخون وانهزم أصحابه، فقتل منهم بشر كثير، فبلغت سهام المسلمين يومئذ للفارس ألفين وأربعمائة، وللراجل ألفا ومائتين، ولم يزل ابن زياد بخراسان حتى توفي يزيد، وكان يكتم موته حتى ذاع في الناس، فانصرف سلم من خراسان، فاستخلف عليها ابن خازم السلمي، وذلك أنه خاف أن يثب به، فداراه وبلغه اختلاط الناس، فأعطاه عهده ومضى. وأقام ابن خازم بخراسان فعمل العجائب، ولم يكن يرد عليه، وسار سليمان إلى هراة، ووثب أوس بن ثعلبة بالطالقان، فلم يزل يحاربهما ويحارب الترك، وهو في كل ذلك منصور عليهم. وتوفي يزيد بن معاوية في صفر سنة 64 بموضع يقال له حوارين، وحمل إلى دمشق، فدفن بها، وصلى عليه معاوية بن يزيد. وكان له من الولد الذكور أربعة: معاوية، وخالد، وأبو سفيان، وعبد الله، وكان الغالب عليه حسان بن


[ 253 ]

بحدل الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن رياح، وكان على شرطه عبد الله بن عامر الهمداني، وعلى حرسه سعيد مولى كلب، وحاجبه صفوان مولاه. وكتب مروان بن الحكم إلى الحصين بن نمير، وهو في محاربة ابن الزبير: لا يهولنك ما حدث، وامض لشأنك. وبلغ الخبر ابن الزبير وذاع في العسكر، فانكسرت شوكة القوم، وأرسل الحصين بن نمير إلى ابن الزبير: نلتقي الليلة على الامان، فالتقيا، فقال له الحصين بن نمير: إن يزيد قد مات، وابنه صبي، فهل لك أن أحملك إلى الشأم، فليس بالشأم أحد، فأبايع لك، فليس يختلف عليك اثنان ؟ فقال ابن الزبير، رافعا صوته: لا والله الذي لا إله إلا هو، أو تقتل بأهل الحرة أمثالهم من أهل الشأم. فقال له الحصين: من زعم أنك داهية فهو أحمق. أقول لك ما لك سرا، وتقول لي ما عليك علانية ؟ ثم انصرف. وكان سعيد بن المسيب يسمي سني يزيد بن معاوية بالشؤم: في السنة الاولى قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله وانتهكت حرمة المدينة، والثالثة سفكت الدماء في حرم الله وحرقت الكعبة. وأقام الحج في ولاية يزيد بن معاوية سنة 60 عمرو بن سعيد بن العاص، وفي سنة 61 الوليد بن عتبة، وفي سنة 62 الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وغزا في الناس في ولايته سنة 61، غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الصائفة، وهي غزاة سورية.


[ 254 ]

ايام معاوية بن يزيد بن معاوية ثم ملك معاوية بن يزيد بن معاوية، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، أربعين يوما، وقيل: بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب الناس، فقال: أما بعد حمدالله والثناء عليه، أيها الناس فإنا بلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وان جدي معاوية ابن أبي سفيان نازع الامر من كان أولى به منه في القرابة برسول الله، وأحق في الاسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول رب العالمين، وأبا بقية خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتى أتته منيته وصار رهنا بعمله، ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الامل، وقصر عنه الاجل، فقلت منعته، وانقطعت مدته، وصار في حفرته رهنا بذنبه، وأسيرا بجرمه. ثم بكى، وقال: إن أعظم الامور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة، وحرق الكعبة، وما أنا المتقلد أموركم، ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فوالله لئن كانت الدنيا مغنما لقد نلنا منها حظا، وإن تكن شرا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن الحكم: سنها فينا عمرية ! قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا، ومتى صار يزيد بن معاوية مثل عمر، ومن لي برجل مثل رجال عمر. وتوفي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وصلى عليه خالد بن يزيد بن معاوية، وقيل بل عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ودفن بدمشق، وكان بها ينزل.


[ 255 ]

ايام مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير وايام من ايام عبد الملك وكان عبد الله بن الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر، قد تغلب على مكة، وتسمى بأمير المؤمنين، ومال إليه أكثر النواحي، وكان ابتداء أمره في أيام يزيد بن معاوية، على ما اقتصصنا من خبره، ومحاربته للحصين بن نمير، فلما توفي يزيد بن معاوية مال الناس من البلدان جميعا إلى ابن الزبير، وكان بمصر عبد الرحمن بن جحدم الفهري عاملا لابن الزبير، وأهل مصر في طاعته، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري، وبحمص النعمان بن بشير الانصاري، وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي، وبالكوفة عبد الله بن مطيع، وبالبصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وبخراسان عبد الله بن خازم السلمي، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الاردن، ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي. وأخرج ابن الزبير بني أمية من المدينة، وأخذ مروان بالخروج، فأتى عبد الملك ابنه، وهو عليل مجدر، فقال له: يا بني إن ابن الزبير قد أخرجني ! قال: فما يمنعك أن تخرجني معك ؟ قال: كيف أخرجك وأنت على هذا الحال ؟ قال: لفني في القطن، فإن هذا رأي لم يتعقبه ابن الزبير. فخرج وأخرج عبد الملك، وتعقب ابن الزبير الرأي، فعلم أنه قد أخطأ، فوجه يردهم ففاتوه. وقدم مروان، وقد مات معاوية بن يزيد، وأمر الشأم مضطرب، فدعا إلى نفسه، واجتمع الناس بالجابية من أرض دمشق، فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم لبني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن


[ 256 ]

سعيد بن العاص بعده، وكان روح بن زنباع الجذامي يميل مع مروان، فقام خطيبا، فقال: يا أهل الشأم ! هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والطالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل، ويوم صفين، فبايعوا الكبير، واستنيبوا للصغير، ثم لعمرو بن سعيد. فبايعوا لمروان بن الحكم، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون، فقالوا: نقصد دمشق، فإنها دار الملك، ومنزل الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس. فقصدوا دمشق، فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان مع الضحاك من أهل دمشق وفتينهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بن حسان الهلالي، والتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الضحاك بن قيس وخلق من أصحابه، وهرب من بقي من جيشه. وبلغ الخبر النعمان بن بشير، وهو بحمص، فخرج هاربا، ومعه امرأته الكنانية وثقله وولده، فتبعه قوم من حمير وباهلة، فقتلوه في البرية، واحتزوا رأسه، ووجهوا به إلى مروان بن الحكم. وهرب زفر بن الحارث الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا، وبها عياض الحرشي من مذحج، فأغلق أبوابهما دونه، فلم يزل يخدعه حتى دخلها. ووجه مروان حبيش بن دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير، فسار حتى أتى المدينة، وعليها جابر بن الاسود بن عوف الزهري، عامل ابن الزبير، وكتب ابن الزبير إلى الحارث بن عبد الله عامله على البصرة أن يوجه إليهم بجيش، فلقوا حبيشا فقتلوه وقتلوا عامة أصحابه، فلم يفلت منهم إلا الشريد، فكان فيمن أفلت منهم: يوسف بن الحكم الثقفي، وابنه الحجاج بن يوسف. ثم خرج مروان يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس الجذامي


[ 257 ]

متغلبا على البلد، وأخرج روح بن زنباع، فحاربه، فلما لم يكن لناتل قوة على محاربة مروان هرب، فلحق بابن الزبير، وسار مروان يريد مصر حتى دخلها، فصالحه أهلها، وأعطوه الطاعة، وأخرج ابن جحدم الفهري، عامل ابن الزبير، وقيل اغتاله فقتله، وقتل اكيدر بن حمام اللخمي، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز بن مروان وانصرف. وقام سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وخرجا في جماعة معهما من الشيعة بالعراق، بموضع يقال له عين الوردة، يطلبون بدم الحسين بن علي، ويعملون بما أمر الله به بني إسرائيل، إذ قال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم، واتبعهم خلق من الناس، فوجه إليهم مروان عبيدالله بن زياد، وقال: إن غلبت على العراق فأنت أميرها، فلقي سليمان بن صرد، فلم يزل يحاربه حتى قتله، وقيل لم يقتل سليمان في أيام مروان، ولكنه قتل في أيام عبد الملك. ولما صار مروان إلى الصنبرة من أرض الاردن، منصرفا من مصر، بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن سعيد، فأحضره فقال له: قد بلغني أنك بايعت عمرو بن سعيد، فأنكر ذلك، فقال له: بايع لعبد الملك، فبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، ولم يبرح مروان من الصنبرة حتى توفي. وكان سبب وفاته أنه تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل إليه يوما فأفحش له في القول، ثم أعاد عليه في يوم آخر مثل ذلك، فدخل خالد إلى أمه مغضبا، فخبرها، فقالت: والله لا يشرب البارد بعدها ! فصيرت له سما في لبن، فلما دخل سقته إياه. وقال بعضهم: بل وضعت على وجهه وسادة حتى قتلته. وقال قوم: إنه توفي بدمشق ودفن بها. وكانت ولاية مروان تسعة أشهر، فتوفي في شهر رمضان سنة 65، وهو


[ 258 ]

ابن إحدى وستين سنة، وكان صاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وحاجبه أبو سهل الاسود، وصلى عليه عبد الملك ابنه، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا وهم: عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وبشر، وعمر، وابان، وعبد الله، وعبيدالله، وأيوب، وداود، وعثمان، ومحمد. وخلف أهل الشأم عبد الملك، فأقبل مسرعا إلى دمشق خوفا من وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه، فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شئ. فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومن إلى المنبر، أو لنضربن عنقك ! فصعد المنبر وبايعوه. وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي أقبل في جماعة عليهم السلاح، يريدون نصر الحسين بن علي، فأخذه عبيدالله بن زياد، فحبسه، وضربه بالقضيب، حتى شتر عينه، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية، وكتب يزيد إلى عبيدالله: أن خل سبيله، فخلى سبيله، ونفاه، فخرج المختار إلى الحجاز، فكان مع ابن الزبير، فلما لم ير ابن الزبير يستعمله شخص إلى العراق، فوافى وقد خرج سليمان بن صرد الخزاعي يطلب بدم الحسين، فلما صار إلى الكوفة اجتمعت إليه الشيعة، فقال لهم: إن محمد بن علي بن أبي طالب بعثني إليكم أميرا، وأمرني بقتل المحلين، وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإني والله قاتل ابن مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممن ظلمهم. فصدقه طائفة من الشيعة، وقالت طائفة: نخرج إلى محمد بن علي فنسأله، فخرجوا إليه، فسألوه، فقال: ما أحب إلينا من طلب بثأرنا، وأخذ لنا بحقنا، وقتل عدونا، فانصرفوا إلى المختار، فبايعوه وعاقدوه، واجتمعت طائفة. وكان ابن مطيع عامل ابن الزبير على الكوفة، فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم، فواعد المختار أصحابه، ثم خرجوا بعد المغرب، وصاحب الجيش ابراهيم ابن مالك بن الحارث الاشتر، ونادى: يا لثارات الحسين بن علي ! وكان ذلك سنة 66، والتحم القتال بينهم وبين عبد الله بن مطيع، وكانت أشد


[ 259 ]

حرب وأصعبها. ثم صار ابن مطيع إلى القصر ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا لآل رسول الله، ودفع المختار إلى ابن مطيع مائة ألف، وقال له: تحمل بها وانفذ لوجهك. وسرح المختار عماله إلى النواحي، فأخرجوا من كان فيها، وأقاموا بها. وكان عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، فزحف إليه عبيدالله بن زياد، بعد قتله سليمان بن صرد، فحاربه عبد الرحمن، وكتب إلى المختار بخبره، فوجه إليه يزيد بن أنس، ثم وجه إبراهيم بن مالك بن الحارث الاشتر، فلقي عبيدالله بن زياد فقتله، وقتل الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما بالنار، وأقام واليا على الموصل وأرمينية واذربيجان من قبل المختار وهو على العراق وال، ووجه برأس عبيدالله بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه، وقال له: قف بباب علي بن الحسين، فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس، فذاك الوقت الذي يوضع فيه طعامه، فادخل إليه. فجاء الرسول إلى باب علي ابن الحسين، فلما فتحت أبوابه، ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي ! أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيدالله بن زياد، فلم تبق في شئ من دور بني هاشم امرأة إلا صرخت، ودخل الرسول، فأخرج الرأس، فلما رآه علي بن الحسين قال: أبعده الله إلى النار. وروى بعضهم أن علي بن الحسين لم ير ضاحكا يوما قط، منذ قتل أبوه، إلا في ذلك اليوم، وأنه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشأم، فلما أتي برأس عبيدالله بن زياد أمر بتلك الفاكهة، ففرقت في أهل المدينة وامتشطت نساء آل رسول الله، واختضبن، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي. وتتبع المختار قتلة الحسين، فقتل منهم خلقا عظيما، حتى لم يبق منهم كثير أحد، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنار، وعذب بأصناف العذاب.


[ 260 ]

وهدم ابن الزبير الكعبة في جمادى الآخرة سنة 64، حتى ألصقها بالارض، وذلك أن الحصين بن نمير لما أراد ابن الزبير هدمها امتنع، وامتنع الناس من الهدم، فعلا عبد الله بن الزبير على البيت، فهدم، فلما رآه الناس يهدم هدموا، فلما ألصقها بالارض خرج ابن عباس من مكة إعظاما للمقام بها، وقد هدمت الكعبة، وقال له: اضرب حوالي الكعبة الخشب لا تبق الناس بغير قبلة. وروى ابن الزبير عن خالته عائشة زوج النبي أنها قالت: قال لي رسول الله: يا عائشة إن بدا لقومك أن يهدموا الكعبة ثم يبنوها، فلا يرفعوها عن الارض، وليصيروا لها بابين. فلما بلغ ابن الزبير بالهدم إلى القواعد أدخل الحجر في البناء حتى رفعها، وجعل لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وصير على كل باب مصراعين، وكان على بابها الاول مصراع واحد، وجعل طول البابين إحدى عشرة ذراعا، وكان ارتفاعها في السماء ثماني عشرة ذراعا، فجعلها ابن الزبير تسعا وعشرين ذراعا، ولم يرفعها عن الارض بل جعلها مستوية مع وجه الارض. وكان قد أخذ الحجر الاسود فجعله عنده في بيته، فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر أمر فحفر له في الحجارة على قدره، ثم أمر ابنه عبادا أن يأتي، وهو في صلاة الظهر، فيضعه في موضعه، والناس في الصلاة لا يعلمون، فإذا فرغ من وضعه كبر، فجاء عباد بن عبد الله بن الزبير بالحجر، وأبوه يصلي بالناس الظهر في يوم شديد الحر، فشق الصفوف حتى صار إلى الموضع، ثم وضعه، وطول ابن الزبير الصلاة حتى وقف عليه، فلما رأت قريش ذلك غضبت وقالت: والله ما هكذا فعل رسول الله، ولقد حكمته قريش، فجعل لكل قبيلة نصيبا. وكان الركن لما أصابه الحريق تصدع بثلاث قطع، فشده ابن الزبير بالفضة، ولما فرغ من البناء خلق داخل الكعبة وخارجها، فكان أول من خلقها وكساها القباطي، واعتمر من التنعيم، ومشى.


[ 261 ]

ومنع عبد الملك أهل الشأم من الحج، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم، إذا حجوا، بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس، وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض من الله علينا ! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها، لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية. وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد في خطبته، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال: إن له أهل سوء يشرئبون لذكره، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به. وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وأربعة وعشرين رجلا من بني هاشم ليبايعوا له، فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله إلى المختار بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا، فحبسنا في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبايعنه، أو ليضرمنها علينا بالنار، فيا غوثا ! فوجه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب، فقدم مكة، فكسر الحجرة، وقال لمحمد بن علي: دعني وابن الزبير ! قال: لا أستحل من قطع رحمه ما استحل مني. وبلغ محمد بن علي بن أبي طالب أن ابن الزبير قام خطيبا فنال من


[ 262 ]

علي بن أبي طالب، فدخل المسجد الحرام، فوضع رحلا، ثم قام عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: شاهت الوجوه، يا معشر قريش، أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون، ويذكر علي فلا تغضبون ؟ ألا إن عليا كان سهما صائبا من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مآكلهم، ويأخذ بحناجرهم. ألا وإنا على سنن ونهج من حاله، وليس علينا في مقادير الامور حيلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فبلغ قوله عبد الله بن الزبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم، فما بال ابن أمة بني حنيفة ؟ وبلغ محمدا قوله، فقال: يا معاشر قريش وما ميزني من بني الفواطم ؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله حليلة أبي وأم إخوتي ؟ أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي وأم أبي ؟ أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبي وأم جدني ؟ أما والله لولا خديجة بنت خويلد لما تركت في أسد عظما إلا هشمته، فإني بتلك التي فيها المعاب صبير. ولما لم يكن بابن الزبير قوة على بني هاشم، وعجز عما دبره فيهم، أخرجهم عن مكة، وأخرج محمد بن الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجا قبيحا، وكتب محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير سيرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجرا، واحتط عنك وزرا، يا ابن عم، إنما يبتلى الصالحون، وتعد الكرامة للاخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الاجر، فاصبر فإن الله قد وعد الصابرين خيرا، والسلام. وروى بعضهم أن محمد بن الحنفية صار أيضا إلى الطائف، فلم يزل بها، وتوفي ابن عباس بها في سنة 68، وهو ابن إحدى وسبعين سنة، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، ودفن عبد الله بن عباس بالطائف في مسجد جامعها، وضرب عليه فسطاط، ولما دفن أتى طائر أبيض فدخل معه قبره، فقال بعض الناس: علمه، وقال آخرون: عمله الصالح.


[ 263 ]

قال عبد الله بن عباس: اردفني رسول الله، ثم قال لي: يا غلام ! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ قلت: بلى ! يا رسول الله. قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، ولو جهد الخلق على أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو جهدوا على أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فعليك بالصدق في اليقين، إن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا. وكان لعبدالله بن العباس من الولد خمسة ذكور: علي بن عبد الله، وهو أصغرهم سنا، إلا أنه تقدم لشرفه ونبله، والعباس كان أكبر ولده، وكان يلقب بالاعنق، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن. وفي هذه السنة وقفت أربعة ألوية بعرفات: محمد بن الحنفية في أصحابه، وابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن عامر الحروري، ولواء بني أمية، وقال المساور بن هند بن قيس: وتشعبوا شعبا، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين. ووجه عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير إلى العراق، فقدمها سنة 68، فقاتله المختار، وكانت بينهم وقعات مذكورة، وكان المختار شديد العلة من بطن به، فأقام يحارب مصعبا أربعة أشهر، ثم جعل أصحابه يتسللون منه حتى بقي في نفر يسير، فصار إلى الكوفة، فنزل القصر، وكان يخرج في كل يوم، فيحاربهم في سوق الكوفة أشد محاربة، ثم يرجع إلى القصر. وكان عبيدالله بن علي بن أبي طالب مع مصعب بن الزبير، فجعل مصعب يقول: يا أيها الناس، المختار كذاب، وإنما يغركم بأنه يطلب بدم آل محمد، وهذا ولي الثأر، يعني عبيدالله بن علي، يزعم أنه مبطل فيما يقول. ثم خرج المختار يوما، فلم يزل يقاتلهم أشد قتال يكون، حتى قتل، ودخل أصحابه إلى القصر فتحصنوا، وهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم مصعب


[ 264 ]

الامان، وكتب لهم كتابا بأغلظ العهود، وأشد المواثيق، فخرجوا على ذلك، فقدمهم رجلا رجلا فضرب أعناقهم، فكانت إحدى الغدرات المذكورة المشهورة في الاسلام. وأخذ أسماء بنت النعمان بن بشير امرأة المختار، فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عبيد ؟ قالت: أقول إنه كان تقيا، نقيا، صواما. قال: يا عدوة الله أنت ممن يزكيه ! فأمر بها فضرب عنقها، وكانت أول امرأة ضرب عنقها صبرا، فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول قتلوها بغير جرم أتته * إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول فلما قتل مصعب بن الزبير المختار، واستقامت له أمور العراق، حسده عبد الله بن الزبير على ذلك، فوجه حمزة ابنه إلى البصرة، وكتب إلى مصعب أن يصرف أمر البصرة إلى حمزة، ففعل ذلك، فكان حمزة من أضعف الناس، وأقلهم علما بالامر، ثم اجتبى خراج البصرة، ونفذ إلى أبيه إلى مكة. ووفد مصعب على أخيه عبد الله فجفاه حتى كان ليدخل فيسلم فلا يرفعه، فلما قدم على عبد الله ابنه حمزة رد مصعب إلى العراق، وقتل عبد الله بن الزبير أخاه عمرو بن الزبير لعداوة كانت بينه وبينه، ولمبايعته لمروان بن الحكم، وقيل: إنه كان على شرطة عمرو بن سعيد، فوجه به عمرو لمحاربة أخيه فقتله. وولى ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة خراسان، وكان مع مصعب، فقدم البصرة، وقد حصرت الخوارج أهلها، وغلبت على جميع سوادها وكورها، فلم يبق في أيدي أهلها إلا المدينة، فلما قدم عليهم المهلب فزع إليه أشراف الناس ووجوههم، وأتاه الاحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومالك بن مسمع، فيمن معهم من العشائر، فقالوا: يا أبا سعيد ! أنت شيخ الناس، وسيف العراق، وقد ترى ما فيه أهل مصرك من هذه الخوارج المارقة، والاقامة على منع


[ 265 ]

بلدك، والذب عن حريمك أولى لك من خراسان. فقال: نعم ! أقيم على محاربة هؤلاء، على أن لي جميع ما أغلبهم عليه، وأنتزعه من أيديهم من خراج أو غيره. فأجابته العشائر إلى ذلك خلا مالك بن مسمع، فإنه امتنع عليه، وكانت في مالك أبهة شديدة وكبر معروف، فوثب الاحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود على مالك بن مسمع، فقالا له: رأيت الذي تمنعه أبا سعيد، أهو شئ في يدك أو في يد عدوك ؟ قال: في يد عدوي. قالا: فوالله ما أنصفته أن تسأله أن يحمي دمك وحرمتك، ثم تمنعه ما أنت مغلوب عليه، فهو يجعل لك ما سألت، وقم بمحاربة القوم ! قال: لا أقوى على ذلك. فقالا: فهذا الظلم والعجز. ثم جعلوا جميعا للمهلب ما سأل، فأقام على محاربة الخوارج، ورئيسهم يومئذ نافع بن الازرق، وبه سموا الازارقة، حتى أجلاهم عن البصرة. وسار عبد الملك إلى مصعب بن الزبير في سنة 71، فلقيه بموضع يقال له دير الجاثليق، على فرسخين من الانبار، فكانت بينهم وقعات وحروب، وجاده عبد الملك القتال، وخذل مصعبا أكثر أصحابه، وكان أكثر من خذله منهم ربيعة، ثم حملوا عليه، وهو جالس على سريره، فقتلوه، وحز رأسه عبيدالله ابن زياد بن ظبيان، وأتى به عبد الملك، فلما وضعه بين يديه خر ساجدا. قال عبيدالله: فهممت أن أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكى العرب في يوم واحد. وقال بعضهم: دخلت على عبد الملك بن مروان، وبين يديه رأس مصعب ابن الزبير، فقلت: يا أمير المؤمنين ! لقد رأيت في هذا الموضع عجبا ! قال: وما رأيت ؟ قلت: رأيت رأس الحسين بن علي بين يدي عبيدالله بن زياد ! ورأيت رأس عبيدالله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد، ورأيت رأس المختار بن أبي عبيد بين يدي مصعب بن الزبير، ورأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فخرج من ذلك البيت، وأمر بهدمه. وكان قتل مصعب بن الزبير في ذى القعدة سنة 72.


[ 266 ]

وقال المضاء بن علوان، كاتب مصعب بن الزبير: دعاني عبد الملك بعدما قتل مصعبا، فقال لي: علمت أنه لم يبق من أصحاب مصعب وخاصته أحد إلا كتب إلي يطلب الامان والجوائز والصلات والاقطاعات ؟ قلت: قد علمت، يا أمير المؤمنين، أنه لم يبق من أصحابك أحد إلا وقد كتب إلى مصعب بمثل ذلك، وهذه كتبهم عندي. قال: فجئني بها، فجئته بإضبارة عظيمة، فلما رآها قال: ما حاجتي أن أنظر فيها، فأفسد صنائعي، وأفسد قلوبهم علي. يا غلام ! احرقها بالنار، فأحرقت. ولما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير ندب الناس للخروج إلى عبد الله بن الزبير، فقام إليه الحجاج بن يوسف قال: ابعثني إليه، يا أمير المؤمنين، فإني رأيت في المنام كأني ذبحته، وجلست على صدره، وسلخته. فقال: أنت له، فوجهه في عشرين ألفا من أهل الشأم وغيرهم، وقدم الحجاج بن يوسف، فقاتلهم قتالا شديدا، وتحصن بالبيت، فوضع عليه المجانيق، فجعلت الصواعق تأخذهم، ويقول: يا أهل الشأم ! لاتهولنكم هذه، فإنما هي صواعق تهامة، فلم يزل يرميه بالمنجنيق، حتى هدم البيت، فكتب إليه عبد الملك بن مروان، وهو في محاربته: أوصيك يا حجاج بما أوصى به البكري زيدا، والسلام. فقام الحجاج خطيبا فقال: أيكم يدري ما أوصى به البكري زيدا، وله عشرة آلاف درهم ؟ فقام رجل من القوم فقال: أنا أدري ما أوصى به البكري، فدعا ببدرة، فدفعت إليه فقال: أقول لزيد لا تترتر فإنهم * يرون المنايا دون قتلك أو قتلي فإن وضعوا حربا فضعها وإن أبوا * فشب وقود النار بالحطب الجزل فإن عضت الحرب الضروس بنابها * فعرضة حد الحرب مثلك أو مثلي ورأى ابن الزبير من أصحابه تثاقلا عنه، وكان يجري لهم نصف صاع من تمر، فقال: أكلتم تمري، وعصيتم أمري ! وكان شديد البخل.


[ 267 ]

ولما علم ابن الزبير أنه لا طاقة له بالحرب دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر، فقال: كيف أصبحت يا أمه ؟ قالت: إن في الموت لراحة، وما أحب أن أموت إلا بعد خلتين: اما ان قتلت فأحتسبك، أو ظفرت فقرت عيني. قال: يا أمه ! إن هؤلاء قد أعطوني الامان، فماذا تقولين ؟ قالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وإليه تدعو، فلا تمكن عبيد بني أمية منك يتلاعبون بك، وإن كنت على غير الحق، فشأنك وما تريد. قال: يا أمه ! إن الله ليعلم أني ما أردت إلا الحق، ولا طلبت غيره، ولا سعيت في ريبة قط، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن لاطيب نفس أمي. ثم قال: يا أمه ! إني أخاف إن قتلني هؤلاء القوم أن يمثلوا بي. قالت: يا بني، إن الشاة لا تألم للسلخ إذا ذبحت. قال: الحمد لله الذي وفقك، وربط على قلبك ! وخرج، فخطب الناس، فقال: أيها الناس ! إن الموت قد أظلكم سحابه وأحدق بكم ربابه، فغضوا أبصاركم عن الابارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا يلهينكم التساؤل، ولا يقولن قائل أين أمير المؤمنين ؟ ألا من سأل عني فإني في الرعيل الاول. ثم نزل فقاتل حتى قتل. وكان قتله في سنة 73، وله إحدى وسبعون سنة، وصلب بالتنعيم، فأقام ثلاثة وقيل سبعة أيام، ثم جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر، وهي عجوز عمياء، حتى وقفت على الحجاج، فقالت: أما آن لهذا الراكب أن ينزل بعد ؟ أما اني سمعت رسول الله يقول: إن في بني ثقيف مبيرا وكذابا، فأما المبير فأنت، وأما الكذاب فالمختار بن أبي عبيد، فقال: من هذه ؟ فقيل: أم ابن الزبير فأمر به، فأنزل. وروى بعضهم أن الحجاج خطبها، فقالت: وهو يخطب عمياء بنت المائة ؟ فقال: ما أردت إلا مسالفة رسول الله. ومر عبد الله بن عمر على عبد الله بن الزبير، وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله، أبا خبيب، لولا ثلاث كن فيك لقلت أنت أنت: إلحادك في الحرم،


[ 268 ]

ومسارعتك إلى الفتنة، وبخل بكفك، ومازلت أتخوف عليك هذا المركب وما صرت إليه، مذ كنت أراك ترمق بغلات شهبا كن لابن حرب، فيعجبنك، إلا أنه كان أسوس لدنياه منك. وأقام الحج للناس في هذه السنين في سنة 63 عبد الله بن الزبير، وفي سنة 64 ابن الزبير، وقيل يحيى بن صفوان الجمحي، وفي سنة 65 وسنة 66 وسنة 67 ابن الزبير، وفي سنة 68 وقفت أربعة ألوية بعرفات: لواء مع محمد بن الحنفية وأصحابه، ولواء مع ابن الزبير، ولواء مع نجدة بن عامر الحروري، ولواء مع بني أمية، وفي سنة 69 وسنة 70 وسنة 71 ابن الزبير.


[ 269 ]

ايام عبد الملك بن مروان وملك عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة ابن أبي العاص بن أمية، جداه جميعا طريدا رسول الله، وكانت البيعة له بالشأم في اليوم الذي توفي فيه مروان، وذلك في شهر رمضان سنة 65، وكانت الشمس يومئذ في الثور سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الحمل خمسا وعشرين دقيقة، وزحل في السنبلة ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا، والمشتري في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وعشر دقائق، والمريخ في الحمل تسع عشرة درجة وعشر دقائق، والزهرة في السرطان درجتين وعشرين دقيقة، وعطارد في الجوزاء ثلاث درجات، والرأس في الحوت عشرين درجة وعشر دقائق. وقد ذكرنا خبر بيعته في أيام ابن الزبير، وما كانت عليه البلدان من الاضطراب، وتغلب من تغلب على كل بلد، وخبر سليمان بن صرد الخزاعي، وابراهيم بن مالك بن الحارث الاشتر، وقتله عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير، وغير ذلك مما دخل في نسق أيام ابن الزبير. وكان قوم قد قالوا: إنما تحق الخلافة لمن كان الحرمان في يده. ولمن أقام الحج للناس، فلذلك أدخلنا خبر مروان وأياما من أيام عبد الملك في خبر ابن الزبير. واستقامت الشأم لعبد الملك بن مروان خلا فلسطين، فإن ناتل بن قيس كان بها، فلما أراد عبد الملك النهوض أتاه الخبر بأن طاغية الروم قد أناخ على المصيصة فكره أن يتشاغل بمحاربته مع اضطراب البلدان، فوجه إليه، فصالحه، وحمل أموالا كثيرة إليه، حتى انصرف. وكان عبد الملك لما أحكم أمر الشأم، ووجه روح بن زنباع الجذامي إلى


[ 270 ]

فلسطين شخص عن دمشق، حتى صار إلى بطنان يريد قرقيسيا لمحاربة زفر بن الحارث، وأمر ابن الزبير على حاله، فلما صار إلى بطنان من أرض قنسرين أتاه الخبر بأن عمرو بن سعيد بن العاص قد وثب بدمشق، ودعا إلى نفسه، وتسمى بالخلافة، وأخرج عبد الرحمن بن عثمان الثقفي خليفة عبد الملك بدمشق، وكانت أم عبد الرحمن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب، وحوى الخزائن وبيوت الاموال، فعلم عبد الملك أنه قد أخطأ في خروجه عن دمشق، فانكفأ راجعا إلى دمشق، فتحصن عمرو بن سعيد، ونصب له الحرب، وجرت بينهم السفراء، حتى اصطلحا وتعاقدا، وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والايمان على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك، ودخل عبد الملك دمشق وانحاز مع عمرو بن سعيد أصحابه، فكانوا يركبون معه إذا ركب إلى عبد الملك، ثم دبر عبد الملك على قتل عمرو، ورأى ان الملك لا يصلح له إلا بذلك، فدخل إليه عمرو عشية، وقد أعد له جماعة من أهله ومواليه ومن كان عنده ممن سواهم، فلما استوى لعمرو مجلسه قال له: يا أبا أمية ! إني كنت حلفت في الوقت الذي كان فيه من أمرك ما كان، أني متى ظفرت بك وضعت في عنقك جامعة، وجمعت يديك إليها. فقال: يا أمير المؤمنين ! نشدتك بالله أن تذكر شيئا قد مضى. فتكلم من بحضرته، فقالوا: وما عليك أن تبر قسم أمير المؤمنين ؟ فأخرج عبد الملك جامعة من فضة، فوضعها في عنقه، وجعل يقول: أدنيته مني ليسكن روعه * فأصول صولة حازم مستمكن وجمع يديه إلى عنقه، فلما شد المسار جذبه إليه، فسقط لوجهه، فانكسرت ثنيتاه، فقال: نشدتك الله، يا أمير المؤمنين، أن يدعوك عظم مني كسرته إلى أن تركب مني أكثر من ذلك، أو تخرجني إلى الناس فيروني على هذه الصورة ! وإنما أراد أن يستفزه فيخرجه، وكان على الباب من شيعة


[ 271 ]

عمرو بن سعيد نيف وثلاثون ألفا منهم عنبسة بن سعيد، فقال له: أمكرا أبا أمية، وأنت في الانشوطة ؟ وليس بأول مكر، إني والله لو علمت أن الامر يستقيم، ونحن جميعا باقيان، لافتديتك بدم النواظر، ولكني أعلم أنه ما اجتمع فحلان في إبل إلا غلب أحدهما. وقتله وفرق جمعه، وطرح رأسه إلى أصحابه، ونفى أخاه عنبسة إلى العراق، وكان ذلك سنة 70. وكان عبد الله بن خازم السلمي متغلبا على خراسان منذ استخلفه سلم بن زياد في أيام يزيد بن معاوية، ثم صار في طاعة ابن الزبير على ما بيناه من خبره، فلما استقامت أمور عبد الملك كتب إليه: أما بعد فأهد لنا طاعتك نضعك موضعك، ونقرك على عملك وعقبك ما أغنوا عنا وعن المسلمين. وبعث بالكتاب مع عتبة النميري، وبعث معه برأس مصعب بن الزبير، وأعد عبد الله الرأس، ولفه في ثوبين، وطرح عليه مسكا كثيرا ودفنه، وقال لعتبة النميري: كل الكتاب، فقال: أكلا جميلا، فأحرقه بالنار، ثم أسقاه إياه، وكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإني لم أكن لالقى الله ببيعتين: بيعة رضوان مع ابن حواري رسول الله أنتزعها، وبيعة نكث مع ابن طريدي رسول الله ألبسها. وكان أهل خراسان مبغضي عبد الله بن خازم لسوء سيرته فيهم، فوثب به جماعة، منهم: بكير بن وساج، ووكيع بن عمير، فقتلوه، وبعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، فلما ورد عليه الخبر، وأتاه الرأس، بعث أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية على خراسان، فقدم خراسان، وقد وثب موسى بن عبد الله بن خازم السلمي، وأرسل طرخون ملك السغد، فأجابه إلى أن يمده، ووثب بكير بن وساج الثقفي بمرو في جماعة وغلب على مرو، فحاربهما أمية، وبدأ بمرو، فحارب بكير بن وساج، فتحصن منه، ثم أعطاه الامان، فخرج إليه، ثم بلغ أمية أن بكيرا يدبر على أن يثب به، فقدمه فضرب عنقه، ووجه أمية بابنه عبد الله على هراة


[ 272 ]

وسجستان، فلقي رتبيل بن أمية فقتله. وأقر عبد الملك المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج الذين بكرمان، فجادهم المهلب القتال، حتى قتل رئيسهم نافع بن الازرق الذي سموا به الازارقة، وأقام بكرمان، ثم ولاه عبد الملك خراسان مكان أمية، ورد عبد الملك أخاه عبد العزيز إلى مصر والمغرب، وولى أخاه بشرا العراق، وولى أخاه محمدا الموصل، ونقل إليها الازد وربيعة من البصرة، وغزا أرمينية، وقد خالف أهل البلد، فقتل وسبى، ثم كاتب الاشراف من أهل البلد والذين يقال لهم الاحرار وأعطاهم الامان ووعدهم أن يفرض لهم في الشرف، فاجتمعوا لذلك في الكنائس في عمل خلاط، وأمر بجمع الحطب حول الكنائس، وأغلق أبوابها عليهم، ثم ضرب تلك الكنائس بالنار، فحرقهم جميعا. وأقام محمد ابن مروان بأرمينية حتى مات. وأعاد الحجاج بنيان الكعبة، وجعل لها بابا واحدا على ما كانت عليه قبل أن يبنيها ابن الزبير، ونقص منها ما كان ابن الزبير زاده مما يلي الحجر، وهو ستة أذرع، وكبسها بالردم الذي خرج منها، ورفع بابها على ما كان عليه، ونقص من طوله حتى صيره على ما هو عليه اليوم، وفرغ من بنائها في سنة 74، وختم أعناق قوم من أصحاب رسول الله ليذلهم بذلك، منهم: جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، وجماعة معهم. وكانت الخواتيم رصاصا. وكان نجدة بن عامر الحنفي الحروري قد خرج في أيام ابن الزبير بناحية اليمامة، ثم صار إلى الطائف، فوجد ابنة لعمرو بن عثمان بن عفان قد وقعت في السبي، فاشتراها من ماله بمائة ألف درهم، وبعث بها إلى عبد الملك. ثم سار إلى البحرين ووجه مصعب بن الزبير بخيل بعد خيل وجيش بعد جيش، فهزمهم. وظهرت من نجدة أمور أنكرتها الخوارج. وكان قد أقام خمس سنين


[ 273 ]

وعماله بالبحرين واليمامة وعمان وهجر وطوائف من أرض العرض، فلما نقمت الخوارج ما نقمت من دفع عشرة آلاف إلى مالك بن مسمع، وبعثه بابنة عمرو بن عثمان إلى عبد الملك خلعوه، وأقاموا أبا فديك، فوجه إليه عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فهزمه أبو فديك، وفضخه وأخذ أثقاله وحرمه، ثم وجه إليه عمر بن عبيدالله بن معمر، فلقي أبا فديك بالبحرين، ومع عمر أهل الكوفة، فقتل أبا فديك واستنقذ منه حرم أمية بن عبد الله. وولى عبد الملك الحجاج في هذه السنة العراق، وكتب إليه كتابا بخطه: أما بعد، يا حجاج، فقد وليتك العراقين صدقة، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة، وإياك وهوينا الحجاز، فإن القائل هناك يقول ألفا ولا يقطع بهن حرفا، وقد رميت العرض الاقصى، فارمه بنفسك، وأرد ما أردته بك، والسلام. فلما قدم الكوفة صعد المنبر متلثما بعمامته متنكبا قوسه وكنانته، فجلس على المنبر مليا لا يتكلم، حتى هموا أن يحصبوه، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق والمراق، ومساوئ الاخلاق، إن أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجمها عودا عودا، فوجدني أمرها عودا وأصعبها كسرا، فرماكم بي، وإنه قلدني عليكم سوطا وسيفا، فسقط السوط وبقي السيف. وتكلم بكلام كثير فيه توعد وتهدد، ثم نزل وهو يقول: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني ولما استقامت الامور لعبد الملك وصلحت البلدان، ولم تبق ناحية تحتاج إلى صلاحها والاهتمام بها، خرج حاجا سنة 75 فبدأ بالمدينة وأحرم من ذي الحليفة، ودخل وهو يلبي، ودخل المسجد وهو يلبي، وخطب في أربعة أيام في كل يوم خطبة، وصلى المغرب عشية عرفة قبل أن يصير إلى جمع، وكان فيما خطب به في بعض أيامه، أن قال: لقد قمت في هذا الامر، وما


[ 274 ]

أدرى أحدا أقوى عليه مني، ولا أولى به، ولو وجدت ذلك لوليته. إن ابن الزبير لم يصلح أن يكون سائسا، وكان يعطي مال الله كأنه يعطي ميراث أبيه، وإن عمرو بن سعيد أراد الفتنة، وأن يستحل الحرمة ويذهب الدين، وما أراد صلاحا للمسلمين، فصرعه الله مصرعه، وإني محتمل لكم كل أمر إلا نصب راية، وإن الجامعة التي وضعتها في عنق عمرو عندي، وإني أقسم بالله لا أضعها في عنق أحد فأنزعها منه إلا صعدا. وأتاه علي بن عبد الله بن عباس، فذم إليه ابن الزبير، وأعلمه ما كان أبوه وأهل بيته لقوا منه لامتناعهم من بيعته، وأن أباه أوصاه ليلحق به، فأحسن عبد الملك إجابته، وحمله وحمل عياله إلى الشأم، وأنزله دارا بدمشق، ولم يزل يجري عليه أيامه كلها. ولما أراد عبد الملك الانصراف وقف على الكعبة فقال: والله إني وددت أني لم أكن أحدثت فيها شيئا، وتركت ابن الزبير وما تقلد. وقدم عبد الملك راجعا إلى المدينة، فوافاها في أول سنة 76، فأغلظ لاهلها في القول، وقام خطباؤه ونالوا من أهل المدينة، وقام محمد بن عبد الله القارئ، فقال لبعض الخطباء، وهو يتكلم: كذبت لسنا كذلك ! فأخذه الحرس، فجروه حتى ظن الناس أنهم قاتلوه، فأرسل إليهم: أن كفوا عنه، وخلوا سبيله، فأقام بالمدينة ثلاثا ثم انصرف إلى الشأم. وفي هذه السنة خرج شبيب بن يزيد الشيباني الحروري بالعراق، وهي سنة 76، فوجه إليه الحجاج الجيش بعد الجيش، فهزمهم شبيب، وكان شبيب ينتقل فيما بين السواد والجبل، ثم دخل الكوفة ليلا حتى وقف على باب الحجاج في القصر، فضرب بابه بالعمود، وقال: اخرج إلينا، يا ابن أبي رغال. وكان شبيب في نفر يسير، وكانت معه امرأته غزالة، وأمه جهيزة، ثم صار إلى المسجد الجامع، فقتل من به من الحرس، وقتل ميمونا مولى حوشب بن يزيد، صاحب شرط الحجاج، وكان ميمون هذا يسمى العذاب، وصلى بالناس


[ 275 ]

بالمسجد الجامع، فقرأ بهم البقرة، وآل عمران. ثم خرج الحجاج في طلبه، يقاتله في سوق الكوفة أشد قتال، واتبعه، وكان لحق شبيبا من أصحابه نحو مائة رجل، ثم حمى الناس، فجعلوا يتنادون حتى انهزم، فوجه الحجاج في أثره علقمة بن عبد الرحمن الحكمي، فلم يزل ينتقل من موضع إلى موضع حتى صار إلى الاهواز. ثم وجه الحجاج في طلبه سفيان بن الابرد الكلبي، فطلبه حتى انتهى إلى دجيل، فأقبل شبيب نحوه وسار على الجسر، فلما توسطه قطع سفيان جسر دجيل، فدارت السفن، فغرق شبيب، ثم استخرجه بالشباك فاحتز رأسه، ووجه به إلى الحجاج، وقتل امرأته وأمه. وكان غرقه سنة 78. وخرج بعد قتل شبيب أبو زياد المرادي بجوخى، فوجه إليه الحجاج الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقيه بالفلوجة، فقتله. ثم خرج بعد قتل أبي زياد أبو معبد، رجل من عبد القيس رحل بناحية البحرين، فبعث إليه الحجاج الحكم بن أيوب بن الحكم الثقفي، وكان يومئذ عاملا على البصرة، فقتله. وألح الحجاج في قتال الازارقة، واشتد استبطاؤه، فجادهم المهلب، فما زال يهزمهم من منزل إلى منزل حتى انتهى بهم إلى سجستان، فقتل عطية ابن الاسود الحنفي، وكان من رؤساء الخوارج، ثم جد بهم الامر حتى صاروا إلى كرمان، ثم وقع بأسهم بينهم بكرمان في كذبة وقعوا عليها من قطري، فقالوا له: تب ! فكره أن يوجب على نفسه التوبة، فخلعوه. وكان في عسكره رجلان: عبد ربه الكبير، وعبد ربه الصغير، فلما امتنع أن يجيبهم إلى التوبة فيوجدهم السبيل إلى خلعه، انحاز كل واحد منهما في جيش مخالفا على قطري، فقصد المهلب قصد عبد ربه الصغير حتى قتله. وخرج قطري في اثنين وعشرين ألفا من أصحابه حتى صاروا إلى طبرستان،


[ 276 ]

وقصد المهلب عبد ربه الكبير، وفرق جمعه، ولما صار قطري إلى طبرسان أرسل إلى أصبهبذ يسأله أن يدخله بلاده، فسمع له وفعل، فلما بزأت جراحهم وسمنت دوابهم أرسل إليه قطري، فعرض عليه الاسلام، أو يؤدي الجزية صاغرا، ووجه إليه أبا نعامة في الازارقة، فقال الاصبهبذ: جئتني طريدا شريدا فآويتك، ثم ترسل إلي بهذا ؟ أنت ألام من في الارض، فقال: إنه لا يجوز في الدين غير هذا، فخرج الاصبهبذ يحاربه، فقتل ابنه وأخوه وعمه، فانهزم الاصبهبذ حتى صار إلى الري، فاستولى قطري على طبرستان، وصار الاصبهبذ إلى سفيان بن الابرد الكلبي، وهو يومئذ عامل الري قد تهيأ لقتال الازارقة، فأدخله طبرستان من طريق مختصرة، فقتل قطريا، وبعث برأسه إلى الحجاج سنة 79. وولي المهلب بن أبي صفرة خراسان سنة 78 من قبل الحجاج، وولى ابنه المغيرة مرو، ومات بها، فرثاه زياد بقصيدة يقول فيها: إن السماحة والشجاعة ضمنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح وسار المهلب حتى صار إلى بلاد الصغد، ونزل كش، فصالحه ملك الصغد، وأخذ المهلب منه الرهائن، ودفعها إلى حريث بن قطبة، وانصرف إلى بلخ، فأخذ حريث بلاد… 1 فحاربه. واعتل المهلب، فاشتدت علته من آكلة كانت في رجله، فلما حضرته الوفاة استخلف ابنه يزيد على كره منه له لصلفه وتيهه، إلا أن الحجاج كتب إليه بذلك، ثم أنكر الحجاج على يزيد أشياء بلغته عنه، فأراد صرفه فخاف أن يمتنع عليه، فتزوج هندا أخته، وكتب أن يقدم عليه، ويستخلف المفضل بن المهلب، فقدم وكتب الحجاج إلى المفضل بولايته خراسان مكان يزيد أخيه، ثم ولى قتيبة ابن مسلم مكانه، وقتيبة على الري، وقد شرحنا ذلك في غير هذا الموضع من الكتاب.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 277 ]

وولي الحجاج ثغري السند والهند سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فأقام بمكران، وغزا ناحية من الهند، وكان رجلا محدودا، فقتل، فوجه الحجاج موضعه محمد بن هارون بن ذراع النمري، فصار إلى مكران، وحسن أثره في غزو العدو، وظفر مرة بعد أخرى، فخرج يريد الديبل في عدة سفن و… 1 ملك الديبل، فعارضه في خلق عظيم، فقتل محمد بن هارون وخلق عظيم ممن كان معه. وولي عبد الملك حسان بن النعمان الغساني افريقية والمغرب، فلم يزل مقيما بها، ثم توفي، واستخلف رجلا على البلد، فولى عبد الملك افريقية موسى بن نصير اللخمي سنة 77، وقيل ولاه عبد العزيز بن مروان، وهو يومئذ عامل مصر، فافتتح موسى بن نصير عامة المغرب، ولم يزل مقيما عليها مدة أيام ولاية عبد الملك. وتوفي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالمدينة سنة 80، وكان جوادا سخيا، يقال إنه أتاه إنسان في أمر يسأله معونته عليه، فلم يحضره ما يعطيه، فنزع ثيابه التي كانت عليه، وقال: اللهم إن نزل بي من بعد اليوم حق لا أقدر على قضائه فأمتني قبله ! فمات في ذلك اليوم، وفي هذه السنة كان السيل الجحاف الذي ذهب بمتاع الحاج. وكان عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بن قيس عامل الحجاج على سجستان، ووجه معه الحجاج بعشرة آلاف منتخب، فلما صار إلى سجستان أقام ببست، ثم سار يريد رتبيل ملك البلد، وكان قد ضبط أطرافه، فلما أوغل في بلاد رتبيل، خاف غرره، فرجع إلى بست، وكتب إلى الحجاج يعلمه برجوعه، وأنه أخر غزو رتبيل إلى العام المقبل، فكتب إليه كتابا يتوعده فيه، فجمع أطرافه إليه وحرض الناس على الحجاج، ودعاهم إلى خلعه، فخلعوه، وبايعوا له. فلما اجتمعت الكلمة قال لهم: نسير إلى العراق، ونكتب بيننا وبين


1 بياض في الاصل. (*)

[ 278 ]

رتبيل كتاب صلح، فإن تم أمرنا وقفنا عنه، ورقبنا له، وإن كانت الاخرى اتخذناه ملجأ. فتم رأي القوم على ذلك، وكتب بينه وبين رتبيل كتابا بهذا الشرط، وسار إلى العراق واستخلف على سجستان رجلا من قبله، وأقبل حتى صار إلى قرب الاهواز، فلما بلغ الحجاج أمره، وجه إليه عبد الله بن عامر بن صعصعة. ثم خرج الحجاج في جيش حتى صار إلى الاهواز، ولقيه عبد الرحمن، فقاتله قتالا شديدا، فهزمه حتى رجع الحجاج إلى البصرة، ولحقه ابن الاشعث، فقاتله بالبصرة، فانهزم ابن الاشعث، فلما رأوا انهزامه إلى الكوفة أتوا عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، فقالوا: تركنا ولحق بالكوفة، وهذا الفاسق منيخ علينا. فبايعهم وسار إلى الحجاج، فقاتله بالزاوية، فهزمه الحجاج، فلحق بابن الاشعث بالكوفة. وأقبل الحجاج من البصرة إلى ابن الاشعث فسلك في البرية حتى نزل قريبا منه، وخرج ابن الاشعث فنزل دير الجماجم، وجعلت خيلهما تروح وتغدو للقتال، وأهل الكوفة يستعلون على خيل الحجاج، ويهزمونهم في كل يوم، فاشتد على الحجاج ما رأى من ذلك، وكتب إلى عبد الملك كتابا بعث به بأحث سير: أما بعد فيا غوثاه، ثم يا غوثاه ! فلما قرأ عبد الملك الكتاب كتب إليه: أما بعد فيا لبيك، ثم يا لبيك، ثم يا لبيك ! ثم وجه بجيش بعد جيش، وكانت وقائعهم كثيرة شديدة، أخراهن وقعة مسكن هزمه فيها الحجاج، فمضى منهزما لا يلوي على شئ حتى صار إلى سجستان، فأتى مدينة زرنج، فمنعه عبد الله بن عامر عامله من دخولها، فمضى إلى بست، وعليها عياض بن عمرو، فأدخله المدينة، ودبر أن يغدر به، ويتقرب به إلى الحجاج. وكان مع عبد الرحمن جماعة من قراء العراق منهم الحسن البصري، وعامر ابن شراحيل الشعبي، وسعيد بن جبير، وابراهيم النخعي، وجماعة من هذه الطبقة، فسار إلى رتبيل صاحب سجستان، فكانت هزيمته في سنة 83، وجعل الحجاج يتلقط أصحابه ويضرب أعناقهم، حتى قتل خلقا كثير، وعفا عن


[ 279 ]

جماعة منهم الشعبي وابراهيم. وبنى الحجاج مدينة واسط في السنة التي هرب فيها ابن الاشعث، ونزلها، وقال: انزل بين الكوفة والبصرة. ولما بلغ أصحاب ابن الاشعث أنه قد صار إلى رتبيل صاحب البلد، وأنه قد أقام عنده في أمن وسلامة، ووفى له رتبيل بما كان بينه وبينه، اجتمعوا من كل أوب بناحية زرنج، وأمروا عليهم عبد الرحمن بن العباس الهاشمي.. 1 فلقيهم بهراة، فقاتلهم، فهزمهم. وبلغ الحجاج مكان ابن الاشعث في أربعة آلاف من أصحابه عند رتبيل، فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى رتبيل، وكتب معه إليه يأمره أن يوجهه إليه، وإلا وجه إليه بمائة ألف مقاتل، فلم يفعل. وكان عبيد بن أبي سبيع غالبا على رتبيل، فنفسه ذلك ابن الاشعث، وأراد أن يمكر به ووجه إليه ليقتله، فهرب عبيد بن أبي سبيع فصار إلى عمارة بن تميم، وهو مقيم بمدينة بست، وقال: تجعلون لي شيئا، وتصالحون رتبيل، وتكفون عنه، ويسلم إليكم ابن الاشعث. وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وكتب إليه الحجاج يقول له: أجبه إلى كل ما سألك. وكتب له عهودا ختمها بخاتمه، فأخذها عمارة، وقدم بها على رتبيل، فلم يزل يرهبه مرة ويرغبه أخرى، حتى أجابه إلى أخذ ابن الاشعث، فأخذه، وقيده وجماعة معه وأخاه، وحملهم معه إلى الحجاج في الحديد، فلما صاروا بالرخج رمى ابن الاشعث بنفسه من فوق سطح، وكان معه في السلسلة رجل يقال له أبو العمر 2، فماتا جميعا، وكان ذلك في سنة 84، واحتز رأسه، فحمل إلى الحجاج، وحمله الحجاج إلى عبد الملك. وعزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز والبيعة لابنه الوليد بولاية العهد من بعده، وكان عبد العزيز بمصر، وكتب إلى الحجاج بأن يشخص


1 بياض في الاصل. 2 هكذا دون نقط في الاصل. (*)

[ 280 ]

إليه الشعبي، فأشخصه إليه فآنسه وبره، وأقام عنده أياما، ثم قال: إني آتمنك على شئ لم آتمن عليه أحدا. إنه قد بدا لي أن أبايع للوليد بولاية العهد بعدي، فإذا أتيت عبد العزيز، فزين له أن يخلع نفسه من ولاية العهد، ومصر له طعمة. قال الشعبي: فأتيت عبد العزيز، فما رأيت ملكا كان أسمع أخلاقا منه، فإني يوما خال به أحدثه إذ قلت له: والله، أصلح الله الامير، إن رأيت ملكا أكمل، ولا نعمة أنضر، ولا عزا أتم مما أنت فيه، ولقد رأيت عبد الملك طويل النصب، كثير التعب، قليل الراحة، دائم الروعة، إلى ما يتحمل من أمر الامة، ولوددت والله أنهم أجابوك إلى أن يصيروا مصر لك طعمة، ويصيروا عهدهم إلى من أحبوا، فقال: ومن لي بذلك ؟ فلما عرفت ما عنده انصرفت إلى عبد الملك، فأخبرته الخبر، فخلع عبد الملك أخاه من ولاية العهد، وولى ابنه الوليد، ثم ابنه سليمان من بعد الوليد. وقيل إن عبد الملك لم يخلعه، ولكنه توفي في تلك المدة التي هم بخلعه فيها، وقيل إن عبد العزيز سقي سما، وكان ذلك في سنة 85. وولى هشام بن اسماعيل المخزومي المدينة، فضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا ظلما وعدوانا، وطاف به، فكتب إليه عبد الملك يلومه، وساءت سيرة هشام بن اسماعيل، وأظهر العداوة لآل رسول الله. وكان الغالب على عبد الملك روح بن زنباع الجذامي، وعلى شرطته يزيد ابن أبي كبشة السكسكي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن يزيد الحكمي، وكان على حرسه أبو عياش الكهاني، وبعده أبو الزعيزعة مولاه، وجمع العراقين للحجاج، ومصر والمغرب لعبد العزيز بن مروان، ثم لابنه عبد الله ابن عبد الملك. وكانت لعبد الملك رجلة، ودهاء، وعلم، إلا أنه كان مبخلا، فلما حضرته الوفاة جمع ولده، فأوصاهم بالاجماع والالفة وترك التباغي. ثم قال: يا وليد. إذا أنا مت فشمر وأتزر. والبس جلد النمر، ثم ادع الناس إلى


[ 281 ]

بيعتك، فمن قال برأسه هكذا، فقل بالسيف هكذا. وتوفي للنصف من شوال سنة 86، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة من يومه الذي بويع فيه بالشام، وبعد قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة، وكانت سنه ستين سنة أو نيفا وستين سنة، وصلى عليه ابنه الوليد، ودفن بدمشق. وخلف من الولد الذكور أربعة عشر ذكرا: الوليد، وسليمان، ويزيد، ومروان، وهشام، وبكار، وعبد الله، ومسلمة، ومعاوية، ومحمد، والحجاج، وسعيد، والمنذر، وعنبسة. وفي أيام عبد الملك نقشت الدراهم والدنانير بالعربية، وكان الذي فعل ذلك الحجاج بن يوسف. وروى بعضهم أن رجلا أتى سعيد بن المسيب فقال: رأيت كأن النبي موسى واقف على ساحل البحر، آخذ برجل رجل يدوره كما يدور الغسال الثوب، فدوره ثلاثا، ثم دحا به إلى البحر. فقال سعيد: إن صدقت رؤياك مات عبد الملك إلى ثلاثة أيام، فلم يمض ثالثه حتى جاء نعيه، فقال لسعيد: من أين قلت هذا ؟ قال: لان موسى غرق فرعون، ولا أعلم فرعون هذا الوقت إلا عبد الملك. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 72 الحجاج بن يوسف، سنة 73، وسنة 74 الحجاج أيضا، سنة 75 عبد الملك بن مروان، سنة 76 ابان بن عثمان بن عفان، سنة 77 ابان أيضا، سنة 78، وسنة 79، وسنة 80 ابان أيضا، سنة 81 سليمان بن عبد الملك، سنة 82 ابان بن عثمان، سنة 83 هشام بن اسماعيل المخزومي، سنة 84 وسنة 85 هشام بن اسماعيل المخزومي أيضا. وغزا بالناس في ولايته سنة 75 محمد بن مروان الصائفة، وخرجت الروم على الاعماق، فقتلهم أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ودينار بن دينار، سنة 76 غزا يحيى بن الحكم الصائفة بمرج الشحم بين ملطية والمصيصة، سنة 77 غزا الوليد بن عبد الملك اطمار، وكانت غزاته من ناحية ملطية، وغزا في البحر


[ 282 ]

حسان بن النعمان…. 1، سنة 83 عبد الله أيضا، وفتح المصيصة وبنى فيها حصنا صغيرا وكان الفقهاء في أيامه عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، المسور بن مخرمة الزهري، السائب بن يزيد، أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، خارجة بن زيد بن ثابت، سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، عطاء بن يسار، القاسم بن محمد، أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، سالم بن عبد الله، قبيصة ابن جابر، عبيدة بن قيس السلماني، شريح بن الحارث الكندي، عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عبد الله بن يزيد الخطمي، زيد بن وهب الهمداني، الحارث بن سويد التميمي، مرة بن شراحيل الهمداني، أبا جحيفة وهب بن عبد الله العامري الاسدي، يسير بن عمرو السلولي، أبا الشعثاء سليمان بن الاسود، الاسود بن مالك الحارثي، ابن حراش العبسي، عمرو بن ميمون الاودي، عامر بن شراحيل الشعبي، عبد الرحمن بن يزيد النخعي، سالم بن أبي الجعد، عمار ابن عمير الليثي، ابراهيم بن يزيد التيمي، أبا ظبيان الحصين بن جندب، سليمان بن يسار، أبا المليح بن أسامة.


1 بياض في الاصل (*)

[ 283 ]

ايام الوليد بن عبد الملك ثم ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية، للنصف من شوال سنة 86، في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وكانت الشمس يومئذ في الميزان خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة، والقمر في الحمل ثمانيا وعشرين درجة وخمسين دقيقة، وزحل في الثور أربعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الدلو ستا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في القوس إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في العقرب خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة، وعطارد في الميزان عشر درجات وأربعين دقيقة، فصعد المنبر فنعى أباه، وقال: أيها الناس ! عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإنه من أبدى ذات نفسه ضربت الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل فعقد لمسلمة أخيه على غزاة الروم، فنفذ في عدد كثير، فوجد جراجمة انطاكية قد خالفوا، فقتل منهم مقتلة عظيمة. وكتب الوليد إلى الحجاج فنعي إليه أباه عبد الملك، فنادى الحجاج بالصلاة جامعة، ثم صعد النبر، فذكر عبد الملك، وقرظه، ووصف فعله وقال: كان والله البازل الذكر، رابعا من الولاة الراشدين المهديين، وقد اختار له الله ما عنده، وعهد إلى نظيره في الفضل وشبيهه في الحزم والجلد، والقيام بأمر الله، فاسمعوا وأطيعوا. وولى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة، وأمر أن يقف هشام بن اسماعيل للناس، وكان هشام بن اسماعيل المخزومي قد أساء السيرة، وجار في الاحكام، وتحامل على آل رسول الله، فلما قدم عمر قال هشام: ما أخاف إلا علي بن الحسين ! فمر به، وهو موقوف، فسلم عليه، فناداه هشام. الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ولم يعرض له سعيد بن المسيب ولا لاحد من أسبابه وحاميته.


[ 284 ]

وكان قدوم عمر بن عبد العزيز المدينة سنة 87 وثقله على ثلاثين بعيرا. وضرب الوليد البعث على أهل المدينة، وكتب إلى عمر، فأخرج منهم ألفي رجل. وبنى الوليد المسجد بدمشق، فأنفق عليه أموالا عظاما، وابتدأ بناءه في سنة 88، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز أن يهدم مسجد رسول الله، ويدخل فيه المنازل التي حوله، ويدخل فيه حجرات أزواج النبي، وهدم الحجرات، وأدخل ذلك في المسجد. ولما بدأ بهدم الحجرات قام خبيب بن عبد الله بن الزبير إلى عمر والحجرات تهدم، فقال: نشدتك الله يا عمر أن تذهب بآية من كتاب الله، يقول: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات، فأمر به، فضرب مائة سوط، ونضح بالماء البارد، فمات، وكان يوما باردا. فكان عمر لما ولي الخلافة، وصار إلى ما صار إليه من الزهد، يقول: من لي بخبيب ! وروى الواقدي أن الوليد بعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد رسول الله، فليعنه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبا، ومائة فاعل، وأربعين حملا فسيفساء، فبعث الوليد بذلك كله إلى عمر، فأصلح به المسجد، وفرع من بنائه في سنة 90. وبعث الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو على مكة، بثلاثين ألف دينار، فضربت صفائح، وجعلت على باب الكعبة وعلى الاساطين التي داخلها وعلى الاركان والميزاب، فكان أول من ذهب البيت في الاسلام. وحج الوليد سنة 91 لينظر إلى البيت وإلى المسجد وما أصلح منه، وإلى البيت وتذهيبه، فلما قرب من المدينة خرج عمر، فتلقاه بأشراف المدينة، فدخل المسجد، وجعل ينظر إليه، وأخرج الحرس كل من كان فيه خلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يخرج، ولم يترجرج، فدخل الوليد، فجعل يطوف وسعيد ابن المسيب جالس، ثم قال الوليد: أحسب هذا سعيد بن المسيب ؟ فقال له عمر: نعم ! ومن حاله وحاله، إلا أنه ضعيف البصر. فجاء الوليد حتى وقف عليه، فقال: كيف أنت أيها الشيخ ؟ فما تحرك، وقال: نحن بخير، يا أمير


[ 285 ]

المؤمنين، وكيف أنت ؟ وانصرف الوليد، وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. وقسم الوليد بين أهل المدينة قسما كثيرة، وصلى بها الجمعة، وصف بها الجند صفين، وصلى في دراعة وقلنسوة في غير رداء، وخطب قاعدا، وتوعد أهل المدينة فقال: إنكم أهل الخلاف والمعصية، فقام إليه قوم فكلموه، وكلمه أبو بكر بن عبد الرحمن، فقال: ما نجهل ما تقولون، ولكن في النفوس ما فيها. وصار إلى مكة فخطب بها خطبة بتراء ذكر فيها الوعيد والتهديد، ولما صار بعرفة أطعم الناس، ونصب الموائد، ولم يأكل، وكان خالد الذي يقوم على الموائد، ثم نصب مائدة، فقيل هذه لامير المؤمنين، فقام، فأرسل إليه الوليد يأمره بالجلوس فجلس. وولى الوليد موسى بن نصير الاندلس في هذه السنة، وهي سنة 91، فوجه معه بطارق مولاه، فلقي ملك الاندلس، وكان يقال له الادريق، وكان رجلا من أهل أصبهان، وهم القوطيون ملوك الاندلس، فزحف طارق إليه، فاقتتلوا قتالا شديدا، وفتح الاندلس، ثم خرج موسى بن نصير إلى البلد، وكان قد غضب على طارق مولاه في أمور بلغته عنه، فلقيه طارق، فترضاه، فرضي عنه، ووجهه إلى مدينة طليطلة، وهي من عظام مدائن الاندلس، على مسيرة عشرين يوما، فأصاب فيها مائدة ذهب مفصصة بالجوهر، قيل إنها مائدة سليمان بن داود، فكسر رجلها، فأخذها، وبعث بها إلى موسى بن نصير. وكان الحجاج قد عزل يزيد بن المهلب عن خراسان، وولى المفضل، فأقر المفضل ثم عزله، وولى قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان قتيبة عامله على الري، وكتب إليه ان يستوثق من المفضل وبني أبيه، ويشخصهم إليه، فسار قتيبة من الري حتى قدم مرو، فأخذ المفضل بن المهلب وسائر ولد المهلب، فأشخصهم إلى الحجاج، فحبسهم وطالبهم بستة آلاف ألف. وصار قتيبة إلى بخارى، فافتتحها، وافتتح عدة مدن منها، ثم انصرف


[ 286 ]

وخلف فيها ورقاء بن نصر الباهلي، وأمره بقبض الصلح. وكان نيزك صاحب الترك قد صار إلى قتيبة، فلم يزل معه يحضر حروبه، فلما انصرف قتيبة تحرك طرخون صاحب السغد، وجيل أبوشوكر بخاراخداه، وكر معانون اللوفسي 1 في الترك، فكره قتيبة قتالهم، فوجه حيان النبطي فصالحهم. ثم صار إلى الطالقان، وبها باذام قد عصى وتغلب على البلد، وكان ابن باذام مع قتيبة، فلما بلغه أن باذام قد تحصن وعصى وارتد أخذ ابنه، فقتله، وصلبه وجماعة معه، ثم لقي باذام فقاتله أياما، ثم ظفر به فقتله، وقتل ولده وامرأته، واستعمل على البلد أخاه عمرو بن مسلم. ولما فتح قتيبة بخارى والطالقان استأذنه نيزك طرخان في الرجوع إلى بلاده، وكان نيزك قد أسلم وسمي بعبدالله، فأذن له، فرجع إلى طخارستان، فعصى، وكاتب الاعاجم، وجمع الجموع، فزحف إليه قتيبة، ووجه إليه سليما الناصح، وكان صديقا له، فلم يزل يختدعه ويعطيه عن قتيبة ما يسأل، حتى خرج إلى قتيبة على الامان فأقام عنده أياما ثم ضرب عنقه وعنق ابن أخت له، وبعث برؤوسهما إلى الحجاج، وأخذ امرأة نيزك، فلما خلا بها قالت له: ما أجهلك ! أظننت أن نفسي تطيب لك، وقد قتلت زوجي وسلبتني ملكي ؟ فخلاها، وقال: اذهبي حيث شئت. ثم سار قتيبة إلى السغد، فلقيه صاحب السغد، فصافه أياما، ثم هرب منه، ولحق قتيبة الشتاء، فانصرف، وكتب إليه الحجاج يأمره بالمصير إلى سجستان ومحاربة رتبيل، فسار سنة 92، حتى صار إلى زالق من أرض سجستان، ثم زحف إلى رتبيل، فوجه إليه رتبيل: إنا كنا قد صالحناكم، وقبلتم الصلح، فماذا دعاكم إلى نقضه ؟ فأرسل إليه أن الحجاج أبى ذلك، فرد عليه رتبيل: إن قبلتم الصلح كان أصلح لكم، وإلا رجونا النصر عليكم. فقال قتيبة لاصحابه: إن هذا وجه مشؤوم، وقد هلك فيه عبد الله بن أمية، وابن


1 هكذا دون نقط في الاصل (*)

[ 287 ]

أبي بكرة، وغير واحد، ولا نأمن الحيل التي كان رتبيل يحتالها من تحريق الطعام، والعلوفات، وأخذ الحصون والسهل وحمل ما….. 1 فولى قتيبة عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي، وسار قتيبة إلى خوارزم، وبها سعيد بن ونوفار، وكانوا قتلوا عامل قتيبة، فقدمها، فسبى مائة ألف، وحاصر سعيد بن ونوفار حتى قتله. فلما أصلح البلاد وانصرف بالغنائم التي لم يسمع بمثلها، وأراد جنده الرجوع إلى أوطانهم بما في أيديهم، قام قتيبة خطيبا، فذكرهم ما كانوا فيه، وأعلمهم أنه لا براح لهم، واستخلف على خوارزم عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني، ثم سار قتيبة إلى سمرقند، وكان غوزك قد قتل طرخون ملك السغد، وتلك على البلد، فلما وافى قتيبة حاربه، فكانت بينهم حروب شديدة، وأحب قتيبة الصلح فراسل غوزك يدعوه إلى ذلك، فقال لاهل سمرقند: علام نصالحهم، وبلدنا لا يدخله إلا رجلان: أما أحدهما ففيل ؟ 2 وأما الآخر فاسمه أكاف، فكبر قتيبة، وكبر المسلمون، وقالوا: أميرنا اسمه قتب البعير، فأذعنوا بالصلح على أن يدخل فيصلي ركعتين، فدخل من باب كش، وخرج من باب الصين، واتخذ لهم غوزك ملك سمرقند الطعام، فأكل قتيبة وأصحابه، فكتب له كتاب صلح: هذا ما صالح عليه قتيبة بن مسلم غوزك اخشيد السغد، افشين سمرقند، على السغد، وسمرقند، وكش، وكسف، صالحه على ثلاثة آلاف درهم يؤديها غوزك إلى رأس كل سنة، وجعل له عهد الله، وذمته، وذمة الامير الحجاج بن يوسف، وأشهد له شهودا، وكان ذلك سنة 94. وولى قتيبة سمرقند عبد الرحمن بن مسلم أخاه، فغدر به أهل سمرقند، وأتاه خاقان ملك الترك، وكتب إلى قتيبة، فتوقف قتيبة حتى انحسر الشتاء، ثم سار إليه، فهزم عسكر الترك، واستقامت له خراسان.


1 بياض في الاصل. 2 هكذا في الاصل دون نقط (*)

[ 288 ]

وكان الحجاج لما أشخص إليه قتيبة ولد المهلب حبسهم جميعا، ومعهم يزيد بن المهلب، بستة آلاف ألف درهم، وعذبهم في ذلك أشد العذاب، فلما رأوا ما هم فيه من العذاب سألوه أن يدخل إليهم التجار حتى يبيعوا أموالهم وضياعهم، وصنعوا طعاما كثيرا، ودخل إليهم الناس، وخلق من التجار، فأكلوا عندهم في الحبس ثم اختلطوا بغمار الناس، وخرجوا معهم، وقد لبس يزيد لحية كبيرة طويلة صفراء، وكان شابا، ثم ركب وإخوته نجائب قد كان تقدم في إعدادها، ولحق بالشأم، فصار إلى سليمان بن عبد الملك، فكلموه، وصار إلى عبد العزيز بن الوليد، فشفع فيهم عند الوليد، حتى آمنهم وأحضرهم، فصالحهم على نصف المال، وهو ثلاثة آلاف ألف درهم، فقالوا: على أن نستعين قومنا من أهل الشأم، فقال: ذلك إليكم ! فتحمل عنهم اليمانية من أهل دمشق من أعطيتهم نجما، وتحمل عنهم سائر أهل الشأم نجما، وأقاموا بباب الوليد، وكتب الوليد إلى الحجاج في تخلية من كان في محبسه من أسبابهم، فخلاهم جميعا. ووجه الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي إلى السند، سنة 92، وأمره أن يقيم بشيراز من أرض فارس، حتى يمكن الزمان، فقدم محمد شيراز، فأقام بها ستة أشهر، ثم سار في ستة آلاف فارس، حتى أتى مكران، فأقام بها شهرا ونحوه، ثم زحف إلى فنزبور، وقد جمع أهل فنزبور، فحاربهم شهورا، ثم فتحها فسبى وغنم، ثم زحف إلى ارمائيل فحاربهم أياما، ثم فتحها، فأقام بها شهورا، ثم زحف إلى الديبل في خلق عظيم، حتى أتى المدينة، وعبأ الجيوش، وأخذ بأكظام القوم، وأقام يحاربهم عدة شهور، وكان لهم بد يعبدونه، طوله في السماء أربعون ذراعا، فرماه بالمنجنيق، فكسره، ثم وضع السلاليم على السور، وأصعد الرجال، فافتتحها عنوة، فقتل المقاتلة، ووجد للبد الذي كانوا يعبدونه سبع مائة راتبة، وأخذ منها أموالا عظاما.


[ 289 ]

ولما فتح الديبل، وكانت أعظم مدائنهم، خضع له أهل البلدان، فسار من الديبل إلى النيرون، فصالحهم، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في التقدم، فكتب إليه: أن سر، فأنت أمير على ما فتحته ! وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامل خراسان: أيكما سبق إلى الصين، فهو عامل عليها، وعلى صاحبها، فمضى محمد ابن القاسم، وجعل لا يمر ببلد إلا غلب عليه، ولا مدينة إلا فتحها صلحا أو عنوة، فعبر نهر السند، وهو دون مهران، وسار إلى سهبان ففتحها، ثم سار نحو شط مهران، فلما بلغ داهر ملك السند مكانه وجه إليه جيشا عظيما، فلقي محمد بن القاسم ذلك الجيش فهزمهم، وزحف إليه داهر، فأقام مواقفا له عدة شهور، وبينا هم في تلك المواقفة زاحفه داهر، وهو على الفيل، فاشتدت بينهما الحرب، وأخذت من الفريقين، وعطش الفيل الذي كان داهر عليه، فغلب فياله، فترجل، فنزل داهر فقاتل في الارض حتى قتل، وانهزم جيشه، وفتح المسلمون، وكتب محمد إلى الحجاج بالفتح، وبعث برأس داهر إليه. ومضى في بلاد السند ففتح بلدا بلدا، ومدينة مدينة، حتى أتى الرور، وهي من أعظم مدائن السند، فحاصرهم حصارا شديدا، وهم لا يعلمون أن داهر قد قتل، فلما أملهم بعث إليهم محمد بن القاسم بامرأة داهر، فقالت لهم: إن الملك قد قتل، فاطلبوا الامان، فطلبوه، ونزلوا على حكم محمد، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، ثم استخلف فيها، ومضى يقطع البلاد، ويفتح مدينة مدينة، ثم كتب إليه الحجاج: إني قد كتبت إلى أمير المؤمنين الوليد أضمن له أن أرد إلى بيت المال نظير ما أنفقت، فأخرجني من ضماني ! فحمل إليه أكثر مما أنفق. وأقام محمد بن القاسم في بلاد السند حتى توفي الوليد، وولي سليمان بن عبد الملك، وكان لمحمد بن القاسم، في الوقت الذي غزا فيه بلاد السند والهند، وقاد الجيوش وفتح الفتوح، خمس عشرة سنة، فقال زياد الاعجم: إن الشجاعة والسماحة والندى * لمحمد بن القاسم بن محمد


[ 290 ]

قاد الجيوش لخمس عشرة حجة * ياقرب ذلك سؤددا من مولد وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري، عامله على الحجاز، يأمره بإخراج من بالحجاز من أهل العراقين، وحملهم إلى الحجاج بن يوسف، فبعث خالد إلى المدينة عثمان بن حيان المري لاخراج من بها من أهل العراقين، فأخرجهم جميعا، وجماعاتهم في الجوامع، إلى الحجاج، ولم يترك تاجرا ولا غير تاجر، ونادى: ألا برئت الذمة ممن آوى عراقيا، وكان لا يبلغه أن أحدا من أهل العراق في دار أحد من أهل المدينة إلا أخرجه. فخرج الوليد إلى الحميمة من أرض الشراة، من عمل جند دمشق سنة 95، وكان سبب ذلك أن أم سليط بن عبد الله بن عباس رفعت إلى الوليد أن علي بن عبد الله قتل ابنها، ودفنه في البستان الذي ينزله، وبنى عليه دكانا، فأخذه الوليد بذلك وقال له: أقتلت أخاك ؟ قال: ليس بأخي، ولكنه عبدي قتلته. وكان عبد الله بن عباس أوصى إلى ابنه علي أن يورث سليطا، ولا يزوجه، وقال: أنا أعلم أنه ليس مني، ولكني لا أدفعه عن الميراث. فنزل علي بن عبد الله الحميمة، فلم يزل بها حتى ولد أولادا، وصار له الاهل والعيل، وولد له نيف وعشرون ذكرا، مات عامتهم في حياته، ولم يزل ولده بالحميمة حتى أذهب الله سلطان بني أمية. وتوفي الحجاج بن يوسف في هذه السنة، وهي سنة 95، وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة، وكانت إمرته على العراق عشرين سنة، فأقر الوليد على عمله يزيد بن أبي مسلم خليفته، ثم استعمل مكانه يزيد بن أبي كبشة السكسكي. وكان الوليد لحانا، فيه هرج وحيرة، وكان يقول: لا ينبغي لخليفة أن يناشد، ولا يكذب، ولا يسميه أحد باسمه، وعاقب على ذلك. وكان أول من عمل البيمارستان للمرضى، ودار الضيافة، وأول من أجرى على العميان، والمساكين، والمجذمين الارزاق، وكان ممن أحدث قتل العصاة،


[ 291 ]

وأحصى أهل الديوان، وألقى منهم بشرا كثيرا بلغت عدتهم عشرين ألفا، وأول من أجزى طعام شهر رمضان في المساجد، وصام الاثنين والخميس فأدمنه، وأول من أخذ بالقذف والظنة وقتل بهما الرجال، وانكسر الخراج في أيامه، فلم يحمل كثير شئ، ولم يحمل الحجاج من جميع العراق إلا خمسة وعشرين ألف ألف درهم. وكانت في ولايته الزلازل التي هدمت كل شئ، وأقامت أربعين صباحا في سنة 94. وكان الغالب عليه الفازي بن ربيعة الحرشي، وكان قاضيه بالكوفة الشعبي، وكان على شرطه أبو ناتل رباح بن عبد الغساني، ثم عزله، واستعمل كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان، مولى محارب، وحاجبه سعيد مولاه، وتوفي الوليد لاربع عشرة خلت من جمادى الاولى سنة 96، وقيل انسلاخ جمادى الآخرة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وقيل تسع وأربعين سنة، وكانت أيامه تسع سنين وثمانية أشهر ونصفا، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكانت وفاته بدير مران، ودفن بدمشق، وخلف من الولد تسعة عشر ذكرا: محمد، والعباس، وعمر، وبشر، وروح، وخالد، وتمام، ومبشر، وجرى 1، ويزيد، وعبد الرحمن، وابراهيم، ويحيى، وأبو عبيدة، ومسرور، وصدقة. وأقام الحج للناس في أيامه سنة 86 هشام بن اسماعيل، سنة 87 عمر بن عبد العزيز، سنة 88 حج هو، سنة 89 وسنة 90 عمر بن عبد العزيز، سنة 91 حج هو، سنة 92 وسنة 93 عمر بن عبد العزيز، سنة 94 مسلمة بن عبد الملك، سنة 95 أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وغزا الصوائف في أيامه سنة 86 مسلمة، ففتح حصنين، سنة 88.. 2


1 قوله جرى: هكذا في الاصل. 2 بياض في الاصل (*)

[ 292 ]

مسلمة والعباس بن الوليد، فافتتحا سورية، وافتتح العباس أدرولية، سنة 90 عبد العزيز بن الوليد، فافتتح حصنا، سنة 91 عبد العزيز بن الوليد… 1 محمد ابن مروان، وغزا موسى بن نصير الاندلس، سنة 93 العباس بن الوليد ومروان ابن الوليد ومسلمة، ففتحوا اماسية وحصن الحديد، سنة 94 العباس وعمر ابنا الوليد، سنة 95 العباس، ففتح قبرس، سنة 96 بشر بن الوليد. وكان الفقهاء في أيامه عبد الرحمن بن حاطب، سعيد بن المسيب، عروة ابن الزبير، عطاء بن يسار، أبا سلمة بن عبد الرحمن، القاسم بن محمد، سعيد بن جبير، مجاهد بن جبير مولى بني مخزوم، عكرمة مولى ابن عباس، حكيم بن أبي حازم شقيق ابن سلمة، ابراهيم بن يزيد النخعي، عامر الشعبي، سالم بن أبي الجعد، اسحاق السبيعي، أيوب الازدي، أبا تميم الحميني، الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد، سليمان بن يسار، مورق العجلي، سنان بن سلمة، أبا المليح بن أسامة الهذلي، العلاء بن زياد، أبا ادريس، رجاء بن حيوة. وكان الوليد طوالا، أسمر، به أثر جدري خفي، بمقدم لحيته شمط، ليس في رأسه ولا لحيته غيرة، أفطس.


1 بياض في الاصل.

[ 293 ]

ايام سليمان بن عبد الملك وملك سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية، للنصف من جمادى الاولى سنة 96، وكانت الشمس يومئذ في الحوت ست درجات وأربعين دقيقة، والقمر في السنبلة ست عشرة درجة وعشرين دقيقة راجعا، والمشتري في القوس خمسا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الدلو إحدى عشرة درجة وثلاث دقائق، والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وتسع عشرة دقيقة، وعطارد في الحوت خمس درجات وخمسين دقيقة، والرأس في الاسد ثلاث عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة. وأتته الخلافة بالرملة، وكان بها منزله، وهو أنشأ مسجد جامعها، وقصر امارتها، ونقل الناس إليها من لد، وكانت المدينة التي ينزلها الناس، فأخذ بهدم منازلهم بلد، والبنيان بالرملة، وعاقب من امتنع من ذلك، وهدم منازلهم، وقطع الميرة عنهم، حتى انتقلوا وخرب لد. وأخذ له عمر بن عبد العزيز البيعة بدمشق، يوم مات الوليد، فصار إلى دمشق، فأقام بها يسيرا، وأراد سليمان الحج، فكتب إلى خالد بن عبد الله وهو عامل مكة، يأمره أن يجري له عينا تخرج من الثقبة من الماء العذب، حتى تظهر بين زمزم والركن الاسود، يباهي بها زمزم، فعمل خالد البركة التي بفم الثقبة، يقال لها: بركة القسري، وهي قائمة إلى اليوم، في أصل ثبير، عملها بحجارة منقوشة، واستنبط ماءها من ذلك الموضع، ثم شق من هذه البركة عينا تجري إلى المسجد الحرام، في قصب من رصاص، حتى أظهرها في فوارة تسكب في فسقية رخام، بين الركن وزمزم، فلما ان جرت وظهر ماؤها أمر خالد بجزر، فنحرت بمكة، وقسمت بين الناس، وعمل طعاما، فدعا


[ 294 ]

إليه الناس، ثم أمر صائحا، فصاح: الصلاة جامعة، ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس احمدوا الله، وادعوا لامير المؤمنين الذي سقاكم الماء العذب، بعد المالح الاجاج، الذي لا يطاق شربه، يعني زمزم. وكان لا يجتمع على ذلك الماء اثنان، وكانوا على شرب زمزم أكثر ما كانوا، فلما رأى خالد ذلك قام خطيبا، فنال من أهل مكة، وكلمهم بكلام قبيح يعنفهم فيه على تركهم شرب ذلك الماء، وإقبالهم على زمزم، ولم تزل تلك الفسقية على حالها أيام بني أمية، فلما صار الامر إلى بني هاشم هدمها داود بن علي أول ما قدم مكة. ولم يقم خالد بمكة إلا قليلا حتى سخط عليه سليمان، فصرفه، وولى طلحة بن داود الحضرمي، وأمره أن يضرب خالدا بالسياط بسبب امرأة من قريش كان قذفها فأقبح، وأن يطالبه، ويحمله في الحديد، وعزل عثمان بن حيان المري عامل المدينة، وقلد أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فضرب عثمان بن حيان حدين: أحدهما في شرب الخمر، والآخر في قرفه على عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وسخط سليمان على موسى بن نصير اللخمي، العامل على افريقية، والذي افتتح الاندلس وما والاها، وكان موسى قدم على الوليد، فوجده شديد العلة، فلم يقم إلا أياما حتى مات، وسعى طارق مولى موسى بمولاه إلى سليمان، فاستصفى سليمان ماله، وأخذه بمائة ألف دينار، فقال موسى: صحبتكم ولي فرس وفرو وسيف، فأعطوني هذا وشأنكم بما بقي. وولى سليمان المغرب محمد بن يزيد، مولى قريش، وأمره بتتبع أصحاب موسى وولده وأصحابه، وكان سليمان قد قدم يزيد بن المهلب وخصه وأبره، ودفع إليه أصحاب الحجاج بن يوسف، وموسى بن نصير، وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، والحكم بن أيوب، وعبد الرحمن بن حيان المري، وأمره أن يعذبهم حتى يستخرج منهم الاموال، وتتبع سليمان أصحاب الحجاج يسومهم سوء العذاب، وأشخص إليه يزيد بن أبي مسلم


[ 295 ]

خليفة الحجاج، وكان قصيرا، خفيف البدن، فلما رآه قال له: أنت يزيد ؟ قال: نعم ! قال: صاحب الحجاج والافعال التي بلغتني معما أرى من دمامة خلقتك ؟ قال: ذاك والله أنك رأيتني والدنيا عليك مقبلة، وهي عني مدبرة، ولو رأيتها وهي إلي مقبلة، وعنك مدبرة، لا ستعظمت ما استصغرت، واستجللت ما استحقرت. قال: أين ترى الحجاج يهوي في النار ؟ قال: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين لرجل يحشر عن يمين أبيك وشمال أخيك، وأنزله حيث شئت تنزلهما معه. فقال ليزيد بن المهلب: خذه إليك، فعذبه بألوان العذاب، حتى تستخرج منه الاموال. فقال: يا أمير المؤمنين أنا أعلم به، لا والله ما عنده مال، ولا كان ممن يحوي المال. وكان يزيد بن المهلب يعرف له جميع فعله به، فولاه سليمان الصائفة. وكان قتيبة بن مسلم عامل الحجاج على خراسان، فلما بلغه فعل سليمان بنظرائه، وقصده عمال الوليد، وعمال الحجاج، جمع إليه إخوانه وأهل بيته، وأوغل في أرض العجم، حتى بلغ بلد فرغانة القصوى، وكان عبد الله ابن الاهتم التميمي معه، فهرب منه إلى سليمان، فرفع إليه، فأخذ قتيبة قوما من أهل بيته، فقتلهم، وقطع أيدي آخرين وأرجلهم، وكان يزيد بن المهلب عدوه لما فعل به وبأهل بيته لما ولي عليه، فعلم أنه لا يصلح له حب سليمان، وكتب إليه كتابا، فأجابه سليمان يغلظ له، فأراد الخلع، وهو لا يشك أن موضعه من النزارية…. 1 واليمانية لا يخالفونه، فلما علم القوم مذهبه تبعدوا عنه، فخطبهم خطبة مشهورة، نال فيها، وقال: يا معشر تميم، ويا أهل الذلة والقلة، ويا معشر الازد ! أخليتم السفن، وركبتم الخيل، وقذفتم المرادي، وأخذتم الرماح، والله لانا بمن معي من العجم أعز منكم ! فصاف القوم عنه، وصارت كلمتهم واحدة في الوثوب عليه، واجتمعوا إلى الحضين بن المنذر، فدعوه إلى القيام بجماعتهم، فقال: عليكم بوكيع بن


1 بياض في الاصل (*)

[ 296 ]

أبي سود التميمي. فأتوا وكيعا، فانقضت كلمتهم عليه، ومع القوم يومئذ حيان النبطي، فوثبوا بقتيبة فقتلوه، وقام وكيع بخراسان، وولى عماله، وكتب إلى سليمان يعلمه ما كان منه، وبعث برأس قتيبة ورؤوس أهل بيته إليه، وذلك في سنة 96. فلما أتى سليمان كتاب وكيع أراد أن يكت إليه بالعهد على خراسان، فقيل له: إنه رجل ترفعه الفتنة وتضعه السنة، وليس لها بموضع، فولى سليمان يزيد بن المهلب العراق وخراسان، فكان يزيد بن المهلب في العراق، فعذب عمال الحجاج، ثم استخلف على العراق ونفذ إلى خراسان، فتتبع أصحاب قتيبة وقراباته، فسامهم سوء العذاب، وحبس وكيع بن أبي سود، وقيده، وأخذ عماله الذين كان ولاهم البلدان بعد قتل قتيبة، فطالبهم بالاموال التي صارت إليهم، وخالف أكثر أهل خراسان، فقصد جرجان، فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتحها وحارب اصبهبذ طبرستان، وملك الترك، وملك الديلم، فأقام في محاربة صاحب طبرستان زمانا، ثم عرض وضجر، ثم طلب أن يصالحه، فلم يفعل، فرجع إلى جرجان فأقام بها، ثم خرج منها إلى نيسابور، وولى يزيد إخوته وولده البلدان، فولى مخلدا سمرقند، ومدرك بن المهلب بلخ، ومحمد بن المهلب مرو، وعظم أمر يزيد بخراسان. واضطرب السند، وأخل الجند الذين كانوا مع محمد بن القاسم الثقفي بمراكزهم، فرجع أهل كل بلد إلى بلدهم، فوجه سليمان حبيب بن المهلب إليها، فدخل البلاد، وقاتل قوما كانوا ناحية مهران، وأخذ محمد بن القاسم، فألبسه المسوح، وقيده وحبسه. وقدم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب على سليمان، وقال سليمان: ما كلمت قرشيا قط يشبه هذا، وما أظنه إلا الذي كنا نحدث عنه، فأجازه، وقضى حوائجه وحوائج من معه


[ 297 ]

ثم شخص عبد الله بن محمد، وهو يريد فلسطين، فبعث سليمان قوما إلى بلاد لخم وجذام، ومعهم اللبن المسموم، فضربوا أخبية نزلوا فيها، فمر بهم، فقالوا: يا عبد الله ! هل لك في الشراب ؟ فقال: جزيتم خيرا. ثم مر بآخرين، فقالوا مثل ذلك، فجزاهم خيرا، ثم بآخرين، فاستسقى فسقوه، فلما استقر اللبن في جوفه قال لمن معه: أنا والله ميت، فانظروا من هؤلاء، فنظروا فإذا القوم قد قوضوا، فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فإنه بأرض الشراة، فأسرعوا السير حتى أتوا محمد بن علي بالحميمة من أرض الشراة، فلما قدم عليه قال له: يا ابن عم أنا ميت، وقد صرت إليك، وهذه وصية أبي إلي، وفيها أن الامر صائر إليك، وإلى ولدك، والوقت الذي يكون ذلك، والعلامة وما ينبغي لكم العمل به اعلى ما سمع وروى عن أبيه علي بن أبي طالب، فاقبضها إليك، وهؤلاء الشيعة ستوص بهم خيرا، وهؤلاء دعاتك وأنصارك، فاستبطنهم، فإني قد بلوتهم بمحبة ومودة لاهل بيتك، ثم هذا الرجل ميسرة، فاجعله صاحبك بالعراق، فأما الشأم، فليست لكم ببلاد، وهؤلاء رسله إلى خراسان وإليك، ولتكن دعوتكم بخراسان، ولا تعد هذه الكور: مرو، ومرو الروذ، وبيورد، ونسا، وإياك ونيسابور وكورها، وابرشهر، وطوس، فإني أرجو أن تتم دعوتكم، ويظهر الله أموركم، واعلم أن صاحب هذا الامر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه الذي هو أكبر منه، فإذا مضت سنة الحمار، فوجه رسلك بكتبك، ووطد الامر قبل ذلك بلا رسول ولا حجة. فأما أهل العراق، فهم شيعتك ومحبوك، وهم أهل اختلاف، فلا يكن رسولك إليا منهم، وانظر أهل الحي من ربيعة فألحقهم بهم، فإنهم معهم في كل أمر، وانظر هذا الحي من تميم وقيس، فأقصهم، ثم أبدهم إلا من عصم الله منهم، وهم أقل من القليل، ثم اختر دعاتك، فليكونوا اثني عشر نقيبا، فإن الله عزوجل لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم وسبعين نفسا بعدهم يتلونهم، فإن النبي إنما


[ 298 ]

اتخذ اثني عشر نقيبا من الانصار اتباعا لذلك. فقال محمد: يا أبا هاشم ! وما سنة الحمار ؟ قال: لم يمض مائة من نبوة قط إلا انقضت أمورها، لقول الله عزوجل: ” أو كالذي مر على قرية “، الآية، فإذا خلت مائة سنة، فابعث رسلك ودعاتك، فإن الله متمم أمرك. ومات أبو هاشم بعد أن دفع الكتاب إلى محمد بن علي، وذلك سنة 97، وفيها وجه محمد بن علي أبا رباح ميسرة النبال مولى الازد إلى الكوفة. وحج سليمان سنة 97، وقد عزم على أن يبايع لابنه أيوب بولاية العهد من بعده، وكان قد كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن يبني له قصرا بالجرف ينزله، فلما قدم لم يرض بناء القصر، فنزله، وقسم بين أهل المدينة قسما، وفرض لقريش خاصة أربعة آلاف فريضة لم يدخل فيها حليفا ولا مولى، فأجمع رأي مشيخة قريش أن جعلوها لحلفائهم ومواليهم، ثم دخلوا عليه فقالوا: إنك قد فرضت لنا أربعة آلاف فريضة لا تدخل علينا فيها حليفا ولا مولى، فرأينا أن نكافئك ونجعلها في حلفائنا وموالينا، فنحن أخف عليك مؤونة منهم. ففرض لهم أربعة آلاف فريضة أخرى. وصار إلى مكة، فلما نزل بطن رابغ أخذتهم السماء وجاءت صواعق لم ير مثلها، ففزع سليمان، فقال له عمر بن عبد العزيز: هذه الرحمة، فكيف العذاب ؟ وأحضر جماعة من الفقهاء فيهم القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم ابن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن حزم، فسألهم عن أمر الحج، فاختلفوا عليه، فقال كل واحد منهم قولا لم يوافق الآخر، فقال: كيف صنع أمير المؤمنين عبد الملك ؟ فقيل له: كذا، فقال: اصنع كما صنع، واترك اختلافكم. وانصرف من مكة إلى بيت المقدس، فأطاف المجذمون بمنزله، فضربوا بأجراسهم، حتى منعوه النوم، فسأل عنهم، فأخبر بما يلقاه الناس منهم، فأمر بإحراقهم، وقال: لو كان في هؤلاء خير ما ابتلاهم الله بهذا البلاء ! فكلمه


[ 299 ]

عمر في ذلك، فأمسك عنهم، وأمر أن ينفوا إلى قرية معتزلة لا يخالطوا الناس. وخرج سليمان إلى ناحية الجزيرة، فنزل بموضع يقال له دابق، من جند قنسرين، وأغزى مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، وأمره أن يقصد القسطنطينية، فيقيم عليها حتى يفتحها، فسار مسلمة حتى بلغ القسطنطينية، وأقام عليها حتى زرع وأكل مما زرع، ودخل، وفتح مدينة الصقالبة. وأصاب المسلمين ضر وجوع وبرد. وبلغ سليمان ما فيه مسلمة ومن معه، فأمدهم بعمرو بن قيس في البر، وأغزى عمر بن هبيرة الفزاري في البحر، وذلك أن الروم أغاروا على مدينة اللاذقية من جند حمص، فأحرقوها، وذهبوا بما فيها، فبلغ عمر بن هبيرة خليج القسطنطينية. وكان الغالب على سليمان النصرا بن كريم ؟ 1 الحميري، ورجاء بن حيوة الكندي، وعلى شرطه كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان مولى محارب، وحاجبه مولاه أبو عبيدة، وكان أكولا لا يكاد يشبع، وكان له جمال وفصاحة…….. 2 رجل طويل، أبيض قضيف البدن، لم يشب، وهو الذي يقول، ونظر إلى نفسه في المرآة: أنا الملك الشاب، فما دارت عليه الجمعة حتى مات، وكانت وفاته في صفر سنة 99، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز، وكتب كتابا، وأحضر أهل بيته، فقال: بايعوا لمن في هذا الكتاب، فبايعوا، ودفع الكتاب إلى مسجد دابق، فدعا من بها من أهل بيت سليمان، فقال: بايعوا ! فقالوا: إنا بايعنا مرة، فقال: بايعوا الذي في هذا الكتاب، فبايعوا، فلما فرغ قال: قوموا إلى صاحبكم، فقد مات، وقرأه، فلما بلغ إلى اسم عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا والله لا أبايع ! فقال رجاء بن حيوة: إذا اضرب عنقك، وأخذ بضبع عمر، فأجلسه على المنبر، فلما فرغوا من البيعة دفنوا سليمان، ونزل عمر بن عبد العزيز قبره، وثلاثة من ولده،


1 هكذا دون نقط في الاصل. 2 بياض في الاصل (*)

[ 300 ]

فلما تناولوه تحرك على أيديهم، فقال ولد سليمان: عاش أبونا ورب الكعبة ! فقال عمو: بل عوجل أبوكم ورب الكعبة ! وكان بعض من يطعن على عمر يقول له: دفن سليمان حيا. وكانت ولاية سليمان بن عبد الملك سنتين وثمانية أشهر، وخلف من الولد الذكور عشرة: يزيد، والقاسم، وسعيد، وعثمان، وعبد الله، وعبد الواحد، والحارث، وعمرو، وعمر، وعبد الرحمن. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 96 أبو بكر بن عمرو بن جزم (حزم)، وفي سنة 97 سليمان، وفي سنة 98 عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وغزا في أيامه سنة 96 مسلمة، ففتح حصن الحديد وشتا بنواحي الروم، وعمر بن هبيرة في البحر، فمخروا ما بين الخليج والقسطنطينية، وفتحوا مدينة الصقالبة، وامد سليمان بعمرو بن قيس الكندي، وعبد الله بن عمر بن الوليد ابن عقبة. وفي سنة 99 وجه سليمان بن عبد الملك بابنه داود إلى أرض الروم، ومسلمة منيخ على القسطنطينية، ففتح داود حصن المرأة من ناحية ملطية. وكان الفقهاء في أيامه مثل من كان في أيام الوليد.


[ 301 ]

ايام عمر بن عبد العزيز ثم ولي عمر بن عبد العزيز بن مروان، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن الخطاب، لعشر خلون من صفر سنة 99، وكانت الشمس يومئذ في السنبلة ثمانيا وعشرين درجة، وزحل في الميزان خمسا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في الحوت درجتين راجعا، والمريخ في السرطان ثلاثا وعشرين درجة، وثلاثين دقيقة، وعطارد في الميزان اثنتين وعشرين درجة، والرأس في الجوزاء ثلاثا وعشرين درجة وستا وعشرين دقيقة، وبويع بدابق، وكان الكتاب الذي كتبه سليمان: هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر ابن عبد العزيز. إني وليتك الخلافة بعدي، فاسمعوا، وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا. فلما قرئ الكتاب بايع جميع من حضر من بني أمية خلا عبد العزيز ابن الوليد بن عبد الملك، فإنه كان غائبا، فدعا إلى نفسه، فبايعه قوم، فلما بلغه ولاية عمر قدم، فقال له عمر: بلغني أنك كنت دعوت إلى نفسك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذلك لاني خفت الفتنة، وبلغني أن الخليفة لم يعهد إلى أحد. فقال عمر: لو قمت بالامر ما نازعتك ذلك. فقال عبد العزيز: ما كنت أحب أن يكون ولي هذا الامر غيرك. ولما بلغ يزيد بن المهلب ولاية عمر وورد عليه كتابه شخص من خراسان، واستخلف بها مخلدا ابنه، وحمل كل ما كان له، مخافة من أهل خراسان، معه، فأشار عليه قوم ألا يبرح، فلم يفعل، وصار إلى البصرة، فلقيه بها عدي ابن ارطاة عامل عمر، فأوصل إليه كتاب عمر، فقال: سمعا وطاعة، ثم حمله إليه مستوثقا منه، فقال له عمر: إني وجدت لك كتابا إلى سليمان تذكر فيه انك اجتمع قبلك عشرون ألف ألف، فأين هي ؟ فأنكرها، ثم قال:


[ 302 ]

دعني أجمعها ! قال: أين ؟ قال: أسعى إلى الناس. قال: تأخذها منهم مرة أخرى ؟ لا ولا نعمى عين. ثم ولى الجراح بن عبد الله الحكمي خراسان، وأمره أن يأخذ مخلد بن يزيد، فيستوثق منه استيثاقا لا يمنعه من الصلاة، فحبسه الجراح مكرما، ثم حمله إلى عمر، فدخل في ثياب مشمرة، وقلنسوة بيضاء، فقال له عمر: هذا خلاف ما بلغني عنك. فقال: أنتم الائمة إذا أسبلتم أسبلنا، وإذا شمرتم شمرنا. وحسنت سيرة الجراح وقدمت عليه وفود التبت يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الاسلام، فوجه إليهم السليط بن عبد الله الحنفي، ووجه عبد الله بن معمر اليشكري إلى ما وراء النهر، فلقي جمعا للترك فهزم. وانصرف ابن معمر. وبلغ عمر عن الجراح أمور يكرهها من أنه يأخذ الجزية من قوم قد أسلموا، وانه يغزي موالي بلا عطاء، وانه يظهر العصبية، فكتب إليه: ان اقدم، واستخلف عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ففعل ذلك، ثم كتب عمر إلى عبد الرحمن بعهده على خراسان، ويأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم إلى مرو، فعرض ذلك عليهم، فأبوا عليه، فكتب إلى عمر انهم قد رضوا بالمقام، فحمد عمر ربه على ذلك. وبلغ عمر ما فيه من في بلاد الروم مع مسلمة من الضرر والفاقة، فوجه عمرو بن قيس على الصائفة، ووجه معه الكساء والطعام والاعطية لمن كان مع مسلمة من المسلمين، فوجه عمر عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فأوقع بالترك، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقدم على عمر منهم بخمسين أسيرا، فقال رجل من المسلمين لعمر في أسير منهم: لو رأيت هذا، يا أمير المؤمنين، يقتل المسلمين، لرأيت قتالا ذريعا. فقال: قم فاضرب عنقه.


[ 303 ]

وفاة علي بن الحسين وتوفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في سنة 99، وقال قوم سنة 100، وله ثمان وخمسون سنة، وكان أفضل الناس، وأشدهم عبادة، وكان يسمى زين العابدين، وكان يسمى أيضا ذا الثفنات، لما كان في وجهه من أثر السجود، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ولما غسل وجد على كتفيه جلب كجلب البعير، فقيل لاهله: ما هذه الآثار ؟ قالوا: من حمله للطعام في الليل يدور به على منازل الفقراء. قال سعيد بن المسيب: ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين. وما رأيته قط إلا مقت نفسي، ما رأيته ضاحكا يوما قط. وكانت أمه حرار بنت يزدجرد كسرى، وذلك أن عمر بن الخطاب لما أتى بابنتي يزدجرد وهب إحداهما للحسين بن علي، فسماها غزالة، وكان يقول بعض الاشراف إذا ذكر علي ابن الحسين يود الناس كلهم أن أمهاتهم إماء. وقيل إن أمه كانت من سبي كابل. قال أبو خالد الكابلي: سمعت علي بن الحسين يقول: من عف عن محارم الله كان عابدا، ومن رضي بقسم الله كان غنيا، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلما، ومن صاحب الناس بما يحب أن يصاحبوه به كان عدلا. وقال علي بن الحسين: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم ؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسئ علينا عفونا. فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم:


[ 304 ]

انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم ؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله ! فيقوم ناس من الناس، وهم الاقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره ؟ فيقولون: كنا نتجالس في الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. وقال: بئس القوم قوم ختلوا الدنيا بالدين، وبئس القوم قوم عملوا بأعمال يطلبون بها الدنيا. وقال: إن المعرفة بكمال المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه، وقلة مرائه، وصبره، وحسن خلقه. وكتب ملك الروم إلى عبد الملك يتوعده، فضاق عليه الجواب، وكتب إلى الحجاج، وهو إذ ذاك على الحجاز: أن ابعث إلى علي بن الحسين فتوعده وتهدده وأغلظ له، ثم انظر ماذا يجيبك، فاكتب به إلي ! ففعل الحجاج ذلك، فقال له علي بن الحسين: إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة، وأرجو أن يكفينك في أول لحظة من لحظاته. وكتب بذلك إلى عبد الملك، فكتب به إلى صاحب الروم كتابا، فلما قرأه قال: ليس هذا من كلامه، هذا من كلام عترة نبوته. ومرض ثلاث مرضات في كل ذلك يوصي بوصية، فإذا برئ وأفاق أنفذها، وقال: كلكم سيصير حديثا، فمن استطاع أن يكون حديثا حسنا، فليفعل. وكان يقول: ابن آدم لن تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همتك، وما كان لك الخوف شعارا، والحزن دثارا. وكان عبد الملك قد كتب إلى الحجاج، وهو على الحجاز: جنبني دماء آل بني أبي طالب، فإني رأيت آل حرب لما تهجموا بها لم ينصروا. فكتب


[ 305 ]

إليه علي بن الحسين: إني رأيت رسول الله ليلة كذا في شهر كذا يقول لي: إن عبد الملك قد كتب إلى الحجاج في هذه الليلة بكذا وكذا، وأعلمه أن الله قد شكر له ذلك، وزاده برهة في ملكه. وكان له من الولد: أبو جعفر محمد، والحسين، وعبد الله، وأمهم أم عبد الله بنت الحسن بن علي، وعلي، والحسن، والحسين الاصغر، وسليمان، توفي صغيرا، وزيد. وذكره يوما عمر بن عبد العزيز، فقال: ذهب سراج الدنيا، وجمال الاسلام، وزين العابدين، فقيل له: إن ابنه أبا جعفر محمد بن علي فيه بقية، فكتب عمر يختبره، فكتب إليه محمد كتابا يعظه ويخوفه، فقال عمر: أخرجوا كتابه إلى سليمان، فأخرج كتابه، فوجده يقرظه، ويمدحه، فأنفذ إلى عامل المدينة، وقال له: أحضر محمدا، وقل له: هذا كتابك إلى سليمان تقرظه، وهذا كتابك إلي معما أظهرت من العدل والاحسان. فأحضره عامل المدينة، وعرفه ما كتب به عمر، فقال: إن سليمان كان جبارا كتبت إليه بما يكتب إلى الجبارين، وإن صاحبك أظهر أمرا فكتبت إليه بما شاكله. وكتب عامل عمر إليه بذلك، فقال عمر. إن أهل هذا البيت لا يخليهم الله من فضل. ونكث عمر أعمال أهل بيته وسماها مظالم، وكتب إلى عماله جميعا: أما بعد، فإن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنن سيئة سنتها عليهم عمال السوء، قلما قصدوا قصد الحق والرفق والاحسان، ومن أراد الحج، فعجلوا عليه عطاءه، حتى يتجهز منه، ولا تحدثوا حدثا في قطع وصلب حتى تؤامروني، وترك لعن علي بن أبي طالب على المنبر، وكتب بذلك إلى الآفاق فقال كثير: وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريا ولم تتبع مقالة مجرم وأعطى بني هاشم الخمس، ورد فدكا، وكان معاوية أقطعها مروان،


[ 306 ]

فوهبها لابنه عبد العزيز، فورثها عمر منه، فردها على ولد فاطمة. فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك، فقبضها. ورد عمر هدايا النيروز والمهرجان، ورد السخر، ورد العطاء، على قدر ما استحق الرجل من السنة، وورث العيالات على ما جرت به السنة، غير أنه أقر القطائع التي أقطعها أهل بيته، والعطاء في الشرف لم ينقصه، ولم يزد فيه، وزاد أهل الشأم في أعطياتهم عشرة دنانير، ولم يفعل ذلك في أهل العراق، وكان يقول: ما بقي المسلم على جفوة السلطان ونزغة الشيطان لم أر شيئا أعون له على دينه من إعطائه حقه. فكان يجلس للنظر في أمور المسلمين نهاره كله، فقال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين ! نهارك كله مشغول، ذلك جزء من الليل، وأنت تسمر معنا. فقال: يا رجاء إن ملاقاة الرجال تلقح لاوليائها، وإن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة، لا يضل معهما رأي ولا يقعد معهما حزم. وكان يقول: لكل شئ معدن، ومعدن التقوى قلوب العاقلين، لانهم عقلوا عن الله، فاتقوه في أمره ونهيه. وكتب إلى عامله باليمن: أما بعد، فدع ما أنكرت من الباطل، وخذ ما عرفت من الحق بالغا بك ما بلغ، فإن بلغ مهج أنفسنا، فإن الله يعلم أنك إن لم تحمل إلي إلا حفنة من كتم فإني بذلك مسرور، إذا كان موافقا. قال الزهري: دخلت إلى عمر يوما فبينا أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له يخبره أن مدينتهم قد احتاجت إلى مرمة، فقلت له: إن بعض عمال علي بن أبي طالب كتب بمثل هذا، وكتب إليه: أما بعد فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الجور، فكتب بذلك عمر إلى عامله. ووجه عمر إلى مسجد دمشق من ينزع ما فيه من الرخام والفسيفساء والذهب، وقال: إن الناس يشتغلون بالنظر إليه عن صلاتهم، فقيل له: إن فيه مكيدة للعدو، فتركه، وارتحل إلى خناصرة، فنزلها، وهي برية من أطراف جند قنسرين، وكره أن ينزل في منازل أهل بيته التي بنوها بمال الله وفئ المسلمين،


[ 307 ]

ثم كلم في ذلك، وقيل له: إن في نزولك البرية إضرارا بالمسلمين، فخرج إلى دمشق، فنزل دار أبيه التي كانت إلى جانب المسجد، وأقام عشرين يوما، وكثر عليه الناس، فارتحل حتى صار إلى مدينة حلب، وكثر عليه الناس، فارتحل إلى مدينة حمص راجعا يريد أن ينزلها، فلما صار إلى أوائل حمص اعتل، فمال إلى موضع يعرف بدير سمعان، فنزله، ويقال: بل ارتحل إليه قاصدا يريد نزوله بسبب قطعة أرض كان ورثها عن أمه فيه، فلما صار إلى دير سمعان أتاه الخبر بخروج شوذب الحروري، فأمر بتوجيه جيش إليه، ووجه إليه شوذب برجلين من قبله يناظرانه، فقالا له: إنك أظهرت أفعالا حسنة، وأعمالا جميلة، ومما ننكر عليك ترك لعن أهل بيتك، والبراءة منهم. فقال: وكيف يلزمني لعنهم ؟ قالا: لانهم من أهل المعاصي والذنوب، ولا يسعك غير ذلك. قال: متى عهدكم بلعن فرعون ؟ قالوا: ما نذكر متى لعناه. قال: فكيف يسعكم ترك لعنه، وهو من أهل الذنوب والمعاصي ؟ أنتم قوم أردتم شيئا فأخطأتموه، ولقد أصبحتم بنعمة، ووعدكم كثير، وشوكتكم ضعيفة. فأقام أحدهما عنده، وانصرف الآخر. وأتاه أبو الطفيل عامر بن واثلة وكان من أصحاب علي، فقال له: يا أمير المؤمنين ! لم منعتي عطائي ؟ فقال له: بلغني أنك صقلت سيفك، وشحذت سنانك، ونصلت سهمك، وغلفت قوسك، تنتظر الامام القائم حتى يخرج، فإذا خرج وفاك عطاءك. فقال: إن الله سائلك عن هذا، فاستحيا عمر من هذا، وأعطاه. وكانت ريطة بنت عبيدالله بن عبد الله بن عبدالمدان الحارثي عند عبد الله ابن عبد الملك بن مروان، فهلك عنها، فخلف عليها الحجاج بن عبد الملك، فطلقها قبل أن يدخل عليها، فقدم محمد بن علي، وهو يريد الصائفة، فكلم عمر فيها، وقال: ابنة خالي كانت متزوجة فيكم، فإن تأذن أتزوجها. قال عمر: ومن يحول بينك وبينها، وهي أملك بنفسها ؟ فتزوجها وبنى بها


[ 308 ]

بحاضر قنسرين في دار طلحة بن مالك الطائي، واشتملت هناك على أبي العباس. ولما دخلت سنة 100 بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ميسرة أبا رباح إلى العراق، ومحمد بن خنيس، وأبا عكرمة السراج، وحيان العطار، إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي، عامل عمر بن عبد العزيز، فلقوا من لقوا بها، وانصرفوا وقد غرسوا غرسا. وكانت ولاية عمر ثلاثين شهرا، وكان الغالب عليه رجاء بن حيوة الكندي، وصاحب شرطته روح بن يزيد السكسكي، مولاه، وتوفي لست بقين من رجب سنة 101، وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وكان أسمر، رقيق الوجه، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر، وعهد إلى يزيد بن عبد الملك، وقيل إن سليمان كان جعل له العهد من بعده، وإن عمر قال عند وفاته: لو كان الامر إلي لوليت ميمون بن مهران، والقاسم بن محمد، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، ودفن بدير سمعان، وقيل: إن أهل بيته سموه خوفا من أن يخرج الامر منهم. وهرب يزيد بن المهلب، قبل وفاة عمر بليلتين، ولحق بالبصرة، وعليها عدي بن أرطاة الفزاري، وقد قبض على أهل بيته فحبسهم، فوجه عمر في إثر يزيد رسلا ففاتهم. وخلف عمر من الولد تسعة ذكور: عبد العزيز، وعبد الله، وعبيدالله، وزيدا، ومسلمة، وعثمان، وسليمان، وعاصما، وعبد الرحمن. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 99 أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، سنة 100 أبو بكر أيضا، وغزا الصوائف في ولايته سنة 99 عمرو بن قيس الكندي. وكان الفقهاء في أيامه: خارجة بن زيد بن ثابت، يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أبا سلمة بن عبد الرحمن، سالم بن عبد الله بن عمر، القاسم بن محمد ابن أبي بكر، عبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، محمد بن كعب القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعا مولى عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد بن


[ 309 ]

ابراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن دينار، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبير، عكرمة مولى عبد الله بن عباس، عامر بن شراحيل الشعبي، سالم بن أبي الجعد، حبيب بن أبي ثابت، عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبا إسحاق السبيعي، الحسن ابن أبي الحسن البصري، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد، مورق العجلي، عبد الملك بن يعلى الليثي، زيد بن نوفل، علقمة بن عبد الله المزني، أبا حازم رجاء بن حيوة، مكحول الدمشقي، راشد بن سعد، المقرئ سليمان ابن حبيب المحاربي، ميمون بن مهران، يزيد بن الاصم، أبا قبيل المعافري، طاووس اليماني.


[ 310 ]

ايام يزيد بن عبد الملك وملك يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهي التي حرمت على عشرة من خلفاء بني أمية، معاوية جدها، ويزيد أبوها، ومروان بن الحكم زوجها، والوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام بنو عبد الملك أولاد زوجها، ويزيد ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، ويزيد بن الوليد ابن ابن زوجها. وكانت ولايته في رجب سنة 101، والشمس يومئذ في الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الجدي أربع درجات وثلاثين دقيقة، وزحل في العقرب تسعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والمشتري في الثور أربع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والمريخ في الميزان ثلاث درجات وأربعين دقيقة، والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وعشر دقائق، وعطارد في الجدي خمس عشرة درجة وأربعين دقيقة، والرأس في الثور سبع درجات وعشرين دقيقة. وعزل يزيد عمال عمر بن عبد العزيز جميعا، وكتب إلى عدي بن أرطاة يأمره بأخذ يزيد بن المهلب، فحاربه في داخل البصرة، في شهر رمضان، فظفر به يزيد، فأخذه أسيرا، وحمله معه في الحديد إلى واسط، فحبسه بها وجماعة معه. وغلب يزيد بن المهلب على البصرة وما والاها، ثم خرج يريد الكوفة، واستخلف على البصرة مروان بن المهلب، فوجه إليه يزيد مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد، فسار مسلمة بن عبد الملك حتى أتى العراق، وجعل يقول: إني أخشى أن يتعيا ابن المهلب ويهرب فنطلبه. فقال له حسان النبطي، وكان معه: لا يحسن ذلك، أيها الامير ! قال: ولم ؟ قال: سمعته يقول: ويح عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث ! هبه غلب على البصرة، أغلب على الصبر ؟


[ 311 ]

ما ضره لو ألقى طرف ثوبه على وجهه، ثم تقدم حتى قتل ؟ وقال مسلمة: ما أجرأه إلا يبرح ! فالتقيا بمسكن، فحاربه محاربة شديدة، ويزيد مبطون شديد العلة، وكان مسلمة يسميه الجرادة الصفراء، فلم يبرح حتى قتل، وكان ذلك في سنة 102. وكان معاوية بن يزيد بن المهلب بواسط، فلما انتهى إليه خبر أبيه أخرج عدي بن أرطاة ومن كان معه، فضرب أعناقهم، وركب البحر حتى صار بمن كان من أهل بيته وأنصاره إلى قندابيل من أرض السند، إلى أن وافاهم هلال بن أحوز المازني بعث به مسلمة بن عبد الملك، فقتل معاوية وجميع من كان معه سوى نفر يسير أخذهم أسرى، فحملهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقتلهم بدمشق، منهم عثمان بن المفضل بن المهلب، وحمل إليه من نساء المهلب خمسين امرأة، فحبسهن بدمشق. وبعث مسلمة على خراسان سعيد بن عبد العزيز، فقصد السغد، فحاربهم محاربة شديدة، وأقام بسمرقند، فجاءته ملكة فرغانة، فقالت: إني أدلك على شئ فيه الظفر على أن تجعل لي ألا تغزي إلي جيشا، فأعطاها ما سألت، فقالت: إن السغد قد خلوا عن أرضهم، ونزلوا خجندة، وطلبوا إلينا أن ندخلهم بلادنا حتى يصالحوا العرب، أو يكون غير ذلك، وليس لهم في خجندة طعام ولا شراب ولا عدة لحصار، فإن أردتهم فالساعة. فبعث سعيد بن عبد العزيز سورة بن الحر الدارمي في الخيل ولحقهم بنفسه، فحصرهم في المدينة، فلما تخوفوا الهلاك دعوا إلى الصلح على أن يرجعوا إلى بلادهم، فقال: على أن تخرجوا عن آخركم، فحفر لهم خندقا، فقال: اخرجوا ! فخرجوا جميعا إلا رجلا منهم يقال له جليح، ثم خرج بالسلاح، وحارب المسلمين، وحارب معه قوم، فوثب عليهم سعيد والمسلمون، فقتلوهم قتلا ذريعا، وكبس بهم الخندق، وسبى الذرية، وغنم ما لم يغنم مثله. وولى يزيد بن عبد الملك عمر بن هبيرة العراق مكان مسلمة، في هذه السنة،


[ 312 ]

بعد انقضاء حرب ابن المهلب، وقتلهم، فلقي جماعة من آل المهلب في الحديد قد وجه بهم مسلمة، فقال للرسل: ردوهم ! فقالوا: لا نفعل. قال: إن مسلمة يوم وجه بكم أميركم… 1 فردوهم معه، وكتب إلى يزيد كتابا حسنا في أمرهم، وأن الصنيعة فيهم عامة لقومهم. فكتب إليه يزيد: وما أنت وذاك ؟ لا أم لك ! فعاوده، وكتب إليه: ما هم لي بعشيرة، وما أردت إلا النظر لامير المؤمنين في تألف عشائرهم لئلا تفسد قلوبهم وطاعتهم. فكتب إليه: بارك الله لك في ودهم إن كنت أردت ذاك. وأقر عمر بن هبيرة سعيد بن عبد العزيز على خراسان، فوجد رسلا لابي رباح ميسرة داعية بني هاشم في زي التجار، فقيل إنه دعاهم، فسألهم عن حالهم، فقالوا: نحن تجار، فخلى سبيلهم، فخرجوا من خراسان. وظهر بريد برحرهم ؟ 2 الداعية، وبلغ عمر بن هبيرة الخبر، فعزله وولى خراسان مسلم بن سعيد الكلابي، فقدم خراسان، فغزا بالناس، فلم يصنع شيئا، فلما انصرف راجعا من فرغانة تبعته الترك وأهل فرغانة، فقاتلوه قتالا شديدا. وكان قد استعمل نصر بن سيار على بلخ، فكتب إليه أن يمده بالرجال، وأن يحشر الناس إليه، فدعاهم نصر بن سيار إلى ذلك، فأبوا عليه وقاتلوه، وكانت بينهم وبين نصر وقعة تسمى وقعة البروقان. واستعمل يزيد على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وكتب إليه يأمره أن يجمع بين عثمان بن حيان المري وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم في الحدين اللذين جلدهما أبو بكر عثمان بن حيان، فإن وجد أن أبا بكر ظلمه أقاده منه. ففعل، وتحامل على أبي بكر، فجلده حدين قودا بعثمان بن حيان. وخطب عبد الرحمن فاطمة بنت الحسين بن علي، فأرسل إليها رجالا يحلف


1 بياض في الاصل. 2 بلا فقط في الاصل (*)

[ 313 ]

بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر ولدها بالسياط. فكتبت إلى يزيد كتابا، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه، وقال: لقد ارتقى ابن الحجام مرتقى صعبا من رجل يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا ؟ فكتب إلى عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري، وكان بالطائف، أن يتولى المدينة، ويأخذ عبد الرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار، ويعذبه حتى يسمعه ضربه، ففعل ذلك، فرئي عبد الرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس. ووجه يزيد الجراح بن عبد الله الحكمي، فغزا الترك، وفتح بلنجر، وسبى خلقا عظيما في سنة 104، وانتهى إلى نهر الروباس، ثم سار حتى انتهى إلى نهر الران، ولقي ابن خاقان صاحب الخزر فقاتله فهزمه، وقتل مقاتلته، وسبى سبيا كثيرا. ولما فتح بلنجر سار، فجعل ينزل بلدا بلدا يتبع خاقان ملك الخزر، حتى صار إلى نهر دبيل من عمل اذربيجان، فاقتتلوا هناك، وقتل الجراح وجميع أصحابه. وولي يزيد بن أبي مسلم افريقية، فقدمها وعبد الله بن موسى اللخمي محبس بها، فقال له: اعط الجند من مالك أرزاقهم لخمس سنين، فقال: لا أقدر على ذلك، فحبسه، وأخذ موالي موسى بن نصير فوسم أيديهم، وردهم إلى الرق، واستخدم عامتهم في حرسه، فوثب عليه غلام منهم يقال له جرير دخل عليه وهو يأكل عنبا، فقتله، فلما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر ولى بشر بن صفوان الكلبي، فلم يزل مقيما بها ولاية يزيد. وكتب يزيد إلى عمر بن هبيرة، وهو عامل على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة 105، ولم يمسح السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب، حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع على النخل والشجر، وأضر بأهل الخراج، ووضع على التانئة، وأعاد السخر والهدايا وما كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، والمساحة التي يؤخذ بها مساحة ابن هبيرة. وكان يزيد قد جعل ولاية العهد من بعده لهشام، ثم بدا له أن يبايع بولاية


[ 314 ]

العهد لابنه الوليد، وكان هشام بالجزيرة، فوجه إليه خالد بن عبد الله القسري يحسن له خلع نفسه من ولاية العهد على أن الجزيرة له طعمة. قال خالد بن عبد الله: فأتيته، فذكرت له ذلك، فأسرع الاجابة، فقلت له: أيها الانسان إن استشرتني وعاهدتني على أن تكتم علي أشرت عليك. فقال: قد استشرتك ولك عهد الله أن أكتم عليك. فقلت: إنما هي أيام قلائل حتى تصير الجزيرة أحد أعمالك. قال: فكيف بالسلامة من يزيد ؟ قلت: علي ! قال: افعل ما بدا لك، فإنها يد مشكورة لك. فانصرفت إلى يزيد فقلت: يا أمير المؤمنين ! إني أتيت رجلا صعبا، فأنشدك الله أن توقع العداوة والشر بينكم، وتوجدوا الناس السبيل إلى الطعن فيكم والاختلاف عليكم، ولكن تصير الوليد ولي العهد بعد أخيك. فركن إلى ذلك وفعله، فما زال هشام يشكر ذلك لخالد حتى ولي الخلافة فولاه العراق. وكان الغالب على يزيد سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان، وصاحب شرطه كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه يزيد بن أبي كبشة السكسكي، وحاجبه خالد مولاه. وكانت ولايته أربع سنين، وتوفي لاربع بقين من شعبان سنة 105، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وصلى عليه الوليد بن يزيد، ودفن بالبلقاء من أرض دمشق، وخلف من الولد عشرة ذكورا وهم: الوليد، ويحيى، ومحمد، والغمر، وسليمان، وعبد الجبار، وداود، وأبو سليمان، والعوام، وهاشم: وأقام الحج للناس في ولايته سنة 101 عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، سنة 102 عبد الرحمن أيضا، سنة 103 عبد الرحمن أيضا، سنة 104 عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري. وغزا بالناس في ولايته سنة 102 الوليد بن هشام أرض الروم، فنزل على المخاضة عند انطاكية، ولقي عمر بن هبيرة الروم بأرمينية الرابعة، فهزمهم، وأسر منهم سبعمائة، سنة 103 غزا العباس بن الوليد، فأصيب الناس في


[ 315 ]

السرايا، وأغارت الترك على أرض اللان، وغزا عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعثمان بن حيان المري، فنزلا على حصن ففتحاه، سنة 104 عبد الرحمن بن سليمان الكلبي على الصائفة اليمنى، وعثمان بن حيان المري على الصائفة اليسرى، سنة 105 سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم رجع فغزا ناحية الترك، فبلغ قصر قطن، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي باب اللان، حتى خرج من الباب. وكان الفقهاء في ولايته يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، سالم بن عبد الله ابن عمر، القاسم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، محمد بن كعب القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعا مولى عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن دينار، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، طاووس اليماني، عطاء بن أبي رباح، حبيب بن أبي رباح، حبيب بن أبي ثابت، عبد الله بن ميسرة، أبا اسحاق السبيعي.


[ 316 ]

أيام هشام بن عبد الملك بن مروان ثم ملك هشام بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم هشام بنت هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وأتته الخلافة وهو بقرية يقال لها الزيتونة من الجزيرة، فجاء البريد، فسلم عليه بالخلافة، فركب من الرصافة حتى أتى دمشق، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 105، ومن شهور العجم في كانون، وكانت الشمس يومئذ في الدلو ست درجات وثمانيا وخمسين دقيقة، والقمر في القوس سبع درجات وتسع دقائق، والمشتري في الميزان ست درجات وخمسين دقيقة راجعا، والمريخ في العقرب إحدى وعشرين درجة وتسعا وثلاثين دقيقة، والزهرة في القوس عشرين درجة وثلاث دقائق، وعطارد في الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والرأس في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة. وولى خالد بن عبد الله القسري العراق باليد التي كانت له عنده، وكان قد كتب إلى الجنيد بن عبد الرحمن يأمره أن يكاتب خالدا، ففعل، وعظم أمر الجنيد ببلاد السند، ودوخها حتى صار إلى أرض الجرز، ثم إلى أرض الصين، ودعا ملكها إلى الاسلام، فقاتله، فثبت له الجنيد، فأقام يقاتله ورمى حصنه بالنفط والنار، فطفأها، فقال الجنيد: في الحصن قوم من العرب هم أطفأوا النار، ولم يزل يقاتله، حتى طلب الصلح وصالحه، وفتح المدينة، فوجد فيها رجلين من العرب، فقتلهما. وأقام الجنيد أياما ثم غزا الكيرج ومعه اشندرابيد الملك في مقاتلته، فهرب الراه ملك الكيرج، فافتتحها الجنيد، فسبى، وغنم، واستقامت أموره، فوجه بعماله إلى المرمذ والمندل ودهنج والبروص وسرست والبيلمان والمالبة وغيرها من البلاد، وكتب إليه هشام بفتح أتاه من الروم يخبره أن المسلمين أسروا


[ 317 ]

عدة، وغنموا حمرا وبقرا، فكتب إليه الجنيد: إني نظرت في ديواني، فوجدت ما أفاء الله علي، مذ فارقت بلاد السند، ستمائة ألف وخمسين ألف رأس من السبي، وحملت ثمانين ألف ألف درهم، وفرقت في الجند أمثالها مرارا. وأقام الجنيد عدة سنين، ثم استعمل خالد مكانه تميم بن زيد العتبي، فوجه ثمانية عشر ألف ألف طاطري خلفها الجنيد في بيت المال، ولم يستقم لتميم أمر، وكثر خلاف أهل البلاد عليه، وكثرت حروبه، وفشا القتل في أصحابه، وخرج من البلد يريد العراق، فكتب خالد إلى هشام أن يولي الحكم بن عوانة الكلبي، فقدم الحكم وبلاد الهند كلها قد غلب عليها، إلا أهل قصة، فقالوا: ابن لنا حصنا يكون للمسلمين يلجأون إليه ! فبنى مدينة سماها المحفوظة، وأجلى القوم المتغلبين بعد حرب شديدة، وهدأت البلاد وسكنت، وكان مع الحكم عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي، وجماعة من وجوه الناس، فلم يزل مقيما في البلد، حتى عزل خالد، وولي يوسف بن عمر الثقفي. وولى هشام مسلمة بن عبد الملك أرمينية واذربيجان سنة 107، فوجه سعيد بن عمرو الحرشي على مقدمته، فلقي عسكرا للخزر، ومعهم عشرة آلاف من أسارى المسلمين، فحاربهم، فهزمهم، وقتل عامتهم، واستنقذ الاسارى منهم، وفعل ذلك مرة بعد مرة أخرى، وقتل ابن خاقان، وفتح عدة مدائن، ووجه برأس ابن خاقان إلى هشام من غير أن يوافق مسلمة، فأغضبه ذلك، وكتب إليه يلومه وعزله، وصير مكانه عبد الملك بن مسلم العقيلي، وأمره أن يقيد سعيد بن عمرو الحرشي ويحبسه بمدينة يقال لها قبلة. وقدم مسلمة البلد وأحضر الحرشي، فأغلظ له، ودق لواءه، وبعث به إلى سجن برذعة، فكتب إليه هشام يلومه على ذلك، ووجه برسل من قبله حتى أخرجوا سعيد بن عمرو الحرشي من السجن، وحملوه إليه.


[ 318 ]

وسار مسلمة في البلاد التي للخزر حتى صار إلى جرزان، فافتتحها، وقتل أهلها، ثم صار إلى شروان، فسالمه أهلها، ثم أتى مسقط، فصالحه أهلها، ووجه خيله إلى أرض اللكز، فصالحه أهلها، وبعث إلى طبرسران، فصالحه أهلها، فسار في البلاد لا يلقاه أحد حتى بلغ أرض ورثان، فلقيه خاقان ملك الخزر، وكان مع مسلمة جماعة من ملوك البلدان التي فتحها، فجعل مروان ابن محمد على مقدمته، فلقي القوم، فأقام يقاتلهم أياما، وربما فقد، فيقال لمسلمة: قتل مروان ! فيقول: أما والله دون أن يسلم عليه بالخلافة فلا ! ففتح عامة البلدان. وعزل هشام مسلمة وولى مروان بن محمد، فصار إلى الحصن الذي فيه ملك السرير، وهو سرير من ذهب كان بعث به بعض ملوك الفرس، ويقال إن أنوشروان بعث به إليه فسمي بذلك السرير، فصالحه على ألف وخمسمائة غلام سود الشعور، ثم صار إلى تومان شاه، فصالحه ملكها، ثم دخل إلى أرض زريكران، فصالحه ملكها، ثم صار إلى حمزين فحاربهم، فقتل منهم خلقا عظيما، وفتح أكثر البلد، وجمع الطعام إلى مدينة الباب، ولم يزل هناك. وكان بشر بن صفوان الكلبي عامل المغرب، فلما ولي هشام بعث إليه بأموال عظام وهدايا، فأقره هشام على افريقية، فلم يزل بها حتى مات، فلما مات بشر بن صفوان ولى هشام افريقية عبيدة بن عبد الرحمن القيسي، ولم يزل بها، فأغزى الناس في البحر، فغنم غنائم كثيرة، فخرج إلى هشام بأموال جليلة وعشرين ألف عبد، فاستعفاه فأعفاه، وولى مكانه عقبة بن قدامة التجيبي، فلم يقم إلا يسيرا حتى عزل، وولى عبيدالله بن الحبحاب، فغزا غزوات كثيرة….. 1، وقتل كلثوم بن عياض، ثم ولى حنظلة بن صفوان الكلبي، فقدم افريقية، وقد تغلب على بعض النواحي عكا بن أيوب الفزاري، فظفر به حنظلة، ولم يزل مقيما إلى أيام مروان بن محمد.


1 بياض في الاصل (*)

[ 319 ]

وظهر سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه بخراسان يدعون إلى بني هاشم سنة 111، وظهرت دعوتهم، وكثر من يجيبهم، وقدم بكير بن ماهان، فأجابه خلق كثير إلى خلع بني أمية وبيعة بني هاشم، وكثر أشياعه وأصحابه، ثم حضرت بكير بن ماهان الوفاة، فاستخلف أبا سلمة حفص بن سليمان الخلال وكتب بذلك إلى محمد بن علي بن عبد الله، وأعلمه أنه يرضاه، فأقره، وكتب إلى أصحابه يأمرهم بالسمع والطاعة، فاستقاموا جميعا عليه، وولى خالد بن عبد الله أخاه أسد بن عبد الله خراسان، فبلغه خبرهم، فأخذ جماعة منهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فما زالوا في خوف، حتى مات أسد، وولى خراسان جعفر بن حنظلة البهراني. وولى سجستان يزيد بن الغريف الهمداني، فلما قدم سجستان ساءت سيرته، وأظهر الفسق، فقتله قوم من الخوارج وثبوا عليه وهو جالس في مجلسه، وعلى رأسه ألف وخمسمائة مدجج، وكان الخوارج خمسة نفر، فقدم إليه بعضهم، فضربه بالسيف، فقتله، ووثب الجند عليهم، فقتلوهم بعد أن قتلوا جماعة منهم. فلما بلغ خالد بن عبد الله الخبر ولى الاصفح بن عبد الله الكلبي، فصار إلى النية في الشتاء، فندب الناس إلى الغزو، فأتاه شيخ من أهل البلد يقال له عبد الله بن عامر، فقال: أيها الامير ! ليس هذا وقت غزو، فقال: أنا أعلم بوقت الغزو منك، ونفذ، فلما صار على رأس شعب من الشعاب أتاه عمرو بن بجير فقال: أصلح الله الامير، ليس هذا وقت دخول هذا الشعب. فقال: لو كنت عاقبت المتكلم بالامس لما سمعت هذا اليوم، واقتحم الشعب، حتى إذا أمعن فيه أخذ العدو عليه مضايقه، واجتمع فقتل الجيش بأسره، فلم ينج منه أحد، فلما أتى خالدا الخبر بقتل الاصفح ومن معه من المسلمين، ولى عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، فلم يزل مقيما بها ولاية خالد.


[ 320 ]

وفاة ابي جعفر محمد بن علي وتوفي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، سنة 117، وسنه ثمان وخمسون سنة. قال أبو جعفر: قتل جدي الحسين ولي أربع سنين، وإني لاذكر مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت. وكان يسمى أبا جعفر الباقر لانه بقر العلم. قال جابر بن عبد الله الانصاري: قال لي رسول الله: إنك تستبقي حتى ترى رجلا من ولدي أشبه الناس بي اسمه على اسمي، إذا رأيته لم يخل عليك، فأقرئه مني السلام ! فلما كبرت سن جابر، وخاف الموت، جعل يقول: يا باقر ! يا باقر ! أين أنت ؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه، ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه رسول الله ! إن أباك يقرئك السلام. قال أبو حمزة الثمالي: سمعت محمد بن علي يقول: يقول الله عزوجل: إذا جعل عبدي همه في هما واحدا جعلت عناه في نفسه، ونزعت الفقر من بين عينيه، وجمعت له شمله، وكتبت له من وراء تجارة كل تاجر، وإذا جعل همه في مفترقا جعلت شغله في قلبه، وفقره بين عينيه، وشتت عليه أمره ورميت بحبله على غاربه، ولم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك. وقيل لمحمد: أتعرف شيئا خيرا من الذهب ؟ قال: نعم ! معطيه. وقال: اصبر للنوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تعط أحدا من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه له. وقال: كفى العبد من الله ناصرا أن يرى عدوه يعصي الله. وقال: شر الآباء من دعاه البر إلى الافراط، وشر الابناء من دعاه التقصير


[ 321 ]

إلى العقوق. وسئل أبو جعفر عن قول الله عزوجل: وقولوا للناس حسنا. قال: قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم، ثم قال: إن الله عزوجل يبغض اللعان السباب، الطعان الفحاش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف. وقال: لو صمت النهار لا أفطر، وصليت الليل لا أفتر، وأنفقت مالي في سبيل الله علقا علقا، ثم لم تكن في قلبي محبة لاوليائه، ولا بغضة لاعدائه، ما نفعني ذلك شيئا. وكان له من الولد خمسة ذكور: أبو عبد الله جعفر، وعبد الله، وابراهيم، وعبيد الله درج صغيرا، وعلي درج صغيرا. وتوفي علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب سنة 118، وكان مولده في الليلة التي قتل في صبيحتها علي بن أبي طالب، وتوفي بالاحهر ؟ 1 بين الحميمة وأذرح من عمل دمشق، وسنه ثمانون وسبعون سنة، وأمه زرعة بنت مشرح ابن معدي كرب، أحد ملوك كندة الاربعة. وكان ذا غناء وفضل وشرف ورواية عن أبيه. قال: سمعت أبي يقول: إن من غصبته نفسه فيما تحب لم يطمعها فيما يحب. وقال: سمعت أبي يقول: تعاشر الناس حينا بالتقوى، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالمروة، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالحياء، ثم رفع ذلك، فانهتك الغطاء. وكان يقول: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. وقال: سخاء الناس عما في أيدي الناس أفضل من سخائها بالبذل، والقناعة لذة العيش، والرضى بالقسم أكثر من مروة الاعطاء، ومن حفظ من نفسه


(1) الاحهر: هكذا في الاصل. [ * ]

[ 322 ]

أربعا فهو خليق ألا ينزل به ما نزل بغيره: العجلة، واللجاج، والعجب، والتواني. وكان لعلي بن عبد الله بن عباس من الولد اثنان وعشرون ولدا: محمد بن علي، وأمه العالية بنت عبيدالله بن عباس، وداود، وعيسى لام ولد، وسليمان، وصالح لام ولد، وأحمد، وبشر، ومبشر، واسماعيل، وعبد الصمد، لامهات أولاد، وعبد الله الاكبر، أمه أم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، لا عقب له، وعبيدالله، وأمه فلانة بنت الحريش، وعبد الملك، وعثمان، وعبد الرحمن، وعبد الله الاصغر، وهو السفاح، ويحيى، وإسحاق، ويعقوب، وعبد العزيز، واسماعيل الاصغر، وعبد الله الاوسط، وهو الاحنف، لامهات أولاد شتى. قدم محمد بن علي بن عبد الله على هشام، ومعه ابنه أبو العباس غلام، ح من عنده قال لبعض أصحابه: شكوت إلى أمير المؤمنين ثقل الدين والعيال ؟، فاستهزأ بي، وقال: انتظر ابن الحارثية، يعني هذا الغلام. وألح هشام في طلب الخوارج…. 1 فجلس يوما، وجمع إليه الخوارج، فقال: يا قوم ! خافوا الله ولا تدعوا الجهاد ! فبايعوه، وأقام أياما وحضرته الوفاة، فقال لهم: إني لست بأحد أوثق مني بالبهلول بن عمير الشيباني، فلما مات خرج البهلول، فصار إلى قرب الكوفة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فوجه إليه بخيل، فاتبعته من عين التمر إلى الموصل، فقتل بالموصل. وأنكر هشام على خالد بن عبد الله أمورا بلغته، منها: أنه فرق أموالا عظاما، مبلغها ستة وثلاثون ألف ألف درهم، فاستعظمها، وأنه قال: ما زادت أمية في شرف قسر 2 هكذا، وجمع بين اصبعيه، فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني مقالتك، وإنما أنت من بجيلة الذليلة الحقيرة، وستعلم يا ابن


1 بياض في الاصل. 2 قوله: قسر، هكذا في الاصل (*).

[ 323 ]

النصرانية أن الذي رفعك سيضعك. وأقام خالد على العراق أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة، فلما عزم هشام على صرفه أحضر حسان النبطي، وكان ينظر في أمر خالد بن عبد الله كله، فأشرف عليه بالقتل 1، وحلف له بالله الذي لاإله إلا هو ليصدقنه، أو ليقتلنه، فأتاه حسان بصناديق وقائع على خالد، وكان أول كاتب رفع على عامل بلده، ولما وقف هشام من أمر خالد على ما أراد كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي، وكان عامله باليمن، كتابا بخطه لم يطلع عليه أحدا، يأمره بالنفوذ إلى العراق، وأن يستر خبره حتى يقدمها، فيقبض على خالد وأصحابه، فيأخذه بستة وثلاثين ألف ألف درهم. فخرج يوسف من اليمن، وقد أسر أمره، وكان في سبعة نفر، حتى قدم العراق، وكان مقدمه العراق سنة 120، ووافى يوسف بن عمر في الليل في خمسة نفر حتى صار إلى المسجد الجامع، فلما أقيمت الصلاة تقدم خالد ليصلي، فجذبه يوسف فأخرجه، ثم تقدم وقرأ: إذا وقعت الواقعة، في أول ركعة، ثم قرأ في الثانية: سأل سائل بعذاب واقع، ثم أقبل على الناس بوجهه، فعرفهم نفسه، وأخذ خالدا وأصحابه، فعذبهم أنواع العذاب، وطالبهم بالمال، فاجتمع جماعة دهاقين العراق ومياسير الناس، فقالوا: نحن نتحمل هذا المال عنه ونؤديه، فيقال إن يوسف قبل ذلك منهم، فلما حملوا إليه المال طالب خالدا، وأخذ خالدا، فألبسه جبة صوف، وجمع يده إلى عنقه، ثم أتي به إليه، وهو جالس على دكان، فجذبه حتى سقط لوجهه، فقال بعض من حضر: رأيت خالدا وقد فعل مثل هذا بعمر بن هبيرة الفزاري لما عزله عن العراق، فمن ولي شيئا فليحسن. وخوف يوسف خالدا وعماله، ووظف عليهم الاموال، وعذبهم حتى مات أكثرهم في يده: فوظف على ابان بن الوليد البجلي عشرة آلاف ألف،


1 اشرف عليه بالقتل: هكذا في الاصل (*)

[ 324 ]

ووظف على طارق بن أبي زياد عامل فارس عشرين ألف ألف، ووظف على الزبير عامل اصبهان والري وقومس عشرين ألف ألف درهم، وعلى غيرهم ما دون ذلك، فاستخرج أكثر المال. وكان بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري عامل خالد على البصرة، فهرب من سجن يوسف، فلحق بهشام، فكتب فيه يوسف إلى هشام، فأشخصه إليه، فعذبه حتى قتله، وجعل داره بالكوفة سجنا، واستصفى داره بالبصرة. ولما بلغ الحكم بن عوانة عامل السند ما فعل يوسف بعمال خالد أوغل في بلاد العدو، وقال: إما فتح يرضى به يوسف، وإما شهادة أستريح بها منه، فلقي العدو، فلم يزل يقاتل حتى قتل، وقد كان استخلف على الخيل عمرو ابن محمد بن القاسم الثقفي. ولما قتل الحكم بن عوانة بأرض السند تنازع خلافته عمرو بن محمد الثقفي وابن عرار، فكتب إلى يوسف بن عمر، وكتب بذلك إلى هشام، فكتب إليه هشام: إن كان عمرو بن محمد قد اكتهل فوله ! فمال يوسف بالثقفية إلى عمرو، فولاه، وأرسل بعهده إليه، فأخذ ابن عرار، فحبسه وقيده. وبنى عمرو بن محمد بن القاسم مدينة دون البحيرة سماها المنصورة، ونزلها في منزل الولاة. وكلب العدو، وملكوا ملكا، ثم زحفوا إلى المنصورة، فحصروها، فكتب عمرو إلى يوسف، فوجه إليه بأربعة آلاف، فانصرف عنه الملك، وقوض أمره، فتجهز للعدو وجعل على مقدمته معن بن زائدة الشيباني، وكبس عسكر ذلك الملك ليلا، وصبر أصحابه، فقتل من العدو خلقا عظيما. وأشرف ذلك الملك، فمر به قوم من أصحابه ولم يعرفه المسلمون، فلما رأوه قالوا: الراه الراه، أي الملك، فاستنقذوه، ومر هاربا هو وأصحابه لا يلوي على شئ، واستقامت البلاد لعمرو، وكان معه في عسكره مروان بن يزيد ابن المهلب، فوثب في جماعة من القواد ما يلوه على ذلك، حتى انتهب متاعه


[ 325 ]

وأخذ دوابه، فخرج إليه عمرو ومعه معن بن زائدة وعطية بن عبد الرحمن، فهزمه، وفرق أصحابه، وهرب مروان، فنادى عمرو: الناس كلهم آمنون إلا ابن المهلب، فدل عليه فقتله. وأقدم هشام زيد بن علي بن الحسين، فقال له: إن يوسف بن عمر الثقفي كتب يذكر أن خالد بن عبد الله القسري ذكر له أن عندك ستمائة ألف درهم وديعة، فقال: ما لخالد عندي شئ ! قال: فلابد من أن تشخص إلى يوسف ابن عمر حتى يجمع بينك وبين خالد. قال: لا توجه بي إلى عبد ثقيف يتلاعب بي، فقال: لابد من إشخاصك إليه، فكلمه زيد بكلام كثير، فقال له هشام: لقد بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة، وأنت ابن أمة. قال: ويلك مكان أمي يضعني ؟ والله لقد كان اسحاق ابن حرة واسماعيل ابن أمة، فاختص الله عزوجل ولد اسماعيل، فجعل منهم العرب، فما زال ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله، ثم قال: اتق الله، يا هشام ! فقال: أو مثلك يأمرني بتقوى الله ؟ فقال: نعم ! إنه ليس أحد دون أن يأمر بها، ولا أحد فوق أن يسمعها. فأخرجه مع رسل من قبله، فلما خرج قال: والله إني لاعلم أنه ما أحب الحياة قط أحد إلا ذل. وكتب هشام إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد، ولا يقيمن قبلك ساعة واحدة، فإني رأيته رجلا حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل العراق أسرع شئ إلى مثله. فلما قدم زيد الكوفة دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند أمير المؤمنين ؟ قال: ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم. قال: فأحضر خالدا ! فأحضره وعليه حديد ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد ابن علي، فاذكر ما لك عنده ! فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه. فأقبل يوسف على زيد، وقال له:


[ 326 ]

إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك من الكوفة ساعة قدومك. قال: فأستريح ثلاثا، ثم أخرج. قال: ما إلى ذلك سبيل. قال: فيومي هذا. قال: ولا ساعة واحدة. فأخرجه مع رسل من قبله، فتمثل عند خروجه بهذه الابيات: منخرق الخفين يشكو الوجى * تنكبه أطراف مرو حداد شرده الخوف وأزرى به * كذلك من يكره حر الجلاد قد كان في الموت له راحة * والموت حتم في رقاب العباد فلما صار رسل يوسف بالعذيب انصرفوا، وانكفأ زيد راجعا إلى الكوفة، فاجتمع إليه من بها من الشيعة، وبلغ يوسف بن عمر، فوثب بينهم وكانت بينهم ملحمة، ثم قتل زيد بن علي، وحمل على حمار، فأدخل الكوفة، ونصب رأسه على قصبة، ثم جمع فأحرق وذري نصفه في الفرات ونصفه في الزرع، وقال: والله، يا أهل الكوفة، لادعنكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم. وكان مقتل زيد سنة 121. ولما قتل زيد، وكان من أمره ما كان، تحركت الشيعة بخراسان، وظهر أمرهم، وكثر من يأتيهم ويميل معهم، وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني أمية، وما نالوا من آل رسول الله، حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر، وظهرت الدعاة ورئيت المنامات وتدورست كتب الملاحم، وهرب يحيى بن زيد إلى خراسان، فصار إلى بلخ، فأقام بها متواريا، وكتب يوسف إلى هشام بحاله، فكتب إلى نصر بن سيار بسببه، فوجه نصر جيشا إلى بلخ، عليهم هدبة بن عامر السعدي، فطلبوا يحيى حتى ظفروا به، فأتوا به نصرا، فحبسه في قهندز مرو. وبلغ هشاما اضطراب خراسان، وكثرة من بها، فكتب إلى يوسف بن عمر: ابعث إلي برجل له علم بخراسان ! فبعث إليه بعبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي، فسأله عن أمر خراسان وأهلها ومن بها ممن يصلح أن يولاها، فسمى له جماعة من قيس وربيعة، فكان إذا سمى رجلا من ربيعة قال: إن


[ 327 ]

ربيعة لا يسد بها الثغور ! فسمى نصر بن سيار الليثي، فقال: كأنه نصر وسيار، فقال: يا غلام اكتب عهده، فكتب العهد، وأمره أن يعاجل يوسف بن عمر، وكان نصر بن سيار قبل ذلك تولى كورة من كور خراسان، فعزل جعفر بن حنظلة وولي البلد. وكان يوسف أخذ عمال خالد فحبسهم، وكان ممن أخذ: عيسى بن معقل العجلي، وعاصم بن يونس العجلي، وكان أبو مسلم، واسمه ابراهيم بن عثمان، قبل أن يسميه محمد بن علي عبد الرحمن، يخدم عيسى بن معقل، وقد سمعهم يتكلمون في دعوة بني هاشم حتى فهم الامر، وقد ارتحل سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب يريدون مكة، فدخلوا السجن إلى عيسى بن معقل، وعاصم بن يونس، فرأوا أبا مسلم يختلف إليهم، ويذاكرهم هذا الامر، فأخرجوه معهم، وأدخلوه إلى محمد بن علي فكلمه، وقال: إني لاحسب هذا الغلام صاحبنا بل هو هو، فاقبلوا قوله، وانتهوا إلى أمره، واستوصوا به، فإنه صاحب الامر لا شك فيه. وبعض أهل العلم بالدولة يقول: إن أبا مسلم لم يلحق محمد بن علي، إنما لقي ابنه ابراهيم بن محمد بن علي. وكان يزيد بن عبد الملك جعل ولاية العهد لابنه الوليد بن يزيد، فكانت الملاحاة لا تزال تجري بينه وبين هشام، فدخل الوليد يوما إلى هشام، فلم يجده في مجلسه، ووجد فيه خاله ابراهيم بن هشام بن اسماعيل المخزومي، فقال له الوليد: من الرجل ؟ متجاهلا به، فغضب ابن هشام، وقال: من لم يتم لجدك شرف إلا بمصاهرته. قال: وإنك لتقول هذا، يا ابن اللخناء ! وتنازعا كلاما قبيحا، وخرج هشام، وقد سمع الكلام، فأمسكا، ولم يقم إليه الوليد، فقال له هشام: كيف أنت يا وليد ؟ قال: صالح. قال: ما فعلت طنابيرك ؟ قال: مغلمة. قال: ما فعل جلساؤك جلساء السوء ؟ قال: عليهم لعنة الله ان كانوا شرا من جلسائك. قال: أقيموه، فأخذ بيده، وأقيم من مجلسه.


[ 328 ]

وكان هشام من أحزم بني أمية وأرجلهم، وكان بخيلا، حسودا، فظا، غليظا، ظلوما، شديد القسوة، بعيد الرحمة، طويل اللسان، وفشا الطاعون في أيامه حتى هلك عامة الناس وذهبت الدواب والبقر، وكان الغالب عليه الابرش ابن الوليد الكلبي، وصاحب شرطه كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه الربيع ابن زياد بن سابور، وحاجبه الحريش مولاه، وعمل الخز الرقم وغيره، والوشي والارمني وأصناف الثياب، وكانت ولايته عشرين سنة إلا خمسة أشهر، وتوفي يوم الاربعاء لتسع خلون من شهر ربيع الاول سنة 125، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، ومنع وكلاء الوليد بن يزيد من الخزائن، فلم يوجد له كفن حتى كفنه خادم له، وقيل: بل كفنه الابرش الكلبي، فصلى عليه العباس بن الوليد، وقيل: بل الابرش الكلبي، ودفن بالرصافة. وخلف من الولد عشرة: مسلمة، ويزيد، ومحمدا، وعبد الله، وسليمان، ومروان، ومعاوية، وسعيدا، وعبد الرحمن، وقريشا. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 105 ابراهيم بن هشام، سنة 106 هشام ابن عبد الملك، سنة 107 ابراهيم بن هشام، وفي سني 108، 109، 110، 111 و 112 ابراهيم أيضا، سنة 113 سليمان ابنه، سنة 114 خالد بن عبد الملك ابن الحارث بن الحكم، سنة 115 محمد بن هشام بن اسماعيل، سنة 116 الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، سنة 117 خالد بن عبد الملك بن الحارث.. 1، سنة 119 أبو شاكر مسلمة بن هشام، سنة 120 وسنة 121 وسنة 122 محمد ابن هشام بن اسماعيل، سنة 123 يزيد بن هشام، سنة 124 محمد بن هشام ابن اسماعيل. وغزا بالناس في ولايته سنة 106، غزا معاوية بن هشام، وبعث بالوضاح صاحب الوضاحية فأحرق الزرع والقرى لان الروم حرقوا المرعى، وغزا الصائفة اليسرى سعيد بن عبد الملك، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي اللان، سنة 107


1 بياض في الاصل (*)

[ 329 ]

معاوية أيضا، سنة 108 مسلمة بن عبد الملك على الصائفة اليمنى، وعاصم بن يزيد الهلالي على الصائفة اليسرى، سنة 109 معاوية بن هشام، ومعه البطال على مقدمته، فافتتح خنجرة، وغزا مسلمة الترك، فأخذ عليهم باب اللان، ولقي خاقان، سنة 111 معاوية بن هشام على الصائفة اليسرى، وسعيد بن هشام على الصائفة اليمنى، وسارت الترك إلى اذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو الطائي، فهزمهم، سنة 112 صار الترك إلى أرض أردبيل، فغزاهم الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقي ملك الترك، فقتله، وغزا معاوية بن هشام الروم فلم يمكنه دخول بلادهم، فرابط بالعمق (بالعسق) من ناحية مرعش، سنة 114 معاوية بن هشام ومسلمة بن عبد الملك، سنة 115 معاوية وسليمان ابنا هشام، وعلى المقدمة عبد الله البطال، فلقي قسطنطين فأسره، وهزم الروم، سنة 116 معاوية بن هشام، سنة 117 معاوية وسليمان ابنا هشام، وغزا مروان بن محمد بلاد الترك… 1 مروان بن محمد، سنة 121 مسلمة بن هشام بلغ ملطية، سنة 122 مروان ابن محمد ناحية أرمينية، وسليمان بن هشام ناحية ملطية، سنة 123 سليمان بن هشام الصائفة، ومروان بن محمد جيلان وموقان من أرض أرمينية، سنة 124 سليمان بن هشام، فلقي أليون طاغية الروم وارطباس، فانصرف، ولم يكن بينهم حرب، سنة 125 الغمر بن يزيد بن عبد الملك. وكان الفقهاء في أيامه سالم بن عبد الله بن عمر الهيثم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، محمد بن كعب القرظي، نافعا مولى عبد الله ابن عمر، عاصم بن عمر بن قتادة، محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، طاووسا اليماني، ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عطاء بن أبي رباح، عمرو بن دينار، عبد الله بن أبي نجيح، حبيب بن أبي ثابت، عبد الملك ابن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي، القاسم بن عبد الرحمن، عبيدالله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، سماك بن حرب الذهلي، الحكم بن عيينة الكندي، حماد


1 بياض في الاصل (*)

[ 330 ]

ابن أبي سليمان، أبا معشر زياد بن كليب، طلحة بن مصرف الهمداني، نعيم بن أبي هند الاشجعي، أشعث بن أبي الشعثاء، سعيد بن اسبوع، أبا حازم لاعرج، قتادة بن دعامة السدوسي، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يزيد بن عبد الله بن الشخير، عبد الرحمن بن جبير، مكحولا الدمشقي، راشد بن سعد المقرئ، ميمون بن مهران، أبا قبيل المعافري، يزيد بن الاصم.


[ 331 ]

ايام الوليد بن يزيد وملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي، وأتته الخلافة وهو بدمشق بعد وفاة هشام بعشرة أيام، وكان ذلك يوم الجمعة لعشر بقين من شهر ربيع الاول سنة 125، وكانت الشمس يومئذ في الدلو ستا وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والقمر في السنبلة خمس درجات وعشرين دقيقة، والمريخ في الجدي أربع درجات، والزهرة في الجدي ست عشرة درجة وخمسا وأربعين دقيقة، وعطارد في الحوت اثنتي عشرة درجة وعشر دقائق، والرأس في الدلو إحدى عشرة درجة وخمسا وأربعين دقيقة. وعزل الوليد عمال هشام وعذبهم أنواع العذاب، خلا يوسف بن عمر الثقفي عامل العراق، وذلك أنه وجد في ديوان هشام كتبا من العمال يقومون عزمه في خلع الوليد، إلا يوسف، فإنه أشار عليه ألا يفعل، فأقره على عمله، وكتب إليه في خالد بن عبد الله القسري، فلم يزل يوسف يعذبه… 1. وعقد لابنه الحكم بولاية العهد بعده، وولاه دمشق، وعقد من بعده لعثمان ابنه، وولاه حمص، وضم إليه ربيعة بن عبد الرحمن الفقيه، وجعله قائما بأمره. وعزل ابراهيم بن هشام بن اسماعيل المخزومي، خال هشام، عن المدينة ومكة والطائف، وولى خاله يوسف بن محمد الثقفي المدينة ومكة. وكان نصر بن سيار لما أخذ يحيى بن زيد بن علي بن الحسين في أيام هشام صار به إلى مرو، فحبسه في قهندز مرو، وكتب إلى هشام بخبره، فوافق ورود كتابه موت هشام، فكتب إليه الوليد: أن خل سبيله، وقيل: بل احتال يحيى


1 بياض في الاصل (*)

[ 332 ]

ابن زيد حتى هرب من الحبس، وصار إلى بيهق من أرض ابرشهر فاجتمع إليه قوم من الشيعة، فقالوا: حتى متى ترضون بالذلة ؟ واجتمع معه نحو مائة وعشرين رجلا، فرجع حتى صار إلى نيسابور، فخرج إليه عمرو بن زرارة القسري، وهو عامل نيسابور، فقاتل يحيى، فظهر يحيى عليه، فهزمه وأصحابه، وأخذوا أسلحتهم، ثم اتبعوهم حتى لحقوا عمرو بن زرارة فقتلوه. وسار يحيى يريد بلخ، فوجه إليه نصر بن سيار سلم بن أحوز الهلالي، فسار سلم حتى صار إلى سرخس وسار يحيى حتى صار إلى باذغيس، وسبق إلى مرو الروذ، فلما بلغ نصرا ذلك سار إليه في جموعه، فلقيه بالجوزجان فحاربه محاربة شديدة، فأتت نشابة فوقعت في يحيى، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وقاتل أصحابه بعده، حتى قتلوا عن آخرهم. وقدم في هذه السنة سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب، وهم رؤساء دعاة بني هاشم، على محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بأموال وهدايا، ومعهم أبو مسلم، فقال لهم محمد: لن تلقوني بعد وقتي هذا، وأنا ميت في سنتي هذه، وكان ذلك في أول سنة 125، وصاحبكم ابني ابراهيم مقتول، فإذا قضى الله فيه قضاءه، فصاحبكم عبد الله بن الحارثية، فإنه القائم بهذا الامر، وصاحب هذه الدعوة الذي يؤتيه الله الملك، ويكون على يده هلاك بني أمية، وأخرجه إليهم حتى رأوه، وقبلوا يديه ورجليه، وقال لهم: إن عبد الرحمن صاحبكم، يعني أبا مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه القائم بهذه الدولة. وتوفي محمد بن علي في آخر سنة 125، وهو ابن سبع وستين سنة، فلما بلغ القوم وفاة محمد بن علي، قدموا على ابراهيم بأبي مسلم وأعلموه أنه صاحب أمرهم أمره عليهم، ثم قال لقحطبة بن شبيب: وأنت والله الذي تلقى نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، فتهزمهما، وتقاتل عساكرهما، ويفتح الله لك حتى تصير إلى الفرات لا ترد لك راية.


[ 333 ]

فخرجوا إلى خراسان، وقد وقعت العصبية بين مضر واليمن، وذلك أن نصر بن سيار تحامل على اليمن وربيعة، وقدم المضرية، فوثب به جديع ابن علي الكرماني الازدي، وكان رئيس الازد يومئذ ورجلهم، وقال له: لا ندعك وفعلك، ومالت معه اليمانية وربيعة، فأخذه نصر فحبسه، فأتت اليمن وربيعة حتى أخرجوه من مجرى كنيف، ثم اجتمعوا عليه، ورام نصر أن يخدعه فيصير إليه، فلم يفعل، وكان في نصر بعض الخرق، فلما علم جديع أن اليمن وربيعة قد اجتمع رأيهما معه على نصر بن سيار، وثب به فحاربه، وكان له العلو على نصر، فمال أبو مسلم إلى الكرماني، فقال له: ادع إلى آل محمد ! وجعل يمايل أصحابه، ويدعوهم إلى ذلك، حتى أظهروا دعوة بني هاشم بخراسان. وكان عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي، ويزيد بن عرار، لما قتل الحكم ابن عوانة عامل السند، تنازعا خلافته، فكتب هشام إلى يوسف بن عمر في ذلك، فمال يوسف بالثقفية إلى عمرو بن محمد بن القاسم، فولاه، فلما ولي الوليد عزل عمرو بن محمد بن القاسم عن السند، وولى يزيد بن عرار، فغزا ثماني عشرة غزاة، وكان ميمون النقيبة. واضطربت البلدان كلها، وكان الوليد مهملا لامره، قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملاه وقيان وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن أمور الناس، وشرب ومجون، فبلغ من مجونه أنه أراد أن يبني على الكعبة بيتا يجلس فيه للهو، ووجه مهندسا لذلك، فلما ظهر هذا منه مع قتله خالد بن عبد الله القسري وتعذيبه ابراهيم ومحمد ابني هشام حتى ماتا، واستذمامه إلى الناس وإلى أهل بيته، ومن كان في ناحيتهم من العرب، استعمال يزيد بن الوليد بن عبد الملك جماعة من أهل بيته، فمايلوه على خلع الوليد، وشايعه على ذلك بنو خالد بن عبد الله القسري وجماعة من اليمانية إلى البيعة ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، واجتمع إليه جماعة، وخرج مولى للوليد، فعرفه الخبر، فضربه مائة سوط،


[ 334 ]

وزحف إليه يزيد بن الوليد رويدا رويدا إلى قرية تعرف بالبخراء، فنزل قصرا بها بعساكره يتلو بعضها بعضا، فقاتلوه، فقاتلهم حتى قتل، فابتدره الناس بأسيافهم، فاحتزوا رأسه، وقطعوا يده، فنصب رأسه بدمشق. وكان قتله لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة 126، وكانت ولايته سنة وخمسة أشهر، وكان على شرطه عبد الرحمن بن حميد الكلبي، وعلى حرسه قطري مولاه، وحاجبه قطن مولاه، وخلف من الولد الذكور أربعة عشر ذكرا: عثمان، ويزيد، والحكم، والعباس، وفهرا، ولؤيا، والعاص، وموسى، وقصيا، وواصلا، وذؤابة، وفتحا، والوليد، وسعيدا. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 125 محمد بن موسى الثقفي.


[ 335 ]

ايام يزيد بن الوليد بن عبد الملك وملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وأمه شاهفريد بنت فيروز بن كسرى، مستهل رجب سنة 126، بعد قتل الوليد بخمس، وكانت الشمس يومئذ في الحمل إحدى عشرة درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الحوت عشرين درجة، وزحل في السنبلة عشرين درجة، والمشتري في الجوزاء ثلاث درجات وخمسين دقيقة، والمريخ في الجوزاء خمسا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في الجدي عشر درجات، وعطارد في الحمل إحدى وعشرين درجة وثلاثين دقيقة: ونقص الناس من أعطائهم، فسمي يزيد الناقص، واضطربت عليه البلدان، فكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد بقنسرين، وعمر بن الوليد بالاردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين. وساعد العباس أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وسليمان بن هشام. وبايع لاخيه ابراهيم بن الوليد بولاية العهد من بعد ثلاثة أيام من ولايته، ووجهه إلى الاردن، وقد أمروا عليهم محمد بن عبد الملك، فوافقوه، فأرسل إليهم عبد الرحمن بن مصاد يقول لهم: علام تقتلون أنفسكم ؟ أقبلوا إلينا نجمع لكم الدنيا والآخرة، وأنا أضمن لكل رجل منكم ألف دينار، فافترقوا. وكانت ولايته خمسة أشهر، والفتنة في جميع الدنيا عامة، حتى قتل أهل مصر أميرهم حفص بن الوليد الحضرمي، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي، وأخرج أهل المدينة عاملهم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. وغلب على أمره يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وكان على شرطه يزيد بن الشماخ اللخمي، وعلى حرسه سلام مولاه، وحاجبه جبير مولاه،


[ 336 ]

وكان في بيت مال الوليد يوم قتل سبعة وأربعون ألف ألف دينار، ففرقها يزيد عن آخرها، وكان قدريا، وتوفي لانسلاخ ذي القعدة، وصلى عليه ابراهيم بن الوليد، ودفن بدمشق، وقيل إن أخاه ابراهيم سقاه السم. وأقام الحج في تلك السنة، وهي سنة 126، عمر بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقيل… 1 إن الحجاج بن عبد الملك… 2 ووثب ثابت بن نعيم الجذامي على مروان، وهو بأرمينية، فظفر به مروان، فمن عليه، وانصرف مروان من أرمينية، واستخلف عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، واستخلف على الباب والابواب اسحاق بن مسلم العقيلي، ثم جمع أرمينية لاسحاق بن مسلم العقيلي. 1 و 2 بياض في الاصل (*)


[ 337 ]

ايام إبراهيم بن الوليد ثم ملك ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم ولد، يقال لها سعار، في اليوم الذي توفي فيه يزيد بن الوليد، فأقام أربعة أشهر، وقدم مروان بن محمد بن مروان من أرمينية خالعا له، فلما صار بحران دعا إلى نفسه، فبايع له أهل الجزيرة سرا، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة، فلقي بشرا ومسرورا ابني الوليد بن عبد الملك معسكرين بحلب، فهزم عسكريهما، وأسرهما ثم مضى حتى أتى حمص وعليها عبد العزيز. وبلغ ابراهيم الخبر، فوجه إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فلقي مروان ومن معه من أهل الجزيرة وقنسرين وحمص، فالتقوا بعين الجر من عمل دمشق، فتناوشوا القتال يوم الاربعاء لسبع خلون من صفر سنة 127، وانصرف بعضهم عن بعض، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام وأصحابه، فلحقوا بابراهيم، وأقبل مروان حتى نزل دير العالية، فبايع له أهل دمشق، ودخلها، فخلع ابراهيم نفسه، وبايع لمروان يوم الاثنين للنصف من صفر سنة 127، ولم يزل مع مروان حتى غرق بالزاب، في وقعة عبد الله بن علي.


[ 338 ]

ايام مروان بن محمد بن مروان ودعوة بني العباس وملك مروان بن محمد بن مروان، وأمه أم ولد يقال لها ريا، في صفر سنة 127، وبايع له من بدمشق من بني أمية وغيرهم، وكتب إلى عمال البلدان فأتته كتبهم بالسمع والطاعة والانقياد، وأتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على المعصية، فسار إليهم، واستخلف بدمشق عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فحاصرهم حتى فتح المدينة، وهرب منه السمط بن ثابت بن الاصبغ ابن ذوالة، وأسر معاوية بن عبد الله السكسكي. وأتاه الخبر أن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري قتل يوسف بن عمر الثقفي، وكان يوسف محبوسا، فلما رأى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك اضطراب أمر مروان بن محمد أمر يزيد بن خالد بن عبد الله القسري بالمضي إلى السجن، وأمره أن يقتل يوسف بن عمر، ويقتل عثمان والحكم ابني الوليد بن يزيد، ففعل ذلك. وأراد مروان أن يرجع، فأتاه الخبر أن الضحاك بن قيس الحروري قد غلب على ناحية العراق، وحارب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وأنه قد صار إلى الجزيرة، وجاز الموصل، فصار إلى نصيبين، وبها عبد الله بن مروان، فحاصره، وكان عامل إسحاق بن مسلم بالباب والابواب رجلا يقال له مسافر، وكان يرى رأي الخوارج، فكتب إليه الضحاك بعهده على أرمينية، وكان أهلها قتلوا عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي عامل أرمينية، فتوجه إليها، وصار مروان إلى حران، فابتنى بها منزله في موضع يقال له: دباب البين، وبلغ الضحاك خبره، فأقبل نحوه، فمر بالموصل، فحصرها، ثم كره أن يطول الامر به، فنفذ إلى نصيبين، فحصرها، ثم نفذ إلى حران حتى واقف


[ 339 ]

مروان، فحاربه محاربة شديدة، وظفر الضحاك عليه مرارا حتى عزله سريره، وجلس عليه، ثم قتل الضحاك سنة 127، وافترق الخوارج فرقا. وصار سليمان بن هشام بن عبد الملك ومن هرب من اليمانية من أصحاب يزيد ابن خالد بن عبد الله معهم، وسار سليمان بن هشام بن عبد الملك يريد الشأم، فلقيه مروان بخساف، فهزمه، ومضى سليمان، وأصحاب الضحاك عليهم الخيبري، فسار في عسكر عظيم، فلقي مروان فقتله مروان، فولت الخوارج أمرها أبا الذلفاء الشيباني، فرجع بأصحابه إلى الموصل، واتبعه مروان، فقاتله شهرا، ثم انهزم أبو الذلفاء، فوجه مروان خلفه عامر بن ضبارة المري، فصار أبو الذلفاء إلى عمان، فقتل، قتله الجلندي بن مسعود الازدي، فخرج أبو عبيدة خليفة الضحاك إلى الكوفة، فولى مروان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري العراق، فقدمها سنة 128، فقتل خليفه الضحاك، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الاردن، فوجه إليه مروان بالرماحس بن عبد العزيز، وولى عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك المدينة ومكة. وقدم مكة ليقيم الحج، ووافت الحرورية، ومعهم أبو حمزة المختار بن عوف الحروري الازدي، حتى وقفوا على جبل عرفات، وكان أبو حمزة من قبل عبد الله بن يحيى الكندي الذي يسمى طالب الحق، فلما وقفوا بعرفات أرعبوا الناس وأخافوهم، فأرسل إليهم عبد الواحد يعظم عليهم البلد الحرام والايام العظام ويوم الحج الاكبر، فوادعوهم يوم عرفة وأربعة أيام، وصاروا إلى منى فعسكروا ناحية منها، فلما انصرفوا لحق عبد الواحد المدينة، فدعا الناس إلى الديوان، ووجه بالجيش وعليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان بقديد في صفر سنة 130، فقتل عبد العزيز ومن معه من أهل المدينة، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا عليهم الحرورية. وقدمت الحرورية المدينة لعشر بقين من صفر، وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وغلب أبو حمزة على المدينة، وخطبهم خطبة مشهورة،


[ 340 ]

وكان أهل المدينة يصلون خلفه، ويعيدون الصلاة، ثم ساروا يريدون الشأم، ولقيهم خيل لمروان عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، فأوقعوا بهم بوادي القرى، فزحف الحرورية منهزمين إلى المدينة، فخرج إليهم أهل المدينة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ووافاهم ابن عطية، فانهزموا، فاتبعهم إلى مكة، ثم اتبعهم إلى اليمن حتى قتل عبد الله بن يحيى، ودنوا من صعدة فقتل فيهم حتى وطئ الناس عليهم، ثم دخلوا صنعاء، فأتاه كتاب مروان بتولية الموسم، فخرج، فلما صار في بعض الطريق توفي في عسكره. وأراد مروان أن ينفذ إلى العراق، فأتاه خبر أهل حمص أنهم عصوا، فصار إليهم، فوضع عليها المنجنيق حتى هدم سورها، فطلبوا الامان، فآمنهم إلا ثلاثة نفر لم يؤمنهم وقتلهم. وكان منصور بن جمهور لما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة العراق هرب حتى أتى السند، وكان ابن عرار عامل السند قرابة له، فصار خلف النهر، وأرسل إليه ابن عرار ألا تبرح مكانك ! فرد عليه: إنما أردت المقام قبلك، فلا وصل الله رحمك، ولا قرب قرباك، وستعلم بعد، ثم عمل المراكب بسدوسان وحملها على الابل حتى ألقاها في مهران، ثم لقي ابن عرار، فحاربه حتى هزمه إلى المنصورة، وحصره منصور بن جمهور، فطلب ابن عرار الامان، فقال: لا أعطيك الامان إلا حكمي، فنزل على حكمه، فأمر فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي، وأقام منصور بالمنصورة، وبعث أخاه منظورا إلى قندابيل والديبل. ولم يزل منصور مقيما بالسند حتى ظهر أبو مسلم بخراسان، ووجه أبو مسلم برجل يقال له مغلس من أهل سجستان إلى السند، فلما أظلهم وثب أصحاب منظور أخي منصور بن جمهور، فقتلوه، وكتبوا إلى مغلس فأتاهم، فلقيه منصور بن جمهور، فقاتله، فهزمه، وأسر مغلس، فأتى به منصور، فقتله وقتل أكثر قتلة أخيه. واشتدت شوكة الكرماني بخراسان، ودامت الحرب بينه وبين نصر بن


[ 341 ]

سيار، وظهر الكرماني على نصر بن سيار، وكان أبو مسلم الغالب على أمر الكرماني، فحدثني جماعة من أشياخنا أن أبا مسلم كان يقول: إذا التقى الكرماني ونصر بن سيار للقتال اللهم افرغ عليهما الصبر، وانزع عنهما النصر. وطعن الكرماني فقتل، وصلبه نصر، وغلب أبو مسلم على عسكره، وظهر أمره، واستكنف (واستكثف) جمعه، وجاد نصر بن سيار القتال حتى فله مرارا، وأظهر دعوة بني هاشم، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 129. ووثب سليمان بن حبيب بن المهلب بالاهواز، فوجه إليه يزيد بن عمر ابن هبيرة نباتة بن حنظلة الكلابي، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم سليمان، فلحق بفارس، فوجه يزيد بن عمر عامر بن ضبارة المري إلى فارس. وضعف أمر نصر بن سيار بخراسان، وقوي أمر أبي مسلم، فكتب نصر إلى مروان يصف له حاله، وضعف من معه، وقوة أبي مسلم، وظهوره، وكتب في آخر كتابه: أرى بين الرماد وميض جمر * ويوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تورى * وإن الفعل يقدمه الكلام أقول من التعجب ليت شعري * أأيقاظ أمية أم نيام ؟ فكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة عامله على العراق أن يمد نصر بن سيار بالرجال، فقعد يزيد، ثم تابع مروان الكتب إليه بالوعيد، فوجه بابنه داود بن يزيد في جيش عظيم، فيه عامر بن ضبارة المري، والجويرية بن اسماعيل، ونباتة بن حنظلة الكلابي، وكان داود بن يزيد بن عمر حدث السن، فكتب مروان إلى ابن هبيرة ينكر عقده لابنه داود لحداثة سنة، ويأمره أن ينفذ إليه من يحل لواءه، ويعقد لعامر بن ضبارة المري على الجيش، ففعل ابن هبيرة ذلك، ونفذ الجيش، وعلى المقدمة نباتة بن حنظلة الكلابي. وطلب مروان ابراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لما بلغه أن


[ 342 ]

دعوة أبي مسلم له، وأنه الذي يؤهل لهذا الامر. فحدث عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: كنت مع أبي جعفر عبد الله بن محمد بالحميمة ؟، ومعه ابناه جعفر، ومحمد، وهما صبيان، فأنا أداعبهما وألاعبهما فقال لي: أي شئ تصنع بهذين الصبيين، أما ترى ما نحن فيه ؟ فنظرت، فإذا رسل مروان تطلب ابراهيم بن محمد، فقلت: دعني أخرج ! فقال: تخرج من بيتي، وأنت ابن عمار بن ياسر ؟ قال: فأخذوا بأبواب المسجد، وأشير لهم إلى إبراهيم ليأخذوه، وقد كان وصف لهم بصفة أبي العباس، وأبو العباس الموصوف بقتلهم، فلما أتي به إلى مروان قال: ليس هذه الصفة ! فقال الرسول: قد والله رأيت الصفة، ولكن قلت: ابراهيم بن محمد، وهذا ابراهيم بن محمد، فردهم في طلب أبي العباس، فوجدوه قد تغيب، فأمر مروان بإبراهيم فغطي وجهه بقطيفة، حتى مات، وقيل: بل أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات، وفيه يقول ابن هرمة: وكنت أحسبني جلدا فضعفني * قبر بحران فيه عصمة الدين فيه الامام الذي عمت مصيبته * وعيلت كل ذي مال ومسكين وأظهر أبو مسلم الدعوة لبني هاشم، وطلب نصر بن سيار منه المتاركة، وسأله الموادعة، فوجه إليه لاهز بن قريظ في جماعة من أصحابه، وكان لاهز ابن قريظ أحد النقباء، فأمره أن يحضر ليبايع، فدخل لاهز عليه فقال: أجب الامير ! ثم تلا: إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين. فقال نصر: ادخل إلى بستاني واخرج إليهم، فدخل إلى بستان له، فركب دوابه، ومضى هاربا، فمات بقرية يقال لها ساوة، وأخذ أبو مسلم لاهز بن قريظ، فضرب عنقه. وقدم إلى نيسابور في شهر رمضان، أو شوال، ووجه عماله، فاستعمل سباع بن معمر الازدي على سمرقند، واستعمل أبا داود خالد بن ابراهيم على


[ 343 ]

طخارستان، وجعل أبا نصر مالك بن الهيثم الخزاعي على شرطه، ووجه محمد ابن الاشعث الخزاعي إلى الطبسين وفارس، ووجه الحسن بن قحطبة على مقدمته، ثم قدم قحطبة بن شبيب، ومعه عهد ابراهيم بن محمد بن علي، وسيرة يعمل عليها، فأمضى أبو مسلم له ذلك ووجهه لقتال جند بني أمية، فسار قحطبة حتى أتى جرجان، فلقي نباتة بن حنظلة، فنشبت الحرب، فقتل نباتة، وهزم جنده، واحتوى على ما في عسكره، وصير الغنائم إلى خالد بن برمك، فقسمها بين أصحابه. وأقام قحطبة إلى غرة المحرم سنة 131، ثم وجه بابنه الحسن بن قحطبة إلى قومس على مقدمته، ولحقه فوجهه من الري إلى همذان، ووجه العكي إلى قم وأصبهان، وسار قحطبة حتى صار إليها وفيها عامر بن ضبارة المري، فأرسل إليه يدعوه إلى بيعة آل محمد، فأرسل إليه ابن ضبارة: يا علوج ! أما والله إني لارجو أن أقرنكم في الحبال ! وكان في أربعين ألفا من أهالي الشأم، فواقعه قحطبة، فقتله، وقتل من كان معه من أصحابه، فلم ينج منهم إلا القليل، فهربوا إلى ابن هبيرة، وهو إذ ذاك بجلولاء. وصار قحطبة إلى نهاوند وبها أدهم بن محرز الباهلي في جماعة ممن ضوى إليه، فحصرها قحطبة ثلاثة أشهر حتى أفنى أكثرهم، ثم فتحها، وسار إلى حلوان، وكان قحطبة يقول: ما من شئ فعلته إلا وقد خبرني به الامام إلا أنه أعلمني ألا أعبر الفرات. ووجه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد إلى شهرزور، فلقي عثمان بن زياد فهزمه واستباح عسكره. قال حميد بن قحطبة: حدثني أبي قال: دخلت مسجد الكوفة أيام بني أمية، وعلي فرو غليظ، فجلست إلى حلقة، وشيخ في صدر القوم يحدثهم، فذكر أيام بني أمية، وذكر السواد ومن يلبسه فقال. يكون ويكون، ويخرج رجل يقال له قحطبة، كأنه هذا الاعرابي، وأشار إلي،


[ 344 ]

ولو أشاء أن أقول هو هو لقلت. قال قحطبة: فخفت على نفسي، فتنحيت ناحية، فلما انصرف كلمته، فقال: لو شئت أن أقول إنك أنت هو لقلت. فسألت عنه فقيل لي: هو جابر بن يزيد الجعفي. وكان ابن هبيرة بواسط العراق، فتحصن بها، وأدخل الطعام والانزال، وانصرف إليها فلال العساكر. وقدم قحطبة العراق فوافى به عسكرا ليزيد بن هبيرة واستباحه، وصار إلى الزاب، وهو من الفلوجه العليا، على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة، فلقي يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الخميس لسبع خلون من المحرم سنة 132، فاقتتلوا ساعة من الليل، ثم انهزم ابن هبيرة، حتى رجع إلى واسط، فتحصن بها، فلما فرغ قحطبة من قتاله قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: أيها الناس، إنا والله ما خرجنا إلا لاقامة الحق وإزالة دولة الباطل، وقد أعلمتكم أن الامام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أعلمني أن ألقى نباتة بن حنظلة الكلابي، وعامر بن ضبارة المري، فأهزمهما وأستبيح عسكرهما، وأقتل مقاتلتهما، وأنبأتكم بذلك قبل كونه، وقد رأيتم صدق ما خبرتكم، وإن الامام أعلمني أن لا أعبر الفرات، وإنكم تعبرونه، فلا يفقد من الجيش أحد غيري، وانه والله لا كذب فيما قال، فإذا فقدتموني فأمير الناس حميد بن قحطبة، فإن غاب فالحسن بن قحطبة، والسلام على من اتبع الهدى، ورحمة الله وبركاته. فلما كان السحر عبروا الفرات، وكان في أيام المد وكثرة الماء، فلما أصبحوا فقدوا قحطبة، فلم يعرفوا له خبرا، وقالوا: غرق، وقالوا: سقط عليه جرف، وقالوا: غار به فرسه، وكان أبو مسلم قد كتب إليه… 1 من الكوفة: إني قد أعددت لك من المنازل، فكتب إليه قحطبة: أيها الوزير لئن لقيتك إذا إن لبني أمية بعد لبقاء. وانهزم ابن هبيرة بعد أن غرق قحطبة، فلما بلغ مروان الخبر قال: هذا


1 بياض في الاصل. (*)

[ 345 ]

والله الادبار، وإلا فمن سمع بميت يهزم حيا ؟ وسار حميد بن قحطبة حتى دخل الكوفة بعدما فقد قحطبة بأربع ليال، وقد أخذ محمد بن عبد الله القسري الكوفة لبني هاشم، وأظهر دعوتهم، وشرد من كان بها من بني أمية وأصحابهم، وأظهر السواد، وغلب سفيان بن معاوية ابن يزيد بن المهلب على البصرة وسود، و دعا إلى بني هاشم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، واستعمل العمال، ووجه الحسن بن قحطبة إلى ابن هبيرة، وأتبعه بمالك بن الهيثم، وأمرهما أن يحاصراه، فأناخ الحسن على المدينة الغربية، ومالك على الشرقية، ووجه هشام بن ابراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة، وكان عامل أخيه على الاهواز، فقاتله حتى فض جمعه، ثم انهزم عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، فلحق بسلم بن قتيبة الباهلي، وهو عامل يزيد بن عمر على البصرة. وقدم أبو العباس وإخوته وأهل بيته الكوفة في المحرم سنة 132، فصيرهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد في بني أود، وكتم أمرهم، فلم يطلع على خبرهم أحد، فأقاموا في تلك الدار شهرين، حتى لقي أبو حميد غلاما لهم، فسأله عنهم، فأخبره بسوء ضعفهم، فصار إليهم وهم في سرداب، فقال: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية ؟ فأشير له إلى أبي العباس، فسلم عليه بالخلافة، فمضى، فأحضر أصحابه، وأخرج أبا العباس، وبايع الناس له، فلما بلغ أبا سلمة الخبر جاءهم ركضا حتى لحقهم، فقال له: عجلتم، وأرجو أن يكون خيرا. وصار أبو العباس إلى المسجد، فخطب وصلى. ووجه أبو العباس عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لقتال مروان، فلقيه بالزاب بالقرب من الموصل، وإنما كان قصد مروان إلى الزاب لان بني أمية كانت تروي في ملاحمها أن المسودة لا يجوز سلطانهم الزاب، فكانوا يتوهمون أنه زاب الموصل، فقصده مروان، وهو يرى أنه لا يجوزه، وإنما ذلك زاب بأقاصي الغرب، فحاربه عبد الله بن علي، فهزمه، ثم لم يزل في


[ 346 ]

أثره، وهو منهزم لا يلوي على شئ، حتى أخرجه إلى الجزيرة، ثم أخرجه من الجزيرة إلى الشأم، فجعل لا يمر بجند من أجناد الشأم إلا انتهبوه، حتى صار إلى دمشق، وهو مضمر أن يتحصن بها، فانتهبه أهل دمشق، ووثب عليه من بها من قيس، فدخلها عبد الله بن علي عنوة، وقتل الوليد بن معاوية بن مروان ابن عبد الملك، خليفة مروان بها، ومضى مروان إلى فلسطين هاربا، فلحقه عبد الله بن عبد الملك، فأسره عبد الله بن علي، وأسر معه عبد الله بن يزيد بن عبد الملك، فوجه بهما إلى أبي العباس، فصلبهما بالحيرة. وقدم صالح بن علي عاملا على مصر، وقد هرب مروان إليها، فاتبعه، فألجأه إلى قرية بوصير من كورة اشمون من الصعيد، فلم يزل مواقفا له، والحرب بينهما، ثم أرسل إليه مروان: متى ظفرت بهذا الامر فأوصيك بالحرم خيرا ! فأرسل إليه صالح: يا جاهل ! إن الحق لنا عليك في نفسك، ولك علينا في حرمك. وانصرف عبد الله بن علي راجعا إلى دمشق وصالح في قتال مروان، ثم قتل مروان في المعركة، وصاحب الجيش عمر بن اسماعيل الحارثي، وكانت مدة مروان في ولايته إلى أن قتل خمس سنين، وقتل في ذي الحجة سنة 132، وهو ابن أربع وستين سنة، وقيل: ثمان وستين سنة، وحز رأسه، فلما قور جاءه هر فأخذ لسانه، وحمل الرأس إلى أبي العباس، فلما وضع بين يديه قال: أيكم يعرف هذا ؟ فقال سعيد بن عمرو بن جعدة: هذا رأس مروان ابن محمد بن مروان بن الحكم، خليفتنا بالامس. فأنكر الناس ذلك عليه، فقال أبو العباس: ما أراد الشيخ بهذا القول إلا الوفاء. وكان الغالب على مروان أبو حديدة السلمي، واسماعيل بن عبد الله القسري، وإسحاق بن مسلم العقيلي، وعلى شرطه الكوثر بن الاسود الغنوي، وهو الذي قال له يوما في قتاله: انزل، ويلك ! فقاتل، فأبى أن يفعل، فقال مروان: والله لاسوءنك ! فقال: وودت والله أنك تقدر على ذلك، وكان على حرسه


[ 347 ]

سقلاب مولاه، وحاجبه سليم مولاه. وكان له من الولد الذكور أربعة: عبد الملك، وعبد الله، وعبيدالله، ومحمد، وكان عبد الله وعبيدالله ابنا مروان ليلة قتل مروان توجها نحو الصعيد، ثم صارا إلى بلاد النوبة، وتلاحق بهما جماعة من أصحاب مروان، فصاروا زهاء أربعة آلاف، وتخلف عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بمصر، واستتر حتى دل عليه صالح بن علي. وخرج مع عبد الله وعبيدالله جماعة من نسائهم من البنات والاخوات وبنات العم ماشيات، هائمات على وجوههن، حتى مر رجل من أهل الشأم بصبية ملقاة تنكر، وإذا هي بنت لمروان بنت ست ستين، فحملها معه حتى دفعها إلى عبد الله بن مروان. ووافى القوم بلاد النوبة فأكرمهم عظيم النوبة ثم قالوا: نقر في بعض هذه الحصون التي في بلاد النوبة، فلعلنا نتخذ منها معقلا، ونقاتل من يلينا من العدو، وندعو إلى طاعتنا لعل الله أن يرد علينا بعض ما أخذ منا. فقال لهم عظيم النوبة: إن هذه الاغربة، يريد السودان، كثير عددها، قليل سلبها، وإني لا آمن عليكم أن تصابوا فيقال: أنت قتلتهم. فقالوا: نحن نكتب لك كتابا إنا وردنا بلادك، فأكرمت مثوانا، وأحسنت جوارنا، وجهدت ألا نبرح من عندك، فأبينا حتى خرجنا، ونحن لك شاكرون. ثم خرجوا، فأخذوا في بلاد العدو فكانوا ربما لقوا الجيش من الحبشة، فقاتلوهم حتى صاروا إلى بجاوة، فلقيهم عظيم البجة، فقاتلهم، وانصرفوا يريدون اليمن، فمروا في البلاد، وعرض لعبدالله وعبيدالله طريقان بينهما جبل، فأخذ كل واحد منهما في طريق، وهما يريان أنهما يلتقيان بعد ساعة، فسارا يومهما ذلك، ثم راما الرجوع فلم يقدرا عليه، وسارا أياما، ثم لقي عبيدالله منسرا من مناسر الحبشة، فقاتلهم، وزرقه رجل منهم بمزراق، فقتل عبيدالله، واستأسر أصحابه، فأخذت الحبشة كل ما معهم، وتركوهم، فمروا في البراري على


[ 348 ]

وجوههم عراة حفاة، حتى أهلكهم العطش، فكان الرجل يبول في يده ويشربه، ويبول ويعجن به الرمل ويأكله، حتى لحقوا عبد الله بن مروان وقد ناله من العري والشدة أكثر مما نالهم، ومعه عدة من حرمه عراة حفاة ما يواريهن شئ، قد تقطعت أقدامهن من المشي وشربن البول حتى تقطعت شفاههن، حتى وافوا المندب، فأقاموا بها شهرا، وجمع الناس لهم شيئا، ثم خرجوا يريدون مكة في زي الحمالين. وأقام الحج في أيام مروان في سنتي 127 و 128 عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، سنة 129 عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، ووافى معه الحج أبو حمزة المختار بن عوف الاباضي، صاحب الاعور عبد الله بن يحيى الكندي، والذي يسمي نفسه طالب الحق، سنة 130 عبد الملك بن محمد بن مروان، سنة 131 محمد بن عبد الملك بن عطية السعدي، وقيل هي آخر حجة لبني أمية، ولم يغز في أيام مروان. وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أبا الحويرث المرادي، عمرو بن دينار، صالح بن كيسان، أبا الزناد عبد الرحمن ابن ذكوان، عبد الله بن أبي نجيح، قيس بن سعد، أبا الزبير محمد بن مسلم، ابراهيم بن ميسرة، عبد الملك بن عمير الليثي، سلمة بن كميل، جابر بن يزيد الجعفي، غيلان بن جامع المحاربي، أبا بكر بن نسر بن حرب، يزيد بن عبد الله بن الشخير، سالم الافطس، عبد الكريم الحنفي.


[ 349 ]

ايام أبي العباس السفاح بويع عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكنيته أبو العباس، وأمه ريطة بنت عبيدالله بن عبد الله بن عبدالمدان بن الديان الحارثي، يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول، وقيل: يوم الاربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132، ومن شهور العجم في تشرين الآخر. وكانت الشمس يومئذ في القوس عشر دقائق، والقمر في الدلو إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في العقرب اثنتين وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الاسد سبعا وعشرين درجة، والزهرة في الميزان ثلاثين درجة، وعطارد في العقرب إحدى عشرة درجة وعشرين دقيقة، والرأس في الميزان خمسا وأربعين دقيقة، وكانت بيعته في الكوفة في دار الوليد بن سعد الازدي. وقيل: إن أبا سلمة إنما أخفى أبا العباس وأهل بيته بها، ودبر أن يصير الامر إلى بني علي بن أبي طالب. وكتب إلى جعفر بن محمد كتابا مع رسول له، فأرسل إليه: لست بصاحبكم، فإن صاحبكم بأرض الشراة، فأرسل إلى عبد الله بن الحسن يدعوه إلى ذلك، فقال: أنا شيخ كبير وابني محمد أولى بهذا الامر، وأرسل إلى جماعة بني أبيه، وقال: بايعوا لابني محمد، فإن هذا كتاب أبي سلمة حفص بن سليمان إلي. فقال جعفر بن محمد: أيها الشيخ ! لا تسفك دم ابنك، فإني أخاف أن يكون المقتول بأحجار الزيت،. وأقام أبو سلمة ينتظر انصراف رسله إليه. ومر أبو حميد، فلقي غلام أبي العباس، فدله على موضعه، فأتاه فسلم عليه بالخلافة، ثم خرج فأخبر أصحابه بموضعه، فمضى معه ستة، وهم: أبو الجهم بن عطية، وموسى بن كعب، وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وأبو شراحيل،


[ 350 ]

وعبد الله بن بسام، وأبو حميد سابعهم سرا من أبي سلمة، فسلموا على أبي العباس بالخلافة، وألبسه أبو حميد السواد، وأخرجه، فمضى به إلى المسجد الجامع، وبلغ الخبر أبا سلمة، فأتى ركضا حتى لحقهم، فقال: إني إنما كنت أدبر استقامة الامر وإلا فلا أعمل شيئا فيه. وقد قدمنا ذكر بيعة أبي العباس في أيام مروان، ووصفنا ما عمل من وجه لمحاربة مروان، ووصلنا من الخبر بذلك إلى قتل مروان ما يغني عن إعادته. وكان من قدم إلى الكوفة من بني هاشم اثنين وعشرين رجلا، منهم: داود، وسليمان، وعيسى، وصالح، واسماعيل، وعبد الله، وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس، وموسى بن داود، وجعفر، ومحمد ابنا سليمان، والفضل، وعبد الله ابنا صالح، وأبو العباس، ومحمد ابنه، وجعفر، ومحمد ابنا المنضور، وعيسى بن موسى بن محمد، وعبد الوهاب، ومحمد ابنا ابراهيم، ويحيى بن محمد، والعباس بن محمد. ولما بويع أبو العباس صعد المنبر في اليوم الذي بويع فيه، وكان حييا، فارتج عليه، فأقام مليا لا يتكلم، فصعد داود بن علي، فقام دونه بمرقاة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، وقال: أيها الناس ! الآن تقشعت حنادس الفتنة، وانكشف غطاء الدنيا، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وعاد السهم إلى النزعة، وأخذ القوس باريها، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة بكم، والرحمة لكم، والتعطف عليكم، ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس لكم أن نسير، فنحكم في الخاصة والعامة منكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنه والله أيها الناس ! ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من علي بن أبي طالب، وهذا القائم خلفي، فاقبلوا، عباد الله، ما آتاكم بشكر، واحمدوه على ما فتح لكم، أبدلكم بمروان عدو الرحمن، حليف الشيطان، بالفتى المتمهل الشاب المتكهل، المتبع لسلفه والخلف من أئمته وآبائه، الذين هدى الله، فبهداهم اقتدى مصابيح


[ 351 ]

الدجى، وأعلام الهدى، وأبواب الرحمة، ومفاتيح الخير، ومعادن البركة، وساسة الحق، وقادة العدل. ثم نزل فتكلم أبو العباس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ووعد من نفسه خيرا ثم نزل. وولى أبو العباس الكوفة داود بن علي، فكان أول من ولاه أبو العباس، ووجه بأخيه أبي جعفر إلى خراسان لاخذ البيعة على أبي مسلم، فصار إلى مرو في ثلاثين فارسا، فلم يحتفل به أبو مسلم، ولم يلتقه، واستخف به، فانصرف واجدا عليه، وشكاه إلى أبي العباس، وأعلمه ما نال منه، وكثر عليه في بابه، فقال أبو العباس: فما الحيلة فيه، وقد عرفت موضعه من الامام ومن إبراهيم، وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها ؟ وقدم أبو مسلم على أبي العباس، فأكرمه وأعظمه، ولم يذكر له من أمر أبي جعفر شيئا. ودخل إليه يوما من الايام، وأبو جعفر جالس معه، فسلم عليه وهو قائم، ثم خرج ولم يسلم على أبي جعفر، فقال له أبو العباس: مولاك مولاك لم لا تسلم عليه ؟ يعني أبا جعفر. فقال: قد رأيته، ولكنه لا يقضى في مجلس الخليفة حق أحد غيره. ولما قتل صالح مروان بن محمد وجه برأسه إلى أبي العباس، وحوى خزائنه وأمواله، وحمل أبا عثمان، ويزيد بن مروان، ونسوة من آل مروان وبناته، فما صرن إلى الكوفة أطلق النساء، وحبس الرجال، وأخذ عبد الله بن مروان بمكة، فحمل أيضا، وحبس مع سائر أهله. وولى أبو العباس داود بن علي الحجاز، فقدم، وعامل مروان الوليد ابن عروة بن عطية السعدي مقيم بمكة لم يعلم بأن الناس بايعوا أبا العباس، فلما علم هرب، وقدم داود فخطب خطبة له مشهورة ذكرهم فيها ما فضلهم الله به، فظلم من ظلمهم، ثم قال: إنما كانت لنا فيكم تبعات وطلبات، وقد تركنا ذلك كله، وأنتم آمنون بأمان الله أحمركم وأسودكم، وصغيركم وكبيركم، وقد غفرنا التبعات، ووهبنا الظلامات، فلا ورب هذه البنية لا


[ 352 ]

نهيج احدا ! وضرب بيده إلى الكعبة، فبينا هو يخطب إذ قام سديف بن ميمون، فقال: أصلح الله الامير ! أدنني منك، وأذن لي في الكلام ! فقال: هلم ! فصعد المنبر حتى كان دون داود بمرقاة، ثم أقبل على الناس بوجهه، فحمد الله، وصلى على محمد ثم قال: أيزعم الضلال، خطئت أعمالهم، أن غير آل رسول الله أولى بتراثه، ولم، وبم معاشر الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في النسب، والورثة للسلب، مع ضربهم في الفئ لجاهلكم، وإطعامهم في اللاواء جائعكم، وإيمانهم بعد الخوف سائلكم ؟ لم ير مثل العباس بن عبد المطلب، اجتمعت له الامة بواجب حق الحرمة، أبو رسول الله بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه يوم خيبر، لا يرد له أمرا، ولا يعصي له قسما. إنكم والله، معشر قريش، ما اخترتم لانفسكم من حيث اختار الله لكم طرفة عين قط. ثم نزل، فاستتم داود خطبته ثم نزل. فلما انقضى الموسم وجه داود إلى قوم كانوا بمكة من بني أمية، فقتل جماعة منهم، وأوثق جماعة منهم في الحديد، ووجههم إلى الطائف، فقتلوا هنالك، وحبس خلفا من الخلق، فماتوا في حبسه، وصار إلى المدينة ففعل مثل ذلك، ولم يقم بالمدينة إلا شهرين حتى توفي. وبلغ أبا العباس عن أبي سلمة الخلال أمور أنكرها، وذكر له تدبيره وما كان عليه، وتأخيره له، والتماسه صرف الدولة إلى بعض الطالبيين، وكتب إليه أبو مسلم من خراسان أن اقتل أبا سلمة، فإنه العدو الغاش، الخبيث السريرة، فكتب إليه أبو العباس: أن وجه أنت من يقتله، وكره أبو العباس أن يوحش أبا مسلم بقتله، أو يوجد سبيلا إلى الاحتجاج به عليه، فوجه أبو مسلم مراد بن أنس الضبي، فجلس على باب أبي العباس، وكان يسمر عنده، فلما خرج ثار إليه فضرب عنقه. وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يكتب إليه: للامير حفص بن سليمان، وزير آل محمد، من أبي مسلم أمين آل محمد. فقال سليمان


[ 353 ]

ابن مهاجر لما قتل أبو سلمة: إن الوزير، وزير آل محمد، أودى، فمن يشناك كان وزيرا ووجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط، وكان الحسن بن قحطبة محاصرا ليزيد بن عمر بن هبيرة، وأمره بمجادته، فحوصر أحد عشر شهرا، وكان معه جماعة من قواد مروان وأصحابه، وممن كان مع عامر بن ضبارة، ونباتة بن حنظلة، الذين قتلهم قحطبة، وكان يزيد قد استعد لحصار سنتين، وأدخل الاقوات والعلوفة لعشرين ألف مقاتل، فصدقوه المحاربة، وطلب الامان ووجه السفراء، فأجيب إلى ذلك، وكتب له كتاب أمان، وشرط له فيه ما سأل. وختمه أبو العباس. وخرج ابن هبيرة حتى صار إلى أبي جعفر، فبايع ثم رجع إلى موضعه، وكان يركب كل يوم في ألف فارس وألف راجل، فقال بعض أصحاب أبي جعفر له: أصلح الله الامير ! إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر. فقال لابي غسان حاجبه: قل لابن هبيرة فليقلل من جمعه ! فركب إليه في خمسمائة راجل، فقال له الحاجب: كأنك تأتينا مباهيا، فركب إليهم في ثلاثين فارسا، وثلاثين راجلا، فكان أبو جعفر يقول: ما رأيت أنبل من ابن هبيرة، ولا أتيه، إن كان ليدخل إلي، فيقول: كيف أنت يا هذا، أو حالك، وكيف ما يأتيك عن صاحبك ؟ فإن كنت لاحدثه فيقول: إيها لله أبوك ! ثم يتداركها فيقول: أصلح الله الامير ! إني قريب عهد بإمارة، وكان الرجل يحدثني، فأقول بهذا ونحوه. وقال له يوما: حدثني ! فقال: لامحضنك النصيحة محضا، إن عهد الله لا ينكث وعقدته لا تحل، وإن إمارتكم هذه جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها. ووجدت كتب لابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن حسن يعلمه أن يبايع له، وان قبله أموالا وعدة وسلاحا، وإن معه عشرين ألف مقاتل، فأنفذت الكتب إلى أبي العباس، فقال أبو العباس: نقض عهده، وأحدث ما أحل به دمه،


[ 354 ]

فكتب إلى أبي جعفر: أن اضرب عنقه، فإنه غدر، ونكث، ونقض العهود، وكثرت كتبه بذلك، وكتب أبو مسلم من خراسان يحرض على قتله، ويخبر أن الامر لا يستقيم ما كان حيا، وانه ممن لا يصلح للاستبقاء. وقال أبو جعفر للحسن بن قحطبة الطائي: إن أمير المؤمنين قد أمر بقتل هذا الرجل، فتول ذلك ! فقال له الحسن: إن قتلته كانت العصبية بين قومي وقومه، والعداوة، واضطرب عليك من بعسكرك من هؤلاء وهؤلاء، ولكن انفذ إليه برجل من مضر يقتله. فوجه إليه بخازم بن خزيمة التميمي، فأتاه في جماعة، فوافاه وهو جالس في رحبة القصر بواسط، فلما رآهم قال: أقسمت بالله ان في وجوه القوم لغدرة ! فلما دنوا منه قام ابنه داود في وجوههم، فضربه بعضهم بالسيف فجدله، وصاروا إلى يزيد فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه، ثم تتبعوا قواده وأصحابه، فقتلوهم عن آخرهم. وخرج شريك بن شيخ المهري ببخارى فقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، أن نسفك الدماء، ونعمل غير الحق. فوجه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي، فقاتله، فقتله. وخرج أبو محمد السفياني، وهو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بما لديه، وخرج محمد بن مسلمة بن عبد الملك بحران، وحاصر موسى بن كعب، وكان عامل أبي جعفر، وأبو جعفر يومئذ عامل الجزيرة، ورماها بالمنجنيق، وحرق أبوابها، وكان ذلك سنة 133. ثم بلغ محمد بن مسلمة قتل أبي محمد السفياني وقتل أبي الورد بن كوثر ابن زفر، فانصرف عنها، وتفرق جمعه، واتبعه موسى بن كعب، فقتل خلقا من أصحابه، وتعمد عدة مدائن من الجزيرة. وأقام إسحاق بن مسلم العقيلي بسميساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصر له، وقيل: لم يحاصره أبو جعفر، ولكن عبد الله بن علي حاصره، وكان اسحاق يقول: في عنقي بيعة، فلا أدعها أبدا حتى أعلم أن صاحبها قد مات، أو قتل.


[ 355 ]

وأرسل إليه أبو جعفر يقول: إن مروان قد قتل، فقال: حتى أتبين ذلك، فلما صح عنده أنه قتل طلب الامان وأعطيه، وصار مع أبي جعفر، وكان عظيم المنزلة عنده. وانصرف عبد الله بن علي إلى فلسطين بالسبب الذي شرحناه من خبره فيما شرحنا من خبر مروان، فلما صار بنهر أبي فطرس، بين فلسطين والاردن، جمع إليه بني أمية، ثم أمرهم أن يغدوا عليه لاخذ الجوائز والعطايا، ثم جلس من غد، وأذن لهم، فدخل عليه ثمانون رجلا من بني أمية، وقد أقام على رأس كل رجل منهم رجلين بالعمد، وأطرق مليا، ثم قام العبدي فأنشد قصيدته التي يقول فيها: أما الدعاة إلى الجنان فهاشم * وبنو أمية من كلاب النار وكان النعمان بن يزيد بن عبد الملك جالسا إلى جنب عبد الله بن علي، فقال له: كذبت يا ابن اللخناء ! فقال له عبد الله بن علي: بل صدقت يا أبا محمد، فامض لقولك ! ثم أقبل عليهم عبد الله بن علي، فذكر لهم قتل الحسين وأهل بيته، ثم صفق بيده فضرب القوم رؤوسهم بالعمد حتى أتوا عليهم، فناداه رجل من أقصى القوم: عبد شمس أبوك وهو أبونا * لا نناديك من مكان بعيد فالقرابات بيننا واشجات * محكمات القوى بعقد شديد فقال: هيهات ! قطع ذلك قتل الحسين ! ثم أمر بهم، فسحبوا، فطرحت عليهم البسط وجلس عليها، ودعا بالطعام، فأكل، فقال: يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان قد دخل معهم… 1 قال: رجوت أن ينالوا خيرا، فنال


1 بياض في الاصل. (*)

[ 356 ]

معهم، فقال عبد الله بن علي: ومدخل رأسه لم يدنه أحد * بين الفريقين حتى لزه القرن اضربا عنقه. وقدم عبد الله بن علي دمشق في شهر رمضان سنة 132، فحاصرها، واستغاث الناس، ووجهوا إليه بيحيى بن بحر يطلب لهم الامان، فخرج إليه، فسأله الامان، فأجابه إلى ذلك، فدخل فنادى في الناس الامان، فخرج خلق من الخلق، ثم قال له يحيى بن بحر: اكتب لنا، أيها الامير، كتاب الامان، فدعا بدواة وقرطاس، ثم ضرب ببصره نحو المدينة، فإذا بالسور قد غشيه المسودة، فقال له: قد دخلتها قسرا. فقال يحيى: لا والله، ولكن غدرا. فقال عبد الله: لولا ما أعرف من مودتك لنا، أهل البيت، لضربت عنقك، إذ استقبلتني بهذا، ثم ندم، فقال: يا غلام خذ هذا العلم فأركزه في داره، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن. فانحشر الناس إليها، فما قتل فيها، ولا في الدور التي تليها أحد. ونادى المنادي بعد أن قتل خلق كثير من الخلق: الناس آمنون، إلا خمسة: الوليد بن معاوية، ويزيد بن معاوية، وابان بن عبد العزيز، وصالح بن محمد، ومحمد بن زكرياء. وصار عبد الله بن علي إلى المسجد الجامع، فخطبهم خطبة مشهورة يذكر فيها بني أمية وجورهم وعداوتهم، وأنهم اتخذوا دين الله هزؤا ولعبا، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمآثم، وما ساروا به في أمة محمد من تعطيل الاحكام وازدراء الحدود والاستئثار بالفئ، وارتكاب القبيح، وانتقام الله منهم، وتسليط سيف الحق عليهم، ثم نزل. ويقال إن أبا العباس كتب إليه: خذ بثأرك من بني أمية، ففعل بهم ما فعل، ووجه فنبش قبور بني أمية، فأخرجهم وأحرقهم بالنار، فما ترك منهم أحدا، ولما صار إلى رصافة أخرج هشام بن عبد الملك، ووجده في مغارة


[ 357 ]

على سريره، قد طلي بماء يبقيه، فأخرجه، فضرب وجهه بالعمود، وأقامه بين العقابين فضربه مائة وعشرين سوطا، وهو يتناثر، ثم جمعه فحرقه بالنار. وقال عبد الله عند ذلك: إن أبي، يعني علي بن عبد الله، كان يصلي يوما، وعليه إزار ورداء، فسقط الرداء عنه، فرأيت في ظهره آثار السياط، فلما فرغ من صلاته قلت: يا أبه ! جعلني الله فداءك، ما هذا ؟ فقال: إن الاحول، يعني هشاما، أخذني ظلما، فضربني ستين سوطا، فعاهدت الله إن ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين. وخرج حبيب بن مرة المري بالحوران، فبيض، ونصب رجلا من بني أمية، فزحف إليه عبد الله بن علي، فقتله وفرق جمعه. وكان عامل مروان على افريقية عبد الرحمن بن حبيب العقبي، فقدمها سنة 127، ولم يزل مقيما بها حتى قتل مروان، فلما علم أهل افريقية بقتل مروان، وثبت عليه جماعة من أهل البلد منهم عقبة بن الوليد الصدفي، من ناحية.. 1 وتفرقت بنو أمية بعد قتل مروان، فخلف منهم بافريقية جماعة، فصاروا إلى عبد الرحمن بن حبيب، فأقام عبد الرحمن على محاربة أصحاب أبي العباس، فوثب به أخوه الياس بن حبيب، فدعا إلى بني العباس، فبايعه الناس، وأخذ من صار إلى افريقية من بني أمية، فحبسهم، وكتب بخبرهم إلى أبي العباس. ووثب أهل الموصل على عاملهم، فانتهبوه، وأخرجوه، فولى أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي الموصل، وضم إليه أربعة آلاف رجل من أهل خراسان، فقدمها في سنة 133، فقتل من أهلها خلقا عظيما، وقيل إنه اعترض الناس في يوم جمعة، فقتل ثمانية عشر ألف إنسان من صليب العرب، ثم قتل عبيدهم ومواليهم، حتى أفناهم، فجرت دماؤهم، فغيرت ماء دجلة، فلم يعرف لاهل الموصل وثوب إلى هذه الغاية. وولى أبو العباس محمد بن صول أرمينية، فسار إليها في خلق عظيم،


1 بياض في الاصل. (*)

[ 358 ]

ومسافر بن كثير متغلب على البلد، وكان خليفة اسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان، فحاربه محمد بن صول حتى قتله، واستولى على أرمينية، وصد أهل البيلقان إلى قلعة الكلاب، وأسلموا المدينة، ورئيسها يومئذ ورد بن صفوان السامي من ولد سامة بن لؤي، وجمعوا إليهم لفيفا من الصعاليك وغيرهم بقلعة الكلاب، فوجه إليهم محمد بن صول صالح بن صبيح الكندي، فحاصرهم وقتل منهم خلقا عظيما. ووجه أبو العباس إلى السند موسى بن كعب التميمي، ومنصور بن جمهور متغلب عليها، فنفذ موسى في عشرين ألف مقاتل، فصار إلى قندابيل، فأقام بها حينا ثم كاتب موسى من كان مع منصور من أصحاب… 1 وكاتبهم قبائلهم، وزحف موسى حتى أتى منصورا، فانهزم منه، ومر في مفازة، وأدركه فقتله. وانتقل أبو العباس من الحيرة، فنزل الانبار، واتخذ بها مدينة سماها الهاشمية سنة 134، واشترى من الناس أشرية كثيرة بنى فيها، وأقطعها أهل بيته وقواده، ثم رفع إليه أهل تلك الارضين والمنازل انهم لم يقبضوا أثمانها، فقال: هذا بناء أسس على غير تقوى ! وأمر فضربت مضاربه بظاهرها وبريها، حتى استوفى القوم أثمان أرضهم، ثم عاد إلى قصره. وولى أبو العباس أبا جعفر أخاه الجزيرة، والموصل، والثغور، وأرمينية، واذربيجان، فخرج حتى صار إلى الرقة، واختط الرافقة على شط الفرات، وهندسها له أدهم بن محرز، فولى الحسن بن قحطبة الطائي الجزيرة، وولى يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، ثم عزله وولى الحسن بن قحطبة أرمينية، فلم يزل عليها أيام أبي العباس. وكان سليمان بن هشام بن عبد الملك قد استأمن إلى أبي العباس، فقدم معه بابنين له، فأكرمه أبو العباس وبره، وأجلسه وابنيه على النمارق والكراسي،


1 بياض في الاصل. (*)

[ 359 ]

فكان أبو العباس يجلس بالعشيات، ويأذن لخواصه وأهل بيته، فدخل عليه أبو الجهم ليلة، وقد أذن لاهله وخواصه، فقال له: إن أعرابيا أقبل يوضع على ناقته، حتى أناخها بالباب، وعقلها، ثم جاءني وقال: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقلت: اذهب وضع عنك ثياب سفرك، وعد علي، سأستأذن عليه. فقال: إني آليت ألا أضع عني ثوبا، ولا أحل لثاما، حتى أنظر إلى وجهه. قال: فهل أنبأك من هو ؟ قال: نعم ! زعم أنه سديف مولاك، فقال: سديف ؟ ايذن له، فدخل أعرابي كأنه محجن، فوقف، فسلم عليه بامرة المؤمنين، ثم تقدم فقبل بين يديه ورجليه، ثم تأخر فوقف مثله ثم اندفع فقال: أصبح الملك ثابت الآساس * بالبهاليل من بني العباس يا أمير المطهرين من الرج‍ * س ويا رأس منتهى كل رأس أنت مهدي هاشم وهداها * كم أناس رجوك بعد إياس لا تقيلن عبد شمس عثارا * واقطعن كل رقلة وغراس أفنها أيها الخليفة واحسم * عنك بالسيف شأفة الارجاس أنزلوها بحيث أنزلها الل‍ * – ه بدار الهوان والاتعاس ولقد ساءني وساء قبيلي * قربهم من نمارق وكراسي خوفهم أظهر التودد منهم * وبهم منكم كحز المواسي واذكروا مصرع الحسين وزيد * وقتيلا بجانب المهراس والقتيل الذي بحران أمسى * رهن رمس في غربة وتناسي نعم كلب الهراش مولاك لولا * حله من حبائل الافلاس فقام سليمان بن هشام فقال: يا أمير المؤمنين ! إن مولاك هذا يحرضك منذ مثل بين يديك على قتلي وقتل ابني، وقد تبينت والله أنك تريد أن تغتالنا.


[ 360 ]

فقال: لو أردت ذلك ما كان يمنعني منكم على غير غيلة، فأما إذ سبق ذلك إلى قلبك فلا خير فيك. يا أبا الجهم. اخرجه، واخرج ابنيه، فاضرب أعناقهم وأتني برؤوسهم ! فخرج فضرب أعناقهم وأتاه برؤوسهم. وقدم عبد الله بن الحسن بن الحسن على أبي العباس، ومعه أخوه الحسن ابن الحسن بن الحسن، فأكرمه أبو العباس، وبره، وآثره ووصله الصلات الكثيرة، ثم بلغه عن محمد بن عبد الله أمر كرهه فذكر ذلك لعبدالله بن الحسن، فقال: يا أمير المؤمنين ! ما عليك من محمد شئ تكرهه، وقال له الحسن بن الحسن أخو عبد الله بن الحسن: يا أمير المؤمنين ! أتتكلم بلسان الثقة والقرابة أم على جهة الرهبة للملك، والهيبة للخلافة ؟ فقال: بل بلسان القرابة. فقال: أرأيت، يا أمير المؤمنين، إن كان الله قضى لمحمد أن يلي هذا الامر، ثم أجلبت، وأهل السموات والارض معك، أكنت دافعا عنه ؟ قال: لا ! قال: فإن كان لم يقض ذلك لمحمد، ثم اجلب محمد، وأهل السموات والارض معه، أيضرك محمد ؟ قال: لا والله ! ولا القول إلا ما قلت. قال: فلم تنغص هذا الشيخ نعمتك عليه، ومعروفك عنده ؟ قال: لا تسمعني ذاكرا له بعد اليوم. وبلغ أبا العباس أن محمد بن عبد الله قد تحرك بالمدينة، فكتب إلى عبد الله ابن الحسن في ذلك وكتب في الكتاب: أريد حباءه، ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد فكتب إليه عبد الله بن الحسن: وكيف يريد ذاك، وأنت منه * بمنزلة النياط من الفؤاد وكيف يريد ذاك، وأنت منه * وزندك حين يقدح من زناد وكيف يريد ذاك، وأنت منه * وأنت لهاشم رأس وهاد وطفئ أمر محمد في خلافة أبي العباس، فلم يظهر منه شئ، وكان


[ 361 ]

متى بلغ أبا العباس عنه شئ ذكر ذلك لعبد الله، فيقول: يا أمير المؤمنين ! إنا نحميها بكل قذاة يخل ناظرك منها، فيقول: بك أثق، وعلى الله أتوكل. وكان أبو العباس كريما، حليما، جوادا، وصولا لذوي أرحامه. حدثني محمد بن علي بن سليمان النوفلي عن جده سليمان قال: دخلنا على أبي العباس جماعة من بني هاشم، فأدنانا حتى أجلسنا معه، ثم قال: يا بني هاشم ! احمدوا الله إذ جعلني فيكم، ولم يجعلني بخيلا، ولا حسودا. واستأذن أبو مسلم في القدوم، فأذن له، فقدم من خراسان في سنة 136، فلما حضر وقت الحج استأذنه، فأذن له، وحج معه أبو جعفر المنصور، فلما خرجا اشتدت بأبي العباس العلة، فقيل له: صير ولاية عهدك إلى أبي جعفر، فمات في علته بعد نفوذه إلى الحج. وكان الغالب عليه أبو الجهم بن عطية الباهلي، وكان له سمار وجلساء منهم: أبو بكر الهذلي، وخالد بن صفوان، وعبد الله بن شبرمة، وجبلة بن عبد الرحمن الكندي، وكان على شرطته عبد الجبار بن عبد الرحمن الازدي، وعلى حرسه أبو بكر بن أسد بن عبد الله الخزاعي، وحاجبه أبو غسان مولاه، وكان قاضيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن شبرمة. ولما اشتدت علته قدم عليه وفدان أحدهما من السند والآخر من افريقية، فلما بلغه قدومهما قال: أنا ميت بعد ثلاث. قال عيسى بن علي فقلت: بل يطيل الله بقاءك ! فقال: حدثني أخي ابراهيم عن أبي وأبيه عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده: أنه يقدم علي في مدينتي هذه في يوم واحد وافدان: أحدهما وافد السند، والآخر وافد أهل افريقية، فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أغيب في لحدي، ويورث الامر بعدي. ثم نهض وقال: لا ترم مكانك حتى أخرج إليك. قال: فلم أزل بمكاني حتى سلم المؤذنون في وقت صلاة العصر بالخلافة، فخرج إلي رسوله يأمرني بالصلاة بالناس، فدخلت، فلم يخرج إلى أن سلم


[ 362 ]

المؤذنون لوقت صلاة العشاء، فخرج إلي رسوله يأمرني بالصلاة بالناس، ففعلت ذلك، ثم أتيت مكاني إلى إدراك الليل، فلما فرغت من قنوتي خرج إلي، ومعه كتاب معنون: من عبد الله ووليه إلى آل رسول الله والاولياء وجميع المسلمين، ثم قال: يا عم ! إذا خرجت نفسي فسجني، بثوبي، واكتم موتي حتى يقرأ هذا الكتاب على الناس، فإذا قرئ فخذ ببيعة المسمى فيه، فإذا بايع الناس فخذ في أمري وجهزني، وصل علي، وادفني. فقلت: يا أمير المؤمنين ! فهل وجدت علة ؟ فقال: وأية علة أقوى من الخبر الصحيح عن رسول الله ؟ والله ما كذبت، ولا كذبت، ولا كذبت، خذ هذا الكتاب، وامض راشدا. واعتل من ليلته، وتوفي يوم الاحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 136، وهو ابن ست وثلاثين سنة، وقيل: لم يبلغ تلك السن، وذلك أنه ولد في سنة 105 في أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان، وصلى عليه اسماعيل بن علي، وقيل عيسى بن علي، ودفن في الانبار في قصره، وكانت ولايته أربع سنين وتسعة أشهر، وخلف ابنا لم يكن بلغ، وابنته ريطة امرأة المهدي التي حرمت على جميع خلفاء بني هاشم، إلا زوجها. وأقام الحج للناس في أيامه سنة 132 داود بن علي، سنة 133 زياد بن عبيدالله الحارثي، سنة 134 عيسى بن موسى، سنة 135 سليمان بن علي. وغزا بالناس في أيامه، سنة 133 أقبل طاغية الروم، وهو قسطنطين، حتى أناخ على ملطية، فحصرها، فصولح عنها، وزحف إليه موسى بن كعب التميمي، فلم يكن بينهما لقاء. وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن علي يعلمه أن العدو قد كلب بالغفلة عنه، وأمره أن ينفذ بالجيوش التي معه، فيبث جيوشه في نواحي الثغور، وزحف حتى قطع الدرب، ولم يزل يعبي حتى أتاه خبر وفاة أبي العباس، فانصرف. وكان الفقهاء في أيامه يحيى بن سعيد الانصاري، ابن أبي طوالة الانصاري،


[ 363 ]

موسى بن عقبة، عبد الرحمن بن حرملة الاسلمي، أبا حمزة الثمالي، زيد بن أسلم، أبا خازم القاضي، هشام بن عروة بن الزبير، محمد بن.. 1 بن علقمة، موسى بن عبيدة الربذي، ابن أبي صعصعة، ربيعة الرأي، عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، محمد بن اسحاق بن يسار، عبد الله بن طاووس، صدقة.. 2 يسار، حميد بن قيس الاعرج، عبد الله بن عثمان بن خثيم، عثمان بن الاسود، عبد الملك بن جريج، عبد الملك بن عمير الليثي. أبا سار النسائي، مجالد بن سعيد الاجلح بن عبد الله الكندي، منصور بن المعتمر السلمي، مطرف بن طريف الحارثي، جابر بن يزيد الجعفي، الحسن بن عمر الفقيمي، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، الحسن بن عمارة، مسعر بن كدام، عبد الجبار بن عباس الهمداني، زفر بن الهذيل، اسحاق بن سويد العذري، أبا بكر بن نسر بن حرب، يونس بن عبيد، أبا المعتمر سليمان التيمي، عمرو بن عبيد، حميد الطويل مولى خزاعة، عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي، سالم الافطس، عبد الكريم الحنفي.


1 و 2 بياض في الاصل (*)

[ 364 ]

أيام أبي جعفر المنصور هو عبد الله بن محمد بن علي، وأمه سلامة البربرية، وبويع في اليوم الذي توفي فيه أبو العباس، وهو يوم الاحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، ومن شهور العجم في حزيران، سنة 136. وكانت الشمس يومئذ في السرطان درجة وعشر دقائق، والقمر في الجوزاء سبع درجات وخمسا وأربعين دقيقة، وزحل في الجدي ست عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا، والمشتري في الحمل سبعا وعشرين درجة، والمريخ في العقرب تسع عشرة درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في الثور خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة، وعطارد في السرطان إحدى عشرة درجة، والرأس في السرطان درجة وخمسين دقيقة. وكان أبو جعفر حاجا فأخذ له عيسى بن علي البيعة على من حضر من الهاشميين والقواد بالانبار، ووافاه الخبر بذلك في طريق مكة، بعد وفاة أبي العباس بخمسة عشر يوما، فبايع أبو مسلم ومن حضر من الهاشميين والقواد، وكان الذي وافاه بالخبر محمد بن الحصين العبدي، فقال: أي موضع هذا ؟ قالوا: موضع يقال له زكية. قال: أمر يزكى إن شاء الله ! وبويع بالصفية، فقال: أمر يصفو لنا أعداد السنين، وحثوا النجاء. وكان أبو العباس قبل وفاته قد كتب إلى عبد الله بن علي في غزو الصائفة، وأمره بقطع الدرب، فلما توفي أبو العباس كره عيسى بن علي ومن حضر من الابناء أن يكتبوا إلى عبد الله بن علي، فكتبوا إلى صالح بن علي وهو بمصر يعرفونه الحادثة في أبي العباس، وما كان عهد به أبو العباس لابي جعفر، ومبايعتهم له، واجتماعهم عليه، وأمره أن يبايع، ويصير إلى الشأم، فيأخذ


[ 365 ]

البيعة على عبد الله. وبلغ عبد الله الخبر، وقيل: بعث عيسى بن علي ببيعة المنصور مع أبي غسان يزيد بن زياد، حاجب أبي العباس، فلحقه وقد كان قطع الدرب إلى بلاد الروم، فرجع حتى صار إلى دلوك من أرض جند قنسرين، فأحضر حميد بن قحطبة الطائي وجماعة من القواد الذين كانوا معه، فقال: ما تشهدون ان أمير المؤمنين أبا العباس قال: من خرج إلى مروان فهو ولي عهدي، فشهدوا له بذلك، وبايعوا، وبايع أكثر أهل الشأم له، وكتب إلى عيسى بن علي وغيره يعلمهم مبايعة من قبله من القواد وأهل الشأم له بصحة عهد أبي العباس إليه، وتوجه يريد العراق، فلما صار إلى حران وافى موسى ابن كعب عاملا بها، فعرفه شهادة من اشهد الله أن أبا العباس جعله ولي عهده، فلما تحصن بها حاصره أربعين يوما، ثم أعطاه الامان على أن يخرج عنها ويخلي بينه وبينها، وتوجه يريد العراق. فقدم أبو جعفر الكوفة غرة المحرم، فنزل الحيرة، وصلى بالناس الجمعة، ثم شخص إلى الانبار، إلى مدينة أبي العباس، فضم إليه أطرافه وخزائن أبي العباس، وبلغه أمر عبد الله بن علي وتوجهه إلى العراق، فقال لابي مسلم: ليس لعبد الله ابن علي غيري، أو غيرك. فكره أبو مسلم ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين ! إن أمر عبد الله بالشأم أقل وأذل، وأمر خراسان أمر يجل خطبه، ثم انصرف أبو مسلم إلى منزله، وقال لكاتبه: ما أنا وهذان الرجلان. ثم قال: ما الرأي إلا أن أمضي إلى خراسان، وأخلي بين هذين الكبشين، فأيهما غلب وكتب إلينا كتبنا إليه: سمعنا وأطعنا، فرأى أنا قد أنعمنا وعملنا له عملا. فقال له كاتبه: أعيذك بالله من أن تمكن أهل خراسان من الطعن عليك، وأن يروا أنك نقضت أمرا بعد تأكيده. فقال: ويحك ! إني نظرت فيمن قتلت بالسيف صبرا سوى من قتل في المعارك، فوجدتهم مائة ألف من الناس، فلا قليل من الله. فلم يزل به كاتبه حتى أجاب أبا جعفر إلى الخروج، وعسكر في خلق عظيم،


[ 366 ]

ثم سار حتى صار إلى الجزيرة، فواقع عبد الله بن علي عدة وقائع، وكان حميد بن قحطبة الغالب على أمر عبد الله بن علي، ثم بلغه أن عبد الله يريد قتله، فاحتال حتى صار إلى أبي مسلم، فعظم ذلك على عبد الله بن علي، وخاف أن يفعل بنظرائه من قواد خراسان الذين معه مثل ذلك. قال السندي بن شاهك: سمعت عبد الصمد بن علي يقول: إني عند عبد الله ابن علي إذ دخل حاجبه، وكان عبد الصمد مع عبد الله بن علي، فقال: رسول أبي مجرم بالباب. فقال: إيذن له ! فدخل رجل كريه الوجه، قبيح المنظر، كثير الشعر، طويل اللسان، عظيم الحق، كثير حشو الخفتان، فسلم سلاما عاما، ثم قال: إن الامير أبا مسلم يقول: علام تقاتلني، وأنت تعلم أنه لا يقاتلك ؟ وواقع أبو مسلم عبد الله بن علي بنصيبين، وفرق جمعه، فهرب عبد الله، وأمر أبو مسلم ألا يعترضه أحد، فصار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن علي، وكان عامل البصرة، فلم يزل مختفيا عنده. وبعث أبو جعفر برسل يحصون ما حصل في يد أبي مسلم من الخزائن والاموال، منهم: اسحاق بن مسلم العقيلي، ويقطين بن موسى، ومحمد بن عمرو النصيبي التغلبي، فغضب أبو مسلم، وقال: أؤتمن على الدماء، ولا أؤتمن على الاموال ؟ وشتم يقطين بن موسى، فقال يقطين لما رأى ما داخله عليه: امرأتي طالق ثلاثا إن كان أمير المؤمنين وجهني إليك إلا مهنئا بالفتح، فاستخف بإسحاق بن مسلم، ومحمد بن عمرو، وشتمهما، وتناول أبا جعفر بلسانه، حتى ذكر أمه، وقال: ويلي على ابن سلامة ! فانصرف القوم إلى أبي جعفر. فأخبروه الخبر، فزاد ذلك فيما في قلبه عليه، وولى هشام بن عمرو العقيلي مكان أبي مسلم، فانصرف أبو مسلم، وأقبل يريد خراسان مغاضبا لابي جعفر، فمر بالمدائن، وأبو جعفر نازل برومية، وبينه وبينه فرسخان، فلم يلقه، ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان، فأتبعه أبو جعفر بعيسى بن موسى،


[ 367 ]

وجرير بن عبد الله البجلي، ونفر معهما من الشيعة، فلحقوه، فعظموا عليه الخطب، وقالوا له: إن الامر لم يبلغ حيث تظن، فشاور مالك بن الهيثم، وكان خليفته، وقال: ما ترى ؟ قال: أرى أن تصير إلى خراسان، فتستعتب الرجل منها، وتكتب إليه منها سمعك وطاعتك، فإذا فعلت ذلك لم يلحقك لوم، وإلا فهو آخر عهدك بالدنيا إن وقعت عينه عليك. فما زال رسل أبي جعفر حتى فتلوه عن رأيه، وأقبل نحو العراق، فلما جاز عقبة حلوان قال لمالك بن الهيثم: ما الرأي ؟ قال: الرأي تركته وراء العقبة. فقال: إني والله لا أقتل إلا بأرض الروم. وقدم على أبي جعفر وهو نازل برومية في المضارب، فقال له: كدت أن تفذ قبل أن أفضي إليك بما أحتاج إليه. فمكث يختلف إليه أياما، ثم أتاه يوما، وقد هيأ له أبو جعفر عثمان بن نهيك، وكان على حرسه، في عدة، وهم: شبيب بن واج، وأبو حنيفة، وتقدم إلى عثمان، فقال: إذا علا صوتي وصفقت بيدي فاقتلوا العبد. ودخل أبو مسلم، فأجلس في الحجرة، وقيل له: أمير المؤمنين على شغل. فجلس مليا، ثم أذن له، وقيل له: انزع سيفك ! فقال: ولم ؟ قيل: وما عليك ؟ فلم يزالوا به حتى نزع سيفه، ثم دخل وليس في البيت إلا وسادة، فجلس عليها، ثم قال: يا أمير المؤمنين فعل بي ما لم يفعل بأحد، أخذ سيفي عن عاتقي. قال: ومن فعل بك هذا، قبحه الله ؟ فأقبل أبو مسلم يتكلم، فقال له: يا ابن اللخناء ! إنك لمستعظم غير العظيم، ألست الكاتب إلي تبدأ باسمك على اسمي ؟ ألست الذي كتبت إلي تخطب عمتي آمنة بنت علي، وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله ؟ ! ألست الفاعل كذا والفاعل كذا ؟ وجعل يعد عليه أمورا، فلما رأى أبو مسلم ما قد دخله قال: يا أمير المؤمنين إن قدري أصغر من أن يدخلك كل ما أرى. فعلا صوت أبي جعفر، وصفق بيديه، فخرج القوم فضربوه بأسيافهم، فصاح: أوه، ألا مغيث، ألا ناصر !


[ 368 ]

وهم يضربونه حتى قتلوه، فلما قتل قال أبو جعفر: اشرب بكأس كنت تسقي بها * أمر في فيك من العلقم كنت حسبت الدين لا يقتضى * كذبت والله أبا مجرم وكفن في مسح، وصير في جانب المضرب، وقيل لاصحابه: اجتمعوا، فإن أمير المؤمنين قد أمر أن ينثر عليكم الدراهم، ونثرت عليهم بدرة دراهم، فلما أكبوا يلتقطونها طرح عليهم رأس أبي مسلم، فلما نظروا إليه أسقط ما في أيديهم، وعرتهم ضعضعة، وكان ذلك في شعبان سنة 137. وخرج قوم من أصحاب أبي مسلم إلى خراسان فصاروا إلى سنباذ، وسنباذ بنيسابور، فلما بلغه قتل أبي مسلم أظهر المعصية، وخرج يطلب بدمه حتى اضطرب خراسان، فوجه أبو جعفر جهور بن مرار، فلقي سنباذ، فواقعه، فقتله، وفرق جمعه. وبلغ أبا جعفر مكان عبد الله بن علي عند سليمان بن علي، وهو إذ ذاك عامل البصرة، فوجه إلى سليمان، فأنكر أن يكون عنده، ثم طلب الامان، فكتبه له أبو جعفر على نسخة وضعها ابن المقفع بأغلظ العهود والمواثيق ألا يناله بمكروه، وألا يحتال عليه في ذلك بحيلة، وكان في الامان: فإن أنا فعلت، أو دسست، فالمسلمون براء من بيعتي، وفي حل من الايمان والعهود التي أخذتها عليهم. فلما وقف أبو جعفر على هذا قال: من كتبه ؟ قيل: ابن المقفع، فكان ذلك سببا لميتة ابن المقفع. وقدم سليمان بن علي من البصرة حتى أخذ الامان، وشخص من البصرة، ومعه عيسى بن علي، فظهر بهما عبد الله بن علي، فقدما به على أبي جعفر يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة 137، وهو بالحيرة، فأقام في منزل عيسى بن علي، وحبسه عند عيسى بن موسى، وهو ولي عهد ثم سأله عنه، فأخبره أنه قد توفي، فوجه إلى عيسى بن علي واسماعيل وعبد


[ 369 ]

الصمد ابني علي فأحضرهم وجماعة من بني هاشم، وقال لهم: إني كنت دفعت عبد الله بن علي إلى عيسى بن موسى، وأمرته أن يحتفظ به، وأن يكرمه ويبره، وقد سألته عنه، فذكر أنه قد مات، فأنكرت تستير خبر موته عني وعنكم. فقال القوم: يا أمير المؤمنين ! إن عيسى قتله، ولو كان عبد الله مات حتف أنفه ما ترك أن يعلمك ويعلمنا موته. فجمع بينه وبينهم، فطالبوه بدمه، وقال له: إيت على ما ذكرت من عبد الله ببينة عادلة، وإلا أقدتك منه. واحضر الناس لذلك. فلما رأى عيسى تحقيق الامر عليه قال: أؤخر إلى العشي، فأخر، فحضر بالعشي، وحضر عبد الله بن علي معه، وقال: إنما أردت بما قلت الراحة من حراسته مخافة أن يناله شئ فيقال لي مثل هذا، وقد سلمته صحيحا سويا. فقال أبو جعفر: بل أردت أن تعرف ما عندنا، فإذا احتملناك فعلت ذلك، فأمر أبو جعفر، فبني له بيت في الدار، وقال: يكون نصب. عيني، ثم أجرى في أساس ذلك البيت الماء، فسقط عليه، فمات. وأراد أبو جعفر أن يزيد في المسجد الحرام، وشكا الناس ضيقه، وكتب إلى زياد بن عبيدالله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه، فامتنع الناس من البيع، فذكر ذلك لجعفر بن محمد، فقال: سلهم ! أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم ؟ فكتب بذلك إلى زياد فقال لهم زياد بن عبيدالله ذلك، فقالوا: نزلنا عليه ! فقال جعفر بن محمد: فإن للبيت فناءه. فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه، فهدمت المنازل وأدخلت عامة دار الندوة فيه، حتى زاد فيه ضعفه، وكانت الزيادة مما يلي دار الندوة وناحية باب بني جمح، ولم يكن مما يلي الصفا والوادي، فكان البيت في جانبه، وكان ابتداء الامر به في سنة 138، وفرغ سنة 140. وبنى مسجد الخيف بمنى وصيره على ما هو عليه من السعة، ولم يكن بها قبل ذلك. وحج أبو جعفر سنة 140 لينظر ما زيد في المسجد الحرام، وقد كان بلغه أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن تحرك، فلما قدم المدينة طلبه، فلم


[ 370 ]

يظفر به، فأخذ عبد الله بن حسن بن حسن وجماعة من أهل بيته، فأوثقهم في الحديد، وحملهم على الابل بغير وطاء، وقال لعبد الله: دلني على ابنك، وإلا والله قتلتك. فقال عبد الله: والله لامتحنت بأشد مما امتحن الله به خليله ابراهيم، وإن بليتي لاعظم من بليته لان الله عزوجل أمره أن يذبح ابنه، وكان ذلك لله عزوجل طاعة. فقال: إن هذا لهو البلاء العظيم، وأنت تريد مني أن أدلك على ابني لتقتله، وقتله لله سخط. وقال أبو جعفر: يا ابن اللخناء ! فقال: وإنك لتقول هذا ؟ ليت شعري أي الفواطم لخنت يا ابن سلامة ؟ أفاطمة بنت الحسين أم فاطمة بنت رسول الله أم جدتي فاطمة بنت أسد بن هاشم جدة أبي أم فاطمة ابنة عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة جدتي ؟ قال: ولا واحدة من هؤلاء، وحمله. وانصرف أبو جعفر على طريق الشأم فأتى بيت المقدس ثم صار إلى الجزيرة، فنزل خارج الرقة، وقد كان منصور بن جعونة الكلابي وثب بها، فأسر، فأحضره فضرب عنقه، ثم صار إلى الحيرة، فحبس عبد الله بن حسن بن حسن وأهل بيته، فلم يزالوا في الحبس حتى ماتوا، وقد قيل: إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان. وحدثني أبو عمرو عبد الرحمن بن السكن عن رجل من آل عبد الله: أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن كتب إلى أبيه، لما بلغه شدة ما يلقى من الحبس، يستأذنه أن يظهر حتى يضع يده في أيديهم، فأرسل إليه عبد الله: إن ظهورك يا بني يقتلك، ولا يحييني، فأقم بمكانك حتى يرتاح الله بفرج، وأخذ أبو جعفر في بناء الرافقة، وكان بتداؤها في أيام أبي العباس، وقال: أما أنا فلست أنزلها ! فقيل له: وكيف ذلك، يا أمير المؤمنين ؟ فقال: كان أبي صار إلى هشام، وهو بالرصافة، فجفاه، وناله منه ما يكره، ثم انصرف، وأنا وأخي معه، فلما صار إلى هذا الموضع قال لي ولاخي: أما انه سيبني أحدكما في هذا الموضع مدينة. فقلت له: ثم ماذا ؟ فقال: لا ينزلها، لكن


[ 371 ]

ينزلها ابنه، وأنا أعلم أني لا أنزلها، ولكن ينزلها ابني محمد، يعني المهدي. وولى أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن الازدي خراسان، فاستخلف على الشرطة أخاه عمر بن عبد الرحمن، وقتل المغيرة بن سليمان، ومجاشع بن حريث، وقصد لشيعة بني هاشم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وجعل يتبعهم ويمثل بهم، فكتب إليه أبو جعفر يحلف له ليقتلنه، فخلع سنة 141، فوجه إليه أبو جعفر بالمهدي فصار المهدي إلى الري، واستعمل على خراسان أسيد بن عبد الله الخزاعي، ووجه معه بالجيوش، فلقي عبد الجبار بمرو، فهزم عسكره، وهرب عبد الجبار، فاتبعه فأسره، وبعث به إلى أبي جعفر فوافاه وهو بقصر ابن هبيرة من بغداد على مرحلة، فقال له عبد الجبار لما وافاه: يا أمير المؤمنين ! قتلة كريمة ! فقال: تركتها وراءك، يا ابن اللخناء. وقدمه فضرب عنقه، وصلبه، فأقام على الخشبة أياما، ثم جاء أخوه عبيدالله بن عبد الرحمن ليلا، فأنزله ودفنه، فبلغ أبا جعفر ذلك، فقال: دعوه إلى النار. وولى أبو جعفر أرمينية يزيد بن أسيد السلمي، وولى اذربيجان يزيد ابن حاتم المهلبي، فنقل اليمانية من البصرة إليها، وكان أول من نقلهم، وأنزل الرواد بن المثنى الازدي تبريز إلى البذ وأنزل مر بن علي الطائي نريز.. 1 الهمداني الميانج، وفرق قبائل اليمن، فلم يكن باذربيجان من نزار أحد إلا الصفر بن الليث العتبي وابن عمه البعيث بن حلبس. وتحركت الخزر بناحية أرمينية ووثبوا بيزيد بن أسيد السلمي، فكتب إلى أبي جعفر يعلمه أن رأس طرخان ملك الخزر قد أقبل إليه في خلق عظيم، وأن خليفته قد انهزم. فوجه إليه أبو جعفر جبريل بن يحيى البجلي في عشرين ألفا من أهل الشأم وأهل الجزيرة وأهل الموصل، فواقع الخزر، فقتل خلق من المسلمين، وانهزم جبريل ويزيد بن أسيد حتى أتيا خرس، فلما انتهى الخبر إلى أبي جعفر بما نال، وظهور الخزر ودخولهم بلاد الاسلام، أخرج سبعة


1 بياض في الاصل (*)

[ 372 ]

آلاف من أهل السجون، وبعث فجمع من كل بلد خلقا عظيما، ووجه بهم وبفعلة وبنائين، فبنى مدينة كمخ ومدينة المحمدية ومدينة باب واق وعدة مدن جعلها ردأ للمسلمين، وأنزلها المقاتلة، فردوا الحرب، فحاربهم قومهم، وقوي المسلمون بتلك المدن، وأقام بالبلد ساكنا. ثم تحركت الصنارية بأرمينية، فوجه أبو جعفر الحسن بن قحطبة عاملا على أرمينية، فحاربهم، فلم يكن له بهم قوة، فكتب إلى أبي جعفر بخبرهم وكثرتهم، فوجه إليه عامر بن اسماعيل الحارثي في عشرين ألفا، فلقي الصنارية، فقاتلهم قتالا شديدا، وأقام أياما يحاربهم، ثم رزقهم الله الظفر عليهم، فقتل منهم في يوم واحد ستة عشر ألف إنسان، ثم انصرف إلى تفليس، فقتل من كان معه من الاسرى، ووجه في طلب الصنارية حيث كانوا، ثم ولى أبو جعفر أرمينية واضحا مولاه، فلم يزل عليها وعلى اذربيجان خلافة أبي جعفر كلها. ووثب أهل طبرستان وأظهروا الخلع والمعصية، وزحفوا في جيوش عظيمة، فوجه إليهم المهدي خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم المهلبي، فهزموا جيوشهم، وفتحت طبرستان سنة 142. وخرج أبو جعفر في هذه السنة إلى البصرة يريد الحج، فلما صار بالجسر الكبير أتاه الخبر بأن أهل اليمن قد أظهروا المعصية، وان عبد الله بن الربيع عامل اليمن قد هرب ممن وثب عليه وضعف عنهم، وان عيينة بن موسى ابن كعب التميمي عامل السند قد عصى وأظهر الخلع، فوجه بمعن بن زائدة الشيباني إلى اليمن، وعمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إلى السند، وانصرف أبو جعفر من البصرة ولم يحج. وقدم معن بن زائدة اليمن فقتل من بها قتلا فاحشا، وأقام بها تسع سنين، وكان موسى بن كعب التميمي لما انصرف عن بلاد السند خلف ابنه عيينة بن موسى، فخالف عليه قوم ممن كان معه من ربيعة واليمن، فقتل عامتهم، وأظهروا المعصية، فوجه أبو جعفر عمر بن حفص هزارمرد إلى السند، فلم


[ 373 ]

يسلم عيينة، ومنعه من الدخول، فأقام بالديبل، وكان معه عقبة بن مسلم، وحاربه عمر بن حفص، وكان أصحاب عيينة يستأمنون إلى عمر، فطلب عيينة الصلح، فصالحه، وأخرجه مع رسله، وبعث به إلى المنصور. وأقام عمر بن حفص بالمنصورة، ومضى عيينة مع رسله حتى إذا كان في بعض الطريق هرب من الرسل، ومضى يريد سجستان حتى دنا من الرخج، فضربه قوم من اليمانية فقتلوه، وذهبوا برأسه إلى المنصور. وأقام عمر بن حفص بالسند سنتين، ثم عزله أبو جعفر وولى هشام بن عمرو التغلبي، فصار إلى المنصورة، فأقام بها، ووجه إلى ناحية الهند بجيش، فغنموا وأصابوا رقيقا. وقيل لهشام: إن المنصورة لا تحملك، والملتان بلاد واسعة، ومنها معرى، فسار إليها فاستخلف على المنصورة أخاه بسطام بن عمرو، فلما قرب من الملتان خرج صاحبها إليه في خلق ليرده، والتقيا، فكانت بينهما وقعة عظيمة، ثم انهزم صاحب الملتان، وظفر هشام ونزل المدينة، وسبى سبيا كثيرا، ثم عمل السفن وحملها على نهر السند حتى القندهار ففتحها، وسبى، وهدم البد وبنى موضعه مسجدا، ثم قدم إلى المنصور بما لم يقدم به أحد من السند، فلم يقم بالعراق إلا قليلا حتى مات، فولى المنصور معبد بن الخليل التميمي، فكان محمودا في البلد. وصار أبو جعفر إلى بغداد سنة 144، فقال: ما رأيت موضعا أصلح لبناء مدينة من هذا الموضع بين دجلة والفرات وشريعة البصرة والابلة وفارس وما والاها والموصل والجزيرة والشأم ومصر والمغرب ومدرجة الجبل وخراسان، فاختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر في الجانب الغربي من دجلة، وجعل لها أربعة أبواب، بابا سماه باب خراسان شرع على دجلة، وبابا سماه باب البصرة شرع على الصراة التي تأخذ من الفرات وتصل إلى دجلة، وبابا سماه باب الكوفة، وبابا سماه باب الشأم، وعلى كل باب من هذه الابواب مجالس وقباب مذهبة يصعد إليها على الخيل، وجعل عرض السور من سفل سبعين


[ 374 ]

ذراعا، وضرب على سائر بغداد سورا، وجد في البناء، وأحضر المهندسين والبنائين والفعلة من كل بلد، وأقطع مواليه وقواده القطائع داخل المدينة، فدروب المدينة تنسب إليهم، وأخذهم بالبناء، وأقطع آخرين على أبواب المدينة، وأقطع الجند أرباض المدينة، وأقطع أهل بيته الاطراف، وأقطع ابنه المهدي وجماعة من أهل بيته ومواليه وقواده. وشخص المهدي من خراسان منصرفا إلى العراق في هذه السنة، وهي سنة 144، فخرج أبو جعفر لاستقباله بنهاوند، وقدم فصار إلى الكوفة، فنزل الحيرة والمدينة التي بناها المنصور، وسماها الهاشمية، فأقام المهدي أياما، ثم ابتنى بريطة بنت أبي العباس بالحيرة. وبلغ المنصور أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن قد تحرك بالمدينة، فكاتبه أهل البلدان، فخرج حاجا، ولم يدخل المدينة في منصرفه، وصار إلى الربذة، فأتى بجماعة من العلويين، ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو أخو عبد الله بن حسن لامه، فسألهم عن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، فقالوا: ما نعلم له موضعا، ولا نعرف له خبرا. فقال لمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أقطعتك ووصلتك وفعلت وفعلت، ولم أواخذك بذنوب أهل بيتك، ثم تستميل علي عدوي، وتطوي أمره عني ؟ ثم أمر به، فضرب ضربا شديدا، وطيف به بالربذة على حمار، وأشخص القوم جميعا على أقتاب بغير وطاء. وانصرف أبو جعفر من حجه، فصار إلى بغداد، ونزل مدينته المعروفة بباب الذهب سنة 145، وكانت الاسواق داخل المدينة، فأخرجها إلى الكرخ، ولم يقر أبو جعفر إلا أياما حتى أتاه الخبر بخروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن وظهور أمره، فرجع إلى الكوفة، فأقام بقصر ابن هبيرة بين الكوفة وبغداد أياما، وولى رياح بن عثمان بن حيان المري المدينة، وقال: ما وجدت لهم غيرك، ولا أعلم لهم سواك. فلما قدم رياح المدينة قام على المنبر، فخطب


[ 375 ]

خطبة له مشهورة يقول فيها: يا أهل المدينة ! أنا الافعى ابن الافعى ابن عثمان ابن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراكم، المفني رجالكم، والله لادعها بلقعا لا ينبح فيها كلب. فوثب عليه قوم منهم، وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا ! فكتب إلى أبي جعفر يخبره بسوء طاعة أهل المدينة، فأرسل أبو جعفر إلى رياح رسولا، وكتب معه كتابا إلى أهل المدينة يأمره أن يقرأه عليهم، وكان في الكتاب: أما بعد يا أهل المدينة، فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الاكباد، بعاد الارحام، سو ؟ 1 قعر بيوتكم يفعلون ما يؤمرون، والسلام. فصعد رياح المنبر، وقرأ الكتاب، فلما بلغ: يذكر غشكم، صاحوا من كل جانب: كذبت يا ابن المجلود حدين، ورموه بالحصى، وبادر المقصورة، فأغلقها، فدخل دار مروان، ودخل عليه أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد المخزومي فقال: أصلح الله الامير ! إنما يصنع هذا رعاع الناس، فاقطع أيديهم، واجلد ظهورهم. فقال له بعض من حضر من بني هاشم: لا نرى هذا، ولكن ارسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة، فاقرأ عليهم كتاب المنصور. فجمعهم وقرأ عليهم كتاب المنصور، فوثب حفص بن عمر بن عبد الله بن عوف الزهري وأبو عبيدة بن عبد الرحمن بن الازهر هذا من ناحية وهذا من ناحية، فقالا لرياح: كذبت والله ! ما أمرتنا فعصيناك، ولا دعوتنا فخالفناك ! ثم قالا للرسول: أتبلغ أمير المؤمنين عنا ؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قالا: فقل له: أما قولك إنك تبدل المدينة وأهلها بالامن خوفا، فإن الله عز وجل وعدنا غير هذا. قال الله عزو جل: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا


1 هكذا في الاصل دون نقط (*)

[ 376 ]

يعبدوني لا يشركون بي شيئا، فنحن نعبده لا نشرك به شيئا. وظهر محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بالمدينة، مستهل رجب سنة 145، فاجتمع معه خلق عظيم، وأتته كتب أهل البلدان ووفودهم، فأخذ رياح ابن عثمان المري عامل أبي جعفر، فأوثقه بالحديد، وحبسه، وتوجه ابراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسن إلى البصرة، وقد اجتمع جماعة، فأقام مستترا، وهو يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته، فلما بلغ أبا جعفر أراد الخروج إلى المدينة، ثم خاف أن يدع العراق مع ما بلغه من أمر إبراهيم، فوجه عيسى بن موسى الهاشمي ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم، فصار إلى المدينة، وخرج محمد إليه في أصحابه، فقاتلهم في شهر رمضان، ومضى أصحابه إلى الحبس فقتل رياح بن عثمان. وكانت أسماء ابنة ا عبد الله بن عبيدالله بن العباس بالمدينة، وكانت معادية لمحمد بن عبد الله، فوجهت بخمار أسود قد جعلته على قصبة مع مولى لها حتى نصبه على مئذنة المسجد، ووجهت بمولى لها يقال له مجيب العامري إلى عسكر محمد، فصاح: الهزيمة الهزيمة ! قد دخل المسودة المدينة. فلما رأى الناس العلم الاسود وانهزمزا، وأقام محمد يقاتل حتى قتل. فلما قتل محمد بن عبد الله بن حسن وجه عيسى بن موسى كثير بن الحصين العبدي إلى المدينة، فدخلها، فتتبع أصحاب محمد، فقتلهم وانصرف إلى العراق. وكان ابراهيم بن عبد الله قصد إلى الكوفة، وهو لا يشك أن أهل الكوفة يثبون معه بأبي جعفر، فلما صار بالكوفة لم يجد ناصرا، وبلغ أبا جعفر خبره، فوضع الارصاد والحرس بكل موضع، فرام الخروج فلم يقدر، فعلم أنه قد أخطأ، فأعمل الحيلة. وكان مع ابراهيم رجل يقال له سفيان بن يزيد العمي، فصار إلى أبي جعفر فقال له: يا أمير المؤمنين ! تؤمنني وأدلك على إبراهيم بعد أن أدفعه إليك ؟ فقال: أنت آمن، وأين هو ؟ قال: بالبصرة، فوجه معي برجل تثق به، وحملني على دواب البريد، واكتب إلى عامل البصرة


[ 377 ]

حتى أدله عليه فيقبض عليه. فوجه معه بأبي سويد صاحب طاقات أبي سويد ببغداد، في باب الشأم، فخرج ومعه غلام عليه جبة صوف، وعلى عنقه سفرة فيها طعام، حتى ركب البريد معه أبو سويد وذلك الغلام، فلما صار إلى البصرة قال سفيان لابي سويد انتظرني حتى أعرف خبر الرجل ! ومضى فلم يعد، وكان الغلام الذي عليه الجبة الصوف ابراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، فلما أبطأ صار أبو سويد إلى سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، وكان عامل الناحية، فقال له: أين الرجل ؟ قال: لا أدري، فكتب إلى أبي جعفر، فعلم أنه إبراهيم، وأنها حيلة. وخرج ابراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالبصرة، وقد بايع أهلها، وكان خروجه في أول شهر رمضان، فقصد دار الامارة، والامير سفيان بن معاوية المهلبي، فتحصن منه في القصر، ثم طلب الامان، فآمنه إبراهيم، فخرج سفيان بن معاوية وأسلم البلد، فقبض ابراهيم على بيت المال وغيره. وكان في البلد جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي فخرجا إلى ميسان، فأقاما هناك متحصنين في خندق، ووجه إبراهيم بن عبد الله إلى الاهواز المغيرة بن الفزع السعدي، فأخرج محمد بن الحصين عاملها، وغلب على البلد، ووجه يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب إلى فارس، فدخلها، وأخرج عنها اسماعيل بن علي، ووجه هارون ابن سعد العجلي إلى واسط واستولى على ما حولها، ووجه برد بن لبيد اليشكري إلى كسكر، فغلب عليها. وخرج ابراهيم من البصرة واستخلف نميلة بن مرة الا سعدي، وكان قد أحصى ديوانه، فكانوا ستين ألفا، فخرج من البصرة في أول ذي القعدة، فأخذ على كسكر يقصد المنصور، وكان أبو جعفر قد كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بسرعة القدوم، فلما وصله قال له: يا أبا موسى ! أنت أولى بالفتح من جعفر ومحمد ابني سليمان، فانفذ ليكمل الله الظفر على يديك. فخرج في


[ 378 ]

ثمانية عشر ألفا من الجند وشيعة أبي جعفر، وكتب إلى جعفر ومحمد ابني سليمان ابن علي أن يصيرا معه. وزحف ابراهيم حتى صار إلى قرية يقال لها باخمرا، وصار عيسى بن موسى إلى قرية يقال لها سحا 1، وقدم حميد بن قحطبة الطائي للقتال، والتحمت الحرب، وكانت أشد حرب، والدائرة على عيسى بن موسى حتى شك الناس في علو ابراهيم وظفره، ثم ان سلم بن قتيبة الباهلي خرج على أصحاب ابراهيم من ناحية بخيل، فتوهموا كمينا، فانهزموا، وبقي ابراهيم في أربعمائة من الزيدية يحارب أشد محاربة، وكان ابراهيم يدعو إلى أخيه محمد، فلما قتل محمد دعا إلى نفسه. وحدثني رجل من القحطانية قال: أخبرني… 1 قال: رأيت ابراهيم في اليوم الذي واقعه عيسى على بغلة دهماء، وسديف بن ميمون آخذ بشفر بغلته، وهو يقول: خذها أبا إسحاق مليتها * في سيرة ترضى وعمر طويل وظهر ابراهيم ظهورا شديدا حتى هزم العسكر مرة بعد أخرى، وزحف حتى قرب من الكوفة، وحتى دعا أبو جعفر بنجائبه ليصير إلى بغداد، وكان العلو في ابراهيم حتى انه لم يشك أنه يدخل الكوفة. وكان أبو جعفر لا ينام في تلك الليالي، وحمل إليه امرأتان، فاطمة بنت محمد الطلحية، وأم الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد، فوجه بهما إلى بغداد، ولم يكشف لهما كشفا. ولما أن هزم أصحاب ابراهيم قام يحارب أشد حرب في أربعمائة من أصحابه إلى أن قتل وأخذ رأسه، فوجه به إلى أبي جعفر وهو بالكوفة،


1 هكذا بدون نقط في الاصل 2 بياض في الاصل (*)

[ 379 ]

فوضع بين يديه، وأذن للناس فجعلوا يدخلون، فينالون من ابراهيم وأخيه وأهله، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني، فقال: اعظم الله أجرك، يا أمير المؤمنين، في ابن عمك، وغفر له ما فرط فيه من حقك ! فسر بذلك أبو جعفر، وقال: أبا خالد، مرحبا وأهلا، هاهنا، فعلم الناس أنه قد سرته مقالته، فقالوا مثل قوله. وأتاه الحسن بن زيد، فعرض عليه الرأس، فلما رآه استنقع لونه وتغير وجهه، فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد قتلته صواما قواما، وما كنت أحب أن تبوء بإثمه. فقال له رجل من أهله: كأنك تزري على أمير المؤمنين في قتله ؟ فقال: كأنك أردت مني أن أكذب عليه وقد صار إلى الله ؟ فقال أبو جعفر: والله ما كنت أنتظر إلا أن يدخل صاحبك من ذلك الباب، فأدعو بك، فأضرب عنقك وأخرج من الباب الآخر. فقال له: أو كنت أسبقك إلى ذلك. وانصرف أبو جعفر بعد قتل ابراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بثلاثة أشهر، فنزل مدينة بغداد نزول مستوطن في شهر ربيع الاول سنة 146، وكان ذلك من شهور العجم في تموز، وأشخص المهدي إلى خراسان عاملا عليها، ومعه وجوه الجند والصحابة، فاجتمع قواد خراسان إلى أبي جعفر، وذكروا له فعال المهدي في نبل أخلاقه، ومدحوه، وسألوه أن يصير إليه تولية العهد من بعده، فكتب إلى عيسى بن موسى، وهو بالكوفة، يعلمه ما قد وقع بقلوب أهل خراسان وغيرهم من هذا الامر، وكان عيسى بن موسى يقول: إن له ولاية العهد بعد أبي جعفر، فلما ورد عليه كتاب أبي جعفر بما اجتمع عليه القواد وأهل خراسان من تصيير ولاية العهد من بعده للمهدي، وأشار عليه بأن يسبق إلى ذلك، كتب إليه عيسى يعظم عليه هذا الامر، ويذكر له ما في نكث العهود ونقض الايمان، وانه لا يأمن أن يفعل الناس هذا في بيعته وبيعة ابنه، وجرت بينهما مراسلات. وقدم عيسى بغداد، فوثب به الجند يوما بعد يوم، وصاروا إلى بابه حتى خاف على نفسه، فلما رأى ذلك رضي وسلم، فبايع المنصور بولاية العهد


[ 380 ]

لابنه المهدي سنة 147، ولم يبق أحد إلا دخل في البيعة، وجعل لعيسى ولاية العهد بعد المهدي، والمهدي يومئذ بخراسان، وأتته كتب أبيه بالبيعة له، فبايع من معه من القواد وأهل خراسان جميعا خلا باذغيس، فإنه خالف بها استاذسيس، فادعى النبوة، وصحبه على ذلك خلق كثير، فوجه إليه المهدي خازم بن خزيمة التميمي، فحاربه، ففض جموعه، فأسره وحمله إلى أبي جعفر إلى بغداد، فقتله. وفي هذه السنة كان انقضاض الكواكب.


[ 381 ]

وفاة ابي عبد الله جعفر بن محمد وآدابه وتوفي أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، بالمدينة سنة 148، وله ست وستون سنة، وكان أفضل الناس وأعلمهم بدين الله، وكان من أهل العلم الذين سمعوا منه، إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالم. قال سفيان: سمعت جعفرا يقول: الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وترك حديث لم نروه أفضل من روايتك حديثا لم تحصه. إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالفه فدعوه. وقال جعفر: ثلاثة يجب لهم الرحمة: غني افتقر، وعزيز قوم ذل، وعالم تلاعب به الجهال. وقال: من أخرجه الله من ذل المعاصي إلى عز التقوى أغناه الله بغير مال، وأعزه الله بغير عشيرة، ومن خاف الله أخاف الله منه كل شئ، ومن لم يخف الله أخاف الله من كل شئ، ومن رضي من الله باليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل، ومن لم يستح من طلب الحلال خفت مؤونته ونعم أهله، ومن زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، فأطلق لسانه من أمور الدنيا دائها ودوائها، وأخرجه منها سالما. وروي أنه قال، لما نزلت على رسول الله: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم، الآية، قال: ومن لم يتعز بعزاء رسول الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن اتبع طرفه ما في أيدي الناس طال همه ولم يشف غيظه، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في كل مأكل ومشرب، فقد قصر عمره، ودنا عذابه.


[ 382 ]

وقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فغرفها بقلبه، وشكرها بلسانه، إلا ما أعطى خير مما أخذ. وقال: إن مما ناجى الله عزوجل به موسى: يا موسى ! لا تنسني على حال، ولا تفرح بكثرة المال، فإن نسياني يميت القلب، وعند كثرة المال تكثر الذنوب. يا موسى ! كل زمان يأتي بالشدة بعد الشدة، وبالرخاء بعد الرخاء، والملك بعد الملك، وملكي قائم لا يزول، ولا يخفى علي شئ في الارض ولا في السماء، وكيف يخفى علي ما كان ابتداؤه مني، وكيف لا تكون همتك فيما عندي، وأنت ترجع لا محالة إلي ؟ وقال: خلتان من لزمهما دخل الجنة، فقيل: وما هما ؟ قال: احتمال ما تكره، إذا أحبه الله، وترك ما تحب، إذا كرهه الله. فقيل له: من يطيق ذلك ؟ فقال: من هرب من النار إلى الجنة. وقال: فعل المعروف يمنع ميتة السوء، والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر، وقول لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. وقال: ما توسل إلي أحد بوسيلة ولا تذرع بذريعة هي أحب إلي ولا أقرب مني من يد أسلفته إياها أتبع بها أختها لاحسن ريها وحفظها، إذا كان منع الاواخر يقطع لسان شكر الاوائل، وما سمحت نفسي برد بكر من الحوائج. وقال: أوحى الله إلى موسى بن عمران: ادخل يدك في فم التنين إلى المرفق، فهو خير لك من مسألة من لم يكن للمسألة بمكان. وقال: لا تخالطن من الناس خمسة: الاحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والكذاب، فإن كلامه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد منك القريب، والفاسق، فإنه يبيعك بأكله أو شربه، والبخيل، فإنه يخذلك أحوج ما تكون إليه، والجبان، فإنه يسلمك ويتسلم الدية. وقال: المؤمنون يألفون ويؤلفون ويغشى رحلهم.


[ 383 ]

وقال: من غضب عليك ثلاث مرات، فلم يقل فيك سوءا، فاتخذه لك خلا، ومن أراد أن تصفو له مودة أخيه، فلا يمارينه ولا يمازجنه ولا يعده ميعادا فيخلفه. وكان لجعفر بن محمد من الولد اسماعيل، وعبد الله، ومحمد، وموسى، وعلي، والعباس. قال اسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوما، وقد اخضلت لحيته بالدموع، فقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك ؟ فقلت: وما ذلك، يا أمير المؤمنين ؟ قال: فإن سيدهم وعالمهم وبقية الاخيار منهم توفي. فقلت: ومن هو، يا أمير المؤمنين ؟ قال: جعفر بن محمد. فقلت: أعظم الله أجر أمير المؤمنين، وأطال لنا بقاءه ! فقال لي: إن جعفرا كان ممن قال الله فيه: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، وكان ممن اصطفى الله، وكان من السابقين بالخيرات. وكان اسماعيل بن علي من خيار بني هاشم وأفاضلهم، ولاه أبو جعفر المنصور فارس، وقد خرج مهلهل الحروري بها، فلقيه في جمع، فقتله، وهزم عسكره، وأسر من أصحابه أربعمائة، وكان عبد الصمد أخوه معه، فقال: أصلح الله الامير، اضرب أعناقهم ! فقال له اسماعيل بن علي: إن أول من علم قتال أهل القبلة علي بن أبي طالب، ولم يكن يقتل أسيرا، ولا يتبع منهزما، ولا يجهز على جريح. وكان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس يتولى لابي جعفر قنسرين والعواصم، فبلغه كثرة عدده ومواليه، فخافه، فكتب إليه في القدوم عليه، فكتب: انه شديد العلة، فلم يقبل ذلك، وكان قد سل فصار إلى بغداد، فلما رآه أبو جعفر صرفه، ولم يأمر له بصلة ولا بر، فقال: إن أمير المؤمنين يئس مني، ففعل هذا بي، والله يحيى العظام وهي رميم. فلما صار إلى عانات من كور الفرات مات، وكان نظير أبي جعفر في السن.


[ 384 ]

وولى أبو جعفر أهل بيته البلدان، فولى اسماعيل بن علي فارس، وسليمان ابن علي البصرة، وعيسى بن موسى الكوفة، وصالح بن علي قنسرين والعواصم، والعباس بن محمد الجزيرة، وعبد الله بن صالح حمص، والفضل بن صالح دمشق، ومحمد بن ابراهيم الاردن، وعبد الوهاب بن ابراهيم فلسطين، والسري بن عبد الله بن تمام بن العباس بن عبد المطلب مكة، وجعفر بن سليمان المدينة، ويحيى بن محمد الموصل، ثم صرفه وولى ابنه جعفرا، وصير معه هشام بن عمرو. وكان عماله من العرب يزيد بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الاشعث الخزاعي، وزياد بن عبيدالله الحارثي، ومعن بن زائدة الشيباني، وخازم بن خزيمة التميمي، وعقبة بن سلم الهنائي، ويزيد بن أسيد السلمي، وروح بن حاتم المهلبي، والمسيب بن زهير الضبي، وعمر بن حفص المهلبي، والحسن بن قحطبة الطائي، وسلم بن قتيبة الباهلي، وجعفر بن حنظلة البهراني، والربيع بن زياد الحارثي، وهشام بن عمرو التغلبي، فكان ينقل هؤلاء في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم، وكان عماله من مواليه: عمارة بن حمزة، ومرزوقا أبا الخصيب، وواضحا، ومنارة، والعلاء، ورزينا، وغزوان، وعطية، وصاعدا، ومريدا، وأسدا، والربيع. وكتب المنصور إلى معن بن زائدة الشيباني، وهو على اليمن، سنة 151: أن يقدم، استخلف ابنه زائدة على اليمن، وقدم على أبي جعفر، وكان معن قد أسن، فقال له أبو جعفر: كبرت سنك يا معن ! قال: في طاعتك، يا أمير المؤمنين ! قال: وإنك لتتجلد. قال: على أعدائك. قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك ! فأنفذه إلى خراسان والمهدي بها، فانصرف المهدي، وأقام معن لقتال من هناك من الخوارج، حتى قتل منهم خلقا عظيما وأفناهم. فلما رأوا أنهم لا قوة لهم بمحاربته استعملوا الحيلة. وكان يبني دارا له ببست، فدخل بعضهم في هيئة البنائين، ثم صيروا السيوف في طنان القصب، فأقاموا


[ 385 ]

أياما، فلما توسطوا الدار أخرجوا السيوف ثم حملوا عليه، وهو في رداء، فقتلوه، فتجرد يزيد بن مزيد ابن أخيه، فقتل من الخوارج خلقا عظيما، حتى جرت دماؤهم كالنهر، ثم شخص إلى بغداد واتبعه الشراة، وكان يركب في موكب ضخم من موالي عمه وعشيرته، فلم يظفروا له بغرة، حتى صار على الجسر ببغداد، فشدوا عليه، فترجل، فقتل منهم خلقا عظيما، وضربوه ضربات بالسيوف، وكانت وقعة جليلة، وقتل من الخوارج قتالا عظيما، وأمن الناس، فلا يعلم أن الخوارج دخلت قط بغداد ظاهرا، فقتلت أحدا، إلا ذلك اليوم. وأقام زائدة بن معن بن زائدة خليفة أبيه باليمن حتى قتل أبوه، واستعمل المنصور مكانه الحجاج بن منصور، ثم صرفه، فاستعمل مكانه يزيد بن منصور. وخالف أهل اليمامة والبحرين سنة 152، وقتلوا أبا الساج، عامل أبي جعفر عليهم، فوجه عليهم عقبة بن سلم الهنائي، فقتل من بها من ربيعة مجازاة لما فعل معن باليمن، وقال: لو كان معن على فرس جواد، وأنا على حمار أعرج، لسبقته إلى النار. وسبى العرب والموالي. وقدم على عقبة رسول ببشارة من عند المنصور، فقال له عقبة: ما عندي مال فأعطيك إلا أنني أعطيك ما قيمته خمسمائة ألف درهم. قال: وما ذاك ؟ قال: أدفع إليك خمسين رجلا من ربيعة، فتنطلق بهم، فإذا صرفت إلى البصرة أظهرت أنك تريد ضرب أعناقهم وصلبهم على أبواب أعداء أمير المؤمنين، فإنك لا تشير إلى أحد إلا افتدى منك بعشرة آلاف درهم. قال: قد رضيت، فدفعهم إليه، فقدم بهم البصرة، ووقف بهم في المربد، وأظهر أنه يريد ضرب أعناقهم وصلبهم، فاجتمع الناس حتى كادت تكون فتنة، وسوار ابن عبد الله قاضي البصرة يومئذ، فأرسل إلى الرسول، فأحضره، ثم وجه فحبس القوم، وقال: تمسك عنهم حتى آمرك، وكتب إلى المنصور بخبرهم وعظم عليه الخطب منهم، وكتب إليه أنه قد عفا عنهم وجزاه الخير. وقتل الياس بن حبيب الفهري عامل افريقية، فولى أبو جعفر حبيب بن عبد


[ 386 ]

الرحمن بن حبيب ابن أخي الياس، فأقام بها مدة، ووثب رجل يقال له عاصم بن جميل الاباضي، فقتله، وكثرت الاباضية بافريقية، وولت عليهم أبا الخطاب عبد الاعلى بن السمح المعافري، فاستفحل أمره، وغلب على البلد، فولى أبو جعفر محمد بن الاشعث الخزاعي، فقدم طرابلس، وزحف إليه أبو الخطاب من القيروان، فحاربه، فقتله محمد بن الاشعث، ووجه برأسه إلى أبي جعفر. وصار محمد بن الاشعث إلى القيروان، فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج عليه هاشم بن اشتاخنج الخراساني، وضافره من بالبلد من الجند وأهل خراسان، فأخرجوه عن البلد، وولوا عليهم رجلا يقال له عيسى بن موسى الخراساني، وانصرف ابن الاشعث إلى العراق. وكتب أبو جعفر إلى الاغلب بن سالم التميمي بولاية البلد، فوثب أهل افريقية، فنحوا الاغلب بن سالم، وولوا الحسن بن حرب، فلما بلغ أبا جعفر الخبر كره اضطراب البلد، وكتب إلى الحسن بن حرب بولاية البلد. فلما سكن البلد ولى عمر بن حفص المهلبي هزارمرد، فقدم البلد، فلم يقم إلا يسيرا حتى وثب به يعقوب بن تميم الكندي، المعروف بأبي حاتم، ومعه أهل البلد، فحاصره بالقيروان، فلم يزل محاصرا حتى قتل سنة 153، وغلب على البلد أبو حاتم يعقوب بن تميم الاباضي. وولى أبو جعفر يزيد بن حاتم المهلبي المغرب سنة 154، وخرج يشيعه، حتى أتى بيت المقدس، فأمره بالنفوذ، وانصرف أبو جعفر، فاستنفر الشأمات والجزيرة، وقدم يزيد بن حاتم مصر، فأقام بها يسيرا، ثم شخص إلى افريقية، فصار إلى طرابلس في خلق عظيم، وزحف إليه أبو حاتم الاباضي، فالتقيا بطرابلس، فقاتله، وقامت الحرب بينهما أياما، فقتل أبو حاتم وخلق عظيم من أصحابه. وقدم يزيد بن حاتم القيروان سنة 155، ونادى في الناس جميعا بالامان، ولم يزل مقيما على البلد خلافة أبي جعفر وخلافة المهدي وخلافة موسى وبعض


[ 387 ]

خلافة الرشيد. وتحرك أهل الطالقان، فوجه إليهم عمر بن العلاء، ففتح الطالقان ودنباوند وديلمان، وسبى من الديلم سبايا كثيرة، ثم صار إلى طبرستان، فلم يزل مقيما بها خلافة المنصور. ووجه المنصور الليث، مولى أمير المؤمنين، إلى فرغانة، وملكها يومئذ فبران بن افرا كفون 1 ومنزله مدينة يقال لها كاشغر، فحاربهم محاربة شديدة، حتى طلب ملك فرغانة الصلح، فصالحهم على مال كثير، وأوفد ملك فرغانة رجلا من أصحابه يقال له باتيجور، فعرض عليه الاسلام، فأبى، فلم يزل محبوسا إلى أيام المهدي، وقال: لا أخون الملك الذي وجهني وبنى أبو جعفر مدينة المصيصة، وكانت حصنا صغيرا، قيل إن عبد الله ابن عبد الملك بن مروان كان بناه، وكانت الروم تطرقهم في كل وقت فتستبيح ذلك الموضع، فبنى عليها السور، وجعل عليها الخندق، وأسكنها المقاتلة، وحمل إليها أهل المحابس، وكان الذي تولى بناءها العباس بن محمد وصالح بن علي. وأخذ أبو جعفر أموال الناس، حتى ما ترك عند أحد فضلا، وكان مبلغ ما أخذ لهم ثمانمائة ألف ألف درهم، وكان يقول لاهل بيته: إني لاجهل موضعي، حتى أحذر منكم، لانه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ، فأنا أراعيكم ببصري، وأهتم بكم بنفسي، فالله الله في أنفسكم فصونوا، وفي أموالكم فاحتفظوا بها، وإياكم والاسراف، فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له: من أنت ؟ وكان يقول: الملوك ثلاثة: فمعاوية وكفاه زياده، وعبد الملك وكفاه حجاجه، وأنا ولا كافي لي. وكان يقول: من قل ماله قل رجاله، ومن قل رجاله قوي عليه عدوه، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه، ومن اتضع ملكه استبيح حماه.


1 هكذا بدون نقط في الاصل (*)

[ 388 ]

وقال يوما لاصحابه: إن هذا الملك أفضى إلي وأنا حنيك السن قد حلبت هذا الدهر أشطره، وزاحمت المشاة في الاسواق، وشاهدتهم في المواسم، وغازيتهم في المغازي، فوالله ما أحب أن أزداد بهم خبرا، على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي منذ تواريت عنهم بهذه الجدارات، وتشاغلت عنهم بأمورهم، مع أني والله ما لمت نفسي أن أكون قد أذكيت العيون عليهم، حتى أتتني أخبارهم، وهم في منازلهم. وحدثني بعض أشياخنا قال: إن أبا جعفر يوما ليخطب ويذكر الله إذ قام إليه رجل فقال: أذكرك من تذكر، يا أمير المؤمنين، به. فقال: سمعا ! سمعا لمن قبل عن الله، وذكر به، وأعوذ بالله أن تأخذني العزة بالاثم لقد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين، وأنت أيها القائل ما الله أردت بها، وإنما أردت أن يقال: قام وقال، وعوقب فصبر، وأهون بقائلها لو هممت فاهتبلها، ويلك، إذ غفرت، وإياك وإياكم أيها الناس وأختها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، وردوا الامر إلى أهله تصدروه كما أوردوه. ثم عاد إلى الموضع من الخطبة. وحج أبو جعفر في خلافته خمس حجج سنة 140 و 144 و 147 و 152 و 158، فلم يتم الحج، وهلك في أول العشر، فأقام الحج إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي. وقال أبو جعفر لما حضرته الوفاة لمواليه: إني كنت رأيت في المنام، قبل أن يفضي هذا الامر إلينا، كأنا في المسجد الحرام، إذ خرج النبي من البيت، ومعه لواء، فقال: أين عبد الله ؟ فقمت أنا وأخي وعمي، فسبقنا أخي، يعني أبا العباس، فأخذ اللواء، فخطا به خطوات أحصيها وأعدها، ثم سقط وسقط اللواء من يده، فأخذه رسول الله، ثم رجع إلى موضعه، فقال: أين عبد الله ؟ فقمت أنا وعمي، فزحمت عمي، فألقيته، وتقدمت، فأخذت اللواء، فخطوت به خطوات أحصيها وأعدها، ثم سقطت وسقط اللواء


[ 389 ]

من يدي، وقد انقضت تلك الخطا وأنا ميت في يومي. ومات لثلاث خلون من ذي الحجة سنة 158، وهو ابن 68 سنة، ودفن ببئر ميمون، وصلى عليه ابنه صالح، فكانت ولايته 22 سنة، وخلف من الولد الذكور ستة: محمدا المهدي، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية، وصالحا، ويعقوب، وأمهما الطلحية… 1 وكان ابنه جعفر الاكبر قد توفي في حياته، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية. وكان الغالب عليه أبو أيوب الخوزي، وكان أبو أيوب كاتبا لسليمان ابن حبيب المهلبي الذي كان أبو جعفر عامله في أيام بني أمية، فعتب على أبي جعفر، فأمر بضربه وحبسه، فتخلصه أبو أيوب، فحفظ ذلك له، فاستوزره، ثم سخط عليه وقتله، واستصفى ماله، وقتله سنة 154، ولم يعرف أن أحدا غلب عليه بعد. وكان له سمار منهم: هشام بن عمرو التغلبي، وعبد الله بن الربيع الحارثي، وإسحاق بن مسلم العقيلي، والحارث بن عبد الرحمن الحرشي. وكان أول من ولى القضاة الامصار من قبله، وكان يوليهم أصحاب المعاون، وكان قضاته: عثمان بن عمر التميمي، ويحيى بن سعيد الانصاري، ثم عبد الله بن صفوان الجمحي، وعلى الكوفة شريك بن عبد الله النخعي، وعلى البصرة عمر بن عامر السلمي، ثم سوار بن عبد الله العنبري، وعلى مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي، وعلى شرطه عبد الجبار بن عبد الرحمن الازدي، إلى أن عزله وولاه خراسان، واستعمل أخاه عمر بن عبد الرحمن، ثم عزله لما عصى أخوه، وفتك به، واستعمل موسى بن كعب التميمي، ثم المسيب ابن زهير الضبي، وكان في أول مرة خليفة موسى بن كعب، ثم مات موسى، وكان كعب بن مالك على حرسه، ثم عثمان بن نهيك، ثم استعمل مكانه أبا العباس الطوسي، وكان حاجبه عيسى بن روضة مولاه، ثم حجبه الربيع مولاه،


1 بياض في الاصل (*)

[ 390 ]

وغلب على أكثر أموره. وأقام الحج للناس في أيامه في سنة 136 اسماعيل بن علي، وقيل أبو جعفر، وكان معه أبو مسلم، سنة 137 اسماعيل بن علي، سنة 138 فضل بن صالح ابن علي، سنة 139، وهو عام الخصب، العباس بن محمد بن علي، سنة 140 أبو جعفر المنصور، سنة 141 صالح بن علي، وهو على دمشق وحمص وقنسرين، سنة 142 اسماعيل بن علي، سنة 143 عيسى بن موسى بن محمد ابن علي، سنة 144 أبو جعفر المنصور، سنة 145 السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبدالمطب، سنة 146 عبد الوهاب بن ابراهيم بن محمد بن علي، سنة 147 أبو جعفر المنصور، سنة 148 جعفر ابنه، سنة 149 محمد بن ابراهيم بن علي، سنة 150 عبد الصمد بن علي، سنة 151 محمد بن ابراهيم، سنة 152 أبو جعفر المنصور، سنة 153 المهدي، وهو ولي عهد أبيه، سنة 154 محمد بن ابراهيم، سنة 155 عبد الصمد بن علي، سنة 156 العباس بن محمد، سنة 157 ابراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، سنة 158 خرج أبو جعفر يريد الحج، فمات، وأقام الحج ابراهيم. وغزا بالناس في أيامه سنة 138 صالح بن علي على جند الشأم، والعباس بن محمد بن علي على خراسان، ولم يغز بلاد الروم منذ غزا الغمر بن يزيد في سنة 125 إلى هذه الغاية، وأقام صالح بن علي واليا على الشأم والثغور، وهو يغزي بلاد الروم أمراء من قبله، عليهم ابنه الفضل بن صالح وغيره، سنة 142 العباس بن محمد، سنة 143 العباس أيضا، سنة 145 حميد بن قحطبة، سنة 146 محمد بن ابراهيم، سنة 147 السري بن عبد الله بن الحارث، سنة 148 الفضل بن صالح، سنة 149 يزيد بن أسيد، سنة 155 يزيد بن أسيد، سنة 157 زفر بن عاصم الهلالي. وكان الفقهاء في زمانه: يحيى بن سعيد الانصاري، محمد بن عبد الرحمن ابن أبي طوالة، هشام بن عروة بن الزبير، محمد بن عمر بن علقمة، موسى


[ 391 ]

ابن عبيدة بن أبي صعصعة، ربيعة الرأي، وهو ابن أبي عبد الرحمن، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عثمان بن الاسود، حنظلة بن أبي سفيان، عبد الملك بن جريج، عبد العزيز بن أبي الرواد، ابراهيم بن يزيد، محمد بريد 1 الاندي (الاتدي)، أبا سار الساري 2، واسمه هرار بن مرة، سليمان بن مهران الكاهلي، الحسن بن عبد الله النخعي، أبا حيان يحيى بن سعيد التيمي، مجالد بن سعيد، محمد بن السائب الكلبي، الاجلح بن عبد الله الكندي، الرا 3 بن أبي زائدة الهمداني، يونس بن أبي اسحاق السبيعي، الحسن بن عمر الفقيمي، محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، الحجاج بن أرطاة، أبا حنيفة النعمان بن ثابت، محمد بن عبد الله العرزمي، الحسن بن عمارة، مسعر بن كدام، أبا حمزة الثمالي، سفيان بن سعيد الثوري، عبد الجبار بن عباس الهمداني، يحيى بن سلمة بن كهيل، عبد الله بن عون المزني، خالد بن مهران، أبا المعتمر، سليمان التيمي، عمرو بن عبيد، سوار بن عبد الله، أبا الاشهب العطاردي، حميد الطويل، شعبة بن الحجاج العبدي، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، عبد الله بن محرر، عمرو بن قيس الكندي، الاوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، غالب بن عبد الله العقيلي.


1 و 2 و 3 هكذا دون نقط في الاصل (*)

[ 392 ]

ايام المهدي وهو محمد بن عبد الله المنصور، وأمه أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن ذي سهم بن يزيد الحميري، وبويع في اليوم الذي توفي فيه المنصور، وأخذ الربيع له البيعة بمكة على من حضر من الهاشميين والقواد، وكان صالح بن المنصور حاضرا وموسى بن المهدي، فأنفذ إليه الخبر مع منارة مولى أبي جعفر ووصيته، فسار منارة اثني عشر يوما إلى بغداد، والمهدي بها، فأحضر القواد والهاشميين والصحابة، فبايعوا. وكانت الشمس يومئذ في الميزان أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والقمر في الجوزاء عشرين درجة وخمسين دقيقة، وزحل في الميزان ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة، والمشتري في الجدي سبع عشرة درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الجوزاء خمس درجات وأربعين دقيقة راجعا، والزهرة في الميزان خمسا وعشرين درجة وأربعين دقيقة، وعطارد في العقرب ثماني عشرة درجة وعشر دقائق، والرأس في الثور تسع درجات وعشر دقائق. وقرأ المهدي وصية أبي جعفر وكانت نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم ! هذا ما عهد عبد الله أمير المؤمنين إلى المهدي محمد ابن أمير المؤمنين، ولي عهد المسلمين، حين أسند وصيته إليه بعده، واستخلفه على الرعية من المسلمين، وأهل الذمة، وحرم الله وخزائنه، وأرضه التي يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. إن أمير المؤمنين يوصيك بتقوى الله في البلاد، والعمل بطاعته في العباد، ويحذرك الحسرة والندامة والفضيحة في القيامة، قبل حلول الموت، وعاقبة الفوت حين تقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب. هيهات أين منك المهل، وقد انقضى عنك الاجل. وتقول: رب أرجعني لعلي أعمل


[ 393 ]

صالحا، فحينئذ ينقطع عنك أهلك، ويحل بك عملك، فترى ما قدمته يداك، وسعت فيه قدماك، ونطق به لسانك، واستركبت عليه جوارحك، ولحظت له عينك، وانطوى عليه غيبك، فتجزى عليه الجزاء الاوفى إن شرا فشرا، وإن خيرا فخيرا، فلتكن تقوى الله من شأنك وطاعته من بالك، استعن بالله على دينك، وتقرب به إلى ربك ونفسك، فخذ منها ولا تجعلها للهوى، ولن تعمل الشر قامعا، فليس أحد أكثر وزرا، ولا أعز إثما، ولا أعظم مصيبة، ولا أجل رزيئة منك لتكاثف ذنوبك، وتضاعف أعمالك، إذ قلدك الله الرعية تحكم فيهم بمثل الذرة، فيقتضون منك أجمعون، وتكافي على أفعال ولاتك الظالمين، فإن الله يقول: إنك ميت، وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون، فكأني بك وقد أوقفت بين يدي الجبار، وخذلك الانصار، وأسلمك الاعوان، وطوقت الخطايا، وقرنت بك الذنوب، وحل بك الوجل، وقعد بك الفشل، وكلت حجتك، وقلت حيلتك، وأخذت منك الحقوق، واقتاد منك المخلوق في يوم شديد هوله، عظيم كربه، تشخص فيه الابصار لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم، ولا شفيع يطاع، فما عسيت أن يكون حالك يومئذ، إذا خاصمك الخلق، واستقضى عليك الحق، إذ لا خاصة تنجيك، ولا قرابة تحميك، تطلب فيه التباعة، ولا تقبل فيه الشفاعة، ويعمل فيه بالعدل، ويقضى فيه بالفضل، قال الله: لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب. فعليك بالتشمير لدينك والاجتهاد لنفسك، فافكك عنقك، وبادر يومك، واحذر غدك، واتق دنياك، فإنها دنيا غادرة موبقة، ولتصدق لله نيتك، وتعظم إليه فاقتك، وليتسع إنصافك، وينبسط عدلك، ويؤمن ظلمك، وواس بين الرعية في الاحتكام، واطلب بجهدك رضى الرحمن وأهل الدين، فليكونوا أعضادك، وأعط حظ المسلمين من أموالهم، ووفر لهم فيأهم، وتابع أعطياتهم عليهم، وعجل بنفقاتهم إليهم سنة سنة، وشهرا شهرا، وعليك بعمارة البلاد بتخفيف الخراج، واستصلح الناس


[ 394 ]

بالسيرة الحسنة والسياسة الجميلة، وليكن أهم أمورك إليك تحفظ أطرافك، وسد ثغورك، واكماش بعوثك، وارغب إلى الله عزوجل في الجهاد، والمحاماة عن دينه، واهلاك عدوه بما يفتح الله على المسلمين ويمكن لهم في الدين، وابذل في ذلك مهجتك ونجدتك ومالك، وتفقد جيوشك ليلك ونهارك، واعرف مراكز خيلك ومواطن رحلك، وبالله فليكن عصمتك وحولك وقوتك، وعليه فليكن ثقتك واقتدارك وتوكلك، فإنه يكفيك ويغنيك وينصرك، وكفى به مؤيدا ونصيرا. وأمره بعد ذلك بأمور يطول الكتاب بها فاقتصرنا على صدر الوصية. وأظهر جزعا شديدا على المنصور، ووردت الوفود عليه يعزونه، فجعل كل قوم يقولون بما أمكنهم حتى دخل شبيب بن شيبة فعزاه، ثم قال: يا أمير المؤمنين ! إن الله لم يرض لك إذ قسم لك الدنيا إلا بأسناها وأرفعها، فلا ترض لنفسك من الآخرة إلا بمثل ما رضي الله لك من الدنيا، وعليك بتقوى الله، فإنها عليكم نزلت، ومنكم أخذت، وإليكم ردت. وقدم الربيع مستهل المحرم، ومعه مفاتيح الخزائن، فجلس المهدي للناس في النصف من المحرم، وأمر الربيع، فأحضر دفتر القبوض، ووجه إلى كل من كان أبو جعفر قبض شيئا من ماله، فأحضره، وأقبل عليهم فقال: إن أمير المؤمنين المنصور كان بما حمله الله من أموركم، وقلده من رعايتكم، يدبر عليكم كما يدبر الوالد البر على ولده، وكان أنظر لكم منكم لانفسكم، وكان يحفظ عليكم ما لا تحفظون على أنفسكم، فحرس لكم من أموالكم ما لم يأمن ذهابه، وهذه أموالكم مبارك لكم فيها، فحللوا أمير المؤمنين من إبطائها عنكم. ثم أمر بإخراج من في المحابس من الطالبيين وغيرهم من سائر الناس، فأطلقهم، وأمر لهم بجوائز وصلات وأرزاق دارة، ثم أطلق سائر الناس، ولم يطلق أحدا إلا وكساه ووصله على قدره، حتى بلغ إلى عبد الله بن مروان، وكان في الحبس من أيام أبي العباس، فأمر بتخلية سبيله، وأعطاه عشرة آلاف


[ 395 ]

درهم، فقال له عيسى بن علي: إن في أعناقنا بيعة له، وقد كان هذا الرجل ولي عهد أبيه، وأنت أعلم، وقد كان وهب لكاتبي جوهرا قيمته ثلاثون ألفا. وكان سبب الجوهر الذي ذكره عيسى أن امرأة عبد الله بن مروان، وهي أم يزيد، قدمت الكوفة رجاء أن تجد من تكلمه في زوجها، وقيل لها: لو كلمت عيسى بن علي، فجاءت إلى كاتبه عباس بن يعقوب، فكلمته ووهبت له جوهرا كان بقي عندها، وسألته أن يكلم عيسى، فيتكلم فيه، فأخذ الجوهر ولم يكلمه، فقال عبد الله بن الربيع الحارثي، لما فعل المهدي ما فعل من رد الاموال، وإطلاق المحبسين، وأمن الخائفين، وصلات المعدمين: سمعت المنصور يقول للمهدي، لما ودعه عند خروجه إلى مكة: إني تركت الناس ثلاثة أصناف: فقيرا لا يرجو إلا غناك، وخائفا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونا لا يرجو الفرج إلا منك، فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية، لا تمدد لهم كل المد. ودخل الحارث بن عبد الرحمن إلى المهدي، فذكر ما حضر من أمر المنصور ومكر الربيع وقال: لقد رأيت من تدبيره ما لا يهتدي إليه أحد. قال: وما ذاك ؟ قال: لما توفي المنصور صير الربيع صالحا أخاك في صدر المجلس، وقدمه على جميع من حضر، فلما دفن قدم ابنك موسى، وقال لاخيك: كنت أولى بالتقدم لغيبة أخيك المهدي، فلما صار أبوك تحت الارض، وولي الامر أبو هذا كان أولى بالتقدم منك. فقال المهدي: إن ساس الملك أحد فليسسه مثل الربيع. وخلع المهدي عيسى بن موسى من ولاية العهد، واشترى ذلك بعشرة آلاف ألف درهم، وبايع لابنه موسى بولاية العهد من بعده، سنة 159، ثم بايع لابنه هارون بولاية العهد بعد موسى. وحج المهدي سنة 160، فجرد الكعبة وكساها القباطي والخز والديباج، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أعلاها إلى أسفلها، وكانت الكعبة في جانب


[ 396 ]

المسجد لم تكن متوسطة، فهدم حيطان المسجد الحرام، وزاد فيه زيادات، واشترى من الناس دورهم ومنازلهم، وأحضر الصناع والمهندسين من كل بلد، وكتب إلى واضح مولاه وعامله على مصر في حمل الاموال إلى مكة، واتخاذ الآلات، وما يحتاج إليه من الذهب والفسيفساء وسلاسل القناديل، والخروج بها حتى يسلمها إلى يقطين بن موسى ومحمد بن عبد الرحمن، وصير الكعبة في الموسط، وزاد مما يلي الكعبة إلى باب الصفا تسعين ذراعا، ومن الكعبة إلى باب بني شيبة ستين ذراعا، وصير ذرعه مكسرا مائة ألف ذراع وعشرين ألف ذراع، وطول المسجد من باب بني جمح إلى باب بني هاشم إلى العلم الاخضر أربعمائة ذراع وأربع أذرع، وفيه من الاساطين، مما حمل في البحر من مصر، أربعمائة وأربع وثمانون أسطوانة، طول كل أسطوانة عشر أذرع، وصير فيه أربع مائة طاق، وثمانية وتسعين طاقا، وجعل في المسجد الابواب ثلاثة وعشرين بابا، فكان المهدي آخر من زاد في المسجد الحرام وبنى العلمين اللذين يسعى بينهما وبين الصفا والمروة، وبينهما من الذرع مائة واثنتا عشرة ذراعا، فصار بين الصفا والمروة، لما أخرج المسجد إلى الموضع الذي هو فيه الساعة، سبعمائة وأربع وخمسون ذراعا، ووسع المسجد الذي لرسول الله، وزاد فيه مثل ما كان عليه، وحمل إليه عمد الرخام والفسيفساء والذهب، ورفع سقفه وألبس خارج القبر الرخام. وبنى الثغر المعروف بالحدث سنة 163، وكان فيه دفع للعدو وتسديد، وذلك أن الروم أغاروا على مرعش، فسبوا وقتلوا خلقا، فلما بنى المهدي الحدث عظم ارتفاق أهل الثغور به، وأغزى هارون ابنه في هذه السنة، ومعه جماعة من القواد والجند، وخرج يشيعه إلى جيحان، ففتح هارون في تلك الغزاة سمالو وعدة حصون، ثم أغزاه سنة 164 فبلغ إلى القسطنطينية، فطلب منه الروم الصلح، فصالحهم وانصرف. وعزل عقبة بن سلم الهنائي عن اليمامة والبحرين لما بلغه من قتله ما قتل من ربيعة، وقال: لا يراني الله أبوء بإثمه، ولا أرضى فعله. فلما قدم عقبة بن


[ 397 ]

سلم لقيه الحسن بن قحطبة، وقال له: يا عقبة ! أدخلت نفسك النار. فقال: ما أنصفتني، يا أبا الحسن، أدخلت نفسي النار لانفي عنك العار. وقدم غلام من أهل اليمامة من ربيعة كان عقبة بن سلم قتل أباه وعمه وخالين له وخمسة إخوة، فوقف له على باب المهدي، فلما جاز عقبة في موكبه ضربه بسكين مسمومة فقتله، وأخذ الغلام إلى المهدي، فسأله عن قصته فقصها عليه، فأراد تخليته، فتكلم القواد، وقالوا: والله ما فيه درك من عقبة، ولكنه إن ترك وثب كل يوم كلب من الكلاب على قائد فقتله. فأمر المهدى بضرب عنقه. واضطربت خراسان، وتحركت السغد وفرغانة، وخرج يوسف البرم، وهو رجل من موالي ثقيف ببخارى، يدعو إلى الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فاتبعه على ذلك خلق من الناس، فحارب السلطان، وخرج أحمد بن أسد إلى فرغانة، ففتح حتى وصل إلى كاسان، وهي المدينة التي ينزلها الملك، وكان يزيد بن مزيد الشيباني يحارب يحيى الشاري، فكتب إليه المهدي أن ينكفئ فيمن معه إلى يوسف البرم، فلقيه، فكانت بينهما وقعات عدة، ثم هزمه يزيد، فرفع علما أحمر، وأمن من يصير تحته، فصار أصحاب يوسف كلهم تحته، وأسر يوسف، فحمله إلى المهدي، فلما دخل إليه كلمه بكلام غليظ، فشتمه المهدي، فقال: لبئس ما أدبك أهلك ! فضرب عنقه وصلبه. وكتب إلى عمر بن العلاء، وكان بطبرستان، أن يصير إلى جرجان فيخرج من بها من المحمرة، بعد أن يدعوهم إلى الطاعة، فصار إلى جرجان، ففرق جمع المحمرة، وقتل عبدالقاهر، وفض الجمع. ووجه المهدي رسلا إلى الملوك يدعوهم إلى الطاعة. فدخل أكثرهم في طاعته، فكان منهم: ملك كابل شاه، يقال له حنحل 1، وملك طبرستان الاصبهبذ، وملك السغد الاخشيد، وملك طخارستان شروين، وملك باميان الشير وملك فرغانة فرنران 2، وملك أسروشنة أفشين، وملك الخرلخية جيغويه،


1 و 2 أسماء بدون نقط في الاصل (*)

[ 398 ]

وملك سجستان رتبيل، وملك الترك طرخان، وملك التبت حهورن 1، وملك السند الرأي، وملك الصين بغبور، وملك الهند وادراح 2، وهو فور، وملك التغزغز خاقان. واستعمل المهدي روح بن حاتم المهلبي على السند، فقدمها، والزط قد تحركوا بها، فلم يقم إلا يسيرا حتى عزل، وولي نصر بن محمد بن الاشعث الخزاعي، ثم ضمت السند إلى محمد بن سليمان بن علي الهاشمي، واستعمل عليها عبد الملك بن شهاب المسمعي، فولي أقل من عشرين يوما، وردت السند إلى نصر بن محمد بن الاشعث الخزاعي، ثم استعمل المهدي الزبير بن العباس من ولد قثم بن العباس بن عبد المطلب، ولم يبلغ البلد، فاستعمل المهدي مصبح ؟ 3 ابن عمرو التغلبي، وكانت العصبية بالسند أول ما وقعت، فاستعمل ليث بن طريف مولاه، فقدم المنصورة، فأقام بها شهرا، والزط قد كثروا، فجرد عليهم السيف، فأفناهم. وشخص المهدي إلى البصرة سنة 165 يريد الحج، فخبر بقلة الماء في الطريق، فأقام، وبلغه أن أمر السند قد اضطرب، فوجه إلى الليث بجيش من البصرة، وسار راجعا إلى بغداد. وخرج يريد الشأم، وعسكر بالبردان، فأتاه الخبر بوفاة عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، فانصرف إلى بغداد، حتى حضر جنازته، ومشى فيها، ثم رجع إلى معسكره. وخرج حتى صار إلى الثغر، ثم صار إلى بيت المقدس، فأقام أياما وانصرف، فلما صار بجند قنسرين لقيته تنوخ بالهدايا، وقالوا: نحن أخوالك يا أمير المؤمنين، فقال: من هؤلاء ؟ قيل: تنوخ، حي ينتمي إلى قضاعة، ووصف له حالهم وكثرة عددهم، وقيل له: إنهم كلهم نصارى. فقال:


1 و 2 و 3 أسماء بدون فقط في الاصل (*)

[ 399 ]

لا أرضاكم أنتم إلى خؤولتي، وارتد منهم رجل، فضرب عنقه، فخافوا فثبتوا على الاسلام. وتوفي عيسى بن موسى سنة 167، فولى المهدي ابنه موسى بن عيسى الكوفة وما كان إلى أبيه من الاعمال. وتوفي يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، وكان عامل أبي جعفر على اليمن، فاستعمل المهدي مكانه رجاء بن سلام بن روح بن زنباع الجذامي، ثم ولى علي بن سليمان بن علي، وهو الذي كتب إليه في إشخاص الغطريف ابن عطاء أخي الخيزران أم موسى وهارون ابنيه، وكان الغطريف غلاما لرجل من أهل جرش، فأعتقه، وكان يؤاجر نفسه بنطر كروم، فبعث إلى عامله على جرش في حمله، فوجده في كرم عليه جبة صوف، فكساه وحباه، وحمله إلى المهدي، فرفع منزله، ثم صرف عليا، وولى عبد الله بن سليمان، ثم صرفه، وولى منصور بن يزيد بن منصور الحميري، ثم صرفه، وولى عبد الله بن سليمان بن علي، وصرفه، وولى سليمان بن يزيد الحارثي، ثم عبد الله بن محمد بن ابراهيم الزينبي، وهو ابن بنت سليمان، ثم ابراهيم بن سليمان العبدي، ثم الغطريف بن عطاء خال موسى وهارون، ثم الربيع بن عبد الله الحارثي. وأمر المهدي بجباية أسواق بغداد، وجعل عليها الاجرة، وجعل سعيد الحرشي بذلك، فكان أول ما جبيت أسواق بغداد للمهدي، فيقال إنه قام إليه رجل فقال: عندي نصيحة، يا أمير المؤمنين ! فقال: لمن نصيحتك هذه، لنا أم للعامة أم لنفسك ؟ قال: لك يا أمير المؤمنين ! قال: ليس الساعي أعظم عورة ولا أفحش لؤما من قابل سعايته، ولن تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا نشفي غيظك، أو عدوا فلا نعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس، فقال: لاعلمن ما تنصح لنا متنصح إلا بما لله فيه رضى وللمسلمين صلاح، فإنما لنا الابدان وليس لنا القلوب، من استتر عنا لم نكشفه، ومن أبدانا طلبنا توبته، ومن أخطأ علينا أقلناه عثرته. إني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة


[ 400 ]

مع العفو أكثر منها مع العاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا يعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استرحم، من قلت رحمته واشتدت سطوته وجب مقته وكثر مبغضوه. وكان المهدي قد ألح في طلب الزنادقة وقتلهم، حتى قتل خلقا كثيرا، فبلغه أن صالح بن أبي عبيدالله كاتبه زنديق، فأحضره، فلما صح عنده أمره استتابه، فقال: لا رغبة عما أنا عليه، ولا حاجة في غيره، فأمر المهدي أبا عبيدالله أباه أن يقوم فيضرب عنقه، فقام فأخذ السيف، ثم دنا من ابنه، فلما رفعه رجع، فقال: يا أمير المؤمنين ! إني قمت سامعا مطيعا، وإنه أدركني ما يدرك الرجل في ولده، فأمره، فجلس، ثم أمر بضرب عنقه بين يديه، ثم أملى عليه كتابا، وهو ينظر إلى ابنه مقتولا، ثم قال: إن كنت كرهت قتل عدو لله كافر به، فأبعدك الله. فلما قام أبو عبيد الله قال بعض الجلساء: ما أحسب هذا يطيب قلبه أبدا ! فقال: كذلك والله أظنه، وإنه لقريب من ابنه. ثم كانت السخطه عليه، وصير مكانه يعقوب بن داود، وأتى بصالح بن عبد القدوس، فاستتابه فتاب، فلما خرج من عنده ذكر له قوله: والشيخ لا يترك أخلاقه * حتى يوارى في ثرى رمسه قال: وإنك لتقول هذا، فرده فضرب عنقه، ولم يستتبه. ووثب أهل الحوف بمصر سنة 168، فخرج إليهم موسى بن مصعب، وكان العامل بها، فقاتلهم قتالا شديدا، وكان صاحب علمه هاشم بن عبد الرحمن ابن معاوية بن حديج السكوني، فنكس العلم وانهزم. ومال أهل الحوف على موسى بن مصعب. فقتلوه. فولى المهدي الفضل بن صالح الهاشمي، فلم يرد البلد إلا بعد وفاة المهدي. وكان الغالب على المهدي، صدر خلافته، معاوية بن عبد الله المعروف بأبي عبيدالله مولى الاشعريين، ثم وقف منه على خيانة وصير مكانه يعقوب بن


[ 401 ]

داود، وكان يعقوب جميل المذهب، ميمون النقيبة، محبا للخير، كثير الفضل، حسن الهدي، ثم عزله وسخط عليه، فحبسه فلم يزل محبوسا حتى مات المهدي، وصير مكانه محمد بن الليث صاحب البلاغة. وكان علي بن يقطين والحسن بن راشد يغلبان على أموره، وكان على شرطته نصر بن مالك، ثم مات نصر، فولى أخاه حمزة بن مالك، ثم عزله، وولى عبد الله بن مالك، وكان على حرسه محمد بن ابراهيم، ثم عزله، واستعمل مكانه أبا العباس الطوسي، وكان حاجبه الربيع مولاه، وكان قضاته ابن علاثة العقيلي، وعافية بن يزيد الازدي، وعلى الكوفة شريك بن عبد الله، وعلى البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري، وعلى المدينة عبد الله بن محمد بن عمران التيمي، وكان أول قاض قضى بها من قبل خليفة، وعلى مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي، ثم استعمل ابن اليسع الكندي من أهل الكوفة، ثم غوث بن سليمان الحضرمي من أهل مصر، ثم المفضل بن فضالة القتباني. وأصاب الناس في آخر سنة 168 ودخول سنة 169 وباء وموت كثير، وظلمة وتراب أحمر، كانوا يجدونه في فرشهم وعلى وجوههم. وخرج المهدي من بغداد لاحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 169 إلى الجبل، فنزل قرية يقال لها الرذ من أرض ماسبذان، وخرج يتصيد، فأقام سائر يومه يطرد، واتبعت الكلاب ظبيا، وأمعن في الطلب، واقتحم الظبي باب خربة، ومرت الكلاب، واقتحم به الفرس في أثره، فصدمه باب الخربة، وحمل إلى مضاربه، فتوفي لثمان بقين من المحرم سنة 169، وهو ابن ثمان وأربعين. وحكي أنه أصبح ذات يوم، فقال لعلي بن يقطين، ولجماعة جلسائه: أصبحت اليوم جائعا، فأتي بخبز ولحم بارد، فأكله وأكل القوم معه، ثم قال: إني داخل هذا البهو فنائم فيه، فلا تنبهوني حتى أنتبه ! فدخل فنام، ونام القوم في الرواق، فما راعهم إلا بكاؤه، فتبادروا إليه، وسألوه عن حاله،


[ 402 ]

فقال: أرأيتم ما رأيت ؟ قالوا: ما رأينا شيئا ! قال: رأيت شيخا لو رأيته بين مائة ألف لعرفته، وهو آخذ بعضادة البهو، وهو يقول: كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه ركنه ومنازله وصار عميد القصر من بعد بهجة * وملك إلى قبر علته جنادله فلم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله فلم يلبث بعد ذلك إلا عشرة أيام حتى توفي، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوما، وصلى عليه ابنه علي بن ريطة، ودفن بالرذ، وخلف من الولد الذكور ثمانية: موسى، وهارون، وعليا، وعبيدالله، وإسحاق، ويعقوب، وإبراهيم، ومنصورا. وأقام الحج للناس في أيامه سنة 159 يزيد بن منصور الحميري، سنة 160 المهدي، وأمر بالتوسعة في المسجد الحرام ومسجد رسول الله، سنة 161 موسى ابن المهدي، سنة 162 ابراهيم بن جعفر بن أبي جعفر، سنة 163 علي بن المهدي، وأمه ريطة بنت أبي العباس، سنة 164 خرج المهدي يريد الحج، فسار من الكوفة أربع مراحل ومعه خلق عظيم، فعطش الناس، وبلغه قلة الماء في الطريق، فرجع من العقبة، وحج بالناس صالح بن أبي جعفر، سنة 165 صالح بن أبي جعفر، سنة 166 محمد بن ابراهيم بن محمد بن علي، سنة 167 ابراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، سنة 168 علي بن المهدي. وغزا بالناس في أيامه، سنة 159 جاءت الروم إلى سميساط، فسبوا خلقا كثيرا، فوجه إليهم صغيرا مولاه، فاستنقذ المسلمين، وغزا بالناس العباس ابن محمد، فبلغ أنقرة، سنة 160 غزا ثمامة بن الوليد العبسي، سنة 161 غزا عيسى بن علي، ولقيه جيش الروم فحاصروه، سنة 162 الحسن بن قحطبة الطائي، سنة 163 هارون بن المهدي، ففتح سمالو، سنة 164 هارون أيضا، فبلغ خليج القسطنطينية، سنة 166 ثمامة بن الوليد، سنة 167 الفضل بن صالح، سنة


[ 403 ]

168 محمد بن ابراهيم. وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ابراهيم بن محمد بن أبي الحسن، سعيد بن عبد العزيز الجمحي، عبد العزيز بن أبي حازم، عبد الحميد المدني، يونس بن أبي إسحاق السبيعي، الحجاج بن أرطاة النخعي، سفيان بن سعيد الثوري، شريك بن عبد الله النخعي، يحيى بن سلمة بن كهيل، سلمة الاحمر، ابراهيم بن سعد، الزهري أبا مخنف لوط بن يحيى، سفيان ابن الحسن الحماني، جعفر بن عتاب، يحيى بن أبي زائدة، علي بن مسهر، محمد بن مروان السدي، زياد بن الطفيل، عبد الرحمن بن مالك، مالك بن الفضيل، أبا محمد بن… 1 محمد بن جابر اليمامي، أبا الاشهب جعفر بن حيان العطاردي، سلمة بن علقمة، سعيد بن اياس، خالد بن دينار، جرير بن حازم الازدي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، مهدي بن ميمون، موسى ابن علي بن رباح، عبد الله بن لهيعة، جعفر بن الغطريف، بقية بن الوليد الحمصي، عبد السلام بن عبد الملك الدمشقي.


1 بياض في الاصل. (*).

[ 404 ]

ايام موسى بن المهدي وبويع لموسى الهادي بن محمد المهدي، وأمه أم ولد، يقال لها الخيزرانة، بماسبذان، وكان غائبا بجرجان، وأخذ له أخوه هارون البيعة، وكتب إليه بالخبر، فوافاه الرسول، وهو نصير الوصيف، بعد وفاة أبيه بثمانية أيام، وكانت الشمس يومئذ في الاسد سبع عشرة درجة، والقمر في الاسد اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، وزحل في الدلو درجة وأربعين دقيقة راجعا، والمشتري في العقرب أربع عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والمريخ في السرطان ثمانيا وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والزهرة في السنبلة ثماني درجات وثلاثين دقيقة، وعطارد في السنبلة تسع درجات وخمسين دقيقة، والرأس في الميزان تسعا وعشرين درجة وخمس عشرة دقيقة. وارتحل من جرجان بعد ثلاثة أيام إلى العراق، فنزل بعيساباذ، وكان المهدي بنى هذا الموضع، فاستتمه موسى، وكان به منزله، وولى الغطريف بن عطاء خاله خراسان وأعمالها، فقدم خراسان وكانت هادئة الامور ساكنة، والملوك في الطاعة، فظهر منه أمور قبيحة، وضعف شديد، فاضطربت البلاد، وتحرك جماعة من الطالبيين، وصاروا إلى ملوك النواحي، فقبلوهم، ووعدوهم بالنصر والمعونة، وذلك أن موسى ألح في طلب الطالبيين، وأخافهم خوفا شديدا، وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الارزاق والاعطية، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم، فلما اشتد خوفهم، وكثر من يطلبهم، ويحث عليهم، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي، وكان له مذهب جميل وكمال ومجد، وقالوا له: أنت رجل أهل بيتك، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه. فقال: وإني وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر، فبايعه خلق كثير ممن حضر الموسم، فقال لهم: إن الشعار بيننا أن ينادي رجل: من رأى الجمل الاحمر،


[ 405 ]

فما وافاه إلا أقل من خمسمائة، وكان ذلك في سنة 169 بعد انقضاء الموسم، فلقيه سليمان بن أبي جعفر، والعباس بن محمد بن علي، وموسى بن عيسى بفخ، فانهزم ومن كان معه، وافترقوا، وقتل الحسين بن علي، وجماعة من أهله، وهرب خاله ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، فصار إلى المغرب، فغلب على ناحية تتاخم الاندلس، يقال لها فاس، فاجتمعت عليه كلمة أهلها. فذكر أهل المغرب أن موسى وجه إليه من اغتاله بسم في مسواك فمات، وصار ادريس بن ادريس مكانه، وولده بها إلى هذه الغاية يتوارثون تلك المملكة. واضطربت اليمن على الربيع بن عبد الله الحارثي، مولى موسى، فاستعمل الحصين بن كثير العبدي، ثم صرفه، واستعمل مكانه أيوب بن جعفر الهاشمي، ثم رد الربيع بن عبد الله الحارثي على البلد خلا صنعاء، فلم تزل البلاد مضطربة أيام موسى كلها. وقدم الفضل بن صالح مصر، فلم يهج أحدا من أهل الحوف الذين قتلوا موسى بن مصعب عامل المهدي، فسكنهم، وكف عن طلبهم، فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج دحية بن الاصبغ بن عبد العزيز بناحية أهناس، من قرى صعيد مصر في خلق عظيم، فقطع الطريق، وأخاف السبيل، ثم تغلب فجبى الخراج، فوجه الفضل بن صالح بقائد يعرف بسفيان ورجل من أهل الفيوم يعرف بعبدالله بن علي المرادي، فلقيا دحية بموضع يقال له صحراء بويط، وناوشاه الحرب، فانهزم دحية، فدخل قرموسا، وهو الاتون الذي يعمل فيه الفخار، فأخذاه أسيرا، وأتيا به الفضل، فضرب عنقه وصلبه، وبعث برأسه إلى موسى. وشجرت بين موسى وبين أخيه الوحشة فعزم على خلعه وتصيير ابنه جعفر ولي العهد، ودعا القواد إلى ذلك، فتوقف عامتهم، وأشاروا عليه أن لا يفعل، وسارع بعضهم، وقووا عزيمته في ذلك، وأعلموه أن الملك لا يصلح إن صار إلى هارون، فكان ممن سعى في خلعه أبو هريرة محمد بن فروخ الازدي القائد


[ 406 ]

من الازد، وقد كان موسى وجه به في جيش كثير يستنفر من بالجزيرة والشأم ومصر والمغرب، ويدعو الناس إلى خلع هارون، فمن أبى جرد فيهم السيف، فسار حتى صار إلى الرقة، فأتاه الخبر بوفاة موسى. وأخذ موسى يحيى بن برمك، فحبسه وأشرف عليه بالقتل عدة مرار، فحدثني بعض المشايخ عن يحيى بن خالد قال: حبسني موسى بسبب الرشيد، وتربيتي إياه، ومكاني معه، وكان الرشيد دفع إلينا مولودا في الخرق، فغذته ثدي نسائنا، وربي في حجورنا، فقال: بلغني أنك ترضى هارون للخلافة، ونفسك للوزارة، والله لآتين على نفسه ونفسك قبل ذلك ! وحبسني في بيت ضيق لا أقدر أن أمد رجلي فيه، فأقمت أياما، فأنا ليلة في حبسي على تلك الحال، إذا بالابواب تفتح، فقلت: تذكرني، فأراد قتلي ! وسمعت كلام الخدم، فارتعت لذلك، ففتح علي الباب، وأنا أتشهد، فقيل لي: هذه السيدة، يعنون الخيزران، فخرجت، فإذا بها واقفة على الباب، فقالت: إن هذا الرجل قد خفت منذ الليلة، وأحسبه قد قضى، فتعال انظره ! فازداد جزعي وطامتي وقالت كما أقول، فجئت، فوجدته محول الوجه إلى الحائط، وقد قضى، فمضيت إلى هارون حتى أخرجته من الموضع الذي كان فيه محبوسا، فأصبح القواد، فبايعوا، وأصبحت أدبر الملك. وكان الغالب على موسى الفضل بن الربيع، وعلى شرطه عبد الله بن خازم التميمي، ثم عزله وولى عبد الله بن مالك الخزاعي، وعلى حرسه علي بن عيسى ابن ماهان، وحاجبه الفضل بن الربيع، وكانت خلافته أربعة عشر شهرا، وتوفي لاربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول سنة 170، وهو ابن ست وعشرين سنة، وصلى عليه أخوه هارون، ودفن بعيساباذ. وكان له من الولد الذكور سبعة: جعفر، واسماعيل، وعبد الله، وسليمان، وعيسى، وموسى الاعمى، وولد له بعده العباس، وأقام الحج للناس في ولايته سنة 169 سليمان بن أبي جعفر.


[ 407 ]

ايام هارون الرشيد وولي هارون الرشيد بن محمد المهدي، وأمه الخيزران، في اليوم الذي توفي فيه أخوه موسى، وهو لاربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول سنة 170، ومن شهور العجم في أيلول. وكانت الشمس يومئذ في السنبلة عشرين درجة، والقمر في الحوت خمسا وعشرين درجة وخمسين دقيقة، وزحل في الدلو إحدى عشرة درجة راجعا، والمشتري في القوس سبع عشرة درجة، والمريخ في القوس ثمانيا وعشرين درجة وعشر دقائق، والزهرة في السنبلة خمس درجات وأربعين دقيقة، والرأس في الميزان ثماني درجات وست دقائق. وولد المأمون في الليلة التي استخلف فيها الرشيد، فبشر به، فلذلك سماه المأمون، وولد محمد بن هارون بعده بستة أشهر، ووجه موسى بن عيسى في الليلة التي ولي فيها ليقيم الحج للناس، ثم بدا له في الخروج، فخرج هو، فلحقه في الطريق، فأقام الحج وأعطى أهل مكة والمدينة عطايا كثيرة، وفرق فيهم أموالا، ثم انصرف، فصار إلى قبر المهدي بماسبذان، فتصدق عنده بأموال عظيمة، وجعلها رسما في كل سنة. وولى الفضل بن يحيى خراسان، فشخص إليها وقد خالف أهل الطالقان، فافتتح الطالقان، وزحف صاحب الترك في خلق عظيم، ولقي عسكر الفضل، والتحمت بينهما الحرب، فضرب وجه صاحب الترك فاستنام واستباح الفضل عسكره، وغنم أمواله، وفيه يقول الشاعر: للفضل يوم الطالقان وقبله * يوم أناخ به على خاقان


[ 408 ]

ما مثل يوميه اللذين تواليا * في غزوتين تواليا يومان وكان يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن قد هرب إلى خراسان، ودخل أرض الديلم، فكتب هارون إلى صاحب الديلم يطلبه منه ويتهدده، فطلبه، فلما رأى يحيى ذلك طلب الامان من الفضل، فآمنه وحمله إلى الرشيد، فحبسه فلم يزل محبوسا حتى مات. وقيل إن الموكل به منعه من الطعام أياما، فمات جوعا. وخبرني رجل من موالي بني هاشم قال: كنت محبوسا في الدار التي فيها يحيى بن عبد الله، فكنت إلى جانب البيت الذي هو فيه، فربما كلمني من خلف حائط قصير، فقال لي يوما: إني قد منعت الطعام والشراب منذ تسعة أيام، فلما كان اليوم العاشر دخل الخادم الموكل به، ففتش البيت، ثم نزع عنه ثيابه، ثم حل سراويله، فإذا بأنبوبة قصب شدها في باطن فخذه، فيها سمن بقر كان يلحس منه الشئ بعد الشئ يقيم برمقه، فلما أخذها لم يزل يفحص برجله حتى مات. فحدثني أبو جميل قال: خرجت إلى البصرة في أيام المأمون، فركب معنا في السفينة خادم، فكان يخبرنا أنه من خدم الرشيد، ثم حدثنا بحديث يحيى بن عبد الله، وأنه الذي تولى قتله بمثل ما تقدم ذكره، فلما كان في الليل قام إليه رجل كان في السفينة، فدفعه في الماء، والسفينة تسير، فغرقه. وبايع هارون لابنه محمد بالعهد من بعده، سنة 175، ومحمد ابن خمس سنين، وأعطى الناس على ذلك عطايا جمة، وأخرج محمدا إلى القواد، فوقف على وسادة، فحمد الله وصلى على نبيه، وقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس لا يغرنكم صغر السن، فإنها الشجرة المباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وجعل الرجل من بني هاشم يقول في ذلك حتى انقضى المجلس، ونثرت عليهم الدراهم والدنانير وفأر المسك وبيض العنبر.


[ 409 ]

واستعمل هارون على السند سالما اليونسي، مولى اسماعيل بن علي، مكان الليث مولى أمير المؤمنين، فأحسن السيرة، ولم يلبث أن ولى اسحاق بن سليمان ابن علي الهاشمي، وقدم البلد، وكان عفيفا، ثم عزله وولى طيفور بن عبد الله ابن منصور الحميري، فهاجت بين اليمانية والنزارية حرب، فوجه جابر بن الاشعث الطائي على غربي النهر ومكران، ثم ولى سعيد بن سلم بن قتيبة، فوجه أخاه كثير بن سلم، فأساء السيرة، وكان مذموما، وصير الرشيد السند إلى عيسى بن جعفر بن المنصور، فبعث إليها محمد بن عدي الثعلبي، فلما قدم بدأ بالعصبية والتحامل وضرب القبائل بعضها ببعض، وخرج من المنصورة يريد الملتان، فلقيه أهلها فقاتلوه فهزموه ونهبوا ما معه من السلاح، وفر منهزما لا يلوي على شئ حتى صار إلى المنصورة والتحمت العصبية بين اليمانية والنزارية واتصلت، فولى الرشيد عبد الرحمن… 1 ثم ولى أيوب بن جعفر بن سليمان، ثم ولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي سنة 184، فوجه إليها أخاه المغيرة، فرفعت النزارية رؤوسهم، وعزموا على أن يقسموا البلاد أرباعا: ربعا لقريش، وربعا لقيس، وربعا لربيعة، ويخرجوا اليمانية. ولما قدم المغيرة أغلق أهل المنصورة الابواب ومنعوه الدخول، إلا أن يعاهدهم ألا يستعمل فيهم العصبية، أو يخرجوا جميعا عن المدينة ويدخلها، فخرح من به رمق ودخلها المغيرة، فتحامل على النزارية، فقاتلوه فهزموه، وسار داود بن يزيد لما بلغه الخبر حتى قدم البلد، فجرد فيهم السيف، فقتل من النزارية خلقا عظيما، وصار إلى المنصورة، فأقام يقاتلهم عشرين يوما، ولم تزل الحروب بينهم عدة شهور، ففتحها، ثم سار إلى سائر مدن السند، فلم يزل يفتح ويخرب إلى أن استقامت له البلاد. وولى هارون سليمان بن أبي جعفر دمشق، فوثب به أهلها بسبب القلة البلور التي كانت في محرابهم، فأخرجوه وانتهبوا كل ما كان معه.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 410 ]

وخرج رجل من بني مرة يقال له عامر بن عمارة، ويكنى أبا الهيذام، بحوران من أرض دمشق، فقتل اليمانية، وذلك في سنة 176، فوجه إليهم الرشيد السندي وجماعة من القواد، فقتل أبو الهيذام وفرق جمعه. وخرج هارون يريد الشأم، فلما بلغه قتل أبي الهيذام مضى إلى الثغر، فأغزى هرثمة بن أعين بلاد الروم، وأمر ببناء طرسوس في سنة 171، فأحكم بناءها، وجعل لها خمسة أبواب، وحولها سبعة وثمانين برجا، ولها نهر عظيم يشق في وسطها، عليه القناطر المعقودة، وكان ابتداء بنائها على يد أبي سليمان مولاه، ثم انصرف إلى العراق يريد الحج، واستخلف على الشأمات والجزيرة جعفر بن يحيى بن خالد، فظهرت العصبية بحمص، فصعد جعفر بن يحيى منبرها، فخطب وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، وقال: يا أهل الشأم ! أحذركم عواقب البطر، ووبال ما لا يشكر من النعم، وملمة كل خطب يدفع إلى ندم، فإن السعيد من سعد بغيره، والشقي من شقي بنفسه، واتعظ به غيره، والمغبون من غبن عقله، والمفتون من فتن في دينه، والمحزوم من حزم حظه من ربه، والخاسر من باع آخرته بدنياه وآجله بعاجله، وإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولم يعط الله من عباده إلا أولي البهاء… 1 في كلام كثير. وخرج الوليد بن طريف الحروري بالجزيرة سنة 179، وكان عبد الملك ابن صالح يتولاها ويتولى بعض الشأم، فحصره الوليد بالرقة، فوجه الرشيد موسى بن خازم التميمي في جيش، فهزمه الوليد، فوجه بمعمر بن عيسى العبدي، فكانت بينهما وقائع، ثم مات معمر وهو في محاربته، فتوجه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، فواقعه يوما واحدا، ثم قال له في اليوم الثاني: ابرز، يا وليد، ولا يقتل الناس بيني وبينك ! فبرز له، فقتله يزيد، واحتز رأسه، وبعث به إلى الرشيد، وتفرق أصحابه، ثم اجتمعت طائفة منهم مع رجل يقال


1 هكذا الكلام ناقص في الاصل. (*)

[ 411 ]

له خراشة، فمالوا نحو الجزيرة مما يلي ديار ربيعة. ولم يزل يزيد بن حاتم المهلبي على افريقية منذ أيام المنصور إلى أيام الرشيد، ثم توفي واستخلف على افريقية ابنه داود بن يزيد بن حاتم، فلم يقم فيهم بالعدل، وقاتلوه، فهزموه، فولى الرشيد روح بن حاتم المهلبي، فقدم البلد، فسكنهم، ثم مات، فولى الرشيد نصر بن حبيب المهلبي، ثم عزله، وولى الفضل بن روح، فثار عليه عبد الله بن الجارود، واجتمع معه أهل المغرب، فحاربوه فقتلوا عساكره، وظفروا به، فحبسوه وأصحابه. وغلب على البلد عبد الله بن الجارود، فطلب الامان، وسأل أن يقضى له حوائج سماها، فأجابوه إلى كل ما سأل، وانصرفوا إلى الرشيد بخبره. ووجه الرشيد هرثمة بن أعين إلى الشأم ومصر والمغرب يتقراها ويصلحها، فلم يزل يمر ببلد بلد فيصلح ما يريد إصلاحه، حتى صار إلى مصر في سنة 179، وقد كانوا وثبوا على عاملهم، وصار هرثمة إلى المغرب، فلما بلغ طرابلس من أرض المغرب أعطى جندها أرزاقهم الفائتة وآمنهم جميعا، حتى قدم القيروان سنة 179، فآمن الناس وسكنهم. وخرج عليه قوم في ناحية من النواحي، فوجه إليهم جيشا، ففرقهم، وأقام هرثمة حتى أصلحها، ثم عاد إلى مصر، فأقام بها حتى استقامت أحوالها، وحمل من رأى حمله منها ثم انصرف. وولى الرشيد افريقية محمد بن مقاتل العكي، فثار عليه تمام بن تميم التميمي حتى حصره في القيروان، ثم فتح أهل القيروان الباب لتمام، فدخل المدينة، وطلب محمد بن مقاتل الامان، فآمنه، وخرج ابن مقاتل إلى العراق وتغلب تمام على البلد، ثم ثار عليه أهل خراسان وأهل الشأم، فحاربوه، فانهزم منهم. وقدم ابراهيم بن الاغلب، فولاه أهل المغرب عليهم، فضبط عليهم، وبلغ الرشيد ذلك، فكتب إليه بعهده على افريقية، وبعث إليه بالعهد مع يحيى ابن موسى الكندي.


[ 412 ]

وكان ابراهيم بن الاغلب بن سالم أحد الجند الذين أخرجوا من مصر إلى افريقية، وكان يتولى شرطة صاحب افريقية، فلما توفي ابن مقاتل واستخلف ابراهيم على البلد ضبطه وحسنت طاعة أهله، وكان يحمل إلى صاحب إفريقية من مصر، في كل سنة، ستمائة دينار، فكتب ابراهيم بن الاغلب إلى الرشيد يعلمه أنه يقوم بالبلد بغير مال، فولاه إياه، فدام أمره وأمر ولده إلى هذه الغاية. وكان الرشيد ولى اليمن العباس بن سعيد مولاه، فضج منه أهل اليمن، وحكي عنه مذاهب قبيحة، فصرفه الرشيد، وولى مكانه ابراهيم بن محمد ابن ابراهيم الامام، ثم صرفه، وولى عبد الله بن مصعب الزبيري، ثم صرفه، وولى أحمد بن اسماعيل بن علي مكانه، ثم صرفه، وولى حمادا البربري مولاه فجار على أهل اليمن وغلظ عليهم. ووثب الهيصم بن عبد المجيد الهمداني باليمن سنة 179، وغلب عليها، فكان معقله بجبل يقال له مسور، وكان معه عمر بن أبي خالد الحميري مقيما بعشتان، وكان معه الصباح بناحية يقال لها حراز، فلقوا حمادا البربري، فكانت بينهما وقائع قتل فيها نيف وعشرون ألفا من الناس، وأسر حماد عمر بن أبي خالد، فوجه به إلى الرشيد، واتصلت الحرب بينه وبين الهيصم تسع سنين، ثم صار إلى حماد رجل من أهل البلد، فأعلمه أن الهيصم قد نزل من قلعته وصار إلى قرية من القرى متنكرا يتجسس الاخبار، فوجه معه إلى تلك القرية بقائد يقال له حراد، فأخذ الهيصم، فقال الهيصم: والله إن القتل لشئ ما أنكره، وما خلقت الرجال إلا للموت والقتل. فحمله حماد على جمل، وأدخله إلى صنعاء، ثم وجه به إلى الرشيد، فأنشده في شعر طويل: فشفاء ما لا تشتهي‍ * – ه النفس تعجيل الفراق فدعا بالهيصم فأمر بضرب عنقه، وانحرف حماد البربري إلى صباح، فضرع صباح إلى الامان فأعطاه الامان، وقيل: لم يعطه إياه، ولكنه أسره،


[ 413 ]

ووجه به إلى الرشيد مع ستمائة رجل من أصحاب الهيصم، فضرب أعناقهم جميعا، وصلب الهيصم وصباحا معا، وأقام حماد البربري على اليمن ثلاث عشرة سنة، وسام أهلها سوء العذاب، حتى صاح قوم منهم بالرشيد، وهو بمكة: نحن نعوذ بالله وبك، يا أمير المؤمنين ! اعزل عنا حمادا البربري إن كنت تقدر. فقال: لا ولا كرامة. وكان حماد عبدا لهارون فأعتقه في أول خلافته، ثم عزل الرشيد حمادا، واستعمل مكانه عبد الله بن مالك، فلم يزل في البلد محمود السيرة جميل المذهب، حتى توفي هارون.


[ 414 ]

وفاة موسى بن جعفر وتوفي موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم ولد، يقال لها حمدة، سنة 183، وسنه ثمان وخمسون سنة، وكان ببغداد في حبس الرشيد قبل السندي بن شاهك، فأحضر مسرورا الخادم، وأحضر القواد والكتاب والهاشميين والقضاة ومن حضر ببغداد من الطالبيين، ثم كشف عن وجهه، فقال لهم: أتعرفون هذا ؟ قالوا: نعرفه حق معرفته، هذا موسى بن جعفر. فقال هارون: أترون أن به أثرا وما يدل على اغتيال ؟ قالوا: لا ! ثم غسل وكفن وأخرج ودفن في مقابر قريش في الجانب الغربي. وكان موسى بن جعفر من أشد الناس عبادة، وكان قد روى عن أبيه. قال الحسن بن أسد: سمعت موسى بن جعفر يقول: ما أهان الدنيا قوم قط إلا هنأهم الله إياها وبارك لهم فيها، وما أعزها قوم قط إلا نغصهم الله إياها. وقال: إن قوما يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفا، فهم الآمنون يوم القيامة، إن كنت لارى فلانا منهم. وذكر عنده بعض الجبابرة، فقال: أما والله لئن عز بالظلم في الدنيا ليذلن بالعدل في الآخرة. وقيل لموسى بن جعفر، وهو في الحبس: لو كتبت إلى فلان يكلم فيك الرشيد ؟ فقال: حدثني أبي عن آبائه أن الله عزوجل أوحى إلى داود: يا داود ! إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني عرفت ذلك منه إلا وقطعت عنه أسباب السماء وأسخت الارض من تحته. وقال موسى بن جعفر: حدثني أبي أن موسى بن عمران قال: يا رب !


[ 415 ]

أي عبادك شر ؟ قال: الذي يتهمني. قال: يا رب ! وفي عبادك من يتهمك ؟ قال: نعم ! الذي يستجيرني، ثم لا يرضى بقضائي. وكان له من الولد ثمانية عشر ذكرا، وثلاث وعشرون بنتا، فالذكور: علي الرضي، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، واسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن، وأحمد، ومحمد، وعبيدالله، وحمزة، وزيد، وعبد الله، وإسحاق والحسين، والفضل، وسليمان. وأوصى موسى بن جعفر ألا تتزوج بناته، فلم تتزوج واحدة منهن إلا أم سلمة، فإنها تزوجت بمصر، تزوجها القاسم ابن محمد بن جعفر بن محمد، فجرى في هذا بينه وبين أهله شئ شديد، حتى حلف أنه ما كشف لها كنفا، وأنه ما أراد إلا أن يحج بها. وبايع الرشيد لابنه المأمون بعد محمد بولاية العهد في هذه السنة، وهي سنة 183، وأخذت له البيعة على الناس كلهم حتى أهل الاسواق، فكان بين البيعة للمأمون والبيعة لمحمد ثماني سنين، وكان يبعث بالمأمون وبمحمد إلى الفقهاء والمحدثين فيسمعان منهم، ويحضر لهما أهل الكلام والنظر، فكان محمد بطئ الحفظ، وكان المأمون سريع الحفظ. وأخذ الرشيد العمال والتنأة والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين، وكان عليهم أموال مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام، فطالبهم بصنوف من العذاب، وكان سنة 184. واعتل الرشيد في تلك السنة علة شديدة أشفى منها، فدخل إليه الفضيل بن عياض، فرأى الناس يعذبون في الخراج، فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت رسول الله يقول: من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة، فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس، فارتفع العذاب من تلك السنة. وأقام الرشيد بالرافقة حتى بناها، وكان مقامه بها سنة 186، وحج في تلك السنة، ومعه محمد والمأمون وجلة بني هاشم والقواد والكتاب، فلم يتخلف منهم أحد له ذكر وقدر، وقدم الرشيد المدينة فأعطى أهل المدينة ثلاثة أعطية، وكسى


[ 416 ]

كثيرة، ثم صار إلى مكة، فلم يفعل مثل ذلك. ولما صار إلى مكة صعد المنبر، فخطب، ثم نزل، فدخل البيت، ودعا بمحمد والمأمون، فأملى على محمد كتاب الشرط على نفسه، وكتب محمد الكتاب، وأحلفه على ما فيه، وأخذ عليه العهود والمواثيق، وفعل بالمأمون مثله، وأخذ عليه مثل ذلك، وكان نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بن هارون في صحة من بدنه وعقله وجواز من أمره. إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده، وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعا، وولى أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي برضى مني وتسليم، طائعا غير مكره، وولاه خراسان بثغورها وكورها، وأجنادها وخراجها وطرازها، وبريدها، وبيوت أموالها وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها في حياته وبعد موته، وشرطت لعبد الله أخي علي الوفاء بما جعل له هارون أمير المؤمنين من البيعة والعهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين بعدي، وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها، وما أقطعه هارون أمير المؤمنين من قطيعة، وجعل له من عقدة، أو ضيعة من ضياعه وعقده، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته من مال، أو حلى، أو جوهر، أو متاع، أو كسوة، أو رقيق، قليلا أو كثيرا، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين أخي، موفرا عليه مسلما له. وقد عرفت ذلك كله شيئا شيئا باسمه وأصنافه ومواضعه أنا وأخي عبد الله بن هارون، فإن اختلفنا في شئ منه، فالقول فيه قول عبد الله أخي لا أنتقصه صغيرا ولا كبيرا من ماله، ولا من ولايته خراسان وأعمالها، ولا أعزله عن شئ منها، ولا أستبدل به غيره، ولا أخلعه، ولا أقدم عليه في العهد والخلافة أحدا من الناس جميعا، ولا أدخل عليه مكروها في نفسه ولا دمه، ولا خاص ولا عام من أموره وولايته، ولا أمواله، ولا قطائعه، ولا عقده، ولا أغير عليه شيئا بسبب من الاسباب،


[ 417 ]

ولا آخذ أحدا من كتابه وعماله، وولاة أموره، ممن صحبه وأقام معه، بمحاسبة في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها مما ولاه هارون أمير المؤمنين في حياته وصحته من الجباية، والاموال، والطراز، والبريد، والصدقات، والعشر والعشور، وغير ذلك من ولايتها، ولا آمر بذلك أحدا، ولا أرخص فيه لغيري، ولا أحدث نفسي فيه بشئ أمضيه عليه، ولا ألتمس قطيعته، ولا أنقص شيئا مما جعل له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته، وخلافته، وسلطانه، من جميع ما سميت في كتابي هذا، وأخذ له علي وعلى جميع الناس البيعة، ولا أرخص لاحد من الناس كلهم في خلعه، ولا مخالفته، ولا أسمع من أحد من البرية في ذلك قولا، ولا أرضى به في سر ولا علانية، ولا أغمض عليه، ولا أتغافل عنه، ولا أقبل من بر من العباد، ولا فاجر، ولا صادق، ولا كاذب، ولا ناصح، ولا غاش، ولا قريب، ولا بعيد، ولا أحد من ولد آدم، ذكرا وأنثى، مشورة، ولا حيلة، ولا مكيدة في شئ من الامور سرها وعلانيتها، وحقها وباطلها، وباطنها وظاهرها، ولا سبب من الاسباب أريد بذلك إفساد شئ مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي وشرطت في كتابي هذا علي، وأوجبت على نفسي، وشرطت وسميت، وإن أراد أحد من الناس شرا، أو مكروها، أو خلعا، أو محاربة، أو الوصول إلى نفسه ودمه، أو حرمه، أو ماله، أو سلطانه، أو ولايته جميعا، أو فرادى مسرين ذلك أو مظهرين له، أن أنصره وأحوطه وأدفع عنه، كما أدفع عن نفسي، ومهجتي، ودمي، وشعري، وبشري، وحرمي وسلطاني، وأجهز الجنود إليه، وأعينه على كل من أعنته وخالفه، ويكون أمري وأمره في ذلك واحدا أبدا ما كنت حيا، ولا أخذله، ولا أسلمه، ولا أتخلى عنه. وإن حدث بهارون حدث الموت، وأنا وعبد الله بحضرة أمير المؤمنين، أو أحدنا، أو كنا غائبين عنه، مجتمعين كنا أو مفترقين، وليس عبد الله بن هارون في ولايته بخراسان، فعلي لعبد الله بن هارون، أمير المؤمنين، أن أمضيه


[ 418 ]

إلى خراسان، وأسلم له ولايتها وأعمالها كلها، وجنودها، ولا أعوقه عنها، ولا أحبسه قبلي، ولا في شئ من البلدان دون خراسان، وأعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، مفردا بها، مفوضا إليه أعمالها كلها، وأشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده، وجنوده، وأصحابه، وكتابه، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأموالهم وأهليهم، ولا أحبس عنه أحدا منهم، ولا أشرك معه في شئ منها أحدا، ولا أبعث إليه أمينا، ولا كاتبا، ولا بندارا، ولا أضرب على يديه في قليل وكثير. وأعطيت أمير المؤمنين هارون وعبد الله بن هارون، على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في كتابي هذا، عهد الله، وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيين، والمرسلين، وخلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والايمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت لهارون ولعبدالله بن هارون أمير المؤمنين، أو بدلت، أو حدثت في نفسي أن أنقض شيئا مما أنا عليه، أو قبلت من أحد من الناس، فبرئت من الله، من ولايته، ومن دينه، ومن محمد رسول الله، ولقيت الله يوم القيامة كافرا به ومشركا، وكل امرأة هي في اليوم لي، أو تزوجتها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة، طلاق الحرج والسنة، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا في عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عزوجل، وكل ما جعلت لامير المؤمنين ولعبد الله ابن أمير المؤمنين، وكتبته، وشرطته لهما، وحلفت عليه، وسميت في كتابي هذا، لازم لي الوفاء به، ولا أضمر غيره ولا أنوي إلا إياه، فإن أضمرت، أو نويت غيره، فهذه العهود والايمان كلها لازمة لي، واجبة علي، وقواد أمير المؤمنين، وجنوده، وأهل الآفاق والامصار، وعوام المسلمين براء من بيعتي، وخلافتي،


[ 419 ]

وعهدي، وهم في حل من خلعي، وإخراجي من ولايتي عليهم، حتى أكون سوقة من السوق، وكرجل من عرض الناس، ولا حق لي عليهم، ولا ولاية، ولا بيعة لي في أعناقهم، وهم في حل من الايمان التي أعطوني، وبراء من تبعتها ووزرها في الدنيا والآخرة، وكتبه محمد ابن هارون بخطه. شهد سليمان ابن أمير المؤمنين المنصور، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبيدالله بن المهدي، وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن علي، وعيسى بن موسى ابن أمير المؤمنين، وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وأحمد بن إسماعيل بن علي، وسليمان بن جعفر بن سليمان، وعيسى بن صالح بن علي، وداود بن عيسى بن موسى، وداود بن سليمان بن جعفر، ويحيى ابن عيسى بن موسى، ويحيى بن خالد، وخزيمة بن خازم، وهرثمة بن أعين، وعبد الله بن الربيع، والفضل بن الربيع، والعباس بن الفضل، والقاسم بن الربيع، ودقاقة بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الله بن الاصم… 1، ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة، وعبد الكريم الحجبي، وابراهيم بن عبد الرحمن الحجبي، وابان مولى أمير المؤمنين، والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور، واسماعيل بن صبيح وكتب في ذي الحجة سنة 186. نسخة الشرط الذي كتبه عبد الله ابن أمير المؤمنين بخطه في البيت: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبدالله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نيته فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفته بما فيه من الفضل والصلاح له، ولاهل بيته، وجماعة المسلمين: إن أمير المؤمنين ولاني العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين، وولاني في حياته، وبعد موته، ثغور خراسان، وكورها، وجميع أعمالها من الصدقات،


1 بياض في الاصل. (*)

[ 420 ]

والعشر، والعشور، والبريد، والطراز، وغير ذلك، واشترط لي على محمد ابن هارون أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي من الخلافة، والولاية للعباد والبلاد بعده، وولاية خراسان، وجميع أعمالها، لا يعرض لي في شئ مما أقطعني أمير المؤمنين، أو ابتاع لي من الضياع، والعقد، والدور، والرباع، أو ابتعت لنفسي من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الاموال، والجوهر، والكساء، والمتاع، والدواب، في سبب محاسبة لاصحابي، ولا يتبع لاحد منهم أبدا، ولا يدخل علي، ولا على أحد كان معي ومني، ولا عمالي ولا كتابي، ومن استعنت به من جميع الناس، مكروها في نفس، ولا دم، ولا شعر، ولا بشر، ولا مال، ولا صغير، ولا كبير، فأجابه إلى ذلك، وأقر به، وكتب بذلك كتابا، وكتبه على نفسه، ورضي به هارون أمير المؤمنين، وعرف صدق نيته، فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين، وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ببيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته ومكانفته، وأجاهد عدوه في ناحيتي ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، ورضي لي به، وقبلته ولا أنتقص شيئا من ذلك، ولا أنتقص أمرا من الامور التي شرطها لي عليه أمير المؤمنين، فإن احتاج محمد ابن أمير المؤمنين إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من أعدائه خالفه، وأراد نقص شئ من سلطانه الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا، وولاناه، أن أنفذ أمره، ولا أخالفه، ولا أقصر في شئ كتب به إلي، وإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين أن يولي رجلا من ولده العهد من بعدي، فذلك له ما وفى بما جعل لي أمير المؤمنين هارون، واشترط لي عليه، وشرطه على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك، والوفاء به، ولا أنقض ذلك، ولا أغيره، ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدا من ولدي، ولا قريبا، ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدا من ولده العهد


[ 421 ]

بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء بذلك. وجعلت لامير المؤمنين هارون ولمحمد ابن أمير المؤمنين علي الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى لي محمد ابن أمير المؤمنين بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الاشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه له، وعلي عهد الله وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين، وخلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والايمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت وسميت في كتابي هذا، أو غيرت، أو بدلت، أو نكثت، أو غدرت، فبرئت من الله، ومن ولايته، ومن دينه ومن محمد رسول الله، ولقيت الله يوم القيامة كافرا به مشركا، وكل امرأة هي اليوم لي، أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة، طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة، أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة نذرا واجبا علي، وفي عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء به، وكل مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لي لا أضمر غيره ولا أنوي سواه. وشهد الشهود الذين شهدوا على أخيه محمد ابن أمير المؤمنين، وأقام الرشيد الحج للناس، وأمر بتعليق هذين الكتابين، فعلقا أيام الموسم على باب الكعبة، وقرئا على الناس عدة مرار، وجعلا في الكعبة. وانصرف الرشيد، فنزل الحيرة، فأقام أياما، ثم مضى على طريق البرية، فنزل بموضع من الانبار يقال له الحرف، بدير يقال له العمر، وأقام يومه، وقتل جعفر بن يحيى بن خالد وزيره في تلك الليلة بغير أمر متقدم قبل ذلك، وأصبح، فحمله إلى بغداد، فقطع ثلاث قطع، وصلب على جسر بغداد، ولبغداد يومئذ ثلاثة جسور، وحبس يحيى بن خالد بن برمك وولده وأهل بيته،


[ 422 ]

واستصفى أموالهم، وقبض ضياعهم، وقال: لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا لقطعتها، وأكثر الناس في أسباب السخط عليهم مختلفون. وحدث اسماعيل بن صبيح، قال: بعث إلي الرشيد يوما، وهو ببغداد، فدخلت، فلم أر في المقاصير والاروقة أحدا، حتى انتهيت إليه، فقال: يا اسماعيل ! هل رأيت في الدار أحدا ؟ فقلت: لا، والله ! قال: فطف المجالس والاروقة والمقاصير ! فطفت فلم أجد أحدا، فقال: عد ثالثة ! فعدت، ثم قال: خذ ذلك الكرسي ! فأخذته، وخرج وفي يده عمود حتى صار إلى وسط الصحن، ثم قال: ضع الكرسي ! فوضعته، فجلس عليه، والعمود في يده، ثم قال: اجلس ! فأوحشت نفسي خيفة، وجلست، فقال: إني أريد أن أفشي إليك سرا، والله لئن سمعته من أحد من الناس لاضربن عنقك ! فتراجعت نفسي، وقلت: إن كنت يا أمير المؤمنين قلته لاحد، أو تقوله، فلا حاجة بي إليه. فقال: ما قلته لاحد، ولا أقوله، إني أريد أن أوقع بآل برمك إيقاعا ما أوقعه بأحد، وأجعلهم أحدوثة ونكالا إلى آخر الابد. فقلت: وفقك الله، يا أمير المؤمنين، وأرشد أمرك ! ثم قام، فعاد، وأخذت الكرسي، فرددته، وقلت: إنما أراد أن يعرف ما عندي فيهم، فبعث بي إليهم، وكان يفعل ذلك كثيرا، ثم حال الحول، وحال حول ثان، ثم حال ثالث، فلما كان رأس الحول الرابع قتلهم، وكان قتل جعفر في صفر سنة 188 بدير العمر، وكان يحيى بن خالد قد نزل هذا الدير منصرفا من الحج، قبل أن يحل بهم الامر بحول كامل، فدخل إلى الدير الذي قتل ابنه جعفر فيه، فطافه، فظهر له قس، فقال له: مذ كم بنيت هذه البيعة ؟ فقال: مذ ستمائة سنة، وهذا قبر صاحبها، فوقف على قبر عليه كتابة فقرأها، فإذا عليه: إن بني المنذر عام انقضوا * بحيث شاد البيعة الراهب تنفح بالمسك ذفاريهم * وعنبر يقطبه القاطب


[ 423 ]

والقطن والكتان أثوابهم * لم يجنب الصوف لهم جانب فأصبحوا حشا لدود الثرى * والدهر لا يبقى له صاحب أضحوا وما يرجو لهم راغب * خيرا ولا يرهبهم راهب كأنما جنتهم لعنة * سار إلى بين بها راكب قال: فتغير وجه يحيى، وقال: أعوذ بالله من شرك، يا قس ! فغاب القس بين عينيه، فطلبه، فلم يقدر عليه. وأقام يحيى وولده في الحبس عدة سنين، وكتب يحيى إلى الرشيد يستعطفه، ويذكر له حرمته وتربيته، فوقع على ظهر رقعته: إنما مثلك يا يحيى ما قال الله عزوجل: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وأغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة في هذه السنة، وهي سنة 188، ومعه عبد الملك بن صالح الهاشمي، وعلى أمره ابراهيم بن عثمان بن نهيك، فحاصر حصن سنان وقرة، وأصاب الناس جوع شديد، وعوز، وغلاء، وطلب الروم الصلح على أن يدفعوا إليه ثلاثمائة وعشرين مسلما، فقبل، وانصرف، وأخذ الرشيد أحمد بن عيسى بن يزيد العلوي، فحبسه بالرافقة سنة 188، فهرب أحمد بن عيسى من الحبس، وصار إلى البصرة، وكان يكاتب الشيعة يدعوهم إلى نفسه، فأذكى الرشيد عليه العيون، وجعل لمن جاء به الاموال، فلم يقدر عليه، فأخذ حاضر صاحبه، والمدبر لامره، فحمل إلى الرشيد، فلما صار ببغداد، وهو بباب الكرخ، قال: أيها الناس أنا حاضر صاحب أحمد بن عيسى بن يزيد العلوي، وقد أخذني السلطان، فمنعه الموكلون به من الكلام، فلما دخل على الرشيد سأله عنه وتهدده، فقال: والله لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتها عنه، وأغلظ في الجواب، وقال: أنا شيخ قد جاوزت التسعين، أفأختم عملي بأن أدل على ابن رسول الله حتى يقتل ؟ فأمر الرشيد، فضرب حتى مات، وصلب ببغداد، وطفي أحمد بن


[ 424 ]

عيسى، ولم يعرف خبره بعد ذلك. وحبس الرشيد عبد الملك بن صالح بن علي الهاشمي في هذه السنة، وهي سنة 188، وذلك أن ابنه عبد الرحمن، وكاتبه قمامة بن يزيد، وكان مولى لعبد الملك، رفعا عنه أنه يؤهل نفسه للخلافة، وأنه يراسل رؤساء القبائل والعشائر بالشأم والجزيرة، وكان نبيلا، فصيحا، حسن البيان، فقال: ما سبب حبسي ؟ فإن كان لذنب اعترفت به، أو لبلاغ تنصلت منه، فأحضره الرشيد، فقال: هذا ابنك عبد الرحمن يذكر ما كنت تدبره من المعصية والشقاق. فقال: ليس يخلو ابني أن يكون مأمورا معذورا، أو عدوا محذورا، وقد قال الله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم، فاحذروهم، قال: فهذا قمامة بن يزيد كاتبك يذكر مثل ذلك، وقد سأل أن يجمع بينه وبينك. قال: من كذب علي، وأشاط بدمي لغير مأمون أن يبهتني. وحدثني بعض أشياخنا قال: أخرج الرشيد يوما عبد الملك بن صالح بن علي، فأقبل عليه، فقال: كأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وإلى الوعيد قد أورى نارا، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلا مهلا بني هاشم ! لا تستوعروا السهل وتستسهلوا الوعر، ولا تبطروا النعم وتستجلبوا النقم، فعن قليل يذم ذو الحكم رأيه، وينكص ذو الحزم على عقبيه، وتستبدلون الذل بعد العز، والخوف بعد الامن. فقال عبد الملك: أفذا أتكلم أم توأما، يعني واحدا أو اثنين ؟ فقال: بل فذا ! قال: فخف الله فيما ولاك، واحفظه في رعاياك التي استرعاك، ولا تجعل الكفر موضع الشكر، ولا العقاب بدل الثواب، ولا تقطع رحمك التي أوجب الله عليك، وألزمك حقها، ونطق الكتاب بأن عقوقها كفر، واردد الحق على محقه، ولا تصرف الحق إلى غير أهله، فلقد جمعت عليك الالسن بعد افتراقها، وسكنت القلوب بعد نفارها، وشددت أواخي ملكك بأشد من ركن يلملم، فكنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:


[ 425 ]

ومقام ضيق فرجته * بلساني وبياني وجدل لو يقوم الفيل أو فياله * زل عن مثل مقامي وزحل قال: ثم خرج، فأتبعه الرشيد بصره، وقال: أما والله لولا الابقاء على بني هاشم لضربت عنقك. وخرج هارون الرشيد إلى الري سنة 189، فلما صار بقرماسين بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، وكان بين البيعة للمأمون وبيعة القاسم ست سنين، ثم سار حتى نزل الري، وكتب إلى محمد ابنه، وكان ببغداد، يأمره بالخروج إلى الري والقيام بما خلف بها، وكتب إلى بنداد هرمز، صاحب طبرستان، فخرج، وشروين صاحب طخارستان، فخرج بنداد هرمز على يدي هرثمة بن أعين، وأخرج ابنه قارون، فصيره في معسكر الرشيد، فانصرف الرشيد من الري، واستخلف عبد الله بن مالك الخزاعي على قومس، وطبرستان، ودنباوند، وسار إلى بغداد، فمر بها نهارا ولم ينزلها، فلما صار إلى الجسر أمر بتحريق جثة جعفر بن يحيى وقتل الوليد بن جشم، وولى الرشيد علي بن عيسى بن ماهان خراسان مكان منصور بن يزيد بن منصور الحميري سنة 189، وضم إليه جماعة من القواد فيهم: رافع بن الليث الليثي، وأمره أن لا يستعمله على بلد قاصيا، فلما قدم علي بن عيسى خراسان استعمل رافع بن الليث على سمرقند، فلم يحل عليه الحول حتى خلع، ونادى بالمعصية، وحارب. وبلغ الرشيد أن ذلك عن تدبير من علي بن عيسى، فوجه هرثمة بن أعين في أربعة آلاف كأنه مدد لعلي بن عيسى، حتى دخل المدينة، ثم صار إلى دار الامارة، وأدخل الجند الذين معه الدار، وأخرج الكتاب فدفعه إلى علي بن عيسى، فلما قرأه قال: أسامع أنت مطيع ؟ قال: نعم ! فدعا بقيد ثقيل، فقيده، ثم أخرجه من ساعته، وخرج معه، حتى جاز من عمل مرو، وبعث به مع رسل من قبله إلى الرشيد، وأمر الرشيد بحبسه وحبس ولده، وقبض أمواله،


[ 426 ]

فلم يزل محبوسا حتى مات الرشيد. وكانت أرمينية قد انتقضت بعد وفاة المهدي، فلم تزل منتقضة أيام موسى، فلما ولى الرشيد خزيمة بن خازم التميمي أرمينية قام بها سنة وشهرين، وضبطها، وصلحت البلاد، وأعطى أهلها الطاعة، ثم ولى الرشيد يوسف بن راشد السلمي مكان خزيمة بن خازم، فنقل إلى البلد جماعة من النزارية، وكان الغالب على أرمينية اليمانية، فكثرت النزارية في أيام يوسف، ثم ولى يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، فنقل إليها ربيعة من كل ناحية حتى هم اليوم الغالبون عليها، وضبط البلد أشد ضبط، حتى لم يكن به أحد يتحرك، ثم ولى عبد الكبير بن عبد الحميد من ولد زيد بن الخطاب العدوي، وكان منزله حران، فصار إليها في جماعة من أهل ديار مضر، ولم يقم إلا أربعة أشهر حتى صرف، وولى الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، فسار إليها بنفسه، فلما قدم توجه إلى ناحية الباب والابواب، فغزا قلعة حمزين، فهزمه أهل حمزين، فانصرف ما يلوي على شئ حتى أتى العراق، واستخلف على البلد عمر بن أيوب الكناني. فلما صار الفضل إلى العراق، وجه أبا الصباح على خراج أرمينية، وسعيد ابن محمد الحراني اللهبي على حربها، فوثب أهل برذعة على أبي الصباح، فقتلوه، وانتقضت أرمينية، وظهر فيها أبو مسلم الشاري، فولى الفضل خالد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، ووجه إليه عبد الملك بن خليفة الحرشي في خمسة آلاف فلقوا أبا مسلم الشاري برويان، فهزمهم، وانصرف أبو مسلم إلى قلعة الكلاب، فأخذها. واستعمل الرشيد على أرمينية العباس بن جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، فلما صار إلى برذعة وثب به البيلقانية، فتحصن منهم في ربض برذعة، ووجه معدان الحمصي إلى أبي مسلم الشاري في ستة آلاف، والتقيا، وكانت بينهما وقعة، وقتل معدان الحمصي، فصار أبو مسلم الشاري إلى دبيل، فحصرها أربعة أشهر ثم انصرف، فصار إلى البيلقان فنزلها.


[ 427 ]

وقوي أمر أرمينية، ووجه الرشيد يحيى الحرشي في اثني عشر ألفا، ويزيد ابن مزيد الشيباني في عشرة آلاف، وأمر يزيد بن مزيد أن يقصد أرمينية، وأمر الحرشي أن يأخذ على اذربيجان، وكان قد تغلب باذربيجان مهلهل التميمي، فلقيه الحرشي فقاتله، فهزمه، وأصلح البلاد، ثم صار إلى أرمينية ليجتمع ويزيد بن مزيد على محاربة أبي مسلم الشاري، فوافى البلد وقد مات، وقام من بعده السكن بن موسى البيلقاني مولى… 1، وكان منزله البيلقان، فلما بلغه قدوم يحيى الحرشي وجه إليه الخليل بن السكن في خيار خيله، فلقي الحرشي، فأسره الحرشي، وزحف إلى البيلقان، فلما بلغ السكن الخبر خرج هاربا، فصار إلى قلعة الكلاب، وصار أهل البيلقان إلى الحرشي، فطلبوا الامان، فأدخلوا المدينة، فآمن أهلها، وهدم حصنها. وسار السكن إلى يزيد بن مزيد في ثمانية آلاف مستأمنا منه، وحمله إلى الرشيد، ولما سكن البلد ولى الرشيد موسى بن عيسى الهاشمي، فأقام بأرمينية سنة، فعاد انتقاضها، فاضطربت نواحيها، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال الرشيد: ما أرى لها إلا الحرشي، فعزل موسى بن عيسى، ووجه الحرشي عاملا عليها، فوضع فيهم السيف حتى استقامت، ثم ولى الرشيد أحمد بن يزيد ابن أسيد السلمي، فلما قدم وثب به من كان في البلد من أهل خراسان ممن قدم مع الحرشي وقبل الحرشي، وقاتلوه، وتعصبوا عليه وقالوا: لا سمع لك ولا طاعة، فولى الرشيد سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فلما قدم البلد تلاءمت الناس شهورا، ثم تعبث بالبطارقة، فخالف عليه أهل الباب والابواب، ووثبوا بعامله، وكان النجم بن هاشم صاحب الباب والابواب، فقتله سعيد بن سلم، فوثب ابنه حيون بن النجم، فقتل عامل سعيد على الباب والابواب، وكشف رأسه للمعصية، وكتب إلى خاقان ملك الخزر، فزحف إليه ملك الخزر في خلق عظيم، فأغار على المسلمين، فقتل وسبى خلقا عظيما، وسار حتى أتى جسر الكر،


1 بياض في الاصل. (*)

[ 428 ]

وسبى خلقا من المسلمين، وقتل عالما، وحرق البلاد، وقتل النساء والصبيان. فلما بلغ الرشيد خبره وجه المحاب 1، وأمره أن يعرض على سعيد بن سلم، ويقيمه للناس، فلما وافى البلد أعطاه سعيد مالا، فمال المحاب 2 إلى أخذ المال، فبلغ الرشيد ذلك فوجه نصر بن حبيب المهلبي عاملا على البلد، فلم يلبث إلا يسرا حتى عزله، وولى علي بن عيسى بن ماهان، فلما قدم ساءت سيرته، ووثب به أهل شروان، واضطرب البلد، فولى الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، ورد عليا إلى خراسان، وجمعت ليزيد بن مزيد أرمينية واذربيجان، فلما قدم تلاءمت الناس، وأصلح البلد، وساوى بين النزارية واليمانية، وكتب إلى أبناء الملوك والبطارقة يبسط آمالهم، فاستوى البلد. ثم ولى الرشيد خزيمة بن خازم التميمي، فأخذ البطارقة وأبناء الملوك، فضرب أعناقهم، وسار فيهم أسوأ سيرة، فانتقضت جرجان والصنارية، فأنفذ إليهم جيشا، فقتلوه، فوجه إليهم سعيد بن الهيثم بن شعبة بن ظهير التميمي في جيش عظيم، فقاتل أهل جرجان والصنارية حتى أجلاهم عن البلاد، وانصرف إلى تفليس، فأقام خزيمة بن خازم أقل من سنة، ثم عزله، وولى سليمان ابن يزيد بن الاصم العامري، وكان شيخا عفيفا، مغفلا، فضعف حتى لم يكن له أمر يجوز، حتى كاد أن يغلب على البلد. وولى الرشيد العباس بن زفر الهلالي، فانتقضت عليه الصنارية، فقاتلهم، وضعف عنهم، فوجه الرشيد محمد بن زهير بن المسيب الضبي، وكان آخر عمال الرشيد على أرمينية. وخلع أهل حمص سنة 190، ووثبوا على واليهم، فخرج الرشيد نحوهم، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم ويسألون الاقالة، فعفا عنهم، ونفذ إلى بلاد الروم، فغزا الصائفة، وفتح هرقلة والمطامير. وحجت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور في هذه السنة، وهي سنة 190، فنال الناس عطش شديد، وغارت زمزم حتى لم يوجد فيها من الماء إلا القليل،


1 و 2 هكذا دون نقط في الاصل. (*).

[ 429 ]

وحفرت زمزم، فنزل فيها عدة أذرع، فكان الماء زاد يسيرا، وكان مقدار رشاء زمزم ثماني عشرة ذراعا، فحفر فيها تسع أذرع ليزيد، فكان أول ما حفر في زمزم. واجتمع عند الرشيد عمه، وعم أبيه، وعم جده، سليمان بن جعفر عمه، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد بن علي عم جده، فقال عبد الصمد بن علي: احمد الله، يا أمير المؤمنين، على نعمه عليك، فقد جمع لك ما لم يجمع لخليفة قبلك، ثم جمع لك عمك، وعم أبيك، وعم جدك. وكان الغالب على الرشيد يحيى بن خالد بن برمك، وجعفر والفضل ابناه، صدرا من خلافته حتى ما كان له معهم أمر ولا نهي، فأقاموا على تلك الحال وأمور المملكة إليهم سبع عشرة سنة، ثم كان الفضل بن الربيع يغلب عليه، واسماعيل بن صبيح، وعلى شرطه القاسم بن نصر بن مالك، ثم عزله وولى خزيمة بن خازم، ثم عزله وولى المسيب بن زهير الضبي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم عزله واستعمل علي بن الجراح الخزاعي، ثم عزله واستعمل عبد الله بن خازم، وكان على حرسه جعفر بن محمد بن الاشعث، ثم عزله واستعمل عبد الله بن مالك، ثم هرثمة بن أعين، وكان حاجبه الفضل ابن الربيع. وخرج هارون إلى خراسان في شعبان سنة 192، فنزل قرماسين، فصار بها شهر رمضان وضحى بالري، فلما صار إلى جرجان كتب إلى عيسى بن جعفر بالخروج إليه، فخرج إليه عيسى، فلما صار في بعض الطريق توفي. فحدثني شيخ من آل المهلب كان مع عيسى بن جعفر قال: دخلنا إليه يوما، وقد اشتدت علته، فسمعناه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت والله نفسي ! فقلنا له: إنك بحمد الله اليوم صالح. فقال: إني دققت ما يخرج من أذني، فوجدته رميما، حتى أغمي عليه، وسمع النساء بكاء الرجال، فغلبن الخدم، وخرجن، فأفاق ورفع رأسه، فنظر إليهن وقال:


[ 430 ]

قد كن يخبأن الوجوه تسترا * فاليوم جئن برزن للنظار ثم قاضى من ساعته، فلما بلغ الرشيد خبر وفاته، اشتد جزعه عليه، فدخل على جارية، فقالت: يا أمير المؤمنين ! إن عيسى كان يريد بك ما صار إليه، فأحاقه الله به، وهذا مسرور وحسين يعلمان ذلك. فقالا: صدقت ! فتسلى ودعا بالطعام، وصار هارون إلى طوس، فنزل قرية يقال لها سناباذ، وهو شديد العلة، وتوفي مستهل جمادى الاولى سنة 193، وهو ابن ست وأربعين سنة، وصلى عليه ابنه صالح بن هارون، وكان المأمون قد نفذ إلى مرو قبل ذلك بثلاثة وعشرين يوما، وجاء نعيه من طوس إلى مدينة السلام يوم الاربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الاولى، وخلف من الولد اثني عشر ذكرا: عبد الله المأمون، ومحمدا الامين، والقاسم، وأبا اسحاق المعتصم، وأبا عيسى، وأبا العباس، وعليا، وصالحا، وأبا يعقوب، وأبا علي، وأبا أحمد، وأبا أيوب، وكل مكني من بني هاشم فاسمه محمد. وأقام الحج في ولايته سنة 170 هارون الرشيد، سنة 171 عبد الصمد بن علي، سنة 172 يعقوب بن المنصور، سنة 173 الرشيد، سنة 174 وسنة 175 الرشيد، سنة 176 سليمان بن أبي جعفر، سنة 177 الرشيد، سنة 178 محمد بن ابراهيم بن محمد بن علي، سنة 179 الرشيد، وكان قد اعتمر فلم يزل معتمرا حتى حج، فانصرف إلى البصرة، سنة 180 موسى بن عيسى، وجهه هارون من الرقة، سنة 181 الرشيد، سنة 182 موسى بن عيسى، سنة 183 العباس بن موسى، سنة 184 ابراهيم بن المهدي، سنة 185 منصور بن المهدي، سنة 186 الرشيد، سنة 187 عبد الله بن العباس بن محمد، سنة 188 الرشيد، وهي آخر حجة حجها، ولم يحج بعده خليفة، سنة 189 العباس بن موسى بن عيسى، سنة 190 عيسى بن موسى الهادي، سنة 191 الفضل بن العباس بن محمد بن علي، سنة 192 العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر.


[ 431 ]

وغزا بالناس في أيامه سنة 171 يزيد بن عنبسة الحرشي، عاملا من قبل اسحاق بن سليمان، سنة 172 محمد بن ابراهيم، سنة 173 ابراهيم بن عثمان، سنة 174 سليمان بن أبي جعفر، سنة 175 عبد الملك بن صالح، وقيل إنه لم يدخل بلاد الروم، ولما صار إلى الدرب وجه الفضل بن صالح، سنة 176 هاشم بن الصلت، سنة 177 داود بن النعمان من قبل عبد الملك، سنة 178 يزيد ابن غزوان، سنة 179 الفضل بن محمد، سنة 180 اسماعيل بن القاسم، سنة 181 هارون الرشيد، فافتتح حصن الصفصاف، سنة 182 ابراهيم بن القاسم من قبل عيسى بن جعفر، سنة 183 الفضل بن العباس، سنة 184 محمد بن ابراهيم، سنة 185 ابراهيم بن عثمان، سنة 186 ابراهيم بن عثمان أيضا، سنة 187 القاسم ابن الرشيد، وعبد الملك بن صالح، وابراهيم بن عثمان بن نهيك، وفيها قتل الرشيد ابراهيم بن عثمان، سنة 189 الفضل بن العباس، سنة 190 الرشيد، فافتتح هرقلة والمطامير وأغزى حميد بن معيوف بالبحر، وكان أهل قبرس قد نقضوا الصلح، فغزاهم فقتل وسبى، سنة 191 خرج الرشيد يريد الغزو، فلما صار بالحدث أغزاهم مع هرثمة بن أعين، وأقام بالثغر حتى انصرف هرثمة. وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمران بن ابراهيم، مالك بن أنس، ابراهيم بن محمد بن أبي الحسن الاسلمي، أبا البختري بن وهب القرشي، عبد الله بن جعفر المديني، اسماعيل بن جعفر أبا عقيل، أبا معشر السندي، سعيد بن عبد العزيز الجمحي، عبد العزيز بن أبي حازم، عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عبد الرحمن بن عبد الله العمري، سليمان بن فليح… 1 عطاء ابن يزيد، سفيان بن عيينة، شريك بن عبد الله النخعي، سلمة الاحمر، أبا يوسف يعقوب بن ابراهيم، ابراهيم بن سعد الزهري، سفيان بن الحسن الحماني، جعفر بن عتاب بن أبي زائدة، علي بن مسهر، عبد الله بن ادريس الاودي، محمد بن مروان السدي، جرير بن عبد الحميد الكوفي، شعيب بن


1 بياض في الاصل. (*)

[ 432 ]

صفوان صاحب ابن شبرمة، جعفر بن سليمان، محمد بن الحسن، علي بن هاشم، عبد الله بن الاصلح الكندي، الطلب بن الحجاج، القاسم بن مالك المزني، علي بن ظبيان، أبا شهاب الكوفي، محمد بن مسروق القاضي، عدي بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكيع بن الجراح، يحيى بن البهاني 1، عمرو بن هشام، حماد بن زيد، أبا عوانة، يزيد بن زريع، عبيدالله بن الحسن، المعتمر بن سليمان، داود بن الزبرقان، عباد بن عباد المهلبي، حمزة بن نجيح، خالد بن يزيد، محمد بن راشد، عمران بن خالد صاحب عطاء، محمد بن يزيد الواسطي، عبد المنعم بن نعيم، عمر بن جميع، يوسف بن عطية، عبد العزيز بن عبد الصمد.


1 دون نقط في الاصل. (*)

[ 433 ]

ايام محمد الامين وبويع لمحمد الامين بن هارون الرشيد، وأمه أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، ولم يكن في الخلفاء هاشمي الابوين غير علي بن أبي طالب، ومحمد، وكانت البيعة له بطوس، في اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الاحد مستهل جمادى الاولى سنة 193، وأخذ له الفضل بن الربيع بيعة من حضر من الهاشميين والقواد، وقدم رجاء الخادم إلى محمد ببغداد يوم الاربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الاولى، وكان ذلك من شهور العجم في آذار، وكانت الشمس يومئذ في الحمل ثلاث درجات وثلاثا وخمسين دقيقة، وزحل في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعا، والمشتري في القوس ست درجات وعشرين دقيقة راجعا، والمريخ في الدلو ستا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الحوت سبع درجات وثلاثين دقيقة، والرأس في السرطان اثنتين وعشرين درجة. فبايع الناس في هذا اليوم ببغداد، وخرج اسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، فصعد المنبر، فحمد الله وصلى على محمد، ثم قال: نحن أعظم الناس رزيئة وأحسن الناس بقية، رزئنا رسول الله، فلم يكن أحد أشد رزءا منا، وعوضنا خلفا ابنه، فمن ذا له مثل عوضنا ؟ ثم نعاه إلى الناس، وذكرهم العهد، ثم نزل. فلما كان يوم الجمعة صعد محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، وذكر ما فضله الله به، ثم قال: وأفضت خلافة الله وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد، فعمل بالحق، وساس بالعدل، وحج بيت الله، وجاهد في سبيل الله، وبذل مهجته في طاعة الله، وباشر الجهاد طلبا لرضى الله عزوجل، حتى أعز الله دينه، ثم دنياه، وأقام حقه، ووقم العدو، وآمن السبل، ونصح العباد، وعمر البلاد، وقد اختار الله له ما عنده، وأكرمه


[ 434 ]

بلقائه، فعند الله نحسبه، وإياه نسأل حسن الخلافة من بعده، والمعونة على ما حملني من أمركم، وأرغب إليه في التسديد والتوفيق لما يرتضيه فيكم. ثم حض على الطاعة، وأمر بالمناصحة، ونزل. وقدم الفضل بن الربيع الخزائن وبيوت الاموال، ووصية الرشيد، مستهل جمادى الآخرة، وكان محمد بن هارون قد أمر بإظهار الحج، فقال له الفضل ابن الربيع: إن أباك أمرني أن أقول لك إنه لن يحج بعدي أحد من خلفاء بني العباس. فأقام، وحجت أمه أم جعفر معتمرة شهر رمضان، وقد كانت تقدمت في حفر عين المشاش في أيام الرشيد، فقدمت مكة، وقد فرغ منها، فبنت المصانع، وجعلت الحياض والسقايات، ووجه محمد بعشرين ألف مثقال ذهبا، فجعلت صفائح على باب الكعبة ومسامير الباب والعتبة. وأخرج عبد الملك بن صالح من الحبس، وولاه جميع ما كان إليه من الجزيرة، وجند قنسرين، والعواصم، والثغور، ورد عليه أمواله وضياعه، ودفع إليه ابنه عبد الرحمن، وكاتبه قمامة، فحبس قمامة في حمام قد أحكم، وأوقد أشد وقود، وطرح معه سنانير، فلم يزل فيه حتى مات، وحبس ابنه فلم يزل محبوسا. وقال عبد الملك حين أخرج من الحبس، وذكر ظلم الرشيد له: والله إن الملك لشئ ما نويته، ولا تمنيته، ولا قصدت إليه، ولا ابتغيته، ولو أردته لكان أسرع إلي من السيل إلى الحدور، ومن النار إلى يابس العرفج، وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسؤول عما لا أعرف، ولكنه والله حين رآني للملك قمنا، وللخلافة خطرا، ورأى لي يدا تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم أختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلى حنين الوالدة، وتميل إلي ميل الهلوك، وخاف أن تنزع إلى أفضل منزع، وترغب في خير مرغب، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها،


[ 435 ]

ونصب في التماسها، وتفرد لها بجهده، وتهيأ لها بكل وسعه، فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا تطاولت إليه فأحط نفسي عنه، وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا بأن أخرج له من الحكم، والعلم، والحزم، والعزم، فكما لا يستطيع المضيع أن يكون حافظا كذا لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلا، وسواء عليه عاقبني على عقلي أم عاقبني على طاعة الناس لي، ولو أردتها لاعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولم يكن لما كان من الخطاب إلا اليسير، ومن بذل المجهود إلا القليل. وأخرج علي بن عيسى بن ماهان من الحبس، ورد عليه أمواله، وولاه شرطته، وقدمه وآثره. وولى أسد بن يزيد بن مزيد أرمينية، فقدمها، وقد غلب على ناحية من البلد يحيى بن سعيد الملقب كوكب الصبح، واسماعيل بن شعيب مولى مروان ابن محمد بن مروان، وكانا بناحية جرزان، فاحتال لهما حتى أخذهما، ثم من عليهما، وخلى سبيلهما، وكان حسن السيرة سخيا، ثم عزله محمد وولى أرمينية اسحاق بن سليمان الهاشمي، فوجه إليها ابنه الفضل خليفة له، ولم يزل الفضل بها أيام المخلوع. وولى محمد بن سعيد بن السرح الكناني اليمن، وكان من أهل فلسطين، فأقام بها ثلاث سنين، ثم عزله وولى جرير بن يزيد البجلي، فخرج سعيد بن السرح من اليمن بأموال عظام، حتى صار إلى فلسطين، فاتخذ الدور والضياع، فلم يزل جرير بن يزيد على اليمن حتى بويع للمأمون. وقد وجه الرشيد هرثمة بن أعين في جيش إلى رافع بن الليث إلى سمرقند، وقد استكثف جمع رافع، واستمال أهل الشاش وفرغانة، وأهل خجندة واشروسنة والصغانيان وبخاري وخوارزم وختل وغيرها من كور بلخ وطخارستان والسغد، وما وراء النهر، والترك والخرلخي والتغزغز وجنود التبت وغيرهم،


[ 436 ]

واستنصر بهم على قتال السلطان وقتل المسلمين، وصار إلى مدينة سمرقند، فتحصن بها، فلم يزل هرثمة محاربا له حتى قتل خلق من أصحابه. ثم استعان رافع بجيغويه الخرلخي، وكان جيغويه هذا قد أسلم على يد المهدي، فجعل يخادع هرثمة ويوهمه أنه معه، ومعونته وهواه لرافع، ثم أظهر المعصية، والخلع، فقوي أمر رافع بمكانه، وأحرق السواد بالنار، وتبرأ من أهله، ودعا لغير بني هاشم، وأخذ هرثمة بأكظامهم، حتى ضرع رافع إلى الامان فآمنه، فخرج إليه بولده وأهل بيته وأمواله، وذلك في المحرم سنة 194، فكتب المأمون إلى محمد بالفتح، وأعلمهم ما كان من تدبيره واجتهاده، حتى فتح الله عليه. فأفسد قوم قلب محمد على المأمون، وأوقعوا بينهما الشر، وكان الذي يحرضه علي بن عيسى بن ماهان، والفضل بن الربيع، وزينا له أن يبايع لابنه بولاية العهد من بعده، ويخلع المأمون، ففعل ذلك، وبايع لابنه موسى، وكان ذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة 194، وجمع العهود التي كان كتبها الرشيد بينهما، فحرقها، وجرت الوحشة بينهما، وكتب محمد إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه في جميع القواد، فكتب إليه يعلمه أنه لا سمع عليه في هذا ولا طاعة، فكتب إلى من بخراسان من القواد، فأجابوه بمثل ذلك، وقالوا: إنما يلزمنا لك الوفاء، إذا وفيت لاخيك، وأنت قد نقضت العهود، وأحدثت الاحداث، واستخففت بالايمان والمواثيق. ووجه محمد إلى أم عيسى بنت موسى الهادي امرأة المأمون يطلب منها جوهرا كان عندها للمأمون، فمنعته، وقالت: ما عندي شئ أملكه، فوجه من هجم منزلها، فانتهب كل ما فيه، وأخذ ذلك الجوهر، فلما انتهى ذلك إلى المأمون جمع القواد الذين قبله، فقال لهم: قد علمتم ما كان أبي شرط علي وعلى محمد، وقد نكث ونقض العهود، وأوجد السبيل إلى خلعه بنكثه ونقضه وتعرضه لاموالي وأسبابي وأعمالي، وتحريقه الشروط والعهود التي عليه،


[ 437 ]

واستخفافه بحق الله فيما نكث من ذلك، واشتغاله بالخصيان، فاتفق رأيهم على مراسلته، فإن رجع، وإلا خلعوه. وبلغ محمدا ذلك، فجمع قواده، وذكر لهم خلع المأمون إياه وندبهم إلى الخروج إليه، فاختاروا عصمة بن أبي عصمة السبيعي، فسير معه جيشا كثيفا، فخرج حتى صار إلى حد خراسان، ثم وقف وكتب إليه يحركه على المسير، فامتنع، فقال: أخذت علينا البيعة أن لا ندخل خراسان، وأخذت عليك ألا تدخلها، ولا ترسل أحدا إليها، فإن جاءني إنسان من قبل المأمون إلى هاهنا قاتلته، وإلا لم أجز الحد، فوجه محمد علي بن عيسى بن ماهان واليا على خراسان، وأمره بإشخاص المأمون ومن معه، وضم إليه من القواد والجند أربعين ألف مرتزق، وحملت إليه الاموال، ودفع إليه قيد فضة، وقال: إذا قدمت خراسان قيد بهذا القيد المأمون، واحمله إلى ما قبلي، فلما أتى المأمون الخبر ندب طاهر بن الحسين بن مصعب البوشنجي للخروج، وقبل ذلك كان قد ولاه كورة بوشنج وأزاح علته بالكراع والاموال، ونفذ، فلقي علي بن عيسى بالري في سنة 195، وعلي بن عيسى في خلق عظيم، وطاهر بن الحسين في خمسة آلاف، فخرج علي بن عيسى في نفر يسير يدور حول العسكر، وبصر به طاهر بن الحسين، فأسرع إليه في جماعة من أصحابه، فلاقى عليا، وهو على برذون أصفر، وعليه طليلسان كحلي طويل، فدافع عنه من كان معه حتى قتل جماعة وركض، فاتبعه طاهر وحده، فضربه بسيفه حتى أثخنه، سقط إلى الارض، فنزل واحتز رأسه، ورجع إلى معسكره، ونصب الرأس على رمح ونادى في عسكر علي بن عيسى: قتل الامير ! وبلغ أصحابه به خبره، فانهزموا، وأسلموا الخزائن والكراع، فلم يبت طاهر حتى حوى جميع ما كان في عسكره، فاستأمن إليه كثير من أصحابه. وكتب طاهر بالفتح إلى المأمون إلى مرو، ووجه بالرأس إليه مع رجل من أصحابه، فلما دخل على ذي الرئاستين سأله عن الخبر، فذهل، وانقطع


[ 438 ]

كلامه فلم يقدر على إجابته، فهال ذلك الفضل، ففتح الخريطة، وقرأ الكتب، ثم قال: أين الرأس ؟ فطلب ما معه، فلم يوجد، وسئل عنه فلم يتكلم، فوجه في طلبه فوجده قد سقط على مقدار ميلين، فحمل وأدخل إلى مرو. وقرئ الفتح على الناس وبويع للمأمون بالخلافة، وخلع محمدا، فأعطى جميع أهل خراسان الطاعة للمأمون. فحدثني أحمد بن عبد الرحمن الكلبي قال: سلم على المأمون بالخلافة وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: أيها الناس ! إني جعلت لله على نفسي إن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دما عمدا لا تحله حدوده، وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لاحد مالا، ولا أثاثا، ولا نحلة تحرم علي، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي إلا ما كان في الله له، جعلت ذلك كله لله عهدا مؤكدا، وميثاقا مشددا، اني أفي رغبة في زيادته إياي في نعمي، ورهبة من مسألتي إياي عن حقه وخلفه، فإن غيرت، أو بدلت، كنت للعبر مستأهلا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وأرغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته. ولما بلغ محمدا قتل علي بن عيسى بن ماهان، وانهزام عسكره، ومصيرهم إلى حلوان، وخلع أهل خراسان له، واجتماع كلمتهم على المأمون، وأن طاهرا قد قوي بما صار في يده من الاموال والسلاح والكراع، وكتب إليه المأمون ألا يعرج دون بغداد، وأن يقصدها، وجه عبد الرحمن بن جبلة إليه وأمره أن يضم إليه من بحلوان من القواد والجند الذين كانوا مع علي بن عيسى، فلقي طاهرا بهمذان في ذي القعدة سنة 195، فقتله طاهر، واستباح كل ما في عسكره، فوجه محمد عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي فرجع من حلوان. ووثب بالشأم رجل يقال له علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية


[ 439 ]

يدعو إلى نفسه، فوجه إليه محمد بالحسين بن علي بن ماهان، فلما صار الحسين إلى الرقة أقام ولم ينفذ إليه، وتوفي داود بن يزيد المهلبي عامل السند، فاستخلف ابنه، ووثب مالك بن لبيد اليشكري بالسواد، فدعا للمأمون. وبلغ محمد بن أبي خالد القائد، وكان شيخ قواد الحربية والمطاع فيهم، أن محمدا قدم عزم على قتله والفتك به، فجمع إليه أهل الحربية والابناء، ثم وثبوا بمحمد، فوجه إليهم محمد… 1، فتحاربوا بموضع ببغداد يقال له باب الشأم، فكانت تلك الحرب أول حرب وقعت ببغداد في تلك السنة. وكان عامل محمد بمصر حاتم بن هرثمة بن أعين، فعزله وولى جابر بن الاشعث الخزاعي سنة 195، فلما قدم جابر بن الاشعث لم يدع للمأمون على المنابر كما كان يدعى بعد محمد، فشغب الجند، وقالوا: لا طاعة ! فأعطاهم عطاءين. وقدم يحيى بن محمد المديني بكتاب المأمون، فامتنع جابر بن الاشعث من البيعة له، وأقام على طاعة محمد، فوثب السري بن الحكم البلخي، وكان أحد قواد مصر، وجماعة معه، ودعوا الجند إلى البيعة للمأمون، ووعدوهم رزق سنتين، فأجابوا إلى ذلك، وأخرجوا جابر بن الاشعث من دار الامارة، وصيروا مكانه عباد بن محمد، وكان عباد خليفة هرثمة بن أعين في البلد، فدعا للمأمون بالخلافة في رجب سنة 196…. 2 قوم، فوجه إليهم عبد بن حكيم بن كون، ومحمد بن صعير، فكانت بينهم وقعة، ثم سلموا وبايعوا، وكتب محمد إلى رجل يقال له ربيعة بن قيس الحرشي، بولاية مصر، فجمع إليه أهل الحوف وغيرهم، وقاتل عباد بن محمد، وزحف إليه حتى صار إلى قرب الفسطاط، فكانت بينهم وقعات وغلب عبادا على البلد، إلى أن وجه المأمون بالمطلب بن عبد الله الخزاعي عاملا على مصر. وتوفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة، وهي سنة 196، وكان


1 و 2 بياض في الاصل. (*)

[ 440 ]

عامل محمد بن هارون على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور، واضطرب البلد بعد وفاته، وتغلب كل رئيس قوم عليهم، وصار الناس حزبين: حزب يظاهر بمحمد وحزب يظاهر بالمأمون، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون لا سلطان يمنعهم ولا يدفعهم، واخذ طاهر من ناحية الجبل إلى الاهواز، وقتل محمد بن يزيد بن حاتم عامل محمد وجيلويه الكردي. وتوجه زهير بن المسيب الضبي إلى فارس، فأخذها وبايع بها، وصار طاهر إلى واسط لثلاث خلون من رجب بعد أن بايع أهل البصرة للمأمون على يد منصور بن المهدي، وبالكوفة على يد الفضل بن موسى بن عيسى، وبالموصل على يد المطلب بن عبد الله، وبمصر على يد عباد بن محمد، وبالرقة على يد الحسين بن علي بن ماهان، فأخرجه من كان بها من الزواقيل وغيرهم، فقدم بغداد لثمان خلون من رجب سنة 196، فأنكر مذهب محمد، وبلغه عنه ما يكره، فدعا الجند ببغداد إلى بيعة المأمون، فأجابوه، فوثب على محمد، فحبسه وأمه وولده، فلما حبسهم طالبه الجند بأرزاقهم، فاعتل عليهم، فقبضوا عليه، وأخرجوا محمدا وأمه وولده من الحبس، وبايعوه، وضربوا عنق الحسين ابن علي، فسألوا محمدا في أرزاقهم، فأعطاهم خمسمائة خمسمائة، وقارورة غالية، وعقد أربعمائة لواء لقواد شتى، واستعمل عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالميسر إلى هرثمة، وهرثمة يومئذ معسكر بالنهروان، فالتقوا في شهر رمضان، فهزمهم وأسر علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وبعث به إلى المأمون. وزحف بجيشه حتى صار بموضع يقال له نهريين، من بغداد على فرسخ أو فرسخين، وصار طاهر بنهر صرصر على أربعة فراسخ من بغداد، وكان طاهر في الجانب الغربي وهرثمة في الجانب الشرقي، وحرب بغداد قائمة في الجانبين جميعا، إلا أن الاسواق قائمة، والتجار على حالهم لا يهاجون، وتجتمع على التاجر الواحد جماعة من أصحاب المأمون وجماعة من أصحاب محمد، فلا


[ 441 ]

يكون بينهم تنازع، ووثب الابناء والحربية بمحمد، ودعوا للمأمون، وكاتبوا طاهرا، وأعطوه الرهائن، فدخل طاهر بغداد، فاشتق الجانب الغربي إلى باب الانبار. وكان محمد قد حبس سليمان بن أبي جعفر وابراهيم بن المهدي لامر بلغه، فلما صار هرثمة على باب بغداد أخرجهما من الحبس، ووجه بهما مع جماعة من بني هاشم إلى هرثمة يدعونه إلى طاعته ويجعل له ما أراد من الاموال والقطائع، فقال لهم هرثمة: لولا أن لا تقتل الرسل لضربت أعناقكم، فانصرفا إلى محمد ! وخلى سبيلهما. ووثب أهل شرقي بغداد بمحمد، ودعوا للمأمون، وأجلوا خزيمة بن خازم التميمي، فصار إلى الجسر، فقطعه. ودخل زهير بن المسيب من كلواذى في السفن، وفيها المنجنيقات والعرادات، فصار محمد إلى قصره المعروف بالخلد في غربي بغداد، فتحصن به، فرماه زهير بالمنجنيق. ودخل هرثمة من باب خراسان من عسكر المهدي، وهو الجانب الشرقي من بغداد، ودخل طاهر من معسكره إلى مدينة أبي جعفر، وأحدقوا بالخلد، فخرج محمد من باب خراسان، حتى أتى دجلة يريد هرثمة، فبلغ أصحاب طاهر ذلك، فوثبوا بهرثمة، وهو في حراقة له، حتى غرقوه، وأخرجوه بعد ساعة، وخرج محمد في غلالة وسراويل، حتى جلس على الشط، والعسكر يمر به ولا يعرفه، حتى مر به مولى لشكلة، فعرفه، فحمله إلى منزله. ثم أتى طاهر بن الحسين بخبره، فوقعت بين طاهر وبين هرثمة وزهير منازعة، فأمر طاهر قريشا الدنداني مولاه، فضرب عنقه، ونصب رأسه على رمح، ومضى به إلى معسكره بالبستان، ثم بعث به إلى المأمون. فكان مقتله يوم الاحد من المحرم سنة 198، وسمعت من يقول: لخمس خلون من صفر، وكتب طاهر إلى المأمون كتابا بخطه:


[ 442 ]

أما بعد، فإن المخلوع، وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة لمفارقته عصمة الدين، وخروجه من الامر الجامع للمسلمين. يقول الله عزوجل، فيما قص علينا من نبإ نوح: يا نوح، إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، ولا طاعة لاحد في معصية الله، ولا قطيعة، إذا ما كانت القطيعة في ذات الله. وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين، وقد قتل الله المخلوع، وأسلمه بغدره ونكثه، وأحصد لامير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظره من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين حقه، الكائد له فيمن خان عهده ونقض عقده، حتى رد به الالفة بعد فرقتها، وجمع به الامة بعد شتاتها، فأحيا به أعلام الدين بعد دثور سرائرها. ثم كتب كتابا بالفتح يشرح فيه خبره منذ يوم شخص من خراسان، وما عمل في بلد بلد ويوم يوم، جعلناه في كتاب مفرد. وكانت خلافته منذ يوم توفي الرشيد إلى أن قتل أربع سنين وسبعة أشهر وواحدا وعشرين يوما، ومنذ مات هارون إلى أن خلع ثلاث سنين، وكانت سنه يوم قتل سبعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وقيل ثمانيا وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: موسى وعبد الله، وكان الغالب عليه اسماعيل ابن صبيح الحراني، والفضل بن الربيع، وعلى شرطه محمد بن المسيب، ثم عزله وولاه أرمينية، وصير مكانه محمد بن حمزة بن مالك، ثم عزله وصير مكانه عبد الله بن خازم التميمي، وكان على حرسه عصمة بن أبي عصمة، وحجابته إلى الفضل بن الربيع يقوم بها ولد الفضل. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 193 داود بن عيسى بن موسى، سنة 194 علي بن هارون الرشيد، سنة 195 داود بن عيسى، سنة 196 العباس بن موسى ابن عيسى، وهو على مكة، سنة 197 العباس، وغزا بالناس في سنة 194 الحسن بن مصعب من قبل ثابت بن نصر، سنة 195 ثابت بن نصر الخزاعي، سنة 196 ثابت بن نصر، سنة 197 ثابت بن نصر.


[ 443 ]

وكان الفقهاء في أيامه: محمد بن عمر بن واقد، يحيى بن سليمان الطائفي، أبا معاوية محمد بن حازم المكفوف، أسباط مولى قريش، عون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، عبد الرحمن بن مسهر، محمد بن كثير الكوفي صاحب التفسير، سفيان بن عيينة، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، يزيد بن اسحاق، اسماعيل بن علية، عبد الوهاب الثقفي، يحيى بن سعيد القطان، يزيد بن مالك، الوليد بن مسلم صاحب الاوزاعي، اسحاق الازرق، زيد بن هارون، علي بن عاصم، حماد بن عمرو، سلم بن سالم التميمي.


[ 444 ]

ايام المأمون وبويع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها مراجل الباذغيسية، في سنة 195، على ما ذكرنا في أيام محمد من أمره وأمر محمد، وبايع له عامة أهل البلدان سنة 196، فلما كان في المحرم سنة 198، وقتل محمد، اجتمع عليه أهل البلدان، ولم يبق أحد إلا أعطى طاعته، وادعى كل ممتنع في بلد انه انما كان في طاعة المأمون وعلى الميل إليه. وكانت الشمس يومئذ في الميزان درجة وثلاثا وخمسين دقيقة، والقمر في الاسد ستا وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعا، والمشتري في الحمل ثماني عشرة درجة وعشر دقائق راجعا، والمريخ في الاسد أربع درجات وأربعين دقيقة، والزهرة في الاسد أربعا وعشرين درجة، وعطارد في السنبلة ثلاثا وعشرين درجة وعشر دقائق، والرأس في الحمل أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة. ووجه المأمون المطلب بن عبد الله الخزاعي إلى مصر عاملا عليها سنة 198، فأقام سبعة أشهر، ثم ولى العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي مصر سنة 199.، فوجه بابنه عبد الله بن العباس، فحبس المطلب بن عبد الله، واستخلف ابراهيم ابن تميم على الخراج، وصير شرطته إلى عبد العزيز بن الوزير الجروي. وساءت سيرة عبد الله بن العباس، فوثب السري بن الحكم، واستمال الجند، ثم حارب عبد الله حتى أخرجه من البلد، وأخرج المطلب من الحبس، فبايع له، ونزل دار الامارة، وبيت عبد الله بن العباس، وأخذ كل ما كان معه من الاموال، ومضى عبد العزيز الجروي إلى تنيس، فأقام متغلبا عليها، وعلى ما والاها من كور أسفل الارض، وغلب السري بن الحكم على قصبة الفسطاط والصعيد، وتغلب العباس بن موسى بن عيسى على الحوف في قيس،


[ 445 ]

فخذلته، فأقام ببلبيس خمسة وثلاثين يوما. وفي سنة 198 وجه المأمون الحسن بن سهل إلى العراق عاملا عليها وعلى غيرها من البلد، وقد كان وثب الاصفر المعروف بأبي السرايا، واسمه السري ابن منصور الشيباني، بالكوفة، ومعه محمد بن ابراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا، ثم توفي محمد بن ابراهيم، فأقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن زيد، فأخذ البصرة العباس بن محمد بن موسى الجعفري. وقدم زيد بن موسى بن جعفر بن محمد من الكوفة، وقد كان خلع بها، فصار إلى البصرة مع العباس بن محمد الجعفري، وأخذ واسط محمد بن الحسن المعروف بالسلق، وأخذ اليمن ابراهيم بن موسى بن جعفر، وأخذ الحجاز محمد ابن جعفر، وتغلب على نصيبين وما والاها أحمد بن عمر بن الخطاب الربعي، وبالموصل السيد بن أنس، وبميا فارقين موسى بن المبارك اليشكري، وبأرمينية عبد الملك بن الجحاف السلمي ومحمد بن عتاب، وباذربيجان محمد بن الرواد الازدي، ويزيد بن بلال اليمني، ومحمد بن حميد الهمداني، وعثمان بن أفكل، وعلي بن مر الطائي، وبالجبل أبو دلف العجلي، ومرة بن أبي الرديني، وعلي ابن البهلول، ومحمد بن زهرة، وسنان وزيد بن… 1 وبالسلسلة وحن حساس 2 وناحيتها بسطام بن السلس الربعي، وبكفر توثا ورأس عين حبيب بن الجهم، وبكيسوم وما والاها من ديار مضر نصر بن شبث النصري، وكان أصعب القوم شوكة وأشدهم امتناعا، وبقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي، وبالحيار وما والاها من كور قنسرين عثمان بن ثمامة العبسي، وبالحاضر الذي إلى جانب حلب منيع التنوخي. وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر، فلم يبق منهم أحد، وافترقوا أيدي سبا، فصار أكثرهم إلى مدينة قنسرين، وخرب يعقوب الحاضر


1 بياض في الاصل. 2 هكذا دون نقط في الاصل. (*)

[ 446 ]

حتى ألصقه بالارض، وكان فيه عشرون ألف مقاتل، فهو خراب إلى اليوم. وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحوازي بن حنطان التنوخي، وبحماة وما والاها حراق البهراني، وبشيزر وما والاها بنو بسطام، وبمدينة حمص بنو السمط، وبالمصيصة وأذنة وما والاها من الثغور الشأمية ثابت ابن نصر الخزاعي، وكان عاملا للامين، فلما كان من أمره ما كان تغلب على البلد، وأقام بدمشق والاردن وفلسطين جماعة من سائر القبائل، وبمصر السري بقصبة الفسطاط والصعيد، وبأسفل الارض عبد العزيز الجروي، وبالحوفين القيسية واليمانية. وغلبت لخم وبنو مدلج على الاسكندرية، ورئيس لخم رجل يقال له أحمد بن رحيم اللخمي، ثم غلب الاندلسيون، وكان ابتداء أمر الاندلسيين أنهم قدموا من الاندلس في أربعة آلاف مركب، فأرسوا في ميناء الاسكندرية في الرمل، وكانوا زهاء ثلاثة آلاف رجل، فأقاموا على ساحل البحر، وما… 1، ثم وثب بعض أعوان السلطان على رجل منهم، فوقعت عصبية، فوثب الاندلسيون على الفضل بن عبد الله أخي المطلب بن عبد الله، وقتلوا صاحب شرطته، وصاروا إلى الحصن وحاربوا أهل الاسكندرية، حتى أجلوهم عن منازلهم، فخلوا الديار والاموال، ورأسوا عليهم رجلا يقال له أبو عبد الله الصوفي يسفك الدماء ويقتل المسلمين، ثم عزلوه وصيروا عليهم رجلا يقال له الكناني، وأجلوا بني مدلج ولحما عن البلد، فصار البلد كله لهم، وكان ببرقة مسلم بن نصر الاعور الانباري. فلما ولى المأمون الحسن بن سهل العراق وجه خليفته ذا العلمين علي بن أبي سعيد، وكتب المأمون إلى طاهر بن الحسين أن يمضي إلى الجزيرة فيحارب نصر بن شبث، فلما قدم ذو العلمين العراق غلظ ذلك على طاهر، وقال: ما أنصفني أمير المؤمنين ! ثم نفذ إلى الجزيرة، فحارب نصرا.


1 بياض في الاصل. (*)

[ 447 ]

وقدم الحسن بن سهل العراق، فنزل النهروان، وتوجه هرثمة إلى أبي السرايا، والتقوا بناحية الكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 199، فكانت بينهم وقائع، فانصرف هرثمة، وزحف زهير بن المسيب الضبي إليه، فهزمه أبو السرايا، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فوجه إليه الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن أبي خالد في جيش عظيم، فلقي أبا السرايا بموضع يقال له الجامع، بين بغداد والكوفة، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب من هذه السنة، فقتله أبو السرايا، وأسر أخاه هارون بن محمد بن أبي خالد وجماعة من أصحابه. وبلغ زهيرا الخبر، فانصرف من قصر ابن هبيرة إلى بغداد، فرجع هرثمة في جيوش عظيمة، فلقي أبا السرايا، فلم يزل هرثمة حتى صار إلى الكوفة، فقاتله قتالا شديدا، حتى قتل عامة أصحاب أبي السرايا، ودخل هرثمة الكوفة، وخرج أبو السرايا منهزما، حتى صار إلى واسط، ثم إلى الاهواز، فلقيه الحسن ابن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني فهزمه. وانصرف أبو السرايا راجعا منهزما إلى روستقباذ، وهو عليل شديد العلة من بطن به، وبلغ حمادا الخادم المعروف بالكندغوش مكانه، فهجم عليه، فأخذه وأخذ معه محمد بن محمد العلوي وأبا الشوك مولاه، فصار بهم إلى الحسن ابن سهل وهو بالنهروان، فلما أدخل عليه قال له أبو السرايا: استبقني، أصلح الله الامير. قال: لا أبقى الله علي إن أبقيت عليك ! فأمر به فضربت عنقه، وقطع بنصفين، وصلب على جسري بغداد. وأتى بمحمد بن محمد العلوي، فقربه وأدناه وبره، وقال له: لا خوف عليك، لعن الله من غرك ! وولى خالد بن يزيد بن مزيد الكوفة. وصار الحسن بن سهل إلى المدائن، ووجه إلى محمد بن الحسن السلق عبد الله بن سعيد الحرشي، فالتقوا بواسط في شرقي دجلة، فهزم السلق، وفض جمعه.


[ 448 ]

ووجه عيسى بن يزيد الجلودي إلى محمد بن جعفر العلوي، وقد تغلب بمكة، وأخرج داود بن عيسى الهاشمي، فلما قدم الجلودي مكة لم يحاربه واستأمن إليه، فأخذه الجلودي، وخرج به بنفسه إلى المأمون وهو بمرو، وخلف ابنه بمكة، فلما صار بجرجان توفي محمد بن جعفر، وورد كتاب المأمون على الجلودي يأمره بالرجوع إلى الحجاز، فرجع. ووجه حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان إلى اليمن، وابراهيم بن موسى ابن جعفر العلوي متغلب بها، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن، وكانت وقعات منكرة تأخذ من الفريقين، وكان حمدويه قد استخلف على مكة يزيد ابن محمد بن حنظلة المخزومي، فخرج ابراهيم بن موسى من اليمن يريد مكة، وبلغ يزيد بن محمد، فخندق عليه مكة، وأرسل إلى الحجبة، فأخذ الذهب الذي كان بعث به المأمون من خراسان، وصنم ملك التبت، وضربه دنانير ودراهم، وقرض قرضا من الاعراب، ودفع إليهم المال. وصار إبراهيم إلى مكة، فوافقه يزيد في أصحابه، وبعث ابراهيم بن موسى بعض أصحابه، فدخل من الجبل، فانهزم يزيد، ولحقه بعض أصحابه فقتله، ودخل إبراهيم إلى مكة، فغلب عليها، وأقام بها حمدويه في ناحية من اليمن. وأشخص المأمون الرضى علي بن موسى بن جعفر من المدينة إلى خراسان، وكان رسوله إليه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الفضل بن سهل، فقدم بغداد، ثم أخذ به على طريق ماه البصرة حتى صار إلى مرو، وبايع له المأمون بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201، وألبس الناس الاخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذت البيعة للرضى، ودعي له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه، ولم يبق أحد إلا لبس الخضرة إلا اسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي، فإنه كان عاملا للمأمون على البصرة، فامتنع من لبس الخضرة، وقال: هذا


[ 449 ]

نقض لله وله، وأظهر الخلع، فوجه إليه المأمون عيسى بن زيد الجلودي، فلما أشرف على البصرة هرب اسماعيل من غير حرب ولا قتال، ودخل الجلودي البصرة، فأقام بها، وصار إسماعيل إلى الحسن بن سهل، فحبسه، وكتب في أمره إلى المأمون، وكتب بحمله إلى مرو، فحمل، فلما صار بالقرب من مرو أمر المأمون أن يرد إلى جرجان فيحبس بها، فأقام بجرجان محبوسا ممنوعا منه، ثم رضي عنه بعد حين، ووجه ببيعة الرضى مع عيسى الجلودي إلى مكة، وابراهيم ابن موسى بن جعفر بها مقيم، وقد استقامت له غير أنه يدعو إلى المأمون، فقدم الجلودي ومعه الخضرة وبيعة الرضى، فخرج ابراهيم فتلقاه، وبايع الناس للرضى بمكة، ولبسوا الاخضر. وكان حمدويه بن علي بن عيسى، لما خرج ابراهيم إلى مكة، استمال جماعة من أهل اليمن، ثم خلع، فكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولاية اليمن، وأمر الجلودي بالخروج معه ومعونته على محاربة حمدويه، فخرج إبراهيم حتى صار إلى اليمن، فلم يخرج الجلودي معه، فلحقه ابن لحمدويه، فحاربه، فقتل من أصحابه خلقا، وانهزم ابن حمدويه، وصار إبراهيم إلى صنعاء، فخرج حمدويه، فحاربه محاربة شديدة، فقتل من أصحاب ابراهيم خلقا عظيما، وانهزم ابراهيم، فلم يرد وجهه شئ دون مكة، وانصرف الجلودي إلى البصرة، وقد تغلب عليها زيد بن موسى، ونهب دورا وأموالا كثيرة للناس، وكان معه جماعة من القيسية وغيرهم، فلما قرب الجلودي حاربوه يومهم ذاك، ثم انهزموا، وانهزم زيد، فأخذه عيسى، وحمله إلى المأمون، فمن عليه، وأطلق سبيله. وشخص هرثمة من العراق إلى مرو سنة 201، وقيل إنه انصرف بغير إذن من المأمون، فلما دخل على المأمون… 1 قال: من نقرس، ولا يمكنني أمشي في محفة، وكلم المأمون بكلام غليظ، ودخل معه يحيى بن عامر بن


1 بياض في الاصل. (*)

[ 450 ]

اسماعيل الحارثي، فقال: السلام عليك يا أمير الكافرين ! فأخذته السيوف في مجلس المأمون حتى قتل، فقال هرثمة: قدمت هذه المجوس على أوليائك وأنصارك ؟ فأمر المأمون بسحب رجل هرثمة، وحبسه، فأقام في محبسه ثلاثة أيام، ومات. وخرج بخراسان منصور بن عبد الله بن يوسف البرم، فوجه إليه المأمون وبادر منصور بن عبد الله، فقتله. ووثب محمد بن أبي خالد وأهل الحربية بالحسن بن سهل، حتى أخرجوه من بغداد، وأسروا زهير بن المسيب الضبي، وذلك أنه كان مع محمد بن أبي خالد… 1 وأتوا محمد بن صالح بن المنصور، فقالوا: نحن أنصار دولتكم، وقد خشينا أن تذهب هذه الدولة بما حدث فيها من تدبير المجوس، وقد أخذ المأمون البيعة لعلي بن موسى الرضى، فهلم نبايعك، فإنا نخاف أن يخرج هذا الامر عنكم. فقال لهم: قد بايعت للمأمون، وكان محمد بن صالح أول هاشمي بايع المأمون ببغداد، ولست لكم بصاحب. وصار الحسن بن سهل إلى واسط، فاتبعه محمد بن أبي خالد والحربية والابناء، فالتقوا بقرية أبي قريش دون واسط، فكانت بينهم وقعة منكرة، وأصاب محمد بن أبي خالد سهم، فأثخنه، فحمل إلى جبل، وأقام أياما وتوفي، فحمل إلى بغداد. وقام عيسى بن أبي خالد بالعسكر، وقد كان محمد بن أبي خالد أسر زهير بن المسيب الضبي، فلما أدخل محمد بن أبي خالد إلى بغداد ميتا، وثب الابناء على زهير بن المسيب، وهو محبوس، فقتلوه، وشدوا في رجله حبلا، وجروه في طرق بغداد، ومثلوا به، فاجتمع قواد الحربية، فبايعوا لابراهيم ابن المهدي، المعروف بابن شكلة، لخمس ليال خلون من المحرم سنة 202، ودعي له بالخلافة، وسمي بالمرضي، ونزل لرصافة، وصلى بالناس ببغداد في


1 بياض في الاصل. (*)

[ 451 ]

مسجد المدينة، وعسكر بكلواذى، ومعه الفضل بن الربيع، وعيسى بن محمد ابن أبي خالد، وسعيد بن الساجور، وأبو البط، وكتب بالولايات، وعقد الالوية، واستقامت له الامور، وأطاعه الابناء وأهل الحربية وما والاها، إلا من كان في طاعة المأمون، فإنهم كانوا يحاربون مع حميد بن عبد الحميد الطائي الطوسي، ويصيحون: يا عنقود، يا مغني ! وكان ابراهيم أسود شديد السواد، وبنصف وجهه شامة، سمج المنظر، وكانوا يدعونه عنقودا لذلك، ثم وثب أسد الحربي، وكان من أصحاب ابراهيم، في جماعة من الحربية، فخلعوا ابراهيم، ودعوا للمأمون، وأخذ عيسى بن أبي خالد أسدا الحربي وابنا له، فقتلهما وصلبهما. وكان حميد بن عبد الحميد نازلا بموضع يقال له خان الحكم بنهر صرصر، فراسل عيسى بن أبي خالد ليجتمعا، ثم صار حميد إلى بغداد، فصلى خلف ابن أبي رجاء القاضي صلاة الجمعة، وانصرف إلى معسكره. وخرج مهدي بن علوان الشاري بناحية عكبرا، فخرج إليه المطلب ابن عبد الله، فواقعه وقعة بعد وقعة، ثم هزمه مهدي، فانصرف المطلب منهزما إلى بغداد، وخرج إليه أبو إسحاق بن الرشيد، فواقعه، وهزم مهدي، ولم يزل يتبعه حتى أسره، فمن عليه المأمون وألزمه بابه، وألبسه السواد، فلم يزل على باب المأمون حتى مات. وخرج المأمون من مرو متوجها إلى العراق سنة 202، ومعه الرضى، وهو ولي عهده، وذو الرئاستين الفضل بن سهل وزيره، وقد كتب للفضل الكتاب الذي سماه كتاب الشرط والحباء يصف فيه طاعته، ونصيحته، وعظته، وعنايته، وذهابه بنفسه عن الدنيا، وارتفاعه عما بذل من الاموال والقطائع والجوهر والعقد، ويشرط له على نفسه كل ما يسأل ويطلب، لا يدفعه، ولا يمنعه، ووقع فيه المأمون بخطه، وأشهد على نفسه، فلما صار المأمون بقومس قتل الفضل بن سهل وهو في الحمام، دخل عليه غالب الرومي وسراج الخادم


[ 452 ]

بالسيوف، فقتلهما المأمون جميعا، وقتل قوما معهما، وقتل ذا العلمين علي ابن أبي سعيد، وكان ابن خالة الفضل بن سهل، وقال إنه الذي دس في قتله، ووجه برأسه إلى الحسن بن سهل إلى العراق، وقتل خلف بن عمر البصري المعروف بالحف، وموسى البصري، وعبد العزيز بن عمران الطائي، وغالبا الرومي، وسراجا الخادم، وأقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، وأظهر عليه أشد جزع، ولم يوجد للفضل مال ولا ضيعة، ولا فرس، ولا آنية، إلا خمسة أعبد وفرسا وبرذونا. قال غسان بن عباد قلت للفضل يوما: أيها الامير ! لو أمرت أن يتخذ لك ضياع وعقد، فقال: ولم ؟ ويحك ! إن دام ما أنا فيه فالدنيا كلها ضيعتي وعقدي، وإن زال فما أنا فيه لا يزول إلا باصطلام. قال أبو سمير: وكنت أسمع الفضل بن سهل في أيام المأمون كثيرا ما يقول: لئن نجوت أو نجت ركائبي * من غالب ومن لفيف غالب إني لنجاء من الكرائب وهو لا يدري من غالب، ولا يذهب إلا إلى قريش، حتى دخل عليه غالب الرومي صاحب ركاب المأمون، فقتله، فقال الفضل: لك مائة ألف دينار. فقال: ليس بأوان تملق، ولا رشوة، وقتله. وكان المأمون كلما مر ببلد أقام فيه، حتى يصلح حاله، وينظر في مصالح أهله، واستخلف على خراسان عند خروجه رجاء بن أبي الضحاك قرابة الحسن ابن سهل، وكانت خراسان قد استقامت وأعطى ملوكها جميعا الطاعة، وأسلم ملك التبت، وقدم على المأمون إلى… 1 بصنم له من ذهب على سرير من ذهب، مرصع بالجوهر، فأرسله المأمون إلى الكعبة يعرف الناس هداية الله لملك التبت، ولم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها، فلما فصل المأمون


1 بياض في الاصل. (*)

[ 453 ]

عن خراسان قلت مداراة رجاء بن أبي الضحاك، وضعف في تدبيره، ولم يكن بالحازم في أموره، فخاف المأمون أن يضطرب خراسان، فعزله، وولى غسان ابن عباد، فأحسن السيرة، واستمال ملوك النواحي. وفاة الرضى علي ولما صار إلى طوس توفي الرضى علي بن موسى بن جعفر بن محمد بقرية يقال لها النوقان أول سنة 203، ولم تكن علته غير ثلاثة أيام، فقيل إن علي بن هشام أطعمه رمانا فيه سم، وأظهر المأمون عليه جزعا شديدا. فحدثني أبو الحسن بن أبي عباد قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضى حاسرا في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتي النعش يقول: إلى من أروح بعدك، يا أبا الحسن ! وأقام عند قبره ثلاثة أيام يؤتى في كل يوم برغيف وملح، فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكانت سن الرضى أربعا وأربعين سنة. وقال أبو الحسن بن أبي عباد سمعت الرضى يقول: إن مشي الرجال مع الرجل فتنة للمتبوع ومذلة للتابع، وسمعته يقول: إن في صحف ابراهيم: أيها الملك المغرور ! إني لم أبعثك لتبني البنى، ولا لتجمع الدنيا، ولكن بعثتك لترد عنى دعوة المظلوم، فإني لا أردها، ولو كانت من كافر. وقال للمأمون: ما التقت فئتان قط إلا نصر الله أعظمهما عفوا. وقال: إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن، فيتعظ، فأما صاحب سيف وسوط فلا ! إن من تعرض لسلطان جائر، فأصابته منه بلية، لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر فيها. وقدم المأمون مدينة السلام في شهر ربيع الاول سنة 204، ولباسه ولباس


[ 454 ]

قواده وجنده والناس كلهم الخضرة، فأقام جمعة، ثم نزعها، وأعاد لباس السواد. وتغيب ابراهيم بن المهدي، فلم يدر أين هو، وخرج من منزله، ومعه عبد الله بن صاعد كاتبه، وامرأة من أهله، فلما صار في الطريق قال لعبد الله ابن صاعد: ارجع إلى أمي فسلها أن تدفع الجوهر الذي عندها ! فرجع عبد الله، ومضى هو، فخفي موضعه، وهرب الفضل بن الربيع إلى البصرة، فاستتر عند يزيد بن المنجاب المهلبي، وأمر المأمون أن يقبض ضياعه وأمواله وعقاراته، ثم صار إلى باب المأمون طالبا للامان، وقد كان بلغ المأمون أنه مات، وشهد عنده بذلك جماعة، فلما قيل للمأمون: هذا الفضل بن الربيع ! قال: إن كان بعث من الآخرة، فقد بعث الرشيد معه. ثم أدخله، فأعطاه الامان، ومن عليه وأحضره ليلة فقال: هبك تعتذر في محمد بأنه كانت له في عنقك بيعة من الرشيد، فما عذرك في ابن شكلة، وإنما محله محل المغنين والسفهاء، إذ قويت عزمه على ما خرج إليه من خلعي بعد أن صارت بيعتي في عنقك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ! ما أجد قلبي مكانه، وقد عظم جرمي عن الاعتذار، وجل ذنبي عن الاقالة، وما أرجو الحياة إلا من سعة عفوك، فهب دمي لحرمتي بآبائك ! فأمسك عنه ورد عليه ضيعة من ضياعه مبلغ مالها ثلاثمائة ألف درهم وستون ألفا، قدرها لقوته وقوت عياله. وأنزل المأمون محمد بن صالح بن المنصور دار الفضل بن الربيع، وزوجه بخديجة ابنة الرشيد، وأمر له بألفي ألف درهم مكافأة على ما كان من مسارعته إلى بيعته وطاعته، والامتناع من بيعة ابراهيم، وأعفاه من الركوب إلى بابه وإلى دار العامة، فكان يركب مكانه كاتبه جعفر بن وهب، وزوج محمد بن الرضى ابنته أم الفضل، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جدا لامرئ ولده رسول الله وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه، وولى صالح ابن الرشيد البصرة، فاستخلف أبا الرازي محمد بن عبد الحميد وولى أبا عيسى


[ 455 ]

ابن الرشيد الكوفة، فاستخلف محمد بن الليث، وكان طاهر بن الحسين بالجزيرة في محاربة نصر بن شبث، فوجه إليه بعهده على الجزيرة، والشأم، ومصر، وولى دينار بن عبد الله الجبال، وقد كان الحسن بن سهل ولى الجبل بأمر المأمون الحسن بن عمرو الرستمي، فخلع أيضا، وأظهر المعصية، فلما قدم دينار حاربه، فأسره وأسر علي بن البهلول، ووجه المأمون بنصر بن حمزة ابن مالك الخزاعي إلى الثغور، وقد ولى الرشيد اياها ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وخيف معصيته، فتسلمها منه نصر بن حمزة، وتولى الثغور، ولم يلبث ثابت بن نصر إلا أقل من جمعة حتى مات، فقيل إن نصر بن حمزة ابن مالك سقاه السم. ووجه المأمون بعيسى بن يزيد الجلودي عاملا على اليمن، وبها حمدويه بن علي بن عيسى متغلب قد أظهر المعصية بعد خروج ابراهيم بن موسى بن جعفر العلوي، فلما صار إلى مكة أشخص ابراهيم بن موسى إلى بغداد، وولي مكانه عبيدالله بن الحسن العلوي بعهد من المأمون، ونفذ الجلودي إلى اليمن، وزحف إليه حمدويه، فالتقوا لخمس خلون من جمادى الاولى سنة 205، فدعاه إلى الطاعة، فامتنع، وشبت الحرب بينهم، فقتل من أصحاب حمدويه خلق عظيم، وانهزم حمدويه حتى دخل مدينة صنعاء، فاتبعه الجلودي حتى صار إلى الدار التي كان ينزلها، فأخذه الجلودي، وهو في ثوب جارية من جواريه، فقال له: سوءة لك ! قائد ابن قائد يقاتل الخليفة ويفر من الموت هذا الفرار ؟ قد آمنك الله على دمك، حتى تصير إلى أمير المؤمنين، فيحكم فيك برأيه. وأشخصه إلى المأمون. ووثب الجند بطاهر بن الحسين، وهو بالرقة يحارب نصر بن شبث، فانصرف إلى بغداد، وولى مكانه يحيى بن معاذ، فأقام بالرقة حتى توفي، وولى المأمون طاهرا الشرط، فأقام سنة، ثم شكا إلى أحمد بن أبي خالد الاحوال كاتب المأمون ببرمه بالمقام بالباب، ومحبته الخروج من بغداد، وكان بينهما


[ 456 ]

مودة وخلة، وجعل له ثلاثة آلاف ألف درهم، فاحتال أحمد بن أبي خالد أن كتب عن غسان بن عباد عامل خراسان كتابا إلى المأمون فيه أن تعفني من خراسان، فقال المأمون: والله ما أعرف في المملكة إلا خراسان، وما أدري ما حمل هذا الجاهل على الاستعفاء إلا أن يكون ما رأى نفسه لها أهلا. فقال له أحمد بن أبي خالد: فولها طاهرا ! فولى طاهر بن الحسين خراسان في أول سنة 206 مكان غسان بن عباد، فقدمها طاهر، وقد خرج حمزة الشاري بها، فوجه إليه بجيش بعد جيش، ثم توفي حمزة، فقام بعده ابنه ابراهيم بن النصر التميمي، فلم يزل أيام طاهر، وقدم غسان بن عباد من خراسان، فحجبه المأمون عنه شهرا، ثم كتب الحسن بن سهل فيه، فأذن له فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك ! ما ذنبي ؟ قال: تستعفيني من خراسان، وهي المملكة بأسرها….. 1 فحلف له على ذلك، و وقف على تدبير أحمد بن أبي خالد. وولى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة والشأم ومصر والمغرب، وصير إليه جميع أعمالها، وأمره بمحاربة المتغلبين بها، فنفذ عبد الله في سنة 206 بعد نفوذ أبيه إلى خراسان بشهرين، فصار إلى الرقة، فواقع نصر بن شبث النصري المتغلب بكيسوم وما والاها من ناحية الجزيرة، وكتب إلى سائر المتغلبين في النواحي من الجزيرة والشأمات، وأنفذ إليهم الرسل في المعاون، فكتب القوم جميعا أنهم في الطاعة، وسألوه أن يكتب لهم الامانات، فقبل ذلك منهم. ووجه المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني إلى مصر، ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش. وأمرهما أن يتكاتفا على النظر، فإذا فتحا البلاد نظر عمر بن فرج الرخجي في أمر الخراج، وكان إلى خالد المعاون والصلاة، فسارا من العراق، وأخذا طريق البرية حتى صارا بفلسطين، ثم قدما إلى مصر، وعلي


1 بياض في الاصل (*)

[ 457 ]

ابن عبد العزيز الجروي متغلب بأسفل الارض، فلما قربا منه كتب إليهما أنه في السمع والطاعة، وأنه لم يزل هو وأبوه على ذلك. وأن كتبهما لم تزل بهذا، فصار خالد بن يزيد وعمر بن فرج إلى ناحية أسفل الارض. فأقاما عدة شهور يكاتبان عبيدالله بن السري، ثم زحف إليه خالد، فأقام عمر بموضعه، وخرج عبيدالله من الفسطاط لمحاربة خالد، فلما التقيا خذل خالدا أصحابه الذين كان الجروي أنفذهم معه، فحارب خالد ساعة في مواليه وعشيرته، وكاثره عبيد الله، وأسره، فأقام عنده مكرما في أحسن حال وأجملها، ثم حمله في البحر، وزوده، وأجازه إلى العراق، وكان خالد يقول: ما شكرت أحدا شكري لعبيد الله بن السري، لقد أحسن إلي كل إحسان لولا أنه حملني في البحر. وأقام عمر بن الفرج بأسفل الارض إلى أن حضر وقت الحج، فبذرقه ابن الجروي إلى مكة. وكتب صاحب الخبر بخراسان يذكر أن طاهر بن الحسين صعد المنبر في يوم الجمعة، فخطب الناس، ولم يدع لامير المؤمنين، فدعا المأمون بأحمد ابن أبي خالد ليلا، فقال له: بعتني بثلاثة آلاف ألف درهم أخذتها من طاهر ؟ فقال: أنا أخرج إليه، فأكفيك أمره، فأمره أن يتجهز، ثم ورد كتاب طاهر على أحمد بن أبي خالد يسأله أن يوجه إليه محمد بن فرخ العمركي، وكان أحب الناس إلى طاهر، وأوثقهم في نفسه، فقال أحمد بن أبي خالد للمأمون: يا أمير المؤمنين ! إن محمد بن فرخ يقوم بما كنت أقوم به، فأقطع عدة قطائع، ووصل بمال عظيم، ونفذ إلى خراسان، فأقام عنده شهرا حتى توفي، فيقال إن ابن أخي العمركي سقاه سما فقتله. وتوفي طاهر بن الحسين بخراسان في سنة 207، وهو ابن ثمان وأربعين سنة، فولى المأمون ابنه طلحة بن طاهر خراسان، وأنفذ أحمد بن أبي خالد في الجيش الذي كان ضمه إليه، فنفذ إلى خراسان، وأقدم معه الافشين حيدر بن كاوس الاشروسني وجملة من أبناء ملوك خراسان.


[ 458 ]

وبلغ المأمون ان بشر بن داود المهلبي عامل السند قد خالف، فوجه ؟ حاجب ابن صالح عاملا مكانه، فلما صار بمكران ألفى أخا لبشر بن داود، فقال له: سلم العمل، إن سبيل كتاب العمل أن يقرأه بشر ليكتب بالتسليم، وقال: إنما أنا من قبل بشر، وبشر بالمنصورة، وبينك وبينه يومان، فإذا اجتمعت معه وكتب إلي بالتسليم سلمت إليك. فوقعت بينهما المنازعة، وكتب إلى المأمون يخبره أن بشرا قد خلع، وأنه على محاربته، فأحضر المأمون محمد بن عباد المهلبي، وكان سيد أهل البصرة في زمانه، فقال: قد خالف بشر ! فقال: معاذ الله ! قال: فاخرج مع غسان بن عباد ! فوجه مع غسان بجماعة من القواد وبموسى بن يحيى بن خالد البرمكي، وأمره أن يولي موسى البلد، فلما صار غسان إلى بلاد السند خرج إليه بشر، وأعطاه الطاعة من غير حرب ولا منازعة، فأشخصه، وولى البلد موسى بن يحيى، فلم يزل موسى في البلد حتى مات، فصار ابنه عمران بن موسى مكانه، ولما قدم بشر بن داود العراق ومن كان معه من آل المهلب أطلقهم المأمون جميعا، وأحسن إليهم. وظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي بن شكلة في أول سنة 208، ظفر به ليلا، فجلس في تلك الليلة جلوسا عاما، وحبسه عند أحمد بن أبي خالد بغير وثاق، وأمره بالاحسان إليه، ثم كتب ابراهيم من حبسه، وهو لا يشك أنه يقتله، كتابا إلى المأمون قال فيه: ولي الثأر، يا أمير المؤمنين، محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، من تناوله الاغترار بما مد له من الرخاء أمر عادية الدهر على نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي عفو كما جعل كل ذي ذنب دوني، فإن عفوت فبفضلك، وإن أخذت فبحقك. فوقع المأمون في رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة بينهما عفو الله، وهو من أكثر ما نسأله. وخلى سبيله، وعفا عنه، وقال: إني شاورت جميع أصحابي في أمرك حتى شاورت أخي أبا إسحاق وابني العباس، فكلهم أشار علي بقتلك، فأبيت إلا العفو عنك. فقال: اما أن يكونوا قد نصحوك في عظم الخلافة


[ 459 ]

وتدبير الملك، فقد فعلوا، ولكنك أبيت أن تستجلب نصر الله من حيث دعوك. وكان المأمون شاور فيه أصحابه جميعا، فكل أشار بقتله، فقال لهم: إن قتلته كنت متبعا للملوك قبلي فيما فعلته بمن ناوأها ونازعها، وإن عفوت كنت أمة وحدي. ووثب ابن عائشة، وهو ابراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن ابراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، في جماعة معه منهم: مالك بن شاهي النفري من أهل السواد، ومحمد بن ابراهيم الافريقي، فدونوا الدواوين، وأثبتوا أسماء الرجال، وسموا العمال، فظفر به المأمون، فحبسه في المطبق، فاستمال ابراهيم بن عائشة أهل المطبق، حتى حملهم على الوثوب، وأن يشغبوا، وتنصروا، وشدوا الزنانير في أوساطهم والصلب في أعناقهم، ورفع محمد بن عمران صاحب البريد خبرهم، فركب المأمون إلى المطبق ليلا، لما صح عنده الخبر، وأحضر جماعة من قواده، ودعا بابراهيم، فضرب عنقه وقتل الذين كانوا معه، وهم: الافريقي، وفرج البغواري، وصلب ابن عائشة ببغداد ثلاثة أيام، ثم أنزله، وكان ذلك في سنة 210. وشخص المأمون من بغداد إلى فم الصلح، وهو منزل الحسن بن سهل، فتزوج بوران بنت الحسن بن سهل، فعرس بها هناك، فكان عرسا لم ير مثله، فأنفق الحسن بن سهل على المأمون وجميع من معه من أهل بيته وكتابه وأصحابه وجميع من حوى عسكره من الاتباع، أيام مقام المأمون، ونثر عليهم الضياع والقرى والجواري والوصفاء والخيل والدواب، فكانت تكتب أسماء هذه الانواع في رقاع صغار، وتجعل في بنادق المسك، وتنثر على الناس، فكلما أخذ إنسان بندقة نظر إلى الرقعة فيها، ثم قبضها من الوكلاء، ثم نثر على الناس الدراهم والدنانير وفأر المسك وقطع العنبر، وأقام المأمون أربعين يوما ثم انصرف. وفتح عبد الله بن طاهر كيسوم، فظفر بنصر بن شبث في هذه السنة، وهي سنة 210، وحمله إلى المأمون.


[ 460 ]

فحكى ابن منصور بن زياد، وكان على بريد عبد الله بن طاهر، وكتب بخبره إلى المأمون: ان عبد الله بن طاهر يخرج في كل ليلة من عسكره، ويخرج إليه نصر بن شبث، فيجتمعان ويتحدثان، فدعا المأمون بعمرو بن مسعدة، فأمره أن يظهر علة يحتاج أن يقيم لها في منزله، وأن يخرج على خمس عشرة دابة من دواب البريد، ولا يعلم أحدا حتى يصير إلى عبد الله بن طاهر، ويقول له: يا ابن الفاعلة، لقد هم أمير المؤمنين أن يؤمر عبدا أسود، ثم يوجهه مكانك، ويجعلك سائسا له، وأمر عمرا أن لا يسلم عليه، ولا يسمع له جوابا، فخرج عمرو، فلما اجتمع مع عبد الله لم يسلم عليه حتى بلغه الرسالة على رؤوس الناس، ثم انصرف، ولم يسمع منه جوابا، فلما كان يوم الاربعين من مصير عمرو وافى نصر بن شبث، وسار عبد الله يستقري الشأم بلدا بلدا لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك والزواقيل، وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الامان للاسود والابيض والاحمر، وضمهم جميعا، ونظر في مصالح البلدان، وحط عن بعضها الخراج، فلم يبق مخالف ولا خالع إلا خرج من قلعته وحصنه. وسار عبد الله بالقوم جميعا إلى مصر، فلقيه علي بن عبد العزيز الجروي المتغلب بأسفل الارض، فأعلمه أنه لم يزل هو وأبوه في الطاعة، فقبل قوله، وسيره معه حتى نزل ببلبيس، فواقع عبيدالله بن السري وقعات، وجعل أصحاب عبيدالله يستأمنون شيئا بعد شئ، حتى لم يبق معه ممن كان يعتمد عليه أحد، فلما رأى ذلك طلب الامان، على أن يسوغ ما أخذ، ويطلق له جباية الصعيد شهرين، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه الامان، وقال: لو شرط أن أضع له خدي في الارض يطأ عليه لفعلت، وكان ذلك قليلا عندي في جنب ما أوثره من حقن الدماء، فخرج إليه لعشر بقين من صفر سنة 211. ودخل عبد الله بن طاهر الفسطاط، وكتب بالفتح، وأقر عبد الله بن طاهر عبيدالله بن السري على الصعيد شهرين، ثم سيره إلى العراق، ثم ولى العباس


[ 461 ]

ابن هاشم بن باتيجور البلد. وكان قوم من الاندلس قد تغلبوا بالاسكندرية، فزحف إليهم عبد الله، فحاصرهم حصارا شديدا، ثم آمنهم، وفتح الاسكندرية سنة 212، وولاها الياس ابن أسد الخراساني، وانصرف إلى الفسطاط، ثم صار إلى العراق، وحمل معه الجروي وجماعة من أهل مصر والشأم، واستخلف على مصر عيسى بن يزيد الجلودي. وكان أحمد بن محمد العمري، من ولد عمر بن الخطاب، قد وثب باليمن، وأخرج محمد بن نافع، واحتوى على بيت المال، فولى المأمون أبا الرازي محمد بن عبد الحميد اليمن، فلما قدم ضرع العمري إلى الامان، فأعطاه إياه، ثم مكر به أبو الرازي، فأخذه وجماعة من أهل بيته وولده، فأوثقهم في الحديد، وحملهم إلى باب المأمون، وأخذ أهل اليمن بأداء خراجين جباهما ابن العمري، ووجه إلى إبراهيم بن أبي جعفر الحميري المعروف بالمناخي، وكان في جبل له منيع، يأمره بالمصير إليه، فلم يصر إليه، فزحف إليه يريده، فلما صار إلى الجبل سلك طريقا ضيقا، وخرج ابن أبي جعفر، فقتله وقتل خلقا من أصحابه، وأسر خلقا، فقطع أيديهم وأرجلهم، وخلى سبيلهم، وغلب ابراهيم بن أبي جعفر على اليمن، وخرب مدينة السلطان، وكان ذلك في سنة 212. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن مالك الخزاعي في ذي الحجة، وفيها كثر الحريق في الكرخ. وكان المأمون قد ولى طاهر بن محمد الصنعاني أرمينية واذربيجان، وقيل بل وجهه هرثمة بن أعين من همذان، وهو متوجه إلى العراق، فصار إلى ورثان، من عمل اذربيجان، وكاتب قواد أرمينية ووجوه جندها، فبايعوا للمأمون، وكان العامل عليها من قبل المخلوع اسحاق بن سليمان، فكان معه عمر، والحزون، ونرسي، وعبد الرحمن، صار بطريق الران وجماعة من البطارقة، وأقبل يريد برذعة ليوقع بأهلها لاخراجهم ابنه، فوجه إليهم طاهر عامل المأمون زهير بن سنان التميمي في خلق عظيم، فالتقوا، فاقتتلوا عامة يومهم، ثم


[ 462 ]

انهزم اسحاق بن سليمان وأصحابه وأسر ابنه جعفر بن اسحاق بن سليمان فوجهه ومن معه من الاسارى إلى المأمون. ولم يقم طاهر الصنعاني إلا أياما حتى خرج عليه عبد الملك بن الجحاف السلمي خالعا، ووثب في أهل البيلقان، فحصروا طاهرا في مدينة برذعة، فأقام محصورا عدة أشهر، وبلغ المأمون، فولى سليمان بن أحمد بن سليمان الهاشمي، فقدم البلد، وطاهر محصور، فأخرجه وصرفه، وأعطى عبد الملك الامان، واستقامت البلاد، ثم ولى حاتم بن هرثمة بن أعين أرمينية، فقدم البلد، وقد وقعت بين المعتزلة والجماعة العصبية، فبعضهم يقتل بعضا، حتى كادوا يتفانون ثم اصطلحوا، ولم يقم حاتم بن هرثمة في البلد إلا أياما قلائل، حتى أتاه خبر موت أبيه هرثمة والحال التي مات عليها، فخرج من برذعة، حتى نزل كسال، فبنى بها حصنا، وعمل على أن يخلع، وكاتب البطارقة ووجوه أهل أرمينية، وكاتب بابك والخرمية، وهون أمر المسلمين عندهم، فتحرك بابك والخرمية، وغلب بابك في عمل اذربيجان. وبلغ المأمون الخبر، فولى يحيى بن معاذ بن مسلم مولى بني ذهل أرمينية….. 1 ففعل ذلك، وواقع يحيى بن معاذ وقعات لم يظهر عليه في وقعة منها، وكان المأمون قد أمر عيسى بن محمد بن أبي خالد القائد المحارب، كان في أيام المخلوع، فلما لم يحمد أثر يحيى، ولى عيسى أرمينية واذربيجان، وأمره أن يجهزهم ويعطيهم الارزاق من ماله، فجهزهم عيسى بن محمد من ماله، وهم الذين كانت ناحيتهم بمدينة السلام، وخرج، فلم يبق ببغداد أحد من الجند الحربية الذين كانوا في الفتنة، فلما صار في البلد أتاه محمد بن الرواد….. 2 أن يمشي وجميع رؤساء تلك البلاد، فاحتشد لقتال بابك، وأخذ في مضيق، فلقيه بابك فيه، فهزمه، فمر عيسى موليا لا يقف على شئ، فصاح به بعض شطار الحربية: إلى أين يا أبا موسى ؟ فقال: ليس لنا في قتال هؤلاء بخت، إنما


1 و 2 بياض في الاصل (*)

[ 463 ]

نخشى في قتال المسلمين. وانصرف من اذربيجان إلى أرمينية، وقد عصى سوادة بن عبد الحميد الجحافي، فعرض عليه عيسى أن يوليه أرمينية، فأبى إلا محاربته، فحاربه فهزمه بعد جهد، واستقامت لعيسى بن محمد أرمينية، واستعظم أمر بابك بالبذ، فولى المأمون زريق بن علي بن صدقة الازدي، فلم يصنع شيئا، فولى محمد ابن حميد الطوسي، فلما بلغ زريقا خبر صرفه خلع، وأظهر المعصية. وقدم محمد بن حميد البلد، فحاربه زريق، فقتل محمد أصحابه، ثم طلب الامان، فآمنه، وحمله إلى المأمون، وأقام محمد بن حميد حتى نقى البلاد ممن كان يخاف ناحيته، فلما أمكنه محاربة بابك عبأ لقتاله، وزحف إليه، فحاربه محاربة شديدة له في كل ذلك الظفر، ثم صار إلى موضع ضيق فيه حزونة، فترجل ابن حميد وجماعة معه، فحمل عليهم أصحاب بابك، فقتل محمد وجماعة من وجوه أصحابه، وانهزم العسكر، وأقام على الجيش مهدي بن أصرم قرابة لابن حميد، وكان ذلك في أول سنة 214. ولما قتل محمد بن حميد ولى المأمون عبد الله بن طاهر، وعقد له على كور الجبال وأرمينية واذربيجان، وكتب إلى القضاة وعمال الخراج بالانتهاء إلى أمره، فخرج عبد الله، وأقام بالدينور، وكتب إلى مهدي بن أصرم، ومحمد بن يوسف، وعبد الرحمن بن حبيب، القواد الذين كانوا مع محمد بن حميد، أن يقيموا بمواضعهم. وتوفي طلحة بن طاهر بخراسان، فولى المأمون مكانه عبد الله، ووجه إليه بعهده وعقده مع اسحاق بن ابراهيم، ويحيى بن أكثم، قاضي القضاة، فنفذ عبد الله إلى خراسان في هذه السنة، فولى المأمون اذربيجان ومحاربة بابك علي بن هشام، وولى عبد الاعلى بن أحمد بن يزيد بن أسيد السلمي أرمينية، فقدم البلد، وقد تغلب على جرزان محمد بن عتاب، وانضمت إليه الصنارية، فحاربه فهزمه ابن عتاب، ولم يكن له ضبط ولا معرفة بالحرب، فولى المأمون خالد ين يزيد بن مزيد، فأخرج من كان في الحبس بالعراق من عشيرته،


[ 464 ]

وشخص إلى الجزيرة، فانضم إليه خلق عظيم من ربيعة، ثم صار إلى البلد، فلما قدم خلاط أتاه سوادة بن عبد الحميد الجحافي فأمنه، ثم صار إلى النشوي، وقد كان تغلب بها يزيد بن حصن مولى بني محارب، فهرب منه يزيد بن حصن، وأتى كسال، فأقام بها، وبعث إلى محمد بن عتاب، وأتاه في الامان مظهرا للطاعة، فأمنه خالد، ثم قال: الصنارية في طاعتك ! فقال له محمد بن عتاب: ماهم لي في طاعة ! فزحف إليهم خالد، فواقعهم بجرزان، فهزمهم، وأخذ مواشيهم، ثم دعا إلى الصلح، وصالحهم على ثلاثة آلاف رمكة وعشرين ألف شاة، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى وثبوا ووثب معهم القيسية، وشغبوا على خالد، وكان في القوم علي بن يحيى الارمني، فأسره خالد، وأسر جماعة، ووجه بهم، إلى المأمون، فصيرهم في ناحية أبي اسحاق المعتصم، وضمهم إليه، وفرض لهم. ثم ولى المأمون عبد الله بن مصاد الاسدي مكان خالد، وأشخص خالدا إليه، فخاف خالد أن يكون قد سعي عنده، فلما قدم ضمه إلى أخيه المعتصم، وقدم عبد الله بن مصاد الاسدي البلد، فلم يقم إلا يسيرا حتى مات، واستخلف ابنه عليا، فاضطرب البلد، وولى المأمون الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني، فقدم والبلد مضطرب، فقاتل أهل قلعة لنايفين ؟ (1)، ففتحها، وانصرف إلى دبيل، فأقام بها، وكتب إلى إسحاق بن اسماعيل بن شعيب التفليسي في حمل الاموال، فدافعه إسحاق ورد رسله، فزحف إلى تفليس، فلما قرب منه خرج إليه، فأعطاه مالا، فانصرف عنه. وعقد المأمون لاخيه أبي إسحاق على مصر والمغرب، ولابنه العباس على الجزيرة سنة 214، فقدم العباس الجزيرة، وقد وثب بلال الشاري، فاجتمع هو وأبو إسحاق وجماعة من معهما من القواد عليه، فظفروا به، فقتلوه. ووثب القيسية واليمانية بمصر بناحية الحوف، فحاربهم عيسى بن يزيد الجلودي، فهزموه غير مرة، فوجه أبو إسحاق بعمير بن الوليد عاملا على


1 بدون نقط في الاصل (*)

[ 465 ]

مصر مكان الجلودي، فحاربهم وأكثر فيهم النكاية، ثم قتل، فأمر المأمون أبا اسحاق أن ينفذ إليهم، فسار إليهم من الرقة، فدعاهم إلى الامان، فأبوا عليه فقاتلهم، فظفر بهم، وأسر عبد الله بن جليس الهلالي رئيس القيسية، وعبد السلام الجذامي رئيس اليمانية، فضرب أعناقهما وصلبهما على جسر مصر، وأسر منهم خلقا عظيما حملهم إلى بغداد. ووشى يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم، وأن يكون مقيما حتى يوافيه، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة. وخرج المأمون متوجها إلى أرض الروم في المحرم سنة 215، فغزا الصائفة، وافتتح أنقرة نصفا بالصلح ونصفا بالسيف، وأخرجها، وهرب منويل البطريق منها، وفتح حصن شمال، ثم انصرف، فنزل دمشق، ثم أتاه الخبر أن أهل البشرود من كور مصر قد ثاروا، فأمر أخاه أبا إسحاق أن يوجه الافشين حيدر ابن كاوس، فوجه به، وكف عاديتهم، ونفذ إلى برقة، وقد خالف أهلها، فافتتحها، وأسر مسلم بن نصر بن الاعور، وانصرف إلى مصر سنة 216، وقد عاود أهل الحوف وأهل البشرود المعصية، فحاربهم وغزا المأمون أرض الروم سنة 216، ففتح اثني عشر حصنا، وعدة مطامير، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف، فوجه العباس ابنه، فلقيه، فهزمه، وفتح الله على المسلمين، ووجه إليه توفيل ملك الروم بالاسقف صاحبه، وكتب إليه كتابا بدأ فيه باسمه، فقال المأمون: لا أقرأ له كتابا يبدأ فيه باسمه ! ورده، وكتب إليه توفيل بن ميخائيل: لعبد الله غاية الناس في الشرف، ملك العرب، من توفيل بن ميخائيل ملك الروم من قبل.. 1، وسأل أن يقبل منه مائة ألف دينار والاسرى الذين عنده، وهم سبعة آلاف أسير، وأن يدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم، ويكف عنهم الحرب خمس


1 بياض في الاصل (*)

[ 466 ]

سنين، فلم يجبه إلى ذلك، وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة من ديار مضر. وتوفيت أم جعفر بنت جعفر بن المنصور يوم الاثنين لاربع بقين من جمادى الاولى سنة 216، وفي هذا اليوم ورد نعي عمرو بن مسعدة مات بأذنة، وفي هذه السنة توفي طوق بن مالك الربعي في شهر رمضان. واشتدت شوكة من كان يحارب الافشين بمصر من أهل الحوف والبيما والبشرود، وهي من كور أسفل الارض، فخرج المأمون إلى كور مصر، وقدم الافشين في محاربة أهل الحوف، فزحف إليهم بنفسه، فقتلهم وسبى البيما، وهم قبط البشرود، واستفتى في ذلك فقيها بمصر يقال له الحارث بن مسكين مالكي، فقال: إن كانوا خرجوا لظلم نالهم، فلا تحل دماؤهم وأموالهم فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، هؤلاء كفار لهم ذمة، إذا ظلموا تظلموا إلى الامام، وليس لهم أن يستنصروا با…… 1 ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم. وأخرج المأمون رؤساءهم، فحملهم إلى بغداد. ووشى محمد بن أبي العباس الطوسي، وأحمد بن أبي داود يحيى بن أكثم إلى المأمون تقربا إلى أبي اسحاق، فسخط عليه المأمون، وأمر بنفيه من عسكره، ونزع السواد عنه، وأخرجه إلى بغداد، وأمره أن لا يخرج من منزله، فأخرج من مصر، وأرسل موكلين به، وسخط أيضا على عيسى بن منصور القائد الرافقي، وأخرجه من عسكره، وكان السخط عليهما في يوم واحد. وكان مقام المأمون بمصر سبعة وأربعين يوما، قدم لعشر خلون من المحرم، وخرج لثلاث بقين من صفر سنة 217، وقدم دمشق منصرفا من مصر، فأقام أياما، ثم شخص إلى الثغر، فنزل أذنة معسكرا بها، وقد كان أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي، وعبد الرحمن بن حبيب، وغيرهما من أصحاب محمد بن حميد الطوسي، الذين كانوا باذربيجان، صاروا إلى باب المأمون،


1 بياض في الاصل (*)

[ 467 ]

فرقوا 1 على علي بن هشام، ونسبوه إلى الخلاف والمعصية، وكتب العباس بن سعيد الجوهري صاحب بريد علي بن هشام بمثل ذلك، فوجه المأمون بعجيف ابن عنبسة، وكان من أجل قواده، وأحمد بن هشام، وأشخص عجيف عليا إلى أذنة، فأمر المأمون بضرب عنقه وعنق أخيه الحسين بن هشام، وكان المتولي لذلك منهما بيده ابن أختهما أحمد بن الخليل بن هشام، ونصب رأس علي بن هشام على قناة أياما، ثم وجه به إلى برقة، فجعل في المنجنيق، ثم رمى به في البحر. وغزا المأمون بلاد الروم في هذه السنة، وهي سنة 217، وصار إلى حصن من حصون الروم يقال له لؤلؤة، فأقام عليه حينا لم يفتحه، فبنى عليه حصنين أنزل فيهما أبا اسحاق والرجال، ثم قفل متوجها إلى قرية يقال لها سلغوس، وخلف على حصنه أحمد بن بسطام، وخلف أبو إسحاق على حصنه محمد بن الفرج بن أبي الليث بن الفضل، وصير عندهم زاد سنة، وخلف المأمون على جميع الناس عجيف بن عنبسة، فمكرت الروم أصحاب لؤلؤة بعجيف، فأسروه، فمكث في أيديهم شهرا، وكاتبوا ملكهم، فسار نحوهم، فهزمه الله بغير قتال، وظفر من كان في الحصنين من المسلمين بعسكره، فحووا كل ما كان فيه. فلما رأى ذلك أهل لؤلؤة، وأضر بهم الحصار، طلب رئيسهم الحيلة، فقال لعجيف: أخلي سبيلك على أن تطلب لي الامان من المأمون، فضمن له ذلك، فقال: أريد رهينة. فقال: أنا أحضرك ابني، فوجه إلى خليفته أن يوجه إليه بفراشين نصرانيين، ويخوسان ويجملان، فوجه معهما بجماعة من غلمان نصارى في زي المسلمين. ففعل ذلك، فدفعهم عجيف إليهم، وخرج، فلما صار إلى المعسكر كتب إليهم: ان الذين في أيديكم نصارى، وأنتم مخيرون فيهم، فكتب إليه رئيسهم: إن الوفاء حسن وهو من دينكم أحسن. فأخذ لهم عجيف الامان، وفتحها، وأسكنها المسلمين. وصار المأمون إلى دمشق سنة 218، وامتحن الناس في العدل والتوحيد،


1 قوله: فرقوا، هكذا في الاصل. (*)

[ 468 ]

وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها، فامتحنهم في خلق القرآن، وأكفر من امتنع أن يقول القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته، فقال كل بذلك، إلا نفرا يسيرا. وكتب المأمون على عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم، فكان أول من أثبتها على عنوانات كتب الخلفاء، وكبر بعد كل صلاة، فبقي ذلك سنة، وحول العلم عند مواقيت الصلاة، ونزع المقاصير من المساجد الجامعة، وقال: هذه سنة أحدثها معاوية. وكان بشر بن الوليد الكندي، قاضي المأمون ببغداد، قد ضرب رجلا قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر، وأطافه على جمل، فلما قدم المأمون أحضر الفقهاء، فقال: إني قد نظرت في قضيتك، يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثم أقبل على الفقهاء، فقال: أفيكم من وقف على هذا ؟ قالوا: وما ذاك، يا أمير المؤمنين ؟ فقال: يا بشر ! بم أقمت الحد على هذا الرجل ؟ قال: بشتم أبي بكر وعمر. قال: حضرك خصومه ؟ قال: لا ! قال: فوكلوك ؟ قال: لا ! قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم ؟ قال: لا ! قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته، فيبطل الحد ؟ قال: لا ! قال: فأمهما كافرتان أو مسلمتان ؟ قال: بل كافرتان. قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة ؟ قال: لا ! قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لابي بكر وعمر من الحق، أفيشهد عندك شاهدا عدل ؟ قال: قد زكي أحدهما. قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين ؟ قال: لا ! قال: ثم أقمت الحد في رمضان، فالحدود تقام في شهر رمضان ؟ قال: لا ! قال: ثم جلدته وهو قائم، فالمحدود يقام ؟ قال: لا ! ثم شبحته بين العقابين، فالمحدود يشبح ؟ قال: لا ! قال: ثم جلدته عريانا، فالمحدود يعرى ؟ قال: لا ! قال: ثم حملته على جمل، فأطفته، فالمحدود يطاف به ؟ قال: لا ! قال: ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد، فالمحدود يحبس بعد الحد ؟ قال: لا ! قال: لا يراني الله


[ 469 ]

أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك، خذوا عنه ثيابه، واحضروا المحدود ليأخذ حقه منه. فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملا بحقوقه، عارفا بأحكامه، تقول الحق، وتعمل به، وتأمر بالعدل، وتؤدب من رغب عنه، إن هذا، يا أمير المؤمنين، حاكم أجد برأيه فأخطأ، فلا تفضح به الحكام، وتهتك به القضاء. فأمر به، فحبس في داره حتى مات. ورفع جماعة من ولد الحسن والحسين إلى المأمون يذكرون أن فدك كان وهبها رسول الله لفاطمة، وأنها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة رسول الله، فسألها أن تحضر على ما ادعت شهودا، فأحضرت عليا والحسن والحسين وأم أيمن، فأحضر المأمون الفقهاء، فسألهم عن…. 1، رووا أن فاطمة قد كانت قالت هذا، وشهد لها هؤلاء، وان أبا بكر لم يجز شهادتهم. فقال لهم المأمون: ما تقولون في أم أيمن ؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير، ونصهم إلى أن قالوا: إن عليا والحسن والحسين لم يشهدوا إلا بحق، فلما أجمعوا على هذا، ردها على ولد فاطمة، وكتب بذلك، وسلمت إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وغزا المأمون بلاد الروم سنة 218، وقد استعد لحصار عمورية، وقال: أوجه إلى العرب، فآتي بهم من البوادي، ثم أنزلهم كل مدينة أفتتحها، حتى أضرب إلى القسطنطينية، فأتاه رسول ملك الروم يدعوه إلى الصلح والمهادنة ودفع الاسرى الذين قبله، فلم يقبل، فلما قرب من لؤلؤة أقبل، فأقام أياما، وتوفي بموضع يقال له البدندون، بين لؤلؤة وطرسوس، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218، وسنة ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق، ودفن بطرسوس في دار


1 بياض في الاصل (*)

[ 470 ]

خاقان الخادم، وكانت خلافته منذ يوم سلم عليه بالخلافة في حياة المخلوع إلى أن مات اثنتين وعشرين سنة، ومنذ قتل المخلوع عشرين سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرئاستين، ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطه العباس بن المسيب ابن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين، ثم عبد الله بن طاهر، فاستخلف اسحاق بن ابراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه طاهر بن ابراهيم خليفة له على شرطه، وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين، ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلازي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام، ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد ابن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى. وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا، وهم: محمد، واسماعيل، وعلي، والحسن، وابراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الاكبر، وهو ابن معللة، وتوفي في حياته، ومحمد الاصغر، وعبيدالله، أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.


[ 471 ]

أيام المعتصم بالله وولي أبو إسحاق محمد بن الرشيد، وأمه أم ولد، يقال لها ماردة، وبايع له القواد والجند الذين كانوا مع المأمون، وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218. وكانت الشمس يومئذ في الاسد ثلاث عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في الميزان خمس عشرة درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في القوس درجة وعشر دقائق، والمريخ في القوس أربع درجات وخمسا وثلاثين دقيقة، وعطارد في الاسد ستا وعشرين درجة وعشرين دقيقة راجعا، والزهرة في السنبلة ثماني درجات وعشرين دقيقة راجعا، والرأس في الحمل عشر دقائق. وامتنع بعض القواد من البيعة لمكان العباس من المأمون، فخرج إليهم العباس من مضربه، فكلمهم بكلام استحمقوه فيه، فشتموه، وبايعوا لابي اسحاق، وانصرف المعتصم من الثغر يريد العراق، فلما صار بالرقة ولى غسان بن عباد الجزيرة وقنسرين والعواصم، ونفذ إلى بغداد، فقدمها يوم السبت مستهل شهر رمضان، وعلى جنده الديباج المذهب، وأقر عمال المأمون على أعمالهم ثلاثة أشهر، ثم استبدل بهم. وخرجت المحمرة بالجبل، فقتلوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، وعرضوا لحاج خراسان، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، فوجه المعتصم هاشم بن باتيجور، فكانت بينه وبينهم وقعة، فهزموا هاشما، فوجه المعتصم اسحاق بن ابراهيم في جيش، واستخلف اسحاق على الشرط أخاه طاهرا، ونفذ فواقعهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأقام حتى أصلح البلد بعد أن نالته منهم شدة. وتحرك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بالطالقان.


[ 472 ]

واتبعه جماعة، فوجه إليه عبد الله بن طاهر بعض عماله، فلما لحقه هرب محمد بن القاسم من الطالقان إلى نيسابور، وذكر أن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأخذه عبد الله بن طاهر، فحمله إلى المعتصم، فحبسه في قصره، فهرب منه ليلة الفطر سنة 219، فطلبوه، فلم يقدروا عليه. ووثب الزط بالبطائح بين البصرة وواسط، فقطعوا الطريق، فوجه إليهم المعتصم أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فهزموه، فعقد المعتصم لعجيف في جمادى الاولى سنة 219، فطلبوا الامان، وخرجوا إليه على حكم المعتصم، فأدخلهم بغداد، فأجاز المعتصم لهم الامان، وأسكنهم خانقين. وسخط المعتصم على الفضل بن مروان وزيره، وبطش بجماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم، ووجه الفضل إلى إسحاق بن ابراهيم ببغداد، وأمر بطلب أموالهم، فركب به إلى داره، وأخرج منها مالا عظيما، ثم نفي، فقال فيه راشد بن اسحاق: يكفيك من غير الايام ما صنعت * حوادث الدهر بالفضل بن مروان وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علما، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن اسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال اسحاق بن ابراهيم: ولني، يا أمير المؤمنين، مناظرته ! فقال: شأنك به ! فقال اسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال ؟ قال: بل علمته من الرجال. قال: شيئا بعد شئ، أو جملة ؟ قال: علمته شيئا بعد شئ. قال: فبقي عليك شئ لم تعلمه ؟ قال: بقي علي. قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين. قال: فإني أقول بقول أمير المؤمنين. قال: في خلق القرآن ؟ قال: في خلق القرآن، فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله. وخرج المعتصم إلى القاطول في النصف من ذي القعدة سنة 220، فاختط


[ 473 ]

موضع المدينة التي بناها، وأقطع الناس المقاطع، وجد في البناء حتى بنى الناس القصور والدور، وقامت الاسواق، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، فوقف في الموضع الذي فيه دار العامة، وهناك دير للنصارى، فاشترى من أهل الدير الارض، واختط فيه، وصار إلى موضع القصر المعروف بالجوسق على دجلة، فبنى هناك عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الانهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الانهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وكان ابتداء ذلك في سنة 221، وبنى القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة. واشتدت شوكة بابك، وكان محمد بن البعيث قد شايعه، وعصمة الكردي صاحب مرند في طاعته، فوجه المعتصم طاهر بن ابراهيم أخا اسحاق بن ابراهيم، عامل البلد، وأمره بمحاربة القوم، فلما قدم البلد كتب ابن البعيث إلى المعتصم يعلمه أنه في الطاعة، وأنه في التدبير على بابك وأصحابه، ثم مكر بعصمة الكردي صاحب مرند، فتزوج ابنته، وصار إليه إلى مرند، ثم دعاه إلى منزله فحمل عليه وعلى من معه في الشرب، فلما سكروا حملهم في الليل إلى قلعته التي يقال لها شاهي، ثم أنفذهم إلى المعتصم، فأجازه المعتصم، وحباه، وأعطاه، وذلك لانه أخبر طاهر بن ابراهيم بما كان منه، وسأله أن يبعث إليه الحديد والبغال يحملهم إليه، ففعل ذلك طاهر، فحملهم إلى المعتصم، وكتب إليه بخبرهم، فغلظ المعتصم على اسحاق، وقال: ما أرى عند أخيك شيئا، ولا أرى الرجلة إلا عند ابن البعيث. ووجه الافشين حيدر بن كاوس الاسروشني، وعقد له على جميع ما اجتاز وبه من الاعمال، وحملت معه الاموال وخزائن السلاح، فلما صار الافشين إلى الجبل أخذ من كان به من الصعاليك والوجوه، فنفذ، فكانت بينه وبين


[ 474 ]

بابك وقائع، وكان عسكره بموضع يقال له برزند، فصار بموضع يقال له سادراست ؟ 1 فأقام في محاربته حولا حتى كثرت الثلوج، ثم رجع إلى برزند، ثم وجه بخليفته إلى سادراست 2، وزحف وصير في كل ناحية….. 3، وصار يد روذ الروذ 4، فخندق خندقا، وبنى سورا، وكمن الكمناء، وزحف إلى البذ يوم الخميس لتسع خلون من شهر رمضان سنة 222، فأرسل إليه بابك يسأله أن يكلمه، فوافقه، وبينهما نهر، فعرض عليه الافشين الامان، فسأله أن يؤخره يومه ذلك، فقال له: إنما تريد أن تحصن مدينتك، فإن أردت الامان، فاقطع الوادي، فانصرف واشتدت الحرب، ودخل المسلمون مدينة البذ، وهرب بابك وستة من أصحابه، وأخرج من كان بالبذ من أسارى المسلمين، فكانوا سبعة آلاف وستمائة. ومضى بابك على بغلة، وقد لبس ثياب الصوف، وكتب الافشين إلى البطارقة بأرمينية واذربيجان في طلبه، وضمن لمن جاء به ألف ألف درهم والصفح عن بلادهم، فصار بابك إلى رجل من البطارقة يقال له سهل بن سنباط، فأخذه، وكتب إلى الافشين بخبره، فأنفذ، فأخذه، وكتب بالفتح وبما كان من تدبيره، فقرئ الفتح، وكتب به إلى الآفاق في… 5 حتى أصلح البلاد، وسار واستخلف منكجور الفرغاني خال ولده. وقدم على المعتصم، وهو بسر من رأى، فتلقاه القواد والناس على مراحل، ودخلها لليلتين خلتا من صفر سنة 223، وبابك بين يديه على الفيل، حتى دخل إلى المعتصم، فأمر بقطع يدي بابك، ورجليه، ثم قتله وصلبه بسر من رأى، ووجه بأخيه عبد الله إلى بغداد، فقتله اسحاق بن ابراهيم، وصلبه على رأس


1 و 2 دون نقط في الاصل. 3 بياض في الاصل. 4 قوله: صار يد روذ الروذ: هكذا في الاصل. 5 بياض في الاصل (*)

[ 475 ]

الجسر في الجانب الشرقي من بغداد. وكان الافشين لما قدم اذربيجان ولى أرمينية محمد بن سليمان الازدي السمرقندي، فقدمها، وقد خالف سهل بن سنباط بالران، وتغلب عليها، فدخل بلاده، فبايته سهل، فهزمه، ووثب محمد بن عبيدالله الورثاني بورثان، فوجه إليه الافشين منكجور ليحاربه، وتكلم في أمره علي بن يحيى الارمني، فأمنه المعتصم، فقدم به علي بن يحيى، ثم ولى الافشين أرمينية محمد بن خالد بخارخذاه، فلما قدم حارب الصنارية، وصار إلى تفليس، فبره اسحاق بن اسماعيل، ووصله، ثم ولى أرمينية علي بن الحسين بن سباع القيسي، فاستضعفه أهل البلد، حتى كان يسمى اليتيم لضعفه ومهانته، فولى المعتصم خالد بن يزيد أرمينية وناحية من ديار ربيعة، فلما بلغ خبره أرمينية تحصن كل رئيس فيها، واشتد خوفهم منه، وعملوا على العصيان، فكتب منصور بن عيسى السبيعي، صاحب بريد أرمينية، إلى المعتصم بذلك، فرد خالدا، وأمر بإقرار علي بن الحسين، فلم يلبث إلا أياما حتى شغب الجند عليه ببرذعة، وطلبوا أرزاقهم، فقال: ليس لي شئ، والاموال عند أهل البلد، وطالب أهل البلد، فامتنعوا عليه، وتحصنوا في حصونهم، ثم تراسلوا، واجتمعوا، فحاصروه ببرذعة، فوجه المعتصم حمدويه بن علي بن الفضل إلى البلد، فصار إلى النشوي، فخرج إليه يزيد بن حصن في الامان… 1 فكان لا يهيجهم خوفا من أن يعلوا عليه. ودخلت الروم زبطرة سنة 223، فقتلوا وأسروا كل من فيها، وأخرجوهم، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافرا، حتى جلس على الارض، وندب الناس للخروج، ووضع الاعطاء، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة، وقدم اشناس التركي على مقدمته، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الاولى سنة 223، ودخل أرض الروم، فقصد أرض عمورية، وكانت من أعظم مدائنهم، وأكثرها عدة ورجالا، فحاصرها حصارا شديدا.


1 بياض في الاصل (*)

[ 476 ]

وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم فلما دنا وجه المعتصم بالافشين في جيش عظيم، فلقي الطاغية، وأوقع به وهزمه، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، فأوفد طاغية الروم من قبله وفدا إلى المعتصم يقول: إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا تعدوا أمري، وأنا أبنيها بمالي ورجالي، وأرد من أخذ من أهلها، وأخلي جملة من في بلد الروم من الاسارى، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة. وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223، فقتل وسبى جميع من فيها وأخذ ياطس خال ملك الروم، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم، وانصرف، فلما صار بأذنة حبس العباس ابن المأمون لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار، فأمر أن تفرق على الجند، ويؤمروا أن يلعنوه، فأحصوا، فوجدوا ثمانين ألف مرتزق، فدفع إليهم دينارين دينارين، وتمم ذلك المعتصم من عنده، ودفع العباس إلى الافشين مقيدا ليسيره، فلما صار بحبد 1 رأس توفي، وقيل إن الافشين أطعمه طعاما كثير الملح في يوم شديد الحر، ومنعه الماء، فحمل إلى منبج، فدفن بها، وسخط المعتصم على عجيف ابن عنبسة لانه كان سبب معصيته، وحمله من أذنة في الحديد الثقيل، في فيه لبود قد خيطت عليه، وفي عنقه غل عظيم، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا، على مرحلة من نصيبين، مات، ودفن بها، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه، وأن يدعى صالحا المعتصمي، ولعنه، وبرئ منه. وكان المازيار، وهو محمد بن قارن بن بنداد هرمز، اصبهبذ طبرستان، قد قدم على المأمون، بعد وفاة أبيه وتصيير مملكة طبرستان إلى عمه، فملكه المأمون على مدينتين من مدن طبرستان، وكتب إلى عمه في تسليمهما إليه، وخرج متوجها، فلما بلغ عمه ذلك أغاظه وبلغ منه، فخرج كأنه يتلقاه،


1 هكذا دون نقط في الاصل (*)

[ 477 ]

وكان مع المازيار مولى لابيه له دراية، فقال. إن عمك لم يخرج في هذه الهيئة إلا ليفتك بك، فإذا قربت منه، وانفردت ؟ عن أصحابك، فإني أدفع إليك الحربة، فضعها في صدره، ففعل ذلك، فقتل عمه، واجتمعت عليه المملكة، وضبط البلد، وكتب إلى المأمون بأن عمه كان مخالفا لملكه على البلد. فلما عظم أمره كتب من جيل جيلان اصبهبذ (اصبهبذان بشوار خرشاد) محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين، ثم ذهب بنفسه أن يقول: موالي أمير المؤمنين، ثم تفاقم أمره حتى أظهر المعصية، وخلع، ويقال إن الافشين كاتبه، وحمله على الخلع، فوجه المعتصم محمد بن ابراهيم لمحاربته في جيش، فنفذ وكتب إلى عبد الله بن طاهر أن يمده بالجيوش، فحاربه، وألح عليه عبد الله بالبعثة إليه بالجيوش، فحاربه، فقطعوا الاودية والحزونة، وخرج ليلا، فوضع يده في يد قرابة لعبد الله، وقدم به سنة 226، فضرب بالسياط حتى مات، وصلب إلى جانب بابك. فحدثني محمد بن عيسى قال: قدم بالمازيار، وقد حبس الافشين في ذلك الوقت، فجمع ابن دواد بينه وبين المازيار، وقال له: هذا الافشين الذي زعمت أنه حملك على المعصية. فقال له الافشين: والله إن الكذب بالسوقة لقبيح، فكيف بالملوك ؟ والله ما ينجيك كذبك من القتل، فلا تجعل الكذب خاتمة أمرك. فقال المازيار: والله ما كتب إلي، ولا راسلني، إلا أن أبا الحارث وكيلي أخبرني أنه لما قدم عليه بره وأكرمه، فرد الافشين إلى الحبس، فضرب المازيار حتى قتل. وكان أول سبب حبس الافشين أن منكجور الفرغاني، خال ولد الافشين وخليفته باذربيجان، خلع هناك، وجمع إليه أصحاب بابك، وسار إلى ورثان، فقتل محمد بن عبيدالله الورثاني وجماعة من أولياء السلطان، فقال المعتصم للافشين: أحضر منكجور ! فوجه إليه الافشين بأبي الساج، المعروف بديوداد، في


[ 478 ]

جيش عظيم، ثم بلغ المعتصم أن منكجور إنما خلع بأمر الافشين، وأنه إنما وجه إليه بأبي الساج مددا له، فوجه محمد بن حماد على البريد، ووجه ببغا التركي، فحارب منكجور، فلما صدقه القتال ضرع منكجور إلى طلب الامان، فأعطاه الامان، وقدم به إلى سر من رأى، وقد حبس الافشين، وكان حبسه في سنة 226، ثم توفي في الحبس، وصلب على باب العامة بسر من رأى عريانا، ساعة من نهار، ثم أنزل فأحرق بالنار. وكان الغالب على المعتصم أحمد بن أبي دواد الايادي قاضي القضاة، والفضل ابن مروان الكاتب، ثم غضب على الفضل، فنفاه واستصفى ماله، فغلب عليه محمد بن عبد الملك الزيات، وكان على شرطه اسحاق بن ابراهيم، وعلى حرسه عجيف بن عنبسة، ثم الافشين، ثم اسحاق بن يحيى بن معاذ، وحجبه جماعة من الاتراك منهم: وصيف، وسيما الدمشقي، وسيما الشرابي، ومحمد بن حماد بن دنفسس 1، وتوفي يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة 227، وصلى عليه ابنه هارون، ودفن في قصره المعروف بالجوسق، وكانت سنة 49 سنة، وكانت ولايته ثماني سنين، وحلف من الولد الذكور ستة: هارون الواثق، وجعفر المتوكل، ومحمدا، وأحمد، وعليا، والعباس.


هكذا دون نقط في الاصل (*)

[ 479 ]

أيام هارون الواثق بالله وولي هارون الواثق بالله بن أبي اسحاق، وأمه أم ولد، يقال لها قراطيس، يوم توفي المعتصم، وهو يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة 227، وكان ذلك من شهور العجم في كانون الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجدي خمس عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة. وتوجه إسحاق بن ابراهيم ساعة بايع إلى بغداد، فسار ليلته أجمع، ووافى بغداد قبل أن يطلع الفجر، فوكل بالاطراف والسجون، وأحضر القواد والوجوه، فأخذ عليهم البيعة، ووثب عوام الجند والغوغاء بشعيب بن سهل قاضي الجانب الشرقي ببغداد، فانتهبوا داره، فوجه إسحاق جعفر معشه 1، وابراهيم الديرج، وجماعة معهما، فأخرجوا شعيب بن سهل، حتى صاروا به إلى دار اسحاق. وأراد الواثق الحج في هذه السنة، وصحت عزيمته، فتأخر حجه، وأذن لامه، فخرجت، ومعها جعفر بن المعتصم، فلما صارت بالكوفة توفيت، وأذن الواثق لاخيه جعفر في النفوذ، فنفذ وأقام الحج بالناس. وكان أول من عقد له الواثق من قواده اشناس التركي ولاه من بابه إلى آخر عمل المغرب، فوجه عماله، وكتب إلى محمد بن ابراهيم الاغلب بولاية المغرب من قبله، وكان المدبر له أحمد بن الخصيب. وولى الواثق خراسان ايتاخ التركي، والسند وكور دجلة، وكانت السند قد اضطربت، وقتل عمران بن موسى بن يحيى بن خالد عامل السند، فوجه إيتاخ إلى السند عنبسة بن اسحاق الضبي، فقدم البلد، وقد تغلب عليه عدة


1 بلا نقط في الاصل (*)

[ 480 ]

ملوك، فلما قدمها عنبسة سمعوا وأطاعوا وخرجوا إليه جميعا خلا عثمان… 1 فسار إليه عنبسة….. 2 فأقام على البلد تسع سنين. ووثب ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، ووثب بفلسطين رجل يقال له تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب، ويلقب بالمبرقع، في لخم وجذام وعاملة وبلقين، وصار إلى كورة الاردن، وخلع قوم من البربر ببرقة، ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص، ووثبوا بعاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة، فوجه الواثق رجاء بن أيوب الحضاري، فبدأ بدمشق، فأوقع بابن بيهس، فأسره، وسار إلى فلسطين، فأوقع بتميم اللخمي وأسره وحمله إلى سر من رأى، فوقف بباب العامة، ونودي عليه، وصار رجاء إلى مصر سنة 228، فنزل الجيزة، ثم توجه إلى برقة، فهرب من كان فيها، وظفر بجماعة منهم، فحملهم، ثم انصرف. وتوفي عبد الله بن طاهر بخراسان سنة 230، وهو ابن سبع وأربعين سنة، ومنزله منها نيسابور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة، وولى الواثق طاهر بن عبد الله، وكان عبد الله بن طاهر قد ضبط خراسان ضبطا ما ضبطه أحد مثله، ودانت له البلاد، واستقامت عليه الكلمة. وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز، وقطعوا الطريق، حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلا من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، فوجه الواثق بغا الكبير سنة 230، وأمره أن يقتل كل من وجده من الاعراب، فشخص قبل أوان الحج، فاجتمعت قيس من كل ناحية، وأكثرهم بنو سليم ورئيسهم عزيزة، فلقيهم، فقاتلوه، فقتل منهم خلقا عظيما، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم عالما حبسهم في دار يزيد بن معاوية بالمدينة، فنقبوا وخرجوا على أهل المدينة، فوثب عليهم أهل المدينة، فقتلوا عامتهم، وحمل بغا الباقين في الاغلال، ووافى اسحاق بن ابراهيم الموسم في تلك السنة


1 و 2 بياض في الاصل (*)

[ 481 ]

وسخط الواثق على ابراهيم بن رباح، وكان ابراهيم مقدما عنده بمكانه منه، أيام إمرته، فولاه ديوان الضياع، فتشاغل باللهو، وفوض أمره إلى نجاح بن سلمة كاتبه، وإلى يمان بن…. 1 النصراني، وتجافيا للناس عن أموال كثيرة، فكثروا عليه عند الواثق، فأمر بقبض ضياعه وأمواله، وصير ما كان إليه إلى عمر بن فرج الرخجي. وكان أحمد بن الخصيب كاتب اشناس التركي، وهو يلي أعمال الجزيرة، والشأمات، ومصر، والمغرب، والمدبر لذلك أحمد، فرفع إلى الواثق أنه قد حاز أموالا عظيمة، فسخط عليه، وقبض أمواله وأموال أخيه ابراهيم، وعذبا، وعذبت أمهما. وتوفي اشناس في هذه السنة، فصيرت مرتبته وأكثر أعماله إلى ايتاخ التركي، وتركت ضياعه وأمواله بحالها لولده، ورد القيام بها إلى عبد الله بن صاعد، فلم يزل يقوم بها إلى أن توفي. وانتقضت أرمينية، وتحرك بها قوم من العرب والبطارقة والمتغلبين، وتغلب ملوك الجبال والباب والابواب على ما يليهم، وضعف أمر السلطان، فولى الواثق خالد بن يزيد بن مزيد، وأمره بالنفوذ، وضم إليه كورا من كور ديار ربيعة، فسار في جيش عظيم، فلما بلغ المتغلبين بتلك البلاد خبره هابوه، وكتب أكثرهم يذكر أنه لم يزل في الطاعة، ووجهوا بالهدايا، فقال: لا أقبل إلا هدية من جاءني، فزاد ذلك في وحشتهم، وكتب إلى إسحاق بن اسماعيل يأمره أن يقدم عليه، فلم يفعل، فزحف إليه، فكاد أن يعطى اسحاق بيده. واعتل خالد، فأقام أياما، ثم مات، فحمل في تابوت إلى دبيل، فدفن فيها، وتفرق أصحابه، فعاد البلد إلى أقبح أحواله، فولى الواثق محمد بن خالد مكان أبيه، فكتب محمد يذكر انصراف أصحاب أبيه وسأل ردهم إليه، فوجه أحمد بن بسطام إلى نصيبين، فضرب، وحبس، وحرق الدور، فاجتمع إلى


1 بياض في الاصل (*)

[ 482 ]

محمد أصحاب أبيه ومواليه، فحارب الصنارية واسحاق، حتى أخرجه، وهزمهم، ولم يزل ضابطا للبلد. وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالما كثيرا. وكتب طاغية الروم يذكر كثرة من بيده من أسارى المسلمين، ويدعو إلى الفداء، فأجابه الواثق إلى ذلك، ووجه بخاقان الخادم…. 1، المعروف بأبي رملة، والآخر جعفر بن أحمد الحذاء، وكان صاحب الجيش، وولى الثغر أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، فصاروا إلى موضع يقال له نهر اللامس على مرحلتين من طرسوس، وحضر ذلك الفداء سبعون ألف رامح سوى من ليس معه رمح، وكان أبو رملة وجعفر الحذاء واقفين على قنطرة النهر، فكلما مر رجل من الاسرى امتحنوه في القرآن، فمن قال إنه مخلوق فودي به، ودفع إليه ديناران وثوبان، فبلغ عدة من فودي به خمسمائة رجل وسبعمائة امرأة، وكان هذا في المحرم سنة 231. وصار أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي إلى ابن أبي دؤاد في بعض أموره، فرده، فانصرف ذاما له، فجعل يبسط عليه لسانه ويشهد عليه بالكفر، فمال إليه قوم منهم، وهم لا يشكون أن ذلك غضب للدين، فاشرأبت قلوبهم للمعصية لسبب القرآن، وخرج قوم، فضربوا بطبل، وصاروا إلى ناحية صحراء أبي السري، فأخذوا، وأقروا عليه، فكتب الواثق إلى إسحاق في إشخاصه، فأشخصه إليه، فكلمه بكلام غليظ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات، وامتحنه في القرآن، فأبى أن يقول إنه مخلوق، وشتمه الواثق، فرد عليه، فضرب عنقه وصلبه بسر من رأى، ووجه برأسه، فنصب ببغداد في الجانب الشرقي.


1 بياض في الاصل (*)

[ 483 ]

وخرج محمد بن عمرو الشيباني الخارجي بديار ربيعة، وأبو سعيد محمد ابن يوسف بها، فخرج إليه مع الجند ومحمد بن عمرو في ثلاثمائة، أو أربعمائة من الخوارج، فصار إلى سنجار، ثم انهزم إلى ناحية الموصل، فتبعه أبو سعيد، فأسره وأدخله نصيبين على بقرة، وحمله…. 1 إلى الواثق، فكتب إليه: ما ينبغي أن يقتل، فإنه لن يخرج خارجي ما دام حيا، فلم يزل محبوسا أيام الواثق. وفرق الواثق أموالا جمة بمكة والمدينة وسائر البلدان على الهاشميين وسائر قريش والناس كافة، وقسم في أهل بغداد قسما كثيرة مرة بعد أخرى على أهل البيوتات وعلى عامة الناس، وكثر الحريق ببغداد، وفرق على قوم من التجار أموالا جمة، وبنى لقوم وأسقط ما كان يؤخذ ممن يرد في بحر الصين من العشر. وكان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك، وعمر بن فرج الرخجي، وكان على شرطه اسحاق بن ابراهيم، وعلى حرسه اسحاق بن يحيى بن سليمان بن يحيى بن معاذ. واعتل الواثق، واشتدت علته حتى حفر له في الارض حفير كالتنور، ثم سخن بحطب الطرفاء، وصير فيه مرارا، وكان يقول في علته: لوددت أني أقلت العثرة، وأني حمال أحمل على رأسي. وقيل له في البيعة لابنه، فقال: لايراني الله أتقلدها حيا وميتا. وكان قد انتقل من قصور المعتصم، وبنى له قصرا على شط دجلة يقال له الهاروني، وجعل له دكتين: دكة غربية ودكة شرقية، وكان من أحسن القصور، وكانت وفاته يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وسنه يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما، وخلف من الولد الذكور ستة: محمدا، وعليا، وعبد الله، وابراهيم، وأحمد، ومحمدا الاصغر.


1 بياض في الاصل (*)

[ 484 ]

أيام جعفر المتوكل وبويع جعفر بن المعتصم، وأمه أم ولد يقال لها شجاع، يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وكان أول من بايعه سيما التركي، المعروف بالدمشقي، ووصيف التركي، وركب إلى دار العامة من ساعته وأمر بإعطاء الجند لثمانية أشهر، وسلم عليه أولاد سبعة خلفاء مجتمعين: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأحمد بن الرشيد، وعبد الله بن الامين، وموسى بن المأمون وإخوته، وأبو أحمد بن المعتصم وإخوته، ومحمد بن الواثق، وأقر الامور على ما كانت عليه أربعين صباحا، ثم سخط على محمد بن عبد الملك واصطفى أمواله وعذبه حتى مات، وكان يعتد عليه بأمور كثيرة. وكان محمد رجلا شديد القسوة، قليل الرحمة، جباها للناس، كثير الاستخفاف بهم، لا يعرف له إحسان إلى أحد، ولا معروف عنده، وكان يقول: الحياء خنث، والرحمة ضعف، والسخاء حمق. فلما نكب لم ير إلا شامت به وفرح بنكبته. وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضى بن موسى بن جعفر بن محمد في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوما يقولون إنه الامام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى ابن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب اسحاق بن ابراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى. ونهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن، وأطلق من كان في السجون


[ 485 ]

من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاهم جميعا، وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتبا ينهى عن المناظرة والجدل فأمسك الناس. وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك، فوجه كتابا في حمله، وقبضت أموالهما، وكان ذلك في سنة 233، وكان عمر محبوسا ببغداد ومحمد محبوسا بسر من رأى فأقاما سنتين. واعتل أحمد بن أبي دؤاد من فالج، فولى المتوكل ابنه محمدا، المعروف بأبي الوليد، مكانه، وفي ذلك الوقت….. 1 قال أبو العيناء: قد حبس لانه بطل لسانه، فكان لا يتكلم. وسخط المتوكل على الفضل بن مروان، وقبض ضياعه وأمواله، ونفاه، ثم رضي عنه فرده. وسخط على أحمد بن خالد، المعروف بأبي الوزير، فاستصفى أمواله في سنة 234، ثم رضي عنه. ولما سخط المتوكل على الكتاب قال لاسحاق بن ابراهيم: انظر لي رجلين أحدهما لديوان الخراج والآخر لديوان الضياع، فقال: هما عندي ! يحيى بن خاقان، وموسى بن عبد الملك بن هشام، وكان يحيى محبوسا قبل اسحاق بأموال كان يطلب بها من ولايته فارس، وموسى محبوس أيضا، فأحضرهما، فولى يحيى بن خاقان ديوان الخراج، وموسى ديوان الضياع وأمر المتوكل أن يسلم على ابنه محمد بالامرة، ويدعى له على المنابر، فكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في ذي القعدة سنة 234. واستأذن إيتاح التركي في الحج في هذه السنة، فأذن له، فخرج في أحسن زي، واتصل بالمتوكل انه كان على إيقاع الحيلة به، فلما لم يمكنه ذلك طلب الحج، فكتب إلى جعفر بن دينار، المعروف بالخياط، وكان عامل اليمن، بالمصير إلى مكة، وأن يأخذ إيتاخ بتعجيل الانصراف، فلما صار إلى مكة


1 بياض في الاصل (*)

[ 486 ]

وافاه جعفر، فانصرف إلى العراق، ووجه إليه سعيد بن صالح الحاجب، فلقيه بالكوفة، فلما قرب من بغداد تلقاه اسحاق، فأمره بنزع السواد والسيف والمنطقة وأدخله بغداد في قباء أبيض وعمامة بيضاء، حتى صار به إلى قصر خزيمة الذي على رأس الجسر، فحبسه وقيده، وقبضت ضياعه وأمواله، وبعث بسليمان بن وهب، وقدامة بن زياد كاتبيه، وبابنه منصور إلى بغداد، حتى جمع بينه وبينهم، فبكتوه ووبخوه بما كان منه، وأمر ابنه منصور أن يبصق في وجهه، فأبى، وقال: لامير المؤمنين عبيد يأمرهم بما أحب. فأقام عدة أيام ثم مات، فطرح في دجلة. وقبض ما كان لهرثمة بن النصر عامل مصر لما تأدى إلى المتوكل من مكاتبته ايتاخ، ومطابقته إياه، وصير ما كان إلى إيتاخ من أعمال مصر إلى أبي اسحاق، ولما بلغ عنبسة بن اسحاق عامل ايتاخ على السند الخبر سار إلى العراق، فولى المتوكل مكانه هارون بن أبي خالد، ولم يعرض لعنبسة. وتوفي الحسن بن سهل في هذه السنة، وكان قد لزم منزله قبل ذلك، فلم يكن يتصرف في شئ من أمور السلطان. وكان محمد بن البعيث متغلبا على ناحية من اذربيجان يقال لها مرند فنافره حمدويه بن علي عامل اذربيجان، ثم….. 1 فحمله إلى باب السلطان، فلما قدم رفع على حمدويه بن علي، فضرب حمدويه، وأخذ بأموال رفعت عليه، وخلى سبيل ابن البعيث، فأقام شهورا، وهرب من سر من رأى إلى مرند، وجمع إليه من كان بناحيته من الصعاليك، وأظهر المعصية والخلاف، فأخرج حمدويه بن علي من الحبس، وولي البلد، فسار إليه، فحاربه فقتله. وقوي أمر ابن البعيث، فوجه إليه زيرك التركي، فحاربه، ثم وجه إليه عتاب بن عتاب، وكان البلد إلى بغا الصغير، فأقام يحاربه شهورا، ثم أعطاه الامان، فلما صار إليه حمله إلى باب السلطان، فحبس في يد اسحاق، وذلك سنة 235، فأقام في الحبس قليلا ومات، وحمل يحيى بن رواد أيضا،


1 بياض في الاصل (*)

[ 487 ]

فصير له اسم وقيادة. وفي هذه السنة أمر المتوكل بلبس أهل الذمة الطيالسة العسلية وركوبهم البغال والحمير بركب الخشب والسروج التي فيها الاكر، وأن لا يركبوا الخيل والبراذين، ويصيروا على أبوابهم خشبا فيها صورة الشياطين. وبايع المتوكل بولاية العهد من بعده لابنه محمد، ثم لابنيه أبي عبد الله المعتز بالله، وابراهيم المؤيد بالله، وأحضر وجوه الناس من كل بلد إلى سر من رأى، فأعطاهم على البيعة الجوائز، وأعطى الجند لعشرة أشهر، ووجه الخطباء ليخطبوا بذلك. وحج محمد المنتصر في هذه السنة، ومعه أم المتوكل، ووقف بالناس في الموسم، فكان محمود الاخلاق في طريقه…. 1 إلى كل واحد من ولاة العهد ناحية من الارض، فصير إلى المنتصر مصر والمغرب، وكاتبه أحمد بن الخصيب، وصير إلى أبي عبد الله المعتز بالله خراسان والجبل، وكاتبه أحمد بن اسرائيل، وصير إلى إبراهيم المؤيد الشأمات وأرمينية واذربيجان، وكاتبه محمد بن علي المعروف، وأمر المتوكل في هذا الوقت ألا يستعان بأحد من أهل الذمة في شئ من عمل السلطان، وأن تهدم الكنائس والبيع المحدثة، ومنعوا من العمارة، وكتب بذلك في الآفاق. وتوفي اسحاق بن ابراهيم، فصير إلى ابنه محمد ما كان إليه من أعمال خراج طساسيج السواد وأعمال مصر وكور دجلة وغير ذلك وزيادة أعمال… 2 وفارس، وخلع عليه سبعة أيام في كل يوم سبع خلع، وعقد له ألوية كثيرة، وكان عنده بأفضل منزلة، وأقر محمد عمال أبيه، وكان كاتبه على الخراج علي ابن عيسى بن ازداد نرود 3، وعلى الرسائل ميمون بن ابراهيم، وعلى المظالم اسحاق ابن يزيد قرابة هارون بن جيغويه، ووجه إلى فارس بالحسين بن اسماعيل مكان


1 و 2 بياض في الاصل. 3 بلا نقط في الاصل (*)

[ 488 ]

عمه محمد بن ابراهيم، وأمره أن يعذبه حتى يستخرج الاموال التي صارت إليه، فعذب حتى مات، وكان عبد الواحد بن يحيى، المعروف بحوط، قرابة الطاهر، على خراج مصر ومعاونها، فأقره محمد بن اسحاق على جنده. وأقام محمد بعد أبيه سنة، ثم توفي، فصير مكانه عبد الله بن اسحاق على الشرط فقط، وأشخص كتاب محمد بن اسحاق الذين كانوا كتاب أبيه إلى باب المتوكل، فضرب عماله، وأشخص علي بن عيسى كاتب اسحاق بن ابراهيم على طساسيج السواد من سر من رأى، فولاه ديوان الخراج الاعظم، فأقام عليه شهرين، ثم صرفه وولى أحمد بن محمد بن مدبر مكانه، واستصفيت أموال الحسين واسماعيل ابنيه، وأخذ أحمد بن محمد بن مدبر عماله على طساسيج السواد، فصالحهم على أموال عظيمة، وولى أحمد بن محمد بن مدبر سبعة دواوين: ديوان الخراج، والضياع، والنفقات الخاصة، والعامة، والصدقات، والموالي، والغلمان، والجند، والشاكرية، فوفر أموالا عظيمة. وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد من خراسان سنة 237، فصير إليه ما كان إلى إسحاق بن ابراهيم، وصيرت أعمال مصر إلى عنبسة بن اسحاق الضبي من قبل المنتصر، فلم يقم بمصر إلا شهورا حتى أناخت الروم على دمياط في خمسة وثمانين مركبا، فقتلوا خلقا من المسلمين، وأحرقوا ألفا وأربعمائة منزل، وكان رئيس القوم يقال له فطونارنس 1، وسبوا من المسلمات ألفا وثمانمائة وعشرين امرأة، ومن نساء القبط ألف امرأة، ومن اليهود مائة امرأة، وأخذ السلاح الذي كان بدمياط والسقط، وتهارب الناس، فغرق في البحر نحو ألفين، وأقاموا يومين وليلتين، ثم انصرفوا. وسخط المتوكل على محمد بن الفضل، كاتب ديوان التوقيع، لامر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيدالله بن يحيى بن خاقان، ورفعه وأعلى مرتبته


1 بلا نقط في الاصل (*)

[ 489 ]

ومحله، وولاه، وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين، وكان ولاؤه في الازد، وأمره أن يأمر كتاب الدواوين أن يؤرخوا الكتب باسمه، فاستعفاه من ذلك، غير أنه كان يولي عمال الخراج والضياع والبريد والمعاون والقضاة في جميع الدنيا، ولم يكن لاحد معه عمل، وكان مع ذلك محمودا عند الناس، وصير أباه على المظالم، ثم مات، فصير مكانه عمه عبد الرحمن. وسخط المتوكل على محمد بن أحمد بن أبي دؤاد وعلى أبيه، فولى يحيى ابن أكثم التميمي قضاء القضاة، وقبضت ضياع ابن أبي دؤاد وأمواله، وأحضر إلى بغداد، فلم يقم إلا قليلا حتى مات….. 1 أكابر ولده، وأقام يحيى قليلا، ثم ولى مكانه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي. وخرج المتوكل إلى مدينة السلام سنة 238، فنزل الشماسية في المضارب، ثم دخل بغداد فشقها حتى خرج إلى المدائن للنزهة. واضطرب أمر أرمينية، وتحرك بها جماعة من البطارقة وغيرهم، وتغلبوا على نواحيهم، فولى المتوكل أبا سعيد محمد بن يوسف، فخرج متوجها إلى البلد، ودعا بثيابه فلبسها، ودعا بفرد خفه فلبسه، وسقط ميتا من غير علة، فولى المتوكل ابنه يوسف، فخرج حتى صار إلى البلد، وكاتب البطارقة، فأجابه بعضهم، وخرج بقراط بن أشوط إليه على الامان، فحمله إلى المتوكل و…… 2 فحاربه بنوان بن النف 3 فقتله، وفسد البلد فوجه المتوكل بغا الكبير، فلما صار بأرزن أتاه موسى بن زرارة المتغلب على بدليس في الامان، فقيده وحمله إلى المتوكل، ثم صار إلى موضع يقال له الباق، فيه أشوط بن حمزة، فحاصره ثم آمنه، وحمله إلى سر من رأى، فضربت عنقه على باب العامة، وصلب. وكتب إلى إسحاق بن اسماعيل المتغلب بتفليس أن يقدم عليه، فكتب إليه


1 و 2 بياض في الاصل. 3 بلا نقط في الاصل (*)

[ 490 ]

أنه لم يخرج يدا من طاعة السلطان، فإن أراد الاموال أمده بها، وإن أراد الرجال أنفذهم إليه، وأن القدوم لا يمكنه، فزحف إليه فحاربه وظفر به، فضرب عنقه، وحمل رأسه إلى السلطان، وزحف إلى الصنارية، فحاربهم، فهزموه وفلوه، فانصرف عنهم منهزما، وتتبع من كان أعطاه الامان، فأخذهم، وهرب منهم جماعة، وكاتبوا صاحب الروم، وصاحب الخزر، وصاحب الصقالبة، واجتمعوا في خلق عظيم، وكتب بذلك إلى المتوكل فندب للبلد محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فلما قدم سكن المتحركون، وجدد لهم الامان. ووثب أهل حمص سنة 240، وأخرجوا عاملهم، وكان أبا المغيث موسى ابن ابراهيم، فخرج إلى حماة، فوجه المتوكل عتاب بن عتاب، ومحمد بن عبدويه بن جبلة، وصير محمدا عامل البلد، فسكنهم وأقام بديارهم عدة شهور، ثم وثبوا فشغبوا عليه، فسكنهم ومكر بهم، فأخذ جماعة من وجوههم وأوثقهم في الحديد، فحملوا إلى باب المتوكل، ثم ردوا إليه، فضربهم بالسياط حتى ماتوا، وصلبهم على أبواب منازلهم، وتتبع رجال الفتنة فأفناهم. وولى المتوكل أحمد بن محمد خراج دمشق والاردن، وذلك أن كتاب الدواوين احتالوا عليه لخوفهم منه، وقالوا: إن البلد يحتاج أن يعدل، ولا يقوم بالتعديل إلا من ولي ديوان الخراج، فتوجه سنة 240 يعدل دمشق والاردن، وحمل كل أرض ما تستحقه. وتوفي هارون بن أبي خالد عامل السند سنة 240، وكتب عمر بن عبد العزيز السامي المنتمي إلى سامة بن لؤي، وهو صاحب البلد هنالك، يذكر أنه إن ولي البلد قام به وضبطه، فأجابه إلى ذلك، فأقام طول أيام المتوكل. ووجه طاغية الروم برسل وهدايا، وكانت يسيرة، فبعث إليه بأضعافها، ووجه شنيفا الخادم، وكان يقوم بأمنائه، فعقد له على الفداء، فقدم طرسوس سنة 241، وعامل الثغور أحمد بن يحيى الارمني، وخرج إلى القنطرة اللامس، فنادى بالاسرى،


[ 491 ]

وكان قد حمل من كل بلد من فيه من أسرى الروم، واشترى عبيد النصارى. وبنى المتوكل قصورا أنفق عليها أموالا عظاما منها: الشاه، والعروس، والشبداز، والبديع، والغريب، والبرج، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار. وكان انقضاض الكواكب ليلة الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة 241، ولم تزل تنقض من أول الليل إلى طلوع الفجر، وكانت الزلازل بقومس ونيسابور وما والاها سنة 242، حتى مات بقومس خلق كثير، ونالتهم رجفة يوم الثلاثاء لاحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان، فمات فيها زهاء مائتي ألف، وخسف بعده مدن بخراسان، ونال أهل فارس في هذا الشهر شعاع ساطع من ناحية الفلروم 1 ورهج أخذ بأكظام الناس، فمات الناس والبهائم، واحترقت الاشجار، ونال أهل مصر زلزلة عمت حتى اضطربت سواري المسجد، وتهدمت البيوت والمساجد، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة. وعزم المتوكل على المسير إلى دمشق، ووصف له برد هوائها، وكان محرورا، فكتب إلى أحمد بن محمد بن مدبر يأمره باتخاذ القصور وإعداد المنازل، وكتب في إصلاح الطريق، وإقامة المنازل والمرافد، وسار من سر من رأى يوم الاثنين لعشر بقين من ذي القعدة سنة 243، ونزل دمشق يوم الاربعاء لثمان بقين من صفر سنة 244، فنزل تلك القصور، فأقام ثمانية وثلاثين يوما. وبلغه عن بعض الموالي من الاتراك أمر كرهه، فشخص عن دمشق إلى العراق، ولم يسافر في ولايته غير هذه السفرة إلا في نزهة، ولم ير في سفرته هذه شيئا، ولا نظر في مصلحة أحد. وأصابت الشأم كله زلازل حتى ذهبت اللاذقية وجبلة، ومات عالم من الناس، حتى خرج الناس إلى الصحراء، وأسلموا منازلهم وما فيها، واتصل ذلك شهورا من سنة 245


1 بلا نقط في الاصل (*)

[ 492 ]

وانتقل المتوكل إلى موضع يقال له الماحوزة على ثلاثة فراسخ من قصر سر من رأى، وبنى هناك مدينة سماها الجعفرية، وحفر فيها نهرا من القاطول، ونقل الكتاب والدواوين والناس كافة إليها، وبنى فيها قصرا لم يسمع بمثله، وذلك في المحرم سنة 246. وسخط على نجاح بن سلمة الكاتب وكان أغلب كتابه عليه بعد عبيدالله بن يحيى، وكان لا يزال يتنضخ بأموال الناس، فسلمه إلى موسى بن عبد الملك بن هشام صاحب ديوان الخراج، وإلى الحسن بن مخلد بن الجراح صاحب ديوان الضياع، وكانا قد ضمناه بألفي ألف دينار، فعذبه موسى بن عبد الملك أياما، فتوفي في يده، فقبضت ضياعه ودوره وأمواله، وكان ذلك في ذي القعدة سنة 246. وكان المتوكل قد جفا ابنه محمدا المنتصر، فأغروه به، ودبروا على الوثوب عليه، فلما كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة 247 دخل جماعة من الاتراك منهم: بغا الصغير، واوتامش صاحب المنتصر، وباغر، وبغلو، ويربد 1، وواجن، وسعلفه 2، وكنداش، وكان المتوكل في مجلس خلوة، فوثبوا عليه، فقتلوه بأسيافهم، وقتلوا الفتح بن خاقان معه. وكانت خلافة المتوكل أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام، وسنه اثنتين وأربعين سنة، ودفن في قصره المعروف بالجعفري الذي كان سماه الماحوزة، وكان الغالب عليه الفتح بن خاقان، وعبيدالله بن يحيى الكاتب، وكان صاحب شرطه اسحاق بن ابراهيم، وبعده محمد بن اسحاق، وبعده محمد ابن عبد الله بن طاهر، وكان صاحب حرسه اسحاق بن يحيى بن معاذ، وبعده رجاء بن أيوب، ثم سليمان بن يحيى بن معاذ، وكان حجابه وصيفا وبغا.


1 و 2 بلا نقط في الاصل (*)

[ 493 ]

أيام محمد المنتصر وبويع محمد المنتصر بن جعفر المتوكل، وأمه أم ولد يقال لها حبشية، رومية، في الليلة التي قتل فيها أبوه، وهي ليلة الاربعاء لاربع خلون من شوال سنة 247، وكانت الشمس يومئذ في العقرب خمس عشرة درجة واثنتين وخمسين دقيقة، والقمر في الميزان ستا وعشرين درجة وأربع دقائق، وزحل في السنبلة إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الثور درجتين وخمسا وثلاثين دقيقة، والمريخ في القوس خمسا وعشرين درجة ودقيقتين، والزهرة في العقرب درجتين وخمسا وعشرين دقيقة، وعطارد في العقرب ثلاث درجات واثنتين وعشرين دقيقة، وأحضر أخويه أبا عبد الله المعتز بالله، وابراهيم المؤيد، فأخذ عليهما البيعة وعلى جميع من حضر من الناس، وركب إلى دار العامة، وأعطى الجند رزق عشرة أشهر، وانصرف من الجعفري إلى سر من رأى، وأمر بتخريب تلك القصور، فنقل الناس عنها، وعطل تلك المدينة، فصارت خرابا، ورجع الناس إلى منازلهم بسر من رأى، وخلع أخويه المعتز والمؤيد وأشهد عليهما بخلعهما أنفسهما، ونقل أحمد بن محمد بن المدبر عن الشأمات إلى مصر، وفرقت أعمال الشأمات على جماعة. وكان الغالب عليه اوتامش، وأحمد بن الخصيب، وكانت خلافته ستة أشهر، وتوفي يوم السبت لاربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 248، وكانت سنه خمسا وعشرين سنة وستة أشهر.


[ 494 ]

ايام احمد المستعين وبويع أحمد بن محمد بن المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر، وهو يوم السبت لاربع خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء خمس عشرة درجة وإحدى عشرة دقيقة، وزحل في السنبلة ست عشرة درجة وسبع دقائق، والمشتري في الجوزاء خمس عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء ثلاث درجات وسبعا وعشرين دقيقة، والزهرة في السرطان أربع عشرة درجة واثنتين وعشرين دقيقة، وعطارد في السرطان أربع درجات واثنتين وعشرين دقيقة، ولم يكن يؤهل للخلافة، ولكنه لما توفي المنتصر استوحش الاتراك من ولد المتوكل، وخشوا سوء العاقبة، فأشار عليهم أحمد بن الخصيب أن يبايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، فبايعوه، وأنكر بعض القواد البيعة، وجرى بين الاتراك والابناء منازعات حتى تحاربوا ثلاثة أيام، ثم ضعف أمر الابناء، وفرق المستعين في الناس أموالا كثيرة، واستقامت أموره، وغلب على أمره اوتامش التركي، وشجاع بن القاسم كاتب اوتامش، وأحمد بن الخصيب، حتى لم يبق لاحد معهم أمر، ثم تحامل الاتراك على أحمد بن الخصيب فسخط المستعين عليه، ونفاه إلى المغرب بعد أربعة أشهر من ولايته، فحمل في البحر إلى اقريطش، ثم حمل إلى القيروان. ولم يكن أصحاب المستعين لاحد أخوف منهم لصاحب خراسان، وتوفي طاهر بن عبد الله بن طاهر في رجب سنة 248، وهو ابن أربع وأربعين سنة، فأفرخ روعهم، ودبروا أن يخرجوا محمد بن عبد الله من العراق إلى خراسان، فقال له المستعين أن ينفذ إلى خراسان، فقال: إن أخي قد أوصى إلى ابنه، ولا آمن أن يكون في خروجي فساد البلد. فكتب المستعين إلى محمد بن طاهر بن عبد الله


[ 495 ]

ابن طاهر بولاية خراسان مكان أبيه، وخرج أبو العمود الشاري بديار ربيعة في هذه السنة، فوجه إليه المستعين بلكاجور الفرغاني، فواقعه، فقتله، وفرق جمعه. ولما توفي طاهر وولي محمد ابنه، وكان يوم ولي حدث السن، تحرك قوم بخراسان من الشراة وغيرهم، وكثر الشراة حتى كادوا أن يغلبوا على سجستان، فقام يعقوب بن الليث، ويعرف بالصفار، من أهل البأس والنجدة، فسأل محمد بن طاهر أن يأذن له في الخروج إلى الشراة، وجمع المطوعة، فأذن له في ذلك، فسار إلى سجستان، فنفى من بها من الشراة، ثم زحف إلى كرمان ففعل كذلك حتى نقى البلاد منهم، فعظم شأنه، فكتب المستعين إلى محمد أن يوليه كرمان، فأقام بها وأحسن أثره في البلاد. ووثب بالاردن رجل من لخم، فطلبه صاحب الاردن، فصار إلى بابليق 1 وهرب، فقام مكانه رجل من عماله يعرف بالقطامي، وكثف جمعه، فجبى الخراج، وكسر جيشا بعد جيش أنفذهم إليه صاحب فلسطين، فلم تزل هذه حاله حتى قدم مزاحم بن خاقان التركي في جمع من الاتراك وغيرهم، ففرق جمعهم، ونفاهم عن البلاد. ووثب أهل حمص بعاملهم كيدر بن عبد الله الاشروسني، فخرج إليهم في جماعة من الجند، فهزموهم، ولحق بحماة، وقتلوا من الجند جماعة وصلبوهم، فولى المستعين عبد الرحمن بن حبيب الازدي حمص، فخرج متوجها إليها، فلما كان على أربع مراحل منها توفي، فولى الفضل بن قارن الطبري، فقدم البلد، فتلقاه أهله بالسمع والطاعة، وشكوا قبح ما كان يعاملهم به كيدر، فدخل المدينة، فأقام أياما، والبلد ساكن، ثم بلغه أنهم يريدون الوثوب عليه، فأخذ جماعة منهم فضرب أعناقهم. ونفى المستعين عبيدالله بن يحيى إلى مكة، ثم نفاه منها إلى برقة، وكان ذلك في أول سنة 249.


1 بلا نقط في الاصل (*)

[ 496 ]

ووثب الجند بسر من رأى مرة بعد أخرى، وتحاربوا وتحاملوا على اوتامش، وقالوا: أحذ أرزاقنا وأزال مراتبنا، وخرجت عصبة من الاتراك والموالي إلى الكرخ، فخرج إليهم اوتامش ليسكنهم، فقتلوه، وقتلوا كاتبه شجاع بن القاسم، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 249، ونهبت دورهما، فوقع ذلك بموافقة المستعين، وكتب إلى الآفاق بلعنه. ووجه المستعين جعفرا الخياط لغزو الصائفة سنة 249، ومعه عمر بن عبد الله الاقطع، عامل ملطية، فلما دخل إلى بلاد الروم استأذنه عمر أن يوغل، وكان في ثمانية آلاف، فأحاط به العدو، فأصيب هو ومن معه في رجب سنة 249. وولى المستعين علي بن يحيى الارمني أرمينية في هذه السنة، وكان امرها قد اضطرب، فصار إلى ميافارقين، وأغارت الروم وتوسطت بلاد المسلمين، فاجتمع قوم من أهل ذلك البلد إلى علي بن يحيى، فكلموه في لقاء الروم، ورفعوه فخرج معهم، فلقي عسكر الروم، فقاتل قتالا شديدا، فقتل، وأخذ الروم بدنه، وعدوه فتحا عظيما لما كان قد أشجاهم. ووثب أهل حمص بالفضل بن قارن الطبري عاملهم في هذه السنة، واستجاشوا عليه بأحياء كلب، فتحصن منهم بقصر خالد بن يزيد بن معاوية، وقد كان جدده، فحاصروه، وغاله من كان معه وأسلمه، فأخذوه وذبحوه وصلبوه على باب الرستن، ولما قتلوه خافوا عامل دمشق، فزحفوا إليه، وهو نوشرى بن طاجيل التركي، فوجه إليهم بعسكر من البابكية وغيرهم، فهزموهم، وانصرفوا إلى حمص. ووجه المستعين موسى بن بغا الكبير في ستة آلاف من الموالي إلى حمص، فلما بلغها خرج إليه رجل يقال له دابر العفار في خلق عظيم من كلب وغيرهم، فحاربه، فكانت عليهم، ودخل موسى حمص عنوة وأباحها ثلاثة أيام، فانتهبت، وطرحت النار في منازلها، فانتهبت


[ 497 ]

أموال التجار، وكان الواثب بحمص غطيف بن نعمة الكلبي. ووثب أيضا بالمعرة المعروف بالقصيص، وهو يوسف بن ابراهيم التنوخي، فجمع جموعا من تنوخ، وصار إلى مدينة قنسرين، فتحصن بها، فلم يزل بها حتى قدم محمد المولد، مولى أمير المؤمنين، فاستماله واستمال غطيف بن نعمة، وصار إليه، ثم وثب بغطيف بن نعمة، فقتله، وهرب القصيص، فصار إلى جبل الاسود، واجتمعت قبائل كلب بناحية حمص على الامتناع على المولد، فسار إليهم فواقعهم، فكانت عليهم، ثم وثبوا عليه، فهزموه، وقتلوا خلقا عظيما من أصحابه، وانصرف إلى حلب في فله، ورجع القصيص إلى قنسرين، وجرت بينه وبين كلب محاربة، وعزل المولد وولي أبو الساج الاشروسني، وكتب إلى القصيص يؤمنه، وصير إليه الطريق والبذرقة، ثم ولاه اللاذقية ونحوها. وكان يحيى بن عمر بن أبي الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى، فأتى بعض الولاة في حاجة، فلقيه بما لا يحب، فخرج إلى الكوفة، واجتمع إليه الناس، فوثب بالكوفة، وفتح الحبس، وأطلق من كان فيه، وأخرج عامل الكوفة، وقوي أمره، وكثر أتباعه، فوجه المستعين رجلا من الاتراك يقال له كلكاتكين، ووجه محمد بن عبد الله بن طاهر بالحسين بن اسماعيل قرابته، وزحف يحيى بن عمر في خلق عظيم وجماعة كثيرة، فالتقوا بموضع يقال له شاهي، بين الكوفة وبغداد، لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة 249، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم أصحاب يحيى عنه، وقتل في المعركة، وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فوضع بين يديه في ترس، ودخل الناس يهنئونه، فقال له رجل من بني هاشم، إنك لتهنأ بما لو كان رسول الله حاضره لعزي به. ووثب جند فارس في هذه السنة بعاملهم الحسين بن خالد، فشغبوا عليه، ووثبوا على مال قد حمل فأخذوا أرزاقهم منه، وكان رئيسهم علي بن الحسين


[ 498 ]

ابن قريش البخاري، وكانت فارس مضمومة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فلما بلغه الخبر ولى عبد الله بن اسحاق، فشخص إليها في عدة وعدد، فلما قدمها أعطاه الجند الطاعة، وكان قصده ابن قريش، فناله بالمكروه، ثم رضي عنه، وولاه محاربة قوم من الخوارج بناحية الفرش والروذان وهو الحد بين فارس وكرمان، فصار ابن قريش إلى ناحية اصطخر، وكاتب الجند وأعلمهم أنه على الوثوب بعبدالله بن اسحاق، فأنجدوه على ذلك لسوء سيرة عبد الله فيهم، ومنعه إياهم أرزاقهم، ورجع علي بن الحسين فوثب به، وأخرجه من منزله، وانتهب أمواله ومتاعه، وأمروا علي بن الحسين عليهم، وانصرف عبد الله إلى بغداد، فوجه محمد بن عبد الله بن نصر بن حمزة الخزاعي، فلما قدم تألف علي بن الحسين، فلم يصلح، وأقام منافرا له في ناحية من كور فارس. ووثب اسماعيل بن يوسف الطالبي بناحية المدينة لسبب كان بينه وبين الوالي بها، وتحامل عليه في وقف كان له، وجمع لفيفا من الاعراب، ثم نفذ إلى ناحية الروحاء، فأخذ مالا للسلطان، وكان حمل من بعض المواضع، ثم صار إلى مكة، وجعفر بن الفضل، المعروف ببشاشات، العامل بها، فواقعه، فهزم بشاشات، ودخل مكة وأقام ثلاثا، ثم دفع إلى المزدلفة وصبح منى، وقد تهارب الناس، ودخل من كان مع ابن يعقوب مكة، فقدر أهلها أنهم أصحاب اسماعيل، فلقوهم بالسيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة. وأقبل اسماعيل إلى مكة فمنعه أهل مكة من الدخول، فوضع أصحابه السيوف فيهم، حتى دخل وطاف وسعى، ورجع وطاف، ثم صار إلى منى، وكان بمكة رجل يقال له محمد بن حاتم على نفقات المصانع، فقال ليعقوب: اقلع ما على دروندي البيت والعتبة من الذهب والفضة، وأعطه الناس. وحارب اسماعيل ! فقلع ذلك الذهب، وأقام اسماعيل بمنى أيام منى، ثم انصرف.


[ 499 ]

…. 1 وغلت الاسعار ببغداد وبسر من رأى، حتى كان القفيز بمائة درهم، ودامت الحرب، وانقطعت الميرة، وقلت الاموال، فجرت السفراء بينهم سنة 252، فدعا المستعين إلى الصلح، على أن يخلع نفسه، ويسلم الامر إلى المعتز، ويصير إلى بلد فيقيم فيه آمنا على نفسه وولده، على أن يدفع إليه مال معلوم وضياع تقيمه، فأجيب إلى ذلك، وخلع نفسه، وبايع محمد بن عبد الله، وكتب المستعين كتاب الخلع على نفسه، وأشهد بذلك، وصار إلى واسط بأمه وولده وسائر أهله ليجعلها دار مقامه


1 بياض في الاصل (*)

[ 500 ]

ايام المعتز بالله وبويع أبو عبد الله المعتز بالله بن المتوكل، وأمه أم ولد يقال لها قبيحة، بسر من رأى، يوم الخميس لسبع خلون من المحرم سنة 252، وكتب إلى جميع العمال يذكر ما تقدم من العقد لابراهيم المؤيد، ويأمرهم بالدعاء له بعده. وبايع عمال البلاد للمعتز لما علموا مبايعة محمد بن عبد الله بن طاهر ومن ببغداد، وتوقف ابن مجاهد صاحب شمشاط، وعيسى بن شيخ في فلسطين، ويزيد ابن عبد الله في مصر، وعمران بن مهران بأصبهان. ووجه المعتز حاتم بن زريك مشاط ؟، فأوقع بابن مجاهد وأهلها، وأخذه وجماعة من وجوهها إلى آمد، فضرب أعناقهم. وزحف نوشرى بن طاجيل التركي، عامل دمشق، إلى عيسى بن شيخ، وزحف إليه عامل فلسطين عيسى، فالتقيا بالاردن، وكانت بينهما حروب صعبة قتل فيها ابن نوشرى، وانهزم الجند عن عيسى، فتركوه وحده، فانهزم إلى فلسطين، فحمل منها ما قدر عليه، وسار إلى مصر، ودخل نوشرى الرملة. ووجه المعتز برجل من الاتراك إلى مصر بالبيعة، فاحتبسه يزيد بن عبد الله عامل مصر بالعريش أياما، ثم أذن له في الدخول، وبايع هو ومن بحضرته وعيسى بن شيخ للمعتز. ووجه المعتز برجل من الاتراك يقال له محمد بن المولد إلى فلسطين، لما انتهى إليه خبر عيسى بن شيخ، وما كان بينه وبين النوشرى، فلما صار محمد بن المولد بحمص، وقد كان تغلب عليها غطيف الكلبي، دعاه إلى الطاعة، وأعطاه الامان، فأجابه، فلما صار في يده ضرب عنقه، فوثبت به كلب من كل جانب، فهزموه.


[ 501 ]

وصار محمد بن المولد إلى فلسطين، فلما قدمها انصرف النوشرى عنها. وصار عيسى بن شيخ من مصر مستعدا، فلما وافى فلسطين نزل قصرا كان بناه بين رملة ولد، ولم يمكن ابن المولد فيه فرصة، وحذر كل واحد منهما من صاحبه، ثم انصرفا جميعا إلى العراق. ووجه مزاحم بن خاقان إلى ملطية، وقد ظهر فيها الروم عدة مرار، ووثب بمصر رجل من كنانة يقال له جابر، ويعرف بأبي حرملة….. 1 فوجهه إلى أسفل الارض، وقام هو موضعه، فكثف جمعه وجبى الخراج. وكان صفوان العقيلي قد وثب بديار مضر في أيام المستعين، على ما ذكرنا من أمره، ودعا للمعتز، وحارب محمد بن داود المعروف بابن الصغير، فلما استقامت الكلمة، وبايع من كان بالرافقة من العمال، كتب محمد بن الاشعث الخزاعي، صاحب البريد بديار مضر، إلى المعتز يذكر سوء مذهب صفوان، وأنه منطو على المعصية، فوجه إليه المعتز بسيما الصعلوك ليحمله إلى بابه، وكان قد تحرك بحران في ذلك الوقت رجلان أحدهما من ولد أبي لهب، والآخر أموي، ودعا كل واحد منهما إلى نفسه، فبدأ سيما بهما حتى أخذهما، ثم صار إلى الرافقة، وقد وثب صفوان العقيلي على محمد بن الاشعث الخزاعي، فقتله، فلقي سيما ابن عبدوس، فكانت بينهما وقعات، ثم دعا ابن عبدوس إلى الصلح على أن يولى بلده، ويدفع إليه تسعمائة ألف درهم. وأقام موسى بن بغا بهمذان ووجه خليفة له إلى ناحية الكوكبي بن الارقط، فكانت بينهما وقعات، وزحف موسى إلى عمران بن مهران المتغلب بأصبهان، فحاربه، ثم انصرف، واستخلف على البلد، ورجع إلى همذان. وتوفي محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد في ذي القعدة سنة 253، وكتب المعتز إلى عبيدالله بن عبد الله بن طاهر بولايته على ما كان أخوه يتولاه من الشرطة وسائر الاعمال، وكانت سن محمد يوم مات أربعا وأربعين سنة، ثم


1 بياض في الاصل (*)

[ 502 ]

وجه طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان سليمان بن عبد الله عمه، لما بلغه اضطراب الاحوال وغلبة وصيف وبغا وغيرهما من الاتراك على أمر الخلافة، فيقال إن المعتز كتب إليه في ذلك، فصار سليمان إلى بغداد في خلق كثير من جند خراسان، ثم دخل إلى سر من رأى، والناس لا يشكون في أنه سيغلب، فخلع عليه ودبر وصيف وبغا أن ينحياه، فأمر بالرجوع إلى بغداد، فقدمها يوم الثلاثاء لاربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة 254. وأغزى بغا عيسى بن شيخ إلى جند فلسطين، ورصده الاتراك ليقتلوه بابن نوشرى الذي كان قتله بالاردن، فخرج مستترا في يوم مطير في خيل جريدة، حتى فاتهم، وصار إلى فلسطين، فوجد بها أموالا قد حملت من مصر، فاحتبسها وفرض فروضا من العرب، وجمع إليه خلقا من ربيعة، وصاهر إلى كلب، وابتنى خارج مدينة الرملة حصنا سماه الحسامي. ولما كثر الاضطراب تأخرت أموال البلدان، ونفد ما في بيوت الاموال، فوثب الاتراك بكرخ سر من رأى، فخرج إليهم وصيف ليسكنهم، فرموه فقتلوه وحزوا رأسه في سنة 253، وتفرد بغا بالتدبير، ثم تحرك صالح بن وصيف، واجتمع إليه أصحاب أبيه، فصار في منزلته، وضعف أمر المعتز حتى لم يكن له أمر ولا نهي. وانتقضت الاطراف، وخرج بديار ربيعة رجل من الشراة يقال له مساور بن عبد الحميد، ويعرف بأبي صالح، من بني شيبان، ثم صار إلى الموصل، فطرد عاملها، وسار حتى قرب من سر من رأى ونزل في المحمدية، ثلاثة فراسخ من قصور الخليفة، فدخل القصر، وجلس على الفرش، ودخل الحمام. وندب له المعتز قائدا وجيشا بعد قائد وجيش وهو يهزمهم، حتى كثف جمعه، واشتدت شوكته. وتوفي مزاحم بن خاقان لخمس خلون من المحرم سنة 254، وصار مكانه ابن له يقال له أحمد، فلم يقم إلا أياما حتى اشتدت به العلة، وتوفي، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وتوفي في شهر ربيع الآخر، وصار على البلد ارخوز


[ 503 ]

ابن اولغ طرخان التركي. وتوفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بسر من رأى يوم الاربعاء لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة 254، وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكل، فصلى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد، فلما كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلى داره، فدفن فيها، وسنه أربعون سنة، وخلف من الولد الذكور اثنين: الحسن، وجعفر. وتنكر المعتز لبغا وآثر صالحا وبابكباك، وصير إلى بابكباك أعمال المعاون بمصر، فولاها بابكباك من قبله أحمد بن طولون، فقدم أحمد بن طولون الفسطاط في شهر رمضان سنة 254. وبلغ المعتز أن بغا قد عزم على الوثوب به، فدبر على قتله، فلما بلغه ذلك هرب، فصار إلى ناحية الموصل، وهو يقدر أن أكثر الاتراك وغيرهم يستلحقونه، فلم يلحقه أحد، فانصرف راجعا في زورق، فأخذه أصحاب المسالح، وكوتب المعتز بخبره، فأمر بضرب عنقه، فضربت عنقه، ونهبت داره، ونفي ابنه فارس إلى المغرب في سنة 254. ولما خاف المعتز وثوب الاتراك أشخص من كان بسر من رأى من الهاشميين من أولاد الخلافة وغيرهم إلى بغداد لئلا يخلس الاتراك أحدا منهم. وتلاحى أحمد بن طولون وأحمد بن المدبر، وهو عامل الخراج بمصر، وأفسد بينهما شقير الخادم المعروف بأبي صحبة، فكان شقير يتولى البريد وضياعا من ضياع الاقطار، وما يستعمل للسلطان من المتاع وإليه ينسب الدبيقي الشقيري، وكتب كل واحد منهما في صاحبه، فنصر بابكباك أحمد بن طولون. وكان بابكباك الغالب على أمر الخليفة، وأعانه الحسن بن مخلد بن الجراح، وأبو نوح عيسى بن ابراهيم بن نوح، فكتب بعزل بن المدبر وتولية رجل من أهل مصر يقال له محمد بن هلال، فتولى الخراج، وقبض ابن طولون على ابن


[ 504 ]

المدبر، فقيده، وألبسه جبة صوف، ووقفه في الشمس، فأقام بهذه الحال ثلاثة أشهر. وقوي أمر يعقوب بن الليث الصفار، فسار إلى فارس، وبها علي بن الحسين ابن قريش متغلب، فهزم جيشه، وأسره، وتغلب على فارس. ووثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب، وزير المعتز، وعلى الحسن بن مخلد، صاحب ديوان الضياع، وعلى عيسى بن ابراهيم ابن نوح وعلي بن نوح، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذبهم بأنواع العذاب، وغلب على الامر، فهم المعتز بجمع الاتراك، ثم دخل إليه، فأزاله من مجلسه، وصير في بيت، وأخذ رقعته بخلع نفسه، وتوفي بعد يومين، وصلى عليه المهتدي، وكان ذلك في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من رجب سنة 255، وكانت ولايته من يوم بويع إلى يوم خلع فيه نفسه أربع سنين وتسعة أشهر، ومنذ خلع المستعين وبايع له من ببغداد ثلاث سنين وسبعة أشهر، وكانت سنه اثنتين وعشرين سنة، وخلف من الولد الذكور ثلاثة: عبد الله، ومحمدا، والمهتدي.


[ 505 ]

ايام محمد المهتدي بن هارون الواثق بالله واجتمع القواد على أنه ليس في أولاد الخلفاء أفضل ولا أعقل من محمد بن الواثق، وأمه أم ولد يقال لها قرب، وكان ممن أشخص إلى بغداد في أيام المعتز فشخص، فلما قدم بايعوه، فاجتمعت كلمتهم عليه، وكانت البيعة له يوم الثلاثاء لثلاث بقين من رجب سنة 255، وجلس للناس يوم الخميس، بعد أن بويع له، وذكر في الكتب خلع المعتز نفسه، وسماه خالع نفسه، وظهرت من المهتدي سيرة حسنة ومذاهب محمودة، وجلس للمظالم بنفسه، وباشر الامور بجسمه، ووقع في القصص بخطه، وأبطل الملاهي، وقدم أهل العلم، وأقام يلبس اليوم الواحد لبسة، فتقيم عليه أياما كثيرة لا يغيرها. وكان صالح وبابكباك الغالبين عليه، وأخرج صالح أحمد بن اسرائيل وعيسى ابن ابراهيم بن نوح من الحبس إلى باب العامة، فضربا حتى ماتا، وأفلت الحسن ابن مخلد، ورد أحمد بن المدبر إلى خراج مصر، فأقام تسعين يوما، ثم ورد كتاب بابكباك إلى أحمد بن طولون بإزالة ابن المدبر، ورد النظر إلى محمد بن هلال، ففعل ذلك. ووثب أهل حمص بمحمد بن اسرائيل، فخرج هاربا، ولحقه ابن عكار، فكانت بينهما وقعة قتل فيها ابن عكار، ورجع ابن اسرائيل على البلد، وأخرج قبيحة أم المعتز، وأبا أحمد واسماعيل ابني المتوكل، وعبد الله بن المعتز إلى مكة، ثم ردوا إلى العراق. وكتب إلى جميع المتحركين والمتغلبين بالامان، وكتب إلى عيسى بن شيخ الربعي بمثل ذلك، وأمره بحمل ما قبله من أموال مصر وغيرها، فامتنع، فكتب إلى ابن طولون بالمسير إليه، فسار إليه، فلما صار بالعريش ورد عليه الكتاب


[ 506 ]

بالانصراف، فانصرف، ولم يلق حربا، ولقي ابن شيخ اما جور التركي، عامل دمشق، فهزمه اما جور وقتل ابنه منصورا، ورجع ابن شيخ، فحمل عياله إلى صور وتحصن بها. ووثب رجل من الطالبيين يقال له ابراهيم بن محمد من ولد عمر بن علي، ويعرف بالصوفي، بناحية صعيد مصر، ووثب أيضا في تلك الناحية رجل يقول إنه عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فحارب السلطان، وقوي أمر صاحب البصرة، وصار إلى الابلة فأخر بها، ووقعت بين أهل البصرة العصبية، حتى أحرق بعضهم منازل بعض. وتنكر المهتدي للاتراك، وعزم على تقديم الابناء، فلما علموا بذلك استوحشوا منه، وأظهروا الطعن عليه، فأحضر جماعة منهم، فضرب أعناقهم، وفيهم بابكباك رئيسهم، فاجتمع الاتراك وشغبوا، فخرج إليهم المهتدي في السلاح معلقا في عنقه المصحف، واستنفر العامة، وأباحهم دماءهم وأموالهم، ونهب منازلهم، فتكاثر الاتراك عليه، وافترقت عنه العامة حتى بقي وحده، وأصابته عدة جراح، ومر منصرفا حتى دخل دار رجل من القواد يقال له أحمد بن جميل، ولحقوه، فأخذوه، فحملوه على دوابه وجراحاته تنطف دما، فدعوه إلى أن يخلع نفسه، فأبى، ومات بعد يومين، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لاربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256، وكانت خلافته سنة إلا أحد عشر يوما.


[ 507 ]

ايام احمد المعتمد على الله وبويع أحمد المعتمد على الله بن جعفر بن المتوكل في اليوم الذي قتل فيه المهتدي، وهو يوم الثلاثاء لاربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256، ومن شهور العجم في حزيران وكانت الشمس يومئذ في الاسد سبعا وعشرين درجة وثمانيا وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو ثماني درجات واثنتين وعشرين دقيقة، وزحل في القوس خمسا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في الاسد ثلاث درجات وأربعين دقيقة، والزهرة في الاسد درجة وأربعا وأربعين دقيقة، وعطارد في الجوزاء تسع درجات وثلاثا وثلاثين دقيقة. وصير المعتمد عبيدالله بن يحيى بن خاقان وزيرا، وقلده أموره، وكتب بالبيعة إلى الآفاق، فبايع بخراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبكور الفرات مالك بن طوق التغلبي، وبديار مضر وديار ربيعة وجند قنسرين أبو الساج بن ديوداد الاسروشني، وبمصر أحمد بن طولون التركي، وامتنع عيسى ابن شيخ بن الشليل الربعي من البيعة بفلسطين، فوجه برجل من الاتراك في سبعمائة تركي يقال له اما جور، فقدم اما جور دمشق، وزحف عيسى بن شيخ إليه من فلسطين، حتى أناخ بباب دمشق، فحاصره، ولما اشتد الحصار بدمشق خرج اما جور وأصحابه من المدينة واتبعه ابن لعيسى بن شيخ يقال له منصور، وخليفة له يقال له ظفر بن اليمان، ويعرف بأبي الصهباء، فحمل عليهما أما جور وأصحابه، فقتل منصور بن عيسى بن شيخ، وأسر المعروف بأبي الصهباء، فضرب عنقه، وصلب، وانصرف عيسى بن شيخ إلى الرملة. وزحف الخارج بالبصرة المدعي إلى آل أبي طالب، واسمه علي بن محمد، إلى الابلة، فنهبها وأخربها وأحرقها بالنار، وتوجه إليه سعيد بن صالح،


[ 508 ]

فواقعه بنهر ابي الخصيب. ووردت كتب المعتمد إلى أحمد بن طولون عامل مصر، يأمره برد أعمال الخراج إلى أحمد بن محمد بن المدبر، وكان محبوسا في يده، ومحمد بن هلال يتولى الخراج، فأخرج يوم السبت لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة 256، وتولى الخراج، وكان حبسه تسعة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وفي هذه السنة تنازع قوم من بني هلال وقوم من أهل مكة في الموقف بعرفات، فقتل قوم من هؤلاء وقوم من هؤلاء، وكان صاحب الموسم الحسين بن اسماعيل الطاهري، فأقام الحج للناس أحمد بن اسماعيل بن يعقوب الملقب كعب البقر. وتوفي بابكباك التركي، فصير المعتمد ما كان إليه من أعمال مصر وغيرها إلى يارجوج التركي، وكتب يارجوج التركي إلى أحمد بن طولون التركي، عامل مصر، بإقراره على ما كان يتولى. وولى المعتمد محمد بن هرثمة بن أعين برقة، فقدم الفسطاط في شهر ربيع الآخر سنة 257، ونفذ إلى برقة. ووجه المعتمد بالحسين الخادم، المعروف بعرق الموت، إلى عيسى بن شيخ، وقد تغلب على فلسطين، بأمان على نفسه وماله وولده، والصفح عما كان منه، وتوليته أرمينية، ففعل ذلك، وشخص من البلد في جمادى الآخرة سنة 257، وسلم ما كان في يده إلى اما جور التركي، ولم يرد من الاموال درهما واحدا. وكانت في السماء نار عظيمة أخذت من المشرق إلى المغرب، ثم أجلت وتلتها هدة شديدة وزلزلة، وكان ذلك مع طلوع الفجر لثمان بقين من رجب، ومن شهور العجم في حزيران. وحمل أحمد بن طولون ما كان حاصلا في بيت المال بمصر إلى أمير المؤمنين المعتمد، فكان مبلغه ألفي ألف ومائة ألف درهم، وقاد الخيل، وحمل الطراز والخيش والشمع، ووازنه بنفسه حتى يسلمه إلى اما جور التركي، وأشهد به


[ 509 ]

عليه، وانصرف إلى الفسطاط وكتب المعتمد بالله إلى أحمد بن طولون بولاية الاسكندرية مكان اسحاق ابن دينار بن عبد الله، فشخص أحمد بن طولون إلى الاسكندرية في شهر رمضان سنة 257. وولى أحمد المعتمد بالله أحمد بن محمد بن المدبر خراج الشأمات، وصرفه عن خراج مصر، وولى خراج مصر أحمد بن محمد شجاع، المعروف بابن أخت الوزير، فقدم الفسطاط في شهر رمضان من هذه السنة، وعزل شقيرا الخادم، المعروف بأبي صحبة، عن البريد بمصر، وولى مكانه أحمد بن الحسين الاهوازي، فقدم في شوال من هذه السنة. وفي هذه السنة وجه أحمد بن طولون رجلا من الاتراك يقال له ماطعان في ألف فارس مع حاج مصر، وأمره أن يدخل المدينة ومكة في السلاح والتعبية، ويفعل مثل ذلك بعرفات، وفعل ذلك ووافى عرفات بالاعلام والطبول والسلاح. وفي هذه السنة دخل المدعي البصرة ونهب وحرق المسجد الجامع، وتوجه إليه رجل من الاتراك يقال له محمد المولد، فلما بلغه الخبر انصرف، ولم يلقه. وفي هذه السنة بدأ أمر المعروف بأبي عبد الرحمن العمري، وأظهر رأسه لمحاربة أصحاب السلطان، ولقي شعبة بن حركان صاحب أحمد بن طولون، فحاربه بأسوان. وفي هذه السنة وقعت عصبية بفلسطين بين لخم وجذام، فتحاربوا حربا أخذت من الفريقين، وفيها حج بالناس الفضل بن العباس بن الحسن بن اسماعيل ابن العباس بن محمد. وخرج أحمد بن محمد بن المدبر من الفسطاط متوجها إلى الشأمات في المحرم سنة 258، فقام بالشأمات، وقصد مدينة دمياط وتولى أعمال الخراج. وفي هذه السنة دخل محمد المولد التركي البصرة، وأخرج المدعي إلى آل أبي طالب وأصحابه عنها، ورجع قوم، فلم يجدوا منزلا يسكن.


[ 510 ]

وفي هذه السنة وثب جند برقة بحمد بن هرثمة بن أعين عامل المعونة، فأخرجوه عنها فا….. 1 رو إلى الفسطاط، وفيها أخرج أحمد بن طولون الطالبيين من مصر إلى المدينة، ووجه معهم من ينفذهم، وكان خروجهم في جمادى الآخرة، وتخلف رجل من ولد العباس بن علي، وأراد أن يتوجه إلى المغرب، فأخذه أحمد بن طولون، وضربه مائة وخمسين سوطا، وأطافه بالفسطاط. وفيها وقع الوباء بالعراق، فمات خلق من الخلق، وكان الرجل يخرج من منزله، فيموت قبل أن ينصرف، فيقال إنه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف إنسان، وفيها زاد أبو أيوب أحمد بن محمد ابن أخت الوزير، عامل خراج مصر، في المسجد الجامع بمصر في آخر المسجد. وفيها توجه أبو أحمد بن المتوكل على الله إلى المدعي إلى آل أبي طالب، الخارج بالبصرة، في جمع كثيف، وكان العسكر والزاد والسلاح في السفن، فوقعت النار في السفن، فاحترقت وانصرف أبو أحمد راجعا. وفيها أخذ أحمد بن طولون على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه على أن يعادوا من عاداه، ويوالوا من والاه، ويحاربوا من حاربه من الناس جميعا. وفيها غزا الصائفة محمد بن علي بن يحيى الارمني، وقدم شنيف الخادم مولى المتوكل للفداء، فاجتمعوا بنهر اللامس، ففادوا وشرطوا للروم هدنة أربعة أشهر، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 258. وفيها قتل يارجوج التركي بسر من رأى، وبويع لاحمد بن الموفق بن المتوكل ولقب بالمعتضد، بولاية العهد، وصير إليه أعمال يارجوج، من مصر وغيرها، فدعي له على منابر مصر.


1 بياض في الاصل (*)

[ 511 ]

وحج بالناس الفضل بن العباس، ونال أهل البادية زلازل ورياح وظلمة…. 1 ممن كان حول المدينة من بني سليم وبني هلال وغيرهم من بطون قيس وسائر أهل البلد، فهربوا إلى المدينة وإلى مكة يستجيرون بقبر رسول الله وبالكعبة، وأحضروا متاعا من متاع الحاج الذين قطعوا عليهم الطريق، وذكروا أنه هلك منهم خلق عظيم في البادية، وكان ذلك في سنة 259. وفيها تغير ماء نيل مصر حتى صار يضرب إلى الصفرة، وأقام على هذه الحال أياما، ثم رجع إلى ما كان عليه. وفي هذه السنة مات أبو صحبة شقير الخادم، وابن مطهر الصنعاني صاحب بريد مصر.


1 بياض في الاصل (*)

[ 512 ]

تم الموجود من تاريخ ابن واضح الكاتب العباسي، رحمه الله تعالى وعفا عنه، والحمد لله رب العالمين، وكان الفراغ من تحصيل هذا الكتاب المبارك في سر نهار الربوع في سلخ شهر ربيع الآخر الذي هو من شهور سنة وفي هذه السنة مات أبو صحبة شقير الخادم، وابن مطهر الصنعاني صاحب بريد مصر.


1 بياض في الاصل (*)

[ 512 ]

تم الموجود من تاريخ ابن واضح الكاتب العباسي، رحمه الله تعالى وعفا عنه، والحمد لله رب العالمين، وكان الفراغ من تحصيل هذا الكتاب المبارك في سر نهار الربوع في سلخ شهر ربيع الآخر الذي هو من شهور سنة 1096، وذلك برسم سيدي ومولاي الاكرم النقي التقي، البر الوفي، العالم العامل، العلامة، والخيرة من الشيعة الكرام، غفر الله له ولوالديه، وتقبل منه حسناته، وتجاوز عن سيئاته، وحشرنا وإياه في زمرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بخط الجاني المسئ إلى مولاه، كثير الذنوب، الراجي رحمة علام الغيوب، أفقر عباد الله إليه وأحوجهم إلى غفره، الغني به عمن سواه، أحمد بن حسين بن أحمد بن علي النهدي الاشتي، غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالمغفرة، ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

اترك تعليقاً