الذريعة (أصول فقه)

السيد المرتضى ج 1


[ 1 ]

انتشارات دانشگاه تهران شماره 1100 گنجينه عقايد وفقه اسلامي شماره 26 – الذريعة إلى اصول الشريعة تصنيف سيد مرتضى علم الهدى (أبو القاسم على بن الحسين الموسوي) قسمت اول (از آغاز تا پايان مباحث نسخ) تصحيح ومقدمه وتعليقات از دكتر أبو القاسم گرجى


[ 1 ]

مقدمة الكتاب – بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله حمد الشاكرين الذاكرين، المعترفين بجميل (1) آلائه و جزيل نعمائه، المستبصرين بتبصيره (2) المتذكرين (3) بتذكيره، الذين تأدبوا بتثقيفه (4)، وتهذبوا (5) بتوفيقه، واستضاؤوا بأضوائه، وترووا من أنوائه حتى هجموا بالهداية إلى الدراية (6)، وعلموا بعد (7) الجهالة، واهتدوا بعد الضلالة، فلزموا القصد، ولم يتعدوا الحد، فيقلوا في موضع الاكثار، ويطيلوا في مكان الاختصار، ويمزجوا بين متباينين، ويجمعوا بين متنافرين، فرب مصيب حرم في صوابه ترتيبه له في مراتبه وتنزيله في منازله، فعد مخطئا، وعن الرشاد مبطئا، وصلى الله على أفضل بريته وأكمل خليقته سيدنا محمد وآله الطاهرين وسلم. أما بعد: فإننى (9) رأيت أن أملى كتابا متوسطا في أصول الفقه (10) لا ينتهى بتطويل إلى الاملال (11)، ولا باختصار إلى الاخلال، بل يكون


1 – ب: المعرفين لجميل. 2 – ج: – بتبصيره 3 – ب وج: المذكرين. 4 – الف: بتثفيقه. 5 – ب: تهذبه. 6 – ب: الدارية. 7 – ب: + 1 بعد. 8 – ب وج: + من عترته. 9 – ج: فانى. 10 – ج: + و. 11 – ج: الامتلال. (*)

[ 2 ]

للحاجة سدادا وللبصيرة زنادا، وأخص مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء فإن مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها إلى ذلك. فقد وجدت بعض من أفرد في أصول (1) الفقه كتابا، وإن كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومبانيه، قد شرد (2) من (3) قانون أصول الفقه وأسلوبها، وتعداها كثيرا وتخطاها، فتكلم على حد العلم والظن وكيف يولد النظر العلم، والفرق بين وجوب المسبب عن السبب، وبين حصول الشئ عند غيره على مقتضى العادة، وما تختلف (4) العادة وتتفق، والشروط التى يعلم بها (5) كون خطابه تعالى دالا على الاحكام وخطاب الرسول عليه السلام، والفرق بين خطابيهما بحيث يفترقان أو يجتمعان، إلى غير ذلك من الكلام الذى هو محض صرف خالص للكلام (6) في أصول الدين دون أصول الفقه. فإن كان دعا إلى الكلام على هذه المواضع أن أصول الفقه (8) لا تتم ولا تثبت إلا بعد ثبوت هذه الاصول، فهذه العلة تقتضي أن يتكلم (9) على سائر أصول الدين من أولها إلى آخرها وعلى ترتيبها، فإن أصول (* هامش *) 1 – ب وج: لا صول. 2 – ج: تشرد. 3 – ب وج: عن. 4 – ب: – بها. 6 – ج: في الكلام. 7 – ب: – كان. 8 – ج: – فان كان تا اينجا، + مما 9 – ج: نتكلم (*)


[ 3 ]

الفقه مبنية على جميع أصول الدين مع التأمل (1) الصحيح، وهذا يوجب علينا أن نبتدئ في أصول الفقه بالكلام على حدوث الاجسام وإثبات المحدث وصفاته وجميع أبواب التوحيد، ثم بجميع (2) أبواب التعديل و (3) النبوات، ومعلوم أن ذلك مما لا يجوز فضلا عن أن يجب. والحجة في إطراح الكلام على هذه الاصول هي (4) الحجة في إطراح الكلام (5) على النظر وكيفية توليده وجميع ما ذكرناه (6). وإذا كان مضى (7) ذكر العلم والظن (8) في أصول الفقه اقتضى أن يذكر ما يولد العلم ويقتضى (9) الظن ويتكلم (10) في أحوال الاسباب وكيفية توليدها، فألا اقتضانا (11) ذكرنا (12) الخطاب الذى هو العمدة في أصول الفقه والمدار عليه أن نذكر (13) الكلام في الاصوات و (14) جميع أحكامها، وهل الصوت جسم أو صفة لجسم (15) أو عرض ؟ وحاجته إلى المحل (16). وما يولده، وكيفية توليده، وهل الكلام معنى في النفس أو هو جنس الصوت أو معنى يوجد مع الصوت ؟ على ما يقوله أبو على. فما التشاغل


1 – ج: تأمل. 2 – ج: جميع. 3 – ب: بجميع ابواب التعديل و. 4 – ج: متى. 5 – ب وج: حجة. 6 – ب: حكيناه. 7 – ب: معنى. 8 – ب: الظن والعلم. 9 – ب: يفضى. 10 – ج نتكلم 11 – ج: اقتفتاتا. 12 – ب وج: – نا 13 – ب: يذكر. 14 – ب: في 15 – ب: بجسم. 16 – ب وج: محل.

[ 4 ]

بذلك كله إلا كالتشاغل بما أشرنا إليه مما تكلفه، وما تركه إلا كتركه. والكلام في هذا الباب إنما هو الكلام في أصول الفقه بلا واسطة من الكلام فيما هو أصول لاصول الفقه. والكلام في هذا الفن إنما هو مع من تقررت معه أصول الدين وتمهدت، ثم تعداها إلى غيرها مما هو مبنى عليها. فإذا كان المخالف لنا مخالفا في أصول الدين، كما أنه مخالف في أصول الفقه، أحلناه على الكتب الموضوعة للكلام في أصول الدين، ولم نجمع له في كتاب واحد بين الامرين. ولعل القليل التافه من مسائل أصول الفقه، مما لم أملل فيه مسألة مفردة مستوفاة مستقلة مستقصاة، لا سيما مسائله المهمات الكبار. فأما الكلام في الاجماع فهو في الكتاب الشافي والذخيرة مستوفى. وكذلك الكلام في الاخبار. والكلام في القياس والاجتهاد بسطناه وشرحناه في جواب مسائل أهل الموصل الاولى. وقد كنا قديما أمللنا قطعة من مسائل الخلاف في أصول الفقه،


[ 5 ]

وعلق عنا دفعات لا تحصى من غير كتاب يقرأه المعلق علينا من مسائل الخلاف على غاية الاستيفاء دفعات كثيرة. وعلق عنا كتاب العمدة * مرارا لا تحصى. والحاجة مع ذلك إلى هذا الكتاب الذى قد شرعنا فيه ماسة تامة، والمنفعة به عامة، لان طالب الحق من هذا العلم يهتدى بأعلامه عليه، فيقع من قرب عليه. ومن يعتقد من الفقهاء مذهبا بعينه تقليدا أو إلفا في أصول الفقه، ينتفع بما أوضحناه من نصرة ما يوافق فيه، مما كان لا يهتدى إلى نصرته وكشف قناع حجته، ولا يجده في كتب موافقيه ومصنفيه ويستفيد أيضا فيما يخالفنا فيه، إنا حررنا في هذا الكتاب شبهه التى هي عنده حجج وقررناها، وهذبناها، وأظهرنا من معانيها ودقايقها ما كان مستورا، وإن كنا من بعد عاطفين على نقضها وإبانة فسادها، فهو على كل حال متقلب بين فائدتين مترددتين منفعتين. فهذا الكتاب إذا أعان الله تعالى على إتمامه وإبرامه، كان بغير نظير من الكتب المصنفة في هذا الباب. ولم نعن في تجويد وتحرير وتهذيب، فقد يكون ذلك فيما سبق إليه من المذاهب والادلة،


[ 6 ]

وإنما أردنا أن مذاهبنا في أصول الفقه ما اجتمعت لاحد من مصنفي كتب أصول الفقه. وعلى هذا فغير ممكن أن يستعان بكلام أحد من مصنفي الكلام في هذه الاصول، لان الخلاف في المذاهب والادلة والطرق والاوضاع يمنع من ذلك، ألا ترى أن الكلام في الامر والنهى الغالب على مسائله والاكثر والاظهر أخالف القوم فيه، والعموم والخصوص فخلافي لهم، وما يتفرع عليه أظهر، وكذلك البيان والمجمل والاجماع والاخبار والقياس والاجتهاد مما خلافى جميعه أظهر من أن يحتاج إلى إشارة، فقد تحقق إستبداد هذا الكتاب بطرق مجددة لا استعانة عليها بشئ من كتب القوم المصنفة في هذا الباب. وما توفيقنا الا بالله تعالى. وقد سميته بالذريعة إلى أصول الشريعة، لانه سبب ووصلة إلى علم هذه الاصول. وهذه اللفظة في اللغة العربية وما تتصرف إليه تفيد هذا المعنى الذى أشرنا إليه، لانهم يسمون الحبل الذى يحتبل به


[ 7 ]

الصائد الصيد ذريعة واسم الذراع من هذا المعنى اشتق، لان بها يتوصل إلى الاغراض والاوطار، والذراع أيضا صدر القناة. وذرع القئ إذا غلب، وبلغ من صاحبه الوطر. فبان أن التصرف يعود إلى المعنى الذى ذكرناه. وما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا وإليه ننيب. باب الكلام في الخطاب وأقسامه وأحكامه إعلم أن الكلام في أصول الفقه إنما هو على الحقيقة كلام في أدلة الفقه، يدل على أنا إذا تأملنا ما يسمى بأنه أصول الفقه، وجدناه لا يخرج من أن يكون موصلا إلى العلم بالفقه أو متعلقا به وطريقا إلى ما هذه صفته، وإلاختبار يحقق ذلك. ولا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الادلة والطرق إلى أحكام فروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولا للفقه، لان الكلام في أصول الفقه إنما هو كلام في كيفية دلالة ما يدل من هذه الاصول على الاحكام على طريق الجملة دون التفصيل، وأدلة


[ 8 ]

الفقهاء إنما هي على تعيين المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل. وإذا كان مدار الكلام في أصول الفقه إنما هو على الخطاب وجب أن نبدأ بذكر أحكام الخطاب. والخطاب هو الكلام إذا وقع على بعض الوجوه، وليس كل كلام خطابا، وكل خطاب كلام. والخطاب يفتقر في كونه كذلك على إرادة المخاطب لكونه خطابا لمن هو خطاب له ومتوجها إليه والذى يدل على ذلك أن الخطاب قد يوافقه في جميع صفاته من وجود وحدوث وصيغة وترتيب ما ليس بخطاب، فلا بد من أمر زائد به كان خطابا، وهو قصد المخاطب. ولهذا قد يسمع كلام الرجل جماعة ويكون الخطاب لبعضهم دون بعض لاجل القصد الذى أشرنا إليه المخصص لبعضهم من بعض، ولهذا جاز أن يتكلم النائم، ولم يجز أن يخاطب، كما لم يجز أن يأمر وينهى. وينقسم الخطاب إلى قسمين مهمل ومستعمل. فالمهمل: ما لم يوضع


[ 9 ]

في اللغة التى أضيف أنه مهمل إليها لشئ من المعاني، والفوائد. و أما المستعمل: فهو الموضوع لمعنى، أو فائدة. وينقسم إلى قسمين. أحدهما: ما له معنى صحيح وإن كان لا يفيد فيما سمى به كنحو الالقاب مثل قولنا: زيد وعمرو، وهذا القسم جعله القوم بدلا من الاشارة ولهذا لا يستعمل في الله تعالى. والفرق بينه وبين المفيد أن اللقب يجوز تبديله وتغييره، واللغة على ماهى عليه، والمفيد لا يجوز ذلك فيه. ولهذا كان الصحيح أن لفظة شئ ليست لقبا، بل من قسم مفيد الكلام، لان تبديلها وتغييرها لا يجوز، واللغة على ماهى عليه *. وإنما لم تفد لفظة شئ، لاشتراك جميع المعلومات في معناها، فتعذرت فيها طريقة الابانة والتمييز. فلامر يرجع إلى غيرها لم تفد، واللقب لا يفيد لامر يرجع إليه. والقسم الثاني من القسمة المتقدمة: هو المفيد الذى يقتضى الابانة. وهو على ثلاثة أضرب. أحدها: أن يبين نوعا من نوع، كقولنا:


[ 10 ]

لون، وكون، واعتقاد، وإرادة. وثانيها: أن يبين جنسا من جنس كقولنا: جوهر، وسواد، وحيوة، وتأليف. وثالثها: أن يبين عينا من عين كقولنا: عالم، وقادر، وأسود، وأبيض. البحث في الحقيقة والمجاز وينقسم المفيد من الكلام إلى ضربين: حقيقة ومجاز. فاللفظ الموصوف بأنه حقيقة هو ما أريد به ما وضع ذلك اللفظ لافادته إما في لغة، أو عرف، أو شرع. ومتى تأملت ماحدت به الحقيقة وجدت ما ذكرناه أسلم وأبعد من القدح. وحد المجاز هو اللفظ الذى أريد به ما لم يوضع لافادته في لغة، ولا عرف، ولا شرع. ومن حكم الحقيقة وجوب حملها على ظاهرها إلا بدليل. والمجاز بالعكس من ذلك، بل يجب حمله على ما اقتضاه الدليل. والوجه في ثبوت هذا الحكم للحقيقة أن المواضعة قد جعلت ظاهرها للفائدة المخصوصة، فإذا خاطب الحكيم قوما بلغتهم وجرد كلامه عما يقتضى


[ 11 ]

العدول عن ظاهره، فلا بد من أن يريد به ما تقتضيه المواضعة في تلك اللفظة التى استعملها. ومن شأن الحقيقة ان تجرى في كل موضع تثبت فيه فائدتها من غير تخصيص، إلا أن يعرض عارض سمعي يمنع من ذلك. هذا إن لم يكن في الاصل تلك الحقيقة وضعت لتفيد معنى في جنس دون جنس، نحو قولنا: أبلق، فإنه يفيد اجتماع لونين مختلفين في بعض الذوات دون بعض، لانهم يقولون: فرس أبلق، ولا يقولون: ثور أبلق. وإنما أوجبنا اطراد الحقيقة في فائدتها، لان المواضعة تقتضي ذلك، والغرض فيها لا يتم إلا بالاطراد، فلو لم تجب تسمية كل من فعل الضرب بأنه ضارب، لنقض ذلك القول بأن أهل اللغة إنما سمو الضارب ضاربا، لوقوع هذا الحدث المخصوص الذى هو الضرب منه.


[ 12 ]

وإنما إستثنينا المنع السمعى لانه ربما عرض في إجراء الاسم على بعض ما فيه فائدته مفسدة، فيقبح إجرائه، فيمنع السمع منه، كما قلنا في تسميته تعالى بأنه فاضل. واعلم أن الحقيقة يجوز أن يقل استعمالها، ويتغير حالها فيصير كالمجاز. وكذلك المجاز غير ممتنع أن يكثر استعماله في العرف فيلحق بحكم الحقائق. وإنما قلنا ذلك، من حيث كان إجراء هذه الاسماء على فوائدها في الاصل ليس بواجب، وإنما هو بحسب الاختيار، وإذا صح في أصل اللغة التغيير والتبديل، فكذلك في فرعها، والمنع من جواز ذلك متعذر. وإذا كان جائزا، فأقوى ما ذكر في وقوعه وحصوله أن قولنا: غائط، كان في الاصل اسم للمكان المطمئن من الارض ثم غلب عليه الاستعمال العرفي، فانتقل إلى الكناية عن قضاء الحاجة والحدث المخصوص، ولهذا لا يفهم من إطلاق هذه اللفظة في العرف إلا ما ذكرناه، دون ما كانت


[ 13 ]

عليه في الاصل. وأما إستشهادهم على ذلك بالصلوة والصيام، وأن المفهوم في الاصل من لفظة الصلوة الدعاء، ثم صار بعرف الشرع المعروف سواه، وفى الصيام الامساك، ثم صار في الشرع لما كان يخالفه، فإنه يضعف، من حيث أمكن أن يقال إن ذلك ليس بنقل، وإنما هو تخصيص، وهذا غير ممكن في لفظة الغائط. وأقوى ما يعرف به كون اللفظ حقيقة هو نص أهل اللغة، وتوقيفهم على ذلك، أو يكون معلوما من حالهم ضرورة. ويتلوه في القوة أن يستعملوا اللفظ في بعض الفوائد، ولا يدلونا على أنهم متجوزون بها مستعيرون لها، فيعلم أنها حقيقة، ولهذا نقول: إن ظاهر استعمال اهل اللغة اللفظة في شئ دلالة على انها حقيقة فيه الا ان ينقلنا ناقل عن هذا الظاهر. وقد قيل فيما يعرف به الحقيقة أشياء غيرها عليها إذا تأملتها


[ 14 ]

حق التأمل طعن، وفيها قدح. وما ذكرناه أبعد من الشبهة. ويمضى في الكتب كثيرا أن المجاز لا يجوز استعماله إلا في الموضع الذى إستعمله فيه أهل اللغة من غير تعد له. ولا بد من تحقيق هذا الموضع فإنه تلبيس. والذى يجب، أن يكون المجاز مستعملا فيما استعمله فيه أهل اللغة أو في نوعه وقبيله. ألا ترى أنهم لما حذفوا المضاف، وأقاموا المضاف إليه مقامه في قوله تعالى: واسأل القرية التى كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، أشعرونا بأن حذف المضاف توسعا جائز، فساغ لنا أن نقول * سل المنازل التى نزلناها، والخيل التى ركبناها، على هذه الطريقة في الحذف. ولما وصفوا البليد بأنه حمار تشبيها له به في البلادة، والجواد بالبحر تشبيها له به في كثرة عطائه، جاز أن نصف البليد بغير ذلك من الاوصاف المنبئة عن عدم الفطنة، فنقول: إنه صخرة، وإنه جماد، وما أشبه ذلك. ولما أجروا على الشئ


[ 15 ]

اسم ما قارنه في بعض المواضع، فقلنا مثل ذلك للمقارنة في موضع آخر. ألا ترى أنهم قالوا سل القرية في قرية معينة، وتعديناها إلى غيرها بلا شبهة للمشاركة في المعنى. وكذلك في النوع والقبيل. وليس هذا هو القياس في اللغة المطرح، كما لم يكن ذلك قياسا في تعدى العين الواحدة في القرية. وبعد فإنا نعلم أن ضروب المجازات الموجودات الآن في اللغة لم يستعملها القوم ضربة واحدة في حال واحدة، بل في زمان بعد زمان، ولم يخرج من استعمل ذلك ما لم يكن بعينه، مستعملا عن قانون اللغة، فكذلك ما ذكرناه. واعلم أن الخطاب إذا انقسم إلى لغوى، وعرفي، وشرعي، وجب بيان مراتبه وكيفية تقديم بعضه على بعض، حتى يعتمد ذلك فيما يرد منه تعالى – من الخطاب. وجملة القول فيه أنه إذا ورد منه تعالى خطاب، وليس فيه عرف، ولا شرع، وجب حمله على وضع اللغة. لانه الاصل.


[ 16 ]

فإن كان فيه وضع، وعرف، وجب حمله على العرف دون أصل الوضع لان العرف طار على أصل الوضع، وكالناسخ له والمؤثر فيه. فإذا كان هناك وضع، وعرف، وشرع، وجب حمل الخطاب على الشرع دون الامرين المذكورين. للعلة التى ذكرناها. ولان الاسماء الشرعية صادرة عنه – تعالى -، فتجرى مجرى الاحكام في أنه لا يتعدى عنها. واعلم أن الناس قد طولوا في أقسام الكلام، وأورد بعضهم في أصول الفقه ما لا حاجة إليه. وأحصر ما قسم الكلام المفيد إليه، أنه إما أن يكون خبرا أو ما معناه معنى الخبر. وعند التأمل يعلم دخول جميع أقسام الكلام تحت ما ذكرناه. لان الامر من حيث دل على أن الآمر مريد للمأمور به، كان في معنى الخبر. والنهى إنما كان نهيا لان الناهي كاره لما نهى عنه، فمعناه معنى الخبر. ولان المخاطب غيره إما أن يعرفه حال نفسه، أو حال غيره، وتعريفه حال غيره يكون بالخبر دون الامر، وتعريفه حال نفسه يكون بالامر والنهى، وإن جاز أن يكون بالخبر.


[ 17 ]

واعلم أن المفيد من الاسماء إما أن يختص بعين واحدة ولا يتعداها، أو يكون مفيدا لما زاد عليها. فمثال الاول قولنا: إلة وقديم وما جرى مجرى ذلك مما يختص به القديم تعالى ولا يشاركه فيه غيره. فأما ما يفيد أشياء كثيرة فينقسم إلى قسمين: إما أن يفيد في الجميع فائدة واحدة، أو أن يفيد فوائد مختلفة، فمثال الاول قولنا: لون، و إنسان. ومثال الثاني قولنا: قرء، وعين، وجارية. ومن خالف في جواز وقوع الاسم على مختلفين أو على ضدين، لا يتلفت إلى خلافه، لخروجه عن الظاهر من مذهب أهل اللغة. واعلم أنه غير ممتنع أن يراد باللفظة الواحدة في الحال الواحدة من المعبر الواحد المعنيان المختلفان. وأن يراد بها أيضا الحقيقة والمجاز. بخلاف ما حكى عمن خالف في ذلك من أبى هاشم وغيره. والذى يدل على صحة ما ذكرناه أن ذلك لو كان ممتنعا لم يخل إمتناعه من أن يكون


[ 18 ]

لامر يرجع إلى المعبر، أو لما يعود إلى العبارة، وما يستحيل لامر يرجع إلى المعبر، تجب استحالته مع فقد العبارة، كما أن ما صح لامر يعود إليه، تجب صحته مع إرتفاع العبارة، وقد علمنا أنه يصح من أحدنا أن يقول لغيره لا تنكح ما نكح أبوك، ويريد به لا تعقد على من عقد عليه ولا من وطئه. ويقول أيضا لغيره إن لمست أمرأتك فأعد الطهارة، ويريد به الجماع واللمس باليد. وإن كنت محدثا فتوضأ، ويريد جميع الاحداث. وإذا جاز أن يريد الضدين في الحالة الواحدة، فأجوز منه أن يريد المختلفين. فأما العبارة فلا مانع من جهتها يقتضى تعذر ذلك، لان المعنيين المختلفين قد جعلت هذه العبارة في وضع اللغة عبارة عنهما، فلا مانع من أن يرادا بها. و كذلك إذا استعملت هذه اللفظة في أحدهما مجازا شرعا أو عرفا، فغير ممتنع أن يراد بالعبارة الواحدة، لانه لا تنافي ولا تمانع.


[ 19 ]

وإنما لا يجوز أن يريد باللفظة الواحدة الامر والنهى، لتنافى موجبيهما، لان الامر يقتضى إرادة المأمور به، والنهى يقتضى كراهة المنهى عنه، ويستحيل أن يكون مريدا كارها للشئ الواحد على الوجه الواحد. وكذلك لا يجوز أن يريد باللفظة الواحدة الاقتصار على الشئ وتعديه، لان ذلك يقتضى أن يكون مريدا للشئ وأن لا يريده. وقولهم لا يجوز أن يريد باللفظة الواحدة * إستعمالها فيما وضعت له والعدول بها عما وضعف له، ليس بصحيح، لان المتكلم بالحقيقة والمجاز ليس يجب أن يكون قاصدا إلى ما وضعوه وإلى ما لم يضعوه، بل يكفى في كونه متكلما بالحقيقة، أن يستعملها فيما وضعت له في اللغة، وهذا القدر كاف في كونه متكلما باللغة، من غير حاجة إلى قصد إستعمالها فيما وضعوه. وهذه الجملة كافية في إسقاط الشبهة. واعلم أن الغرض في أصول الفقه التي بينا أن مدارها إنما هو على الخطاب وقد ذكرنا مهم أقسامه، وما لا بد منه من أحواله. لما كان لا بد فيه من العلم بأحكام الافعال، ليفعل ما يجب فعله، ويجتنب


[ 20 ]

ما يجب اجتنابه، وجب أن نشير إلى العلم ما هو، وما يشتبه به من الظن، وما يقتضى كل واحد منهما من دلالة أو أمارة بأخصر قول، فإن الجمل المعقولة في هذه المواضع كافية. فأما الافعال وأحكامها ومراتبها، فسيجئ القول فيه من هذا الكتاب عند الكلام على أفعال النبي ص ع – وكيفية دلالتها بإذن الله – تعالى – ومشيته. واعلم أن العلم ما اقتضى سكون النفس. وهذه حالة معقولة يجدها الانسان من نفسه عند المشاهدات، ويفرق فيها بين خبر النبي – ص – بأن زيدا في الدار وخبر غيره. غير أن ما هذه حاله، لا بد من كونه إعتقادا يتعلق بالشئ على ما هو به. وإن لم يجز إدخال ذلك في حد العلم، لان الحد يجب أن يميز المحدود، ولا يجب أن يذكر في جملة ما يشاركه فيه ما خالفه. ولئن جاز لنا أن


[ 21 ]

نقول في حد العلم: إنه 1 اعتقاد للشئ على ما هو به مع سكون النفس. ونعتذر، بأنا أبناه، بقولنا اعتقاد، من سائر الاجناس. وبتناوله المعتقد على ما هو به، من الجهل. وبسكون النفس، من التقليد. فألا جاز أن نقول في حده عرض، لبينه عن الجوهر. ويوجب حالا للحي، لبينه مما يوجب حالا للمحل. ويحل القلب ولا يوجد إلا فيه، لبينه مما يحل الجوارح. والعلم ينقسم إلى قسمين. أحدهما: لا يتمكن العالم به من نفيه عن نفسه بشبهة إن إنفرد، وإن شئت قلت لامر يرجع إليه، وإن شئت قلت على حال من الحالات. والقسم الآخر: يتمكن من نفيه عن نفسه على بعض الوجوه. والقسم الاول على ضربين. احدهما: مقطوع على أنه علم ضروري ومن فعل الله تعالى فينا، كالعلم بالمشاهدات وكل ما يكمل به العقل من العلوم. والقسم الثاني:


[ 22 ]

مشكوك فيه ويجوز أن يكون ضروريا ومن فعل الله فينا، كما يجوز أن يكون من فعلنا، كالعلم بمخبر الاخبار عن البلدان والحوادث الكبار. وهذا مما يستقصى في الكلام على الاخبار من هذا الكتاب بعون الله ومشيته. وإنما شرطنا ما ذكرناه من الشروط، إحترازا من العلم المكتسب إذا قارنه علم ضروري، ومتعلقهما واحد. وأما العلم الذى يمكن نفيه عن العالم على الشروط الذى ذكرناها، فهو مكتسب، ومن شأنه أن يكون من فعلنا، لا من فعل غيرنا فينا. وما بعد هذا من أقسام العلوم الضرورية، وما يتفرع عليه، غير محتاج إليه في هذا الكتاب. والنظر في الدلالة على الوجه الذى يدل عليه، يجب عنده العلم و يحصل لا محالة. وهذا القدر كاف لمن ينظر في أصول الفقه، ولا حاجة به ماسة لا يتم ما قصده من أصول الفقه إلا بها، إلى أن يحقق كيفية كون النظر سببا للعلم وشروط توليده.


[ 23 ]

وأما الظن فهو ما يقوى كون ما ظنه على ما يتناوله الظن، وإن جوز خلافه. فالذي يبين به الظن التقوية والترجيح. ولا معنى لتحقيق كون الظن من غير قبيل الاعتقاد هيهنا، وإن كان ذلك هو الصحيح، لانه لا حاجة تمس إلى ذلك. وما يحصل عنده الظن، يسمى أمارة. ويمضى في الكتب كثيرا، أن حصول الظن عند النظر في الامارة ليس بموجب عن النظر، كما نقوله في العلم الحاصل عند النظر في الدلالة، بل يختاره الناظر في الامارة لا محالة لقوة الداعي. وليس ذلك بواضح، لانهم إنما يعتمدون في ذلك على اختلاف الظنون من العقلاء والامارة واحدة، وهذا يبطل باختلاف العقلاء في الاعتقادات والدلالة واحدة. فإن ذكروا إختلال الشروط وأن عند تكاملها يجب العلم، أمكن أن يقال مثل ذلك بعينه في النظر في


[ 24 ]

الامارة. وتحقيق ذلك أيضا مما لا يحتاج إليه هيهنا لان الاغراض في أصول الفقه تتم بدونه. وإن قيل ما دليلكم على أن تكليفكم في أصول الفقه إنما هو العلم دون العمل التابع للظن وإذا كنتم تجوزون أن تكليفكم الشرايع تكليف يتبع الظن الراجح إلى الامارة فألا كان التكليف في أصول الفقه كذلك. قلنا ليس كل أصول الفقه يجوز فيه أن يكون الحق في جهتين مختلفتين لان القول بأن المؤثر في كون الامر أمرا إنما هو إرادة المأمور به وأنه لا تعلق لذلك بصفات الفعل في نفسه وأنه – تعالى لا يجوز أن يريد الا ما له صفة زائدة على حسنه ولا ينسخ الشئ قبل وقت فعله وما أشبه ذلك وهو الغالب والاكثر فلا يجوز أن يكون الحق فيه إلا واحدا كمالا يجوز في أصول الديانات * أن يكون الحق إلا في واحد.


[ 25 ]

اللهم إلا أن يقول جوزوا أن يكلف الله تعالى من ظن بأمارة مخصوصة تظهر له أن الفعل واجب، أن يفعله على وجه الوجوب، و من ظن بأمارة أخرى أنه ندب، أن يفعله على هذا الوجه، وكذلك القول في الخصوص والعموم، وسائر المسائل، لان العمل فيها على هذا الوجه هو المقصود دون العلم، واختلاف أحوال المكلفين فيه جائز، كما جاز في فروع الشريعة. فإذا سئلنا على هذا الوجه، فالجواب أن ذلك كان جائزا، لكنا قد علمنا الآن خلافه، لان الادلة الموجبة للعلم قد دلت على أحكام هذه الاصول، كما دلت على أصول الديانات، وما إليه طريق علم لا حكم للظن فيه، وإنما يكون للظن حكم فيما لا طريق إلى العلم به، ألا ترى أننا لو تمكنا من العلم بصدق الشهود، لما جاز أن نعمل في صدقهم على الظن، وكذلك في أصول العقليات.


[ 26 ]

لو أمكن أن نعلم أن في الطريق سبعا، لما علمنا على قول من نظن صدقه من المخبرين عن ذلك، وإذا ثبتت هذه الجملة، وعلمنا أن على هذه الاصول أدلة، يوجب النظر فيها العلم، لم يجز أن نعمل فيما يتعلق بها على الظن والامارات، ومعنا علم وأدلة. وأيضا فلو كانت العبادة وردت بالعمل فيها على الظنون، لوجب ان يكون على ذلك دليل مقطوع به، كما نقول لمن ادعى مثل ذلك في الاحكام الشرعية، وفى فقد دلالة على ذلك صحة ما قلناه. وأيضا فليس يمكن أن يدعى أن المختلفين يعذر بعضهم بعضها في الخلاف الجارى في هذه الاصول، ويصوبه، ولا يحكم بتخطئته، كما أمكن أن يدعى ذلك في المسائل الشرعية، فإن من نفى القياس في الشريعة، لا يعذر مثبتيه، ولا يصوبه، ومن أثبته، لا يعذر نافيه، و لا يصوبه، وكذلك القول في الاجماع وأكثر مسائل الاصول.


[ 27 ]

باب القول في الامر وأحكامه وأقسامه. فصل في ما الامر اختلف الناس في هذه اللفظة، فذهب قوم إلى أنها مختصة بالقول، دون الفعل، ومتى عبر بها عن الفعل كانت مجازا. وقال آخرون هي مشتركة بين القول والفعل، وحقيقة فيهما معا. والذى يدل على صحة ذلك، أنه لا خلاف في استعمال لفظة الامر في اللغة العربية تارة في القول وأخرى في الفعل، لانهم يقولون: أمر فلان مستقيم وإنما يريدون طرائقه أفعاله، دون أقواله، ويقولون: هذا أمر عظيم، كما يقولون: هذا خطب عظيم، ورأيت من فلان أمرا أهالني، أو أعجبني، ويريدون بذلك الافعال لا محالة، ومن أمثال العرب في خبر الزبا: لامر ما جدع قصير أنفه وقال الشاعر: لامر ما يسود من يسود.


[ 28 ]

ومما يمكن أن يستشهد به على ذلك من القرآن قوله تعالى -: حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور، وإنما يريد الله تعالى بذلك الاهوال والعجائب، التى فعلها – جل إسمه، وخرق بها العادة، وقوله – تعالى -: أتعجبين من أمر الله، وأراد الفعل لا محالة. وإذا صحت هذا الجملة، وكان ظاهر استعمال أهل اللغة اللفظة في شيئين أو أشياء، يدل على أنها حقيقة فيهما، ومشتركة بينهما، إلا أن يقوم دليل قاهر يدل على أنه مجازفي أحدهما وقد بسطنا هذه الطريقة في مواضع كثيرة من كلامنا، وسيجئ مشروحة مستوفاة في مواضعها من كتابنا هذا – وجب القطع على إشتراك هذه اللفظة بين الامرين، و وجب على من ادعى أنها مجاز في أحدهما، الدليل. فإن قالوا: قد استعمل لفظ الخبر فيما ليس بخبر على الحقيقة، كما قال الشاعر: تخبرني العينان ما القلب كاتم. قلنا: قد بينا أن ظاهر الاستعمال يدل على الحقيقة، إلا أن يقوم دلالة، ولو خلينا وظاهر إستعمال لفظة الخبر في غير القول، لحكمنا فيه بالحقيقة، لكنا علمنا


[ 29 ]

ضرورة من مذاهب القوم أنهم لذلك مستعيرون ومتجوزون، فانتقلنا عما يوجبه ظاهر الاستعمال، وليس ذلك معنا في استعمالهم لفظة الامر في الفعل. وقد تعلق المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء: منها: أن الامر يشتق منه في اللغة العربية الوصف لفاعله بأنه آمر، وهذا لا يليق إلا بالقول دون الفعل، لانهم لا يسمون من فعل فعلا ليس بقول بأنه آمر. ومنها: أنه لو كان إسما للفعل في الحقيقة لاطرد في كل فعل حتى يسمى الاكل والشرب بأنه أمر، ألا ترى أن القول لما كان أمرا، اطرد في كل ما هو بصفته. ومنها: أن من شأن الامر أن يقتضى مأمورا ومأمورا به، كما يقتضى الضرب ذلك، ومعلوم أن ذلك لا يليق إلا بالقول دون الفعل. ومنها: ان الامر يدخل فيه الوصف بمطيع وعاص، وذلك لا يتأتى إلا في القول. ومنها: أن الامر نقيضه النهى، فإذا لم يدخل النهى إلا في الاقوال دون الافعال، فكذلك الامر.


[ 30 ]

ومنها: أن الامر يمنع من الخرس والسكوت، لانهم يستهجنون في الاخرس والساكت أن يقولوا وقع منه أمر، كما يستهجنون أن يقولوا وقع منه خبر، أو ضرب من ضروب الكلام. ومنها: أن لفظة الامر لو كانت مشتركة بين القول والفعل، لم تخل من أن يفيد فيهما فائدة واحدة، أو فائدتين مختلفتين، وفي تعذر الاشارة إلى فائدة تعمهما، أو فائدتين يخص * كل واحدة منهما، دلالة على فساد كون هذه اللفظة حقيقة في الامرين. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا من دلالة الاشتقاق: ما أنكرتم أن يكون الاشتقاق الذى أوجبه أهل اللغة لفاعل الامر إنما هو الذي هو قول دون ما ليس بقول من الافعال، ومعلوم ضرورة أنهم إنما اشتقوا آمرا من الامر الذي هو القول، فأى دلالة في ذلك على أن الفعل لا يسمى أمرا، ومن الذي يحفظ عن أهل اللغة القول بأن كل ما يوصف بأنه أمر على الحقيقة يوصف فاعله بأنه آمر، وإذا لم يكن هذا محفوظا عنهم، ولا منقولا، فلا دلالة فيما ذكروه. وهذه الطريقة


[ 31 ]

توجب عليهم أن تكون لفظة عين غير مشتركة، لان لقائل أن يقول إن هذه اللفظة إنما تجرى على ما يشتق منه أعين وعيناء، وهذا لا يليق بالجارحة، فيجب أن تكون مقصورة عليها. وبمثل ما يدفعون به هذا القول، يدفع قولهم. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: نحن نقول بما ظننتم أنا نمنع منه، ولانفرق بين وقوع هذا الاسم الذي هو الامر على الافعال كلها، على اختلافها وتغايرها، وإلا فضعوا أيديكم على أي فعل شئتم، فإنا نبين أن أهل اللغة لا يمتنعون من أن يسموه أمرا. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: إن اقتضاء الامر لمأمور ومأمور به إنما هو في الامر الذي هو القول دون الفعل، وإنما كان كذلك، لان الامر له تعلق بغير فاعله، والفعل لاتعلق له بغير فاعله، فلذلك احتاج الامر بمعنى القول من مأمور به ومأمور، إلى مالا يحتاج


[ 32 ]

إليه الفعل، وإن سمى أمرا، وأنتم لا يمكنكم أن تنقلوا عن أهل اللغة أن كل ما سمى أمرا – وإن لم يكن قولا – يقتضي مأمورا به ومأمورا. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: إن الوصف بالطاعة والمعصية أيضا لا يليق إلا بالامر الذي هو القول للعلة التي ذكرناها، وهو أن المطيع من فعل ما أمر به، والعاصي من خالف ما أمر به، والامر الذي هو الفعل لا يقتضي طاعة ولا معصية، لانه لا يتعلق بمطيع ولا عاص. على أن قولهم إن دخول الطاعة والمعصية علامة لكون الامر أمرا، ينتقض بقول القائل لغلامه: أريد أن تسقيني الماء، ونحن نعلم أنه إذا لم يفعل يوصف بأنه عاص، وإذا فعل يوصف بأنه مطيع، وقد علمنا أن قوله: أريد أن تفعل، ليس بأمر، لفقد صيغة الامر فيه، فبطل أن تكون الطاعة أو المعصية موقوفة على الامر. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: إن النهى نقيض الامر الذي هو القول، دون الفعل، فمن أين لكم أن النهي نقيض كل ما


[ 33 ]

سمي أمرا، وإن لم يكن قولا. والذين قالوا لنا من أهل اللغة: إن النهى نقيض الامر، هم الذين قالوا لنا: إن الفصل يسمى بأنه أمر وجرى ذلك في كلامهم وأشعارهم. ويقال لهم فيما تعلقوا به سادسا: إن الخرس والسكوت يمنعان من الامر الذي هو القول، ولا يمنعان من الامر الذي هو الفعل، يدل على هذا أنا نقول في الاخرس: إن أمره مستقيم أو غير مستقيم، ورأيت منه أمرا جميلا أو قبيحا، وكذلك في الساكت. ويوضح ما ذكرناه أنه لو كان الاخرس لا يقع منه ما يسمى منه أمرا من الافعال، – كما لا يكون آمرا لوجب أن يستقبحوا وصف فعله بأنه أمر، كما استقبحوا وصفه بأنه آمر. فقد علمنا الفرق بين الامرين ضرورة. ولمن خالف في إشتراك لفظة عين أن يطعن بمثل ما ذكروه، فيقول: إن هذه اللفظة تجري على ما يؤثر فيه العمى والافة، وهذا لا يليق إلا بالجارحة،


[ 34 ]

فيجب أن تكون مختصة بها. ولا جواب عن هذا الطعن إلا ما قدمناه من الجواب عن طعنهم. ويقال لهم فيما تعلقوا به سابعا: إنا لا ندعي أن الفائدة واحدة، فيما سمي أمرا من القول، وسمي أمرا من الفعل، بل ندعي إختلافهما، ويجري وقوع هذه التسمية على المختلف، مجرى وقوع قولهم عين على أشياء مختلفة لا تفيد في كل واحد منها فائدتها في الآخر، لان العين التي هي الجارحة لا تشارك العين التي هي الذهب أو عين الماء في فائدة واحدة، بل الفوائد مختلفة، وكذلك لفظة أمر تفيد تارة القول الذي له الصيغة المعينة، وتارة الفعل، وهما فائدتان مختلفتان. ولهذا نقول: إن هذه اللفظة تقع على كل فعل، ولا تقع إذا استعملت في القول على كل قول، حتى يكون بصيغة مخصوصة.


[ 35 ]

فصل: في وجوب اعتبار الرتبة في الامر اعلم أنه لا شبهة في إعتبارها، لانهم يستقبحون قول القائل أمرت الامير، أو نهيته، ولا يستقبحون ان يقولوا أخبرته، أو سألته، فدل على أنها معتبرة، ويجب أن لا تطلق إلا إذا كان الآمر أعلى رتبة من المأمور. فأما إذا كان دون رتبته، أو كان مساويا له، فإنه لا يقال أمره. والنهي جار * مجرى الامر في هذه القضية. وما له معنى الامر وصيغته من الشفاعة تعتبر أيضا فيه الرتبة، لانهم يقولون شفع الحارس إلى الامير، ولا يقولون شفع الامير إلى الحارس، فالشفاعة إنما يعتبر فيها الرتبة بين الشافع والمشفوع إليه، كما أن الامر إنما تعتبر الرتبة فيه بين الآمر والمأمور. ولا إعتبار بالرتبة في المشفوع فيه، على ما ظنه من خالفنا في الوعيد، لان الكلام على ضربين، ضرب لا تعتبر فيه الرتبة، وضرب تعتبر فيه، فما اعتبرت


[ 36 ]

فيه الرتبة، إنما اعتبرت بين المخاطب والمخاطب، دون من يتعلق به الخطاب، ولذلك جاز أن يكون أحدنا شافعا لنفسه، وفي حاجة نفسه، ولو اعتبرت الرتبة في المشفوع فيه، لما جاز ذلك، كما لا يجوز أن يكون آمرا نفسه وناهيها. وقد تعلق من خالفنا بأشياء: أولها أنهم حملوا الامر على الخبر في إسقاط الرتبة. وثانيهما وقوله – تعالى -: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) والطاعة تعتبر فيها الرتبة كالامر. وثالثها قول الشاعر: (رب من أنضجت غيظا قلبه، قد تمنى لي موتا لم يطع) والموت من فعل الله – تعالى -، والطاعة لا تجوز عليه – تعالى – عند من اعتبر الرتبة. فيقال لهم في الاول: لو كان الامر كالخبر في سقوط اعتبار الرتبة، جاز أن يقال أمرت الامير، كما يقال أخبرت الامير، فلما لم يجز ذلك، بان الفرق.


[ 37 ]

والجواب عن الثاني أنه استعار للاجابة لفظة الطاعة بدلالة أن أحدا لا يقول إن الله أطاعنى في كذا، إذا أجابه إليه. وأيضا فظاهر القول يقتضي أنه ما للظالمين من شفيع يطاع وليس يعقل من ذلك نفي شفيع يجاب، فإذا قيل: فكل شفيع لا يطاع على مذهبكم، كان في ظالم أو في غيره، لان الشفيع يدل على انخفاض منزلته عن منزلة المشفوع إليه، و الطاعة تقتضي عكس ذلك: قلنا: القول بدليل الخطاب باطل، و غير ممتنع أن يخص الظالمون بأنهم لا شفيع لهم يطاع،، وإن كان غيرهم بهذه المنزلة. وأيضا فيمكن أن يكون المراد بيطاع غير الله – تعالى – من الزبانية والخزنة، والطاعة من هؤلاء لمن هو أعلى منزلة منهم، من الانبياء – عليهم السلام – والمؤمنين صحيحة واقعة في موقعها.


[ 38 ]

والجواب عن الثالث أن الشاعر تجوز، واستعمل لفظة يطع في موضع يجب، وهذه عادة الشعراء. وأيضا فيمكن أن يكون إنما تمنى في عدوه أن يقتله بعض البشر، – فقد يسمى القتل موتا، والموت قتلا، للتقارب بينهما – فلم يطعه ذلك القاتل، ولم يبلغه أمنيته. والشبهة في مثل هذه المسألة ضعيفة. فصل في صيغة الامر اختلف الناس في صيغة الامر، فذهب الفقهاء كلهم وأكثر المتكلمين إلى أن للامر صيغة مفردة مختصة به، متى أستعملت في غيره كانت مجازا، وهي قول القائل لمن دونه في الرتبة افعل. وذهب آخرون إلى أن هذه اللفظة مشتركة بين الامر وبين الاباحة، و هي حقيقة فيهما، ومع الاطلاق لا يفهم أحدهما، إنما يفهم واحد دون صاحبه بدليل، وهو الصحيح.


[ 39 ]

والذي يدل عليه أن هذه اللفظة مستعملة بلا خلاف في الامر و الاباحة في التخاطب والقرآن والشعر، قال الله – تعالى -: (أقيموا الصلوة) وهو آمر، وقال – تعالى -: (وإذا حللتم فاصطادوا) وهو مبيح، وكذلك قوله – تعالى -: (فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الارض) والانتشار مباح وغير مأمور به، وظاهر الاستعمال يدل على الحقيقة، إلا أن تمنع دلالة. وما نريهم يفزعون إذا أرادوا أن يبيحوا إلا إلى هذه اللفظة، كما يفزعون إليها في الامر. ولا يعترض على هذا بقولهم: أبحت، لان ذلك خبر محض. وهو جار مجرى أمرت في أنه خبر، وإذا أرادوا أن يبيحوا بغير لفظة الخبر، فلا مندوحة لهم عن هذه اللفظة، كما لا مندوحة * لهم في الامر. وأما ما تعلق المخالف في اختصاص هذه الصيغة بالامر، بان معنى الامر – وهو الطلب – يهجس في النفس، وتدعوا الحاجة إليه، فلا بد من أن يضعوا له لفظا تتم به أغراضهم. وإذا وجب ذلك،


[ 40 ]

فلا لفظ إلا هذه الصيغة المخصوصة. فإنه يبطل بالاباحة، لان هذا المعنى موجود فيها، وما وضعوا عندهم لها لفظا مخصوصا. على أن أكثر ما في اعتلالهم أن يضعوا له لفظا، فمن أين لهم أنه لا بد من أن يكون خاصا غير مشترك. وأما تعلقهم بما سطره أهل العربية في كتبهم من قولهم: باب الامر، وأنهم لا يذكرون شيئا سوى هذه اللفظة المخصوصة، فدل على أنها مخصوصة غير مشتركة. فباطل أيضا، لان أهل العربية أكثر ما قالوا هو أن الامر قول القائل: افعل، وأن هذه الصيغة صيغة الامر، ولم يذكروا اختصاصا ولا اشتراكا، فظاهر قولهم لا ينافي مذهبنا، لاننا نذهب إلى أن هذه صيغة الامر وأن الآمر إذا أراد أن يأمر فلا مندوحة له عنها، لكنها مع ذلك صيغة للاباحة. وبعد، فإن أهل اللغة كما نصوا في الامر على لفظة افعل، فقد نصوا في الاباحة على هذه اللفظة، فلا يبيحون إلا بها. فإن كان ما


[ 41 ]

ادعوه دليل الاختصاص بالامر، فهو بعينه دليل الاختصاص بالاباحة، والصحيح نفي الاختصاص وثبوت الاشتراك. فصل فيما به صار الامر أمرا اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أن الامر إنما كان أمرا بجنسه ونفسه. وقال آخرون إنما كان كذلك بصورته و صيغته. وقال أخرون إنما كان كذلك لان الآمر أراد كونه أمرا، وأجروه في هذه القضية مجرى الخبر. وقال آخرون إنما كان الامر أمرا، لان الآمر أراد الفعل المأمور به، وهو الصحيح. والذي يدل عليه أن الامر إذا ثبت أنه قد يكون من جنس ما ليس بأمر، وأن الامر بعينه يجوز أن يقع غير أمر، فلا بد والحال هذه من أمر يقتضي كونه أمرا. وإذا بينا أنه لا مقتضي لذلك سوى


[ 42 ]

كون فاعله مريدا للمأمور به، تم ما أردناه. والذي يدل على أن الجنس واحد التباسهما على الادراك، كالتباس السوادين، فكما نقضي بتماثل السوادين، كذلك يجب أن نقضي بتماثل ما جرى مجراهما. وإنما قلنا: إنهما يشتبهان على الادراك، لان من سمع قائلا يقول: قم، وهو آمر، لا يفصل بين قوله هذا، وبين نطقه بهذه اللفظة مبيحا، أو متحديا، أو ساهيا، أو حاكيا عن غيره. ولقوة هذا الالتباس كان من يجوز على الكلام الاعادة، يجوز أن يكون ما سمعه ثانيا هو ما سمعه أولا، وكذلك من اعتقد بقاء الكلام. وأما الذي يدل على أن نفس ما يقع فيكون أمرا، كان يجوز أن يقع غير أمر، فوجوه: منها أن الالفاظ العربية إنما تفيد بالتواضع من أهل اللغة، و


[ 43 ]

تواضعهم يتبع اختيارهم، وليس هناك وجوب، وقد كان يجوز أن لا يتواضعوا في هذا اللفظ المخصوص أنه للامر، ولو كان كذلك، لكانت هذه الحروف بعينها توجد، ولا تكون أمرا. ومنها أنه لو كان الامر يتعلق بالمأمور من غير قصد المخاطب به، لم يمتنع أن يقول أحدنا لغيره: افعل، ويريد منه الفعل، ولا يكون قوله أمرا، أو لا يريد منه الفعل، فيكون قوله أمرا، وقد علمنا خلاف ذلك. ومنها أن لفظ الامر لو كان مغايرا للفظ ما ليس بأمر، لوجب أن يكون للقادر سبيل إلى التمييز بين ما يوجد فيكون أمرا، وبين ما يوجد فيكون تهديدا، أو إباحة، وفي علمنا بفقد طريق التمييز دليل على أن اللفظ واحد. ومنها ان هذا القول يقتضي صحة أن نعلم أن أحدنا أمر وإن لم نعلمه مريدا، إذا كان القصد لا تأثير له، ولا خلاف في أن أحدنا إذا كان آمرا، فلا بد من كونه مريدا لما أمر به. وإنما الخلاف


[ 44 ]

بيننا وبين المجبرة في الله تعالى. ومنها أن هذا القول يقتضي انحصار عدد من نقدر أن نأمره في كل حال حتى يكون القوي بخلاف الضعيف، وإنما اوجبنا ذلك، لان القدرة الواحدة لا تتعلق في الوقت الواحد في المحل الواحد من الجنس الواحد بأكثر من جزء واحد، وحروف قول القائل قم مماثلة لكل ما هذه صورته من الكلام، فيجب أن يكون أحدنا قادرا من عدد هذه الحروف في كل وقت على قدر ما في لسانه من القدرة، وهذا يقتضي إنحصار عدد من يصح أن نأمره، ومعلوم خلاف ذلك. وليس لاحد أن يقول: إذا جاز أن يفعل أحدنا بالقدرة الواحدة في كل محل كونا في جهة بعينها، ولم يجب أن يقدر على كون واحد يصح وجوده في المحال على البدل بالارادة، فألا جاز مثله في الالفاظ. وذلك أن القدرة الواحدة لا ينحصر متعلقها في المتماثل إذا إختلفت * المحال، كما لا ينحصر متعلقها في المختلف والوقت والمحل


[ 45 ]

واحد، وليس كذلك ما يتعلق به من المتماثل في المحل الواحد والوقت واحد، لانها لا تتعلق على هذه الشروط بأكثر من جزء واحد. وليس له أن يدعي أن محال الحروف المتماثلة متغايرة كما قلناه في الاكوان. وذلك أن من المعلوم أن مخرج الزاء مثلا كله مخرج واحد، و كذلك مخارج كل حرف، ولهذا متى لحقت بعض محال هذه الحروف آفة، أثر ذلك في كل حروف ذلك المخرج. فإذا صح ما ذكرناه من أن نفس ما وقع أمرا قد كان يجوز أن يكون غير أمر، فلا بد مع وقوعه أمرا من وجه له اختص بذلك. ولا يخلو ذلك الامر من أن يكون ما يرجع إليه ويتعلق به، أو ما يرجع إلى فاعله، والذي يمرجع إليه، لا يخلو من أن يكون جنسه، أو وجوده، أو حدوثه، أو حدوثه على وجه، أو عدمه، أو عدم معنى أو وجود معنى. فإن كان المؤثر حالا يرجع إلى فاعله، لم يخل من أن يكون


[ 46 ]

ذلك كونه قادرا، أو عالما، أو مدركا أو مشتهيا، أو مريدا، لان ما عدا ما ذكرناه، من كونه موجودا، أو حيا، لا تعلق له بغيره، ونحن نبطل من الاقسام ما عدا ما ذهبنا إليه منها. ومعلوم أن ما معه يكون الكلام تارة أمرا، وأخرى غير أمر، لا يجوز أن يكون مؤثرا في كونه أمرا، فسقط بذلك أن يكون أمرا لوجوده، وحدوثه، وجنسه، وصفته، لان كل ذلك يوجد، و لا يكون أمرا. ومما يفسد أن يكون أمرا لجنسه أيضا، أن صفة النفس ترجع إلى الآحاد دون الجمل، فكان يجب في كل جزء من الامر أن يكون أمرا. ولانه كان يجب أن يتناوله الادراك على هذه الصفة، فيعرف بالسمع كونه أمرا من لا يعرف اللغة. ولان صفات النفس تحصل في حال العدم والوجود، فكان يجب أن يكون في حال العدم أمرا. وليس يجوز أن يكون أمرا لحدوثه على وجه، ويراد بذلك ترتيب صيغته، لانا قد بينا أن نفس هذه الصيغة قد تستعمل في غير الامر. و


[ 47 ]

إن أرادوا غير ما ذكرناه، فلا وجه يشار إليه إلا وقد تحدث عليه ولا يكون أمرا، حتى يكون فاعله مريدا. ولا يصح أن يكون كذلك لعدمه، لان عدمه يحيل هذه الصفة، وما أحال الصفة لا يكون علة فيها. ولا يجوز أن يكون كذلك لعدم معنى، لان ذلك لا اختصاص له به دون غيره. ولا يجوز أن يكون كذلك لوجود معنى، لان كل معنى يشار إليه دون إلارادة قد يوجد ولا يكون أمرا. على أن المعنى لا بد من اختصاصه به حتى يوجب الحكم له، فلا يخلو من أن يختصه بالحلول فيه، أو في محله، والامر لا يصح أن يكون محلا لغيره، وما يحل محله ليس بأن يوجب كونه أمرا بأولى من أن يوجب كون غيره أمرا مما يحل ذلك المحل، لان الصدى قد يحله في حال واحدة الكلامان من زيد وعمرو، فيكون أحدهما أمرا والآخر غير أمر.


[ 48 ]

وأما كون فاعله قادرا فلا يجوز أن يكون المؤثر في كونه أمرا، لان تعلق هذه الصفة به وهو آمر كتعلقها به وهو غير آمر. ولان كونه قادرا لا يؤثر إلا في الايجاد، وكونه أمرا حكم زائد على الوجود. وأما كونه عالما فلا يخلو من أن يراد به كونه عالما بذات الآمر، أو بالمأمور به، أو يراد بذلك كونه عالما بأن الكلام أمرا، والوجهان الاولان يفسدان بأنه قد يكون عالما بذات الآمر وبالمأمور به ولا يكون كلامه أمرا، والوجه الثالث يفسد بأن، كلامنا إنما هو فيما به صار أمرا، فيجب أن يذكر الوجه فيه، ثم يعلق العلم به، لان العلم لا يؤثر في المعلوم، وإنما يتعلق به على ما هو به من غير أن يصير لاجله على صفة، بل لو قيل: إن العلم إنما كان علما لاجل أن المعلوم على ما هو به، كان أقرب من القول بأن المعلوم على ما هو به بالعلم، ألا ترى أن العلم كالتابع للمعلوم، من حيث يتعلق به على ما هو عليه. ويجري هذا القائل مجرى من قال: إن الجسم إنما صار متحركا بعلم العالم بأنه يتحرك. وبعد


[ 49 ]

فهذا يؤدي إلى أن يكون علمنا بصفات القديم – تعالى – وصفات الاجناس هو المؤثر في كونه – تعالى – على صفاته، وكون الاجناس على ما هي عليه، وبطلان ذلك ظاهر. والذي يفسد أن يكون المؤثر في الامر كون فاعله مدركا أو مشتهيا أو نافرا أنه قد يكون كذلك، ويكون كلامه تارة أمرا وأخرى غير أمر. فلم يبق بعدما أفسدناه إلا أن يكون المؤثر هو كون فاعله مريدا. وإذا كان المؤثر هو كون فاعله مريدا، فلا يخلو من أن يكون الموثر كونه مريدا للمأمور به، أو كونه مريدا لكونه أمرا، والاول هو الصحيح. والذي يبطل الثاني * أنه يقتضي أن يكوأمرا بما لا يريده، أو بما يكرهه غاية الكراهية، وقد علمنا تعذر ذلك، وأنه محال ان يأمر أحدنا بما يكرهه. ومما يدل على ما ذكرناه أنه لا يصح أن يأمر الآمر إلا بما يصح أن يريده، ألا ترى أنه لا يصح أن يأمر بالماضي ولا بالقديم لما لم يصح أن يراد، فلولا أن الارادة المؤثرة في كونه أمرا هي المتعلقة بحدوث


[ 50 ]

المراد، لم يجب ذلك، ألا ترى أن الخبر لما احتاج إلى إرادة تتناول كونه خبرا، ولا تتناول المخبر عنه، جاز أن يخبر عن القديم والماضي، فدل هذا الاعتبار على مفارقة الامر للخبر فيما يتناوله الارادة. فأما الكلام فيما وضع له الامر ليفيده، فهو أنه وضع ليفيد أن الآمر مريد للمأمور به. ولهذا نقول: إن الامر – من حيث كان أمرا لا يدل إلا على حال الآمر، ولا يدل على حال المأمور به، لانه قد يأمر بالحسن، والقبيح، والواجب، وما ليس بواجب، فإذا كان الآمر حكيما لا يجوز أن يريد القبيح، ولا المباح، علمنا أنه لم يأمر إلا بما له صفة زائدة على حسنه من واجب أو ندب. والذي يدل على ما ذكرناه أنه لا فرق عند أهل اللغة بين قول القائل لغيره: أريد منك أن تفعل وبين قوله: افعل. وأيضا فإن الظاهر من أهل اللغة أنهم يجعلون قول القائل لغيره:


[ 51 ]

(افعل) أمرا، إذا كان فوقه في الرتبة، وسؤالا، إذا كان دونه، فجعلوا الرتبة فاصلة بين الامرين، ولا خلاف في أن السؤال يقوم مقام قول السائل للمسؤول: أريد منك أن تفعل كذا وكذا. فلم يفصلوا بين السؤال والامر إلا بالرتبة، وإلا فلا فصل بينهما في الفائدة والمعنى. فصل في هل الامر يقتضي الوجوب أو الايجاب إختلف الناس في ذلك، فذهب جميع الفقهاء وطائفة من المتكلمين إلى أن الامر يقتضي إيجاب الفعل على المأمور به، وربما قالوا وجوبه. وقال آخرون: مطلق الامر إذا كان من حكيم، اقتضى كون المأمور به مندوبا إليه، وإنما يعلم الوجوب بدلالة زائدة، وهذا هو مذهب أبي علي وأبي هاشم ومن وافقهما. وذهب آخرون إلى وجوب الوقف في مطلق الامر بين الايجاب والندب، والرجوع في كل واحد من الامرين إلى دلالة غير الظاهر، وهو الصحيح. وتحقيقه أن الامر إذا صدر من حكيم نأمن أن يريد القبيح أو المباح، فلا بد من القطع على أن للمأمور به مدخلا في استحقاق المدح والثواب، إلا أن هذا القدر غير كاف في أنه ندب، ولا كاف في أنه


[ 52 ]

واجب، فيحتاج إلى دلالة إما على أن تركه قبيح، فيعلم أنه واجب. أو أنه ليس بقبيح، فيعلم أنه ندب. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه، أنا قد بينا أن الامر إنما يكون أمرا، لان الآمر أراد المأمور به، وإرادة الحكيم له تقتضي ما ذكرناه من الصفة الزائدة على حسنه، وهذه الصفة الزائدة على الحسن قد تثبت في الندب والواجب، فلابد من دلالة زائدة تدل على حكم الترك، فيبنى على ذلك الوجوب أو الندب. وليس لاحد أن يقول: أراد الفعل على جهة الايجاب، لان ذلك لا يعقل، إن لم يكن المقصود به أنه أراده وكره تركه، فإذا كان مطلق الامر لا تعلق بينه وبين هذه الكراهية، لم يجز أن يدل عليها. ويدل أيضا على ما اخترناه من المذهب أنه لا شبهة في استعمال صيغة الامر في الايجاب والندب معا في اللغة، والتعارف، والقرآن والسنة، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة، وإنما يعدل عنها بدليل، وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الاشياء إلا كاستعمالها


[ 53 ]

في الشئ الواحد في الدلالة على الحقيقة. وإذا ثبت اشتراك هذه الصيغة بين الوجوب والندب، لم يجز أن يفهم أحدهما من ظاهر القول إلا بدليل منفصل. ونحن وإن ذهبنا إلى أن هذه اللفظة مشتركة في اللغة بين الندب والايجاب، فنحن نذهب إلى أن العرف الشرعي المتفق المستمر قد أوجب أن يحمل مطلق هذه اللفظة إذا وردت عن الله (تعالى) أو عن الرسول (ص ع) – على الوجوب، دون الندب، وعلى الفور، دون التراخي، وعلى الاجزاء، وتعلق الاحكام الشرعية به. وفي النهي أنه يقتضي فساد المنهي عنه، وفقد إجزائه. وكذلك نقول في اللفظ الذي يذهب الفقهاء إلى أنه موضوع للاستغراق والاستيعاب في اللغة، ونذهب نحن إلى اشتراكه، فنذهب إلى أن العرف الشرعي قرر ومهد حمل هذه الالفاظ – إذا وردت عن الله (تعالى) أو عن رسوله (ص ع) – مع الاطلاق والتجريد على الاستغراق، وإنما يرجع في التخصيص إلى الدلالة. والذي يدل على صحة هذه الجملة ما هو ظاهر لا يدخل على أحد


[ 54 ]

فيه شبهة، من حمل الصحابة كل أمر وارد في قرآن أو سنة على الوجوب، وكان يناظر بعضهم بعضا في مسائل مختلفة، فمتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من الله – تعالى أو رسوله – عليه السلام -، لم يقل صاحبه: هذا أمر، والامر يقتضي الندب، أو الوقوف بين الوجوب و الندب بل اكتفوا في الوجوب واللزوم بالظاهر. * وكذلك في جميع المسائل التي ذكرناها، لانهم ما زالوا يكتفون في وجوب تعجيل الفعل بأن الله – تعالى – أو رسوله – عليه السلام – أوجبه وألزمه، وفي فساده وعدم إجزائه، أنه نهى عنه، وحظره. والعموم يجري مجرى ما ذكرناه. وما كانوا يطلبون عند المنازعة والمناظرة والمطالبة في ألفاظ العموم التي يحتج بها عليهم إلا المخصصات لها، وقد كان يجب أن يقولوا: هذه ألفاظ مشتركة بين العموم والخصوص، فكيف يحتج بها في العموم بغير دلالة. وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم التي ما اختلفت، ومعلوم أيضا أن ذلك من شأن التابعين لهم و تابعي التابعين، فطال ما اختلفوا وتناظروا فلم يخرجوا عن القانون


[ 55 ]

الذي ذكرناه، وهذا يدل على قيام الحجة عليهم بذلك، حتى جرت عادتهم به، وخرجوا عما يقتضيه مجرد وضع اللغة في هذا الباب، و أما أصحابنا معشر الامامية فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه، وإن اختلفوا في أحكام هذه الالفاظ في وضع اللغة، ولم يحملوا قط ظواهر الالفاظ إلا على ما بيناه، ولم يتوقفوا على الادلة، وقد بينا في مواضع من كتبنا أن إجماع أصحابنا حجة. وقد تعلق من ذهب إلى وجوب الامر بطرق اعتبارية، وطرق سمعية، وهي على ضربين، قرآنية وأخبارية. ونحن نذكر أقوى ذلك شبهة، فإن الذي تعلق به الفقهاء في ذلك لا يكاد ينحصر وينتظم. فأما الطرق الاعتبارية، فأولها قولهم: السيد إذا أمر غلامه بفعل، عقل منه الايجاب، ولذلك يوبخه العقلاء، ويذمونه، إذا خالفه. وثانيها قولهم: لو لم يكن لفظة افعل موضوعة للايجاب، لم يكن للايجاب لفظة موضوعة في اللغة مع الضرورة الداعية إلى ذلك. وثالثها أنه لا شبهة في تسمية من خالف الامر المطلق بأنه عاص، والمعصية لا تكون إلا في خلاف الواجب.


[ 56 ]

ورابعها قولهم: إن غاية ما يفعله من يريد الايجاب والالزام أن يقول لغيره افعل. وخامسها أن الامر بشئ بعينه يقتضي أنه حصر المأمور به، و قصره عليه، وذلك يمنع من تعديه وتجاوزه. وسادسها أنه لو لم يقتض الايجاب، لم يكن بعض الوجوه بأن يستفاد به أولى من بعض مع تضادها، فيجب أن يقتضي الوجوب. وسابعها قولهم: إذا كان الآمر لابد من أن يكون مريدا للمأمور به، وإذا أراده، فقد كره تركه، وربما قال بعضهم: إن إرادة الفعل كراهة لضده. وثامنها قولهم: إن الامر بالشئ يقتضي في المعنى النهي عن ضده، كما أن النهي عن الشئ يقتضي الامر بتركه. وتاسعها أن لفظ الامر يجب أن يقتضي ضد ما يقتضيه لفظ النهي في المعنى، وإذا كان النهي يقتضي التحريم، فالامر يقتضي الايجاب.


[ 57 ]

وعاشرها قولهم: إن الامر لا يخلو من أقسام ثلثة، إما أن يقتضي الايجاب، أو المنع، أو التخيير، والمنع معلوم أنه لا يستفاد بالامر، و إنما يستفاد المنع بالنهي، ولا يجوز أن يفيد التخيير لفقد ألفاظ التخيير، فلم يبق إلا الايجاب. وحادي عشرها قولهم: إذا احتمل لفظ الامر الايجاب والندب، وجب حمله على الايجاب، لانه أعم فوائده، كما يقال في ألفاظ العموم. وثاني عشرها طريقة الاحتياط، وأن حمله على الايجاب أحوط للدين. وثالث عشرها أن الامر لابد له من فائدة، ومحال حمله على الايجاب والندب معا، لتنا في الفائدتين، فلو كانت فائدته هي الندب، لوجب أن يكون متى حمل على الايجاب أن يكون مجازا، وأجمعنا على خلاف ذلك. فأما الطرق القرآنية: فأولها قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)، والتحذير يقتضي وجوب الامتثال. وثانيها قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت.


[ 58 ]

وثالثها قوله – تعالى -: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة، إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ورابعها قوله – تعالى -: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول. وخامسها قوله – تعالى -: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم. والطرق الاخبارية: أولها ما روي عن النبي – ص ع – من قوله (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلوة) وقد ندب إلى ذلك عند كل صلوة، فثبت أنه أراد الايجاب. وثانيها خبر بريرة حين أشار عليها بمراجعة زوجها، وأنها قالت له – عليه السلام -: أتأمرني بذلك، فقال: إنما أنا شافع، فقالت عند ذلك: فلا حاجة لي فيه، وفرقت بين الامر والشفاعة، وليس ذلك إلا لوجوب الامر. وثالثها قوله – عليه السلام – للاقرع بن حابس وقد سأله عن


[ 59 ]

الحج: أنه لعامنا هذا أم للابد – فقال – ع -: لا، للابد، ولو قلت: نعم، لوجب، ولو لم تفعلوا، لضللتم. وهذا صريح في أن الامر يقتضي الايجاب. ورابعها توبيخه – ع – أبا سعيد الخدري لما دعاه وهو في الصلوة، فلم يجبه، وقوله – ع – ألم تسمع الله – تعالى – يقول: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: إننا لا نسلم ما ادعيتموه لا حكما ولا علة، لانه ليس كل عبد يستحق الذم، إذا لم يفعل ما أمره مولاه، ومن استحق الذم منهم فليس العلة في استحقاقه مجرد خلاف الامر، لانا لو فرضنا عبداسمع مجرد الامر من مولاه، وهو لا يعرف العادة العامة، ولا عادة مولاه الخاصة، وفوت منفعة مولاه بمخالفة أمره، فإنه لا يستحق الذم. ولو أمره مولاه بما يختص بمصالح العبد، من غير أن يعود على السيد منه نفع أو ضرر، لما ذمه أحد من العقلاء


[ 60 ]

إذا لم يفعل، فالحكم الذي قضوا به، نحن نخالف فيه، ثم لو عرف العبد كراهية مولاه لمخالفته، إما بالعادة، أو بشاهد الحال، نحو أن يأمره بأن يسقيه الماء وقد غص بلقمة، فاستحق الذم على خلافه، وما كانت العلة في ذلك ما ادعي من مجرد خلاف الامر، * بل ما ذكرناه. ومما يوضح ما ذهبنا إليه أن الامر لو أفاد الايجاب لامر يرجع إليه، لم يفترق الحال بين الكبير والصغير، والجليل والوضيع فكيف يختص الايجاب بأمر الاعلى للادون، لولا أن ذلك ليس بموجب عن الامر. وإنما يقتضي الايجاب لاسباب عارضة من أحوال و عادات. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: قد وضعوا للايجاب لفظا في اللغة، وهو أوجبت، وألزمت، ومتى لم تفعل استحققت الذم والعقاب، فإذا قالوا: هذه صيغة الخبر، وأردنا ما هو بصيغة الامر، قلنا: هذا


[ 61 ]

تحكم على أهل اللغة، وإذا اوجبنا أن يضعوا لهذا المعنى لفظا فأي فرق في الانباء عن مرادهم بين ما هو بصيغة الخبر وبين ما هو بصيغة الامر. على أن ذلك يعكس عليهم، فيقال: معنى الندب معقول لهم، فيجب أن يضعوا له لفظا ينبئ عنه، ولا لفظ إلا قولهم: افعل. فإن عدلوا إلى أن يقولوا: قد وضعوا لذلك ندبت، قلنا في الايجاب مثله. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: لا نسلم لكم أن لفظة عاص لا تدخل إلا في الوجوب أو الايجاب، لان من خالف في الشاهد ما ندب إليه أو أرشد إليه يقال: عصى، بل يقال ذلك في المشورة ولا خلاف أنه لا إيجاب فيها. ولفظة عاص لا تفيد فعل قبيح، كما أن إطلاق لفظ مطيع لا يدل على فعل حسن، وإذا أضفنا فقلنا: أطاع الله – تعالى – فهو دال على زيادة على الحسن، فإن الله – تعالى – لا يأمر إلا بما له صفة الوجوب أو الندب، وإذا قلنا: عصى الله – سبحانه – في كذا، فالمعنى أنه خالف أمره وإرادته. وقد يدخل ذلك في الوجوب والندب معا، فإذا


[ 62 ]

اقترن بذلك ذم أو توبيخ، خلص للاخلال بالواجب. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: ما زدتم على الدعوى، فمن أين قلتم إنه غاية ما يفعله الموجب هي أن يقول: إفعل، ففي ذلك الخلاف، بل إذا أراد الايجاب والالزام قال: أوجبت أو ألزمت أو إن لم تفعل ذممتك. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: هذه عبارة موهمة، فما مرادكم بقولكم: حصره وقصره، أتريدون أنه أراد المأمور بعينه دون غيره، فهو مسلم، ولا إيجاب في ذلك أم تريدون أنه حصره على وجوبه ففيه الخلاف، ولصاحب الندب أن يقول: حصره وقصره على أن ندب إليه. ويقال لهم فيما تعلقوا به سادسا: هيهنا وجه معقول مستفاد من مطلق الامر، وهو دلالته على أن الآمر مريد للفعل، وإذا كان الآمر حكيما، إستفدنا كون الفعل عبادة، ومما يستحق به الثواب، وهذه فائدة معقولة. ويقال لهم فيما تعلقوا به سابعا: لو كان الآمر بالشئ إذا أراده فلا بد من كونه كارها لتركه، لوجب أن تكون النوافل كلها واجبة ولا حقة بالفرائض، والذي يدل على أنه – تعالى – أمر بالنوافل أنه لا خلاف


[ 63 ]

في وصفنا فاعلها بأنه مطيع لله تعالى، والطاعة إنما هي إمتثال الامر أو الارادة. ولا خلاف في أنه – تعالى – رغب في النوافل، وذلك يقتضي كونها مرادة لله تعالى. ولا خلاف أيضا في أن النوافل كالفرائض في تناول التكليف لها، وذلك يقتضي كونه – تعالى – مريدا لها. وقوله – سبحانه – (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) دليل على أن النوافل مأمور بها، لان الاحسان له صفة النفل دون الوجوب. فأما من ذهب إلى أن نفس إرادة الفعل تكون كراهة لتركه، فقوله يفسد بما ذكرناه في النوافل. ولانه محال أن يكون الشئ بصفة ضده، وما كون الارادة كراهة إلا ككون العلم جهلا، والقدرة عجزا. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثامنا: من أن الامر بالشئ نهي عن ضده، سنبين بطلان هذه الشبهة في باب مفرد على أن ذلك ينقتض بالنوافل. ويقال فيما تعلقوا به تاسعا: ما أنكرتم أن يكون الامر يقتضي ضد ما يقتضيه النهي فيما يجوز أن يدل عليه الامر والنهي، والامر إذا


[ 64 ]

دل على كون الآمر مريدا للفعل، فالنهي يدل على أنه كاره له، والتحريم ما علمناه في متناول النهي إلا بواسطة، وهي أن الله – تعالى – إذا نهى عن فعل، فلا بد من كونه كارها له، وهو – تعالى – لا يكره إلا القبيح، والقبيح محظور محرم، وهذا الاعتبار ليس بموجود في الامر، لانه إذا أمر بشئ، و أراده، فلا بد من كونه طاعة ومما يستحق به المدح والثواب، وما هو بهذه الصفة ينقسم إلى واجب وندب، فلا يجب أن يقطع على أحدهما، وما يكرهه – تعالى – فهو غير منقسم، ولا يكون إلا قبيحا فافترق الامران. ويقال لهم فيما تعلقوا به عاشرا: قد أخللتم في القسمة بقسم، و هو مذهبنا، ونحن نعلم أن * الترغيب في الفعل وجه معقول كالالزام وليس كونه ندبا يقتضى التخيير، لان التخيير إنما يقتضي المساواة بين الشيئين المخير بينهما، وليس الندب مساويا لتركه فيكون التخيير بينهما. ويقال لهم فيما تعلقوا به حادي عشر: قد اقتصرتم على دعوى، فمن أين قلتم: إنه يجب حمله على أعم الفوائد وما الفرق بينكم، وبين من


[ 65 ]

يقول بل يجب حمله على اليقين وهو الاقل في الفائدة، وذلك هو الندب. وإنما يسوغ ما قالوه، إذا كان اللفظ يتناول الجميع تناولا واحدا، فأما إذا كان محتملا، وما يحتمله كما لمتضاد، فما ادعاء الاعم إلا كادعاء الاخص. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانى عشر: الذي ذكرتموه ضد الاحتياط، لانه يقتضي أفعالا قبيحة، منها اعتقاد وجوب الفعل، وذلك جهل، وعزم على أدائه على هذا الوجه، وهو أيضا قبيح. ولا بد من أن يعتقد هذا الفاعل قبح ترك هذا الفعل، فيكون جهلا ثانيا. وربما كرهه، فيكون قبيحا زائدا. فما هذه حاله، كيف يكون إحتياطا. وليس يجري ذلك مجرى من ترك صلوة من خمس صلوات من غير أن يعفها بعينها، والقول في إيجاب كل الصلوات عليه، لان ذلك يقتضي دخول ما أخل به في جملة ما فعله، من غير فعل قبيح وقع منه. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالث عشر: إنا قد بينا أن الامر يفيد كون الآمر مريدا للفعل، وليس يفيد في الافعال حكما على وجه، فالندب


[ 66 ]

كالواجب في معنى دلالة الامر، وهو أن الآمر مريد للفعل، فإذا قامت دلالة على وجوبه، فإنما هي دالة على أن تركه مكروه، وذلك لا يوجب كونه مجازا، لان دلالته وهو واجب، كدلالته وهو ندب فيما يرجع إلى الامر به. وبعد، فإن كل لفظ مشتركة بين أمرين على سبيل الحقيقة، لا يجب أن تكون مجازا في كل واحد منهما، إذا أريد بها كسائر الالفاظ المشتركة مثل عين ولون. ويقال لهم في أول ما تعلقوا به من القرآن: أول ما نقوله: أنه لو ثبت في القرآن أو السنة ما يدل على وجوب المأمور به، لم يكن ذلك نافعا لمخالفنا، ولا ضارا لنا، لاننا لا ننكر على الجملة أن يدل دليل على وجوب الامر، وإنما ننكر أن يكون ذلك يجب بوضع اللغة. وإنما نتكلم فيما إستدلوا به من قرآن أو سنة على وجوب الامر، لا لانه إن صح، قدح فيما أصلناه، وإنما نتكلم فيه لانه


[ 67 ]

لا يدل على المقصود. وهذه جملة يجب أن تكون محصلة مراعاة. ثم نقول: اقتران الوعيد بهذا الامر هو الدلالة على وجوبه، فمن أين لكم أن الامر المطلق يدل على الوجوب. ثم إن المراد ظاهر، وهو أنه أراد الخلاف على الرسول – عليه السلام – على سبيل جحد النبوة، بدلالة أول الآية بقوله – تعالى – (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)، وهذا إنكار على من لم يلتزم الانقياد له لاجل النبوة، ولا محالة إن خلافه على هذا الوجه كفر. وبعد، فان مخالفة الامر هو ضد الموافقة، وفعل ما ندب إليه على وجه الوجوب مخالفة له، كما أن فعل ما أوجبه مقصودا به إلى الندب مخالفة أيضا، والآية تضمنت التحذير من المخالفة فمن أين لهم وجوب ما أمر به، حتى يكون من فعله على غير هذا الوجه مخالفا. فعلم أن ظاهر الآية مشترك بيننا وبينهم، وأنه لا حجة فيها لهم. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: ليس المراد بالقضاء هيهنا الامر المطلق، بل الالزام، كما نقول: قضى القاضي بكذا وكذا، بمعنى حكم و ألزم، ولهذا لا تسمى الفتوى قضاء.


[ 68 ]

والكلام فيما تعلقوا به ثالثا، كالكلام في هذه الآية، فلا معنى لاعادته. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا، من قوله – تعالى – (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول): إن هذا أمر، والخلاف فيه نفسه، فكيف يستدل به على نفسه. والطاعة هي إمتثال الامر، وقد بينا أن الطاعة تدخل في الندب والايجاب جميعا، فكيف يعقل من الظاهر أحدهما. وأيضا فإن الطاعة هي إمتثال الامر على الوجه الذي تعلق به الامر إما بإيجاب أو ندب، حسبما مضى من الكلام في المخالفة، فمن أين لهم أن أمره على الوجوب، حتى يكون من فعله على هذا الوجه مطيعا له، وإلا كان على الندب، وطاعته إنما هي فعله على هذا الوجه. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: إنا قد بينا أن المعصية قد تدخل في الندب كما تدخل في الواجب، وأنه قد يكون عاصيا لمخالفة الامر على وجه لا يستحق * به الوعيد، فيجب أن تحمل الآية لاجل الوعيد على مخالفة الامر الواجب. ويقال لهم في أول الطرق الاخبارية: إنه ليس يجوز أن يثبت


[ 69 ]

حكم الامر في وجوب أو ندب وهو أمر معلوم، بأخبار الآحاد التي لا توجب إلا الظن. وبعد، فإن قوله – عليه وآله السلام -: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلوة، لو تجرد، ما علمنا به الوجوب، لكنا لما علمنا أن السواك مندوب إليه، كان ذلك قرينة في أنه أراد الوجوب. ويقال لهم في خبر بريرة: أكثر ما فيه التفرقة بين الامر والشفاعة وبينهما تفرقة وإن لم يكن لاجل وجوب الامر، وهي أن الامر منه – عليه السلام – يتعلق بالديانات والعبادات، والشفاعة ليست كذلك، لانها تكون في المنافع الحاضرة العاجلة، وفي الاغراض الدنياوية. وأما خبر الاقرع بن حابس، فإنه لم يسئل عن مطلق الامر، وإنما سأل عن تكرار ما ثبت وجوبه، وهو الحج، فأجاب – ص ع – بإنه لو قال نعم، لوجب، لان قوله نعم يكون بيانا، وبيان الواجب واجب.


[ 70 ]

وأما الجواب عن خبر أبي سعيد الخدري، فإن دعاء الرسول بخلاف أمره، لان إجابة دعائه واجبة ولذلك صح أن يأمره لمكان الاجابة بقطع الصلوة، ومثل ذلك لا يصح في الامر. والدعاء هو أن يناديه: يا فلان، فيجب عليه الاجابة، والامر أن يقول له: إفعل، و قد بينا أنه متردد بين الندب والايجاب. وقد تعلق من قطع في مجرد الامر على أن المراد به الندب بأن قال إذا كان الامر من الحكيم لا بد من أن يريد المأمور به، ولا بد من كونه مع الحكمة، مما له مدخل في العبادة وإستحقاق الثواب، فيجب أن يكون ندبا، لانه أقل أحواله، وما لا بد منه، وإنما يكون واجبا إذا علمنا كراهة الترك. فيقال لهم: هذا الذي قدمتموه صحيح، لكنكم بنيتم عليه ما لا يليق به، فمن أين لكم أنه إذا أراد المأمور به، فإنه لم يكره


[ 71 ]

تركه، وأنتم لا تستفيدون من مطلق الامر حكم الترك، وإنما تستفيدون أن الامر مريد للمأمور به. وقولكم: نحمله على أقل أحواله، تحكم، ولم يجب ذلك، ومن الجائز أن يكون هذا الآمر مع أنه مريد للمأمور به، كارها لتركه، كما أنه من الجائز أن لا يكون كارها لتركه، فالقطع على أحد الامرين بغير دليل ظلم. فإن قالوا: لو كره الترك، لبينه. قلنا: ولو لم يكن كارها، لبينه فإن قالوا: الاصل في العقل كون الفعل والترك جميعا غير مرادين ولا مكروهين، فإذا تعلق الامر بأحدهما، علمناه مرادا، وبقي الترك على ما كان عليه، فلو تغيرت حاله، وصار قبيحا، ومما يجب أن يكرهه الحكيم، وجب على المخاطب بهذا الامر أن يبين ذلك من حاله، فإن البيان لا يتأخر عن حال الخطاب. وهذا الذي حكيناه أقوى ما يمكن أن يتعلق به في نصرة مذهبهم. والجواب عن ذلك أنا لا نسلم – أولا – أن الفعل والترك جميعا


[ 72 ]

كانا في العقل سواء في أنهما غير مرادين ولا مكروهين، لانه إذا أمرنا بالصلوة مثلا، فقد أمرنا بفعل كان في العقل – لولا هذا الامر – محظورا، وكان تركه واجبا، لانه إدخال مشقة وكلفة على النفس بغير فائدة، فإذا قال لنا صلوا، فقد دل ذلك على أن للصلاة صفة زائدة على حسنها، يستحق بها المدح والثواب، ولا بد من أن يكون صفة ترك الصلاة الذي كان في العقل واجبا، قد تغيرت عند ورود هذا الامر، وتغيرها ينقسم إلى أن يكون مكروها، فيكون الفعل واجبا، وإلى أن لا يكون مرادا ولا مكروها، فيكون الفعل ندبا، وإلى أن يكون مرادا، فيكون مخيرا بين الفعل والترك، فثبت بهذه الجملة أنه لا يجوز مع ورود الامر بهذه العبادات أن تبقى في تروكها على الاصل العقلي، بل لا بد من تغيره على ما بيناه. على أنا لو سلمنا أن حكم الترك في أصل العقل ما ذكروه، لكان إنما يجب البيان في وقت الحاجة، لا في وقت الخطاب، على ما سنبينه في موضعه من هذا الكتاب بمشية الله – تعالى – وعونه، فلو قال


[ 73 ]

الحكيم لغيره افعل كذا وكذا غدا أو بعد شهر، لما وجب أن يبين له حكم الترك في هذا الوقت، وليس بوقت للحاجة، وأنتم لا تفرقون في حمل الامر على الندب بين أن يكون على الفور أو على التراخي. وهذه جملة كافية في الاطلاع على سر هذا الباب فليحسن تأملها. فصل في حكم الامر الوارد بعد الحظر اعلم أن أكثر المتكلمين * في أصول الفقه أطبقوا على أن الامر الوارد بعد الحظر يقتضي الاباحة وإطلاق الحظر الذي تقدم، وإن كانوا يذهبون إلى أنه لو انفرد، وكان مبتدأ، اقتضى الوجوب ولسنا ندري ما السبب في إستمرار هذه الشبهة الضغيفة. والصحيح أن حكم الامر الواقع بعد الحظر هو حكم الامر المبتدأ، فإن كان مبتدأه على الوجوب أو الندب أو الوقف بين الحالين، فهو كذلك بعد الحظر. والذي يدل على ذلك أن الامر إنما يدل على ما يدل عليه، لامر يرجع إلى كونه أمرا، وإذا كانت هذه الصفة لا تتغير بوقوعه بعد الحظر،


[ 74 ]

فدلالته يجب ألا تتغير. وأيضا فإن الحظر العقلي آكد من السمعي، وقد علمنا أن ورود الامر بعد الحظر العقلي لا يمنع من إقتضائه الوجوب، وكذلك وروده بعد الحظر الشرعي. وبعد، فإن كونه محظورا لا يمنع من وجوبه أو كونه ندبا بعد هذه الحال، وإذا كان لا يمنع من ذلك، لم تتغير الدلالة. فإن قيل: ورود الامر بعد الحظر يقتضي إطلاق الحظر، قلنا: لا شبهة في ذلك غير أن إطلاق الحظر يكون بالايجاب والندب، كما يكون بالاباحة، فمن أين أنه يقتضي إطلاق الحظر من غير زيادة على ذلك. وإعتلالهم بأنهم لم يجدوا في الكتاب أمرا واردا بعد الحظر إلا و يقتضي الاباحة المحضة، باطل لان الوجود إذا صح ليس بدلالة لانه يمكن خلاف ما استمر عليه الوجود، ولانا لا نسلم ذلك أيضا، لان الله – تعالى – يقول: ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله، وحلق الرأس هيهنا نسك، وليس بمباح صرف.


[ 75 ]

فصل في أن الكفار مخاطبون بالشرايع وهل يدخل العبد والصبي في الخطاب ؟ الصحيح أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية، وذهب كثير من المتكلمين وأكثر الفقهاء إلى أنهم غير مخاطبين. وفائدة الخلاف في هذه المسألة وإن كانوا متفقين على أن الكفار مع عقابهم على كفرهم لا نطالبهم بفعل العبادات الشرعية – أن من قال: إنهم مخاطبون، يذهب إلى أنهم يستحقون مع عقابهم على الكفر العقاب من الله – تعالى – على الاخلال بهذه العبادات، ومنا الذم على ذلك، ومن ذهب إلى أنهم غير مخاطبين، يلزمه ألا يستحقوا عقابا ولا ذما على الاخلال بالعبادات. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أشياء: أولها أن الاعتبار في دخول المكلف في التكليف إنما هو بشيئين: أحدهما صفة المكلف، والآخر صفة الخطاب، وقد علمنا أن الكافر كالمؤمن في إستيفاء شروط التكليف، لانه يتمكن من أن


[ 76 ]

يؤمن فيصح وقوع جميع العبادات منه، فصحة تكليفه العبادات كصحة تكليفه نفس الايمان والاسلام. وأما إعتبار صفة الخطاب، فإنه إذا كان مطلقا ومتوجها إلى الناس، دخل الكافر فيه لتناوله إياه. ومنها أن الكفار لو لم يتعبدوا بالشرائع، لكانوا معذورين في تكذيب النبي – ص ع – والامتناع من تصديقه، لان الغرض في إيجاب تصديقه – عليه السلام – هو المعرفة بشرائعه، كما أن الغرض في بعثته هو أداؤه الشرائع، فمن لم يكلف ما هو الغرض في إيجاب التصديق، لا يجوز أن يكون مكلفا بالتصديق، ولا خلاف في وجوب تصديقه – ع – على كل الكفار. ومنها أنه لا خلاف في أن الكفار يحدون على الزنا على وجه العقوبة والاستحقاق، فلو لم يكونوا مخاطبين بهذه الشرعيات، لم يستحقوا العقوبة على فعل القبائح منها. وليس لهم أن يقولوا إنما عوقب


[ 77 ]

على أنه لم يخلص نفسه من الكفر، فيعرف قبح الزنا، لان هذا تصريح بأنه يعاقب على كفره لا على الزنا، وهذا يوجب أن يعاقبه وإن لم يزن. وقد كان شيخ من متقدمي أصحاب الشافعي، وقد إستدللت بهذه الطريقة، قال لي: فأنا أقول: إن الكفار مخاطبون من الشرائع بالتروك دون الافعال، لان الافعال تفتقر إلى كونها قربة، ولا يصح ذلك مع الكفر، والتروك لا يفتقر إلى ذلك. فقلت له: هذا – والله – خلاف الاجماع، لان الناس بين قائلين، قائل يذهب إلى أن الكفار مخاطبون بكل الشرائع من غير تفرقة، وقائل يذهب إلى أنهم غير مخاطبين بالكل، فالفصل بين الامرين خلاف الاجماع. ثم إن القربة معتبرة في تروك هذه القبائح، كما أنها معتبرة في الافعال الشرعية، لانا إنما أمرنا بأن نترك الزنا ولا نفعله قربة إلى الله – تعالى -، فمن لم يتركه لذلك، * لا يستحق مدحا ولا ثوابا،


[ 78 ]

ولا يكون مطيعا لله – تعالى -، ولا ممتثلا لامره، فالقربة إذا لم تصح من الكافر وهو كافر، لم يجز أن يقع منه على الوجه المشروع لا فعلا ولا تركا. ومنها قوله – تعالى – حاكيا عن الكفار: ما سلككم في سقر. قالوا: لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، وهذا يقتضي أنهم عوقبوا مع كفرهم على أنهم لم يصلوا، وهذا يقتضي كونهم مخاطبين بالصلوة. وليس لاحد أن يقول: أي حجة في قول أصحاب النار، و لعل الامر بخلاف ما قالوه، وذلك أن جميع معارف أهل الآخرة ضرورية، فلا يجوز أن يعتقدوا جهلا، وهم ملجؤن إلى الامتناع من فعل القبيح، فلا يجوز أن يقع منهم كذب، ولا ما جرى مجراه. وليس له أن يحمل قوله – تعالى -: لم نك من المصلين، على


[ 79 ]

أن المراد لم نكن من أهل الصلوة والايمان. وذلك أن هذا يقتضي التكرار للمعنى الواحد، لان قوله – سبحانه -: وكنا نكذب بيوم الدين، يغنى عن أن ينفي أن يكونوا من أهل الصلوة والايمان. و أيضا فإن الظاهر من قول القائل: لم أك مصليا، نفي فعل الصلوة، دون الايمان بها. وقد تعلق من خالفنا بأن الكافر لا يصح منه مع كفره شئ من العبادات، فيجب أن لا يكون مخاطبا بها، كما لو كان عاجزا أو ممنوعا. والجواب عن ذلك أن الكافر تصح منه العبادات، بأن يقدم الايمان عليها، ثم يفعلها، وجرى مجرى المحدث الذي هو مخاطب بالصلوة، وإن لم تصح منه مع الحدث، لكنه يقدر على تقديم إزالة الحدث ثم فعل الصلوة. ويجب على هذا أن لا يكون القاعد مخاطبا بالصلوة، ولا القائم أيضا إليها، لانه لا يتمكن في الحال الثانية من جميع أركان الصلوة، وإنما يقع منه على ترتيب. والعاجز أو


[ 80 ]

الممنوع لا يشبه الكافر، لانه لا يتمكن من إزالة عجزه أو منعه، والكافر متمكن من إزالة كفره. وقد تعلقوا أيضا بأن الكفار لو كانوا مخاطبين بالعبادات، لوجب متى اسلموا أن يلزمهم قضاء ما فات منها، وقد علم خلاف ذلك. والجواب: أن القضاء لا يتبع في وجوبه وجوب المقضي، بل هو منفصل عنه، وقد يجب كل واحد من الامرين وإن لم يجب الآخر، ألا ترى أن الحائض يلزمها قضاء الصوم وإن لم يكن الاداء عليها واجبا، والجمعة إذا فاتت لا يجب قضاؤها، وإن وجب أداؤها، فما المنكر من وجوب العبادات على الكفار، وإن لم يجب عليهم قضاء ما فات منها ؟. وأقوى ما يعترض به هيهنا شبهة قولهم: ما ذكرتموه إنما يتم في العبادات المختصة بأوقات، فأما الزكوة فالاوقات كلها متساوية في أن فعلها فيها هو الاداء لا قضاء، ولا خلاف في أن الكافر إذا


[ 81 ]

أسلم، وقد حال الحول على ما له وهو قدر النصاب، أن الزكوة عن الماضي لا تجب عليه. والجواب الصحيح أن الزكوة وجبت، ثم سقطت بالاسلام لان الاسلام على ما روي في الخبر يجب كل ما تقدمه. وأما العبد فيدخل في الخطاب، إذا تكامل شروطه في نفسه، وكان ظاهر الخطاب يصح أن يتناوله. وإنما يكون الخطاب بهذه الصفة، إذا لم يكن مقيدا بالحرية، أو يتعلق بالاملاك، لان العبد لا يملك، والعبد في هذه القضية كالحر، وكونه مملوكا عليه تصرفه لا يمنع من وجوب العبادات عليه، لان المولى إنما يملك تصرفه عليه في غير وقت وجوب عبادة، فأوقات العبادات مستثناة من ذلك.


[ 82 ]

ودخول المرأة في الخطاب كدخول الرجل. والصحيح أنها تدخل بالظاهر ومن غير حاجة إلى دليل في خطاب المذكر، لان قولنا (القائمون) عبارة عن الذكور والاناث، إذا إجتمعا، كما أنه عبارة عن الذكور، على الانفراد. وليس يمنع من دخول المؤنث تحت هذا الصيغة أنهم خصوا المؤنث بصيغة أخرى، لان تلك الصيغة خص بها المؤنث، إذا انفرد، ومع الاقتران بالذكر، لا بد من الصيغة التي ذكرناها. وأما الصبي فإن كان في المعلوم أنه يبلغ، وتتكامل له شروط التكليف، فالخطاب يتناوله على هذا الوجه، وهو داخل في قوله – تعالى -: أقيموا الصلوة، لان الخطاب لا يتجدد بتجدد كمال هذا الصبي وبلوغه، وفي حال الطفولية لا يتعلق عليه خطاب بفعل في هذا الوقت، لا فيما يتعلق ببدن، ولا بمال، لانه في حال الصبا ليس من أهل الافعال. ومعنى القول بأن الخطاب يتعلق بماله، أن وليه مخاطب بما يفعله في ماله من أخذ أرش متلف وقيمة جناية وما جرى مجرى ذلك.


[ 83 ]

فصل في هل الامر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به اعلم ان كل من تكلم في هذا الباب أطلق القول بأن الامر بالشئ هو بعينه أمر * بما لا يتم ذلك الشئ إلا به، والصحيح أن يقسم ذلك، فنقول: إن كان الذي لا يتم ذلك الشئ إلا به سببا، فالامر بالمسبب يجب أن يكون أمرا به، وإن كان غير سبب، و إنما هو مقدمة للفعل وشرط فيه، لم يجب أن يعقل من مجرد الامر أنه أمر به. والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن ظاهر الامر يقتضي ما تناوله لفظه، وليس يجوز أن يفهم منه وجوب غيره مما لم يتناوله اللفظ إلا بدليل غير الظاهر، لانه إذا قال صل فالامر يتناول الصلوة، و الوضوء الذي ليس بصلوة إنما نعلم وجوبه بدليل غير الظاهر. ومما يوضح ذلك أن الامر في الشريعة قد ورد على ضربين: أحدهما يقتضي إيجاب الفعل دون إيجاب مقدماته، نحو الزكوة والحج، فإنه لا يجب علينا أن نكتسب المال لتحصيل النصاب، أو لنتمكن


[ 84 ]

به من الزاد والراحلة، بل متى إتفق لنا النصاب، وحال عليه الحول، وجبت الزكوة، وكذلك في الزاد والراحلة. والضرب الآخر يجب فيه مقدمات الفعل، كما يجب هو في نفسه، وهو الوضوء للصلوة، وما جرى مجراها، وإذا انقسم الامر في الشرع إلى قسمين، فكيف نجعلهما قسما واحدا. فإذا قيل: مطلق الامر يقتضي تحصيل مقدماته، فأما ما كان مشروطا منه بصفة كالزكوة والحج فلا يجب ذلك فيه، قلنا: هذه دعوى، ما الفرق بينكم، وبين من عكسها، فقال: إن مطلق الامر يقتضي إيجابه دون غيره، فإذا علمنا وجوب المقدمات كالوضوء في الصلوة، علمناه بدليل خارج عن الظاهر. والصحيح أن الظاهر يحتمل الامرين إحتمالا واحدا، وإنما يعلم كل واحد منهما بعينه بدليل. فان تعلقوا بالسبب والمسبب، وأن إيجاب المسبب إيجاب للسبب لا محالة.


[ 85 ]

قلنا هو كذلك، والفرق بين الامرين أنه محال أن يوجب علينا المسبب بشرط إتفاق وجود السبب، وإنما فسد ذلك، لان مع وجود السبب لا بد من وجود المسبب، إلا لمنع، ومحال أن يكلفني الفعل بشرط وجود الفعل، وليس كذلك مقدمات الافعال، لانه يجوز أن يكلفني الصلوة بشرط أن أكون قد تكلفت الطهارة، كما جرى ذلك في الزكاة والحج، فبان الفرق بين الامرين. وإذا كان إيجاب المسبب إيجابا لسببه، فإباحة المسبب إباحة للسبب. وكذلك تحريمه. وفي الجملة أحكام المسبب لا بد من كونها متعدية إلى السبب، فأما أحكام السبب في إباحة أو حظر أو إيجاب فغير متعدية إلى المسبب، لانه يمكن مع وجود السبب المنع من المسبب. فصل في أن الامر بالشئ ليس بنهي عن ضده لفظا ولا معنى اعلم أنه من البعيد أن يذهب محصل إلى أن لفظ الامر


[ 86 ]

يكون نهيا عن ضده، لان الامر مسموع، وما يدرك لا يجب أن يقع فيه خلاف بين العقلاء مع السلامة، وما يسمع من قول القائل: افعل، لا تفعل. وإنما الخلاف في أنه هل يجب ان يكون الآمر في المعنى ناهيا عن ضد ما أمر به، والمجبرة يبنون ذلك على أن إرادة الشئ كراهة لضده، وكراهته إرادة لضده. والفقهاء يقولون: إن الموجب للشئ يجب أن يكون حاظرا لضده، وهذا معنى النهي. وفيهم من يقسم، ويقول: إذا لم يكن للفعل إلا ضد واحد، فالامر بأحدهما نهي عن الآخر، والنهي عن أحدهما أمر بالآخر، وإذا كانت له أضداد كثيرة، لم تجب فيه هذه القضية. وقد دللنا فيما تقدم على ما يبطل هذا المذهب، وبينا أن الذي يقتضيه الامر كون فاعله مريدا للمأمور به، وأنه ليس من الواجب أن يكره الترك، بل يجوز أن يكون مريدا له، أو لا مريدا ولا كارها. وهذا كله يسقط بالنوافل، فإن الله – تعالى – قد أمر بها، وما نهى


[ 87 ]

عن تروكها ولا كره أضدادها، وكون نفس الارادة كراهة قد بينا فساده، وأنه يؤدي إلى انقلاب الجنس. فإن قيل: أفيجب عندكم في الامر إذا كان بفعل واجب أن يكون الآمر به كارها لتركه. قلنا: لا يجب ذلك، ولهذا جاز عندنا أن يجتمع الضدان بل الاضداد في الوجوب، ألا ترى أن المصلي في آخر الوقت هو مخير بين أن يصلي في أي زوايا البيت شاء، والصلوة في الزوايا متضادة، وكل واحد يقوم مقام الآخر في الوجوب، مع التضاد. فإن قدرنا أنه لا ينفك عن الواجب إلا بفعل واحد أو أفعال فذلك محرم عليه، لان الواجب المضيق هو الذي ليس له أن يخل به، فكل فعل لا يكون مخلا بالواجب إلا به، ولا ينفك مع الاخلال منه، فلا بد من كونه محظورا. وأما النهي، فيقتضي أن لا يفعل المكلف ذلك المنهي عنه، وأضداد هذا الفعل موقوفة على الدليل، فإن كان المكلف لا ينفك متى لم يفعل، من أمر واحد، فهو واجب عليه بلا شبهة، لان ما أوجب مجانبة الفعل


[ 88 ]

المحرم، وأن * لا يفعله، يقتضي فعل ذلك. ومما يبين فساد مذهب من ذهب إلى أن الامر بالشي ء في المعنى نهي عن ضده، أن الله تعالى قد كره الزنا وأراد الصلوة، وأمر بالصلوة ونهى عن الزنا، وهذا يقتضي أن يكون الفعل الواحد الذي هو قعوده عنهما مرادا مكروها، أو مأمورا به منهيا عنه. وكان يجب أيضا أن يكون أحدنا متى أراد خروج الغاصب من أحد بابي الدار، أن يكون كارها لخروجه من الباب الاخر، كما يكره تصرفه في الدار، وفساد ذلك ظاهر. فصل في الامر بالشئ على وجه التخيير اعلم أن الصحيح ان الكفارات الثلاث في حنث اليمين واجبات كلهن، لكن على جهة التخيير، بخلاف ما قاله الفقهاء من أن الواجب منهن واحدة لا بعينها، وفي كشف المذهب هيهنا وتحقيقه إزالة للشبهة فيه. ونحن نعلم أن تكليفه تعالى للشرائع تابع للمصحلة و الالطاف، وليس يمتنع أن يعلم في أمر معين أن المكلف لا يصلح في


[ 89 ]

دينه إلا عليه، وأنه لا يقوم غيره في ذلك مقامه، فلا بد من إيجابه على جهة التضييق. وغير ممتنع أن يعلم في أمرين أو أمور مختلفة أن كل واحد في مصلحة المكلف في دينه كالآخر من غير ترجيح، فلا بد و الحال هذه من الايجاب على طريقة التخيير، للتساوي في وجه المصلحة، والشاهد يقضي بما ذكرناه، لان أحدنا إذا أراد مصحلة ولده، وعلم، أو غلب في ظنه أنه لا يصلح إلا بان يفعل به فعلا مخصوصا، وجب ذلك الفعل معينا، وإذا غلب في ظنه تساوي فعلين أو أفعال في مصلحته، كان مخيرا فيها. والقول بوجوب بعض ذلك دون بعض كالمتناقض. وأقوى ما دل على ما ذكرناه أن الكفارات الثلاث متساوية في جميع الاحكام الشرعية، لان كل واحدة منها يقوم مقام الاخرى في براءة ذمة المكلف وإسقاط الحنث عنه، وكل حكم شرعي لواحدة منها فهو للاخرى، فلا يجوز مع التساوي في الاحكام أن يختلف في الصفة، لان إختلاف الصفات يقتضي اختلاف الاحكام،


[ 90 ]

من حيث كانت الاحكام صادرة عن الاحوال والصفات، فكيف يجوز أن يكون الواجب من الكفارات واحدة، وأحكام الكل الشرعية متساوية متعادلة، وهل ذلك إلا مناقضة. ولو جاز أن يتساوى أمور في الاحكام، ويختص الوجوب بأحدها، جاز أن يتساوى أمور في كونها مفسدة في الدين، وتكون مختلفة في القبح أو التحريم و الحظر. وأي فرق بين القول بأن الواجب من الكفارات واحدة، و الكل متساو في الاحكام، وبين القول بأن المحظور من أمور متساوية في المفسدة هو واحد لا بعينه. ومما يستدل به ان الواجب من الكفارات لو كان واحدا لا بعينه، لوجب أن يجعل الله – تعالى – للمكلف طريقا إلى تمييزه قبل أن يفعله، لان تكليفه أن يفعل واحدا لا بعينه من جملة ثلاث يجري مجرى تكليفه ما لا يطاق.


[ 91 ]

وليس لهم أن يقولوا: أي حاجة به إلى التمييز، وأي شئ فعله كان الواجب، وذلك أن الامر إذا كان على ما ذكروه، فهو تصريح بوجوب الثلاث، لانه إذا كان أي شئ فعله منها فهو الواجب، فهل هذا إلا تصريح بأن الكل واجب. فإن قالوا: ليس يمتنع أن يكون إختيار المكلف له علما على وجوبه وتعينه، قلنا: هذا يؤدي إلى مذهب مويس بن عمران، في أن الله – تعالى يكلف العبد أن يختار ما يشاء من العبادات، ويكون مصلحة بإختياره، لان الله – تعالى – علم أنه لا يختار إلا الصلاح من غير أمارة مميزه متقدممة. ويلزم عليه أن يكلف تمييز نبي صادق مما ليس بنبي من غير أمارة ولا دلالة مميزة متقدمة. وبعد، فإن إختيار المكلف إنما يكون تابعا لاحوال الفعل وصفاته، و لا تكون أحوال الفعل تابعة لاختيار المكلف وإرادته، ألا ترى أن وجوب الفعل هو الداعي إلى إختياره له على غيره، فيجب أن يتقدم العلم بالوجوب على الاختيار، ولا يجعل الاختيار متقدما على الوجوب.


[ 92 ]

وبعد، فليس يخلو الاختيار من أن يكون مؤثرا في وجود الفعل، أو مؤثرا في حصول الصفة التي لاجلها كان مصلحة في الدين، والاول، هو الصحيح، والثاني باطل، لان كونه مصلحة لا يجوز أن يؤثر فيه حال القادر، لان حال القادر لا يؤثر إلا في مجرد الوجوب، ألا ترى أن ما أوجبه الله – تعالى – من الفعل المعين لا يؤثر حال القادر في الصفة التي لاجلها كان واجبا، بل في مجرد الوجود، فكذلك الواجب على جهة التخيير. فإذا قالوا: أليس قد يصح البيع لقدر مخصوص من الكيل من جملة صبرة، ويتعين باختيار القابض وقت القبض، فكيف أخلتم أن يكون للاختيار مدخل في التعيين *. قلنا: إنما أنكرنا أن يكون للاختيار مدخل في المصالح الدينية ووجوب الواجبات منها، فأما ما لا يتعلق بالمصالح الدينية من المعاملات


[ 93 ]

فقد يجوز أن يتعين عند القبض بالاختيار. ومما يدل أيضا أنه لو كان الواحدة من الكفارات هو الواجب لا بعينه، لما صح القول بأن للمكفر أن يكفر بأي الثلاث شاء. وأيضا فإن الواجب وإن لم يتعين للمكفر، فإن الله – تعالى – يعلمه، لانه يعلم ما الذي يكفر به المكفر من جملة الثلاث، فيجب على هذا القول أن يكون الله – تعالى – موجبا لذلك بعينه، ولو كان كذلك لما اجتمعت الامة على أنه لو كفر بغيره، لاجزأه، كما لا يجوز أن يجزيه، لو كفر برابع. وليس لهم أن يقولوا: جوازه عند الامة لا يدل على وجوبه، لانه قد يجزى ما ليس بواجب على الواجب كالطهارة قبل دخول الوقت، و ذلك أنهم لما أجمعوا على جواز ما لم يكفر به وإجزائه، فقد أجمعوا على أنه كان يجزي على وجه لا فرق بينه وبين ما اختاره. وقد تعلق من خالفنا بأشياء: منها أن القول بالتخيير يؤدي إلى أن يكون المكلف مخيرا


[ 94 ]

بين عبيد الدنيا كلها، وكذلك الكسوة والاطعام، وذلك فاسد. ومنها أنه – تعالى – لو نص على أني أوجبت واحدا لا بعينه، لكان هو الواجب، فكذلك إذا خير فيه، لان المعنى واحد. ومنها أنه لو فعل الكل، لكان الواجب واحدا بإجماع، فكذلك يجب أن يكون الواجب واحدا قبل أن يفعل. ومنها أن الجميع لو وجب على جهة التخيير، والجمع بين الثلاث ممكن، لوجب أن يكون واجبة على سبيل الجمع، كما أن ما نهي عنه تخييره كجمعه. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: إن التخيير لا يكون إلا بين أمور تدخل في الامكان، فالمكفر مخير بين عتق من يتمكن من عتقه في الحال، وكذلك القول في الاطعام والكسوة، فإذا لم يملك المكفر إلا رقبة واحدة، زال التخيير في الرقاب، لانه لا يجوز


[ 95 ]

أن يكون مخير بين عتق عبد يملكه وبين عتق عبد لا يملكه، و لهذا نقول: أنه متى ضاق وقت الصلوة، فالمصلى مخير بين البقاع المتقاربة دون المتباعدة، وإذا كان الوقت واسعا، جاز أن يتعدى التخيير إلى الاماكن المتباعدة. على أن هذا المعترض يلزمه أن يكون المكفر مأمورا بعتق واحد من عبيد الدنيا كلها، وكذلك في الاطعام والكسوة، فليس ينفصل من ذلك إلا بمثل ما ذكرناه من إعتبار الطاقة والامكان. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: ومن الذي يسلم لكم جواز أن ينص الله – تعالى – على أني أوجبت واحدا لا بعينه ؟ أو ليس قد بينا أن ذلك لا يصح في التكليف، وبينا أيضا أن الامور المتساوية في وجه المصلحة لا يجوز أن يوجب بعضها دون بعض ؟. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: إنا لا نقول فيما فعله: أنه واجب إلا على وجه دون وجه، ولا بد من تفصيل بيان هذا الجملة، فنقول: إن قولنا: واجب، قد يطلق، وقد يضاف: فإذا أطلق، أفاد وقوعه


[ 96 ]

على وجه الوجوب، ولم يجز إجراء هذه العبارة على المعدوم إلا مجازا وإتساعا، ويجري (واجب) في هذه القضية مجرى قولنا في الفعل: إنه حسن. فأما المضاف فقولنا: واجب على المكلف، وهذا وجه يختص المعدوم، فإن الموجود لا يصح أن يفعل، وكلامنا في الكفارات الثلاث أيها هو الواجب ؟ وإنما المراد به ما الذي يجب أن يفعله المكلف منها ؟ فإذا فعل واحدا منها، فقد خرج من أن يجب عليه وإنما نقول: كان واجبا عليه، وكذلك: إذا فعل الثلاث، فقد خرجت من أن تكون واجبة عليه على سبيل التخيير لانه لا تخيير بعد الوجود. فإن قيل: فإذا جمع بين الكل، ما الواجب المطلق منها ؟ قلنا: إن كان جمع بينها، لم يخل من أن يكون فعل واحدا بعد الآخر، أو كان وقت الجميع واحدا، فإن كان الاول، فالذي يستحق عليه ثواب الواجب هو الاول، وإن جمع بينها في وقت واحد،


[ 97 ]

استحق ثواب الواجب على أعلاها وأكثرها ثوابا، ولا معنى للنظر في تعيين ما يستحق به ثواب الواجب، لانه لا فائدة له فيما يتعلق بالتكليف، ولا حجة للفقهاء فيما إختلفنا فيه، لانا إنما نخالفهم فيما يجب أن يفعله المكلف من الكفارات قبل أن يفعله، فنقول: إن الجميع واجب على سبيل التخيير، ويقولون: الواجب واحد لا بعينه، فأي منفعة لهم في أن يكون المستحق به ثواب الواجب بعد الفعل هو واحد ؟ ومعنى قولنا هيهنا: إنه واجب، غير المعنى فيما اختلفنا فيه، ولا شاهد في أحد الامرين على الآخر مع إختلاف المعنى، وإنما تشاغل بذلك من الفقهاء من لا قدرة له على التفرقة بين هذه المعاني و ترتيبها مراتبها. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: ليس * بواجب فيما وجب على سبيل التخيير أن يكون واجبا على طريقة الجمع وإن كان الجمع بينه ممكنا لانا قد بينا أن الامور المتساوية في حكم من الاحكام


[ 98 ]

إنما تجب على التخيير دون الجمع، لانه لا وجه لوجوبها جميعا، ألا ترى أن من غلب في ظنه أن مصلحة ولده تكون في أفعال متغايرة يقوم كل واحد منها مقام صاحبه، إنما يجب عليه هذه الافعال على سبيل التخيير، ولا يجوز ان يجب عليه الجمع بينها، لانه لا وجه لوجوبه على هذا الوجه. فأما قياسهم ذلك على ما يتناوله النهي، فسيجئ الكلام فيه في باب النهي، ونذكر الصحيح منه بمشية الله تعالى. واعلم أن ما كلفه الله – تعالى – ينقسم إلى وجوه ثلثة: أولها أن يكلف الله – تعالى – الفعل بأن يريده، ويكره كل تروكه، فعبرنا عما هذه حاله بأنه واجب مضيق. والقسم الثاني أن يريد – تعالى – الافعال، ولا يكره ترك كل واحد منها إلى الاخر، ويكره تروكها أجمع، فعبرنا عنها بأنها واجبة على سبيل التخيير، كالكفارات. والقسم الثالث: أن يريد – تعالى – الفعل، ولا يكره شيئا من تروكه، فعبرنا عن ذلك بأنه ندب. وينقسم ما خير الله – تعالى – فيه إلى ثلاثة أقسام:


[ 99 ]

أحدها أن يريد – تعالى – كل أحد من ما خير فيه مجتمعا أو منفردا، وإن كان عند الوجود الواجب منه الواحد، كالكفارات. وثانيها أن يريد كل واحد، ويكره فعله مع الآخر، مثاله أمر الولي بتزويج من إليه أمره من النساء، لانه أريد منه تزويجها من كل زوج بإنفراده، وكره ذلك منه مع غيره. وثالثها أن يريد كل واحد على الانفراد، ومع إجتماع غيره إليه لا يريده، ولا يكرهه، ومثاله ستر العورة للصلوة، لانه مخير في سترها، والجمع في ذلك مباح، ليس بمراد ولا مكروه. فصل في الامر المطلق هل يقتضي المرة الواحدة أو التكرار اختلف في ذلك، فذهب قوم إلى أن مطلق الامر يفيد التكرار، وينزلونه منزلة أن يقول له: افعل ابدا. وذهب آخرون إلى أنه يقتضي بظاهره المرة الواحدة من غير زيادة عليها. وذهب آخرون إلى الوقف في مطلق الامر بين التكرار والاقتصار على المرة الواحدة.


[ 100 ]

وتحقيق موضع الخلاف إنما هو في الزيادة على المرة الواحدة، لان الامر قد تناول المرة الواحدة بلا خلاف بين الجماعة، وإنما ادعى أصحاب التكرار أنه أرادها وأراد الزيادة عليها، وقال المقتصرون على المرة الواحدة: أنه أرادها ولم يرد زيادتها عليها، وقال صاحب الوقف: أراد المرة بلا شك، وما زاد عليها لست أعلم هل أراده، كما قال أصحاب التكرار، أو لم يرده، كما قال أصحاب المرة، فأنا واقف فيما زاد على المرة لا فيها نفسها، وهذا هو الصحيح. والذي يدل عليه أشياء: أولها أنه لا يجوز أن يفهم من اللفظ ما لا يقتضيه ظاهره، وكيفية تناوله لما هو متناول له، وقد علمنا أن ظاهر قول القائل: (اضرب غير متناول لعدد في كثرة وقلة، كما أنه غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب، فيجب أن لا يفهم من إطلاقه ما لا يقتضيه لفظه، وإنما يقطع على المرة الواحدة، لانها أقل ما يمتثل به الامر، فلا بد من كونها مرادة.


[ 101 ]

وثانيها أنه لا خلاف أن لفظ الامر قد يرد في القرآن وعرف الاستعمال، ويراد به تارة التكرار، وأخرى المرة الواحدة من غير. زيادة، وقد بينا أن ظاهر إستعمال اللفظة في معنيين مختلفين يدل على أنها حقيقة فيهما ومشتركة بينهما إلا أن تقوم دلالة. وثالثها حسن إستفهام من أمر أمرا مطلقا ولا عهد ولا عادة ولا قرينة على المراد، وهل هو الاقتصار على المرة الواحدة أو التكرار، وحسن الاستفهام دال على إشتراك اللفظ وعدم إختصاصه. ورابعها أنا نعلم حسن قول القائل لغيره: افعل كذا وكذا أبدا، أو: إفعله مرة واحدة بلا زيادة عليها، فلو كان مطلق اللفظ موضوعا للتكرار، لما حسن أن يقول له: إفعل ابدا، لانه مفهوم من قوله الاول، ولو كان موضوعا للمرة الواحدة بلا زيادة عليها، لما حسن أن يقول: إفعل مرة واحدة ولا تزد عليها، لان ذلك عبث غير مفيد.


[ 102 ]

فإن ذكروا: أنه يفيد التأكيد وهو معنى مقصود قلنا: التأكيد إن لم يفيد فائدة زائدة على فائدة اللفظ المؤكد، كان عبثا ولغوا، والكلام موضوع للافادة، فلا يجوز أن يستعمل منه ما لا فائدة فيه. وقد تعلق من قال بالتكرار بأشياء: أولها قولهم (إن أوامر القرآن المطلقة تقتضي التكرار) ثانيها قياس الامر على النهي في إقتضائه التكرار. ثالثها إن الامر المطلق ليس بأن يتناول بعض الاوقات أولى من بعض، فيجب * تناوله الكل. ورابعها قولهم (لو لم يقتض التكرار، لما صح دخول النسخ فيه). وخامسها قولهم (لو لم يقتض التكرار. لما حسن أن يقول افعل مرة واحدة). وسادسها قولهم (لو لم يقتض التكرار، لكان المفعول ثانيا قضاء لا اداء). فيقال لهم فيما تعلقوا به اولا: إنا لا نسلم لكم أن أوامر القرآن


[ 103 ]

كلها تقتضي التكرار، فإن فيها ما يقتضي المرة الواحدة كالحج والعمرة عند من أوجبها، والذي يتكرر من ذلك فتكرره مختلف غير متفق، الا ترى أن الصيام والزكاة يتكرران في كل عام مرة، و الصلوة تتكرر في كل يوم خمس مرات، فالتكرار مختلف كما تراه، ولو كان مجرد الامر يقتضي التكرار، لما اختلف هذا الاختلاف. وبعد، فالتكرار إنما علم بدليل، وخلافنا إنما هو في موضوع اللغة ومقتضى الامر المطلق، والصحيح أن كل أمر في القرآن حملناه على المرة الواحدة فإنما حملناه عليها بدليل غير الظاهر، وكل أمر حملناه على التكرار فإنما حملناه عليه بدليل سوى الظاهر. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: إن النهي عندنا كالامر في أنه لا يقتضي التكرار بإطلاقه وبمجرده، وإنما نحمله عليه متى حملناه بدليل غير الظاهر، ونحن نسوي بين الامر والنهي في هذه القضية. وقد فصل قوم بين الامر والنهي بأن النهي يقتضي قبح الفعل، وقبحه مستمر، فتكرر لذلك. وهذا ليس بشئ، لان نهي الحكيم


[ 104 ]

يقتضي قبح الفعل لا محالة، غير أن قبحه ربما اختص بوقت دون وقت، فلا يجب إستمراره في جميع الاوقات المستقبلة، ولا يمتنع أن يختص ببعضها دون بعض، كما قلناه في الوجوب الصادر عن الامر، فإذا لم يجب في الامر التكرار، فكذلك في النهي. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: إنما يجب – إذا لم يختص لفظ الامر وقتا دون وقت – أن لا يحمل على شئ من الاوقات، إلا بدليل، ولا نحمله على الجميع، وكيف نحمله على الجميع، ولم يتناول بلفظه الجميع، كما لم يتناول المرة الواحدة بلفظه، وهذه الطريقة تدل على وجوب التوقف على الدليل والبيان. ويعارض من سلك هذه الطريقة بقول القائل: لقيت رجلا، أو أكلت شيئا، ونحن نعلم أن قوله ليس بأن يتناول بعض من له صفة مخصوصة من الرجال بأدون من بعض، وكذلك في الشئ المأكول: إنه ليس بأن


[ 105 ]

يتناول مأكولا بعينه أولى من غيره، ولا يجب مع ذلك أن يحمل قوله: لقيت رجلا على أنه لقي رجلا له كل الصفات التي تكون للرجال مما ليس بمتضاد، كأنه لقي رجلا طويلا أسود عاقلا فقيها قرشيا له كل الصفات التي ليس قوله بأن يتناول بعضها أولى من بعض، وكذلك في المأكول وصفاته، ومعلوم خلاف ذلك. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: إنا وإن لم نقل: أن التكرار مفهوم من مطلق الامر، فعندنا أنا قد نعلمه بدليل، ومن جملة أدلة التكرار دخول النسخ، فبدخول النسخ يعلم أنه متكرر. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: قد بينا أن قول القائل عقيب الامر: أبدا أو مرة واحدة، يدل على صحة ما ذهبنا إليه من إحتماله للامرين، ومن تعلق بما حكيناه، ينتقض كلامه بقول القائل: افعل أبدا، فإنه لو كان لفظ (افعل) يقتضي التكرار، لما جاز أن يقول: إفعل أبدا، لانه مفهوم من قوله الاول، ولو كان موضوعا للمرة الواحدة لما حسن أن


[ 106 ]

يقول أبدا: مرة فإن قال إنما حسن ذلك تأكيدا، فقد بينا ما في التأكيد. على أنه إن رضي بالتأكيد فليرض بمثله فيمن قال افعل مرة واحدة. ويقال لهم فيما تعلوا به سادسا: إن من يقول: أن الامر على الفور، وأنه يقتضي المرة الواحدة، يقول: أن المفعول ثانيا قضاء في المعنى، وليس بأداء، والصحيح أنه ليس بقضاء، لانا قد بينا أن مطلق الامر لا يقتضي بلفظه لا مرة ولا مرات، وسنبين أنه لا يقتضي فورا ولا تراخيا، وأن اللفظ محتمل لذلك كله، وإن لم يعلم إلا بدليل، فلا يجب أن يكون المفعول في شئ من هذه الاوقات قضاء لان اللفظ يحتمله كما يحتمل غيره. وأما من ذهب إلى أن مجرد الامر يقتضي المرة الواحدة بلا زيادة عليها. فإنه تعلق بأشياء: أولها أن أهل اللغة لا يختلفون في أن من أمر غيره بفعل


[ 107 ]

ولا عادة متقدمة – إنه يعقل مرة واحدة بلا زيادة عليها. وثانيها أن أهل اللغة إشتقوا من المصدر الذي هو الضرب أمثلة: من جملتها ضرب ويضرب وسيضرب، ومن جملتها اضرب، وقد علمنا أن جميع ما اشتقوه لا يفيد التكرار، فيجب أن يكون الامر بمثابته. وثالثها أن الآمر غيره بأن يضرب إنما امره بأن يجعل نفسه ضاربا، وهو قد يكون بهذه الصفة بالمرة الواحدة، فلا يجب ما زاد عليها *. ورابعها أنهم حملوا الامر على الايقاعات والتمليكات والتوكيلات في أنه لا يفيد التكرار. فيقال لهم فيما تعلقوا به اولا: قد إقتصرتم على الدعوى، لانا لا نسلم لكم أن المأمور بأن يفعل ولا عهد ولا عادة ولا علم بقصد المخاطب يعقل المرة الواحدة، فدلوا على ذلك، فهي دعوى منكم. ثم نعارضهم بمن أمر غيره في الشاهد، وعقل منه التكرار، فإذا قالوا: إن ذلك بدلالة وقرينة، قلنا فيما تعلقوا به مثله.


[ 108 ]

ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: ومن سلم لكم في الامثلة المشتقة من الضرب: مثل ضرب ويضرب أن المراد به دفعة واحدة من غير زيادة ؟ وأي عاقل يقطع وقد سمع قائلا يقول: ضرب زيد عمروا، على أنه ضربه مرة واحدة بلا زيادة عليها ؟ والاحتمال في أمثلة الامر كالاحتمال في أمثلة الخبر، ولهذا يحسن ان يستفهم من قال: ضرب زيد عمروا، هل ضربه مرة أو مرات ؟ كما يحسن أن يستفهم مع الامر، فالخلاف في الجميع واحد، فلا ينبغي أن يستشهد بأحد الامرين على الآخر. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: لا شبهة في أن الآمر غيره بأن يضرب إنما امره بأن يصير ضاربا، غير أنه يصير ضاربا بالدفعة وبالدفعات، فمن أين أنه أمره بأقل ما يستحق به هذا الاسم، فهذا موضع الخلاف، ولذلك يحسن أن يستفهمه عن مراده، ولو كان مفهوما، لما حسن الاستفهام. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: فيما ذكرتموه ما لا يمكن فيه


[ 109 ]

التكرار، ولا يصح تزايده في الشريعة، وهو الملك والعتق، وأما الطلاق فإن التكرار إنما يصح فيه إلى حد، وهو بلوغ الثلاث، ثم لا يصح التزايد، وإنما حمل أهل الشرع قول القائل: أنت طالق على الواحدة شرعا وتوقيفا، ولولا ذلك لكان إطلاق القول محتملا، ولذلك إختلفوا في أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثا، فذهب قوم إلى وقوع الثلاث وآخرون إلى وقوع واحدة، وآخرون إلى أنه لم يقع شئ، وهذا بحسب ما قادتهم إليه الطرق الشرعية. فصل في أن الامر المعلق بشرط أو صفة هل يتكرر بتكرارهما قد ذهب قوم إلى أنه يتكرر بتكرارهما. والصحيح أن الامر المطلق في هذه القضية كالمشروط، وأن الشرط لا يقتضي فيه زيادة على ما إقتضاه إطلاقه، فإن كان إذا أطلق إقتضى المرة الواحدة، فكذلك حكمه مع الشرط، وإن كان مطلقا يقتضي التكرار، فكذلك إذا كان مشروطا، وإن كان التوقف بين الامرين واجبا مع الاطلاق، فكذلك


[ 110 ]

مع الشرط. والذي يدل على ذلك كل شئ دللنا به على أن الامر المطلق لا يقتضي التكرار من الوجوه الاربعة فلا معنى لاعادتها. ويدل على ذلك أيضا أن من شأن الصفة أو الشرط إذا ورد عقيب الامر أن يختص ما يتناوله الامر بذلك الشرط أو بتلك الصفة من غير تأثير في تكثير له ولا تقليل، ولا يجري تعقب الصفة أو الشرط للامر مجرى تعقب الاستثناء، لان الاستثناء يؤثر في عدد ما تناولته الجملة المتقدمة، فيقلل منها، فإذا خالف حكم الشرط في هذا الباب حكم الاستثناء، ووجب أن يفهم من مشروط الامر ما كنا نفهمه من مطلقه في قلة أو كثرة. وقد تعلق من ذهب إلى التكرار بتكرر الصفة أو الشرط بأشياء: أولها أن كل أمر ورد في القرآن مقيدا بشرط أو صفة يتكرر بتكررهما، كقوله – تعالى -: (وإن كنتم جنبا، فاطهروا)، وقوله


[ 111 ]

– سبحانه -: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة). وثانيها حملهم الشرط على العلة، فإنها إذا تكررت تكرر الحكم، وكذلك الشرط. وثالثها أنه لو لم يتكرر، لكان الفعل إذا لم يفعل مع الشرط الاول وفعل مع الثاني، يكون قضاء لا أداء. ورابعها حمل الامر المعلق بشرط على النهي المعلق بشرط في وجوب التكرار. فيقال لهم فيما تعلقوا به اولا: قد مضى في الفصل الاول أن وجود الشئ لا يدل على أنه لا يجوز سواه، وأن الذي علم تكرره في أوامر القرآن إنما علم بدليل غير الظاهر. ثم إن التكرار أيضا مختلف لا يجري على طريقة واحدة، فعلم أن اللفظ لا يقتضيه وإنما المرجع فيه إلى الدليل، كقوله – تعالى -: (إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم)، يعني إذا عزمتم عليها، ونحن لا نسلم أنه يفيد إيجاب الوضوء لكل صلوة عند تكرارها، كصلوة


[ 112 ]

الجنازة، لا تجب فيها طهارة، وإن كانت صلوة. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: ليس العلة كالشرط، لان العلة مؤثرة في المعلول وموجبة له، فلا بد من تكرره بتكررها، والشرط ليس بموجب ولا مؤثر، وإن وقف الحكم عليه، فلا يجب أن يتكرر المشروط بتكرره، اللهم إلا أن يصير الشرط مع كونه شرطا علة، فيتكرر من حيث كان علة لا من حيث كان شرطا، ولذلك تكرر وجوب الغسل بتكرر * الجناية، لانها علة فيه وموجبة له. والشروط العقلية في أنها غير موجبة كالشروط السمعية، لان الشرط في صحة كون أحدنا قادرا هو كونه حيا، ولا يصح كونه قادرا وليس بحي، وقد يكون حيا وإن لم يكن قادرا، ولا تحله القدرة إلا ويجب كونه قادرا. ويعلم الفرق بين العلة والشرط عقلا وسمعا.


[ 113 ]

ويقال لهم فيما تعلقوا. به ثالثا: إن في الناس من يذهب إلى انه قضاء غير أداء، لانه علم وجوبه بدليل آخر. والصحيح أنه ليس بقضاء لانا قد بينا أن مطلق الامر ومشروطه محتمل للمرة والمرات على وجه واحد، فإذا عرف بالدليل أنه يكون متى فعله مع الشرط الثاني مؤديا لا قاضيا، علمنا أن الامر المشروط أريد به كل مشرط مستقبل. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: إن النهي المشروط في أنه غير مقتض بظاهره التكرار كالنهي المطلق، والامر والنهي جميعا مع الاطلاق والشرط إحتمال التكرار والمرة فيهما ثابت، وإنما يعلم في كل واحدة منهما المرة والمرات بدليل سوى الظاهر، وأخطأ من فرق بين النهي المطلق وبين النهي المشروط، فقال في المطلق: أنه يقتضي الاستمرار والتكرار، وقال في المقيد: أنه يقتضي مرة واحدة. وتعلق من فرق بين الامرين بأن القائل إذا قال لغلامه: لا تخرج إلى بغداد، وأطلق ولم يشترط، اقتضى ذلك الدوام، وإذا قال له


[ 114 ]

لا تخرج إذا جاء الصيف، أو هجم الشتاء، تخصص بالمرة الواحدة، غير صحيح، لانا لا نسلم أن الامر على ما ذكره، بل يجوز أن يريد مع الاطلاق المرة الواحدة، ومع الاشتراط الاستمرار، ولهذا يحسن مع عدم العادات والامارات أن يستفهم هذا القائل على مراده في عموم أو خصوص، والمتعلق بذلك مقتصر على دعوى لا برهان لها. فإن استشهد على قوله بإنعقاد اليمين، لانه لو حلف ليفعلن كيت وكيت، لم ينعقد إلا على مرة واحده وإذا حلف على الا يفعله، انعقد على التأييد، ومتى حلف على الوجهين بشرط، تعلق به، ولم يتكرر، لانه لو حلف أن لا يكلم زيدا إذا قدم عمرو، لم يتكرر. فالجواب عن ذلك أنا إذا سلمنا أن الحكم على ما قاله في اليمين المشروطة، وغير المشروطة، والمتعلقة بالنفي والاثبات، ولم ننازع في شئ من الاحكام، كان لنا أن نقول له: من أين لك أن


[ 115 ]

ذلك إنما علم بأصل الوضع دون أدلة الشرع، وإنما خلافنا فيما يقتضيه وضع اللغة أو عرفها، ولا خلاف في أن الادلة الشرعية تدل على ذلك. فأما ما تعلق به من ذهب إلى ان الامر المشروط يقتضي المرة الواحدة من غير زيادة عليها، من أن المولى إذا أمر عبده أن يشتري له لحما إذا دخل السوق، لم يعقل من ذلك التكرار، فباطل لانا لا نسلم له، لان العبد لا يعقل من ذلك مع الاطلاق وعدم كل عهد وعادة وأمارة لا مرة ولا مرارا، ولهذا حسن منه الاستفهام، ولولا إحتمال اللفظ لما حسن ذلك. واستشهادهم بأن القائل لو قال لوكيله: طلقها إن دخلت الدار، إقتضى المرة الواحدة من غير تكرار، باطل، لان ذلك إنما عقل شرعا وسمعا، والخلاف إنما هو فيما يقتضيه الوضع والعرف اللغوي ولولا الشرع، لكان قول القائل: طلقها إن دخلت الدار، محتملا للامرين مترددا بينهما.


[ 116 ]

فصل في أن ما يفعل بحكم الامر هو مرة واحدة وما زاد عليها يحتاج في إثباته إلى دليل اعلم أن الامر إذا ورد موقتا بوقت معين، ولم يفعل فيه، احتيج في وجوبه مستقبلا إلى دليل آخر. وذهب قوم إلى أن الامر يقتضي الفعل عقيبه، فإن لم يفعل إقتضى فعله من بعد، وعلى ذلك أبدا حتى يفعل. والدليل على صحة ما اخترناه أن الامر متناول بلفظه الوقت الاول، سواء اطاع المأمور، أو عصى، وإذا كان لو أطاع لم يتناول سواه، فكذلك إذا عصى، لان الطاعة أو المعصية لا تغير متعلق الامر. وأيضا فإن إيجاب الفعل في وقت مخصوص كإيجابه على صفة مخصوصة فكما أنه لا يتناول ما ليس له تلك الصفة، فكذلك لا يتناول ما هو في غير ذلك الوقت. ومما يؤكد ما ذكرناه أن تغاير الوقتين


[ 117 ]

يوجب تغاير الفعل، وليس كذلك تغاير الصفتين، فإذا وجب ما ذكرناه في الصفة، كان أوجب في الوقت، لانه آكد من حيث ما ذكرناه. فإن قيل: وما الدليل على أن الوقت كالصفة في هذا الحكم. قلنا: لا شبهة في أن العبادة قد تكون مصلحة في وقت دون غيره، كما تكون مصلحة لبعض الشروط أو الصفات، ألا ترى أن الامساك المخصوص يكون مصلحة في النهار * دون الليل، وفى شهر رمضان دون غيره، والوقوف بعرفة يكون مصلحة في وقت مخصوص، فقد جرى الوقت في المصالح والقرب مجرى سائر الشروط. فإن قالوا: إذا تعلق الفعل بذمة المكلف وجب الا يبرأ منه إلا بأن يفعله. قلنا: إنما تعلق وجوب فعله في الوقت المخصوص بذمته، وقد فات الوقت، فو غير متمكن في المستقبل من فعل ما كلفه بعينه. ولا شبهة في أن الامر إذا تعلق بوقت معين، لم يصح دخول النسخ فيه، وإنما يدخل في المتكرر من مقتضى الامر.


[ 118 ]

إن قيل: فيجب أن يسمى ما يفعل بعد هذا الوقت قضاء لا أداء. قلنا: كذلك يجب. فإن قيل: فما المراد بلغظة (قضى) في اللغة والشرع. قلنا: معناها في اللغة ينقسم إلى وجهين: أحدهما بمعنى خلق وتمم، كقوله – تعالى -: فقضيهن سبع سموات في يومين. والوجه الثاني الالزام نحو قوله – سبحانه -: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وقولهم: قضى الحاكم بكذا، إذا الزمه. وأدخل قوم في هذا القسم قوله – تعالى -: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب، من حيث كان ما أخبر – تعالى – به حقا ثابتا. وذهب آخرون إلى أن معنى هذه الآية الاعلام. وقيل في معنى قضى فلان دينه: أنه على القسم الاول، بمعنى أنه وفره على مستحقه بتمامه وكماله. وأما معنى هذه اللفظة في عرف الشرع فإنهم يسمون الفعل قضاء، إذا جمع شروطا ثلثة:


[ 119 ]

أولها أن يكون مثلا للمقضي في الصورة أو الغرض. وثانيها أن يكون سبب وجوب تلك العبادة قد تقدم حقيقة أو تقديرا. وثالثها أن يثبت التعبد بالقضاء بسبب هو غير السبب الاول. ولا بد زائدا على ذلك من أن تكون العبادة متعلقة بوقت عرض فيه فوت، ولهذا لم نقل في الصلوة: أنها قضاء للصوم، لاختلاف الصورة. ولا قيل في فعل إحدى الكفارات: انها قضاء، لما كان سبب وجوب الكل واحدا، ويفعله ثانيا لما لم يفعله أولا. ولذلك من قصر في قضاء صلوة عند ذكرها لا يقال فيما يفعله من بعد: أنه قضاء للقضاء الاول، من حيث كان السبب واحدا. ولذلك لم نقل في صلاة الظهر إذا أديت في وسط الوقت أو آخره: أنها قضاء. و


[ 120 ]

لا يقال فيمن أخر الحج: إنه قضاه، لا سيما على قول من يقول بأنه على الفور، لما كان متى فعل فلسبب واحد، لان أوقات عمر المكلف فيه بمنزلة وقت الصلوة. وإنما قيل في الحائض: إنها تقضي الصوم، لان لما تقضيه سببا متقدما يقدر دخولها فيه. ولذلك لو كانت مجنونة، لم يلزمها القضاء، لما لم يقدر ذلك، وعلى مذهب من يوجب القضاء على المجنون إذا أدرك بعض الشهر، يجب أن يقدر فيه مثل ما يقدره في الحائض. وإنما قيل في ما يؤديه من الصلوة وقد فات مع الامام: إنه يقضيه لما كان في حكم ما تقدم سبب وجوبه، لان السبب الذي له يفعله أخيرا غير السبب الذي له يجب أولا. وإنما قيل في المفسد لحجه: إنه يقضي الحج، لانه لزمه بسبب ثان، إذ كان الاول لزمه بالدخول في الاحرام، والثاني لزمه لاجل الفساد الذي وقع.


[ 121 ]

فإن قيل: فكيف يصح دخول القضاء في النوافل، وليس هناك سبب وجوب، ولا سبب تعبد متكرر. قلنا: من يقول بدخول القضاء في النوافل لا بد من أن يجعل للتعبد، الثاني سببا ثانيا، فكأنه إذا لم يفعل ركعتي الفجر في وقتهما، يجعل الفوت سببا ثانيا للتعبد بفعل مثله بنية مخصوصة، ويسمى قضاء، ولا بد من أن يجعل لهذا السبب مزية في فعل ركعتي الفجر، ولذلك لا يجعل هذا القضاء بمنزله ما يبتديه من النوافل. وأما النوافل وإن لم يكن لها سبب وجوب تقدم، فالسبب في الندب إليها والتعبد بها متقدم لا محالة. فصل في الامر هل يقتضي إجزاء الفعل المأمور به إعلم أن جميع الفقهاء يذهبون إلى أن إمتثال الفعل المأمور به يقتضي إجزاءه. وذهب قوم إلى أن إجزاءه إنما يعلم بدليل، وغير ممتنع الا يكون مجزيا. والكلام في هذا الموضع إنما هو في مقتضى


[ 122 ]

وضع اللغة وعرفها، وأما عرف الشرع فإنا قد بينا أنه قد استقر على أن فعل المأمور به على الحد الذي تعلق به الامر يقتضي الاجزاء. والذي يدل على أن وضع اللغة لا يقتضي ذلك أن الاشارة بقولنا (إجزاء) هو إلى أحكام شرعية، كنحو وقوع التملك بالبيع، وحصول الاستباحة بعقد النكاح، ووقوع البينونة والفرقة بالطلاق، وفي الصوم أنه وقع موقع الصحة فلا يجب إعادته، وكذلك في الصلوة، وقد علمنا أن هذه الاحكام لا تتعلق بالامر، لا في لفظه، ولا في معناه، نفيا، ولا إثباتا، فكيف يدل إمتثاله على ثبوتها ولا علقة بينها وبينه، وإنما يدل * إمتثال أمر الحكيم على أن الفاعل مطيع مستحق للمدح والثواب، لان للامر تعلقا بذلك، ولا تعلق له بما تقدم ذكره من الاحكام الشرعية. وربما تعلق في ذلك بان الظان في آخر الوقت كونه متطهرا يلزمه بإجماع فعل الصلوة، فلو ذكر أنه لم يكن متطهرا، لما أجزأه فعله، ولوجب عليه القضاء، وكذلك المفسد لحجه


[ 123 ]

يلزمه المضي فليه، وإن لزمه القضاء، فقد اجتمع – كما تراه – وجوب الفعل مع أنه غير مجز. وقد طعن قوم في ذلك بأن قالوا: إنما جاز في الظان كونه متطهرا والمفسد حجه ما ذكرتم، لوقوع الاختلاف في فعله، لانه لما تيقن أنه لم يكن متطهرا، كان مؤديا للصلوة على غير الوجه الذي أمر بأدائها عليه، وكذلك المفسد لحجه، وإنما يوجب الاجزاء والصحة في الفعل الذي وقع على شرائطه كلها المشروعة. وهذا من الطاعن به غير صحيح، لانه إن إدعى أن تكامل شرائط الفعل الشرعي يقتضي إجزاءه، وأنه إنما لا يجزي لفساد أو إخلال بشئ من الشرائط، مع إستقرار شرعنا هذا، فالامر على ما ذكره، وقد زدنا على ذلك بأن أهل الشريعة قد تعارفوا وأجمعوا على أن امتثال الامر يقتضي الاجزاء. وإن إدعى أن ذلك واجب على كل حال، ومع كل شرع، ومن غير دلالة الاجماع التي أشرنا إليها، فمن أين


[ 124 ]

قال ذلك، وهل هو إلا محض الدعوى، وما المانع من ان يأمر بالبيع تقديرا وفرضا، فيكون فاعله مطيعا له ومستحقا للمدح والثواب، من غير أن يتعلق بهذا العقد هذه الاحكام المخصوصة، وكذلك القول في النكاح والطلاق، وإذا كان لا نوجب تعلق هذه الاحكام في كل حال ومع كل شرع، فما المانع من انتفائها مع امتثال الامر. واعتمادهم على أن القضاء في الشريعة إنما يقتضيه إخلال أو فساد يقع فيها صحيح، والشرع هذا والحال هذه، فمن أين وجوبه على كل حال. وقول من يقول منهم، كيف يجوز أن يقول: صل الظهر أربعا على شرائط يذكرها، ثم يقول: فإذا فعلت ذلك فاقضها بأربع ركعات، وهو إذا تعبد بذلك، كانت الثانية عبادة مستأنفة غير قضاء للاولى، عجيب، لانه غير ممتنع ذلك فرضا وتقديرا، وإنما يمتنع والشرع هذا، وما المانع من أن تكون العبادة بالصلوة الثانية تسمى قضاء


[ 125 ]

على عرف هو غير عرفنا الان. على أنه قد يتعلق بالصلوة المجزية أحكام هي غير سقوط الاعادة، مثل حقن دم المصلي وكونها على بعض الوجوه دلالة على إيمانه وإسلامه، فما المانع من أن يفعل الصلوة، ولا يثبت لها شئ من هذه الاحكام. فصل هل يتكرر المأمور به بتكرر الامر اعلم أن الصحيح هو أن الامر إذا تكرر، فالظاهر يقتضي تناول الثاني لغير ما تناوله الاول. والذى يدل على ذلك أن هذين الامرين إذا إفترقا، لدلا على مأمورين متغايرين، وكذلك إذا إجتمعا، لان الاجتماع لا يغير مقتضاهما. وأيضا فإن الكلام موضوع للافادة، ومقترنه في ذلك كمنفصله ومتى لم يحمل قول القائل: اضرب اضرب، على أن الضرب الثاني غير الاول، كان الامر الثاني لغوا، لانه لا يفيد إلا ما أفاده الاول، والاعتذار


[ 126 ]

بالتأكيد ليس بشئ، لان التأكيد متى لم يفد غير ما يفيده الموكد، كان عبثا ولغوا. فأما قول من يشترط في تغاير متناول الامر المتكرر ألا يكون الامر الاول يتناول الجنس أو العهد، وادعى أن الجنس يقتضي الاستغراق، فلا يجوز أن يفضل منه ما يتناوله الامر الثاني، وأن العهد يقتضي صرف مقتضى الثاني إلى مقتضى الاول، فليس بصحيح، لان القائل إذا قال إفعل الضرب، وكرر ذلك، فإن قوله الاول يحتمل أن يريد به الاستغراق للجنس، ويحتمل أيضا أن يريد به بعض الجنس، والظاهر من تغاير الامرين تغاير مقتضاهما، حتى يكون كل واحد منهما مفيدا لما لا يفيده الاخر، وأما العهد، فإن كان بين المتخاطبين، وعلم المخاطب أن المخاطب أراد الاول، بعرف، أو عادة، حملناه على ذلك، ضرورة، ولقيام الدلالة، فأما مع الاطلاق، فيجب حمل الثاني على غير مقتضى الاول.


[ 127 ]

والذي يحكى عن ابن عباس – رحمه الله – في قوله – تعالى -: فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، وأنه قال: لا يغلب عسر يسرين، من حيث حمل العسر المعرف على أن الثاني هو الاول، واليسر المنكر على التغاير، فمما يربأ بابن عباس – رحمة الله عليه – عنه، لموضعه من الفصاحة والعلم بالعربية. والمراد بالاية أن مع جنس العسر جنس اليسر، وإن عرف أحدهما ونكر الاخر ولا فرق بين ذلك وبين أن يقول: إن مع العسر اليسر، ويكرر، أو يقول: إن مع عسر يسر، ويكرر، لان المنكر يدل على الجنس كالمعرف، كما يقول القائل: مع خير شر، ويقول تارة أخرى: إن مع * الخير الشر، وأراد الله – تعالى – أن يبين أن العسر واليسر لا يفترقان. فإن قيل: فما الوجه في التكرار، إذا لم تذهبوا إلى حسن التأكيد.


[ 128 ]

قلنا: الوجه في ذلك التكرار هو الوجه فيما تكرر من القرآن في سورة الرحمن والمرسلات وغيرهما، وقد ذكرنا في كتاب الغرر الوجوه المختلفة فيه. فصل في الامرين المعطوف أحدهما على الاخر إعلم أن الصحيح أن قول القائل: اضرب واضرب، يقتضي أن الضرب الثاني غير الاول، وكل شئ دللنا به على أن الامر إذا تكرر من غير العطف إقتضى أن الثاني غير الاول هو دلالة في هذا الموضع. وهيهنا مزية ليست هناك، وهي حرف العطف، لان الشئ لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، ولذلك فارق النعت والصفة العطف وليس يقدح فيما ذكرناه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم، والصفات راجعة إلى موصوف واحد مع العطف، لانهم أجروا إختلاف الصفات في جواز عطف بعضها


[ 129 ]

على بعض مجرى إختلاف الموصوفين. واعلم أن المعطوف على غيره لا يخلو من أن يكون مثله، أو خلافه، أو ضده: فإن كان خلافه، فلا شبهة في إختلاف الفائدة، نحو قوله – تعالى -: أقيموا الصلوة، وآتوا الزكوة، وعطف أعضاء الطهارة بعضها على بعض. وإن كان المعطوف ضد المعطوف عليه، فإن كان الوقتان مختلفين حمل كل واحد منهما على مقتضاه في وقته، وإن كان الوقت واحدا، فلا يصح التكليف إلا على جهة التخيير. وإذا كان المعطوف مثلا للمعطوف عليه – وهو المشتبه – فالظاهر أن الثاني غير الاول، على ما ذكرناه، فإن كان المعطوف يقتضي بعض مادخل تحت المعطوف عليه، نظر، فإن كان ذلك مما يجوز إفراده بالذكر على جهة التعظيم والتفخيم كإفراد جبرئيل وميكائيل ممن ذكر من الملائكة عليهم السلام، والصلوة الوسطى عن ذكر باقي


[ 130 ]

الصلوات، احتمل الكلام أن يكون الاول على عمومه، والثانى أفرد تعظيما، وإن كان التعظيم غير لائق بالموضع، نظرنا، فإن كان المعنى يمكن فيه التكرار، كقول القائل: اضرب القوم الذين فيهم زيد، واضرب زيدا، فيحمل الاول على عمومه، والثاني على تكرار بعضه، وهو ضرب زيد، وإن كان ذلك مما لا يمكن فيه التكرار، كالعتاق، إذا قال قد أعتقت جميع عبيدي، وأعتقت فلانا، ويذكر واحدا من جملة العبيد ففي هذا الموضع يجب حمل الثاني على ما تناوله، وهو عتق العبد المخصوص، والاول على أن المراد به جماعة العبيد سوى العبد المفرد بالذكر، لاجل أن العطف يقتضي تغاير ما عطف به لما عطف عليه، وإن كان المعطوف به اعم من المعطوف عليه، احتمل من القسمة ما ذكرناه في المعطوف به إذا كان أخص، فليتأمل ذلك. فصل في أن الامر هل يقتضي الفور أو التراخي إختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أن الامر المطلق يقتضي


[ 131 ]

الفور والتعجيل وإيقاع الفعل عقيبه. ثم إختلفوا فقال بعضهم: متى لم يفعل، إقتضى أن يفعل بعد ذلك، وكذلك أبدا حتى يوقع الفعل، وفيهم من لم يوجب بالامر إلا إيقاع الفعل عقيبه، فقط. وقال آخرون إن الامر يقتضي إيقاع الفعل من غير إختصاص بوقت من الاوقات المستقبلة، وهي متساوية في إيقاعه فيها، وهؤلاء هم أصحاب التراخي. وقال آخرون: الواجب على من سمع مطلق الامر ولا عهد، ولا قرينة، ولا دلالة، أن يعلم أنه مأمور بإيقاعه، ويتوقف في تعيين الوقت أو التخيير فيه على دلالة تدل على ذلك، وهو الصحيح. والدلالة عليه أن اللفظ خال من توقيت لا بتعيين ولا تخيير وليس يجوز أن يفهم من اللفظ مالا يتناوله كما لا يجوز أن يفهم منه الاماكن والاعداد وكل شئ لم يتناوله لفظ الامر. وأيضا فلاخلاف في أن الامر قد يرد في القرآن وإستعمال


[ 132 ]

أهل اللغة ويراد به تارة الفور، وأخرى التراخي، وقد بينا أن ظاهر استعمال اللفظة في شيئين يقتضي أنها حقيقة فيهما، ومشتركة بينهما. وأيضا، فإنه يحسن بلا شبهة أن يستفهم المأمور مع فقد العادات والامارات هل أريد منه التعجيل أو التأخير، والاستفهام لا يحسن إلا مع إحتمال اللفظ وإشتراكه، ودفع حسن الاستفهام هيهنا كدفعه في كل موضع. وأيضا، فإنه يحسن بغير إشكال أن يتبع القائل قوله: قم وما أشبه ذلك من الامر، أن يقول: الساعة، وفى الثاني، أو بأن يقول: متى شئت، فلو كان اللفظ موضوعا لفور أو تراخ، لما حسن ذلك، ولكان ذكره عبثا ولغوا. وقد استدل من ذهب إلى الفور بأشياء: أولها أن الامر قد إقتضى وجوب الفعل، وتجويز تأخيره يلحقه * بالنوافل التي لا يجب فعلها. وثانيها أن الامر في الشاهد يقتضي التعجيل، بدلالة ذمهم وتوبيخهم من أخر ذلك.


[ 133 ]

وثالثها أنه لا يخلو من أن يكون لجواز تأخيره غاية، أو لاغاية له، والاول لا يقتضيه لفظ الامر، ولا غاية تذكر فيه أولى من غاية، وإن كان لا إلى غاية، فالمكلف لا يكون أبدا مفرطا، وهذا يقتضي إخراجه من كونه واجبا. ورابعها أن يحملوا مقتضى الامر على مقتضى الايقاعات من طلاق وعتاق وتمليك وغير ذلك في إقتضاء الفور والتعجيل. وخامسها أن الايجاب بالامر يقتضي فعلا واحدا، وقد ثبت بالدليل العقلي أن أفعال العباد لا يصح فيها التقديم والتأخير، فيجب أن يكون المراد أن يفعل عقيبه، ليكون الفعل واحدا، ويقوى ذلك أن الفعل إذا علمنا كونه واحدا، واتفقوا على أن المفعول عقيبه مراد وصلاح، فيجب حمل الخطاب عليه. وسادسها أن القول بالتراخي والتخيير يقتضي إثبات بدل له، لانه إذا خرج من كونه واجبا مضيقا، فلا بد من بدل، ولا دليل على وجوب هذا البدل من جهة الامر والايجاب، فيجب بطلان التخيير، ولا قول بعد ذلك إلا القول بوجوبه عقيبه.


[ 134 ]

وسابعها طريقة الاحتياط وأنها في الفور دون التراخي. وثامنها قوله – تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وقوله – سبحانه -: فاستبقوا الخيرات، وما روي عنه – عليه السلام – من قوله من نام عن صلوة، أو نسيها، فليصلها، إذا ذكرها، فذلك وقتها، فنبه عليه السلام – بذلك على أن وقت المأمور به هو عقيب الامر. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: ليس القول بجواز التأخير ملحقا للواجب بالنفل، لانه وإن جاز تأخيره فلا بد من عزم على أدائه مستقبلا، ووجوب هذا العزم عليه إذا لم يفعله مميز له من النافلة، لان النافلة يجوز تأخيرها بلا بدل هو العزم، والواجب لا يجوز تأخيره إلا ببدل هو العزم. فإن قيل: هذا يقتضي إثبات بدل بغير دليل. قلنا: إذا علمنا بالدليل أن الآمر الموجب للفعل لم يرد الفور، وإنما أراد التراخي والتخيير، فلا بد مع التخيير، فلا بد مع التخيير من إثبات هذا البدل، فما أثبتناه إلا بدليل، وإنما يستمر وجوب هذا الكلام على من ذهب إلى


[ 135 ]

أن مطلق الامر بظاهره يقتضى التراخي من غير دليل منفصل، وأما من قال: أن مطلق الامر محتمل للامرين إحتمالا واحدا، وأنه متى قطع على أحدهما، فبدليل منفصل، فلا يلزمه هذا الكلام. فإن قيل فمن أين إذا ثبت أنه لا بد من بدل، بإن البدل هو العزم. قلنا: إذا ثبت وجوب البدل، فبالاجماع يعلم أنه العزم، لان كل من أثبت بدلا لم يثبت سوى العزم. وأيضا، فإن العزم في العقول هو البدل عن كل واجب تأخر نحو قضاء الدين وسائر وجوه التصرفات لانه لو خلا من الفعل الواجب لعارض، وخلا من العزم على أدائه مستقبلا، لكان ملوما مذموما. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: إنا لا نسلم لكم في الشاهد ما ادعيتموه، لانه قد يؤمر في الشاهد بما يكون على التراخي، كما


[ 136 ]

يؤمر بما يكون على الفور، فإذا حمل على الفور أو التراخي، فبعادة، أو دلالة، أو أمارة، وكلامنا في مطلق الامر ومجرده. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: من أين قلتم: أنه إذا جاز تأخيره من غير غاية معلومة مضروبة ينتهي جواز التأخير إليها أن ذلك يلحقه بالنافلة، أو ليس قد مضى أن النافلة يجوز تأخيرها بلا غاية، ولا بدل عنها يجب عليه فعله، وأن الواجب على التراخي لا يجوز تأخيره إلا ببدل، وهذا كاف في الفرق بين الواجب والنفل، وليس يمتنع أن يستمر تكليف المكلف على ما ذكرناه، فيكون مكلفا أن يفعل الفعل أو العزم على أدائه مستقبلا، فإن أخر الفعل، وفعل العزم على أدائه مستقبلا فلا يستحق ذما، وتكليف الفعل في المستقبل ثابت عليه، وإن فعل الفعل، سقط وجوب العزم، لان من حق العزم أن لا يكون بدلا إلا بشرط بقاء الوجوب في الفعل، وإنما يستحق المكلف الذم إذا لم يكن يفعل الفعل الواجب، ولا العزم على أدائه مستقبلا. وقد ذهب قوم إلى أن الحج على التراخي، وقالوا: أن المكلف


[ 137 ]

إنما يصير مفرضا إذا غلب في ظنه أنه إن لم يحج فاته. ومنهم من يقول: إذا لحقه مرض فلم يوص به، أو لم يستأجر من يحج عنه، كان مذموما مفرطا. واعلم أنه لا يجوز أن يثبت إستحقاق الذم فيمن لا يفعل الحج مع تكامل شروطه إلا ويجعل له في الوجوب وقتا أو غاية، ولا بد من كونهما معلومين، لانه لا يجوز أن يؤاخذ المكلف بأن لا يفعل فعلا ومع ذلك يجوز له أن يؤخره أبدا، والمرض أو الضعف ربما كانا سببا لغلبة الظن للموت، وهذه غاية متميزة، فيجوز أن تعجل سببا لاستحقاق الذم بترك الحج، وقد يجوز أيضا أن يحمل الوعيد الوارد في ترك الحج على من تركه وترك العزم على أدائه مستقبلا، أو يكون متوجها إلى من * غلب على ظنه فوته بالموت، إما لمرض، أو ضعف وأما مع غير هذه الوجوه المتميزة وأمثالها، فلا يجوز أن يلحق به الوعيد، ويستحق الذم. وقول من يقول من الفقهاء: أن المكلف يكون مفرطا في الحج


[ 138 ]

إذا مات، ويقول: بموته يتبين لي ذلك، من غير بيان وقت، أو غاية، غير محصل، لان الموت لا يجوز أن يكون شرطا في تكليف المكلف، ولا الحكم بتقصيره، وإنما ينبغي أن يتميز للمكلف الشرط الذي يتضيق به الفعل عليه، ولا منفعة له في أن يتميز لغيره، أو بعد موته. وليس يشبه هذا مالا يزالون يقولونه من أنه إذا جاز أن يكلف المجاهد الرمى بشرط ألا يصيب مسلما، وإن لم يتميز له ذلك، جاز ما قلناه، وذلك أن المجاهد لم يكلف الرمي بالشرط الذي ذكروه، فإنه مجهول له غير معلوم، وإنما أمر أن يرمي مع غلبة ظنه أنه يصيب الكافر، دون المسلم، وهذا شرط متميز له معلوم، وهذا هو الجواب عن قولهم: أن الامام كلف التعزير بشرط السلامة، وكذلك المؤدب فلا معنى لاعادته. ويقال لهم فيما تعقلوا به رابعا: هذه العقود والايقاعات إنما علمنا في احكامها أنها على الفور بدليل الشرع، ولولاه لما علمناه، ونحن لا ننكر القول بالفور بدلالة منفصلة عن إطلاق الامر. وأيضا فهذا قياس، والقياس في مثل هذا الاصل لا يسوغ.


[ 139 ]

وأيضا، فإن أحكام العقود والايقاعات ليست بأفعال، وإنما هي أحكام، والامر يقتضي فعلا، وإنما يطلب وقتا لما هو فعل. وأيضا، فإن الامر له دلالة وجوب الفعل، وليس بسبب فيه، والايقاعات والعقود أسباب في هذه الاحكام، ومع وجود السبب لا بد من حصول المسبب، وليس كذلك الدلالة. وايضا، فإن العقود إنما اقتضت الفور لان الثمن بإزاء المثمن وملك أحدهما في الحال يقتضي ملك الآخر عينا كان أو دينا، ومثل ذلك ليس بموجود في مقتضى الامر. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا ليس يجب إذا كان الفعل واحدا أن يبطل التراخي والتخيير لان من يذهب إلى ذلك يجعل الفعل واحدا وإن كان مخيرا في أوقاته، وصورة الفعل إذا كانت معلومة للمكلف، صح أن يقال له: إفعل ماله هذه الصورة مرة واحدة، ولهذا يقول: أن المكلف أمر بصلوة الظهر مرة واحدة في الوقت الموسع، ولا يلزم أن يكون قد كلف صلوات كثيرة في ذلك الوقت.


[ 140 ]

فأما قولهم: أنهم أتفقوا على أن المفعول عقيبه مراد وصلاح فغلط لان من يذهب إلى وجوب الوقف مع الاطلاق لا يوافق على ذلك. ويقال لهم فيما تعلقوا به سادسا: هذا الطعن إنما يتوجه إلى من حمل الامر المطلق على التراخي من غير دليل منفصل، فأما من ذهب إلى الوقف، ولم يثبت فورا ولا تراخيا إلا بدليل منفصل، فالطعن لا يتوجه عليه. ويقال لهم فيما تعلقوا به سابعا: الاحتياط إنما يكون فيما لا يقتضي فعلا قبيحا يقع من الفاعل، وقد بينا في مسألة وجوب الامر في هذه الطريقة ما فيه كفاية. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثامنا: أما قوله – تعالى – سارعوا إلى مغفرة فهو مجاز من حيث ذكر المغفرة وأراد ما يقتضيها، ومجمل من حيث كان مبنيا على كيفية وجوب الواجبات من فور أو تراخ، لانا إنما نتقرب إلى الله – تعالى -، بأن نفعل ما أوجبه علينا أو ندبنا إلى فعله، بأن نفعله على ذلك الوجه، وفي الوقت الذي علق به، فلا دلالة فيه للمخالف. وكذلك قوله – سبحانه – فاستبقوا الخيرات. على أن


[ 141 ]

الفزع إلى هذه الآيات تسليم لما نريده من أن مقتضى الامر في الوضع لا يدل على ذلك، وإنما يرجع فيه إلى دليل منفصل. والخبر – أيضا – المتضمن لقضاء الصلوة مختص بحكم الصلوة، فكيف يعديه إلى الامر، وقد بينا أن القياس في مثل ذلك لا يدخل. فأما من حمل الامر المطلق على التراخي قاطعا، فالذي يعتمده أن يقول: أن الامر المطلق لا توقيت فيه، فلو أراد به وقتا معينا، لبينه، فإذا فقدنا البيان، علمنا أن الاوقات في إيقاعه متساوية. وأيضا فإن لفظ الامر في إقتضاء الاستقبال كلفظ الخبر المنبئ عن الاستقبال، فإذا كان قولنا: فلان سيفعل، لا ينبئ عن أقرب الاوقات، فكذلك الامر. وأيضا فإن قول القائل: اضرب زيدا، إنما يقتضي أمره له بان يصير ضاربا من غير تعيين، فليس بعض الاوقات أولى من بعض. وأيضا فإن الامر يجري مجرى أن يقول: هذا الفعل مراد منكم


[ 142 ]

في المستقبل، أو واجب عليكم، ومعلوم أنه ليس في ذلك تعيين لوقت. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: هذه الطريقة تقتضي التوقف وترك القطع على فور أو تراخ لان مع عدم التوقيت والتعيين أو التخيير ليس غير التوقف، وقولهم: لو أراد وقتا معينا لبينه، يعكس عليهم، فيقال: ولو أراد تخييرا في الاوقات كلها، وأنها متساوية، لبينه، فمن أين يجب إذا * لم يبين التعيين القطع على التخيير، ولا يجب إذا لم يبين التخيير أن يقطع على التعيين ؟ فإن قيل: كيف القول عندكم في أمر الله – تعالى – إذا ورد مطلقا عاريا من التوقيت. قلنا: يجب إذا خلا من بيان توقيت – أن يقطع على أنه لم يرد الوقت الثاني من غير فصل، لانه لو كان مراده، لبينه في هذه الحالة وهي وقت الحاجة إلى البيان، لان البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، وإن جاز تأخيره عن وقت الخطاب، ثم يتوقف، ويجوز في الاوقات


[ 143 ]

المستقبلة أن يكون مرادا في كل وقت منها، إما تعيينا، أو تخييرا، وينتظر البيان عند وقت الحاجة، وكلما صرنا إلى حال لم يرد فيها بيان، علمنا أن الفعل الموجب علينا لم يرد منا في الحال الثانية من هذه الحاضرة، للعلة التي تقدم ذكرها. فإن قيل: قد اتفق الكل على أنا لو بادرنا إلى الفعل في الوقت الثاني لكان واقعا موقعه ومبرئا للذمة. قلنا: إنما إتفق على ذلك أصحاب الفور والتراخي، فأما من يذهب إلى الوقف فلا يوافق عليه، فلا ينبغي أن يدعي الاجماع في موضع الخلاف. ثم نقول لمن قطع مع الاطلاق على التراخي: لا بد من حملكم الامر على التراخي من إثبات بدل هو العزم، وإثبات بدل واجب من غير دليل لا يجوز، وصاحب الوقف إنا يثبت هذا البدل إذا علم بدليل منفصل أن المراد بالامر التخيير، فأثبته بدليل ليس لمن قال بالتراخي مثله.


[ 144 ]

فإن قالوا: إذا ثبت وجوب الفعل، ولم يتضمن لفظ الامر تعيينا وتوقيتا، فليس غير التخيير، ومع التخيير لا بد من إثبات بدل، ولا بدل إلا العزم. قلنا: قد مضى عكس هذا الاعتبار عليكم، وقلنا: اللفظ خال من تخيير بين الاوقات، وإذا بطل التخيير، فليس إلا التعيين، ومع التعيين فلا بد من القطع على الوقت الثاني. وبعد، فأي فرق بين أن يثبتوا بدلا ليس في اللفظ وبين أن يثبت القائلون بالفور وقتا معينا ليس في اللفظ ؟ ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: هذا الوجه لازم لمن قال بالفور، لانني ما أظن أنهم يرتكبون أن الخبر في إقتضاء الفور كالامر ولا يلزم أصحاب الوقف، لانهم يقولون في الخبر والامر قولا واحدا، من التوقف وترك القطع إلا بدليل منفصل. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا، إن الخلاف في المثال الذي ذكرتموه قائم، وهو نفس المسألة، ومن يدعي الفور يقول: المفهوم من قول القائل: اضرب زيدا، أن يصير ضاربا في الثاني من غير تراخ، ومن يقول بالوقف


[ 145 ]

يسلم ان المراد كن ضاربا، غير أنه يتوقف عن الحال التي يكون فيها بهذه الصفة، لاحتمال اللفظ، ويتوقع الدليل. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: إن الكلام على هذا الوجه هو الكلام على ما تقدمه، فلا معنى لاعادته، ولعمري إنه لا توقيت في قول القائل: هذا الفعل واجب مستقبلا، أو مراد، ومع عدم التوقيت يجب التوقف، ولا نقول بتخيير، ولا فور، فما ذلك إلا ما هو توقيت بغير دليل. فصل في حكم الامر إذا تعلق لفظه بوقت إعلم أن القسمة تقتضي في هذه المسألة ثلثة أقسام: أحدها أن يكون الوقت مطابقا للعبادة، ولا يفضل عليها، ولا تفضل عنه. والقسم الثاني أن يفضل الوقت عن العبادة. والثالث أن يفضل العبادة عن الوقت. والقسم الاخير لا يدخل في تكليف الله – تعالى – لانه يقبح من


[ 146 ]

حيث كان تكليفا لما لا يطاق، فإذا وجدت الفقهاء يمر في كلامهم وجوب مالا يصح أداؤه، فيجب حمله على القضاء، كما ذكروا في الاحرام بحجتين، وإن لم يصح فعلهما، فمن جعل لهذا الاحرام حكماء قال: أنه يتضمن أداء إحدى الحجتين وقضاء الاخرى. وكذلك إختلافهم فيمن ألزم نفسه صوم يوم يقدم فيه فلان، فمن أوجب صحة هذا النذر مع قدومه وقد مضى من النهار بعضه، يجعله سببا للقضاء، ومن لا يوجب ذلك يلغيه. ومثال الوقت الموافق بلا زيادة ولا نقصان إيجاب صوم يوم بعينه. وأما القسم الثاني فإن العلماء إختلفوا على أقاويل ثلثة: فمنهم من علق الوجوب بأول الوقت، دون آخره، ومنهم من علقه بآخره، ومنهم من جعل الوجوب متعلقا بجميع الوقت، وأن المأمور مخير بين أن يفعله في أوله وبين أن يؤخره إلى آخره أو وسطه، بعد أن يفعل عزما على أدائه، وأن الفعل يتضيق عليه في آخر الوقت، فيجب


[ 147 ]

فعله بغير بدل، وهو الصحيح. والذي يدل عليه أن الوجوب إذا تعلق بجميع الوقت فلا بد مع تأخيره عن الاول من بدل هو العزم. فأما من يقول: أن الوجوب موقوف على الحال الاول، فضرب الوقت كله للفعل يمنع من ذلك. ولانه لا فرق بين قائل هذا القول وبين من خص الوجوب بآخره. على أنه لا يخلو هذا القائل من أن يذهب إلى أنه متى لم يفعله في أول الوقت، إستحق الذم، أو لا يستحق ذلك، ويبطل الاول ضرب الوقت الموسع للفعل، والقسم * الثاني يؤل إلى خلاف في عبارة. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون أول الوقت ضرب لايجابه. وما بعده ضرب لقضائه. قلنا: الوقت المضروب الاول والاخير فيه سواء، فكيف يختلف الحكم ن وما الفرق بين هذا القائل، وبين من يقول: أن الوقت الاخير ضرب للايجاب، والاول ضرب لجواز تقديمه، وإن لم يكن واجبا ؟. على أنه لا خلاف في أن من يصلي الظهر في وسط الوقت أو آخره لا يسمى قاضيا.


[ 148 ]

فأما من جعل الوجوب متعلقا بآخره، فقد ترك الظاهر، ولا فرق في فساد قوله بينه وبين من علقه بأوله. ومدار الخلاف في هذه المسألة على جواز تأخير الصلوة إلى آخر الوقت وقد بينا إنقسام الخلاف فيه إلى ثلثة أقوال. ومن علق الوجوب بآخره دون أوله ربما يقول: أنه إذا فعل في الاول كان نفلا، وأنه مع ذلك يجزي عن الفرض، كتقديم الزكوة على الحول، وربما يقول: أنه موقوف مراعى، فإن أتى آخر الوقت وهو من أهل الخطاب بهذا الصلوة، كان ما وقع في أول الوقت فرضا، وإن تغيرت حاله، وخرج عن حكم الخطاب، إما بجنون، أو حيض، إن كانت إمرأة – كان ما فعله نفلا، وقالوا بمثل ذلك في الزكوة المعجلة. والذي يدل على بطلان ما ذهب مخالفنا إليه أشياء: منها أنه لا خلاف في أن النية في الواجب من الصلوات تخالف النية في النفل منها، وأجمعوا على أن شرط النية في جميع ما يؤدي من صلوة الظهر لا يختلف، فبان بذلك أن الصلوة في الوقت كله واجبة واقعة على وجه واحد.


[ 149 ]

ومنها أن قولنا: (صلوة الظهر) يقتضي كونها واجبة مكتوبة، لانه ينبى عن الوجوب وزيادة عليه، فمن قال: أن في الظهر نفلا ترك الاجماع، وبهذا الوجه أيضا يبطل كونها موقوفة، لان كونها ظهرا قد بينا أنه يقتضي الوجوب في الحال، ويمنع من كونها مراعاة. ومنها أن النية المطابقة للصلوة أولى بأن يؤثر فيها من المخالفة، ولا شبهة في أنه لو نوى بالظهر في أول الوقت النفل لم يجز له ذلك، فعلمنا أنها واجبة. ومنها أنهم قد أجمعوا على أن الاذان والاقامة من شرط الصلوة الواجبة، فإذا إستعملا في صلوة الظهر المفعولة في أول الوقت، دل على وجوبها في تلك الحال، وأنها ليست بنفل ولا بموقوفة. ومنها أن أول الوقت لو لم يكن وقتا للوجوب، لحل في إرتفاع الاجزاء محل ما يفعل قبل الزوال. ومنها أنهم اختلفوا في هل الافضل تقديم الصلوة في أول الوقت أو في آخره، وهذا يدل على أنها تكون في الجميع واجبة، لانه


[ 150 ]

لا يجوز أن يختلفوا في هل النفل أفضل أو الفرض، لان من المعلوم أن الفرض والنفل إذا إتفقا في المشقة، فالفرض أفضل. ومنها أن كون الصلوة واجبة وجه يقع عليه الصلوة، فكيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعده، ومن شأن المؤثر في وجوه الافعال أن يكون مقارنا لها ولا يتاخر عنها. فإن قيل: أليس الداخل في الصلوة وجوب ما دخل فيه موقوف على تمامه. قلنا: معاذ الله أن نقول ذلك بل كل فعل يأتيه في الوقت فهو واجب، ولا يقف على أمر منتظر، وإنما تقف صحته على الاتصال، والمراد بذلك أنه إذا إتصل، فلا قضاء عليه، وإذا لم يتصل، فالقضاء واجب، فأما الوجوب وإستحقاق الثواب فلا يتغير بالوصل والقطع، يبين ذلك أنه ربما وجب القطع، وربما وجب الوصل، فلو تغير بالقطع وجوبه، لم يصح دخوله في الوجوب.


[ 151 ]

وقد تعلق من ذهب إلى أن الوجوب متعلق بآخر الوقت بأشياء: أولها أنه لو تعلق الوجوب بأول الوقت، لاثم بتأخيره عنه من غير بدل. وثانيها أن كل مالا يأثم بتأخير الصلوة عنه لا تكون الصلوة واجبة فيه، قياسا على قبل الزوال. وثالثها أن كل ما للمكلف أن يتركه بغير عذر فليس بواجب، كالنوافل. ورابعها أن الشمس إذا زالت وهو مقيم، ثم مضى من الوقت ما يتمكن فيه من أن يصلي الظهر، ثم سافر، وجب عليه قصر الصلوة، فلو وجبت عليه بأول الوقت، لما جاز ان يقصر، كما لو سافر بعد خروج الوقت. وخامسها أن ما بعد الزوال من الاوقات مدة يتكرر فيها إمتثال المأمور به، فيجب ان يكون وقت الجواز غير وقت الوجوب، كمدة


[ 152 ]

الحول، لما جاز أن يتكرر فيها إمتثال المأمور به، إنفصل وقت الجواز من وقت الوجوب. فيقال لهم أكثر الاقيسة التي ذكرتموها تقتضي – إذا صحت – الظن، ولا توجب العلم، ونحن في مسألة طريقها العلم، فلا يجوز أن يعتمد فيها على طرق الظن. والذي ذكروه أولا غير لازم، لانه عندنا لا يجوز أن تؤخر الصلاة عن أول الوقت إلا ببدل. هو العزم، فلم يشبه النافلة، وقد قدمنا ذلك، وبينا أنا لم نثبت هذا البدل إلا بدليل ذكرناه. فإن قيل * أيكفيه عزم في الجملة على أداء الواجبات مستقبلا، أم يجب عزم على أداء هذه الصلوة بعينها. قلنا: لا بد من عزم معين، كمن أخر رد وديعة، فإنه لا يكفيه عزم مجمل على أداء الواجبات، بل لا بد من عزم على ردها بعينها مع الامكان.


[ 153 ]

فإن قيل: كيف يكون العزم بدلا من فعل الصلوة، ومن حق البدل ألا يثبت حكمه مع القدرة على المبدل، كالتيمم مع الطهارة بالماء. قلنا: هذا الحكم الذي ذكرتموه ليس بثابت في كل بدل، لان كل واحدة من كفارات اليمين بدل من الاخرى، ويجوز له أن ينتقل إلى كل واحدة مع القدرة على الاخرى. وبعد، بهذا خلاف في عبارة، ويجوز أن نقول: ليس له أن يترك فعل الصلوة في أول الوقت إلا بفعل ما يقوم مقامها، ولا نذكر البدل. فإن قيل: من شأن ما قام مقام الشئ أن يسقط فعله وجوب ذلك الشئ، كالكفارات، وعندكم أن العزم لا يسقط وجوب الصلوة، وإن اسقط فعل الصلوة وجوب العزم. قلنا: غير ممتنع إختلاف أحكام ما يقوم مقام غيره، فيكون منه ما يسقط ما قام مقامه، ومنه ما لا يكون كذلك، والواجب الرجوع فيه إلى الادلة، ألا ترى أن المسح على الخفين عند من أجازه يقوم مقام غسل


[ 154 ]

الرجلين، ولم يسقط مع ذلك فعل المسح وجوب الغسل، كما أسقط الغسل المسح على الخفين، ألا ترى أن من مسح على خفيه، ثم ظهرت قدماه، يجب عليه غسلهما، يتقابلا في قيام كل واحد منهما مقام الاخر، وكذلك القول في الوضوء بالماء والتيمم، فغير منكر أن يكون العزم لا يسقط وجوب الصلوة، وإن قام مقامها في سقوط اللوم والاثم. فإن قيل: من شأن ما قام غيره ألا ينتقل إليه إلا لعذر، كالمسح على الخفين. قلنا: غير مسلم ذلك، لانا ننتقل من كفارة إلى اخرى بلا عذر، ومن رد الوديعة باليمين إلى اليسار ولا عذر، ومن الصلوة في مكان طاهر إلى غيره من الامكنة الطاهرة بلا عذر. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: ليس بواجب فيما إنتفى الاثم عن تأخيره أن ينتفي وجوبه، لان هذا هو حد الواجب المضيق، والموسع بخلافه، والفرق ما بين قبل الزوال وبعده أن الصلوة قبل


[ 155 ]

الزوال لا يأثم بتأخيرها من غير بدل يفعله، وبعد الزوال إذا أخرها، وجب أن يفعل بدلا منها، ومتى ترك الامرين أثم. على أن هذا ينتقض بالكفارات، لانه لا خلاف في أن الذي يفعله ويختاره من الثلاث واجب، وهو لا يأثم بتأخير ذلك والعدول عنه. وينتقض أيضا على أصولهم، لان عندهم إذا بقي من الوقت قدر ما يفعل فيه تلك الصلوة، أثم بتأخير الصلوة عنه، وإن لم تكن واجبة في تلك الحال، لان عندهم الوجوب يتعين إذا بقي من الوقت قدر تحريمة. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: الكلام في هذا الوجه هو الكلام على ما تقدمه، لان النوافل له تركها من غير عذر ولا بدل، والصلاة لا يجوز تأخيرها من غير عذر إلا ببدل. وينتقض ايضا بما يختاره من الكفارات الثلاث، إنه يجوز تركه من غير عذر وهو واجب بلا خلاف، ودفع الوديعة باليد اليمنى واجب ويجوز تركه بلا عذر بأن يدفعها باليسرى. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا من إعتبار تعين الفرض بآخر الوقت


[ 156 ]

دون أوله: إنما كان كذلك، لان للوجوب في آخر الوقت مزية على أوله، وإن إشتركا في تعلق الوجوب بهما، لانه يتضيق، ويتعين في الوقت الاخير، وهو موسع في الأول، ولهذا أعتبر في الحائض والمسافر آخر الوقت دون أوله. وبعد، فإن كيفية أداء الصلوة معتبرة بحال المكلف في وقت الاداء، يوضح ذلك أن فرض العبد بعد زوال الشمس أن يصلي الظهر أربع ركعات، وليس عليه جمعة، فإن أعتق وفي أول الوقت بقية لزمته الجمعة، وعلى هذا لا يمتنع أن يلزم الحاضر الصلوة تامة إذا أدرك أول وقتها، ثم سافر قبل خروج الوقت، أداها مقصورة، لان حاله في وقت الاداء تغيرت من إقامة إلى سفر، كما تغيرت حال العبد من رق إلى حرية، فتغيرت صفة العبادة التي تلزمه، وكذلك لو كان في أول الوقت صحيحا لزمته الصلوة قائما مستوفيا للركوع والسجود، فإذا مرض قبل آخر الوقت، ولم يتمكن من الصلوة قائما، صلى قاعدا، وموميا، بحسب ما يمكنه، فتغيرت صفة العبادة بتغير حاله في وقت أدائها،


[ 157 ]

ولا يلزم على هذا أن يقصر الصلوة متى سافر بعد خروج الوقت، لانه بعد خروجه يكون قاضيا لا مؤديا، والقاضي يجب عليه أن يقضي ما فاته على صفته التي وجبت عليه مع التمكن وزوال الاعذار، وليس كذلك من سافر في بقية من الوقت * لانه مود للصلوة في وقتها، فوجب عليه القصر، لاختلاف صفته من إقامة إلى سفر. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: الفصل بين الصلوة والزكوة أن مدة الحول المتقدمة لم تضرب في الشريعة لوجوب أداء الزكوة، والوقت من بعد الزوال مضروب لوجوب أداء الظهر، وقد دللنا على ذلك. وبعد فإن المؤدي من الزكوة قبل الحول لما كان جائزا غير واجب، تميز من المؤدي بعد انقضاء الحول بالصفة والنية والاسم، وقد بينا أن الصلوة المؤداة في أول الوقت لا تتميز من المؤداة في آخره بشئ من الاحكام. وبعد فإنا لانقول: أن الصلوة من أول الوقت إلى آخره تداخل


[ 158 ]

جوازها لوجوبها، بل نقول: أنها واجبة من أول الوقت إلى آخره من غير أن تكون جائزة، لان ذلك يوهم أنها نفل، اللهم إلا أن يراد أنه جائز تركها والعدول عنها، وإذا اريد ذلك، لم يجز أن يقال فيها نفسها: أنها جائزة، بل نقول: العدول عنها إلى بدل منها جائز، فقد انفصل بهذا التفسير وقت الجواز من وقت الوجوب. فإن قيل: قد تعلق كلامكم بان وقت الصلوة يتضيق بآخره، فبينوا كيفية التضيق. قلنا: الواجب أن يكون الوقت المضيق هو ما يغلب على ظن المكلف أن إيقاع الصلوة فيه يصادف الوقت، ولا تخرج الصلوة ولا بعضها عنه، والفقهاء يحدون المضيق بأنه قدر التحريمة، وربما قال بعضهم: حد المضيق ما وقع فيه أقل جزء من الصلوة بعد أن يكون متميزا، وهذا الذي ذكروه إنما هو حد في إدراك الصلوة، وسبب للقضاء، ولايجوز أن يكون حدا للاداء، لانه من المحال أن توقت الصلوة بوقت لا يمكن إيقاعها فيه. وليس لاحد أن يعيبنا بتشعيب هذه المسألة، والخروج منها إلى


[ 159 ]

الكلام في الفرع، لان قصدنا إنما كان إلى إيضاح الاصل بهذا التفريع، فرب فروع أعان شرحها على تصور الاصول. فصل في أن الامر لا يدخل تحت أمره إعلم أن الرتبة إذا اعتبرت بين الامر والمأمور على ما بينا، لم يجز أن يأمر الانسان نفسه منفردا، ولا مجتمعا مع غيره، والخبر لما لم يعتبر فيه الرتبة، جاز أن يخبر نفسه، وفي العقليات شاهد بذلك، وهو أن أحدنا لا يجوز أن يكون محسنا إلى نفسه، ولا متفضلا عليها، وإن جاز ذلك مع غيره. فإن قيل: ليس معنى الامر أكثر من أن يقول (افعل) ويريد المأمور به، وهذا يتأتى لانسان مع نفسه. قلنا: ذلك وإن تأتى، فإن أهل اللغة لا يسمونه أمرا، لاعتبار الرتبة، كما لا يسمون قول الصغير القدر للعظيم القدر (افعل) وإن


[ 160 ]

أراد الفعل منه – أمرا، لاجل الرتبة، ومعنى الامر حاصل في الموضعين. والصحيح أن الرسول – عليه السلام – إذا أدى إلينا خطابا عن الله – تعالى – عاما لو سمعناه من غيره كان – عليه السلام – داخلا فيه، فإنه يجب دخوله فيه، وإن كان هو المؤدى له، لانه وإن سمع من لفظه عليه السلام -، فإنه يحكيه عن ربه تعالى، فإذا حكى عنه – تعالى -: يا أيها الناس اعبدوا ربكم، كان داخلا فيه، لانه لافرق في عموم لفظه بين سماعه منه، وبين سماعه من غيره، وليس إذا حكى الرسول – عليه السلام – أمرا عن ربه – تعالى – يكون الرسول – صلى الله عليه وآله – هو الامر به بل الآمر به هو الله – تعالى – وإنما يحكي الرسول – صلى الله عليه وأله وسلم – كلامه ويؤديه على هيأته. ومن فرق بين أن يؤدي الرسول – عليه السلام – كلامه – تعالى – ابتداء وبين أن يتقدم ذلك الكلام ثم يؤمر الرسول – ص ع – بأدائه فجعله في الاول غير داخل فيه وفي الثاني داخلا، فتوهم لما


[ 161 ]

لاأصل له، وفي الحالتين يجب دخوله في عموم الخطاب، والوجه الذي له يدخل فيه إذا تقدم ثم أداه قائم في أدائه له على سبيل الابتداء، وليس يجب اعتبار الرتبة فيما يؤديه ويحكيه، لانه في الحقيقة غير آمر بما فيه من أمر ولا مخبر بما فيه من خبر، والآمر والمخبر غيره، فلا يلزم أن يكون آمرا نفسه، وكيف يخفى على أحد أن أحدنا لو قال لاحد غلمانه: قل لغلماني عني: إني قد أمرت جميع عبيدي بكذا، إن ذلك العبد المؤدي داخل في الخطاب، كما هو داخل فيه لو سمع من غيره. فصل في ذكر الشروط التي معها يحسن الامر بالفعل اعلم أن للامر تعلقا بفعل المكلف والمكلف والافعال التي يتناولها الامر، فيجب بيان الشروط الراجعة إلى كل شئ مما ذكرناه، وربما تداخلت هذه الشروط للتعلق بين هذه الوجوه. والذي يجب أن يكون الله – تعالى – عليه حتى يحسن منه الامر بالفعل شروط أربعة: أولها أن يمكن العبد من الفعل المأمور به، ويدخل في التمكين القدر والآلات والعلوم وما أشبه ذلك.


[ 162 ]

وثانيها أن يكون الفعل مما يستحق به الثواب، بأن يكون واجبا أو ندبا. وثالثها أن يكون الثواب على ذلك الفعل مستحقا، ويعلم – تعالى – أنه سيفعله به لا محالة. وشرط قوم هيهنا، فقالوا: إذا لم يحبطه، وإنما يشترط ذلك من يرى الاحباط، وإذا كان الاحباط باطلا، فلا معنى لاشتراطه. ورابعها أن يكون قصده – تعالى – بذلك الايصال إلى الثواب، حتى يكون تعريضا، وهذه الجملة صحيحة * لاشبهة فيها، لان الغرض في التكليف التعريض للمنافع التي هي الثواب، ولن يتم ذلك إلا بتكامل الشروط التي ذكرناها. فأما الامر منا فحاله تخالف في هذه الشروط حال القديم – سبحانه، – لانه قد يأمر بما يتعلق بالديانات، والظن في ذلك لا يقوم مقام العلم، فأما تمكن المأمور فالظن فيه يقوم مقام


[ 163 ]

العلم، وأما إن كان أمره بما يخصه فيكفي فيه أن يكون حسنا، وإن كان مباحا، لان الغرض يتم بذلك، وإنما شرطنا الحسن، لان الامر بالقبيح لا يكون إلا قبيحا. وأما أمره – ص ع – فالشروط فيه كالشروط في امره – تعالى – إلا العلم بإيصال الثواب، لان ذلك مما لا يتعلق به، وقد يجوز أن يقوم الظن فيه مقام العلم فيما يرجع إلى تمكن المكلف، وأما ما يرجع إلى صفة الفعل من حسن وغير ذلك فلابد من أن يكون معلوما، ويعلم استحقاق الثواب به، وأنه – تعالى – سيوفره عليه. وفي الفقهاء والمتكلمين من يجوز أن يأمر الله – تعالى – بشرط أن لايمنع المكلف في المستقبل من الفعل، أو بشرط أن يقدره، ويزعمون أنه يكون مأمورا بذلك مع المنع. وهذا غلط، لان هذه الشروط إنما تحسن فيمن لا يعلم العواقب، ولا طريق له إلى علمها،


[ 164 ]

وأما العالم بالعواقب وأحوال المكلف فلا يجوز أن يأمره بشرط، والذي يبين ذلك أن الرسول – عليه السلام – لو أعلمنا زيدا لا يتمكن من الفعل في وقت مخصوص، قبح منا أن نأمره بذلك لا محالة، وإنما حسن دخول هذه الشروط فيمن نأمره، لفقد علمنا بصفته في المستقبل، ألا ترى أنه لا يجوز الشرط فيما يصح فيه العلم، ولنا إليه طريق، نحو حسن الفعل، لانه مما يصح أن نعلمه، وكون المأمور متمكنا لا يصح أن يعلم عقلا، فإذا فقد الخبر، فلا بد من الشرط. ولابد من أن يكون أحدنا في أمره يحصل في حكم الظان لتمكن من يأمره من الفعل مستقبلا، فيكون الظن في ذلك قائما مقام العلم، وقد ثبت أن الظن يقوم مقام العلم إذا تعذر العلم، فأما مع حصوله فلا يقوم مقامه، وإذا كان القديم – تعالى – عالما بتمكن من يتمكن وجب أن يوجه الامر نحوه، دون من يعلم أنه لا يتمكن، فالرسول – ص ع – حاله كحالنا، إذا أعلمنا الله – سبحانه – حال


[ 165 ]

من يأمره، فعند ذلك يأمر بلا شرط. ويلزم من سلك هذه الطريقة أن يأمر الله – تعالى – الميت بشرط أن يصير حيا، ويأمر بما لا يكون صلاحا بشرط أن يصير صلاحا، وهذا يوجب عليهم أن لا يقطعوا في من أمره الله – تعالى – بالفعل أن ذلك من صلاحه، كمالا يقطعون بأنه متمكن لا محالة منه. وأما تعلقهم بالقطع على أن الله – تعالى – يتناول جميع المكلفين، مع اختلاف أحوالهم في التمكن، فباطل، لانا لا نسلم ذلك، بل نذهب إلى أنه لا يتناول إلا من يعلم أن التمكن يحصل له، ويتكامل فيه، ولهذا نذهب إلى أنه لا يعلم بأنه مأمور بالفعل إلا بعد تقضي الوقت وخروجه، فيعلم أنه كان مأمورا به، وليس يجب إذا لم يعلم قطعا أنه مأمور أن يسقط عنه وجوب التحرز لانه إذا جاء وقت الفعل وهو صحيح سليم – وهذه أمارة يغلب معها الظن ببقائه – فيجب أن يتحرز من ترك الفعل والتقصير فيه، ولا يتحرز من ذلك إلا بالشروع في الفعل والابتداء به، ولذلك مثال في العقل، وهو أن


[ 166 ]

المشاهد للسبع من بعد – مع تجويزه أن يخترم السبع قبل أن يصل إليه – يلزمه التحزر منه، لما ذكرناه، ولا يجب – إذا لزمه التحرز – أن يكون عالما ببقاء السبع، وتمكنه من الاضرار به. وأما من جعل من شرط حسن الامر أن يعلم الامر أن المأمور سيفعله، فخلافه خارج عن أقوال المختلفين في أصول الفقه، لانهم لا يختلفون في أن الله – تعالى – قد يأمر من يعلم أنه يطيع، كما يأمر من يعلم أنه يعصي، ولو كان ما ذكر شرطا في حسن الامر، لما حسن منا في الشاهد أمر، لانا لا نعلم العواقب. وليس لهم أن يقولوا: أنه حسن منا من حيث إنا نظن أنه يفعل، لانا قد نأمر مع الظن بأنه لا يفعل، نحو أن ندعو إلى الطعام من نظن أنه لا يقبل، وإلى الدين من نظن أنه لا يطيع. وأما من أجاز أن يأمر الله – تعالى – بالشئ بشرط أن لا ينهى عنه، فقوله باطل، وسيجي عليه الكلام في الناسخ والمنسوخ من هذا الكتاب بمشية الله – تعالى – وعونه.


[ 167 ]

وأما الصفات التي يجب كون الفعل المأمور به عليها، فتنقسم إلى أقسام: أولها أن يدخل في الصحة ويخرج عن الاستحالة. وثانيها أن يصح ممن كلفه لان صحته من غيره كاستحالته في الغرض المقصود. وثالثا صحته منه على جهة الاختيار. ورابعها أن يكون للفعل في نفسه صفة الحسن. وخامسها أن يحصل له صفة زائدة يدخل بها في أن يكون نفلا أو فرضا، وهذه شروط لابد منها في حسن الامر بالفعل. وإذا كان الكلام في الواجب، فلابد من كل ما تقدم، ومن شرط زائد، وهو حصول وجه يقتضي وجوبه. والقسم الاول يثبت بأن يعلم أن الفعل مما لا يستحيل وقوعه، بأن يكون وقته مستقبلا، ولايكون ماضيا ولا حاضرا *، لان


[ 168 ]

ما لم يكن كذلك تقبح إرادته والامر به. والقسم الثاني وهو صحته منه يدخل فيه ألا يكون الفعل مما يستحيل قدرة العبد عليه كالجواهر ومالا يتناوله قدرنا من الاعراض ويدخل فيه أن يكون غير ممنوع منه، وأن يمكنه تمييزه، وإنما أوجبنا ذلك، لان مع فقده يتعذر الفعل، ويقبح الامر بما يتعذر. والقسم الثالث يدخل فيه زوال الالجاء، وأن تكون الدواعي مترددة، لان بالالجاء يلحق الملجأ بالممنوع، ومع فقد تردد الدواعي لا يستحق الثواب الذي هو الغرض بالتكليف. والقسم الرابع أن يكون الفعل غير قبيح، ولاعار من القبح والحسن، وإنما وجب ذلك، لان الامر بالقبيح قبيح، وكذلك إرادته، والامر بما لاغرض فيه كذلك. والقسم الخامس يدخل فيه ألا يكون مباحا، وأن يقع على وجه زائد على الحسن يدخل به إما في كونه ندبا، أو فرضا، وإنما


[ 169 ]

قلنا ذلك، لان المباح كما لا يستحق بفعله في الشاهد المدح، كذلك لا يستحق به الثواب، وتكليف ما هذه حاله عبث. وإنما شرطنا في الايجاب أن يكون له وجه وجوب، لان مالا وجه له يقتضي وجوبه، فإيجابه به قبيح، يجرى مجرى تقبيح الحسن وتحسين القبيح، ولهذا لو أنه – تعالى – أوجب كفر نعمه، لم يصر ذلك واجبا. وأما الصفات التي يجب كون المأمور عليها، فجملتها أن يكون متمكنا من إيقاع الفعل على الوجه الذي أمر به، وتتفرع هذه الجملة إلى أن تكون القدرة والعلوم والآلات والاسباب والادلة كلها حاصلة، لان بوجودها يكون التمكن، ومع فقدها يحصل التعذر. واعلم أن هذه الشروط تنقسم إلى أقسام ثلاثة: أولها أن يكون مما لا يصح إلا من الله تعالى، فلابد من أن يزيح – جل اسمه – علة المكلف فيه، وذلك نحو القدرة والحاسة وكثير من الآلات ونحو كمال العقل.


[ 170 ]

وثانيها مالا يصح على الوجه المحتاج إليه إلا من العبد، كنحو الارادة والكراهة، لانهما لا يؤثران في فعله فيكون أمرا وخيرا وعبادة لله – تعالى – إلا بأن يكونا من جهة العبد. وثالثها أن يكون مما يصح من الله – تعالى – ومن جهة العبد، نحو كثير من الآلات وكثير من العلوم، وفي هذا الوجه يجوز أن يفعله – تعالى – للعبد، ويجوز أن يلزمه فعله، ويمكنه منه. وأما التي يجب أن يكون الامر عليها، فأن يكون متقدما لوقت الفعل المأمور به، ولا يحد في ذلك حدا معينا، بل يعلق ذلك بصفة معقولة، وهو أن يتم بذلك التقدم الغرض في الامر من دلالة على وجوب الفعل، وترغيب فيه، وبعث عليه، فهذا القدر هو الذي لابد منه، وما زاد على ذلك من التقدم فلا بد فيه من مصلحة زائدة. والمجبرة تخالف في ذلك، وتقول: أن الامر إذا كان إلزاما


[ 171 ]

فلا يكون إلا في حال الفعل، وما يتقدم ليس بأمر، وإنما هو إعلام. وفي أهل العدل من يذهب إلى أنه لا يجوز تقدمه إلا بوقت واحد، وفيهم من يجوز تقدمه بأوقات بشرط أن يكون المكلف من حين حصول الامر إلى وقت التكليف متمكنا مزاح العلل، ومنهم من يجوز تقدمه بأوقات – وإن يكن المكلف كذلك – إذا كان في تقدمه مصلحة لبعض المكلفين، وهو الصحيح، وفيهم من يجوز تقديمه من غير اعتبار مصلحة. ومن يعتبر المصلحة منهم من يقول: يجوز أن تكون المصلحة تحمل البعض إلى من كلف الفعل، ومنهم من لا يجوز أن يكون الصلاح هذا القدر، بل يوجب أن يستفيد به مع التحمل. وأما الذي يدل على أنه لابد من تقدمه أنه يفيد إيجاب الفعل


[ 172 ]

على المكلف، وترغيبه، وبعثه عليه، وكل هذا لايتم إلا بالتقدم. وخلاف المجبرة مبني على قولهم: أن القدرة مع الفعل، فأجروا الامر مجراها، وذلك باطل بما ذكر في مواضعه، لانه يبطل الايثار والاختيار، ويقتضي تكليف مالا يطاق، وأن القاعد عن الصلوة معذور بترك القيام إليها، لانه لا يقدر عليه. وقولهم: أن المتقدم إعلام، فإن أرادوا به أنه إعلام بلزوم الفعل في وقته، فهو خلاف في عبارة، وإن أرادوا غير ذلك، فهو غير معقول، ونحن نعلم أيضا أن الاوامر في الشاهد لا تكون إلا متقدمة، وأجمعت الامة على أن أوامر القران متناولة للخلق إلى يوم القيامة، وإن كانت متقدمة لهم. وأما تقدم الامر على الفعل أوقاتا كثيرة، فإذا كان للمصلحة، حسن لا محالة. وأما من شرط في جواز تقدمه أن يكون المكلف متمكنا


[ 173 ]

في الاحوال كلها، فقوله باطل، لان المكلف إنما يحتاج إلى التمكن ليفعل، لا لكونه مأمورا، لانه لو كان في حال الامر متمكنا، وفي حال الفعل عاجزا، قبح أمره، فلا مانع من حسن أمره بفعل يعلم الله – تعالى – أنه سيتمكن منه في حال الحاجة، وإن كان في حال الامر عاجزا وأوامر القرآن متناولة للخلق * كلهم إلى آخر التكليف، وإن كان أكثرهم في حال وجود هذه الاوامر غير متمكنين بل غير موجودين. والصحيح أن تقديمه لا يجوز أن يحسن للتحمل فقط، لان من حق الكلام أن يفعل للافادة، فلا بد في المصلحة الحاصلة فيه أن يكون راجعة إلى الافادة. ولا يجب على هذا أن تكون الملائكة – ع – مكلفة بهذه الشرعيات لاجل التحمل، وذلك أنا إنما أوجبنا في المتحمل للكلام أن يفهمه، وأن يكون مصلحة له في تحمله، ولم نوجب أن يكون الشرائع المذكورة في ذلك الكلام تلزم ذلك المتحمل، فالملائكة


[ 174 ]

على هذا يجب أن تفهم المراد بالقرآن، إذا تحملته، وأدته، وأن يكون لها في ذلك مصلحة دينية، وإن لم تلزمها الشرائع. باب في أحكام النهي فصل إعلم أن النهي لاصورة لها في اللغة تخصه، على نحو ما قلناه في الامر، لان قول القائل (لا تفعل) قد يستعمل ولا يكون نهيا، بل على سبيل التوبيخ والتعنيف، ألا ترى أن أحدنا قد يقول لغلامه لا تطعني ولا تفعل شيئا مما أريده، وهو غيرناه له، لمفارقة الكراهة التي بها يكون النهي نهيا، وإنما التعنيف، كما قال – تعالى -: اعملوا ما شئتم، ولم يرد الامر. والكلام في أنه لا صيغة له تخصه كالكلام في الامر، فلا معنى لاعادته.


[ 175 ]

والرتبة معتبرة في النهي كما أنها معتبرة في الامر، والدلالة على الامرين واحدة. وقولنا (نهى) يخص القول، بخلاف الامر، لانا قد بينا إشتراك هذه اللفظة بين الفعل والقول. والنهي إنما كان نهيا لان الناهي كاره للفعل الذي تناوله النهي، والكلام في ذلك كالكلام في أن الامر إنما كان أمرا لارادة الآمر المأمور به، وقد تقدم مستقصى. والقول في أن النهي لا يدل على أحكام الفعل كالقول في الامر، وإنما يحكم فيما نهى الله عنه بالقبح بدلالة منفصلة، وهي أنه – تعالى – مع حكمته لا يجوز أن ينهى عن الحسن، ولا ينهى إلا عن القبيح، كما قلنا في أمره – تعالى – أنه لا يدل من حيث الظاهر بل لحكمته – تعالى – على أن لما أمر به صفة زائدة على حسنه، وأن له مدخلا في استحقاق المدح والثواب، وإنما نقول أن نهيه – تعالى – على الوجوب وإن لم يكن أمره كذلك، لاجل أن يقتضي قبح الفعل، والقبيح يجب ألا يفعل.


[ 176 ]

والقول في إحتمال النهي المطلق للتكرار والمرة الواحدة مطلقا ومشروطا كالقول في الامر، وقد مضى، وإحتماله مع الاطلاق لكل وقت مستقبل إما منفردا أن مجتمعا كالقول في الامر. والقول بالفور ممكن فيه كما بيناه في الامر، غير أن التخيير في الاوقات المستقبلة غير ممكن فيه كما أمكن في الامر، لان الامر إنما يتناول على سبيل التخيير كل فعل مستقبل على البدل، للتساوي في الصفة الزائدة على الحسن، والنهي يقتضى القبح، فلو تساوت الافعال كلها في القبح، لوجب العدول عن الجميع، لا على جهة التخيير، وسنحقق دخول التخيير في النهي في الفصل الذي يلي هذا بعون الله تعالى. وليس النهي عن الشئ أمرا بضده لفظا ولا معنى كما مضى ذلك في الامر.


[ 177 ]

فصل في صحة دخول التخيير في النهي إعلم أن هذا الباب يقتضي بيان ما يصح النهي عنه من الافعال المختلفة على جمع أو بدل، وهو من لطيف الكلام، والنفع به تام، وقد دلت الادلة التي ليس هيهنا موضع ذكرها على أن المكلف يمكن أن يخلو من كل أفعاله، إذا كان مستندا أو مستلقيا وكانت الاكوان مقطوعا على بقائها، فلا يمتنع والحال هذه في أفعال جوارحه أن تكون كلها قبيحة، وإذا جاز ما ذكرناه، جاز تناول النهي لذلك أجمع، فأما إذا كانت الحال حالا لا يصح خلوه فيها من الافعال، فلا يجوز قبح الجميع، لان ذلك يقتضي ألا ينفك من القبيح، وأن يكون معذورا فيه. فأما قبح ضدين ولهما ثالث يمكنه أن ينفك منهما إليه، فمما لا شبهة في جوازه.


[ 178 ]

وقد يصح أن يقبح منه كل أفعاله على وجه، ويحسن على وجه آخر، وعلى هذا الوجه يصح القول بأن من دخل زرع غيره على سبيل الغصب أن له الخروج عنه بنية التخلص، وليس له التصرف بنية الافساد، وكذلك من قعد على صدر حي إذا كان إنفصاله منه يؤلم ذلك الحي كقعوده، وكذلك المجامع زانيا، له الحركة بنية التخلص، وليس له الحركة على وجه أخر. وأما بعض تصرفه، فقد يصح أن يقبح على كل حال. فأما حسن جميع ذلك أو بعضه على البدل والجمع، وعلى وجه دون وجه، فلا شبهة فيه. والنهي عن ضدين على الجمع يقبح من حيث يستحيل وجودهما معا، فلا يقع ذلك من حكيم. واعلم أنه غير ممتنع في فعل أن يقبح لكون ما يسد مسده معدوما كما لا يمتنع أن يكون صلاحا إذا كان غيره معدوما، فغير ممتنع على هذه الجملة أن ينهى * الحكيم عن فعلين مختلفين على التخيير والبدل، بأن يكون في المعلوم أن كل واحد منهما يقبح بشرط


[ 179 ]

عدم الاخر، فلا يمكن القول بقبحهما جميعا على الاطلاق، لان الاشتراط الذي ذكرناه يقتضي أنهما متى وجدا لم يقبح واحد منهما، ومتى وجد أحدهما قبح لا محالة، فالنهي عن المختلفين إذا صح ما ذكرناه – على سبيل التخيير صحيح جائز، وليس يجري المختلفان في هذا الحكم مجرى الضدين، لان كل واحد من الضدين متى وجد وجب عدم الاخر، وما يجب لا محالة يبعد كونه شرطا في قبحه، وهذا في المختلفين أشبه بالصواب، وكذلك المتماثلان. فصل في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه اعلم أن المنهي عنه على ضربين: أحدهما لا يصح فيه معنى الفساد والصحة والاجزاء، والضرب الاخر يصح ذلك فيه، فمثال الاول الجهل والظلم وما جرى مجريهما مما لا يتعلق به أحكام شرعية، ومثال الثاني الطلاق والنكاح والبيع والصلوة لتعلق الاحكام بكل ما ذكرناه، فإذا أطلق القول بأن النهي هل يقتضي الفساد أو الصحة، فالمراد به القسم الذي يصح فيه ذلك.


[ 180 ]

وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من جعل النهي دالا على الفساد كدلالته على التحريم من جهة اللغة، ومنهم من جعله دالا على الفساد من جهة أدلة الشرع، ومنهم من لم يجعله دالا على الفساد، وقال: لا يمتنع مع النهي كون المنهي عنه مجزيا، كما لا يمتنع كونه غير مجز، ونقف على الدليل. والذي نذهب إليه أن النهي من حيث اللغة وعرف أهلها لا يقتضي فسادا ولا صحة، وإنما نعلم في متعلقه الفساد بدليل منفصل، فأما من ذهب إلى أن أدلة الشرع دلت على تعلق الفساد بالمنهي عنه، فإن أراد بدليل الشرع ما ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب من أن الصحابة ومن يليهم قضوا بفساد المنهيات من غير توقف على دليل، فذلك صحيح، وقد أوضحناه، وإن أشار بدليل الشرع إلى غير ذلك، فنحن نتكلم عليه. والذي يدل على صحة مذهبنا أن النهى لا تعلق للفظه ولا لمعناه بشئ من الاحكام التي نشير بقولنا في الفعل (إنه مجز) إلى


[ 181 ]

ثبوتها، وفي قولنا (إنه فاسد) إلى إنتفائها، وما لا تعلق له بالنهي في لفظ ولا معنى كيف يصح أن يستفاد منه، يوضح هذه الجملة أن الفقيه إذا قال في العقد: إنه صحيح، فلم يفد بذلك حسن العقد ولا قبحه، وإنما غرضه إثبات أحكام مخصوصة له، وكذلك إذا قال: هو فاسد أو موقوف، والايقاعات من طلاق وغيره إذا قلنا: إنه صحيح، فمعناه أن الفرقة تقع به، والاحكام تتعلق عليه، وإذا قلنا: إنه فاسد، فالمعنى أنه لا يؤثر فراقا ولا تحريما إذا اعتبرت سائر ما نقول: إنه صحيح وفاسد، وجدته مفيدا لثبوت أحكام شرعية أو إنتفائها، وإذا كان النهي بظاهره ومعناه لا يقتضي إلا هذا القدر الذي ذكرناه، فلا يدل في المنهي عنه على فساد ولا صحة، وهذه الجملة إذا اعتبرت تجلى الكلام في هذا الباب، وتعرى من كل شبهة.


[ 182 ]

ومما يدل أيضا على ما ذكرناه أن النهي لو إقتضى فساد الفعل المنهي عنه لشئ يرجع إليه، لما صح في النهي إذا تناول ما ليس بفاسد في الشرع بل كان صحيحا مجزيا ان يكون نهيا على الحقيقة، والاجماع بخلافه، لانهم وإن إختلفوا في كثير من الامثلة التي تذكر في هذا الباب، فلم يختلفوا في أن المكلف وقد ضاق عليه وقت الصلوة في آخر وقتها أنه منهي عن البيع والشراء، ومع ذلك فبيعه صحيح، ونكاحه كذلك، ولم يختلفوا في أنه منهي عن إزالة النجاسة بالماء المغصوب، لانه تصرف فيما لا يملكه، ومع ذلك فإن حكم النجاسة يزول كما يزول بالماء المملوك، والوطئ في الحيض يتعلق به أحكام الصحة كما يتعلق بالوطى المباح، من لحوق الولد، ووجوب المهر، والتحليل للزوج الاول، فلولا أن النهي لا يقتضي من حيث كان نهيا للفساد، لما صح شئ مما ذكرناه. ومما أيضا يدل على ذلك أن لفظ النهي قد يرد فيما هو صحيح،


[ 183 ]

وفاسد، وقد قدمنا أن إستعمال اللفظة في شيئين مختلفين دليل على أنها حقيقة فيهما إلا أن يقوم دليل، فيجب ان يكون لفظ النهي محتملا للفساد كإحتماله للصحة، ولا يقطع على أحدهما إلا بدليل. وقد تعلق من حكم بفساد المنهي عنه وعلقه بظاهر النهي بأشياء: أولها أن الامر بالشئ إذا اقتضى الاجزاء والصحة، فيجب أن يكون النهي الذي هو ضده يقتضي الفساد والبطلان. وثانيها أن النهي عن الفعل إذا منع منه، فيجب أن يكون مانعا من أحكامه، وإذا منع من أحكام البيع أو الطلاق فليس إلا الفساد. وثالثها أن الاجزاء يعاقب الفساد، فإذا كان بالنهي * ينفى كون الشئ شرعيا، فالاجزاء لا يعلم إلا شرعا، فليس بعد ذلك إلا الفساد. ورابعها أن النهي لو لم يعقل منه الفساد، لم يكن التحريم دلالة على الفساد، فكان لا يعقل من قوله – تعالى -: حرمت عليكم أمهاتكم إلى آخر الآية فساد هذه الانكحة وبطلانها، ولا يعقل


[ 184 ]

من قوله – تعالى -: وحرم الربوا، فساد أحكام عقد الربا. وخامسها أن المنهي عنه لو كان مجزيا لكان الطريق إلى معرفة ذلك الشرع، وإنما ينبئ الشرع عن إجزائه إما بالامر والايجاب أو الاباحة، وكل ذلك مفقود في المنهي عنه. وسادسها الخبر المروى عنه – عليه السلام – من قوله من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد، والمنهي عنه ليس من الدين، فيجب أن يكون باطلا مردودا. وسابعها أن عادة السلف والخلف من لدن الصحابة وإلى يومنا هذا جارية بأن يحملوا كل منهي عنه على الفساد. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: إنا قد بينا أن الامر بظاهره ومن غير دليل منفصل لا يقتضي الاجزاء، وأنه كالنهي في أنه لا يقتضي الفساد، فسقط هذا الوجه. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: قد إقتصرتم على دعوى، ومن أين


[ 185 ]

قلتم أن النهي إذا منع من الفعل، وجب أن يكون مانعا من أحكامه، وهل الخلاف إلا في ذلك، ثم الفرق بين الامرين أنه إنما منع من الفعل للتعلق بينه وبين الفعل، لان الحكيم إذا نهى عن شئ فقد كرهه، وهو لا يكره إلا القبيح، والقبيح ممنوع منه، وأحكام الفعل غير متعلقة بمعنى النهي ولا لفظه، فلا يجوز أن يكون النهي مانعا منها. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: إن أردتم بأن النهي ينفي كونه شرعيا أنه ينفي كونه مرادا وطاعة قربة، فذلك صحيح. وإن أردتم نفي الاحكام الشرعية، فهو مسلم، وإذا كان الاجزاء والفساد لا يعلمان إلا شرعا، فيجب ألا يستفاد أحدهما من مطلق الامر. فإذا قال: إجزاؤه لا يعلم إلا شرعا، ولا شرع فيه، فيجب أن يكون فاسدا. قلنا: وفساده لا يعلم إلا شرعا، ولا شرع فيه، فيجب أن يكون صحيحا، والصواب غير ذلك، وهو التوقف عن الحكم بصحة أو فساد على الدليل المنفصل.


[ 186 ]

ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: نحن نقول في التحريم: أن مطلقه لا يدل على الفساد، مثل قولنا في النهى، وانما علم فساد نكاح الامهات بغير وضع النهي في اللغة، وعلى الجملة بدليل. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: إن الاجزاء قد يعلم بغير الايجاب والامر والاباحة، وهو أن يقول: لا تفعلوا كذا، فإن فعلتموه كان مجزيا، أو بأن يبين أن الحكم الشرعي يتعلق بصورة للفعل مخصوصة، فيعلم إيقاع الحكم لها سواء كانت منهيا عنها أو مأمورا بها. ويقال لهم فيما تعلقوا به سادسا: إن الخبر الذي أعتمدتم عليه خبر واحد، أحسن أحواله أن يقتضي الظن، فكيف يحتج به في مسألة علمية. وبعد، فإنما يصح التعلق به لو ثبت أن إجزاء الفعل المنهي عنه ليس من الدين، حتى يحكم بانه مردود، وهذا لا يستفاد من الخبر.


[ 187 ]

وأيضا فلفظة الرد كلفظة النهي في وقوع الخلاف فيها، بل النهي أبلغ، لان الطاعات الواقعة من الكفار عند من أجاز ذلك توصف بأنها مردودة، لانها غير مقبولة، وإن لم تكن منهيا عنها، والمردود في العرف هو الذي لا يستحق عليه الثواب، وهو ضد المقبول الذي هو إستحقاق الثواب، وكون الفعل لا يستحق به الثواب لا يمنع من إجزائه. ويقال لهم فيما تعلقوا به سابعا: هذا الطريقة هي التي نصرناها فيما سلف من كتابنا هذا، وبينا أن بهذا العرف الشرعي يعلم أن مطلق النهي يقتضي فساد المنهي عنه إلا أن تقوم دلالة. ومن يطعن على هذا الطريقة بأن يقول من أين لكم أن السلف والخلف حكموا ببطلان المنهي عنه لاجل النهي دون دلالة دلتهم على ذلك. فالجواب له أن نقول إننا لا نذهب إلى أن الصحابة إنما حكموا بفساد المنهي عنه لاجل حكم النهي في اللغة أو عرفها، بل


[ 188 ]

إنما عولوا في ذلك على عرف الشريعة، وأن الامر في عرف الشرع يجب أن يكون محمولا على الوجوب والفور والاجزاء، وأن النهي يقتضي بهذا العرف فساد المنهي عنه، إلا أن تقوم دلالة، ولم يعولوا إلا على هذه العادة، ومثلهم لا يجمع على باطل، إلا على ما قطع عذرهم عن الرسول – ص ع – فيه، وكيف لا يعلم أن ذلك لمكان النهي عنه، وعند علمهم بالنهي يحكمون بالفساد، كما يحكمون عند الامر بالوجوب، ولو كان ذلك معلوما بدلالة منفصلة، لوجب * التوقف عليها، وأن يقولوا فيمن روى لهم نهيا عن الرسول – عليه السلام – في فعل بعينه: هذا النهي إنما يقتضى قبح الفعل، وأنه معصية، ولا يقتضي فسادا، فلا يجب إن كان عقد بيع أن يحكم بأن التمليك ما وقع، وإن كان طلاقا فلا يجب ان يحكم بأن الفرقة لم تقع، بل رأيناهم يحكمون في كل مأمور به بالصحة والاجزاء، وفي كل


[ 189 ]

منهي عنه بالفساد على إختلاف الحالات، ومع المناظرة والمنازعة، و من طبقة بعد طبقة، وفي زمان بعد زمان، وهذا معلوم ضرورة من حالهم، وتكلف الدلالة عليه كالمستغنى عنه، وكذلك وجدنا كل من أبطل أن يكون عقد نكاح المتعة مبيحا للاستمتاع إنما يعول على مطلق ما رواه من نهي الرسول – عليه السلام – عنها، وتحريمه لها، ولم يقل له قائل: التحريم إنما يقتضى القبح والمعصية، فمن أين أن الاستباحة لا تقع به، وكذلك نكاح المحرم، اكتفوا في إرتفاع أحكامه الشرعية بالنهي عنه، وكذلك القول في عقد الربا، ونكاح الشغار. فإن قيل: فقد حرموا أشياء كثيرة، وإن ذهبوا إلى أنها مجزية صحيحة إذا وقعت. قلنا. إنما ذهبوا إلى إجزائها مع النهى والتحريم بدليل منفصل، وليس ينكر أن يقوم دليل على خلاف ما يقتضيه عرف الشرع، كما لا ينكر أن يقوم دليل على خلاف ما يقتضيه وضع اللغة، فيصار إليه


[ 190 ]

بالدليل، ولا يكون ذلك قادحا في أصل الوضع على الوجهين. فإن قيل: فبأي شئ تحدون الفاسد من المنهيات، وتميزونه من غيره فقد تعاطى الناس ذلك. قلنا: الواجب ان نقول الذي يقتضيه عرف الشرع في نهي الله – سبحانه – ورسوله – ص ع – ان يقتضي بالظاهر فساد المنهي عنه، وألا تتعلق به الاحكام التي تتعلق بالصحيح إلا أن يقوم دليل على أن المنهى عنه في هذه الاحكام كالمأمور به، فيقال بذلك إتباعا للدليل. وأجود ما ميز به ذلك أن يكون وقوعه منهيا عنه مخلا بشروطه الشرعية، فيكون فاسدا، وإذا لم يختل شروطه الشرعية، لم يمتنع إجزاؤه. وينقسم تأثير المنهي عنه في الشروط الشرعية ثلاثة أقسام:


[ 191 ]

فالاول يؤثر بأن يكون شرط الفعل عدمه. والثاني بأن يكون شرط الفعل ضده، أو ما يجري مجرى ضده، مما لا يجتمع معه. والثالث يؤثر بأن يمنع من وقوع شرط سواه، فمثال الاول الصلوة مع الحدث، لان من شرطها عدمه. ومثال الثاني صلوة القادر على القيام قاعدا، لان من شرط هذه الصلوة ضد القعود. ومثال الثالث صلوة المتطوع، لانها لا تجزي عن الفرض وإن كانت الصورة واحدة، لما كان الشرط نية مخصوصة. ولاجل هذا الوجه الاخير كانت الصلوة في الدار المغصوبة لاتجزي، لان من شرط الصلوة أن تكون طاعة وقربة، وكونها واقعة في الدار المغصوبة يمنع من ذلك. وأيضا فإن من شرطها إذا كانت واجبة أن ينوي بها اداء الواجب، وكونها في الدار المغصوبة يمنع من ذلك. وفي الفقهاء من يظن أن الصلوة في الدار المغصوبة ينفصل من الغصب، وذلك ظن بعيد، لان الصلوة كون في الدار، وتصرف


[ 192 ]

فيها، وذلك نفس الغصب، لانه لا فرق بين تصرفه فيها بالسكنى وبين تصرفه بالصلوة، لان صاحب الدار لو أراد أن يقف فيها بحيث المصلي واقف، لتعذر عليه ذلك، فهو مانع من تصرف المالك، والغصب ينقسم إلى وجهين: إما بان يحول بين المالك وبين التصرف في ملكه، وإما بان يتصرف الغاصب فيه تصرفا يمنعه من تصرفه. وفيهم من يقول في أن الصلوة في الدار المغصوبة تجزي، على أن الصلوة تنقسم إلى فعل وذكر، فالفعل متعلق بالدار، والذكر لا يتعلق بها، فلا يمتنع أن تجزي، وإن كانت في الدار المغصوبة، من حيث يقع ذكرها طاعة، وتكون نيته تنصرف إلى الذكر. وهو غير صحيح، لان الذكر تابع للفعل الذي هو الصلوة، والفعل هو المعتمد، والذكر شرط، فيجب أن تكون النية منصرفة إلى الفعل الذي هو العمدة.


[ 193 ]

وعلى أن أقل الاحوال أن يكون الفعل والذكر مجموعهما هو الصلوة، فتنصرف النية إليهما، وقد بينا أن ذلك يقتضي كونه متقربا بالمعصية. وقد قيل في التمييز بين الصلوة في هذا الحكم وغيرها: أن كل عبادة ليس من شرطها الفعل أو ليس من شرطها أن يتولى الفعل بنفسه، بل ينوب فعل الغير مناب فعله، أو ليس من شرطها أن يقع منه بنية الوجوب، أو ليس من شرطها النية أصلا، لم يمتنع في المعصية منها أن يقوم مقام الطاعة، وهذا قريب. ومن احتج في جواز الصلوة في الدار المغصوبة بأن إجراءها مجرى من شاهد طفلا يغرق وهو في الصلوة، وقال: إذا صحت صلوته مع المعصية، فكذلك * الصلوة في الدار المغصوبة. فقوله باطل، لانا نقول في المسألتين قولا واحدا، والصلوتان معا فاسدتان، ويجب أن يقول في الغاصب: أنه لو حبس في الدار لاجزأته صلوته، لانه بأن حبس فيها خرج من كونه غاصبا، لانه لا يتمكن


[ 194 ]

من المفارقة لها، ويجب أن يقول فيمن لزمه رد وديعة أو قضاء دين، ثم دخل في الصلوة: أنه إن كان الوقت موسعا، فسدت الصلوة، لان الواجب عليه تقديم الرد، وإن صلاها في وقت مضيق، لم يفسد، لان الواجب عليه تقديمها على الرد، إلا أن ينتهى الحال فيمن له الحق إلى حال ضرورة وضرر يدخل على صاحب الوديعة، فتفسد صلوته، وإن أداها في آخر الوقت، لهذه العلة. فأما من ليس بغاصب لكنه دخل الدار مجتازا، فيجب الا تفسد صلوته، لان المتعارف بين الناس أنهم يسوغون ذلك لغير الغاصب، ويمنعونه في الغاصب. وأما الضيعة المغصوبة فالصلوة فيها مجزية، لان العادة جرت بأن صاحبها لا يحظر على أحد الصلوة فيها، والتعارف يجري مجرى الاذن، فيجب الرجوع إليه. ولا يلزم على ذكرناه أن يكون من صلى وهو يدافع الاخبثين


[ 195 ]

أن تكون صلوته فاسدة غير مجزية، للنهي منه – عليه السلام – عن ذلك، وذلك أن هذا النهي لو أوجب كون الصلوة معصية، للحقت في الفساد بالصلوة في الدار المغصوبة، لكنا قد عرفنا أو وجه النهي تأثير المدافعة في التثبت والخشوع والطمأنينة، ونحن نعلم أن كثيرا من ذلك لو فقد لاجزأت الصلوة، وقد يدافع الاخبثين ويتصبر على أداء ما يجب عليه في الصلوة وإستيفائه، فلا يجب كون ذلك مفسدا. وأما حمل بعضهم جواز الصلوة في المكان المغصوب على جواز الايمان فغلط فاحش، لان الايمان لا تعلق له بالدار، إعتقادا كان بالقلب أو قولا باللسان، وقد بينا أن الصلوة بها يكون غاصبا ومتصرفا في ملك غيره.


[ 196 ]

فصل فيما يقتضيه الامر من جمع أو آحاد اعلم أن الخطاب إذا ورد وظاهره يحتمل الخصوص والعموم وعلمنا بالدليل المنفصل شموله وإستغراقه، قطعنا على أن الفرض لازم لكل واحد منهم، ولا يستفيد بظاهر ذلك أنه لازم لكل واحد بعينه، من غير ان يسقط عنه الفرض فعل غيره. كما لا نستفيد أن فعل البعض يسقط الفرض عن البعض. ولا نستفيد أن إجتماع بعضهم شرط فيه. وكل ذلك موقوف على الدليل. والخطاب العام لا يخرج عن ثلاثة أقسام: إما أن يلزم كل واحد، ولا يتعلق فعله بفعل غيره، وإما أن يتعلق فرضه بفعل غيره في الصحة، فيكون الاجتماع شرطا، كصلوة الجمعة، وإما أن يتعلق فرضه بفعل غيره، فيكون اداء الغير له مسقطا عنه، وهذا هو المسمى فرض الكفاية، ومن أمثلته الجهاد، والصلوة على الجنائز، ودفن الموتى،


[ 197 ]

والفرض في هذا الوجه يتعلق بالكل، لكنه مشروط بأن لا يقوم البعض به، فمتى وقع من البعض، زال الفرض عن الجماعة. باب الكلام في العموم والخصوص وألفاظهما إعلم أن العموم ما تناول لفظه شيئين فصاعدا، والخصوص ما تناول شيئا واحدا، وقد يكون اللفظ عموما من وجه وخصوصا من وجه آخر، لان القائل إذا قال: ضربت غلماني، وأراد بعضهم، فقوله عموم، لشموله ما زاد على الواحد، وخصوص، من حيث أراد بعض ما يصح أن يتناوله هذا اللفظ. وقولنا (عموم وخصوص) يجري مجرى قليل وكثير في أنه يستعمل بالاضافة، فقد يكون الشئ الواحد قليلا وكثيرا بإضافتين مختلفتين، وقد يثبت عموم لا خصوص فيه، وهو ما أريد به الاستيعاب


[ 198 ]

والاستغراق، وقد يثبت أيضا خصوص لا عموم فيه، وهو الذي يراد به العين الواحدة، كما يثبت قليل ليس بكثير، وهو الواحد، وكثير ليس بقليل، وهو ما عم الكل، ومع الاضافة في الامرين يختلف الحال. وليس في الكلام عندنا لفظ وضع للاستغراق فإن استعمل فيما دونه كان مجازا، وسندل على ذلك. والالفاظ الموضوعة للعموم على سبيل الصلاح على ضربين: فمنها ما يصح تناوله للواحد ولكل بعض وللكل على حد واحد، وهو حقيقة في كل شئ من هذه الامور، كلفظة (من) إذا كانت نكرة في الشرط أو الاستفهام، وتختص العقلاء، ولفظة ما فيما لا يعقل، فإن حكمها فيما ذكرناه كحكم من، وهكذا حكم متى في الاوقات، وأين في الاماكن. والضرب الثاني ما يتناول الكل صلاحا، ويتناول البعض وجوبا، ولا يستعمل فيما نقص عن ذلك البعض، مثل ألفاظ المجموع، بألف ولام أو بغيرهما


[ 199 ]

كقولنا: رجال * والرجال ومسلمون والمسلمون، فهذا ألفاظ تتناول كل الرجال وجميع المسلمين صلاحا، إذا لم يكن بين المخاطب والمخاطب عهد ينصرف ذلك إليه، ولثلاثة بغير أعيانهم وجوبا، ولا يجوز أن يستعمل في الواحد ولا الاثنين ألبتة على سبيل الحقيقة. فأما ألفاظ الجنس مثل قولنا الذهب والفضة والرقيق والنساء والناس فهي على ضربين. أحدهما لا يجوز أن يراد به عموم ولا خصوص، ولا يتصوران في مثله، وإنما يراد به محض الجنسية التي تميزت من غيرها كقولنا ذهب وفضة ورقيق، فإن القائل إذا قال: الذهب احب إلي من الفضة، وادخار العين أولى من إدخار الورق، فلا عموم يتصور في قوله ولا خصوص، بل الاشارة إلى الجنسية من غير إعتبار لتخصيص ولا تعميم، وكذلك إذا قال: إستخدام الرقيق أحمد من إستخدام الاحرار.


[ 200 ]

وأما لفظة الناس والنساء فقد يراد بهما في بعض المواضع المعنى الذي ذكرناه من الجنسية من غير عموم ولا خصوص، وقد تكون في موضع محتملة للعموم والخصوص، كما قلناه في ألفاظ الجموع المشتقة من الافعال، مثال القسم الاول قول القائل: فلان يجب النساء ويميل إلى عشرتهن، والناس خير من الجان، ومثال الثاني لقيت النساء، وجاءني الناس. وأبو هاشم يوافقنا فيما ذكرناه من ألفاظ الجنس خاصة، وإنما أبو علي هو الذاهب إلى إستغراق ألفاظ الجنس للكل. فأما إستعمال لفظ العموم في المعاني نحو قولهم: عمهم الخصب أو الجدب أو المرض أو الصحة فالاشبه أن يكون مستعارا مشبها بغيره، لانا لانفهم من إطلاق قولنا عموم وخصوص بالعرف المستقر إلا ما يعود إلى الالفاظ.


[ 201 ]

ومن خالفنا من المتكلمين والفقهاء يقول في كل ما قلنا: (أنه يستغرق من هذه الالفاظ صلاحا): (أنه يستغرق وجوبا). وسيجئ الكلام في ذلك بعون الله ومشيته. فصل في ذكر الدلالة على أنه ليس للعموم المستغرق لفظ يخصه وإشتراك هذه الالفاظ التي يدعى فيها الاستغراق. الذي يدل على ذلك أن كل لفظة يدعون أنها للاستغراق تستعمل تارة في الخصوص، وأخرى في العموم، ألا ترى أن القائل إذا قال: من دخل داري أهنته أو أكرمته، لا يراد به إلا الخصوص، وقلما يراد به العموم، ويقول: لقيت العلماء، وقصدت الشرفاء، وهو يريد العموم تارة، والخصوص أخرى، وهذا معلوم ضرورة، مما لا يقع


[ 202 ]

في مثله خلاف، والظاهر من إستعمال اللفظة في شيئين أنها مشتركة فيهما، وموضوعة لهما، إلا أن يوافقونا، أو يدلونا بدليل قاطع على أنهم بإستعمالها في أحدهما متجوزون، وهذه الجملة تقتضي إشتراك هذه الالفاظ، وإحتمالها العموم والخصوص، وهو الذي اعتمدناه. فإن قيل: دلوا على أن بنفس الاستعمال تعلم الحقيقة، وهذا ينتقض بالمجاز، لانهم قد إستعملوه، وليس بحقيقة، ثم دلوا على أنهم استعملوا هذا الالفاظ في الخصوص على حدما استعملوها في العموم، فإنا نخالف في ذلك، ونذهب إلى أن كيفية الاستعمال مختلفة. قلنا: أما الذي يدل على الاول فهو أن لغتهم إنما تعرف بإستعمالهم، وكما أنهم إذا إستعملوا اللفظة في المعنى الواحد ولم يدلونا على أنهم متجوزون، قطعنا على أنها حقيقة فيه، فكذلك إذا استعملت في المعنيين المختلفين. ويوضح ذلك الحقيقة هي الاصل في اللغة، والمجاز طار


[ 203 ]

عليها، بدلالة أن اللفظة قد تكون لها حقيقة في اللغة ولا مجاز لها، ولا يمكن أن يكون مجاز لا حقيقة له، فإذا ثبت ذلك، وجبت أن يكون الحقيقة هي التي يقتضيها ظاهر الاستعمال، وإنما ينتقل في اللفظ المستعمل إلى أنه مجاز بالدلالة، وأما المجاز فلا يلزم على ما ذكرناه، لان استعمال المجاز لو تجرد عن توقيف أو دلالة على أن المراد به المجاز والاستعارة، لقطعنا به على الحقيقة، لكنا عدلنا بالدلالة عما يوجبه ظاهر الاستعمال، ألا ترى انه لا أحد خالط أهل اللغة إلا وهو يعلم من حالهم ضرورة أنهم إنما سموا البليد حمارا والشديد أسدا على سبيل التشبيه والمجاز، فكان يجب أن يثبت مثل ذلك في إجراء لفظ العموم على الخصوص. وأما المطالبة لنا بان ندل على أن كيفية الاستعمال واحدة، فإنا لم ندع ذلك في إستدلالنا فيلزمنا الدلالة عليه، وإنما ادعينا الاستعمال، ولا شبهة فيه، ومن إدعى أن كيفية الاستعمال مختلفة، فعليه الدلالة.


[ 204 ]

على أنا نقول لمن إدعى إختلاف كيفية الاستعمال: أتريد بذلك * أن الصيغة التي يراد بها العموم لا تستعمل على صورتها في الخصوص، أم تريد أن اللفظ يستعمل مجردا في العموم، وفي الخصوص يفتقر إلى قرينة ودلالة. والاول يفسد بأنا ندرك الصيغة متفقة عند إستعمالها في الامرين ولو إختلفتا لادركناهما كذلك، وقد بينا في هذا الكتاب ان نفس الصيغة التي يراد بها العموم كان يجوز أن يراد بها الخصوص، حيث تكلمنا في أن ما يوجد أمرا كان يجوز أن يوجد نفسه ولا يكون أمرا. على أن أكثر مخالفينا في العموم يذهبون إلى أن لفظ العموم إذا اريد به الخصوص كان مجازا، وعندهم أن اللفظ لا يكون مجازا إلا إذا استعمل على صورته وصيغته فيما لم يوضع له. وأما القسم الثاني فهو محض الدعوى، وبناء على المذهب الذي نخالف فيه، فكأنهم قالوا: أن اللفظ موضوع في اللغة على الحقيقة


[ 205 ]

للعموم، وإنما يتجوز به في الخصوص، وفي ذلك الخلاف، وعليه يطالبون بالدلالة، ولا فرق بينهم وبين من عكس هذا عليهم، وقال لهم: بل هذه اللفظة موضوعة على الحقيقة للخصوص، وإذا استعملت في العموم فبا القرية والدلالة، فقد ذهب قوم إلى ذلك، وهم أصحاب الخصوص وقد مثل أصحابنا حالنا وحال مخالفينا في هذه النكتة بمن ادعى أن زيدا في الدار، وادعى خصمه أن زيدا وعمروا فيها، وقالوا: من ادعى أن عمروا مع زيد في الدار فقد وافق في أن زيدا في الدار، وإنما ادعى امرا زائدا على ما اتفق مع خصمه عليه، فالدلالة لازمة له، دون خصمه، فإذا قال خصومنا: الصيغة لا تستعمل في الخصوص إلا مع قرينة، فقد سلموا لنا الاستعمال، وادعوا أمرا زائدا عليه، فالدلالة تلزمهم دوننا.


[ 206 ]

وقد يمكن الطعن على هذا بأن نقول: أنتم تدعون إستعمالا عاريا من قرينة، لانكم لو ادعيتم محض الاستعمال، للزمكم أن يكون المجاز كله حقيقة، لانه مستعمل، وإذا ادعيتم نفي القرينة، لزمكم أن تدلونا، فإنا لا نسلم ذلك، كما يلزمنا أن ندل على إثبات القرينة إذا إدعيناها، وتجرون في هذا الحكم مجرى من إدعى أن زيدا وحده في الدار، وآخر يدعى أن معه عمروا، في أن كل واحد يلزمه الدلالة، واتفاقهما على أن زيدا في الدار ليس بإتفاق على موضع الخلاف من التوحد أو الاقتران، وهذا أجود شئ يمكن أن يسألونا عنه. والجواب أن الاصل في الاستعمال التعري من القرائن والدلائل، لان الاصل هو الحقيقة التي لا تحتاج إلى قرينة، وإنما يحتاج المجاز للعدول به عن الاصل إلى مصاحبة القرينة، فلما ادعينا


[ 207 ]

ما هو الاصل فلا دلالة علينا، وادعى خصومنا أمرا زائدا على الاصل فعليهم الدلالة. وأيضا فإننا نتمكن من الدلالة على صحة ما ادعيناه من غير بناء على موضع الخلاف لانا نقول: إن كانت القرينة هي العلم الضروري يتوقيف أهل اللسان على ذلك، كما علمناه في حمار وأسد، فكان يجب ألا يقع خلاف في ذلك مع العلم الضروري، كما لم يقع خلاف في أسد وحمار، وان كانت القرينة مستخرجة بدليل وتأمل، وقد نظرنا فما عثرنا على ذلك، ومن إدعى طريقا إلى إثبات هذه القرينة فواجب عليه أن يشير إليه، ليكون الكلام فيه، وخصمنا لا يمكنه ان يدل على أن إستعمال هذه اللفظة في الخصوص لا بد فيه من قرينة إلا بأن يصح مذهبه في أن ذلك مجاز وعدول عن الحقيقة، وهذا هو نفس المذهب. ومما يقال لهم كيف وجب في كل شئ تجوز أهل اللغة به من الالفاظ، واستعملوه في غير ما وضع له، كالتشبيه الذي ذكرناه


[ 208 ]

في حمار وبليد، وكالحذف في قوله – تعالى -: (وجاء ربك) و (اسأل القرية)، والزيادة في قوله: (ليس كمثله شئ)، ونظائر ذلك وأمثاله، وما يتفرع إليه ويتشعب، أن يعلم أنهم بذلك متجوزون، وقارنون إلى اللفظ ما يدل على المراد ضرورة بغير إشكال، ولا حاجة إلى نظر وإستدلال، ولم يجب مثل ذلك في استعمال صيغة العموم في الخصوص، وهو ضرب من ضروب المجاز عندكم ؟ فألا لحق بهذا الباب كله في حصول العلم ؟ ويمكن أن يترتب إستدلالنا على هذه العبارة، فنقول: قد ثبت بلاشك إستعمال هذه اللفظة في العموم والخصوص، وما وقفنا أهل اللغة ولا علمنا ضرورة من حالهم مع المداخلة لهم أنهم متجوزون بها في الخصوص، كما علمنا منهم ذلك في صنوف المجازات على اختلافها، فوجب أن تون مشتركة. فإن قيل لنا: فلعل كونهم متجوزين بها في الخصوص يعلم بالاستدلال، دون الضرورة، فلم قصرتم هذا العلم على الضرورة.


[ 209 ]

قلنا: كيف وقف هذا الباب من المجاز على الاستدلال، ولم يقف غيره من ضروب المجازات في كلامهم * على الاستدلال، لولا بطلان هذه الدعوى، وفي خروج هذا الموضع عن بابه دلالة على خلاف مذهبكم، وليس تجد هذا الدليل مستقصى في شئ من كتبنا السالفة على هذا اللحد، فقد بلغنا غايته. دليل آخر: ومما يدل أيضا على صحة مذهبنا ان استفهام المخاطب بهذا الالفاظ عن مراده في خصوص أو عموم يحسن من المخاطب بغير ريب وموضوع الاستفهام إذا وقع طلبا للعلم والفهم يقتضي إحتمال اللفظ وإشتراكه بدلالة أنه لا يحسن دخوله فيما لااحتمال فيه ولا اشتراك ألا ترى أنه لا يحسن أنه يستفهم عن مراده من قال: ركبت فرسا، ولبست ثوبا، لاختصاص


[ 210 ]

اللفظ وفقد إحتماله، ويحسن أن يستفهم من قال: رايت عينا، عن أي عين رأى ؟ وهذا الجملة تقتضي إشتراك هذا الالفاظ بين الخصوص والعموم. ومن خالف في حسن الاستفهام بحيث ذكرناه، لا يخلو من أن يكون قائلا يحسن الاستفهام في موضع من الكلام، أو ليس يحسن أصلا، فإن ذهب إلى الاول، قيل له: بين لنا حسن الاستفهام أين شئت من الكلام، حتى نسوي بينه وبين حسنه في الخصوص والعموم، وإن أراد الثاني، كان مكابرا دافعا للضرورة، فكيف يقال ذلك، وقد جعل أهل اللغة الاستفهام ضربا مفردا من ضروب الكلام، وخصوه بحروف ليست لغيره.


[ 211 ]

فإن قيل: وجه حسن الاستفهام في ألفاظ العموم تجويز المخاطب أن يريد مخاطبه الخصوص على وجه المجاز. قلنا: هذا يقتضي حسن الاستفهام في كل خطاب، عن كل حقيقة، لان هذه العلة موجودة، وقد علمنا إختصاص حسن الاستفهام بموضع دون غيره، فعلمنا أن علته خاصة غير عامة. وبعد، فإن المخاطب إذا كان حكيما، وخاطب بالمجاز، فلا بد من أن يدل من يخاطبه على أنه عادل عن الحقيقة، وهذان الوجهان يسقطان قولهم. أن وجه حسن الاستفهام أن السامع يجوز أن يكون مخاطبه أراد المجاز، ودل عليه بدلالة خفيت على السامع. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الاستفهام إنما يحسن مع إقتران اللفظ، لا مع إطلاقه. قلنا: اللفظ الوارد لا يخلو من اقسام ثلثة: إن أن يرد مطلقا، أو مقترنا بما يقتضي العموم، أو يقترن بما يقتضي الخصوص، ومع الوجهين الآخرين لا يحسن الاستفهام، لحصول العلم بعموم أو خصوص، فثبت أنه إنما يحسن مع الاطلاق. فإن قيل: إلاستفهام يحسن على احد وجهين: إما أن يكون


[ 212 ]

المخاطب يعتقد أن لفظ العموم مشترك، فيستفهم لذلك، أو يكون المخاطب قد يعتقد ذلك، فيحسن إستفهامه، لتجويز أن يعدل من معنى إلى معنى في الالفاظ المشتركة. قلنا: كلامنا إنما هو في حسن إستفهام أهل اللغة، ومن لا مذهب له في العموم والخصوص يعرف. ويعد، فقد يحسن استفهام من لا يعرف مذهبه في هذا الباب، ويستحسن الناس أيضا استفهام من يرونه يستفهم عن هذا الالفاظ، وإن لم يعرفوا شيئا مما ذكر في السؤال. فإن قيل: هذا الطريقة تقتضي إشتراك جميع الالفاظ، لانه يحسن ممن سمع قائلا يقول: ضربت أبي، أو شتمت الامير، أن يقول مستفهما أباك ؟ الامير ؟ فيجب بطلان الاختصاص في الالفاظ. قلنا: الاستفهام إنما يطلب به المعرفة وقد يرد بصورته ما ليس باستفهام فقول القائل: أباك ! الامير ! إنما هو إستكبار وإستعظام وليس بإستفهام، ألا ترى انه لا يحسن أن يقول أضربت


[ 213 ]

أباك أم لم تضربه ؟ فإن قيل: فقد يستفهم من قال: (صمت شهرا)، و (له عندي عشرة)، عن كمال الشهر، والعشرة، وكذلك إذا قال: (لقيت الامير)، وجاءني فلان)، يحسن أن يقال لقيت الامير نفسه ؟ أو جاءك فلان بنفسه ؟ قلنا: أما لفظة شهر، فإنها تقع على الثلاثين، وعلى التسعة وعشرين، وهو في الشريعة والعرف إسم للامرين، فالاستفهام في موضعه، وقد أجرى قوم العشرة هذا المجرى، وعولوا على قوله – سبحانه – (تلك عشرة كاملة) والاجود أن يقال: أن أحدا لا يستحسن إستفهام حكيم إذا أطلق قوله: (عندي عشرة) عن كمالها ونقصانها. ومن قال لمن يسمعه يقول: (جاءني الامير): أجاءك الامير


[ 214 ]

بنفسه ! ليس بمستفهم، وإنما هو مستكبر مستعظم، كما تقدم، ولا يجوز أن يقال في غير الامير ومن جرى مجراه ذلك إلا على سبيل الاستفهام، دون التعجب والاستكبار، والتأمل يكشف عن ذلك. ووجدت بعض من يشار إليه في أصول الفقه يطعن على هذا الدليل بأن الاستفهام في ألفاظ العموم إنما حسن طلبا للعلم الضروري، أو لقوة الظن بالامارات. وهذا يقتضي حسن الاستفهام في كل كلام، وعن كل حقيقة، لعموم هذه العلة. وقد تعلق القائلون بالعموم بأشياء: أولها أن المستفهم لغيره بقوله: من عندك ؟ * يحسن ان يجاب بذكر آحاد العقلاء وجماعتهم، ولا عاقل إلا ويصح أن يكون مجيبا بذكره، ولا يصح أن يجيبه بذكر البهائم، فلولا استغراق اللفظ، لما وجب هذا الحكم، ولجاز في بعض الاحوال أن


[ 215 ]

يكون الجواب عنها بذكر بعض العقلاء جاريا مجرى الجواب بذكر بعض البهائم. وأكدوا هذه الطريقة بأن قالوا: إنما عدلوا عن الاستفهام عن كل شخص باللفظ الموضوع له، حتى يقولوا: أزيد عندك ؟ أفلان عندك ؟ ويعدوا كل عاقل لاستطالة ذلك، فاختصروا بالعدول إلى لفظة من، فيجب أن تقوم في الغرض مقام الاستفهام عن كل عاقل باسمه، وقالوا في عموم لفظة ما مثل ذلك. وثانيها أن القائل إذا قال: (من دخل داري ضربته) حسن أن يستثني كل عاقل من هذه الجملة، ومن شأن الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته بدلالة قبح إستثناء البهائم من هذه الجملة، لما لم يجب دخولها فيه. وثالثها أن الاستغراق معنى معقول لاهل اللغة، ومما تدعوهم الدواعي إلى الاخبار عنه، فلا بد أن يضعوا له عبارة تنبئ عنه، كما فعلوا ذلك في كل شئ عقلوه من المعاني، ودعتهم الدواعي إلى الاخبار عنه، وإذا وجب ان يضعوا عبارة، فلا شئ من الالفاظ بذلك


[ 216 ]

أولى من الالفاظ التي نذهب إلى عمومها. ورابعها أن العموم قد أكد بتأكيد معين، وكذلك الخصوص، فكما اختلف التأكيدان في وضع اللغة، لا بالقصد، فكذلك يجب في المؤكد. وخامسها أن لفظة من لا بد لها من حقيقة في وضع اللغة، وإذا لم يجز أن تكون موضوعة لبعض من العقلاء معين أو غير معين، ولا لجميعهم على البدل، وجب ان يكون الجميع على الاستغراق. وسادسها أنا قد علمنا أن كل من اراد أن يخبر عن الاستغراق لا بد له من استعمال هذا الالفاظ التي نذهب إلى أنها مستغرقة، فيجب أن تكون موضوعة له، لانه لا مندوحة عنها، وجرى ذلك مجرى كل الحقائق التي يفزع فيها إلى العبارات الموضوعة لها.


[ 217 ]

والجواب عما. ذكروه أولا أنكم قد إقتصرتم في قاعدة هذه الشبهة على الدعوى، ونحن لا نسلم لكم أن من استفهم بلفظة من ولم يعرف من قصد المخاطب بعادة أو قرينة أنه أراد الشمول يحسن أن يجيبه بذكر كل عاقل وإنما يحسن أن يجيبه بذلك إذا علم عموم إستفهامه بطريق منفصل، فما الدليل على ما ادعيتموه. والذي يوضح ما ذكرناه أنه يحسن إذا قيل له: (من عندك) أن يقول: أمن النساء أو الرجال ؟ ومن الاحرار أو العبيد ؟ وكذلك إذا قيل له: ما أكلت ؟ يقول: أمن الحلو أو الفاكهة ؟ ومن كذا أو كذا ؟ وهذا يدل على إشتراك اللفظ بين العموم والخصوص. وأما قولهم: (جاز أن يكون ذكر بعض العقلاء كذكر بعض البهائم) فباطل، وذلك أن لفظة من عندنا وإن لم تكن موضوعة لوجوب استغراق العقلاء، فهي تصلح لان يقصد بها إلى


[ 218 ]

الاستفهام عن جميعهم، كما يصلح أن يقصد بها إلى الاستفهام عن بعضهم، وهي حقيقة في الامرين، ولا يصلح في وضع اللغة للاستفهام بها عن البهائم. وليس معنى قولنا أنها لا تصلح هو أن المتكلم لا يصح أن يقصد بها إلى ذلك، فتكون عبارة عنه، لانه لا لفظ من الالفاظ إلا ويمكن أن يقصد به إلى كل معنى، فيكون عبارة عنه، وإن لم يصلح له، ومعنى قولنا انها لا تصلح أي لا تكون حقيقة في ذلك متى قصد بها إليه، ويكون المتكلم بها عادلا عن مذهب أهل اللغة. فأما عدولهم عن الفاظ الاستفهام إلى لفظة من فلانهم لا يبلغون بغيرها ما يبلغون بها، وذلك أن الاستفهام بذكر كل واحد باسمه إما أن لا يمكن، أو يطول، وليس في سائر الالفاظ ما يصلح أن يقصد به إلى الاستخبار عن سائر العقلاء جمعا وافترقا.


[ 219 ]

إلا لفظة من، فهذه مزية لها على غيرها ظاهرة. ومما يبطل ما ادعوه من قيامها مقام ذكر كل عاقل بعينه، أنه لو كان كذلك لقبح من الاستفهام عند ذكر هذه اللفظة ما يقبح مع ذكر كل عاقل بعينه، وقد علمنا حسن أحد الامرين وقبح الآخر. والجواب عما ذكروه ثانيا أن المعروف في الاستثناء من مذهب أهل اللغة خلاف ما ادعيتم، وإنما يخرج الاستثناء عندهم ما جاز أو صح دخوله، دون ما وجب، وإنما صح إستثناء كل عاقل من قول القائل: من دخل داري أكرمته، لصحة دخوله تحت هذه اللفظة، وصلاح هذه اللفظة للاشتمال على الكل، ولما لم تصلح ان تشتمل على البهائم، لم يحسن إستثنائها، لان استثناء ما لا يصح دخوله تحت اللفظ ليس يحسن.


[ 220 ]

فإن قالوا: الاستثناء من لفظ العموم كالاستثناء من ألفاظ الاعداد، فكما أن الاستثناء من العدد يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله، فكذلك * الاستثناء من لفظ العموم. قلنا: ليس بواجب أن يكون الاستثناء من الاعداد إذا كان يخرج ما لولاه لوجب دخوله ان يكون جميع الاستثناء كذلك، وغير منكر أن يكون الاستثناء إنما وضع لان يخرج ما لولاه لصح دخوله في الكلام، فإن أخرج في بعض المواضع ما لولاه، لوجب دخوله، فلان فيما يجب دخوله الصحة وزيادة، وهذا كما يقول أهل التوحيد أن الحي من صح أن يكون عالما و قادرا، فإذا عورضوا بالقديم – سبحانه – قالوا: الوجوب يشتمل على الصحة ويزيد عليها. وقد كان الخالدي وجماعة ممن خالف في العموم سووا في الاستثناء بين الفاظ العموم والاعداد، والذي ذكرناه أولا


[ 221 ]

أولى بالاعتماد عليه. فإن قالوا: هذا الذي ذهبتم إليه يؤدي إلى جواز وقوع الاستثناء في النكرات، وقد علمنا فساده. قلنا: إن الاستثناء من النكرات ينقسم إلى إستثناء معرفة من نكرة، وإلى إستثناء نكرة من نكرة: فأما إستثناء المعرفة من النكرة، فلا شبهة في حسنه وجوازه عند أهل العربية، لانهم يقولون: ألق قوما إلا زيدا، واضرب جماعة إلا عبدالله. فأما إستثناء النكرة من النكرات فقد قال أبو بكر ابن السراج في كتابه المعروف بالاصول في النحو: ولا يجوز أن يستثنى النكرة من النكرات في الموجب، لانه لا يجوز أن تقول جاءني قوم إلا رجلا، لان هذا فائدة فيه، قال: فإن خصصته، أو نعته، جاز، فهذا تصريح بحسن الاستثناء من النكرة. ومما يبطل ما اعتمدوه في باب الاستثناء أن القائل إذا قال


[ 222 ]

لغيره: ألق جماعة من العلماء، واقتل فرقة من الكفار، حسن أن يستثنى، كل واحد من العلماء والكفار، فيقول: إلا فلانا، وإلا الفرقة الفلانية، ولا أحد منهم إلا ويحسن أن يستثنى، فلو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ، لوجب ان يكون قولنا (فرقة) و (جماعة) مستغرقا لجميع الكفار و العلماء، كما قالوا في لفظة من، وليس هذا قولهم، ولا قول أحد. وبعد، فإن أبا هاشم ومن ذهب مذهبه في أن ألفاظ الجنس والجموع. لا تستغرق، لا يستمر له دليل الاستثناء، لا حسن إستثناء كل عاقل من قولنا: جاءني الناس، وإستثناء كل مشرك من قوله: اقتلوا المشركين، ظاهر، وإن لم تكن هذه الالفاظ عنده مستغرقة كلفظة من وما، فما المانع من أن يكون الاستثناء من لفظة من وما بهذه المنزلة. والجواب عما ذكروه ثالثا أن هذا منهم إثبات لغة بقياس واستدلال،


[ 223 ]

وذلك مما لا يجوز فيما طريقه اللغة. وبعد، فليس يخلو قولهم: لا بد ان يضعوا عبارة، من أن يريدوا أنه واجب عليهم أن يفعلوا ذلك، اولا بد أن يقع على سبيل القطع: فإن كان الاول، فمن أين لهم أنهم لا بد ان يفعلوا الواجب، ولا يخلوا به، وليس في وجوب الشئ دلالة على وقوعه، إلا أن يتقدم العلم بأن من وجب عليه لا يترك الواجب، وهذا مما لا يدعى على أهل اللغة. وإن أرادوا القسم الثاني، فيجب أن يكون القوم ملجئين إلى وضع العبارات، وهذا بعيد ممن بلغ إليه، لانه لا وجه يلجئ، القوم إلى ذلك، لا سيما وهو متمكنون من إفهام ما عقلوه من المعاني إذا قويت دواعيهم إلى إفهامها – بالاشارة على اختلاف أشكالها. وقد كان يجب أيضا أن يقطع على ثبوت لفظ الاستغراق في كل لغة، للعلة التي ذكروها.


[ 224 ]

وكان يجب أيضا في كل من عقل معنى من المعاني، وكان مما يجوز أن تدعوه الدواعي إلى إفهامه، والعبارة عنه، أن يضع له عبارة، وأن يكون ملجأ إلى وضعها، ومعلوم خلاف ذلك، لانا نعلم أن المتكلمين الذين قد إستدلوا، فعلموا اختلاف الاكوان في الاماكن، والاعتمادات في الجهات والطعوم والاراييح، لم يضعوا للمختلف من ذلك عبارات، وإن كانوا قد عرفوه، وميزوه، ولا يمكن أن يقال فيهم ما يقال في أهل اللغة: أنهم إنما لم يضعوا لسائر ما عددناه، من حيث لم يعرفوه، وإذا لم يضعوا ذلك، ثبت أن أهل اللغة غير ملجئين إلى وضع الالفاظ لما عقلوه من المعاني، لان الالجاء لا يختلف فيمن تكامل له شروطه. وبعد، فإنا نصير إلى ما آثروه، ونقول: قد وضعوا للاستغراق عبارة تنبئ عنه، إلا أنه من أين لهم أنها يجب أن تكون خاصة


[ 225 ]

وغير مشتركة. فإن قالوا: لا بد أن يضعوا عبارة خاصة، كما فعلوه في كل ما عقلوه. قيل لهم: ومن أين لكم أنهم قد فعلوا ما ادعيتموه في كل ما عقلوه، ففيه الخلاف، لانا نذهب إلى أن ما عقلوه على ضربين: منه ما وضعوه له عبارة تخصه، ومنه ما وضعوا له عبارة مشتركة بينه و بين غيره، وما فيه عبارة تخصه ينقسم، ففيه ما تخصه عبارة واحدة بلا مشاركة لغيره في سواها، وفيه ما تخصه عبارات كذلك، وفيه ما يشارك * غيره في عبارات، وان اختصه غيرها. على انا ما وجدناهم يفعلونه في بعض المعاني، وبعض الالفاظ لا يجب القياس عليه، ولا القضاء بانهم فاعلون لمثله في كل موضع، لانا قد رأيناهم وضعوا للمعنى الواحد عبارات كثيرة، واسماء عدة ولم يجز


[ 226 ]

لاحد ان يعلل ذلك فيقول: إنما فعلوه من حيث عقلوه فيجب أن يكون لجيمع المعاني عدة أسماء، وكذلك لا يجب ما قالوه. والجواب عما ذكروه رابعا أنا نقول بموجب اقتراحهم، لانا نذهب إلى أن لفظ العموم في نفسه مخالف للفظ الخصوص، ألا ترى أن لفظ العموم يتناول ما زاد على الواحد، ويتعدى، ولفظ الخصوص لا يتعدى، لان لفظ العموم إن كان من وما وما أشبههما، فهذا اللفظ عندنا يصلح لكل عدد من العقلاء، قليل، أو كثير، ولجميعهم، فهو مخالف في نفسه للفظ الخصوص، وإن كان لفظ الجمع كقولنا المسلمون، فهذا لفظ يجب تناوله لثلاثة، ونشك فيما زاد على الثلاثة، ويجوز في الزيادة الكثرة والقلة، وأن تبلغ إلى الاستغراق والشمول، فقد فارق عندنا لفظ العموم لفظ الخصوص، كما افترقا في التأكيد. والجواب عما ذكروه خامسا أنكم قد أخللتم في القسمة.


[ 227 ]

بالقسم الصحيح، وهو أن يكون موضوعة لان يعبر بها عن كل العقلاء، وعن بعضهم، وآحادهم، صلاحا لا وجوبا، وقول بعضهم عقيب هذه الطريقة: (وهذا إنما يدل على أن هذه اللفظة تتناول الكل، فأما الذي يدل على وجوب إستغراقها فدليل الاستثناء و طريقة الاستفهام) من العجيب، لان الخلاف إنما هو في وجوب الاستغراق، وتناول هذه اللفظة للكل على سبيل الاستغراق، فأما في الصلاح، فلا خلاف فيه بيننا، فنحتاج إلى تكلف دلالة عليه. وهذا يدل على قلة تأمل معتمدي هذه الطريقة. والجواب عما ذكروه سادسا أن الفزع عند العزم على العبارة عن العموم إلى هذه الالفاظ إنما يدل على أنها موضوعة لهذا المعنى، و نحن نقول بذلك، ولا نخالف فيه، فمن أين أنها موضوعة لذلك على سبيل الاختصاص به من غير مشاركة فيه، فإن القدر الذي تعلقتم به لا يدل على ذلك.


[ 228 ]

ثم نقول لهم: أما يجوز – على جهة التقرير – أن يضع أهل اللغة لفظة لمعنى من المعاني لا عبارة عنه سواها، وتكون هذه اللفظة بعينها يحتمل أن تكون عبارة عن غيره على سبيل الاشتراك. فإن قالوا: لا يجوز ذلك، طولبوا بالدلالة عليه، فإنهم لا يجدونها، وإن أجازوه، انتقض إعتمادهم على الفزع في العموم إلى هذه العبارة، لانه قد يمكن أن يفزع إليها وإن لم تكن خاصة له، بل مشتركة بينه وبين غيره، إذا كان لم يضعوا له عبارة سواها. وتحقيق الخلاف في ذلك بيننا وبينهم أن ألفاظ العموم يدعون أنها موضوعة للاستغراق في اللغة مختصة به، إذا إستعملت فيما دونه كانت مجازا، ونحن نقول: أن هذه اللفظة تصلح في وضعهم للاستغراق وما دونه، وهي في الامرين حقيقة، فمن تكلم بها وأراد العموم، كان متكلما بها على حقيقتها، وكذلك


[ 229 ]

إذا أراد الخصوص، فإنها حقيقة فيه، فكونها حقيقة في العموم لا نزاع فيه وإنما الاختلاف في الاشتراك أو الاختصاص. فصل في ذكر أقل الجمع والخلاف فيه ذهب قوم إلى أن أقله اثنان، والصحيح أن أقله ثلاثة. والذي يدل عليه أن أهل اللغة فصلوا بين الجمع والتثنية، كما فصلوا بينهما وبين الوحدة، فكما تفارق التثنية الوحدة، كذلك تفارق التثنية الجمع. وأيضا فإن أهل اللغة فصلوا بين ضميريهما، والكناية عنهما، فيقولون: (فعلا) في الاثنين، وفي الثلاثة (فعلوا)، وفي الاثنين (هما قاما)، فأما في الثلاثة (هم قاموا)، وفي الامر للاثنين (افعلا) وللثلاثة (افعلوا)، وهذا كله دليل على صحة ما قلناه، وقولنا


[ 230 ]

(جمع) و (جميع) و (جماعة) واحد في أنه واقع على الثلاثة فصاعدا. وقد تعلق من خالفنا بأشياء: أولها أن لفظ الجمع مشتق من اجتماع الشئ إلى غيره، وهذا المعنى موجود في الاثنين. وثانيها قوله – تعالى -: (وكنا لحكمهم شاهدين)، وهو يعني داود وسليمان، وقوله – تعالى -: (إذا دخلوا على داود، ففزع منهم، قالوا: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض،) في الخصمين. وقوله – تعالى – خطابا لامرأتين: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما). وثالثها قوله – عليه السلام -: (الاثنان فما فوقهما جماعة). ورابعها أن أحدنا يخبر عن نفسه، فيقول: فعلت كذا، وإذا أراد أن يخبر عن نفسه، وآخر معه، يقول: فعلنا كذا،


[ 231 ]

كما يقول ذلك مع الجماعة إذا شاركته. والجواب عن الاول أنا لا ننكر أن يكون أصل إشتقاق هذه اللفظة يقتضي ما ذكروه، ولكنه اختص بالعرف بما ذكرناه، ولذلك نظائر، لان قولهم (دابة) اشتق من الدبيب، ثم اختص بالعرف ببعض ما يدب، وقولنا (ملائكة) مشتق من الالوكة، وهي الرسالة، واختص ببعض الرسل، وأمثال ذلك لا تحصى * والجواب عما ذكروه ثانيا أنه – تعالى – كنى عن المتحاكمين مضافا إلى كنايته عن الحاكم عليهما، فالمصدر قد يضيفه أهل اللغة إلى الفاعل والمفعول جميعا، وهذا من بليغ الفصاحة. ومن أجاب عن هذا الوجه بأن العبارة بالجمع هيهنا كانت للتعظيم، كما قال – تعالى -: (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون) غلط، لان التعظيم على عادة أهل اللغة إنما هو في إدخال المخاطب النون في كلامه، وما جرت عادتهم بأن يخاطبوا


[ 232 ]

واحدا بخطاب الجمع على سبيل التعظيم، لان الملك يقول: فعلنا، وقلنا، ولا يقال له: قلتم، وفعلتم، ولا يكنى عنه بفعلوا. ومن قال – أيضا -: (أنه أضاف الحكم إلى سائر الانبياء المتقدمين لداود وسليمان) مبطل، لانه خلاف الظاهر، ولم تجر عادة باستعمال مثله، وهذا يقتضي جواز أن يقول في اثنين: (قاموا) ويضيف إليهما غيرهما، والذي سبقنا إليه هو المعول عليه، دون غيره. فأما قوله – تعالى -: فقد صغت قلوبكما، ففيه تصرف مليح فصيح، لانا نعلم أن القلب نفسه لا يصغى ولا يتعلق بغيره، وإنما المتعلق بغيره ما يحل فيه من دواع، ومحبات، وإرادات، فحذف ذكر الحال فيه، وأقام المحل مقامه، وجمع المحل الذي هو القلب، لما كان هو والحال جمعا، ومن عادتهم ذلك،


[ 233 ]

لقرب الحال من محله، والمحل من الحال، ويجوز أن يكون شاهدا له قوله – تعالى -: (واسأل القرية التي) و (جاء ربك) لاقامة المضاف إليه مقام المضاف. والجواب عما ذكروه ثالثا أن بيان النبي – عليه السلام – إنما يجب حمله على الاحكام، دون وضع اللغة، لانه – عليه السلام – لبيان أحكام الشرع بعث، لا للتوقيف على اللغات. وقد قيل: إن المراد بذلك أن الاثنين في حكم صلوة الجماعة وفضلها كالجماعة. وقيل: إنه ورد في إباحة السفر للاثنين، فإنهما في ذلك كالجماعة، لانه قد كان نهي عن أن يسافر الرجل وحده. والجواب عما ذكروه رابعا أن القائل من أهل اللغة: أن الانسان يخبر عن نفسه وآخر معه بمثل ما يخبر به عن الجماعة هو الذي


[ 234 ]

قال: أن الكناية عن الجماعة والضمير والخطاب بخلاف الواحد والتثنية، وقد قال النحويون: أنه لا يمكن التثنية في إخبار الرجل عن نفسه وعن آخر معه، كما يمكن التفرقة في المواجه والغائب، وما لا يمكن لا يجوز إستعماله. والله الموفق للصواب. فصل في بيان قولنا: (إن العموم مخصوص) اعلم أن معنى قولنا: (إن لفظ العموم مخصوص) أن المتكلم به أراد بعض ما يصلح له هذا اللفظ، دون بعض، لانه إذا أطلق صلح لاشياء كثيرة على سبيل العموم لها، فإذا دل الدليل على أنه أراد بعض ما وضعت هذه اللفظة لان تستعمل فيه على سبيل الصلاح، قيل: (إن العموم مخصوص) ومخالفونا في العموم يذهبون إلى أن معنى قولهم: (إن العموم مخصوص) أن المتكلم به أراد بعض ما وضع


[ 235 ]

اللفظ لتناوله وجوبا، لا صلاحا، وقد بينا بطلان ذلك. وقد يقال على هذا الوجه: إن فلانا خص العموم، بمعنى أنه علم من حاله ذلك بالدليل. وقد يقال – أيضا -: خصه، إذا اعتقد فيه ذلك، وإن كان إعتقاده باطلا. ويقال: إن الله – تعالى أو غيره خص العموم، بمعنى أنه أقام الدلالة على ذلك. وأما الفرق بين التخصيص والنسخ، فربما إشتبها على غير المحصل، فإنهما يفترقان في حدهما، وأحكامهما: لان حد التخصيص هو ما بيناه من أن المخاطب بالكلمة أراد بعض ما تصلح له، دون بعض، وأما حد النسخ فهو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالخطاب زائل في المستقبل، على وجه لولاه لكان ثابتا، مع تراخيه عنه، فاختلاف حديهما يوجب إختلاف معنييهما. ومن حق التخصيص أن لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ،


[ 236 ]

والنسخ قد يصبح فيما علم بالدليل أنه مراد، وإن لم يتناوله اللفظ. وأيضا، فإن النسخ يقتضي أن المخاطب أراد في حال الخطاب الفعل المنسوخ، وإنما تغيرت حاله في المستقبل، والتخصيص يقتضي فيما يتناوله ألا يكون مرادا في حال الخطاب. وأيضا، فإن التخصيص لا يدخل إلا على جملة، والنسخ يدخل على العين الواحدة. وأيضا، فإن التخصيص في الشريعة يقع بأشياء لا يقع النسخ بها، والنسخ يقع بأشياء لا يقع التخصيص بها، فالاول القياس وأخبار الآحاد عند من ذهب إلى العبادة بهما، والثاني نسخ شريعة بأخرى وفعل بفعل، وإن كان التخصيص لا يصلح في ذلك.


[ 237 ]

فصل في أنه – تعالى – يجوز أن يخاطب بالعموم ويريد به الخصوص إعلم أنه لا شبهة في ذلك على مذهبنا في العموم، لانا نذهب إلى أن ألفاظ العموم حقيقة في العموم والخصوص معا، فمن أراد كل واحد من الامرين بها، فما خرج عن الحقيقة إلى المجاز. وعلى مذهب من خالفنا وقال: أن هذه الالفاظ موضوعة للاستغراق دون غيره، وأنها إذا أستعملت في الخصوص *، كانت مجازا، فكلام واضح لان الله – تعالى – قد يجوز أن يخاطب بالمجاز، كما يخاطب بالحقيقة، وفي القرآن من ضروب المجاز ما لا يحصى. وأكثر ألفاظ القرآن التي ظاهرها العموم قد أريد بها الخصوص. غير أنه لا بد في الخطاب بالمجاز من وجه في المصلحة زائدا على وجهها في الخطاب على جهة الحقيقة، ويمكن ان يكون


[ 238 ]

الوجه في ذلك التعريض لزيادة الثواب، لان النظر في ذلك والتأمل له يشق، ويستحق به زيادة الثواب، كما نقوله في حسن الخطاب بالمتشابه. ويجوز أن يعلم أنه يؤمن عند ذلك ويطيع من لولاه لم يطع. ولا يجوز أن تتساوى الحقيقة والمجاز عند الحكيم في جميع الوجوه، ويكون مخيرا في الخطاب بأيهما شاء، على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب، لان الخطاب بالمجاز عدول عن الحقيقة الموضوعة، وتعد إلى ما لم يوضع، وذلك لا يكون إلا لغرض زائد. وربما يكون الكلام على وجه المجاز أفصح، وأبلغ، وأخصر، فهذا وجه يجوز أن يكون مقصودا. فصل هل العموم إذا خص يكون مجازا أم لا اعلم أن هذا الفرع لا يتم على مذهبنا، وإنما هو تفريع على أن للعموم صيغة مستغرقة متى استعملت في غيره كانت مجازا، وقد


[ 239 ]

يجوز أن يتكلم على هذا الفرع، ويبين الصحيح فيه من غيره، وقد ذهبنا إلى أن عرف الشرع قد إقتضى حمل هذه الالفاظ على العموم والاستغراق. والقائلون بذلك اختلفوا على خمسة أقوال: أولها قول من ذهب إلى أنه يكون مجازا بأي دليل خص. وثانيها قول من نفى كونه مجازا بأي دليل خص. وثالثها قول من ذهب إلى أنه مجاز إلا أن يخص بدليل لفظي منفصل عنه أو متصل. ورابعها قول من يجعله مجازا إلا أن يخص بقول منفصل. وخامسها قول من يقول أنه مجاز إلا أن يخص بشرط أو إستثناء. وليس يمتنع أن يكون اللفظ – إذا دخله التخصيص بالاستثناء –


[ 240 ]

غير مجاز، على تسليم أن لفظ العموم مستغرق وجوبا لا صلاحا، لان اللفظ إذا تعقبه غيره تغيرت حاله في صورته، وليس يجري مجرى المخصصات المنفصلة، من دليل عقلي، أو غيره، ألا ترى أن أكثر الكلام مركب مما إذا فصلنا بعضه من بعض أفاد ما لا يفيده المركب، نحو قولنا: (سما) و (رمى) و (جرى) لان سما يفيد العلو، ورمى يفيد الرمي المخصوص، وجرى يفيد الركض، ومع التركيب والزيادة يفيد فائدة أخرى، ولا يقول أحد: أن ذلك مجاز في حال تركيبه، من حيث وجد اللفظ الذي يفيد إذا إنفرد فائدة. لا يفيد مع التركيب تلك الفائدة، وكذلك الاستثناء


[ 241 ]

قد غير حكم الجملة في صورتها، فلا يجب أن تكون معه مجازا، وإن كانت مجازا إذا تغير حكمها بدليل منفصل، لان الدليل المنفصل ما أثر في الصورة، وإنما أثر في المعنى. ولا يجري ذلك – على ما ظنه بعضهم – مجرى قول القائل: (واسأل القرية، وإنما أردت أهلها)، لان قوله: (أريد أهلها) دليل كالمنفصل لم يغير صورة الكلام وصيغته، وذلك جار مجرى قوله: (واسأل القرية، وإنما أردت المجاز) في ان الصيغة غير متغيرة به. وإن لم يكن هذا على ما ذكرناه، لزم عليه أن يكون الكلام كله مجازا، وأن تكون الامثلة التي أوردناها مجازا، وهذا حد لا يبلغه متأمل.


[ 242 ]

فصل فيما يصير به العام خاصا اعمل أن اللفظ الموضوع لان يستعمل في الاستغراق وفيما دونه إنما يصير خاصا وعبارة عن البعض دون الكل بقصد المخاطب به، وكذلك متى كان عاما ومتناولا للكل إنما يصير كذلك لكون فاعله مريدا لذلك وقاصدا إليه، فإذا قلنا: إن الدليل: إما العقلي، أو السمعي، خصص اللفظ، فالمراد أنه دل على كونه مخصوصا، وعلى أن المخاطب به قصد إلى التخصيص، فالدليل دال على القصد الذي هو المؤثر في الحقيقة. وكيف يجوز أن تكون الادلة هي المؤثرة في تخصيص العام، وقد يتقدم ويكون من فعل غير المخاطب، وإنما يؤثر في كلامه، فيقع على وجه دون آخر ما كان من جهته.


[ 243 ]

وقد يتجوز، فيقال في الدليل: إنه مخصص، والمعنى أنه دل ذلك على التخصيص، وربما إشتبه ذلك على من لا يتأمله. باب ذكر جمل الادلة التي يعلم بها خصوص العموم اعلم أن الادله الدالة على التخصيص على ضربين بالكلام، ومنفصل عنه، والمتصل قد يكون إستثناء، أو تقييد بصفة. وقد ألحق قوم بذلك الشرط، وهذا غلط، لان الشرط لا يوثر في زيادة ولا نقصان، على ما كنا قدمناه، ولا يجري مجرى الاستثناء والتقييد بصفة. فأما المخصص المنفصل، فقد يكون دليلا عقليا وقد يكون سمعيا، فالسمعي ينقسم إلى ما يوجب العلم وإلى ما يوجب الظن،


[ 244 ]

كالقياس وأخبار الآحاد، وليس يخرج عن هذه الجملة شئ من المخصصات، وتفصيل هذه الجملة يأتي بإذن الله – تعالى – ومشيته فصل في تخصيص العموم بالاستثناء وأحكامه اعلم أن الاستثناء لا يوثر في المستثنى منه حتى يتصل به، ولا يكون منقطعا عنه، وذلك مما لا خلاف فيه بين المتكلمين والفقهاء وقد حكي عن إبن عباس – رحمه الله – خلاف فيه. والذي يدل على ذلك أن كل مؤثر * في الكلام لا بد من إتصاله بما يؤثر فيه، كالشرط والتقييد بصفة، فالاستثناء كذلك، يبين ما ذكرناه أنا لو سمعنا قائلا يقول بعد تطاول سكوته: (إلا واحدا) لعددناه عابثا هاذيا، كما نعده كذلك، إذا إشترط، أو قيد بعد إنقضاء الكلام وتراخيه بمدة طويلة. وأيضا لو جاز ما ذكروه، لم يكن أحدنا حانثا في يمينه، لانه


[ 245 ]

يستثنى فيما بعد زمان، فتخرج يمينه من أن تكون منعقدة. ويجب على هذا القول ألا يوثق بوعد ولا وعيد، ولا يستقر أيضا حكم العقود ولا الايقاعات من طلاق وغيره. فأما طول الكلام، فغير مانع من تأثير الاستثناء فيه، لانه مع طوله متصل غير منقطع، ولذلك ينقطع الكلام بإنقطاع النفس وما يجري مجراه، ولا يخرجه من أن يكون متصلا، وقد بينا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله، وذكرنا الخلاف فيه، ودللنا على الصحيح منه. فأما إستثناء الشئ من غير جنسه، فالاولى أن يكون مجازا ومعدولا به عن الاصل، لان من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما يتناوله اللفظ دون المعنى، فإذا أخرج مالا يتناوله اللفظ، فيجب أن يكون مجازا، كاستثناء الدرهم من الدنانير، وقول الشاعر:


[ 246 ]

(وما بالربع من أحد إلا أوارى). وإنما جاز إستثناء الدرهم من الدنانير على المعنى لا على اللفظ، لانه لما كان الغرض بالاقرار إثبات المال، وكان الدنانير كالدراهم في أنها مال، جاز إستثناؤها منها. والشاعر أراد ما بالربع من حال ولا ثاو به، فاستثنى الاواري على هذا المعنى. فأما قوله – تعالى -: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس)، فإنما جاز إستثناؤه من الملائكة وإن لم يكن منهم، من حيث كان مأمورا بالسجود كما أمروا به، فكأنه – تعالى – قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس. فأما قوله – تعالى -: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ)،


[ 247 ]

فالتأويل المعروف أن إلا هيهنا ليست إستثناء، وإنما هي بمعنى لكن، فكأنه – – تعالى – قال: لكن من قتله خطأ فحكمه كذا وكذا. وقد ذكر أبو هاشم على مذهبه وجها قريبا، وهو أن المراد أن مع كونه مؤمنا يقع منه الخطأ، ولا يقع منه العمد. ويمكن وجه آخر، وهو أنه ليس له أن يقتل من يعلمه مؤمنا أو يظنه كذلك إلا خطأ، بأن لا يحصل له أمارة ظن ولا طريقة علم. وقد جوز الفقهاء ذلك فيمن يختلط بالكفار من المؤمنين إذا لم يتميز. واختلفوا في إستثناء الاكثر مما يتناوله المستثنى منه، فمنع منه قوم، والاكثر يجوزونه. والذي يدل على جواز ذلك أن استثناء الاكثر في المعنى المقصود كاستثناء الاقل، فيجب جوازه. وأيضا فإن الاستثناء كالتخصيص في المعنى، فإذا جاز أن يخصص الاكثر، جاز أن يستثنيه.


[ 248 ]

وليس لاحد أن يلزم – على ذلك – جواز إستثناء الكل، لان ذلك يخرجه من كونه إستثناء، لان من حقه أن يخرج بعض ما تناوله الكلام. وتعلق المخالف بأنه لم يجد أهل اللغة إستثنوا الاكثر، غير صحيح، لانه ليس كل شئ لم يجدهم فعلوه لا يجوز فعله، ألا ترى أنا ما وجدناهم يستثنون النصف وما قاربه، وإن كان جائزا بلا خلاف، وليس كل شئ هو الاحسن لا يجوز خلافه، لان الاحسن عندهم تقديم الفاعل على المفعول، ثم لم يمنع ذلك من خلافه. فإن قيل: أفيدل دخول الاستثناء على الجملة على عموم اللفظ بعدما أخرجه. قلنا: قد ذهب قوم إلى ذلك، والصحيح أنه يبقى على ما كان عليه من الاحتمال، وإنما تأثير الاستثناء إخراج ما تناوله، يوضح ذلك أن القائل إذا قال: (ضربت غلماني إلا زيدا) يجوز له أن يقيم لنا أيضا دليلا على أنه ما ضرب أيضا عمروا، فالاحتمال باق.


[ 249 ]

فصل في أن الاستثناء المتصل بجمل هل يرجع إلى جميعها أو إلى ما يليه ؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فمنهم من ذهب إلى أن الاستثناء إذا تعقب جملا يصح رجوعه إلى كل واحدة منها بانفراده، فالواجب أن يرجع إلى كل ما تقدمه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه. وذهب أيو حنيفة واصحابه إلى أن الاستثناء يرجع إلى ما يليه فقط. والذي أذهب إليه أن الاستثناء إذا تعقب جملا، وصح رجوعه إلى كل واحدة منها لو إنفردت، فالواجب تجويز رجوعه إلى جميع الجمل كما قال الشافعي، وتجويز رجوعه إلى ما يليه على ما قال أبو حنيفة وألا يقطع على ذلك إلا بدليل منفصل، أو عادة، أو أمارة، وفي الجملة لا يجوز القطع على ذلك لشئ


[ 250 ]

يرجع إلى اللفظ. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن القائل إذا قال لغيره: (اضرب غلماني، والق أصدقائي، إلا واحدا) يجوز أن يستفهمه المخاطب، هل أراد استثناء الواحد من الجملتين، أو من جملة واحدة، والاستفهام لا يحسن إلا مع احتمال اللفظ واشتراكه. دليل آخر: ومما يدل على ذلك أيضا أن الظاهر من استعمال اللفظة من معنيين مختلفين من غير أن تقوم دلالة على أنها متجوز بها في أحدهما أنها حقيقة فيهما، وقد بينا صحة هذه الطريقة فيما سلف من هذا الكتاب *، ولا خلاف في وجودنا في القرآن واستعمال أهل العربية استثناء تعقب جملتين عاد إليهما تارة، وعاد إلى أحدهما أخرى، وإنما يدعي أصحاب أبي حنيفة أنه إذا عاد إليهما فلدلالة دلت، وأصحاب الشافعي يدعون أنه إذا اختص بالجملة التي تليه فلدلالة، وهذا من الجماعة اعتراف


[ 251 ]

بأنه مستعمل في الامرين، وإذا كان الامر على ما ذكرناه، فيجب أن يكون تعقب الاستثناء الجملتين محتملا لرجوعه إلى الاقرب كما أنه محتمل لعمومه للامرين وحقيقة في كل واحد منهما، فلا يجوز القطع على أحد الامرين إلا بدلالة منفصلة. دليل آخر: ويدل أيضا على ذلك أنه لا بد في الاستثناء المتعقب لجملتين من أن يكون إما راجعا إليهما معا، أو إلى ما يليه منهما، لانه من المحال ألا يكون راجعا إلى شئ منهما، وقد نظرنا في كل شئ يعتمده من قطع على رجوعه إليهما، فلم نجد فيه دلالة على وجوب ما ادعاه على ما سنبينه من بعد إنشاء الله – تعالى – ونظرنا أيضا فيما يتعلق به من قطع على عوده إلى الاقرب إليه من الجملتين من غير تجاوز لها، فلم نجد فيه ما يوجب القطع على اختصاصه بالجملة التي تليه، دون ما تقدمها، فوجب مع عدم ما يوجب القطع على كل واحد من الامرين أن نقف بينهما


[ 252 ]

ولا نقطع بشئ منهما إلا بدلالة. دليل آخر: وهو أن القائل إذا قال: (ضربت غلماني، وأكرمت جيراني، وأخرجت زكوتي قائما) أو قال (صباحا) أو (مساء) أو (في مكان كذا)، احتمل ما عقب بذكره من الحال، أو ظرف الزمان أو ظرف المكان، أن يكون العامل فيه والمتعلق به جميع ما عدده من الافعال، كما يحتمل أن يكون المتعلق به ما هو أقرب إليه، وليس لسامع ذلك أن يقطع على أن العامل فيما عقب بذكره الكل ولا البعض، إلا بدليل غير الظاهر فكذلك يجب في الاستثناء، والجامع بين الامرين أن كل واحد من الاستثناء والحال والظروف الزمانية والمكانية فضلة في الكلام يأتي بعد تمامه وإستقلاله، وليس لاحد أن يرتكب أن الواجب فيما ذكرناه القطع على أن العامل فيه جميع الافعال المتقدمة، إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك، لان هذا من مرتكبه مكابرة، ودفع للمتعارف، ولا


[ 253 ]

فرق بين من حمل نفسه عليه، وبين من قال: بل الواجب القطع على أن الفعل الذي تعقبه الحال أو الظرف هو العامل، دون ما تقدمه، وإنما يعلم في بعض المواضع أن الكل عامل بدليل. وقد استدل أبو حنيفة وأصحابه بأشياء: أولها أن الاستثناء إنما وجب تعليقه بما تقدمه، من حيث لم يكن مستقلا بنفسه، ولو استقل بنفسه، لما علق بغيره، ومتى علقناه بما يليه، إستقل، وأفاد، فلا معنى لتعليقه بما بعد عنه، لانه لو جاز مع إفادته وإستقلاله أن يعلق بغيره، لوجب فيه – لو كان مستقلا بنفسه – أن يعلقه بغيره. وثانيها أن من حق العموم المطلق أن يحمل على عمومه وظاهره إلا لضرورة تقتضي خلاف ذلك، ولما خصصنا الجملة التي يليها الاستثناء بالضرورة، لم يجز تخصيص غيرها، ولا ضرورة. وثالثها أنه لا خلاف في أن الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما يليه دون ما تقدمه، لان القائل إذا قال: (ضربت غلماني إلا ثلثة،


[ 254 ]

إلا واحدا)، فإن الواحد المستثنى يرجع إلى الجملة التي تليه، دون ما تقدمه، فكذلك كل إستثناء تعقب جملا. والكلام على الطريقة الاولى أن أكثر ما تقتضيه هذه الطريقة أنه لا يجب تعدية الاستثناء وقد استقل بالرجوع إلى ما يليه إلى ما تقدم من الجممل، وهكذا نقول: أن ذلك غير واجب، وإنما يتوجه هذا الكلام إلى أصحاب الشافعي، لانهم يوجبون رجوع الاستثناء إلى جميع ما تقدمه من الجمل، فأما من وقف في ذلك، وجوز عوده إلى الجميع، كما جوز إختصاصه بما يليه، فلا يلزمه هذا الكلام. وهذه الطريقة توجب على أبي حنيفة ألا يقطع بالظاهر من غير دليل على أن الاستثناء ما تعلق بما تقدم، ويقتضي أن يتوقف في ذلك، كما نذهب نحن إليه، لانه بنى دليله على أن الاستقلال يقتضي ألا يجب تعليقه بغيره، وهذا صحيح،


[ 255 ]

غير أنه وإن لم يجب، فهو جائز، فمن أين قطع على أن هذا الجائز الذي ليس بواجب لم يرده المتكلم، وليس فيما اقتصر عليه دلالة على ذلك. وقوله: (لو جاز ذلك لجاز في الاستثناء – إذا كان مستقلا بنفسه أن يعلقه بغيره) باطل، لان ما يستقل بنفسه ولا تعلق له بغيره جائزا ولا واجبا لا يجوز أن يعلقه بغيره، والاستثناء المتعقب لجملتين غير مستقل بنفسه، فبالضرورة تعلقه بما يليه حتى يستقل، غير أنه وإن إستقل بذلك، فمن الجائز أن يتعلق بما تقدمها، وإن لم يكن ذلك واجبا، ففارق الاستثناء المفتقر إلى غيره ما يستقل من الكلام بنفسه ولا يحتاج إلى سواه. وهذا الكلام ينتقض على من تعلق به بالشرط، لان الشرط تقدم، أو تأخر، متى علقناه ببعض الجمل، أفاد، واستقل، وعندهم


[ 256 ]

كلهم أنه يجب أن يعلق بالجميع مع حصول الاستقلال، وهذا نقص ظاهر. ويقال لهم على الطريقة الثانية: إنا أولا نسلم أن لفظ العموم. يجب حمله بظاهره على الاستغراق * إلا لضرورة، لانا قد بينا في هذا الكتاب أن هذه الالفاظ مشتركة محتملة، ولا يجب حملها على كل ما تصلح له الا بدليل، فليس من الواجب – إذا خصصنا الجملة التي يليها الاستثناء للضرورة، وطلبا لاستقلال الكلام – أن نقطع على أن الجملة الاولى عامة لا محالة، بل هي على إحتمالها قبل تعقب الاستثناء. فإن دل دليل على أن هذا الاستثناء مخصص لها، قلنا بذلك، وإلا، فالتوقف هو الواجب. وهذه الطريقة تتوجه إلى أصحاب الشافعي، لانهم يوجبون استغراق ألفاظ العموم، وإذا لم تدع الضرورة إلى تعليق الاستثناء بالجملة الاولى كما دعت فيما يليه، فيجب حملها على ظاهرها من العموم.


[ 257 ]

وبعد، فهذه الطريقة تنتقض أيضا بالشرط على ما قدمنا ذكره. فأما الكلام على الطريقة الثالثة، فإن الاستثناء من الاستثناء إنما وجب رجوعه إلى ما يليه، دون ما تقدمه، لانا متى ما علقناه بالامرين، لغا وسقطت الفائدة فيه، لان القائل إذا قال: (لك عندي عشرة دراهم إلا درهمين) لو لم يستثن بعد ذلك، لفهمنا إقراره بثمانية، فإذا قال عقيب ذلك: (إلا درهما) إستفدنا أنه أقر بتسعة، فلو رجع الدرهم المستثنى إلى العشرة كما رجع إلى الدرهمين، لكان وجوده كعدمه، ولم يفدنا إلا استفدناه بقوله: (لك عندي عشرة إلا درهمين) وهو الثمانية من غير زيادة عليها أو نقصان منها، لانا إذا جعلنا قوله: (إلا درهما) يرجع إلى العشرة صار كأنه قال: (لك عندي عشرة إلا ثلاثة)، لان الدرهم المستثنى إذا انضاف إلى الدرهمين المستثنين، كانت ثلاثة، وإذا أنقصنا الدرهم من الثلاثة، بقيت ثمانية، فعاد


[ 258 ]

الامر إلى أن الاقرار بثمانية، وهو المفهوم من قوله: (لك عندي عشرة إلا درهمين) وصار إستثناء الدرهم الثاني لغوا غير مفيد، وإذا جعلناه راجعا إلى ما يليه، دون ما تقدمه، أفاد، لانه يصير مقرا بتسعة،، فلهذه العلة لم يعلق الاستثناء الداخل على الاستثناء بجميع ما تقدمه، وليس هذا المعنى فيما إختلفنا فيه. ووجدت بعض من تكلم في أصول الفقه من الموجودين المحققين يقول: رجوع الاستثناء الداخل على الاستثناء إلى جميع ما تقدم متعذر، لان قول القائل: (إلا ثلاثة إلا واحدا) لو رجع إليهما، لا نقلب الواحد وصار اثنين. وقال – أيضا -: إن الاستثناء الثاني لو رجع إليهما، لصار نفيا وإثباتا، وذلك مستحيل، لان الاستثناء من الاثبات نفي، ومن النفي إثبات. فيقال له: لفظ الواحد ومعناه لا يبطل إذا علق بجمل متغايرة، ألا ترى أن القائل إذا قال: (قد أعطيتك من كل


[ 259 ]

عشرة واحدا) فربما اجتمع بهذا القول العدد الكثير، وإن كان لفظ الواحد ومعناه لم يتغير، لان الواحد من كل عشرة هو واحد على الحقيقة، وإن كان يتكثر بإنضمام غيره إليه، فكذلك الواحد المعلق بكل واحدة من الجملتين واحد في الحقيقة ما بطل لفظه ولا معناه. وقوله: (أن ذلك يتناقض من حيث النفي والاثبات) غير صحيح، لان النفي إنما يناقض الاثبات إذا تقابلا، وتعلقا جميعا بالشئ الواحد، على وجه واحد، فأما النفي من جملة، فليس بمناقض للاثبات في الاخرى، وإن كان الاستثناء – كما قال – من الاثبات نفيا، ومن النفي إثباتا، إلا أن التنافي زائل مع تغاير الجملتين، فبان أن المانع من ذلك هو ما ذكرناه، دون غيره. وقد تعلق الشافعي وأصحابه بأشياء: أولها أن الشرط قد ثبت أنه متى تعقب جملا كثيرة عاد إليها كلها، ولم ينفرد بما قرب منه، فكذلك الاستثناء، والجامع بينهما أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه، ويفتقر في استقلاله


[ 260 ]

وفائدته إلى غيره. ولان كل واحد منهما يقتضي ضربا من التخصيص، لان الاستثناء يخصص الاعيان، ويخرجها مما تناوله ظاهر الكلام، كقولك: (ضربت القوم إلا زيدا) والشرط يخصص الاحوال، كقولك: (اعطه درهما إن دخل الدار)، والامر بالعطية مع الاطلاق يقتضيها على كل حال، فإذا شرط، تخصصت بحال معينة. وأيضا فمعناهما واحد، لان قوله – تعالى في آية القذف: (إلا من تاب) جار مجرى قوله: وأولئك هم الفاسقون إن لم يتوبوا. وثانيها أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم الجملة الواحدة، لانه لا فرق بين ان تقول: رأيت زيد بن عبدالله، ورأيت زيد بن عمرو وهما جملتان، وبين أن تقول: رأيت الزيدين، وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة الواحدة راجعا إليها لا محالة، فكذلك ما صار بحرف العطف كالجملة الواحدة.


[ 261 ]

وثالثها أنه قد ثبت بلا خلاف أن الاستثناء بمشية الله – تعالى – إذا تعقب جملا، عاد إلى جميعها، فكذلك الاستثناء بغير المشية، والجامع بينهما أن كل واحد منهما إستثناء، وغير مستقل بنفسه. ورابعها أنا قد علمنا أن الاستثناء إذا تعقب جملا يصح أن يعود إلى كل واحد منها، فليس هو بأن يعود إلى بعض اولى من بعض، فيجب عوده إلى الجميع، كما أن ألفاظ العموم * لما لم تكن بتناول بعض أولى من بعض، تناولت الجميع. وخامسها أن طريقة العرب الاختصار وحذف فضول الكلام ما استطاعوا، فمتى أوردوا إستثناء عقيب جمل كثيرة من الكلام، فكأنهم ذكروه عقيب كل واحدة، وإنما حملهم الاختصار على العدول عن ذكره عقيب كل جملة، ألا ترى أنه – تعالى – لو


[ 262 ]

قال: (فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا، ولا تقبلو الهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) لكان تطويلا، فأقام مقام ذلك ذكر التوبة مرة واحدة عقيب الجمل كلها. وسادسها أن لواحق الكلام وتوابعه من شرط أو إستثناء يجب أن يلحق الكلام مادام الفراغ لم يقع منه، وما دام الكلام متصلا لم ينقطع، فاللواحق لاحقة ومؤثرة فيه، فالاستثناء إذا تعقب جملا متصلة معطوفا بعضها على بعض، فالواجب أن يؤثر في جميعها. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: إنا لا نسلم لكم ما ادعيتموه، من أن الشرط متى تعقب جملا كثيرة، عاد إلى جميعها، بل نقول في الشرط مثل ما نقوله في الاستثناء: من أنه متى تعقب جملا، احتمل الكلام عوده إلى كل ما تقدم، كما يحتمل عوده إلى ما يليه، وإنما يقطع على أحد الامرين بدليل. فإن قيل: هذا دفع لعرف اللغة. قلنا: ما يعرف للعرب الذين قولهم في هذا حجة في الشرط


[ 263 ]

والاستثناء ما يقطع به على أحد هذين المذهبين اللذين وقع الخلاف فيهما، ومن صنف كتب النحو إنما هم مستقرءون لكلام العرب، ومستدلون على أغراضهم، فربما أصابوا، وربما أخطأوا، وحكمهم في ذلك كحكمنا. على أن قولهم في هذا يختلف، ولم يحققوه كما حققه المتكلمون منا في أصول الفقه. وأصحاب أبي حنيفة يفرقون بين الاستثناء والشرط، ويقولون : أن الشرط له صدر الكلام، فإذا تعقب الجمل، فهو واقع في غير موضعه، وكأنه مذكور في أول الكلام، فلهذا تعلق بالجميع، والاستثناء إذا تعقب الجمل، فهو مكانه. وهذا ليس بمرضي، لانه لو قيل لهم: فإذا كان الشرط متأخرا كأنه متقدم، لم يجب تعلقه بالجميع، وهو لو تقدم على الجمل في اللفظ لا في المعنى، لم يجب ذلك فيه على ما بيناه ولم يجدوا حجة.


[ 264 ]

ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: كيف تصير الجملتان أو الجمل كالجملة الواحدة لاجل العطف، ومعلوم أن الجملتين إذا تعقبهما استثناء صح من المستثنى أن يصرح بأنه إنما استثنى من أحديهما دون الاخرى، ولا يجوز في الجملة الواحدة أن يصرح بأن الاستثناء غير عائد إليها. وبعد، فما معنى قولكم: إن الجملتين قد صارتا كالواحدة، أتريدون أن جميع أحكام هذه قد صارت للاخرى، ام تريدون أنهما قد اشتركا في حكم ما، فإن أردتم الاول، فسد بما لا يحصى، لان أحكام الجمل وصفاتها قد تختلف مع عطف بعضها على بعض، ألا ترى أن القائل إذا قال: (أكرمت القوم، وضربت الغلمان) فعطف جملة على أخرى، فإن أحكام الجملتين مختلفة، لان الاولى تقتضي وقوع الاكرام، والثانية تقتضي وقوع الضرب، وهما مختلفتان، وغير ممتنع أن تكون صفات


[ 265 ]

المكرمين تخالف صفات المضروبين من وجوه شتى، وإنما العطف يقتضي الجمع بينهما في بعض الاحكام، فإذا قال: (ضربت زيدا وعمروا)، فالعطف سوى بينهما في الضرب، وإذا قال: (ضربت زيدا، وأكرمت عمروا)، فالتسوية بينهما من حيث أوقع بكل واحد منهما حدثا من جهة فأما ساير الاحكام، فلا تسوية بينهما فيها فلا يجب إذا أن يستويا في رجوع الاستثناء إليهما. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: إن ذكر مشية الله عقيب الجمل ليس باستثناء ولا شرط، لانه لو كان إستثناء، لكان فيه بعض حروف الاستثناء، ولا حرف هيهنا من حروفه. ولو كان شرطا على الحقيقة، وان كان فيه لفظ الشرط – لما صح دخوله على الماضي، وقد تذكر المشية في الماضي، فيقول القائل: لقيت زيدا، وأكلت البارحة كذا، ثم يقول: إنشاء الله، وإنما دخلت المشية في كل هذه


[ 266 ]

المواضع، ليقف الكلام عن النفوذ والمضي، لا لغير ذلك. فإذا قيل لنا: فلم إذا تعقبت المشية جملتين أو جملا، اقتضت وقوف حكم الجميع، وألا أجزتم تعلقها بما يليها، دون غيره. قلنا: ذلك كان ممكنا لولا الدليل، وقد أجمعت الامة على أن حكم الجميع يقف، فلم يرد حكم المشية إلى الجميع إلا بدليل، وما نأبى أن يرجع الاستثناء أو الشرط إلى جميع الجمل بدليل، وإنما نأبى القطع على ذلك بالظاهر من غير دليل. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: إن صحة عود الاستثناء إلى كل واحد من الجمل لا يقتضي القطع على عوده إليها بأسرها، وإنما يقتضي التجويز لذلك والشك فيه، فرقا بين ما يصح عوده إليه وبين ما لا يصح ذلك فيه. والعموم عند من قال: أن لفظه بظاهره يتناول الجميع، لم يقل فيه بذلك لصحة التناول، بل


[ 267 ]

لان اللفظ موضوع للشمول والاستغراق وجوبا. وهذه الطريقة تنتقض بأن قول القائل: (رأيت رجلا) يصح أن يريد بالرجل زيدا، وعمروا، وكل من يصح تناول هذا الاسم له، ومع ذلك فلا يقطع من حيث الصحة على أنه قد أراد الجميع، وكذلك إذا قال: (ضربت رجالا) يصح أن يريد السودان، والبيضان، والطوال، والقصار، ومع ذلك غير واجب القطع على أنه قد أراد كل من صلح هذا * اللفظ له. ويقال لهم فيما تعلقوا به خامسا: إن طريقة العرب الاختصار كما ذكرتم، ومتى أرادوا الاستثناء من كل جملة من الجمل المعطوف بعضها على بعض، واعتمدوا الاختصار، أخروا ذكر الاستثناء في أواخر الجمل هربا من التطويل بذكره عقيب كل جملة وجرى ذكره في أواخر الجمل مجرى ذكره عقيب كل جملة، ودلوا


[ 268 ]

على أنهم قد أرادوا عوده إلى كل واحدة، لانهم كما يريدون الاستثناء من كل جملة فيختصرون بذكر ما يدل على مرادهم، كذلك قد لا يريدون الاستثناء من كل جملة، بل من جملة واحدة، فلا بد من مراعاة الدلالة، حتى يحكم بالاختصار، ولا يجب الحكم بالاختصار تبخيتا وتخمينا. ويقال لهم فيما تعلقوا به سادسا: إن الكلام إذا كان الفراغ لم يقع منه، وكان المتكلم متشاغلا به، صح أن تعود إليه اللواحق المؤثرة من شرط، وإستثناء، ومشية، فاما القطع على وجوب تعلقها بجميعه، فإن كان منفصلا وبعيدا عن محل المؤثر، فغير مسلم. وإما راعوا اتصال الكلام وانقطاعه لينفصل حكم ما يصح أن يلحق بالكلام مما لا يصح لحوقه للفراغ والانفصال. ولو كان بهذا الذي اقتصر عليه اعتبار، لوجب إذا


[ 269 ]

قال القائل: (أكرمت جيراني، وضربت غلماني الطوال) أن يرد لفظة الطوال إلى الجملتين، لان الفراغ ما حصل من الكلام، كما يفعل في الاستثناء. فإذا قيل: لو رددناه إلى ما تقدم، لكنا قد فصلنا بين الصفة والموصوف. قلنا: قد فعل ذلك في مواضع، وكذلك لو رددنا الاستثناء إلى الجميع، لكنا قد فصلنا بين الاستثناء والمستثنى منه، وكل ذلك مكروه عندهم مذموم. فإن قيل: فعل ما اخترتموه من المذهب في الاستثناء كيف قولكم في الاية التي أحوجت الفقهاء إلى الكلم في هذه المسألة، وهي قوله – تعالى -: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم) وهل الاستثناء بالتوبة عائد إلى


[ 270 ]

جميع الجمل، ومؤثر فيها، أو هو مختص بما يليه. قلنا: إن القاذف عندنا إذا تاب وكذب نفسه في القذف تقبل شهادته، وهذا إنما قلناه بدليل هو غير ظاهر الاستثناء، لانا قد بينا أن تعقب الاستثناء للجمل لا يجب القطع على عوده إليها أجمع إلا بدلالة، وقد أجمعت الامامية على الحكم الذي ذكرناه في الآية، وإجماعهم حجة، على ما دللنا عليه في غير موضع، ولو لم يثبت ذلك وثبت أن إجماع المؤمنين حجة بالآيات، أو بغيرها على ما يذهب إليه مخالفونا، لكان إجماع الامامية هو الحجة، لان الحق فيهم، والمؤمنون هم، ولما أجمعوا على أن الاستثناء بالتوبة يزيل اسم الفسق، وهذا لا خلاف بين أحد فيه، وأجمعوا أيضا على أنه يفيد حكم قبول الشهادة، قلنا به، ولما لم يجمعوا على أن التوبة تزيل الحد، وتسقطه، لم


[ 271 ]

نجعل الاستثناء راجعا إلى إقامة الحد خاصة. ومما يمكن الاستدلال به على قبول شهادة القاذف بعد توبته – لا من جهة الاجماع الذي أشرنا إليه – كل ظاهر في القرآن يقتضي قبول الشهادة الشاهدين العدلين، مثل قوله – تعالى -: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) وقوله – تعالى -: (ممن ترضون من الشهداء) وكل هذا يتناول القاذف بعد توبته، وإذا تناوله، صار هذا العموم بظاهره دليلا على أن اشتراط التوبة وإن كان متأخرا فهو عائد إلى قبول الشهادة، لانا قد بينا أن استثناء التوبة في آخر الكلام يقتضي وجوب تعليقه بما يليه، ويجب التوقف عن رجوعه إلى ما يصح عوده إليه من الجمل المتقدمة إلا بدليل، فظاهر الآيات التي تلوناها يقتضي قبول شهادة القاذف بعد التوبة لتناول الظاهر له، فيقطع بذلك على عود الاستثناء إليه، لا من حيث الظاهر.


[ 272 ]

ويمكن أيضا أن يستدل على أن الاستثناء راجع، إلى قبول الشهادة بقوله – تعالى -: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا) ومعلوم أن التوبة كافية في إسقاط حكم الفسق، وأن إصلاح العمل ليس بشرط في ذلك، وهو شرط في قبول الشهادة، فيجب أن يعود الاستثناء أيضا إلى قبول الشهادة. فإن قيل: قوله – تعالى -: (فإن الله غفور رحيم) لا يليق إلا بإسقاط عقاب الفسق، دون قبول الشهادة. قلنا: وصفه – تعالى – بالغفران والرحمة مما يستحقه جل إسمه على كل حال، ولا يحتاج فيه إلى مطابقة بعض ما يتعقبه من الكلام. على أن الرحمة هي النعمة، والله – تعالى – منعم بالامر بقبول شهادة التائب من القذف بعد أن كانت مردودة، والغفران في الاصل مأخوذ من الغفر الذي هو الستر، ومنه المغفر، لانه ساتر، وإنما سمي الاسقاط للعقاب غفرانا، من حيث كان الساتر


[ 273 ]

للشئ المخفي له كأنه مزيل له، وماح لرسمه، والله – تعالى – إذا أمرنا بقبول شهادة التائب من القذف، فقد أسقط ما كان تعبد به قبل التوبة من رد شهادته، وأزاله، وهذا كله بين. فصل في تخصيص العموم بالشرط اعلم أن الشرط وإن لم يكن مؤثرا في نقصان عدد المشروط كالاستثناء، وبذلك فصلنا. بينهما فيما تقدم، فإنه يخصص المشروط من وجه آخر، لانه إذا قال *: (اضرب القوم، إن دخلوا الدار) فالشرط لا يؤثر في تقليل عدد القوم، وإنما يخصص الضرب بهذا الحال، لانه لو أطلق لتناول الامر بالضرب على كل حال، فتخصص بالشرط، ومن أمثلته قوله – تعالى -: (فلم تجدوا ماء، فتيممووا صعيدا طيبا) وقوله – جل اسمه -:


[ 274 ]

(فمن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا). ولا فصل في الحكم الذي ذكرناه بين تقدم الشرط في صدر الكلام وبين تأخره. ولا يمتنع أن يشترط الشئ بشروط كثيرة، كما لا يمتنع أن يكون الشرط الواحد شرطا في أشياء كثيرة. وكلما زيد في الشرط، زاد التخصيص. ومن حق الشرط أن يكون مستقبلا، وكذلك المشروط. والغاية تجري في هذا المعنى مجرى الشرط. وقوله – تعالى -: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) معناه إلى أن، يطهرن، فإن طهرن فاقربوهن. وكذلك قوله – تعالى -: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).


[ 275 ]

فصل في المطلق والمقيد اعلم أن التقييد هو مثل قوله – تعالى -: (فتحرير رقبة مؤمنة) وقوله – تعالى -: (فصيام شهرين متتابعين) فإذا ولي هذا التقيد جملة واحدة، فلا شبهة في تغير حكمها. والخلاف فيه متى ولي جملتين، في رجوعه إليهما – إذا صح ذلك فيه – أو رجوعه إلى ما يليه، كالخلاف في الاستثناء، وقد تقدم مشروحا. ولا خلاف في أن الحكم المقيد إذا خالف الحكم المطلق، ولم يكن من جنسه، فإن التقييد لا يتعدى إلى المطلق. وإنما اختلف فيما قيد وأطلق، والجنس واحد، كالكفارات، لانه تعالى اطلق الرقبه في كفارة الظهار، وقيدها في كفارة القتل، فقال قوم: أن المطلق يصير مقيدا للظاهر، لا للدليل، وقال


[ 276 ]

قوم: يقيد بالدليل، والقياس، وقال آخرون: لا يصيح تقييده بالقياس، من حيث يتضمن الزيادة، والزيادة في النص نسخ. والدليل على أن المطلق لا يقيد لاجل تقييد غيره أن كل كلام له حكم نفسه، ولا يجوز أن يتعدى إليه حكم غيره، ولو جاز تقييد المطلق لاجل تقييد غيره، لوجب أن يخص العام لتخصيص غيره، ويشترط المطلق على هذا الوجه، وهذا يبطل الثقة بشئ من الكلام. واحتجاجهم بأن القرآن كالكلمة الواحدة، يبطل بالاستثناء والتخصيص. وقولهم: (الشهادة لما أطلقت في موضع، وقيدت في آخر، حكمنا بتقييدها في كل موضع) يبطل بأن العدالة معتبرة في كل موضع، وإنما اشترطت لدليل هو غير ظاهر تقييدها


[ 277 ]

في بعض المواضع. فأما من يجعل القياس دليلا وطريقا إلى إثبات الاحكام، فليس له أن يمتنع من تقييد الرقبة بدليل القياس، إن اقتضى ذلك، وإن كان زيادة، وليس في الحقيقة زيادة، لان تقييد الرقبة بالايمان يقتضي أن المجزي أقل مما كان يجزي، وهذا في المعنى تخصيص، لا زيادة، ولا معتبر بزيادة اللفظ، لان كل تخصيص بدليل شرعي لا بد من كونه زيادة في اللفظ. فصل في ذكر مخصصات العموم المنفصلات الموجة للعلم اعلم أن تخصيص العموم بكل دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنة مقطوع عليها وإجماع لا شبهة فيه، ولا خلاف من محقق في مثله، لان الدليل القاطع إذا دل على ضد حكم العام


[ 278 ]

لم يجز تناقض الادلة، فلا بد من سلامة الدليلين، ولا يسلمان إلا بتخصيص ظاهر العموم. فإن قيل: لم كنتم بأن تخصوا العموم بدليل العقل اولى ممن خص دليل العقل بالعموم. قلنا: دليل العقل لا يدخله الاحتمال والحقيقة والمجاز، والعموم يصح فيه كل ذلك، فلهذا خصصنا العموم بالعقل. فإن قيل: دليل العقل يجب تقدمه على العموم، فكيف يخص به، ولو جاز تخصيصه به، لجاز نسخه. قلنا: دليل العقل ليس بمخصص على الحقيقة، وإنما هو دال على المخصص، والمؤثر في الحقيقة هو قصد المخاطب، والدليل يجوز تقديمه على المدلول، لانه ليس بمؤثر. على أن دليل العقل كما يتقدم، فهو مصاحب، فلو كان مؤثرا، لكان مصاحبا. وأما النسخ بدليل العقل، فغير ممتنع في المعنى، لان سقوط


[ 279 ]

فرض القيام في الصلوة بالزمانة كسقوطه بالنهي، فمعنى النسخ حاصل، وإن لم يطلق الاسم. وأما تخصيص الكتاب بالكتاب، فلا شبهة في جوازه، ومن خالف في ذلك من أهل الظاهر وسمى التخصيص بيانا إنما هو مخالف في العبارة. وأما تخصيصه بالسنة، فلا خلاف فيه، وقد وقع كثير منه، لانه – تعالى – قال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وخصص عموم هذا الظاهر قوله – عليه السلام -: (لا يرث القاتل ولا يتوارث أهل ملتين). وجملة القول في هذا الباب أن كل شئ هو حجة في نفسه لا بد من تخصيص العموم به، وإنما الخلاف في عبارة، أو في وقوع ذلك، ولا حاجة بنا إلى ذكر الوقوع في هذا الموضع. وأما تخصيصه بالاجماع، فصحيح لان الاجماع عندنا


[ 280 ]

لا يكون إلا حجة، لما سنذكره في باب الاجماع بمشية الله تعالى والخلاف بيننا وبين أصحاب الاجماع إنما هو في التعليل والدليل. فصل في التخصيص بأخبار الآحاد اختلف العاملون في الشريعة بأخبار الآحاد في تخصيص عموم الكتاب بها، فمنهم من أبى أن يخص بها على كل حال، ومنهم من جوز تخصيصه بأخبار الآحاد إذا دخله التخصيص بغيرها، ومنهم من راعى سلامة اللفظة في كونها حقيقة، ولم يوجب التخصيص بخبر الواحد مع سلامة الحقيقة، وأجازه إذا لم تكن سالمة *، وإنما تسلم الحقيقة عنده إذا كان تخصيصه بكلام متصل به، ومنه من يجيز تخصيص العموم باخبار الآحاد على كل حال بغير قسمة. والذي نذهب إليه أن أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كل حال، وقد كان جائزا أن يتعبد الله – تعالى – بذلك،


[ 281 ]

فيكون واجبا، غير أنه ما تعبدنا به. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الناس بين قائلين، ذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، وناف لذلك، وكل من نفى وجوب العمل بها في الشرع نفى التخصيص بها، وليس في الامة من جمع بين نفي العمل بها في غير التخصيص وبين القول بجواز التخصيص، فالقول بذلك يدفعه الاجماع، وسندل بمشية الله – تعالى – إذا انتهينا إلى الكلام في الاخبار على أن الله – تعالى – ما تعبدنا بالعمل باخبار الآحاد في الشرع، فبطل التخصيص بها لما ذكرناه، ولا شبهة في أن تخصيص العموم بأخبار الآحاد فرع على القول بالعمل بأخبار الآحاد. على أنا لو سلمنا أن العمل بها لا على وجه التخصيص واجب قد ورد الشرع به، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها، لان إثبات العبادة بالعمل في موضع لا يقتضي تجاوزه إلى غيره،


[ 282 ]

ألا ترى أنه لم ينسخوا بها وإن علموا بها في غير النسخ، وكذلك يجوز ثبوت العمل بها في غير التخصيص وإن لم يثبت التخصيص، لاختلاف الموضعين لان خبر الواحد ليس بحجة من جهة العقل، وإنما كان حجة عند من ذهب إلى ذلك بالشرع، فغير ممتنع الاختصاص في ذلك. واعلم ان شبهة من أحال التعبد بالعمل بخبر الواحد في تخصيص أو غيره التي عليها المدار ومنها يتفرع جميع الشبه أن العموم طريقه العلم، فلا يجوز ان يخص بما طريق إثباته غالب الظن، والذي يفسد اصل هذه الشبهة أن التعبد إذا ورد بقبول خبر الواحد في تخصيص أو غيره، فطريق هذه العبادة العلم، دون الظن، فإنما خصصنا معلوما بمعلوم، وأدلة العقول شاهدة بذلك، وسنشبع هذا في الكلام على نفي جواز العبادة


[ 283 ]

بخبر الواحد عقلا عند الانتهاء إليه بعون الله. وبعد، فلا خلاف بين الفقهاء في جواز الرجوع إلى أخبار الآحاد في الاسم العام، فما الذي يمنع من الرجوع إليها في الحكم المعلق بالاسم، ألا ترى أنا عند الاختلاف نثبت الاسماء بالرجوع إلى أهل اللغة، فما الدذي يمنع من الرجوع إلى الآحاد في تخصيص الاحكام. وأما من جوز التخصيص بأخبار الآحاد بشرط دخول التخصيص قبل ذلك، أو بشرط سلامة الحقيقة، فشبهته في ذلك أن التخصيص يصير اللفظ مجازا، وقد بينا أن الامر بخلاف ذلك. فصل في تخصيص العموم بالقياس اعلم أن هذا الفصل نظير الذي تقدمه، والخلاف في تخصيص العموم بالقياس إنما هو فرع من فروع القائلين بأن العبادة قد وردت


[ 284 ]

بالقياس في الشريعة، ومن دفع جواز القياس في شئ من الشريعة لا شغل له بهذا الفرع، وإذا دللنا على أن العبادة لم ترد بالقياس في حكم من أحكام الشريعة، بطل القول بأنه مخصص بالاجماع، على ما قلناه في أخبار الآحاد. وقد اختلف مثبتوا القياس في هذه المسألة، فذهب أبو علي الجبائي وجماعة من الفقهاء إلى أنه لا يخصص العموم به، وهو قول أبي هاشم الاول، ومنهم من قال: يخص بالقياس الجلي، دون القياس الخفي، وهو مذهب كثير من أصحاب الشافعي، ومنهم من قال: يخص به إذا دخله التخصيص، ومنهم من جوز تخصيصه بالقياس على كل حال، وهو مذهب أكثر الفقهاء، ومذهب ابي هاشم الاخير. وقد ذكرنا طريقتنا في نفي التخصيص بأخبار الآحاد، وهي الطريقة في نفي التخصيص بالقياس.


[ 285 ]

ويمكن – إذا سلمنا أن العبادة قد وردت به في غير التخصيص – أن نسلك مثل الطريقة التي سلكناها في نفي تخصيصه بأخبار الآحاد، فنقول: قد علمتم أن القياس ليس بحجة في نفسه بدليل العقل، وإنما يثبت كونه حجة بالسمع، فمن أين إذا كان في غير التخصيص حجة أنه كذلك في التخصيص. وأما دعويهم أن الامة إنما حجبت الام بالاختين فما زاد بالقياس، وذلك أبلغ من التخصيص، وأن العبد كالامة في تنصيف الحد، فباطلة لانا لا نسلم ذلك، ولا دليل على صحته، وإنما المعول في ذلك على إجماع الامة، دون القياس، ومن منع من القياس من حيث أوجب الظن، والعموم طريقه العلم، قد بينا الكلام عليه في التخصيص بأخبار الآحاد، وقلنا: دليل العبادة بالقياس يقتضي العلم، فما خصصنا معلوما إلا بمعلوم، ولا اعتبار بطريق هذا العلم، كان ظنا أو غيره.


[ 286 ]

ومن أقوى ما احتج به من نفي تخصيص العموم بالقياس أنه لا خلاف بين مثبتيه في أن الشرط في استعماله الضرورة إليه، وسلامته من أن تكون الظواهر دافعة له، وهذا الشرط يمنع من تخصيص الكتاب والسنة المعلومة المقطوع عليها به. ووجدت بعض من خالف في ذلك يقدح في هذه الطريقة، بأن يقول: إذا خصصنا العموم بالقياس، فقد إستعملناه فيما لا نص فيه يخالفه، وإنما يدفع النص القياس إذا كان المراد بذلك النص معلوما، فأما ما يتناول اللفظ في الظاهر لا يكون دافعا، فإن أردتم الاول، فهو مسلم، ولا يمنع من التخصيص بالقياس، وإن أردتم الثاني، فغير مسلم، وهو موضع * الخلاف. وهذا ليس بصحيح، لان مراد الله – تعالى – إنما يعلم بخطابه، فإذا كان ظاهر خطابه ينافي القياس، فقد زال الشرط في صحة


[ 287 ]

القياس، فكيف السبيل إلى العلم بمراده إلا من جهة خطابه. وبعد، فمعلوم بغير شبهة ان للقياس في تخصيص العموم شرطا ليس هو للدليل العقلي، ولا للسنة المقطوع عليها، وقد بينا أنا نترك ظاهر الكتاب ونخص عمومه بدليل العقل، والسنة المعلومة، والاجماع، فيجب مع هبوط درجة القياس عنها الا ندع به ظاهر العموم، وأن نكتفي في الدفع له بتناول ظاهر الكتاب بخلاف موجبه، حتى يكون القياس بخلاف الادلة القاطعة. وليس يمكن أن يدعوا أن الفرق بين القياس وغيره من الادلة القاطعة أن القياس لا يستعمل مع العلم بأن مراد الله – تعالى – بخطابه خلافه. قلنا: ولا شئ من الادلة يستعمل مع ذلك.


[ 288 ]

فإن قيل ما عدا القياس من الادلة يمنع من أن يعلم من مراد الله خلافها، لان ذلك يقتضي تعارض الادلة وتناقضها، وهذا جائز في القياس. قلنا: هذا صحيح غير أنه فرق بين القياس وغيره في غير الموضع الذي حققناه، لان الاتفاق إنما حصل في أن شرط التخصيص بالقياس يخالف شرط التخصيص بغيره، فإن لم يكن الامر على ما ذكرناه من أن ظاهر تناول لفظ العموم يمنع من القياس، ولا يمنع من سائر الادلة، فلا مزية بين الكل، ويجب التساوي، ومعلوم خلافه. فصل في تخصيص العموم بأقوال الصحابة اعلم أنه لا خلاف في أن كل ما هو حجة في نفسه يصح تخصيص


[ 289 ]

العموم به، وإجماع الصحابة حجة، فيجب التخصيص به. ونحن وإن كنا نخالفهم في تعليل كون ذلك حجة، أو في دليله، فالحكم لا خلاف فيه بيننا. فأما قول بعضهم، ففي الناس من يذهب إلى أنه إذا ظهر، وانتشر، ولم يقع فيه خلاف، جرى مجرى الاجماع، فيخص بذلك، كما يخص بالاجماع. وفيهم من يقول: امساكهم عن الخلاف لا يدل على الوفاق، فلا يجعله إجماعا، ولا يخصص به. وتحقيق ذلك يأتي فيما بعد بمشية الله تعالى. وأما نحن، فنذهب إلى أن في الصحابة من قوله بانفراده حجة، وهو أمير المؤمنين عليه السلام، لقيام الدليل على عصمته، وقد دللنا على ذلك في كتب الامامية، وليس هذا موضع ذكره، فقوله – عليه السلام – منفردا يخص به العموم لا محالة.


[ 290 ]

فصل فيما ألحق بالعموم وهو خارج منه إعلم أن العموم من أحكام الالفاظ، فما ليس بلفظ لا يصح ادعاء العموم فيه، وإذا كان الفعل غير متعد في نفسه، ولا يتعلق بسواه، فكيف يصح ادعاء العموم فيه، والعموم كيفية في التعلق، والكيفية في التعلق فرع على حصول التعلق. وهذه الجملة تغني عن تفريع هذا الباب وتشعيبه، والكلام على تفصيل المسائل، لكنا نذكر طرفا من ذلك ينتفع به. إذا روي عنه – عليه السلام – أنه قضى بالشاهد واليمين، فليس بواجب أن يكون منه – عليه السلام – في ذلك قول، فنحمله على عمومه، لان الحكم لا يفتقر إلى قول عام في هذا الباب.


[ 291 ]

وفعله – عليه السلام – لا يخلو من وجهين: إما أن يكون الوجه الذي وقع عليه غير معلوم، نحو أن يأخذ – عليه السلام – من يد رجل ملكا من غير أن يعلم جهة أخذه بعينها، فيكون ذلك مجملا. أو أن يعلم الوجه، مثل ان يقضي بالشاهد واليمين، وهذا حكم في عين لا يجب تعينها، ولا تخطيها. ولو لا أن الدليل قد دل على تساوي كل المدعين والمدعي عليهم في هذا الحكم، لما عدينا هذا الحكم إلى غير موضعه. وكذلك لا يجوز أن يحتج فيمن أفطر في شهر رمضان – بأي وجه كان فطره، – بما روي: أن رجلا أفطر في شهر رمضان، فأمره – عليه السلام – بالكفارة، لان ذلك – كما قلناه – قضية في عين لا يجب عمومها. فإن قيل: فما قولكم في جوابه – عليه السلام – عن سؤال


[ 292 ]

سائل له هل يكون عاما أو خاصا. قلنا: إذا سئل – عليه السلام – عن حكم المفطر فلا يخلو جوابه عن ثلاثة أقسام: إما أن يكون عام اللفظ، نحو أن يقول: (كل مفطر فعليه الكفارة). والقسم الثاني أن يكون الجواب في المعنى عاما، نحو أن يسأل – عليه السلام – عن رجل أفطر، فيدع الاستكشاف عما به أفطر، ويقول – عليه السلام -: (عليه الكفارة) فكأنه قال (من أفطر، فعليه الكفارة). والقسم الثالث ان يكون السؤال خاصا، والجواب مثله، فيحل محل الفعل. وعلى هذا لا يصح أن يحتج في الجمع بين الصلوتين بما روي عنه – عليه السلام – أنه جمع بين الصلوتين في السفر، لان ذلك ليس بعام، وإنما يدل على أنه – عليه السلام – جمع، وليس بمتناول لموضع الخلاف.


[ 293 ]

فأما الرواية الواردة بانه – عليه السلام – كان يجمع بين الصلوتين في السفر، وأن هذا اللفظ يقتضي التكرار، فيدخل موضع الخلاف فيه، فغير صحيح، لانه وإن إقتضى التكرار بالعرف، فلا يدل على ان التكرار قد دخل فيه موضع الخلاف بعينه، وإنما يدل على تكرار الجمع، ويجوز أن يتكرر جمع مخصوص لا خلاف فيه، مثل الجمع * بين الصلوتين بعرفة وغيرها. ومن الناس من فرق بين أن يروى عنه – عليه السلام – أنه قضى بكذا، وبين أن يروى أنه قضى أن كذا فيه كذا، وادعى أن الاول يفيد الفعل، والثاني يقتضي القول. و في الناس من سوى بين الامرين. والاقرب الفرق، فإن التعارف في الثاني يقتضي أن يكون ذلك قولا، إلا أنه من أين يفيد العموم، والراوي ليس بحاك لفظ النبي – عليه السلام – بعينه، وإنما يحكى معناه، والحجة هي لفظ النبي – ص ع – لا لفظ الحاكي.


[ 294 ]

وأما تعليله – عليه السلام – الحكم في عين، كقوله – عليه السلام – في الهر: (إنها من الطوافين عليكم، والطوافات)، فهذا التعليل إنما يصح ان يتعدى موضعه، بأن يتعبد الله – تعالى – بالقياس، وأما قبل العبادة به، فالصحيح ما ذكرناه، ويوافق على هذا الموضع المحصلون من أصحاب القياس. ومثله (الزعيم غارم) لان فيه معنى التعليل والاشارة إليه. فأما روايتهم: (أنه – عليه السلام – سها فسجد)، فهو محتمل للتعليل، كأنه قال: (فسجد لاجل سهوه)، ويحتمل أن يكون ذلك خبرا محضا عن أن السجود تعقب السهو، لا من حيث كان جبرانا له، ويحتمل أيضا أن يكون المراد به أنه سجد ساهيا، فالظاهر لا يعلم به أن السجود سببه السهو، وإنما يعلم ذلك بالدليل.


[ 295 ]

فصل في تمييز ما يصح دخول التخصيص فيه مما لا يصح اعلم أن التخصيص إنما يصح دخوله – على جهة الحقيقة – فيما هو عموم على جهة الحقيقة، فأما ما ليس بعام حقيقة من حيث كان لفظه لا يتناول أشياء كثيرة، فالتخصيص لا يصح فيه. وهذا القسم على ضربين: أحدهما ما هو من جهة دليل اللفظ ومعناه يتناول أعيانا، فمعنى التخصيص يصح فيه، كما أن معنى العموم ثابت فيه. والقسم الاخر يتناول أشياء كثيرة، لا بظاهر اللفظ، ولا بدليله، لكن من جهة القياس، فمن أجاز تخصيص العلة الشرعية، أجازه، ومن منع تخصيص العلة الشرعية، منعه.


[ 296 ]

فصل في تخصيص الاجماع اعلم أن الاجماع إذا كان على قول عام، نظرنا، فإن علمنا قصدهم فيه باضطرار لم يدخله التخصيص، وإن لم نعلم قصدهم به ساغ التخصيص. وهكذا في عموم كلامه – عليه السلام – إن التخصيص إنما يسوغ فيه إذا لم نعلم قصده. وهذا الشرط متعذر في خطابه تعالى، فلاوجه لذكره. فأما إذا كان إجماعهم على فعل، أو رضي بفعل، فلا تخصيص فيه على الحقيقة، وإنما يصح دخول معنى التخصيص فيه متى علم بالدليل أن حكم غيره فيه كحكمه.


[ 297 ]

فصل في الغاية التي يبلغ تخصيص العموم إليها اعلم أنه لاغاية إلا ويجوز أن يبلغ تخصيص ما ظاهره العموم إليها، غير أن ألفاظ الجمع كالمشركين والرجال متى بلغ التخصيص فيها إلى أقل من ثلاثة، كان اللفظ مجازا، وإذا بلغ ثلاثة، كان اللفظ حقيقة، كما يكون فيما زاد. وليس كذلك لفظة من فيما يعقل، وما فيما لا يعقل، لان التخصيص إذا بلغ في هاتين اللفظتين إلى الواحد، لم يخرج الكلام من كونه حقيقة. وقد حكي عن أبي بكر القفال الخلاف في ذلك، وأنه كان يذهب إلى أن لفظة من يجوز ان يبلغ التخصيص فيها إلي الواحد، ولا يجوز في ألفاظ الجمع أن ينتهي التخصيص إلى الواحد.


[ 298 ]

وهذا منه تحجر طريف، وإذا كان البلوغ عنده في (من) إلى الواحد يجعل اللفظ مجازا، فألا جاز في ألفاظ الجمع مثل ذلك ؟ !. وإذا كان – أيضا – التخصيص في ألفاظ الجمع إلى أن ينتهي إلى ثلاثة يجعل القول مجازا عنده، لانه يقتضي الاستغراق على مذهبه، فأي تخصيص عرض فيه، اقتضى كونه مجازا، فأي فرق في بلوغ التخصيص بين ما نقص عن ثلاثة وبين ما زاد عليها ؟ !. فصل في أن الاستثناء والشرط إذا تعلقا ببعض ما دخل تحت العموم لا يجب الحكم بأن ذلك هو المراد بالعموم اعلم أن من المتكلمين في أصول الفقه من ذهب إلى أن الشرط إذا تعقب عموما، وكان الشرط يتعلق ببعض ذلك العموم، فإنه غير واجب أن يحمل العموم على أن المراد به بعض ما تناوله


[ 299 ]

لفظه، بل يحمل على ظاهر عمومه، وضربوا لذلك مثلا، من قوله – تعالى -: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء) إلى قوله – تعالى -: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) ومعلوم أن العفو لا يصح من كل مطلقة، وإنما يصح من البلغات الكاملات، وهن بعض من تقدم ذكره، و – مع هذا – القول الاول على عمومه وذكروا مثالا آخر، وهو قوله – تعالى -: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) فإنه عام في جميع المطلقات، وإن تعقبه ما يقتضي الاختصاص، من قوله – تعالى -: (فإذا بلغن أجلهن، فأمسكوهن بمعروف، أو فارقوهن بمعروف) وذلك لا يتأتى إلا في الرجعية. والذي نقوله في هذا الباب: أن الشرط الخاص إذا تعقب عموما، فجائز أن يتعلق ببعض ما تناوله العموم، ويكون اللفظ الاول على عمومه، وجائز ان يكون المخاطب بالعموم إنما أراد به


[ 300 ]

بعض ما تناوله اللفظ، وهو الذي تعلق الشرط به، ومع الاحتمال للامرين لابد من دليل يعلم به أيهما وقع. والذي يبين ما ذكرناه أن القائل إذا قال: (اضرب الرجال إلا من افتدى ضربك له بماله) وإن شئت: (اضرب الرجال إن لم يفتدوا ضربك بمالهم) حتى يكون قد أثبت بحرف الشرط * وإن كان المثال الاول فيه معنى الشرط، وهذا شرط خاص لا يليق بجميع الرجال، لان لفظ الرجال يدخل فيه الحر والعبد، والعبد لا يملك، فالشرط الذي تعقب الكلام مخصوص لا يتعلق إلا بالاحرار ولا يجب أن يقطع على أن المخاطب بذلك أراد بقوله (الرجال) الاحرار والعبيد، وإن خص بالشرط الاحرار، كما لا يجب أن يقطع على أنه أراد باللفظ الاول الاحرار، دون العبيد، بل ذلك موقوف على الدلالة، ومع فقدها لا يجب القطع على أحد الامرين.


[ 301 ]

يوضح ما ذكرناه أن في كل واحد من الامرين مجاز أو عدولا عن الظاهر، ألا ترى أنا إذا حملنا لفظة الرجال على الاحرار دون غيرهم، كان مجازا، وإذا حملناها على العموم، وحملنا الشرط على بعض ما دخل تحتها، كان ذلك أيضا مجازا وعدولا عن الظاهر من وجه آخر، لان تقدير الكلام إلا أن يفتدي بعضهم بماله ضربك، والظاهر يقتضي أن المفتدي هو المأمور بأن تضربه. والكلام في الآية يجري على مثل ذلك، لان قوله – تعالى -: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون) متى حملنا الشرط على بعض المطلقات، صار تقدير الكلام إلا أن يعفو بعضهن، وظاهر الكلام يقتضي أن العفو يقع من جميع المطلقات، فبان أن القول محتمل للامرين، وما في كل واحد منهما إلا ضرب من المجاز والعدول عن الظاهر.


[ 302 ]

فان قيل: فان الامة كلها انما عملت في كل مطلقة طلقت قبل الدخول بها بان لها نصف المهر من هذه الاية، فهي عامة في المطلقات، وان اختص الشرط. قلنا: ان كانت الامة قد أجمعت على ذلك، فاجماعها دليل يثبت به احد المحتملين، وقد قلنا: ان الخطاب محتمل للامرين معا. على ان الامة انما أجمعت في كل مطلقة طلقت قبل الدخول بان لها نصف المهر، واجماعها على هذا الحكم حجة، وان لم يكن مستفادا من عموم الاية، فمن أين رجوعهم في عموم هذا الحكم إلى عموم لفظ الاية ؟ فاما المثال الثاني من قوله – تعالى -: (إذا طلقتم النساء)، وانه عام في المطلقات كلهن، وان اختص الشرط الذي هو قوله – تعالى -: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف،


[ 303 ]

أو فارقوهن بمعروف) فإنه لا يليق إلا بالرجعية، فالكلام في هذه الآية كالكلام في التي قبلها، فلا معنى لاعادته. وذهب من أشرنا إليه – أيضا – إلى أن الجملتين إذا عطف إحديهما على الاخرى، فخصوص إحديهما لا يقتضي خصوص الاخرى، مثل قوله – تعالى -: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء) إلى قوله – تعالى -: (وبعولتهن أحق بردهن) فالجملة الثانية خاصة، لانها لا تليق الا بالرجعية، والاولى عامة في كل مطلقة، والشبهة في ذلك أن كل جملة لها حكم نفسها، ولا يتعدى إليها التخصيص من غيرها. والصحيح أن يجري الكلام في هذه الآية مجرى ما تقدم، ونقول: إن قوله – تعالى -: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) يحتمل أن يريد به الرجعيات، ليطابق الجملة الثانية، ويحتمل أن يريد به العموم، ويكون تقدير الكلام وبعولة بعضهن


[ 304 ]

أحق بردهن، لان في كلا الامرين وجهامن المجاز والعدول عن الظاهر، فلا بد من دليل يقتضي القطع على أحد الامرين. وإنما كان يترجح حمل الاول على عمومه لو لم يكن في الثاني تجوز وعدول عن الظاهر، فلا بد من دليل يقتضي القطع على أحد الامرين. ويكون لكل جملة حكم نفسها إذا لم يتعلق كل واحدة بالاخرى هذا التعلق، مثل أن يقول القائل: (ضربت القوم، وأكرمت العلماء) فأما إذا قال بعد ذكر المطلقات: (وبعولتهن) فالظاهر يقتضي أن الكناية عائدة إلى كل من تقدم ذكره، والصفة تكشف عما قلناه، فإن القائل إذا قال: (اضرب الرجال السودان) فهذه الصفة تعود إلى جميع الرجال، ولا يجوز أن يحمل محصل الصفة بالسودان على أنها لبعض الرجال المضروبين، وأن لفظ الرجال على عمومه، لانه لا فرق بين أن يقول: (اضرب الرجال السودان،) وبين أن يقول: (اضرب سودان الرجال) فمتى


[ 305 ]

حمل هذا اللفظ على أن المراد به اضرب الرجال الذين السودان بعضهم وجعل لفظ الرجال عاما، فذلك جار مجرى أن يحمل قوله – تعالى -: (إلا أن يعفون) على أن المراد به إلا أن يعفو بعضهن في أنه عدول عن الظاهر، وإن كان في الصفة أقبح وأفحش فأما الاستثناء، فتعليقه ببعض ما تناوله العموم الصحيح أنه جائز لا يقتضى تخصيص العموم، والقضاء بأنه ما أريد به إلا الجنس الذي تناول الاستثناء بعضه، لان القائل إذا قال: (اضرب الرجال إلا فلانا الاسود) فلفظ الرجال عام في البيضان والسوادن، وإن كان الاستثناء خاصا، وإنما الاشكال هو في الشرط والصفة، وقد قلنا ما عندنا في ذلك، وبسطناه.


[ 306 ]

فصل في تخصيص قول النبي – عليه السلام – بفعله اعلم أن فعله – عليه السلام – للشئ يدل على أنه مباح لا محالة منه، فإذا علمنا بالدليل أن حالنا كحاله – عليه السلام – في الشرائع، علمنا – أيضا – أنه مباح منا، فإن كان قد سبق منه – عليه السلام – قول عام في تحريم ذلك الفعل على العموم، فلا بد من الحكم بتخصيصه، وإنما أوقع الشبهة في هذه المسألة الخلاف في هل حكمنا في الشرائع كحكمه، وهل الاصل ذلك أو غيره *. فصل في تخصيص العموم بالعادات اعلم أن العموم لا يجوز تخصيصه بأن يعتاد الناس أن يفعلوا خلافه، لان أفعالهم يجب أن تكون تابعة لخطاب الله – تعالى –


[ 307 ]

وخطاب رسوله – عليه السلام -، فكيف يجعل التابع متبوعا. وإن كانت هذه العادة أثرت في حكم اللفظ وفائدته، وجب أن يخص العموم بها، لان التعارف له تأثير في فوائد الالفاظ فلا يمتنع تخصيص العموم بما يجري هذا المجرى. فصل في أن العموم إذا خرج على سبب خاص لا يجب قصره عليه اعلم أن المراد بقولنا (سبب) في الكلام الداعي إلى الخطاب به والباعث عليه، وليس المراد بهذه اللفظة – هيهنا – الاسباب المولدة للافعال والحكيم لا يجوز أن يريد بخطابه إلا ماله داع إليه، فلا بد في خطابه من أن يكون مقصورا على أسبابه، وغير متعد لها، ولا فاضل عليها، فقد إتفقنا على هذه الجملة، غير


[ 308 ]

أنه لا يحيى منها أنه إذا سأله – عليه السلام – سائل عن حكم حادثة، فأجابه بقول عام، أنا نقصره على ذلك السؤال، لانه إذا عم بخطابه سؤال السائل وغيره، فما أضاف إلى بيان حكم ما سئل عنه بيان حكم غيره، إلا لسبب آخر وداع هو غير سؤال السائل، لانه لو لم يكن كذلك، لاجاب بما يكون وفقا للسؤال من غير أن يكون فاضلا عليه، وليس يجب عليه أن يكون الخطاب مقصورا على الاسباب التي تظهر لنا، بل يكون مقصورا على أسبابه الظاهرة لنا، والخافية عنا. وهذا التلخيص يزيل الشبهة في المسألة. ونعود إلى الكلام المألوف في هذه المسألة. فنقول: قد اختلفوا فيها: فقال قوم: يجب حمل الكلام على سببه دون ظاهره، وقال آخرون: يجب حمله على ظاهره إذا أمكن ذلك.


[ 309 ]

وكلامه – عليه السلام – ينقسم إلى مطابق للسبب غير فاضل عنه، وإلى ما يكون أعم منه: والاول لا خلاف فيه، والثانى ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون أعم منه في الحكم المسؤول عنه، نحو قوله – عليه السلام – وقد سئل عمن ابتاع عبدا، واستعمله، ثم وجد به عيبا،: (الخراج بالضمان) والقسم الآخر أن يكون أعم منه في غير ذلك الحكم المسؤول عنه، نحو قوله – عليه السلام – وقد سئل عن الوضوء بماء البحر، فقال – عليه السلام -: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فأجاب – عليه السلام – بما يقتضي شربه، وإزالة النجاسة به، وغير ذلك. وفي جوابه – عليه السلام – ما لو لم يعلق بالسبب، لم يكن مفيدا، ولا مستقلا بنفسه، نحو ما روي عنه – عليه السلام – وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال – عليه السلام – (أينقص إذا يبس ؟)، فقيل: (نعم)، فقال – عليه السلام -: (فلا إذا).


[ 310 ]

والذي يدل على صحة ما ذكرناه من حمل الكلام على ظاهره أن كلامه – عليه السلام – هو الدلالة على الاحكام، فيجب أن يعتبر صفته في عموم أو خصوص، كما تعتبر صفة أمره ونهيه. دليل آخر: ويدل – أيضا – على ذلك أن العموم لو انفرد عن السبب، يحمل على عمومه بلا خلاف، فيجب مثل ذلك إذا خرج على سبب، لان السبب لا يخرجه عن صفته التي من جهتها كان دليلا، لانه لا تنافي بين حدوث السبب وبين عموم اللفظ، يقوى ما ذكرناه أن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية العجلاني، وحملته الامة على كل رام زوجته. وكذلك آية الظهار وردت في خولة بنت خويلد، وحمل هذا الحكم على كل من ظاهر من امرأته. دليل آخر: ومما يدل – أيضا – على ذلك أنه لا فرق بين قصر الخطاب – مع عمومه – على السبب، وبين قصره على العين التي تعلق


[ 311 ]

السبب بها، حتى لا يدخل في الخطاب إلا تلك العين، دون غيرها. ولوجب أيضا إذا كان للحادث تعلق بمكان مخصوص أو وقت مخصوص ألا يتعداهما الحكم، وفي فساد ذلك دلالة على وجوب اعتبار اللفظ، دون أسبابه وأماكنه وأوقاته. دليل آخر: ومما يدل أيضا على ذلك أن السائل لا يعرف ما الذي يجاب به، ولهذا جاز أن يدخل تحت السؤال النفي والاثبات على سواء، وكيف يجوز أن يبنى الجواب الذي لا يصدر إلا عن معرفة، ولا يجوز أن يتضمن نفيا وإثباتا، على السؤال مع إختلاف حكمهما. دليل آخر: وأيضا فإن السبب فائدته البعث على البيان، فإذا كان سائر ما يدعو إلى البيان لا يوجب تغير حال الخطاب في اعتبار عمومه وصفته، فكذلك السبب.


[ 312 ]

فصل في تخصيص العموم بمذهب الراوي اعلم أن هذه المسألة كالفرع على قبول أخبار الآحاد، والعمل بها، وسنذكر ما عندنا في ذلك إذا انتهينا إلى الكلام في الاخبار بمشية الله – تعالى – وعونه. وإذا فرضنا العمل بما يرويه الواحد، لم يجب أن يخصص عموم ما يرويه بمخالفته له لان غاية حسن الظن بالراوي أنه ما عدل عن عموم ما رواه هوى ولا تقليدا، لكن لوجه من الوجوه، وذلك الوجه يحتمل أن يكون لانه علم قصده عليه السلام، ويحتمل – أيضا – أنه عمل على رواية غيره، أو لوجه من الاستدلال والقياس، إما أن يكون مخطئا فيه أو مصيبا، فكيف يجوز أن يعدل عن ظاهر العموم، والعمل به واجب، لامر محتمل للحق والباطل والصحيح والفاسد. والاشبه


[ 313 ]

أن يكون الراوي ما عمل بخلاف ما رواه لعلمه بقصده – عليه السلام – لانه لو كان الامر على ذلك، لوجب أن يبين الراوي هذه الحال، ويذكرها، إزالة للتهمة عن نفسه، فإذا لم يذكرها، فالاولى أنها ما كانت، ولهذا نقول: أن الراوى إذا ذهب * فيما رواه إلى أنه منسوخ، لا يجب القول بنسخه على سبيل إحسان الظن به، وأي فرق بين تقليده في التخصيص، وتقليده في النسخ، وهذا المذهب أضعف من أن يحتاج إلى الاكثار فيه. فصل في أن الاخبار كالاوامر في جواز دخول التخصيص اعلم أن الاخبار كالاوامر في جواز دخول التخصيص فيها بل هو في الاخبار أظهر، وإذا كان معنى التخصيص هو ان يريد المخاطب بعض ما تناوله اللفظ، فهذا المعنى قائم في الاخبار


[ 314 ]

أظهر من قيامه في غيرها. والكلام بين أهل الوعيد وأهل الارجاء في آيات الوعيد إنما هو في تخصيص هذه الآيات. ومن امتنع من ذلك، فلقلة تأمله. واعتلال من أبى ذلك بأن النسخ لما لم يدخل في الاخبار فكذلك التخصيص باطل، لما سنذكره عند الكلام في الاخبار بعون الله. ولو عكس عاكس هذا القول، وذهب إلى أن التخصيص إنما يدخل في الخبر دون الامر، لما أمكن دفعه إلا بما يدفع من ابى تخصيص الاخبار. فصل في أن ذكر بعض الجملة لا يخص به العموم إعلم أن التخصيص إنما يكون بطريقة التنافي، ولا تنافي بين الجملة الخاصة إذا عطفت على العامة، فكيف يخص بها ؟ ! وأي شهبة تدخل على متأمل في أن قول القائل: (أعط الرجال وزيدا)


[ 315 ]

لا يقتضي إفراد زيد إلا أن يكون دخل في الجملة الاولى، وإنما أفرد تفخيما أو تأكيدا، على مذهب من يراه. وإنما بنى بعض الشافعية قوله هذا على دليل الخطاب، وهو باطل بما سيأتي بمشية الله تعالى. فصل في بناء العام على الخاص اختلف الناس في العام والخاص إذا وردا وبينهما تناف كان الخاص منهما ينفي الحكم عن بعض ما تناوله العام، فذهب الشافعي وأصحابه وأهل الظاهر وبعض أصحاب أبي حنيفة إلى أن العام يبنى على الخاص. وقال آخرون مع عدم التاريخ يجب أن يرجع في الاخذ بأحدهما إلى دليل، ويجرونهما مجرى عامين تعارضا، وهو مذهب عيسى بن أبان وأبي الحسن الكرخي وأبي عبدالله البصري.


[ 316 ]

والذي يجب تحقيقه في هذه المسألة أن الخلاف فيها مبني على فقد التاريخ، وارتفاع العلم بتقدم أحدهما أو تأخره، وهذا الشرط لا يليق بعموم الكتاب، فإن تأريخ نزول آيات القرآن مضبوط محصور لا خلاف فيه. وإنما يصح تقديره في أخبار الآحاد، لانها هي التي ربما عرض فيها هذا التعارض. ومن لا يذهب إلى العمل بأخبار الآحاد، فقد سقطت عند كلفة هذه المسألة، فإن تكلم فيها، فعلى سبيل الفرض والتقدير. والذي يقوى في نفوسنا – إذا فرضنا ذلك – التوقف عن البناء، والرجوع إلى ما يدل عليه الدليل من العمل بأحدهما، ولا حاجة بنا إلى تفصيل ما يجوزأن يدل على ذلك من الادلة من إجماع، أو غيره، لان الفرض أنه لا يجب البناء على مذهب من أوجبه، بل الرجوع إلى الادلة. والذي يدل على صحة ما اخترناه أن بناء العام على الخاص له شرط لا بد من اعتباره، وهو أن يكونا واردين معا، والحال


[ 317 ]

واحدة، لان تقدم أحدهما على الاخر يقتضي عندهم النسخ، فلا بد من تقدير المقارنة، وإذا كان هذا الشرط غير معلوم، فما هو مبنى عليه من البناء لا يصح. فإذا قيل: فقد التاريخ يقتضي ورودهما معا. قلنا: ومن أين قلتم ذلك، ونحن مع فقد روايته بالتاريخ نجوز التقدم والتأخر، كما نجوز المصاحبة. فإن قيل: لو كان بينهما تقدم وتأخر، لروي. قلنا: ولو كان بينهما مصاحبة أو مقارنة، لرويت. وأي فرق بينكم إذا اعتمدتم على البناء وهو مشروط بما لم تعلموه من المقارنة، وبين من ذهب إلى أن أحدهما ناسخ لصاحبه وإن كان النسخ مفتقرا إلى علم التقدم والتأخر ؟. فأما اعتمادهم على أن الغرقى لما لم يعلم تقدم موت بعضهم


[ 318 ]

على بعض، ولم يكن لنا إلى ذلك طريق، حكمنا بأن موتهم وقع في حال واحدة حتى تورث بعضهم من بعض، فليس بمعتمد، لان الدليل لما دل على توريث بعضهم من بعض، كان ذلك موجبا لاثبات وقوع الموت في حالة واحدة، فما استند في ذلك إلا إلى دليل قاطع، وليس في بناء العام على الخاص مثل ذلك، لانه لم يدل دليل على وجوب البناء، فيثبت ما لا يتم بالبناء إلا معه. وليس لاحد أن يقول: هذا يقتضي اطراح الخبرين معا، لان التوقف على طلب الدليل ليس باطراح، ويجري ذلك مجرى العمومين إذا تعارضا. ويمكن أن يقال: إن الله – تعالى – لا يخلى المكلف من دلالة تدله على ما يجب أن يعمل به، من بناء، أو غيره، كما يقال ذلك في العمومين المتعارضين. فأما ترجيحهم البناء بأن ذلك يقتضي العمل بالخبرين معا على وجه صحيح، والعمل بالعام يقتضي اطراح الخاص جملة، فإنما


[ 319 ]

هو متوجه إلى من رأى العمل بالعام، فأما المتوقف فلا يلزمه هذا الكلام، وله أن يقول: كما أن العامل بالعام مطرح للخاص، فالعامل بالخاص بأن على ما لا يعلمه من ورودهما معا، والشرط إذا لم يكن معلوما، فلا يجوز إثبات المشروط. ولمن قال بالنسخ تقرير في هذا الترجيح، وهو أن يقول: إذا عملت بالنسخ، فقد استعملت * جميع الخبرين من غير إطراح لشئ منهما، ومن بنى العام على الخاص، فقد اطرح من العام ما لا يستعمله جملة فقول من حمل على النسخ أرجح من قوله. فأما قولهم: (إن العموم إذا جاز أن يخص بالقياس، والنص أقوى منه، وجب بناء العام على الخاص) فباطل، وذلك أنا لا نرى تخصيص العموم بالقياس، وقد سلف الكلام في ذلك.


[ 320 ]

ثم الفرق بينهما أن الخاص إنما يبنى عليه العام بشرط المصاحبة، وليست معلومة، وليس هذا الشرط معتبرا في القياس. فصل في حكم العمومين إذا تعارضا إعلم أن العمومين إنما يتعارضان على الحقيقة بأن يصيرا بحيث لا يمكن العمل بهما معا، وذلك يكون على وجهين: أحدهما أن يقتضي أحدهما نفي كل ما اقتضى الاخر إثباته، أو إثبات كل ما اقتضى الاخر نفيه. أو يقتضي حكما مضادا لكل ما يقتضيه الآخر. ولا يكاد يوجد هذا فيما طريقه العلم من الاخبار، إلا وهناك ما يدل على العمل باحدهما، أو يكون المكلف مخيرا بين الحكمين. وإنما قلنا ذلك، لان الادلة لا تتناقض، وبمثل ذلك


[ 321 ]

أفسدنا قول من يذهب إلى تكافؤ الادلة. وأما ما طريقه غالب الظن، فقد يجوز مثل ذلك فيه، لانه قد يجوز فيما هذا طريقه أن يكون التكليف على زيد بخلاف التكليف على عمرو، ولهذا صح تعارض البينتين. وإذا كان فيما هذه حاله تاريخ معلوم، فلا تعارض، كما أن مع التخيير لا تعارض. فأما معارضة كل واحد من العمومين صاحبه من وجه دون آخر نحو قوله – تعالى -: (أو ما ملكت أيمانكم) وقوله – سبحانه -: (وأن تجمعوا بين الاختين)، فإن ذلك ليس بتعارض حقيقي، وإنما هو تعارض في أمر مخصوص، لان العمل بهما ممكن إلا في ذلك الامر المخصوص، وما هذه حاله لا يعد تعارضا بالاطلاق، بل يقيد، فيقال: إن أحدهما عارض الآخر في كذا وكذا.


[ 322 ]

فإن قيل: أليس إذا تعارضا في الوجه المخصوص، اقتضى ذلك تناقض الادلة. قلنا: لا يقتضي ذلك، لانه يمكن حمل العموم في الاباحة على ما عدا الاختين. أو يطلب قرينة يعلم بها أي الامرين أولى ؟ ولو قدرنا عدم الامرين، كان لا يمتنع أن يكون التكليف على طريقة التخيير. ووجوه ترجيح آية تحريم الجمع على آية الاباحة ليس هذا موضع ذكرها. وقد قيل: إن آية التحريم هي المفيدة شرعا وحكما زائدا فيجب ان يكون مستثناة من الاباحة. وأيضا قد ثبت بالسمع أن جهة الحظر فيما يتعلق بالفروج أولى فيجب تقديم آية التحريم. وأيضا فإن آية التحريم موردها البيان للحكم، وآية ملك اليمين وردت على سبيل المدح، فيجب تقديم تلك على هذه


[ 323 ]

وأقوى من ذلك كله إجماع الامامية على تحريم الجمع بين الاختين على كل حال، وقد بينا أن إجماعهم حجة، فتخصيص آية الاباحة بآية التحريم أولى. باب الكلام في المجمل والبيان اعلم أن المجمل هو الخطاب الذي لا يستقل بنفسه في معرفة المراد به، والمفسر ما استقل بنفسه. والمستقل بنفسه على أقسام: أحدها ما يدل على المراد بلفظه. وثانيها ما يدل بفحواه. وثالثها ما ألحقه قوم به من الدال على المراد بفائدته. ورابعها منا ألحق – أيضا – مما يدل بمفهومه. ومثال الاول قوله – تعالى -: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) و (إن الله بكل شئ عليم) و (لا يظلم ربك أحدا) وما لا يحصى من الامثلة. ومثال الثاني قوله – تعالى – (ولا تقل لهما أف). ومثال الثالث طريقة التعليل. ومثال الرابع الزجر، وتعلق الحكم بالاسباب، ووجوب ما لا يتم ما كلفناه إلا به.


[ 324 ]

ومن خالف في فحوى اللفظ يجب موافقته، فيقال له: أيدخل على عاقل عرف عادة العرب في خطابها شبهة في أن القائل إذا قال: (لا تقل له أف)، فقد منع من كل أذية له، وأنه أبلغ من قوله: (لا تؤذه) فمن خالف في ذلك، أعرض عنه. ومن لم يخالف، وادعى أن بالقياس والتأمل يعلم ذلك، قيل له: فمن لا يثبت القياس يجب ألا يعرف ذلك، ولو ورد التعبد بالمنع من القياس، لكان يجب ألا يكون ما ذكرناه مفهوما، ونحن نعلم ضرورة أن قولهم: (فلان مؤتمن على القنطار) أبلغ من قولهم: (إنه مؤتمن على كل شئ)، وقولهم: (ما يملك نقيرا ولا قطميرا) أبلغ من قولهم: (إنه لا يملك شيئا)، وإنما اختصروا للبلاغة والفصاحة، ولهذا يعدون مناقضا من قال: (لا تقل له أف، واستخف به)، أو قال: (فلان لا يملك نقيرا، ومعه ألوف الدنانير).


[ 325 ]

وأما طريقة التعليل، فأكثر ما فيها أن يعقل من قوله – عليه السلام -: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) تعليق الحكم بهذه الصفة فمن أين تعديه إلى كل ما كانت له هذه الصفة، وذلك إنما يكون بالعبادة بالقياس، وإلا لم يكن مستفادا. فأما الزجر: فالاولى أن يكون قوله – تعالى -: (والسارق والسارقة) – إذا ثبت أنه زجر عن السرقة – أن القطع إنما كان لاجل السرقة. والاغلب في العادة والتعارف أن من اوجب شيئا، فقد أوجب ما لا يتم إلا به. فأما ما لا يستقل بنفسه، ويحتاج إلى بيان، فهو على ضربين: أحدهما يحتاج إلى بيان ما لم يرد به مما يقتضي ظاهره كونه مرادا به كقوله – تعالى -: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) و (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة


[ 326 ]

جلدة). وقد ذهب قوم إلى أن ذلك كالمجمل في أن ظاهره لا يدل على المراد، وهذا الوجه له باب مفرد * يذكر في موضعه والخلاف فيه، بمشية الله، ويدخل في هذا القسم النسخ، لان الدليل المتقدم إذا علم بلفظه أو بقرينة أن المراد به الامتثال في جميع الاوقات المستقبلة، فلا بد من الحاجة إلى بيان ما لم يرد به، مما يفيده النسخ. ويدخل في هذا القسم ضروب المجازات، لان الخطاب إذا ورد، فلو خلينا وظاهره، لاقتضى ما لم يرد منا، فلا بد من الحاجة إلى البيان. والقسم الثاني مما يحتاج إلى بيان ما يحتاج إليه في معرفة ما أريد به، وهو على ضروب: فمنه ما يكون كذلك لوضع اللغة، ومنه ما يؤثر فيه النقل أو حصول مقدمة، أو مؤخرة، أو قرينة. فالذي يرجع إلى الوضع فهو أن يكون اللفظ وضع


[ 327 ]

في اللغة محتملا. ثم احتماله ينقسم، فربما احتمل أمرا من جملة أمور، مثل قوله – تعالى -: (وآتوا حقه يوم حصاده) و (لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) وربما احتمل شيئا من جملة أشياء معينة، أو شيئين، كقولنا قرء، وجون، وشفق، وقوله – تعالى -: (فقد جعلنا لوليه سلطانا). فأما ما يرجع إلى النقل، فكالاسماء الشرعية، كقولنا صلوة، وزكوة لان المراد بها في الشرع غير ما وضعت له في اللغة. وأما مثال ما يرجع إلى مقدمة، فهو كل عموم يعلم بأمر متقدم أنه لا يراد به إلا البعض، ولا دليل على التعيين، فما هذه حاله لا بد فيه من بيان، نحو قوله – تعالى -: (وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم). وأما ما يرجع إلى مؤخرة وقرينة، فهو كل ظاهر يعلم أنه مشروط بشرط مجمل، أو استثناء مجمل، كقوله – تعالى -:


[ 328 ]

(أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم)، وتفصيل ذلك وذكر جميع امثلته فيه طول. وخلاف ذلك في الامثلة، لان الامر ربما اشتبه فيها. وفيما ذكرناه كفاية. فصل في ذكر معاني الالفاظ التي يعبر بها في هذا الباب اعلم أن النص هو كل خطاب أمكن معرفة المراد به. وقد ذهب قوم إلى أن النص ما لا تعترض الشبهة في المراد به. ومنهم من قال كلما تناول الحكم بالاسم، فهو نص. ولا يجعل المجمل نصا. وما قلناه في حد النص أولى، لانه لا خلاف بين الامة في أن الله – تعالى – قد نص على الصلوة والزكوة مع حاجتهما إلى البيان. ويسمون اللفظ نصا. وإن كان فيه احتمال واشتباه.


[ 329 ]

وأما المفسر، فهو الذي يمكن معرفة المراد به. وأما المجمل في عرف الفقهاء، فهو كل خطاب يحتاج إلى بيان، لكنهم لا يستعملون هذه اللفظة إلا فيما يدل على الاحكام. والمتكلمون يستعملون فيما يكون له هذا المعنى لفظ المتشابه، ولا يكادون يستعملون لفظ المجمل في المتشابه. وأما قولنا (ظاهر)، فالاولى أن يكون عبارة عما أمكن أن يعف المراد به، ولا معنى لاشتراط الاحتمال أو التقارب على ما اشترطه قوم، قد يطلق هذا الاسم مع فقد الاحتمال. فصل في حقيقة البيان اعلم أن البيان هو الدلالة على اختلاف أحوالها، وإلى ذلك ذهب أبو علي وأبو هاشم. وذهب أبو عبد الله الحسن بن علي


[ 330 ]

البصري إلى أن البيان هو العلم الحادث الذي به يتبين الشئ. وللفقهاء في ذلك حدود مختلفة مضطربة لا معنى للتطويل بذكرها. والمحصل هذان المذهبان. والذي يدل على أن البيان هو الدلالة وقوع الاتفاق على أن الله – تعالى – قد بين جميع الاحكام لانه – تعالى – بنصب الادلة في حكم المظهر لها، وقد يوصف الدال بأنه مبين، وقد يجري هذا الوصف مع فقد حدوث العلم، فكيف يقال: إنه عبارة عن حدوث العلم. وكان يجب على هذا القول أن يكون من لم يعلم الشئ فما بينه الله – تعالى – له، ولا نصب له دلالة عليه، ولا شبهة في بطلان ذلك، ولهذا يقولون: قد بينت لك هذا الشئ، فما تبينته، فلو كان البيان هو العلم، لكان هذا الكلام متناقضا. وهذا خلاف في عبارة، والخلاف في العبارات ليس من المهمات.


[ 331 ]

فصل في ذكر الوجوه التي يقع بها البيان اعلم أن بيان الاحكام الشرعية إنما يكون بما يدل بالمواضعة، وبما يتبع ذلك. فمثال ما يدل بالمواضعة الكلام والكتابة. والذي يتبع ما يدل بالمواضعة على ضربين: أحدهما حصل فيه ما يجري مجرى المواضعة، وهو الاشارة و الافعال. والثاني لم يحصل فيه ذلك، وذلك طريقة القياس والاجتهاد، عند من ذهب إليهما. والنبي – عليه السلام – يصح أن يبين الاحكام بجيمع الوجوه التي ذكرناها. ولا يصح منه – تعالى – أن يبين إلا بالكلام والكتابة، فإن الاشارة لا تجوز عليه جل إسمه، و الافعال التي تكون بيانا يقتضي مشاهدة فاعلها على بعض الوجوه، وذلك لا يصح عليه تعالى. وقد بين للملائكة ما كتبه


[ 332 ]

في اللوح المحفوظ، حتى تحملوه، وأدوه. وبين لنا بالكلام جميع الاحكام. فصل في ان تخصيص العموم لا يمنع من التعلق بظاهره اختلف العلماء في قوله – تعالى -: (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) وما أشبهه: فقال قوم) بأي شئ خص صار مجملا يحتاج إلى بيان، وإلى ذلك ذهب عيسى بن أبان. وقال آخرون: يصح مع التخصيص التعلق بظاهره، وهو قول الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة. ومنهم من قال: متى خص بإستثناء، أو بكلام متصل، صح التعلق به، وإذا كان التخصيص بدليل منفصل، فلا تعلق به، وهو قول أبي الحسن الكرخي. وكان أبو عبد الله الحسن بن علي البصري يقول، إذا كان التخصيص لا يخرج الحكم


[ 333 ]

من أن يكون متعلقا بالاسم على الحد الذي تناوله الظاهر، فإنه يحل محل الاستثناء في أنه لا يمنع من التعلق بالظاهر. فمتى كان التخصيص مانعا من ان يتعلق الحكم * بالاسم، بل يحتاج إلى صفة أو شرط حتى يتعلق الحكم به، فيجب أن يمنع ذلك من التعلق بظاهره. ويقول في قوله – تعالى -: (والسارق و السارقة): قد ثبت أن القطع لا يتعلق بالاسم، بل يحتاج إلى صفات وشرائط حتى يتعلق القطع، وتلك الشرائط والصفات لا تعلم إلا بدليل، فجرت الحاجة إلى بيان هذه الصفات والشروط مجرى الحاجة إلى بيان المراد بقوله – تعالى -: (أقيموا الصلوة و آتوا الزكوة). ويقول: لا شبهة في أن القطع محتاج إلى أوصاف سوى السرقة، فجرى ذلك مجرى أن يحتاج القطع إلى أفعال سوى السرقة ولو كان كذلك، لمنع من التعلق بالظاهر، فكذلك الاوصاف. وهذه الطريقة أقوى شبهة من كل شئ


[ 334 ]

قيل في هذا الباب. والذي نقوله: أن كل خطاب لو خلينا وظاهره لكنا نفعل ما أريد منا، وإنما كنا نخطئ في ضم ما لم يرد منا إلى ما اريد، فيجب أن يكون المحتاج إليه في بيانه التخصيص، والاصل ممكن التعلق بظاهره، وكل خطاب لو خلينا مع ظاهره، لما أمكن تنفيذ شئ من الاحكام على وجه ولا سبب، فيجب أن يحتاج في أصله إلى بيان. ومثال الاول قوله – تعالى -: (والسارق و السارقة)، لانا لو خلينا وظاهره، لقطعنا من أراد منا قطعه ومن لم يرد. وكذلك قوله – تعالى -: (اقتلوا المشركين)، لانا لو عملنا بالظاهر، لقتلنا من أراد قلته ومن لم يرد، فاحتجنا إلى تمييز من لا يقتل ولا يقطع، دون من يقتل أو يقطع. ومثال الثاني قوله – تعالى -: (أقيموا الصلوة)، وقوله – جل


[ 335 ]

اسمه -: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)، لانا لو خلينا والظاهر، لما أمكننا أن نعلم شيئا مما أريد منا، فاحتجنا إلى بيان ما أريد منا لانا غير مستفيدين له من ظاهر اللفظ، وفي الاول الامر بخلافه، وجرى ذلك مجرى الاستثناء إذا دخل على العموم، أو غيره من الادلة المنفصلة، في أنه وإن جعل الكلام مجازا، فالتعلق بالظاهر في الباقي صحيح ممكن. وإنما دخلت الشبهة في هذا الموضع، من جهة أن البيان في آية السرقة وقع فيمن يقطع، لا فيمن لا يقطع، وفي صفات السرقة التي يجب بها القطع، لا في صفة ما لا يجب به القطع، فأشكل ذلك على من لم ينعم النظر، فظن أنه مخالف للتخصيص في قوله – تعالى -: (اقتلوا المشركين) وما جرى مجراه. والوجه الذي من أجله علقوا الشروط بما يجب به القطع


[ 336 ]

دون ما لا يجب فيه القطع هو طلب الاختصار، والعدول عن التطويل. ولما كان الغرض تمييز من يقطع ممن لا يقطع، ولم يمكن التمييز باستثناء الاعيان، عدل من تمييزه بالاعيان إلى تمييزه بالصفات. ولما كان التمييز بالصفات فيمن لا يقطع يطول، لان من لا يقطع من السراق أكثر ممن يقطع، فميز بصفات من يقطع، طلبا للاختصار. وإذا كنا قد اتفقنا على أنه لو ميز باستثناء الاعيان، لصح التعلق بالظاهر فيما بقي، وكذلك إذا ميز بذكر صفات من لا يقطع، حتى يقول: (اقطعوا السراق إلا من صفته كذا)، فكذلك يجب ان يتعلق بظاهر ما بقي متى ميز باستثناء من يقطع، لان هذا التمييز إنما اعتمد لاخراج من لا يقطع وإبانته، وإنما عدل


[ 337 ]

إليه للاختصار. فان قيل: ميزوا بين المجاز الذي لا يصح التعلق بظاهره، وبين المجاز الذي يجب التعلق بظاهره. قلنا: أما مثال المجاز الذي لا يصح التعلق بظاهر العموم معه، فهو ان يقول: (اضرب القوم، وإنما أردت بعضهم) أو يقول: (وإنما أردت المجاز، دون الحقيقة) ومثاله قوله – تعالى -: (إن بعض الظن إثم). وأما المجاز الذي لا يمنع من التعلق بالظاهر، فهو أن يقول القائل: ضربت القوم، وينصب دليلا أو يعلم من حاله أنه ما ضرب واحدا معينا منهم، فإن اللفظ يصير مجازا لا محالة، لكنه لا يمنع من التعلق بالظاهر فيمن عدا من قام الدليل على تخصيصه. وهذه الجملة يطلع بها على جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب.


[ 338 ]

فصل في ذكر ما يحتاج من الافعال إلى بيان وما لا يحتاج إلى ذلك اعلم أن وقوع الاجمال وجواز الاحتمال في الفعل كوقوعهما في القول، فيجب حاجة كل واحد منهما مع الاحتمال والاجمال إلى بيان. فإن قيل: كيف تقسمون الافعال إلى ما يحتاج إلى بيان وإلى ما لا يحتاج، ومن مذهبكم أن الافعال أجمع لا مواضعة فيها، ولا ظاهر لها، وهي مفارقة للخطاب في هذا الباب. قلنا: الاصل في الافعال أنه لا ظاهر لها، لكنها تفيد بالشرع لامارات تحصل فيها تجري مجرى المواضعة في القول، فيسوغ أن نقسمها قسمة الاقوال، يبين ذلك أنا إذا رأيناه – صلى الله


[ 339 ]

عليه وآله – يفعل صلوة عقيب إقامة، علمنا أن الصلوة واجبة، لان الاقامة علامة الوجوب. وإذا أمر – عليه السلام – بالقتل في دين بعد الاستتابة، علم أن المقتول مرتد لان هذه أمارته، وإذا رأيناه – عليه السلام – تاركا للصلوة على ميت لاجل دين، علمناه كافرا. فأما مثال المجمل من الافعال، فهو ما لا أمارة عليه، ومثاله أن يفعل – عليه السلام – صلوة ينفرد بها، فيجوز أن تكون واجبة، ويجوز أن تكون نفلا، فقد بان ما قصدناه. فصل في وقوع البيان بالافعال اعلم أنه لا خلاف بين الفقهاء في أن الافعال يقع بها البيان في المجمل، كما يقع بالقول. وقد رجعوا إلى أفعاله – عليه السلام – في البيان، كما رجعوا إلى اقواله. ومن قال أخيرا


[ 340 ]

بخلاف ذلك مخالف للاجماع. ثم لا يخلو خلافه من وجوه: إما أن ينكر كون الفعل بيانا، من حيث لا مواضعة فيه، ولا ظاهر له، * أو من حيث لا يصح تعلقه بالقول المجمل، أو لا يتصل به، أو لم يثبت في أفعاله – عليه السلام – أنها بيان، كما ثبت في أقواله. فأما الاول، فإن الفعل وإن لم يكن فيه مواضعة، فقد نعلم بوقوعه على بعض الوجوه ضرورة، أو بدليل، فيجري ذلك مجرى المواضعة، وقد علم بالعادات أن التعليم ربما يكون بالفعل اقوى منه بالقول والوصف، ألا ترى أن الواصف ربما لا يفهم غرضه بوصفه، فيفزع إلى التفهيم بالفعل، وما فزع إلى الفعل في البيان لما اشتبه بالقول إلا لانه أقوى. فأما التعلق بالفعل المبين، فيمكن أن يعلم منه – عليه السلام – على أحد وجهين: إما أن علمنا بالضرورة من


[ 341 ]

قصده أنه يبين بفعله الخطاب المجمل فنعلم التعلق على أقوى الوجوه. أو يقول – عليه السلام -: (إنني مبين لهذا المجمل بفعلي) ثم يفعل، فيكون – أيضا – التعلق معلوما. وليس يجوز أن يرجع في التعلق إلى ما يقوله قوم: من انه – عليه السلام – إذا قال: (صلوا) وهذا لفظ مجمل، ثم فعل عقيبه ما يمكن أن يكون بيانا له، كأن صلى ركعتين. لان هذا الوجه غير صحيح، لانه قد يجوز أن تكون صلوة الركعتين غير بيان، بل هما مبتدأ بهما، فكما يجوز فيهما أن يكون بيانا يجوز غير ذلك، فالتعلق غير معلوم. فالمعتمد ما ذكرناه. فأما الاتصال، فغير ممتنع أن يكون بين الفعل الذي يقع به البيان وبين المجمل ما يجري مجرى الاتصال، فيكون مؤثرا فيه، والعادات شاهدة بذلك، ولا معنى لدفعه.


[ 342 ]

فأما ثبوت البيان بالفعل كثبوته بالقول، فهو إجماع الامة، ولهذا رجعوا إلى فعله – عليه السلام – في المناسك والصلوة، وجعلوا ذلك بيانا لقوله – تعالى -: (أقيموا الصلوة) ولقوله – عزوجل -: (ولله على الناس حج البيت)، وقول النبي – عليه السلام -: (صلوا كما رأيتموني أصلي) و (خذوا عني مناسككم) مما يدل – أيضا – على ذلك. فصل في تقديم القول في البيان على الفعل اعلم أن القول والفعل إذا ترادفا، واجتمعا، وكان كل واحد منهما يصح التبيين به، كصحته بالآخر، فكل واحد منهما يصح وصفه بانه بيان وإنما الاشتباه في قول متى جعلناه بيانا لم يصح أن يجعل الفعل بيانا، إما لتناف، أو ما يجري مجراه


[ 343 ]

فمن رجح القول، اعتمد على أن شرط في كون الفعل بيانا الحاجة إلى التبيين، وهذا الشرط مفقود مع وجود القول. ولان تعلق القول. أوكد، لانه الحال محل الاستثناء والشرط. ومن سوى بين الامرين، أنزلهما منزلة قولين، أو دليلين، تضمن كل واحد منهما من البيان مثل ما تضمنه الآخر. فصل في هل يجب أن يكون البيان كالمجمل في القوة وغيرها، أو لا يجب ذلك اعلم أن هذا الفصل ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما معنى قولهم: (بيان الشئ في حكمه). والثاني هل يجب ان يكون البيان كالخطاب المبين في الرتبة والقوة. وليس معنى قولنا: (إن بيان الشئ في حكمه) أن الشئ إذا كان واجبا، فبيانه واجب، لان بيان الواجب والندب معا


[ 344 ]

مما يجب على الحكيم. ولا يجوز أن يريد بذلك أنه في قوته، ورتبته، وحصول العلم به. وإنما المراد به أن الفعل إذا كان في نفسه واجبا، وتضمن البيان صفاته، وتفصيل أحواله، فهذه التفاصيل واجبة، لانها صفات الواجب، وكذلك الفعل إذا كان في نفسه مندوبا إليه، فبيان أوصافه وأحواله بهذه الصفة. وأما الكلام في الفصل الثاني، فقد اختلف فيه: فقال قوم يجب أن يكون البيان في رتبة المبين، وطريقة العلم به. وقال قوم يجب في أصول صفاته وشروطه أن يكون كذلك، دون التفصيل. ومنهم من وقف ذلك على الدليل، ويجوز أن يكون البيان بخبر الواحد والقياس. والصحيح أن البيان يجب أن يكون إليه طريق، وعليه دليل، وكيفية ذلك في رتبة أو قوة ليست بواجبة، وذلك موقوف على ما يعلمه الله – تعالى – من المصلحة، وليس يمتنع


[ 345 ]

تجويزا وتقديرا أن يثبت البيان بخبر الواحد أو القياس، كما أجزنا أن نخص بهما العموم المعلوم في كتاب الله تعالى، وإنما الكلام في وقوع ذلك وحصوله، ولا شبهة في أن العلم بالصلوة وأنا بها مخاطبون ضروري، وإن لم يجب مثل ذلك في بيانها. فصل في تمييز ما ألحق بالمجمل وليس منه أو أدخل فيه وهو خارج عنه اعلم أن في الشافعية من يلحق بالمجمل قوله – تعالى -: (و الذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم، أو ما ملكت أيمانهم) وقوله – تعالى -: (والذين يكنزون الذهب والفضة) من حيث خرج الكلام مخرج المدح في إحدى الآيتين، و مخرج الدم في الاخرى. وهذا باطل، لانه لا تنافي بين وجه المدح والذم وبين


[ 346 ]

ما يقتضيه العموم من الحكم الشامل، وإذا كان الرجوع في دلالة العموم إلى ظاهر اللفظ فبكونه مدحا أو ذما لا يتغير الظاهر، كما أن قوله – تعالى -: (والسارق والسارقة) عموم وغير مجمل، و إن كان القصد به الزجر والتخويف، من حيث لا تنافي بين ذلك وبين عموم الحكم، فكذلك الاول. وفي الناس من ذهب إلى أن التعلق بلفظ الجمع من غير دخول ألف ولام مثل قول القائل: (أعط فلانا دراهم) لا يصح، وقالوا: أنه يجوز أن يكون المراد به أكثر من ثلاثة، وظنوا أنه كالمجمل. والواجب موافقة القائل بذلك على مراده، لانه إن أراد أن حقيقة هذه اللفظه ليست مقصورة على ثلاثة في اللغة، فهو كما قال، لانه يتناول كل جمع. وإن قال: إذا ورد من حكيم وتجرد،


[ 347 ]

لا أقطع على أن * المراد به ثلاثة، بل أقف في الثلاثة، كما أقف فيما زاد عليها فهذا غلط، لان هذا اللفظ في اللغة لا بد من تناوله – إذا كان حقيقة – ثلثة، من غير نقصان منها، وإن جاز الزيادة عليها. وألحق قوم ما روي عن النبي – صلى الله عليه وآله – من قوله: في الرقة ربع العشر) بالمجمل، دون العموم، وقالوا: إنما يدل على وجوب ربع العشر في هذا الجنس، ويحتاج إلى بيان القدر الذي يؤخذ منه ذلك، وجعلوا خبر الاواقي مبينا لا مخصصا، وكذلك خبر العشر، وخبر الاوساق. ورد قوم عليهم، فقالوا: إن قوله: (في الرقة ربع العشر)


[ 348 ]

يقتضي العموم والاستغراق، حتى لو خلينا ومجرده، لامكننا الامتثال، فكنا نوجب ربع العشر في قليله وكثيره، فخبر الاواقي مخصص، لا مبين. ويقوى عندنا القول الاول، لانا قد بينا عند الكلام في العموم أن لفظ الجنس لا يفيد في كل موضع الاستغراق والشمول، وإذا كان الامر على ذلك، فقوله – عليه السلام -: (في الرقة ربع العشر) إنما هو إشارة إلى الجنس الذي تجب فيه هذه الزكوة، وليس فيه بيان المقادير، فغير منكر أن يكون خبر الاواقي مبينا، لا مخصصا. ومما يدخل في هذا الباب قول من يقول: (وامسحوا برؤسكم) مجمل، وجعل بيانه فعله عليه السلام، فاعتمد هذا القائل على أن الباء تقتضي الالصاق، من غير أن تقتضي القدر الذى يمسح من الرأس، فيحتاج فيها إلى بيان. وهذا يجب أن يتأمل، لان في الناس من ذهب في الباء إلى


[ 349 ]

أنها لالصاق الفعل بالمفعول، وفيهم من ذهب إلى أنها للتبعيض. ومن قال بالاول اختلفوا: فمنهم من يقول: انها تقتضي الالصاق بكل العضو المذكور، وهو مذهب الحسن البصري ومالك وأبي علي الجبائي، ومنهم من يقول: أنها تقتضي الالصاق على الجملة، من غير إقتضاء لكل، أو بعض. وعلى المذهب الاول لا إجمال في الآية، لانها إذا دلت على مسح جميع الرأس، فقد زال الاجمال. وعلى المذهب الثاني – وهو الالصاق المطلق – لا بد من ضرب من الاجمال، لاننا لا نعلم من هذا الظاهر أن المراد مسح الجميع، أو مسح بعض غير معين أو بعض معين، فلا بد من بيان. وكذلك القول في مذهب من قال: أنها تقتضي التبعيض، لانه بمنزلة أن يقول: (امسحوا بعض رؤسكم) فإذا لم يبين تعيينا ولا تخييرا، فهو مجمل. فإذا قيل: لو تعين البعض، لبينه، فإذا لم يبينه، دل


[ 350 ]

على أنا مخيرون. قلنا: ولو كان المراد التخيير، لبينه فيجب أن يكون معينا. وقد سلف الكلام على نظير هذه الطريقة في باب أحكام الاوامر. وقد ألحق قوم بالمجمل قوله – تعالى -: (فاقطعوا أيديهما)، لان هذه اللفظة تقع على ما بلغ إلى الزند، وإلى ما بلغ إلى المرفق، والمنكب، فلا بد من بيان. وامتنع قوم من كون هذه الآية مجملة. والاقرب أن يكون فيها إجمال، لان قولنا (يد) يقع على هذا العضو بكماله، ويقع على أبعاضه، وإن كانت لها أسماء تخصها، فيقولون: غوصت يدي في الماء إلى الاشاجع، وإلى الزند، وإلى المرفق، وإلى المنكب، وأعطيته كذا


[ 351 ]

بيدي، وإنما أعطاه بأنامله، وكذلك كتبت بيدي، وإنما كتب بأصابعه. وليس يجري قولنا (يد) مجرى قولنا: (إنسان) – كما ظنه قوم – لان الانسان يقع على جملة يختص كل بعض منها بأسم، من غير أن يقع إسم إنسان على أبعاضها، كما يقع اسم اليد على كل بعض من هذا العضو، فبان أن الاجمال حاصل في الآية. ومن قال: أحمله على أقل ما يتناوله الاسم يحتاج إلى دليل. ومما ألحقه قوم بالمجمل وليس في الحقيقة كذلك قوله – تعالى -: (حرمت عليكم أمهاتكم) وما جرى مجرى ذلك من تعليق التحريم بالاعيان، ومعلوم ان الاعيان من الاجسام لا تدخل تحت القدرة، والتحريم إنما يتناول مقدورنا، ففي الكلام حذف، وتقديره حرم عليكم الفعل في هذه الاعيان، وجرى ذلك في أنه مجاز ولا يجوز التعلق بظاهره مجرى قوله تعالى: (واسأل القرية).


[ 352 ]

وهذا غير صحيح، لان التعارف قد اقتضى في تعليق التحريم أو التحليل بالاعيان الافعال فيها، وصار ذلك بالعرف يجري مجرى تعليق الاملاك بالاعيان، لانهم يقولون: (فلان يملك داره وعبده) وإنما يريدون انه يملك التصرف فيهما. ثم المفهوم من هذا التصرف ما يليق بالعين التي أضيفت إلى الملك من استمتاع وانتفاع، وغير ذلك. وإنما حملهم على هذا الحذف في الملك والتحريم والتحليل طلب الاختصار، فاستطالوا أن يذكروا جيمع الافعال، و يعدوا سائر المنافع، فحذفوا ما يتعلق التحريم أو الملك به، اختصارا. ولا يمكن أحدا أن يقول: أن إضافة الملك إلى الاعيان


[ 353 ]

هو مجاز، وغير ظاهر، بل بالتعارف قد صار هو الظاهر، وكذلك القول في التحريم والتحليل. وأي منصف يذهب عليه أن قولنا: (إن الميتة محرمة) أو (الخمر…) ظاهر، وحقيقة، وليس على سبيل المجاز. ومما ألحقه قوم بالمجمل – وإن لم يكن مع التأمل كذلك – ما روي عن النبي – عليه السلام – من قوله: (لا صلوة إلا بفاتحة الكتاب)، و (نكاح إلا بولي)، و (لا صلوة إلا بطهور)، واعتمدوا على ان لفظة (لا) لا يمكن أن تكون نافية للفعل مع علمنا بوقوعه، فيجب أن يكون داخلا فيه على أحد الامرين إما الاجزاء *، وإما التمام والفضل، وإذا لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك، فهو مجمل. وربما قالوا: أن الاجزاء


[ 354 ]

والتمام لا يصح أن يرادا بعبارة واحدة. والذي نقوله في هذا الباب: أن الذي ذكروه وإن كان في اللفظ نفيا، فهو في المقصد والغرض إثبات، والغرض أن من شرط الصلوة الطهور، وقرائة فاتحة الكتاب، والولى في النكاح، فجعلوا النفي منبئا عن الاثبات، وهو أوكد منه، لان قول القائل: (لا صلوة إلا بطهور) أوكد من قوله: من شرط الصلوة الطهور، والنفي واقع في الحقيقة على الصلوة، لان فقد الطهارة ينفي كونها صلوة مشروعة. وكذلك الظاهر في كل ما دخل عليه هذا الحرف من نكاح، أو صيام، أو غير ذلك. وإنما قادتنا الضررة فيما روي من قوله – عليه السلام -: (لا صلوة لجار المسجد إلا في المسجد) وإلى أن نحمله على نفي


[ 355 ]

الفضل والتمام، لحصول الاجماع على أن الصلوة في غير المسجد شرعية مجزية. وأما ما ألحقه قوم بالعموم، وهو عند آخرين من المجمل، فهو قوله – تعالى -: (أقيموا الصلوة)، فإن أصحاب الشافعي اعتمدوا على هذه الآية في وجوب الصلوة على النبي – صلى الله عليه وآله – في التشهد الاخير، من حيث كان لفظ الصلوة يفيد الدعاء. وأنكر أخرون ذلك، وادعوا أن لفظة الصلوة قد انتقلت بالعرف الشرعي إلى ذات الركوع والسجود فلا يجوز أن يحمل لفظ الصلوة على ما كان في اللغة. والصحيح أن ذلك يصح التعلق به، لان لفظ الصلوة في أصل اللغة هو الدعاء بلا شبهة، ولم ينتقل بعرف الشرع عن هذا المعنى، وإنما تخصص، لانه كان محمولا قبل الشرع على كل دعاء، في أي موضع كان، وفي الشريعة تخصص بالدعاء في ركوع وسجود وقراءة. وجرى في أنه تخصيص مجرى لفظ


[ 356 ]

الصيام لانه كان في اللغة عبارة عن الامساك، وصار في الشرع عبارة عن الامساك عن أشياء مخصوصة في أوقات مخصوصة. فاما الزكوة، فهي النماء والزيادة في اللغة، وجعل في الشرع عبارة عن سبب ذلك من الصدقة المخصوصة. فالتعلق به على ما بيناه في وجوب الصلوة على النبي – ص ع – في التشهدين الاول والاخير صحيح مطرد. ولو أن أصحاب الشافعي احتجوا في وجوب الصلوة على النبي في التشهد بقوله – تعالى -: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)، فإن ظاهر الامر يقضتي الوجوب، ويدخل فيه جميع الاحوال التي من جملتها حال التشهد، لكان أقوى مما تعلقوا به في ذلك. فأما قوله – تعالى -: (أقيموا الصلوة)، فيدخل تحته الصلوة الواجبة والنفل والقضاء والاداء.


[ 357 ]

وذهب قوم إلى أنه لا يدخل تحت اللفظة إلا واجب الصلوات دون نفلها، وأصولها دون قضائها، واعتلوا بالوعيد في خروج النافلة، وبأن الفائت تابع للاصل، ويوجبه الاخلال بالاصل، فكيف يرادان معا. وهذا ليس بصحيح، لانه ليس في كل موضع من القرآن أمر فيه بالصلوة اقترن به الوعيد، وما اقترن بالوعيد يحمل الوعيد على أنه يتناول من ترك الواجب من الصلوة، وإن كان الامر بالكل عاما. ولا تنافي بين أن يريد أداء الاصل وقضاءه إذا فات، ولو صرح بذلك، حتى يقول: قد أوجبت عليك فعل الصلوة مؤديا، فإن فرطت فهي واجبة قضاءا، لكان ذلك صحيحا لا تنافي فيه. ومما يجري مجرى ما ذكرناه ما تعلق قوم به في أن الرقبة في كفارة الظهار يجب أن تكون مؤمنة، لقوله – تعالى -:


[ 358 ]

(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون). وأنكر آخرون ذلك عليهم، من أن الكافر ليس بخبيث على التحقيق، وأن العتق لا يسمى نفقة. وليس ما أنكروه بمستبعد، لان الخبيث لا خلاف بين الامة في إطلاقه على كل كافر، كما أطلقوا الطهارة في كل مؤمن. و غير ممتنع أن يسمى العتق إنفاقا في سبيل الله تعالى، لانهم يسمون من أعتق عبده لوجه الله – تعالى – أنه منفق لماله في سبيل الله تعالى، والانفاق إسم لاخراج الاموال في الوجوه المختلفة، فلا وجه لاستبعاد ذلك. ويجرى مجرى هذه الآية قوله – تعالى -: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون)، فإن أصحاب الشافعي يستدلون بهذه الآية على أن المؤمن لا يقتل بكافر وطعن قوم على هذا الاعتماد منهم بأن قالوا: ما تعلق الاستواء


[ 359 ]

به غير مذكور، ولا يمكن ادعاء العموم فيه، فهو كالمجمل الذي لا ظاهر له. وليس يمتنع التعلق بهذا الآية، لا سيما على مذهب من يقول في كل شئ يحتمل لاشياء مختلفة: أن اللفظ إذا أطلق، ولم يبين المتكلم به أنه قصد وجها بعينه، حمل على العموم، ولهذا يقولون في الامر – إذا عري من ذكر وقت أو مكان – أنه عام في الاوقات والاماكن، فما المانع من ان الاستواء إذا لم يتخصص وجب حمله على كل الصفات. على أنا كما علمنا من عادة الصحابة والتابعين وعرفهم أن يحملوا ألفاظ العموم على الاستغراق إلا أن يقوم دليل، كذلك علمنا منهم أن يحملوا الالفاظ المطلقة المحتملة على كل ما تصلح له إلا أن يمنع دليل.


[ 360 ]

فصل في ذكر جواز تأخير التبليغ اعلم أن التبليغ من النبي – عليه السلام – موقوف على المصلحة، فإن إقتضت تقديمه، تقدم. وإن إقتضت تأخيره، تأخر. فمن قال من الفقهاء: أن التبليغ لا يجوز أن يتأخر، وأراد عن وقت الحاجة والمصلحة، فالامر على ذلك. وإن أراد أنه لا يتأخر عن وقت إمكان الابلاغ والاداء، فذلك باطل، لانه غير ممتنع أن يكون وقت إمكان الابلاغ * لا تتعلق به المصلحة، فلا يحسن الابلاغ. ثم ذلك يلزم فيه تعالى، حتى يكون متى أمكنه تعريفنا ذلك أن يكون التعريف واجبا إما بخطاب منه – تعالى – أو برسوله وهذا يقتضي أن لا يقف التقديم على حد. فأما قوله – تعالى -: (يا ايها الرسول بلغ ما أنزل إليك من


[ 361 ]

ربك)، فإنه يقتضي إيجاب التبليغ على الوجه المأمور به، فمن أين تقدمه دون تأخيره ؟. ثم بهذا القول وجب التبليغ، وقد كان – قبل نزوله – التبليغ، ممكنا وليس بواجب. وحملهم ذلك على تأخير بيان المجمل غير صحيح، لانا نجوز تأخير بيان المجمل، وسندل عليه بعون الله تعالى. ومن منع من ذلك، فلان تأخير بيان المجمل يقتضي قبح الخطاب، وليس هذا في التبليغ، لانه – عليه السلام – لم يخاطب بشئ، فبينه. فصل في أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة اعلم أن هذا المسالة لا خلاف فيها، والذي يدل – مع ذلك – على صحة ما ذكرناه أن تعذر العلم بالواجب أو بسببه يقتضي قبح التكليف، ويجري مجرى تكليف ما لا يطاق، ولا فرق عند


[ 362 ]

العقلاء في القبح بين تكليف من لا يقدر، ومن لا يتمكن من العلم، والتبيين وإن لم يحصل في وقت الحاجة، فلاجل تفريط المكلف، وإنما أتى به من قبل نفسه، والتبيين في إمكان المكلف وإن فرط فيه. فصل في تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلف الناس في هذه المسألة فمنهم من إمتنع من تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت الخطاب، وقال بمثل ذلك في الاوامر، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأهل الظاهر. ومنهم من قال بجواز تأخير بيان المجمل والعموم إلى وقت الحاجة، وهو قول أكثر الشافعية، وبعض أصحاب أبي حنيفة. ومنهم من أجاز تأخير بيان المجمل، ولم يجز ذلك في العموم وما جرى مجراه، وهو قول جماعة من أصحاب الشافعي وأبي الحسن الكرخي. ومنهم


[ 363 ]

من أجاز تأخير بيان الاوامر، ولم يجزه في الاخبار. والذي نذهب إليه أن المجمل من الخطاب يجوز تأخير بيانه إلى وقت الحاجة. والعموم لو كان باقيا على أصل اللغة في أن ظاهره محتمل لجاز – أيضا – تأخير بيانه، لانه في حكم المجمل، وإذا إنتقل بعرف الشرع. إلى وجوب الاستغراق بظاهره، فلا يجوز تأخير بيانه. والذي يدل على جواز تأخير بيان المجمل أنه غير ممتنع أن تعرض فيه مصلحة دينية فيحسن لها. وليس لهم أن يقولوا: هيهنا وجه قبح وهو الخطاب بما لا يفهم المخاطب معناه، والمصلحة لا تقتضي حسن ما فيه وجه قبح ثابت)، لانا سنبين أن الذي ادعوه غير صحيح، وأنه لا وجه قبح فيه. و – أيضا – فتأخر العلم بتفصيل صفات الفعل ليس باكثر


[ 364 ]

من تأخير إقدار المكلف على الفعل، ولا خلاف في أنه لا يجب أن يكون في حال الخطاب قادرا ولا على سائر وجوه التمكن، فكذلك العلم بصفة الفعل. و – أيضا – فقد نطق الكتاب بتأخير البيان في قوله – تعالى -: (إن الله يامركم أن تذبحوا بقرة. قالوا: أتتخذنا هزوا ؟ ! قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال: إنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر، عوان بين ذلك، فافعلوا ما تؤمرون. قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟، قال: إنه يقول: إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟، إن البقر تشابه علينا، وإنا إنشاء الله لمهتدون. قال: إنه يقول: إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث، مسلمة لاشية فيها. قالوا: الآن جئت بالحق، فذبحوها، وما كادوا يفعلون.) ووجه الدلالة من الآية أنه – تعالى – أمرهم بذبح بقرة لها هذه الصفات المذكورة كلها، ولم يبين في أول وقت الخطاب ذلك حتى راجعواه واستفهموه،


[ 365 ]

حتى بين لهم المراد شيئا بعد شئ، وهذا صريح في جواز تأخير البيان. فإن قيل: لم زعمتم أن الصفات كلها هي للبقرة الاولى التي أمروا بذبحها، وما أنكرتم أن يكونوا أمروا في الخطاب الاول بذبح بقرة من عرض البقر، فلو امتثلوا و ذبحوا أي بقرة اتفقت، كانوا قد فعلوا الواجب، فلما توقفوا، وراجعوا، تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة غير فارض ولا بكر، من غير مراعاة لباقي الصفات. فلما توقفوا – أيضا -، تغيرت المصلحة في تكليفهم، فأمروا بذبح بقرة صفراء. فلما توقفوا، تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح ما له كل الصفات. و إنما يكون لكم في ذلك حجة لو صح لكم أن الصفات كلها كانت للبقرة الاولى. قلنا هذا سؤال من لا يعرف عادة أهل اللغة في كناياتهم،


[ 366 ]

لان الكناية في قوله: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) لا يجوز عند متأمل أن يكون كناية إلا عن البقرة التي تقدم ذكرها، لانه لم يجر ذكر لغيرها، فيكنى عنه. ولا يجوز على ما ذهب القوم إليه أن تكون كناية عن البقرة التي يريد – تعالى – أن يامرهم بذبحها ثانيا، لانهم لا يعرفون ذلك، ولا يخطر لهم ببال، فكيف يسألون عن صفة بقرة لا يعلمون أنه يؤمرون بذبحها ؟ ويجري ذلك مجرى قول * أحدنا لغلامه: (أعطني تفاحة) فيقول غلامه: (بين لي ما هي) فلا يصرف أحد من العقلاء هذا الكناية إلا إلى التفاحة المأمور بإعطائها. ثم قال – تعالى – بعد ذلك: إنه يقول: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر، عوان بين ذلك) وقد علمنا أن الهاء في قوله – تعالى -:


[ 367 ]

(إنه يقول) هي كناية عنه تعالى، لانه لم يتقدم ما يجوز رد هذه الكناية إليه إلا اسمه تعالى. فكذلك يجب أن يكون قوله – تعالى -: (إنها) كناية عن البقرة المتقدم ذكرها، وإلا، فما الفرق بين الامرين. وكذلك الكلام في الكناية بقوله – تعالى -: (ما لونها)، وقوله: (إنها بقرة صفراء)، والكناية في قوله – تعالى -: (ما هي إن البقر تشابه علينا)، ثم الكناية في قوله – تعالى -: (إنه يقول: إنها بقرة لا ذلول تثير الارض). ولا يجوز ان تكون الكناية في قوله – تعالى -: (إنها) في المواضع كلها للقصة والحال، لان الكناية في (إنها) لا بد أن تتعلق بما تعلقت به الكناية في قوله: (ما هي)، والاشبهة في أن المراد بلفظة (هي) البقرة التي أمرهم بذبحها فيجب أن


[ 368 ]

يكون كناية الجواب تعود إلى ما كني عنه بالهاء في السؤال، ولو جاز تعليق (إنها) بالقصة والشأن، جاز تعليق (ما هي) بذلك، و جاز – أيضا – أن يكون الكناية في قوله – تعالى -: (إنه يقول) عن غير الله تعالى، ويكون عن الامر والقصة، كما قالوا: (إنه زيد منطلق)، فكنوا عن الشأن والقصة. وكيف يكون قوله: (إنها كذا وكذا) كناية عن غير ما كني عنه بما هي وبما لونها، أو ليس ذلك موجبا أن يكون جوابا عن غير المسؤول عنه ؟ لانهم سألوا عن صفات البقرة التي تقدم ذكرها، وأمرهم بذبحها، فأجيبوا عن غير ذلك. و سواء جعلوا الهاء في (إنها) عن الشأن والقصة، أو عن البقرة التي أمروا ثانيا وثالثا بذبحها، كيف يجوز أن يسألوا عن صفة ما تقدم أمره لهم بذبحها، فيترك ذلك جانبا، ويذكر صفة ما لم يتقدم


[ 369 ]

الامر بذبحه، وإنما أمروا امرا مستأنفا به. ولو كان الامر على ما قالوه من أنه تكليف بعد تكليف، لكان الواجب لما قالوا: (ما هي) وإنما عنوا البقرة التي أمروا إبتداء بذبحها، أن يقول لهم: أي بقرة شئتم، وعلى أي صفة كانت، وما أمرتكم بقبح بقرة لها صفة معينة، والآن فقد تغيرت مصلحتكم، فاذبحوا الآن ما صفتها كذا وكذا. وإذا قالوا له: (ما لونها) يقول، أي لون شئتم، وما أردت لونا بعينه، والآن فقد تغيرت المصلحة، والذي تؤمرون به الآن بقرة صفراء. ولما قالوا في الثالث: (ما هي إن البقر تشابه علينا) أن يقول: المأمور به صفراء، على أي صفة كانت بعد ذلك، وقد تغيرت المصلحة، فاذبحوا بقرة، لا ذلول تثير الارض، إلى آخر الصفات. فلما عدل تعالى – عن ذلك إلى نعت بعد آخر، دل على أنها نعوت للبقرة الاولى.


[ 370 ]

على أنه لو جاز صرف الهاء في قوله – تعالى -: (إنها) إلى الشأن والقصة – وإن كان المفسرون كلهم قد أجمعوا على خلاف ذلك، لانهم كلهم قالوا: هي كناية عن البقرة المتقدم ذكرها، وقالت المعتزلة بالاسر: أنها كناية عن البقرة التي تعلق التكليف المستقبل بذبحها، ولم يقل أحد: أنها للقصة والحال – لكان ذلك يفسد من وجه آخر، وهو أنه إذا تقدم ما يجوز أن تكون هذه الكناية راجعة إليه، ولم يجر للقصة والحال ذكر، فالاولى أن تكون متعلقة بما ذكر وتقدم الاخبار عنه، دون ما لا ذكر في الكلام له، وإنما استحسنوا الكناية عن الحال والقصة في بعض المواضع، بحيث تدعوا الضرورة، ولا يقع اشتباه، ولا يحصل التباس. وبعد، فإنما يجوز إضمار القصة والشأن بحيث يكون الكلام مع تعلق الكناية بما تعلقت به مفيدا مفهوما، لان


[ 371 ]

القائل إذا قال: (إنه زيد منطلق) و (إنها قائمة هند)، فتعلقت الكناية بالحال والقصة، أفاد ما ورد في الكلام، وصار كأنه قال: (زيد منطلق) و (قائمة هند)، والآيات بخلاف هذا الموضع، لانا متى جعلنا الكناية في قوله: (إنها بقرة لا فارض) و (إنها بقرة صفراء) و (إنها بقرة لا ذلول) متعلقة بالحال والقصة، بقي معنا في الكلام ما لا فائدة فيه ولا يستقل بنفسه، لانه لا فائدة في قوله: (بقرة صفراء) و (بقرة لا فارض)، ولا بد من ضم كلام إليه، حتى يستقل ويفيد، فإن ضممنا إلى قوله: (بقرة لا فارض) أو (بقرة صفراء) التي أمرتم بذبحها، أفاد لعمري. فبطل صرف الكناية إلى غير البقرة، ووجب أن تصرف الكناية إلى البقرة حتى لا يحتاج أن يحذف خبر المبتدأ والاكتفاء بما في الكلام أولى من تأويل يقتضي العدول


[ 372 ]

إلى غيره، وحذف شئ ليس بموجود في الكلام. ومما يدل على صحة ما نصرناه أن جميع المفسرين للقرآن أطبقوا على أن الصفات المذكورات للبقرة أعوز إجتماعها للقوم حتى توصلوا إلى إبتياع بقرة لها هذه الصفات كلها بملء جلدها ذهبا، ولو كان الامر على ما قاله المخالفون، لوجب أن لا يعتبر فيما يبتاعونه ويذبحونه إلا الصفات الاخيرة، دون ما تقدمها، ويلغى ذكر الصفراء، أو التي ليست بفارض ولا بكر، وأجمعوا على أن الصفات كلها معتبرة. فعلم أن البيان تأخر وان الصفات كلها للبقرة الاولى. فإن قيل: فلم عنفوا على تأخير هم امتثال الامر الاول، وعندكم أن البيان للمراد بالامر الاول تأخر ولم قال –


[ 373 ]

– سبحانه -: (فذبحوها وما * كادوا يفعلون). قلنا: ما عنفوا بتأخير امتثال الامر الاول، وليس في القرآن ما يشهد بذلك، بل كان البيان شيئا بعد شئ، كلما طلبوه واستخرجوه، من غير تعنيف، ولا قول يدل على أنهم عصاة بذلك. فأما قوله – تعالى في آخر القصة: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) فإنما يدل على أنهم كادوا يفرطون في آخر القصة وعند تكامل البيان، ولا يدل على أنهم فرطوا في أول القصة. ويجوز أن يكونوا ذبحوا بعد تثاقل، ثم فعلوا ما أمروا به. دليل آخر: ومما يدل على جواز تأخير البيان أنا قد علمنا ضرورة أنه يحسن من الملك أن يدعو بعض عما له فيقول له: قد وليتك البلد الفلاني، وعولت على كفايتك، فأخرج إليه


[ 374 ]

في غد، أو في وقت بعينه، وأنا أكتب لك تذكرة بتفصيل ما تعمله، وتأتيه، وتذره أسلمها إليك عند توديعك لي، أو أنفذها إليك عند إستقرارك في عملك. وكذلك يحسن من أحدنا أن يقول لغلامه: أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة، وتبتاع ما أبينه لك غداة يوم الجمعة، ويكون القصد بذلك إلى التأهب لقضاء الحاجة، والعزم عليها، وقطع العوائق والشواغل دونها. وهذا هو نظير ما أجزناه من تأخير بيان المجمل، بل هو هو بعينه. ولم يجر ذلك عند أحد مجرى خطاب العربي بالزنجية. دليل آخر: وهو أنا قد أجمعنا على أنه – تعالى – يحسن منه تأخير بيان مدة الفعل المأمور به والوقت الذي ينسخ فيه عن وقت الخطاب، وإن كان مرادا بالخطاب، لانه


[ 375 ]

إذا قال: صلوا، وأراد بذلك غاية معينة، فالانتهاء إليها من غير تجاوز لها مراد في حال الخطاب، وهو من فوائده، و مراد المخاطب به. وهذا هو نص مذهب القائلين بجواز تأخير بيان المجمل، ولم يجر ذلك عند أحد مجرى خطاب العربي بالزنجية. فإن قالوا: ليس يجب أن يبين في حال الخطاب كل مراد بالخطاب. قلنا: قد أصبتم، فاقبلوا في الخطاب بالمجمل مثل ذلك. فإن قالوا: لا حاجة به إلى بيان مدة النسخ وغاية العبادة، لان ذلك بيان لما يجب أن يفعله، وهو غير محتاج الآن إلى بيان ما لا يجب أن يفعله، وإنما يحتاج في هذه الحال إلى بيان صفة ما يجب أن يفعله. قلنا: هذا هدم لكل ما تعتمدون عليه في تقبيحكم تأخير البيان لانكم توجبون البيان لشئ يرجع إلى الخطاب، لا لامر


[ 376 ]

يرجع إلى إزاحة علة المكلف في الفعل، فإن كنتم إنما تمنعون من تأخير البيان لامر يرجع إلى إزاحة العلة والتمكن من الفعل، فأنتم تجيزون أن يكون المكلف في حال * الخطاب غير قادر ولا متمكن بالآلات، وذلك أبلغ في رفع التمكن من فقد العلم بصفة الفعل. وإن كان امتناعكم لامر يرجع إلى وجوب حسن الخطاب، وإلى أن المخاطب لا بد من أن يكون له طريق إلى العلم بجميع فوائده، فهذا ينتقض بمدة الفعل، وغايته، لانها من جملة المراد، وقد أجزتم تأخير بيانها، وقلتم بنظير قول من يجوز تأخير بيان المجمل، لانه يذهب إلى أنه مستفيد بالخطاب المجمل بعض فوائده دون بعض وقد أجزتم مثله. والرجوع إلى إزاحة العلة نقض منكم لهذا الاعتبار كله. فأما الذي يدل على قبح تأخير بيان العموم، فهو أن العموم لفظ موضوع لحقيقته والحكيم لا يجوز أن يخاطب بلفظ له حقيقة وهو لا يريدها من غير أن يدل في حال خطابه على أنه متجوز باللفظ ولا إشكال في قبح ذلك، والعلة في قبحه أنه


[ 377 ]

خطاب أريد به غير ما وضع له من غير دلالة. والذي يدل على ذلك أنه لا يحسن أن يقول الحكيم منا لغيره: (افعل كذا) وهو يريد التهديد والوعيد، أو (اقتل زيدا) وهو يريد اضربه الضرب الشديد الذي جرت العادة بان يسمى قتلا مجازا، ولا أن يقول: (رأيت حمارا) وهو يريد رجلا بليدا، من غير دلالة تدل على ذلك، أو إضطرار إلى قصده، ومن فعل ذلك، كان عندهم سفيها مذموما، وبهذا المعنى بانت الحقيقة من غيرها، لان الحقيقة تستعمل بلا دليل، والمجاز لا بد معه من دليل. وليس تأخير بيان المجمل جاريا هذا المجرى، لان المخاطب بالمجمل ما أرد به إلا ما هو فيه حقيقة، ولم يعدل عما وضع له، ألا ترى أن قوله – تعالى -: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) إذا أراد به قدرا مخصوصا، فلم يرد إلا ما اللفظ بحقيقته موضوع له، وكذلك إذا قال: (عندي شئ) فإنما استعمل اللفظ الموضوع في اللغة للاجمال فيما وضعوه له، وليس كذلك مستعمل لفظ العموم وهو يريد الخصوص، لانه


[ 378 ]

أراد باللفظ ما لم يوضع له، ولم يدل عليه. دليل آخر: ومما يدل على ذلك أن الخطاب وضع للافادة ومن سمع لفظ العموم مع تجويزه أن يكون خصوصا ويبين له في المستقبل لا يستفيد في هذه الحال به شيئا، ويكون وجوده كعدمه. فإن قيل: يعتقد عمومه بشرط ان لا يخص. قلنا: ما الفرق بين قولك وبين قول من يقول: يجب أن يعتقد خصوصه إلى أن يدل مستقبلا على ذلك، لان إعتقاده للعموم مشروط، وكذلك إعتقاده للخصوص. وليس بعد هذا إلا أن يقال: يعتقد أنه على أحد الامرين إما العموم أو الخصوص وينتظر وقت الحاجة، فإما أن يترك على حاله فيعتقد العموم، أو يدل على الخصوص فيعمل عليه. وهذا هو نص قول أصحاب الوقف في العموم قد صار إليه من يذهب إلى أن لفظ العموم مستغرق بظاهره على أقبح الوجوه، فإن أصحاب الوقف في العموم


[ 379 ]

يقطعون على أن القائل إذا قال: (اضرب الرجال) على أن المراد ثلثة، وإنما يشك فيما زاد على هذا العدد، ومن جوز تأخير بيان العموم يجوز في وقت الحاجة أن يبين أن المراد واحد من الرجال. دليل آخر: ومما يدل على ذلك أن القول بجواز تأخير بيان تخصيص العموم يقتضي أن يكون المخاطب قد دل على الشئ بخلاف ما هو به، لان لفظ العموم مع تجرده يقتضي الاستغراق، فإذا خاطب به مطلقا، لا يخلو من أن يكون دل به على الخصوص، وذلك يقتضي كونه دالا بما لا دلالة فيه، أو يكون قد دل به على العموم، فقد دل على خلاف مراده لان مراده الخصوص فكيف يدل عليه بلفظ العموم. فإن قيل: إنما يستقر كونه دالا عند الحاجة إلى الفعل. قلنا: حضور زمان الحاجة ليس بموءثر في دلالة اللفظ، فإن دل اللفظ على العموم فيها، فإنما يدل لشئ يرجع إليه، وذلك


[ 380 ]

قائم قبل وقت الحاجة. على أن وقت الحاجة إنما يعتبر في القول الذي يتضمن تكليفا. فأما ما لا يتعلق بالتكليف من الاخبار وضروب الكلام، يجب أن يجوز تأخير بيان ضروب المجاز فيه عن وقت الخطاب إلى غيره من مستقبل الاوقات، وهذا يؤدي إلى سقوط الاستفادة من الكلام، وأن وجوده في الفائدة كعدمه. وقد استدل من دفع جواز تأخير بيان المجمل بأن قال: خطاب العربي بالزنجية لا إشكال في قبحه، ومثله الخطاب بالمجمل، والعلة الجامعة بينهما أنه خطاب لا يفهم منه المراد. قالوا: وليس لاحد أن يفرق بين الامرين بأن الخطاب بالزنجية لا يفهم منه شئ من الفوائد، والمجمل يستفاد منه على كل حال، لانه – تعالى – إذا قال: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها)، و (أقيموا الصلوة)، فالمخاطب يستفيد أنه مأمور بأخذ الصدقة من المال، وإن جهل


[ 381 ]

مبلغها، ووقف ذلك على البيان، وهو مكلف للعزم على ذلك، وتوطين النفس على فعله متى بين له. وكذلك في الصلوة يعلم أنه مكلف لفعل هو عبادة، إلا أنه لا يعرف كيفية هذه العبادة، وهو منتظر بيانها، والخطاب بالزنجية بخلاف هذا كله. قالوا: وذلك أنه يمكن في الخطاب بالزنجية مثل ما خرجتموه في المجمل، لان الحكيم إذا خاطب العربي بالزنجية، فلا بد من أن يقطع المخاطب على أنه قد قصد بخطابه – وإن كان بالزنجية – إلى أمره، أو نهيه، أو إخباره، ويجب عليه أن يعزم على فعل ما يبين أنه أمره به، والكف عما لعله يبين له أنه نهاه عنه، وكرهه منه، ويوطن نفسه * على ذلك،


[ 382 ]

وتتعلق مصلحته به، فلا فرق بين الامرين. وإن فرق بينهما بأن الفائدة في الخطاب بالزنجية أقل أو أشد إجمالا، جاز أن يقال: لا اعتبار في حسن الخطاب بكثرة الفائدة، لانه يحسن من الخطاب ما خرج من كونه عبثا، وقليل الفائدة في هذا الباب ككثيرها. والجواب أن من المعلوم قبح خطاب العربي بالزنجية كما قررتم، ومن المعلوم – ايضا – الذي لا يختلف العقلاء في حسنه استحسان العقلاء من الملك أن يأمر بعض أمرائه بالخروج إلى بعض البلدان، وأن يعمل في تدبيره على ما يكتب به إليه ويوصيه قبل خروجه، على ما تقدم بيانه، ولا يجري ذلك في القبح مجرى خطاب العربي بالزنجية. وإذا كنا قد علمنا من حسن المثال الذي ذكرناه، مثل الذي علمناه من قبح خطاب العربي


[ 383 ]

بالزنجية، ومعلوم أن الذي أجزناه من تأخير بيان المجمل إنما يشبه المثال الذي أوردناه، دون الخطاب بالزنجية، فيجب حسن الخطاب بالمجمل، كما وجب حسن نظائره. وبقي أن نعلل قبح ما علمنا قبحه من خطاب العربي بالزنجية، ونعلل حسن ما علمنا حسنه من أمر الملك لاميره، فيعلم من علة ذلك ما يلحق به ما يشاركه في علته. وليس يجوز أن يعلل قبح الخطاب بالزنجية بعلة يلحق به الخطاب الذي ذكرناه من أمر الملك لخليفته، لان ما علمنا حسنه لا يجوز أن يكون فيه وجه قبح، وكذلك أن يعلل حسن الامثلة التي ذكرناها بما يلحق الخطاب بالزنجية بها، لان ما علمنا قبحه لا يجوز أن يلحق بعلة من العلل بما هو حسن في نفسه. وتفسير هذه الجملة أنا متى عللنا قبح الخطاب بالزنجية


[ 384 ]

بأنا لا نفهم بها مراد المخاطب، وجدنا ذلك فيما علمنا حسنه ضرورة من خطاب الملك لخليفته، لان خليفة الملك لا يعرف من خطابه المجمل الذي حكيناه مراده الذي أحاله في تفصيله على البيان. وإن عللنا قبحه بأنه مما لا فائدة فيه، فقد بينا أنه يمكن أن يدعى فيه فائدة، فإنه لا يعدو أحد أقسام الكلام المعهودة، ولا بد من أن يكون المخاطب – إذا كان حكيما – مريدا لبعضها. وإن عللنا حسن الامثلة التي علمنا حسنها بأنها تفيد فائدة ما، أو مما يتعلق مصلحة المخاطب بها، بأن يعتقد ويعزم على الامتثال عند البيان، فهذا كله قائم في الخطاب بالزنجية. فلا بد من التعليل بما لا يقتضى قبح ما علمنا حسنه، ولا حسن ما علمنا قبحه. ويمكن تعليل قبح الخطاب بالزنجية بأنه غير مفهوم منه نوع الخطاب، ولا أي ضرب هو من ضروبه، ألا ترى أنه لا يفصل المخاطب بين كونه أمرا أو نهيا أو خبرا أو إستخبارا أو إستفهاما


[ 385 ]

أو عرضا أو تمنيا، ويجوز أن يكون شاتما له وقاذفا كما يجوز أن يكون مادحا له ومثنيا عليه. وهذه النكتة تبطل فرقهم بين الامرين بأن الخطاب بالزنجية إذا وقع من حكيم، فلا بد من أن يكون أمرا أو نهيا، فيجب على المخاطب أن يعزم على فعل ما يبين له، لانا قد بينا أنه قد يجوز أن يخلو الخطاب بالزنجية من كل تكليف، وإلزام إلى أن يكون شتما وقذفا وما جرى مجريهما مما لا نفع فيه، فلا يمكن أن يقال: إنا نعزم على فعل ما يبين لنا، وقد علمنا أن المجمل يفصل فيه بين أنواع الخطاب وضروبه، وإنما يلتبس على المخاطب تفصيل ما تعلق الامر به مما هو واقف على البيان، فهذه علة صحيحة في قبح الخطاب بالزنجية لا نجدها فيما علمنا حسنه من المثال. وإن شئت أن تقول: العلة في قبح الخطاب بالزنجية أن


[ 386 ]

المخاطب لا يستفيد منه فائدة معينة منفصلة، ولا بد في كل خطاب من أن يستفاد منه فائدة مفصلة، وإن جاز أن يقترن بذلك فائدة أخرى مجملة، والخطاب الجمل يستفاد منه فائدة معينة مفصلة، وإن استفاد أخرى مجملة لانه – تعالى – إذا قال: (أقيموا الصلوة) و (خذ من أموالهم صدقة)، فقد استفاد المخاطب أنه مأمور، وقطع على ذلك، وأنه مأمور بعبادة هي الصلوة أو الصدقة، وإن شك في صفتها. فإن قيل: وأي فائدة في تقديم الخطاب بالمجمل وتأخير بيانه إلى وقت الحاجة ؟. قلنا: لا بد من أن يتعلق على الجملة بذلك مصلحة دينية حتى يحسن تقديم الخطاب على وقت الحاجة. ومما يمكن أن يكون وجها لحسن ذلك أن المكلف يعزم ويوطن نفسه على


[ 387 ]

الفعل إلى وقت الحاجة، وهذا العزم وما يتبعه طاعة. وهو – أيضا – مسهل للفعل المأمور به. وما لا يزال يصول به المخالف من قوله: (إن العزم والاعتقاد تابعان للفعل المعزوم عليه، فلا يكونان أصلا مقصودا) غير صحيح، لانا لم نجعل العزم والاعتقاد أصلين، بل تابعين، لانه يستفيد بالمجمل على كل حال وجوب الفعل عليه، وإن جهل صفاته، فيجب عليه الاعتقاد والعزم تابعين لذلك، ولكنهما على سبيل الجملة، لانه يعتقد وجوب فعل على الجملة عليه ينتظر بيانه، ويعزم على أدائه على هذا الوجه. ومن قوى ما يلزمونه أن يقال لهم: إذا جوزتم أن يخاطب بالمجمل ويكون بيانه في الاصول، ويكلف المخاطب الرجوع إلى الاصول، فيعرف المراد، فما الذي يجب أن يعتقد هذا المخاطب إلى أن يعرف من الاصول المراد ؟. فإن قالوا: يتوقف عن إعتقاد التفصيل، ويعتقد على الجملة


[ 388 ]

أنه يمتثل ما يبين له. قلنا: أي فرق بين هذا القول وبين من جوز تأخير بيان المجمل ؟. فإذا قالوا: الفرق بينهما أنه إذا خوطب * وفي الاصول البيان، فهو متمكن من الرجوع إليها، ومعرفة المراد وأنتم تجيزون خطابه بالمجمل من غير تمكن من معرفة المراد. قلنا: إذا كان البيان في الاصول، فلا بد من زمان حتى يرجع فيه إليها، فيعلم المراد، وهو في هذا الزمان قصيرا كان أو طويلا مكلف بالفعل، ومأمورا بإعتقاد وجوبه، والعزم على أدائه، على طريق الجملة من غير تمكن من معرفة المراد وإنما يصح أن يعرف المراد بعد هذا الزمان، فقد عاد الامر إلى أنه مخاطب بما لا يتمكن في الحال من معرفة المراد به، وهذا قول من جوز تأخير البيان، ولا فرق في هذا الحكم بين طويل الزمان وقصيره. فإن قالوا: هذا الزمان الذي أشرتم إليه لا يمكن فيه معرفة المراد، فيجري مجرى زمان مهلة النظر الذي لا يمكن وقوع


[ 389 ]

المعرفة فيه. قلنا: ليس الامر كذلك لان زمان مهلة النظر لا بد منه، ولا يمكن أن تقع المعرفة الكسبية في أقصر منه، وليس كذلك إذا كان البيان في الرجوع إلى الاصول لانه – تعالى – قادر على أن يقرن البيان إلى الخطاب، فلا يحتاج إلى زمان للرجوع إلى تأمل الاصول. ثم يقال له: إذا كان تمكنه من الرجوع إلى الاصول في معرفة البيان وإن طال الزمان كافيا في حسن الخطاب، فألا جاز أن يخاطب بالزنجية، ويكلفه الرجوع في التفسير إلى من يعرف لغة الزنج أو أن يتعلم لغة الزنج ومواضعتهم، فليس ذلك بأبعد من تكليفه الرجوع إلى الاصول التي ربما طال الزمان في معرفة المراد منها. فإن قالوا: هذا تطويل في البيان. قلنا: وتكليفه الرجوع إلى تصفح الاصول ومعرفة المراد منها تطويل في البيان فإذا جاز ذلك لمصلحة، جاز هذا.


[ 390 ]

فإن قالوا: الخطاب بالزنجية وإن أمكن معرفة المراد به من جهة مترجم، أو بتعلم مواضعة الزنج قبيح، لان المخاطب لا يستفيد به شيئا من الفوائد. قلنا: هذا صحيح، وبه فرقنا بين الخطاب بالمجمل وبالزنجية. وإنما لم نذكر ما حكي في الكتب من طرق مختلفة لمن أجاز تأخير البيان من تعويل على أخبار آحاد وذكر أوقات الصلوة، وأشياء مختلفة مذكورة، لانه لا شئ من ذلك كله يدل على موضع الخلاف. وقد تكلم عليه بما يبطله فلا معنى للتطويل بذكره. فصل في جواز سماع المخاطب العام وإن لم يسمع الخاص اختلف الناس في هذه المسالة، فقال قوم من الفقهاء: أن تخصيص


[ 391 ]

العام إذا لم يكن بالادلة العقلية، فلا يجوز أن يسمع العام إلا مع الخاص، بل يصرف الله – تعالى – عن سماع ذلك إلى حين سماع الخاص، وهو قول أبي علي الجبائي وقول أبي هاشم الاول. و قال آخرون: يجوز أن يسمع العام وإن لم يسمع الخاص، ويكون مكلفا لطلب الخاص وتأمله في الاصول، فإن وجده، عمل به، وإلا، عمل في ظاهر العام، وقو قول النظام وقول أبي هاشم الاخير. والذي يدل على صحة المذهب الثاني أنه لا خلاف في حسن خطابه بالعام وفي أدلة العقول تخصيصه، سواء استدل المكلف بالعقل على ذلك، أو لم يستدل، لان التمكن من معرفة المراد في الحالين حاصل، فكذلك الحكم إذا خاطبه بالعام وفي الاصول التخصيص، سواء اسمعه المخصص أم لا، لان التمكن من العلم بالمراد حاصل. و إذا لم يقتض ما اتفقنا عليه إباحة الجهل، ولا كان مثل خطاب العربي بالزنجية، فكذلك ما قلناه.


[ 392 ]

فصل في أن تعليق الحكم بصفة لا يدل على أنتقائه بإنتفائها. اختلف الناس في ذلك، فقال قوم: إن إنتفاء الصفة التي علق الحكم عليها لا يدل على إنتفاء الحكم عما ليس له تلك الصفة. وإنما يفيد تعليقه بها إثبات الحكم فيما وجدت فيه، من غير إفادة الحكم في غيره نفيا ولا إثباتا. وإلى هذا المذهب ذهب ابو علي الجبائي وإبنه أبو هاشم والمتكلمون كلهم إلا من لعله شذ منهم، وهو الصحيح المستمر على الاصول. وقد صرح بهذا المذهب أبو العباس بن شريح، وتبعه على ذلك جماعة من شيوخ أصحاب الشافعي كأبي بكر الفارسي والقفال وغيرهما. وذكر أبو العباس بن شريح ان الحكم إذا علق بصفة فإنما يدل على ما تناوله لفظه إذا تجرد وقد يحصل فيه قرائن يدل معها على أن ما عداه بخلافه، نحو


[ 393 ]

قوله – تعالى -: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وقوله – جل اسمه -: (وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن) وقوله – تعالى -: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) وقوله – تعالى -: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) وقوله – عليه السلام -: (في سائمة الغنم الزكاة). قال: وقد يقتضي ذلك أن حكم ما عداه مثل حكمه، نحو قوله – تعالى -: (ومن قتله منكم متعمدا) وقوله – تعالى -: (ولا تقل لهما أف) وقوله – تعالى -: (ولا تظلموا فيهن أنفسكم). وهذا تصريح منه بالمذهب الصحيح، وأن القول – إذا تجرد – لم يقتض نفيا ولا إثباتا فيما عدا المذكور، وأن بالقرائن تارة يعلم النفي، وأخرى الاثبات. وقد أضاف إبن شريح قوله هذا إلى الشافعي، وتأول كلامه المقتضى بخلاف ذلك وبناه عليه. وذهب أكثر أصحاب الشافعي وجمهورهم إلى


[ 394 ]

أن تعليق الحكم بصفة دال بمجرده على نفي الحكم عما ليس له تلك الصفة. وفيهم من ذهب إلى أن الاسم في هذا الباب كالصفة. وفيهم من فرق بين الاسم والصفة. والذي يدل على صحة ما اخترناه أنه قد ثبت أن تعليق * الحكم بالاسم اللقب لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وثبت أن الصفة كالاسم في الابانة والتمييز، وإذا ثبت هذان الامران صح مذهبنا. والذي يدل على الاول أن تعليق الحكم بالاسم لو دل على أن ما عداه بخلافه، لوجب أن يكون قول القائل: (زيد قائم) و (عمرو طويل) و (السكر حلو) مجازا، معولا به عن الحقيقة، فإنه قد يشارك زيدا وعمروا في القيام والطول غيرهما، ويشارك السكر في الحلاوة غيره. ويجب – أيضا – أن لا يمكن أن نتكلم بهذه الالفاظ على سبيل الحقيقة، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك من مذهب أهل اللغة وأن هذه الالفاظ حقيقة، ومما لا يجب كونها مجازا.


[ 395 ]

ويلزم على هذا المذهب أن يكون أكثر الكلام مجازا. لان الانسان إذا أضاف إلى نفسه فعلا من قيام، وأكل، وضرب، وما جرى مجرى ذلك، ليس يضيف إليها إلا ما له فيه مشارك، والاضافة إليه يقتضي ظاهرها على مذهب من قال بدليل الخطاب نفي ذلك الامر عمن عداه، فلا تكون هذه الاوصاف في موضع من المواضع إلا مجازا، وهذا يقتضي أن الكلام كله مجاز. ويدل – أيضا – على ذلك أن من المعلوم أن لا يحسن أن يخبر مخبر بأن زيدا طويل إلا وهو عالم بطوله، فلو كان قوله: (زيد طويل) كما يقتضي الاخبار عن طول زيد، يقتضي نفي الطول من كل من عداه، لوجب ان لا يحسن منه أن يخبر بأن زيدا طويل إلا بعد أن يكون عالما بأن غيره لا يشاركه في الطول ويجب أن يكون علمه بحال غير المذكور شرطا في حسن الخبر، كما كان علمه بحال المذكور شرطا في حسن الخبر، ومعلوم خلاف ذلك.


[ 396 ]

و – أيضا – فإن ألفاظ النفي مفارقة لالفاظ الاثبات في لغة العرب، ولا يجوز أن يفهم من ألفاظ الاثبات النفي كما لا يفهم من لفظ النفي الاثبات، وقولنا: (زيد طويل) لفظه لفظ إثبات، فكيف يعقل منه نفي الحكم عن غير المذكور، وليس هيهنا لفظ نفي. ويمكن أن يستدل بهذه الطريقة خاصة على أن تعليق الحكم بصفة لا يدل على نفيه عما ليست له، من غير حمل الصفة على الاسم. وربما قوى – أيضا – ما ذكرناه بأن أحدا من العلماء لم يقل في ذكر الاجناس الستة في خبر الربوا أن تعليق الحكم بها يدل على نفي الربوا عن غيرها، لان العلماء بين رجلين: أحدهما يقول ببقاء غير هذه الاجناس على الاباحة، والآخر يقيس عليها غيرها. فإن تعلق من سوى بين الاسم والصفة بأن جماعة من أهل العلم استدلوا على أن غير الماء لا يطهر كالماء بقوله – تعالى -: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)، فنفوا الحكم عن غير الماء وهو


[ 397 ]

معلق بالاسم لا بالصفة، فالجواب أن من فعل ذلك فقد أخطأ في اللغة، وقد حكينا أن في الناس من يسوي مخطئا بين الاسم والصفة في تعلق الحكم بكل واحد منهما. ويمكن أن يكون من استدل بهذه الآية إنما عول على أن الاسم فيها يجري مجرى الصفة، لان مطلق اسم الماء يخالف مضافة، فأجراه مجرى كون الابل سائمة وعاملة. وأما الدلالة على أن الصفة كالاسم في الحكم الذي ذكرناه، فهي أن الغرض من وضع الاسماء في اصل اللغة هو التمييز والتعريف، وليمكنهم أن يخبروا عمن غاب عنهم بالعبارة، كما أخبروا عن الحاضر بالاشارة، فوضعوا الاسماء لهذا الغرض، ولما وقع الاشتراك بالاتفاق في الاسماء، بطل الغرض الذي هو التمييز والتعريف، فاحتاجوا إلى إدخال الصفات، وإلحاقها بالاسماء


[ 398 ]

ليكون الاسم مع الصفة بمنزلة الاسم لو لم يقع فيه اشتراك، ولولا الاشتراك الواقع في الاسماء، لما احتيج إلى الصفة، ألا ترى أنه لو لم يكن في العالم من اسمه (زيد) إلا شخص واحد، لكفى في الاخبار عنه أن يقال: (قام زيد) ولم يحتج إلى إدخال الصفة فبان بهذه الجملة أن الصفة كالاسم في الغرض، وأن الصفات لبعض الاسماء، فإذا ثبت ما ذكرناه في الاسم، يثبت فيما يجري مجراه، ويقوم مقامه. ومما يبين أن الاسم كالصفة أن المخبر قد يحتاج إلى أن يخبر عن شخص بعينه، فيذكره بلقبه، وقد يجوز أن يحتاج إلى أن يخبر عنه في حال دون أخرى، فيذكره بصفته، فصارت الصفة مميزة للاحوال، كما أن الاسماء مميزة للاعيان، فحلا محلا واحدا في الحكم الذي ذكرناه. ومما يدل ابتداء على بطلان دليل الخطاب أن اللفظ إنما يدل


[ 399 ]

على ما يتناوله أو على ما يكون بأن يتناوله أولى، فأما أن يدل على ما لم يتناوله ولا هو بالتناول أولى، فمحال، وإذا كان الحكم المعلق بصفة لم يتناول غير المذكور، ولا هو بان يتناوله أولى، لم يدل إلا على ما اقتضاه لفظه. وشرح هذه الجملة أن قوله – عليه السلام -: (في سائمة الغنم الزكوة) معلوم حسا وإدراكا أنه لم يتناول المعلوفة، ولا يمكن الخلاف فيما يدخل تحت الحس، ولا هو بتناولها اولى، بدلالة أنه لو قال – عليه السلام -: (في سائمة الغنم الزكوة وفي معلوفتها)، لما كان متناقضا، ومن شأن اللفظ إذا دل على ما لم يتناوله بلفظه لكنه بان يتناوله أولى أن يمنع * من التصريح بخلافه، ألا ترى أن قوله – تعالى -: (ولا تقل لهما أف) لما تناول النهي عن التأفيف بلفظه، وكان بأن يتناول سائر المكروه


[ 400 ]

أولى، لم يجز أن يتبعه ويلحقه بأن يقول: (لا تقل لهما أف واضربهما واشتمهما،) لانه نقض لما تقدم. فبان أن قوله – عليه السلام -: (في سائمة الغنم الزكوة) ليس بتناوله للمعلوفة أولى. والذي يدل على أن اللفظ لا يدل على ما لا يتناوله ولا يكون بالتناول أولى أنه لو دل على ذلك لم ينحصر مدلوله، لان ما لا يتناوله اللفظ لا يتناهى، وليس بعضه بأن يدل عليه اللفظ مع عدم التناول بأولى من بعض. ومما يدل – أيضا – على ما ذكرناه حسن استفهام القائل: (ضربت طوال غلماني ولقيت أشراف جيراني) فيقال: (أضربت القصار من غلمانك أو لم تضربهم ؟، ولقيت العامة من جيرانك أو لم تلقهم ؟)، فلو كان تعليق الحكم بالصفة يقتضي وضعه نفي الحكم عما ليس له تلك الصفة كاقتضائه ثبوته لما له تلك الصفة،


[ 401 ]

لكان هذا الاستفهام قبيحا، كما يقبح أن يستفهمه عن حكم ما يتعلق اللفظ به، فلو كان الامران مفهومين من اللفظ، لاشتركا في حسن الاستفهام وقبحه. فإن قيل: إنما يحسن الاستفهام عن ذلك لمن لم يقل بدليل الخطاب، فأما من تكلم بما ذكرتموه من الذاهبين إلى دليل الخطاب فهو لا يستفهم عن مراده إلا على وجه واحد، وهو أن يكون أراد على سبيل المجاز خلاف ما يقضيه دليل الخطاب، فحسن استفهامه لذلك. قلنا: حسن استفهام كل قائل أطلق مثل هذا الخطاب معلوم ضرورة، سواء علمنا مذهبه في دليل الخطاب أو شككنا فيه، وأهل اللغة يستفهم بعضهم بعضا في مثل هذا الخطاب، وليس لهم مذهب مخصوص في دليل الخطاب. فأما تجويزنا أن يكون المخاطب عدل عن الحقيقة إلى المجاز، وأن هذا هو علة حسن الاستفهام، فباطل، لانه يقتضي حسن دخول الاستفهام في كل كلام، لانه لا


[ 402 ]

كلام نسمعه إلا ونحن نجوز من طريق التقدير أن يكون المخاطب به أراد المجاز، ولم يرد الحقيقة، وفي علمنا بقبح الاستفهام في مواضع كثيرة دلالة على فساد هذه العلة. على أن المخاطب لنا إذا كان حكيما، وأراد المجاز بخطابه، قرن به ما يدل على أنه متجوز، ولا يحسن منه الاطلاق. وقد إستدل المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء: منها أن تعليق الحكم بالسوم لو لم يدل على إنتفائه إذا انتفت الصفة، لم يكن لتعليقه بالسوم معنى، وكان عبثا. ومنها أن تعليق الحكم بالسوم يجري مجرى الاستثناء من الغنم، ويقوم مقام قوله: (ليس في الغنم إلا السائمة الزكوة) فكما أنه لو قال ذلك، لوجب أن تكون الجملة المستثنى منها بخلاف الاستثناء، فكذلك تعليق الحكم بصفة. ومنها أن تعليق الحكم بالشرط لما دل على إنتفائه بإنتفاء الشرط، فكذلك الصفة، والجامع بينهما أن كل واحد منهما


[ 403 ]

كالآخر في التخصيص، لانه لا فرق بين أن يقول: (في سائمة الغنم الزكوة)، وبين أن يقول: (فيها إذا كانت سائمة الزكوة). ومنها ما روى عن النبي – ص ع – عند نزول قوله – تعالى -: (استغفر لهم، أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة، فلن يغفر الله لهم) أنه قال: (لازيدن على السبعين)، فلو لم يعلم – ص ع – من جهة دليل الخطاب أن ما فوق السبعين بخلافها، لم يقل ذلك. ومنها ما روى عن عمر بن الخطاب: أن يعلي بن منبه سأله، فقال له: (ما بالنا نقصر، وقد أمنا) فقال له: (عجبت مما عجبت منه، فسألت عنه رسول الله – ص ع -، فقال: صدفة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) فتعجبهما من ذلك يدل على أنهما فهما من تعلق القصر بالخوف أن حال الامن بخلافه. ومنها ما روى أن الصحابة كلهم قالوا: (الماء من الماء منسوخ)


[ 404 ]

ولا يكون ذلك منسوخا إلا من جهة دليل الخطاب، وأن لفظ الخبر يقتضي نفي وجوب الاغتسال بالماء من غير إنزال الماء. ومنها أن الامة إنما رجعت في أن التيمم لا يجب إلا عند عدم الماء إلى ظاهر قوله – تعالى -: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) و كذلك الصيام في الكفارة، وأنه لا يجزي إلا عند عدم الرقبة إنما رجع فيه إلى الظاهر. والجواب عن الاول أن في تعليق الحكم بالسوم فائدة، لانا به نعلم وجوب الزكوة في السائمة، وما كنا نعلم ذلك قبله. ويجوز أن يكون حكم المعلوفة في الزكوة حكم السائمة، وإن علمناه بدليل آخر. وليس يمتنع في الحكمين المتماثلين أن يعلما بدليلين مختلفين بحسب المصلحة، ألا ترى أن حكم ما لا يقع عليه النص من الاجناس في الربوا حكم المنصوص عليه، ومع ذلك دلنا على ثبوت الربوا في الاجناس المذكورة بالنص، ووكلنا في إثباته في غيرها إلى دلالة أخرى من قياس أو غيره.


[ 405 ]

والجواب عن الثاني أن الاستثناء * عن العموم لم يدل بلفظ نفسه على أن ما لم يناوله بخلاف حكمه، وإنما دل العموم على دخول الكل فيه، فلما أخرج الاستثناء بعض ما تناوله العموم، علمنا حكم المستثنى بلفظ الاستثناء وتناوله، وعلمنا أن حكم ما لم يتناوله بخلافه بلفظ العموم. مثال ذلك أن القائل إذا قال: (ضربت القوم إلا زيدا)، فإنما يعلم بالاستثناء أن زيدا ليس بمضروب، ويعلم أن ما عداه من القوم مضروب بظاهر العموم، لا من دليل الخطاب في الاستثناء، وليس هذا موجودا في قوله – عليه السلام -: (في سائمة الغنم الزكوة) لانه – عليه السلام – ما استثنى من جملة مذكورة، ولو كان لسائمة الغنم اسم يختص بها من غير إضافة إلى الغنم، لتعلق الزكوة به. وليس كل شئ معناه معنى الاستثناء له حكم الاستثناء، لان للاستثناء ألفاظا موضوعة له، فما لم يدخل فيه، لم يكن مستثنى منه ولا يكون


[ 406 ]

الاستثناء واردا إلا على جملة مستقلة بنفسها، وكل هذا إذا وجبت مراعاته، لم يجز أن يجري قوله – عليه السلام -: (في سائمة الغنم الزكوة) مجرى الجمل المستثنى منها. والجواب عن الثالث أن الشرط عندنا كالصفة في أنه لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وبمجرد الشرط لا يعلم ذلك، وإنما نعلمه في بعض المواضع بدليل منفصل، لان تأثير الشرط أن يتعلق الحكم به، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب عنه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج من أن يكون شرطا، ألا ترى أن قوله تعالى -: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) إنما منع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه الآخر، فإنضمام الثاني إلى الاول شرط في القبول، ثم يعلم أن ضم امرأتين إلى الشاهد الاول يقوم مقام الثاني، ثم يعلم بدليل أن ضم اليمين إلى الشاهد الواحد يقوم مقام الثاني، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن يحصى.


[ 407 ]

والصحيح أن الحكم إذا علق بغاية أو عدد، فإنه لا يدل بنفسه على أن ما عداه بخلافه، لانا إنما نعلم أن ما زاد على الثمانين في حد القاذف لا يجوز، لان نفي ما زاد على ذلك محظور بالعقل، فإذا وردت العبادة بعدد مخصوص خرجنا عن الحظر بدلالة، وبقينا فيما زاد على ذلك العدد على حكم الاصل، وهو الحظر وكذلك إذا قال الرجل لغلامه: (اعط زيدا مائة درهم) فإنا نعلم حظر الزائد على المذكور بالاصل. ولو قال: (أعطيت فلانا مائة درهم)، لم يدل لفظا ولا عقلا على أنه لم يعطه أكثر من ذلك. فأما تعليق الحكم بغاية فإنما يدل على ثبوته إلى تلك الغاية، وما بعدها يعلم انتفاؤه أو إثباته بدليل. وإنما علمنا في قوله – تعالى -: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود)، وقوله – تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)، وقوله – سبحانه: (حتى يطهرن) أن ما بعد الغاية بخلافها بدليل،


[ 408 ]

وما يعلم بدليل غير ما يدل اللفظ عليه، كما نعلم أن ما عدا السائمة بخلافها في الزكوة، وإنما علمناه بدليل. ومن فرق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه بغاية ليس معه إلا الدعوى، وهو كالمناقض، لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما. فإذا قال: فأي معنى لقوله – تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) إذا كان ما بعد الليل يجوز ان يكون فيه الصوم. قلنا: (وأى معنى لقوله – عليه السلام -: (في السائمة الغنم الزكوة)، والمعلوفة مثلها. فإن قيل: لا يمتنع أن يكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكوة في السائمة بهذا النص، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا: كذلك لا يمتنع فيما علق بغاية حرفا بحرف.


[ 409 ]

والصحيح أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه على كل حال، بخلاف قول من يقول: إنه يدل على ذلك إذا كان بيانا، وإنما قلنا ذلك، لان ما وضع له القول لا يختلف بأن يكون مبتدءا أو بيانا، وإذا لم يدل تعليق الحكم بالصفة على نفي ما عداه، فإنما لم يدل على ذلك، لشئ يرجع إلى اللفظ، فهو في كل موضع كذلك. والجواب عن الرابع أن ما طريقه العلم لا يرجع فيه إلى أخبار الآحاد، لا سيما إذا كانت ضعيفة، وهذا الخبر يتضمن أنه – عليه السلام – يستغفر للكفار، وذلك لا يجوز، وأكثر ما فيه أنه – عليه السلام – عقل أن ما فوق السبعين بخلاف السبعين، فمن أين أنه فهم ذلك مظاهر الخبر من غير دليل سواه ؟ !. ولقائل أن يقول: أن الاستغفار لهم كان في الاصل مباحا، فلما ورد النص بحظر السبعين، بقي ما زاد عليه على الاصل.


[ 410 ]

وقد روي في هذا الخبر أنه – عليه السلام – قال: (لو علمت أني إن زدت على السبعين يغفر الله لهم، لفعلت.)، وعلى هذه الرواية لا شبهة في الخبر. والنبي – عليه السلام – أفصح وأفطن لاغراض العرب، من أين يجوز عليه مثل ذلك ؟ ! لان معنى الآية النهي عن الاستغفار للكفار، فإنك لو أكثرت في الاستغفار للكفار، ما غفر الله لهم، فعبر عن الاكثار بالسبعين، ولا فرق بينها وبين ما زاد عليها، كما تقول العرب: (لو جئتني سبعين مرة ما جئتك) * ولا فرق بين الاعداد المختلفة في هذا الغرض، فكأنه يقول: (لو جئتني كثيرا أو قليلا ما جئتك) وأي عدد تضمنه لفظه، فهو كغيره. والجواب عن الخامس أنه أيضا خبر واحد لا يحتج بمثله في هذا الموضع. ومع ذلك لا يدل على موضع الخلاف، لانا لا نعلم أن تعجبهما من القصر مع زوال الخوف لاجل تعليق


[ 411 ]

القصر بالخوف، ويجوز أن يكون تعجبهما لانهما عقلا من الآيات الواردات في إيجاب الصلوة وجوب الاتمام في كل حال، واعتقدا أن المستثنى من ذلك هو حال الخوف، فتعجبا لهذا الوجه. والجواب عن السادس انه إذا صح قولهم: (إن الماء من الماء منسوخ)، من أين لهم أنه عقلوا من ظاهره نفي وجوب الغسل من غير الماء ؟، ولعلهم علموه بدليل سوى اللفظ، لانهم إذا حكموا بانه منسوخ، فلا بد من أن يكونوا قد فهموا أن ما عداه بخلافه، فمن أين أنهم فهموا ذلك باللفظ دون دليل آخر ؟. وقد روي هذا الخبر بلفظ آخر، وهو (إنما الماء من الماء) وبدخول لفظة (إنما) يعلم أن ما عداه بخلافه، لان القائل إذا قال: (إنما لك عندي درهم) يفهم من قوله (وليس لك سواه). وعلى هذا الوجه تعلق إبن عباس – رحمه الله – في نفي الربوا عن غير النسية، لقوله – عليه السلام -: (إنما الربوا في النسية).


[ 412 ]

وقد روي هذا الخبر بلفظ آخر، وهو أنه – عليه السلام – قال: (لا ماء إلا من الماء)، وعلى هذا اللفظ لا شبهة في الخبر. إن الصحابة لم تبين جهة قولها في هذا الخبر أنه منسوخ، وهل النسخ يتناوله أو دليله، أو ما علم منه بقرينة، وقد علمنا أن المذكور من الحكم في اللفظ وهو وجوب الغسل بالماء من إنزال الماء ليس بمنسوخ، فمن أين أن النسخ تناول دليل اللفظ دون ما علم بقرينة ؟ وليس لهم أن يقولوا: (المراد بذلك الاقتصار من الماء على الماء)، لانهم ليسوا بأولى منا أن نقول: (المراد به أن التوضؤ من الماء منسوخ بوجوب الاغتسال منه) فقد روي أنهم كانوا يتوضأون من التقاء الختانين، فأوجب – عليه السلام – الغسل في ذلك. والجواب عن السابع أن آية التيمم وآية الكفارات بين


[ 413 ]

فيهما حكم الاصل وحكم البدل، لانه – تعالى – أوجب الطهارة عند وجود الماء، وأوجب التيمم عند عدمه. وكذلك في الكفارة لانه أوجب الرقبة في الاصل، وعند عدمها أوجب الصيام، فعلمنا حكم البدل والمبدل جميعا بالنص، وليس لدليل الخطاب في هذا مدخل. باب الكلام في النسخ وما يتعلق به فصل في حد النسخ ومهم أحكامه اعلم أنه لا حاجة بنا إلى بيان معنى النسخ في أصل اللغة، ففي ذلك خلاف لا فائدة في بيان الصحيح منه، والمحتاج إليه بيان حده في الشرع، وعلى مقتضى الادلة الشرعية.


[ 414 ]

والدليل الموصوف بأنه ناسخ هو ما دل على مثل الحكم الثابت بالنص الاول غير ثابت في المستقبل، على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الاول مع تراخيه عنه. والذي يجب العلم به وتقريره في النفس المعاني التى يبتنى حد النسخ عليها، ثم تكون العبارة بحسب ما تقرر من المعاني. والتكليف على ضربين: أحدهما مستمر، والآخر لا يستمر. فما لا يستمر لا يدخل النسخ فيه. والمستمر على ضربين: أحدهما ان يكون الطريق الذي به يعلم ثباته وإستمراره به يعلم زواله عند غاية، ولا مدخل للنسخ في ذلك. والضرب الثاني يعلم بالنص أو بقرائنه استمراره، ويحتاج في معرفة زواله إلى أمر سواه، وذلك على ضربين: أحدهما أن يكون ما علم زواله به يعلم عقلا كالعجز والتعذر، ولا مدخل للنسخ – أيضا – في ذلك. والقسم الآخر يعلم زواله بدليل شرعى، والنسخ يدخل في هذا الوجه خاصة.


[ 415 ]

وإذا تحصلت هذه الجملة، فالواجب في العبارة أن تقع بحسبها، فلك أن تحد النسخ بأنه ما دل على تغيير طريقة الحكم الثابت بالنص الاول في باب الاستمرار، لان ذكر الطريقة في الحد يبين أن التغيير لم يلحق نفس المراد، وإنما يلحق الايجاب، وكان الدليل الثاني كشف عن تغير الايجاب. والدليل على الحقيقة هو الموصوف بأنه ناسخ، وإذا وصفوه – تعالى – بأنه ناسخ للاحكام، فمن حيث فعل – تعالى – ما هو نسخ. وإذا قيل في الحكم أنه ناسخ، فمن حيث كان دليلا، و لذلك لا يكون نسخا إلا مع المضادة. فأما المنسوخ، فهو الدليل الذي تغير حكمه بالدليل الناسخ وقد يوصف – أيضا – الحكم بذلك، لانه المقصود بالدلالة. ولانه هو الذي يتغير.


[ 416 ]

واعلم أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا شرعيين، ولا يكونا عقليين، ولا أحدهما، لانه لا يقال: (تحريم الخمر نسخ إباحتها) ولا: (ان الموت نسخ عن المكلف ما كان تكلفه) لما كانت هذه الاحكام عقلية. ومن حق الناسخ أن يكون المراد به غير المراد بالمنسوخ، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد بمشية الله تعالى. ومن حقه أن يكون منفصلا عن النسوخ. ولا يوصف بهذه الصفة مع الاتصال، ولا خلاف في ذلك. ومن شرطه أن لا يكون موقتا بغاية يقتضي إرتفاع ذلك الحكم. والموقت بغاية على ضربين: أحدهما أن يعلم باللفظ من غير حاجة إلى غيره، كقوله – تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * والضرب الآخر أن تعلم الغاية على سبيل الجملة، ويحتاج في تفصيلها إلى دليل سمعي، نحو قوله – تعالى -: (دوموا على هذا الفعل


[ 417 ]

إلى أن أنسخه عنكم) والدليل الشرعي الوارد بزوال الحكم يوصف بأنه ناسخ. ومن شرط النسخ أن يكون في الاحكام الشرعية، دون أجناس الافعال. وينقسم إلى ثلثة أقسام: أحدها أن يزول الحكم لا إلى بدل والثاني أن يزول إلى بدل يضاده، ويكون نسخا. والثالث أن يزول إلى بدل يخالفه. فأما زواله لا إلى بدل، فإنما يكون نسخا، لانه علم به أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم مرتفع في المستقبل. ولانه إذا زال إلى بدل، فالذي أوجب كونه منسوخا زواله لا ثبوت البدل، لانه إن ثبت من دون زوال الاول، لم يكن نسخا. ومن حق هذا الضرب أن لا يعلم نسخه إلا بدليل دون الاحكام. فأما ما يرتفع إلى بدل مخالف، فمن حقه – أيضا – أن لا


[ 418 ]

يعلم إلا بدليل سوى الحكم، لان الحكم إذا لم ينافه، لم يعلم به كونه منسوخا، ومثاله ما روي في وجوب صوم شهر رمضان أنه نسخ صوم عاشوراء، وأن الزكوة نسخ وجوبها سائر الحقوق. ومتى قيل فيما هذه حاله: (إن كذا نسخ بكذا) فمجاز، والمراد به أن عنده علم نسخ الاول. وأما النسخ بحكم يضاده، فقد يقع بثبوت الحكم، وقد يقع – أيضا – بدليل، وإنما كان كذلك، لان تضاد الحكمين دليل على زوال أحدهما بالاخر من حيث علم أنهما لا يصح أن يجتمعا في التكليف. ولا شبهة في أن الحظر يضاد الاباحة والندب والوجوب – أيضا – في حكم الضد للندب والاباحة، لان كونه مباحا يقتضي نفي ماله يكون نديا وواجبا، وكونه ندبا يقتضي نفي ما يكون له واجبا.


[ 419 ]

ومن شرط الناسخ أن يكون في وقوع العلم به كالمنسوخ وسيأتي بيان ذلك في إبطال النسخ بخبر الواحد بمشية الله تعالى. وليس من شرط الناسخ أن يكون لفظ المنسوخ، متناولا له، لانه لا فرق بين أن يعلم إستمرار الحكم بظاهر الخطاب، أو يعلم ذلك بقرينة. وليس من شرطه أن لا يتأخر عن المنسوخ، كما قلنا في تخصيص العام، وبيان المجمل، عند من ذهب إلى ذلك، بل الناسخ يجب تأخره كما صرحنا به في حده. وليس من شرط النسخ التنبيه في حال الخطاب في الجملة عليه، على ما ظنه بعضهم، وذلك أنه لا وجه لوجوب ذلك، بل هو موقوف على المصلحة، فربما إقتضته، وربما لم تقتضه. وليس من شرطه أن لا يكون اللفظ مقتضيا للتأيد، ففي الناس من ذهب إلى أنه – تعالى – لو قال: (افعلوا الصلوة أبدا)، ما جاز النسخ، وإنما يجوز مع الاطلاق. وما هذا باطل، لان


[ 420 ]

لفظة التأييد في التعارف يقتضي التوقيف، كقول القائل: (لازم الغريم أبدا) و (تعلم العلم أبدا) وقد ثبت أن التكليف منقطع، وأن انقطاعه متوقع من وجوه، فكيف يمنع هذا اللفظ من النسخ ولو منع من ذلك، لمنع من العجز، ووجوه التعذر. وليس من شرط النسخ أن يقع بما هو أخف في التكليف على ما ذهب إليه بعض أهل الظاهر، وذلك أن التكليف على سبيل الابتداء، وعلى جهة النسخ إنما هو تابع للمصلحة، وقد تتفق المصلحة في الاشق والاخف معا، وفي الاشق من زيادة التعريض للثواب ما ليس في الاخف. والشبهة في هذا ضعيفة جدا. وقد ذكر من وقوع النسخ في القرآن بما هو اشتق منه ما فيه كفاية، وهو معروف.


[ 421 ]

فصل في الفرق بين البداء والنسخ والتخصيص اعلم أن البداء في وضع اللغة هو الظهور، وإنما يقال: (بدا لفلان في كذا) إذا ظهر له من علم أو ظن ما لم يكن ظاهرا. وللبداء شرائط، وهي أربعة: أن يكون الفعل المأمور به واحدا، والمكلف واحدا، والوجه كذلك، والوقت كذلك، فما اختص بهذه الوجوه الاربعة من أمر بعد نهى، أو نهى بعد أمر، إقتضى البداء. وإنما قلنا: إن ذلك يدل على البداء، لانه لا وجه له إلا تغير حال المكلف في العلم أو الظن، لانه لو كانت حاله على ما كانت عليه، لما أمر بنفس ما نهى عنه، أو نهى عن نفس ما أمر به مع باقي الشرائط، وكان أبو هاشم يمنع في الله – تعالى – أن يأمر بما نهى عنه مع باقي الشرائط لوجهين: أحدهما أنه دلالة البداء، والآخر أنه يقتضي إضافة قبيح إليه – تعالى – إما الامر، أو النهي، وهو


[ 422 ]

أحد قولي أبي علي. والقول الآخر له أنه يمنع من وقوعه منه – تعالى – للوجه الاخير الذي ذكرناه، من اقتضائه إضافة قبيح إليه تعالى، لان البداء لا يتصور فيمن هو عالم بنفسه. والاولى أن يمنع منه للوجهين، لان ما من شأنه أن يدل على أمر من الامور ألا يختاره القديم – تعالى – مع فقد مدلوله لان ذلك يجري مجرى فعل قبيح، ألا ترى أن فعله – تعالى – ما يطابق إقتراح الطالب لتصديقه، لما كان دلالة التصديق، لم يجز أن يفعله من الكذاب لانه يدل على خلاف ما الحال عليه. والنسخ إنما يخالف البداء بتغاير الفعلين، فإن فعل المأمور به غير المنهي عنه. وإذا تغاير الفعلان، فلا بد من تغاير الوقتين. فكان النسخ يخالف البداء * بتغاير الفعلين والوقتين.


[ 423 ]

وأما الفرق بين النسخ والتخصيص، فقد مضى فيما تقدم، فلا وجه لاعادته. فصل فيما يصح فيه معنى النسخ من أفعال المكلف اعلم أن معنى النسخ إنما يصح دخوله في حكم مستمر، لان ما لا يستمر لا يدخل فيه معنى النسخ، ولا النسخ نفسه. ولا بد – أيضا – أن يكون مما يصح تغيره بعد إستمراره لانه متى كان مما يستمر على حالة واحدة، لم يصح دخول النسخ ولا معناه فيه. ويختص النسخ نفسه بأن يكون الحكم المستمر ثابتا بالشرع، وكذلك زواله متى زال. وما يجب استمراره على وجه واحد من الافعال ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون وجب استمراره لصفة هو عليها، كوجوب الانصاف،


[ 424 ]

وقبح الكذب، والجهل والقسم الآخر لا يجوز تغيره من حيث كان كونه لطفا لا يتغير، كالمعرفة بالله – تعالى – وعدله وتوحيده، والذي يجوز تغيره من الافعال نحو الضرر والنفع والقيام والقعود ووجوه التصرف – لانه قد يحسن تارة، ويقبح أخرى – فمعنى النسخ يجوز دخوله فيه. فأما نفس النسخ، فإنما يدخل فيما تقدم ذكره فيما ثبت حكمه شرعا ويزول – أيضا – كذلك. فصل فيما يحسن من النهي بعد الامر والامر بعد النهي اعلم أن الامر والنهى لا يخلو من أن يكون متناولها واحدا، أو متغايرا: فإن كان واحدا، فلن يحسنا إلا على وجه واحد، وهو أن يأمر بالفعل على وجه، وينهى عنه على وجه آخر، وربما كانت وجوهه كثيرة يصح أن ينهى عن إيقاعه على بعضها، أو يأمر بذلك


[ 425 ]

فأما إذا تغاير المتناول، فهو على قسمين: أحدهما أن يكون المكلف – أيضا – متغايرا، فيحسن الامر بأحدهما، والنهي عن الآخر على كل وجه، إذا قبح أحدهما، وحسن الآخر، والقسم الثاني أن يكون المكلف واحدا، وينقسم إلى قسمين: أحدهما أن لا يتميز له أحد الفعلين من الآخر، بأن تكون الصورة واحدة، والوجه واحد، فلا يجوز أن يأمره – تعالى – بأحدهما، وينهاه عن الآخر مع فقد التمييز، فأما إذا تميز له أحدهما من الآخر، حسن الامر والنهي بحسب الحسن والقبح. فصل في الدلالة على جواز نسخ الشرائع اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين في هذه المسألة، وإنما الخلاف فيها مع اليهود. ولا معنى للكلام على اليهود في أبواب أصول الفقه، وقد تكلمنا عليهم في كتابنا المعروف بالذخيرة وغيره بما فيه كفاية. ومن شذ من جملة المسلمين فخالف في هذه المسألة،


[ 426 ]

فإنما خلافه يرجع إلى عبارة، ولا مضايقة في العبارات مع سلامة المعاني. وقد ورد في الشرع من نسخ القبلة بالقبلة والعدة بالعدة ما هو واضح وإذا كان الشرع تابعا للمصحلة فلا بد مع تغيرها من النسخ. فصل في دخول النسخ في الاخبار اعلم أن النسخ إذا دخل في الامر والنهي، فإنما هو على الحقيقة داخل على مقتضاهما، ومتناولهما، لا عليهما أنفسهما. والخبر في هذا الحكم كالامر والنهي، لان مقتضاه كمقتضاهما. وإذا كان جواز النسخ في فعل المكلف إنما يصح لامر يرجع إلى تغير أحوال الفعل في المصلحة، لا لامر يرجع إلى صفة الدليل، فلا فرق – إذا تغيرت المصلحة – بين أن يدل على ذلك من حالها بما هو خبر، أو أمر، أو نهى، وقد بينا أن قول القائل:


[ 427 ]

(افعل) كقوله: (أربد منك أن تفعل)، وأن قوله: (لا تفعل) بمنزلة قوله: (إني أكره أن تفعل)، وهذه الجملة تقتضي جواز دخول النسخ في مقتضى الاخبار، كما دخلت في مقتضى الامر والنهي. وإذا قيل: إن الخبر متى دخله النسخ، إقتضى تجويز الكذب. قلنا: والامر متى دخله النسخ، أوجب البداء. فإذا قيل: إن النسخ لا يتناول عين ما أريد بالامر. قلنا مثل ذلك في الخبر. وإنما قال المتكلمون قديما أن النسخ لا يدخل في الاخبار، وأرادوا الخبر عما كان، ويكون، مما لا يتعلق بالتكليف. و لا شبهة في جواز أن يدل الله – تعالى – على جميع الاحكام الشرعية بالاخبار. ومعلوم أن النسخ – لو كان الامر على ما قدرناه – متأت في الشريعة. فوضح أن الامر على ما ذكرناه. فأما دخول معنى النسخ في نفس الاخبار، فجائز، لانه لا خبر


[ 428 ]

كلفنا الله – تعالى – أن نفعله إلا ويجوز أن يزيل عنا التكليف في أمثاله، حتى الخبر عن التوحيد، ألا ترى أن الجنب قد منع من قراءة القرآن، وقد كان يجوز مثله في الشهادتين. وكون هذا الخبر صدقا لا يمنع من إزالة التعبد به إذا عرض في ذلك أن يكون مفسدة. فإن قيل: أتجيزون مثل ذلك في العلم والاعتقاد. قلنا: أما العلم الذي علمنا وجوبه لكونه مصلحة لا يتغير، كالمعرفة بالله – تعالى -، فلا يجوز فيه النسخ، * لامتناع تغير حاله في وجه الوجوب. وأما العلم بغيره، فيجوز أن يكون مفسده، وذلك وجه قبح، فيجوز دخول النسخ فيه. فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه اعلم أن الحكم والتلاوة عبادتان يتبعان المصلحة، فجائز


[ 429 ]

دخول النسخ فيهما معا، وفي كل واحدة دون الاخرى، بحسب ما تقتضيه المصلحة. ومثال نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ الاعتداد بالحول، وتقديم الصدقة أمام المناجاة. ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به، لانه من جهة خبر الآحاد، وهو ما روى أن من جملة القرآن (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) فنسخت تلاوة ذلك. ومثال نسخ الحكم والتلاوة معا موجود – أيضا – في أخبار الآحاد، وهو ما روي عن عايشة أنها قالت: (كان فيما أنزل الله – سبحانه – (عشر رضعات يحرمن) فنسخ بخمس، وأن ذلك كان يتلى). فصل في جواز نسخ العبادة قبل فعلها اعلم أن الشبهة في هذه المسألة كالمرتفعة، وإنما المشتبه المسألة التي تلي هذا الفصل، ولا بد من بيان الحق فيما


[ 430 ]

يشتبه، ولا يشتبه. والصحيح أن نسخ الشئ قبل فعله وبعد مضي وقته جائز، لان الله – تعالى – قد يحسن أن يأمر بالفعل من يعصيه، كما يحسن أن يأمر من يطيعه، وإذا كان لو أمر من أطاع، لجاز النسخ بلا خلاف، فكذلك أمر من يعصي، لان بالطاعة أو المعصية لا يتغير حسن النسخ التابع لتعربف المصالح في المستقبل. و – أيضا – فقد دللنا على أن الشرائع لازمة للكفار، فالنسخ قد تناولهم وإن عصوا ولم يفعلوا، وإذا جاز ذلك فيهم، جاز في غيرهم. فصل في أنه لا يجوز نسخ الشئ قبل وقت فعله اختلف الناس في ذلك: فذهب قوم من المتكلمين ومن


[ 431 ]

أصحاب الشافعي إلى أنه جائز أن تنسخ العبادة قبل وقت فعلها، وذهب أكثر التكلمين وأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه غير جائز، وهو الصحيح. والذي يدل عليه وجهان: أحدهما أنه يقتضي البداء لان شروط البداء التي تقدم ذكرها حاصلة هيهنا. والوجه الآخر أن ذلك يقتضي إضافة قبيح إلى الله – تعالى – إما الامر أو النهي، لان الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا، فالامر به قبيح، أو حسنا، فيكون النهي عنه قبيحا. وليس يمكنهم أن يقولوا: أن المكلف ليس بواحد، و لا الوقت، لانه إبطال للمسألة، من حيث كان الخلاف في هل يجوز أن ينسخ عن كل مكلف بعينه ما أمر به في وقت بعينه بالنهي قبل حضور الوقت، فعدلوا عن ذلك إلى الشرطين الاخيرين، إما كون الفعل واحدا، أو كون الوجه أو الشرط واحدا.


[ 432 ]

وتغاير الفعل لا يمكن فيه إلا وجوه ثلثة: أحدها أن النهي متناول للفعل، والامر الاول يتناول الاعتقاد. وثانيها أن النهي تناول مثل الفعل الذي تناوله الامر الاول. وثالثها أن يتناول الثاني خلاف ما تناوله الاول. لانه لا يمكنه أن يقول: يتناول ضد ما تناوله الاول، لانه يوجب أنه – تعالى – لم يكن ناهيا عن ضد ما يوجبه ويلزمه، وصار الآن ناهيا عنه، وضد الواجب لا يجوز أن يتغير، فلا مدخل لذلك في النسخ. والذي يبطل أن يكون النهي تناول مثل ما تناوله الامر أن الفعلين إذا اختصا بوقت واحد والوجه واحد لم يجز أن يكون أحدهما مصلحة والاخير مفسدة، والامر الاول يجمعهما، فكذلك النهي الثاني. ولان التميز بينهما غير ممكن، فلا يجوز أن يتناول التكليف أحدهما دون الآخر.


[ 433 ]

وأما الاعتقاد فإنه يقولون: إنه – تعالى – أمر بالفعل الاول وأراد الاعتقاد، وتناول النهي الذي بعده نفس الفعل. والجواب عنه أن لفظ الامر تناول الفعل، فكيف نحمله على الاعتقاد، ونعدل عن الظاهر. وهذا لو صح لسقط الخلاف في المسألة، لانه أمر بشئ، ونهى عن غيره، والخلاف إنما هو في أن ينهى عن نفس ما أمر به. ثم هذا الاعتقاد لا يخلو من أن يكون اعتقادا لوجوب الفعل، أو لانا نفعله لا محالة: فإن كان اعتقادا لوجوبه، فذلك يقتضي وجوب الفعل، ويقبح النهي عنه. وإن كان اعتقادا لان المكلف يفعله لا محالة، فذلك محال، لان المكلف يجوز الاخترام والمنع. فإن قيل: هو أمر باعتقاد وجوب الفعل بشرط استمرار حكم الامر، أو بأن لا يرد النهي.


[ 434 ]

قلنا: هذا الاشتراط يمكن أن يقال في نفس الفعل، ولا يحتاج إلى ذكر الاعتقاد. وبعد، فإن الاعتقاد تابع للفعل: فإن وجب الفعل مطلقا، كان الاعتقاد كذلك، وإن كان مشروطا، فالاعتقاد مثله، لانه تابع له، والشرط المذكور إن دخل في الاعتقاد، فلا بد من دخوله في الفعل نفسه. والذي يفسد أن يكون لهذا الشرط تأثير أن بقاء الامر و انتفاء النهي لا يكون وجها في قبح الفعل ولا حسنه، ولا يؤثران في وقوعه على وجه يقتضي مصلحة أو مفسدة، ولا يجري ذلك مجرى * ما نقوله: من أن الله – تعالى – قد أمر بالصلوة في وقت مخصوص على جهة العبادة له، ونهي عنها في ذلك الوقت على جهة العبادة لغيره، لان هذين الوجهين معقولان، ولهما تأثير في الحسن والقبح، وليس كذلك بقاء الامر وانتفاء النهي، لان الفعل لا يحسن بالامر، ولا يقبح بالنهي، ولا لهما تأثير في الوجوه التي يقع عليها. ويمكن أن يعترض هذا الكلام بأن يقال: الامر والنهي


[ 435 ]

وإن لم يقتضيا قبح فعل ولا حسنه، ولم يؤثرا في وجه يقع الفعل عليه، فلا بد إذا وقعا من الحكيم – تعالى – من أن يدلا، فالامر إذا وقع يدل على حسن الفعل، والنهي على قبحه، وإذا دلا على قبح أو حسن، فلا بد من ثبوت وجه يقتضي إما القبح أو الحسن، لان الدلالة لا تدل إلا على صحة، ألا ترى أن الامر و النهي وإن كانا عندنا لا يؤثران، فإنا كلنا نستدل بأمر الله – تعالى – على كون الفعل واقعا على وجه يستحق به الثواب، وبنهيه على قبحه، وكونه مما يستحق به العقاب، ونعلم على جهة الجملة أن كل شئ أوجب علينا في الشرع فلا بد فيه من جهة وجوب، وكل شئ حرم فلا بد فيه من وجه قبح، وإن كنا لا نعلم جهات الوجوب والقبح على سبيل التفصيل، ولا نجعل الامر والنهي مؤثرين في تلك الجهات، بل يدلان عليها، فما المنكر على هذا من أن يأمر الله – تعالى – المكلف بالصلوة في وقت زوال الشمس، وتكون هذه الصلوة واجبة في الوقت المضروب متى استمر حكم


[ 436 ]

الامر بها، ولم يرد نهي عنها، وإن ورد النهي عنها دل على تغير حالها، واختصاصها بوجه يقبح عليه ؟ فإذا أمر بالصلوة، اعتقد وجوبها عليه متى لم ينه عنها، فإذا ورد النهي اعتقد قبحها ويكون الغرض في هذا التكليف مصلحة المكلف، كأنا قدرنا أنه – تعالى – علم أنه إن كلفه على هذا الوجه، كان مصلحة له، في واجب عليه يفعله أو قبيح يتجنبه. والجواب ان هذه الصلوة المأمور بها عند زوال الشمس لا يخلو من أن يكون فعلها في هذا الوقت مصلحة في الدين أو مفسدة: فإن كانت مصلحة، فبورود النهي لا يتغير حالها، ويجب قبح النهي المتناول لها، وإن كانت مفسدة في نفسها، فبتناول الامر أو باستمراره لا يتغير حالها، فيجب قبحها. وقبح الامر المتناول لها. اللهم إلا أن يقال: لهذه الصلوة في هذا الوقت المخصوص وجهان تقع على كل واحد منهما، فتكون – متى وقعت على


[ 437 ]

أحدهما – واجبة، وإذا وقعت على الآخر قبيحة، والامر تناولها على جهة الحسن، والنهي تناولها على جهة القبح. وهذا – إن قيل – باطل، لانه لو كانت لهذه الصلوة جهتان يقع عليهما، لوجب تمييز ذلك للمكلف وإعلامه إياه، ليفصل بين جهة الحسن وجهة القبح، كما فصل بين جهة كون هذه الصلوة عبادة لله تعالى، وبين كونها عبادة لغيره. وبين وقوعها بطهارة ونية مخصوصة، وبين وقوعها على خلاف ذلك. وتميز له فيما ذكرناه جهة الحسن من جهة القبح، فقد كان يجب ان يتميز له – أيضا – الجهة التي تكون هذه الصلوة عليها مصلحة من جهة كونها مفسدة، فلما قيل له: (صل الظهر بطهارة وبنية


[ 438 ]

مخصوصة)، ولم يشترط له شيئا زائدا على الشرائط الشرعية المعقولة: علمنا أن الصلوة على هذه الشروط متى وقعت في هذا الوقت كانت مصلحة، فيقبح للنهي عنها. وهذه غاية ما بلغ النهاية من كثرة تكرار الكلام على هذه المسألة في الكتب المختلفة. وقد تعلق من خالفنا في هذه المسألة بأشياء: أولها قوله – تعالى -: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ويدخل في هذا الظاهر موضع الخلاف. وثانيها أمره – تعالى – إبراهيم – ع – بذبح ابنه، ثم نسخه عنه قبل وقت الفعل، وفداه بذبح. وثالثها ما روي في ليلة المعراج من أن الله – تعالى – أوجب في اليوم والليلة خمسين صلوة، ثم راجع النبي – عليه السلام – إلى


[ 439 ]

أن عادت إلى خمس، وهذا نسخ قبل وقت الفعل. ورابعها أن النسخ إنما يتأتى فميا لم يفعل، وما فعل كيف ينسخ. وخامسها أنه إذا جاز منع المكلف مما أمر به بالاحرام، فكذلك يجوز بالنهي، وإلا فما الفرق بين الامرين. وسادسها أن السيد منا قد يأمر عبده بالتجارة وغيرها بشرط بأن لا ينهاه. وسابعها أن الطهارة إنما تجب لوجوب الصلوة ومع ذلك فقد يمنع المكلف بالموت عن الصلوة، وإن كان قد توضأ، فأي فرق بين منعه بالموت ومنعه بالنهي ؟. وثامنها ما روي من قوله – عليه السلام – في وصف مكة: (احلت لي ساعة من نهار) ثم لم يقع منه – عليه السلام – قتال في ساعة ولا ساعات. والجواب عما تعقلوا به أولا أن ظاهر الآية يقتضي محوا و إثباتا على الحقيقة، وذلك لا يليق بالنسخ، وإن استعمل فيه على


[ 440 ]

جهة المجاز، فالاشبه بظاهر الآية ما روي من أنه – تعالى – يمحو من اللوح المحفوظ ما يشاء، ويثبت ما يشاء، لما يتعلق بذلك من صلاح الملئكة. وإن عدلنا عن الظاهر، وحملناه على النسخ، فليس فيه أنه يمحو نفس ما أثبته، ونحن نقول: أنه ينسخ الشرائع على الوجه الصحيح، * فإذا حملنا الآية على النسخ، فهي كالمجمل من غير تفصيل. والجواب عما تعلقوا به ثانيا أنه – تعالى – لم يأمر إبراهيم – عليه السلام – بالذبح الذي هو فرى الاوداج، بل بمقدماته، كالاضجاع له وتناول المدية، وما جرى مجرى ذلك، والعرب تسمي الشئ بإسم مقدماته، والدليل على هذا قوله – تعالى – وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا). فأما جزع إبراهيم، فلانه أشفق من أن يأمره بعد مقدمات الذبح بالذبح نفسه، لان العادة بذلك جارية، وأما الفداء، فلا يمتنع أن يكون عما ظن أنه سيؤمر به


[ 441 ]

من الذبح، ولا يمتنع – أيضا – أن يكون عن مقدمات الذبح زائدة على ما فعله لم يكن قد أمر بها. فإن الفدية لا يجب أن تكون من جنس المفدى، لان حلق الرأس قد يفدى بدم ما يذبح. وقد قيل – أيضا -: (إنه – عليه السلام – فرى أوداج إبنه ، لكنه كلما فرى جزءا، عاد في الحال ملتحما) فقد فعل ما أمر به من الذبح، وإن لم تبطل الحيوة. والجواب عما تعلقوا به ثالثا أن خبر المعراج خبر واحد، و بمثله لا يثبت الخلاف في هذه المسألة. وفيه مع ذلك من الشبه والاباطيل ما يدل على فساده، لاقتضائه نسخ الفعل قبل أن يعلم المكلف أنه مأمور به وتضمنه أن المصالح الدينية تتعلق بمشورة الخلق وإيثارهم.


[ 442 ]

والجواب عما تعلقوا به رابعا أن النسخ إذا كان لما لم يفعل فمن أين أنه لما لم يفعل وقد تناوله الامر، دون أن يكون لما لم يفعل مما قد تقدم فعل نظائره، أو الامر بها، فكأنه قيل له: (لا تفعل نظير ما كنت أمرت به من الصلوة الموقتة) ؟ !. والجواب عما تعلقوا به خامسا أنا قد بينا فيما تقدم أن الله – تعالى – لا يأمر بالفعل من يعلم أنه يخترم دونه. والجواب عما تعلقوا به سادسا أن السيد إنما حسن منه ذلك مع عبده لجواز البداء عليه، وذلك لا يجوز على الله تعالى. والجواب عما تعلقوا به سابعا أن الطهارة لم تجب على الواحد منا لاجل وجوب الصلوة عليه، وكيف يكون كذلك، وهو لا يعلم قبل مضي وقت الصلوة وجوبها عليه ؟ ! وإنما تجب الطهارة لظن وجوب الصلوة عليه، وهو يظن وجوبها عليه، وإن جوز المنع. والجواب عما تعلقوا به ثامنا أن هذا الخبر إنما يصح التعلق به في جواز النسخ قبل إيقاع الفعل، لا قبل وقته، وغير ممتنع أن يباح له – عليه السلام – من قتلهم وسلبهم ما لم يفعله، ومثل ذلك لا شبهة فيه.


[ 443 ]

فصل في الزيادة على النص هل يكون نسخا أم لا إختلف الناس في ذلك: فذهب قوم إلى أن الزيادة إذا غيرت حكم المزيد عليه كانت نسخا. وقال آخرون: أن الزيادة على النص لا تكون نسخا على كل حال، وهو مذهب أكثر اصحاب الشافعي، وإليه ذهب أبو علي، وأبو هاشم. وقال آخرون: أن الزيادة تقتضي النسخ إذا كان المزيد عليه قد دل على ان ما عداه بخلافه. واعلم أن الزيادة على النص تنقسم إلى قسمين: زيادة متصلة، زيادة منفصلة. والمتصلة على ضربين: مؤثرة في المزيد عليه، وغير مؤثرة فيه. فأما الزيادة المتصلة المؤثرة، فهي التى تغير حكم المزيد عليه


[ 444 ]

في الشريعة، حتى يصير لو وقع مستقبلا من دون تلك الزيادة، لكان عاريا من كل تلك الاحكام الشرعية التي كانت له، أو بعضها، فهذه الزيادة تقتضي النسخ. ومثاله زيادة ركعتين على سبيل الاتصال، كما روي أن فرض الصلوة كان ركعتين، فزيد في صلوة الحضر. وإنما قلنا: إن هذه الزيادة قد غيرت الاحكام الشرعية، لانه لو فعل بعد زيادة الركعتين على ما كان يفعلهما عليه أولا، لم يكن لهما حكم، وكأنه ما فعلهما، ويجب عليه إستينافهما. و لان مع هذه الزيادة يتاخرون ما يجب من تشهد وسلام، ومع فقد هذه الزيادة لا يكون كذلك. وكل ما ذكرناه يقتضي تغير الاحكام الشرعية بهذه الزيادة. ولا يلزم على هذا ما نقوله من أن كل جزء من الصلوة له في إستحقاق الثواب حكم نفسه، ولا يقف على غيره، لان النسخ إنما يدخل في الاحكام الشرعية، وإستحقاق الثواب من الاحكام


[ 445 ]

العقلية، وقد بينا تغير الاحكام الشرعية. وعلى هذا الاصل الذي قررناه لو زيد في زمان الصوم زيادة، لكانت هذه الزيادة تقتضي النسخ، للعلة التي ذكرناها في الركعتين المتصلتين. فأما زيادة ركن على أركان الحج، فليس يبين فيه أنه يكون نسخا، لانفصال بعض أركان الحج من بعض، وأنه ليس بجار مجرى الصلوة والصيام. والاولى أن تكون زيادة تطهير عضو على أعضاء الطهارة ليس بنسخ. فأما إيجاب الصلوة من غير طهارة، ثم إشتراط الطهارة فيما بعد ذلك، فالواجب تقسيمه: فنقول: إن كانت هذه الصلوة يحصل لها بالطهارة حكم شرعي ما كان لها من قبل ذلك، فقد تغير بهذه


[ 446 ]

الزيادة حكمها الشرعي، فيجب أن يكون نسخا. وإن لم يكن لها بهذه الزيادة حكم شرعى لم يكن، وليس إلا تقديم فعل الوضوء عليها، لم تكن الزيادة نسخا. ولو زاد الله – تعالى – في كفارة الحنث رابعة، * لم يكن ذلك نسخا للثلاثة، لان الحال في جميع الاحكام الشرعية في فعل الثلاث لم يتغير، وهي مفعولة بعد الزيادة على الحد الذي كانت تفعل عليه قبلها. وإنما تقتضي هذه الزيادة نسخ ترك الكفارات الثلاث، لان تركها كان محرما قبل هذه الزيادة، فارتفع تحريمه بالزيادة. فأما ورود التخيير على التضييق، أو التضييق على التخيير، فالاولى أن يقال فيما تضيق بعد التخيير: أنه نسخ، لان أحد


[ 447 ]

المخير فيه خرج عن حكمه الشرعي، فصار منسوخا. ومثاله لزوم صوم شهر رمضان بعد التخيير بينه وبين الفدية. فأما ورود التخيير بعد التضييق، فالاشبه أنه لا يكون نسخا، لان حكم الاول في نفسه لم يتغير، وإنما تغير حكم الترك، لانه كان محرما، ثم صار مباحا. فأما ورود الخبر بالشاهد واليمين، فإنه لا يكون نسخا للآية، لانا قد بينا فيما تقدم أن الشاهد الثاني شرط، وليس يمتنع أن يقوم مقام الشرط سواه، وإذا لم تمنع الآية مما ورد به الخبر، لم يكن فيه نسخ لها. فإذا قيل: الآية تمنع في المعنى من اليمين مع الشاهد من حيث كانت اليمين هي قول المدعي، فجرت مجرى دعواه. قلنا: غير ممتنع أن لا يكون لدعواه حكم، ويكون ليمينه


[ 448 ]

حكم، وإن كانا معا قولا له، ألا ترى أنه لا حكم لانكاره، و لنكوله عن اليمين حكم، ولم يجريا في الشريعة مجرى واحد، وإن كانا راجعين إلى قوله. وكذلك لانكاره في إسقاط الدعوى واليمين، وليمينه هذا الحكم، لانها تسقط الدعوى. فكذلك لا يمتنع إذا حلف مع شاهد أن يكون لقوله من الحكم ما لا يكون لدعواه إذا تجردت. فأما مثال الزيادة المتصلة، وإن كانت غير مؤثرة، فكزيادة العشرين على حد القذف، وزيادة النفي على حد الزاني البكر، وزيادة الرجم على حد المحصن. فما مثال الزيادة المنفصلة، فكزيادة صلوة سادسة، و شهر للصيام ثان، ولا خلاف في أن ذلك لا يقتضي نسخا، وإنما هو إبتداء عبادة.


[ 449 ]

والخلاف إنما هو في الزيادة المتصلة المتعلقة بالمزيد عليه، كالزيادة في الحد: فمن الناس من ألحق ذلك بزيادة الركعتين على الركعتين، وفيهم من أجراه مجرى زيادة صلوة سادسة. والذي يدل على أن الزيادة في الحد لا توجب النسخ أنها لا تؤثر في تغير حكم شرعي معقول للمزيد عليه، لان من المعلوم أن المزيد عليه يفعل بعد التعبد بالزيادة على الحد الذي يفعل عليه قبلها، وإنما يجب ضم هذه الزيادة إليه من غير أن يكون إخلاله بضم هذه الزيادة مؤثرا في الاول، فوجب إلحاق ذلك بإبتداء التعبد. وتعلقهم بأن الاسم واحد والسبب واحد ليس بشئ، لانه غير ممتنع أن يكون الاسم واحدا، والسبب كذلك، ويكون ذلك إبتداء تعبد، إذا كانت الاحكام الشرعية لم تتغير، وهي التي عليها المعول في باب النسخ.


[ 450 ]

وليس لهم أن يقولوا: قد تغير حكم شرعي من حيث صارت الثمانون بعض الحد وكانت قبل الزيادة كله، لان قولنا (بعض) و (كل) ليس من الاحكام الشرعية، وكذلك قولنا (نهاية) و (غاية). ولانه يلزم مثل ذلك في فرض صلوة اليوم والليلة، لان الصلوة لو زيد فيها سادسة، لكان الوصف بالكل والبعض والنهاية يتغير ومع ذلك فليس بنسخ. ولو أنه – تعالى – أوجب بدلوك الشمس صلوة أخرى، لكان سبب الوجوب واحدا، وإن لم يكن نسخا. فأما تعلقهم برد الشهادة، وأنه كان متعلقا بالثمانين، ثم تعلق بما زاد عليها، فقد تغير الحكم الشرعي، فليس بشئ، لان رد الشهادة إنما يتعلق بالقذف، لا بإقامة الحد، كما يتعلق بفعل سائر الكبائر. ولو سلمنا أن رد الشهادة يتعلق بالحد، لا بالقذف، لكان لنا أن نقول: إنه يتعلق بكونه محدودا، ولا إعتبار بزيادة عدد الحد ونقصانه في الحكم الذي هو رد الشهادة، كما أن الاحرام


[ 451 ]

لما كان علة في تحريم الصيد، لم يختلف في ذلك كونه محرما، بحج وعمرة، أو بأحدهما، لان المعتبر كونه محرما. وكذلك لا فرق بين كونه محدثا بجهة واحدة، أو بجهات، لان المعتبر في الاحكام الشرعية كونه محدثا، من غير أن يكون لزيادة الاحداث أو نقصانها تأثير. وجرى ذلك أيضا مجرى إباحة تزويج المعتدة إذا انقضت عدتها في أن عدتها زادت أو نقصت فالحكم فيها ذكرناه لا يتغير، ولا تكون الزيادة في العدة أو النقصان نسخا لاباحة تزويج المعتدة. على أن هذا بعينه لازم للمخالف، لان زيادة العبادة قد تؤثر، في رد الشهادة وإن لم يتعلق بالمزيد عليه كتأثيرها إذا تعلقت، لان رد الشهادة إذا كان شرطه الفسق – وقد علمنا أن الفسق يتغير بزيادة عبادات ونقصانها إذا وقع الاخلال بها – فيجب لذلك تغير الحكم في رد الشهادة، وهذا يقتضى أن زيادة كل عبادة وإن


[ 452 ]

لم يتعلق بغيرها، ولا كانت متصلة بها، تقتضي النسخ. فصل في أن النقصان من النص هل يقتضى النسخ أم لا إعلم أنه لا خلاف في أن النقصان من العبادة يقتضي نسخ المنقوص، وإنما الكلام في هل يقتضى ذلك نسخ المنقوص منه: فذهب قوم إلى أنه يقتضى نسخ العبادة المنقوص منها، وذهب آخرون إلى أنه لا يقتضى ذلك. والواجب أن يعتبر هذا النقصان، فإن كان ما بقي بعده من العبادة، متى فعل، لم يكن له حكم في الشريعة، ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان، فهذا النقصان نسخ له، كما قلناه في زيادة ركعتين على ركعتين على جهة الاتصال، لان العلة في الموضعين واحدة. وإن لم يكن الامر على ذلك، فالنقصان ليس بنسخ لتلك العبادة. ومثال ذلك أن ينقص من الحد عشرون، فإن ذلك لا يكون نسخا


[ 453 ]

لباقي الحد. وعلى هذا لو نقصت ركعتان من جملة ركعات، لكان هذا النقصان نسخا لجملة الصلوة، لان الصلوة بعد النقصان قد تغير حكمها الشرعي. ولو فعلت على الحد الذي كانت تفعل عليه من قبل، لم يجز، فجلمتها منسوخة. فأما نسخ الطهارة بعد إيجابها، فهو غير مقتض لنسخ الصلوة، لان حكم الصلوة باق على ما كان عليه من قبل. ولو كان نسخ الطهارة يقتضي نسخ الصلوة، لوجب مثله في نجاسة الماء وطهارته، وقد علمنا أن تغير أحكام نجاسة الماء وطهارته لا يقتضي نسخ الطهارة، لانه إنما قيل له: تطهر بالماء الطاهر، ثم الماء الطاهر منه والماء النجس موقوف على البيان، وقد يتغير بزيادة ونقصان، ولا يتعدى ذلك التغير إلى نسخ الطهارة. فأما نسخ القبلة، فذهب قوم إلى أنه نسخ للصلوة، وذهب آخرون إلى أنه ليس بنسخ، وجعل القبلة شرطا كتقديم الطهارة.


[ 454 ]

والذي يجب تحصيله في هذه المسألة أن نسخ القبلة لا يخلو من أن ينسخ بالتوجه إلى جهة غيرها، أو بأن يسقط وجوب التوجه إليها ويخير فيما عداها من الجهات، لانه من المحال أن تخلو الصلوة من توجه إلى جهة من الجهات. فإن كانت نسخت بضدها، كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة، فلا شبهة في نسخ الصلوة، ألا ترى أنه بعد هذا النسخ لو أوقع الصلوة إلى بيت المقدس على حد ما كان يفعله من قبل، لكان لا حكم له، بل وجوده في الشرع كعدمه. وإن كانت القبلة نسخت، فإن حظر عليه التوجه إلى الجهة المخصوصة التي كان يصلي إليها، وخير فيما عداها، فهذا – أيضا – يقتضي نسخ الصلوة، لانه لو أوقعها على الحد الذي كان يفعلها عليه من قبل، لكانت غير مجزية، فصارت منسوخة على ما اعتبرناه. وإن نسخ وجوب التوجه إلى القبلة بأن خير في جميع الجهات، لم يكن ذلك نسخا للصلوة، ألا ترى


[ 455 ]

أنه لو فعلها على الحد الذي كان يفعلها عليه من قبل، لكانت صحيحة مجزية، وإنما نسخ التضييق بالتخيير. فأما صوم شهر رمضان، فلا يجوز أن يكون ناسخا لصوم عاشوراء، لان الحكمين إنما يصح أن يتناسخا إذا لم يمكن إجتماعهما، وصوم شهر رمضان يجوز أن يجتمع مع صوم عاشوراء، فكيف يكون ناسخا له. ومعنى هذا القول أن عند سقوط وجوب صيام عاشوراء أمر بصيام شهر رمضان. فصل في جواز نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالنسة إعلم أن كل دليل أوجب العلم والعمل فجائز النسخ به، وهذا حكم الكتاب مع الكتاب، والسنة المقطوع بها مع السنة المقطوع بها فلا خلاف في ذلك. وإنما الخلاف في نسخ الكتاب بالسنة المقطوع بها، ونسخ


[ 456 ]

السنة بالكتاب، وسيأتى الكلام على ذلك بإذن الله تعالى. فأما السنة التي لا يقطع بها، فالكلام في نسخ بعضها ببعض مبني على وجوب العمل بأخبار الآحاد: فمن عمل بها في الشريعة، نسخ بعضها ببعض. ومن لم يعمل بها، لم ينسخ بها، لان النسخ فرع وتابع لوجوب العمل. وسيأتي الكلام على تفصيل ذلك بمشية الله تعالى. فصل في نسخ الاجماع والقياس وفحوى القول إعلم أن مصنفي أصول الفقه ذهبوا كلهم إلى أن الاجماع لا يكون ناسخا، ولا منسوخا، واعتلوا في ذلك بأنه دليل مستقر بعد إنقطاع الوحي، فلا يجوز نسخه ولا النسخ به. وهذا القدر غير كاف، لان لقائل أن يعترضه، فيقول: أما الاجماع عندنا، فدلالته مستقرة في كل حال قبل إنقطاع الوحي،


[ 457 ]

وبعده، وسنبين ذلك عند الكلام في الاجماع، فإذا ثبت ذلك سقطت هذه العلة. على أن مذهب مخالفينا في كون الاجماع حجة يقتضي أنه في الاحوال كلها مستقر، لان الله – تعالى – أمر بإتباع سبيل المؤمنين وهذا حكم حاصل قبل إنقطاع الوحي، وبعده. والنبي – ص ع – أخبر على مذاهبهم بأن أمته لا تجتمع على خطأ، وهذا ثابت في سائر الاحوال، فإذا كان الاجماع ثابتا في سائر الاحوال. وإذا كان الاجماع دليلا على الاحكام، كما يدل الكتاب والسنة – و النسخ لا يتناول الادلة، وإنما يتناول الاحكام التي تثبت بها – فما المانع من أن يثبت حكم دليل بإجماع الامة قبل إنقطاع الوحي، ثم ينسخ بآية تنزل، أو يثبت حكم بآية تنزل، فينسخ بإجماع الامة على خلافه.


[ 458 ]

والاقرب أن يقال *: إن الامة مجتمعة على أن ما يثبت بالاجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به. ولا يلتفت إلى خلاف عيسى بن أبان، و قوله: إن الاجماع ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت. فأما فحوى القول، فغير ممتنع نسخه، والنسخ به، لانه جار في فهم المراد به مجرى الصريح، فما جاز في الصريح، جاز فيه. وأما نسخ الفحوى دون الصريح، والصريح دون الفحوى، فيجب أن يرتب القول فيه على ما نبينه، والواجب حراسة الغرض فيه، ودفع المناقضة. وقد علمنا أنه لا يحسن أن يقول: (لا تقل لهما: أف، واضربهما) لكن يحسن أن يقول: (لا تضربهما وإن قلت لهما: أف.)، فيجوز نسخ الاكبر، ويتبعه الاصغر، ولا يجوز عكس ذلك. وغير ممتنع أن يقال: إن الحال فيما بينا يخالف المصالح


[ 459 ]

الدينية، لانه يمتنع أن يمنع من التأفيف في الشاهد إلا لاجل الترفيه والتنزيه عن الاضرار به، فلا يجوز أن يجامع ذلك إرادة الاضرار الاكبر، ومصالح الدين غير ممتنع أن يختص تارة بالاكبر، والاخرى بالاصغر، فالاولى جواز نسخ كل واحد مع تبقية صاحبه. فأما نسخ القياس والنسخ به، فمبني على أن القياس دليل في الشريعة على الاحكام، وسندل على بطلان ذلك عند الكلام في القياس، وإذا لم يكن دليلا من أدلة الشرع لم يجز أن ينسخ، و لا ينسخ به. ومن ذهب إلى ورود العبادة به، يدفع النسخ به بأن يقول: من شرط صحته أن لا يكون في الاصول ما يمنع منه، و


[ 460 ]

هذا يمنع من كونه ناسخا. ويمنعون من أن يكون القياس منسوخا بأنه تابع لاصله، ولا يجوز نسخه مع بقاء أصله. فصل في جواز نسخ القرآن بالسنة إعلم أن السنة على ضربين: مقطوع عليها معلومة، وأخرى واردة من طريق الآحاد: فأما المقطوع عليها، فإن الشافعي ومن وافقه يذهبون إلى أنها لا ينسخ بها القرآن، وخالف باقي العلماء في ذلك. واما السنة التي لا يقطع بها فأكثر الناس على أنه لا يقع بها نسخ القرآن، وخالف أهل الظاهر وغيرهم في جواز ذلك، وادعوا – أيضا – وقوعه. والذي يبطل أن ينسخ القرآن بما ليس بمعلوم من السنة أن هذا فرع مبنى على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، لان من يجوز النسخ يعتمد على أنه كما جاز التخصيص به، وترك


[ 461 ]

الظاهر لاجله، والعمل به في الاحكام المبتدأة، جاز النسخ – أيضا – به. وأن دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق، غير مختص، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشرع، بما سنتكلم عليه عند الكلام في الاخبار بمشية الله – تعالى -، بطل النسخ، لان كل من لم يعمل به في غير النسخ لا ينسخ به، فالقول بالنسخ مع الامتناع من العمل أصلا خارج عن الاجماع. وهذا أولى مما يمضى في الكتب من أن الصحابة ردت اخبار الآحاد إذا كان فيها ترك للقرآن، لان الخصوم لا يسلمون ذلك، ولانه يلزم عليه أن لا يخصص الكتاب بخبر الواحد، لان فيه تركا لظاهره. وليس يجب من حيث تعبدنا الله بالعمل بخبر الواحد في غير


[ 462 ]

النسخ – إذا سلمنا ذلك وفرضناه – أن نعديه إلى النسخ بغير دليل، لان العبادة لا يمتنع إختصاصها بموضع دون موضع، فمن أين إذا وقعت العبادة بالعمل به في غير النسخ، فقد وقعت في النسخ، وأحد الموضعين غير الآخر، وليس هيهنا لفظ عام يدعى دخول الكل فيه ؟ !. وخلاف الشافعي في أن السنة المعلومة لا ينسخ بها القرآن ضعيف جدا، لا ندري كيف استمرت الشبهة فيه ؟. والذي يدل على فساد هذا المذهب أن السنة المعلومة تجري في وجوب العلم والعمل مجرى الكتاب فكما ينسخ الكتاب بعضه ببعض، كذلك يجوز فيه نسخه بها. ولان النسخ إنما يتناول الحكم، والسنة في الدلالة عليه كدلالة القرآن، فيجب جواز النسخ بها. وليس لاحد أن يقول: إن السنة تدل كدلالة القرآن، لكنها إذا وردت بحكم يضاد القرآن، أنزل الله – تعالى – قرآنا


[ 463 ]

يكون هو الناسخ. وذلك أن هذه دعوى لا برهان لمدعيها، ومن أين أن الامر على ذلك ؟ ! ولو قدرنا أنه – تعالى – لم ينزل ذلك القرآن، كيف كان يكون حال تلك السنة ؟، فلا بد من الاعتراف باقتضائها النسخ. ثم إذا إجتمعا لم صار الناسخ هو القرآن، دون السنة، و حكم كل واحد من الدليلين حكم صاحبه. وإذا كان نسخ الحكم بحكم يضاده، فلا فرق بين أن يكشف عن ذلك الحكم المضاد سنة، أو قرآن. فأما اختصاص القرآن بوجه الاعجاز، فلا تأثير له في وجه دلالته على الاحكام، ولذلك قد يدل على الاحكام منه القدر الذي لا يبين فيه وجه الاعجاز. ولو كان هذا الفرق صحيحا، لوجب مثله في ابتداء الحكم بالسنة والتخصيص والبيان. ولو أنه – تعالى – جعل دليل نبوته إحياء ميت، ثم أنزل قرآنا ليس بمعجز، لكان في الدلالة على الاحكام كهو الآن. وقد اختلف كلام أصحاب الشافعي * في هذه المسألة: فتارة يقولون: إن ذلك لا يجوز عقلا، من حيث يقدح في النبوة، و


[ 464 ]

يقتضي التنفير، وتارة أخرى يقولون: إنه جائز، إلا ان السمع ورد بالمنع منه. وربما قالوا: إنه لم يوجد ما هذه حاله في الشرع. فأما العقل فلا وجه فيه للمنع من ذلك عند التأمل الصحيح، لانه – تعالى – إذا أراد أن يدل على الحكم، فهو مخير بين أن يدل عليه بكتاب، أو سنة مقطوع بها، لان دلالتهما لا يتغير، و يجريان مجرى آيتين، أو سنتين. وأما التنفير، فلا شبهة في ارتفاعه، لان المعجز إذا دل على صدقه – عليه السلام -، لم يكن في نسخه الاحكام بسنة إلا مثل ما في نسخه لها بما يؤديه من القرآن، وتطرق التهمة في الامرين يمنع منه المعجز. وأما ادعاؤهم أنه لم يوجد، فخلاف في غير هذه المسألة، لان كلامنا الآن على جوازه، لا على وقوعه.


[ 465 ]

وأما من ادعى أن السمع منع منه، فإنه تعلق بأشياء: أولها قوله – تعالى -: (وإذا بدلنا آية مكان آية) فبين – تعالى – أن تبديل الآية إنما يكون بالآية. وثانيها قوله – تعالى -: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا، أو بدله، قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) فنفي تبديله إلا بمثله. وثالثها قوله – تعالى -: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فجعله الله – تعالى مبينا للقرآن، والبيان ضد النسخ والازالة. ورابعها قوله – تعالى -: / (ما ننسخ من آية، أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها). وذكروا في التعلق بهذه الآية وجوها: منها أنه لما قال – تعالى -: (نأت بخير منها أو مثلها)، كان الكلام محتملا للكتاب وغيره، فلما قال بعد ذلك: (ألم تعلم


[ 466 ]

أن الله على كل شئ قدير)، علم أنه أراد ما يختص هو تعالى بالقدرة عليه من القرآن المعجز. ومنها أنه قال – تعالى -: (نأت بخير منها)، فأضاف ذلك إلى نفسه، والسنة لا تضاف إليه حقيقة. و منها أن الظاهر من قول القائل: (لا آخذ منك ثوبا إلا وأعطيك خيرا منه) أن المراد أعطيك ثوبا من جنس الاول. ومنها أن الآية إنما تكون خيرا من الآية بأن تكون أنفع منها، والانتفاع بالآية يكون بتلاوتها وامتثال حكمها، فيجب أن يكون ما يأتي به يزيد في النفع على ما ينسخه في كلا الوجهين، والسنة لا يصح لها إلا احدهما. والجواب عما تعلقوا به أولا هو أن الظاهر لا دلالة فيه على أنه لا يبدل الآية إلا بالآية، وإنما قال – تعالى -: (وإذا بدلنا آية مكان آية). ولان الخلاف في نسخ حكم الآية، و الظاهر يتناول نفس الآية.


[ 467 ]

والجواب عن الثاني أنه – أيضا – لا يتناول موضع الخلاف، لانه إنما نفى أن يكون ذلك من جهته، بل بوحي من الله تعالى سواء كان ذلك قرآنا أو سنة. والجواب عن الثالث أن النسخ يدخل في جملة البيان، لانه بيان مدة العبادة وصفة ما هو بدل منها. وقد قيل: إن المراد هيهنا بالبيان التبليغ والاداء، حتى يكون القول عاما في جميع المنزل، ومتى حممل على غير ذلك كان خاصا في المجمل. على أن النسخ لو انفصل عن البيان، لم نمنع أن يكون ناسخا وإن كان مبينا، كما لم يمنع كونه مبينا من كونه مبتدئا للاحكام، وقد وصف الله – تعالى – القرآن بأنه بيان، ولم يمنع ذلك من كونه ناسخا.


[ 468 ]

والجواب عن الرابع أن الآية – أيضا – لا تتناول موضع الخلاف، لانها تتناول نفس الآية، والخلاف في حكمها. على أن الظاهر لا يدل على ان الذي يأتي به يكون ناسخا، وهو موضع الخلاف، وهو إلى أن يدل على أنه غير ناسخ أقرب، لانه – تعالى – قال: ما ننسخ من آية نأت، وهذا يدل على تقدم النسخ على إنزال ما هو خير منها، فيجب أن لا يكون النسخ بها وهو متقدم عليها، ومعنى (خير منها) أي أصلح لنا، وأنفع في ديننا، و أنا نستحق به مزيد الثواب، وليس يمتنع – على هذا – أن يكون ما يدل عليه السنة من الفعل الناسخ أكثر ثوابا وأنفع لنا مما دلت عليه الآية من الفعل المنسوخ. والشناعة بأن السنة خير من القرآن تسقط بهذا البيان، وبأن القرآن – أيضا – لا يقال بأن بعضه خير من بعض بالاطلاق، وقد ينسخ بعضه ببعض. فإذا فصلوا وفسروا


[ 469 ]

فعلنا مثل ذلك. فأما إضافة ذلك إليه – تعالى – وأن ذلك بالكتاب أليق منه بالسنة، فالاضافة صحيحة على الوجهين، لان السنة إنما هي بوحيه – تعالى – وأمره، فإضافتها إليه كإضافة كلامه. وقوله – تعالى -: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) لا يدل على صفة ما يكون به النسخ وإنما يقتضي أنه – تعالى – قادر على أن ينسخ الفعل بما هو اصلح في الدين منه، كان الدليل على ذلك كتابا أو سنة. وغير مسلم أن القائل إذا قال لاحد: لا آخذ منك كذا وكذا إلا وأعطيك خيرا منه، أن الثاني يجب أن يكون من جنس الاول، بل لو صرح بخلاف ذلك لحسن، لانه لو قال: (لا آخذ منك ثوبا إلا وأعطيك فرسا خيرا منه) لما كان قبيحا، وقد بينا معنى (خيرا منها). فليس يمتنع أن يكون السنة و إن انتفع بها من وجه واحد أصلح لنا * من الآية وإن كان


[ 470 ]

الانتفاع بها من وجهين، لان الانتفاع الذي هو الثواب قد يتضاعف، فلا ينكر أن يزيد والوجه واحد على الوجهين. على أن في درس السنة وتلاوتها – أيضا – ثوابا وقربة وعبادة. فصل في جواز نسخ السنة بالكتاب إنما خالف الشافعي في هذه المسألة، والناس كلهم على خلاف قوله. وكل شئ دللنا به على أن السنة المقطوع بها تنسخ القرآن يدل على هذه المسألة، بل هو هيهنا آكد وأوضح، لان للقرآن المزية على السنة. وقولهم: لو نزلت آية تقتضي نسخ سنة، لامر الله – تعالى – بأن يستن سنة ثانية تكون ناسخة للاولى، تحكم بغير دلالة، فمن أين لهم ذلك ؟ ! وأي فرق بينهم وبين من قال: إن الله – تعالى – إذا أراد أن ينسخ سنة بسنة أخرى أنزل


[ 471 ]

قرآنا ليكون النسخ به لا بالسنة ؟ ! وبعد فلو سلم لهم ما اقترحوه، لم يخرج القرآن من أن يكون ناسخا للسنة، بل كانا معا ناسخين، و ليس ذلك بملتبس بالبيان، ولا مخرج له – ص ع – عن كونه مبينا. وقد استدل على جواز نسخ السنة بالقرآن بوقوع ذلك، و الوقوع أكثر من الجواز، وذكر أن تأخير الصلوة في وقت الخوف كان هو الواجب أولا، ثم نسخ بقوله – تعالى -: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا). وإنما كان ذلك نسخا من حيث كان جواز التأخير مع استيفاء الاركان كالمضاد للاداء في الوقت مع الاخلال ببعض ذلك. وذكر – أيضا – أن قوله – تعالى -: (فلا ترجعوهن إلى الكفار) نسخ مصالحته – صلى الله عليه وآله – قريشا على رد النساء. وأقوى من ذلك نسخ القبلة الاولى وكانت ثابتة بالسنة، بالقبلة الثانية وهي معلومة بالقرآن. فصل فيما يعرف به كون الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا اعلم أن كون الناسخ ناسخا إنما يعلم بان يكون لفظه يقتضي


[ 472 ]

ذلك أو معناه، فمثال اقتضاء اللفظ أن يقول: نسخت كذا بكذا، ويجري مجراه قوله – ص ع -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، وعن إدخار لحوم الاضاحي، ألا فادخروا ما بدا لكم). ومثال الثاني أن يتضاد حكم الناسخ والمنسوخ، و يمتنع اجتماعهما في التعبد، فيعلم بذلك أن أحدهما ناسخ للآخر. فصل فيما يعرف به تأريخ الناسخ والمنسوخ اعلم أن أقوى ما علم به التأريخ أن يكون في اللفظ، وإنما يصح أن يكون في لفظة الناسخ دون المنسوخ إذا كان مذكورا على جهة التفصيل، وقد يكون على جهة الجملة في لفظ المنسوخ، نحو أن يقول: افعلوا كذا إلى أن أنسخه عنكم، ولو قال: إلى أن أنسخه في وقت كذا، لكان وقت زوال العبادة معلوما بلفظ


[ 473 ]

إيجابها، فيخرج بذلك من باب النسخ. وقد يعلم التأريخ – أيضا – بأن يضاف إلى وقت أو غزاة يعلم بها تقدم وقت المنسوخ، لان الغرض معرفة المتأخر والمتقدم، فلا فرق بين ذكر الزمانين، أو ذكر ما يضاف إليهما، مما يعلم به التقدم والتأخر. وقد ذكر – أيضا – أن يكون المعلوم من حال أحد الراويين أنه صحب النبي – ص ع – بعد ما صحبه الآخر، وأن عند صحبته إنقطعت صحبة الاول. ولا بد من أن يشترط في ذلك أن يكون الذي صحبه أخيرا لم يسمع منه – ص ع – شيئا قبل صحبته له، لانه غير ممتنع أن يراه أولا، فيسمع منه وهو كافر، أو غير مصاحب، ثم يراه ثانيا، ويختص بمصاحبته. فأما إذا علم تقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر بالعادة، أو ما يجري مجراها، فلا شك في أن الثاني هو الناسخ، ومثال


[ 474 ]

ذلك أن يكون حكم أحدهما مستمرا على حكم العقل، والآخر ثابت بالشرع. ويدخل فيه أن يكون أحدهما شرعا متقدما، و الآخر متجددا، أو أن يكون احدهما يتضمن ردا على الاول، أو شرطا في الاول، إلى غير ذلك من الوجوه الدالة على التقدم والتأخر. وقد ذكر من تكلم في أصول الفقه بأن التأريخ – أيضا – يعلم بقول الصحابي، وأن يحكى أن أحد الحكمين كان بعد الآخر، قالوا: لان التأريخ نقل وحكاية لا مدخل للاجتهاد فيه، فيجب أن يقبل قول الصحابي فيه. وهذا الوجه مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، وفرع من فروعه، فإذا بطل وجوب العمل بخبر الواحد، بطل هذا الفرع، وإن صح فهو صحيح. ومنهم من فرق بين قول الصحابي: إن كذا نسخ كذا، وبين نقله التأريخ، فقبل قوله في التصريح بالتأريخ، ولم يقبله في قوله: نسخ ذلك. ومنهم من فرق بين قول الصحابي: إن كذا نسخ كذا، وبين نقله التأريخ، فقبل قوله في التصريح بالتأريخ، ولم يقبله في قوله: نسخ ذلك.


[ 475 ]

ومنهم من قبل قوله في الامرين. والاولى على تسليم قبول أخبار الآحاد أن لا يرجع إلى قوله في أن كذا نسخ كذا، لان ذلك قول صريح في ذكر مذهبه، و إنما يثبت التاريخ تبعا للمذهب، وإذا لم يجز عند الكل الرجوع في المذاهب إلى قوله، حتى تثبت صحتها، فكذلك في هذا الباب. ونقل التاريخ مخالف لذلك، لانه لا يتضمن ذكر مذهب يصح فيه طريقة الاجتهاد، وكما لو قال في الشئ: إنه محرم، لا يعمل عليه، ولو قال: زمان تحريمه الزمان الفلاني، لعمل عليه، فكذلك القول فيما تقدم ذكره


[ 476 ]

تذكار لما كان كتاب (الذريعة إلى اصول الشريعة) ضخما كبير الحجم رأيت ان أجعله في مجلدين. ليكون سهل التناول للمراجع، فأنهيت مجلده الاول إلى هنا. (آخر مباحث النسخ) وسأبدأ مجلده الآخر بمباحث الخبر. هذا، وسيضاف الفهارس وتصحيح الاخطاء المطبعية في آخر الجزء الثاني ان شاء الله. وأرجو منه – تعالى – أن توفقني لاتمامه، إنه ولي التوفيق. الدكتور ابو القاسم الگرجي

اترك تعليقاً