تفسير كنز الدقائق

الميرزا محمد المشهدي ج 1


[ 1 ]

تفسير كنز الدقائق للمفسر الكبير والمحقق النحرير العالم العارف الميرزا محمد المشهدي ابن محمد رضا بن اسماعيل بن جمال الدين القمي المتوفى حدود عام 1125 ه‍ الجزء الاول مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة


[ 2 ]

الكتاب: كنز الدقائق وبحر الغرائب المؤلف: المفسر المحدث الميرزا محمد المشهدي القمي المحقق: الحاج آقا مجتبى العراقي الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة المطبوع: 500 نسخة التاريخ: شوال المكرم 1407 ه‍.


[ 3 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد رسله وصفوة خلقه محمد وعترته الطاهرين. لا شك ولا ريب في أن القرآن هو كتاب الله المنزل على رسوله لهداية الناس وإرشادهم وتزكيتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهو كتاب دستور لجميع البشرية من زمن نزوله إلى الابدية، وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، والتبيان لكل شئ، والهادي لسبل الخير والصلاح، والمحذر عن كل شر وضلال، وهو كتاب الله القويم الذي لا يعتريه أي خطأ واشتباه، ولا تمسه أيدي المضلين، وهو الرابط بين الخالق وخلقه، والمبين لاحكام الله وشرايعه، وهو الكتاب الذي أعجز الكل من الجن والانس من أن يؤتوا بمثله حتى سورة واحدة وأخبرهم بأنهم لا يقدرون على ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وهو الكتاب الذي بشر المتقين بالرحمة والرضوان وأوعد الكافرين بالغضب والنيران، وهو الكتاب الذي له بطون مختلفة وتأويلات عديدة كما أخبر الله سبحانه عنه ” لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم “. ولتنوير البشرية بمفاهيمه ومعانيه وتطبيقه على مختلف شؤون الحياة الفردية و الاجتماعية اهتم المسلمون حين صدوره من المشرع الحكيم إلى رسوله العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله في حفظه وتفسيره، وهذا الاعتناء والاهتمام قد استمر بعد وفاته صلوات الله عليه قرنا بعد قرن، فأخذ علماء الاسلام دقائق تفسيره و معانيه من معادن الحكمة والثقل الآخر للكتاب الكريم اللذين تركهما الرسول الاعظم وأخبر بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهم أهل بيت الوحي ومن خوطب به، وهذه


[ 4 ]

السيرة المباركة مستمرة إلى يومنا هذا وإن شاء الله ستستمر إلى زمان ظهور الحجة ابن الحسن المهدي أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، ومن اولئك الافذاذ في القرن الحادي عشر هو المحدث الخبير الميرزا محمد المشهدي القمي – قدس سره – الذي ألف تفسيرا بارعا أسماه ب‍ ” كنز الدقائق وبحر الغرائب “. وقد قامت المؤسسة بتطبيقه وتصحيحه وطبعه بعد أن تم تحقيقه واستخراج منابعه على يد الحجة العلامة الحاج آغا مجتبى العراقي أدام الله إفاضاته شاكرة مساعيه الوافرة، كما و تشكر حجة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمد هادي معرفة على ما قدم لهذا الكتاب من كلمة تشتمل على أهميته وحياة مؤلفه وآثاره العلمية سائلين المولى القدير أن يوفقنا جميعا لنشر ما يرتضيه إنه سميع مجيب مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة


[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم [ تقدم الشيعة في فنون التفسير: ] أول من حاز قصب السبق في هذا المضمار الخطير هم أصحابنا الامامية من شيعة أهل البيت عليهم السلام تأسيا بسيدهم الامام أمير المؤمنين عليه السلام، فقد كان أول من جمع القرآن وعلى هامشه الكثير من تفسير مجمله وتبيين معضله. كان عليه السلام قد شرح أسباب النزول وبين مواقعه وتواريخه والافراد أو الجماعات الذين نزلت فيهم الآيات كما كان قد أشار إلى مواقع عموم الآيات من خصوصها ومطلقاتها ومقيداتها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومبينها، بل وجميع ما يحتاج إليه المراجع عند فهم الآيات. كل ذلك على الهامش تتميما للفائدة. قال ابن جزي: ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير (1). قال ابن سيرين: حدثني عكرمة عن مصحفه، قال: لو اجتمعت الانس والجن على أن يألفوه هذا التأليف ما استطاعوا فتتبعته وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه، فلو أصبت ذلك لكان فيه علم (2). وقد قال هو عليه السلام عن مصحفه الذي جمعه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وبوصية منه: ولقد جئتهم بالكتاب مشتملا على التنزيل والتأويل (3). والمراد من التنزيل بيان شأن النزول والمناسبة الداعية للنزول، وهو المعبر عنه


(1) التسهيل لعلوم التنزيل: ج 1 ص 4. (2) طبقات ابن سعد: ج 2 ق 2 ص 101. (3) آلاء الرحمان: ج 1 ص 18. (*)

[ 6 ]

بالتفسير الظاهري المتوافق مع ظاهر اللفظ. وأما التأويل فهي الجهة العامة المقصودة من الآية، حيث خصوصية المورد لا توجب تخصيصا في عموم اللفظ، فكان عليه السلام قد بين مواضع استفادة العموم من أحكام الآيات التي تجري كما تجري الشمس والقمر. قال الامام الباقر عليه السلام: بطن القرآن تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يجئ، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلما جاء تأويل شئ يكون على الاموات كما يكون على الاحياء. (وقال:) ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقى من القرآن شئ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والارض. ولكل قوم آية يتلوتها هم منها من خير أو شر. وقال الامام الصادق عليه السلام: نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة (1). هذه هي عمدة مهنة المفسر الخبير يستخرج عمومات الاحكام الجارية من مواردها الخاصة التي نزل بها القرآن الكريم، فيعلم بطن القرآن من ظهره وتأويله من تفسيره. الامر المستصعب الذي لا يقوم به سوى المضطلعين بأسرار كلامه تعالى، وهم الائمة من أهل البيت الذين هم أدرى بما في البيت. قال تعالى: ” وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ” (2). قال الصادق عليه السلام: إن الله علم نبيه التنزيل والتأويل فعلمه رسول الله عليا. قال علي عليه السلام: ما نزلت آية إلا وأنا علمت فيمن انزلت وأين انزلت وعلى من انزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا (3). نعم لا يهتدي إلى ذلك سوى اولئك الذين هداهم الله إلى منابع فيضه وأبواب رحمته ممن تمسكوا بعرى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وهم الاخصاء من شيعتهم ومواليهم. قال الصادق عليه السلام: إنا أهل بيت لم يزل الله يبعث منا من يعلم كتابه من أوله إلى آخره. (وقال:) نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله. وهذا هو المعنى بقوله صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي


(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 19 و 21 و 22. (2) آل عمران: 7. (3) البرهان: ج 1 ص 17. (*)

[ 7 ]

وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. إذ لا يعرف الكتاب سوى اولئك الذين نزل في بيتهم. قال تعالى: ” وإنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون ” (1). إذن فلا غرو إذا ما وجدنا من أصحاب أئمة الهدى اسوة لارباب التفسير وسائر علوم القرآن منذ العهد الاول فإلى القرون التالية ولا يزال. هذا ابن عباس حبر الامة وترجمان القرآن، معروف باضطلاعه بالتفسير والقرآن وقد كان المرجع الاول على عهد الخلفاء الاولين، فمن بعدهم في فهم القرآن وتأويل آياته، كان مرجعه في التفسير هو الاخذ عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام. كان يقول: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب (2). وآثاره في التفسير هو الجم الغفير في المجاميع التفسيرية المدونة كجامع البيان للطبري والدر المنثور للسيوطي وتفسير القرطبي وابن كثير وغيرها من نوع التفسير بالمأثور. أما التفسير المنسوب إليه المعروف به ” تنوير المقباس ” فهو من تأليف الفيروز آبادي صاحب القاموس، نعم يسند ما يرويه من روايات التفسير في مبدأ كل سورة إلى ابن عباس، عن طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا الطريق من أضعف الطرق إلى ابن عباس. قال جلال الدين السيوطي: وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح عنه. (قال:) فإن انضم إلى ذلك رواية السدي الصغير فهي سلسلة الكذب (3). ومن التابعين سعيد بن جبير – الذي قتله الحجاج صبرا سنة 95 ه‍ كان قدوة في التفسير والقراءة. قال الطبري: هو الثقة الحجة إمام المسلمين. وقال ابن حبان: كان مجمعا عليه، عبدا فاضلا ورعا. قال الذهبي: كان من كبار التابعين ومتقدميهم في التفسير والحديث والفقة (4). وقال السيوطي: كان أعلم التابعين بالتفسير (5).


(1) الواقعة: 77 – 79. (2) التفسير والمفسرون للذهبي: ج 1 ص 90. (3) الاتقان: ج 2 ص 189. (4) التفسير والمفسرون: ج 1 ص 102. (5) الاتقان: ج: 2 ص 189. (*)

[ 8 ]

ثم محمد بن السائب الكلبي من أصحاب الامامين الباقر والصادق عليهما السلام – توفى سنة 146 ه‍ – له تفسير كبير معروف ب‍ ” أحكام القرآن ” وهو أول من دون في آيات الاحكام كتابا وكان قدوة لغيره في هذا الفن، وقد سار الشافعي في كتابه أحكام القرآن على منهاجه. ومثله أبان بن تغلب بن رباح المتوفى سنة 141 ه‍. كان من خواص الامامين عليهما السلام، له كتاب معاني القرآن والقراءات والغريب من ألفاظ القرآن وغيرها. وهكذا ابن أبي شعبة – المتوفى سنة 135 ه‍ ومقاتل بن سليمان وأبو بصير وأبو الجارود وأبو حمزة الثمالي كانت وفياتهم عام 150 ه‍، لهم قدم وسبق تأليف في التفسير. و السدي الكبير – المتوفى سنة 127 ه‍ – من أصحاب الامام السجاد والامام الباقر عليهما السلام. وللفراء – المتوفى عام 208 ه‍ – كتاب معروف ب‍ ” معاني القرآن ” طبع أخيرا في ثلاث مجلدات ضخام. كان قد أملاه على أصحابه في المسجد عن حفظه، كان أبو طلحة الناقط يقرأ عشرا من القرآن ثم يقول له: أمسك، فيملي من حفظه المجلس. وعن أبي بديل: أردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لاملاء كتاب المعاني فلم يضبط قال: فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضيا. يقول السمري في صدر الكتاب: هذا كتاب فيه معاني القرآن أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء عن حفظه من غير نسخة في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثا وات والجمع في شهر رمضان وما بعده من سنة اثنتين وفي شهور سنة ثلاث وشهور من سنة أربع ومائتين (1). ولمجاهد بن جبر المكان السامي في التفسير، كان أحد الاعلام الاثبات، مات سنة 104 ه‍، وقد اعتمده البخاري كثيرا. وعن الفضل أنه سمع مجاهدا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وعنه أيضا: عرضت القرآن عليه أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت. وعن مصعب قال: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد. وهكذا عكرمة مولى ابن عباس كان على مكانة عالية من التفسير. قال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقة والقرآن. وغيرهم من أقطاب العلم في مكة والمدينة


(1) راجع مقدمة المعاني، ص 13 و 14. (*)

[ 9 ]

كانوا مراجع الامة. وإذا كان أبو جعفر الطبري وجلال الدين السيوطي وغيرهما من أصحاب التفاسير المعروفة قد أخذوا رواياتهم في التفسير عن هؤلاء الاقطاب وهم إنما يسندون علومهم إلى كبار أئمة أهل البيت علي وبنيه عليهم السلام تعرف مبلغ تأثير مكانة أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله في بث العلوم والمعارف بين المسلمين. وهكذا أصحاب التفاسير العقلية كالفخر الرازي جعل أساس تفسيره الكبير على تفسير أبي الفتوح الرازي، فكان هذا اصلا له يرجع إليه وأساسا بيني عليه بنيانه، وبذلك تعرف مبلغ تأثر التفاسير المعروفة عند أهل السنة بتفاسير علماء الامامية سواء المنقول منها والمعقول. إذن فكما كانت الشيعة الامامية قدوة لسائر المسلمين في سائر العلوم الاسلامية، كذلك في علم التفسير الذي هو أهم العلوم وأخطرها وأعظمها شأنا. ولا مجال لتعداد ما كتب في التفسير على يد علماء الامامية حسب القرون، نعم يجدر بالذكر تفسير أبي النضر محمد بن مسعود العياشي – من علماء القرن الرابع الهجري – الذي فقد منه أكثره، ولا سيما وقد حذفت أسانيده لغاية الاختصار فيما بعد. فقد حرمنا من كمال فيض هذا التفسير القيم العظيم. وتفسير علي بن إبراهيم القمي – من علماء القرن الثالث – وهو تفسير بالمأثور كامل. ولكن الاهم من ذلك تفسير التبيان، ذلك التفسير الضخم القيم الذي قام بتأليفه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى عام 460 ه‍ وهو أول تفسير مدون جمع فيه من علوم القرآن أشتاته، وتوفرت فيه من صنوف التفسير أفنانه. ثم قام الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي – المتوفى عام 552 ه‍ – بتهذيبه وترتيبه مع إضافات في مجموعة باسم ” مجمع البيان ” تفسيرا جامعا رائعا. وفي هذا الاوان قام المفسر المضطلع الشيخ أبو الفتوح الحسين بن علي بن أحمد الخزاعي الرازي بتدوين مجموعة كبرى في علوم التفسير باسم ” روض الجنان وروح الجنان ” باللغة الفارسية القديمة خدمة لابناء عقيدته من امة الفرس الموالين لاهل البيت عليهم السلام. وهكذا استمر ظهور تفاسير قيمة عبر القرون المتتالية قد يطول الكلام بذكر


[ 10 ]

جميعها، وإنما نذكر ما يرتبط وموضوع تفسيرنا الحاضر. [ مذاهب تفسيرية: ] هناك نجد تنوعا في وجه التفاسير حسب تنوع الاختصاصات التي كان يحملها أرباب التفسير في مختلف العلوم والمعارف. فصاحب العلوم العقلية يبدو على تفسيره كثير من لمحات البراهين الفلسفية والاستدلالات العقلية منطبقا عليها وجوه الآيات المختلفة. وصاحب الحديث كان يهمه تفسير القرآن بالمأثور من روايات السلف. وصاحب الادب إنما أعجبته أساليب القرآن البلاغية في فنون المعاني والبيان والبديع، ورعاية قواعد اللغة والنحو والتصريف. وهكذا أصحاب القراءات وغيرهم في مختلف شؤون القرآن وهي كثيرة. ومن التفسير بالمأثور – بعد تفسير العياشي والقمي – تفسير الصافي للمولى محمد المحسن الفيض الكاشاني المتوفى سنة 1091 ه‍ وكان صاحب تفسيرنا الحاضر ” كنز الدقائق ” تلميذا له ومتأثرا باسلوبه في التفسير كثيرا، ونجد هذا التأثير جليا في تفسيره. كان الفيض قد مزج في تفسيره بين العقل والنقل حسبما عبر، فأتى بالمنقول من أحاديث أهل البيت عليهم السلام مردفا لها بما راقه من تأويلات عقلية قريبة أو بعيدة. الامر الذي نلمسه في تفسير الكنز بوضوح. وهكذا تأثر صاحبنا بتفسير آخر لم يحد عن طريقة المنقول وهو تفسير ” نور الثقلين ” لعبد العلي بن جمعة الحويزي المتوفى سنة 1053 ه‍. ولعله تتلمذ عنده أيضا. ونظيره البرهان في تفسير القرآن للمحدث الشهير السيد هاشم البحراني المتوفى عام 1107 ه‍، جمع فيه من شتات الاحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام حول لفيف من آيات القرآن. [ تفسير كنز الدقايق وبحر الغرائب: ] أما تفسيرنا الحاضر فهو حصيلة ما سبقه من امهات تفاسير


[ 11 ]

أصحابنا الامامية، جمع فية من لباب البيان وعباب التعبير أينما وجده طي الكتب والتاليف السالفة. فقد اختار حسن تعبير أبي سعيد عبد الله بن عمر الشيرازي البيضاوي في تفسيره ” أنوار التنزيل وأسرار التأويل ” كما فعله استاذه وشيخه المقدم – المولى الفيض الكاشاني في الصافي – من قبل. كما انتخب من اسلوب الطبرسي في المجمع ترتيبه وتبويبه، مضيفا إليه ما استحسنه من كشاف الزمخشري وحواشي العلامة الشيخ البهائي، كما صرح هو في مقدمة تفسيره. فصار تأليفه مجموعة خير الاقوال وأحسن الآثار، حسبما جاء في تقريظ العلمين ” المجلسي والخوانساري ” على الكتاب. قال السيد الامين: وجدنا من كتاب كنز الدقائق مجلدا كبيرا مخطوطا وعلى ظهر النسخة تقريظ بخط آقا جمال الدين الخوانساري قال فيه: أما بعد، فقد أيد الله تعالى بفضله الكامل، جناب المولى العالم العارف الالمعي الفاضل، مجمع فضائل الشيم، جامع جوامع العلوم والحكم، عالم معالم التنزيل وأنواره، عارف معارف التأويل وأسراره، حلال كل شبهة عارضة، كشاف كل مسألة دقيقه غامضة، الذي أحرق بشواظ طبعه الوقاد شوك الشكوك والشبهات، ونقد بلحاظ ذهنه النقاد نقود الاحكام الشرعية المستفادة من الآيات والروايات، أعني المكرم بكرامة الله الاحد الصمد، مولانا ميرزا محمد، أعانه الله في كل باب، وأثابه جزيل الثواب، إذ وفقه الله لتأليف هذا الكتاب الكريم في تفسير القرآن، وجمعه من التفاسير المعتبرة، وسائر كتب الاخبار المشتهرة، فهو كاسمه ” كنز الدقائق وبحر الغرائب ” الذي يصادف بغوص النظر فيه أصداف درر الحقائق، فنفع الله به الطالبين، وجعله ذخرا لمؤلفة الفاضل يوم الدين. وأنا العبد المفتقر إلى عفو ربه الباري، جمال الدين محمد بن حسين الخوانساري، أعانهما الله تعالى يوم الحساب، وأوتيا فيه بيمينهما الكتاب. وقد كتب ذلك في شهر محرم الحرام من شهور سنة 1107. وكتب المجلسي عليه أيضا – بعد البسملة ما صورته -: لله در المولى الاولى الفاضل الكامل المحقق المدقق البدل النحرير، كشاف دقائق المعاني بفكره الثاقب، ومخرج جواهر الحقائق برأيه الصائب، أعني الخبير الاسعد الارشد مولانا ميرزا محمد، مؤلف هذا التفسير، لا زال مؤيدا بتأييدات الرب القدير. فلقد أحسن وأتقن، وأفاد وأجاد فسر الآيات


[ 12 ]

البينات بالآثار المروية عن الائمة الاطياب، فامتاز من القشر اللباب، وجمع بين السنة والكتاب، وبذل جهده في استخراج ما تعلق بذلك من الاخبار، وضم إليها لطائف المعاني والاسرار، جزاه الله عن الايمان وأهله خير جزاء المحسنين، وحشره مع الائمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين. كتب بيمناه الوزارة الداثرة أفقر العباد إلى عفو ربه الغني محمد باقر بن محمد تقي، اوتيا كتابهما بيمناهما، وحوسبا حسابا يسيرا، في يوم عيد الغدير المبارك من سنة ألف ومائة واثنتين، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة على سيد المرسلين محمد وعترته الاكرمين الاطهرين (1). ومن هذين التقريظين من هذين العلمين تعرف قيمة هذا التفسير ومحله الارقى من التحقيق والجمع والتدقيق. كما يبدو منهما جلالة مؤلفه ومكانته السامية من العلم والادب والفضيلة. والامر كذلك بعد مراجعة التفسير نفسه فإنه – رحمه الله – وان جهد في مراجعة امهات كتب التفسير والحديث مضافا إلى الادب والبيان، لكنه بفضل تضلعه في فنون الادب واللغة والفقه والتفسير والحديث والكلام والحكمة المتعالية نراه قد أخذ ولكن أخذ تحقيق، ونقل ولكن نقل تمحيص، مصداقا لقوله تعالى: ” الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ” (2) وهذا هو عين التحقيق وليس تقليدا مقيتا كما زعم. وعليه فبحق أقول: إن هذا التفسير جامع كامل وكاف شاف، يغني عناء مراجعة كثير من التفاسير المعتبرة بعد هذا الغناء والكفاية، فلله در مؤلفه وجزاه الله عن الاسلام والقرآن خير جزاء. وإليك ما ذكره العلامة المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني بشأن هذا التفسير، قال: وهذا التفسير مقصور على ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام نظير تفسير ” نور الثقلين ” لكنه أحسن منه بجهات: لذكره الاسانيد، وبيان ربط الآيات وذكر الاعراب، وكأنه مقتبس منه لكنه بزيادات فصار أكبر حجما. وقد يتكلم بما هو مخالف لما في


(1) أعيان الشيعة: ج 9 ص 408 ط دار التعارف، بيروت. (2) الزمر: 18 (*)

[ 13 ]

نور الثقلين (1). وقال المحقق النوري: هو من أحسن التفاسير وأجمعها وأتمها وهو أنفع من الصافي ونور الثقلين (2). [ شخصية المؤلف: ] عنون نفسه في مقدمة تفسيره بأنه: ميرزا محمد المشهدي ابن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي. و ” ميرزا ” كلمة مخففة من ” ميرزاده ” أي ولد الامير. و ” مير ” يرادف كلمة ” السيد ” أو ” الرئيس ” أو ” صاحب الولاية ” تقريبا. وقد اصطلح على تلقيب من انتمى إلى سلالة السادة العلوية من جهة امه ب‍ ” ميرزا “، وإن اشتهر إطلاقه على صاحب مهنة الكتابة، ولا سيما لدى الامراء والاشراف. وكان قد تداول إطلاقه على أولاد السلاطين وأصحاب الشرف في العهد الصفوي وفي عهد القاجار خصوصا (3). والنسبة إلى ” مشهد ” باعتبار ولادته بها واتخاذها موطنا أصليا لحياته العلمية والدراسية. أما النسبة إلى ” قم ” فلعلها موطن أسلافه. ومن ثم جعل النسبة الاولى قرينة باسمه، والثانية قرينة جده الاعلى. وهكذا استنبط السيد الامين، حيث قال: المشهدي المولد والمسكن القمي الاصل (4). على أن المؤلف يصرح في كثير من تآليفه أنه تم تأليفه في مشهد، قال بشأن كتابه ” إنجاح الطالب ” – شرح منظومة في البلاغة -: وكان تأليفه في 29 شهر رمضان بمدينة مشهد سنة 1075 ه‍. وفي شرحه للمنظومة الصرفية: إنه درسها لولده إسماعيل وكتب عليها شرحه المسمى ب‍ ” الفوائد الشارحة ” سنة 1090 ه‍ في مدينة مشهد. والظاهر أن تقريظ العلامة المجلسي للتفسير مؤرخا بيوم الغدير سنة 1102 كان أيضا بمشهد في


(1) الذريعة: ج 18 ص 152. (2) الفيض القدسي: ص 100. (3) راجع ” لغت نامه دهخدا ” حرف ” مير ” (4) أعيان الشيعة: ج 9 ص 408. (*)

[ 14 ]

زيارة زار بها الامام الرضا عليه السلام بتلك المناسبة. وقد صادف فراغه من الجزء الرابع كما أرخه بأنه فرغ من تأليف هذا الجزء سنة 1102 ه‍ في مشهد، كما جاء في تاريخ الفراغ من الجزء الثالث سنة 1097 ه‍ يوم الغدير. ويبدو من كلام صاحب الروضات أن والد المترجم كان قد تتلمذ على العلامة المتبحر الشيخ البهائي – المتوفى سنة 1031 ه‍ – قال في عرض كلامه عن كتاب ” الفهرس ” تأليف الشيخ منتجب الدين: ورأيت في تبريز نسخة منه بخط بعض الافاضل، ولعله المولى محمد رضا المشهدي تلميذ الشيخ البهائي. وقد نقلت عن نسخة والد البهائي (1). وظاهر هذا الكلام أن والد المترجم أيضا كان مشهديا، وبذلك يقرب القول بأن ولادة المترجم كانت في مدينة مشهد. وللشيخ البهائي إقامة طويلة في مشهد بصحبة والده أيام تصديه لشيخوخة الاسلام في منطقة خراسان في عهد الشاه طهماسب الصفوي، حيث عرض عليه تصديه لبث دعوة التشيع في تلك الديار فقبل، وكان له الاثر البالغ في استبصار أهل تلك البلاد، وكانت دار الشيخ معروفة بجوار مشهد الرضا عليه السلام وهي التي دفن فيها بعد نقل جثته الكريمة من اصفهان، والحقت أخيرا بأروقة الحرم الرضوي. ثناء العلماء له ولتفسيره: مر ثناء مثل العلامة المجلسي للمترجم ولتفسيره في التقريظ الذي تقدم نقله، قال فيه: الفاضل الكامل المحقق البدل النحرير كشاف دائق المعاني بفكره الثاقب، ومخرج جواهر الحقائق برأيه الصائب… وهذا الاطراء من مثل العلامة المجلسي ليس جزافا لولا أنه عرفه بالعلم والفضيلة والدقة والتحقيق الصائب. وهكذا ما ورد في تقريظ المحقق الخوانساري: مجمع فضائل الشيم، جامع جوامع العلوم والحكم… حلال كل شبهة عارضة، كشاف كل مسألة دقيقة غامضة… فلولا أنهم لمسوا من شخصيته الفذة دقة وتحقيقا في المسائل العلمية لما أثنوا


(1) روضات الجنات: ج 4 ص 319. (*)

[ 15 ]

هذا الثناء البالغ. وقال صاحب الروضات: كان فاضلا عالما عاملا جامعا أدبيا محدثا فقيها مفسرا نبيها، وله كتاب كبير في التفسير بأحاديث أهل بيت العصمة لم يسبقه إلى وضع مثله أحد ممن سبقه، فقد فاق تفسير نور الثقلين بذكر الاسانيد والكلام عن صلة الآيات بعضها مع بعض، وحل مشكلات ألفاظها ووجوه إعرابها وبيان اللغة والقراءات… إنتهى ملخصا (1). وهذا الوصف عن تفسيره هو الحق، فإنه تفسير جامع يحتوي على ذكر ما ورد من روايات أهل البيت عليه السلام ثم على سائر الجهات مما يرتبط بشأن القراءات والتنزيل ووجوه الاعراب واللغة ودقائق الادب إلى جنب رقائق الفلسفة والحكمة والعرفان، مما لا يستغني عنه طالب التفسير في المعاهد العلمية، ولا سيما الطلبة الافاضل عند درس الآيات الكريمة. ويذكر صاحب الروضات أنه من معاصري المولى محمد باقر المجلسي والمولى محمد باقر الخوانساري والمولى محمد محسن الفيض الكاشاني. ويذكر المحقق النوري أنه من تلامذة المجلسي الثاني صاحب البحار (2). ولم يستبعد صاحب الروضات كونه من تلامذة الفيض الكاشاني أيضا. وتقدم كلام النوري عن تفسيره: من أحسن التفاسير وأجمعها وأتمها، وهو أنفع من الصافي ونور الثقلين. [ سائر تآليفه وتاريخ حياته: ] لشيخنا المترجم – سوى التفسير المذكور – تآليف اخر منها: ” التحفة الحسينية ” – بالفارسية – في الاعمال والآداب والادعية والاذكار. وهو المعروف عنه بكتاب ” أعمال السنة ” وقد وصفه صاحب الروضات بأنه لطيف الوضع كثير الفائدة. ورسالة في أحكام الصيد والدباحة، قال السيد الامين: إنه كتاب استدلالي


(1) روضات الجنات: ج 7 ص 110 و 111. (2) الفيض القدسي. بحار الانوار ج 102 ص 100، مؤسسة الوفاء، ط بيروت. (*)

[ 16 ]

كبير. ورسالة في تواريخ الائمة المعصومين عليهم السلام في 14 مقالة سماها ” كاشف الغمة “. وشرح كامل على منظومة في البلاغة لابن شحنة الحنفي شرحها شرحا وافيا وسماها ” إنجاح المطالب في الفوز بالمآرب “. ورسالة في فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام سماها ” سلم درجات الجنة ” كتبها بالفارسية. وشرح موجز على الصحيفة السجادية، وشرح على الزيارة الرجبية، وشرح على المنظومة الصرفية، وحواش على الكشاف، وعلى حواشي البهائي على البيضاوي، وغير ذلك. ويجدر بالذكر إنه رحمه الله قد أرخ أكثر تآليفه وتتراوح هذه التواريخ ما بين عام 1074 ه‍ حيث شرح منظومة البلاغة، وعام 1102 ه‍ حيث فرغ من الجزء الرابع من تفسيره، ولعله من اخريات تآليفه، ولم نجد له كتابا مؤرخا بعد هذا التاريخ، ولعل هذه الفترة – الربع الاخير من القرن الحادي عشر – كانت أوفر أيام حياته النابضة بالحركة العلمية الناتجة، ولكن كتابة كتاب ” سلم الدرجات ” وكذا تأليف ” التحفة الحسينية ” في زمان الشاه حسين الصفوي يعطي ان حياته التأليفية استمرت حتى بعد عام 1106 ه‍ لان الشاه المذكور قد تصدر عرش الحكم من 1106 ه‍ إلى 1135 ه‍. فمن المحتمل القريب أن شيخنا المترجم عاش من حوالي منتصف القرن الحادي عشر فإلى حوالي نهاية الربع الاول من القرن الثاني عشر. فلعله من العقد الخامس من القرن 12، لو اعتبرنا متوسط الاعمار سبعين عاما. هذا ما عثرت عليه من تاريخ حياة المؤلف وعن آثاره العلمية على قلة المصادر المترجمة له، وقصورها عن الوفاء بذكر جوانب حياته المتنوعة. وكم له في خمول الذكر من نظير، ولا سيما أرباب الادب والكمال. والحمد لله على كل حال، وصلى على محمد وآله الطاهرين. قم – محمد هادي معرفة الجمعة 9 شهر الصيام المبارك 1407 المصادف 18 / 2 / 1366


[ 17 ]

الصفحة الاولى من نسخة مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي دام ظله


[ 18 ]

الصفحة الاخيرة من آخر سورة البقرة من نسخة مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي دام ظله


[ 19 ]

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وجعله للناس بشيرا ونذيرا وبين فيه لاولي الالباب بينات، وجعله تبيان كل شئ وسراجا منيرا، أنزله بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب، وأنطقه بالصدق لما يعول عليه من الرب، يقضي له بصفة القدم كل شئ بجوهر ذاته، يفضي إلى الحكم بسرمديته حدوث معلولاته وسمائه، فيا له من حكيم بما له من قدرته في كل ما دبر وأتقن من أفعاله، أبت حكمته أن يرضى لخلقه السوء والفحشاء، وارتفعت قدرته أن يجري شئ إلا ما شاء الله. والصلاة والسلام والتحية من كل الانام، على خير الانبياء ونير الاصفياء، المدعو مجيب الله في الارض والسماء محمد المصطفى على البرية بالخلق والفضائل المرضية، المبعوث بكتاب أزعج بفصاحته مصاقع (1) الخطباء، وأبكم ببلاغته شقاشق (2) البلغاء، وعلى الائمة الهادين من عترته الراشدين، صلاة تامة دائمة توازي غناءهم وتجازي تمناءهم، وسلم تسليما كثيرا كثيرا. أما بعد: فيقول الفقير إلى رحمة الله ربه الغني ميرزا محمد المشهدي بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي: إن أولى ما صرفت في تحصيله كنوز الاعمار،


(1) المصقع: أي البليغ الماهر في خطبته، وهو مفعل من الصقع، أي رفع الصوت ومتابعته، ومفعل من أبنية المبالغة. النهاية لابن الاثير: ج 3، ص 42. (2) الشقاشق: جمع شقشقة، الجلدة الحمراء التي يخرجها الجمل العربي من جوفه ينفخ فيها فتظهر من شدقه ولا تكون إلا للعربي. شبه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر ولسانه بشقشقته. النهاية لابن الاثير: ج 2، ص 489 – 490. (*)

[ 20 ]

وأنفقت في نيله المهج والافكار، علم التفسير الذي هو رئيس العلوم الدينية و رأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه، إلا من فاق في العلوم الدينية كلها، والصناعات الادبية بأنواعها. وقد كنت فيما مضى قد رقمت تعليقات على التفسير المشهور للعلامة الزمخشري (1) وأجلت النظر فيه، ثم على الحاشية للعلامة النحرير والفاضل المهرير (2) الشيخ الكاملي (3) بهاء الدين العاملي (4) ثم سنح لي أن اؤلف تفسيرا يحتوي على دقائق أسرار التنزيل ونكات أبكار التأويل، مع نقل ما روي في التفسير والتأويل عن الائمة الاطهار والهداة الابرار، إلا أن قصور بضاعتي يمنعني عن


(1) هو جار الله أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري وكان متضلعا في التفسير والنحو واللغة، له تصانيف مشهورة معروفة. منها: الكشاف عن حقائق التنزيل، وأساس البلاغة، والانموذج، والفائق، وربيع الابرار. ولد سنه 467 هجرية بزمخشر، وتوفى سنه 538 هجرية بجرجانية خوارزم. الكنى والالقاب: ج 2، ص 267. (2) مهر في العلم وغيره يمهر بفتحتين مهورا ومهارة فهو ماهر: اي حاذق عالم بذلك. المصباح المنير: ص 582. (3) الكامل: من تمت صفاته. المنجد ص 698 في مادة ” كمل “. (4) هو شيخ الاسلام والمسلمين بهاء الملة والدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي الحارثي. ولد ببعلبك سنة 953 هجرية، وانتقل مع والده إلى اصفهان، وتتلمذ على يد والده وجهابذة العلم حتى صار في بلاد ايران شيخ الاسلام وفوضت إليه امور الشريعة. له مصنفات فائقه مشهورة أكثرها مطبوعة منها: حبل المتين، ومشرق الشمسين، والاربعين، والجامع العباسي، والكشكول، والمخلاة، والعروة الوثقى، ونان وحلوا، والزبدة، والصمدية، وخلاصة الحساب، وتشريح الافلاك، والرسالة الهلالية، ومفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة وغير ذلك من الكتب الاخرى التي تكشف عن تضلعه بمختلف العلوم والفنون. هذا مضافا إلى مخترعاته الكثيرة التي لا تزال بعضها موجودة لحد الآن في ايران. وتوفى (قدس سره) سنه 1031 هجرية باصفهان، ودفن في مشهد المقدس قريبا من الحضرة الرضوية على ساكنها آلاف التحية والسلام. (*)

[ 21 ]

الاقدام، ويثبطني عن الانتصاب في هذا المقام، حتى وفقني ربي للشروع فيما قصدته والاتيان بما أردته، ومن نيتي أن اسميه بعد إتمامه ب‍ (كنز الدقائق وبحر الغرائب) ليطابق اسمه ما احتواه ولفظه معناه. فرات بن إبراهيم الكوفي (1) استاذ المحدثين في زمانه قال في تفسيره: حدثنا أحمد بن موسى، قال: حدثني الحسن بن ثابت، قال: حدثني أبي، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم، عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) يد علي (عليه السلام) فقال: إن القرآن أربعة أرباع: ربع فينا – أهل البيت – خاصة، وربع في أعدائنا، وربع حلال وحرام، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن (2). وقال أيضا: حدثنا أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن صبيح، والحسن بن علي بن الحسن بن عبيدة بن عقبة بن نزار بن سالم السلولي، قالا: حدثنا محمد بن الحسن بن مطهر، قال: حدثنا صالح – يعني ابن الاسود – عن جميل بن عبد الله النخعي، عن زكريا بن ميسرة، عن أصبغ بن نباتة قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): أقول: القرآن أربعة أرباع، فربع فينا، وربع في أعدائنا، وربع سنن وأمثال، و ربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن (3). وقال أيضا: حدثنا أبو الخير مقداد بن علي الحجازي المدني، قال حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن العلوي الحسني قال: حدثنا محمد بن سعيد بن رحيم الهمداني، ومحمد بن عيسى بن زكريا قالا: حدثنا عبد الرحمن بن سراج قال: حدثنا حماد بن أعين، عن الحسن بن عبد الرحمن، عن الاصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: القرآن أربعة أرباع، ربع فينا، وربع في أعدائنا، وربع فرائض وأحكام، وربع حلال وحرام، ولنا كرائم القرآن (4).


(1) هو فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، أحد علماء الحديث في القرن الثالث، عاش في عصر الامام الجواد عليه الصلاة والسلام. (2) تفسير فرات الكوفي: ص 3. (3) تفسير فرات الكوفي: ص 3. (4) تفسير فرات الكوفي: ص 2. (*)

[ 22 ]

واعلم أن للقرآن بطنا وللبطن بطن، وله ظهر وللظهر ظهر، فإذا جاءك عنهم صلوات الله عليهم شئ وله باطن فلا تنكره، لانهم أعلم به. يدل على هذا ما رواه صاحب شرح الآيات الباهرة عن علي بن محمد، عن محمد بن الفضيل، عن شريس، عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شئ من تفسير القرآن، فأجابني، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر ! فقلت: جعلت فداك، أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا. فقال لي: يا جابر، إن للقرآن بطنا وللبطن بطن، وله ظهر وللظهر ظهر، وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، وإن الآية أولها في شئ وآخرها في شئ، وهو كلام متصل يتصرف عن وجوه (1). ويؤيده ما رواه عن الشيخ أبي جعفر الطوسي بإسناده إلى الفضل بن شاذان، عن داود بن كثير قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أنتم الصلاة في كتاب الله عزوجل، وأنتم الزكاة، وأنتم الحج ؟ فقال: يا داود، نحن الصلاة في كتاب الله عزوجل، ونحن الزكاة، ونحن الصيام، ونحن الحج، ونحن الشهر الحرام، ونحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قبلة الله، ونحن وجه الله. قال الله تعالى: ” فاينما تولوا فثم وجه الله ” (2) ونحن الآيات ونحن البينات، وعدونا في كتاب الله عزوجل الفحشاء، والمنكر، والبغي، والخمر، والميسر، والانصاب، والازلام، والاصنام، والاوثان، والجبت، والطاغوت، والميتة، والدم، ولحم الخنزير، يا داود إن الله خلقنا وأكرم خلقنا، وفضلنا وجعلنا امناءه وحفظته وخزانه على ما في السماوات وما في الارض، وجعل لنا أضدادا وأعداء، فسمانا في كتابه، وكنى عن أسمائنا بأحسن الاسماء وأحبها إليه وإلى عبادة المتقين (3).


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 11، ح 2. وفيه: يتصرف على وجوه. (2) سورة البقرة: الآية 115. (3) بحار الانوار: ج 24، باب 66، ص 303، ح 14. وفيه زيادة بعد قوله: وأحبها إليه، وإليك نصه: ” وسمى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنى عن أسمائهم، وضرب لهم الامثال في كتابه في أبغض الاسماء إليه ” (*)

[ 23 ]

[ سورة الفاتحة ] في مجمع البيان: روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن النبي (عليهم السلام): لما أراد الله عزوجل أن ينزل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، و شهد الله، وقل اللهم مالك الملك – إلى قوله – بغير حساب، تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب، تهبطنا إلى دار الذنوب، وإلى من يعصيك، ونحن معلقات بالطهور والقدس ؟ فقال: وعزتي وجلالي، ما من عبد قرأ كن في دبر كل صلاة إلا اسكنه حظيرة القدس على ما كان فيه، ونظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو ونصرته عليه، ولا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت (1). وفي كتاب ثواب الاعمال: بإسناده: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اسم الله الاعظم مقطع في ام الكتاب (2). وفي كتاب الخصال: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رن إبليس أربع رنات: أولهن يوم لعن، وحين اهبط إلى الارض، وحين بعث محمد على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت ام الكتاب (3).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 426 ذيل الآية: 26 من سورة آل عمران، ” قل اللهم مالك الملك “. (2) ثواب الاعمال: ص 130، ح 1. (3) الخصال: ص 263. (*)

[ 24 ]

وعن الحسن بن علي (عليهما السلام) – في حديث طويل – قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم عن أشياء، فكان فيما سأله: أخبرنا عن سبع خصال أعطاك الله من بين النبيين، وأعطى أمتك من بين الامم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أعطاني الله فاتحة الكتاب. إلى قوله: صدقت يا محمد، فما جزاء من قرأ فاتحة الكتاب ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ فاتحة الكتاب أعطاه الله بعدد كل آية نزلت من السماء ثواب تلاوتها (1). وعن جابر، عن النبي (صلى الله عليه وآله) – حديث طويل يقول فيه حاكيا عن الله تعالى -: وأعطيت أمتك كنزا من كنوز عرشي فاتحة الكتاب (2). وفي أصول الكافي: محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عبد الله بن فضل النوفلي – رفعه – قال: ما قرأت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن (3). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لو قرءت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا (4). وفي عيون الاخبار: حدثنا محمد بن القاسم المفسر، المعروف ب‍ أبي الحسن الجرجاني (رضي الله عنه) قال: حدثنا يوسف بن محمد بن زياد، وعلي بن محمد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن بن علي، عن أبيه علي بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه الرضا على بن موسى، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن الله تبارك وتعالى قال لي: ” ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم ” فأفرد علي الامتنان بفاتحة


(1) الخصال: ص 355. (2) علل الشرائع: باب 106، ص 127 – 128، ح 3. قطعة منه (3) الكافي: ج 2، باب فضل القرآن، ص 623، ح 15. (4) الكافي: ج 2، باب فضل القرآن، ص 623، ح 16. (*)

[ 25 ]

الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإن الله عزوجل خص محمدا وشرف بها ولم يشرك معه فيها أحدا من أنبيائه، ما خلا سليمان (عليه السلام) فإنه أعطاه منها ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ألا ترى أنه يحكي عن بلقيس حين قالت: ” إنى القي إلي كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ” ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد وآله الطيبين، منقادا لامرهما مؤمنا بظاهرهما وباطنهما أعطاه الله تعالى بكل حرف منها حسنة، كل واحدة منها أفضل له من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرؤها كان له بقدر ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فإنه غنيمة لا يذهبن أو انه فتبقى في قلوبكم الحسرة (1). وفي تفسير العياشي: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني عن أبيه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اسم الله الاعظم مقطع في أم الكتاب (2). عن محمد بن سنان، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه (عليهم السلام) قال: قال لابي حنيفة: ما سورة أولها تحميد، وأوسطها إخلاص، وآخرها دعاء ؟ فبقي متحيرا ثم قال: لا أدري، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): السورة التي أولها تحميد، وأوسطها إخلاص، وآخرها دعاء، سورة الحمد (3). عن إسماعيل بن أبان – يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) – قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله: يا جابر ألا اعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه ؟ قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وامي – يا رسول الله


(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 301، ح 60، وصدر الحديث هكذا ” عن أبيه الرضا علي بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أخيه الحسن بن علي (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات تمامها بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إلى آخره. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 19، ح 1، وقد تقدم سابقا. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 19، ح 2. (*)

[ 26 ]

علمنيها، قال: فعلمه الحمد لله أم الكتاب، قال: ثم قال له: يا جابر، ألا أخبرك عنها ؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي فأخبرني، قال: هي شفاء من كل داء إلا السام، يعني الموت (1). عن أبي بكر الحضرمي، قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كانت لك حاجة فاقرأ المثاني، وسورة اخرى وصل ركعتين وادع الله، قلت: أصلحك الله وما المثاني ؟ قال: فاتحة الكتاب (2). * * *


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 20، ح 9، وفي الوسائل: ج 4، باب 37، من أبواب قراءة القرآن، ح 8. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 21، ح 11، وتمام الحديث (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين). (*)

[ 27 ]

[ بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) ملك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين: مكية، قيل: ومدنية أيضا، لانها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، وبالمدينة لما حولت القبلة إليها. سبع آيات بالاتفاق، إلا أن بعضهم عد ” بسم الله الرحمن الرحيم ” آية، دون ” انعمت عليهم ” وهم: الامامية، وقراء مكة والكوفة، وفقهاؤهما، وابن المبارك، والشافعي. ومنهم: من عكس وعليه قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها، ومالك، والاوزاعي. واستدلت الامامية بما روي في تفسير أبي محمد العسكري (عليه السلام)، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن ” بسم الله الرحمن الرحيم ” آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات، تمامها ” بسم الله الرحمن


[ 28 ]

الرحيم ” (1). وفي تفسير العياشي: عن يونس بن عبد الرحمان، عمن رفعه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى ” ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم “، قال: هي سورة الحمد، وهي سبع آيات، منها ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وإنما سميت المثاني، لانها تثنى في الركعتين (2). وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سرقوا أكرم آية في كتاب الله ” بسم الله الرحمن الرحيم ” (3). وفي تهذيب الاحكام: محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي ايوب، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني والقران العظيم، هي الفاتحة ؟ قال: نعم، قلت: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” من السبع المثاني ؟ قال: نعم، هي أفضلهن (4). وفي عيون الاخبار بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، حديث طويل، وفيه قيل لامير المؤمنين: أخبرنا عن ” بسم الله الرحمن الرحيم ” أهي آية من فاتحة الكتاب ؟ قال: نعم، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرؤها ويعدها منه، و يقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني (5). وبإسناده عن الرضا، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات، تمامها ” بسم الله الرحمن الرحيم ” (6). وفيه عن الرضا (عليه السلام) قال: والاجهار ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” في


(1) تفسير العسكري: ص 10. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 19، ح 3. (3) تفسير البرهان: ج 1، ص 42، ح 15. (4) التهذيب: ج 2، باب 15، ص 289، ح 13. (5) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 301، ذيل ح 59. (6) الوسائل: ج 4، باب 11، باب أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ص 747، ح 9. (*)

[ 29 ]

جميع الصلاة سنة (1). وعن الرضا (عليه السلام): أنه كان يجهر ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” في جميع صلاته بالليل والنهار (2). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن معاوية بن عمار قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): إذا قمت للصلاة أقرأ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” في فاتحة الكتاب ؟ قال: نعم، قلت: فإذا قرأت فاتحة الكتاب أقرأ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” مع السورة ؟ قال: نعم (3). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن مهزيار، عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك، ما تقول في رجل إبتداء ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” في صلاته وحده في ام الكتاب، فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها، فقال العباسي: ليس بذلك بأس. فكتب (عليه السلام) بخطه: يعيدها مرتين، على رغم أنفه، يعني العباسي (4). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صفوان الجمال، قال: صليت خلف أبي عبد الله (عليه السلام) أياما، فكان إذا كانت صلاة لا يجهر فيها، جهر ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وكان يجهر في السورتين جميعا (5). وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن اذينة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ” بسم الله الرحمن الرحيم ” أحق ما جهر به، وهي الولاية التي قال الله عزوجل: ” وإذا ذكرت ربك في القرآن ولوا على أدبارهم نفورا ” (6).


(1) الوسائل: ج 4، باب 21، باب استحباب الجهر بالبسملة في محل الاخفات، ص 758، ح 6. (2) الوسائل: ج 4، باب 21، باب استحباب الجهر بالبسملة في محل الاخفات ص 758، ح 7. (3) الكافي: ج 3، باب قراءة القرآن، ص 312، ح 1. (4) الكافي: ج 3، باب قراءة القرآن، ص 313، ح 2، والعباسي، هو هشام بن ابراهيم العباسي، وكان يعارض الرضا، والجواد (عليهما السلام)، نقلا عن هامش الكافي نفس المصدر السابق. (5) الكافي: ج 3، باب قراءة القرآن، ص 315، ح 20. (6) تفسير القمي: ج 1، ص 28. (*)

[ 30 ]

وفي مجمع البيان: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى من علي بفاتحة الكتاب من كنز الجنة، فيها ” بسم الله الرحمن الرحيم ” الآية التي يقول الله تعالى: ” وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على ادبارهم نفورا ” (1). وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله يجهر ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ويرفع بها صوته، فإذا سمعها المشركون ولوا مدبرين، فأنزل الله: ” إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ” (2). وفيه عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) قال: بلغه أن أناسا ينزعون ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فقال: هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان (3). عن خالد المختار قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: ما لهم – قاتلهم الله – عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله، فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها، وهي ” بسم الله الرحمن الرحيم ” (4). وفي كتاب الخصال: عن الاعمش، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: والاجهار ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” في الصلاة واجب (5). واعلم أن بعض تلك الاخبار يدل على أنها آية، وبعضها يؤيده. * * *


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 31، عند قوله: ” المعنى واللغة “. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 20، ح 6، والحديث عن أبي جمزه. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 21، ح 12. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 21، ح 16. (5) الخصال: باب المائة فما فوقه: ص 603، ح 9. (*)

[ 31 ]

[ وأما فضلها ] ففي تفسير العياشي: عن صفوان الجمال قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أنزل الله من السماء كتابا إلا وفاتحته ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وإنما كان يعرف إنقضاء السورة بنزول ” بسم الله الرحمن الرحيم ” إبتداء للاخرى (1). وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن علي بن الحسن بن علي، عن عباد بن يعقوب، عن عمرو بن مصعب، عن فرات بن أحنف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أول كل كتاب نزل من السماء ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فإذا قرأت ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فلا تبال أن لا تستعيذ، وإذا قرأت ” بسم الله الرحمن الرحيم ” سترتك فيما بين السماء والارض (2). ويمكن الجمع بين هذين الخبرين وخبر سليمان السابق: أن غير سليمان أعطي البسملة بغير العربية، وسليمان اعطيها بالعربية. وفي اصول الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تدع ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وإن كان بعده شعر (3). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن الحسن بن على، عن يوسف بن عبد السلام، عن سيف بن هارون – مولى آل جعدة – قال: قال


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 19، ح 5. (2) الكافي: ج 3، باب قراءة القرآن، ص 313، ح 3. (3) الكافي: ج 2، كتاب العشرة، ص 493، ح 1. (*)

[ 32 ]

أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب ” بسم الله الرحمن الرحيم ” من أجود كتابك، ولا تمد الباء حتى ترفع السين (1). عنه، عن علي بن الحكم، عن الحسن بن سري، أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تكتب: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” لفلان، ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب، لفلان (2). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إدريس الحارثي، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا مفضل، إحتجبوا من الناس كلهم ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وب‍ ” قل هو الله احد ” اقرأها عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك. وإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه، ثلاث مرات، واعقد بيدك اليسرى، ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده (3). وفي كتاب التوحيد: بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، حديث طويل، وفيه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من حزنه أمر يتعاطاه، فقال ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وهو يخلص لله ويقبل بقلبه إليه، لم ينفك من إحدى اثنتين، إما بلوغ حاجته في الدنيا، وإما يعد له عند ربه ويدخر لديه، وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين (4). وفيه: عن الصادق (عليه السلام)، حديث طويل، وفيه: ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فيمتحنه الله عزوجل بمكروه، لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى والثناء عليه، ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول ” بسم الله الرحمن الرحيم ” (5).


(1) الكافي: ج 2، كتاب العشرة، باب النوادر، ص 672، ح 2. (2) الكافي: ج 2، كتاب العشرة، باب النوادر، ص 672، ح 3. (3) الكافي: ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 624، ح 20، وفيه يا مفضل احتجز من الناس. (4) التوحيد: باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم، ص 231، قطعة من ح 5. (5) كتاب التوحيد: باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم، ص 232، قطعة من حديث 5. (*)

[ 33 ]

وفي تهذيب الاحكام: محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن حماد، بن زيد، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” أقرب إلى اسم الله الاعظم من ناظر العين إلى بياضها (1). وفي مهج الدعوات: باسناده إلى محمد بن الحسن الصفار، من كتاب فضل الدعاء، بإسناده إلى معاوية بن عمار، عن الصادق (عليه السلام) قال: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” اسم الله الاكبر، أو قال: الاعظم (2). وبرواية ابن عباس قال (صلى الله عليه وآله): ” بسم الله الرحمن الرحيم ” اسم من أسماء الله الاكبر، وما بينه وبين اسم الله الاكبر إلا كما بين سواد العين و بياضها (3). وفي عيون الاخبار: بإسناده إلى محمد بن سنان، عن الرضا (عليه السلام) قال: إن ” بسم الله الرحمن الرحيم ” أقرب إلى اسم الله الاعظم من سواد العين إلى بياضها (4). وفي كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى الصادق (عليه السلام)، حديث طويل يقول فيه (عليه السلام)، بعد أن حكى عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما رأى إذ عرج به، وعلة الاذان والافتتاح: فلما فرغ من التكبير والافتتاح قال الله عزوجل: الآن وصلت إلي فسم باسمي، فقال: ” بسم الله الرحمن الرحيم “، فمن ذلك جعل ” بسم الله الرحمن الرحيم ” في أول السورة، ثم قال: احمدني، فقال: ” الحمد لله رب العالمين ” وقال النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه: شكرا، فقال الله: يا محمد: قطعت حمدي فسم باسمي، فمن ذلك جعل في الحمد لله ” الرحمن الرحيم “


(1) التهذيب: ج 2، باب 15، من كيفية الصلاة وصفتها والمفروض من ذلك، ص 289، ح 15. (2) مهج الدعوات: ص 316. (3) مهج الدعوات: ص 319. (4) عيون اخبار الرضا: ج 2، باب 30، فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) في الاخبار المنثورة، ص 5، ح 11. (*)

[ 34 ]

مرتين، فلما بلغ ” ولا الضالين ” قال النبي (صلى الله عليه وآله): الحمد لله رب العالمين شكرا، فقال العزيز الجبار: قطعت ذكري فسم باسمي، فمن ذلك جعل ” بسم الله الرحمن الرحيم ” بعد الحمد في استقبال السورة الاخرى (1). وفي تفسير العياشي: قال الحسن بن حرزا: وروى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أم الرجل القوم جاء شيطان إلى الشيطان الذي هو قريب الامام فيقول: هل ذكر الله ؟ يعني هل قرأ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فإن قال: نعم، هرب منه، وإن قال: لا، ركب عنق الامام ودلى رجليه في صدره، فلم يزل الشيطان إمام القوم حتى يفرغوا من صلاتهم (2). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن ابي عمير، وصفوان بن يحيى جميعا – عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فإذا جعلت رجلك في الركاب فقل: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” بسم الله والله اكبر (3). بسم الله: الباء: متعلقه بمحذوف، تقديره، بسم الله أقرأ، لان الذي يتلوه مقروء، وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، دون أبدأ، لعدم ما يطابقه، أو إبتدائي لزيادة إضمار فيه. وتقديم المفعول هنا كما في ” بسم الله مجراها ومرساها ” لانه أهم، لكونه أدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود، فإن اسمه تعالى متقدم على القراءة من حيث أنه جعل آلة لها، من أجل أن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى. والباء للاستعانة، وقيل: للمصاحبة، والمعنى: متبركا باسم الله أقرأ، وهو أحسن لرعاية الادب. ولم يزد في هذا المقام على هذين الاحتمالين، وهذا وما بعده مقول على ألسنة


(1) علل الشرائع: ص 315، باب 1، من علل الوضوء والاذان والصلاة. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 20، ح 7. (3) الكافي: ج 4، باب القول إذا خرج الرجل من بيته، ص 285، قطعة من ح 2. (*)

[ 35 ]

العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ويحمد على نعمه. ويحتمل أنه تعال صدر كتابه به، للاشعار بأن التصدير به في كل فعل و تأليف أمر واجب، وإن كان مؤلفه هو الله سبحانه. والتعبير بلفظ الغائب للتعظيم، كقول بعض الخلفاء: الامير يأمرك بكذا. وكسر الباء، ولام الامر، ولام الاضافة داخلا على المظهر، وحق الحروف المفردة الفتح، لاختصاصها بلزوم الجر والامتياز عن لام الابتداء، وإنما كان حقها ذلك لانها أخت السكون في الخفة. والاسم عند أهل البصرة من الاسماء المحذوفة الاعجاز، لكثرة الاستعمال، المبنية أوائلها على السكون، وهى عشرة: اسم واست، وابن وابنة وابنم، و اثنان واثنتان، وامرؤ وامرأة وايمن في القسم عند البصرية، ادخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لان من رأيهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن، ومنهم من ابتدأ بتحريك الساكن، فقال: سم وسم فقال: بسم الذي في كل سورة سمه واشتقاقه من السمو، لانه رفعة للمسمى وإشارة إليه، ويدل عليه تصريفه على أسماء وأسامي، وسمي وسميت، ومجئ سمى كهدى، قال: والله أسماك سمى مباركا * آثرك الله به تباركا (1) – ومن المقلوبة الاوائل عند الكوفيين، أصله (وسم) قلبت واوه همزة. وقيل: حذفت واوه وعوضت عنها همزة الوصل، ليقل إعلاله. ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم. ورد بأن كلمة اتصر قد حذفت منها التاء وأدخلت عليها الهمزة. ورد ذلك بأن غير المعهود ما حذف صدره وادخلت عليه الهمزة، وهو ليس كذلك.


(1) لسان العرب: ج 14، ص 401، في مادة ” سما ” وفيه أربع لغات: إسم واسم بالضم، وسم و سم وينشد: والله أسماك سما مباركا * آثرك الله به إيثاركا – (*)

[ 36 ]

واجيب بكلمة (اكرم) فإنه حذف منه الهمزة التي [ هي ] صدره وأدخل عليه همزة المتكلم، فتأمل. والمراد منه اللفظ المغاير للمسمى، الغير المتألف من الاصوات، المتحد باختلاف الامم والاعصار، وإرادة المسمى منه بعيد، لعدم اشتهاره بهذا المعنى، وقوله تعالى: ” سبح اسم ربك الاعلى ” (1). المراد منه تنزيه اللفظ، أو هو مفحم فيه، كقوله: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *…………….. (2) – ورأي أبي الحسن الاشعري، أن المراد بالاسم الصفة، وهو ينقسم عنده إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما ليس هو ولا غيره. قيل: وهو عند أهل الظاهر من الالفاظ، فعلى هذا لا يصح قولهم: الاسم عين المسمى. وعند الصوفية عبارة عن ذات الحق والوجود المطلق، إذا اعتبرت مع صفة معنية وتجل خاص، فالرحمن مثلا، هو الذات الالهية مع صفة الرحمة، والقهار مع صفة القهر، فعلى هذا الاسم عين المسمى بحسب التحقق والوجود وإن كان غيره بحسب التعقل، والاسماء الملفوظة هي أسماء هذه الاسامي، وإضافته إلى الله على التقديرين لامية، والمراد به بعض أفراده التي من جملتها الله والرحمن والرحيم. ويمكن أن تراد به هذه الاسماء بخصوصها بقرينة التصريح بها. ويحتمل أن تكون الاضافة بيانية، أما على التقدير الثاني فظاهرة، وأما على الاول فبأن يراد بالاسماء الثلاثة أنفسها لا معانيها، ويكون الرحمن الرحيم جاريين على الله على سبيل الحكاية عما اريد به من المعنى، والاستعانة والتبرك بالالفاظ بإجرائها على اللسان وإخطار معانيها بالبال، وبالمعاني بإخطارها بالبال وإجراء ما


(1) سورة الاعلى: الآية 1. (2) قاله: لبيد، مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 20 وإليك تمام البيت:…………….. * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر – (*)

[ 37 ]

ناسبها على اللسان. واقحم الاسم لكون التبرك والاستعانه باسمه، والفرق بين اليمين واليمن، ولم يكتب الالف لكثرة الاستعمال، وتطويل الباء عوض عنه. ” والله “: أصله الاله – فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل (يا الله) بالقطع – علم الذات الواجب المستحق لجميع المحامد، وقد يستعمل في المعبود بالحق مجازا. والدليل على الاول أن كلمة (لا إله إلا الله) يفيد التوحيد من غير اعتبار عهد و غلبة ضرورة، وبالاتفاق من الثقات، فلو لم يكن علما لم يكن مفيدا، وهو ظاهر. وعلى الثاني قوله تعالى: ” وهو الله في السموات ” (1) قيل: لو لم يكن علما. فالمراد بكلمة (إله) الواقعة اسم (لا) أما مطلق المعبود، فيلزم الكذب، أو المعبود بالحق فيلزم استثناء الشئ عن نفسه. ورد، بأن المراد المعبود بالحق، ولا يلزم إستثناء الشئ عنه، لان كلمة (الله) صارت بالغلبة مختصة بفرد من مفهومها. وقيل: لانه يوصف ولا يوصف به، ولانه لابد له من اسم يجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه. ورد بأنه يمكن أن يقال: إنه كان في الاصل وصفا لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره، صار كالعلم، مثل: الثريا والصعق، أجري مجراه في إجراء الوصف عليه. واستدل الذاهبون إلى أنه كان في الاصل وصفا فغلب، بأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، وبأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله تعالى: ” وهو الله في السموات ” معنى صحيحا، وبأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين بعض الالفاظ. والجواب عن الاول: أنه يكفي في الوضع ملاحظة الذات المخصوصة بوجه، وهو


(1) سورة الانعام: الآية 3. (*)

[ 38 ]

معقول للبشر. وعن الثاني: بأنا قد بينا أنه يطلق على مفهوم المعبود مجازا. وعن الثالث: بأن اشتقاقه من لفظ آخر لا ينافي علميته، لجواز اشتقاق لفظ من لفظ ثم وضعه لشئ مخصوص. واشتقاقه من أله الهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد، ومنه تأله واستأله، فالاله المعبود. أو من أله إذا تحير، إذ العقول تحير في معرفته. أو من ألهت فلانا أي سكنت إليه، لان القلوب تطمئن بذكره والارواح تسكن إلى معرفته. أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه. أو ألهه أجاره، إذ العابد يفزع إليه، أو هو يجيره حقيقة، أو بزعمه إذا اطلق على غير الله كاطلاقهم الاله على الصبح. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير وتخبط عقله. وكان أصله (ولاه) فقلبت الواو همزة، لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة، في وجوه، فقيل: أله كأعاء وأشاح. ويرده الجمع على آلهة دون أولهة. و قيل: أصله (لاه) مصدر لاه يليه ليها ولاها إذا احتجب أو ارتفع، لانه تعالى محجوب عن إدراك الابصار ومرتفع على كل شئ وعما لا يليق به، ويشهد له قول الشاعر: كحلفة من أبي رباح * يسمعها لاهه الكبار (1) وقيل: أصله (لاها) بالسريانية، فعرب بحذف الالف الاخيرة وإدخال اللام عليه، قيل: تفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة، وقيل: مطلقا، وحذف ألفه


(1) لسان العرب: ج 13، ص 470، في لغة (أله). وقد خففها الاعشى وقال: كحلفة من أبي رباح * يسمعها لاهم الكبار وإنشاد العامة: يسمعها لاهه الكبار قال: وانشده الكسائي يسمعها الله والله كبار وقال في الهامش: قوله (من أبي رباح) كذا بالاصل بفتح الراء والباء الموحدة، ومثله في البيضاوي، إلا أن فيه حلقة بالقاف، والذي في المحكم والتهذيب: كحلفة من أبي رياح بكسر الراء وبياء مثناة تحتية، وبالجملة فالبيت رواياته كثيرة. (*)

[ 39 ]

لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر. ألا لا بارك الله في سهيل * إذا ما الله بارك في الرجال (1) هذا أصله، ثم وضع علما للذات المخصوصة. قيل: وهو اسم الله الاعظم، لانه لا يخرج بالتصرف فيه ما أمكن عن معنى. وفي تهذيب الاحكام: محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن حماد بن زيد، عن عبد الله يحيى الكاهلي، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” أقرب إلى اسم الله الاعظم من ناظر العين إلى بياضها (2). وفي مهج الدعوات: بإسنادنا إلى محمد بن الحسن الصفار، من كتاب فضل الدعاء بإسناده إلى معاوية بن عمار، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” من اسم الله الاكبر، أو قال: الاعظم (3). وبرواية ابن عباس قال (صلى الله عليه وآله): ” بسم الله الرحمن الرحيم ” اسم من أسماء الله الاكبر، وما بينه وبين اسم الله الاكبر، إلا كما بين سواد العين و بياضها (4). الرحمن الرحيم: صفتان للمبالغة، من رحم بالضم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، بعد نقله إلى فعل. وهي انعطاف للقلب يصير سبب الاحسان. و منه الرحم، لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي الافعال، دون المبادئ التي هي الانفعالات. وفي نهج البلاغة: رحيم لا يوصف بالرقة (5).


(1) لسان العرب: ج 13، ص 471، في لغة (أله) وفيه: انما اراد الله فقصر ضرورة. (2) التهذيب: ج 2، باب 15، باب كيفية الصلاة وصفتها والمفروض من ذلك والمسنون، ص 289، ح 15. (3) مهج الدعوات: ص 316. (4) مهج الدعوات: ص 319. (5) نهج البلاغة: ص 258، خطبة 179. (*)

[ 40 ]

وفي كتاب الاهليلجة، قال الصادق (عليه السلام): إن الرحمة وما يحدث لنا، منها شفقة، ومنها جود، وإن رحمة الله ثوابه لخلقه، والرحمة من العباد شيئان، أحدهما يحدث في القلب الرأفة والرقة لما نرى بالمرحوم من الضرر والحاجة وضروب البلاء، والآخر ما بعد الرقة واللطف على المرحوم، والرحمة منا ما نزل به، وقد يقول القائل: أنظر إلى رحمة فلان، وإنما يريد الفعل الذي حدث عن الرقة التي في قلب فلان، و إنما يضاف إلى الله عزوجل من فعل ما حدث عنا من هذه الاشياء، وأما المعنى الذي هو في القلب فهو منفي عن الله كما وصف عن نفسه، فهو رحيم لا رحمة رقة (1). وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، لان زيادة البناء يكون لزيادة المعنى، كما يكون للالحاق والتزيين، ويكون ذلك باعتبار الكمية أو الكيفية. فعلى الاول يقال: رحمن الدنيا، لانه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لانه يخص المؤمن. وعلى الثاني رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، لان النعم الاخروية كلها جسام، وأما الدنيوية فجليلة وحقيرة. وقدم – والقياس يقتضي الترقي من الادنى إلى الاعلى – لانه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره، أو لان الرحمن لما دل على اصول النعم، ذكر الرحيم ليشمل ما يخرج منها فيكون كالتتمة له، أو للمحافظة على رؤوس الآي، أو لتقدم نعم الدنيا، أو لما ذهب إليه الصوفية من أن الرحمة هي الوجود، فإن اعتبرت من حيث وحدتها وإطلاقها نظرا إلى محتدها، اشتق منه الرحمن، وإن اعتبرت من حيث تخصصها وتخصيصها باعتبار متعلقاتها، اشتق منه الرحيم، ولا شك أن الحيثية الاولى متقدمة على الثانية. وهو غير منصرف حملا على نظيره في بابه، وإن منع اختصاصه بالله أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة. وفي الحديث: إذا قال العبد ” بسم الله الرحمن الرحيم ” قال الله عزوجل: بدأ


(1) البحار: ج 3، كتاب التوحيد، ص 196، وصدره (قال: فأخبرني عن قوله: رؤوف رحيم، وعن رضاه ومحبته وغضبه وسخطه، قلت: إن الرحمة وما يحدث لنا…). (*)

[ 41 ]

عبدي باسمى، حق علي أن اتمم اموره، وابارك له في أحواله (1). وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن علي بن الحسين بن علي، عن عباد بن يعقوب، عن عمرو بن مصعب، عن فرات بن أحنف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أول كل كتاب نزل من السماء ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فإذا قرأت ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فلا تبالي أن لا تستعيذ، وإذا قرأت ” بسم الله الرحمن الرحيم ” سترك فيما بين السماء والارض (2). وفي اصول الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تدع ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وإن كان بعده شعر (3). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن الحسن بن علي، عن يوسف بن عبد السلام، عن سيف بن هارون – مولى آل جعدة – قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أكتب ” بسم الله الرحمن الرحيم ” من أجود كتابك، ولا تمد الباء حتى ترفع السين (4). عنه، عن علي بن حكم، عن الحسن بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تكتب ” بسم الله الرحمن الرحيم ” لفلان، ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب: لفلان (5). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إدريس الحارثي، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): احتجبوا من الناس كلهم ب‍ ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وب‍ ” قل هو الله أحد ” اقرأها عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، ومن فوقك، ومن تحتك. فإذا دخلت على


(1) بحار الانوار: ج 89، باب 29، باب فضائل سورة الفاتحة، ص 227. (2) الكافي: ج 3، باب قراءة القرآن، ص 313، ح 3. (3) الكافي: ج 2، كتاب العشرة، باب النوادر، ص 672، ح 1. (4) الكافي: ج 2، كتاب العشرة، باب النوادر، ص 672، ح 2. (5) الكافي: ج 2، كتاب العشرة، باب النوادر، ص 672، ح 3. (*)

[ 42 ]

سلطان جائر، فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرات، واعقد بيدك اليسرى، ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده (1). وفي كتاب التوحيد بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، في حديث طويل فيه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من حزنه أمر يتعاطاه فقال: ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وهو مخلص لله ويقبل بقلبه إليه، لم ينفك من إحدى اثنتين: إما بلوغ حاجته في الدنيا، وإما يعد له ويدخر لديه، وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين (2). وفيه عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل، فيه: ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فيمتحنه الله عزوجل بمكروه، لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى والثناء عليه، ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول: بسم الله (3). وفي عيون الاخبار، في تأويل ” بسم الله الرحمن الرحيم ” بإسناده إلى الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن ” بسم الله الرحمن الرحيم “، قال: معنى قول القائل: بسم الله، أسم على نفسي بسمة من سمات الله عزوجل، وهي العبادة قال: فقلت له: ما السمة ؟ قال: العلامة (4). وبالاسناد إلى عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ” بسم الله الرحمن الرحيم “، فقال: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم مجد الله (5). وروى بعضهم: الميم ملك الله، والله إله كل شئ، الرحمن بجميع خلقه،


(1) الكافي: ج 2، باب فضل القرآن، ص 624، ح 20. (2) كتاب التوحيد: باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم، ص 231، قطعة من ح 5. (3) كتاب التوحيد: باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم، ص 232، قطعة من ح 5. (4) عيون أخبار الرضا: ج 1، باب 26، ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الاخبار النادرة، في فنون شتى، ص 260، ح 19. (5) الكافي: ج 1، كتاب التوحيد، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ص 114، ح 1. (*)

[ 43 ]

والرحيم بالمؤمنين خاصة (1). وفي كتاب التوحيد بإسناده إلى صفوان بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه سئل عن ” بسم الله الرحمن الرحيم “، فقال: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله، قال: قلت: (الله) قال: الالف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا، واللام إلزام الله خلقه ولايتنا، قلت: (فالهاء) ؟ قال: هوان لمن خاف محمدا وآل محمد (صلوات الله عليهم)، قلت: (الرحمن) ؟ قال: بجميع العالم، قلت: (الرحيم) ؟ قال: بالمؤمنين خاصة (2). وبإسناده إلى الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن معنى (الله)، قال: استولى على ما دق وجل (3). وخص التسمية بهذه الاسماء، ليعلم العارف أن الحقيق لان يستعان به في جميع الامور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها، جليلها و حقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جنابه. الحمد الله: الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها. والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا. وفي الكشاف: أنهما أخوان (4)، لتخصيصه المدح أيضا بالجميل الاختياري، وقد صرح به في تفسير قوله تعالى: ” ولكن الله حبب إليكم الايمان ” (5). لا يقال: إذا خص الحمد بالجميل الاختياري، لزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة والارادة، بل اختص بأفعاله الصادرة عنه باختياره. لانا نقول: تجعل تلك الصفات لكون ذاته كافية فيها، بمنزلة أفعال اختيارية يستقل بها فاعلها.


(1) الكافي: ج 1، كتاب التوحيد، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ص 114، ح 1. (2) كتاب التوحيد: ص 230، ح 3. (3) كتاب التوحيد: ص 230، ح 4. (4) الكشاف: ج 1، ص 8. (5) سورة الحجرات: الآية 7. (*)

[ 44 ]

ولا يخفى على المتأمل أن ذلك الجعل لا يقتضي صحة الحمل على الصفات الذاتية، بل يقتضي صحة إطلاق لفظ الحمد على الثناء على صفاته تجوزا، وأين أحدهما عن الآخر. وحقيقته عند العارفين إظهار كمال المحمود قولا أو فعلا أو حالا، سواء كان ذلك الكمال اختياريا أو غير اختياري، والشكر مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا، قال: أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا – فهو أعم منهما من وجه، وأخص من آخر. ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة وأدل على مكانها، لخفاء الاعتقاد وما في آداب الجوارح من الاحتمال، جعل رأس الشكر والعمدة فيه، فقال (عليه السلام): الحمد لله رأس الشكر، ما شكر الله من لم يحمده (1). والذم نقيض الشكر، ورفعه بالابتداء وخبره لله، وأصله النصب وقد قرئ به. وإنما عدل به إلى الرفع دلالة على الدوام والثبات. وقرئ ” الحمد لله ” باتباع الدال اللام وبالعكس، تنزيلا لهما لكثرة استعمالهما معا بمنزلة كلمة واحدة، كقولهم: منحدر الجبل ومغبره. واللام فيه لتعريف الجنس، وهو الاشارة إلى ما يعرفه كل أحد من معنى الحمد، بناء على أن الاختصاص يكون حينئذ مستفادا من جوهر الكلام من غير استعانة بالامور الخارجة، ويكون مستلزما لاختصاص جميع الافراد، و للاستغراق بناء على أن المتبادر إلى الذهن من المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية هو الاستغراق، وهو الشائع في الاستعمال، وحينئذ يكون إختصاص الافراد مصرحا به. فإن قلت: لا يصح تخصيص جنس الحمد ولا تخصيص أفراده به، فإن خلق


(1) الجامع الصغير: ج 1، ص 152، ولفظ الحديث فيه ” الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده “. (*)

[ 45 ]

الافعال إن كان من عند الله فللكسب فيه مدخل، فرجع إليه بهذا الاعتبار، وأما عند المعتزلة فلان خالق الافعال هو العبد، وبمجرد تمكين الله وإقداره عليها لا يختص الحمد به، بل يرجع إليه سبحانه أيضا كل باعتبار، وهو لا يفيد التخصيص بل الاشتراك. قلت: لا يبعد أن يقال: إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل، كأنه كل الحقيقة، فاختص الجنس من حيث هو أو أفراده به سبحانه. فإن قلت: كيف يصح قصد تخصيص الجنس أو أفراده والحال أن قوله تعالى: الحمد لله، كان في الاصل: أحمد الله حمدا، أو نحمده حمدا، فلا يكون المراد إلا الحمد المستند إلى المتكلم الواحد، أو مع الغير، فبعد إفادة الكلام التخصيص لا يفيد إلا تخصيص المخصوص لا مطلقا. قلت: كما أنه في صورة الرفع يتجرد الكلام عن التجدد والحدوث، كذلك يتجرد من النسبة إلى فاعل مخصوص، وأيضا يمكن أن يكون صيغة المتكلم مع الغير على ألسنة جميع الحامدين حقا وخلقا. ثم قيل: إعلم أنه إذا كان الحامد في مقام الجمع، فالمناسب أن يحمل اللام على الجنس، وإن كان في مقام الفرق قبل الجمع فالمناسب الاستغراق ولكن بالتأويل، وإن كان في مقام الفرق بعد الجمع فالمناسب الاستغراق ولكن بلا تأويل، وإن كان في مقام جمع الجمع فالمناسب الجنس والاستغراق معا من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر. ثم اعلم أنه يمكن أن يراد بالحمد الحامدية والمحمودية جميعا بناء على أنه مشترك معنوي، فإنه فعل واحد بين الحامد والمحمود، وإذا اعتبرت نسبته إلى الحامد يكون حامدية، وإن اعتبرت إلى المحمود يكون محمودية. أو لفظي ويجوز إستعمال المشترك في معنييه أو معانيه كما ذهب إليه المحققون، أو يكون مجازا عن معنى مشترك بين المعنيين. رب العلمين: الرب في الاصل: هو المالك، فهو إما صفة مشبهة من فعل متعد لكن بعد جعله لازما من (ربه يربه) بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر،


[ 46 ]

وإما وصف بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، وهو مفرد لا يطلق على غير الله إلا نادرا، وقرئ بالنصب على المدح أو النداء، أو بالفعل الذي دل عليه الحمد. قيل: هذا الاسم يفيد إثبات خمسة أحكام للحق سبحانه وتعالى، وهي: الثبات، والسيادة، والاصلاح، والملك، والتربية. لان الرب في اللغة هو المصلح، والسيد، والمالك، والثابت، والمربي، ففيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها، مفتقرة إلى المبقي حال بقائها. والعالم: اسم لما يعلم به، كالخاتم لما يختم به، غلب فيما يعلم به الصانع مما سوى الله من الجواهر والاعراض، فإنها لامكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده. وقيل: اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. وقيل: عنى به الناس هنا، فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والاعراض، يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم، ولذلك سوى بين النظر فيهما، وقال: ” وفي أنفسكم أفلا تبصرون ” (1). وإنما جمع لئلا يتوهم أن القصد إلى استغراق أفراد جنس واحد مما سمي به، أو إلى حقيقة القدر المشترك، فلما جمع، واشير بصيغة الجمع إلى تعدد الاجناس، و بالتعريف إلى استغراق أفرادها، أزال التوهم بلا شبهة. وإنما جمعه بالواو والنون، مع أنه مختص بصفات العقلاء أو ما في حكمها من أعلامهم، لمشابهته الصفة في دلالته على الذات، باعتبار معنى هو كونه يعلم أو يعلم به، واختصاصه بأولي العلم حقيقة أو تغليبا. وقيل: وصفيته العالمين إنما هي بتقدير ياء النسبة، يعنى العالميين، كالاعجمين بمعنى الاعجميين، واختصاصه بأولي العلم على سبيل التغليب. ويمكن أن يجعل جمعه بالواو والنون إشارة إلى سريان الصفات الكمالية


(1) سورة الذاريات: الآية 21. (*)

[ 47 ]

من العلم والحياة وغيرهما في كل موجود من الموجودات، فالكل أولو العلم، وقد ذهب إليه بعض، كما يعلم من عبارة بعض. وعن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، وفيه: لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى – والله – لقد خلق ألف ألف عالم، وألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين (1). وفي كتاب الخصال بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في حديث طويل: إن علم عالم المدينة ينتهي إلى حيث لا يقفو الاثر ويزجر الطير، ويعلم ما في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس تقطع اثني عشر بروجا واثني عشر برا واثني عشر بحرا، واثني عشر عالما (2). وبإسناده إلى العباد بن عبد الخالق، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله عزوجل اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين، ما يرى عالم منهم أن لله عزوجل عالما غيرهم، وأنا الحجة عليهم (3). وفي عيون الاخبار: حدثنا محمد بن القاسم الاستر ابادي المفسر (رضي الله عنه) قال: حدثني يوسف بن محمد بن زياد، وعلي بن محمد بن سيار، عن أبو يهما، عن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: جاء رجل إلى الرضا (عليه السلام) فقال: يا بن رسول الله، أخبرني عن قول الله تعالى: ” الحمد لله رب العالمين ” ما تفسيره ؟ فقال: لقد حدثني أبي عن جدي، عن الباقر، عن زين العابدين، عن أبيه (عليهم السلام)، أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن قول الله تعالى: ” الحمد لله رب العالمين ” ما تفسيره ؟ فقال: الحمد لله، هو أن عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لانها أكثر من أن تحصى أو


(1) كتاب التوحيد: باب 38، ذكر عظمة الله جل جلاله، ص 277، قطعة من ح 2. (2) الخصال: أبواب الاثنى عشر، ص 490، قطعة من حديث 68. (3) الخصال: باب من روى أن لله عزوجل اثنى عشر الف عالم، ص 639، ح 14. (*)

[ 48 ]

تعرف، فقال لهم: قولوا: الحمد لله على ما أنعم به علينا رب العالمين، وهم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات. فأما الحيوانات فهو يقلبها في قدرته، ويغذوها من رزقه، ويحوطها بكنفه، ويدبر كلا منها بمصلحته، وأما الجمادات فهو يمسكها بقدرته، ويمسك المتصل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه، ويمسك الارض أن تنخسف إلا بأمره، إنه بعباده رؤوف رحيم. قال (عليه السلام): ورب العالمين: مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، فالرزق مقسوم، وهو يأتي ابن آدم على أي سيرة سارها من الدنيا، ليس تقوى متق بزائده، ولا فجور فاجر بناقصه، وبينه و بينه ستر وهو طالبه، فلو أن أحدكم يفر من رزقه لطلبه رزقه كما يطلبه الموت، فقال الله جل جلاله: قولوا: الحمد لله على ما أنعم به علينا وذكرنا به من خير، في كتب الاولين قبل أن نكون، ففي هذا إيجاب على محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) وعلى شيعتهم أن يشكروه بما فضلهم، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لما بعث الله عزوجل موسى بن عمران (عليه السلام) واصطفاه نجيا وفلق له البحر ونجى بني إسرائيل وأعطاه التوراة والالواح، رأى مكانه من ربه عزوجل فقال: يا رب أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا قبلي. فقال الله جل جلاله: يا موسى، أما علمت أن محمدا أفضل عندي من جميع ملائكتي وجميع خلقي ؟ قال موسى: يا رب، فإن كان محمد أكرم عندك من جميع خلقك، فهل في آل الانبياء أكرم من آلي ؟ قال الله جل جلاله: يا موسى، أما علمت أن فضل آل محمد على جميع آل النبيين كفضل محمد على جميع المرسلين ؟ فقال موسى: يا رب، فإن كان آل محمد كذلك، فهل في امم الانبياء أفضل عندك من أمتي، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المن والسلوى، وفلقت لهم البحر ؟ فقال الله جل جلاله: يا موسى أما علمت أن فضل امة محمد على جميع الامم كفضله على جميع خلقي ؟ فقال موسى: يا رب، ليتنى كنت أراهم. فأوحى الله عزوجل إليه يا موسى، إنك لن


[ 49 ]

تراهم، وليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنات جنات عدن والفردوس بحضرة محمد في نعيمها يتقلبون، وفي خيراتها يتبجبجون، أفتحب أن أسمعك كلامهم ؟ قال: نعم إلهي. قال الله جل جلاله: قم بين يدي واشدد مئزرك قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل. ففعل ذلك موسى (عليه السلام)، فنادى ربنا عزوجل يا امة محمد فأجابوه كلهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام امهاتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك. قال: فجعل الله عزوجل تلك الاجابة شعار الحاج، ثم نادى ربنا عزوجل: يا أمة محمد، إن قضائي عليكم أن رحمتي سبقت غضبي، و عفوي قبل عقابي، فقد استجبت لكم من قبل أن تدعوني، وأعطيتكم من قبل أن تسألوني، من لقيني منكم بشهادة (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صادق في أقواله، محق في أفعاله، وأن علي بن أبي طالب أخوه و وصيه من بعده ووليه، ويلتزم طاعته كما يلتزم طاعة محمد، وأن أولياءه المصطفين الطاهرين المطهرين المنبئين بعجائب آيات الله ودلائل حجج الله من بعدهما أولياؤه أدخلته جنتي وإن كانت ذنوبه مثل زبد البحر قال: فلما بعث الله عزوجل نبينا محمدا (صلى الله عليه وآله) قال: يا محمد، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا امتك بهذه الكرامة، ثم قال الله عزوجل لمحمد (صلى الله عليه وآله): قل: الحمد لله رب العالمين على ما اختصني به من هذه الفضيلة، وقال لامته: قولوا أنتم: الحمد لله رب العالمين على ما اختصنا به من هذه الفضائل (1). وفي الحديث: إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي وعلم أن النعم التي له من عندي، وأن البلايا التي اندفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الاخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا (2).


(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، باب 28، فيما جاء عن الامام علي بن موسى (عليهما السلام) من الاخبار المتفرقة، ص 282، ح 30. (2) المستدرك: ج 1، كتاب الصلاة، باب 57، من أبواب القراءة في الصلاة، قطعة من حديث 3، = (*)

[ 50 ]

الرحمن الرحيم: قد مر تفسيرهما وكرره للتفصيل. ويحتمل أن يكون المراد ب‍ (الرحمن الرحيم) في البسملة، هو المتجلي بصور الاعيان الثابتة بفيضه الاقدس، فإنه تعالى باعتبار عموم هذا الفيض وإطلاقه هو الرحمن، وباعتبار تخصصه وتخصيصه هو الرحيم. والمراد بهما فيما بعدها هو المتجلي بصور الاعيان الوجودية بالاعتبارين المذكورين. وقيل: ذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر (ملك يوم الدين) ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة. إحداهما تنظر إلى الرحمة في خلق العالمين، وأنه خلقها على أكمل أنواعها و آتاها كلما احتاجت إليه. وأخراهما يشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء، عند الانعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة وعبادة، وهو يلائم ما ورد من قولهم: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، حيث قورن الرحمن ب‍ (رب العالمين) المشير إلى المبدأ، والرحيم ب‍ (ملك يوم الدين) المشير إلى المعاد. وفي من لا يحضره الفقيه فيما ذكره الفضل من العلل عن الرضا (عليه السلام) أنه قال، بعد أن شرح رب العالمين: ” الرحمن الرحيم ” استعطاف وذكر لالائه و نعمائه على جميع خلقه (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال بعد أن شرح الحمد لله رب العالمين: الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة (2). وفي الحديث: إذا قال العبد: ” الرحمن الرحيم ” قال الله تعالى: شهد لي بأني الرحمن الرحيم، اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه، ولا جزلن من عطائي نصيبه.


= نقلا عن تفسير العسكري (عليه السلام). (1) من لا يحضره الفقيه: ج 1، باب 45، وصف الصلاة، من فاتحتها إلى خاتمتها، ص 203، قطعة من ح 12. (2) تفسير القمي: ج 1، ص 28. (*)

[ 51 ]

ملك يوم الدين: وقرئ مالك وملك بتخفيف اللام، وملك بصيغة الفعل و نصب اليوم، وملك ومالك بالنصب على المدح والحال. ويحتمل النداء، ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويعضد قراءته على اسم الفاعل قوله تعالى: ” يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله ” (1). وعلى الصفة المشبهة قوله تعالى: ” لمن الملك ” (2)، وهي أولى لانها قراءة أهل الحرمين، ولان بعض معاني الرب هو المالك فذكره ثانيا لا يخلو عن تكرار. ولان الآخر وهو سورة الناس نظير الاول، والمذكور فيها بعد ذكر الرب، هو الملك لا المالك. ولان للملك زيادة عموم ليست للمالك، لان ما تحت حياطة الملك، من حيث أنه ملك أكثر مما تحت حياطة المالك، فإن الشخص يوصف بالمالكية نظرا إلى أقل قليل، ولا يوصف بالملكية إلا بالنظر إلى أكثر كثير، وللتناسب الحاصل بينه وبين الآيتين الاولتين. ويوم الدين: يوم الجزاء، وقيل: زمان الجزاء، ومنه: ” كما تدين تدان ” (3). و بيت الحماسة: ولم يبق سوى العدوا * ن دناهم كما دانوا (4) – وفي اختياره على سائر الاسامي رعاية للفواصل، وإفادته للعموم، فإن الجزاء يتناول جميع أحوال القيامة إلى السرمد. وللدين معان أخر، مثل العبادة والطاعة والشريعة والشأن. ودانه في اللغة: أذله واستعبده وساسه وملكه (5).


(1) سورة الانفطار: الآية 19. (2) سورة غافر: الآية 16. (3) نهج البلاغة: ص 214، الخطبة 153. (4) قبله: صفحنا عن بني ذهل… وقلنا القوم إخوان فلما صرح الشر * فأمسى وهو عريان – لشهل بن شيبان بن ربيعة. الكشاف: ج 1، ص 12. (5) صحاح اللغة للجوهري: ج 5، ص 2118. (*)

[ 52 ]

ويمكن حمله على كل واحد، بل على الكل بالمرة، وقد يظهر وجهه بصدق التأمل. وأما إضافة ” ملك يوم الدين ” من قبيل إضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها كما في رب العالمين فتكون حقيقية لا لفظية فان اللفظية إضافتها إلى الفاعل لا غير، فيصح جعله صفة لله. وأما إضافة ” مالك يوم الدين ” فمن قبيل إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على سبيل التجوز، وهي أيضا حقيقية، لان المراد به الاستمرار أو الماضي، لا الحال والاستقبال. ويصح جعل مالكيته اليوم مستمرة، مع أن يوم الدين وما فيه ليس مستمرا في جميع الازمنة، لكونه لتحقق وقوعه وبقائه أبدا كالمتحقق المستمر، كما يصح جعله لتحقق وقوعه كالماضي. وتخصيص اليوم بالاضافة إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الامر فيه. ولما دل بلامي التعريف والاختصاص على أن جنس الحمد مختص به وحق له، أجرى عليه تلك الاوصاف العظام، ليكون حجة قاطعة على انحصار الحمد فيه واستحقاقه إياه. فذكر أولا: ما يتعلق بالابداء من كونه ربا مالكا للاشياء كلها بإفاضة الوجود عليها وأسباب الكمالات لها. وثانيا: ما يتعلق بالبقاء، من إسباغه عليها نعما ظاهرة وباطنة، جليلة ودقيقة. وثالثا: ما يتعلق بالاعادة، من كونه مالكا للامر كله يوم الجزاء، فلا يستأهل غيره أن يحمد فضلا من أن يعبد. قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): يوم الدين، هو يوم الحساب، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ألا اخبركم بأكيس الكيسين وأحمق الحمقى ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أكيس الكيسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وإن أحمق الحمقى من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى الاماني. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، فكيف


[ 53 ]

يحاسب الرجل نفسه ؟ قال: إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه فقال: يا نفس، إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبدا، والله تعالى يسألك منه بما أفنيته، وما الذى عملت فيه ؟ أذكرت الله، أحمدته، أقضيت حوائج مؤمن، أنفست عنه كربته، أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده، أحفظته بعد الموت في مخلفيه، أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلما، ما الذى صنعت فيه ؟ ؟ ؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله تعالى وشكره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيرا استغفر الله تعالى وعزم على ترك معاودته، و محى ذلك عن نفسه بتجديد الصلاة على محمد وآله الطيبين، وعرض بيعة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على نفسه وقبولها لها، وإعادته لعن أعداءه وشانئيه ودافعيه عن حقوقه، فإذا فعل ذلك قال الله تعالى: لست أناقشك في شئ من الذنوب مع موالاتك أوليائي ومعاداتك أعدائي (1). وفي الحديث: إذا قال العبد ” مالك يوم الدين ” قال الله تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني مالك يوم الدين لاسهلن يوم الحساب حسابه، ولا ثقلن حسناته، و لاتجاوزن عن سيئاته (2). إياك نعبد وإياك نستعين: ذهب الزجاج إلى أن (إيا مظهر مبهم اضيف إلى الشئ بعده إزالة لابهامه، وكان إياك نفسك (3). والخليل: إلى أنه مضمر مضاف إلى ما بعده، واحتج بما حكاه من بعض العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب (4). ورد، بأن الضمير لا يضاف، وما نقل عن بعض العرب شاذ لا يعتمد عليه. وابن كيسان وبعض الكوفية: إلى أن الكاف وأخواته هي الضمائر التي كانت متصلة و (إيا) دعامة لها لتصير منفصلة (5).


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 13، وهكذا في بحار الانوار: ج 89، كتاب القرآن، باب 29، فضل سورة الفاتحة، ص 250. (2) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 21. (3 و 4 و 5) الانصاف في مسائل الخلاف للانباري: ج 2، ص 695. (*)

[ 54 ]

وقوم من الكوفة إلى أن (إياك) بكماله هو الضمير (1). والاخفش إلى أن (إيا) ضمير منفصل، ولواحقه حروف لا محل لها من الاعراب، تدل على أحوال ما أريد به من الخطاب والتذكير والافراد وما يقابلها (2). وقرئ (إياك) بتخفيف الياء، و (أياك) بفتح الهمزة وتشديد الياء و (هياك) بقلبها هاء. والعبادة هي أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد أي مذلل، وثوب ذو عبدة: إذا كان في غاية الصفاقة، ولذلك لا يستعمل إلا في الخضوع لله. والاستعانة: طلب المعونة، وهي إما ضرورية لا يتأتى الفعل بدونها كاقتدار الفاعل وتصوره، وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها، وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل، وغير ضرورية يسهل الفعل بها كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، و هذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف، هكذا قيل. يقال: استعانه واستعان به، بمعنى، وإنما اختير استعماله بلا واسطة الحرف، إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى بينه وبين الحق سبحانه واسطة في الاستعانة، بأن يقصر نظره إليه، أو يرى الوسائط منه. وتقديم المفعول لقصد الاختصاص. وتكريره ليكون نصا في اختصاص كل من العبادة والاستعانة به سبحانه. وفي إيراد (إياك) دون (إياه) كما هو مقتضى الظاهر، التفات من الغيبة إلى الخطاب. ومن النكت الخاصة في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في هذا المقام – بعد اشتماله على فائدة عامة، من جهة المتكلم وهي التصرف والافتنان في وجوه


(1) الانصاف في مسائل الخلاف لانباري: ج 2، ص 695 (2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 13. (*)

[ 55 ]

الكلام وإظهار القدرة عليها، ومن جهة المخاطب وهي فطرية نشاطة في سماع الكلام وإيقاظه للاصغاء إليه – أنه لما قال: (إياك) بدل (إياه) فقد نزل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة – التي أوجبت تمييزه وانكشافه حتى صار كأنه تبدل خفاء غيبته بجلاء ظهوره – منزلة المخاطب في التميز والظهور، ثم أطلق عليه ما هو موضوع للمخاطب، ففي إطلاقه ملاحظة لتلك الاوصاف، فصار الحكم مرتبا على الاوصاف، كأنه قيل: أيها الموصوف المتميز بهذه الاوصاف، نخصك بالعبادة والاستعانة، فيفهم منه عرفا أن العبادة والاستعانة لتميزه بتلك الاوصاف. ومنها: التنبيه على أن القراءة إنما يعتد بها إذا صدرت عن قلب حاضر وتأمل وافر، يجد القارئ في ابتداء قراءته محركا نحو الاقبال على منعمه الذي أجرى حمده على لسانه، ثم تزداد قوة ذلك المحرك بجنب إجراء تلك الصفات العظام حتى إذا آل الامر إلى خاتمتها أوجب إقباله عليه وخطابه بحصر العبادة والاستعانة فيه. ومنها: الاعلام بأن الحمد والثناء ينبغي أن يكون على وجه يوجب ترقي الحامد من حضيض بعد الحجاب والمغايبة إلى ذروة قرب المشاهدة والمخاطبة. ومنها: الاشارة إلى أن العبادة المستطابة، والاستعانة المستجابة في مقام العبودية، إنما يليق بهما أن تعبد ربك كأنك تراه وتخاطبه. ومنها: الاشارة إلى أنه ينبغي أن يكون تالي كلامه سبحانه بحيث يتجلى له المتكلم فيه ويصير مشهودا له، ليخاطبه بتخصيص العبادة والاستعانة به، كما روى عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لقد تجلى الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون (1). وعنه أيضا أنه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة، فسئل عن ذلك، فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها (2). الضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة، أو حاضري


(1) بحار الانوار: ج 89، باب فضل التدبر بالقرآن ص 107، ح 2. (2) تفسير القرآن الكريم: ج 1، ص 407. (*)

[ 56 ]

الجماعة، أو له ولسائر الموحدين، أو له فقط لاستجماعه القوى والحواس فكأن لكل منها عبادة واستعانة، أو لوصوله إلى مقام الجمع فيرى العبادات والاستعانات كلها صادرة عنه. وتقديم العبادة على الاستعانة لرعاية الفاصلة، أو لان العبادة وسيلة إلى الاستعانة إن كان المراد بها الاستعانة على ما عدا العبادة من المهمات، ولا شك أن تقديم الوسيلة أدخل في استيجاب الاجابة. وإن كان المراد بها الاستعانة على العبادة، أو الاستعانة مطلقا بحيث تدخل فيها العبادة أيضا، فوجه تقديمها ظاهر أيضا، لانها مقصودة بالنسبة إلى الاستعانة وإن كان طلب المعونة على الشئ مقدما عليه. وقيل: لا يبعد أن يجعل العبادة إشارة إلى الفناء في الله، لان غاية الخضوع هي الرجوع إلى العدم الاصلي، والاستعانة إشارة إلى طلب البقاء بعد الفناء لتسير السير في الله، وحينئذ وجه التقديم ظاهر كما لا يخفى، وفيه ما لا يخفى. وإنما أطلق الاستعانة ولم يقيدها بكل مستعان فيه ولا ببعضه، ليحتمل الكل ويحمله القارئ على ما يناسب حاله. وقرئ (نستعين) بكسر النون، وهى لغة تميم فإنهم يكسرون حرف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها. وقيل: الواو للحال، والمعنى نعبدك مستعينين بك، فأقول: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أو هم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما صدر عنه، فعقبه بقوله: ” و إياك نستعين ” ليدل على أن العبادة – أيضا – مما لا يتم ولا يستتب إلا بمعونة الله. وفي الحديث، إذا قال العبد: ” إياك نعبد ” قال الله: صدق عبدي إياي يعبد، أشهدكم لاثيبه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: ” وإياك نستعين ” قال الله: بي استعان وإلي التجأ أشهدكم لا عينه في شدائده ولا خذت بيده يوم نوائبه (1).


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 21. (*)

[ 57 ]

[ اهدنا الصراط المستقيم (6) صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7) ] اهدنا الصرط المستقيم: بيان للمعونة المطلوبة، أو إفراد لما هو المقصود الاعظم. والهداية دلالة بلطف، ولذلك تستعمل في الخبر، فقوله تعالى: ” فاهدوهم إلى صراط الجحيم ” (1) على التهكم، ومنه الهدية، وهوادي الوحش لمقدماتها (2)، والفعل منه، هدى، وأصله أن يعدى باللام وإلى، فعومل معه معاملة – اختار – في قوله تعالى: (واختار موسى قومه) (3). ومن هذا يظهر أن لا فرق بين المتعدي بنفسه والمتعدي بالحرف، لكن نقل (4) عن صاحب الكشاف: إن هداه لكذا وإلى كذا إنما يقال: إذا لم يكن فيه ذلك فيصل بالهداية إليه. وهداه كذا لمن يكون فيه فيزداد أو يثبت ولمن لا يكون فيه فيصل. وقد يقال: لا نزاع في الاستعمالات الثلاث، إلا أن منهم من فرق، بأن معنى المتعدي بنفسه هو الايصال إلى المطلوب، ولا يكون إلا فعل الله فلا يسند إلا إليه كقوله: ” لنهدينهم سبلنا ” (5) ومعنى المتعدي بحرف الجر هو الدلالة على ما يوصل


(1) سورة الصافات: الآية 23. (2) هوادي الليل: أوائله، وفي الحديث: طلعت هوادي الخيل: يعني أوائلها وهاديات الوحش أوائلها، لسان العرب: ج 15، ص 357، في لغة (هدى). (3) سورة الاعراف: الآية 155. (4) الناقل: هو السيد المحقق الشريف الحسيني الجرجاني، قال السيد في شرح ما في الكشاف: ” هدى أصله أن يتعدى باللام أو بالى ” ما هذا لفظه: وفيه إشعار بان لا فرق بين المتعدي بنفسه والمتعدي بالحرف، لكنه فرق بين هداه لكذا وإلى كذا، انما يقال: إذا لم يكن فيه ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه… إلى آخره. راجع الكشاف: ج 1، ص 66. (5) سورة العنكبوت: الآية 69. (*)

[ 58 ]

إليه، فيسند تارة إلى القرآن، وأخرى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) (1). وهداية الله تتنوع أنواعا لا يحصيها عد، لكنها تنحصر في أجناس مترتبة: الاول: إفاضة القوى التي تمكن بها من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوى العقلية، والحواس الباطنية، والمشاعر الظاهرة. والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد. والثالث: بإرسال الرسل وإنزال الكتب. والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر، ويريهم الاشياء كما هي بالوحي والالهام والمنامات الصادقة، وهذا القسم يختص بنيله الانبياء والاولياء. وطلب الهداية وغيرها من المطالب، قد يكون بلسان القول، وقد يكون بلسان الاستعداد، فما يكون بلسان الاستعداد لا يتخلف عنه المطلوب، وما يكون بلسان القول ووافقه الاستعداد استجيب، وإلا فلا. فإن قلت: فعلى هذا لا حاجة إلى لسان القول. قلت: يمكن أن يحصل في بعض استعداد المطلوب من الطلب بلسان القول، فالاحتياط أن لا يترك الطالب الطلب بلسان القول، فبالنسبة إلى بعض المراتب يطلب بلسان الاستعداد، وفي بعضها بلسان القول. وطلب الهداية بعد الاهتداء – فإن من خصص الحمد بالله سبحانه وأجرى عليه تلك الصفات العظام، وحصر العبادة والاستعانة فيه كان مهتديا – محمول على طلب زيادة الهداية أو الثبات عليها. قيل: إذا كان السالك في مقام السير إلى الله ولم يصل إلى مطلوبه، فلا شك أن بينه وبين مطلوبه مسافة ينبغي أن يقطعها حتى يصل إليه، فلا بد له من طلب الهداية ليقطع تلك المسافة. إذا كان في السير في الله، فليس لمطلوبه نهاية ولا ينتهي سيره أبد الآبدين، فلا بد له من طلب الهداية. فبالجملة: لا بد من طلبها وإن كانت حاصلة في بعض المراتب.


(1) إلى هنا كلام السيد المحقق الشريف. (*)

[ 59 ]

وهذه الصيغة موضوعة لطلب الفعل مطلقا، لكنه من الاعلى أمر، ومن الادنى دعاء، ومن المساوي التماس. واعتبر بعضهم في الاوامر الاستعلاء، وفي الدعاء التضرع، وفي الالتماس عدمهما. و ” السراط “: الجادة، سمى به على ما توهم أنه يبتلع سالكه، أو يبتلعه سالكه، كما يقال: أكلته المفازة، إذا أضمرته أو أهلكته، وأكل المفازة: إذا قطعها، و لذلك سمي باللقم، لانه يلقمهم أو يلتقمونه. وقيل: يناسب ابتلاع الصراط السالك السير إلى الله، فإن هذا السير ينتهي إلى فناء السالك، وذلك هو ابتلاع الصراط إياه، وابتلاع السالك الصراط يناسب السير في الله، فإن السالك حينئذ يبقى ببقاء الله سبحانه ويسير في صفاته ويتحقق بها، فكأنه يبتلعها ويتغذى بها. و ” الصراط ” من قلب السين صادا لاجل الطاء، لانها مستعلية، فتوافقها الصاد، لكونها أيضا من المستعلية، بخلاف السين فإنها من المنخفضة، ففي الجمع بينهما بعض الثقل، ويشم الصاد صوت الزاي ليكتسي بها نوع جهر فيزداد قربها من الطاء، وقيل: ليكون أقرب إلى المبدل منه، وقرئ بهن جميعا. والافصح إخلاص الصاد، وهي لغة قريش، والجمع سرط ككتب. والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل. وقرأ ابن مسعود: أرشدنا (1). قيل: المراد بالمستقيم ما يؤدي إلى المقصود، سواء كان أقرب الطرق أم لا، أو المراد به اقرب الطرق، فغير المستقيم على هذا لا يجب أن يكون من طرق الضلال، بل يكون أعم، أو المراد به أعدل الطرق، وهو غير المائل عنه يمنة ويسرة. قيل: فطلب الهداية إلى الاول يناسب أهل السعادة مطلقا، وإلى الثاني يناسب المتوجهين إليه بالوجه الخاص، فإنه أقرب الطرق، وإلى الثالث يناسب طالبي مرتبة الجمع بين الجمع والفرق، فإن طريقهم غير مائل إلى يمين الجمع، ولا إلى يسار الفرق.


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 15. (*)

[ 60 ]

وفي من لا يحضره الفقيه: وفيما ذكره الفضل من العلل عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: ” اهدنا الصراط المستقيم ” استرشاد لدينه، واعتصام بحبله، واستزادة في المعرفة لربه عزوجل ولعظمته وكبريائه (1). وفي مجمع البيان: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى من علي بفاتحة الكتاب إلى قوله: ” اهدنا الصراط المستقيم ” صراط الانبياء، وهم الذين أنعم الله عليهم (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم (في الموثق) عن أبي عبد الله (عليه السلام): ” اهدنا الصراط المستقيم ” قال: الطريق ومعرفة الامام (3). وبإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): قال: والله نحن الصراط المستقيم (4). وفي كتاب معاني الاخبار: بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” اهدنا الصراط المستقيم ” قال: هو أمير المؤمنين ومعرفته، والدليل على أنه أمير المؤمنين قول الله عزوجل: ” وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ” وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) في أم الكتاب في قوله: ” اهدنا الصراط المستقيم “. وبإسناده إلى المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصراط ؟ فقال: هو الطريق إلى معرفة الله عزوجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه، مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم (5). وفي تفسير علي بن إبراهيم: بإسناده إلى حفص بن غياث قال: وصف أبو


(1) من لا يحضره الفقيه: ج 1، باب 45، وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها، ص 204، ح 12. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 31. (3) تفسير القمي: ج 1، ص 28. (4) تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 21، ح 89. (5) معاني الاخبار: ص 32، باب معنى الصراط، ح 1. (*)

[ 61 ]

عبد الله (عليه السلام) الصراط، فقال: ألف سنة صعود، وألف سنة هبوط، و ألف سنة حدال (1) و (2) وإلى سعدان بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الصراط، قال: هو أدق من الشعر، وأحد من السيف، فمنهم من يمر عليه مثل البرق، ومنهم من يمر عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر عليه ماشيا، ومنهم من يمر عليه حبوا، ومنهم من يمر عليه متعلقا فتأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا (3). وفي كتاب معاني الاخبار: بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين (4). حدثنا محمد بن القاسم الاستر ابادي المفسر قال: حدثني يوسف بن محمد بن زياد، وعلي بن محمد بن يسار، عن أبويهما، عن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) في قوله: ” اهدنا الصراط المستقيم ” قال: أدم لنا توفيقك الذى به أطعناك فيما مضى من أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا، والصراط المستقيم هو الصراطان، صراط في الدنيا وصراط في الآخرة. فأما الطريق المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعدل إلى شئ من الباطل. والطريق الآخر، طريق أمير المؤمنين إلى الجنة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة (5). قال: وقال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في قوله عزوجل ” اهدنا


(1) قال الفراء: الاحدل: المائل، وقد حدل حدلا، وقال أبو زيد: الاحدل: الذي يمشي في شق. لسان العرب: ج 11، ص 147، في لغة (حدل). (2) تفسير القمي: ج 1، ص 29. (3) تفسير القمي: ج 1، ص 29. (4) معاني الاخبار: باب معنى الصراط، ص 33، ح 4. (5) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 15، في ذيل قوله تعالى: ” اهدنا الصراط المستقيم “. (*)

[ 62 ]

الصراط المسيقيم ” قال: يقول: أرشدنا الطريق المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ دينك، والمانع من أن نتبع هوانا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك (1). وبإسناده إلى محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر قال: حدثني ثابت الثمالي، عن سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم (2). وبإسناده إلى سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط، فلم يجز أحد إلا من كان معه كتاب فيه براءة بولايتك (3). وفي أصول الكافي إلى أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله): ” فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ” قال: إنك على ولاية علي (عليه السلام)، وعلي هو الصراط المستقيم (4). علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضل، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: قلت: ” أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم “. قال: إن الله ضرب مثل الذي حاد عن ولاية علي كمثل من يمشي على وجهه لا يهتدي لامره، وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، والصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام) (5). صراط الذين أنعمت عليهم: بدل من الاول بدل الكل، لفائدتين.


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 15، في ذيل قوله تعالى: ” اهدنا الصراط المستقيم “. (2) معاني الاخبار: باب معنى الصراط، ص 35، ح 5. (3) معاني الاخبار: باب معنى الصراط، ص 35، ح 6. (4) الكافي: ج 1، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ص 416 – 417 – ح 24. (5) الكافي: ج 1، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ص 433، قطعة من ح 91، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ الحديث. (*)

[ 63 ]

إحداهما: التأكيد بذكر الصراط مرتين لفظا، وتكرير العامل تقديرا، و يلزمهما تكرير النسبة. وثانيتهما: الايضاح بتفسير المبهم، وفيه أيضا نوع تأكيد، فإن ذكر الشئ مبهما وتفسيره يفيد تقريره وتأكيده. وقرئ ” من أنعمت عليهم “. و (عليهم) في محل النصب على المفعولية. والانعام إيصال النعمة، وهي في الاصل الحالة التى يستلذها الانسان، فاطلقت على ما يستلذه من النعمة، وهي التنعم. ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال: تعالى ” وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ” (1)، تنحصر في جنسين، دنيوي واخروي، والاول: قسمان، موهبي وكسبي، والموهبي قسمان: روحاني كالروح وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق، وجسماني كالبدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الاعضاء، والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالاخلاق والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة، وحصول الجاه والمال. والثاني: أن يغفر ما فرط منه، ويرضى عنه، ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين. والمراد هو القسم الاخير، وما يكون وصلة إلى نيله من القسم الآخر، وما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر. فالمراد بالمنعم عليهم: هم المؤمنون مطلقا، وأطلق الانعام ولم يقيد بنعمة خاصة ليشمل كل إنعام، ووجه صحة الشمول هو إدعاء أن من أنعم الله عليه بنعمة الاسلام لم تبق نعمة إلا أصابته. وقيل: الانبياء (عليهم السلام). وقيل: أصحاب موسى وعيسى (عليهما السلام) قبل التحريف والنسخ. وفي كتاب معاني الاخبار: بإسناده إلى جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:


(1) سورة إبراهيم: الايه 34. (*)

[ 64 ]

قول الله عزوجل في الحمد: ” صراط الذين أنعمت عليهم ” يعني محمدا وذريته صلوات الله عليهم (1). حدثنا محمد بن القاسم الاستر ابادي المفسر قال: حدثني يوسف بن [ المتوكل، عن ] محمد بن زياد، وعلى بن محمد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) في قول الله تعالى ” صراط الذين أنعمت عليهم ” أي قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، وهم الذين قال الله عزوجل: ” ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ” وحكي هذا بعينه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ثم قال: ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحة البدن، وإن كان كل هذا نعمة من الله ظاهرة، ألا ترون أن هؤلاء قد يكونون كفارا أو فساقا، فما ندبتم إلى أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراطهم، وإنما أمرتم بالدعاء إلى أن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالايمان بالله. وتصديق رسوله وبالولاية لمحمد وآله الطيبين وأصحابه الخيرين المنتجبين، وبالتقية الحسنة التي يسلم بها من شر أعداء الله، ومن الزيادة في آثام أعداء الله وكفرهم، بأن تداريهم ولا تغريهم بأذاك وأذى المؤمنين، وبالمعرفة بحقوق الاخوان من المؤمنين (2). حدثنا الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، قال: حدثنا فرات بن إبراهيم الكوفي، قال: حدثني عبيد بن كثير، قال: حدثنا محمد بن مروان، قال: حدثنا عبيد بن يحيى بن مهران العطار، قال: حدثنا محمد بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في قول الله عزوجل ” صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” قال: هم شيعة علي (عليه السلام)


(1) معاني الاخبار: باب معنى الصراط، ص 36، ح 7. (2) معاني الاخبار: باب معنى الصراط، ص 36، ح 9، وتفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 7، في ذيل قوله تعالى: ” صراط الذين أنعمت عليهم “. (*)

[ 65 ]

الذين أنعمت عليهم بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لم تغضب عليهم ولم يضلوا (1). وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة: بإسناده إلى خيثمة الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، حديث طويل، وفيه يقول (عليه السلام): ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله عزوجل ونحن من نعمة الله على خلقه (2). غير المغضوب عليهم: بدل من ” الذين أنعمت ” أو صفة له مبينة بناء على إجراء الموصول مجرى النكرة، كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني *……………. (3) – أو على جعل ” غير المغضوب عليهم ” معرفة، بناء على اشتهار المنعم عليهم بمغايرة المغضوب عليهم، كما في قولك: عليك غير السكون. أو مقيدة على معنى إن المنعم عليهم هم الذين جمعوا بين النعمة المطلقة – وهي نعمة الايمان – وبين السلامة من الغضب والضلال. وقرئ بالنصب على الحال، وذو الحال الضمير في عليهم، والعامل أنعمت، أو بإضمار أعني، أو بالاستثناء، إن فسر النعم بما يعم القبيلتين. والغضب ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله أريد الانتهاء والغاية، و (عليهم) في محل الرفع على الفاعلية. وإنما جاء بالانعام مبنيا للفاعل، ليدل على ثبوت إنعام الله عليهم. وبالغضب مبنيا للمفعول، لان من طلبت منه الهداية و نسب إليه الانعام، لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لان المقام مقام تلطف ورفق لطلب الاحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.


(1) تفسير فرات الكوفي: ص 2، ومعاني الاخبار: باب معنى الصراط، ص 36، ح 8، وفيه ” لم يغصب “. (2) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1، ص 206، باب الحادى والعشرون، قطعة من ح 20، وفيه ” الله عزوجل “. (3) وتمامه: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني، لرجل من بني سلول، نقلا عن هامش الكشاف: ج 1، ص 16. (*)

[ 66 ]

وفي كتاب الاهليلجة: قال الصادق (عليه السلام): وأما الغضب فهو منا إذا غضبنا تغيرت طبائعنا، وترتعد أحيانا مفاصلنا، ومالت ألواننا، ثم نجئ من بعد ذلك بالعقوبات، فسمي غضبا، فهذا كلام الناس المعروف. والغضب شيئان: أحدهما في القلب، وأما المعنى الذي هو في القلب فهو منفي عن الله جل جلاله، و كذلك رضاه وسخطه ورحمته على هذه الصفة (1). وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله: وروينا بالاسانيد المقدم ذكرها عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن من تجاوز بأمير المؤمنين (عليه السلام) العبودية، فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين (2). ولا الضالين: وقرئ (وغير الضالين) و (لا) هذه هي المسماة بالمزيدة عند البصريين، وهي إنما تقع بعد الواو في سياق النفي للتأكيد، والتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوفين لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع من حيث هو، فيجوز حينئذ ثبوت أحدهما، والنفي الذي وقعت (لا) بعد الواو في سياقه، هو ما يتضمنه غير، تقول: إنا زيدا غير ضارب، مع امتناع قولك: إنا زيدا مثل ضارب، لانه بمنزلة قولك: إنا زيدا لا ضارب. وقال الكوفيون: هي بمعنى غير، وهذا قريب من كونها زائدة، فإنه لو صرح بغير كان للتأكيد أيضا. والضلال: العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ، وله عرض عريض، والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير. قيل: المغضوب عليهم: اليهود لقوله تعالى: (من لعنه الله وغضب عليه) (3).


(1) بحار الانوار: ج 3، كتاب التوحيد، ص 196. (2) الاحتجاج: ج 2، ص 233، باب احتجاج الامام الرضا (عليه السلام) في ذم الغلاة. (3) سورة المائدة: الآية 60. (*)

[ 67 ]

والضالين: النصارى لقوله تعالى: (قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا) (1). وقيل: يتجه أن يقال: المغضوب عليهم: العصاة، والضالون: الجاهلون بالله، لان المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته، والخير للعمل به، فكان المقابل له من اختلت إحدى قوتيه العاقلة والعاملة، والمخل بالعمل فاسق: فمغضوب عليه، لقوله تعالى في القاتل عمدا: (وغضب الله عليه) (2). والمخل بالعلم جاهل ضال لقوله تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (3). وأقول: يحتمل أن يكون المراد (بالمغضوب عليهم): الكفار الذين غضب عليهم فلم يهتدوا إلى طريق من طرق الحق أصلا. وبالضالين: الذين من الله عليهم بالاسلام وأدخلهم في زمرة أهل الايمان، فضلوا الطريق ولم يتفطنوا لما هو المرام. وقرئ ” ولا الضالون ” بالرفع، و (لا الضالين) بالهمزة على لغة من جد في الهرب عن إلتقاء الساكنين. وفي الحديث: إذا قال العبد: (إهدنا الصراط المستقيم) إلى آخرها، قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وآمنته ما منه وجل (4). وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن علي بن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إبليس رن رنتين: لما بعث الله نبيه (صلى الله عليه وآله) على حين فترة من الرسل، وحين نزلت أم الكتاب (5). وروي عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات تمامها (بسم الله الرحمن الرحيم)، سمعت رسول الله


(1) سورة المائدة: الآية 77. (2) سورة النساء: الآية 93. (3) سورة يونس: الآية 32. (4) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 301، ح 59. (5) تفسير القمي: ج 1، ص 29، وفيه: ” إن إبليس أن أنينا ” (*)

[ 68 ]

(صلى الله عليه وآله) يقول: إن الله عزوجل قال لي: يا محمد (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القران، وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإن الله عزوجل خص محمدا و شرفه بها، ولم يشرك معه فيها أحدا من أنبيائه، ما خلا سليمان فإنه أعطاه منها (بسم الله الرحمن الرحيم) ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد وآله الطاهرين، منقادا لامرهم، مؤمنا بظاهرهم وباطنهم، أعطاه الله بكل حرف منها حسنة، كل حسنة منها أفضل من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع قارئا يقرؤها كان له ما للقارئ، فليشكر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فإنه غنيمة لا يذهبن أوانه فيبقي في قلوبكم الحسرة (1). وأعلم أن (آمين) ليس من القرآن، ولا تجوز قراءته بعد فاتحة الكتاب عند الشيعة، لا للامام ولا للمأموم ولا للمنفرد، وعليه الآثار الواردة عن الائمة رضوان الله عليهم. روي في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قراءتها، فقل أنت: الحمد لله رب العالمين، ولا تقل: آمين (2). وروي أيضا أن محمد بن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): أقول إذا فرغت من فاتحة الكتاب: آمين ؟ قال: لا (3). لكن المتسننة ذهبوا إلى أن قراءته بعد فاتحة الكتاب للمأموم مستحبة، لكنه ليس عندهم من القرآن إلا عند مجاهد، وذكروا في ذلك أحاديث تدل على تأكد استحبابها، لا نعرفها. قالوا: قال (عليه السلام): علمني جبرئيل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب، وقال: إنه كالختم على الكتاب (4).


(1) تفسير الامام العسكري: ص 10، وأمالي الصدوق: المجلس الثالث والثلاثون: ص 148، وفيه: ” فليستكثر أحدكم “. (2) الوسائل: ج 4، كتاب الصلاة، باب 17، من ابواب القراءة في الصلاة، ص 752، ح 1. (3) الوسائل: ج 4، كتاب الصلاة، باب 17، من أبواب القراءة في الصلاة، ص 752، ح 3. (4) بالرغم من الفحص الشديد لم نعثر في الصحاح والسنن والتفاسير على هذين الحديثين. لا حظ = (*)

[ 69 ]

………………………


= ما راجعناه من الموارد المظنونة في الكتب التالية: 1 – صحيح مسلم: ج 1، كتاب الصلاة، ص 306، باب 18، التسميع والتحميد والتأمين. 2 – صحيح البخاري: كتاب الاذان، باب جهر الامام بالتأمين، باب فضل التأمين، باب جهر المأموم بالتأمين. 3 – سنن النسائي: ج 2، كتاب الافتتاح، ص 110، جهر الامام ب‍ (آمين)، باب الامر بالتأمين خلف الامام، فضل التأمين. 4 – سنن ابن ماجة: ج 1، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، ص 277، باب 14، باب الجهر ب‍ (آمين). 5 – سنن الترمذي: ج 2، أبواب الصلاة، ص 27 باب 184، باب ما جاء في التأمين وباب 185، ما جاء في فضل التأمين. 6 – الموطأ: ج 1، كتاب الصلاة، ص 87، باب 11، ما جاء في التأمين خلف الامام. 7 – سنن البيهقي: ج 2، كتاب الصلاة، ص 55، باب التأمين. 8 – جامع الاصول لابن الاثير: ج 6، حرف الصاد، ص 223، الفرع الثاني في الفاتحة والتأمين. 9 – كنز العمال للمتقي: ج 7، حرف الصاد، كتاب الصلاة، ص 445، التأمين. 10 – المصنف للصنعاني: ج 2، ص 95، باب آمين. 11 – المغني لابن قدامة: ج 1، ص 564، مسألة 676. 12 – المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني: ج 1، ص 123، باب التأمين. 13 – مجمع الزوائد للهيثمي: ج 2، ص 112، باب التأمين. 14 – تفسير الثعالبي (جواهر الحسان في تفسير القرآن): ج 1، ص 26، القول في آمين. نعم: في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي: ط بيروت، ج 1، ص 25، س 13، أورد الحديثين كما في المتن. ويؤيده ما في الدر المنثور: ج 1، ص 43، ذكر آمين، قال: وأخرج أبو داود بسند حسن عن أبي زهير النميري، وكان من الصحابة، أنه كان إذا دعا الرجل بدعاء قال: اختمه ب‍ (آمين) فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة، وقال: اخبركم عن ذلك ؟ خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة، فوقف النبي (صلى الله عليه وآله) يسمع منه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أوجب إن ختم. فقال رجل من القوم: بأي شئ يختم ؟ قال: ب‍ (آمين)، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب. وفي سنن أبي داود: ج 1، باب التأمين وراء الامام، ص 247، الحديث 938، أورده كما نقله عنه في الدر المنثور، وزاد بعده: فانصرف الرجل الذي سأل النبي (صلى الله عليه وآله) فأتى الرجل فقال: اختم يا فلان بآمين وابشر. = (*)

[ 70 ]

وفي معناه قول علي (عليه السلام): آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده (1) يعني: كما أن الختم يحفظ الكتاب عن فساد ظهور مضمونه على غير المكتوب إليه، كذلك يحفظ قول آمين دعاء العبد عن فساد ظهور الخيبة وعدم الاجابة فيه. وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا قال: إذا قال الامام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال الملائكة: آمين، فقولوا: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (2). وأحاديثنا الصحيحة تدل على وضع تلك الاخبار، كما مر. وبالجملة: هو اسم فعل، معناه استجب، مبني على الفتح، وفيها لغتان، المد والقصر وقيل: تشديد الميم خطأ، لكنه يجوز التشديد من (أم) إذا قصد، أي حال كوننا قاصدين نحوك.


= وفي كتاب الترغيب والترهيب لعبد العظيم المنذري: ج 1، ص 327: (الترغيب في التأمين خلف الامام)، الحديث 7، أورده كما في سنن أبي داود. وفي تفسير القرطبي (الجامع لاحكام القرآن) ج 1، ص 127، قال: الباب الثالث في التأمين وفيه ثمان مسائل. وفي المسألة الثالثة أورد الحديث كما في سنن أبي داود، وزاد بعد ذلك: وفي الخبر: لقنني جبرئيل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب، وقال: إنه كالخاتم على الكتاب، قال الهروي: قال أبو بكر: معناه أنه طابع الله على عباده، لانه يدفع به عنهم الآفات والبلايا، فكان كخاتم الكتاب الذي يصونه و يمنع من إفساده وإظهاره ما فيه. (1) كما ذكر في الهامش رقم 3، من صفحه 52. (2) صحيح البخاري: ج 6، كتاب التفسير، باب غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ص 21. (*)

[ 71 ]

[ سورة البقرة ] أي سورة تذكر فيها قصة البقرة. وإنما سميت بها لغرابة قصتها، وامتياز هذه السورة بها عن سائر السور. وهي مدنية، بل أول سورة نزلت بالمدينة إلا آية نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع ” واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ” الآية (1). وآيها مائتان وسبع وثمانون. في كتاب ثواب الاعمال بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة البقرة وآل عمران، جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغيابتين (2) و (3). وفيه: عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قرأ أربع آيات من أول البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وما له شيئا يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسى القرآن (4). وفي مجمع البيان: وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي سور القرآن


(1) سورة البقرة: الآية 281. (2) العرب تسمي ما لم تصبه الشمس من النبات كله، الغيبان بتخفيف الياء، والغيابة كالغيبان، لسان العرب: ج 1، ص 655، في لغة (غيب) (3) ثواب الاعمال: ص 130، وفيه: جاءتا يوم… مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين. وفي بعض النسخ (العبايتين). (4) ثواب الاعمال: ص 130. (*)

[ 72 ]

[ بسم الله الرحمن الرحيم الم (1) ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون (3) ] أفضل ؟ قال: البقرة، قال: أي آيي القرآن أفضل ؟ قال: آية الكرسي (1). بسم الله الرحمن الرحيم الم: وسائر الالفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها، وقد روعيت في التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت كأساميها، وهي حروف وحدان، والاسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى، فلم يغفلوها وجعلوا المسمى صدر كل اسم كما ترى في الالف، فإنهم استعاروا لهمزة مكان مسماها، لانه لا يكون إلا ساكنا، وإنما كانت أسماء لدخولها في حد الاسم، و اعتوار ما يختص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبو علي (2). وما روى ابن مسعود أنه (عليه السلام) قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله


(1) مجمع البيان: ج 1، ص 32 وفيه ” آي البقرة ” (2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 19، وفيه: ” كما ترى الا في الالف “. (*)

[ 73 ]

حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف (1). فالمراد فيه من الحرف الكلمة، فيحتمل أنه سبحانه أراد بها الحروف الملفوظة على قصد تعديدها أو تسمية بعض السور، أو القرآن، أو ذاته سبحانه بقسم أو غير قسم. فالنكتة في ذلك التعديد أو التسمية على هذا الوجه أمران: الاول: أنه لما كانت مسميات هذه الاسماء بسائط الكلام التى يتركب منها، افتتحت السور بطائفة منها على وجه التعديد أو التسمية بها، تنبيها لمن تحدى بالقرآن على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن الاتيان بما يدانيه. والثاني: أن تكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مخصوص بمن خط ودرس، فأما الامي الذي لم يخالط أهل الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالتلاوة والكتابة، وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الاديب الاريب الفائق في فنه، من إيراد نصف أسماء الحروف بحيث ينطوي على أنصاف مسمياتها تحقيقا وتقريبا في تسعة وعشرين سورة على عدد الحروف، مع نكات اخر. قيل: ويمكن أن تكون تلك الحروف الملفوظة باعتبار مخارجها إشارة إلى معان دقيقة لطيفة، كما يشيرون بالالف باعتبار مخرجها الذي هو أقصى الحلق إلى مرتبة الغيب، وبالميم باعتبار مخرجها الذي هو الشفة إلى مرتبة الشهادة، وبمخرج اللام الواقع بينهما إلى ما يتوسط من المراتب، فالمشار إليه (الم) مرتبة الغيب والشهادة وما بينهما، وذلك المشار إليه هو الكتاب الوجودي الذي لا يخرج منه شئ. ويمكن حملها على معانيها الحسابية إشارة إلى مدد أقوام واجال أو غير ذلك بحساب ذلك.


(1) التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول: ج 4، ص 6. (*)

[ 74 ]

ويدل عليه ما روي أنه (عليه السلام) لما أتاه اليهود تلا عليهم (الم) البقرة، فحسبوا وقالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة ؟ فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: وهل غيره ؟ فقال: المص والر والمر. فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ ؟ ! (1). فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك. وقيل: يمكن حمله على الاشارة بصورها الكتابية الرقمية إلى معان أخر، كما يشيرون بالالف إلى الوجود النازل من علو غيب الاطلاق إلى مراتب التقييد من غير انعطاف. وباللام إليه مع انعطاف من غير أن يتم دائرته، وبالميم إلى تمام دائرته، فيعم مراتب الوجود. ويمكن أن يجعل تلك الحروف إشارة إلى كلمات هي منها اقتصر عليها، فالالف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه. وروي أن (الم) معناه أنا الله أعلم (2). وأن الالف من الله، واللام من جبرئيل، والميم من محمد، أي القرآن منزل من الله على لسان جبرئيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله) (3). وقال الصادق (عليه السلام): الالف حرف من حروف قولك: (الله) دل بالالف على قولك: (الله)، ودل باللام على قولك: (الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين)، ودل بالميم على أنه (المجيد المحمود في كل افعاله) (4). وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل بن صالح،


(1) معاني الاخبار: ص 23، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ح 3، والظاهر أن الحديث نقل ملخصا. (2) معاني الاخبار: باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 22، ح 1، وفيه: أنا الله الملك. (3) مجمع البيان: ج 1، ص 32، قال: وعنه أيضا أن (الم) الالف منه تدل على اسم الله، واللام تدل على جبرائيل، والميم تدل على اسم محمد (صلى الله عليه وآله). (4) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 22، والحديث طويل. (*)

[ 75 ]

عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الم) وكل حرف في القرآن منقطعة من حروف اسم الله الاعظم الذي يؤلفه الرسول والامام (عليهما السلام) فيدعو فيجاب (1). ويحتمل أن يكون الكل مع احتمالات أخر لا تنافي الشرع، ليس هنا موضع ذكرها مرارا، والله أعلم بحقيقة الحال. وهذه الاسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وبكر، حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه. والدليل على أن سكونها وقف آية يقال: صلى الله عليه وآله و (ق) و (ن) مجموعا فيها بين الساكنين، وإذا وقفت على آخرها قصرت، لانها في تلك الحالة خليقة بالاخف الاوجز. ومدت في حال الاعراب، وهى إما مفردة كصلى الله عليه وآله، أو على زنة مفرد ك‍ (حم) فإنه كهابيل، أو لا، الاول يجوز فيه الاعراب والحكاية، والثاني ليس فيه إلا الثاني، فقوله (الم) في محل النصب على حذف حرف القسم وإعمال فعله، أو الجر على تقديمه، أو الرفع على أنه مبتدأ ما بعده خبره، أو خبر محذوف المبتدأ. ذلك: اسم إشارة مركب من اسم وحرفين، فالاسم (ذا) للمذكر الواحد. أما ذكورة المشار إليه، فلتأثيره في نفس المخاطب، وإنتاجه فيها معرفة الحق وصفاته سبحانه. وأما إفراده فلان المشار إليه وإن كان متعددا في نفسه، لكنه ملحوظ من حيث أحدية الجمعية، كما يدل عليه الاخبار عنه بالكتاب المنبئ عن الجمعية أو توصيفه به. وأحد الحرفين (اللام) الدال بتوسطه بين اسم الاشارة والمخاطب على بعد المسافة بينه وبين المشار إليه، ووجه البعد عدم إمكان إحاطة فهم المخاطب بما


(1) معاني الاخبار: باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 23، ح 2، والحديث عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ولفظ الحديث قال: الم هو حرف من حروف اسم الله الاعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله) والامام، فإذا دعا به أجيب. (*)

[ 76 ]

يقصد به. والآخر (الكاف) الدال على ذكورة المخاطب وإفراده. أما ذكورة المخاطب فلان المخاطب أولا هو النبي (صلى الله عليه وآله) بحسب حقيقة مرتبة الابوة بالنسبة إلى جميع أفراد الآدميين. كما قيل بلسان مرتبته: وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى شاهد بابوتي – وأما إفراده فلانمحاء كثرته النسبية في الوحدة الحقيقية. الكتب: الكتب الجمع، يقال: كتبت القربة أي جمعتها، ومنه الكتيبة للجيش، والكتاب بمعناه سمي به المفعول مبالغة، وقيل: بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على العبارات المنظومة قبل الكتابة، لان من شأنها أن تكتب، والحقائق العلمية إن كانت معتبرة لا بأحوالها تسمى حروفا غيبية، ومع أحوالها كلمات عينية. والوجودية بلا أحوالها حروفا وجودية، ومع أحوالها كلمات وجودية. والدالة على جملة مفيدة آية، والبعض الجامع لتلك الجمل سورة، ومجموع تلك المعقولات والموجودات كتابا وفرقانا وقرآنا – أيضا – باعتباري التفصيل والجمع. وفي تركيب قوله: (الم) مع ما بعده أوجه: إن جعلت (الم) اسما للسورة أو للقرآن، أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلك) مبتدا ثانيا و (الكتاب) خبره، والجملة خبر المبتدأ الاول. ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضي الخصال. وأن يكون (الم) خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الم. ويكون (ذلك) خبرا ثانيا، أو بدلا، على أن (الكتاب) صفة. وأن يكون (هذه الم) جملة، و (ذلك الكتاب) جملة أخرى. وإن جعلت (الم) بمنزلة الصوت كان (ذلك) مبتدأ خبره (الكتاب) أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو (الكتاب) صفة وما بعده خبره. أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو، يعني المؤلف من هذه الحروف (ذلك الكتاب).


[ 77 ]

وقرأ عبد الله: الم تنزيل الكتاب، وتأليف هذا ظاهر. وليس شئ منها آية عند غير الكوفيين. وأما عندهم: فالم في مواقعها، والمص وكهيعص وطه وطسم ويس وحم آية، و (حم عسق) آيتان والبواقي ليست بآيات. قيل: إن المفسرين متفقون على أن (ذلك) في موضع الرفع، فإما أن يكون خبرا عن (الم) أو عن محذوف، أو مبتدأ وخبره (الم) (1). وأقول: المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، وجب تقديم المبتدأ، فالخبر في هذه الصورة مع كونه معرفة، كيف يجوز تقديمه. لا ريب فيه: الريب في الاصل مصدر (رابني) الشئ إذا حصل فيه الريبة. وهي قلق النفس واضطرابها، قال (عليه السلام): ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ” (2)، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة، أي يكون الامر مشكوكا فيه مما تقلق النفس له ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن، ومنه ريبة الزمان لما يقلق النفوس من نوائبه، فالمراد به الشك، لا معناه المصدري. وضمير (فيه) راجع إلى الحكم السابق إن كان هناك حكم، أو إلى (الكتاب) أو إلى (ذلك). وإنما نفى الريب مع كثرة المرتابين، لان الريب مع وضوح مزيحه كلا ريب. ويحتمل أن يكون المراد أن القرآن ليس مظنة للريب، بمعنى أن العاقل إذا رجع إلى عقله وترك العناد، ظهرت حقيقته وصدقه عليه غاية الظهور، ولم يبق معه شك وريب أصلا. وأن يكون أن (لا ريب فيه) (للمتقين) و (هدى) حالا عن الضمير المجرور.


(1) في هامش بعض النسخ: القائل مولانا محمد مؤمن السبزواري في تفسيره، منه (قدس سره). (2) الوسائل: ج 18، كتاب القضاء، باب 12، من أبواب صفات القاضي، ص 122، ح 38، نقلا عن الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره الصغير، وص 127، ح 56، نقلا عن الشهيد في الذكرى، ومسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 153، والحاكم في المستدرك: ج 2، ص 13، كتاب البيوع، وتمامه (فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة) وفي عوالي اللئالي: ج 1، ص 394، وج 3، ص 330. (*)

[ 78 ]

وأن يكون الريب المنفى هو الريب بمعناه المصدري، أي ليس فيه إيقاع شك، بأن يكون فيه شئ يوقع في الشك، كالاختلاف المذكور في قوله تعالى: ” ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ” (1). وأن يكون أنه لا ريب فيه في الواقع، وإن كانوا مظهرين للريب، كما روي عن أبي محمد العسكري أنه قال (عليه السلام): لا ريب فيه، لا شك فيه، لظهوره عندهم كما أخبر أنبياؤهم أن محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، يقرؤه هو و أمته على سائر أحوالهم (2). ولم يقدم الظرف كما قدم في قوله: ” لا فيها غول ” (3) لانه لم يقصد هنا إنحصار نفي الريب فيه، كما قصد هناك إنحصار نفي الغول في خمور الجنة. وقرأ أبو الشعثاء: لا ريب فيه بالرفع (4)، والفرق بينها وبين القراءة المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه. والوقف على (فيه) هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على (لا ريب) ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ليتم الكلام الاول، ونظيره قوله تعالى: ” لا صير ” (5)، و قول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه فيه (6). فعلى التقدير الاول يحتمل أن يكون (فيه) صفة للريبة والخبر محذوفا، وأن يكون هو الخبر والمجموع جملة وقعت مؤكدة ل‍ ” ذلك الكتاب ” أو جزاء بعد خبر ل‍ (ذلك) أو لقوله (الم). وعلى التقدير الثاني يحتمل أيضا تلك الاحتمالات، وأن يكون فيه الثاني خبر


(1) سورة النساء: الآية 82. (2) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 22. (3) سورة الصافات: الآية 47. (4) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 19. (5) سورة الشعراء: الاية 50. (6) التفسير الكبير: ج 1، ص 19. (*)

[ 79 ]

الهدى مقدما عليه. هدى: هو مصدر على فعل كالسرى والبكى. وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابله، قال الله تعالى: ” اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ” (1) ويقال: مهدي في موضع المدح كمهتد، ولان اهتدى مطاوع هدى وأن يكون المطاوع في خلاف معناه، ألا ترى إلى نحو غمه فاغتم وكسره فانكسر وأشباه ذلك. وهو إما مبتدأ خبره مقدم عليه، أو محذوف، وعلى التقديرين فهو على حقيقته، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، أو حال كما سبق، إما على المبالغة كأنه نفس الهدى، أو على حذف المضاف أي ذو هداية، أو على وقوع المصدر بمعنى اسم الفاعل. قال أبو جعفر (عليه السلام): الكتاب أمير المؤمنين، لا شك فيه أنه إمام هدى (2). للمتقين: المتقي: اسم فاعل من قولهم وقاه يقي. والوقاية فرط الصيانة وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه فرس واق، إذا يقي حافره أذى شئ يصيبه. وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عما يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب: الاولى: التوقي عن الشرك المفضي إلى العذاب المخلد، وعليه قوله تعالى: (و ألزمهم كلمة التقوى) (3). والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وقيل: الصحيح أنها لا يتناولها لانها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره، عن الحق ويتبتل إليه بكلية، وهو التقوى


(1) سورة البقرة: الآية 16. (2) لم نعثر على حديث بهذه الالفاظ، ومما يناسبه ويماثله ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكتاب علي (عليه السلام) لا شك فيه. لاحظ تفسير القمي: ج 1، ص 30. (3) سورة الفتح: الآية 26. (*)

[ 80 ]

الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: (واتقوا الله حق تقاته) (1). قيل: ومن جملة معاني باب الافتعال، الاتخاذ، فمعنى إتقى على هذا إتخذ الوقاية، ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى: ” يا أيها الناس اتقوا ربكم ” (2): اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم وهو ربكم وقاية، فإن الامر ذم وحمد، فكونوا وقايته في الذم واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا ادباء عالمين، فإن توحيد الافعال يقتضي إسناد المحامد والمذام إلى الله، فالسالك إذا أسندهما إليه قبل ذكاء النفس وطهارتها تقع في الاباحة وبعد طهارتها يكون مسيئا للادب، فعلى هذا المتقون هم الذين يتخذون ربهم وقاية لانفسهم وينسبون الكمالات إلى ربهم، لا إلى أنفسهم ليكون لهم إخلاص من ظهور أنياتهم وأنفسهم، ويتخذون أنفسهم وقاية لربهم وينسبون النقائص إلى أنفسهم لا إلى ربهم، ولو كانت في حقيقة التوحيد منسوبة إلى الله تعالى، لئلا يسيئوا الادب إليه سبحانه. وإنما قال: (هدى للمتقين) مع أن المتقين مهتدون، إما بناء على أن المراد بالمتقين المشارفون على التقوى، أو المقصود زيادة وقايتهم، بأن يراد بالهدى زيادة الهدى إلى مطلب لهم، أو التثبت على ما كان حاصلا لهم. ويحتمل أن يراد بالمتقي: الموحد مطلقا. روى الصدوق في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير، عن ابي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) (3) قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا، وأنا أهل إن لم يشرك بي عبدي أن أدخله الجنة (4). قال صاحب الكشف: الاظهر أنه لا يحتاج إلى أحد التجوزين، من حمل الهدى على الازدياد، والمتقي على المشارف، لانه إذا قيل: السلاح عصمة للمعتصم أو عصا


(1) سورة ال عمران: الآية 102. (2) سورة الحج: الآية 1. (3) سورة المدثر: الآية 56. (4) التوحيد: باب 1، ثواب الموحدين والعارفين، ص 19، ح 6. (*)

[ 81 ]

له، والمال غنى للمغني، على معنى سبب غنائه، لم يلزم أن يكون سببي عصمة وغناء حادثين غير ما هما، أي المعتصم والغنى فيه، إذ لا دلالة له على الزمان. واجيب بأن المتبادر إلى الفهم من تعلق الفعل بشئ، هو إتصاف ذلك المتعلق بما عبر عنه عند اعتبار المتعلق حتى يقال: فيه شفاء للمريض ومرض للصحيح، ولو عكس لم يصح إلا بتأويل. وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن معناه بيان وشفاء للمتقين من شيعة محمد وعلي (عليهما السلام). اتقوا أنواع الكفر فتركوها، واتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتقوا أسرار الله وأسرار أزكياء عباده الاوصياء بعد محمد صلوات الله عليهم فكتموها، واتقوا سر العلوم عن أهلها المستحقين لها ففيهم نشروها (1). الذين يؤمنون: يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، على أنه صفة للمتقين كما هو الظاهر، أو بدل أو عطف بيان. فأما الرفع فإما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين يؤمنون، أو مبتدأ خبره (اولئك على هدى). وأما النصب فعلى المدح بتقدير أعني. وإذا كان صفة فهي إما مقيدة، إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي كما هو المناسب لمعناه اللغوي، وهو الاحتراز، فحينئذ يراد بالمتقي من يحترز عن المعاصي أي فعل القبائح والمنهيات، سواء يمتثل الاوامر ويأتي بالحسنات أم لا، فعلى هذا تكون الصفة مقيدة مخصصة. فإن قلت: إجتناب المعاصي كلها يستلزم الاتيان بالطاعات، لان ترك الطاعة معصية. قلت: إن المراد بالمعاصي كما هو المتبادر ما يتعلق به صريح النهي، وترك المأمور به منهي عنه ضمنا أو أن مبنى هذا الكلام على أن المعصية فعل ما نهي عنه، وأن الترك ليس بفعل. وكذا إن أريد بالتقوى الاولى من مراتبها الثلاث، فإن المراد بالمتقين حينئذ من يجتنبون عن الترك، فتوصيفهم بالذين يؤمنون لا يكون


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 24. (*)

[ 82 ]

إلا تقييدا أو تخصيصا، أو كاشفة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات، وحمل الذين يؤمنون إلى آخره على ما يساويه، والتقوى بهذا المعنى بعينه هي المرتبة الثانية من مراتبه، وهي حقيقة معناه عند الجمهور. وأما إذا أريد بها المرتبة الثالثة التي لا يتحقق بها إلا الخواص، فيمكن أن تكون أيضا صفة كاشفة، يظهر وجهه للمتأمل الصادق فيما سيأتي من بعض بطون الآية. أو مادحة ذكرت لمجرد المدح والثناء، وتخصيص ما ذكر إظهارا لفضله على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى. وقد فرق بين المدح صفة والمدح اختصاصا، بأن الوصف في الاول أصل والمدح تبع، وفي الثاني بالعكس. وبأن المقصود الاصلي من الاول إظهار كمال الممدوح والاستلذاذ بذكره، ومن الثاني إظهار أن تلك الصفة أحق باستقلال المدح من باقي صفاته الكمالية، إما مطلقا أو بحسب ذلك المقام. والايمان: إفعال من الامن من المتعدي إلى مفعول واحد، والهمزة للتعدية إلى مفعولين، تقول: أمنت عمروا وأمننيه زيد، أي جعلني آمنا منه. وقيل: الهمزة للصيرورة نحو أعشب المكان، بمعنى صار ذا عشب، فمعنى أمن، صار ذا أمن. وقيل: المطاوعة نحو كبه فأكبه، أي أمنه فأمن، ثم نقل إلى التصديق ووضع له لغة، ثم إنك إذا صدقت زيدا فقد اعترفت بكلامه فعدي بالباء على تضمين معنى الاعتراف. وفي عرف الشرع: هو التصديق بما علم بالضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وآله) كالتوحيد والنبوة والامامة والبعث والجزاء كما هو ظاهر. وقيل: مجموع ثلاثة أمور، إعتقاد الحق، والاقرار به، والعمل بمقتضاه، وهذا مذهب المعتزلة والخوارج، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالاقرار فكافر، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا، وكافر عند الخوارج، خارج من الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة. واختلف القائلون بأن الايمان هو التصديق وحده، في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف في المقصود، أو لابد من انضمام الاقرار للمتمكن منه ؟ ولعل الحق هو الثاني لانه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر. وللمانع أن يجعل الذم


[ 83 ]

للانكار لا لعدم الاقرار. ولا بأس علينا أن نذكر معنى التضمين هنا فإنه يناسبه، فنقول: التضمين أن يقصد بفعل معناه الحقيقي ويلاحظ معه فعلا آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شئ من متعلقات الاخر، كقولك: ” أحمد إليك فلانا “، فإنك لما جعلت فيه مع الحمد معنى الانهاء ودللت عليه بذكر صلته، أعني كلمة (إلى) كأنك قلت: أنهي حمده إليك. ثم إنهم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلا والمحذوف قيدا على أنه حال، وتارة يعكس. وذهب آخرون إلى أن كلا المعنيين مراد بلفظ واحد على طريق الكناية، إذ يراد بها معناه الاصلي ليتوصل بفهمه إلى ما هو المقصود الحقيقي، فلا حاجة إلى تقدير، إلا لتصور المعنى. وفيه ضعف، لان المعنى المكنى به في الكناية قد لا يقصد ثبوته، وفي التضمين يجب القصد إلى ثبوت كل من المضمن والمضمن فيه. والاظهر أن يقال: إن اللفظ مستعمل في معناه الاصلي، فيكون هو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعية معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ و يقدر له لفظ آخر، فلا يكون من باب الكناية ولا من الاضمار، بل من قبيل الحقيقة التى قصد بمعناها الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الارادة. فاحفظ هذه المسألة فإنها مفيدة. بالغيب: الغيب مصدر غاب غيبا، حمل على الغائب مبالغة، أو على حذف مضاف، أو على جعل المصدر بمعنى اسم الفاعل، وإما مخفف فيعل كهين وهين و أمثاله. ورد ذلك بأن هذا لا يدعى إلا فيما يسمع مثقلا كنظائره، وذلك ليس من هذا القبيل، والمراد به الخفي الذي لا يكون محسوسا ولا في قوة المحسوس كالمعلومات ببديهة العقل، وذلك كذاته سبحانه وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأحوال الآخرة، إلى غير ذلك من كل ما يجب على العبد أن يؤمن به وهو غائب عنه لا


[ 84 ]

يشاهد ولا يعاينه، فالايمان لا يكون عن المؤمن إلا عن غيبه، سواء كان تقليدا أو نظرا أو استدلالا، فإذا ارتفع عن درجة الايمان كان عارفا مشاهدا. ولهذا فرق جبرئيل بين درجة الايمان وما فوقه عند سؤاله النبي (صلى الله عليه وآله)، حيث قال: يا محمد، أخبرني ما الايمان وما فوقه ؟ قال (عليه السلام): الايمان أن تؤمن بالله والملائكة والكتب والنبيين وتؤمن بالقدر كله. ثم قال: يا محمد، أخبرني ما الاحسان ؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1)


(1) رواه جل أئمة الحديث بعبائر مختلفة وأسانيد متعددة، ونحن ننقل بعض أحاديثه مبسوطا من جامع الاصول لابن الاثير، ففيها إشارة إلى الاحاديث الاخر. يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنى، فانطلقت وحميد بن عبد الرحمن الحميري – حاجين أو معتمرين – فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ؟ فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه داخل المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا اناس يقرؤون القرآن ويتفقرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الامر أنف، فقال: إذا لقيت اولئك فأخبرهم: أني برئ منهم وأنهم براء مني، والذى يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لاحدهم مثل احد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه (وآله) وسلم) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد، أخبرني عن الاسلام ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم): الاسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الايمان ؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الاحسان ؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة ؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها ؟ قال: أن تلد الامة رتبها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبث مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم. جامع الاصول لابن الاثير: ج 1، الفصل الاول من الباب الاول من الكتاب الاول، في الايمان والاسلام ص 128. (*)

[ 85 ]

فقوله: ” أن تعبد الله كأنك تراه ” أي تعبده، حين تراه بعين بصيرتك وقوة يقينك كأنك تراه، فكما أن المبصر بعين البصر لا يحتاج إلى الاستدلال، فكذلك بعين البصيرة وقوة اليقين لا يحتاج إليه، فهو بالنسبة إليك بمنزله المشهود المحسوس، فدرجة الاحسان فوق الايمان. وإنما سمي ذلك إحسانا، لانه إنعام من الله تعالى وفضل، ليس للعبد فيه تسبب، بخلاف الايمان فإنه مكتسب. ويمكن أن يراد بالغيب غيب الغيوب، الذي هو ذاته المطلقة وهويته الغيبية السارية في الكل علما وعينا. والباء على هذه التقادير: للتعدية، متعلقه المتضمن للايمان، ويمكن أن تكون للمصاحبة متعلقة بمحذوف يقع حالا. والغيب بمعناه المصدري، أي يؤمنون حال كونهم متلبسين بغيبتهم عن المؤمن به، أو بغيبة المؤمن به عنهم. أو المعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم، لا كالمنافقين الذين (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) (1) وأن تكون للاستعانة أي يؤمنون باستعانة غيوبهم التي هي نفوسهم الناطقة و أرواحهم المجردة التي هي غيب وجوداتهم، فإن نسبة الحق سبحانه إلى العالم كنسبة النفس الناطقة إلى البدن، فبالقياس إليها يعرفون الحق سبحانه ويؤمنون به و بصفاته الكمالية، وعلى هذا حمل بعضهم قوله (عليه السلام): (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (2). وقيل: المراد بالغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لا كمن (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (3) ومفعول يؤمنون على هذه التقادير محذوف يعم جميع ما يجب أن يؤمن به.


(1) سورة البقرة: الآية 14. (2) عوالي اللئالي: ج 4، ص 102، ح 149، وفي الجواهر السنية في الاحاديث القدسية: ص 116. (3) سورة آل عمران: الآية 167. (*)

[ 86 ]

ويحتمل أن يكون المراد بالغيب قيام القائم (عليه السلام)، ويدل عليه ما روي عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) قال: من أقر بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق (1). وروى ايضا بإسناده عن يحيى بن أبي القاسم قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) فقال: المتقون شيعة علي (عليه السلام) والغيب هو الحجة الغائب (2). ويقيمون الصلوة: القيام في الاصل الانتصاب، وإقامة الشئ جعله منتصبا، فكأنهم يجعلون الصلاة منتصبة من حضيض ذل العدم أو النقصان إلى ذروة عز الوجود أو الكمال، أي يحصلونها – أو يأتون بها – على ما ينبغي، وأيضا قيام الشئ وجوده، ومنه قولهم: إنه قائم بنفسه أو بغيره، وقولهم القيوم: هو القائم بنفسه المقيم لغيره، والقوام: لما يقام به الشئ أي يحصل. فعلى هذا معنى إقامة الصلاة تحصيلها وإيجادها كما في الوجه الاول من الاقامة بمعنى الانتصاب، ويلائم الوجه الثاني جعله من أقام العود، إذا قومه أي سواه، على أن يستعار من تسوية الاجسام كالعود ونحوه لتعديل الاركان، نقلا من المحسوس إلى المعقول. ويحتمل أن يجعل من قامت السوق إذا نفقت – أي راجت – وأقامها أي جعلها نافقة رائجة، ويقصد بها الدوام والمحافظة عليها، لانها إذا حوفظ عليها كانت كالشئ النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشئ الكاسد الذي لا يرغب فيه.


(1) كمال الدين وتمام النعمة: باب 33 ما روي عن الصادق (عليه السلام) من النص على القائم (عليه السلام) ص 340، ح 19. (2) كمال الدين وتمام النعمة: باب 33، ما روي عن الصادق (عليه السلام) من النص على القائم (عليه السلام)، ص 340، ح 20. (*)

[ 87 ]

وأن يجعل من قولهم: قام بالامر، أي تجلد وتشمر له، فإقامة الصلاة على هذا جعلها متجلدة متشمرة، أي كالمتجلدة المتشمرة لاخراج المصلي عن عهدة أدائها، أو إنقاذها عن تبعة تركها، ولا يتيسر ذلك إلا بتجلد المصلي وتشمره لها، فجعل كناية عنه. وبالجملة: فالمراد بإقامتها تحصيلها الذي هو أداؤها مطلقا، أو تعديل أركانها الظاهرة، وتقويم حقائقها الباطنة، أو الدوام والمحافظة عليها، أو التجلد والتشمر لادائها. والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، كتبت بالواو على لفظ المفخم اسم الفاعل، والتفخيم هنا إمالتها نحو الواو، وقيل: للدلالة على أنها واوية. والمشهور أنها في اللغة بمعنى الدعاء، وورود الصلاة بمعنى الدعاء في كلام العرب قبل شرعية الصلاة المشتملة على الاركان المخصوصة، وفي كلام من لا يعرفها دليل على ذلك، ثم نقلت إلى ذات الاركان لاشتمالها على الدعاء، أو لانها دعاء بتمامها بالالسنة الثلاثة، القول والفعل والحال، ووجه إطلاق المصلي على الداعي ظاهر. وقيل: إنها من صلى بمعنى حرك الصلوين، أي طرفي الاليين (1) وذلك لان أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصلوين للركوع، فإن القيام لا يختص بالصلاة. وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخضعه بالراكع والساجد. وإقامة الصلاة أعم من المفروضات والمسنونات. ومما رزقنهم ينفقون: الرزق في الاصل الاخراج، لان التركيب وقلبه أعني زرق يدلان عليه، وشاع في اللغة أولا على إخراج خط إلى آخر ينتفع به. وهذا يلائم ما يذهب إليه بعضهم حيث يجعلون الرزق عاما، بحيث يتناول كل غذاء جسماني كالاطعمة والاشربة وغيرهما، وروحاني كالعلوم والمعارف، ثم شاع استعمالا وشرعا على إعطاء الحيوان ما ينتفع به، ويستعمل بمعنى المرزوق كثيرا،


(1) لسان العرب: ج 14، ص 465، قال أهل اللغة في الصلاة: انها من الصلوين، وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها وأول موصل الفخذين من الانسان، فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العصعص. (*)

[ 88 ]

والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام – لانه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه – قالوا: الحرام ليس برزق. وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال، فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله بقوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) (1). والاشعرية جعلوا الاسناد للتعظيم، والتحريض على الانفاق، والذم لتحريم ما لم يحرم، واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة، وتمسكوا في شمول الرزق له بقوله (عليه السلام) في حديث عمرو بن قرة: لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله (2). وبأنه لو يكن رزقا لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقا، وليس كذلك لقوله تعالى: ” وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ” (3). وأنفق الشئ وأنفده أخوان، وكذا كل ما كان فاؤه نونا وعينه فاء يدل على معنى الذهاب والخروج. والمراد من إنفاق ما رزقهم الله: صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل. ومن فسر بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والاصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما


(1) سورة يونس: الاية 59. (2) البحار: كتاب العدل والمعاد، ج 5، باب 5، الارزاق والاسعار، ص 150، ذيل حديث 13، ولفظ الحديث: عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ جاء عمر بن قرة فقال: يا رسول الله، إن لله كتب علي الشقوة فلا أراني ارزق إلا من دفي بكفي، فأذن في الغناء من غير فاحشة. فقال (صلى الله عليه وآله): لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، أي عدو الله، لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا. ورواه الامام الفخر الرازي في التفسير الكبير: ج 2، ص 30، قال: ” وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله إذ جاءه عمرو بن قرة ” إلى آخره. (3) سورة هود: الآية 6. (*)

[ 89 ]

هو شقيقها. وتقديم المفعول للاهتمام، أو لتخصيص الانفاق ببعض المال الحلال، تأكيدا لما يفيده من التبعيضية، أو للمحافظة على رؤوس الآي. وما المجرورة موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف، والتقدير رزقناهموه، أو رزقناهم إياه. وإنما حذف العائد الذي هو كناية عن الرزق، لا العائد إلى المرزوقين، ليكون الوجود اللفظي على طبق الوجود العيني، لانطواء الرزق في المرزوق واختفائه فيه. ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول، وأن تكون (من) لابتداء الغاية لا للتبعيض. أقول: إنما كني بضمير الجمع عن نفسه وهو واحد لا شريك له، لانه خطاب الملوك، وهو مالك الملوك. ووجه ذلك عند بعضهم أن ما يصدر عن الله سبحانه من الافعال إنما هو بواسطة الاسماء، وللاسماء جهتان: جهة وحدة حقيقية من حيث الذات، وجهة كثرة نسبية من حيث النسب والاعتبارات، فإذا اقتضى المقام اعتبار الجهة الاولى أتى بما يدل على الوحدة، وإذا اقتضى المقام اعتبار الجهة الثانية أتى بما يدل على الكثرة. ولما اعتبر هنا جانب المرزوقين روعيت الجهة الثانية، فإن لكل مرزوق استعدادا خاصا بطلب رزقه من اسم خاص يناسبه. قيل: ولا يبعد أن يقال: المراد بالانفاق أنهم يتصدقون للفطر حين يصومون، و لاداء الزكاة عند وجود النصاب وحولان الحول، وينفقون لاداء الحج للزاد والراحلة لانفسهم ولرفقائهم، فيكون قوله تعالى: (بالغيب) إشارة إلى أول ركن من أركان الاسلام، وقوله: (ويقيمون) إلى ثانيها، وقوله: (ومما رزقناهم) إلى الثلاثة الباقية. وروي في معنى الآية: أن (المتقين) هم الشيعة (1).


(1) البرهان: ج 1، ص 53، ح 2، والرواية: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ” الم ذلك = (*)

[ 90 ]

[ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) ] الذين يؤمنون بالغيب: وهو البعث والنشور وقيام القائم والرجعة (1). ومما رزقنهم ينفقون: مما علمناهم من القرآن يتلون (2). والذين يؤمنون بما أنزل إليك: مرفوع أو منصوب عطفا على الذين يؤمنون بالغيب، أو مجرور عطفا عليه أو على المتقين. فعلى الاول يكون دخوله تحت المتقين دخول أخص تحت أعم، إذ المراد باولئك: الذين آمنوا عن شرك وإنكار، و بهؤلاء مقابلوهم، فتكون الآيتان تفصيلا للمتقين. وعلى الثاني لا يكون مندرجا تحت المتقين، والمعنى: هدى للمتقين عن الشرك والذين آمنوا من أهل الملل، فعلى هذا يكون المراد بالاولين: المؤمنين من الشرك، وبالآخرين: المؤمنين من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، وعلى التقديرين يحتمل أن يراد بهم الاولون بأعيانهم ووسط العاطف، كما وسط في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (3) –


= الكتاب لا ريب فيه ” قال: ” كتاب علي لا ريب فيه هدى للمتقين، قال: المتقون شيعتنا.. الخ “. (1) البرهان: ج 1، ص 53، ح 5، والرواية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ” الذين يؤمنون بالغيب ” قال: ” والغيب فهو الحجة الغائب.. الخ “. وتفسير القمي: ج 1، ص 30، والرواية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ” الذين يؤمنون بالغيب ” قال: ” يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد.. الخ “. (2) البرهان: ج 1، ص 53، ح 1. (3) جامع الشواهد: ص 57، باب الالف بعده اللام. لم سم قائله، الجار والمجرور متعلق بالمحذوف، أي أسوق مطيتي، والملك ككتف: السلطان المقتدر، = (*)

[ 91 ]

وقوله: يا لهف زيابة للحارث * الصابح فالغانم فالآيب (1) – والمعنى أنهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل جملة، والاتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الايمان بما لا طريق إليه غير السمع. وكرر الموصول، تنبيها على تباين السبيلين، أو طائفة منهم وهو مؤمنو أهل الكتاب ذكرهم مخصصين عن الجملة، كذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لامثالهم. ويحتمل أن يكون مع ما عطف عليه مبتدأ وأولئك خبره. والانزال تحريك الشئ من العلو إلى السفل، فالمراد بالمنزل إن كان الكلام الذي هو صفته، فإنزاله تحريكه بالحركة المعنوية إلى مظاهره السفلية بعد ظهوره في المظاهر العلوية، فإنه يظهر أولا في المظاهر العقلية ثم النفسية ثم المثالية ثم الحسية. وإن كان كلامه هو القرآن المنتظم من الحروف والكلمات، فإنزاله تحريكه من المعاني العلمية الالهية إلى العقلية ثم النفسية ثم إلى صور الحروف والكلمات المثالية ثم الحسية، وعلى هذا يكون الانزال مستعملا في معناه المجازي، فيكون من قبيل المجاز في المفرد. ولك أن تجعله من قبيل المجاز في الاسناد، بأن يكون الانزال مستعملا في معناه الحقيقي، ويسند إلى القرآن باعتبار حامله الذي هو جبرئيل


= والقرم بالقاف والراء المهملة كفلس: السيد، والهمام كغراب: السيد الشجاع السخي، والليث بالياء والمثلثة كفلس: الاسد، والكتيبة بالمثناة والياء والموحدة كسفينة: الجيش، والمزدحم: اسم مفعول من الازدحام وهو بالزاء المعجمة والدال والهاء المهملتين: الجمعية. (1) هو من أبيات لابن زيابة، واسمه مسلمة بن زهل، وزيابة امه، وكان الحارث قد أغار على قوم الشاعر ولم يكن حاضرا، فهو يتأسف من عدم ملاقاته، وقبله: أنا ابن زيابة إن تدعني * آتك والظن على لكاذب – وبعده: والله لو لاقيته وحده * لآب سيفانا مع الغالب – يعني أتاسف للحارث الذي صبح قومي بالغارة فغنم فرجع صحيحا بأن لا أكون أصادفه فأقتله، جامع الشواهد: ص 374، باب الياء بعده الالف. (*)

[ 92 ]

(صلوات الله عليه). وإنما جاء بصيغة الماضي وإن كان بعضه مترقبا، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ونظيره قوله تعالى: ” إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ” (1)، فإن الجن لم يسمعوا جميعه، ولم يكن الكتاب كله حينئذ منزلا، والمعنى الذين يؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليك بعد ظهورك بالوجود الجسماني الشهادي. وإنما قيدنا بذلك، لانه بحسب الوجود الروحاني العيني مقدم على الكل، قال (صلى الله عليه وآله): (كنت نبيا) أي مبعوثا من عند الله في العالم الروحاني إلى الارواح البشريين والملكيين (وآدم بين الماء والطين) (2) أي لم يكمل بدنه الجسماني الشهادي بعد، فكيف من دونه من أنبياء أولاده ؟ والايمان به – جملة – فرض عين، وتفصيلا – من حيث أنا متعبدون بتفاصيله – فرض لكن على الكفاية، لان وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش. وما أنزل من قبلك: مجرور معطوف على ما أنزل قبله، اي قبل وجودك الجسماني الشهادي، والمراد به التوراة والانجيل وغيرهما، والايمان به – جملة – فرض عين. وقرأ يزيد بن قطيب: بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، على لفظ ما سمي فاعله (3). أقول: من جملة ما أنزل إلى النبي وإلى الانبياء قبله (عليهم السلام) – بل العمدة والاصل – خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه بلا واسطة أحد غيره. يدل على ذلك ما روي أنه قد حضر رجل عند علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل على محمد وما أنزل من قبل، ويؤمن بالآخرة، ويصلي، ويزكي، ويصل الرحم، ويعمل الصالحات، لكنه يقول مع


(1) سورة الاحقاف: الآية 30. (2) عوالي اللئالي: ج 4، ص 121، ح 200، ولاحظ أيضا ما علقنا عليه. (3) الكشاف: ج 1، ص 42 (*)

[ 93 ]

ذلك: لا أدري الحق لعلي أو لفلان ؟ فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها إلا أنه يقول: لا أدري النبي محمد أو مسيلمة ؟ هل ينتفع بشئ من هذه الافعال ؟ فقال: لا. فقال: فكذلك صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالآخرة، أو منتفعا بشئ، من لا يدري أمحمد النبي أم مسيلمة ؟ فكذلك، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالآخرة أو منتفعا بشئ من أفعاله، من لا يدري أعلي المحق أم فلان (1). وبالاخرة هم يوقنون: معطوفة على (يؤمنون) أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، واختلافهم في نعيم الجنة أو هو من جنس نعيم الدنيا أو غيره، وفي دوامه وانقطاعه ؟ والآخر اسم فاعل من (أخر) بالتخفيف، بمعنى تأخر، إلا أنه لم يستعمل، والآخرة تأنيثها، وهي صفة الدار والنشأة، بدليل قوله: (تلك الدار الآخرة) (2)، و (ينشئ النشأة الآخرة) (3) وهي صفة غالبة على تلك الدار، والنشأة كالدنيا على هذه، حتى قلما تستعملان في غيرهما. وقد جرتا مع تلك الغلبة مجرى الاسماء بترك موصوفيهما حتى كأنهما ليستا من قبيل الصفات. وإنما سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، كما سميت الدنيا دنيا لكونها أدنى و أقرب إلينا من الآخرة أو لكونها أقرب النشئات إلى الآخرة، وذلك لان للنفس الناطقة حالتين: حالة تقلقلها بالبدن واشتغالها بتدبيره، والاتيان بواسطته بالاعمال الحسنة والسيئة، وحالة انقطاعها عن البدن وعدم التمكن من الاشتغال بتدبيره، وترتب الا جزية على أعمالها من اللذات والآلام. ولا شك أن الانتقال من الحالة الاولى التي هي الدنيا إلى الثانية التي هي الآخرة، آني دفعي، لا زماني


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 32. (2) سورة القصص: الآية 83. (3) سورة العنكبوت: الآية 20. (*)

[ 94 ]

تدريجي، بخلاف سائر النشئات فإنه يتخلل بينها وبين الآخرة النشأة الدنيوية. وعن نافع أنه خفقها بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام. والايقان: إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه بالاستدلال، ولهذا لا يوصف به علم الباري تعالى والعلوم الضرورية، لا يقال: أيقنت أن السماء فوقي، يقال: يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى. وهو في أصل اللغة ينبئ عن السكون والظهور. يقال: يقن الماء إذا سكن فظهر ما تحته، وقرئ (يؤقنون) بقلب الواو همزة لضم ما قبلها، إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقنت، ونظيره: لحب المؤقدان الي مؤسى * وجعدة إذ أضاءهما الوقود (1) – وفي هذا الكلام تقديمان يفيد كل منهما القصر: أحدهما: تقديم الظرف، أعني (بالآخرة) للقصر عليه، كما في قوله تعالى: (لالى الله تحشرون) (2) يعني أنهم يوقنون بحقيقة الآخرة، لا بما هو على خلاف حقيقتها كما يزعم بعض اليهود. وثانيهما: تقديم المسند إليه، أعني (هم) وبناء الفعل إليه، كما في قولك: ” أنا سعيت في حاجتك ” – يعني أن الايقان بالآخرة مقصور إليهم لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب. وفي هذين القصرين التعريض ببعض أهل الكتاب، وبما هم عليه من أمر الآخرة. أولئك على هدى من ربهم: الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له، وكأنه لما قيل: (هدى للمتقين) قيل: ما بالهم خصوا


(1) الشعر لجرير على ما في الحواشي، وقيل: لابي حية النميري، ومؤسى وجعدة ابناه، وقوله: لحب الخ يروى بفتح الحاء وضمها، وأصله حبب على وزن شرف، والمؤقدان أراد أيقاد نار القرى فإنه المتبادر في استعمالات العرب خصوصا في مقام المدح، نقلا عن حاشية الكشاف للسيد شريف الجرجاني. (2) سورة آل عمران: الآية 158. (*)

[ 95 ]

بذلك ؟ فاجيب بقوله: (الذين) إلى آخره، وإلا فاستئناف لا محل لها، وكأنه نتيجة الاحكام والصفات المتقدمة، أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى ؟ ويحتمل أن يكون الموصول الاول موصولا بالمتقين، والثاني مفصولا عنه مبتدأ، و (أولئك) خبره. و (أولئك) اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذكور والاناث، وهي هنا إشارة إلى المتقين الموصوفين بتلك الصفات، لا إلى ذواتهم المجردة، لانه مأخوذ في حد اسم الاشارة أن يكون المشار إليه محسوسا أو في حكم المحسوس، وإنما صار المشار إليه هنا في حكم المحسوس بإجراء هذه الاوصاف عليه وتميزه بها عما عداه، فيجب أن تكون ملحوظة في الاشارة، فإذن يكون قوله: ” أولئك على هدى من ربهم ” كالبناء على المشتق، ففيه إعلام بأن الاوصاف المذكورة قبل اسم الاشارة، علة لكون المذكورين على الهدى. وكلمة (اولئك) يمد ويقصر والمد أولى. وكلمة (على) هذه إستعارة تبعية، وإنما كانت إستعارة، لانه شبه تمسك المتقين بالهدى باستقلال الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، كما شبه إستعلاء المصلوب على الجذع باستقرار المظروف في الظرف لجامع، فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية. وإنما كانت تبعية، لان الاستعارة في الحرف تقع أولا في متعلق في معناه، كالاستعلاء والظرفية مثلا ثم تسري إليه بتبعية كما حقق في موضعه. ولك أن تعتبر تشبيه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به، بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها، أو تعتبر تشبيهه بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتجعل كلمة (على) قرينة لها. وتنكير (هدى) للتعظيم، أي هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، وكيف يبلغ ؟ وقد منحوه من عند ربهم وأتوه من قبيله، أو للنوع.


[ 96 ]

و (من) للابتداء، وإنما قال: (من ربهم) لا من الله تنبيها على أن لكل أحد اسما خاصا من أحدية جمع الاسماء، هو ربه، ومنه يصل إليه ما يصل، وليس لاحد أحدية جمع الاسماء إلا للانسان الكامل، فإن ربه الخاص به هو الاسم الجامع، فمعنى قوله: (من ربهم) أن لكل أحد هدى من ربه الخاص لا من غيره. والنكتة في إضافة الهدى إلى الكتاب أولا وإلى ربهم ثانيا، أن المتقين قبل كشف حجب المظاهر عن نظر شهودهم، كانوا يشاهدون الهدى عن مظاهر الاسم التي كان ذلك الكتاب واحدا منها، فلذلك أضيف إليه الهدى أولا، فلما تمكنوا في التقوى وتحققوا بالصفات الجارية عليهم كشف عنهم حجب المظاهر وشاهدوا فيها الظاهر، فلهذا أضيف إليه ثانيا. وهو، أي قوله: ” من ربهم ” إما في محل الجر صفة لهدى، أو النصب على أنه حال من هدى. وأولئك هم المفلحون: عطف على الجملة الاولى، وأصل الفلاح القطع والشق، ومنه سمي الزارع فلاحا، لانه يشق الارض، والزراعة فلاحة، ومنه المثل الحديد بالحديد يفل (1). بل كل ما يشاركه في الفاء والعين يدل على ذلك المعنى، نحو فلق وفلذ وفلي وفلج بالجيم. والمفلح هو الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الفوز والظفر ولم تستغلق عليه. وكرر اسم الاشارة، للتنبيه على أن كل واحد من المسندين على انفراده يكفي في إثبات الفضيلة للمسند إليهم، فلا احتياج إلى انضمام الآخر ليعد من الفضائل، بخلاف ما لو اقتصر على واحد منهما، فإنه يمكن أن يتوهم حينئذ أن الفضيلة


(1) مجمع الامثال: ج 1، ص 11، وفيه: الفلح: الشق، ومنه الفلاح للحراث لانه يشق الارض: أي يستعان في الامر الشديد بما يشاكله ويقاويه. وفي لسان العرب: ج 2، ص 548، في لغة (فلح)، الفلح الشق والقطع، فلح الشئ يفلحه فلحا: شقه، قال: قد علمت خيلك أني الصحيح * إن الحديد بالحديد يفلح (*)

[ 97 ]

في الجمع بينهما لا في كل واحد. و ” هم “: فصل، وفيه ثلاث فوائد وثلاث مذاهب: أما الفوائد: فالاولى منها: الدلالة ابتداء على أن ما بعده خبر، لا نعت، ولذلك سمي فصلا. والثانية: تأكيد الحكم لما فيه من زيادة الربط. وقيل: تأكيد المحكوم عليه، لانه راجع إليه فيكون تكريرا له. والثالثة: إفادة قصر المسند على المسند إليه. فإن قلت: إن هذا إنما يتم إذا ثبت القصر في مثل زيد هو أفضل من عمرو مما الخبر فيه نكرة، وإلا فتعريف الخبر بلام الجنس يفيد قصره على المبتدأ، وإن لم يكن هناك ضمير فصل، مثل زيد الامير. قلت: ندعي القصر في صورة النكرة – أيضا – فإن قولك زيد هو أفضل من عمرو، معناه بالفارسية (زيد أو است كه افضل است از عمرو) فعلى هذا قد اجتمع في قولك: زيد هو الامير، أمران يدلان على قصر المبتدأ، أحدهما تأكيد للآخر: تعريف المسند وضمير الفصل. ونوقش: بأن تعريف المبتدأ بلام الجنس، يفيد قصره على الخبر دون قصر الخبر عليه وإن كان مع ضمير الفصل، كقولك: الكرم هو التقوى، أي لا كرم إلا التقوى. وأجيب: بأن القول بإفادة الفصل قصر المسند على المسند عليه، إنما هو على تقدير أن لا يكون هناك معارض كتعريف المسند إليه، لافادة قصره على المسند، في هذه الصورة. وأما المذاهب: فأحدها: أن ضمير الفصل حرف لا محل له، وفائدته ما مر. وثانيهما: أنه اسم لا محل له، وهو سخيف، لانه ليس له نظير في كلام العرب من اسم لا يكون له محل. وثالثها: أنه اسم مرفوع المحل، فعلى هذا يجوز أن يكون (هم) مبتدأ و


[ 98 ]

(المفلحون) خبره والجملة خبر (اولئك). واللام: إما للعهد، أي المتقون هم الذين بلغك أنهم يفلحون واشتهروا بذلك، فإنهم حصة معينة من جنس المفلحين مطلقا. وإما للجنس، أي جنس المفلحين مقصور على المتقين لا يجاوزهم إلى غيرهم، والمبالغة في الثاني، لان قصر الجنس يستلزم قصر الحصة من غير عكس. وهاهنا معنى آخر أدق وألطف ذكره الشيخ (1) في دلائل الاعجاز وهو أن نشير باللام إلى حقيقة، ثم نصور تلك الحقيقة في الوهم بصورة تناسب ما يحكم بها عليه، ثم نحكم بالاتحاد بين تلك الحقيقة المصورة بهذه الصورة الوهمية وبين المبتدأ، من غير ملاحظة الحصر من أحد الجانبين. وإنما اعتبرت الصورة الوهمية المناسبة، لان الحقيقة لو تركت على حالها لم يكن إدعاء كون المبتدأ متحدا بها مستحسنا مقبولا، فالمراد بالمفلحين على هذا المعنى جنس المفلحين مصورا بصورة وهمية تلائم المتقين، يحكم بالاتحاد بينها وبين المتقين (2). لا يقال: على هذا التقدير لم يتصور هناك حصر أصلا فكيف يستعمل فيه ضمير الفصل ؟ قلنا: يجرد حينئذ لتميز الخبر من النعت وتأكيد الحكم دون القصر. فإن قلت: قوله: ” اولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ” جملتان مصوغتان لمدح المتقين، فلم وقعت إحداهما بطريق القصر والحكم بالاتحاد، والاخرى بدونه ؟ قلنا: لظهور التلازم بين مسنديهما، فقصر إحداهما في قوة قصر الاخرى، و كذلك الحكم بالاتحاد في إحداهما في قوة الحكم بالاتحاد في الاخرى. وإنما اختير ذلك في الجملة الاخيرة ليقع خاتمة صفاتهم على وجه أبلغ.


(1) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي، كان من كبار أئمة العربية والبيان. صنف كتبا عديدة منها: إعجاز القرآن الكبير، والصغير، والجمل، ودلائل الاعجاز، وغيرها، توفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة. بغية الوعاة: ص 310. (2) راجع دلائل الاعجاز في المعاني والبيان: ص 141 وما بعدها. (*)

[ 99 ]

وفي التفسير المنسوب إلى أبي محمد العسكري (صلوات الله عليه وعلى آبائه)، قال الامام (عليه السلام): ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات الشريفة، فقال: ” أولئك ” أهل هذه الصفات ” على هدى ” وبيان وصواب ” من ربهم ” وعلم بما أمرهم به ” واولئك هم المفلحون ” الناجون مما منه يوجلون الفائزون بما يؤملون، قال: وجاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إن بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه وفلان يعرب ويضحك من بلال ! فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا عبد الله، إنما يراد إعراب الكلام وتقويمه لتقويم الاعمال وتهذيبها، ماذا ينفع فلانا إعرابه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن ! وماذا يضر بلالا لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقومة أحسن تقويم مهذبة أحسن تهذيب ! قال الرجل: يا أمير المؤمنين، وكيف ذلك ؟ قال (عليه السلام): حسب بلال من التقويم لافعاله والتهذيب لها أنه لا يرى أحدا نظيرا لمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لا يرى أحدا بعد محمد نظيرا لعلي بن أبي طالب، ويرى أن كل من عاند عليا فقد عاند الله ورسوله، ومن أطاعه فقد أطاع الله ورسوله، وحسب فلان من الاعوجاج واللحن في أفعاله التي لا ينتفع معها بإعرابه لكلامه بالعربية وتقويمه للسانه، أن يقدم الاعجاز على الصدور والاستاه على الوجوه، وأن يفضل الخل في الحلاوة على العسل، والحنظل في الطيب والعذوبة على اللبن، يقدم على ولي الله الذي لا يناسبه بشئ من الخصال في فضله، هل هو إلا كمن قدم مسيلمة على محمد في النبوة في الفضل، ما هو إلا من الذين قال الله تعالى: ” قل هل أنبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ” (1). قال بعض الفضلاء: وإذا انتهى الكلام إلى ها هنا فحري بنا أن نشير إلى بعض بطون هذه الآيات، فنقول: هذا كلام من باطن الجمع إلى ظاهر الفرق، يخاطب أكمل صورة


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 33، ذيل قوله تعالى: ” أولئك على هدى من ربهم “. (*)

[ 100 ]

[ إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ] أولا (صلى الله عليه وآله) ومتابعية آخرا، فيقول: (الم) أي أقسم بالاول وذي الامر والخلق أن (ذلك) الموجود المعلوم المشهود، أعني العالم، هو الكتاب، الجامع لحروف وكلمات مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، للدلالة على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا ينتهي ” لا ريب فيه “، لان تلك الدلالة قطعية عقلية أو كشفية لا مجال للشك والريب فيها، (هدى) للمشارفين على التوقي من الحجب المانعة عن التحقق بشهود الوحدة والكثرة، (الذين يؤمنون) بغيب الهوية وسريانها: أولا في الصور العلمية الباطنة التي هي الاعيان الثابتة ولها الاولية، وثانيا في الصور العينية الظاهرة التي هي أعيان الخارجية، ولها الآخرية، فهو الاول والآخر والظاهر والباطن. وبعد الايمان بها يسلكون طريق الوصول إلى شهودها في تلك الصور بوحدتها، ف‍ (يقيمون الصلاة) التي هي العبادة التامة الجامعة الموصلة إلى شهود الجمعية الالهية، بتحريك صلويهم الروحانية والجسمانية للسير إليها والفناء فيها، ومما أفيض عليهم بعد الفناء من أنوار المعرفة وأسرار الوحدة يفيضون على من سواهم، لجعلهم بالتربية والكمال مستعدين لفيضانها، والذين يصدقون لصفاء استعدادهم بما انزل اليك وبما انزل إلى الانبياء والمرسلين من تلك الانوار والاسرار، حيث يفهمونها بلسان الاشارة عنك فيرغبون فيها و يسلكون للوصول إليها. و (بالآخرة) أي بعاقبة سلوكهم ومآل أمرهم إلى فيضان تلك الانوار والاسرار في أثناء سلوكهم لظهور آثارها، متيقنون، ” اولئك على هدى من ربهم ” الظاهر بالاسم الهادي في مظاهره، لا يحتجبون بالمظاهر عن الظاهر ” واولئك هم المفلحون ” الذين خرقوا حجب المظاهر وشقوها فيشاهدون مشهودهم كفاحا. إن الذين كفروا: لما ذكر خاصة أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي


[ 101 ]

أهلهم لاصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم، وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه وإنذار الرسول وسكوته. وروي عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) في معنى الآية: أنه لما ذكر المؤمنين ومدحهم، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم، فقال: إن الذين كفروا بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى، وبنبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبوصية علي أمير المؤمنين ولي الله ووصي رسول الله، وبالائمة الطيبين الطاهرين خيار عباده الميامين القوامين بمصالح خلق الله ” سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ” أي خوفتهم أو لم تخوفهم، أخبر عن علم بأنهم ” لا يؤمنون ” انتهى كلامه (عليه السلام) (1). ولم يوسط العاطف بين الجملتين، لتباينهما في الغرض والاسلوب. أما الغرض: فلان الغرض من الاولى بيان كون الكتاب بالغا في الهداية حد الكمال، ومن الثانية وصف الكفار بأنه لا يؤثر فيهم الانذار. وأما في الاسلوب: فلان طريق الاولى الحكم على الكتاب بجملة محذوفة المبتدأ موصولة بغيرها من ذكر المتقين وأحوال المؤمنين، وطريق الثانية الحكم على الكافرين قصدا بجملة تامة، مصدرة ب‍ (إن) المشعرة بالاخذ في فن آخر لتجرد الاول عنها، بخلاف قوله: ” إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ” (2) لتوافقهما في الغرض والاسلوب، وهو ظاهر. ويحتمل أن يقال: لما كانت النسبة بين المؤمنين والكافرين كمال المباينة، و بين الكافرين والمنافقين كمال المناسبة، قطع ما كان في شأن الكافرين عما كان في شأن المؤمنين، وعطف ما كان في شأن المنافقين على ما هو في شأن الكافرين، تنبيها على تينك النسبتين.


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 33، في ذيل قوله تعالى: ” ان الذين كفروا “. (2) سورة الانفطار: الآية 13 و 14. (*)

[ 102 ]

و (إن) من الحروف التي شابهت الفعل في عدد الحروف، والبناء على الفتح، و لزوم الاسماء، وإعطاء معانيه، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين، ولذلك أعملت عمله الفرعي، وهو نصب الجزء الاول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل. وقال الكوفيون: الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية، وهي بعد باقية مقتضيه للرفع، قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف. ورد بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف. و فائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يتلقى بها القسم، وتصدر بها الاجوبة، و تذكر في معرض الشك (1). روي أن الكندي (2) المتفلسف ركب إلى المبرد (3)، وقال: إني أجد في كلام العرب حشوا، أجد العرب تقول: عبد الله قائم، ثم تقول: إن عبد الله قائم، ثم تقول: إن عبد الله لقائم ! فقال المبرد: المعاني مختلفة، فقولهم: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل وقولهم: إن عبد الله قائم، جواب عن إنكار منكر القيام (4). والكفر لغه: ستر النعمة، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر، ومنه سمي الليل كافرا لستره الاشياء بظلمته، والزارع كافرا لانه يستر الحب في التراب، وكمام الثمرة كافورا لسترها الثمرة.


(1) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 36. (2) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، و يسمى فيلسوف العرب، له كتب في علوم مختلفة. توفي سنة 246 ه‍. الكنى والالقاب: ج 1، ص 153 (3) هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد البصري، اللغوي – الفاضل الامامي، صاحب كتاب الكامل، والروضة، ومعالي القرآن، وكتب اخرى نافعة، توفي سنة 285 ه‍ ببغداد. الكنى والالقاب: ج 3، ص 110 (4) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 36. (*)

[ 103 ]

وفي الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول (عليه السلام) به، كوجوب الصوم والصلاة والزكاة وغير ذلك. وإنما عد لبس العيار (1) وشد الزنار كفرا ؟ لانهما تدلان على التكذيب، فإن من صدق الرسول (عليه السلام) لا يجترئ عليهما، لا لانهما كفر في أنفسهما. واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه، لاستدعائه سابقة مخبر عنه، وحيث لا يصح الحكم على الكافرين مطلقا باستواء الانذار وتركه لتحقق الايمان من بعضهم، فتعريف الموصول: إما للعهد، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فإن هؤلاء وأضرابهم أعلام الكفرة فهم كالحاضرين في الذهن، فإذا اطلق اللفظ التفت الخاطر إليهم أو لاستغراق الجنس، وهو الشائع في الاستعمال، إما مطلقا فيستغرق المصرين وغير المصرين وخص منه المصرين بقرينة الخبر، وإما مقيدا بالاصرار بهذه القرينة، فإنه أيضا جنس، فيستغرق أفراد جنس المصرين فقط، أو لبعض أفراد الجنس من غير عهد واستغراق، ويكون تعيين المصرين بقرينة الخبر. أقول: ويحتمل أن يكون المراد به مالك بن الصيف وكعب بن الاشرف وحيي بن أخطب وتابعي أبي لبابة بن المنذر، يدل على إرادة ذلك ما روي عن محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد و قصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها وحجته ليبطلوها، فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه مالك بن الصيف وكعب بن أشرف وحيي بن أخطب، وأبو لبابة بن المنذر، وشيعته. فقال مالك لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد، تزعم أنك رسول الله ؟ قال رسول الله: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين. قال: يا محمد، لن نؤمن أنك لرسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتي، ولن نشهد


(1) العيار من الرجال: الذي يخلي نفسه وهواها، لا يردعها ولا يزجرها. المعجم الوسيط (معجم اللغة العربية بالقاهرة) ج 2، ص 639. (*)

[ 104 ]

لك أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط. وقال أبو لبابة بن المنذر: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولا نشهد لك به، حتى يؤمن لك ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي. وقال كعب بن أشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به، حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس للعباد الاقتراح على الله، بل عليهم التسليم لله، والانقياد لامره والاكتفاء بما جعل كافيا، أما كفاكم أن التوراة والانجيل والزبور وصحف إبراهيم حكم بنبوتي ودل على صدقي، وبين فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي في أمتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، وأنزل علي هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وإن تكلفوا شبهه، وأما الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عزوجل، بل أقول إن ما أعطاني ربي عزوجل من دلالة هو حسبي وحسبكم، فإن فعل عزوجل ما اقترحتموه فذلك زائد في تطوله علينا و عليكم، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا، قال: فلما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كلامه هذا أنطق الله البساط، والحديث طويل، مضمونه أن كلا من البساط والسوط والحمار شهدوا بالوحدانية والنبوة والولاية، وظهر من كل منها آيات عجيبة، ولم يؤمن أحدهم إلا أبو لبابة فإنه أظهر الاسلام ولم يحسن إسلامه، ثم قال (عليه السلام): فلما انصرف القوم من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يؤمنوا أنزل الله: يا محمد، ” إن الذين كفروا سواء عليهم ” في العظة، ” أأنذرتهم ” ووعظتهم وخوفتهم ” أم لم تنذرهم لا يؤمنون “، لا يصدقونك بنبوتك وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا، فكيف يؤمنون (1). سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم: سواء اسم مصدر بمعنى الاستواء، اجري على ما يتصف بالاستواء كما تجري المصادر على ما يتصف بها. وهو مرفوع على أنه خبر (إن) وقوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بتأويل المصدر، مرفوع على الفاعلية، أي إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو هو مرفوع بالابتداء وسواء خبره مقدما


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 33، في ذيل قوله تعالى: (إن الذين كفروا). (*)

[ 105 ]

عليه، والفعل إنما يمتنع الاخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو اطلق و أريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع، فلا، وإنما عدل عنه إلى الفعل لما فيه من إبهام التجدد، وحسن دخول الهمزة. قيل: لا يجوز أن يكون سواء خبرا، لان الجملة لما كانت مصدرة بالاستفهام لا يجوز تقديم ما في خبرها عليها. ورد بأن الهمزة ولم دخلتا عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، بل هو أولى من أن يكون فاعلا للاستواء لانه لما كان اسما غير صفة فالاصل أن لا يعمل، وإذا جعله بمعنى اسم الفاعل فاتت المبالغة المقصودة من الوصف بالمصادر. ووجه إفراده على الاول ظاهر، وعلى الثاني لجهة مصدريته، ولما كان الاستواء المستفاد من الحرفين غير الاستواء المفهوم من سواء فلا تكرار. وذهب بعض النحاة إلى أن سواء في مثل هذا المقام خبر مبتدأ محذوف، أي الامران سواء عليهم، وأن الهمزة بما بعدها بيان للامرين، والفعلان في معنى الشرط، على أن تكون الهمزة بمعنى أن الشائع استعمالها في غير المتيقن، وأم بمعنى أو، لان كليهما لاحد الامرين، والجملة الاسمية، أعني: الامران سواء، دالة على الجزاء، فعلى هذا يكون خبر إن هو الجملة الشرطية، والمعنى: إن الذين كفروا إن أنذرت أو لم تنذر فهما سواء عليهم، وعليهم متعلق بالاستواء. والانذار: التخويف، اريد به التخويف من عقاب الله. وإنما اقتصرت عليه دون البشارة، لانه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس، من حيث أن دفع الضرر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى. وقرئ: أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين وقلبها ألفا، وهو لحن، لان المتحركة لا تقلب، ولانه يؤدي إلى التقاء الساكنين على غير حده و بتوسيط ألف بينهما محققين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف الاستفهامية، و بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.


[ 106 ]

[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم (7) ] لا يؤمنون: تأكيد أو بيان للجملة التي قبلها، أعني سواء عليهم أأنذرتهم ام لم تنذرهم، وحينئذ يكون محله الرفع إن جعل ما قبله جملة من مبتدأ وخبر، لا صفة مع الفاعل، فإنه على هذا التقدير لم يكن لقوله (يؤمنون) محل، أو خبر بعد خبر، أو جملة مستأنفة، أو حال من مفعول أنذرتهم. قيل: أو خبر، وقوله: (سواء) إلى آخره إعتراض بين المبتدأ والخبر، ورد بأن الاخبار عن المصرين على الكفر بعدم الايمان لا فائدة فيه. واحتجت المجوزة لتكليف ما لا يطاق بالآية، بأنه سبحانه أخبر عنهم بانهم لا يؤمنون وأمرهم بالايمان، فلو آمنوا إنقلب خبره كذبا، وشمل إيمانهم الايمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان. والجواب: أن الاخبار بوقوع الشئ أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره تعالى عما يفعله هو والعبد باختياره. وفائدة الانذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الابلاغ، ولذلك قال: (سواء عليهم) ولم يقل سواء عليك، كما قال لعبدة الاصنام: ” سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ” (1). وقد حقق الكلام في هذا الجواب العلامة النحرير القزويني (2) في حاشيته الشريفة على العدة. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة: بيان وتأكيد


(1) سورة الاعراف: الآية 193. (2) هو المولى خليل بن الغازي القزويني المولود سنة 1001 ه‍، والمتوفى سنة 1089 ه‍. انظر الذريعة: ج 6، ص 148. (*)

[ 107 ]

للحكم السابق، أو تعليل له، والختم قريب من الكتم، لفظا، لتوافقهما في العين واللام، ومعنى، لان الختم على الشئ يستلزم كتم ما فيه، فيناسبه في اللازم. والغشاوة فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشئ، كالعصابة والعمامة، ولا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، بل على سبيل المجاز والاستعارة. فإن كان المشبه به في ” ختم الله على قلوبهم ” المعنى المصدري الحقيقي للختم، والمشبه إحداث حالة في قلوبهم مانعة من نفوذ الحق فيها، كان طرفا التشبيه مفردين والاستعارة مصرحة. وإن جعل المشبه به هيئة مركبة منتزعة من الشئ والختم الوارد عليه، ومنعه صاحبه من الانتفاع به، والمشبه هيئته منتزعة من القلب والحالة الحادثة فيه، و منعها صاحبها من الانتفاع به في الامور الدنيوية، كان طرفا التشبيه مركبين، والاستعارة تمثيلية قد اقتصر فيها من ألفاظ المشبه به على ما معناه عمدة في تصوير تلك الهيئة واعتبارها، أعني الختم، وباقي الالفاظ منوي مراد وإن لم يكن مقدرا في نظم الكلام، والاقتصار على بعض الالفاظ للاختصار في العبارة، وتكثير محتملاتها بأن تحمل تارة على التشبيه، وتارة على التمثيلية، واخرى على غيرهما، ولو صرح بالكل تعينت التمثيلية، وإن قصد تشبيه قلوبهم بأشياء مختومة وجعل ذكر الختم الذي هو من روادف المشبه به المسكوت عنه تنبيها عليه و رمزا، كان من قبيل الاستعارة بالكناية، وقس عليه قوله: ” وعلى أبصارهم غشاوة “. والمعتزلة لما اضطرت في معنى ظاهر الآية، ذكروا له وجوها من التأويل: منها: إن القوم لما أعرضوا وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه. ومنها: إن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم و يتنفرون عنهم. وعلى هذا يحمل كل ما يضاف إلى الله من طبع وإضلال.


[ 108 ]

يدل على هذا التأويل ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما دعا هؤلاء المعنيين في الآية المقدمة، وأظهرهم تلك الآيات فقابلوها بالكفر، أخبر الله عزوجل بأنه ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ختما يكون علامة الملائكة المقربين القراء لما في اللوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم، حتى إذا نظروا إلى أحوالهم وقلوبهم و أسماعهم وأبصارهم شاهدوا ما هنالك من ختم الله عزوجل عليها ازدادوا بالله معرفة وعلموا ما يكون قبل أن يكون يقينا. قال: فقالوا: يا رسول الله، فهل من عباد الله من يشاهد هذا الختم كما يشاهده الملائكة ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بلى، محمد رسول الله يشاهدها بشهادة الله عز وجل، ويشاهده من أمته أطوعهم لله عزوجل وأشدهم في طاعة الله وأفضلهم في دين الله، فقالوا: من هو يا رسول الله ؟ وكل منهم تمنى أن يكون هو، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعوه يكن من شاء الله، فليس الجلالة في المراتب عند الله عزوجل بالتمني ولا بالتظني ولا بالاقتراح، ولكنه فضل من الله عزوجل على من يشاء يوفقه للاعمال الصالحة يكرمه لها، فيبلغه أفضل الدرجات وأشرف المراتب، إن الله سيكرم بذلك من يريكموه في غد، فجدوا في الاعمال الصالحة فمن وفق الله له ما يوجب عظيم كرامته، فلله عليه بذلك الفضل العظيم. قال: فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغص مجلسه بأهله، وقد جد بالامس كل من خيارهم في خير عمله وإحسانه إلى ربه، وقدم يرجو أن يكون هو ذلك الخير الافضل، قالوا يا رسول الله: من هذا ؟ عرفناه بصفته وإن لم تنص لنا على اسمه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا الجامع للمكارم الحاوي للفضائل المشتمل على الجميل، ثم بعد ذكر كلام طويل مشتمل على كرامات ومجاهدات وقعت في تلك الليلة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنظر إلى عبد الله بن أبي وإلى سبعة من اليهود، فقال: شاهدت ختم الله على قلوبهم وأسماعهم،


[ 109 ]

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت يا علي أفضل شهداء الله في الارض بعد محمد رسول الله، قال: فذلك قوله: ” ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ” تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، ويبصرها رسول الله محمد، و يبصرها خير خلق الله بعده علي بن أبي طالب (1). وعلى سمعهم: يحتمل أن يكون معطوفا على قلوبهم، ومعطوفا عليه ل‍ ” على أبصارهم “. ورجح الاول بقوله: ” وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوه ” و بالوقف على سمعهم إتفاقا، ولانهما لما كان إدراكهما من جميع الجوانب جعل المانع عنه بما يكون كذلك، لظهور أن الغشاء يكون بين المرئي والرائي، و كرر الجار للدلالة على أن الختم يتعلق على كل واحد منهما بالاستقلال، فيكون أشد، ولان تعلق فعل بمجموع أمرين لا يستلزم تعلقه بكل واحد. وإفراد السمع للامن من اللبس مع الخفة والتفنن، أو لانه مصدر وهو لا يجمع، أو على تقدير مضاف أي مواضع سمع، أو لرعاية المناسبة بين المدرك والمدرك، فان مدرك السمع واحد وهو الصوت ومدركاتها أنواع. وقرئ ” وعلى أسماعهم “. ووجه الترتيب: أنه تعالى لما ذكر هذه الطائفة بالكفر، وثانيا باستواء الانذار عليهم، فالختم على قلوبهم ناظر إلى كفرهم، لان الكفر والايمان من صفات القلب، والختم على سمعهم ناظر إلى ذلك الاستواء لان محل ورود الانذار ليس إلا السمع. ولما حكم عليهما بالختم، فصار مكان أن يقال: علمنا وقوع الختم عليهما، ألم تكن لهم أبصار يبصرون بها الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، فقال: وعلى أبصارهم غشاوة، ولما لم يكن في نظم الكلام ما ينظر إليه التغشية، غير الاسلوب. والبصر: قوة أودعت في ملتقى العصبتين المجوفتين النابتين من مقدم


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 36 – 41 في ذيل قوله تعالى: ” ختم الله على قلوبهم “. (*)

[ 110 ]

الدماغ. وقد يطلق على العضو. وكذلك السمع، وهو قوة أودعت في باطن الصماخ. وغشوة: مرفوع مبتدأ، و ” على أبصارهم ” خبره عند سيبويه (1)، وفاعل الظرف عند الاخفش (2) لاعتماده على ما قبله، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية. وقرئ بالنصب على معنى: وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الفعل نفسه إليها. والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة. وقرئ بالضم والرفع، وبالفتح والنصب، وغشوة بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة. وعشاوة بالعين الغير المعجمة من العشا مصدر الاعشى، وهو الذي لا يبصر بالليل. ولهم عذاب عظيم: وعيد وبيان لما يستحقونه. والعذاب كالنكال بناء ومعنى، يقال: أعذب عن الشئ ونكل إذا امسك عنه، ومنه الماء العذب، لانه يقمع العطش ويردعه، فسمي العذاب عذابا، لانه يردع الجاني عن المعاودة إلى الجناية، ثم اتسع فأطلق على كل ألم شديد وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة. وقيل: اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب كالتغذية والتمريض، أو من العذبة وهي القذاة، وماء ذو عذب أي كثير القذى، فكما أن القذاة تنقص الماء كذلك العذاب ينقص العيش، أو من أعذب حوضك أي أنزع ما فيه من قذى، فكذلك العذاب نزع من الجاني ما فيه من الجناية، أو من العذوبة لان عذاب كل أحد يستعذبه ضده، فعذاب الكافر مما يستعذبه المؤمنون. (والعظيم): ضد الحقير، والكبير: ضد الصغير، فالعظيم فوق الكبير، قيل: ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالاضافة


(1 و 2) تفسير أبي السعود: ج 1، ص 38. (*)

[ 111 ]

إليه، ومعنى التنكير في الآية: أن على أبصارهم غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع يعلم كنهه الله تعالى أي في الآخرة. وقال بعضهم: إن لهم عذابا في الدنيا والآخرة، لان عذابهم الاخروي ليس إلا صور اعتقاداتهم ونتائج أعمالهم من دركات النيران وما فيها من الآلام، كان في الدنيا معاني ; فصار في الآخرة صورا، فهم دائمون فيها لكنهم لا يتألمون بها في الدنيا لكثافتهم. والذين صاروا في الدنيا أهل الآخرة يرونهم داخلين في النار وما فيها من أنواع العذاب. قال بعض الصوفية: وإذ قد علمت ما بين لك من المعاني الظاهرة فالق سمعك تسمع بطنا من بطونها، فنقول: إن الذين كفروا أي خرجوا من الايمان الرسمي المنوط بغيبهم عن المؤمن به، ودخلوا في الكفر الحقيقي بستر وجوداتهم في الفناء في الله، إن أنذرتهم بسوء عاقبة إرتدادهم من هذا الكفر إلى ذلك الايمان أم لم تنذرهم، فهما سيان عليهم لانهم لا يؤمنون، أي لا يرجعون إلى الايمان الرسمي أبدا، لان الفاني لا يرد، وكأنه إلى هذا الايمان والكفر أشار من قال: كفرت بدين الله والكفر واجب * لدي وعند المسلمين قبيح (1) – ختم الله على قلوبهم: فلا يدخل فيها شئ مما سوى الله، وإن دخل فيها شئ فهو صورة من صور تجلياته انخلعت من لباس الغيرية، وختم على أسماعهم فلا يسمعون شيئا مما سواه، فإنه المتكلم على ألسنة الموجودات، فكلما يسمعونه بلسان الحال أو المقال فهو من صور كلامهم لا غير، وعلى أبصارهم غشاوة مانعة من رؤية غيره سبحانه فكلما يرونه ليس إلا من صور تجلياته، تجلى به على نظر شهودهم، ولهم عذاب، أي أمر يعده المحجوبون عذابا، وهو استهلاكهم في الوجود الحق، وإمساكهم عن اللذات العاجلة والراحات الآجلة، عظيم، أي


(1) لم نعرف قائله. (*)

[ 112 ]

[ ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) ] جليل قدره لا يعرفه إلا من ذاقه. ومن الناس من يقول ءامنا: لانشاء الايمان أو للاخبار بوقوعه فيما مضى. و إفراد الضمير في (يقول) بالنظر إلى اللفظ وجمعه فيما بعد بالنظر إلى المعنى، لانهم في قولهم آمنا بمنزلة شخص واحد لاتفاقهم عليه من غير اختلاف، وأما إتيانهم بما ينافي الايمان فالتعدد فيه ممكن، بل واقع، فلذلك لو حظ فيه جهة كثرتهم بإيراد ضمير الجماعة. و (الناس) اشتقاقه من الاناس، حذفت همزته تخفيفا، ومنه إنسان وأناس و إنس. وحذفها مع لام التعريف واجب، لا يكاد يقال: الاناس. وهو مأخوذ من الانس بالضم ضد الوحشة، لانهم مدنيون بالطبع يستأنسون بأمثالهم أشد استئناس. أو من الانس بالكسر بمعنى الايناس وهو الابصار. قيل: وهذا أشبه ليناسب المقابل أعني الجن، لانهم سموا به لاجتنانهم، ويوافق اسمه الآخر أعني البشر، لانه من البشرة: ظاهر الجلد. وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والاصل نوس، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنوس الحركة (1). وقيل: من نسي فقلبت اللام إلى موضع العين فصار نيسا، ثم قلبت الياء ألفا، سموا بذلك لنسيانهم. فوزنه


(1) تفسير القرآن الكريم، للشهيد مصطفى الخميني: ج 3، ص 12. (*)

[ 113 ]

على الاول: عال، وعلى الثاني: فعل، وعلى الثالث: فلع. قيل: لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من شئ آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الانسان مشتقا من شئ آخر. ورد: بأن المقصود من ذلك تقليل اللغات بحسب الوسع، ولا شك، أن الالفاظ المتعددة إذا ردت إلى أصل واحد صارت اللغات أقل. واللام فيه لتعريف الجنس، أو العهد، إشارة إلى الذين كفروا، أي المصرين على الكفر مطلقا، أو مقيدا بكونهم غير ماحضين، أو جماعة معهودين منهم، فلها أربع احتمالات. و (من) في من يقول، إما موصولة أو موصوفة، إما لتعريف الجنس، أو العهد، إشارة إلى جماعة معهودين كابن ابي وأضرابه، ففيها ثلاث إحتمالات يحصل من ضربها في الاربع إحتمالات، إثنا عشر وجها، فعليك بالتأمل حتى يظهر وجهها. ثم المراد ” بالذين كفروا ” إن كان ناسا معهودين ماحضين للكفر غير منافقين، أو الجنس المخصوص مما عدا المنافقين، إما بقرينة المقابلة، أو لتبادر الفهم إليه من إطلاق المعرف بلام الجنس، فالمقصود من هذه الآيات استيفاء الاقسام، حيث ذكر أولا المؤمنين ثم الماحضين ثم المنافقين. وإن كان المراد بهم ما يعم الماحضين والمنافقين، فذكر المنافقين من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لكمال الاهتمام بالنداء على تفاصيل صفاتهم الذمية وأعمالهم الخبيثة، لكونهم أخبث الكفرة وأبغضهم إليه تعالى. لانهم خلطوا الايمان بالكفر تمويها وتدليسا، وبالشرك إستهزاء وخداعا. والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس، والمعبر عنه باللفظ والرأي والمذهب مجازا. وقصة المنافقين معطوفة على قصة الذين كفروا، وليس ذلك من باب عطف جملة على جملة، ليطلب مناسبة الثانية مع السابقة، بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض إلى أخرى مسوقة الآخر، وشرطه المناسبة بين الغرضين، فكلما كانت المناسبة أشد وأمكن، كان العطف بينهما أشد وأحسن.


[ 114 ]

قال بعض المفسرين (1): هذه الآية مع الاثني عشر الآيات التي بعدها انزلت في ذم المنافقين الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر لمصالح دعتهم إلى ذلك، ثم قال: ودخل فيهم من كان على صفة النفاق حالة نزول الآية واشتهر به، أو كان ولم يشتهر وظهر بعد ذلك نفاقه وخبثه، أو حدث النفاق بعد ذلك في زمان النبي عليه وآله السلام أو بعد زمانه، فإن كل هؤلاء مصداق هذه الآيات، ثم قال: ولا يتوهم أنه يلزم في الدخول تحت المخاطبات التي ذكرت في الآيات الآتية، فيخرج من لم يتحقق فيه تلك الاقوال، فلا يمكن أن يقال: إن الآيات نزلت فيهم، لان الشرطية لا تقتضي وقوع الطرفين. أقول: يظهر من كلام ذلك الفاضل أن (إذا) الواقعة في تلك الآيات شرطية، ويرد احتمالها التأمل الصادق في تلك الآيات. ويحتمل أن يكون المراد منه الخلفاء الثلاثة مع شيعتهم. يدل على ذلك ما روي عن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أوقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله انسبوني، فقالوا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ثم قال: أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم وأنا مولاكم وأولى بكم منكم بأنفسكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فنظر إلى السماء وقال: اللهم اشهد، يقول ذلك ثلاثا، ويقولون ذلك ثلاثا، ثم قال: ألا من كنت مولاه وأولى به فهذا علي مولاه وأولى به، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله. ثم قال: قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع له، ثم قال: قم يا عمر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع. ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة، ثم لرؤساء المهاجرين والانصار فبايعوه كلهم، فقام بين جماعتهم عمر بن الخطاب فقال: بخ بخ يابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن ومؤمنة. ثم قال تفرقوا عن ذلك وقد أكدت عليهم العهود


(1) وهو مولانا محمد مؤمن السبزواري، منه (قدس سره) كذا في هامش النسخ التي عندنا. (*)

[ 115 ]

والمواثيق، ثم إن قوما من متمرديهم وجبابرتهم وطؤوا بينهم، لئن كانت لمحمد كائنة لندفعن هذا الامر عن علي ولا نتركه له، فعرف الله تعالى من قلوبهم وكانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون: لقد أقمت عليا أحب الخلق إلى الله و إليك وإلينا فكفيتنا به مؤونة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا، وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الامر عن مستحقه مؤثرون فأخبر الله عزوجل محمدا عنهم، فقال: يا محمد، ومن الناس من يقول آمنا بالله الذي أمرك بنصب علي إماما وسائسا ولامتك مدبرا، وما هم بمؤمنين بذلك ولكنهم يتواطؤون على هلاكك وهلاكه، ويوطؤون أنفسهم على التمرد على علي إن كانت بك كائنة (1). بالله وباليوم الاخر: أي بالمبدأ والمعاد الذين هما المقصود الاعظم من الايمان، ولهذا اختصا بالذكر. والمراد باليوم الذي هو اسم لبياض النهار، زمان ممتد من وقت الحشر إلى الابد وإلى زمان استقرار كل في مستقره من الجنة والنار، وهذا أشبه باليوم الحقيقي في تحقق الحد من الطرفين. وأما كونه آخرا، فلتأخر هذين الزمانين عن الايام الدنيوية المنقضية. وقيل في الثاني: لانه آخر الاوقات المحدودة الذي لا وقت بعده. ورد بأنه لا شك أن في كل من الجنة والنار أحوالا وحوادث كلية يمكن تحديد الاوقات بها، وقد شهدت الكلمات النبوية بوجودها (2). اللهم إلا أن يقال: المنفي هو الحد المشهور غاية الاشتهار. وفي تكرير الباء، إدعاء الايمان بكل واحد على الاصالة والاستحكام.


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 41، في ذيل قوله تعالى: ” ومن الناس من يقول آمنا ” (2) مسند احمد بن حنبل: ج 3، ص 70، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخر من يخرج من النار رجلان، يقول الله لاحدهما: يا بن آدم ما أعددت لهذا اليوم ؟ الحديث. (*)

[ 116 ]

وما هم بمؤمنين: نفي لما ادعوا، والاصل يقتضي أن يقول: وما آمنوا، ليطابق قولهم، لكنه قدم المسند إليه وجعل المسند صفة فصارت الجملة إسمية غير دالة على ذات زمان، لان في ذلك سلوكا لطريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في سلك المؤمنين وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم دل على انتفاء الملزوم، ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء. وأيضا فيه مبالغة في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضا، وأطلق الايمان لزيادة التأكيد، على معنى أنهم ليسوا من الايمان في شئ، أو أراد وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، بقرينة ما أجيب به عنه. ولما اعتبر التأكيد والاستمرار بعد ورود النفي لم يفد إلا تأكيد النفي. واستدل من ذهب إلى أن الايمان ليس هو الاقرار فقط بالآية. وأقول: الآية تدل على أن من ادعى الايمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا، ولا تدل على أن من تكلم بالشهادتين بدون الاعتقاد لم يكن مؤمنا، وهو المتنازع فيه. وقوله: ” وما هم بمؤمنين ” جملة متعلق خبره محذوف، والتقدير وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر أو بشئ من الاشياء. فعلى الاول: وجهه ظاهر (1). وعلى الثاني: توجيهه أن نفي الايمان منهم مطلقا مع أن منافقي أهل الكتاب كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، بناء على إيمانهم كلا إيمانهم، لاعتقاد التشبيه، و اتخاذ الولد، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسسهم إلا أياما معدودة. فلو قالوا ما قالوه لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم هذه، لم يكن


(1) في هامش بعض النسخ ما لفظه (لان المراد بهم حينئذ من يقول: آمنا بالله واليوم الآخر ولم يؤمن بهما بقرينة إخباره تعالى عنهم بذلك، وأما على التقدير الثاني، فلشموله ذلك وغيرهم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فقط، فنفي الايمان عنهم رأسا يحتاج إلى التوجيه، منه). (*)

[ 117 ]

إيمانا، كيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم. فظهر من ذلك أن إطلاق رفع الايجاب الكلي والسلب الكلي في هذه الحملية مسامحة ارتكبها العلامة السبزواري. حيث قال في توجيه التقدير الثاني: إن قولهم: هذا كناية عن تصديقهم بجميع الشرائع، فإذا لم يؤمنوا ببعض صدق رفع الايجاب الكلي، مع أنه يمكن أن يقال: عدم الايمان بالبعض كاشف عن عدم الايمان بالكل فيصح السلب الكلي، على أنه يرد احتمال أن لا يكون قولهم هذا كناية عن الايمان بالجميع، وأيضا لو قدر المتعلق خاصا بقرينة سابقة كان رفعا للايجاب الكلي، فلا حاجة حينئذ إلى تقدير عمومه، فليتأمل. وأقول: يحتمل أن يكون قوله: ” بمؤمنين ” غير متعد إلى شئ أصلا، والمعنى ليس لهم وجد حقيقة الايمان. يخدعون الله والذين ءامنوا: الخدع أن توهم صاحبك خلاف ما تريد به من المكروه وتصيبه به مع خوف واستحياء من المخادعة به. وقيل: للاصابة، لان مجرد الارادة لا يكفي في تحقق الخدع، وقوله: ” مع خوف أو استحياء ” ليخرج الاستدراج الذي هو من أفعال الله تعالى، لعدم جواز الخوف أو الحياء عليه سبحانه. وهو من قولهم: ضب خادع، أو خدع، إذا أحس بالحارش (1) أي الصائد على باب جحره أوهمه إقباله عليه من هذا الباب، ثم خرج من باب آخر، وأصله الاخفاء، ومنه المخدع، على صيغة المفعول، للخزانة. والاخدعان لعرقين خفيين في العنق. وصيغة المخادعة تقتضي صدور الفعل من كل واحد من الجانبين متعلقا بالآخر، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره، لانه لا يخفى عليه خافية، ولانهم لم يقصدوا خديعته، بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول


(1) وخدع الضب يخدع خدعا: استروح ريح الانسان فدخل في جحره لئلا يحترش. ومعنى الحرش أن يمسح الرجل على فم جحر الضب يتسمع الصوت فربما أقبل وهو يرى أن ذلك حية، وربما أروح لا ريح الانسان فخدع في جحره ولم يخرج، لسان العرب: ج 8، ص 65، في لغة (خدع). (*)

[ 118 ]

معاملة الله من حيث أنه خليفته، كما قال تعالى: ” من يطع الرسول فقد أطاع الله ” (1) ” إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ” (2). ويدل على ذلك ما روي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام): لما اتصل ذلك من مواطأتهم وقبلهم في علي وسوء تدبيرهم عليه برسول الله (صلى الله عليه وآله)، دعاهم وعاتبهم فاجتهدوا في الايمان، فقال أولهم: يا رسول الله، والله ما اعتددت بشئ كاعتدادي بهذه البيعة، ولقد رجوت أن يفسح الله بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزال والسكان. وقال ثانيهم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة، والله ما يسرني أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت، ولو أن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلي رطبة وجواهر فاخرة. وقال ثالثهم: والله يا رسول الله، لقد صرت من الفرح بهذه البيعة والسرور والفسح من الآمال في رضوان الله، وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الارض كلها علي لمحضت عني بهذه البيعة، وحلف على ما قال من ذلك، ولعن من بلغ عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلاف ما حلف عليه، ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين، قال الله عز وجل لمحمد: يخادعون الله، يعني يخادعون رسول الله بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم، والذين آمنوا كذلك أيضا، الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3) ويحتمل أن يقال: المقصود أن بينهما حالة شبيهة بالمخادعة، لا حقيقة المخادعة. فإن صورة صنعهم مع الله من إظهار الايمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار استدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الاسلام عليهم صورة صنع المخادعين، فشبهت تلك الصورة بهذه الصورة، فاستعمال لفظ هذه فيها إن وقع كان


(1) سورة النساء: الآية 80. (2) سورة الفتح: الآية 10. (3) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 42، ذيل قوله تعالى: ” يخادعون الله والذين آمنوا “. (*)

[ 119 ]

استعارة تصريحية، واشتقاق يخادعون منه استعارة تبعية. أو يقال: المخادعة محمولة على حقيقتها، لكنها ترجمة عن معتقدهم الباطل وظنهم الفاسد، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون، وأنه يخدعهم، وكذلك المؤمنون يخدعونهم. أو يقال: المراد يخدعون الذين آمنوا، وذكر الله ليس لتعليق الخدع به، بل لمجرد التوطئة، وفائدتها التنبيه على قوة اختصاص المؤمنين بالله وقربهم منه، حتى كان الفعل المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا. وكذا الحال في أعجبني زيد وكرمه، فإن ذكر زيد توطئة وتنبيه على أن الكرم قد شاع فيه وتمكن بحيث يصح أن يسند إليه أيضا الاعجاب الذي في كرمه، ومثل هذا العطف يسمى جاريا مجرى التفسير. ووجه العدول عن خدع إلى خادع، قصد المبالغة، لان المفاعلة في الاصل المغالبة، وهي أن يفعل كل من الجانبين مثل صاحبه ليغلبه، وحينئذ يقوى الداعي إلى الفعل ويجيئ أبلغ وأحكم. و (يخادعون) بدل أو بيان ل‍ (يقول) لانه وإن كان واضحا في نفسه، ففيه خفاء بالنسبة إلى الغرض، ولما كان خفاؤه باعتبار الغرض منه، اكتفى في بيانه بذكره، وهو الخداع. ويجوز أن يكون مستأنفا، كأنه قيل: ولم يدعون الايمان كاذبين ؟ فقيل: يخادعون. وكأن غرضهم من المخادعة إما دفع المضرة عن أنفسهم كالقتل والاسر، أو جذب المنفعة كأخذ الغنائم، أو إيصال المضرة إلى المؤمنين كإفشاء أسرارهم إلى أعدائهم من الكفار. أقول: ويحتمل أن يكون معنى يخادعون، يريدون أن يخدعوا، إما لدلالة جوهر الصيغة عليه، وإما باعتبار أن الافعال التي من شأنها أن تصدر بالارادة والاختيار إذا نسبت إلى ذوي الاختيار فهم إرادتها. وما يخدعون إلا أنفسهم: قراءة نافع (1) وابن كثير (2) وأبي عمرو (3).


(1 و 2 و 3) مجمع البيان: ج 1، ص 46. (*)

[ 120 ]

والمعنى أن دائرة المخادعة التي سبقت، وهي المخادعة المستعارة للمعاملة الجارية بينهم وبين الله والمؤمنين المشبهة بمعاملة المخادعين، أو المخادعة المحمولة على حقيقتها لكن في ظنهم الفاسد، أو المخادعة الواقعة بينهم وبين الرسول، أو بينهم وبين المؤمنين، راجعة إليهم وضررها يحيق بهم لا يعدوهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك، وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالاماني الفارغة، وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية. فعلى الاول: تكون العبارة الدالة على قصة المخادعة مجازا، أو كناية عن إنحصار ضررها فيهم. ويحتمل أن يجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الاولى أو الثانية. وعلى الثاني: تكون المخادعة مستعملة في معناها حقيقة. وقرأ الباقون (وما يخدعون) قيل: لان المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين. أقول: نعم، لكن الاثنين أعم من أن يكون اثنين حقيقة أو اعتبارا، اللهم إلا أن يقال: الاثنينية الحقيقية مشروطة بحسن المخادعة. وقرئ (يخدعون) من خدع. ويخدعون بفتح الياء، والاصل يختدعون، بمعنى يخدعون، كيقتدرون بمعنى يقدرون، فأدغم. ويخدعون ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله، وحينئذ يكون (إلا أنفسهم) معناه إلا أنفسهم على حذف حرف الجر، يقال: خدعت زيدا نفسه، أي عن نفسه، نحو ” واختار موسى قومه ” (1). ويحتمل النصب على التمييز عند من يجوز كونه معرفة، واستعمال الخدع بناء على تضمينه معنى الصدور، أي ما يخدعون إلا خدعا صادرا عن أنفسهم منشئ عنهما. والنفس: الذات. ويقال للقلب بمعنى العضو الصنوبري: نفس، لان قوام النفس بمعنى الذات، بذلك. ولهذا المعنى أيضا يقال للروح الدم: نفس، وللماء لفرط حاجتها إليه. وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه، أي يشاورها، لانه ينبعث عنها،


(1) سورة الاعراف: الآية 155. (*)

[ 121 ]

تسمية للمسبب باسم السبب، أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه، فيكون استعارة مبنية على التشبيه. والمراد بالانفس هنا ذواتهم. ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم. قيل: إن المختار عند المحققين من الفلاسفة وأهل الاسلام من الصوفية وغيرهم، أنها أي النفس – جوهر مجرد في ذاته، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف. و متعلقه أولا هو الروح الحيواني القلبي المتكون في جوفه الايسر من بخار الغذاء ولطيفه، ويفيد قوة لها تسري في جميع البدن فيفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه. وقد يطلق على هذا الجوهر المجرد القلب والروح أيضا. فعلى هذا يمكن أن يراد بالانفس، النفوس المتعلقة بأبدانهم على سبيل الحقيقة، بأن يكون موضوعا لهذا الجوهر المجرد، كما للذات. وعلى تقدير وضعه للذات فقط. إطلاقه عليه إما بالحقيقة أو المجاز، فإن الذات لو كانت عبارة من مجموع الجثة والروح المجرد، فإطلاق النفس عليها من إطلاق اسم الكل على الجزء. وإن كانت عبارة عن الجثة فقط، فإطلاقه عليها لعلاقة واقعة بينهما. وإن كانت عبارة عن الروح المجرد فقط، وهو الظاهر، فإن الذات في الحقيقة ما يعبر عنه بلفظ (أنا) وهو الباقي من أول العمر إلى آخره، وما عداه كالعوارض بالنسبة إليه، ولا شك أن هذا الامر هو الروح المجرد، لا الجثة فإنها كل يوم تبدل. فعلى هذا إطلاق النفس بمعنى الذات عليه، حقيقة، وفيما عداه مجاز. وإذا اريد ب‍ ” أنفسهم ” النفوس الناطقة المتعلقة بأبدانهم، أو القلوب، أو الارواح بمعناه، فلا شك أن ضرر المخادعة الواقعة بينهم وبين الله والمؤمنين، راجع إليها، مقصور عليها، لكن قصرا إضافيا، فإن ذلك الضرر يعود إلى جثتهم وقلوبهم الصنوبرية وأرواحهم الحيوانية أيضا، فإن عذابهم لا يكون روحانيا فقط. وما يشعرون: معطوف على قوله: ” وما يخدعون ” أو على قوله ” يخادعون “. وقيل: معترضة من الشعور، وهو إدراك الشئ بالحاسة، مشتق من الشعار، وهو ثوب على شعر الجسد، ومنه مشاعر الانسان، أي حواسه الخمس التى يشعر بها، لانها متلبسة بجسده كالشعار. أو من الشعر وهو إدراك الشئ من وجه يدق و


[ 122 ]

يخفى. والاول أبلغ وأنسب بالمقام، لان فيه إشعارا بانحطاطهم عن مرتبة البهائم حيث لا يدركون أجلى المعلومات، أعني المحسوسات التي تدركها البهائم، ولذلك اختاره على ما يعلمون. ومفعوله محذوف، فإما أن يقدر العلم به، والمعنى وما يشعرون أن وبال خداعهم راجع إلى أنفسهم، أو اطلاع الله عليهم. أو ينزل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول، وحينئذ إما أن لا يجعل كناية عنه متعلقا بمفعول خاص، أو بجعل، والثاني أبلغ، والثالث أبلغ منه. في قلوبهم مرض: جملة مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق. ويحتمل أن تكون مقررة لعدم شعورهم. وقرئ ” مرض ” بسكون الراء، وهو صفة توجب الخلل في الافعال الصادرة من موضع تلك الصفة، ويمكن اتصاف القلب به. وذلك لان الانسان إذا صار مبتليا بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك صار سببا لتغيير مزاج القلب وتألمه، واتصاف قلوب المنافقين بهذا التفسير غير معلوم، فالمراد به هنا المعنى المجازي هو آفته كسوء الاعتقاد والكفر، أو هيئة باعثة على ارتكاب الرذائل كالغل والحسد والبغض، أو مانعة عن اكتساب الفضائل كالضعف والجبن والخور (1)، لان قلوبهم كانت متصفة بهذه الاعراض كلها. وفي تقديم الخبر فائدتان، تخصيص المبتدأ النكرة، وإفادة الحصر إدعاء. فزادهم الله مرضا: معطوف على الجملة السابقة، والمعنى أنه لما كان في قلوبهم مرض واستعداد للمرض، فزيد مرضهم. والمراد بالزيادة الختم على قلوبهم حتى لا يخرج شئ من هذه النقائص، ولا يدخل شئ مما لها من الفضائل، بل وإنما أتى بالجملة الفعلية في المعطوف دون المعطوف عليه لتجدد ذلك الزائد يوما فيوما، بخلاف أصل المرض، فإنه كان ثابتا مستقرا في قلوبهم.


(1) خار يخور: ضعف. المصباح المنير: ص 183. (*)

[ 123 ]

ويمكن أن يراد بالزيادة زيادته بحسب زيادة التكاليف وتكرير الوحي و تضاعف النصر، فحينئذ يكون إسناد الزيادة إلى الله من حيث أنه مسبب من فعله أو دعائية، والمتعين حينئذ هو المعنى الاول. والزيادة يجئ لازما ومتعديا إلى مفعولين كما في الآية أيضا، فحينئذ يكون مفعوله الثاني مرضا، أو محذوفا، أي فزادهم الله مرضهم، وقيل: الاول محذوف، وهو تكلف. ولهم عذاب أليم: قال البيضاوي: (1) أي مؤلم، يقال: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة، كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع (2). ورد بأن فعيل بمعنى مفعل اسم فاعل غير ثابت، على ما سيجئ في قوله: ” بديع السموات والارض ” (3) فهو بمعنى المؤلم اسم مفعول، كوجع فهو وجيع بمعنى الموجع. وإنما اسند إلى العذاب لانه من ملابسات فاعله الذي هو المعذب، كما اسند الربح إلى التجارة في قوله تعالى: ” فما ربحت تجارتهم ” (4) لانها من ملابسات التاجر. وفيه مبالغة وتنبيه على أن الالم بلغ الغاية، بحيث عرض لصفة المعذب كما عرض له، وعلى هذا يكون المجاز في الاسناد. ولو جعل بمعنى ما يلابسه الالم، لانهما متلاقيان في موصوف واحد، فيكون المجاز في المفرد، لكن تفوت المبالغة. ووجه أنه تعالى قال في حق المصرين على الكفر: ” ولهم عذاب عظيم ” ولم يذكر له سببا، وفي حق المنافقين ” ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ” وبين أن سببه الكذب – إن الكافرين المصرين هم المطرودون، فينبغي أن يكون عذابهم عظيما، لكنهم لا يجدون شدة ألمه، لعدم صفاء قلوبهم، كحال العضو الميت


(1) هو القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد الفارسي الاشعري الشافعي، المفسر المتكلم الاصولي، صاحب التفسير المسمى بأنوار التنزيل. توفى بتبريز سنة 685 هجرية. الكنى والالقاب: ج 2، ص 100. (2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 24. (3) سورة البقرة: الآية 117. (4) سورة البقرة: الآية 16. (*)

[ 124 ]

أو المفلوج إذا وقع عليه القطع. والمنافقون لثبوت استعدادهم في الاصل وبقاء إدراكهم في الجملة، يجدون شدة الالم، فيكون عذابهم مؤلما مسببا من الكذب و لواحقه بخلاف عذاب المصرين، فإنه ذاتي لهم لا لامر عارض. وفي تقديم الخبر ها هنا أيضا فائدتان: زيادة تخصيص المبتدأ النكرة، وإفادة الحصر إدعاء. بما كانوا يكذبون: قراءة عاصم وحمزة والكسائي (1). والكذب: الاخبار عن الشئ بغير ما هو عليه. وقرئ: يكذبون، من كذبه، نقيض صدقه، أو من كذب الذي هو للمبالغة والتكثير، أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا ووقف لينظر ما وراءه، فإن المنافق متحير متردد. ” والباء ” للسببية أو البدلية متعلقة بالظرف في قوله: ” لهم عذاب أليم “، و ” ما ” مصدرية، ويحتمل الموصولية والموصوفية. واستدل الذاهبون إلى قبح الكذب مطلقا بالآية، بأنه جعل عذابهم الاليم مسببا لكذبهم. وتخصيصه بالذكر من بين جهات استحقاقهم إياه، مع كثرتها، مبالغة في قبح الكذب لينزجر السامعون منه. وقيل: نمنع قبحه مطلقا، فإنه قد يمكن أن يتضمن عصمة دم مسلم، بل نبي، ولا يتيسر التعريض، فيحسن. ورد بأن الحسن العارضي لا يمنع القبح الذاتي، وهو المراد بالقبح ها هنا، فعلى هذا يحرم الكذب سواء تعلق به غرض أو لم يتعلق. أما إذا لم يتعلق فظاهر. وأما إذا تعلق فلان في المعاريض لمندوحة عنه، والتعريض: ليس بكذب إذا كان المعرض به مطابقا للواقع، فإن مرجع الصدق والكذب إلى المراد من الكلام الخبري، لا إلى مطلق مدلوله. وما ينسب إلى إبراهيم (عليه السلام) من الكذبات الثلاث:


(1) تفسير القرآن الكريم: للشهيد مصطفى الخميني: ج 3، ص 79، وفيه: عن الكوفيين وهم حمزة و عاصم والكسائي تخفيف الذال يكذبون. (*)

[ 125 ]

من قوله: ” إني سقيم ” (1) وأراد سأسقم، وقد علمه بأمارة من النجوم، أو إني سقيم الآن بسبب غيظي وحنقي من اتخاذكم الآلهة. وقوله: ” بل فعله كبيرهم ” (2) والمراد به: أنه إذا لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه وغيره فكيف يصلح إلها، أو أن تعظيمه كان هو الحامل له على كسرها. وقوله لملك الشام: إن سارة اختي، ومراده الاخوة في الدين. وقيل: كذباته الثلاث، قوله في الكواكب: ” هذا ربي ” (3) ثلاث مرات، وقصد به الحكاية، أو الفرض ليرشدهم إلى عدم صلاحيتها للالوهية. فمحمول على التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. ووجه إيراد كان ” الدالة ” على المضي، ويقولون: ” ويخادعون ويخدعون ” للحال، ووقوع كلام المنافقين قبلها، ليس بمعلوم أن كذبهم سبب لثبوت العذاب لهم في الاستقبال، أو للحكم به في الحال، فينبغي أن يكون متقدما على ما هو سبب له، فالمراد بالمضي هذا التقدم سواء كان بالزمان أو بالذات. قال بعض الفضلاء: وإذ قد أوقعتنا المباحث اللفظية في وادي التفرقة، فلابد أن نستريح باستشمام روائح الجمعية. فنقول: ومن الناس الناسي اعترافهم في معهد ألست بربكم بربوبية ربهم بتجليه العلمي أولا بصور أعيانهم الثابتة على نفسه، وتجليه الوجودي ثانيا بصور أعيانهم الخارجية، وترتيبه إياهم طورا بعد طور، ومرتبة بعد مرتبة إلى أن وصلوا إلى هذه النشأة الجسمانية العنصرية من يقولون بألسنة أفواههم: آمنا بالله أحدية جمع الاسماء الالهية السارية بالكل في الكل، فلا فاعل، بل لا موجود في الوجود إلا هو، فهو الفاعل في كل عين، إذ لا فعل للعين، بل الفعل له ولكن فيها، وباليوم الآخر، أي بتجليه النوري الوجودي آخرا بالاسم المجازي لجزاء الاعمال، فلا


(1) سورة الصافات: الآية 89. (2) سورة الانبياء: الآية 63. (3) سورة الانعام: الآية 76 – 77 – 78. (*)

[ 126 ]

مجازي إلا هو فهو العامل، وهو المجازي على العمل، فهم وإن كانوا مؤمنين بالقول صورة، فما هم بمؤمنين بالحال حقيقة، إذ حقيقة الايمان بالله سبحانه تقتضي أن لا تسند الآثار إلا إليه، بل لا يرى في الوجود إلا هو، فحيث قالوا آمنا وما قالوا تجلى الحق في صورة منوطة باسمه المؤمن، اشتقوا الايمان لانفسهم، وهذا شركة في التوحيد، ” يخادعون الله ” أي يظهرون بألسنة أقوالهم الظاهرة ما لم يتحققوا به في بواطنهم وهو الايمان بالله، فلا يوافق ظاهرهم باطنهم. وكذلك يخادعون الذين آمنوا، أي الذين تجلى عليهم بالاسم المؤمن، فسرى هذا التجلي في ظاهرهم وباطنهم، فآمنوا صورة وحقيقة. ” وما يخدعون إلا أنفسهم ” إذ الاشياء في الحقيقة الوحدة الجمعية الالهية متحدة بعضها مع بعض، ومع تلك الحقيقة أيضا، فكل شئ نفس الاشياء الاخر، ونفس تلك الحقيقة أيضا من هذه الحيثية، ولكنهم ما يشعرون بذلك الاتحاد، لاغتشاء مشاعرهم بصورة التعينات الحجابية، والتعددات المظهرية. في قلوبهم التي من صفتها صحة التقلب مع الشؤون الالهية بحيث لا يحجبها شأن من شهوده تعالى، مرض يضاد هذه الصحة ويمنعها عن الظهور، فزادهم الله مرضا، على مرض بازدياد أضداد تلك الصحة وتتابعها، ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم في قولهم: آمنا، وتكذيبهم إياه بحسب حالهم. والغرض من نقل أمثال هذه المباحث الاطلاع على الآراء الكاسدة والاهواء المضلة، فإن الحق يعرف بضده. وقد جاء في هذه الآية منقبة عظيمة وفضيلة جسيمة لمولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في تفسير الامام العسكري (عليه السلام)، قال: قال موسى بن جعفر (عليهما السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما اعتذر إليه هؤلاء المنافقون بما اعتذروا، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم وأوكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبرئيل أتاه فقال: إن العلي الاعلى يقرأ عليك السلام ويقول: أخرج هؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في علي ونكثهم لبيعته، وتوطينهم نفوسهم على مخالفته ما اتصل، حتى يظهر من عجائب ما أكرمه الله به من طاعة الارض والجبال والسماء له وسائر ما خلق الله لما أوقفه موقفك وأقامه مقامك، ليعلموا أن ولي الله


[ 127 ]

علي غني عنهم، وأنه لا يكف عنهم انتقامه إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الذي هو بالغه، والحكمة التي هو عامل بها وممض لما يوجبها. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجماعة بالخروج، ثم قال لعلي لما استقر عند سفح بعض جبال المدينة: يا علي، إن الله عزو جل أمر هؤلاء بنصرتك و مساعدتك والمواظبة على خدمتك والجد في طاعتك، فإن أطاعوك فهو خير لهم يصيرون في جنان الله ملوكا خالدين ناعمين، وإن خالفوك فهو شر لهم يصيرون في جهنم خالدين معذبين. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتلك الجماعة: اعلموا أنكم إن أطعتم عليا سعدتم، وإن خالفتموه شقيتم وأغناه الله عنكم بمن سيريكموه. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، سل ربك بجاه محمد وآله الطيبين الذي أنت بعد محمد سيدهم، أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت، فسأل ربه فانقلبت الجبال فضة، ونادته الجبال يا علي يا وصي رسول رب العالمين، إن الله قد أعدنا لك، فإن أردت إنفاقنا في أمرك فمتى دعوتنا أجبناك لتمضي فينا حكمك، وأنفذ فينا قضاءك. ثم انقلبت ذهبا كلها، فقالت مثل مقالة الفضة، ثم انقلبت مسكا وعنبرا وجواهر ويواقيت، وكل شئ ينقلب منها يناديه: يا أبا الحسن يا أخا رسول الله، نحن المسخرات لك إدعنا متى شئت لتنفقنا فيما شئت نجبك ونتحول لك إلى ما شئت. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي سل الله بمحمد وآله الطيبين الذين أنت سيدهم، أن يقلب لك أشجارها رجالا شاكين الاسلحة، وصخورها اسودا ونمورا وأفاعي، فدعا الله علي (عليه السلام) بذلك، فامتلات الجبال والهضبات وقرار الارض من الرجال الشاكين الاسلحة الذين لا يفي الواحد منهم عشرة آلاف من الناس المعدودين، ومن الاسود والنمور والافاعي، وكل ينادي يا علي يا وصي رسول الله، ها نحن قد سخرنا الله لك وأمرنا باجابتك كلما دعوتنا إلى اصطلام كل من سلطتنا عليه، فسمنا ما شئت، وادعنا نجبك، وأمرنا نطعك، يا علي يا وصي رسول الله، إن لك عند الله من الشأن إن سألت الله أن يصير لك


[ 128 ]

[ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) ] أطراف الارض وجوانبها هذه صرة واحدة كصرة كيس لفعل، أو يحط لك السماء إلى الارض لفعل، ويرفع لك الارض إلى السماء لفعل، أو يقلب لك ما في بحارها أجاجا، ماء عذبا، أو زئبقا أو يانا أو ما شئت من أنواع الاشربة والادهان لفعل، ولو شئت أن يجمد البحار ويجعل سائر الارض مثل البحار لفعل. ولا يحزنك تمرد هؤلاء المتمردين وخلاف هؤلاء المخالفين، فكأنهم بالدنيا وقد انقضت عنهم كأن لم يكونوا فيها، وكأنهم بالآخرة إذا وردوا عليها كأن لم يزالوا فيها، يا علي، إن الذي أمهلهم مع كفرهم وفسقهم في تمردهم عن طاعتك، هو الذي أمهل فرعون ذا الاوتاد ونمرود وكنعان، ومن ادعى الالهية من ذوي الطغيان، وأطغى الطغاة إبليس ورأس الضلالات، وما خلقت أنت ولا هم لدار الفناء، بل خلقتم لدار البقاء ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار، ولا حاجة لربك إلى من يسوسهم و يرعاهم، ولكنه أراد تشريفك عليهم وإبانتك بالفضل فيهم، ولو شاء لهداهم اجمعين. قال: فمرضت قلوب القوم لما شاهدوا من ذلك، مضافا إلى ما كان في قلوبهم من مرض، فقال الله عند ذلك: ” في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ” (1). وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض: معطوف على (يكذبون) أو على ” يقول آمنا “.


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 42، ذيل قوله تعالى: ” في قلوبهم مرض “. (*)

[ 129 ]

ورجح الاول: بقربه، وبإفادته تسبب الفساد، فيدل على وجوب الاحتراز عنه كالكذب. وفيه بحث، لانه يفيد تسبب هذا القول منهم في جواب لا تفسدوا للعذاب، لا تسبب الفساد له. والثاني: تكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم، وبإفادتها اتصافهم بكل من تلك الاوصاف استقلالا، وبدلالتها على أن لحوق العذاب الاليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها. ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله: ” ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ” إلى آخره لكنه بعيد، لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم، إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم. ويخطر بالبال احتمال أن يكون معطوفا على قوله: ” يخادعون الله ” إلى آخره. و ” إذا ” ظرف زمان، ويلزمها معنى الشرط غالبا، ولا يكون إلا في الامر المحقق، أو المرجح وقوعه. ويختص بالدخول على الجملة الفعلية، ويكون الفعل بعدها ماضيا كثيرا، ومضارعا دون ذلك. والفساد: خروج الشئ عن كونه منتفعا، والصلاح ضده. وكان من جملة فسادهم في الارض هيج الحروب والفتن بمخادعة المسلمين، ومعاونة الكفار عليهم بإفشاء أسرارهم إليهم. ومنها: الاخلال بالشرائع التي برعايتها ينتظم العالم، بإظهار المعاصي. ومنها: الدعوة في السر إلى تكذيب المسلمين وجحد الاسلام، وإلغاء السنة. والقائل هو الله سبحانه بلسان الرسول، أو الرسول، أو بعض المؤمنين. قالوا إنما نحن مصلحون: جواب (إذا) ورد للناصح على سبيل المبالغة، لان (إنما) هي كلمة (إن) التي لاثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها (ما) الكافة لزيادة التأكيد، فقصدوا بها قصر ما دخلته على ما بعده، فهذا من باب قصر المسند إليه على المسند، لكن قصر إفراد. لانهم لما سمعوا قول المسلمين لهم: لا تفسدوا في الارض، توهموا أنهم يجعلونهم مصلحين تارة ومفسدين اخرى، لاستبعادهم أن


[ 130 ]

يجعلوهم مفسدين في جميع الاحوال، فأجابوا بأنهم مقصورون على الاصطلاح لا يتجاوزونه إلى الافساد، فإصلاحهم غير مشوب بإفساد. وكلمة (إنما) دالة على أن ذلك أمر مكشوف لا ينبغي أن يشك فيه، فإن الشرط فيها أن تدخل على حكم يكون بينا في نفس الامر، أو بحسب الادعاء. وإنما قالوا ذلك: لانهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا. وروي عن العالم موسى (عليه السلام) في تفسير الآية: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير: لا تفسدوا في الارض باظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم وتحيرونهم في مذاهبهم، قالوا: إنما نحن مصلحون، لانا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد، ونحن في الدين متحيرون، فنحن نرضي في الظاهر محمدا بإظهار قبول دينه وشريعته، ونقضي في الباطن إلى شهوتنا، فنتمتع ونترفه ونعتق أنفسنا من رق محمد، ونكفها من طاعة ابن عمه علي، لكي إن اديل في الدنيا كنا قد توجهنا عنده، وإن اضحمل أمره لنا سلمنا من سببي أعدائه (1). ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون: (ألا) و (إنما) مركبتان من همزة الاستفهام وحرف النفي. لا عطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، فإن الاستفهام إذا كان للانكار ودخل على النفي أفاد تخفيفا، لان نفي النفي إثبات وتحقيق، كقوله: ” أليس ذلك بقادر ” (2). والاكثرون على أنهما حرفان موضوعان لذلك المعنى لا تركيب فيهما، ويدخلان على الجملتين. ويشاركهما في الدلالة على معنى التنبيه ” الهاء ” لكنها تختص بالدخول على أسماء الاشارة والضمائر غالبا. ولما بالغ المنافقون في إظهار الاصلاح، بولغ في إفسادهم من جهات متعددة:


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 56، في تفسير الآية 12 من سورة البقرة، وتفسير البرهان: ج 1، ص 61، مع اختلاف يسير في العبارة. (2) سورة القيامة: الآية 40. (*)

[ 131 ]

[ وإذا قيل لهم ءا منوا كما ءامن الناس قالوا أنومن كما ءامن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) ] الاستئناف، فإنه يقصد به زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع، لوروده عليه بعد السؤال والطلب. وما في كل واحدة من كلمتي (ألا) و (إن) من تأكيد الحكم و تحقيقه. وتعريف الخبر المفيد حصر المسند على المسند إليه قصر قلب. وتوسيط الفصل المؤكد لهذا الحصر. وقوله: ” لا يشعرون ” لدلالته على أن كونهم مفسدين، قد ظهر ظهور المحسوس، لكن لا حس لهم ليدركوه. وقيل: المبالغة في تعريف المفسدين على قياس ما مر في المفلحين، أنه إن حصلت صفة المفسدين وتحققوا وتصوروا بصورتهم الحقيقية فالمنافقون هم لا يعدون تلك الحقيقة، فيكون الفصل مؤكدا لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في إفادة المطلوب. وروي في تفسير تلك الآية: ألا إنهم هم المفسدون بما يغفلون امور أنفسهم، لان الله يعرف نبيه نفاقهم فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم، ولا يثق بهم، فهم أعداء المؤمنين، لانهم يظنون أنهم ينافقونهم كما ينافقون أصحاب محمد، فلا يرفع لهم عندهم منزلة ولا يحل لهم عندهم محل أهل الثقة (1). وإذا قيل لهم ءامنوا: هذا من تمام النصح والارشاد، فإن الايمان مجموع


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 44، ذيل قوله تعالى: ” وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض “. (*)

[ 132 ]

الامرين: الاعراض عما لا ينبغي، وهو المقصود بقوله: ” لا تفسدوا ” والاتيان بما ينبغي، وهو المطلوب بقوله: ” آمنوا “. وأمرهم بالايمان بعد نهيهم عن الافساد، لان التحلية لا تتيسر إلا بعد التخلية. كماءامن الناس: (ما) في (كما) إما كافة كما في قوله تعالى: ” فبما رحمة من الله لنت لهم ” (1) أو مصدرية كما في قوله تعالى: ” واذكروه كما هداكم ” (2) فإن كانت كافة للكاف عن العمل مصححة لدخولها على الجملة، كان التشبيه بين مضمونتي الجملتين، أي حققوا إيمانكم كما حقق الناس إيمانهم. وإن كانت مصدرية، فالمعنى آمنوا إيمانا كإيمانهم. وعلى التقديرين قوله: ” كما آمن الناس ” في موضع النصب على المصدرية، واللام للعهد، أي كما آمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن معه، وهم ناس معهودون على الاطلاق عندهم، أو من آمن من أهل بلدتهم كابن سلام وأصحابه، وهم ناس معهودون عندهم، أو للجنس. والمراد به الكاملون عندهم في الانسانية العاملون بقضية العقل. فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا، يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره، فيقال: زيد ليس بإنسان. وقد جمع الاستعمالين قول الشاعر: إذ الناس ناس والزمان زمان (3). واستدل به على مطلبين: أحدهما: أن توبة الزنديق مقبولة. ثانيهما: أن الاقرار باللسان إيمان. تقرير الاول: إن الكافرين مأمورون بالايمان، فلو لم تكن توبتهم مقبولة لم


(1) سورة آل عمران: الآية 159. (2) سورة البقرة: الآية 198. (3) لم أظفر بقائله، ووجدت أصحاب التفاسير يستشهدون به، لا حظ منهج الصادقين: ج 1، ص 84، وتفسير أبي السعود: المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: ج 1، ص 44. (*)

[ 133 ]

يكونوا مكلفين، ضرورة أن كونهم مكلفين مع عدم قبول توبتهم جبر. وهذا إنما يتم لو كان دعوة بعض المؤمنين إلى الايمان تكليفا، ولو سلم فإنما يدل على ذلك لو كان قولهم ذلك بطريق الدعوة. والحق أن توبة الزنديق عن غير فطرة مقبولة، وعن الفطرة غير مقبولة ظاهرا، لكن لا بدلالة الآية (1)، بل بدلالة الآيات الاخر والاحاديث المروية (2). وتقرير الثاني: إنه لو لم يكن إيمانا لم يفد التقييد بقوله: (كما آمن الناس) والتالي باطل فالمقدم مثله، والملازمة ممنوعة. والمستند أن ذلك مبني على أن يكون المراد من الناس، المنافقين المذكورين سابقا، وليس كذلك، بل المراد المؤمنين، وفائدة التقييد التحريص، ونظيره قوله: أكرم أخاك كما أكرمه عمرو. وبعض استدل من قوله: ” ومن الناس من يقول آمنا وما هم بمؤمنين ” على أن الاقرار فقط ليس بإيمان. وهو أيضا باطل، لجواز أن يكون قولهم (آمنا) لاخبار الايمان لا إنشاءه. قالوا أنؤمن كما ءامن السفهاء: الهمزة فيه للانكار مجازا، إذ الاصل فيه الاستفهام، استعملت فيه لعلاقة عدم اعتقاد الثبوت فيهما. وإذا كان للاستفهام يطلب به التصور والتصديق، كما يطلب ب‍ ” هل ” التصديق، وبباقي أدوات الاستفهام التصور. والحق أن الكل لطلب التصور في المآل. ومعنى الانكار فيه: أن ذلك لا يكون أصلا. واللام للعهد، إشارة إلى الناس المذكور سابقا، أو الجنس، وهم مندرجون تحت مفهومه على زعمهم. ولتسفيههم، إما لجعل الايمان سفها، أو لجعل المؤمنين المشهورين به، أو ليجعلونهم مشهورين به، أو لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم. فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء، ومنهم موال


(1) سورة آل عمران: الآية 90. (2) لا حظ الوسائل: ج 18، باب 1 و 3، من أبواب حد المرتد، ص 545 – 549. (*)

[ 134 ]

كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة لهم بمن آمن منهم، إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفة: خفة العقل وقلته، ويقابله الحلم بالكسر: وهو الاناءة. وكان هذا الكلام مقولا فيما بينهم، لا في وجوه المؤمنين، لانهم كانوا منافقين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فأخبر سبحانه بذلك نبيه، ورد عليهم بأبلغ رد، وقال: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون: تفصيل هذه الآية ب‍ (لا يعلمون) والتي قبلها ب‍ (لا يشعرون) لانه أكثر طباقا لذكر السفه، ولان الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وتفكر، وأما النفاق وما فيه من النقص والفساد فمما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم. وروي في تفسير تلك الآية عن موسى (عليه السلام): إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة، قال لهم خيارهم المؤمنون كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار: آمنوا برسول الله وعلي (عليهما السلام) الذي أوقفه موقفه وأقامه مقامه وناط مصالح الدين والدنيا كلها به، وآمنوا بهذا النبي وسلموا لهذا الامام وسلموا له ظاهرة وباطنة كما آمن الناس المتقدمون. قالوا في الجواب: ولكنهم يذكرون لمن يفيضون إليهم من أهليهم الذين يثقون بهم، يقولون لهم: أنؤمن كما آمن السفهاء – يعنون سلمان و أصحابه – لما أعطوا عليا خالص دينهم وودهم ومحض طاعتهم وكشفوا رؤوسهم بموالاة أوليائه ومعادة أعدائه ؟ فرد الله عليهم الذين لم ينظروا في أمر محمد حق النظر، فيعرفوا نبوته ويعرفوا به صحة ما ناطه بعلي (عليه السلام) من أمر الدين والدنيا، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج الله جاهلين وصاروا خائفين وجلين من محمد ودوامه (عليه السلام)، ولكن لا يعلمون أن الامر كذلك وأن الله يطلع نبيه (صلى الله عليه وآله) على أسرارهم، فيخسئهم ويلعنهم ويسفههم (1). قال بعض الفضلاء: وإذا سمعت شطرا من الاحكام اللفظية، فاسمع نبذا


(1) تفسير الامام العسكري عليه السلام: ص 56، في ذيل قوله تعالى: ” وإذا لقوا الذين آمنوا “. (*)

[ 135 ]

[ وإذا لقوا الذين ء امنوا قالواء امنا وإذا خلوا إلى شيطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14) ] من المعاني البطنية، فنقول: وإذا قيل لهؤلاء المتوسمين بالايمان الرسمي المدعين التوحيد الحقيقي: لا تفسدوا في أرض استعدادكم لذلك التوحيد، ولا تبذروا فيها بذر الشرك بإضافة الافعال إلى أنفسكم. قالوا: إنما نحن مصلحون لها بارتكاب الاعمال الصالحة، واكتساب الافعال الحسنة لتترتب عليها الا جزية الاخروية من الجنات وما فيها من أنواع النعيم المقيم، فقيل في ردهم: ألا إنهم هم المفسدون لها، فإن ترتب تلك الا جزية لا يتوقف إلا على نفس الاعمال، لا على إضافتها إلى أنفسهم، بل بهذه الاضافة يبقون محرومين عن التوحيد ولا يتحققون به أصلا، وكيف يتحققون وهم لا يصلون إلى توحيد الافعال، فكيف بتوحيد الصفات والذات ! فلا يحظون بما يترتب عليه مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكنهم لا يشعرون بذلك الافساد، لانه من قبيل الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل. وإذا قيل لهم آمنوا إيمانا حقيقيا كما آمن الناس المتحققون بحقائق الحقيقة الانسانية الكمالية، الباذلون وجودهم بالفناء في الله. قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ فإن من السفه بذل الوجود الذي هو رأس مال الحظوظ العاجلة والآجلة، فقيل في ردهم: ألا إنهم هم السفهاء، فإن من يبذل وجوده الفاني يبقى ببقاء الحق سبحانه، وأين الوجود الفاني من البقاء بالحق ! ؟ ولكنهم لا يعلمون ذلك، لان هذا العلم لا يحصل بالحجة والبرهان، بل بالذوق والوجدان. وإذا لقوا الذين ء امنوا قالواء امنا: وقرئ ” ولاقوا ” هذه الجملة مع ما عطفت عليها في حكم كلام واحد، مساقة لبيان معاملتهم مع المؤمنين وأهل دينهم،


[ 136 ]

وتنافي قولهم لهما بخلاف صدر قصتهم، فإنه مسوق لبيان أصل نفاقهم من غير تعرض للقائهم المؤمنين وقولهم معهم، ولخلوهم مع شياطينهم وقولهم لهم، فما يتوهم في أجزاء الشرطية الاولى من التكرار مضمحل بالكلية. تقول لقيته ولاقيته: إذا استقبلته قريبا منه، ومنه ألقيته إذا طرحته، لانك بطرحه جعلته بحيث يلقى. وإذا خلوا إلى شيطينهم: من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه. أي إذا انفردوا مع شياطينهم، أو من خلاك ذم، أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية أي الماضية. أي إذا مضوا عن المؤمنين إلى شياطينهم. واستعمال (خلا) ب‍ (إلى) على هذين المعنيين ظاهر. أو خلوت به إذا سخرت منه، وحينئذ يحتاج في استعماله ب‍ (إلى) إلى تضمين معنى الانهاء. أي إذا سخروا من المؤمنين منهين هذه السخرية إلى شياطينهم. وهذا كما تقول: أحمد إليك فلانا، أي أحمده منهيا ذلك الحمد إليك. وشياطينهم: أصحابهم الذين مايلوا الشياطين في تمردهم منافقين كانوا أو مشركين، فيكون من قبيل الاستعارة. وجعل سيبويه تارة نونه أصلية على أنه من شطن إذا بعد، فهو بعيد عن الصلاح، ويشهد له قولهم: تشيطن. واخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، ومن أسمائه الباطل (1). قالوا إنا معكم: في عدم الايمان بمحمد (صلى الله عليه وآله) وخاطبوا المؤمنين المنكرين بالفعلية مجردة عن التأكيد، وشياطينهم الذين لا يذكرون بالاسمية مؤكدة، والقياس العكس، لانهم كانوا مع المؤمنين بصدر الاخبار بحدوث الايمان منهم، وتركوا التأكيد لعدم الباعث عليه من بواطنهم من صدق ونية ووفور اعتقاد، أو لعدم رواجه عنهم عند المخاطبين الذين هم أرباب فهم وكياسة بلفظ التأكيد، بخلاف مخاطبتهم مع شياطينهم، فإنهم فيما أخبروهم به على صدق رغبة و وفور نشاط، وهو رائج عنهم متقبل منهم على لفظ التأكيد.


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 25. (*)

[ 137 ]

[ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغينهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما ربحت تجرتهم وما كانوا مهتدين (16) ] إنما نحن مستهزءون: تأكيد لسابقه، إذ معنى ” إنا معكم ” هو الثبات على اليهودية، وقوله: ” إنما نحن مستهزؤن ” وإن لم يكن بظاهره تأكيدا لهذا المعنى، لكن له لازم، وهو أنه رد ونفي للاسلام يؤكده، لان دفع نقيض الشئ تأكيد لثباته، أو بدل. وتقريره: أنه لما كان قصدهم إلى إظهار تصلبهم في دينهم، وكان في الكلام الاول قصورا عن إفادته، إذ كانوا يوافقون المؤمنين في بعض الاحوال، فاستأنفوا القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الاسلام وأهله، فهم أرسخ قدما من شياطينهم. أو إستيناف، كأن الشياطين قالوا: إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين ؟ فأجابوا بذلك. وهو أوجه لزيادة الفائدة، وقوة المحرك للسؤال. وهذه الوجوه الثلاثة بيان لترك العاطف في كلامهم. وأما تركه في حكايته، فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد. الاستهزاء: السخرية والاستخفاف، يقال: هزأت واستهزأت بمعنى، كأجبت و استجبت، وأصله الخفة من الهزء بالفتح، وهو القتل السريع. وهزأ يهزأ بالفتح فيهما، مات على المكان، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف. الله يستهزئ بهم: المراد باستهزاء الله: مجازاته إياهم على استهزائهم بالمؤمنين، لما بين الفعل وجزائه من ملابسة قوية، ونوع سببية، مع المشاكلة المحسنة من مقابلة اللفظ باللفظ والمماثلة في القدر، فيكون من قبيل المجاز المرسل. وقد روى رئيس المحدثين في كتاب التوحيد بإسناده، عن علي بن الحسين بن


[ 138 ]

فضال، عن أبيه، عن الرضا علي بن موسى (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” سخر الله منهم ” (1) وعن قوله: ” الله يستهزئ بهم ” (2) وعن قوله: ” مكروا ومكر الله ” (3) وعن قوله: ” يخادعون الله وهو خادعهم ” (4)، فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يسخر ولا يستهزئ، ولا يمكر، ولا يخادع، ولكنه عزوجل يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. انتهى (5). وإنزال الهوان والحقارة بهم، لانه الغرض من الاستهزاء، فهذا أيضا من المجاز المرسل، لعلاقة السببية في التصور والمسببية في الوجود. وفي هذا التوجيه تنبيه على أن مذهبهم حقيق بأن يسخر منه ويستهزأ به لاجله. أو معاملته سبحانه معهم معاملة المستهزئ بمن يستهزئ به. واستعمل لفظ المشبه به في المشبه، فيكون استعارة. وهي في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة في النعمة، مع تماديهم في الطغيان. وفي الآخرة فبأن يفتح وهم في النار باب إلى الجنة فيسرعون إليه، فإذا قربوا منه سد عليهم. أو إرجاع وبال الاستهزاء إليهم، فيكون كالمستهزئ بهم، فيكون استعارة أيضا. أو لازم معناه، وهي إظهاره خفة عقل المستهزأ به وقلته، فيكون سبحانه مستهزء بهم في عين استهزائهم بالمؤمنين، فإن من استهزائهم بهم مع ظهور أمرهم، يظهر خفة عقولهم وقلتها. وهو استئناف. فإنهم لما بالغوا في استهزاء المؤمنين مبالغة تامة، ظهر بها شناعة ما ارتكبوه وتعاظمه على الاسماع على وجه يحرك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم ؟ وعقبى حالهم ؟ وكيف معاملة الله والمؤمنين إياهم ؟


(1) سورة التوبة: الآية 79. (2) سورة البقرة: الآية 15. (3) سورة آل عمران: الآية 54. (4) سورة النساء: الآية 142. (5) كتاب التوحيد: باب 21، ص 163، ح 1. (*)

[ 139 ]

وفي تصدير الاستئناف بذكر الله: دلالة أولا: على أن الاستهزاء بالمنافقين، هو الاستهزاء الابلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم، وذلك لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جنب علمه وقدرته. وثانيا: على أنه تعالى يكفي مؤونة عباده المؤمنين، ولا ينتقم لهم، ولا يحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم. وإنما قال: ” يستهزئ ” ولم يوافق لقولهم، ليفيد حدوث الاستهزاء، وتجدده وقتا بعد وقت. أما إفادته الحدوث فلكونه فعلا. وأما إفادة تجدده وقتا بعد وقت، فلان المضارع لما كان دالا على الزمان المستقبل الذي يحدث شيئا بعد شئ على الاستمرار، ناسب أن يقصد به إذا وقع موقع غيره، أن معنى مصدره المقارن لذلك الزمان يحدث مستمرا استمرارا تجديديا، لا ثبوتيا كما في الجملة الاسمية. و إنما افيد ذلك ليكون على طبق نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة أفلا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين. ويمدهم في طغينهم يعمهون: من مد الجيش وأمده، إذا زاده وقواه. و مددت السراج والارض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومنه مد الدواة وأمدها إذا أراد أن يصلحها. لا من مد العمر بمعنى الاملاء والامهال، فإنه يعدى باللام كأملى له. والحذف والايصال خلاف الاصل، فلا يصار إليه إلا بدليل. ويؤيده قراءة ابن كثير (ويمدهم) بضم الياء من الامداد، بمعنى إعطاء المدد، وليس من المد في العمر والامهال في شئ (1). والاصل في الطغيان – بالضم والكسر ك‍ (لقيان) ولقيان – تجاوز الشئ عن مكانه، والمراد تجاوز الحد في الكفر والغلو في العصيان. والمراد زيادة طغيانهم بسبب تمكين الشيطان من إغوائهم، أو أنه لما منعهم الطاقة التي يمنحها المؤمنون وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم وسدهم طرق التوحيد على أنفسهم، فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونوارا، فإسناد الفعل إلى الله


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 67 (*)

[ 140 ]

إسناد إلى المسبب، وإضافة الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة. والعمه، قيل: مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة. وقيل: العمى في العين، والعمه في القلب. وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه، يقال: رجل عامه وعمه، وأرض عمهاء، لا منار بها، ولعل التخصيص يكون حيث تكون المقابلة. و ” في طغيانهم ” إما متعلق ب‍ (يمدهم) وحينئذ يكون (يعمهون) حالا من مفعول يمدهم، أو فاعل الطغيان. وإما متعلق ب‍ (يعمهون) قدم عليه لرعاية الفاصلة، وحينئذ يتعين أن يكون حالا من الاول. قال بعض الفضلاء: وإذ وقع الفراغ من حل ظاهر عباراته، فاسمع بطنا من بطون إشاراته، فنقول: إذا لاقى المتوسمون بالايمان الرسمي الذين آمنوا إيمانا حقيقيا وتحققوا بحقيقة التوحيد، وانعكست إليهم أنوارهم الايمانية، فتوهموا إنها من أنفسهم وملك لهم، قالوا بلسان حالهم: آمنا إيمانا كإيمانهم. وإذا فارقوا وخلوا إلى شياطينهم المبعدين، وانفصلت منهم تلك الانوار، ورجعوا إلى ظلمتهم الاصلية الحجابية، وتضاعفت به ظلمتهم لاجتماعهم مع هؤلاء الشياطين، قالوا لهم: إنا معكم متفقون بكم فيما أنتم فيه من إثبات ذواتكم وإسناد الصفات والافعال إليها، مستهزؤون بالذين لا يثبتون إلا وجودا واحدا، ويسندون إليه الافعال والصفات كلها، فإن ذلك لا يحكم بصحة العقل، الله يستهزئ بهم في عين استهزائهم بهم، فإن ذلك الاستهزاء فعل الحق فيهم انصبغ بصبغ الاستهزاء، لالحاق الهوان والحقارة بهم في عيون أرباب البصيرة، فيكون استهزاء بهم، ويمدهم في طغيانهم، أي غلوهم في نفي التوحيد الحقيقي، مترددين متحيرين بين المؤمنين إيمانا حقيقيا وبين شياطينهم الجاحدين ذلك الايمان، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى معللة للجملة الدالة على استحقاقهم الاستهزاء على سبيل الاستئناف، أو مقررة لقوله: (يمدهم في طغيانهم) على سبيل


[ 141 ]

التوكيد. وأصل الاشتراء: بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الاعيان، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث أنه لا يطلب بعينه أن يكون ثمنا، وبذله اشتراء و أخذه بيع، ولذلك عدت الكلمتان من الاضداد. والنض والناض: الدنانير والدراهم عند أهل الحجاز، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن، فباذله مشتر وآخذه بائع. ثم استعير للاعراض عما في يده محصلا به غيره سواء كان من المعاني أو الاعيان، ثم اتسع فاستعمل للرغبة عن الشئ طمعا في غيره فإن اكتفى بجعل الطرفين أعم من أن تكون الاعيان أو المعاني أو مختلفين، وبقي الاستبدال محفوظا، والاستبدال موقوف على تملك ما هو كالثمن. فاحتيج في اشتراء الضلالة بالهدى إلى أن نزل التمكن من الهدى بحسب الفطرة منزلة تملكه، فيكون التجوز في نسبة الهدى بالتملك إليهم لا في نفسه، أو اريد بالهدى ما جبلوا عليه من تمكنهم منه، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فيكون التجوز في نفس الهدى لا في نسبته إليهم بالتملك، فإن التمكن من الهدى ثابت لهم من غير تجوز وإن لم يبق الاستدلال أيضا محفوظا، كما إذا استعمل للرغبة عن الشئ طمعا في غيره، فلا حاجة إلى ذلك التنزيل أو التجوز. فما ربحت تجرتهم: وقرأ ابن عبلة (تجاراتهم) بصيغة الجمع (1). وذكر الربح ترشيح للمجاز الواقع في ” إشترى ” وهو أن يقرن بالمجاز ما يلائم المعنى الحقيقي، فإنه لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه بما يشاكله، تمثيلا لخسارهم، والمعنى ضرت تجارتهم، لان عدم الربح وإن كان أعم من الخسران، لوجود الواسطة بينهما، لكن المقام يخصه به. لان المقصود ذم المنافقين والذم في الخسران آكد من عدم الربح. وإنما عبر عن الخسران بنفي الربح، للتصريح أولا بانتفاء ما هو مقصود من التجارة، والدلالة ثانيا على إثبات ضده، والافادة ثالثا المبالغة بأن نفي الربح بالبيع


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 70. (*)

[ 142 ]

والشراء. والربح: الفضل على رأس المال، وإسناده إلى التجارة نفيا وإثباتا، لتلبسه بالتجارة مجاز عقلي، وهو إسناد شئ إلى غير ما هو له نفيا أو إثباتا، كما أن الحقيقة العقلية إسناده إلى ما هو له كذلك، لكن في الحقيقة الموجبة صادقة، والسالبة كاذبة، وفي المجاز بالعكس، فلا حاجة في كونه من المجاز العقلي إلى تأويل ” ما ربحت ” ب‍ ” خسرت ” ولا إلى أن يفرق بين إسناد النفي ونفي الاسناد. هكذا قيل. وفيه نظر يظهر بالتأمل. والتحقيق: ما ذكره السكاكي من أن المراد بالتجارة المشترون مجازا والاسناد حقيقة فتأمل. وما كانوا مهتدين: عطف على (ما ربحت تجارتهم) أي ما كانوا مهتدين لطرق التجارة، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه. وليمكن حمله على العموم، وإن اشتمل على تكرار ما، فالحمل على الاول أولى، لانهم لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة اشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة، كما يهتدي إليه التجار البصراء بالامور التي يربح فيها ويخسر، فهو راجع إلى الترشيح. ويحتمل عطفه على (اشتروا) بل هو أولى، لان عطفه على (ما ربحت) يوجب ترتبه على ما تقدم بالفاء، فيلزم تأخره عنه، لكن الامر بالعكس. ويحتمل أن يكون حالا من فاعل اشتروا، أو ربحت، أو ضمير تجارتهم. وإنما حكم بإنتفاء الربح عن تجارتهم وعدم اهتدائهم لطرق التجارة، لان مقصود التجار منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا رأس المال، فكيف يفوزون بالربح الذي هو الفضل عليه ! وروي أنه قد حضر قوم عند رسول الله (صل الله عليه وآله) وقالوا: سبحان الرازق ! كان فلان في ضنك وشدة، فسافر ببضاعة جماعة وربح الواحد عشرة، فهو اليوم من مياسير أهل المدينة، وقال جماعة اخرى بحضرته: إن فلانا كان في سعة ودعة وكثرة مال، فسافر في البحر فغرقت سفينته وتلفت أمواله ونجى بنفسه في


[ 143 ]

[ مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون (17) صم بكم عمى فهم لا يرجعون (18) ] كمال الفقر والفاقة والحيرة، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا أخبركم بالاحسن من الاول، والاسوء من الثاني ؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: أما الاول فرجل اعتقد في علي بن أبي طالب ما يجب اعتقاده، من كونه وصي رسول الله وأخاه ووليه وخليفته ومفروض الطاعة، فشكر له ربه ونبيه ووصي نبيه، فجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، فكانت تجارته أربح وغنيمته أكثر و أعظم. وأما الثاني فرجل أعطى عليا بيعته وأظهر له موافقته، ثم نكث بعد ذلك و خالفه ووالى أعداءه فختم له سوء أعماله فصار إلى عذاب لا يبيد ولا ينفد، ذلك هو الخسران المبين (1). قال بعض الفضلاء: إن تأويل الآية بالاشارة إلى بطن من بطونها، أن يقال: أولئك المتوسمون بالايمان الرسمي، هم الذين اشتروا ضلالة ظلمة حجر أنياتهم بهدى نور إستعدادهم الفطري لكشف حقائق التوحيد الحقيقي واختاروها عليه، فما ربحت تجارتهم هذه، لانهم أضاعوا رأس مالهم الذي هو هدى ذوي الاستعداد، فكيف تربح تجارتهم بعد إضاعتهم إياه ! والحال أنهم ما كانوا مهتدين لطرق تلك التجارة سالكين سبيل الفوز بها على وجه يربحون ولا يخسرون. مثلهم: لما بين حقيقة صفة المنافقين، أراد أن يكشف عنها كشفا تاما.


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 48، ذيل قوله تعالى: ” أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى “. (*)

[ 144 ]

ويبرز لها في معرض المحسوس المشاهد. ففيها يضرب المثل مبالغة في البيان. ولامر ما أكثر الله في كتبه الامثال، وكثر في كلام الانبياء والحكماء. ومن سور الانجيل سورة الامثال (1). والمثل في الاصل بمعنى المثل، وهو النظير، يقال: مثل ومثل ومثيل كشبه و شبه وشبيه، ثم قيل: مثل، للقول السائر. ويعتبر فيه أن يكون تشبيها تمثيليا على سبيل الاستعارة، ومن ثم حوفظ عليه ولم يغير، فيكون بعينه لفظ المشبه به، فإن وقع تغيير لم يكن مثلا، بل مأخوذا منه وإشارة إليه، كما في قولك: بالصيف ضيعت اللبن، بالفتح (2). وقيل: لم يغير، لانه ينبغي أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه، فلو غير لربما انتفت تلك الغرابة. وإنما سمي مثلا، لانه جعل مضربه، وهو ما يضرب فيه ثانيا مثلا لمورده، وهو ما ورد فيه أولا، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها فيه بيان أو غرابة. ويمكن حمله هناك على كل واحد من تلك المعاني. كمثل الذى استوقد نارا: معناه حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا. و ” الذي ” بمعنى الذين، كما في قوله: ” وخضتم كالذى خاضوا ” (3) إن


(1) الكتاب المقدس: الامثال، ص 641، وكتاب مقدس: كتاب أمثال سليمان نبي، ص 948. (2) ويروى (الصيف ضيعت اللبن) والتاء من ضيعت مكسورة في كل حال، إذا خوطب المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، لان المثل في الاصل خوطبت به امرأة وهي (ختنوس) بنت لقيط بن زرارة، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخا كبيرا ففركته فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، و أجدبت فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة فقال عمرو: في الصيف… الخ فلما رجع الرسول وقال لها ما قال عمرو ضربت يدها على منكب زوجها وقالت: (هذا ومذقه خير) تعني أن هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو، فذهبت كلتاهما مثلا. مجمع الامثال للميداني. ط بيروت 1374، ج 2، الباب العشرون فيما أوله فاء تحت رقم (2725). (3) سورة التوبة: الآية 69. (*)

[ 145 ]

جعل مرجع الضمير في ” بنورهم “. وإنما جاز ذلك، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين، لانه غير مقصود بالوصف، بل الجملة التي هي صلته، وهو وصلة إلى وصف المعرفة بجملة موصولة بها. ولانه ليس باسم تام، بل هو كالجزء منه، فحقه أن لا يجمع كما لا يجمع أخواتها. ويستوي فيه الواحد والجمع. وليس ” الذين ” جمعه المصحح، بل ذو زيادته، زيدت لزيادة المعنى، ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي جاء التنزيل عليها، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف، ولذلك بولغ فيه، فحذف ياؤه، ثم كسرته، ثم أقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، أو قصد به جنس المستوقدين، أو الفوج الذي استوقدوا. وإن لم يجعل مرجعا لذلك الضمير فلا حاجة إلى ذلك، لان المقصود تشبيه الحال بالحال، وهما متطابقان، إلا أن يقصد رعاية المطابقة بين الحالين في كونهما بالواحد أو الجماعة أيضا، فإن المماثلة حينئذ أقوى والتشبيه إلى القبول أقرب. والاستيقاد: طلب الوقود والسعي في تحصيله، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. واشتقاق النار: من نار ينور إذا نفر، لان فيها حركة واضطرابا، والنور مشتق منها، فإن الحركة والاضطراب توجد في النار أولا وبالذات، وفي نورها ثانيا و بالعرض، فاشتقاق النور منها أولى من اشتقاقها منه. فلما أضاءت ما حوله: عطف على الصلة، فيكون التشبيه بحال المستوقد الموصوف بمضمون الشرطية، أعني ” لما ” مع جوابه، و ” لما ” تدل على وقوع الشئ، لوقوع غيره بمعنى الظرف، والعامل فيه جوابه. والاضاءة: فرط الانارة، كما أن الضوء فرط النور، ومصداق ذلك قوله تعالى ” هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ” (1). ويناسبه ما اصطلح عليه الحكماء من أن الضوء ما يكون للشئ من ذاته كما للشمس، والنور ما يكون من غيره كما للقمر.


(1) سورة يونس: الآية 5. (*)

[ 146 ]

وأضاء في الآية إما متعدد، فيكون ” ما حوله ” مفعولا به، أي جعلت النار ما حول المستوقد مضيئا، وإما لازم فيكون مسندا إلى ما حوله، أي صارت الاماكن والاشياء التي حوله مضيئة بالنار، أو إلى ضمير النار وحينئذ إما أن تكون كلمة ” ما ” زائدة و ” حوله ” ظرفا لغوا لاضاءت، وإما موصولة وقعت عبارة عن الامكنة، فتكون مع صلتها مفعولا فيه لاضاءت. ويرد على الاول، أن إضاءة النار حول المستوقد يقتضي دورانها حوله وهو خلاف المعهود. واجيب بان المراد دوران ضوئها، لكنه جعل دوران الضوء بمنزلة دوران النار، إستنادا إلى السبب. وعلى الثاني، أنه كان ينبغي أن يصرح بكلمة ” في ” لان حذفها في لفظ مكان إنما كان لكثرة الاستعمال، ولا كثرة في الموصول الذي عبر به عن الامكنة، اللهم إلا أن يحمل على أنه من قبيل (عسل الطريق الثعلب) (1) وعلى هذا التوجيه يلزم دوران مكان النار، وهو لا يستدعي استيعاب النار جميعه، بل بعضه. و (حوله) نصب على الظرفية، وتأليف حروفه على هذا الترتيب للدوران والاطافة. وقيل: للعام، حول، لانه يدور، ومنه حال الشئ واستحال إذا تغير، وحال


(1) وقد تمثل به الشعراء في أبياتهم، منها ما لساعدة بن جؤية الهذلي يصف فيها الرمح: لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه، كما عسل الطريق الثعلب – أراد: عسل في الطريق فحذف وأوصل. لسان العرب، ج 11، ط بيروت، ص 446، في عسل. قوله (لدن) خبر مبتدأ محذوف، أي هو لدن، أي الرمح الخطي. واللدن بالدال المهملة والنون كفلس اللين الناعم، والباء سببية، و (الهزة) بفتح الهاء وتشديد الزاء المعجمة، الاضطراب، و (يعسل) بالمهلتين كيضرب مضارع من عسل الرمح عسلانا، إذا اهتز واضطرب، ومنه عسل السيف بصيغة الماضي و (المتن) بالمثناة والنون كفلس من الرمح صدره وجمهوره، أي ما بين مقبضه إلى كل واحد من طرفيه، و (في) بمعنى مع، والكاف للتشبيه، و (ما) مصدرية، و (الطريق) السبيل (والثعلب) كجعفر معروف، وعسلانه في الطريق خبنته، وهو أن يراوح بين يديه ورجليه، بأن يضع رجليه في المشي موضع يديه. جامع الشواهد باب اللام بعده الدال. (*)

[ 147 ]

الانسان وهي عوارضه التي تتغير عليه، والحوالة وهي اسم من أحال عليه بدينه. ذهب الله بنورهم: جواب ل‍ ” ما ” كما هو الظاهر. وفيه مانعان: لفطي ومعنوي. الاول: توحيد الضمير في ” استوقد ” و ” حوله ” وجمعه في ” بنورهم “. والثاني: أن المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب نوره، بخلاف المنافق، فجعله جوابا غير مناسب. والجواب عن الاول: أن توحيد الضمير بالنظر إلى لفظ الموصول، وجمعه بالنظر إلى معناه، على أحد الوجوه المذكورة فيما سبق. وعن الثاني: أنه يمكن أن يكون إذهاب نوره بسبب سماوي، ريح أو مطر، لا بسبب فعل المستوقد، ولذلك. أسند إلى الله سبحانه أو يكون المراد بالمستوقد، مستوقد نار لا يوضئها الله كما أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، فأطفأها الله. ويحتمل أن يكون جوابا لما محذوف، أو قوله: ” ذهب الله ” استئنافا، والمصحح لهذا الحذف قرينة المقام، والمرجح المبالغة في سوء حال المستوقد بإيهام أن الجواب مما تقصر العبارة عنه. وتقدير الاستئناف أنه لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي خمدت نارة، سأل سائل وقال: ما بالهم قد شبهت حالهم بحال هذا المستوقد ؟ فقيل له: ذهب الله بنورهم، وحينئذ يكون ضمير الجماعة للمنافقين. ويحتمل أن يكون بدلا من الجملة التمثيلية وبيانا له، كأنه قيل: كمثل الذي ذهب الله بنورهم، وحينئذ يكون مرجع الضمير الذي استوقد على أحد الوجوه التي سبقت. وإنما قال ” بنورهم ” ولم يقل بنارهم، لانه المقصود من إيقادها. ولم يقل بضوئهم كما هو مقتضى اللفظ لان في الضوء دلالة على الزيادة، فلو علق الذهاب به، لاوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا، والمقصود إزالة النور عنهم رأسا. وإنما اختير أولا أضاءت على أنارت، تنبيها على مزيد الحيرة والخيبة، وإشعارا


[ 148 ]

بالبطلان لما تقرر في الاذهان من قوة أمر الباطل في بدء الحال واضمحلاله سريعا في المآل. وإنما قال: ” ذهب الله بنورهم ” ولم يقل: أذهب الله نورهم كما قرأ بعضهم، لان معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه، فإن الباء وإن كانت للتعدية كالهمزة، إلا أن فيها معنى المصاحبة واللصوق، وذهب السلطان بماله، أخذه، فالمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه، وما يمسك فلا مرسل له، وهو أبلغ من الا ذهاب لما فيه من معنى الاخذ والامساك. أما الاخذ فظاهر، وأما الامساك فلما تقتضيه المصاحبة واللصوق. قال بعض الفضلاء: وعند العارفين النكتة فيه غير ما ذكر. فإن مجئ الله سبحانه بالنور ليس إلا بتجليه باسم النور على المتجلى له، فهو عند تجليه بالنور متلبس به غير منفصل عنه، وكذلك ذهابه بالنور ليس إلا امتناعه من هذا التجلي، فهو يذهب مكتسيا بالنور لا منفصلا عنه، فهو المتلبس بالنور في الحالين، بل هو النور في العلم، لا نور سواه. ثم أكد ذلك وقرره بقوله: وتركهم في ظلمت لا يبصرون: ففيه زيادة على ما يدل عليه إذهاب نورهم، من وقوعهم في الظلمة كما وكيفا: أما كما، فلما في الظلمات من الجمعية، وأما كيفا، فلما فيها من تنوين التعظيم وإردافها بقوله ” لا يبصرون ” فإنه يدل على أنها بحيث لا يتراءى فيها شبحان. والظلمة: عدم النور مطلقا، وقيل: ما من شأنه ذلك، وقال بعض المتكلمين: هي عرض ينافي النور، فعلى الاول التقابل بينهما تقابل الايجاب والسلب، وعلى الثاني تقابل العدم والملكة، وعلى الثالث تقابل التضاد. وهي مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، لانها تسد البصر وتمنع الرؤية. وقرئ في ظلمة بالتوحيد، وتوحيدها ظاهر، وأما جمعها فباعتبار انضمام ظلمة الليل إلى ظلمتي الغمام وتطبيقه مثلا. هذا على تقدير أن يكون ضمير الجماعة كناية عن المستوقدين كما هو الظاهر. وأما إذا كان كناية عن المنافقين، فقيل: ظلماتهم:


[ 149 ]

ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة. أو ظلمة الضلال، وظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمدي. وقيل: المراد بها على التقديرين ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة، فتكون الجمعية أيضا لزيادتها في الكيف. لا يبصرون: نزل منزلة اللازم وقطع النظر عن مفعوله المتروك، وقصد إلى نفس الفعل كأنه قيل: ليس لهم أبصار. وهو أبلغ من أن يقدر المفعول، أي لا يبصرون شيئا، لان الاول يستلزم الثاني دون العكس. وفي الاصل بمعنى خلى وطرح وله مفعول واحد، وقد يضمن معنى صير فيقتضي مفعولين، فعلى هذا قوله: ” في ظلمات ” مفعوله الثاني، وقوله: ” لا يبصرون ” فعال من مفعوله الاول. ويحتمل أن يترك على معناه الاصلي، ويكون ” في ظلمات لا يبصرون ” حالين مترادفين أو متداخلين. وفي آخر روضة الكافي بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير الآية ما مضمونه: أنه أضاءت الارض بنور محمد (صلى الله عليه وآله) كما تضئ الشمس، فلما قبض الله محمدا ظهرت الظلمة فلم يبصروا أفضل أهل بيته (عليهم السلام) (1). ” صم بكم عمى: خبر مبتدأ محذوف، والضمير المحذوف إن كان كناية عن المستوقدين فإطلاق هذه الصفات عليهم على سبيل الحقيقة، والمعنى أنهم أوقدوا نارا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائله أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم و انتقصت قواهم، فصاروا صما بكما عميا. وإن كان عبارة عن المنافقين فإطلاقها عليهم على طريق التشبيه، لانهم لما سدوا آذانهم عن إصغاء الحق، وألسنتهم عن النطق به، وأبصارهم عن مشاهدة آياته، جعلوا كانما أيفت مشاعرهم وانتفت، لا على سبيل الاستعارة، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له، أي لا يكون مذكورا على وجه ينبئ عن التشبيه، وهو أن


(1) الروضة من الكافي: ج 8، ص 380، قطعة من ح 574. (*)

[ 150 ]

يكون بين طرفيه حمل وما في معناه، كذا في الكشاف (1). قيل: وهنا بحث، وهو أنه لا نزاع في أن تقدير الآية، هم صم، لكن مع ذلك ليس المستعار له مذكورا ها هنا، لانه أحوال مشاعر المنافقين وحواسهم، لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة، لانها استعير مصادرها لتلك الاحوال، ثم اشتقت هي منها. أقول: فعلى هذا ” الصم ” جمع الاصم و ” البكم ” جمع الابكم و ” العمي ” جمع الاعمى وقد صرح به بعض أهل اللغة، فحينئذ ما ذكره بعض المفسرين: من أن الحمل على سبيل المبالغة، في غاية السقوط. وغاية ما يتكلف عما في الكشاف أن يقال: تشبيه ذوات المنافقين بذوات الاشخاص الصم، متفرع على تشبيه حالهم بالصم، لكن القصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ إشارة إلى أن المشابهة بين الحالين قويت حتى كأنها تعدت إلى الذاتين، فحمل الآية على هذا التشبيه إنما هو لرعاية المبالغة في إثبات الآفة، وإلا فمقتضى ظاهر الصناعة الحمل على الاستعارة بتبعية المصادر. وقرئ في الكل بالنصب على الحال من مفعول (تركهم): والصم: الانسداد، تقول: قناة صماء، إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة إذا سددتها، والصمام لما تسدها به، فالاصم من انسدت مسامعه فلا يدخلها هواء يسمع الصوت بتموجه. والبكم: الخرس، والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر، وقد استعير لعدم البصيرة. فهم لا يرجعون: يقال: رجع عن كذا إلى كذا، يعني أنهم لا يرجعون عن الضلالة التي اشتروها إلى الهدى الذي باعوه. فيندفع ما قاله بعض المفسرين: من أن المراد به لا يرجعون إلى الهدى أو عن الضلالة. وليعلم أن توضيح تمثيل المنافقين بالمستوقدين الموصوفين بما ذكر، وتشبيه


(1) الكشاف: ج 1، ص 77. (*)

[ 151 ]

حالهم العجيبة بحالهم، موقوف على تحقيق طرفي التشبيه ووجه الشبه. فنقول: أما المشبه به، فهو صفة المستوقدين نارا كلما أضاءت ما حولهم من الاماكن والاشياء أذهب الله نورهم عند الاضاءة وأمسكه وتركهم في ظلمات متعددة شديدة أدهشتهم بحيث اختلت مشاعرهم وقواهم، فهم لا يقدرون على الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل. أما المشبه فهو صفة المنافقين الذين إظهارهم الايمان باللسان بمنزلة إيقاد النار العظيمة، وانتفاعهم به بسلامة الاموال والاولاد وغير ذلك كإضاءتها ما حولهم، و زوال ذلك الانتفاع منهم على القرب بإهلاكهم، وإفشاء نفاقهم على النبي (صلى الله عليه وآله) هو ذهاب نورهم والقاؤهم في أحيان ظهور النفاق والوعيد بالعذاب السرمد، أو الوقوع فيه على مراتبه، تركهم في الظلمات المتعددة الشديدة، وعدم استعمالهم قواهم فيما خلقت له بمنزلة إخلالها، ورسوخهم وتمكينهم فيما أوقعهم فيه بما يخالف فطرتهم كعدم القدرة من المستوقدين على الرجوع إلى ما كانوا عليه. وأما وجه الشبه فإن اعتبرته بين مفردين من مفردات طرفي التشبيه كما سبقت الاشارة إليه، فذلك من قبيل التشبيه المفرد، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها كقوله: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي (1) – وإن اعتبرته، بأن تنزع من مفردات أحد الطرفين هيئة اجتماعية وحدانية، وشبهتها بهيئة، انتزعتها من مفردات الطرف الآخر، من غير ملاحظة تفاصيل


(1) لامرئ القيس، يصف العقاب، وهي تأكل صغار الطير إلا قلوبها. فلذلك كثرت عندها. و يصف نفسه بالشجاعة حيث وصل إلى رؤية ذلك، فقال: كأن قلوب الطير حال كونها رطبا بعضها و يابسا بعضها، حال كونها عند وكر العقاب – أي عشها -: العناب وهو ثمر أحمر رطب، فهو راجع للبعض الرطب، والحشف: الجاف الردئ من التمر، البالي: الهالك، فهو راجع للبعض اليابس، ففيه لف ونشر مرتب، وفيه طباق التضاد بين الرطب واليابس. ويجوز أن رطبا ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير، أي كأن الرطب واليابس منها: العناب والحشف. هامش الكشاف، ج 1، ص 80. (*)

[ 152 ]

[ أو كصيب من السماء فيه ظلمت ورعد وبرق يجعلون أصبعهم فئ اذانهم من الصوعق حذر الموت والله محيط بالكفرين (19) ] مفردات الطرفين، ومشابهة بعضها مع بعض، فذلك من قبيل التشبيه المركب المسمى عند أرباب البيان بالتمثيل، وهو الذي يهتم به أرباب البلاغة، وكل كلام يحتملها. فذكرهم الاول احتمال لفظي ولا مساغ للذهاب إلا إلى الثاني، وذلك لانه يحصل في النفس من تشبيه الهيئة المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. ولعبد القاهر كلام مشهور في أن اعتبار التركيب في قول الشاعر: وكأن أجرام النجوم لوامعا * درر نثرن على بساط أزرق (1) – أحق وأولى وإن صح التشبيه بين مفرداته. قال بعض الفضلاء: تأويل الآية ببعض بطونها أن يقال: مثل المتوسمين بالايمان الرسمي كمثل المستوقدين الذين سبق ذكرهم، حيث تنورت بواطنهم بارتكاب بعض العبادات في بعض الاوقات فتسببوا لما في أنفسهم من النقائص والكمالات، ولم ينفذ فيهم ذلك النور بحيث يتعدى من معرفة أنفسهم إلى معرفة ربهم، بل تنقص ببعض الغفلات، فبقوا متروكين في ظلمات حجب أنياتهم، لا يبصرون ما في الآفاق وما في أنفسهم من لوائح الوحدانية، فهم صم عن سماع ما تنطق به دلائلها، بكم لا يسألونه بلسان استعدادهم، عمي لا يرونه ببعض بصيرتهم، فهم لا يرجعون عما هم فيه من أسباب الشقاوة إلى ما فاتهم من موجبات السعادة. أو كصيب من السماء: ثم ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون


(1) هو من أبيات لابي طالب الرقي. الاجرام جمع جرم كحبر: الجسم، واللوامع جمع لامعة من لمع = (*)

[ 153 ]

تحقيقا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظان الاجمال والايجاز أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والاشباع أن يفصل ويشبع. وهو عطف على قوله: ” كمثل الذي استوقد ” أي مثلهم كمثل الذي استوقد، أو كمثل ذوي صيب. وإنما قدر كذلك، لتعيين مرجع الضمائر الآتية، وتحصل كمال الملاءمة مع المعطوف عليه، ومع المشبه أيضا، أي مثلهم. وأما نفس التشبيه فلا يقتضي تقدير شئ إذ لا يلزم في التشبيه المركب أن يكون ما يلي الكاف هو المشبه به، كما في قوله تعالى: ” إنما مثل الحياة الدنيا كماء ” (1). ومما سمي من التمثيل في التنزيل قوله: ” وما يستوي الاعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الاحياء ولا الاموات ” (2) و (أو) موضوعة في أصلها للتساوي، ولذلك اشتهرت بأنها كلمة شك، فتكون مخصوصة بالخبر، ثم استعيرت للتساوي في غير الشك، فاستعمل في غير الخبر بالمعنى المجازي فقط، كالتساوي في استصواب المجالسة في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. وفي الخبر بكلا المعنيين أعني الحقيقي الذي هو الشك، والمجازي كالتساوي في الاستقلال بوجه التمثيل، كما في هذه الآية. فيستفاد صحة التشبيه بكل واحدة من هاتين القصتين صريحا، وبهما معا بالطريق الاولى. وهذا بناء على تبادر معنى الشك فيه، وهو المفهوم من الكشاف (3). والمفهوم من المفصل: أن كلمة ” أو ” لاحد الامرين. ولا شك أن هذا معنى يعم مواردها من الانشاء والاخبار كلها. وأما الشك والتشكيك والابهام والتخيير


= البرق إذا أضاء، والدرر كصرد جمع در وهو اللؤلؤ النفيس، ونثرن من نثر الشئ أي رماه متفرقا، والبساط ككتاب الفرش، والازرق كأحمد أفعل من الزرقة وهو لون معروف. جامع الشواهد، باب الواو بعده الكاف، ص 323. (1) سورة يونس، الآية 24. (2) سورة فاطر: الآية 19 – 20 – 21 – 22. (3) راجع الكشاف: ج 1، ص 81. (*)

[ 154 ]

والاباحة، فليس شئ منها داخلا في مفهومها، بل يستفاد من مواقعها في الكلام. والصيب، فيعل، من الصوب، وهو فرط الانسكاب والوقوع، يقال على المطر وعلى السحاب، والآية تحتملهما. وتنكيره، لانه اريد به نوع شديد هائل. وقرئ (كصائب) والاول أبلغ. والسماء، هو المظلة، أو جهة العلو، وتعريفها للجنس، للدلالة على أن الصيب منطبق، آخذ بآفاق السماء كلها، فإن كل افق ككل طبقة منها يسمى سماء فتعريف الجنس من غير قرينة البعضية، يدل على أنه منطبق آخذ بكلها لا يختص بسماء دون سماء. وفي الدلالة على التطبيق إمداد لسائر المبالغات التي في الصيب من جهة مادته الاولى، أي الحروف، فإن الصاد من المستعلية، والياء مشددة، والباء من الشديدة. ومادته الثانية، أي الصوب، فإنه فرط الانسكاب كما مر. ومن جهة البناء أعني الصورة، فإن فيعلا صفة مشبهة دالة على الثبوت. ومن جهة التنكير العارض، لانه للتهويل والتعظيم، كتنكير النار في الآية الاولى. وإن اريد بالصيب المطر، فيحتمل أن يراد بالسماء السحاب، ويجعل اللام لاستغراق جميع ما يمكن أن يظل قطعة من وجه الارض، فإنه يصلح أن يطلق عليه اسم الحساب. وإن اريد بالصيب السحاب وبالسماء أيضا، فالمعنى هذا النوع من السحاب، وليس فيه كثير فائدة. والتمثيل الثاني أبلغ، لانه أدل على فرط الحيرة وشدة الامر و فظاعته. ولذلك أخروهم يتدرجون في نحو هذا من الاهون إلى الاغلظ. فيه ظلمت: بضم الفاء والعين. وقرئ بفتح اللام وسكونه، جمع ظلمة بضم الفاء وسكون العين فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف. ومن المتفق عليه بينهم أن الظرف إذا اعتمد على موصوف، أو موصول، أو حرف استفهام، أو حرف نفي فإنه يجوز أن يرفع الظاهر، بخلاف ما إذا لم يعتمد، فإنه لا يجوز إعماله عند سيبويه، ويجوز في جميع ذلك أن الظرف خبر متقدم على مبتدئه. فعلى هذا يظهر فساد ما قاله البيضاوي، من أن ارتفاعها بالظرف وفاقا (1).


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 29. (*)

[ 155 ]

وإن اريد بالصيب المطر فظلماته ظلمات تكاثفه وتتابع قطراته، لان تقارب القطرات ومتابعتها يقتضي قلة الهواء المتخلل المنير، وظلمته إظلام غمامه. وظلمة الليل المستفادة من قوله: (كلما أضاء لهم) والمراد بها ما يتوزع على الاجرام من ظلمته، لا ظلمته كلها حتى يرد أن المطر في ظلمة الليل، لا ظلمة الليل فيه. ولا شك أن نسبة الظلمة المتوزعة عليه إليه، كنسبة العرض إلى موضوعه، والصفة إلى موصوفها فيصح انتسابها إليه. وإن اريد به السحاب، فظلماته ظلمة سخمته، أي سواده المسبب عن تراكمه وكثرة مائه وظلمة تطبيقه وإحاطته بجميع الآفاق، وظلمة الليل. وعلى ما حققناه يندفع ما قاله بعض المفسرين، من أن الظرفية هنا باعتبار الملابسة، لانه يكون بناء عليه انتساب الظرف إلى مظروفه بفي جائزا، وهو غير جائز. ورعد وبرق: الرعد من الرعدة بالكسر، وهو صوت يسمع من السحاب، و سببها – على المشهور – اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقتها الريح. والبرق: الاحسن فيه أن يكون معطوفا على رعد، ويكون المجموع معطوفا على الظلمات بعاطف واحد، من برق الشئ بريقا إذا لمع، وهو ما يلمع من السحاب بواسطة اصطكاكها. وقيل: الرعد ملك موكل بالسحاب، يسبح. وقيل: صوت ملك يزجر السحاب. وقيل: هو ريح تحتبس تحت السماء. ولم يجمعا كالظلمات، لمصدريتهما في الاصل. ويحتمل أن يكون المراد بهما معنييهما المصدرية أيضا، أعني الارعاد والابراق. ولانهما ليسا أنواعا مختلفة بالنظر إلى أسبابهما كالظلمة. وكينونتهما في السحاب ظاهرة، وأما في المطر فلانهما لما كانا في محل يتصل به أعلاه ومصبه أعني السحاب، جعلا كأنهما فيه، أو لان المطر كما ينزل من أسفل السحاب ينزل من أعلاه أيضا، فهو شامل للقضاء الذي فيه السحاب، فهما في جزء من المطر يتصل بالسحاب.


[ 156 ]

وإنما جاءت الاشياء نكرة، لان المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات واجبة، ورعد قاصف، وبرق خاطف. والاصل في كلمة ” في ” أن تستعمل في ظرفية الاجسام للاجسام، ثم اتسع فيها فاستعمل في ظرفية الزمان للاحداث، ولمحلية المعروضات لاعراضها، والموصوفات لصفاتها، إلى غير ذلك. يجعلون أصبعهم فئ اذانهم: الضمائر ترجع إلى أصحاب الصيب. ولفظ الاصحاب وإن حذف واقيم الصيب مقامه، ولكن معناه باق، فيجوز أن يعول عليه. وهو استئناف لا محل له من الاعراب، فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل: فكيف حالهم مع ذلك ؟ فاجيب بأنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم. فإن قلت: الجواب حينئذ لا يكون مطابقا للسؤال، فإنه بين حينئذ حالهم مع الصواعق دون الرعد. قلت: لما كانت الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، كان الجواب مطابقا، كأنه قيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم من شدة صوت الرعد وانقضاض قطعة نار معها. ويحتمل أن يكون حالا من المضاف إلى الصيب المحذوف. و ” جعل ” جاء متعديا إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفا، أي صيرت، وإلى مفعول واحد كقوله: ” وجعل الظلمات والنور ” (1) أي صنع، وبمعنى التسمية كقوله ” وجعلوا لله أندادا ” (2)، أي سموا له، وبمعنى أفعال المقاربة، نحو جعل زيد يفعل. واليد تتجزأ إلى الانملة والاصبع والكف والساعد والعضد، والمتعين منها لسد الآذان أنملة السبابة، فإطلاق الاصابع موضع الانامل – بل بعضها – من


(1) سورة الانعام: الآية 1. (2) سورة إبراهيم: الآية 30. (*)

[ 157 ]

اتساعات اللغة. والنكتة، المبالغة، التي ليس في ذكر الانامل وبعضها، وهي أنهم لشدة الامر عليهم وخوفهم من تقصيف الرعد، يجعلون أصابعهم بالكلية في آذانهم لئلا يسمعوه أصلا، أو لفرط دهشتهم وحيرتهم يفعلون ذلك ولا يدرون ما يفعلون. وعدم تخصيص ما هو متعين لسد الآذان من الاصابع، أعني السبابة، للاشارة إلى أنه لم يبق لهم من فرط الدهشة والحيرة قوة التمييز بينهما، أو لما في السبابة من معنى السب، ولذلك استكرهوها، فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة وغيرهما مما طوى ذكرها، إذ لم يكن لها اسم وراءها يتعارفه الناس في ذلك العهد. من الصوعق: متعلق ب‍ ” يجعلون ” ولفظة ” من ” في أمثال ذلك إبتدائية على سبيل العلية، فيقال: قعد من الجبن. وقد يكون ما بعدها غرضا مطلوبا مما وقع قبلها إذا صرح بما يدل على ذلك، كقولك: ضربت من أجل التأديب، بخلاف اللام فإنها وحدها تستعمل في كل منهما. ويشاركهما في التعليل ” في ” كما في قوله (عليه السلام): ” إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها ولم تدعها حتى تأكل من خشاش الارض ” (1). والصواعق: جمع صاعقة، وهي قصفة رعد، أي شدة صوت منه ينقض معها شقة – أي قطعة – من نار، وهي في الاصل إما صفة لقصفة الرعد والتاء للتأنيث، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية، أو مصدر كالعافية والكاذبة. وقرئ (من الصواقع) وليس بقلب من الصواعق، لان كلا من البنائين سواء في التصرف، يبنى على كل منهما كثير من الامثلة، تقول: صقع الديك، إذا صاح، وصقعه على رأسه وصقع رأسه، أي ضرب صوقعته، وهي موضع البياض في وسط الرأس، وخطيب مصقع أي مجهر بكسر الميم، وهو الذي من عادته أن يجهر بكلامه.


(1) سنن ابن ماجه: ج 1، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب 152، ما جاء في صلاة الكسوف، ص 402، حديث 1265، ولفظ الحديث (ورأيت امرأة تخدشها هرة لها، فقلت: ما شأن هذه ؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا. لا هي اطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الارض). (*)

[ 158 ]

أقول: الصاعقة والصاقعة إذا كانتا اسمي صفتين فجمعهما على القوابل مطرد، أما إذا كانتا مصدرين، فلا، لكن ذلك شئ ذكره صاحب الكشاف والبيضاوي (1) و (2). حذر الموت: وقرأ ابن أبي ليلى حذار الموت، فقد جاء حذر يحذر حذرا، وحذارا، منصوب على أنه مفعول له ل‍ (يجعلون) فهو علة للجعل المعلل، أي جعلهم أصابعهم في آذانهم لاجل الصواعق واقع الاجل الحذر من الموت المتوهم، لشدة الصوت (3). والموت عدم الحياة عما من شأنه ذلك، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة. وقيل: عرض يمنع الاحساس يعرض عقيب الحياة، أي لا يجمعها، فيكون التقابل بينهما تقابل التضاد، واستدل عليه بقوله تعالى: ” خلق الموت والحياة ” (4) فإن الخلق والايجاد لا يتعلق إلا بالامور الوجودية. واجيب بأن المقصود من الخلق التقدير، ولو سلم فالعدم يمكن أن يخلق باعتبار استمراره، ولو سلم فالذي لا يخلق هو العدم بمعنى السلب، والموت ليس كذلك، كما مر. والله محيط بالكفرين: أمال أبو عمرو الكاف من الكافرين في موضع الخفض والنصب (5)، وروي ذلك عن الكسائي، والباقي لا يميلون (6). ووجه حسنه لزوم كسرة الراء التي تجري مجرى الكسرتين بعد الفاء المكسورة. وتلك اعتراضية لا محل لها من الاعراب، وفائدتها أن الحذر من الموت لا يفيد. ووضع الكافرين موضع المضمر للدلالة على أن أصحاب الصيب كفار، ليظهر


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 217. (2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 99. (3) تفسير القرآن الكريم: ج 3، ص 319. (4) سورة الملك: الآية 2. (5 و 6) مجمع البيان: ج 1 – 2 ص 56. (*)

[ 159 ]

[ يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم إن الله على كل شئ قدير (20) ] استحقاقهم شدة الامر. وقيل: هذه المعترضة لبيان أحوال المشبه على أن المراد بالكافرين المنافقون، دل بها على أنهم لا مدفع لهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة. ووسطت بين أحوال المشبه به، مع أن القياس يقتضي تقديمها أو تأخيرها، تنبيها على شدة الاتصال بين المشبه والمشبه به، ودلالة على فرط الاهتمام بشأن المشبه. وإحاطة الله مجاز، فإن شبه شمول قدرته تعالى بإحاطة المحيط مع المحاط – أي شبه هيئة منتزعة من عدة امور باخرى مثلها – كان هنا استعارة تبعية تمثيلية لا تصرف شئ من ألفاظ مفرداتها، إلا أنه لم يصرح إلا بلفظ ما هو العمدة في الهيئة المشبه بها، أعني الاحاطة، والبواقي من الالفاظ منوية في الارادة. وإحاطة الله سبحانه عند الصوفية بالكافرين – بل بالموجودات كلها – عبارة عن تجليه بصور الموجودات، فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه سار في الموجودات كلها ذاتا وعلما وقدرة، إلى غير ذلك من الصفات. والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية، أنه لا يعزب عنه ذرة في السماوات والارض، إذ كل ما يغرب عنه يلتحق بالعدم. وقالوا: هذه الاحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف، ولا كإحاطة الكل باجزائه، ولا كإحاطة الكلي بجزئياته، بل كإحاطة الملزوم بلوازمه، فإن التعينات اللاحقة لذاته المطلقة، إنما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة وبشرط أو بغير شرط، ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها. يكاد البرق يخطف أبصرهم: استئناف ثان، كأنه قيل: ما حالهم مع


[ 160 ]

تلك الصواعق ؟ فاجيب. و ” يكاد ” مضارع كاد، وهو من كدت تكاد كيدا ومكادة. وحكى الاصمعي كودا، فيكون كخفت تخاف خوفا، والاول أشهر (1). وكاد من أفعال المقاربة، وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه، لكنه لم يوجد، إما لفقد شرط أو لعروض مانع. والشرط في خبره أن يكون فعلا مضارعا بدون (أن) وقد يكون معها، بخلاف (عسى) فإنه لرجائه، وقد يدخل على خبرها (إن) وقرئ (يخطف) بكسر الطاء، ويختطف ويخطف بفتح الياء والخاء. وأصله (يختطف) نقلت حركة الطاء إلى الخاء ثم ادغمت في الطاء، ويخطف بكسرهما بحذف حركة الطاء للادغام، وبتحريك الخاء بالكسر إما لالتقاء الساكنين، وإما لمتابعة الطاء، ويجعل حرف المضارعة تابعا للخاء، و (يخطف) مضارع خطف من باب التفعيل، و (يتخطف) مضارع تخطف من باب التفعل. كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا: استئناف ثالث، جواب لمن يقول: كيف يصنعون عند خطوف البرق وخفيته ؟. وكلمة (كل) في (كلما) منصوب على الظرفية باتفاق، وناصبها الفعل الذي هو جوابها، أعني (مشوا) وإفادتها الظرفية من جهة (ما) فإنها محتمله لوجهين: أحدهما: أن تكون حرفا مصدريا، والجملة صلة له، فلا محل لها، فالاصل كل وقت اضاءته، ثم عبر عن المصدر ب‍ (ما) والفعل، ثم ابينا عن الزمان بتقدير الوقت. والثاني: أن تكون اسما نكرة بمعنى وقت، فلا يحتاج على هذا إلى تقدير وقت، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة، فيحتاج إلى تقدير عائد منها، أي كل وقت أضاء لهم البرق فيه. هكذا قيل. وأقول: (ما) المصدرية قسمان: مصدرية صرفة، ومصدرية ظرفية، وكلمة (ما) المركبة مع كل مصدرية ظرفية، فعلى هذا لا حاجة إلى تقدير، ولا إلى حذف


(1) لم نعثر عليه. (*)

[ 161 ]

عائد. و (أضاء) إما متعدد والمفعول محذوف، والتقدير: كلما أضاء طريقا لهم مشوا فيه، وضمير (فيه) حينئذ إما عائد إلى المفعول المحذوف، وإليه ذهب المبرد، أو إلى البرق، وعليه الجمهور. وإما لازم بمعنى كلما لمع لهم مشوا فيه، ويتعين عود الضمير إليه. وإذا عاد الضمير إلى البرق على التقديرين، فلابد من (في) الظرفية، أو تقدير مضاف، أي في ضوئه. وكذلك (أظلم) إما لازم أو متعد، من ظلم الليل بالكسر، ويؤيده قراءة (أظلم) على البناء للمفعول. ورد باحتمال أن يكون (عليهم) قائما مقام الفاعل، فيكون تعدية أظلم بعلى إلا بنفسه. واجيب بأن (عليهم) يقابل (لهم) في أضاء لهم، فإن جعلا مستقرين لم يصلح (عليهم) أن يقوم مقام الفاعل، وإن جعلا صلتين للفعل على تضمين معنى النفع والضر، لم يصلح (عليهم) لان يقوم مقام الفاعل المضمن ولا المضمن فيه، وعلى تقدير صلوحه فعطف (إذا أظلم) على (كلما أضاء) مع كونها جوابا للسؤال عما يصنعون في تارتي خطوف البرق وخفيته، يقتضي أن يكون (أظلم) مسندا إلى ضمير البرق كأضاء، على معنى كلما نفعهم البرق باضاءته افترصوه، وإذ أضرهم بإظلاله واختفائه دهشوا. وقد يجاب – أيضا – بأن بناء الفعل للمفعول من المتعدي بنفسه أكثر، فالحمل عليه أولى وأنسب. وإنما قال في الاضاءة (كلما) وفي الاظلام (إذا) لانهم حراص على المشي، فكلما صادفوا فرصة انتهزوها، ولا كذلك التوقف، ومعنى (قاموا) وقفوا، بدليل وقوعه في مقابلة مشوا، ومنه قام الماء، جمد، وقام السوق إذا كسد، وقد مر استعماله بمعنى نفق، مأخوذا من القيام بمعنى الانتصاب، فهو من الاضداد. ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم: معطوفة إما على الجملة الاستئنافية


[ 162 ]

أعني (يجعلون) وإما على جملة (كلما أضاء لهم مشوا فيه). وكلمة ” لو ” عند المحققين تدل على ثلاثة أمور: عقد السببية والمسببية بين الجملتين بعدها، وكونهما في الماضي، وانتفاء السبب. ولا دلالة لها على امتناع الجواب، ولكنه إن كان مساويا للشرط الواقع، أو عند المتكلم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا، وقولك: لو جئتني لاكرمتك، لزم انتفاؤه. وإن كان أعم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان الضوء موجودا، فلا وإنما يلزم انتفاء القدر المساوي منه للشرط، يعني الضوء المستفاد من الطلوع في المثال المذكور مثلا. ثم إنه يحتمل أن يكون المقصود هنا بيان مسببه ذهاب سمعهم وأبصارهم لمشيئة الحق سبحانه كما هو شأن الحوادث كلها، لا الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر، فلذلك قال بعضهم: (لو) هنا مستعمل لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر، فهو بمنزلة (إن) وقد يقال: إنها باقية على أصلها. وقصد بها التنبيه على أن مشقتهم بسبب الرعد والبرق وصلت غايتها، وقاربت إزالة الحواس، بحيث لو تعلقت بها المشيئة لا زالت بلا حاجة إلى زيادة في وصف الرعد وضوء البرق كما ذكر أولا. وانكتة في اختيار ذهب بسمعهم وأبصارهم على أذهب سمعهم وأبصارهم قد مر بيانها في ذهب الله بنورهم بلسان أهل الظاهر والباطن. والمعنى: لو شاء الله أن يذهب بسمعهم بشدة صوت الرعد وأبصارهم بقوة لمعان البرق لذهب بهما، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه. ولهذا تكاثر حذف المفعول في (شاء) و (أراد) ومتصرفاتهما إذا وقعتا في حيز الشرط، لدلالة الجواب على ذلك المحذوف مع وقوعه في محله لفظا، ولان في ذلك نوعا من التفسير بعد الابهام، لا في الشئ المستغرب، فإنه لا يكتفي فيه بدلالة الجواب عليه، بل يصرح به اعتناء بتعيينه، ودفعا لذهاب الوهم إلى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به و استغرابه، كقوله:


[ 163 ]

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته * عليه ولكن ساحة الصبر أوسع (1) – وقرئ: لا ذهب بسمعهم وأبصارهم، بزيادة الباء، كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (2). إن الله على كل شئ قدير: تقرير لما قبلها. و (الشئ) يختص بالموجود في الاصل، مصدر شاء، اطلق بمعنى شاء تارة، و حينئذ يتناول الباري كما قال: (أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد) (3)، وبمعنى شيئا اخرى، أي مشئ وجوده، وما شاء الله وجوده، فهو موجود في الجملة. قال المعتزلة: الشئ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. وقيل: والمشيئة على قسمين: ثبوتية وهى ثبوت المعلومات في علم الله تعالى متميزا بعضها عن بعض. وهي على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجب وجوده في العين كذات الواجب. وثانيها: ما يمكن بروزه من العلم إلى العين، وهو الممكنات. وثالثها: ما لا يمكن وهو الممتنعات. والثبوتية في الاول، والثالث باعتبار الوجود العلمي، وفي الثاني باعتباره و باعتبار الثبوت العيني أيضا، فإنهم قسموا الكون في الخارج إلى ما تترتب عليه الآثار الخارجية وسموه وجودا عينيا، وما لا تترتب عليه الآثار الخارجية وسموه ثبوتا خارجيا. ومتعلق قدرة الله من تلك الاقسام هو الثاني دون الاول والثالث. ومشيئة وجودها، هي وجودها خارج العلم والموجودات الخارجية من حيث


(1) لابي يعقوب إسحاق بن حسان الخذيمي، وقبله. ملكت دموع العين حين رددتها * إلى ناظري والعين كالقلب تدمع – ذكر مفعول المشية مع أنه صار في استعمالهم نسيا منسيا، لانه شئ مستغرب، فحسن ذكره. نقلا عن هامش الكشاف: ج 1، ص 87. (2) سورة البقرة: الآية 195. (3) سورة الانعام: الآية 19. (*)

[ 164 ]

تعلق القدرة بإخراجها من العلم إلى العين، لا تتعلق بها قدرة اخرى، لاستحالة تحصيل الحاصل، فإن تعلقت قدرة بها فباعتبار إعدامها، فذات الواجب تعالى وصفاته والممتنعات والموجودات الممكنة من حيث أنها تعلقت القدرة بها، مستثناة عقلا من الحكم على الله تعالى، بأنه على كل شئ قدير. والقدرة في اللغة: التمكن، وقدرة الله عند الحكيم بمعنى أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لكن شاء ففعل بالمشيئة القديمة. وحاصله، إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات، ووجوب الفعل وامتناع الترك بالنظر إلى الارادة. وعند الاشاعرة: صفة يقتضي التمكن. وقيل: قدرة الانسان: هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله: نفي العجز عنه. والقدير: الفعال لما يشاء، ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى. وإنما سمي القدير قديرا، لانه يوقع الفعل على مقدار قوته، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، أو على مقدار علمه. وعلى ما حققناه في الآية دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران، وأن مقدور العبد مقدور الله، لانه شئ وكل شئ مقدور. وهذا التمثيل كالتمثيل الاول، يحتمل أن يكون من قبيل تشبيه المفرد، وأن يكون من قبيل تشبيه المركب. فشبه على الاول ذوات المنافقين بأصحاب الصيب في اشتمال كل منهما على أمر كثير النفع، وشبه إسلام المنافقين من حيث مطلق الاقسام، لا من حيث أنه مضاف إليهم بالصيب، في أن كل واحد منهما سبب للحياة، فالاول سبب لحياة القلوب، والثاني سبب لحياة الارض. وشبهت شبههم التي يتمسكون بها في الاستمرار على كفرهم ونفاقهم بالظلمات، ورعدهم في الظاهر على إسلامهم بالرعد، فإنه صياح بلا طائل، ووعيدهم في نفس الامر بالبرق فإنه نار محرقة، وما يصيبهم من الافزاع والبلايا من جهة المسلمين بالصواعق، وإظهارهم الايمان حذرا عن إصابة هذه المصيبات بجعل الاصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت، واحتيارهم لما يلمع لهم رشد يدركونه بمشيهم في مطرح ضوء


[ 165 ]

[ يأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذى جعل لكم الارض فرشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرت رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22) ] البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم من الامر حين تعن لهم مصيبته بتوقفهم إذا أظلم عليهم. وشبه على الثاني ما وقع المنافقون فيه من الضلالة وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثفت ظلمتها بتراكم السحب واتصال قطراتها، وتواترت فيها الرعود الهائلة والبروق المخيفة والصواعق المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت، ولا شك أنك إذا تصورت حالهم بهذه المثابة حصل في نفسك هيئة عجيبة، توصلك إلى معرفة حال المنافقين على وجه يتقاصر عنه تشبيهك إسلام المنافقين والشبهات. يأيها الناس اعبدوا ربكم: لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، تنشيطا للسامع، وتفخيما لشأن العبادة. و (يا) حرف وضع لنداء البعيد، وقد ينادى بها القريب تنزيلا له منزلة البعيد، إما لعظمته، أو لغفلته، أو للاعتناء بالمدعو وزيادة الحث عليه. وإنما قال (ربكم) تنبيها على أن الموجب القريب للعبادة، هي التربية. الذى خلقكم: صفة جرت عليه للتعظيم. والذين من قبلكم: منصوب معطوف على الضمير المنصوب في (خلقكم) و قرئ (من قبلكم) على إقحام الموصول الثاني بين الاول وصلته تأكيدا. لعلكم تتقون: حال من الضمير في (اعبدوا) كأنه قال: اعبدوا ربكم


[ 166 ]

راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله. أو من مفعول خلقكم، والمعطوف عليه، على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى، لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه. وقيل: تعليل للخلق، أي خلقكم لكي تتقوا. قال بعض الفضلاء: المنادى ب‍ (يا أيها الناس) هو الناس الناسي وطن الوحدة، الآنس بأحكام الكثرة، الواصل إلى غاية الحركة النزولية، وذلك أبعد مسافة تكون في الوجود، ولذلك استعمل فيه ما وضع لنداء البعيد، وحيث كان المنادى الحصة الوجودية المتعينة من الحقيقة المطلقة الغالب عليها في مبدأ حالها الاطلاق والابهام، ثم يتخصص ويتحصص بالمرور على المراتب والاتصاف بأحكامها، حتى يصل إلى المرتبة الانسانية الوجودية الشهادية العنصرية، عبر عنه أولا بكلمة (أي) الدلالة على الابهام، ووصف ثانيا ب‍ (الناس) الدال على كمال تخصصها. ولما كان وصولها إلى هذه المرتبة بتوسط مراتب كثيرة – منبعثة من باطن الغيب إلى أقصى مراتب الشهادة – اشير إليها بحرفي التنبيه، المنبعث أولهما من باطن القلب، أعني (الهاء) وثانيهما من ساذج مار على المراتب كلها أعني الالف. ومعنى قوله: (اعبدوا ربكم) تحققوا بعبوديته المحضة التي لا تشوبها عبودية السوى، بأن تتوهموا أن فيكم ربوبيته بالنسبة إلى غيره سبحانه (الذي خلقكم) أي ظهر بظهوركم، فهو الظاهر فيكم وأنتم المظاهر له، فما ظهر فيكم من خصائص الربوبية فهو من الرب الظاهر فيكم لا أنتم ” وخلق الذين من قبلكم ” أي ظهر بصورة من تقدمكم بوصول آثار الربوبية منهم إليكم، فهو الظاهر فيهم وهم المظاهر له، فما وصل منهم إليكم من آثار الربوبية فهو من الرب الظاهر لا منهم، ما انقطعت نسبة عبوديتكم عنه، وحيث وصلتم إلى شهود هذا المعنى، فأنتم عبيد متصفون بمحض العبودية، لم يبق فيكم عبودية ولا ربوبية بالنسبة إلى غيره سبحانه (لعلكم تتقون) أي عما يخرجكم عن العبودية المحضة. ولما كان كلامه سبحانه – بصورة الصوت والحرف المثالين أو الحسيين – لا يصدر إلا بواسطة مظاهره المثالية أو الحسية، فلا يبعد أن يتحقق معنى الترجي


[ 167 ]

بالنسبة إلى بعض هذه المظاهر، ويكون إيراد كلمة (لعل) بالنظر إليه، فإن نسبة مظاهر التكلم إلى المتكلم أقوى مما سواه إليه، كما لا يخفى على ذوي البصائر، والله سبحانه يتولى السرائر. الذى جعل لكم الارض فرشا: منصوب المحل على الوصفية، ك‍ (الذي خلقكم) أو على المدح بتقدير أعني، أو أخص أو أمدح. في كلام بعض النحاة ما يشعر بأن القطع بالنصب إنما يجوز فيما إذا كان الموصوف مرفوعا أو مجرورا، وهو الاظهر، لان الاشعار بالمدح إنما يكون حيث يكون في التابع مخالفة للمتبوع، وفي الصورة المفروضة وإن كان مخالفة حكمية، لكنه لا يظهر بالنسبة إلى المخاطب حتى يشعر بقصد المدح. أو على أنه مفعول (تتقون) أو مرفوع على الخبرية، وفيه ما في النصب من المدح، أو على الابتداء بأن يكون خبره (فلا تجعلوا). و (جعل) من أفعال الغاية يجئ على ثلاثة أوجه: بمعنى طفق من أفعال القلوب، فلا يتعدى. وبمعنى أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) (1). وبمعنى صير، فيتعدى إلى مفعولين كما في الآية. والتصيير يكون بالفعل تارة، وبالقول والعقد اخرى، ف‍ (الارض) مفعوله الاول و (فراشا) مفعوله الثاني. ويحتمل أن يكون من قبيل الاستعمال الثاني، أي خلق الارض حال كونه مقدرا، بكسر الدال، إياها فراشا، إذا كان فراشا حالا من الفاعل، أو حال كون الارض مقدرة، بفتح الدال فراشا، إذا كان حالا من المفعول. و (لكم) متعلق ب‍ (جعل) واللام للانتفاع، أي لانتفاعكم. وقد جاء ناقصا بمعنى صار في قول الشاعر:


(1) سورة الانعام: الآية 1. (*)

[ 168 ]

فقد جعلت قلوص بني سهيل * من الاكوار مرتعها قريب (1) وقرئ و (جعل لكم) بالادغام، لاجتماع حرفين من جنس واحد، وكثرة الحركات. و (الارض) هي المفروشة، وقوائم الدابة، وعليه قول الشاعر: وأحمر كالديباج أما سماؤه * فريا وأما أرضه فمحول (2) والرعدة: وعليه كلام ابن عباس: ” أزلزالت الارض أم بي أرض ” (3). و (الفراش) ما يفترش ويستقر عليه وقرأ يزيد الشامي (بساطا) وطلحة (مهادا). قال الجوهري في الصحاح: المهد مهد الصبي، والمهاد الفراش (4)، ومعنى جعلها فراشا، أو بساطا، أو مهادا أنه جعل بعض جوانبها على خلاف طبعها بارزا من الماء، متوسطا بين الصلابة واللطافة، حتى صارت مهيأة لان يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، ولا يدل الافتراش على التسطيح، لان الكرة إذا عظم جرمها غير مانعة عن الافتراش. والسماء بناء: معطوفان على ما قبلهما بعاطف واحد. وإن أبيت فقدر فعلا معطوفا على الفعل الذي قبله.


(1) هو من أبيات الحماسة، وقبله: ولست بنازلي إلا ألمت * برحلي أو خيالتها الكذوب الواو للحال، وجملة (وقد جعلت) حال من الضمير في (رحلي) المذكور فيما قبله، وبتاء التأنيث بمعنى شرعت، و (القلوص) التشابة من النوق، و (الاكوار) جمع كور، الرحيل بأداته، و (المرتع) كمقصد اسم مكان. جامع الشواهد: باب الواو بعد القاف، ص 319. (2) والارض قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر: وأحمر كالديباج أما سماؤه * فريا وأما ارضه فمحول مجمع البيان: ج 1، ص 60، في تفسير قوله تعالى: ” الذي جعل لكم الارض فراشا “. (3) والارض النفضة والرعدة، ومنه قول ابن عباس: أزلزلت الارض أم بي أرض ؟ كما في الصحاح، يعني الرعدة وقيل: يعني الدوار، تاج العروس: ج 1، ص 4، فصل الهمزة من باب الضاد، في (أرض). (4) الصحاح: ج 2، ص 541، في مادة مهد. (*)

[ 169 ]

والسماء اسم جنس، أو جمع سماة، والبناء مصدر بمعنى المفعول، أي جعل السماء قبة، أو قبابا مبنية، أي مضروبة عليكم. فإن المبني وإن كان أعم من القبة، ولا دلالة للعام على الخاص، لكنه أشبه بالسماء لاستدارتها، ومنه بنى على امرأته، لانهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا. وأنزل من السماء ماء: عطف على (جعل) أي أنزل من جهة العلو، أو من أسباب سماوية تثير الاجزاء الرطبة إلى جو الهواء، فتنعقد سحابا ماطرا، أو من السحاب، فإن ما علاك سماء. ولفظة (من) لابتداء الغاية، فإن ابتداء نزول المطر إنما هو من السماء بكل واحد من هذه المعاني. ووضع هنا (أنزل) مكان نزل، للمناسبة مع ما عطف عليه. فأخرج به من الثمرت رزقا لكم: الباء فيه للسببية، أي جعل الماء سببا في خروج الثمرات ومادة لها، وهو قادر على إيجاد الاشياء كلها بلا أسباب ومواد، كما أبدع نفس الاسباب والمواد، إلا أن له تعالى في إنشاء الاشياء بأسبابها و موادها تدريجا، حكما ليست في إنشائها مبادهة وبغتة. و (من) فيه تبعيضية، بشهادة قوله تعالى: ” فأخرجنا به ثمرات ” (1) فإن تنكير ثمرات يدل على البعضية، لتبادرها منه سيما في جموع القلة. وبشهادة أن ما قبله وما بعده، أعني (ماء) و (رزقا) محمولان على البعض، فليكن هو موافقا لهما. وبشهادة الواقع، فإن الله سبحانه لم ينزل من السماء كل الماء بل بعضه، إذ رب ماء بعد في السماء، ولم يخرج بالماء المنزل منها كل الثمرات بل بعضها، فكم من ثمرة هي غير مخرجة، ولم يجعل المخرج كل الرزق، بل بعضه. والثمرات المخرجة بماء السماء كثيرة، فالتعبير عنها بجمع القلة، إما بناء على أن الثمرات هنا جمع الثمرة التي يراد بها الكثرة – كالثمار – لا الوحدة، كما في قولك: أدركت ثمرة بستانه، ويؤيده قراءة من قرأ (الثمرة) على التوحيد، فيكون أبلغ ولا


(1) سورة فاطر: الآية 27. (*)

[ 170 ]

أقل من المساواة. أو على أنها جمع قلة وقعت موقع جمع الكثرة، كجنات في قوله: (كم تركوا من جنات) (1). على أن المشهور أن الفرق بين الجمعين في القلة والكثرة إنما هو إذا كانا منكرين، وإذا عرف بلام الجنس في مقام المبالغة فكل منهما للاستغراق بلا فرق. والرزق إن كان بمعناه المصدري، فنصبه إما على أنه مفعول له، والمعنى أخرج شيئا من الثمرات لان يرزقكم، أو على المصدرية، فإن في إخراج الثمرات معنى الرزق، وعلى التقديرين يكون قوله (لكم) ظرفا لغوا، مفعولا به لرزق، واللام إما زائدة، أو للتقوية. وإن كان بمعنى المرزوق، فانتصابه على أنه حال من مفعول (أخرج) أي من الثمرات، أو على أنه مفعول به لاخرج، و (من الثمرات) بيان له فقدم عليه، فصار حالا منه، ولكن تكون (من) بيانية لا تبعيضية، وعلى هذين التقديرين، يكون (لكم) ظرفا مستقرا، صفة لرزق، ويحتمل على التقادير أن يكون متعلقا ب‍ (أخرج). وفي تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قوله عزوجل: ” جعل لكم الارض فراشا ” تفرشونها لمنامكم ومقيلكم، والسماء بناء، سقفا محفوظا، ارتفع من الارض، تجري شمسها وقمرها وكواكبها مسخرة لمنافع عباده وإمائه، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاصحابه: لا تعجبوا لحفظه السماء ان تقع على الارض، فإن الله عزوجل يحفظ ما هو أعظم من ذلك، قالوا: وما هو ؟ قال: من ذلك ثواب طاعة المحبين لمحمد وآله، ثم قال: وأنزل من السماء ماء، يعني المطر ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي يأمر به ربه عزوجل فعجبوا من ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أو تستكثرون عدد هؤلاء ؟ إن الملائكة المستغفرين لمحبي علي بن أبي طالب أكثر من عدد هؤلاء، وإن الملائكة اللاعنين لمبغضيه أكثر من عدد هؤلاء، ثم قال عزوجل: ” فأخرج به


(1) سورة الدخان: الآية 25. (*)

[ 171 ]

من الثمرات رزقا لكم ” ألا ترون كثرة هذه الاوراق والحبوب والحشائش ؟ قالوا: بلى يا رسول الله ما أكثر عددها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أكثر عددا منها ملائكة يتبذلون في حمل أطباق النور، عليها التحف من عند ربهم، وفوقها مناديل النور، ويخدمونهم في حمل ما يحمل منها إلى شيعتهم ومحبيهم، وإن طبقا من تلك الاطباق يشمل من الخيرات على ما لا يفي بأقل جزء منه جميع أموال الدنيا (1). فلا تجعلوا لله أندادا: متفرع على الامر بالعبادة. والمعنى إذا استحق ربكم الذي خلقكم العبادة وكنتم مأمورين بها، فلا تشركوا به أحدا، لتكون عبادتكم مبنية على ما هو أصل العبادة وأساسها، أعني توحيده، وأن لا تجعلوا له أندادا، أو معطوف على الامر قبله. وفيه أن الاولى حينئذ العطف بالواو كقوله: ” اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ” (2). أو منصوب بإضمار (إن) في جواب الامر، كما في ” زرني فأكرمك “، وفيه أن الشرط في ذلك كون الاول سببا للثاني، والعبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو معناه. أو منصوب بتقدير (أن) في جواب لعل نصب فاطلع في قوله تعالى: ” لعلي ابلغ الاسباب أسباب السماوات فأطلع ” (3) بناء على تشبيه (لعل) ب‍ (ليت) وإلحاقا بالاشياء الستة التي تحذف (أن) عن الفعل المضارع بعد الفاء الواقعة بعدها. أو متعلق ب‍ ” الذي جعل ” إذا كان مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، فيكون نهيا مترتبا على ما تتضمنه هذه الجملة، أي هو الذي خلقكم بدلائل التوحيد فلا تشركوا به شيئا. أو على أنه مبتدأ، و (لا تجعلوا) نهي وقع خبرا عنه على تأويل مقول فيه (لا


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 58، ذيل قوله تعالى: ” الذي جعل لكم الارض فراشا “. (2) سورة النساء: الآية 36. (3) سورة غافر: الآية 36. (*)

[ 172 ]

تجعلوا). والفاء للسببية، ادخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط. والمعنى أن من حفكم بهذه النعم الجسام ينبغي أن لا يشرك به. والجعل هنا بمعنى التصيير، فيتعدى إلى مفعولين، أولهما أندادا، وثانيهما الجار والمجرور قبله. أو بمعنى الخلق والايجاد، والمعنى لا توجدوا له في إعتقادكم وقولكم أندادا. والفائدة في تقديم المفعول الثاني، أو الجار والمجرور، إفادة الحصر، والاشارة إلى أن المنهي عنه جعل الند لله تعالى. وأما بالنسبة إلى الفاعلين فجعل الند والشريك واجب، لئلا يلزم التفويض، كما قال (عليه السلام): لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين (1). وقرئ (فلا تجعلوا لله ندا). والند: المثل المناوئ أي المخالف، من ند ندودا، إذا نفر، وفي تسميته ما يعبدونه ندا، لما عظموه وسموه إلها، وإن لم يزعموا أنه يماثله أو يخالفه تهكم به. وفي إيراد صيغة الجمع، حيث دلت على أنهم جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند واحد، زيادة تهكم. وأنتم تعلمون: حال من فاعل (فلا تجعلوا) والمقصود منه التوبيخ، لا تقييد الحكم به، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكاليف. ومفعول (تعلمون) متروك، لتنزيله منزلة اللازم مبالغة، أي وحالكم وصفتكم أنكم من أهل العلم والتمييز بين الصحيح والفاسد، ثم أن ما أنتم عليه من أمر دينكم من جعل الاصنام لله أندادا، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل، أو مقدر بوجود القرينة المقالية أو الحالية، أي وأنتم تعلمون أنه تعالى لا مثل له ولا ضد. أو وأنتم تعلمون ما بينه وما بينها من التفاوت، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل


(1) الكافي: ج 1، ص 160، كتاب التوحيد، باب الجبر والقدر والامر بين الامرين، قطعة من حديث 13، وعوالي اللئالي: ج 4، ص 109، ح 164. (*)

[ 173 ]

أفعاله، إلى غير ذلك مما يناسب المقام. وفي كتاب التوحيد، في باب أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الاصلح روي بإسناده عن أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قول الله عزوجل ” الذي جعل لكم الارض فراشا ” جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لاجسامكم، لم يجعل شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم و أبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنه – عزوجل – جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الارض فراشا لكم ثم قال عزوجل: ” والسماء بناء ” سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثم قال عزوجل: ” وأنزل من السماء ماء ” يعني المطر ينزل من علو، ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم (1) وأوهادكم (2)، ثم فرقه رذاذا (3) ووابلا (4) وهطلا (5) وطلا (6) لتنشفه أرضوكم. ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم، ثم قال عزوجل: ” فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا ” أي أشباها وأمثالا من الاصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ، (وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك و


(1) الهضب: الجبل المنبسط على الارض. لسان العرب: ج 1، ص 784، حرف الباء، فصل الهاء. (2) الوهدة بالفتح فالسكون: المنخفض من الارض. مجمع البحرين: ج 3، ص 167، في (وهدة) (3) الرذاذ: المطر الضعيف، مجمع البحرين: ج 3، ص 181، في (رذذ). (4) الوابل: المطر الشديد، مجمع البحرين: ج 5، ص 490، في (وبل) (5) الهطل: تتابع المطر، مجمع البحرين: ج 5، ص 499، في (هطل). (6) الطل: المطر الصغار القطر الدائم، وهو ارسخ المطر ندى، لسان العرب: ج 11، ص 405، حرف اللام، فصل الطاء. (*)

[ 174 ]

تعالى. انتهى (1). وذكر هذا الحديث بعينه في عيون أخبار الرضا في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الاخبار في التوحيد (2). وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث في تفسيره. ثم قال: ففي التفسير المنسوب إلى مولانا العسكري (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام) في قوله تعالى: ” يا أيها الناس اعبدوا ربكم ” يعني سائر المكلفين من ولد آدم (عليه السلام)، اعبدوا ربكم، أطيعوا ربكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ولا شبيه له، ولا مثل له، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حكيم لا يخطل، وأن محمدا عبده و رسوله (صلى الله عليه وآله الطيبين)، وأن آل محمد أفضل آل النبيين، وأن عليا أفضل أصحاب محمد، المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين، وأن امة محمد أفضل امم المرسلين. انتهى (3) ثم قال: ويفهم من هذا الكلام أن الامم الماضية كانوا مأمورين بتلك الاعتقادات، وهذا هو الحق كما هو مذكور في كثير من الروايات. أقول: كأن العلامة – رحمه الله – فهم ذلك من تفسيره (عليه السلام): ” يا أيها الناس “، بسائر المكلفين، يعني جميع المكلفين، وهو غلط فاحش، فإن السائر بمعنى الباقي مبتذل في اللغة متعارف في العرف، قال بعض أهل اللغة: السائر مشتق من السؤر، وهو بقية ما يشرب، ولا يستعمل بمعنى الجميع لا في اللغة ولا في العرف، وقد وقع ذلك في كلام بعض المفسرين. قال بعض الفضلاء: وتأويل الآية في بعض بطونها أن يقال: هو، أي ربكم الذي أمرتم أن تعبدوه وتتحققوا بعبوديته المحضة، هو الذي جعل لكم أرض العبودية


(1) كتاب التوحيد: ص 403، باب 62، أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الاصلح، ح 11. (2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1، ص 112، باب 11، ما جاء عن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) من الاخبار في التوحيد، ح 36. (3) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 52، ذيل قوله تعالى: ” يا أيها الناس اعبدوا ربكم “. (*)

[ 175 ]

[ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صدقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكفرين (24) ] فراشا تتقلبون فيها بأنواع العبادات، وسماء الاسماء الربوبية فيه مضروبة عليكم محيطة بكم، بحيث لا يمكنكم الخروج عن إحاطتها بشمول آثارها، وأنزل من هذه السماء ماء العلوم والمعارف على تلك الارض، فأخرج ثمرات الاحوال والاذواق والمواجيد، رزقا لكم تغتذون وتتقون به بقلوبكم وأرواحكم، فلا تجعلوا لله أندادا تعبدونها كما تعبدونه، والحال أنكم تعلمون أنه لا معبود سواه، ولا ينبغي أن يجعل أحد قبلة عبادته إلا إياه. وإن كنتم في ريب: لما كانت العبادة المأمور بها موقوفة على أمرين: أحدهما: إثبات الوحدانية وإبطال الاشراك، وقد اشير إليه بالاوصاف المجراة على ربهم الذي امروا بعبادته. والثاني: إثبات النبوة التي يقع بها الترغيب والترهيب، وتعريف طرق العبادة وتعيينها، فلذلك أشار إليه بإزاحة الشبهة عن كون القرآن معجزا دالا على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) وهو معطوف على قوله: ” يا أيها الناس ” والظرف مستقر في موضع خبر كان. والمعنى: وإن كنتم في ريب يحيط بكم إحاطة الظرف بالمظروف. مما نزلنا على عبدنا: أي من شئ، أو من الذي نزلناه، ويحتمل مرجوحا أن يكون المعنى من تنزيلنا. وإنما أتى بكلمة (إن) الدالة على عدم الجزم بالوقوع، والريب متحقق من هؤلاء الكفار، تنبيها على أنه لا ينبغي حصول هذا الريب من العقلاء، فكيف يجزم


[ 176 ]

به، بل لو جوزه مجوز فإنما يكون بمحض الاحتمال العقلي. ولهذا السبب بعينه قال: ” في ريب ” وإن كان أكثرهم ينكرون. وإنما أتى بالتنزيل المنبئ عن التدريج، لان النزول التدريجي كان أحد أسباب طعنهم وارتيابهم في القرآن، فإنهم كانوا يطعنون في القرآن ويرتابون فيه، من حيث أنه كان مدرجا على قانون الخطابة والشعر، فإن الناثر لا يرمي بمجموع خطبه أو رسائله دفعة، والناظم لا يلقي ديوان شعره ضربة، بل مفرقا حينا فحينا و شيئا فشيئا، فكانوا يقولون: لولا انزل عليه القرآن خلاف هذه العادة جملة واحدة ! فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي انزل تدريجا، فهاتوا أنتم بنجم من نجومه وسورة من سوره، فإنه أيسر عليكم من أن ينزل الجملة دفعة واحدة. قيل: التدريج هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل مرة بعد مرة، والتضعيف الدال على ذلك من شرطه أن يكون في الافعال المتعدية قبل التضعيف غالبا، نحو فتحت الباب، ولا يقال: جلس زيد لارادة التدريج والتكثير، لانه لم يكن متعديا قبل التضعيف، وإنما جعله تضعيفه متعديا. وقولنا غالبا، لانه قد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم، نحو موت المال. ويعلم من ذلك أن التضعيف الدال على الكثرة لا يجعل اللازم متعديا. فظهر من ذلك أن تضعيف (نزل) للتعدية دون التدريج. وأيضا يحتاج قوله تعالى: ” لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ” (1) وقوله: ” لولا نزل عليه آية ” (2) وقوله: ” لنزلنا عليهم ملكا رسولا ” (3) إلى تأويل. وفي (نزلنا) التفات من الغيبة إلى التكلم، لان قبله ” اعبدوا ربكم ” فلو جاء الكلام عليه لقيل: مما نزل على عبده، لكنه التفت للتفخيم. وعبر عنه بالعبد، لان أعلى المقامات مقام العبدية، فإن المطلق لا ينصرف إلا


(1) سورة الفرقان: الآية 32. (2) سورة الانعام: الآية 37. (3) سورة الاسراء: الآية 95. (*)

[ 177 ]

على الكامل. وقرئ ” على عبادنا ” والمراد به نبينا (صلى الله عليه وآله) وامته، فإنه كما نزل عليه بواسطة جبرئيل نزل على بعض امته بواسطته، وينزل على بعضهم بواسطة البعض إلى يوم القيامة، أو جميع الانبياء (عليهم السلام). فأتوا بسورة: جزاء للشرط، والامر تعجيزي ليظهر عجزهم، ويزول ريبهم. والسورة طائفة من القرآن مترجمة، لا تكون أقل من ثلاث آيات، فخرج بقولنا: مترجمة، الآيات المتعددة من سورة واحدة، أو متفرقه، وما هو أكثر منها واحدة كمجموع سورتين. وبقولنا: لا تكون أقل من ثلاث آيات، تخرج آية الكرسي، و آية المداينة، من غير حاجة إلى أن يتكلف ويقال: هذا مجرد إضافة لم تصل إلى حد التسمية. وواوها إن كانت أصلية، فهي إما منقولة من سور المدينة، وهو حائطها، على وجهين: أحدهما: أن تجعل السورة بمعنى المسورة، كما يراد بالحائط المحوطة، وهو البستان، ثم ينقل إلى طائفة محدودة من القرآن، وهو نقل مرتب على تجوز. وثانيهما: أن ينقل من سورة المدينة إليها بغير واسطة، لانها يحيط بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على انفرادها، أو محتوية على أنواع من العلم، إحاطة سورة المدينة بما فيها واحتواءها عليه. وجمع سورة القرآن: السور بفتح الواو، وجمع سورة المدينة على سور بسكونها، أو من السورة بمعنى المرتبة، قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى * كل ملك دونها يتذبذب (1) ثم إن الرتبة إن جعلت حسية، فلان السور كالمراتب والمنازل يتقلب فيها القارئ ويقف عند بعضها، أو لانها في أنفسها منازل مفصلة بعضها من بعض، متفاوتة في الطول والقصر والتوسط. وإن جعلت معنوية، فلتفاوتها في الفضل


(1) مجمع البيان: ج 1، ص 61. (*)

[ 178 ]

والشرف والبلاغة. وإن كانت واوها مبدلة عن الهمزة، فمن السؤرة التي هي البقية والقطعة من الشئ. وضعف هذا الوجه من حيث اللفظ، إذا لم تستعمل مهموزة في السعة ولا في الشاذة المنقولة في كتاب مشهور، وإن أشعر به كلام الازهري حيث قال: و أكثر القراء على ترك الهمزة في لفظ السورة (1). وأما من حيث المعنى فلانها اسم ينبئ عن قلة وحقارة. وأيضا استعماله فيما فضل بعد ذهاب الاكثر، ولا ذهاب هنا إلا تقديرا باعتبار النظر إليها نفسها، فكأنها قد ذهب ما عداها. من مثله: إما ظرف مستقر صفة لسورة، أو ظرف لغو ل‍ (فأتوا)، والضمير على كل من التقديرين إما عائد إلى (ما نزلنا) أو إلى (عبدنا). فهذه أربع صور: أولها: أن يكون الظرف صفة ل‍ (سورة)، والضمير عائد إلى ما (نزلنا) وكلمة (من) بيانية، لان السورة المفروضة التي بها الامر التعجيزي مثل المنزل في حسن النظم والغرابة في البيان. والعجز إنما هو عن الاتيان بالمثل الذي هو المأمور به، وإن جعلت تبعيضية أوهمت أن للمنزل مثلا عجزوا من الاتيان ببعضه، كأنه قيل: فأتوا ببعض ما هو مثل للمنزل، فالمماثلة المصرح بها ليست من تتمة المعجوز منه حتى يفهم أنها منشأ العجز. وكذا الحال إن جعلت ابتدائية، فإنها توهم أن للمنزل مثلا عجزوا عن الاتيان بسورة مبتدأة منه، فالمماثلة من تتمة المعجوز منه، مع أن في مبدئية الكل للجزء خفاء، وذهب الاخفش إلى أنها زائدة (2). وثانيها: أن يكون الظرف صفة لسورة، والضمير عائد إلى عبدنا، وحينئذ يتعين أن تكون (من) ابتدائية، فإن السورة مبتدأة، ناشئة من مثل العبد. ولا وجه لسائر المعاني.


(1) تفسير القرآن الكريم للشهيد مصطفى الخميني: ج 4، ص 11. (2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 35. (*)

[ 179 ]

ولا يذهب عليك أن الاتيان بسورة من مثل هذا العبد، ليس بمعجوز عنه ما لم يعتبر مثلية سورة للسور القرآنية في حسن النظم وغرابة البيان. وثالثها: أن يكون الظرف متعلقا ب‍ (فأتوا) والضمير عائد إلى (ما نزلنا). وهجر هذا الوجه، فإن (فأتوا) أمر قصد به تعجيزهم باعتبار المأتي به، فلو تعلق به (من مثله) وكان الضمير للمنزل تبادر منه أن له مثلا محققا جامعا لامثال السور القرآنية، وأن عجزهم إنما هو عن الاتيان بسورة منه، بخلاف ما إذا كان صفة للسورة، فإن المعجوز عنه حينئذ هو الاتيان بسورة مماثلة للقرآن في حسن النظم وغرابة البيان، وهذا لا يقتضي وجود مثل ذلك. وحاصله أن قولنا: إئت من مثل الحماسة ببيت، يقتضي وجود المثل لها، بأن يكون هناك كتاب محقق جامع لكثير من أشعار بلغاء العرب ويؤتى ببيت منه، بخلاف ائت ببيت من مثل الحماسة إذا كانت (من) بيانية، ويكون حاصل المعنى: ببيت يماثل الحماسة في الفصاحة والبلاغة، فإن ذلك لا يقتضي تحقق كتاب جامع مثلها، نعم إذا كانت (من) ابتدائية أو تبعيضية، يقتضي ذلك من غير فرق. رابعها: أن يكون الضمير عائدا إلى (عبدنا) وحينئذ يكون (من) ابتدائية، وهذا لا يقتضي إلا أن يكون للعبد مثل في كونه بشرا عربيا اميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، ولا محذور في ذلك، لكن ينبغي أن يعتبر مثلية سورة للسور القرآنية، كما في الصورة الثانية. ورد الضمير إلى المنزل أوجه من ستة وجوه: الاول: الموافقة لقوله تعالى: ” فأتوا بسورة من مثله ” ونظائره، لان المماثلة فيها صفة للمأتي به، فكذا هاهنا إذ جعل الظرف صفة للسورة والضمير عائدا إلى المنزل، و (من) بيانية أو زائدة. والثاني: أن الكلام واقع في المنزل، لان ارتيابهم المفروض إنما وقع فيه، ولو رد الضمير إلى العبد، كان حق الترتيب أن يقال: إن كان لكم ريب في عبدنا المنزل عليه القرآن فأتوا بسورة من مثله.


[ 180 ]

والثالث: أن الضمير إذا رد إلى المنزل، يكون طلب المعارضة من الجميع، وإذا كان للمنزل عليه يكون طلب المعارضة من واحد منهم، إذ لا معنى لخطاب الجماعة بأن ائتوا بسورة من واحد منكم، بل الطلب بالحقيقة من واحد منهم، كأنه قال: فليأت واحد منكم بسورة. ولا شك أن طلب المعارضة من الجميع أبلغ من طلب المعارضة من واحد، لجواز عجز واحد وإتيان الجميع بها. والرابع: أنه معجز في نفسه، لا بالنسبة إلى مثله، لقوله تعالى: ” قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ” (1). والخامس: أنه لو كان رجع الضمير إلى العبد، لكان ذلك يوهم أن صدور القرآن عمن لم يكن مثل العبد في كونه اميا ممكن. والسادس: أن رد الضمير إلى المنزل هو الملائم لقوله: وادعوا شهداءكم: لان معناه على الوجوه المذكورة فيما بعد راجع إلى (ادعوا شهداءكم) ليعاونوكم أو يشهدوا لكم. وهذا المعنى لا يلائم إلا رد الضمير في (مثله) إلى المنزل. ولما ترجح عود الضمير إلى المنزل بهذه الوجوه، ترجح أيضا كون الظرف صفة للسورة، لانه إذا تعلق ب‍ (فأتوا) عاد الضمير إلى العبد، لما تحققته. و ” الشهداء ” جميع شهيد، كالظرفاء جمع ظريف، بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، أو الامام، فكأنه سمي به لانه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الامور، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله: شهيد، لانه حضر ما كان يرجوه، أو الملائكة حضروه. قال الجوهري في الصحاح: الشهادة الخبر القاطع، تقول منه: شهد الرجل على كذا، أو شهد له بكذا، أي أدى ما عنده من الشهادة، فهو شاهد، ويقال: شهده شهودا، أي حضره، فهو شاهد. والشهيد: الشاهد، والجمع: الشهداء (2). فالمراد ب‍ (الشهداء) إما المقيمون للشهادة، والمعنى ادعوا من دون الله شهداء


(1) سورة الاسراء: الآية 89. (2) الصحاح: ج 2، ص 494. (*)

[ 181 ]

يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله، أو الحاضرون الناصرون، والمعنى: ادعوا أعوانكم وأنصاركم حتى يعينوكم على إتيان مثله. أو آلهتهم الذين عبدوهم وأطاعوهم، والمعنى: ادعوا آلهتكم الذين تعبدونهم حتى يعينوكم بإتيان سورة واحدة من جنس ما أتى به عبدنا. من دون الله: دون في أصله للتفاوت في الامكنة، يقال لمن هو أنزل مكانا من الآخر: هو دون الاول، فهو ظرف مكان مثل عند، إلا أنه ينبئ عن دنو أكثر وانحطاط قليل، ومنه تدوين الكتب، لانه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا، أي خذه من أدنى منك مكان، ثم اتسع فيه واستعمل في انحطاط لا يكون في المكان كقصر القامة مثلا، ثم استعير منه للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب المحسوسة، وشاع استعماله أكثر من استعماله في الاصل نحو زيد دون عمرو، أي في الشرف، ومنه الشئ الدون، ثم اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وإن لم يكن هناك تفاوت وانحطاط، فهو في هذا المعنى مجاز في المرتبة الثالثة، قال تعالى: ” لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ” (1) أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين، وقال امية: يا نفس مالك دون الله من واق (2). أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره، وهو بهذا المعنى قريب من أن يكون بمعنى غير، كأنه أداة استثناء. والاحسن هنا أن يكون بمنزلة أداة استثناء، أو بمعنى أدنى مكان من شئ، فيستعار لمعنى قدام الشئ وبين يديه، وكلمة (من) إذا كان دون بمعنى القدام تبعيضية، لان الفعل يقع في بعض الجهة، وهو ظرف لغو معمول ل‍ (شهداءكم) إذ يكفيه رائحة الفعل، فلا حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير يشهد، وإذا كان بمعنى


(1) سورة آل عمران: الآية 39. (2) وتمامه: ولا للسع بنات الدهر من راق، لامية بن أبي الصلت يقول: يا نفس ليس لك حافظ دون الله، أي متجاوز الله، واستعار البنات للحوادث، ثم شبه الحوادث بالافاعي بجامع إيذاء كل لغيره، أي لا حافظ لك إلا الله ولا جابر إلا هو. تلخيص من حاشية الكشاف: ج 1، ص 99 (*)

[ 182 ]

أدنى مكان من شئ ابتدائية متعلقة ب‍ (ادعوا) وكذا إن كان بمعنى التجاوز عن حد إلى حد، لكنه ظرف مستقر وقع حالا، والعامل فيها (ادعوا) أو (شهداءكم). وقد يقال: كلمة ” من ” الداخلة على ” دون ” في جميع مواضعها بمعنى ” في ” كما في سائر الظروف غير المتصرفة، أي التي تكون منصوبة على الظرفية أبدا، ولا تنجز إلا ب‍ ” من ” خاصة، قال الشيخ الرضي: ” من ” في الظرف كثيرا ما تقع بمعنى ” في ” نحو جئت من قبل زيد ومن عنده، ومن بيننا وبينك حجابا مستورا (1) وكنت من قدامك. إن كنتم صدقين: في وضع الحال من فاعل (فأتوا) ولهذا لا يحتاج إلى الجزاء، أو جوابه محذوف دل عليه ما قبله ومفعوله محذوف، والمعنى: إن كنتم صادقين أنه من كلام البشر. والصدق: الاخبار المطابق، وقيل: مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو امارة، لانه تعالى كذب المنافقين في قولهم: ” إنك لرسول الله ” (2) لما لم يعتقدوا مطابقته. ورد بصرف التكذيب إلى قولهم ” نشهد ” لان الشهادة إخبار عما علمه، وهم ما كانوا عالمين، أو ” إن كنتم صادقين ” في ريبكم، والصدق في الريب أن يكون ناشئا عن شبهة، لا عن الجحود والانكار. والمعنى: إن كنتم في ريب مما نزلنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا الشهداء للمعاونة ليظهر عجزكم وعجزهم فيزول ريبكم، و ذلك بشرط أن تكونوا من الصادقين في ريبكم، وذلك إذا نشأ عن شبهة، وأما إذا كان من الجحود والانكار فلا يمكن زواله. وفي الآية دلالة على نبوته (صلى الله عليه وآله)، فإنه كان موفور العقل والمعرفة بالعواقب، فلو تطرقت تهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته، بل كان ينبغي أن يكون خائفا من أن يعارض فتدحض


(1) شرح الكافية: ج 2، ص 321. (2) سورة المنافقون: الآية 63. (*)

[ 183 ]

حجته، حاشاه من ذلك (صلى الله عليه وآله). فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة: ولما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول وما جاء به وميز لهم الحق عن الباطل، رتب عليه ما هو كالنتيجة له، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضة وعجزتم جميعا عن الاتيان بما يساويه أو يدانيه، ظهر أنه معجز والتصديق به واجب، فآمنوا واتقوا العذاب المعد لمن كذب، فعبر عن الاتيان المكنف بالفعل الذي يعم الاتيان به وغيره إيجازا، و لزم لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية، تقريرا للمكنى عنه وتهويلا لشأن العناد، وتصريحا بالوعيد مع الايجاز. وإنما أتى ب‍ (إن) الذي للشك دون (إذا) الذي للوجوب مع أن ظاهر الحال يقتضي ذلك، تهكما بهم تهكم الواثق بغلبته على من يعاديه، حيث يقول له: إن غلبتك لم ابق عليك، أو خطابا معهم على حسب ظنهم، فإن العجز قبل لم يكن محققا عندهم، أو حفظا لمشاكلة صدر الآية السابقة. والمعنى: فإن لم تفعلوا، أي لم تقدروا على الفعل الذي هو الاتيان المكيف، بقرينة ما سبق، ومحقق أنكم لا تقدرون، بناء على أنه اعتراض، فاتقوا النار إلى آخره. وبما قررناه ظهر فساد ما قاله العلامة السبزواري في تفسيره، قال: ويخطر بالبال أن الحالية في كمال الاستقامة، وإن أطبق المفسرون على أنها اعتراضية. والمعنى: أنكم لم تأتوا بسورة حال كونكم غير قادرين على الاتيان بها، وحينئذ ترتب الجزاء على الشرط، إذ بمجرد عدم الفعل لا يعلم عدم صحة القدرة حتى يترتب عليه اتقاء النار، بل يمكن أن لا يعتنوا بشأنه، وعدم القدرة من تأييد النفي، إذ لو تحقق القدرة منهم لاتى واحد من هؤلاء بما طلبوا في زمان من الازمنة، ليتخلصوا من القتل والغارة وذل إعطاء الجزية. ثم كتب في الحاشية: قال الشيخ الرضي في شرح الكافية: ويشترط في المضارع الواقع حالا خلوه عن حرف الاستقبال، كالسين ولن ونحوهما. وذلك لان الحال الذي نحن في بابه والحال الذي يدل عليه المضارع وإن تباينا حقيقة، لان في قولك


[ 184 ]

مثلا: إضرب زيدا غدا يركب، لفظ يركب حال بأحد المعنيين غير حال بالآخر، لانه ليس في زمان التكلم، لكنهم التزموا تجريد صدر هذه الجملة – أي المصدرة بالمضارع – عن علم الاستقبال لتناقض الحال والاستقبال في الظاهر، وإن لم يكن التناقض هنا حقيقيا. ولمثله التزموا لفظة (قد) إما ظاهرة أو مقدرة في الماضي إذا كان حالا مع أن حاليته بالنظر إلى عامله، ولفظة (قد) تقرب الماضي من حال التكلم فقط، وذلك لانه كان يتنافى في الظاهر لفظ الماضي والحالية فقالوا: جاء زيد العام الاول وقد ركب، فالمجئ بلفظ (قد) هنا لظاهر الحالية، كما أن التجريد عن حرف الاستقبال في المضارع لذلك. (1) انتهى. والعلامة التفتازاني: اقتفى أثره في المطول (2). والمحقق الشريف في حاشية المطول رد عليه وقال: وهذا الوجه وإن كان منقولا في الموضعين عن كلام الرضي، لكنه غير مرضي كما ترى. والصواب أن يقال: إن الافعال إذا وقعت قيودا لما له اختصاص بأحد الازمنة فهم منها استقباليتها وحاليتها وماضويتها بالقياس إلى ذلك المقيد لا إلى زمان التكلم كما في معانيها الحقيقية، وليس ذلك بمستبعد، انتهى (3). وابن هشام في مغني اللبيب في تمييز الجمل المعترضة عن الحالية صرح بأن المصدرة بحروف الاستقبال اعتراضية، وشنع على من جعلها حالية، لكن لم ينقل الوجه هنا (4). وأنا أقول: إن كان يعلم من تتبع كلام الفصحاء من العرب العرباء، أن أمثال هذه اعتراضية وليست بحالية وأنهم لم يستعملوها حالا، لكان لكلام النحاة وجه، ويحسن منهم ارتكاب ما ارتكبوا في هذا الباب، ومعلوم أن الامر ليس كذلك. وعدم شيوع دخول الحرف والاستقبال على الجمل الحالية لا يوجب الحكم


(1) لا يوجد لدينا هذا الكتاب. (2 و 3) المطول: ص 277، الباب السابع الفصل والوصل تذنيب في البحث عن الجملة الحالية. (4) مغني اللبيب: ص 166. (*)

[ 185 ]

بالامتناع ووجوب خلو الحال عنها إذا لم يكن يلزم المفارقة في الزمان بينها وبين صاحبها، وبمحض قول جماعة إذا علم مأخذ قولهم لا تجب متابعتهم وإن كانوا مشاهير، خصوصا إذا لم يوجد ذلك الاشتراط في كلام من هو أشهر منهم، انتهى كلام ذلك العلامة. فلينطر إلى ما في هذا الكلام من الخبط. ثم قال: وعلى التقديرين. هذا الكلام معجزة اخرى له (عليه السلام)، إذ أخبر وكان كما أخبر. أقول: على تقدير كونه اعتراضا معجزة، وعلى تقدير كونه حالا – كما قال – فلا، فإن الجمل التي لها محل من الاعراب وقعت موقع المفردات، فتكون نسبها ملحوظة اجمالا، ولا يصح اتصافها بالصدق والكذب. والوقود بالفتح: الحطب ترفع به النار، وأما المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح. وقرئ بالضم على أنه مصدر مستعمل بمعنى المفعول مجازا لغويا، فاريد بالوقود ما يتوقد به، كما يراد بفخر قومه ما يفتخرون به، وبزين بلده ما يتزين به بلده أو على أنه حقيقة، والمجاز إسناد الناس إليه وحمل عليه، كما في قولك: حياة المصباح السليط، أي الزيت الجيد، فقد جعل السليط الذي به قوام حياته عينها و محمولا لها. وفي قراءة فتح الواو على تقدير المصدرية، يجري هذان الوجهان. ووجه بتقدير مضاف، إما في جانب المبتدأ والخبر، كما يقال: أصحاب وقودها الناس والحجارة، أو وقودها إحراق الناس والحجارة. والحجارة جمع حجر، كجمالة جمع جمل، وهو قليل غير منقاس. والمراد بها إما أصنامهم التي نحتوها وعبدوها، كما يدل عليه قوله تعالى: ” إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ” (1). وإنما قرنوا بها، لانهم قرنوا بها أنفسهم بالعبادة لها، أو لانها كانت منشأ


(1) سورة الانبياء: الآية 98. (*)

[ 186 ]

[ وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصلحت أن لهم جنت تجرى من تحتها الانهر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزوج مطهرة وهم فيها خلدون (25) ] جرمهم فعذبوا بها كما عذب الكافرون بما يكنزونه، أو لزيادة تحيرهم حيث ظهر منها خلاف ما توقعوا منها من الانتفاع بشفاعتها واستدفاع المضار بمكانتها، أو مطلق الاحجار لما فيه من الدلالة على شدة إيقاد النار وقوته، أو الذهب والفضة اللذان كانوا يكنزونهما ويغترون بهما، أو حجارة الكبريت، وخصت بذلك لاختصاصها من بين الاحجار بسرعة الاتقاد وبطئ الخمود، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، و شدة الالتصاق بالابدان، وقوة حرها إذا حميت، هكذا ذكروا. وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله: وروي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ولقد مررنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بجبل، وإذا الدموع تخرج من بعضه، فقال له: ما يبكيك يا جبل ؟ فقال: يا رسول الله، كان المسيح مر بي وهو يخوف الناس بنار وقودها الناس والحجارة، فأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة، قال: لا تخف تلك الحجارة الكبريت، فقر الجبل وسكن وهدأ و أجاب (1) ومضمون الجملة يجب أن يكون قصة معلومة للمخاطب، وهنا كذلك إما بالسماع من أهل الكتاب أو من النبي (صلى الله عليه وآله)، أو بسماع آية سورة


(1) الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 220، إحتجاجه على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) والاحتجاج طويل، لا حظ. (*)

[ 187 ]

التحريم، ولا يرد أن سماعهم على هذه الوجوه لا يفيدهم العلم إذ لا يعتقدون صدق ما يسمعونه، لان المراد بالعلم معناه الاعم. أعدت للكفرين: أي هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم، وقرئ (اعتدت) من العتاد بمعنى العدة. وبشر الذين ء امنوا وعملوا الصلحت أن لهم جنت: عطف على الجملة السابقة. والمقصود عطف حال من آمن ووصف ثوابه على حال من كفر وكيفية عقابه، على ما جرت به العادة الالهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطا لارتكاب ما ينجي، وتثبيطا عن اقتراف ما يردي، لا عطف الفعل نفسه حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي فيعطف عليه. والجنة المرة من الجن، وهو مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على السترة بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة، كأنه يستر ما تحته سترة واحدة. تجرى من تحتها الانهر: صفة لجنات، أي من تحت أشجارها على حذف المضاف، أو أراد الاشجار بالجنات مجازا، أو من ضميرها على سبيل الاستخدام. و (من) ابتدائية أو تبعيضية، فإن الماء لا يجري في جميع أسافل الاشجار بل في بعضها. ويحتمل أن يكون المراد في تحتها، على ما مر. والانهار: جمع نهر بالسكون أو بالفتح، وهو الافصح. وجاز في ما عينه أو لامه حرف حلق أربعة أوجه: فتح الفاء والعين، وفتح الاول وكسر الثاني، وكسرهما، وكسر الاول مع سكون الثاني. لكن لم يسمع من هذه الوجوه في النهر إلا إثنان. وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات. والتركيب للسعة، والمراد ماؤها على الاضمار، أو المجاري أنفسها، واسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: ” وأخرجت الارض أثقالها ” (1) أو على التجوز في المفرد بإطلاق اسم المكان على المتمكن. واللام فيها إما للجنس من غير قصد إلى العموم والاستغراق، كما في قولك: لفلان بستان فيه الماء الجاري، أو بدله من الاضافة، أي أنهارها، أو


(1) سورة الزلزلة: الآية 2. (*)

[ 188 ]

للعهد، إشارة إلى الانهار المذكورة في قوله تعالى: ” أنهار من ماء غير آسن ” (1) والاول أحسن، والثاني مذهب كوفي مرجوح، وقد منعه صاحب الكشاف حيث قال في قوله تعالى: ” فإن الجحيم هي المأوى ” (2) المعنى فإن الجحيم هي مأواه، وليس الالف واللام بدلا من الاضافة، لكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، ولانه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الاضافة (3)، والثالث مع توقفه على سبق ذكر المنكر على المعروف، فيه بعد لا يخفى. وإنما نعت الجنان يجري الانهار تحتها، لان الرياض وإن كانت أحسن شئ إذا لم يجر فيها الماء كانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة فيها، ولهذا قدمها على سائر نعوتها. وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير اخدود (4)، والاخدود: الشق المستطيل في الارض، والمعنى: أن تلك الجنات تجري من تحتها أنهار من ماء و لبن وعسل. كلما رزقوا: صفة ثانية لجنات، وترك العاطف بينهما تنبيها على أن كل واحد منهما صفة على الاستقلال، أو استئناف، كأنه لما قيل: أن لهم جنات، وقع في قلب السامع، أثمارها مثل ثمار الدنيا، أم أجناس اخر، فازيح بذلك، أو خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هي أو هم. ورد ذلك الاخير: أن تلك الجملة المحذوفة المبتدأ، إن جعلت صفة أو استئنافا كان تقدير الضمير مستدركا، وإن جعلت ابتداء كلام لا يكون صفة ولا استئنافا، فلتكن كذلك بلا حذف.


(1) سورة محمد: الآية 15. (2) سورة النازعات: الآية 39. (3) تفسير الكشاف: ج 4، ص 698. (4) الدر المنثور: ج 1، ص 38، ولفظ الحديث (… وأخرج ابن المبارك وابن ابي شيبه وهناد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث عن مسروق قال: أنهار الجنة تجري في غير اخدود، و نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها اخرى، والعنقود اثنا عشر ذراعا). (*)

[ 189 ]

واجيب: بأن تقدير (هي) يظهر معنى الوصفية، وبتقدير (هم) يقوى شأن الاستئناف، فلا استدراك. وفيه ضعف لا يخفى. منها: متعلق ب‍ (رزقوا). من ثمرة رزقا: متعلق به أيضا، وكلمة (من) فيهما لا بتداء الغاية. فإن قلت: لا يصح أن يتعلق بفعل واحد حرفا جر يتحدان في المعنى عند النحاة إلا على قصد الابدال والتبعية. قلت: لا مجال لذلك في الآية الكريمة، فإنهما ليستا متعلقتين بفعل واحد، بل بفعلين مختلفين بالاطلاق والتقييد، فالمطلق أعني (رزقوا) جعل مبتدأ من الجنات و بعد تقييده بالابتداء منها جعل مبتدء من الثمرة. مع أنه لقائل أن يمنع عدم صحة الابدال هاهنا، فإنه يجوز أن يكون بدلا من الاولى بتقدير صفة، أي من ثمرة كائنة منها، وكلا الظرفين لغو ل‍ (رزقوا)، فلا حاجة إلى أن يجعل الاول حالا من (رزقا) والثاني من ضميره فيها. قالوا هذا الذى رزقنا: أي هذا الظاهر المحسوس من المرزوق كالمرزوق الذي رزقناه في الشكل واللون، لا في الطعم، فحذف أداة التشبيه، ووجهه للمبالغة كما في زيد أسد. ويحتمل أن يجعل (هذا) إشارة إلى نوع ما رزقوا، فلا حاجة إلى اعتبار التشبيه، فإن نوع المرزوق في الآخرة هو نوع المرزوق في الدنيا. من قبل: أي من قبل هذا في الدنيا. وإنما جعل الثمران متشابهين، لان الطبع إلى المألوف أميل وإلى تناوله أسرع، ووجود المزية أظهر، إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، وإعجاب النفس به واستغرابه له أشد، أو في الجنة لما روي أن ثمار الجنة إذا جنيت بدل الله مكانها مثلها فقالوا: ” هذا الذي رزقنا من قبل ” لاشتباه الامر عليهم أو لاستغرابهم إياه وابتهاجهم به. وفيه أن قول ذلك في المرة الاولى لا معنى له كما يقتضيه عموم (كلما). وأتوا به متشبها: جملة معترضة بين أوصاف الجنة لتقرير ما قالوا، أو حال من


[ 190 ]

فاعل (قالوا) بتقدير ” قد ” عند البصرية، كقوله تعالى: ” جاؤكم حصرت صدورهم ” (1) وبدونه عند الكوفية، وللمرزوق والرزق من حيث وحدتهما الجنسية توحد، ومن حيث أثنينيتهما النوعية تعدد، فإفراد الضمير للجهة الاولى، وجعل متشابها المقتضي تعدد الفاعل حالا عنه بالاعتبار الثاني. والمعنى واتوا به متشابها به، أي بهذا الجنس حال كونه متشابها في كل من نوعيه نفسه في الآخر، فمرجعه على الوجه الاول هو جنس المرزوق الشامل لكل من مرزوق الدنيا والآخرة، فإنه يفهم من مضمون ما تقدم، وعلى الوجه الثاني هو الرزق. قال علي بن إبراهيم: يؤتون من فاكهة واحدة على ألوان متشابهة (2). ولهم فيها أزوج مطهرة: الزوج يقال للذكر والانثى، وهو في الاصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف. فالذين آمنوا إن كان شاملا للمؤمنين والمؤمنات تغليبا، فمعنى ” لهم فيها أزواج ” أن للذكور أزواجا من جنس الاناث، والمراد به إما الحور العين، أو نساء الدنيا سلبت عنها القذرات، وإرادة الاعم أولى، وللاناث أزواجا من جنس الذكور. وإن كان خاصا بالمؤمنين إكتفاء بهم، لانه يعرف حال المؤمنات بالقياس إلى حالهم، فمعناه أن للمؤمنين أزواجا مطهرة. وقرئ مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى مطهرة ومطهرات، وهي تؤيد الاحتمال الثاني، لان القياس على الاول مطهرون، فإنه لم يعهد تغليب النساء على الرجال. ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة، لانها تنبئ من أن مطهرا طهرها، وليس هو إلا الله عزوجل. والمراد بتطهرها أن طهرت مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة وما لا يختص من الاقذار والادناس، ويجوز أن يدخل تحته الطهر من ذمائم الاخلاق و قبائح الافعال. وإنما لم يجمع الصفة كالموصوف إذا أتى بها على قاعدة الرجال والنساء فعلت


(1) سورة النساء: الآية 90. (2) تفسير القمي: ج 1، ص 34. (*)

[ 191 ]

للتأويل بالجماعة، وهي لغة فصيحة. وهم فيها خلدون: دائمون، والخلد والخلود: يطلق على الثبات المديد الدائم و على غير الدائم بالاشتراك المعنوي أو اللفظي أو الحقيقة والمجاز، والاول أولى نفيا للتجوز والاشتراك اللذين هما خلاف الاصل، ومنه قيل للاثافي والاحجار خوالد، وللجزء الذي يبقى من الانسان على حاله ما دام حيا خلدا. وقيل: وإلا يلزم أن يكون التقييد بالتأبيد في قوله تعالى ” خالدين فيها أبدا ” (1) لغوا. وبالجملة المراد به الدوام هنا عند الجمهور، لما يشهد له من الآيات والسنن. ثم إن مجامع اللذات المسكن والمطعم والمنكح، فوصف الله تعالى المسكن بقوله: ” جنات تجري من تحتها الانهار ” والمطعم بقوله: ” كلما رزقوا منها من ثمرة ” والمنكح بقوله: ” ولهم فيها أزواج مطهرة “. ثم إن هذه الاشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم بها منقصا، فأزال تعالى هذا الخوف عنهم بقوله: ” وهم فيها خالدون ” فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرور. فإن قلت: فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع. قلت: مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها. فإن قيل: الابدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية معرضة للاستحالة المؤدية إلى الانفكاك والانحلال، فكيف يعقل خلودها في الجنان ؟ قلت: إن الله تعالى يعيدها بحيث لا تعتورها الاستحالة، بأن يجعل أجزاءها مثلا متفاوتة في الكيفية، متساوية في القوة لا يقوى شئ منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، كما في بعض المعادن.


(1) سورة النساء: الآية 57، 122، 169، وغيرها من السور. (*)

[ 192 ]

وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن أحمد بن يونس، عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار، لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة، لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: ” قل كل يعمل على شاكلته ” قال: على نيته (1). والطائفة الامامية هي المقصودة من الآية، فإن من لم يؤمن بخلافة علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا واسطة لم يؤمن بالقرآن، فهو خارج عن ربقة الاسلام. يدل على ما ذكرناه ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله) هكذا ” وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي فأتوا بسورة من مثله ” (2) قال بعض الفضلاء: وإن أردت تأويل الآية في بعض بطونها، فاعلم أن الجنات ثلاثة: جنة الاختصاص الالهي: وهي التي يدخلها الاطفال الذين لم يبلغوا، والمجانين الذين ما عقلوا، وأهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة عن رسول. والجنة الثانية: جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين، وهي الاماكن التي كانت معينة لاهل النار لو دخلوها. والجنة الثالثة: جنة الاعمال، وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان له من الاعمال أكثر كان له من الجنات أكثر، وفي شأن هذه الجنة ورد ما عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن الجنة قاع صفصف ليس فيها عمارة، فأكثروا من غراس الجنة في الدنيا، قيل يا رسول الله: وما غراس الجنة ؟ قال (صلى الله عليه


(1) الكافي: ج 2، ص 85، كتاب الايمان والكفر، باب النية، ح 5. (2) الكافي: ج 1، ص 417، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 26. (*)

[ 193 ]

وآله): فهذه الجنة ما فيها من الاشجار والانهار والثمرات وغيرها من الحور والقصور والغلمان والولدان هي أعمالهم وأخلاقهم ومقاماتهم وأحوالهم مثلت وصورت في أمثلة وصور مناسبة، ثم ردت إليهم، ولهذا يقال لهم: إنما هي أعمالكم ترد إليكم (1). وهذه الآية الكريمة إشارة إلى بشارة أهل هذه الجنة. يعني بشر الذين تحققوا بالعلوم والمعارف الايمانية المبتنية عليها الاعمال الصالحة والافعال الحسنة، أن لهم جنات من أشجار ونخيل وأعناب، وهي صور هذه الاعمال والافعال، تجري من تحتها الانهار، أي أنهار تلك العلوم والمعارف النابتة أصول هذه الاشجار وفروعها منها، كلما رزقوا منها من ثمرة، هي من صور نتائج أعمالهم، وتنبهوا لما بين الصورة وذي الصورة من المناسبة والمشابهة، قالوا: هذا المرزوق في الجنة بعينه هو الذي رزقنا من قبل في الدنيا. وهذا كما إذا رأيت ليلة أنك تشرب اللبن وحصل لك غذاءها نوع من العلم، وتنبهت لما بين ما رأيته في المنام وبين ما حصل لك من العلم من المشابهة، فإن اللبن كما أنه غذاء صالح للابدان كذلك العلم صالح للقلوب والارواح، قلت: هذا ما رأيته البارحة في المنام واتيت بما رزقته في النوم واليقظة متشابها، أي يشابه كل واحد منهما الآخر، وعلى هذا القياس معنى اتوا به متشابها ولهم فيها من صور أبكار المعاني الغيبية التي تقتضيها خصوصيات استعداداتهم أزواج مطهرة من ملابسة الاغيار لم يطمثهن إنس ولا جان، وهم فيها خالدون، أي دائمون لا يبرحون عنها. وفي قوله: وهم فيها خالدون وإن كان لهم بشارة بالدوام والبقاء، ولكن فيه تعريض بشأنهم أنهم أخلدوا إلى أرض هذه الجنة فلا يبرحون عنها إلى ما فوقها، ولا يترقون إلى جنات النعيم وجنة الذات، لكنهم ينزلون إلى جنات الافعال ويتخطون بما فيها من غير تقييد بشئ منها، رزقنا الله وإياكم معالي الامور، وهو سبحانه الودود والغفور.


(1) تفسير سورة يس لصدر المتألهين الشيرازي: ج 5، ص 187. (*)

[ 194 ]

[ * إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفسقين (26) ] * إن الله لا يستحى: لما كانت الآيات السابقة مشتملة على أقسام من التمثيل، عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له، وما هو شرط فيه من موافقته للممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف والخسة، دون الممثل، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه و إبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم والعقل ويصالحه، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لان من طبعه ميل الحس وحب المحاكمات، لما قاله الجهلة: من أن ضرب المثل بالمحقرات كالنحل والذباب والعنكبوت والنمل لا يليق بكلام الفصحاء من المخلوقين ويخل بفصاحته، فكيف يليق بالقرآن الذي تدعون أنه كلام الله بالغ في الفصاحة حد الاعجاز ؟ وعن الحسن وقتادة: أنه لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به للمشركين المثل ضحكت اليهود، وقالوا، ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله سبحانه هذه الآية (1) وقال: إن الله لا يترك ضرب المثل ببعوضة ما ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها، وقد مثل في الانجيل بالنخالة، لمن يقول بالبر ولا يعمل به كالمنخل يخرج المنخول المختار ويمسك النخالة، قال: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق و


(1) مجمع البيان: ج 1، ص 67، سبب نزول قوله تعالى: ” إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا “. (*)

[ 195 ]

يمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. و بالحصاة للقلوب القاسية حيث قال: ” قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح. وبالزنابير لمقاولة السفهاء، لما في إثارتها من الضرار، قال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتمون. والاستحياء: من الحياء، وهو انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم. وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل: هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا واشتقاقه من الحياة، يقال حيى الرجل إذا اعتلت قوته الحيوانية، كما يقال: نساه وحشاه، والنسا بفتح النون والقصر: عرق يخرج من الورك فيتبطن الفخذين ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر، ومنه مرض عرق النسا، والحشا ما احتوت عليه الضلوع، فكأنه جعل الحيي لما يعتريه من التغير والانكسار منقص الحياة، كما يقال: هلك أو مات أو ذاب حياء من كذا. واستحيى بمعنى حيي كاستقر بمعنى قر، ويتعدى بنفسه وبحرف الجر، يقال: استحييته واستحييت منه، والآية تحتمل الوجهين. وإنما أتى بالمزيد لما في المجرد من توهم نفي الحياة. وروى ابن كثير يستحيى بياء واحدة (1) ووجهه أنه استثقل اجتماع اليائين فحذفت إحداهما بعد نقل حركتها إلى ما قبلها. ولما لم يجز على الله تعالى التغير والخوف والذم، لم يجز وصفه بالحياء اللازم من نفي الاستحياء المقيد، فإنه يفهم منه ثبوت مطلق الاستحياء. كما يدل عليه حديث سلمان – رحمة الله عليه – صريحا حيث قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى ينزل فيهما خيرا (2).


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 114. (2) أخرجه في جامع الاصول: ج 5، ص 11، في الفصل الثاني في هيئة الداعي، تحت رقم 2119 عن سلمان الفارسي وليس فيه جملة (حتى ينزل فيهما خيرا) وزاد كلمة خائبين. ورواه في كنز العمال: ج 2، ص 87، في آداب الدعاء تحت رقم 3266 و 3267 و 3268، عن علي وعن ابن عمر. (*)

[ 196 ]

فلا بد أن يراد ما هي سبب عنه أعنى ترك ما يستحى عنه، فيكون مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب، أو يجعل من قبيل الاستعارة التمثيلية، بأن يشبه حال الله سبحانه مع ضرب المثل بالمحقرات بحال المستحيي مع ما يستحيي منه، فكما أن المستحيي يترك ما يستحيي منه كذلك سبحانه يترك ضرب المثل بالمحقرات، فإذا نفى ذلك المعنى صار المعنى أنه ليس حاله سبحانه مع ضرب المثل بها كحال المستحيي مع ما يستحيي منه في الترك، فلا يترك سبحانه ضرب المثل كما يترك المستحيي ما يستحيي منه. فإن قلت: يلزم حينئذ وقوع الفعل، فيشكل ذلك من أنه ما وقع في القرآن ذكر البعوضة والتمثيل بها ولا ذكر ما فوقها إذا اريد به ما فوقها في الحقارة. قلت: كما أن للاستحياء لازما هو ترك المستحيي منه، كذلك لعدم الاستحياء لازم هو جواز وقوع الفعل، فإنه لا يلزم من عدم السبب إلا جواز وقوع المسبب (1) لا وقوعه، فيصير المعنى أن الله سبحانه يجوز أن يقع منه ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، ولا شك أن الجواز لا يستلزم الوقوع. ويجوز أن تكون هذه العبارة مما وقعت في كلام الكفرة فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت ؟ فجاءت هنا على سبيل المشاكلة، وهي أن يذكر الشئ بلفظ غيره، لوقوعة في صحبته، كقوله: قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه * قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا (2) –


(1) في هامش بعض النسخ ما لفظه (لانه يجوز حينئذ وقوع المسبب بسبب آخر، ولا يجب لجواز أن لا يكون له سبب آخر، منه). (2) هو من بيتين لابي الشمقمق، وكان له أربعة أصحاب اجتمعوا يوما وأرسلوا إليه أن يأيتهم وأن يشتهي طعاما يطبخونه وكان عريانا ليس له ثوب يستره وكان الوقت باردا، فكتب إليهم هذين البيتين، وقبله: إخواننا عزموا الصبوح بسحرة * فأتى رسولهم الي خصيصا فأرسل إليه كل واحد منهم خلعة وعشر دنانير، فلبس إحدى الخلع وسار إليهم. جامع الشواهد: باب القاف بعده الالف، ص 212. (*)

[ 197 ]

وقد يجاب بأن وقوعها في القرآن إنما هو بالنظر إلى هذه الآية. وبأن ترك ضرب المثل بالبعوضة وبما فوقها يكون بتركهما جميعا، فهو في قوة السلب الكلي وهو يرتفع بالايجاب الجزئي، فليكن صدق نفي تركهما بوقوع ضرب المثل بما فوق البعوضة. والاول ضعيف، فإنها لم يقع على قصد التمثيل لها وإن تكلف، ويقال: المراد أنه لا يستحيي أن يضرب بها مثلا للآلهة، فإن المتبادر أنها إخبار عما وقع خارجا عن هذا الكلام. والثاني: لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد بما فوقها ما يفوقها في العظم، مع أن حمله على ما يفوقها في الحقارة إن لم يكن أولى فلا أقل من أن يكون مساويا. قال العلامة السبزواري: المعنى لا يدع ضرب المثل بالاشياء، الحقيرة كالبعوضة، فضلا عما هو أكبر منها كالذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما، أو كالبعوضة فما فوقها في الصغر والحقارة، لان جناح البعوضة أصغر منها، وقد ضرب به المثل، وقد خلق الله من الحيوان ما هو أصغر حجما من البعوضة بكثير. أقول: لا يخفى على ما حققناه ما فيه، فإنه يدل على أنه ضرب المثل بالبعوضة وما هو أصغر منها، وليس كذلك. وأما ما روي عن الصادق (عليه السلام) من أنه قال: إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لان البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صفته (1). فلا يدل على أن ضرب المثل بالبعوضة واقع من الله، بل على أنه جاز وقوعه لهذا الوجه، وهذا المعنى وإن كان خلاف ما هو المتبادر من لفظ الحديث، لكن يجب أن يصار إليه عند قيام القرينة. أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها: في محل النصب إما على أنه مفعول الفعل المتقدم، أو بنزع الخافض، أو الجر بتقديره، كما في: الله لافعلن.


(1) مجمع البيان: ج 1، ص 67، في تفسير لقوله تعالى: ” إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا “. (*)

[ 198 ]

وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم، وأصله إيقاع شئ على شئ، كضرب الشئ باليد والعصا والسيف ونحوها، وضرب الدراهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، والضرب في الارض: الذهاب فيها، وهو ضربها بالارجل، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة، وضرب المثل هو من ضرب الدراهم، وهو ذكر شئ يظهر أثره في غيره، والاضطراب: كثرة الذهاب في الجهات من الضرب في الارض. و ” مثلا ” منصوب على أنه مفعول به ليضرب، و ” بعوضة ” بدل منه أو عطف بيان، أو مفعول ليضرب، ومثلا حال تقدمت لانه نكرة، أو هما مفعولاه لتضمينه معنى الجعل، أو لتجوزه عنه، ويكون مثلا مفعوله الثاني لانه المناسب بحسب المعنى. وقرئ بعوضة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. و (ما) هذه إبهامية تزيد للنكرة إبهاما وعموما تسد عنها طرق التقييد، فإما اسم يقع صفة للنكرة، فمعنى قوله (مثلا ما) مثلا أي مثل، وإما زائدة فتكون حرفا، لان زيادة الحرف أولى من زيادة الاسماء، لاستبدادها بالجزئية، وأيضا ثبت زيادتها في نحو ” فبما رحمة من الله لنت لهم ” (1) بالحمل على ما ثبت في موضع الالتباس. وفائدة (ما) هذه إما التحقير نحو: هل أعطيت إلا عطية ما، أو التعظيم نحو: لامر ما يسود من يسود، أو التنويع نحو: اضربه ضربا ما، أي نوعا من أنواعه أيها كان، وتجتمع هذه المعاني كلها في الابهام، وتأكيد التنكير، أي عطية لا تعرف من حقارتها، وأمر مجهول العظمة، وضربا مجهولا غير معين. أو غير إبهامية، بل هي حرف زيدت لتأكيد معنى آخر غير التنكير والابهام، فهي هنا إما لتأكيد ضرب المثل، أو نفي الاستحياء، أي يضرب المثل البتة، أو لا يستحيي البتة، وإما موصولة وذلك بشرط أن تقرأ بعوضة مرفوعة وتجعل مع مبتدئها المحذوف صلة، وإما موصوفة والجملة صفة ومحلها النصب على البدلية أو الاختصاص، وإما استفهامية مرفوعة المحل على أنها مبتدأ وبعوضة خبرها، فإنه لما قال في رد استبعادهم ضرب الله


(1) سورة آل عمران: الآية 159. (*)

[ 199 ]

الامثال بالمحقرات. إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا، لا يبعد أن يقال معناه للمبالغة في الرد، أن لله التمثيل بأشياء محقرة لا يتأتى لكم أن تدركوها من الحقارة، فيحسن إردافه بما إلى آخره، ومعناه أي شئ البعوضة فما فوقها حتى لا يمثل بهما، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك، ونظيره فلان لا يبالي بإعطاء المئات والالوف من الدينار، ما دينار وما ديناران حتى لا يعطي. وأما زائدة أو صفة لنكرة وبعوضة خبر مبتدأ محذوف، أي مثلا هو بعوضة. والبعوض من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب، ومنه بعض الشئ فإنه قطعة منه، فمدار هذه الحروف على القطع كيفما تترتب، فهو في أصله صفة على فعول كالقطوع، فغلب على البقة كالخموش بفتح الخاء، فإنه أيضا صفة على فعول من خمش وجهه يخمشه أي يخدشه، فغلبت عليها. و (ما) في ما فوقها إن نصبنا بعوضة كانت معطوفة عليها، موصولة أو موصوفة صلتها أو صفتها الظرف، وإن رفعناها وجعلنا (ما) الاولى موصولة أو موصوفة أو استفهامية، فالثانية معطوفة عليها، أو على بعوضة، وإن جعلنا (ما) زائدة أو صفة نكرة وبعوضة خبرا لهو مضمرا، كانت ما معطوفة على بعوضة، وإن جوز حذف الموصول مع بعض الصلة، يجوز أن تكون (ما) في فبما استفهامية، أي فما الذي هو فوق البعوضة، والمعنى أن لله التمثيل بالبعوضة، فأي شئ ما هو فوق البعوضة كالذباب والعنكبوت حتى لا يمثل به، وحينئذ يكون في غاية الطباق لكلام الكفرة، هذا إذا لم تكن (ما) الاولى استفهامية، فإذا كانت هي أيضا استفهامية يكون ترقيا على ترق. والمعنى أن لله التمثيل بأحقر شئ فأي شئ البعوضة حتى لا يمثل بها، وبعد ذلك أي شئ ما فوق البعوضة كالذباب والعنكبوت حتى لا يمثل به، ومعنى ما فوقها، أي في الكبر، وهو أوفق لكلام الكفرة، أو في الصغر وهو أشد مبالغة في ردهم، وما فوق في الصغر هو جناحها كما ضربه (عليه السلام) مثلا للدنيا. روي عن الترمذي، عن سهل بن سعد، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):


[ 200 ]

لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء (1). فأما الذين ءامنوا فيعلمون: (أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم في جميع اللغات إلا عند بني تميم فإنهم يقولون: أيما (2) حرف تفصيل كإما بكسر الهمزة مطلقا عند المبرد، وأما الاولى عند غير المبرد يفيد تفصيل مجمل متعدد سابق في الذكر، صريحا كقولك جاءني القوم أما العلماء فكذا وأما الجهلاء فكذا، أو في الذهن من غير سبق ما يدل عليه بوجه كقولهم في صدر الكتب أما بعد، أو مع سبقه كما نحن فيه من الآية، لان قوله تعالى: ” إن الله لا يستحيي ” دل على أن ثمة من تداخله شبهة على ما مر ويخطر منه بالبال يقابله، فيحصل في الذهن متعدد يفصله أما. ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، قال سيبويه: أما زيد فذاهب، معناه مهما يكن من شئ فزيد ذاهب (3)، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، ففي تصدير الجملتين به مبالغة في محمدة المؤمنين ومذمة الكافرين، وكان الاصل دخول الفاء على الجملة لانها الجزاء، لكنهم كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط، فالذين آمنوا مبتدأ، ويعلمون خبره. أنه الحق: في موضع مفعول (يعلمون)، والحق أن ” أن ” الواقعة بعد العلم لا يغير معنى الجملة، أي لا يؤلها إلى المفرد، فجزاء الجملة منصوبان محلا على أنهما مفعولان. والحق في اللغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يعم الاعيان الثابتة والافعال الصائبة والاقوال الصادقة، من قولهم: حق الامر إذا ثبت، ومنه ثوب محقق محكم النسج، وفي العرف الاخير يخص الاخيرين، وفي اصطلاح أرباب المعقول يخص الاخير، فيقولون للاقوال المطابقة للواقع صادقة وكاذبة باعتبارين. والضمير في (أنه) للمثل، أو لضربه، أو لترك الاستحياء.


(1) سنن الترمذي: ج 4، كتاب الزهد، ص 560، باب 13، ما جاء في هوان الدنيا على الله عزوجل، ح 2320. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 66. (3) تفسير الكشاف: ج 1، ص 117. (*)

[ 201 ]

من ربهم: في محل النصب على أنه حال من الحق، أي كائنا وصادرا من ربهم، أو من الضمير المستكن، وهو العامل فيه، لكونه مشتقا، والمعنى أنه حق حال كونه من ربهم، أو في محل الرفع على البدلية من الحق، ويحتمل أن يجعل ظرفا لغوا للحق أو ليعلموا. وأما الذين كفروا فيقولون: إنما قال ذلك ولم يقل فلا يعلمون كما هو مقتضى المقابلة، لان قولهم ذلك يستلزم عدم علمهم بالحق، فكان كذكره مبرهنا عليه، ولان مذمتهم بنفي العلم إنما هي للتقصير في أسباب حصوله، بخلاف القول السئ فإنه مذموم لذاته. ماذا أراد الله: (ما) للاستفهام مرفوع المحل على أنه مبتدأ، و (ذا) بمعنى الذي موصول وهو مع صلته خبره، أو منصوب المحل على أنه مفعول (أراد) قدم عليه وجوبا لتضمنه معنى الاستفهام، وكلمة (ذا) حينئذ تكون زائدة لتزيين الفعل. وعلى التقدير الثاني يكون (ما) مع (ذا) كلمة واحدة بمعنى أي شئ، والاصوب على الاول رفع جوابه وعلى الثاني نصبه، ليشاكل الجواب السؤال، ويجوز العكس بناء على تأويل الاول بأراد كذا والثاني بمراد كذا لتحصل المشاكلة، أو بدونه، والاستفهام للتعجب والانكار. والارادة: ضد الكراهة، وهي مصدر أردت الشئ إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك. وفي عرف المتكلمين: نزوع النفس وميلانها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، و يقال للقوة التي هي مبدأ النزوع. وشئ من تلك المعاني لا يتصور اتصاف الباري تعالى به، ولذلك اختلف في معنى إرادته، فقيل: إرادته لافعاله أنه غير ساه ولا مكره ولا يقال غيره، أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته. وقيل: علمه باشتمال الامر على النظام الاكمل والوجه الاصلح، فإنه يدعو القادر على تحصيله. وقيل: ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه، أو معنى يوجب هذا الترجيح، وهي أعم من الاختيار، فإنه ميل مع تفصيل.


[ 202 ]

بهذا مثلا: متعلق بأراد، والمشار إليه (بهذا) هو ما يرجع إليه الضمير في قوله (انه الحق). ومثلا نصب على التمييز، كقولك لمن حمل سلاحا رديئا: كيف تنتفع بهذا سلاحا ؟ عن نسبة التعجب والانكار إلى المشار إليه، إذ لا إبهام فيه هنا، لانه المثل، أو يقال لمن تعدد المشار إليه بهذا بحسب الاحتمال غيره بقوله مثلا لتعيين ما هو المقصود، فلا يرد أنه لو كان هذا إشارة إلى المثل لصار المعنى ما أراد الله بالمثل مثلا، ولا يحتاج أن يجاب بأن المشار إليه هو الذات من وصف المثلية. وفي لفظ هذا استحقار و استرذال لشأنه، أو على الحالية من اسم الاشارة، والعامل فيه إما الفعل المذكور أو فعل التعجب والانكار المفهوم من الاستفهام، أو فعل الاشارة والتنبيه المفهومين من هذا، فحينئذ يكون ذو الحال الضمير المجرور في عليه أو إليه كما في قوله تعالى ” هذه ناقة الله لكم آية ” (1). ولا يخفى أن في تفصيل هاتين الجملتين توضيحا لما ذكر من قبل من اختصاص المتقين بكون الكتاب هدى لهم دون غيرهم. ويزيد في هذا التوضيح ما أردفهما به، أعني قوله: ” يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ” يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا: جواب ماذا، أي إضلال كثير وإهداء كثير. وضع الفعل موضع المصدر، لارادة الحدوث والتجدد، أو بيان للجملتين المصدريتين بإما وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان، وأن الجهل بوجه إيراده والانكار لحسن مودته ضلال وفسوق، وكثرة القبيلتين حقيقة، لا بالقياس إلى مقابلهم، فإن المهتدين قليلون بالنظر إلى أهل الضلال كما قال الله ” وقليل من عبادي الشكور ” (2) وقال (عليه السلام): كإبل مئة لا تجد فيها راحلة (3).


(1) سورة الاعراف: الآية 73. (2) سورة سبأ: الآية 13. (3) سند أحمد بن حنبل: ج 2، ص 7، ولفظه: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما الناس كإبل مئة لا يوجد فيها راحلة). (*)

[ 203 ]

وإن كانت إضافية لكثرة الضالين من حيث العدد، وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف، كقوله: قليل إذ عدوا، كثير إذا شدوا * (1) وقوله: إن الكرام كثير في البلاد وإن * قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا (2) وإسناد الاضلال والاهداء، إما بناء على أن معناه، أنه أضل قوما ضالا، و أهدى قوما مهتديا، كما يدل عليه قوله: ” وما يضل به إلا الفاسقين ” (3) أي إلا فاسقا ضالا. أو بناء على أنهما سبب، والمعنى أن الكفار يكذبون به وينكرونه و يقولون: ليس هو من عند الله، فيضلون بسببه، والمؤمنين لما صدقوا به وقالوا: هذا في موضعه فيهتدون بسببه. أو بناء على أن أضله بمعنى نسبه إلى الضلال، وأكفره إذا نسبه إلى الكفر. قال الكميت (4): فطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسئ ومذنب (5) أو بناء على أن الاضلال بمعنى الاهلاك والتعذيب، ومنه قوله تعالى: ” ءإذا ضللنا في الارض ” (6) أي أهلكنا. وبناء على أن الاضلال بمعنى التخلية على وجه العقوبة، وترك المنع بالقهر، ومنع الالطاف التي تفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم، ومنه: (أفسدت سيفك) لمن لا يصلح سيفه. وأما ما يقال: من أن إسناد الاضلال وسائر الافعال إلى الله سبحانه، إسناد


(1 و 2) لم نظفر على قائلهما مع ان اكثر المفسرين استشهدوا بهما. (3) سورة البقرة: الآية: 26. (4) هو أبو المستهل، الكميت بن زيد الاسدي المتولد سنة ستين والمتوفى سنة ستة وعشرين ومئة، من شعراء أهل البيت ومادحيهم وصاحب القصيدة المعروفة (من لقب متيم مستهام). (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 68. (6) سورة السجدة: الآية 10. (*)

[ 204 ]

الفعل إلى الفاعل الحقيقي الذي لا مؤثر في الوجود عند الحكماء المتألهين والصوفية المحققين وجمهور أهل السنة والجماعة، إلا هو فيؤدي إلى التظليم والتجوير على ما يذهب إليه المجبرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والباء في الموضعين على جميع التقادير للسببية. والهداية في القرآن تقع على وجوه: الاول: الدلالة والارشاد، وهو بهذا المعنى شامل لجميع المكلفين، فلا تكون بهذا المعنى مرادة في الآية. الثاني: زيادة الالطاف التي بها يثبت على الهدى. الثالث: الاثابة، ومنه قوله تعالى: ” والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم ” (1). الرابع: الحكم بالهداية. الخامس: جعل الانسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه، كما يجعل متحركا بجعل الحركة فيه. وكل واحد من هذه الوجوه الاربعة الاخيرة يمكن أن يكون مرادا في تلك الآية. وقدم الاضلال على الهداية لزيادة الاهتمام بتعريفهم وتوبيخهم به، ولذلك سجل عليهم بمجامع الكفر والطغيان وختمها بأن حصر فيهم الخسران، بقوله: ” وما يضل به إلا الفاسقين “. وما يضل به إلا الفسقين وقرئ ” يضل به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ” على البناء للمجهول في الموضعين، ورفع كثير والفاسقون. والفسق لغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها، أي خرجت. قال رؤبة: فواسقا عن قصدها جوائرا (2).


(1) سورة محمد: الآية 4. (2) وصدر البيت: يذهبن في نجد وغورا غائرا، لرؤبة بن العجاج، وقيل لذي الرمة يصف نوقا تمشي في المفاوز، خارجات عن طريق الاستقامة، مجاوزات حده، وبين ذلك بقوله: يذهبن، وروى يهوين، أي يسرعن تارة في مكان مرتفع، وتارة في غور، أي في مكان كثير الانخفاض، فغور نصب على الظرفية (*)

[ 205 ]

والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، ومن الكبائر الاصرار على الصغيرة، فلا حاجة إلى ذكره. وله ثلاث مراتب: أولها: التغابي، وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها. ثانيتها: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها. وهو في هاتين المرتبتين، مؤمن فاسق، لا تصافه بالتصديق الذي هو مسمى الايمان. وثالثتها: أن يرتكبها مستصوبا إياها، فإذا شارف هذه المرتبة خلع ربقة الايمان عن عنقه ولابس الكفر. والمراد به في الآية يحتمل أن يكون أعم، وأن يكون مخصوصا بالمعنى الاخير، لكنه أحسن. والمراد به في قوله تعالى: ” إن المنافقين هم الفاسقون ” (1) هو المعنى الاخير. وبهذا يندفع ما قاله البيضاوي: من أن المراد به الخارجون عن حد الايمان، لقوله تعالى: ” إن المنافقين هم الفاسقون ” (2). والمعتزلة لما قالوا: الايمان عبارة عن مجموع التصديق والاقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده، جعلوه قسما ثالثا بين منزلتي المؤمن والكافر، لمشاركة كل واحد منهما في بعض الاحكام. قال صاحب الكشاف: معنى كونه (بين بين) أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته (3). وحصر الاضلال فيهم مرتبا على الفسق، يدل على أنه الذي أعد لهم الاضلال


وغائرا وصف مؤكد – نقلا عن هامش تفسير الكشاف: ج 1، ص 119. (1) سورة التوبة: الآية 67. (2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 41. (3) الكشاف: ج 1، ص 119. (*)

[ 206 ]

بضرب المثل، فطلبوا بلسان الاستعداد أن يوجد فيهم صفة الضلال به، فوجد فيهم فأنكروه وانتهزوا به. أقول: يحتمل أن يكون قوله: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، مقول قول الكافرين، فحينئذ لا حاجة في إسناد الضلال إلى الله إلى هذه التوجيهات. يدل على ذلك ما رواه علي بن إبراهيم، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن هذا المثل ضربه الله لامير المؤمنين علي (عليه السلام)، فالبعوضة أمير المؤمنين (عليه السلام) وما فوقها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والدليل على ذلك قوله تعالى: ” فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ” يعنى أمير المؤمنين (عليه السلام) كما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الميثاق عليهم له، ” وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ” فرد الله عليهم فقال: ” وما يضل به إلا الفاسقين “. إلى آخر الآية (1). والمراد من قوله (عليه السلام): إن هذا لمثل ضربه الله لامير المؤمنين، أنه يصير مصداق البعوضة المذكورة في الآية أمير المؤمنين، لا أن المثل بالبعوضة وقع له، ومن قوله: ” فالبعوضة أمير المؤمنين ” أنه مع عظمته بالنسبة إلى جبروته تعالى، ليست له عظمة، وأنه بالنسبة إليه تعالى كالبعوضة بالنسبة إلى المخلوقين. يدل على ذلك ما روي في التفسير المنسوب إلى مولانا العسكري (عليه السلام)، من أنه قيل للباقر (عليه السلام): إن بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أن البعوضة علي وأن ما فوقها وهو الذباب محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال الباقر (عليه السلام): سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه، إنما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاعدا ذات يوم وعلي (عليه السلام) إذ سمع قائلا يقول: ما شاء الله ثم


(1) تفسير القمي: ج 1، ص 34، والبرهان: ج 1، ص 70. وتمام الحديث (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه في علي ويقطعون ما امر الله به أن يوصل يعني من صلة أمير المؤمنين والائمة (عليهم السلام)، ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون). (*)

[ 207 ]

[ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخسرون (27) ] ما شاء محمد، ما شاء الله ثم ما شاء علي، إن مشية الله هي القاهرة التي لا تساوى ولا تكافى ولا تدانى، وما محمد رسول الله في الله وفي قدرته إلا كذبابة، وما علي في الله وفي قدرته إلا كبعوضة في جملة هذه المماليك، مع أن فضل محمد وعلي الفضل الذي لا يفي به فضل على جميع خلقه من أول الدهر إلى آخره، هذا ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان، فلا يدخل في قوله: ” إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة ” انتهى (1). أقول: ولا يذهب عليك بعد ما ذكر من الجمع بين الخبرين والتأمل فيهما، وملاحظة ارتباط الآية بما تقدمها، اندفاع ما قاله العلامة السبزواري في الجمع من أنه لعل المراد: أنهما داخلان في مدلول الآية، لا أن المراد هما فقط، ولا ريب أنهما و أولادهما ضرب بهما المثل في كتاب الله تعالى. الذين ينقضون عهد الله: منصوب المحل على أنه صفة كاشفة للفاسقين، أو على الذم، أو مرفوع على الذم، أو على الابتداء والخبر ” اولئك هم الخاسرون ” أو على الخبرية والمبتدأ محذوف، أي هم الذين ينقضون. والنقض: فسخ الترتيب: ولعله في طاقات الحبل، استعير لابطال العهد استعارة تحقيقية تصريحية، حيث شبه إبطال العهد بفك تآليف الحبل وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وشرط حسنه اعتبار تشبيه العهد بالحبل لما فيه من ربط


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 83. (*)

[ 208 ]

المتعاقدين بالآخر، فتشبيه العهد في النفس استعارة بالكناية، وإثبات النقض سواء اريد به معناه الحقيقي أو المجازي له قرينة لها. لا يقال: إذا اريد بالنقض معناه الحقيقي، فظاهر أنه من لوازم الحبل، وأما إذا اريد به معناه المجازي فليس كذلك، فكيف يكون قرينة للاستعارة بالكناية. لانا نقول: المراد باللازم أعم من أن يراد معناه الاصلي الذي هو اللازم الحقيقي، أو يراد ما هو شبه بذلك المعنى منزل منزلته، فإنه إذا نزل منزلة الحقيقي و عبر عنه باسمه، صار لازما إدعاء، فاللازم على الاول مذكور لفظا ومعنى حقيقة، وعلى الثاني مذكور لفظا حقيقة ومعنى إدعاء، وكلاهما يصلحان للقرينة. والعهد: الموثق، أي الميثاق، ويقال للامان واليمين والذمة والوصية ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد، كالوصية واليمين، ويقال للدار من حيث أنها يراعى بالرجوع إليها، والتاريخ لانه يحفظ. من بعد ميثقه: متعلق بينقضون، و (من) لابتداء الغاية، فإن ابتداء النقض بعد الميثاق، وقيل: زائدة. والميثاق اسم لما يقع به الوثاقة، وهو الاحكام، أو معنى التوثقة كالميلاد والميعاد، بمعنى الولادة والوعدة. ومرجع الضمير: العهد، أو الله، وإضافته إلى العهد بمعناه الاسمي للتأكيد، لان ميثاق الميثاق مما يؤكده، وبمعناه المصدري من إضافة المصدر إلى المفعول، و إلى الله من إضافته إلى الفاعل. وعهده الذي نقضوه من بعد ميثاقه، إما ما ركز في عقولهم من قوة التفكر في مصنوعاته التي هي دلائل توحيده سبحانه، أو هو الذي أخذه الله تعالى على بني آدم حين استخرجهم من ظهوره وأقروا بربوبيته. وميثاقه على التقديرين إرسال الرسل وإنزال الكتب على وفقه، ونقضه على الاول ترك التفكر فيها المندوب إليه عقلا وشرعا، وعلى الثاني نسيانهم ما أقروا به وعدم جريهم على مقتضاه لما أخذوا أربابا من دون الله. والعهد وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه


[ 209 ]

إياهم عما نهاهم من معصيته في الشرائع المتقدمة، وميثاقه شريعة نبينا (صلى الله عليه وآله)، ونقضهم: إعراضهم عما وصاهم الله به وثقه، أو هو ما عهده إلى من اوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد ولا يكتموا أمره، وميثاقه الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على نبوته (عليه السلام)، ونقضهم كتمان أمره وإنكار نبوته. والآية على هذا في أحبار اليهود. وضعف الشيخ الطبرسي الوجه الثاني. بأن الله تعالى لا يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه ولا يكون عليه دليل (1). وزيف تضعيفه العلامة السبزواري: بأن مفاد الآية، أن هؤلاء من الفاسقين والخاسرين بلا احتجاج عليهم بفعلهم، هذا كما إذا قيل: ولد الزنا لا يدخل الجنة، لا يحتج عليه بفعل قبيح صدر عنه، وهو كون تولده من الزنا، بل المقصود أنه تصدر عنه أفعال اختيارية موجبة لخلود النار. وأقول: مبنى كلام الشيخ أن مفهوم الآية، أن الله ذمهم بنقض العهد بعد الميثاق، وإذا كان العهد عبارة عما ذكر، كان الاحتجاج عليهم بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه، والظاهر أنه لا يرد على ذلك ما أورده العلامة، وإنما يرد عليه لو كان مراده أن التعليل يفهم من ترتب الحكم على الوصف، وليس كذلك. ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: محل (أن يوصل) الجر على البدلية من الضمير، وحينئذ (ما) في ما أمر الله به أن يوصل، إما موصولة أو موصوفة، أو منصوبة على البدلية مما أمر الله به، فكلمة (ما) موصوفة، لان النكرة لا تبدل عن المعرفة إلا إذا كانت مخصصة، نحو ” بالناصية ناصية كاذبة ” (2) والاول أحسن لقرب المبدل منه، ولان القطع يقع على المتصل، لا على الوصل. قيل: ولاحيتاج الثاني إلى تقدير مضاف، أي يقطعون، وصل ما أمر الله به أن


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 70. (2) سورة العلق: الآية 15 – 16. (*)

[ 210 ]

[ كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا فأحيكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) ] يوصله. وأقول: الاحتياج إلى ذلك إنما يكون إذا كان بدل الكل عن الكل، وأما إذا كان بدل الاشتمال فلا. والمراد بما أمر الله كلما لا يجوز قطعه كائنا ما كان، والعمدة فيه صلة أمير المؤمنين (عليه السلام) وصلة الرحم. روي الاول في تفسير علي بن إبراهيم (1) والثاني في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2). والامر الذي واحد الاوامر: طلب الفعل مع العلو، وقيل: مع الاستعلاء، والذي واحد الامور: المأمور به، تسمية للمفعول به بالمصدر، كما سمي الشأن بمعنى المشؤون، والشأن الطلب والقصد، يقال: شأنت شأنه، أي قصدت قصده. ويفسدون في الارض: بالمنع من الايمان والاستهزاء بالحق، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه. أولئك هم الخسرون: لاشترائهم النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح في الدنيا، وعقاب المشتري بثواب المشترى به في الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. كيف تكفرون بالله: الخطاب مع الذين كفروا. لما وصفهم بالكفر وتوابعه،


(1) تفسير القمي: ج 1، ص 35، قال في حديث: ” ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل “، يعني من صلة أمير المؤمنين (عليه السلام) والائمة (عليهم السلام). (2) لاحظ الكافي: ج 2، باب الهجرة، ص 344، وباب قطيعة الرحم، ص 346. (*)

[ 211 ]

خاطبهم على طريقة الالتفات إنكارا لكفرهم وتوبيخا لهم عليه مع علمهم بحال يقتضي خلاف ذلك، فإن الانكار والتوبيخ إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ. أو معهم مع المؤمنين، أو مع المؤمنين فقط. و (كيف) يصلح للسؤال عن الاحوال كلها، لا بمعنى أنه مستغرق لها، بل قد يستغرق بمعونة المقام، وقد لا يستغرق فإذا قصد الانكار، وهو في معنى النفي، ونفي الحال الذي يقتضيها، كيف إنما يتحقق بنفي جميع أفرادها ! بل هي كالنكرة الواقعة في سياق النفي في إفادة العموم، فكأنه قيل: لا يصح ولا ينبغي أن يوجد حال ما لكفرهم وقد علمتم أنكم كنتم أمواتا الآية، وإذا لم ينبغ أن توجد حال من أحوال الكفر مع وجود هذا الصارف، أما لانه يتضمن آيات بينات أو نعما جساما، حقها أن لا يكفر بمولاها، فينبغي أن لا يوجد كفركم معه، لان وجود ذات بلا حال محال، فإن وجد معه فهو مظنة توبيخ وإنكار وتعجيب وتعجب. وخص بعضهم الحال بما له مزيد اختصاص بالكفر بالله، وهو العلم بالصانع والجهل به، فالمعنى: أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل ؟ والحال حال العلم بمضمون القصة الواقعة حالا، والعلم به يقتضي أن يكون للعاقل علم بأن له صانعا متصفا بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال، وعلمه بأن له هذا الصانع صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتعجب وإنكار وتوبيخ، فنفي الكفر بمعنى لا ينبغي أن يقع على كلا التقديرين بطريق الكناية، لانه لزم من إنكار الحال مطلقا إنكار الكفر، لزم من إنكار حاليته أعني العلم والجهل أيضا إنكاره، إذ لا ثالث لهما، ولهذا صار (كيف تكفرون) أولى من (أتكفرون) فاختير عليه. وأيضا لما بعدها من الحال وهي في الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه (1) أي في أي حال تكفرون، وعلى الحال عند الاخفش (2) أي على حال تكفرون، والعامل فيها على التقديرين تكفرون، وصاحب الحال الضمير فيه.


(1 و 2) شرح الكافية: ج 2، ص 117. (*)

[ 212 ]

وكنتم أموتا فأحيكم: الواو للحال، والجملة حال بتقدير قد، وتأويلها بجملة اسمية أو فعلية مأخوذا فيه العلم. والمعنى وقد علمتم، أو تعلمون، أو أنتم عالمون أنكم كنتم أمواتا، فإن بعض الجمل الواقعة في تلك القصة الواقعة حالا ماض وبعضها مستقبل لا يقارن مضمونها مضمونه، فلا بد من أخذ العلم. وأيضا مضمون تلك الجمل بدون اعتبار تعلق علمهم بها لا يصح أن يكون صارفا، واعتبار تعلق علمهم بالمؤونة والاحياء الحسيين ظاهر، وأما اعتبار تعلقه بالاحياء الثاني والرجوع، فلتمكنهم من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان بمنزلة حصول العلم، سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما، وهو أنه تعالى لما قدر أن أحياهم أولا، قدر أن يحييهم ثانيا، فإن بدء الخلق ليس بأهون من إعادته. والاموات جمع ميت بالتخفيف، كالاقوال جمع قيل. والمعنى كنتم أمواتا، أي عناصر ممتزجة منتقلة من حال إلى حال حتى استقر على مزاج معتدل قابل لنفخ الروح فيه، فأحياكم بنفخ الروح فيه. فعلى هذا يكون استعمال الاموات في العناصر إستعارة، لاشتراكهما في أن لا روح ولا إحساس لهما. وإنما عطف بالفاء لانه متصل بما عطف عليه، غير متراخ عنه، بخلاف البواقي. ثم يميتكم: عند تقضي آجالكم. ثم يحييكم: بحياة أبدية يوم النشور، أو في القبر للسؤال. ثم إليه ترجعون: ليحاسبكم أو يجازيكم على أعمالكم، وإن اريد بقوله: (يحييكم) الحياة في القبر، فينبغي أن يراد ب‍ ” ترجعون ” الاحياء يوم النشور، ويلزم منه إهمال إماتتهم في القبر، اللهم إلا أن يقال: معنى إليه ترجعون، أنهم يرجعون بتلك الاماتة وإحياء يوم النشور. ولو جعل ” ثم يحييكم ” متناولا لاحيائين جميعا، أي يحييكم مرة بعد اخرى بقرينة المقام، يلزم أيضا ذلك الاهمال، إلا أن يقال:


[ 213 ]

[ هو الذى خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسويهن سبع سموت وهو بكل شئ عليم (29) ] يفهم من تعدد الاحيائين تخلل إماتة بينهما. والظاهر أنه كم يعتد بالاحياء في القبر، لانه ليس له زمان يعتد به. وقرأ يعقوب: ترجعون بفتح التاء في جميع القرآن (1). هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا: بيان نعمة ثانية مترتبة على النعمة الاولى، فإن الانتفاع بالارض والسماء وما فيها إنما يكون بعد موهبة الحياة. (والخلق) في الاصل التقدير، ويراد منه الايجاد، فإن اريد المعنى الاول عم الارض وما فيه، وإن اريد الثاني احتيج في شموله لما سوى العناصر إلى ارتكاب تجوز. واللام للانتفاع، والمعنى خلق لانتفاعكم في الدنيا والآخرة ما في الارض جميعا. فعند الاشاعرة مدخوله غاية، وعند الحكيم: عناية، وعند المعتزلة وأهل الذوق: غرض. لكن عند المعتزلة: ذلك الغرض عائد إلى العبد، وعند أهل الذوق: إلى المعبود، فإنهم قالوا: إن للحق كمالين، كمالا ذاتيا كوجوب وجوده، ووحدته وحياته وعلمه وغير ذلك من الصفات الذاتية التي لا يحتاج الحق سبحانه في الاتصاف بها إلى سواه. وكمالا أسمائيا يحتاج في الاتصاف بها إليه، فإن كمال الاسماء إنما هو بظهور آثارها وترتب أحكامها عليها، وذلك لا يتم إلا بوجود المظاهر، فنفي الاحتياج والاستكمال بالغير عنه إنما هو بالنظر إلى كماله الذاتي الذي له مرتبة الغنى عن العالمين، وأما بالنظر إلى كماله الاسمائي فليس له هذه المرتبة.


(1) النشر في القراءات العشر لابن الجزري: ج 2، ص 208. (*)

[ 214 ]

وكلمة (ما) للعموم، خصوصا إذا قيد بالحال الذي وقع بعده، وقد صرح به أئمة الاصول فدلت الآية على إباحة جميع الاشياء، على أي وجه إلا ما أخرجه الدليل، واندفع ما قاله العلامة السبزواري من أنها لما كانت مجملة غير ظاهرة في العموم، لا يتم الاستدلال بها على ذلك. والمراد بالارض إما جهة الارض ليشمل الغبراء وما فيها، وإما الغبراء فلا يتناول إلا ما فيها، لامتناع ظرفية الشئ لنفسه. ثم استوى إلى السماء: قصد إليها بإرادته، من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شئ. وأصل الاستواء، طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الاجزاء، يقال: استوى العود وغيره إذا قام واعتدل، ولا يمكن حمله عليه، لانه من خواص الاجسام. وقيل: استوى، استولى، قال: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (1) وهذا المعنى غير مناسب للاصل والصلة المعدى بها. وقيل: أقبل كما يقال: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى إلي وعلي يكلمني، على معنى أقبل إلي وعلي. وقيل: استوى أمره وصعد إلى السماء قال العلامة السبزواري: وهذا بخلاف ما اشتهر: أن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الارض. وفيه نظر، لان المقصود صعد أمره في الخلق إلى السماء. وهذه الآية مع التي في سورة حم السجدة – أعني قوله: ” أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين ” إلى قوله: ” ثم استوى إلى السماء ” (2) حجة على من ذهب


(1) تفسير القرطبي: ج 1، ص 255، وفي هامشه: القائل هو الاخطل كما في شرح القاموس. (2) سورة فصلت: الآية 9 – 11. (*)

[ 215 ]

إلى تقدم خلق السماء على الارض، وما في سورة النازعات – من قوله: ” والارض بعد ذلك دحاها ” (1) أي بعد رفع سمك السماء وتسويتها دحى الارض وبسطها – حجة له. وأجاب عن الاول: بأن ” ثم ” لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على الارض، كقوله: ” ثم كان من الذين آمنوا ” (2) لا للتراخي في الوقت. وبأن الخلق في الآيتين بمعنى التقدير، لا بمعنى الايجاد. وقد اولت الآية الثانية بأن معناه: أذكر الارض دحاها، بعد ذكر ما سبق. والحق أن خلق الارض مقدم على خلق السماء، ودحوها مؤخر عنه، وهذا هو الجمع بين تلك الآيات. ويدل على ذلك ما روي من أنه خلق الله الارض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر (3) عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات، وأمسك الفهر في موضعها، وبسط منها الارض، فذلك قوله: ” كانتا رتقا ” (4). والفهر: حجر يملا الكف، أي في الاستدارة واكتنازها بحيث لا يتخللها خلاء ولا يتميز فيها شئ عن شئ، والرتق: الالتزاق. قال العلامة السبزواري: وما قيل أنها تناقض قوله تعالى: ” والارض بعد ذلك دحاها ” فغير موجه، أما إذا كانت الارض بمعنى الجهة السفلية، فخلق ما في الارض لا يستلزم خلق ذلك الجسم المسمى بالارض أيضا، لا الصغير منه ولا العظيم، وإن كانت بمعنى التقدير، فلا يستلزم وجودها، لان إيجاد مادتها التي هي الماء يكفي في إسناد الخلق بمعنى التقدير إليها.


(1) سورة النازعات: الآية 30. (2) سورة البلد: الآية 17. (3) قيل: هو حجر يملا الكف وفي الحديث لما نزل (تبت يدا أبي لهب) جاءت امرأته وفي يدها فهر قال: هو الحجر ملا الكف وقيل: هو الحجر مطلقا والجمع أفهار وفهور، لسان العرب: ج 5، ص 66، في لغة فهر. (4) الكشاف: ج 1، ص 124، نقلا عن الحسن. (*)

[ 216 ]

اقول: لا يخفى أن خلق ما في الارض يستلزم خلقها، لان المراد به الاجسام المواليد والعناصر الثلاثة الباقية إن اريد بالارض معناه الحقيقي، أو الاربعة إن اريد به جهة السفل، والظاهر أن وجود جميع ذلك لا يمكن إلا بعد وجود الارض. فسويهن: أي عدل خلقهن، وقومه، وأخلاه، من العوج والفطور. وضمير (هن) إما راجع إلى السماء، إن فسرت بالاجرام، لانه جمع أو في معنى الجمع، أو مبهم يفسره ما بعده كما في رجلا، وهو أولى لما فيه من التفسير بعد الابهام. سبع سموت: بدل أو تفسير، وعلى تقدير كون الضمير غير مبهم، بدل عن الضمير أو حال عنه، أو مفعول للتسوية على تقدير فسوى منهن سبع سماوات، من قبيل ” واختار موسى قومه ” (1) أو مفعول ثان لجعل على تضمين التسوية معنى الجعل، أو تجوزها عنه، لكن الاخير يفوت معنى التسوية. فإن قلت: إن أصحاب الارصاد أثبتوا تسعة افلاك. قلت: فيما ذكروه شكوك، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد، مع أنه لو ضم إليه العرش والكرسي لم يبق خلاف. قيل: فوجه التخصيص على هذا، أن السماوات على قسمين: قسم منها عنصري يشترك مع الارض وما فيها في المادة عند المحققين، ويدل عليه الكتاب والسنة، وهو سبع تسمى عند أهل الشرع بالسماوات، وقسم منها طبيعي غير عنصري، وهو الباقيان منها المسميان بالعرش والكرسي، وعند غيرهم بالفلك الاطلس وفلك الثوابت، ولا تميز بينها عند غيرهم، لان الكل عندهم طبيعي غير عنصري وكأن التميز بينها بلسان أهل الشرع إنما وقع بناء على أن أحكام القيامة، كالطي، وتكوير الكواكب وانتشارها وغير ذلك مختص بالسماوات السبع، لا يتعداها إلى العرش والكرسي. وهو بكل شئ عليم: اعتراض لبيان أن خلق السماوات على سبيل


(1) سورة الاعراف: الآية 155. (*)

[ 217 ]

[ وإذ قال ربك للملئكة إنى جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم ءادم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملئكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين (31) ] الاحكام، وخلق ما في الارض على حسب حاجات أهلها، لان علمه الكامل برهان لمي على تحقق الاتقان في أفعاله، وظهور الاتقان فيها دليل إني على إثبات علمه. وقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا بإسناده إلى الحسن العسكري (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين في قول الله عزوجل: ” هو الذى خلق لكم ما في الارض جميعا ” لتعتبروا ولتتوصلوا به إلى رضوانه وتتوقوا به من عذاب نيرانه، ” ثم استوى إلى السماء ” أخذ في خلقها وإتقانها، ” فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم ” ولعلمه بكل شئ علم بالمصالح، وخلق لكم كل ما في الارض لمصالحكم يابن آدم (1). وقد سكن نافع وأبو عمرو والكسائي الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بقصد (2). وإذ قال ربك: تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم، فإن خلق آدم و إكرامه إنعام يعم ذريته. و (إذ) ظرف وضع لزمان عين بإضافته إلى نسبة واقعة في الزمان الماضي، كما


(1) عيون اخبار الرضا: ج 2، ص 12، ح 29. (2) النشر في القراءات العشر: ج 2، ص 209. (*).

[ 218 ]

أن (إذا) موضوع لزمان عين بإضافته إلى نسبة واقعة في الزمان المستقبل، ولهذا وجبت إضافتهما إلى الجملة، والغالب ظرفيتهما لنسبة اخرى مثلهما، وقد يستعمل (إذ) اسما من غير ظرفية، كما وقع مفعولا به في قوله: ” واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ” (1) وبنيتا تشبيها بالموصولات. ف‍ (إذ) في الآية منصوب المحل بتقدير اذكر، أو اذكر الحادث، أو بقالوا، أو بمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة، مثل ” وبدء خلقكم إذ قال “، وعلى هذا فالجملة معطوف على خلق لكم، داخلة في حكم الصلة. وقيل: إنه مزيد. والقول: الحكاية، نحو قولك: قال زيد خرج عمرو، ويتعدى أبدا إلى مفعول واحد، ويكون جملة، أو ما يحكي معناها، إلا إذا ولي حرف الاستفهام ولم ينفصل عنه بغير ظرف أو كظرف، أو معمول فإنه حينئذ ينصب مفعولين إلا عند سليم، فإنهم ينصبون به مفعولين وإن لم يل الاستفهام. للملئكة: جمع ملئك على الاصل، فإن أصل ملك، ملئك كالشمائل جمع شمئل، واشتقاقه من (م ل ك) بزيادة – الهمزة – لدورانها مع الشدة والقوة، ومعنى الشدة والقوة يعم الملائكة (عليهم السلام) كلهم، والدليل عليه قوله تعالى: ” يسبحون بالليل والنهار لا يفترون ” (2) وأن الله جعلهم وسائط معظم ما يظهره في هذا العالم. أو من الالوك، والالوكة بفتح الهمزة بمعنى الرسالة، فالميم زائدة، وفيما بين العين والفاء قلب، والاصل مألك، على أنه موضع الرسالة، أو مصدر بمعنى المفعول. فعلى هذا يكون إطلاقه عليهم، باعتبار بعضهم، لان معنى الرسالة لا يعم كلهم، لقوله تعالى ” الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ” (3) وأما قوله ” جاعل الملائكة رسلا ” (4) فمخصوص، جمعا بين الآيتين.


(1) سورة الاعراف: الآية 86. (2) سورة الانبياء: الآية 20. (3) سورة الحج: الآية 75. (4) سورة فاطر: الآية 1. (*)

[ 219 ]

وقيل: قد جاء ” لاك ” بمعنى أرسل، فلا قلب. والتاء، إما لتأنيث، الجمع فإن الجمع مؤنث بتأويل الجماعة، أو لتأكيد معنى الجمع كما في علامة ونسابة. واختلف العلماء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها. فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك، وهو الحق. وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للابدان. وقال الحكماء: إنها هي العقول، منقسمة إلى قسمين: قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق، والتنزه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال: ” يسبحون الليل والنهار لا يفترون ” (1) وهو العليون والملائكة المقربون. وقسم تدبر الامر من السماء إلى الارض، على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الالهي، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم المدبرات أمرا، فمنهم سماوية ومنهم أرضية. والمراد بها إما كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وإما إبليس ومن كان معه في محاربة الجن فإنه تعالى أسكنهم في الارض أولا، فأفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فدمرهم وفرقهم في الجزائر، وإما ملائكة الارض، وهو أولى، والمخصص قوله في الارض. إنى جاعل في الارض خليفة: وقرئ خليقة بالقاف. وجاعل: إن كان متعديا إلى مفعولين، ففي الارض مفعوله الثاني، وإلا كان متعلقا به. والخليفة من يخلف غيره، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به إما آدم وحده، أو مع


(1) سورة الانبياء: الآية 20. (*)

[ 220 ]

بعض بنيه أو كله، وإفراد اللفظ إما للاستغناء بذكره، كما استغنى بذكر أبي القبيلة في قولهم (مضر – وهاشم) أو على تأويل من يخلقكم فعلى الاول، المراد أنه خليفة الله في أرضه، أو خليقة من سكن الارض قبله، وعلى الثاني والثالث أنهم يخلفون من قبلهم، أو يخلف بعضهم بعضا. والاحتياج إلى الخليفة إنما هو في جانب المتخلف عليه، لقصورهم عن قبول فيضه بغير وسط، ولذلك لم يستنبئ ملكا، والانبياء لما فاقت قريحتهم أرسل إليهم الملائكة، ومن كان منهم أعلى رتبة، كلمه بلا واسطة، كما كلم موسى في الميقات ومحمدا في المعراج. وفائدة قوله هذا ” للملائكة ” تعليم للمشاورة وتعظيم لشأن المجعول، بأن بشر بوجوده سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء: من استخلاف من يفسد في الارض لاصلاحها، أو اختيار أهل المعصية على أهل الطاعة، و استكشاف عما خفي عليهم من الحكمة فيه، وعما يزيل شبهتهم استكشاف المتعلم عن معلمه عما يخالج صدره، وليس باعتراض على الله تعالى، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة. وإنما حكموا بذلك لما علموا: أن المجعول خليفة هو النوع الاخير من الحيوان، وكانوا يشاهدون من أنواعه المتقدمة عليه وجود آثار القوة الشهوية والغضبية، تنبهوا لوجودهما فيه وحكموا عليه بترتب آثارهما التي من جملتها الافساد وسفك الدماء، أو لما عرفوا ذلك بإخبار من الله، أو تلق من اللوح المحفوظ، أو استنباط عما ثبت في علمهم أن العصمة من خواصهم، أو قياس لاحد الثقلين على الآخر. والسفك والسبك، والسفح، والشن، والسن: أنواع من الصب، فالسفك يقال في الدم والدمع، والسبك في الجواهر المذابة، والسفح في الصب من أعلى، والشن والسن في الصب عن فم القربة ونحوها. وقرئ يسفك بضم الفاء، ويسفك ويسفك من أسفك وسفك، ويسفك


[ 221 ]

على البناء للمفعول، فيكون ضمير من الموصولة أو الموصوفة مقدرا، أي يسفك الدماء فيهم: والدماء: جمع الدم بحذف لامه واوا كان أو ياء، لقولهم في تثنيته دموان و دميان، فالدماء أصله دماو، أو دماي اعلت إعلال كساء ورداء. ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك: حال من فاعل تجعل، يقرر معنى التعجب والاستكشاف المذكورين، ونظيره، اتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالاحسان، والمعنى: استخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود الاستفسار عن المرجح، لا العجب والتفاخر. وكأنهم علموا أن المجعول ذو ثلاث قوى، عليها مدار أمره، شهوية وغضبية يؤديان إلى الفساد، وعقلية تدعوه إلى المعرفة، ونظروا إليها مفردة، قالوا: ما الحكمة في استخلاف من هو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده، فضلا عن استخلافه، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن المعارض، وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل متمرنة على الخير كالفقه والشجاعة ومجاهدة الهوى والانصاف، ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد، كالاحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف وكذلك حكم عليهم بعدم العلم بما يعلم هو تعالى. والتسبيح: تبعيد الله من السوء، وكذلك التقديس، من سبح في الارض والماء، وقدس في الارض: إذا ذهب فيها وأبعد، ويقال: قدس طهر، لان مطهر الشئ مبعده عن الاقذار. وفي كلام بعض الفضلاء: أن التسبيح تنزيه الجناب الالهي عن النقائص و نفيها عنه، والتقديس تنزيه عن النقائص وعن صلاحية قبوله إياها وإمكانها فيه، فهو أبلغ من التسبيح، ولذلك اخر عنه في هذه الآية، وفي قولهم سبوح قدوس. وبحمدك: حال، أي نسبح ونقدس متلبسين بحمدك، وقيل: الباء للسببية فيتعلق بالتسبيح. والتسبيح: إشارة إلى الثناء عليه بالصفات الثبوتية، والتقديس إلى الثناء عليه


[ 222 ]

بالصفات السلبية. واللام في (لك) مزيدة، لتأكيد تعلق التسبيح والتقديس به، لا لتقوية العمل، أو للتعليل، والمعنى نطهر نفوسنا عن المعاصي لاجلك. وقيل: التسبيح والتقديس يعدى بنفسه وباللام، فاللام في المعنى يتعلق بهما. قال إنى أعلم ما لا تعلمون: ومن جملته إني أعلم أن في هذا الجعل من الحكم والمصالح، وهو خفي عليكم. روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن ثابت الحذاء، عن جابر بن زيد الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أراد أن يخلق خلقا بيده، وذلك بعد ما مضى من الجن والنسناس في الارض سبعة آلاف سنة، وكان من شأنه خلق آدم فكشف عن أطباق السماوات وقال للملائكة: انظروا إلى أهل الارض من خلقي من الجن والنسناس، فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الارض بغير الحق، عظم ذلك عليهم وغضبوا وتأسفوا على أهل الارض، ولم يملكوا غضبهم، قالوا: ربنا إنك أنت العزيز القادر الجبار القاهر العظيم الشأن، وهذا خلقك الضعيف الذليل يتقلبون في قبضتك ويعيشون برزقك ويتمتعون بعافيتك، وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام، لا تأسف عليهم ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم و ترى، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك، قال: فلما سمع ذلك من الملائكة قال: إني جاعل في الارض خليفة، يكون حجة لي في أرضي على خلقي، فقال الملائكة: سبحانك أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد بنو الجان ويسفكون الدماء كما يسفك بنو الجان ويتحاسدون ويتباغضون، فاجعل ذلك الخليقة منا، فإنا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء، ونسبح بحمدك ونقدس لك، قال جل وعز: إنى أعلم ما لا تعلمون، إني اريد أن أخلق خلقا بيدي، وأجعل من ذريته الانبياء والمرسلين وعبادي الصالحين والائمة المهتدين، وأجعلهم خلفائي في أرضي ينهونهم عن معصيتي وينذرونهم من عذابي، ويهدونهم إلى طاعتي، ويسلكون بهم


[ 223 ]

طريق سبيلي، وأجعلهم لي حجة عليهم عذرا نذرا، وابيد النسناس من أرضي و اطهرها منهم، وأنقل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وخيرتي، واسكنهم في الهواء وأقطار الارض، فلا يجاورون نسل خلقي، وأجعل بين الجن وبين خلقي حجابا، فلا يرى نسل خلقي الجن ولا يجالسونهم ولا يخالطوهم، فمن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم أسكنتهم مساكن العصاة وأوردتهم مواردهم ولا ابالي، فقالت الملائكة: يا ربنا افعل ما شئت، لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال: فباعدهم الله من العرش مسيرة خمسماءة عام، قال: فلاذوا بالعرش و أشاروا بالاصابع، فنظر الرب عزوجل إليهم ونزلت الرحمة، فوضع لهم البيت المعمور، فقال: طوفوا به ودعوا العرش، فإنه لي رضى، فطافوا به، وهو البيت الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبدا، فوضع الله البيت المعمور توبة لاهل السماء، ووضع الكعبة توبة لاهل الارض، فقال الله تبارك وتعالى: ” إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين “، وكان ذلك تقدمة من الله في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم، فاغترف ربنا عزوجل غرفة بيمينه من الماء العذب الفرات، وكلتا يديه يمين، فصلصلها في كفه حتى جمدت، فقال لها: منك أخلق النبيين والمرسلين، وعبادي الصالحين، والائمة المهتدين، والدعاة إلى الجنة، وأتباعهم إلى يوم القيامة ولا ابالي، ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون. ثم اغترف غرفة اخرى من الماء المالح الاجاج فصلصلها في كفه فجمدت، ثم قال لها: منك أخلق الجبارين والفراعنة والعتاة وإخوان الشياطين والدعاة إلى النار إلى يوم القيامة وأشياعهم ولا ابالي، ولا اسأل عما أفعل وهم يسألون قال: وشرط في ذلك البداء ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء (1) ثم خلط المائين جميعا في كفه فصلصلها، ثم كفأهما قدام عرشه، وهما سلالة من طين، ثم أمر الله الملائكة الاربعة الشمال والجنوب والصبا والدبور


(1) من أراد التحقيق في البداء والروايات الواردة فيه والاقوال الدائرة عليه فليراجع إلى كتاب بحار الانوار الطبعة الحديثة، ج 4، ص 93. (*)

[ 224 ]

أن يجولوا على هذه السلالة من الطين فامرؤها وانشؤها ثم أنزوها وجزوها، وأجروا فيها الطبائع الاربعة الريح والدم والمرة والبلغم، فجالت الملائكة عليها، وهي الشمال والجنوب والصبا والدبور، وأجروا فيها الطبائع الاربعة، الريح في الطبائع الاربعة من البدن من ناحية الشمال، والبلغم في الطبائع الاربعة من ناحية الصبا، والمرة في الطبائع الاربعة من ناحية الدبور، والدم في الطبائع الاربعة من ناحية الجنوب. قال: فاستقلت النسمة وكمل البدن، فلزمه من ناحية الريح حب النساء وطول الامل والحرص، ولزمه من ناحية البلغم حب الطعام والشراب والبر والحلم والرفق، ولزمه من ناحية المرة الحب والغضب والسفه والشيطنة والتجبر والتمرد والعجلة، ولزمه من ناحية الدم حب الفساد واللذات وركوب المحارم والشهوات. قال أبو جعفر عليه السلام: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): فخلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، فكان يمر به إبليس اللعين، فيقول: لامر ما خلقت ! فقال العالم (عليه السلام): فقال إبليس: لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته، قال: ثم نفخ فيه، فلما بلغت الروح إلى دماغه، عطس عطسة فقال: الحمد لله، فقال الله: يرحمك الله، قال الصادق (عليه السلام): فسبقت له من الله الرحمة (1). وعلم ءادم الاسماء كلها: وذلك إما بخلق علم ضروري بها فيه، أو إلقاء في روعه لا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل. والتعليم جعل الشئ عارفا بشئ من غير انتساب حكم إليه، من العلم المتعدي إلى مفعول واحد، والاعلام جعل الشئ عالما بنسبتة بين الشيئين من العلم المتعدي إلى مفعولين. وآدم إما من الادمة بضم الهمزة: أي السمرة، أو الادمة بفتحها أي الاسوة، أو الادم والادمة بالفتح أي الالفة، أو أديم الارض، لما روي: أنه خمرت طينته من جميع وجه الارض وهو أديمها (2) ولذلك يأتي بنوه أصنافا، ووزنه على هذه التقادير


(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 36 – 41. (2) الظاهر أن الحديث منقول بالمعنى: ولعل المراد، أورده في البحار: ج 11، باب فضل آدم وحواء، (*)

[ 225 ]

افعل، أو اسم أعجمي على فاعل ك‍ (آذر وعاذر وشالخ) فلا يكون مشتقا مما ذكر، لان اشتقاق الاعجمي من العربي غير معهود، وهو أولى، تعسف، كاشتقاق إدريس من الدرس، ويعقوب من العقب، وإبليس من الابلاس، وهو اليأس. والاسم في اللغة: ما يكون علامة للشئ، يرفعه من مكمن الخفاء إلى منصة الظهور، من الالفاظ والصفات والافعال. وفي العرف: اللفظ الموضوع لمعنى، مركبا أو مفردا، فعلا كان أو حرفا أو غيرهما. وفي الاصطلاح يخص القسم الاخير، والاول والثاني متلازمان هنا، فإن العلم بالالفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني والمعنى أنه سبحانه أراه الاجناس التي خلقها، والقي في روعه: أن هذا فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية. والذي يدل على إرادة العموم، ما رواه الشيخ الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية، فقال: الارضين والجبال والشعاب والاودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: وهذا البساط مما علمه (1). وأما ما رواه رئيس المحدثين في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) – أن الله تبارك وتعالى علم آدم (عليه السلام) أسماء حجج الله تعالى كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحقاء بالخلافة في الارض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال الله تبارك وتعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم


ص 101، ح 6، في خبر ابن سلام انه سأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن آدم لم سمي آدم ؟ قال: لانه خلق من طين الارض وأديمها، قال: فآدم خلق من الطين كله أو من طين واحد ؟ قال: بل من الطين كله. الحديث (1) مجمع البيان: ج 1، ص 76، عند تفسيره للآية الشريفة: (وعلم آدم الاسماء). (*)

[ 226 ]

بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره، فعلموا أنهم أحقاء بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم: ” ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض و أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ” (1) فيدل على العموم أيضا. فإن المعنى علم آدم (عليه السلام) أسماء الاشياء، أي صفاتهم المختصة بهم، وصفات حججه (صلوات الله عليهم) أيضا، ليظهر أنهم أحقاء بأن يكونوا خلفاء في أرضه، فإنه لو لم يعلم أسماء الاشياء لجاز عند عقولهم مساواة جميع ما سواهم في تلك الاسماء، فلا تظهر أحقية الحجج بالخلافة. لا يقال: المراد أحقيتهم بالنسبة إلى الملائكة، وهو يظهر بتعليم أسمائهم فقط. قلنا: نعم لكن أحقيتهم بالنسبة إلى سائر ما من نوعهم كأنه معلوم للملائكة، والنزاع إنما وقع في أحقيتهم بالنسبة إليهم، لكن يظهر من تنزيهم فيما بعد واطمئنانهم أنه تعالى أظهر خاصية جميع الاشياء وأحوالها لهم وظهر لهم المزية. هكذا حقق المقام حتى تتفطن لما قاله العلامة السبزواري في الجمع بين الحديثين من أن الاخير لا ينافي العموم، لانه (عليه السلام) يمكن أن يقتصر في هذا الحديث على ما هو الاهم في هذا المقام، وهو إراءتهم الانبياء والاوصياء خصوصا خاتم النبيين وسيد الاولين والآخرين وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. وقرئ: وعلم آدم الاسماء على البناء للمفعول. ثم عرضهم على الملئكة: وقرأ ابي (2) (ثم عرضها) وقرأ ابن مسعود (ثم عرضهن) (3) والضمير على الاول للمسميات، إما على الاستخدام، وهو أن يذكر لفظ وأريد معنى وبضميره معنى آخر، كقوله:


(1) كمال الدين وتمام النعمة: ص 13، مقدمة المصنف، السر في أمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم. (2 و 3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 77. (*)

[ 227 ]

[ قالوا سبحنك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يادم أنبئهم بأسماءهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموت والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33) ] إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا (1) – اريد بالسماء المطر، وبضميره النبت النابت به. أو على حذف المضاف إليه وإقامته مقامه في افادة تعريف المضاف نحو ” و اشتعل الرأس شيبا ” (2) ويكون من تغليب العقلاء الذكور على غيرهم، وعلى الثاني والثالث للاسماء، إما على الاستخدام أيضا، أو على حذف مضاف، والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها. فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء: الانباء إخبار فيه إعلام، فطلب العالم الانباء بما يعلمه تحصيل للحاصل، وأمر الجاهل بالانباء بما يجهله تكليف بما لا يطاق، فالامر هنا ليس على حقيقته، بل لاظهار عجزهم من أمر الخلافة، فإن الجاهل بأحوال المستخلف عليهم لا يتأتى منه ذلك. إن كنتم صدقين: فيما يلزم مقالتكم، وهي أتجعل فيها إلى آخره من دعوى استحقاقكم الخلافة. والتصديق يتعلق بالانشاء باعتبار لازمه، والمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم


(1) لجرير بن عطية الخطفي التميمي، فالاستخدام فيه، لان للسماء معنيين: أحدهما المطر، والثاني ما ينبت في الارض بسبب المطر، فأراد بلفظ السماء المطر ومن ضمير رعيناه ما ينبت في الارض بسببه. (2) سورة مريم: الآية 4. (*)

[ 228 ]

استحقاق الخلافة، فانبئوني بأسماء المستخلف عليهم وأحوالهم، فإن منصب الخلافة لا يتيسر بدون ذلك. قالوا سبحنك لا علم لنا إلا ما علمتنا: سبحان مصدر كغفران، ويندر إنقطاعه عن الاضافة، ويمتنع حينئذ من الصرف، ويحكم عليه بأنه علم لجنس التسبيح قال: سبحان من علقمة الفاخر، وإذا اضيف ينتصب بفعل مضمر، نحو معاذ الله. وتصدير الكلام به، لتنزيه الحق سبحانه عن منقصة ينبئ الكلام عنها بالنسبة إلى غيره، كنفي العلم في الآية، والتوبة المنبئة عن الذنب في قول موسى (عليه السلام): ” سبحانك تبت إليك ” (1) ونسبة الظلم في قول يونس (عليه السلام): ” سبحانك إني كنت من الظالمين ” (2). وهو إما مصدر مضاف إلى المفعول إن كان قائما مقام فعل متعد، مثل نسبحك، أو إلى الفاعل إن كان قائما مقام فعل لازم مثل تنزهت. والتقدير في قوله إلا ما علمتنا، إما إلا علم ما علمتنا، أو بسبب ما علمتنا إن كان ” ما ” موصولا، أو بسبب تعليمك إيانا إن كانت مصدرية، أو لا علم لنا إلا ما أعطيتناه على أن يراد بالتعليم جزء معناه، فإن التعليم إعطاء العلم. إنك أنت العليم: الذي لا تخفى عليك خافية. الحكيم: المحكم لمبدعاته، الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة. و (أنت) فصل أو تأكيد للكاف، كما في مررت بك أنت، وقد يجوز في المتبوع ما لا يجوز في التابع، نحو يا هذا الرجل، أو مبتدأ خبره ما بعده، والجملة خبر إن. قال العلامة السبزواري: يمكن أن يقال في بيان: أنهم كيف يعلمون أن ما قرره آدم وبينه لهم حق وصدق – أنهم علموا ذلك لما شاهدوا تصديق الله إياه، أو خلق العلم الضروري فيهم عقيب تقريره، أو تصديق الملائكة الكروبين إياه فيما


(1) سورة الاعراف: الآية 143. (2) سورة الانبياء: الآية 87. (*)

[ 229 ]

قاله، أو حصول العلم من المجموع بمجموع ما قاله وبينه على طريق التوزيع، فلما سمع الكل الكل صدقوه في الجميع لمطابقة علمهم وتصديق نظرائهم، أو علمهم نبوته و بعثته على الجان وعلى أولاده الذين سيوجدون من صلبه بإخبار الله تعالى إياهم، أو بظهور خوارق العادات على يده مقارنا لدعوى النبوة. وأقول: يحتمل أن يكون ذلك باراءتهم عند ذلك في اللوح المحفوظ، فيحصل لهم المطابقة مع ما فيه فيحصل لهم العلم. فعلى هذا يلزم على العلامة، إما إثبات قسم رابع للمنفصلة، أو إبطال منفصلته، لانها ليست حقيقية ولا مانع الجمع، وهو ظاهر، ولا مانعة الخلو، لجواز ارتفاع جميع تلك الوجوه لما ذكرنا، اللهم إلا أن يقال: إنها ليست منفصلة، ولا يخفى ما فيه. قال يادم أنبئهم بأسمائهم: للرد عليهم، والتنبيه على أن فيمن يستخلفه فضيلة العلم التي هي مناط استئهال الاستخلاف. وقرئ بقلب الهمزة ياء، وبحذفها أيضا، والهاء مكسورة فيهما. فلما أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم: حيث قلت إني أعلم ما لا تعلمون. إنى أعلم غيب السموت والارض: فإن ما لا يعلمون أعم من غيب السماوات والارض، والقول بالعلم الاعم على وجه الشمول قول بالعلم بالاخص. وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون: هذا أيضا من تتمة مقول القول، و إنما يلزم القول به بالطريق الاولى، لانه إذا علم ما لا يعلمون، فبالطريق الاولى يعلم ما يعلمون. والمراد بالاول أحوالهم الظاهرة، والثاني الباطنة، أو بالاول قولهم: ” أتجعل ” إلى آخره، وبالثاني ما يلزمه من استبطانهم أنهم أحقاء بالخلافة، أو بالاول ما أظهروا من الطاعة، وبالثاني ما أسر منهم إبليس من المعصية. وفي الآية دلالة على أن العلوم كلها من جهته تعالى. والامر كذلك، لانها إما ضرورية فعلها لله تعالى، أو نظرية أقام الادلة عليها، فالعلم كله من عند الله. وعلى


[ 230 ]

شرف الانسان من حيث أنه إنسان. وعلى مزية العلم على العبادة. وعلى أنه شرط في الخلافة. وأنه لا يكون الاسفل خليفة للافضل وإن كان له شرف التقدم، وقد قال ” هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ” (1). قال بعض الفضلاء: وتأويل الآية في بعض بطونها: أن الله سبحانه علم آدم أي الاناسي الكاملين أسماءه كلها سواء كانت إلهية أو كونية، فإن الحقيقة الانسانية الكمالية أحدية جمع الحقائق المظهرية الكمالية والاسماء الالهية الظاهرة فيها وبها، فإن الكل أسماء وتعينات وجوده، وتعليمهم إياه عبارة عن جعلهم عارفين بما في أنفسهم، ثم عرضهم، أي أوردهم في معرض المعارضة للملائكة، فقال لهم أي للملائكة -: أنبئوني من حيث ظهوري فيهم، فإن إنبائي من هذه الحيثية إنباؤهم بأسماء هؤلاء الاناسي الكاملين، أي أسمائي المودعة فيهم، إلهية كانت أو كونية، و إنباؤكم عنها لا يتصور إلا بتحققكم بها والظهور بأحكامها، قالوا: سبحانك لا علم لنا بتلك الاسماء إلا بما علمتنا بإيداعه فينا وجعلنا عارفين به، وذلك لا يستوعب جميع تلك الاسماء، فكيف ننبئهم بها، إنك أنت العليم بما فينا وفيهم، الحكيم المجري علينا أحكامنا على ما يقتضيه علمك، وبهذا ظهر عدم استحقاق الملائكة للخلافة، لان من شرطها الاحاطة بأحوال المستخلف عليه، ثم أقبل على آدم لاظهار استحقاقه لها فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم المودعة فيهم، فإنها بعض ما أودعنا فيك، فعلمك بتفاصيل ما فيك يستلزم العلم بما فيهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال لهم: ألم أقل إني أعلم غيب سماوات الاسماء، أي ما استجن فيها من الاحكام والآثار، وغيب أرض الحقائق الامكانية من الاستعدادات الغير الظاهرية إلا بعد ظهور أحكام الاسماء وآثارها فيها، وأعلم ما تبدون لاقتضاء استعدادكم إبداءه من تلك الاحكام والآثار، واعلم ما كنتم تكتمون، لعدم وفاء استعدادكم بابدائه. وإنما قال أولا أنبئوني، وثانيا أنبئهم، إشارة إلى صحة اسناد الافعال و


(1) سورة الزمر: الآية 9. (*)

[ 231 ]

[ وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكفرين (34) وقلنا يادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين (35) ] إيقاعها على كل من الظاهر والمظهر. وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لادم: عطف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلا عطف مع ما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة، لبيان نعمة رابعة عامة لجميع الناس. والمراد بالملائكة كلهم، وقيل: المراد ما عدا الملائكة المهيمين الذين خلقوا هاموا في جمال الله وجلاله، ولا شعور لهم بوجود العلم، فكيف بوجود آدم، وبعد ذلك إما مخصوصة بالملائكة الارضيين، أو أعم. قيل: وهذا القول بعد الانباء وإظهار فضل آدم على الملائكة، والاظهر أنه أمرهم به قبل أن سوي خلقه لقوله تعالى ” فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ” (1) إمتحانا لهم وإظهارا لفضله. ولما رويناه سابقا من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): وكان ذلك من الله تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم (2). والسجود الخضوع والتذلل، وصورته الكاملة وضع الجبهة على الارض، وهو لله سبحانه على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة.


(1) سورة الحجر: الآية 29. (2) تقدم في تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 36 – 41. (*)

[ 232 ]

والمسجود له إما الله سبحانه، وآدم جعل قبلة، فاللام فيه كاللام في قول حسان: أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعرف الناس بالقرآن والسنن (1) أو سببا لوجوبه، فاللام فيه كاللام في قوله: ” أقم الصلاة لدلوك الشمس ” (2). أو آدم، فاللام، فيه كاللام في قولهم: ” سجدت له “. فسجدوا: قيل: الضمير راجع إلى المأمورين بالسجود أعم من الملائكة والجن، فإن الجن كانوا أيضا مأمورين، لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم، فإنه إذا علم أن الاكابر مأمورون بالتذلل لاحد والتوسل به، علم أيضا أن الاصاغر مأمورون به. إلا إبليس: اختلفوا في أنه من الملائكة، أو من الجن، والحق هو الثاني. يدل عليه ما رواه علي بن إبراهيم قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عما ندب الله الخلق إليه، أدخل فيه الضلال ؟ قال: نعم، والكافرون دخلوا فيه، لان الله تبارك وتعالى أمر


(1) هو أبو عبد الرحمن وأبو الوليد، حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الانصاري الخزرجي، المتوفى عام أربع وخمسين وله مئة وعشرون سنة. تنقيح المقال: ج 1، ص 264، تحت رقم 2420. وفي الارشاد للمفيد في باب طرف من أخبار أمير المؤمنين (عليه السلام): ص 22: نسبه لخزيمة بن ثابت الانصاري. وفي المناقب للخوارزمي: ص 8، نسبة إلى عباس بن عبد المطلب. وقبله: ما كنت أحسب أن الامر منحرف (منصرف) * عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالآثار والسنن وبعده: وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن من فيه ما في جميع الناس كلهم * وليس في الناس ما فيه من الحسن ماذا الذي ردكم عنه فتعرفه * ها أن بيعتكم من أول الفتن (2) سورة الاسراء: الآية 78. (*)

[ 233 ]

الملائكة بالسجود لآدم فدخل في أمره الملائكة وإبليس، فإن إبليس كان مع الملائكة في السماء يعبد الله، وكانت الملائكة تظن أنه منهم، ولم يكن منهم، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند ذلك أن إبليس لم يكن منهم، فقيل له (عليه السلام): فكيف وقع الامر على إبليس وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؟ فقال: كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة، وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم وكان إبليس فيهم حاكما في الارض، فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء، فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم (1). وما رواه الشيخ الطبرسي عن رئيس المحدثين الشيخ أبي جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن إبليس أكان من الملائكة، أو كان يلي شيئا من أمر السماء ؟ فقال: لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء، وكان من الجن وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها، فلما امر بالسجود لآدم، كان منه الذي كان (2). وما وقع في القرآن من قوله: ” إلا إبليس كان من الجن ” (3). ومن قوله: ” لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ” (4). فنفى المعصية عنهم نفيا عاما. أبى واستكبر وكان من الكفرين: أي امتنع أشد امتناع عن قبول ما امر به، وتعظم على آدم، وكان في علم الله قبل ظهور هذا الامتناع والاستكبار


(1) البرهان في تفسير القرآن: ج 1، ص 76، الحديث 4. (2) مجمع البيان: ج 1، ص 82، في تفسيره لقوله تعالى: ” وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم “. (3) سورة الكهف: الآية 50. (4) سورة التحريم: الآية 6. (*)

[ 234 ]

من الكافرين المطرودين، فظهر آخرا ما كان أولا. وقلنا يادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين: رغدا وصف للمصدر، أي أكلا رغدا واسعا. وقيل: الشجرة، الحنطة، وقيل: الكرمة، وقيل: التينة. وفي عيون أخبار الرضا: بإسناده إلى عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يابن رسول الله، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحوا، وما كانت، فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال: كل ذلك، حق، قلت: فما معنى تلك الوجوه على اختلافها ؟ فقال: يا أبا الصلت، إن شجرة الجنة يحتمل أنواعا، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ليست كشجرة الدنيا، وإن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته وبإدخاله الجنة، قال في نفسه: هل خلق الله بشرا أفضل مني ؟ فعلم الله عزوجل ما وقع في نفسه، فناداه إرفع رأسك يا آدم وانظر إلى ساق عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش، فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم: يا رب، من هؤلاء ؟ فقال عزوجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار، ولا السماء ولا الارض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، وتمني منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما عن جواره إلى الارض (1). وفي مجمع البيان: ولا تقربا هذه الشجرة، أي لا تأكلا منها، وهو المروي


(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 306، باب 28، فيما جاء عن الامام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) من الاخبار المتفرقة، ح 67. (*)

[ 235 ]

[ فأزلهما الشيطن عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتع إلى حين (36) فتلقئ ادم من ربه كلمت فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) ] عن الصادق (عليه السلام) (1). وقيل: هي شجرة الكافور. يروى عن علي (عليه السلام) (2). فتكونا جزم عطف على تقربا، أو نصب جواب للنهي. فأزلهما الشيطن عنها: أي الشجرة، أي بسببها. فأخرجهما مما كانا فيه: من الجنة. وقلنا: لآدم وحواء بالمشافهة، ولذريتهما بالتبعية. اهبطوا بعضكم لبعض عدو: تتعادون. ولكم في الارض مستقر: أي محل استقرار. ومتع: أي تمتع. إلى حين: مجئ الموت أو القيامة. فتلقئ ادم من ربه كلمت فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم: والمراد بالكلمات، إما قوله: ربنا ظلمنا أنفسنا الآية، أو قوله: سبحانك اللهم وبحمدك و تبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. والاصح أن المراد قوله: اللهم بجاه محمد وآله الطيبين، بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم لما تفضلت علي بقبول توبتي


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 85، في تفسيره لقوله تعالى: ” وقلنا يا آدم اسكن “. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 85، في تفسيره لقوله تعالى: ” وقلنا يا آدم اسكن “. (*)

[ 236 ]

[ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بايتنا أولئك أصحب النار هم فيها خلدون (39) يبنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيى فارهبون (40) وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بايتى ثمنا قليلا وإيى فاتقون (41) ] وغفران زلتي، وإعادتي من كراماتك إلى مرتبتي. قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بايتنا أولئك أصحب النار هم فيها خلدون. وقرئ ” فمن تبع هدي ” على لغة هذيل، فلا خوف بالفتح (1). يبنى إسرءيل: يعني أولاد يعقوب، وإسرائيل في الاصل صفوة الله، أو عبد الله، سمي به يعقوب للمدح. اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم: من الانجاء من فرعون مثلا. وأوفوا بعهدي: من الايمان بي والطاعة لي. أوف بعهدكم: من حسن الثواب على حسناتكم.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 90. (*)

[ 237 ]

[ ولا تلبسوا الحق بالبطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واركعوا مع الركعين (43) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخشعين (45) ] وإيى فارهبون: فلا تنقضوا عهدي. وءامنوا بما أنزلت: من القرآن. مصدقا لما معكم: من التوراة والانجيل وغيرهما. ولا تكونوا أول كافر به: أول فوج كفر به. ولا تشتروا: لا تستبدلوا. بايتى ثمنا قليلا: من الرئاسة التي تخافون أن تفوت عنكم باتباع محمد، والشئ الذي تأخذونه من رعاياكم على تحريف الكلم وتسهيل ما صعب عليهم من الشرائع. وإيى فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالبطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلوة: أي صلاة المسلمين. وءاتوا الزكوة: زكاتهم. واركعوا مع الركعين: منهم، لان اليهود لا ركوع في صلاتهم. أتأمرون الناس: من أقاربكم في الخفية. بالبر: اتباع محمد. وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب أفلا تعقلون واستعينوا: في حوائجكم.


[ 238 ]

[ الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه رجعون (46) يبنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العلمين (47) واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48) ] بالصبر: أي الصوم. والصلوة: أي الصلاة. وإنها لكبيرة إلا على الخشعين * الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه رجعون * يبنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم: التكرير للتوكيد، وتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم خصوصا، والربط بالوعيد الشديد تخويفا لمن غفل عنها وأخل بحقوقها. وأنى فضلتكم: نصب عطف على نعمتي، أي وتفضيلي. على العلمين: أي عالمي: المراد تفضيل آبائهم الذين كانوا في عصر موسى (عليه السلام) وبعده قبل أن يغيروا بما منحهم الله من العلم والايمان والعمل الصالح وجعلهم أنبياء وملوكا مقسطين. ويحتمل أن يكون المعنى على الجم الغفير من الناس، كقوله: ” باركنا فيها للعالمين ” (1) يقال: رأيت عالما من الناس، يراد الكثرة، فعلى هذا لا يستقيم ما قيل إن في الآية دلالة على تفضيل البشر على الملك. واتقوا يوما: فيه مجاز عقلي، أي ما فيه من الحساب والعذاب، والتنكير للتفخيم.


(1) سورة الاعراف: الآية 137، وسورة الانبياء: الآية 71 و 81. (*)

[ 239 ]

لا تجزى نفس عن نفس شيئا: أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق، فيكون (شيئا) مفعولا به، أو لا تجزي عنها شيئا من الجزاء، أي قليلا منه، فيكون نصبا على المصدر، كقوله ” ولا تظلمون شيئا ” (1). وقرئ (لا تجزء) من أجزأ عنه، إذا أغنى، وعلى هذا تعين أن يكون مصدرا، أي شيئا من الاغناء، وقرئ ” لا تجزي نسمة عن نسمة شيئا “. وتنكير الشئ مع النفيين، للاقناط الكلي والتعميم. والجملة في محل النصب صفة ليوما، والعائد محذوف، والتقدير لا تجزي فيه، و إن لم نجور حذف يقال: اتسع فيه، فحذف الجار أولا، واجري مجرى المفعول، ثم حذف كما حذف من قوله: كتبت إليهم كتابا مرارا * فلم يرجع إلى منهم جواب فما أدري أغيرهم تناه * وطول العهد أم مال أصابوا (2) أي اصابوه. ولا يقبل منها شفعة: من الشفع، فإن المشفوع كان فردا، فجعله الشفيع زوجا بضم نفسه إليه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتاء. ولا يؤخذ منها: أي من النفس الثانية العاصية، أو الاولى. عدل: المراد به الفدية، وقيل: مطلق البدل، وأصله التسوية، سميت به الفدية، لانها سويت بالمفدى، والمقصود بالآية: نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل، فانه إما أن يكون قهرا أو غيره، والاول النصرة، والثاني إما أن يكون مجانا أو غيره، والاول أن يشفع له، والثاني إما بأداء ما كان عليه وهو أن


(1) سورة البقرة: الآية 279. (2) وقد استشهد به البيضاوي: ج 1، ص 55، ولم يسم قائله، قال عند تفسيره للآية: ومن لم يجوز حذف العائد المجرور قال: اتسع فيه، فحذف عنه الجار واجري مجرى المفعول به، ثم حذف كما حذف من قوله: أم مال أصابوا. (*)

[ 240 ]

[ وإذ نجينكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49) وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50) ] يجزي عنه، أو بغيره وهو أن يعطي عنه عدلا. ولا هم ينصرون: الضمير يرجع إلى النفوس الكثيرة التي دلت عليها النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي. والنضرة: أخص من المعونة، لاختصاصها بدفع الضرر. واستدلت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لاهل الكبائر قال البيضاوي: واجيب بأنها مخصوصة بالكفار، للآيات والاحاديث الواردة في الشفاعة، قال: ويؤيده أن الخطاب معهم، والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم (1). أقول: الآية يحتمل أن تكون مخصصة للآيات والاحاديث الواردة في الشفاعة الدالة على عمومها، كما أن كون الخطاب معهم يحتمل أن يكون مؤيدا للتخصيص بالكفار، فلا يتم الاستدلال من الجانبين، فتأمل. وإذ نجينكم: عطف على نعمتي، كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة، فصل بعد الاجمال في قوله: ” نعمتي ” لانه أوقع وأمكن في النفس. وقرئ (نجيناكم) و (أنجيتكم). من ءال فرعون: أصل (آل) أهل، لان تصغيره اهيل، اعل وخص استعماله


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 55. (*)

[ 241 ]

بالاضافة إلى اولي الخطر كالانبياء والملوك. قال الكسائي: سمعت أعرابيا يقول: آل واؤيل وأهل وأهيل، فأصله أءل بالهمزة (1). وفرعون: لقب لمن ملك العمالقة، ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم، ولقبوا الفراعنة، اشتق منه تفرعن الرجل، إذا عتى وتجبر. قال البيضاوي: وكان فرعون موسى: مصعب بن ريان، وقيل اسمه وليد من بقايا عاد، وفرعون يوسف (عليه السلام) ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة (2). يسومونكم: أي يبغونكم، يقال: سامه خسفا، إذا أولاه ظلما، أي أصابه إياه، وأصل السوم الذهاب في طلب الشئ. سوء العذاب: أي أفظعه، فإنه قبيح بالاضافة إلى سائره، يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبيحهما، والسوء مصدر ساء يسوء، ونصبه على المفعول ل‍ (يسومونكم) والجملة حال من الضمير في أنجيناكم، أو من آل فرعون، أو منهما. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم: بيان ل‍ (يسومونكم) ولذلك فصل، وقرئ بالتخفيف. وإنما فعلوا بهم ذلك، لان فرعون رأى في المنام، أو قال له الكهنة: سيولد منهم من يذهب بملكه، فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئا، ويستحيون نساءهم، أي يبقونهن طلبا لحياتهن ويتخذوهن إماء، وزعم بعضهم أنه من طلب الحياء، أي الفرج، أي ينظرن هل هن حبالى أم لا. وفى ذلكم بلاء: محنة إن اشير بذلك إلى صنعهم، ونعمة إن اشير به إلى الانجاء وأصله الاختبار، لكن لما كان إختبار الله عباده تارة بالنعمة، وتارة


(1) تفسير روح المعاني: ج 3، ص 253. (2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 55. (*)

[ 242 ]

بالمحنة، أطلق عليهما، ويجوز أن يشار بذلك إلى الجملة، ويراد به الامتحان الشائع بينهما. من ربكم: بتسليطهم عليكم، أو ببعث موسى وتوفيقه لتخليصكم، أو بهما. عظيم: صفة بلاء. وفي الآية إشعار بأنه قد يكون إصابة العبد بالخير والشر من اختبار الله سبحانه العبد، فيجب أن لا يغتر بما أنعم عليه فيطغى، ولا ييأس من روح الله بما ضيق عليه فيعيش ضنكا، وأن يكون دائما راجيا خائفا مستشعرا لما اريد منه. قال البيضاوي: وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر اختبار من الله، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره، ليكون من خير المختبرين (1). ولا يخفى عليك أنه إنما يصح بناء على قاعدة كسب الاعمال، وقد أبطلناها في مقامها، مع أنه ينافي ما سبقها من إسناد الذبح والاستحياء إلى آل فرعون، والله أعلم بحقائق الامور. وإذ فرقنا بكم البحر: فصلنا بين بعضه وبعضه حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه، أو بسبب إنجائكم، أو متلبسا بكم. والفرق هو الفصل بين الشيئين، بالفتح مصدر، وبالكسر الطائفة من كل شئ. والبحر، يسمى بحرا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه. وقرأ الزهري في الشواذ على بناء التكثير، لان المسالك كانت اثني عشر بعدد الاسباط. فأنجينكم وأغرقنا: الغرق: الرسوب في الماء، والنجاة: ضد الغرق، كما أنها ضد الهلاك. ءال فرعون: أراد به فرعون وقومه، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 56. (*)

[ 243 ]

به، وقيل: شخصه، كما يقال: اللهم صل على آل محمد، أي شخصه، واستغنى بذكره عن أتباعه. والاحسن فيه أنه من باب راكب الناقة طليحان، اعتبارا للمضاف والمضاف إليه، أي هو والناقة. وأنتم تنظرون: ذلك، أو غرقهم، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل، أو ينظر بعضكم بعضا. ذكر الشيخ الطبرسي في تفسيره عن ابن عباس: أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر، فسرى موسى (عليه السلام) بهم ليلا، فاتبعهم فرعون في ألف الف حصان سوى الاناث، وكان موسى في ستمائة ألف و عشرين ألفا، فلما عاينهم فرعون قال: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون و إنا لجميع حاذرون فسرى موسى بهم حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج (1) دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه، فقال موسى: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون فقال له يوشع بن نون: بم امرت ؟ قال: امرت أن أضرب بعصاي البحر، قال: اضرب، وكان الله تعالى أوحى إلى البحر: أن أطع موسى إذا ضربك، فبات البحر له إفكل، أي رعدة، لا يدري في أي جوانبه يضربه، فضرب بعصاه البحر فانفلق، وظهر اثنا عشر طريقا، فكان لكل سبط طريق يأخذون فيه، فقالوا: إنا لا نسلك طريقا نديا، فأرسل الله ريح الصبا حتى جففت الطريق كما قال: فاضرب لهم طريقا يبسا، فجروا فيه، فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: مالنا لا نرى أصحابنا، فقالوا لموسى: أين أصحابنا ؟ فقال: في طريق مثل طريقكم، فقالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى إليه أن فل بعصاك هكذا وهكذا يمينا وشمالا، فأشار بعصاه يمينا وشمالا فظهر كالكوة ينظر منها بعضهم إلى بعض، فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر وكان على فرس حصان


(1) الرهج: ما اثير من الغبار. (*)

[ 244 ]

[ وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) وإذءاتينا موسى الكتب والفرقان لعلكم تهتدون (53) ] أدهم، فهاب دخول الماء، تمثل له جبرئيل على فرس انثى وديق (1) وتقحم البحر، فلما رآها الحصان تقحم خلفها ثم تقحم قوم فرعون، ولما خرج آخر من كان مع موسى من البحر، ودخل آخر من كان مع فرعون البحر أطبق الله عليهم الماء فغرقوا جميعا ونجا موسى ومن معه (2). واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل، ومن آياته الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم، وتصديق موسى (عليه السلام)، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ونحو ذلك، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن امة محمد (صلى الله عليه وآله)، فإنهم اتبعوه مع أن ما تواتر من معجزاته امور نظرية دقيقة يدركها الاذكياء، وإخباره (عليه السلام) عنها من جملة معجزاته (صلى الله عليه وآله). وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة: بعد عودهم إلى مصر وهلاك فرعون، وعد الله موسى أن يعطيه التوراة، وضرب له ميقاتا ذي القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي، لانها غرر الشهور، أو لان وعد موسى وعد قيام الاربعين والقيام بالليل أهم، فذكر الليل إشعار بوعدة قيام الليل، أو لان الظلمة سابقة على النور.


(1) ودقت ذات الحافر: أرادت الفحل فهي وديق. (2) مجمع البيان: ج 1، ص 107، في قصة فرعون مع بني إسرائيل. (*)

[ 245 ]

والقراءة المشهورة ” واعدنا ” لانه تعالى وعده الوحي، ووعده موسى المجئ للميقات إلى الطور. ثم اتخذتم العجل: معبودا، لانهم بنفس فعلهم لصورة العجل، لا يكونون ظالمين، لان فعل ذلك ليس بمحظور، بل مكروه. وأما الخبر الذي روي عنه (عليه السلام) أنه لعن المصورين (1)، فالمراد به من شبه الله تعالى، أو اعتقد أنه صورة. من بعده: من بعد غيبة موسى، أو من بعد وعد الله التوراة، أو من بعد غرق فرعون وما رأيتم من الآيات. وأنتم ظلمون: مضرون بأنفسكم بما استحققتم من العقاب على اتخاذكم العجل معبودا. روي عن ابن عباس أنه قال: كان السامري رجلا من أهل باجرما، قيل: كان اسمه مسيحا، وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وقد كان أظهر الاسلام في بني إسرائيل، فلما قصد موسى إلى ربه وخلف هارون في بنى إسرائيل، قال هارون لقومه: قد حملتم أوزارا من زينة القوم – آل فرعون – فتطهروا منها فإنها نجس، يعني أنهم استعاروا من القبط حليا واستبدوا بها، فقال هارون: طهروا أنفسكم منها فإنها نجسة، وأوقد نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الامتعة والحلي فيقذفون به فيها، قال: وكان السامري رأى اثر فرس جبرئيل (عليه السلام)، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقال: يا هارون يا نبي الله، القي ما في يدي ؟ قال: نعم، وهو لا يدري ما في يده، ويظن أنه مما يجئ به غيره من الحلي والامتعة، فقذف فيها وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان البلاء والفتنة، فقال: هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط، وقال ابن عباس: فصار البلاء والفتنة. ولم يزد على هذا (2).


(1) لم نعثر عليه. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 109، وفيه: كان اسمه ميخا. (*)

[ 246 ]

[ وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54) وإذ قلتم يموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصعقة وأنتم تنظرون (55) ] وقال الحسن: صار العجل لحما ودما، وقال غيره: لا يجوز ذلك لانه من معجزات الانبياء، ومن وافق الحسن قال: إن القبضة من أثر الملك، كان الله أجرى العادة بأنها إذا طرحت على أي صورة كانت حييت، فليس ذلك بمعجزة، إذ سبيل السامري سبيل غيره فيه، ومن لم يجز انقلابه حيا، نزل الخوار على أن السامري صاغ عجلا وجعل فيه خروقا يدخلها الريح فيخرج منها صوت كالخوار، و دعاهم إلى عبادته فأجابوه وعبدوه (1). ثم عفونا عنكم: حين تبتم، والعفو محو الجريمة، من عفا إذا درس من بعد ذلك: أي بعد الاتخاذ. لعلكم تشكرون: لكي تشكروا عفوه، وفي الآية دلالة على وجوب شكر النعمة، وعلى أن العفو عن الذنب بعد التوبة نعمة من الله تعالى، ليشكروه. وإذءاتينا موسى الكتب والفرقان: يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا و حجة تفرق بين الحق والباطل، فالعطف لتغاير الوصفين، أو الفرقان: معجزاته الفارقة بين الحق والباطل، أو بين الكفر والايمان، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى ” يوم الفرقان ” (2) يريد يوم


(1) مجمع البيان: ج 1، ص 110. (2) سورة الانفال: الآية 41. (*)

[ 247 ]

بدر، وقيل: الفرقان: القرآن، والتقدير: آتينا موسى التوراة وآتينا محمدا الفرقان، فحذف ما حذف لدلالة ما أبقاه عليه. لعلكم تهتدون: لكي تهتدوا بما في التوراة من البشارة بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبيان صفته. وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم: أي فاعزمو على التوبة. فاقتلوا أنفسكم: إن كان توتبتهم هي قتل الانفس، وإلا فالمراد إتمام التوبة بالقتل. وانما جعل القتل توبتهم أو من تمامها، إشارة إلى أن من لم يقتل عدوه وهو النفس يقتله ليعتبر غيرهم، أو إشارة إلى أنهم لما صاروا من حزب العجل جعلوا في زمرته، لان العجل خلق للذبح، والباري الخالق برئ من التفاوت مع التمييز بصور وهيئات مختلفة. وأصل البرء الخلوص للشئ من غيره، إما على سبيل التفصي كقولهم: برأ المريض من مرضه والمديون من دينه. أو الانشاء كقولهم: برأ الله آدم من الطين. واختلف في القتل المأمور به على أقوال: أحدها: البخع، وهو أن يقتل كل رجل نفسه ويهلكها. وثانيها: أن المراد به قطع الشهوات، واستعمال القتل على سبيل التوسع. والثالث: أنهم امروا بأن يقتل بعضهم بعضا. والرابع: أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة، وروي أن الرجل يرى بعضه وقريبه فلم يقدر المضي لامر الله، فأرسل ضبابة (1) وسحابة سوداء لا


(1) الضبابة: سحابة تغشي الارض كالدخان. الصحاح: ج 1، ص 168، وفي النهاية لابن الاثير: ج 3، ص 70، في لغة (ضبب) هي البخار المتصاعد من الارض في يوم الدجن يصير كالظلة تحجب الابصار لظلمتها. (*)

[ 248 ]

يتباصرون تحتها، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي، حتى دعا موسى وهارون فكشف السحابة ونزلت التوبة، وكانت القتلى سبعين الفا (1). والخامس: أن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور، هم الذين قتلوا من عبدة العجل سبعين الفا. والسادس: أن موسى (عليه السلام) أمرهم أن يقوموا صفين، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وجاء هارون بإثني عشر ألفا ممن لم يعبد العجل ومعهم الشفار (2) المزهفة (3) وكانوا يقتلونهم، فلما قتلوا سبعين الفا تاب الله على الباقين، وجعل قتل الماضين شهادة لهم. ذلكم خير لكم عند بارئكم: من حيث أنه طهره من الشرك ووصله إلى الحياة الابدية. فتاب عليكم: جواب شرط محذوف، إن جعل من كلام موسى، والتقدير إن فعلتم ما امرتم به فتاب عليكم، ومعطوف على محذوف إن جعل من خطابه تعالى لهم على سبيل الالتفات، كأنه قال: فعلتم ما امرتم به فتاب عليكم. إنه هو التواب: الذي يكثر توفيق التوبة، أو قبولها. الرحيم: المبالغ في الانعام على التائبين. وإذ قلتم يموسى لن نؤمن لك: أي لاجل قولك، أو لن نقر لك. حتى نرى الله جهرة: عيانا، وهي في الاصل مصدر قولك: جهرت بالقراءة، استعيرت للمعاينة، والجامع بينهما الادراك بلا ساتر، ونصبها على المصدر، لانه نوع من الرؤية، أو الحال من الفاعل أو المفعول، أما على مذهب غير المبرد فظاهر، وأما على مذهبه فلما مر من التعليل في المصدر، لانه ذهب إلى أن الحال لا يكون مصدرا


(1) الكشاف: ج 1، ص 140. (2) الشفرة بالفتح فالسكون: السكين العريض، وما عرض من الحديد وحدد، والجمع شفار ككلبة وكلاب، وشفرات كسجدة وسجدات، ومنه فحمل عليه بالشفرة يريد السيف، ومنه ” أسرع من الشفرة في السنام ” مجمع البحرين: ج 3، ص 352، في لغة شفر. (3) أرهفت سيفي إذا رققته وهو مرهف، ومنه: سيوف مرهفات. مجمع البحرين: ج 5، ص 64. (*)

[ 249 ]

إلا إذا كان نوعا من عامله. وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة، أو جمع جاهر كالكبة فيكون حالا، وقيل: إن قوله: ” جهرة ” صفة لخطابهم لموسى (عليه السلام) وتقديره: وإذ قلتم جهرة: لن نؤمن لك حتى نرى الله، وهو ضعيف. والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات، وقيل: عشرة آلاف من قومه. والمؤمن به: جميع ما جاء به موسى، وقيل: إن الله الذي أعطاك التوراة و كلمك، أو إنك نبي. فأخذتكم الصعقة: لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الاجسام وطلبوا رؤيته، وهي محال، روي أنه جاءت نار من السماء فأحرقتهم وقيل: صيحة، وقيل: جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما و ليلة (1). وأنتم تنظرون: إلى ما أصابكم، أو إلى أثره. واستدل أبو القاسم البلخي (2) بهذه الآية على أن الرؤية لا تجوز على الله تعالى، قال: لانها إنكار تضمن أمرين: ردهم على نبيهم، وتجويزهم الرؤية على ربهم و يؤيد ذلك قوله تعالى ” فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ” (3) فدل ذلك على أن المراد إنكار كلا الامرين. أقول: وفي الآية مع قوله (فقد سألوا موسى) إلى آخره، دلالة على أن الرد على


(1) بالاقوال الثلاثة نقل الاحاديث، لا حظ جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 1، ص 230، قال ما ملخصه: عن الربيع قال: سمعوا صوتا فصعقوا، يقول: فماتوا، وعن السدي: فأخدتكم الصاعقة نار، وعن ابن اسحاق قال: أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا، وأصل الصاعقة كل أمر هائل إلى آخره. (2) هو نصر بن الصباح، أبو القاسم البلخي من مشايخ أبي عمرو محمد بن عمرو بن عبد العزيز الكشي، وله كتاب المسترشد في الامامة. طبقات أعلام الشيعة، القرن الرابع، ص 324. (3) سورة النساء: الآية 153. (*)

[ 250 ]

[ ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) و ظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبت ما رزقنكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57) ] النبي، واعتقاد جواز الرؤية، كل واحد منهما علة لاخذ الصاعقة والعذاب، ومن البين عدم التفاوت بين عدم جواز الرؤية في الدنيا وعدم جوازها في الآخرة، والمنازع مكابر، مع قضية العقل، فمعتقد جوازها في الآخرة شارك معتقد جوازها في الدنيا في علة استحقاق العذاب، كالراد على النبي. وبذلك يثبت كفر أهل السنة القائلين بجوازها في الآخرة للمؤمنين، وللافراد من الانبياء في الدنيا. قال البيضاوي، بعد عده رؤيته تعالى رؤية الاجسام من المستحيلات: بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة، وللافراد من الانبياء في الدنيا في بعض الاحوال (1). واعلم أن هذه الآية تدل أيضا على أن قول موسى: ” رب أرني أنظر اليك ” (2) كان سؤالا لقومه، لانه لا خلاف بين أهل التوراة أن موسى (عليه السلام) لم يسأل الرؤية إلا دفعة واحدة، وهي التي سألها لقومه. ثم بعثنكم: أحييناكم.


(1) أنوار التنزيل (تفسير البيضاوي): ج 1، ص 57، قال في تفسير الآية الشريفة: فإنهم ظنوا أن الله تعالى يشبه الاجسام وطلبوا رؤيته رؤية الاجسام في الجهات والاحياز المقابلة للرائي وهي محال، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولافراد من الانبياء في بعض الاحوال في الدنيا. (2) سورة الاعراف: الآية 143. (*)

[ 251 ]

من بعد موتكم: بسبب الصاعقة وقيد البعث، لانه قد يكون من إغماء ونوم، لقوله تعالى ” ثم بعثناهم ” (1). وقيل: إنهم سألوا بعد الاحياء أن يبعثوا أنبياء، فبعثهم الله أنبياء. وأجمع المفسرون إلا شرذمة يسيرة: أن الله لم يكن أمات موسى كلما أمات قومه، ولكن غشي عليه بدلالة قوله تعالى ” فلما أفاق ” (2) والافاقة إنما تكون من الغشيان. لعلكم تشكرون: نعمه التي منها رد حياتكم. وفي الآية دلالة على جواز الرجعة، وقال أبو القاسم البلخي: لا تجوز الرجعة مع الاعلام بها، لان فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتكال على التوبة في الكرة الثانية (3). واجيب بأن من يقول بالرجعة لا يذهب إلى أن الناس كلهم يرجعون، فيصير إغراء بأن يقع الاتكال على التوبة فيها، بل لا أحد من المكلفين إلا ويجوز أن لا يرجع، وذلك يكفي في باب الزجر. وظللنا عليكم الغمام: سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه. وهي جمع غمامة، وهي السحابة، وأصله التغطية والستر، ومنه الغم. وأنزلنا عليكم المن والسلوى: قيل: الترنجبين، وقيل: الخبز المرقق، وقيل: جميع النعم التي أتتهم مما من الله عليهم مما لا تعب فيه ولا نصب. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين (4). (والسلوى): السماني، وقيل: هو طائر أبيض يشبه السماني، قيل: كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع، ويبعث الجنوب عليهم بالسماني، فيأخذ كل إنسان منهم كفايته إلى الغد إلا يوم الجمعة يأخذ ليومين، لانه لم يكن ينزل يوم


(1) سورة الكهف: الآية 12. (2) سورة الاعراف: الآية 143. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 115. (4) الكافي: ج 6، ص 370، كتاب الاطعمة، باب الكمأة، ح 2. (*)

[ 252 ]

كلوا: نصب على إرادة القول، أي وقلنا لهم: كلوا. من طيبت ما رزقنكم: أي الشهي اللذيذ مما رزقناكم، قيل: أو الحلال، وهذا بناء على تناول الرزق الحرام أيضا. وما ظلمونا: فيه اختصار، تقديره فظلموا بأن كفروا هذه النعمة، وما ظلمونا. ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: بالكفران، لانه لا يتخطاهم ضرره. وكان سبب إنزال المن والسلوى عليهم (على ما ذكره الشيخ الطبرسي): أنه لما ابتلاهم بالتيه، إذ قالوا لموسى: ” اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ” حين أمرهم بالسير إلى بيت المقدس وحرب العمالقة بقوله: ادخلوا الارض المقدسة (1) فوقعوا في التيه، صاروا كلما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستة، وكلما أصبحوا ساروا عادين فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا عنه كذلك حتى تمت المدة، وبقوا فيها أربعين سنة، وفي التيه توفي موسى وهارون، ثم خرج يوشع بن نون. وكان الله تعالى يرد الجانب الذي انتهوا إليه من الارض إلى الجانب الذي ساروا فيه، فكانوا يضلون عن الطريق، لانهم كانوا خلقا عظيما، فلا يجوز أن يضلوا كلهم عن الطريق في هذه المدة المديدة، في هذا المقدار من الارض، ولما حصلوا في التيه ندموا على ما فعلوا، فألطف الله لهم بالغمام لما شكوا حر الشمس وأنزل عليهم المن والسلوى، فكان يسوق عليهم المن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليومهم. وقال الصادق (عليه السلام): كان ينزل المن على بني إسرائيل من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه، فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى طلوع الشمس (2). قال ابن جريح: وكان الرجل منهم إن أخذ من المن والسلوى زيادة على طعام


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 116، في تفسيره لقوله تعالى: ” وضللنا عليهم الغمام “. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 117. (*)

[ 253 ]

[ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطيكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59) ] يوم واحد فسد، إلا يوم الجمعة، فإنهم إذا أخذوا طعام يومين لم يفسد، وكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليوم الجمعة والسبت، لانه كان لا يأتيهم يوم السبت، و كانوا يخبزونه مثل القرصة ويوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن، وكان الله تعالى يبعث لهم السحاب بالنهار فيدفع عنهم حر الشمس، وكان ينزل عليهم بالليل عمودا من نور يضئ لهم مكان السراج، وإذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب بطوله كالجلد (1). ” وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية: أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية هاهنا بيت المقدس، ويؤيده قوله في موضع آخر ” ادخلوا الارض المقدسة ” (2). وقال ابن زيد: إنها أريحا، قرية قريب بيت المقدس، وكان فيها بقايا من قوم عاد، وهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق، امروا به بعد التيه (3). فكلوا منها حيث شئتم رغدا: واسعا بما شئتم من أنواع طعام القرية. وقيل: إن هذه إباحة لهم منه لغنائمها وتملك أموالها، إتماما للنعمة عليهم،


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 117. (2) سورة المائدة: الاية 22. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 118. (*)

[ 254 ]

ونصبه على المصدر، أو على الحال من الواو. وادخلوا الباب: أي باب القرية التي امروا بدخولها. وقيل: باب القبة التي كان يصلون إليها. وقيل: باب حطة من بيت المقدس، وهو الباب الثامن، ورجح البيضاوي الاحتمالين الاولين بأنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى (عليه السلام) (1) وفيه أنهم امروا بدخول الباب بعد خروجهم من التيه، وقد توفي موسى وهارون فيه على ما مر سابقا. سجدا: مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه. وقولوا حطة: أي مسألتنا، أو أمرك حطة، كالحلبة، وقرئ بالنصب على الاصل بمعنى حط منا ذنوبنا حطة. قال البيضاوي: أو على أنه مفعول قولوا: أي قولوا هذه الكلمة (2). وفيه أنه لا يكون مفعول القول إلا جملة مفيدة، أو مفردا يفيد معناها، كقلت شعرا، فالصواب أن يقال حينئذ معناه قولوا أمرا حاطا لذنوبكم، وقيل: أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها. وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: نحن باب حطتكم (3). نغفر لكم خطيكم: بسجودكم ودعائكم. وقرئ بالياء، وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول (4). وخطايا أصله خطائي، كطائع عند سيبويه بدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الالف، واجتمعت همزتان فابدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وصارت الهمزة بين الفين فابدلت ياء (5) وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر (6). وسنزيد المحسنين: ثوابا، جعل الامتثال توبة للمسئ وإحسانا، وأخرجه


(1 و 2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 119. (4 و 5 و 6) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 58. (*)

[ 255 ]

من صورة الجواب، إشعارا بأن الزيادة تفضل منه تعالى، كما قال تعالى: ” ليوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله ” (1) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم: أي فخالف الذين عصوا، ففعلوا غير ما امروا أن يفعلوه، وقالوا غير ما امروا أن يقولوه. واختلف في ذلك الغير، فقيل: إنهم قالوا بالسريانية (هاطا سماقانا) وقال بعضهم: (هطا سماقاتا) ومعناه حنطة حمراء فيها شعيرة، وكان قصدهم في ذلك الاستهزاء ومخالفة الامر، وقيل: إنهم قالوا: حنطة، تجاهلا واستهزاء، وكانوا قد امروا أن يدخلوا الباب سجدا أو طؤطئ لهم الباب ليدخلوه كذلك، فدخلوه زاحفين على استاهم، فخالفوا في الدخول أيضا. فأنزلنا على الذين ظلموا: كرره مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعارا بأن الانزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها. رجزا من السماء بما كانوا يفسقون: عذابا مقدرا من السماء بسبب فسقهم. والزجر في الاصل: ما يعاف عنه، وكذلك الرجس، وقرئ بالضم، وهو لغة فيه، والمراد به الطاعون. روي أنه مات به في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم و شيوخهم، وبقى الابناء، فانتقل عنهم العلم والعبادة (2)، كأنه يشير إلى أنهم عوقبوا بإخراج الافاضل من بينهم. قال النبي (صلى الله عليه وآله) في الطاعون: إنه رجز عذب به بعض الامم قبلكم (3)


(1) سورة فاطر: الآية 30. (2) مجمع البيان: ج 1، ص 120، نقله عن ابن زيد، أورده في ذيل الآية الشريفة (فبدل الذين ظلموا) الآية. (3) صحيح مسلم: ج 4، باب 32، الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، ح 92، ولفظ الحديث ” قال اسامة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الطاعون رجز أو عذاب ارسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه “. (*)

[ 256 ]

[ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين (60) ] وإذ استسقى موسى لقومه: لما عطشوا في التيه. فقلنا اضرب بعصاك الحجر: اللام فيه للعهد، على ما روي أنه كان حجرا طوريا مربعا فحمله معه، وكان تنبع من كل وجه ثلاث أعين، تسيل كل عين في جدول إلى سبط، كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا. أو حجرا أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا أو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالادرة ففر به، فقال له جبرئيل: يقول لك الله تعالى: ارفع لي هذا الحجر، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته (1). وقيل: كانت حجرة فيها اثنتا عشره حفرة، وكانت الحجرة من الكذان وهي حجارة رخوة كأنها مدرة، وكان يخرج من كل حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذونه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء (2). أو للجنس أي اضرب الشي الذي يقال له الحجر، قال الحسن: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة (3). وروي أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى ارض ليست فيها حجارة ! فحمل


(1) الكشاف: ج 1، ص 144، ذيل الآية الشريفة (واذ استسقى موسى لقومه). (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 121. (3) الكشاف: ج 1، ص 144. (*)

[ 257 ]

حجرا في مخلاته، فحيثما نزلوا ألقاه، وكان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى الله إليه: لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون ! (1). وروي كان ذراعا في ذراع (2). وروي أنه كان على شكل رأس الانسان (3). والعصا كانت عشرة أذرع على طول موسى، من آس الجنة وله شعبتان تتقدان في الظلمة (4). فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا: الانفجار: الانشقاق، والانبجاس أضيق منه، فيكون أولا انبجاس ثم يصير انفجارا، أو الانبجاس عند الحاجة إليه، والانفجار عند الاحتياج، أو الانبجاس عند الحمل والانفجار عند الوضع، فلا منافاة بينه وبين ما ذكر في سورة الاعراف (فانبجست) (5) والجملة جواب شرط محذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت، أو معطوف على محذوفة تقديره: فضرب فانفجرت، كما مر في قوله: ” فتاب عليكم ” (6). وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها، وهما لغتان فيه. قد علم كل أناس: كل سبط. مشربهم: عينهم التي يشربون منها. كلوا واشربوا: على تقدير القول، أي وقلنا لهم. من رزق الله: يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى، وماء العيون. وقيل: الماء وحده لانه شرب ويؤكل ما ينبت به. ولا تعثوا في الارض مفسدين: لا تعتدوا حال إفسادكم.


(1) الكشاف: ج 1، ص 144. (2 و 3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 121. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 120. (5) سورة الاعراف: الآية 160. (6) سورة البقرة: الآية 54. (*)

[ 258 ]

[ وإذ قلتم يموسى لن نصبر على طعام وحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بايت الله ويقتلون النبين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61) ] وإنما قيده وإن كان العثي لا يكون إلا فسادا، لانه يجوز أن يكون فعل ظاهره الفساد وباطنه المصلحة كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة، فبين أن فعلهم هو الفساد ظاهرا وباطنا، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا، وجعل بعضهم الحال مؤكدة. فإن قيل: كيف يجتمع ذلك الماء والكثير في ذلك الحجر الصغير ؟ اجيب بأن ذلك من آيات الله الباهرة والاعاجيب الظاهرة الدالة على أنها من فعل الله، فإنه لما أمكن أن يكون من الاحجار ما يحلق الشعر، وينفر الخل، و يجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق في حجر – أو أحدث في كل حجر – قوة تجذب الماء من تحت الارض، أو تجذب الهواء من الجوانب وتصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك. ولي هناك فائدة يجب أن ينبه عليها. فأقول: الممتنع إما ممتنع بأي اعتبار اخذ، أو باعتبار طبيعته وحقيقته مع قطع النظر عن غيره، أو باعتبار العادات والرسوم: فالاول كشريك الباري، والثاني


[ 259 ]

ككون الكبير في الصغير، والثالث ككون الحنطة، خلا والممتنع بالقياس إليه تعالى هو الاول، دون الثانيين، فتأمل فإنه يحتاج إلى لطف وتأمل. وإذ قلتم يموسى لن نصبر على طعام وحد: يريد به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. وبوحدته أنه لا يتبدل كقولهم: طعام مائدة الامير واحد، يريدون أنه لا تتغير ألوانه، ولذلك أجموا (1)، أو ضرب واحد لانهما معا طعام أهل التلذذ، وهم كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم (2) واشتهوا ما ألفوه. وقيل: إنه كان ينزل عليهم المن وحده، فملوه، فقالوا ذلك فأنزل عليهم السلوى من بعد ذلك. فادع لنا ربك: صلة، لاجلنا بدعائك إياه. يخرج لنا: يظهر لنا، وجزمه بأنه جواب الامر المذكور. مما تنبت الارض: من إسناد الفعل إلى القابل، و (من) للتبعيض، والعائد إلى الموصول محذوف. من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها: بيان وقع موقع الحال، وقيل: بدل بإعادة الجار. والبقل: ما أنبتته الارض من الخضر، والمراد به أطائبه التي تؤكل. والفوم: الحنطة. ويقال: للخبز، ومنه فوموا لنا، أي أخبزوا. وقيل: الثوم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود (وثومها) (3)، وقرئ قثائها بالضم، وهو لغة فيه. واختلف في أن سؤالهم هذا هل كان معصية ؟ فقيل: لا، لان الاول كان مباحا فسألوا مباحا آخر.


(1) أجم الطعام: كرهه ومله من المداومة عليه. لسان العرب: ج 12، ص 7، في لغة (أجم). (2) العكر بالكسر: الاصل. لسان العرب: ج 4، ص 599، في لغة (عكر) (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 122. (*)

[ 260 ]

وقيل: بل كان معصية، لانهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم، ولذلك ذمهم على ذلك، وهو أوجه. قال: أي الله، أو موسى. أتستبدلون الذى هو أدنى: أقرب منزلة، وأصل الدنو: القرب في المكان، فاستعير للخسة، كالبعد في الشرف والرفعة. فقيل: بعيد المحل، بعيد الهمة. وقرئ أدناء من الدناءة، وحكى الازهري عن أبي زيد: الدني بغير همزة: الخسيس (1). بالذى هو خير: يريد به المن والسلوى، فإنه خير في اللذة والنفع، وعدم الحاجة إلى السعي. اهبطوا: وقرئ بالضم، أي انحدروا من التيه، يقال: هبط الوادي: إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج عنه. مصرا: أراد به مصرا من الامصار، وهو البلد العظيم، وأصله القطع، لانقطاعه بالعمارة عما سواه، وقيل: أصله الحد بين شيئين. قال الشاعر: وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا (2) أو العلم وصرفه لسكون وسطه، أو على تأويل البلد، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود (3). وقيل: أصله مصرائم، فصرفه للتصرف في العجمية بالتعريف. فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة: جعلت الذلة والمسكنة محيطين بهم مشتملين عليهم، فهم فيهما كما يكون في القبه من ضربت عليه


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 122. (2) القائل عدي بن زيد، كما في مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 122. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 123. (*)

[ 261 ]

أو التصقتا بهم حتى لزمتاهم ضربة لازب كما تضرب الطين على الحائط فيلزمه، مجازاة لهم على كفران النعمة، فاليهود أذلاء أهل مسكنة، إما على الحقيقة، أو لتصاغرهم وتفاقرهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية أو المراد بالذلة: الهوان بأخذ الجزية، وبالمسكنة: كونهم بزي الفقراء، فترى المثري منهم يتمسكن مخافة أن تضاعف عليهم الجزية، أو المراد بالذلة ما يشمل المعنيين، وبالمسكنة: فقر القلب، لانه لا يوجد يهودي غني النفس، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): الغنى غنى النفس (1). وباءو بغضب من الله: رجعوا به، من باء: إذا رجع، أو صاروا أحقاء بغضبه، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بان يقتل به، وأصل البوء المساواة. ذلك: إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة، والبوء بالغضب كائن لهم. بأنهم كانوا يكفرون بايت الله ويقتلون النبين بغير الحق: بسبب كفرهم بالمعجزات، أو بالكتب المنزلة، وآية الرجم، والتي فيها نعت محمد (صلى الله عليه وآله) من الكتب. وقتلهم الانبياء كزكريا ويحيى وغيرهما – عليهم السلام – بغير الحق عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك إتباع الهوى، وهذا أشنع من أن يقتلوه بشئ يعتقدونه جرما حقا باعتقادهم الفاسد. ذلك: أي الكفر بالآيات وقتل الانبياء، صدر عنهم. بما عصوا وكانوا يعتدون: بسبب عصاينهم وتماديهم فيه، فإن التمادي في ضعاف الذنوب يؤدي إلى شدادها، كما أن المواظبة على صغار الطاعات يؤدي إلى تحري كبارها.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 124، في تفسير الآية الشريفة (وإذ قلتم يا موسى) الآية. ومسند أحمد بن حنبل: ج 2، ص 243. وسنن ابن ماجه: ج 2، كتاب الزهد، باب 9، القناعة، ص 1386، ح 4137. ولفظ الحديث (عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس). (*)

[ 262 ]

قال صاحب الكشاف: كرر الاشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكاب المعاصي واعتدائهم حدود الله (1). وفيه نظر، لانه لو كان التكرير لذلك لكفى فيه أن يقول: وبما عصوا. وقال: وعلى تقدير أن يكون ذلك إشارة إلى الكفر والقتل، يجوز أن يكون الباء بمعنى مع، أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا (2)، والاحسن ما قررناه لرعاية اتساق الكلام، وإنما جوزت الاشارة بالمفرد إلى شيئين على تأويل ما ذكرنا وما تقدم للاختصار، ونظيره في الضمير قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع (3) البهق (4). فإن قيل: كيف يجوز التخلية بين الكفار وقتل الانبياء ؟ اجيب بأنه إنما جاز ذلك لينال أنبياء الله سبحانه من رفيع المنازل والدرجات ما لا ينالونه بغير القتل. قال الشيخ الطبرسي: وليس ذلك بخذلان لهم، كما أن التخلية بين المؤمنين والاولياء والمطيعين وبين قاتليهم ليس بخذلان لهم، هذا كلامه (5). والاجود التفصيل بأنه ليس بخذلان بمعنى إنزال العذاب وسوء عاقبة الدار، و غير ذلك مما ينبئ عن خذلان الآخرة وحرمان المثوبة.


(1) الكشاف: ج 1، ص 146. (2) الكشاف: ج 1، ص 146. (3) رجل مولع: أبرص، وأنشد أيضا (كأنها في الجلد توليع البهق) والمولع: كالملمع إلا أن التوليع استطالة البلق، قال رؤبة: فيها خطوط الخ قال أبو عبيدة، قلت لرؤبة: إن كانت الخطوط فقل: كأنها، و إن كان سواد وبياض فقل: كأنهما. فقال: كأن ذا ويلك توليع البلق، لسان العرب: ج 8، ص 411، في لغة (ولع). (4) البهق بياض دون البرص، قال رؤبة: فيه خطوط إلى آخره. البهق: بياض يعتري الجسد بخلاف لونه ليس من البرص، لسان العرب: ج 10، ص 29. أقول: في مادة ولع: فيها خطوط، وهنا: فيه خطوط. (5) مجمع البيان: ج 1 – 2 – ص 125. (*)

[ 263 ]

[ إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صلحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ماءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ] والمروي عن الحسن أن من قتل من الانبياء قد قتل بغير قتال، وأن الله لم يأمر نبيا بالقتال فقتل فيه (1). والمذكور في مجمع البيان: إن الصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته، لم يجز أن يمكن الله سبحانه من قتله، لانه لو مكن من ذلك لادى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف وفيما لهم من الالطاف والمصالح، فأما إذا أدى الشرع فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه وبين قاتليه ولم يجب عليه المنع من قتله (2). وعلى الملازمة التي ادعاها منع، بأنه يجوز أن يكون إزاحة العلل بإرسال النبي و إظهار المعجزة على يده، وقتله بسوء ضيعهم بعد ثبوت نبوته وإعجازه، ناشئ من تهاونهم في نصره وتوازرهم على دفعه، فهم مفوتون تبليغه بسوء فعلهم، فهم غير معذورين بعدم تبليغه. إن الذين ءامنوا: بألسنتهم، يريد به المتدينين بدين محمد (صلى الله عليه وآله)، المخلصين منهم والمنافقين. وقال صاحب الكشاف: المنافقين (3).


(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 125. (3) الكشاف: ج 1، ص 146. (*)

[ 264 ]

لانخراطهم في سلك الكفرة والاول أولى لعموم الفائدة. والذين هادوا: أي تهودوا، يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية. ويهود إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل أو من هاد، إذا مال، لانهم مالوا عن الاسلام وعن دين موسى. أو من هاد إذا تحرك، لانهم كانوا يتحركون عند قراءة التوراة، وإما معرب يهوذا، وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب (عليه السلام)، واليهود اسم جمع، واحده يهودي كالزنجي والزنج والرومي والروم. والنصرى: قال سيبويه: جمع نصران كالندامى (1)، وقيل: جمع نصري مثل مهري ومهارى، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري. سموا بذلك، لانهم نصروا المسيح، أو كانوا معه في قرية يقال: لها نصران أو ناصرة، وعلى تقدير أن يكون اسم القرية نصران يحتمل كون الياء للنسبة. والصبئين: قيل: قوم بين النصارى والمجوس لا دين لهم. وقيل: أصل دينهم دين نوح (عليه السلام). وقيل: هم عبدة الملائكة. وقيل: عبدة الكواكب، من صبأ إذا خرج. وقرأ نافع بالياء وحدها، إما لانه خفف الهمزة، أو لانه من صبا إذا مال، لانهم مالوا عن سائر الاديان إلى دينهم، أو من الحق إلى الباطل. قال الشيخ الطبرسي: والفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم، وعندنا لا يجوز ذلك لانهم ليسوا بأهل كتاب (2). من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صلحا: من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملا بمقتضى شرعه، ومن تجدد منه الايمان و أخلصه. فلهم أجرهم عند ربهم: الذي وعدهم على إيمانهم وعملهم.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 126. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 126. (*)

[ 265 ]

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب. و ” من ” مبتدأ، خبره ” فلهم أجرهم ” والجملة خبر (إن) أو بدل من اسم (إن) وخبرها ” فلهم أجرهم ” والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن، من حيث أنها لا تدخل الشرطية (1). ورد بقوله تعالى: ” إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ” (2). وإذ أخذنا ميثقكم: مفعال من الوثيقة، وهو ما يوثق به من يمين أو عهد أو غير ذلك، يريد به العهد باتباع موسى والعمل بالتوراة. ورفعنا فوقكم الطور: حتى قبلتم الميثاق. والطور في اللغة: الجبل. قال العجاج: دانى جناحيه من الطور فمر * تقضي البازي إذ البازي كسر (3) وقيل: إنه اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى (عليه السلام). روي أن موسى (عليه السلام) لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة، كبرت عليهم، وأبو ا قبولها فأمر جبرئيل (عليه السلام) بقطع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا (4). خذوا: على إرادة القول. ماءاتينكم: من الكتاب. بقوة: بجد وعزيمة.


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 60. (2) سورة الجمعة: الآية 8. (3) استشهد به الفخر الرازي: ج 3، ص 107، وأبو حيان الاندلسي في تفسير البحر المحيط، وابن جرير الطبري في جامع البيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 257، ومجمع البيان للطبرسي: ج 1 – 2، ص 127، كلهم في ذيل الآية الشريفة (ورفعنا فوقهم الطور). (4) نقله في الكشاف: ج 1، ص 147، من غير إسناد إلى الرواية عند تفسيره للآية الشريفة. (*)

[ 266 ]

[ ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخسرين (64) ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خسئين (65) فجعلنها نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66) ] روى العياشي أنه سئل عن الصادق (عليه السلام) من قول الله تعالى: ” خذوا ما آتيناكم بقوة ” أبقوة في الابدان أم بقوة في القلوب ؟ فقال: بهما جميعا (1). واذكروا ما فيه: قيل: معناه ادرسوه ولا تنسوه، أو تفكروا فيه، فإنه ذكر بالقلب، أو اعملوا به. والمروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أن معناه اذكروا ما في تركه من العقوبة (2). لعلكم تتقون: متعلق ب‍ (خذوا) أي لكي تتقوا، أو ب‍ (اذكروا) أي رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو ب‍ (قلنا) المقدر، أي قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا. ثم توليتم من بعد ذلك: أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه. فلولا فضل الله عليكم: بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه. ورحمته: بمحمد (صلى الله عليه وآله) يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه. لكنتم من الخسرين: المغبونين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل، أو بهما. و (لو) في الاصل، لامتناع الشئ لامتناع غيره، فإذا ادخل على (لا) أفاد


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 45، ح 52. (2) مجمع البيان: ج 1، ص 128، في ذيل الآية الشريفة (وإذ أخذنا ميثاقكم). (*)

[ 267 ]

[ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين (67) ] إثباتا، وهو امتناع الشئ لثبوت غيره، والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف، لدلالة الكلام عليه، وسد الجواب مسده، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف (1). ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت: لما اصطاد السموك فيه. والسبت: مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت، وأصله القطع. امروا بأن يجردوه للعبادة، فاعتدى ناس منهم في زمن داود واشتغلوا بالصيد. فقلنا لهم كونوا قردة خسئين: مبعدين عن كل خير. والخساء هو الصغار والطرد. وقرئ (قردة) بفتح القاف وكسر الراء و (خاسئين) بغير همزة. فجعلنها: أي المسخة والعقوبة، وعن الباقر (عليه السلام): فجعلنا الامة (2). نكلا: عبرة تنكل المعتبر بها، أي تمنعه، ومنه النكل للقيد. لما بين يديها وما خلفها: لما قبلها من الامم وما بعدها، إذ ذكرت حالهم في زبر الاولين واشتهرت قصتهم في الآخرين، أو لمعاصريهم ومن بعدهم، أو لما يحضرها من القرى وما تباعد عنها، أو لاهل القرية وما حواليها، أو لاجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها. وموعظة للمتقين: من قومهم، أو لكل من سمعها.


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 61. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 130. (*)

[ 268 ]

وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة: سميت بقرة لبقرها الارض، والهاء ليست للتأنيث، وإنما هي لتدل على الوحدة كالبطة، والدجاجة والاوزة والحمامة. وأول هذه القصة قوله تعالى: ” وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ” وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم، وهو الاستهزاء بالامر والاستقصاء في السؤال، وترك المسارعة في الامتثال. وقصته على ما رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا (عليه السلام) أن رجلا من بني اسرائيل قتل قرابة له، ثم أخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى (عليه السلام): إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبرنا من قتله ؟ قال: اتوني ببقرة (1). والمروي عن الصادق (عليه السلام): في سبب قتله، أنه قتله ليتزوج بنته وقد خطبها فلم ينعم له، وقد خطبها غيره من خيار بني إسرائيل فأنعم له، فحسده ابن عمه الذي لم ينعم له، فقعد له فقتله، ثم حمله إلى موسى. إلى آخر الحديث (2). والمذكور في الكشاف وغيره أنه كان فيهم شيخ موسر، فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه وطرحوه على باب المدينة، ثم جاؤوا بدمه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة و يضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله (3). قالوا أتتخذنا هزوا: مكان هزء، أو أهله، أو مهزوء بناء، أو الهزء نفسه، لفرط الاستهزاء، استبعادا لما قاله، أو استخفافا به. وقرئ هزء بضمتين، وبسكون الزاي، بالهمزة في الصورتين وبضمتين والواو. قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين: لان الهزء في مقام الارشاد جهل وسفه.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 46، قطعة من حديث 57. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 49. (3) الكشاف: ج 1، ص 148، في تفسيره لقوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه). (*)

[ 269 ]

[ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر النظرين (69) ] والعياذ واللياذ: من واد واحد. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي: لما رأوا ما امروا به على حال لم يوجد بها شئ من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته، فسألوا عنها ب‍ (ما) المطلوبة بها الحقيقة، وإلا فالمقصود بيان الحال والصفة. قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر: لا مسنة ولا فتية، يقال: فرضت البقرة فروضا، من الفرض: وهو القطع، كأنها فرضت سنها، وتركيب البكر للاولوية (للاولية) ومنه البكرة والباكورة. عوان: نصف. قال الطرماح: طوال مثل أعناق الهوادي * نواعم بين أبكار وعون (1)


(1) وقبله: ظعائن كنت أعهدهن قدما * وهن لدى الاقامة غير جون حصان مواضع النقب الاعالي * غراث الوشح صامته البرين الظعينة، المرأة في الهودج، وغرثى الوشاح، وصامة البرين: كناية عن غلظ ساقها، والبرين: الخلخال، ومثل موضع الثلل وهو أن يصب الثوب سواد ولا يذهب بغسله، وطوله كناية عن ذول العنق، والهوادي جمع الهادي وهو العنق، فإضافة الاعناق إليه إضافة الشئ إلى نفسه، والناعمة: الكريمة اللينة، وعون جمع عوان وهي المرأة بين الحديثة والمسنة، وصفهن بأنهن أبكر من الابكار وأصفر من العون، وذلك أحسن = (*)

[ 270 ]

بين ذلك: أي ما ذكر من الفارض والبكر، ولذلك اضيف إليه البين، فإنه لا يضاف إلا إلى متعد. وفي رواية العياشي مرفوعا إلى الرضا (عليه السلام): انهم لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لاجزأهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم (1). والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. فلا يلزمه تأخير البيان عن وقت الحاجة. قيل: ويلزمه النسخ قبل الفعل، فإن التخصيص أو التقييد إبطال للتخيير الثابت بالنص. وفيه نظر، لان كون التخيير فيه حكما شرعيا ممنوع، إذ الامر بالمطلق لا يدل إلا على ايجاب ماهيته من حيث هي، بلا شرط، لكن لما لم تتحقق الماهية من حيث هي إلا في ضمن فرد معين، جاء التخيير عقلا، من غير دلالة النص عليه. فافعلوا ما تؤمرون: أي ما تؤمرونه يعني ما تؤمرون به، فحذف الجار و أوصل الفعل ثم حذف العائد المنصوب، من قوله: أمرتك الخير فافعل ما امرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب (2)


= احوالهن (منه رحمه الله) كذا في هامش بعض النسخ. وفي هامش الكشاف: ج 1، ص 149، ما ملخصه: الظعائن: النساء في الهوادج، والجون بالضم جمع جوناء أي سوداء، والحصان – بالفتح – المحصنة، والنقب جمع نقاب ككتب وكتاب، والعون أصله بضم الواو جمع عوان، وهي النصف بفتحتين أي الوسط من النساء والبهائم فسكن تخفيفا، يقول: تلك النساء ظعائن أي مسافرات غير لونهن السفر وكنت أعهدهن في قديم الزمان حين الاقامة غير سود، وهن محصنات الوجوه، والاعالي صفة للنقب أو المواضع وهذا لا يكون إلا في النساء كما ترى. (1) تفسير العياشي: ج 1، ص 46، ح 57. (2) هو من أبيات لعمرو بن معدي كرب الزبيدي المذحجي. وقيل: لشاعر آخر. قوله: امرت متكلم معلوم من الامر ضد النهي وامرت مجهول منه، والواو للحال، وتركتك مخاطب من الترك، وذا بمعنى الصاحب، والنشب بالنون والشين المعجمة والموحدة كفرس المال الاصيل من الناطق والصامت، جامع الشواهد: ص 67، باب الالف بعده الميم، وفي التبيان: ج 2، ص 348. (*)

[ 271 ]

أو أمركم، بمعنى مأموركم. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها: الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، يقال في التوكيد: أصفر فاقع و وارس، كما يقال: أسود حالك وحانك. وفي إسناده إلى اللون، وهو صفة صفراء لملابسته بها، فضل تأكيد، كأنه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها، فانتزع من الصفرة، صفرة، وأسند الفقوع إليها، فهو من قبيل جد جده، وجنونك مجنون. وعن الحسن: سوداء شديدة السواد، وبه فسر قوله تعالى: ” جمالات صفر ” (1). وقال الاعشى: تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب (2) ولعله عبر بالصفرة عن السواد، لانها من مقدماته، أو لان سواد الابل تعلوه صفرة.


(1) سورة المرسلات: الآية 33. (2) وقبله: إن قيسا قيس الفعال أبا الاشعث * أمست أصداؤ لشعوب كل عام يمدني بحموم * عند وضع للضأن أو بنجيب للاعشى في أبي الاشعث بن قيس – والفعال – بالفتح: فعل الخير. والاصداء: جمع صدى، وهو ذكر البوم، كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة، وتصيح: أدركوني، حتى يؤخذ بثأره، و شعوب: اسم للمنية، يمكن أنه جمع شعب بمعنى طريق، أي أمست متفرقة في الطرق، وذلك كناية عن قتله، والجمع للتعظيم، أو اعتباري، والجموم جمع جم بتثليث أوله بمعنى الكثير، والنجيب: الكريم من الخيل والابل، والركاب: المطايا، هن أي الركاب، صفر: جمع أصفر أو صفراء، أولاد ما يغلب عليه السواد كالزبيب، والمراد بالصفرة، سواد ترهقه صفرة، لان هذا أعز ألوان الابل عندهم. نقلا عن هامش الكشاف: ص 150، في تفسير قوله تعالى (صفراء فاقع). وفي هامش بعض النسخ ما لفظه (قوله: هن صفر، هو من قصيدة يمدح بها قيس بن معدي كرب، و تلك مبتدأ وخيلي خبره، ومنه حال، والركاب الابل التي يركب عليهما، الواحدة راحلة، ولا واحد لها من لفظها. وأولادها فاعل صفر، أي سود، ويمكن أن يكون هن صفر جملة، وأولادها كالزبيب جملة اخرى. (منه رحمه الله). (*)

[ 272 ]

[ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشبه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) وإذ قتلتم نفسا فادرءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) ] وفيه أن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع، وأن الابل وإن وصفت به فلا توصف به البقر. تسر النظرين: أي يوقعهم في السرور بالفتح، وهو لذة في القلب عند حصول نفع، أو توقعه، من السر بالضم، كأنه يحصل لهم من رؤيتها نفع أو توقعه. وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتى يبليها، كما قال الله تعالى: ” صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ” (1). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن من لبس نعلا صفراء قل همه، لقوله تعالى: ” تسر الناظرين ” (2). قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي: كرر السؤال الاول لزيادة الاستكشاف، وقوله: إن البقر تشبه علينا: اعتذار عنه، أي إن البقر الموصوف بالتعوين وفقوع


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2 ص 135. (2) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان في هامش تفسير جامع البيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 311. (*)

[ 273 ]

الصفرة كثير فاشتبه علينا. وقرئ (الباقر) وهو اسم لجماعة البقرة والاباقر والبواقر، ويتشابه بالياء والتاء، ويشابه بالياء والتاء، وتشديد الشين بادغام تاء التفاعل فيها، وتشابهت مخففا ومشددا، إما بزيادة الالف في باب التفعيل، أو بإلحاق التاء الساكنة بالمضارع إلحاقا له بالماضي، وتشبه بحذف إحدى التائين من مضارع تفعل، ويشبه بالتذكير، ومتشابه ومتشابهة ومشتبه ومتشبه ومشتبهة. وإنا إن شاء الله لمهتدون: إلى المراد ذبحها، أو إلى القاتل. روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وأيم الله لو لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الابد (1). واحتج به الاشاعرة على أن الحوادث بإرادة الله تعالى، وأن الامر قد ينفك عن الارادة، وإلا لم يكن للشرط بعد الامر معنى. والكرامية والمعتزلة على حدوث الارادة. ويرد عليهم أن هذا إنما يمكن الاستدلال به إذا كان من كلامه تعالى، لا على سبيل الحكاية، وليس كذلك فإنه حكاية لما يقولونه. ويحتمل أن لا يكون حقا في نفس الامر، وإذا قام ذلك الاحتمال، لم يمكن الاستدلال، ولو سلم فيرد على الاشاعرة وجوه من النظر. الاول: أن الآية يحتمل أن يكون المراد بها، أنه إن شاء الله هدايتنا لكنا من مهتدين على سبيل الجزم، ولو لم يشأ يحتمل الاهتداء وعدمه. الثاني: أنه إنما يتم لو كان الارادة والمشيئة بمعنى واحد، وهو ممنوع، فلو دلت الآية على أن الحوادث بمشيئة الله فلم يدل على أنها بإرادته. الثالث: أن قولهم دلت الآية على أن الامر قد ينفك عن الارادة ممنوع، والملازمة التي ادعوها في بيانه ممنوعة، لان معنى الشرط بعد الامر أنه تعالى لو شاء


(1) تفسير جامع البيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 275. (*)

[ 274 ]

هدايتهم، لهداهم، أي لو لم يشأ لم يهدهم، وذلك لا ينافي أنه شاء أمرهم فأمرهم. والحاصل: أن الامر لا ينفك عن الارادة، بمعنى أنه لا يجوز أن يأمر ولا يريد، والآية لم تدل على الجواز بهذا المعنى – كما قررنا – بل التحقيق أن أمره كاشف عن إرادته، وأما أن مراده هل ينفك عن إرادته أم لا ؟ فشئ آخر، سيحقق في موضعه. وعلى المعتزلة والكرامية أنه يحتمل أن يكون التعليق باعتبار التعلق، أو كان المعنى لو كان شاء الله هدايتنا الآن لنهتدي. والحق أن الامر لا ينفك عن الارادة بالمعنى الذي حققته، وأن الارادة حادثة من صفات الفعل، وسنحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله. قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث: أي لم تذلل للكراب (1) وسقي الحرث، ولا ذلول، صفة البقرة، بمعنى غير ذلول، و (لا) الثانية زائدة لتأكيد الاولى، والفعلان صفتا ذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة ولا ساقية. وقرئ لا ذلول بالفتح أي هناك، أي حيث هي، كقولك: مررت برجل لا بخيل ولا جبان، أي هناك، أي حيث هو وتسقي من أسقى. مسلمة: سلمها الله من العيوب، أو أهلها من العمل، أو خلص لونها، من سلم له كذا، إذا خلص له، أي لم يشب صفرتها شئ من الالوان. لا شية فيها: لا لون فيها يخالف لون جلدها، فهي صفراء كلها حتى قرنها و ظلفها، وهي في الاصل مصدر، وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لون آخر. قالوا الن جئت بالحق: أي الحق البين الذي لا يشتبه علينا. وقرئ الآن بالمد على الاستفهام، ولان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام. فذبحوها: فيه اختصار، والتقدير فحصلوا البقرة المنعوته، فذبحوها.


(1) في هامش بعض النسخ ما هذا لفظه: في الصحاح: كربت الارض: قلبتها للحرث، ويقال في المثل: الكراب على البقر (منه رحمه الله). (*)

[ 275 ]

وما كادوا يفعلون: لتطويلهم في السؤال وكثرة مراجعاتهم. وروي أنهم كانوا يطلبون البقرة الموصوفة أربعين سنة، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها، إذ روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغيضة (1) وقال: اللهم إني أستودعكها لا بني حتى يكبر، وكان برا بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقرة وأسمنها، ووحيدة بتلك الصفات، فساوموها اليتيم وامه حتى اشتروها بملا مسكها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير (2). وفي رواية العياشي أنه قال الرضا (عليه السلام): قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض أصحابه: إن هذه البقرة ما شأنها ؟ فقال: إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه، وإنه اشترى سلعة فجاء إلى أبيه فوجده نائما والاقليد تحت رأسه، فكره أن يوقظه، فترك ذلك، واستيقظ أبوه فأخبره، فقال له: أحسنت، خذ هذه البقرة فهي لك عوض ما فاتتك، قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): انظروا إلى البر ما بلغ بأهله (3). وروي أن ذلك الشاب من بني إسرائيل قد رأى محمدا وعليا في منامه و أحبهما، وقالا له: لانك تحبنا نجزيك ببعض جزائك في الدنيا، فإذا جاءك بنو إسرائيل يريدون شراء البقرة منك، فلا تبعها إلا برضى امك، فلما أرادوا شراءها كلما زادوا في ثمنها لم ترض امه حتى شرطوا على أن يملؤوا ثور بقرة عظيمة في ثمنها فرضيت (4).


(1) الغيضة الاجمة، وهي الشجر الملتف، وجمعه غياض. المصباح المنير: ص 629. (2) الكشاف: ج 1، ص 152، في تفسيره لقوله تعالى: ” إن الله يأمركم ” الآية. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 46، ح 57. (4) البرهان: ج 1، ص 109، ح 1، نقلا بالمضمون واليك نص الحديث: ” ولم يجدوها إلا عند شاب من بني إسرائيل أراه الله في منامه محمدا وعليا وطيبي ذريتهما، فقالا له: إنك كنت لنا محبا مفضلا و نحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك في الدنيا فإذا رامو شراء بقرتك فلا تبعها إلا بأمر امك فإن الله عزوجل يلقنها ما يغنيك به وعقبك، ففرح الغلام فجاءه القوم يطلبون بقرة، فقالوا: بكم تبيع بقرتك ؟ (*)

[ 276 ]

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة، والحديث بتمامه مذكور في شرح الآيات الباهرة منقولا عن التفسير المنسوب إلى الحسن العسكري (عليه السلام)، و قد ذكرته بتمامه في تفسيرنا الموسوم بالتبيان وعلى الله التكلان. وكاد من أفعال المقاربة، وضع لدنو الخبر حصولا، فإذا دخل عليه النفي، قيل: معناه الاثبات مطلقا، وقيل: ماضيا، والحق أنه كسائر الافعال. ولا ينافي قوله تعالى: ” وما كادوا يفعلون “، قوله: (فذبحوها) لاختلاف وقتيهما، إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل. وإذ قتلتم نفسا: خاطب الجمع لوجود القتل فيهم. فادرءتم فيها: إختصمتم في شأنها، إذ الخصمان يدفع بعضهم بعضا. وأصل الدرء: الدفع، ومنه الحديث: ادرؤوا الحدود بالشبهات (1). وقول رؤبة: أدركتها قدام كل مدره * بالدفع عني درء كل عنجة (2) فعلى هذا يحتمل أن يكون المعنى: تدافعتم، بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه. وقيل: الدرء: العوج، ومنه قول الشاعر: فنكب عنهم درء الاعادي * وداووا بالجنون من الجنون (3)


فقال: بدينارين والخيار لامي. قالوا: قد رضينا بدينار. فسألها فقالت: بأربعة، فأخبرهم فقالوا: نعطيك دينارين فأخبر امه فقالت: ثمانية، فما زال يطلبون على النصف مما تقول امة فتضعف الثمن حتى بلغ ثمنها ملا مسك ثور أكبر ما يكون ملا دنانير، فأوجب لهم البيع إلى آخره. وفي تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 111، عند تفسيره لقوله تعالى: ” إن الله يأمركم أن تذبحوا “. (1) لاحظ عوالي اللئالي: ج 1، ص 236، ح 147، وج 2، ص 349، ح 4. وج 3، ص 545، ح 1. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 137. والعنجة أن يمسك الراكب بزمام البعير ويجره إليه حتى يتأخر إلى خلف. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 137. (*)

[ 277 ]

[ فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحى الله الموتى ويريكم ءايته لعلكم تعقلون (73) ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهر وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغفل عما تعملون (74) * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلم الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) ] وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال، واجتلبت بها همزة الوصل. والله مخرج ما كنتم تكتمون: مظهره. وأعمل (مخرج) لانه حكاية مستقبل، كما أعمل ” باسط ذراعيه ” (1) لانه حكاية حال ماضيه. فقلنا اضربوه: عطف على (ادارأتم) وما بينهما اعتراض، والضمير للنفس، و تذكير على تأويل الشخص أو القتيل. ببعضها: أي بعض كان، وفيه أقوال اخر مستندها غير معلوم. روي أنه لما ضرب ببعضها قام حيا وأوداجه تشخب دما، قال: قتلني فلان ابن عمي، ثم قبض. كذلك يحى الله الموتى: يدل على ما حذف، أي فضربوه فحيي، والخطاب من حضر القتيل، أو نزول الآية.


(1) سورة الكهف: الآية 18. (*)

[ 278 ]

ويريكم ءايته لعلكم تعقلون: لكي يكمل علقكم، وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس، قدر على إحياء الانفس. وفي الآية مع ما ذكر في بيانه من الاحاديث دلالة على ان التمول والغني من عند الله ينبغي أن يطلب منه، لا بمخالفة أمره، كما ناله الفتى من بني إسرائيل ولم ينله القاتل ابن عمه. ثم قست قلوبكم: القساوة: الغلظ مع الصلابة كما في الحجر، وقساوة القلب مثل في نبوه من الاعتبار وأن المواعظ لا يؤثر فيه. و (ثم) لاستبعاد القسوة، ونحوه: ” ثم أنتم تمترون ” (1). من بعد ذلك: يعني إحياء القتيل، أو جميع ما عدد من الآيات، فإنها مما توجب لين القلب. فهى كالحجارة: في قسوتها أو أشد قسوة: منها، يعني أنها في القساوة مثل الحجارة، أو زائدة عليها، أو أنها مثلها، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد، فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه، ويعضده قراءة الجر، بالفتح عطفا على الحجارة، وإنما لم يقل أقسى، لما في (أشد) من المبالغة، والدلالة على اشتداد القسوتين، واشتمال المفضل على زيادة. و (أو) للتخيير أو للترديد، بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة، أو بما هو أقسى منها. وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب، وإن أبعد الناس من الله القاسي القلب (2). وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهر وإن منها لما يشقق فيخرج منه


(1) سورة الانعام: الآية 2. (2) الوسائل: ج 8، كتاب الحج، ص 535، الباب 119، من أبواب احكام العشرة، ح 19. (*)

[ 279 ]

[ وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) ] الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله: تعليل للتفصيل، فإن الحجارة ينفعل، فإن منها ما يتفجر منه الانهار، والتفجير: الفتح بسعة، ومنها ما ينبع منه الماء، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به، وقلوب هؤلاء لا تتأثر من أمر الله تعالى، والخشية مجاز من الانقياد. وما الله بغفل عما تعملون: وعيد على ذلك. وقرأ ابن كثير (1) ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء، والباقون بالتاء. أفتطمعون: الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله). أن يؤمنوا لكم: أي اليهود. وقد كان فريق منهم: من أسلافهم. يسمعون كلم الله: أي التوراة، أو حين كلم موسى. ثم يحرفونه: يغيرونه أو يأولونه بما يشتهون. من بعد ما عقلوه: ولم يبق لهم فيه ريبة. وهم يعلمون: أنهم مبطلون. فإذا كان أخيار هؤلاء وأسلافهم بهذه الحالة، فما طمعكم بجهالهم وسفلتهم ! وإذا لقوا الذين ءامنوا: أي اليهود. قالوا آمنا: أي قال منافقوهم: آمنا بأنكم على الحق، ورسولكم هو المبشر به


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 138. (*)

[ 280 ]

[ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77) ومنهم أميون لا يعلمون الكتب إلا أمانى وإن هم إلا يظنون (78) ] في التوراة. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أي الذين لم ينافقوا عاتبين على من نافق. أتحدثونهم بما فتح الله عليكم: وبينه في التوراة من نعت محمد (صلى الله عليه وآله)، أو الذين نافقوا لاعقابهم، إظهارا للتصلب في اليهودية، ومنعا لهم عن أنباء ما وجدوا في كتابهم، فيتناول الفريقين، فالاستفهام على الاول تقريع، وعلى الثاني إنكار ونهي. ليحاجوكم به عند ربكم: ليحتجوا بما فتح الله عليكم، حال كونه ثابتا عند ربكم، أي من جملة ما ثبت عند ربكم أي من جملة ما أنزل الله في كتابه. أفلا تعقلون: أما من كلام اللائمين، وتقديره: أفلا تعقلون أنهم يحاجوكم فيغلبون به عليكم أو متصل بقوله: (أفتطمعون) والمعنى: أفلا تعقلون حالهم، وأن لا مطمع لكم في إيمانهم. أو لا يعلمون: هؤلاء. أن الله يعلم ما يسرون: من الكفر، وما فتح الله، وتحريف الكلم وغيره. وما يعلنون: من الايمان، وغير ما فتح الله، وتأويلاتهم وتحريفاتهم. ومنهم أميون لا يعلمون الكتب: أي التوراة. إلا أمانى: استثناء منقطع، والاماني جمع امنيه، وهي في الاصل ما يقدره الانسان في نفسه.


[ 281 ]

وإن هم إلا يظنون: لا علم لهم. روي أن رجلا قال للصادق (عليه السلام): إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا ما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم ؟ فقال (عليه السلام): بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم، فرق من جهة و تسوية من جهة، أما من حيث استووا، فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما قد ذم عوامهم، وأما من حيث افترقوا فلا، قال: بين لي ذلك يابن رسول الله. قال (عليه السلام): إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام، والرشا، وبتغيير الاحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، و عرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم لما قلدوا من عرفوا ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكاياته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ كانت دلالته أوضح من ان تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والمعصية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبوا له، وإن كان لاصلاح أمره مستحقا، وبالرفق والبر والاحسان على من تعصبوا له، وإن كان للاذلال والاهانة مستحقا، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لامر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فأما من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا


[ 282 ]

[ فويل للذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80) ] كرامة لهم (1). فويل: أي تحسر وهلك، مصدر ولا فعل له. للذين يكتبون الكتب: أي المحرف. بأيديهم: تأكيد. ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا: أي يحصلوا غرضا من أغراض الدنيا، فإنه قليل بالنسبة إلى عقابهم. فويل لهم مما كتبت أيديهم: من المحرف. وويل لهم مما يكسبون: من الرشى. وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: محصورة قليلة. روي أن بعضهم قالوا: نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوما، وبعضهم قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما (2).


(1) بحار الانوار: ج 2، ص 87 الباب 14 من يجوز أخذ العلم منه ومن لا يجوز وذم التقليد، قطعة من حديث 12. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 147. (*)

[ 283 ]

[ بلى من كسب سيئة وأحطت به خطيئته فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (81) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون (82) ] قل أتخذتم عند الله عهدا: وعدا فلن يخلف الله عهده: جواب شرط محذوف، أي إن اتخذتم عند الله عهدا، فلن يخلف الله عهده. وقيل: لا تقدير في مثله، ولكن ضمن الاستفهام معنى الشرط، فاجيب بالفاء. أم تقولون على الله ما لا تعلمون: أم معادلة لهمزة الاستفهام، بمعنى كلا الامرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى، بل تقولون. بلى: إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا ودهرا طويلا على وجه أعم، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم، ويختص بجواب النفي. من كسب سيئة: والفرق بينها وبين الخطيئة، أنها قد تقال فيما يقصد بالذات، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض، لانها من الخطأ. والكسب: استجلاب النفع، وتعليقه بالسيئة على طريق التحكم. وأحطت به خطيئته: والمراد بها الشرك، لان ما عداه لا يستحق به الخلود في النار عندنا، فالمراد بالاحاطة الاستيلاء عليه حتى لا يخلو عنها شئ من جوانبه، كما هو شأن المشرك، فإن غيره إن لم يكن له سوى تصديق القلب والاقرار باللسان فلم تحط الخطيئة به. فأولئك أصحب النار: ملازموها في الآخرة، كما أنهم ملازمو


[ 284 ]

[ وإذ أخذنا ميثق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالولدين إحسانا وذى القربى واليتمى والمسكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83) ] اسبابها في الدنيا. هم فيها خلدون: لان نياتهم في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، فبالنيات خلدوا، كذا في الكافي عن الصادق (عليه السلام) (1). وفي التوحيد عن الكاظم (عليه السلام): لا يخلد الله في النار إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك (2). وفي الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (3). وقوله: والذين ءامنوا وعملوا الصلحت أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون: بناء على ما جرت عادته سبحانه على أن يقرن بالوعد الوعيد، لترجى رحمته ويخشى عذابه، ولما جاز أن يكون عطف العمل على الايمان لزيادة الاهتمام والاشعار بأنه أدخل أجزاءه لم يدل على خروجه من مسماه، مع أنه


(1) الكافي: ج 2، ص 85، باب النية، ح 5، ولفظ الحديث قال: أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: ” قل كل يعمل على شاكلته ” قال: على نيته. (2) التوحيد: ص 407، باب 63، الامر والنهي والوعد والوعيد، قطعة من ح 6. (3) الكافي: ج 1، ص 429، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 82. (*)

[ 285 ]

معارض بقوله تعالى ” إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلوة و آتوا الزكوة ” (1) فإنه لا نزاع في أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت العمل الصالح. وإذ أخذنا ميثق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله: إخبار في معنى النهي، وهو أبلغ من الصريح، لما فيه من إيهام من أن المنهي سارع إلى الانتهاء، فهو يخبر عنه، وتنصره قراءة (لا تعبدوا) وعطف (قولوا) عليه، فيكون على إرادة القول، وقيل: إن معناه، أن لا تعبدوا، فلما حذف (أن) رفع. كقوله: ألا يا أيها اللائمي أحضر الوغى * وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي (2) وتنصره قراءة أن لا تعبدوا. ويحتمل أن تكون (أن) مفسرة، وأن تكون مع الفعل بدلا من الميثاق، أو معمولا له بحذف الجار، وإن ادعى في حذف حرف التفسير، إن فيه نظر. وقيل: إنه جواب قسم دل عليه المعنى، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وقرئ بالتاء، حكاية لما خوطبوا به، وبالياء لانهم غيب. وبالولدين إحسانا: متعلق بمضمر، تقديره وتحسنون، أو أحسنوا.


(1) سورة البقرة: الآية 277. (2) في هامش بعض النسخ المخطوطة ما هذا لفظه (هو لطرفة بن العبد، والوغى: الحرب، وأصله الصوت، والتقدير أن أحضر، يقول: يا أيها اللائمي على حضور الحرب وشهود اللذات، هل تخلدني إن كففت عنها ؟ (منه رحمه الله تعالى). وفي هامش الكشاف في ذيل الآية الشريفة: ألا أيها الزاجري أحضر الوغى * وان اشهد اللذات هل أنت مخلدي لطرفة بن العبد من معلقته. وألا اداة استفتاح، وحرف النداء محذوف، وأي منادى، واسم الاشارة نعت له، والزاجر نعت لاسم الاشارة مضاف لياء المتكلم إضافة الوصف لمفعوله، وروي بدله (اللائمي) وروي (أحضر) منصوبا بإضمار أن، ومرفوعا على إهمالها، وحسن حذفها ذكرها فيما بعد، يقول: يا أيها الزاجر لي عن حضور الحرب وشهود لذات النصر والظفر والغنيمة، أو شهود لذات الشراب ومغازلة النساء، المستدعين لاتلاف المال، لست مخلدا لي لو طاوعتك فالاستفهام إنكاري. (*)

[ 286 ]

والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق، هو ما فرض على امتنا أيضا، من فعل المعروف بهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل لهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك. وفي الكافي: سئل الصادق (عليه السلام): ما هذا الاحسان ؟ قال: أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنين، أليس الله يقول: ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ” (1) (2) وفي التفسير المنسوب إلى الامام (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل والديكم وأحقهما ببركم محمد وعلي (3). وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا وعلي أبوا هذه الامة، ولحقنا عليهم أعظم من حق أبوي ولادتهم، فإنا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الاخيار (4). وذى القربى: من آبائكم وأمهاتكم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من رعى حق قرابات أبويه اعطي في الجنة ألف ألف درجة، ثم فسر الدرجات ثم قال: ومن رعى حق قرابة محمد وعلي اوتي من فضائل الدرجات وزيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمد وعلي على أبوي نسبه (5). واليتمى: جمع يتيم ك‍ ندامى جمع نديم، وهم الذين فقدوا آباءهم المتكلفين بامورهم.


(1) سورة آل عمران: الآية 92. (2) الكافي: ج 2، ص 157، باب البر بالوالدين، ح 1. (3 و 4) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 133، في ذيل الآية الشريفة ” وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ” وفيه (وأحقهما لشكركم). (5) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 134، في ذيل الآية الشريفة ” وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل “. (*)

[ 287 ]

وروي: إن أشد من يتم هذا اليتيم، يتم يتيم غاب عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الاعلى (1). والمسكين: والمسكين فعيل من السكون، كأن الفقر أسكنه. وقولوا للناس حسنا: أي قولوا: حسنا، وسماه حسنا للمبالغة، وقرئ حسنا بفتحتين، وحسنا بضمتين وهو لغة أهل الحجاز. وحسنى: قيل على أنه مصدر، وفيه نظر إذ كون فعلى مصدرا سماعي، ولم ينقل من العرب حسنى مصدر حسن، كما قال أبو حيان (2)، والاحسن أنه صفة لموصوف محذوف، أي كلمة حسنى، على أنه اسم تفضيل. وقولوا للناس حسنا، أي معروفا. روى جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ” قولوا للناس حسنا ” قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف (3). واختلف في أنه هل هو عام في المؤمن والكافر، أو هو خاص في المؤمن، والاول مروي عن الصادق (عليه السلام) (4).


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 136، في ذيل الآية الشريفة ” وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل “. (2) راجع تفسير البحر المحيط، ج 1، ص 286. (3) مجمع البيان: ج 1، ص 150، في ذيل الآية الشريفة ” وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل “، وفي تفسير البرهان: ج 1، ص 121، ح 7 – 8. (4) تفسير البرهان: ج 1، ص 120، ح 5 و 9 و 10، ولفظ الاول (عن سدير قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): اطعم سائلا لا أعرفه مسلما ؟ فقال: نعم، اعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق، إن الله عزوجل يقول: ” وقولوا للناس حسنا ” الحديث. (*)

[ 288 ]

[ وإذ أخذنا ميثقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من ديركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ] واقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة: يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم. ثم توليتم إلا قليلا منكم: يريد به من أقام اليهودية على وجهها، ومن أسلم منهم. وأنتم معرضون: أي عادتكم الاعراض عن الوفاء والطاعة. وفي هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق، فبدأ الله سبحانه بذكر حقه، وقدمه على كل حق، لانه المنعم باصول النعم، ثم ثنى بحق الوالدين وخصهما بالمزية لكونهما سببا للوجود وانعامهما بالتربية، ثم ذكر ذوي القربى لانهم أقرب إلى المكلف من غيرهم، ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم، والفقراء لفقرهم. وإذ أخذنا ميثقكم لا تسفكون دماءكم: على نحو ما سبق، والسفك: الصب. ولا تخرجون أنفسكم من ديركم: والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والاجلاء عن الوطن، وجعل قتل الرجل غيره، قتل نفسه، لاتصاله به نسبا، أو دينا، أو لانه يوجبه قصاصا. وقيل: المراد به أن لا ترتكبوا ما تبيح سفك دمائكم، وإخراجكم من دياركم. وقيل: لا تفعلوا ما يصرفكم عن الحياة الابدية، فإنه القتل في الحقيقة، ولا تقترفوا ما يمنعكم عن الجنة التي هي داركم، فإنه الجلاء الحقيقي. ثم أقررتم: بالميثاق واعترفتم بلزومه. وأنتم تشهدون: توكيد، كقولك: أقر فلان شاهدا على نفسه.


[ 289 ]

[ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم تظهرون عليهم بالاثم والعدون وإن يأتوكم أسرى تفدوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغفل عما تعملون (85) ] وقيل معناه: وأنتم تحضرون سفك دمائكم وإخراج أنفسكم من دياركم. وقيل: يشهد كل واحد على إقرار غيره. وقيل: معناه وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، فيكون إسناد الاقرار إليهم مجازا. قال بعض المفسرين: نزلت الآية في بني قريظه. وقيل: نزلت في أسلاف اليهود. ثم أنتم هؤلاء: استبعاد لما اسند إليهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. (وأنتم) مبتدأ، و (هؤلاء) خبره، على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير اولئك المقرين، تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وعدهم باعتبار ما اسند إليهم حضورا، وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا. تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم: إما حال،


[ 290 ]

والعامل معنى الاشارة، أو بيان لهذه الجملة. وقيل: (هؤلاء) تأكيد، أو بدل، والخبر هو الجملة. وقيل: بمعنى الذين، والجملة صلته، والمجموع هو الخبر، كقوله: عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق (1) وقرئ تقتلون على التفعيل، للتكثير. تظهرون عليهم بالاثم والعدون: حال من فاعل (تخرجون) أو من مفعوله، أو من كليهما، ويحتمل أن يكون اعتراضا، لبيان أن إخراجهم ظلم وعدوان. والتظاهر: التعاون، والظهير: المعين. والاثم: الفعل القبيح الذي يستحق به اللوم. وقيل: هو ما تنفر منه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) لنواس بن سمعان حين سأله عن البر والاثم: فقال: البر ما اطمأنت به نفسك، والاثم ما حك في صدرك (2). والعدوان: الافراط في الظلم، وقرئ بحذف إحدى التائين وبإثباتهما، و تظهرون بمعنى تتظهرون.


(1) هو مطلع قصيدة ليزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ الحميري يهجو بها عباد بن زياد بن أبي سفيان، وقوله عدس منادى بحذف حرف النداء أي يا عدس، وهو بالمهملات كفرس، في الاصل صوت يزجر به البغل ثم صار إسما له وإنما سكنت سينه للضرورة، وعباد كرمان هو ابن زياد بن أبي سفيان الذي هجاه الشاعر بها والامارة ككتابة: الحكم، وتحملين بفتح المضارعة وكسر الميم بمعنى الخمل، والطليق كرفيق: المطلق من الحبس – جامع الشواهد باب العين، ص 156، وفيه (أمنت) بدل (نجوت). (2) رواه في مجمع البيان: ج 1، ص 153، في ذيل الآية الشريفة ” ثم أنتم هؤلاء تقتلون انفسكم ” و رواه أصحاب الصحاح والسنن بألفاظ متقاربة وإليك بعضها: سنن الدارمي: ج 2، ص 245، كتاب البيوع (باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) عن وابصة بن معبد الاسدي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والاثم قال: قلت: نعم، قال: فجمع أصابعة فضرب بها صدره، وقال: إستفت نفسك إستفت قلبك يا وابصة – ثلاثا – البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والاثم ما حاك في الصدر وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. ولا حظ مسند أحمد بن حنبل، أيضا: ج 4، ص 228. (*)

[ 291 ]

وإن يأتوكم أسرى تفدوهم: روي أن قريظة من اليهود كانوا حلفاء الاوس من المشركين، والنظير من اليهود كانوا حلفاء الخزرج من المشركين، وكانت قريظة والنظير أخوين، كالاوس والخزرج فافترقوا، فكانت الخزرج مع النظير و قريظة مع الاوس، فإذا اقتتل الحلفاء عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها، وإذا اسر أحد من الفريقين جمعوا الاسراء حتى يفدوهم بمثلهم ممن أسره الفريق الآخر منهم، تصديقا لما في التوراة، فالاوس والخزرج أهل شرك يعبدون الاوثان لا يعرفون جنة ولا نار، ولا قيامة ولا كتابا، فأنب الله اليهود بما فعلوه من مخالفة التوراة في القتل والاجلاء والموافقة في المفاداة. وقيل: معناه: وإن يأتوكم اساري في أيدي الشياطين تتصدون لانقاذهم بالارشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم، كقوله تعالى: ” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ” (1). والاول أقرب بحسب اللفظ وسياق الكلام. وقرأ حمزة أسرى (2)، وهو جمع أسير، كجريح وجرحى، واسارى جمعه كسكرى والسكارى. وقيل: هو أيضا جمع أسير، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه، ووجه الشبه أن كلا منهما محبوس عن كثير من تصرفه. وقيل الاسارى الذين هم في الوثاق، والاسرى الذين هم في اليد، وإن لم يكونوا في الوثاق، وقرئ (تفدوهم). وهو محرم عليكم إخراجهم: متعلق بقوله: ” وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ” تعلق الحال بعاملها أو صاحبها. والنكتة في إعادة تحريم الاخراج – وقد أفاده ” لا تخرجون أنفسكم ” بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الاخراج بالاعادة دون القتل – أنهم انقادوا حكما في باب


(1) سورة البقرة: الآية 44. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 152. (*)

[ 292 ]

[ أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86) ] المخرج وهو الفداء، وخالفوا حكما وهو الاخراج، فجمع مع الفداء معرفة الاخراج، ليتصل به قوله: ” أفتؤمنؤن ” إلى آخره، أشد اتصال، ويتضح كفرهم بالبعض و إيمانهم بالبعض كمال الايضاح، حيث وقع في شخص واحد. والضمير للشأن كما في قوله: ” قول هو الله أحد “، أو مبهم يفسره ” إخراجهم ” كقوله تعالى: ” إن هي إلا حياتنا الدنيا ” (1) أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر، وإخراجهم تأكيد. ويحتمل أن يكون راجعا إلى إخراجهم لانه مبتدأ قدم عليه الخبر، فالمرجع مقدم رتبة. أفتؤمنون ببعض الكتب: كالفداء. وتكفرون ببعض: كحرمة القتل والاجلاء. فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا: كقتل قريظة وسبيهم، وإجلاء النظير، وأصل الخزي ذل يستحيي منه، ولذلك يستعمل في كل منهما. ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب: من عذاب غيرهم من نظائرهم، لان عصيانهم أشد من عصيانهم. وما الله بغفل عما تعملون: تأكيد للوعيد، أي الله تعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم. أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب: بأن يهون عليهم، واختلف في الخفة والثقل، فقيل: إنه يرجع إلى تناقص الجواهر وتزايدها.


(1) سورة الانعام: الاية 29. (*)

[ 293 ]

[ ولقد ءاتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينت وأيدنه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88) ] وقيل: إن الاعتماد اللازم سفلا يسمى ثقلا، والاعتماد اللازم المختص بجهة العلو يسمى خفة، والمراد به في الآية المعنى الشامل للخفة بحسب تناقص الاجزاء و بحسب انتقاص الكيفية. ولا هم ينصرون: بدفعهما عنه. وفي الآية دلالة على من آمن ببعض أحكام الله وكفر ببعض آخر مع معرفته بأنهما حكم الله، كافر خالد في العذاب، لا تخفيف في عذابه، ولا نصر له فيه، ولا شك أن النواصب أكثرهم بهذه الصفة، فهم أجدر بأن ينصب لهم علم الكفر. ولقد ءاتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل: أي أرسلنا على أثره يتبع الآخر الاول في الدعاء إلى ما دعى الاول، لان كل نبي بعث من بعد موسى إلى زمن عيسى، فإنما بعث على إقامة التوراة، من قفاه إذا أتبعه، وقفاه به: اتبعه إياه، من القفا نحو ذنبه من الذنب. والرسل على ما ذكر صاحب الكشاف وغيره، هم: يوشع، وأشمويل، و شمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأرميا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم (1).


(1) الكشاف: ج 1، ص 161، سورة البقرة ذيل الآية 87، والتفسير الكبير للفخر الرازي: ج 3، = (*)

[ 294 ]

وءاتينا عيسى ابن مريم البينت: المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى و إبراء الاكمه والابرص والاخبار بالمغيبات، أو الانجيل. وعيسى بالعبرية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال. قال رؤبة: قلت لزير لم تصله مريمه * ضليل أهواء الصبا تندمه (1) والزير بكسر الزاي: من الرجال الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن، ووزنه مفعل، إذ لم يثبت فعيل. وأيدنه: قويناه، وقرئ أيدناه على وزن أفعلناه. بروح القدس: بالروح المقدسة، كقولك حاتم الجود، ورجل صدق. والمراد جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى، ووصفها به، لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى، ولذلك أضافه إلى نفسه، أو لانه تضمه الاصلاب والارحام الطوامث، أو الانجيل، أو اسم الله الاعظم الذي كان به يحيي الموتى. وقرأ ابن كثير القدس بالاسكان في جميع القرآن (2). أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم: بما لا تحبه، ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذلك بهذا وتعجبا من شأنهم، و


= ص 176. وتفسير البحر المحيط لابي حيان: ج 1، ص 298، وغيرها من التفاسير. (1) لرؤبة بن العجاج يعاتب أبا جعفر الدوانيقي على البطالة ومغازلة النساء، والزير من يكثر مودة النساء وزيارتهن، والمريم: من تكثر مودة الرجال وزيارتهم، والضليل كثير الضلال، والصبا: الميل إلى الجهل والعتوه، وتندمه: بمعنى ندمه، فهو مصدر مرفوع فاعل ضليل، ولعل معناه أن ندمه ضال ضايع في أهواء الصبا، ويروى (مندمه) بصيغة اسم الفاعل وضليل مرفوع على الابتداء ومندمة خبره، ولعل معناه أن الرجل كثير الضلال، يعني نفسه هو الذي يندمه وبجعله نادما، أي يأمره بالندم. هامش الكشاف: ج 1، ص 161. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 155. (*)

[ 295 ]

[ ولما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكفرين (89) ] يحتمل أن يكون استئنافا، والفاء للعطف على مقدر. استكبرتم: عن الايمان واتباع الرسل. ففريقا كذبتم: كموسى وعيسى. وفريقا تقتلون: كزكريا ويحيي. وفي التعبير بالمضارع استحضار للحال الماضية في النفوس، ورعاية للفواصل، ودلالة على أنهم بعد فيه، فإنهم يحومون حول محمد لولا أني أعصمه منهم. وقالوا قلوبنا غلف: جمع أغلف، أي هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفقهه، مستعار من الاغلف الذي لم يختن، وقيل: أصله جمع غلاف ككتب وكتاب وحمر وحمار فخفف. والمعنى أنها أوعية العلم، لا تسمع علما إلا وعته، ولا تعي ما يقول محمد (صلى الله عليه وآله)، أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، وروي في الشواذ غلف بضم اللام عن أبي عمرو (1). بل لعنهم الله بكفرهم: رد لما قالوا، يعني أنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق، ولكن الله خذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة، وتسببوا بذلك لمنع الالطاف، أو هم كفرة ملعونون، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عن النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ !


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 155. (*)

[ 296 ]

فقليلا ما يؤمنون: فإيمانا قليلا يؤمنون، و (ما) مزيدة للمبالغة في التقليل، وهو إيمانهم ببعض الكتاب كالمفاداة، وقيل: معناه ويؤمنون وهم قليل. وقيل: يجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. ولما جاءهم كتب من عند الله: هو القرآن. مصدق لما معهم: من كتابهم لا يخالفه، وقرئ مصدقا على الحال، لتخصيصه بالوصف، وهو (من عند الله) وجواب (لما) محذوف، وهو كذبوا به و استهانوا بمجيئه. وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا: أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، ويقولون لاعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم، وقد قرب زمانه. والسين للمبالغة كما في استعجب واستحجر، أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم، والشئ بعد الطلب أبلغ كقولهم مر مستعجلا، أي مر طالبا للعجلة من نفسه. روى العياشي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت اليهود تجد في كتبها، أن مهاجر محمد (صلى الله عليه وآله) ما بين عير واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد واحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم ب‍ (تيما) وبعضهم ب‍ (فدك) وبعضهم ب‍ (خيبر) فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس، فتكاروا (1) منه، وقال لهم: أمر بكم ما بين عير واحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فأرناهما، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذلك عير وهذا احد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم


(1) المكاري بضم الميم من باب قتل فاعل المكاراة وهو من يكري دوابه والجمع مكارون مجمع البحرين: ج 1، ص 359، في مادة (كرا). (*)

[ 297 ]

[ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءو بغضب على غضب وللكفرين عذاب مهين (90) ] الذين بفدك وخيبر: أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم. واتخذوا بأرض المدينة أموالا، فلما كثر أموالهم بلغ ذلك تبع (1) فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أمنهم فنزلوا عليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا له: ليس ذلك لك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين، نراهم الاوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمد (صلى الله عليه وآله) لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) آمنت به الانصار وكفرت به اليهود (2). فلما جاءهم ما عرفوا: من نعت محمد (صلى الله عليه وآله). كفروا به: حسدا وخوفا على الرئاسة. فلعنة الله على الكفرين: اللعن هو الاقصاء والابعاد. وأتى بالمظهر، للدلالة


(1) تبع كسكر واحد التبابعة من ملوك حمير، سمي تبعا لكثرة أتباعه، وقيل: سموا تبابعة لان الاخير يتبع الاول في الملك وهم سبعون تبعا ملكوا جميع الارض ومن فيها: من العرب والعجم، وكان تبع الاوسط مؤمنا – مجمع البحرين: ج 4، ص 305، في مادة (تبع). (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 49، ح 69. (*)

[ 298 ]

[ وإذا قيل لهم ءامنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) ] على أنهم لعنوا لكفرهم، فيكون اللام للعهد، ويجوز أن يكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوليا. بئسما اشتروا به أنفسهم: (ما) نكرة موصوفة بالجملة التي بعده مميز لفاعل (بئس) المستكن فيه، ومعناه. بئس شئ باعوا به أنفسهم، أو شروا به أنفسهم بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم أخلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا. أن يكفروا بما أنزل الله: هو المخصوص بالذم. بغيا: طلبا لما ليس لهم وحسدا، تعليل للكفر. أن ينزل الله: أي لان ينزل الله، أي حسدوا لذلك. من فضله على من يشاء من عباده: على من اختاره للرسالة. فباءو بغضب على غضب: فصاروا أحقاء بغضب مترادف. وللكفرين عذاب مهين: لهم، بخلاف عذاب العاصي، فإنه طهرة لذنوبه. وإذا قيل لهم ءامنوا بما أنزل الله: يعم جميع ما جاء به أنبياء الله. قالوا نؤمن بما أنزل علينا: أي بالتوراة. ويكفرون بما وراءه: قال ابن الانباري: تم الكلام عند قوله ” بما انزل علينا ” ثم ابتدأ بالاخبار عنهم (1)، وصاحب الكشاف على أنه حال عن الضمير في


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 161. (*)

[ 299 ]

[ ولقد جاءكم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون (92) وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما ءاتينكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمنكم إن كنتم مؤمنين (93) ] (قالوا) اي قالوا ذلك والحال انهم يكفرون بما وراء التوراة (1) والاول أقرب. ووراء في الاصل: مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل، فيراد ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذلك عد من الاضداد. وقال الفراء: معنى وراءه سواه، كما يقال: للرجل يتكلم بالكلام الحسن: ما وراء هذا الكلام شئ، يراد ليس عند المتكلم به شئ سوى ذلك الكلام (2). وهو الحق: ما وراءه أي القرآن، الحق. مصدقا لما معهم: أي التوراة، و ” مصدقا ” حال مؤكدة يتضمن رد مقالتهم، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها. ثم اعترض عليهم بقتلهم الانبياء مع ادعائهم الايمان بالتوراة، والتوراة لا تسوغه، بقوله: قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين: وإسناد القتل إليهم مع أنه فعل آبائهم، لانهم راضون به عازمون عليه. ولقد جاءكم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون: (وأنتم ظالمون): يجوز أن يكون حالا، أي عبدتم العجل وأنتم واضعون


(1) الكشاف: ج 1، ص 165. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2 ص 161. (*)

[ 300 ]

[ قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صدقين (94) ] العبادة غير موضعها، وأن يكون اعتراضا، بمعنى أنتم قوم عادتكم الظلم. وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما ءاتينكم بقوة واسمعوا: أي قلنا لهم: خذوا ما امرتم به في التوراة بجد، واسمعوا سماع طاعة. قالوا سمعنا: قولك. وعصينا: أمرك. وأشربوا في قلوبهم العجل: تداخلهم حبه، ورسخ في قلوبهم صورته، لفرط شغفهم فيه، كما يتداخل الصبغ الثوب، والشرب أعماق البدن، و (في قلوبهم) بيان لمكان الاشراب. بكفرهم: بسبب كفرهم، لانهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري. قل بئسما يأمركم به إيمنكم: بالتوراة، لانه ليس فيها عبادة العجاجيل. وإضافة الامر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب: ” أصلاتك تأمرك ” (1) و كذلك إضافة الايمان إليهم، والمخصوص بالذم محذوف، أي هذا الامر، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث، إلزاما عليهم. إن كنتم مؤمنين: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له. وكرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الاولى، وتلك الزيادة التنبيه


(1) سورة هود: الآية 87. (*)

[ 301 ]

[ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96) ] على أن طريقهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى (عليه السلام). قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة: والمراد بالدار الآخرة الجنة. و (خالصة) منصوب على الحال من الدار، أي خاصة بكم، كما قلتم: ” لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ” (1). من دون الناس: أي سائر الناس أو المسلمين، واللام للعهد. فتمنوا الموت إن كنتم صدقين: لان من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم، والتخلص من الدار ذات النوائب، كما قال أمير المؤمنين ويعسوب الدين، وهو يطوف بين الصفين في غلالة (2) – فقال ابنه الحسن (عليه السلام): ما هذا بزي المحاربين ! ! – يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت، أو وقع الموت عليه (3). وقال عمار بصفين: الآن الاقي الاحبة محمدا وحزبه (4). وقال حذيفة حين احتضر: جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم أي


(1) سورة البقرة: الآية 111. (2) والغلالة شعار يلبس تحت الثوب، لانه يتغلل فيها، أي يدخل، وفي التهذيب: الغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب أو تحت درع الحديد، لسان العرب: ج 11، ص 502، حرف اللام في (غلل). (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 164، في تفسير الآية 94. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 164، ذيل الآية 94، من سورة البقرة. (*)

[ 302 ]

على التمني (1). وأما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (2). فإنما نهى عن التمني للضر، لانه يدل على الجزع، والمأمور به الصبر وتفويض الامور إليه. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين: والمراد بما قدمت أيديهم، ما أسلفوا من موجبات النار، من الكفر بمحمد وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان. ولما كانت اليد العاملة مختصة بالانسان آلة لقدرته بها عامة صنائعة، ومنها أكثر منافعه، عبر بها عن النفس تارة، والقدرة اخرى. وقوله: ” ولن يتمنوه أبدا ” من المعجزات لانه إخبار بالغيب. روى الكلبي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لهم: إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا، فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غص بريقه (3) فمات مكانه (4). وروي عنه (عليه السلام): أيضا أنه لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار (5). ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة: من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين، في قولهم وجدت زيدا ذا الخفاظ، ومفعولاه هم أحرص، وتنكير حياة،


(1) الكشاف: ج 1، ص 166. (2) مجمع البيان: ج 1، ص 164، ذيل الآية 94، من سورة البقرة. (3) يقال: غصصت بالماء أغص غصصا فأنا غاص وغصان إذا شرقت به، أو وقف في حلقك فلم تكد تسيغه – النهاية لابن الاثير: ج 3، ص 370، باب الغين مع الصاد. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 164، ذيل الآية 95، من سورة البقرة. (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 164، ذيل الآية 95، من سورة البقرة. (*)

[ 303 ]

لانه اريد فرد من أفرادها، وهي الحياة المتطاولة، وقرئ باللام. ومن الذين أشركوا يود أحدهم: محمول على المعنى، فكأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وإفرادهم بالذكر للمبالغة، فإن حرصهم شديد، إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة، والزيادة في التوبيخ والتقريع فإنه لما زاد حرصهم وهو مقرون بالجزاء على حرص المنكرين، دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار. ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة الاول عليه، وأن يكون خبرا مبتدأ محذوف صفته (يود أحدهم) على أنه اريد بالذين أشركوا اليهود، لانهم قالوا: ” عزير ابن الله “، أي ومنهم ناس يود أحدهم، وهو على الاولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. لو يعمر ألف سنة: حكاية لودادتهم، و (لو) بمعنى ليت، وكان أصله لو اعمر، فاجري على الغيبة لقوله تعالى: ” يود ” كقولك: ” حلف بالله ليفعلن “. وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر: الضمير لاحدهم، و (أن يعمر) فاعل مزحزحه، أي وما أحدهم ممن يزحزحه من النار تعميره، أو لما دل عليه يعمر، و أن يعمر بدل، أو مبهم وأن يعمر موضحه. وأصل (سنة) سنوة، لقولهم سنوات، وقيل: سنهة كجبهة لقولهم سانهة، و تسنه النخل إذا أتت عليه السنوات، والزحزحة: التبعيد. والله بصير بما يعملون: فيجازيهم. وفي هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم، وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة، وتلافي الفائت بالتوبة والانابة، ودرك السعادة بالاخلاص في العبادة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: بقية عمر المؤمن لا قيمة له، يدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات (1).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 166، ذيل الآية 96، من سورة البقرة. (*)

[ 304 ]

[ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكفرين (98) ] قل من كان عدوا لجبريل: قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد اخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في أخر الزمان. فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد. فاخبرنا عن الولد يكون من الرجل والمرأة ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والشعر والظفر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شئ، أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال: أيهما علا ماؤه كان الشبه له. قالوا: صدقت يا محمد، قالوا: أخبرنا عن ربك ما هو ؟ فانزل الله سبحانه: قل هو الله أحد، إلى آخره. فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك، أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ فقال: جبرئيل. قال: ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك (1).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 167، في سبب نزول آية 97. (*)

[ 305 ]

وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن، أربع من المشهورات، جبرئيل كسلسبيل قراءة الحمزة (1) والكسائي (2)، وجبريل بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير (3)، وجبرئل كجحمرش قراءة عاصم برواية أبي بكر (4)، وجبريل كقنديل قراءة الباقين. وأربع في الشواذ جبرائل وجبرائيل وجبرال وجبرين ومنع صرفه للعجمة والتعريف، ومعناه عبد الله. فإنه نزله: أي جبرئيل نزل القرآن، والارجاع إلى غير المذكور يدل على فخامة شأنه، كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره. على قلبك: فإنه القابل الاول للوحي ومحل الفهم والحفظ. وكان حقه على قلبي، لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قال: قل ما تكلمت به من قولي من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. بإذن الله: بأمره، حال من فاعل نزل. مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين: أحوال من مفعوله. وجواب الشرط (فإنه نزله) على وجهين: أحدهما: أن من عادى منهم جبرئيل فلا وجه له، فإنه نزله كتابا مصدقا لما بين يديه من الكتب، فلو أنصفوا لا حبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم و يصحح المنزل عليهم. والثاني: أن من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك بالوحي، وهم كارهون له. وقيل: جواب الشرط محذوف، مثل فليمت غيظا، أو فهو عدو لي وأنا عدوا له، كما قال: من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكفرين: أي من كان معاديا بالله أي يفعل فعل المعادي من المخالفة والعصيان، فإن حقيقة العداوة طلب الاضرار به، وهذا يستحيل على الله تعالى.


(1 و 2 و 3 و 4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 166. (*)

[ 306 ]

[ ولقد أنزلنا إليك ءايت بينت وما يكفر بها إلا الفسقون (99) أو كلما عهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) ] وقيل: المراد به معاداة أوليائه، وصدر الكلام به تفخيما لشأنهم، وإفراد الملكين بالذكر لفضلهما، كأنهما من جنس آخر، ووضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر فكيف بعداوة أمير المؤمنين ويعسوب الدين وإمام المتقين ! وقرأ نافع ميكائل كميكاعل (1)، وأبو عمرو (2) ويعقوب (3) وعاصم (4) برواية حفص ميكال كميعاد، وقرئ ميكيل وميكائل وميكال. ولقد أنزلنا إليك ءايت بينت وما يكفر بها إلا الفسقون: أي المتمردون من الكفرة، والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظمه كأنه متجاوز عن حده. قال ابن عباس: إن ابن صوريا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد، ما جئتنا بشئ نعرفه، وما انزل عليك آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله هذا الآية (5). أو كلما عهدوا عهدا: الهمزة حرف استفهام للانكار، ويحتمل أن يكون


(1 و 2 و 3 و 4) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 72. (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 168، في سبب نزول آية (99) من سورة البقرة. (*)

[ 307 ]

للتقرير، وقال بعضهم: يحتمل أن تكون زائدة، كزيادة الفاء في قولك: أفالله لتفعلن، والاول أصح، والواو للعطف على محذوف، تقديره أكفروا بالآيات، وكلما عاهدوا، وقرئ بسكون الواو على أن التقدير إلا الذين فسقوا أو كلما عاهدوا، وقرئ (عوهدوا) و (عهدوا). نبذه فريق منهم: نقضه، وأصل النبذ الطرح، لكنه يغلب فيما ينسى. وإنما قال فريق: لان بعضهم لم ينقض، وقرئ (نقضه) بل أكثرهم لا يؤمنون: رد لما يتوهم أن الفريق هم الاقلون، أو أن من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون به خفاء. ولما جاءهم رسول من عند الله: كعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله). مصدق لما معهم: من التوراة. نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله: أي التوراة، لان كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه. وقيل: المراد بكتاب الله القرآن. وراء ظهورهم: مثل لاعراضهم عنه بالاعراض عما يرمى به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه. كأنهم لا يعلمون: أنه كتاب الله، يعني أن علمهم به رزين ولكن يتجاهلون عنادا، قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه ولكن نبذوا العمل به (1)، وقال سفيان بن عيينه: أدرجوه في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ. هذا إذا حمل الكتاب على التوراة (2)، وأما إذا حمل على القرآن، فإنه لما جاءهم الرسول بهذا الكتاب فلم يقبلوه، صاروا نابذين له. واعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جل اليهود أربع فرق: فرقة آمنوا بالتوراة و قاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الاقلون، المدلول عليهم بقوله ” بل أكثرهم لا يؤمنون ” وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا، وهم


(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 169. (*)

[ 308 ]

[ واتبعوا ما تتلوا الشيطين على ملك سليمن وما كفر سليمن ولكن الشيطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هروت ومروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الاخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ] المعنيون بقوله: ” نبذ فريق منهم ” وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الاكثرون، وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال بغيا وعنادا، و هم المتجاهلون. واتبعوا ما تتلوا الشيطين: معطوف على نبذ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجن والانس، أو منهما. على ملك سليمن: أي على عهد سليمان. قيل: كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدونونها ويعلمون الناس، وفشا ذلك في عهد سليمان حتى قيل: إن الجن تعلم الغيب، وإن ملك سليمان تم بهذا العلم، وإنه تسخر به الانس والجن والريح له.


[ 309 ]

روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما هلك سليمان وضع ابليس السحر ثم كتبه في كتاب وطواه وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا وكذا، فليقل كذا وكذا، ثم دفنه تحت السرير، ثم استأثره لهم، فقال الكافرون ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: هو عبد الله ونبيه، فقال الله في كتابه (واتبعوا ما تتلوا) إلى آخره (1). وما كفر سليمن: تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيا كان معصوما. ولكن الشيطين كفروا: باستعماله. وقيل: بما نسبوا إلى سليمان من السحر. وقيل: عبر عن السحر بالكفر. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (ولكن) بالتخفيف، ورفع (الشياطين) (2). يعلمون الناس السحر: إغواء وإضلالا، والجملة حال عن الضمير في ” كفروا “. والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشياطين مما لا يستقل به الانسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تبين الساحر عن النبي. وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والادوية، أو يريك صاحب خفة اليد فليس بسحر، وتسميته سحرا على التجوز، أو لما فيه من الدقة، لانه في الاصل لما خفي سببه. وما أنزل على الملكين: عطف على السحر، والمراد بهما واحد، والعطف لتغاير الاعتبار، أو لانه أقوى منه، أو على (ما تتلوا)


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 52، ح 74. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 170. (*)

[ 310 ]

قيل: هما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس وتمييزا بينه و بين المعجزة. وقيل: رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيده قراءة الملكين بالكسر. وما روي أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة، فتعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما – فمحكي عن اليهود. وقيل: (ما انزل) نفي معطوف على ما كفر تكذيب لليهود في هذه القصة. ببابل: ظرف، أو حال من الملكين، أو من الضمير في (انزل) والمشهور أنه بلد من سواد كوفة (1). هروت ومروت: عطف بيان للملكين، ومنع صرفهما للعجمة والعلمية، ولو كانا من الهرت والمرت، وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا، ومن جعل (ما) نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض وما بينهما اعتراض، وقرئ بالرفع على تقديرهما هاروت وماروت. وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر: فمعناه على الاول: ما يعلمان أحدا حتى يبينا له ويقولا له: إنما نحن إبتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الايمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به، وعلى الثاني: ما يعلمانه حتى يقولا: إنا مفتونان فلا تكن مثلنا. فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه: أي من السحر ما يكون


(1) بابل بكسر الباء: اسم ناحية منها الكوفة والحلة، ينسب إليها السحر والخمر، وقال أبو معشر: الكلدانيون هم الذين كانوا ينزلون بابل في الزمن الاول، ويقال: إن أول من سكنها نوح (عليه السلام) وهو أول من عمرها، وكان قد نزلها بعقب الطوفان، فسار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الدف ء فأقاموا بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن، وقال أبو المنذر: إن مدينة بابل كانت اثنى عشر فرسخا في مثل ذلك، ومدينة بابل بناها بيوراسب الجبار ولما استتم بناؤها جمع إليها كل من قدر عليه من العلماء وبنى لهم اثني عشر قصرا على عدد البروج وسماها باسمائهم فلم تزل عامرة حتى كان الاسكندر وهو الذي خربها معجم البلدان: ج 1، في (بابل)، ص 309. (*)

[ 311 ]

[ ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكفرين عذاب أليم (104) ] سبب تفريقهما. وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله: لان الاسباب كلها مؤثرة بأمره تعالى. ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا: أي اليهود. لمن اشتريه: أي استبدله بكتاب الله. ما له في الاخرة من خلق: نصيب. ولبئس ما شروا به أنفسهم: باعوا أو اشتروا على ما مر. لو كانوا يعلمون: قبحه على التعيين والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي، أو العلم الاجمالي بقبح الفعل، أو ترتب العقاب من غير تحقيق، فلا منافات بين ما سبق وبين هذا. ولو أنهم ء امنوا: بالرسول وما جاء به. واتقوا: بترك المخالفة. لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون: جهلهم لترك التدبر أو العمل بالعلم. يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا: كان المسلمون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية، كما


[ 312 ]

[ ما يود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105) ] قال الباقر (عليه السلام) (1) وهي راعينا، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا، إفترصوه وخاطبوا به الرسول، وهم يعنون به تلك السبة، فنهي المؤمنون عنها، وامروا بما هو في معناها، وهو (انظرنا) بمعنى انظر إلينا، أو انتظرنا، من نظره إذا انتظره، وقرئ (أنظرنا) من الانظار بمعنى الامهال، و (راعونا) على لفظ الجمع للتوقير، و (راعنا) بالتنوين، أي قولا ذا رعن، نسبة إلى الرعن وهو الهرج، لمشابهة قولهم راعينا. واسمعوا: أي أحسنوا الاستماع لما يكلمكم به رسول الله ويلقي عليكم من المسائل بأذن واعية وأذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة أو واسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن مثل سماع اليهود، حيث قالوا: سمعنا وعصينا أو واسمعوا ما امرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه. وللكفرين عذاب أليم: يعني للذين تهاونوا بالرسول عذاب موجع مؤلم. ما يود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين: نزلت تكذيبا لجمع من الكافرين يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير. والمودة محبة الشئ مع تمنيه، ولذلك تستعمل في كل منهما. و (من) للتبيين، لان الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 178، في ذيل آية 104، من سورة البقرة ولفظ الحديث: (وقال الباقر (عليه السلام): هذه الكلمة سب بالعبرانية، إليه كانوا يذهبون) وفي تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 195، نقلا عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: وكان (أي راعنا) في لغة اليهود معناه أي أسمع لا أسمعت. إلى آخره. (*)

[ 313 ]

[ * ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السموت والارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (107) ] والمشركون. أن ينزل عليكم من خير من ربكم: مفعول (يود) و (من) الاولى مزيدة للاستغراق والثانية للابتداء، والمراد بالخير ما يعم الوحي والعلم والنصرة. والله يختص برحمته من يشاء: روي عن أمير المؤمنين وعن أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) أن المراد برحمته هنا. النبوة (1). والله ذو الفضل العظيم: فيه إشعار بأن النبوة من فضله، وأن كل خير نال عباده في دينهم أو دنياهم فإنه من عنده ابتداء منه إليهم وتفضلا عليهم، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، فهو عظيم الفضل ذو المن والطول. ما ننسخ من ءاية أو ننسها: نزلت لما قال المشركون أو اليهود: ألا ترون أن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه. والنسخ في اللغة إزالة الصورة عن الشئ وإثباتها في غيره، كنسخ الظل للشمس ومنه التناسخ، ثم استعمل في كل منهما كقولك: نسخت الريح الاثر، ونسخت الكتاب. ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بها، إما بقرائتها فقط، كآية الرجم، فقد قيل: إنها كانت منزلة فرفع لفظها فقط، دون حكمها، أو بالعكس كقوله: ” إن فاتكم


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 179، في ذيل آية 105، من سورة البقرة. (*)

[ 314 ]

[ أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمن فقد ضل سواء السبيل (108) ] شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم ” (1) الآية، فهذه الآية ثابتة في الخط مرتفعة الحكم، أو بهما، كما روي عن أبي بكر قال: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم (2) فرفع. وإنساؤها إذهابها عن القلوب، و ” ما ” شرطية جازمة لننسخ، ومنتصبة به على المفعولية. نأت بخير منها أو مثلها: أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب، أو مثلها في الثواب. وقرأ أبو عمرو بقلب الالف همزة (3). ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير: فهو يقدر على النسخ والاتيان بمثل المنسوخ، وبما هو خير منه. ألم تعلم: الخطاب للنبي والمراد هو وامته، لقوله: أن الله له ملك السموت والارض: يملك اموركم ويدبرها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما بتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ. وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير: الفرق بين الولي والنصير، أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور. أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل: لما بين لهم أنه


(1) سورة الممتحنة: الآية 11. (2 و 3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 280، في ذيل تفسير آية 106، من سورة البقرة. (*)

[ 315 ]

[ ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير (109) ] مالك امورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره، وقررهم على ذلك بقوله: ” ألم تعلم ” – أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم، وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى من الاشياء التي كانت عاقبتها وبالا عليهم. قيل: نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وقيل في المشركين لما قالوا: ” لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ” (1). ومن يتبدل الكفر بالايمن: ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها. فقد ضل سواء السبيل: أي الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الايمان. ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفارا: روي أن فنحاص بن عازرواء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان و عمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا: شديد، قال: فإني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربا و


(1) سورة الاسراء: الآية 93. (*)

[ 316 ]

بالاسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا ثم أتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبراه، فقال: أصبتما خيرا وأفلحتما، فنزلت (1). وعن ابن عباس أنها نزلت في حي بن أخطب وأخيه أبي ياسر بن أخطب وقد دخلا على النبي (صلى الله عليه وآله) حين قدم المدينة، فلما خرجا قيل لحي: أهو نبي ؟ قال: هو هو، فقيل فماله عندك ؟ قال: العداوة إلى الموت. وهو الذي نقض العهد وأثار الحرب يوم الاحزاب. وقيل: نزلت في كعب بن الاشرف (2). حسدا: علة. من عند أنفسهم: إما متعلق ب‍ (ود) أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم و تشهيهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق. أو ب‍ ” حسدا ” أي حسدا منبعثا من أصل نفوسهم. من بعد ما تبين لهم الحق: بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة. فاعفوا واصفحوا: العفو: ترك عقوبة المذنب والصفح ترك تثريبه. حتى يأتي الله بأمره: الذي هو الاذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم، أو قتل قريظة وإجلاء بني النظير. قيل: إن هذه الآية منسوخة، فقال بعضهم بقوله: ” قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ” (3). وبعضهم بآية السيف، وهو قوله: ” فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ” (4). والمروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 176، تفسير آية 108. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2 – ص 184، في سبب نزول آية 109، من سورة البقرة. (3) سورة التوبة: الآية 29. (4) سورة التوبة: الآية 5. (*)

[ 317 ]

[ وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى تلك أمانيهم قل هاتوا برهنكم إن كنتم صدقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) ] وآله) بقتال ولا اذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية ” اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ” (1) وقلده سيفا (2). إن الله على كل شئ قدير: فيقدر على الانتقام منهم. وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة: عطف على ” فاعفوا ” كأنه امرهم بالصبر والالتجاء إلى الله بالعبادة والبر. وما تقدموا لانفسكم من خير: كصلاة أو صدقة. وقرئ تقدموا من أقدم. تجدوه عند الله: أي ثوابه. إن الله بما تعملون بصير: لا يضيع عنده عمل عامل. وقرئ بالياء، فيكون وعيدا. وقالوا: عطف على (ود) والضمير لاهل الكتاب. لن يدخل الجنة إلا من كان هودا: جمع هائد كعوذ وعائذ وبزل و


(1) سورة الحج: الآية 39. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 185 في بيان المعنى للآية 109، من سورة البقرة. (*)

[ 318 ]

بازل، وهو جمع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد، والهائد: التائب الراجع إلى الحق. وقيل: مصدر يصلح للواحد والجمع كما يقال: رجل صوم وقوم صوم. وقيل: أصله يهود فحذفت الياء الزائدة. وعلى ما قلنا فتوحيد الاسم المضمر وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى. أو نصرى: سبق تحقيقه. والكلام على اللف بين قولي الفريقين، والتقدير: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، وأمنا من الالتباس، لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه. تلك أمانيهم: إشارة إلى الاماني المذكورة، وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارا، وأن لا يدخل الجنة غيرهم، أو إلى ما في الآية، على حذف مضاف أي أمثال تلك الامنية المذكورة في الآية أمانيهم والجملة اعتراض، والامنية افعولة من التمني كالاضحوكة والاعجوبة والجمع الاضاحيك والاعاجيب. قل هاتوا برهنكم: على اختصاصكم بدخول الجنة. والبرهان والحجة والدلالة والبيان بمعنى واحد، وقد فرق علي بن عيسى بين الدلالة والبرهان، بأن قال: الدلالة قد ينبئ عن معنى فقط لا يشهد لمعنى آخر. والبرهان ليس كذلك، لانه بيان عن معنى ينبئ عن معنى آخر. وقد نوزع في هذا الفرق وقيل أنه محض الدعوى (1). إن كنتم صدقين: في دعواكم، فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت. وفي هذه الآية دلالة على فساد التقليد في الاصول، ألا ترى أنه لو جاز التقليد لما امرو بأن يأتوا فيما قالوا ببرهان، وفيها أيضا دلالة على جواز المحاجة في الدين، وفيها أيضا دلالة على أنه لا حجة في إجماع يخلو عن معصوم، وإلا لجاز لهم أن يقولوا: البرهان أنا أجمعنا على ما قلنا، فالمتسمكون بالاجماع المذكور أضل من محرفي أهل


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 186. (*)

[ 319 ]

[ وقالت اليهود ليست النصرى على شئ وقالت النصرى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (113) ] الكتاب. بلى: إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. من أسلم وجهه لله: أخلص نفسه له لا يشرك به غيره، أو قصده وتوجه له. وهو محسن: في عمله. فله أجره: الذي يستوجبه، ثابتا. عند ربه: لا يضيع ولا ينقص، والجملة جواب ” من ” إن كانت شرطية، وخبرها إن كانت موصولة، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، فيكون الرد بقوله: (بلى) وحده، أو يكون (من أسلم) فاعلا لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم، ويكون قوله (فله أجره) كلاما معطوفا على يدخلها من أسلم. ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: في الآخرة. وهذا ظاهر على قول من يقول: إنه لا يكون على أهل الجنة خوف ولا حزن في الآخرة. وأما على قول من قال: بعضهم يخاف ثم يأمن، فمعناه أنهم لا يخافون فوت جزاء أعمالهم، لانهم يكونون على ثقة بأن ذلك لا يفوتهم. وقالت اليهود ليست النصرى على شئ: أي أمر يصح ويعتد به، وهذه مبالغة عظيمة، لان المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشئ، فإذا نفي إطلاق اسم الشئ عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده وهذا كقولهم: أقل من لا شئ.


[ 320 ]

وقالت النصرى ليست اليهود على شئ: قال ابن عباس: لما قدم وفد نجران على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: رافع بن حرملة: ما أنتم على شئ وجحد نبوة عيسى وكفر بالانجيل، فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شئ وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله هذه الآية (1). وهم يتلون الكتب: الواو للحال، والكتاب للجنس، أي قالوا ذلك والحال أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الانجيل أو غيرهما من كتب الله، أو آية أن لا يكفر بالباقي، لان كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعا متواردة في تصديق بعضها بعضا. كذلك: أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج. قال الذين لا يعلمون مثل قولهم: كعبدة الاصنام والمعطلة قالوا لكل أهل دين: ليسوا على شئ، وهذا توبيخ عظيم لهم، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم. و ” مثل قولهم ” يحتمل احتمالين، أحدهما: أنه مفعول مطلق ل‍ (قال) والآخر أنه مفعوله، يعنى أن قولهم مثل قولهم في الفساد، ومقولهم مثل مقولهم في الدلالة على أن ما عدا دينهم ليس بشئ. فإن قيل: لم وبخهم وقد صدقوا، فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشئ. قلت: لم يقصدوا ذلك، وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه، مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به مع الايمان بالناسخ. فالله يحكم بينهم: بين الفريقين. يوم القيمة: هي مصدر إلا أنه صار كالعلم على وقت بعينه، وهو الوقت الذي يبعث الله عزوجل فيه الخلق فيقومون من قبورهم إلى محشرهم. تقول: قام يقوم


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 188، في سبب نزول آية 113، من سورة البقرة. (*)

[ 321 ]

[ ومن أظلم ممن منع مسجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم (114) ] قياما وقيامة، مثل عاد يعود عيادا وعيادة. فيما كانوا فيه يختلفون: بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب. وقيل: بأن يكذبهم ويدخلهم النار. وقيل: بأن يريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا. ومن أظلم ممن منع مسجد الله: الآية عامة لكل من خرب مسجدا، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة، وإن نزلت في الروم لما غزوا بيت المقدس و خربوه وقتلوا أهله حتى كانت أيام عمر وأظهر المسلمين عليهم، وصاروا لا يدخلونه إلا خائفين على ما روي عن ابن عباس (1). وقيل: خرب بخت نصر بيت المقدس وأعانه عليه النصارى. والمروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنها نزلت في قريش حين منعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخول مكة والمسجد الحرام (2). أن يذكر فيها اسمه: ثاني مفعولي ” منع ” لانك تقول منعته كذا، ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن، ولك أن تنصبه مفعولا له، بمعنى منعها كراهة أن يذكر. وسعى في خرابها: بالهدم أو التعطيل. أولئك: أي المانعون. ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين: أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها


(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 – 2 – ص 189، في سبب نزول آية 114، من سورة البقرة. (*)

[ 322 ]

[ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله وسع عليم (115) وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه بل له ما في السموت والارض كل له قنتون (116) بديع السموت والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117) ] إلا بخشية وخضوع، فضلا عن أن يجرؤوا على تخريبها. أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوهم فضلا عن أن يمنعوهم منها. أو ما كان لهم في علم الله تعالى أو قضائه، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم، وقد أنجز وعده. لهم في الدنيا خزى: قال قتادة: المراد بالخزي، أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (1). وقال الزجاج: المراد به السبي والقتل إن كانو حربا، وإعطاء الجزية إن كانوا ذمة (2). وقال أبو علي: المراد به طردهم عن المساجد (3). وقال السدي: المراد خزيهم إذا قام المهدي وفتح قسطنطنية، فحينئذ يقتلهم (4)، والكل محتمل، واللفظ بإطلاقه يتناوله. ولهم في الاخرة عذاب عظيم: بظلمهم وكفرهم. ولله المشرق والمغرب: اللام للملك، والمشرق والمغرب اسمان لمطلع الشمس ومغربها. والمراد بهما ناحيتي الارض، أي له الارض كلها لا يختص به مكان دون آخر، فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام والاقصى فقد جعلت لكم الارض مسجدا.


(1 و 2 و 3 و 4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 191. (*)

[ 323 ]

فأينما تولوا: ففي أي مكان فعلتم التولية، أي تولية وجوهكم. فثم وجه الله: أي جهته التي أمر بها، أو فثم ذاته، أي عالم مطلع بما يفعل فيه. إن الله وسع: بإحاطته بالاشياء، أو برحمته. عليم: بمصالحهم وأعمالهم في الاماكن. قيل: إن اليهود أنكروا تحويل القبلة من بيت المقدس، فنزلت الآية ردا عليهم. وقيل: كان للمسلمين التوجه حيث شاؤوا في صلاتهم وفيه نزلت الآية ثم نسخ بقوله: ” فول وجهك ” (1). وقيل: نزلت الآية في صلاة التطوع على الراحلة تصليها حيثما توجهت إذا كنت في سفر، وأما الفرائض فقوله: ” وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ” (2). يعني أن الفرائض لا تصليها إلا على القبلة، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) قالوا: وصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إيماء على راحلته أينما توجهت به حيث خرج إلى خيبر وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره (3). وروي عن جابر قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقال طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي هاهنا، قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا، وقال بعضنا: القبلة هاهنا قبل الجنوب فخطوا خطوطا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي (صلى الله عليه وآله) فسكت، فأنزل الله تعالى هذه الآية (4). وقالوا اتخذ الله ولدا: نزلت لما قال اليهود، عزير ابن الله والنصارى: المسيح ابن الله، ومشركوا العرب: الملائكة بنات الله، وعطفه على (قالت اليهود) أو


(1) سورة البقرة: الآية 144. (2) سورة البقرة: الآية 144. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 191. (4) من قوله: (قيل: ان اليهود) إلى هنا مقتبس من مجمع البيان، لاحظ، ج 1 – 2، ص 191، في سبب نزول آية 115، من سورة البقرة. (*)

[ 324 ]

(منع) أو مفهوم قوله: (ومن أظلم). وقرأ ابن عامر بغير واو والباقون بالواو (1). سبحنه: روي عن طلحة بن عبيد الله أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن معنى قوله (سبحانه) فقال: تنزيها له عن كل سوء (2). بل له ما في السموت والارض: رد لما قالوا واستدلال على فساده بأنه خالق ما في السماوات وما في الارض الذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح. كل له قنتون: مطيعون لا يمتنعون عن مشيئته وكل من كان بهذه الصفة لم يجانس بكونه الواجب لذاته، ومن حق الولد أن يجانس والده، فلا يكون له ولد. وإنما جاء ب‍ (ما) الذي لغير اولي العلم تحقيرا لشأنهم، وتنوين (كل) عوض عن المضاف إليه أي كل ما فيهما، أو كل من جعلوه ولدا له. وفي الآية دلالة على أن من ملك ولده، أو والده انعتق عليه، لانه تعالى نفى الولد بإثبات الملك وذلك يقتضي تنافيهما، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) (3). بديع السموت والارض: يقال: بدع الشئ فهو بديع كقولك: برع الشئ فهو بريع، وبديع السماوات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أي بديع سماواته وأرضه. وقيل: البديع بمعنى المبدع، كما أن السميع في قول الشاعر: * أمن ريحانة الداعي السميع (4). وهو دليل آخر على نفي الولد: وتقريره أن الوالد عنصر الولد المنفعلة بانفصال


(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 192، في نقل معنى الآية 116، من سورة البقرة. (3) الوسائل: ج 16، الباب 7، من أبواب كتاب العتق، فلا حظ. (4) في هامش بعض النسخ ما لفظه (البيت لعمرو بن معد يكرب، وتمامه: يؤرقني وأصحابي هجوع. وريحانة اسم اخته، والداعي بمعنى داعي الشوق) (منه رحمه الله). وفي هامش الكشاف: ج 1، ص 60، ما ملخصه (لعمرو بن معد يكرب صاحب ريحانة اخت دريد بن الصمة، التمس منه زواجها فأجابه ومطله، والسميع المسمع على اسم المفعول، أو المسموع، وسميع مبتدأ خبره يورقنى، أي هل داعي الشوق من ريحانة يسهرني والحال أن أصحابي نيام ؟ والاستفهام للتعجب). (*)

[ 325 ]

[ وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا ءاية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشبهت قلوبهم قد بينا الايت لقوم يوقنون (118) ] مادته عنه، والله سبحانه مبدع الاشياء كلها، فاعل على الاطلاق، منزه عن الانفعال، فلا يكون والدا. وهذا التقرير يصح على التقديرين، لان كونه تعالى مبدعا يلزمه كون مخلوقه بديعا، وبالعكس. والابداع إختراع الشئ لا عن شئ دفعة، وهو الاليق بهذا الموضع من الصنع الذي هو تركيب الصورة بالعنصر والتكوين الذي يتغير، وفي زمان غالبا. وقرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في (له) ومنصوبا على المدح. وإذا قضى أمرا: أراد إحداث أمر. فإنما يقول له كن فيكون: من كان التامة، أي أحدث فيحدث، وليس المراد حقيقة أمر وامتثال، بل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وفيه تقرير لمعنى الابداع، وإيماء إلى دليل آخر: وهو أن إتخاذ الولد مما يكون بأطوار وفعله تعالى مستغن عن ذلك. قيل: كان سبب ضلالتهم أن ارباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الاب على الله تعالى، باعتبار أنه السبب حين قالوا: إن الاب هو الرب الاصغر، والله سبحانه وتعالى هو الاب الاكبر، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفاسد. وقال الذين لا يعلمون: أي جهلة المشركين، أو المتجاهلون من أهل الكتاب،


[ 326 ]

[ إنا ارسلنك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحب الجحيم (119) ] لولا يكلمنا الله: كما يكلم الملائكة، أو يوحي إلينا بأنك رسوله، وهذا استكبار منهم. أو تأتينا ءاية: وحجة على صدقك، وهذا جحود أن ما أتاهم آيات، إستهانة. كذلك قال الذين من قبلهم: من الامم الماضية. مثل قولهم: فقالوا: أرنا الله جهرة، وغير ذلك. تشبهت قلوبهم: أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد، وقرئ بتشديد الشين. قد بينا الايت لقوم يوقنون: أي يطلبون اليقين، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد. إنا أرسلنك بالحق: مؤيدا به. بشيرا ونذيرا: فلا عليك إن كابروا. ولا تسئل عن أصحب الجحيم: إنهم لم لم يؤمنوا بعد أن بلغت. وقرأ نافع ويعقوب ولا تسأل على لفظ النهي (1)، مبنيا للفاعل، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (2) وفيه حينئذ إشارة إلى تعظيم عقوبة الكفار، كأنها لا يقدر أن يخبر عنها، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. و (الجحيم) المتأجج من النار، من جحمت النار تجحم جحما، إذا اضطربت.


(1) أي بفتح التاء والجزم على النهي. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 196، في القراءة في الآية 119، من سورة البقرة. (*)

[ 327 ]

[ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير (120) الذين ءاتينهم الكتب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخسرون (121) ] ولن ترضى: وإن بالغت في إرضائهم. عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع ملتهم: كأنهم قالوا: لن نرضى عنك حتى تتبع ملتنا، إقناطا منهم لرسول الله عن دخولهم في الاسلام، فحكى الله عزوجل كلامهم، ولذلك قال تعالى: قل: تعليما للجواب. إن هدى الله هو الهدى: لا ما تدعون إليه. ولئن اتبعت أهواءهم: أي اقوالهم التي هي أهواء وبدع. بعد الذى جاءك من العلم: من الوحي، أو الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة. مالك من الله من ولى ولا نصير: يدفع عنك عقابه. وفي هذه الآية دلالة على أن من علم الله تعالى منه أنه لا يعصي، يصح وعيده، لانه علم أن نبيه (عليه السلام) لا يتبع أهوائهم، والمقصود منه التنبيه على أن حال امته فيه أغلظ من حاله، لان منزلتهم دون منزلته. وقيل: الخطاب للنبي والمراد امته. الذين ءاتينهم الكتب: يريد مؤمني أهل الكتاب، أو مطلقهم.


[ 328 ]

[ يبنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العلمين (122) واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفعة ولا هم ينصرون (123) ] يتلونه حق تلاوته: بمراعاة اللفظ عن التحريف، والتدبر في معناه، والعمل بمقتضاه. وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الاولى ويستعيذ من الاخرى (1). والجملة خبر للموصول على التقدير الاول لاهل الكتاب، وحال مقدرة على التقدير الثاني. أولئك يؤمنون به: بكتابهم دون المحرفين. ومن يكفر به: بالكتاب وهم أكثر اليهود، وقيل: هم جميع الكفار. فأولئك هم الخسرون: حيث اشتروا الضلالة بالهدى. يبنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العلمين * و اتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفعة ولا هم ينصرون: مضى تفسيرها. وقيل في سبب تكريرها ثلاثة أقوال: الاول: أن نعم الله سبحانه لما كانت اصول كل نعمة، كرر التذكير بها مبالغة في استدعائهم إلى ما يلزم من شكرها، ليقبلوا إلى طاعة ربهم المظاهر عليهم. والثاني: أنه لما باعد بين الكلامين، حسن التنبيه والتذكير، إبلاغا في الحجة و تأكيدا للتذكرة.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 198. (*)

[ 329 ]

[ وإذ ابتلى إبرهم ربه بكلمت فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظلمين (124) ] والثالث: أنه لما ذكر التوراة وفيها الدلالة على شأن عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله) في النبوة والبشارة بهما، ذكرهم نعمته عليهم بذلك وما فضلهم به كما عدد النعم في سورة الرحمن، وكرر بقوله: ” فبأي آلاء ربكما تكذبان “، فكل تقريع جاء بعد تقريع فإنما هو موصول بتذكير نعمة غير الاولى. وإذ ابتلى إبرهم ربه بكلمت: كلفه بأوامر ونواه. والابتداء في الاصل التكليف بالامر الشاق، من البلاء، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب، ظن ترادفهما، والضمير لابراهيم، وحسن لتقدمه لفظا، وإن تأخر رتبة، لان الشرط أحد التقدمين. والكلمات قد تطلق على المعاني، فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة، عشرة منها في قوله: التائبون العابدون ” (1)، وعشرة في قوله: ” إن المسلمين ” (2) إلى آخر الآيتين، وعشرة في قوله: ” قد أفلح المؤمنون “، إلى قوله: ” هم الوارثون ” (3). وروي عشرة في سورة سأل سائل إلى قوله: ” والذين هم على صلواتهم يحافظون ” (4) فجعلت أربعين. وبالعشر التي هي من سنته: خمسة منها في الرأس، وخمسة منها في البدن. فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطم الشعر، والسواك،


(1) سورة التوبة: الآية 112. (2) سورة الاحزاب: الآية 35. (3) سورة المؤمنون: الآية 1 – 10. (4) سورة المعارج: الآية 34. (*)

[ 330 ]

والخلال. وأما التي في البدن: فحلق الشعر من البدن، والختان، وتقليم الاظفار، والغسل من الجنابة، والطهور بالماء. فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم (عليه السلام)، فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وبمناسك الحج وبالكوكب والقمرين وذبح الولد والنار والهجرة، وبالآيات التي بعدها، وهي قوله: ” إني جاعلك “. الآية. وكان سعيد بن المسيب يقول: كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف، و أول الناس قص شاربه واستحد، وأول الناس رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا ؟ قال: الوقار قال: يا رب فزدني وقارا. وهذا أيضا رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ولم يذكر أول من قص شاربه واستحد، وزاد فيه: وأول من قاتل في سبيل الله إبراهيم، وأول من أخرج الخمس إبراهيم، وأول من اتخذ النعلين إبراهيم وأول من اتخذ الرايات إبراهيم (1).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 200، ولما كان بين ما نقله الطبرسي وما نقله المصنف هنا اختلافا بالتقديم والتأخير والزيادة والنقيصة في بعض الجملات والعبائر، فلذا نورد ما أورده في مجمع البيان، لتتميم الفائدة. قال: ثم أنزل الله عليه الحنيفية وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس وخمسة منها في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال. وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها ابراهيم، فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وهو قوله: ” واتبع ملة إبراهيم حنيفا “، ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره. وقال قتادة: وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس: إنها عشر خصال كانت فرضا في شرعه، سنة في شريعتنا، المضمضة والاستنشاق، وفرق الرأس، وقص الشارب، والسواك في الرأس، والختان، وحلق العانة، ونتف الابط وتقليم الاظفار، والاستنجاء بالماء في البدن. وفي الرواية الاخرى عن ابن عباس: انه ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الاسلام لم يبتل أحدا بها، فأقامها كلها إبراهيم، فأتمهن، فكتب له البراءة، فقال: ” وإبراهيم الذي وفى ” وهي عشرة في سورة البراءة: ” التائبون العابدون ” إلى آخرها. (*)

[ 331 ]

وقرئ إبراهيم ربه، على أنه دعا ربه بكلمات، مثل (أرني كيف تحيي الموتى) (إجعل هذا البلد آمنا) ليرى هل يجيبه ؟


وعشر في الاحزاب: ” إن المسلمين والمسلمات “. إلى آخرها. وعشر في سورة المؤمنين: ” قد أفلح المؤمنون ” إلى قوله: ” اولئك هم الوارثون ” وروي وعشر في سورة سأل سائل إلى قوله: ” والذين هم على صلاتهم يحافظون ” فجعلها أربعين، وفي رواية ثالثة عن ابن عباس: إنه أمره بمناسك الحج. وقال الحسن: ابتلاه الله بالكوكب والقمر والشمس والختان وبذبح ابنه وبالنار وبالهجرة، فكلهن وفى الله فيهن. وقال مجاهد: ابتلاه الله بالآيات التي بعدها، وهي قوله: ” إني جاعلك للناس إماما ” إلى آخر القصة. وقال أبو علي الجبائي: أراد بذلك كل ما كلفه من الطاعات العقلية والشرعية. والآية محتملة لجميع هذه الاقاويل التي ذكرناها. وكان سعيد بن المسيب يقول: كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف، وأول الناس اختتن، و أول الناس قص شاربه واستحد (*) وأول الناس رأى الشيب فلما رآه قال: يا رب ما هذا ؟ قال: هذا الوقار، قال يا رب: فزدني وقارا. وهذا أيضا قد رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ولم يذكر أول من قص شاربه واستحد وزاد فيه: وأول من قاتل في سبيل الله إبراهيم، وأول من أخرج الخمس إبراهيم، وأول من إتخذ النعلين إبراهيم، وأول من اتخذ الرايات إبراهيم. وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة باسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل ” وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات ” ما هذه الكلمات قال هي الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال يا رب: أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم، فقلت له: يابن رسول الله فما يعني بقوله: فأتمهن قال: أتمهن إلى القائم اثنى عشر إماما تسعة من ولد الحسين (عليه السلام)، قال المفضل: فقلت له: يابن رسول الله فأخبرني عن كلمة الله عزوجل ” وجعلها كلمة باقية في عقبه ” قال: يعني بذلك الامامة جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة، فقلت له: يابن رسول الله فكيف صارت الامامه في ولد الحسين دون الحسن (عليهما السلام)، وهما جميعا ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبطاه وسيدا شباب اهل الجنة ؟ فقال: إن موسى وهارون نبيان مرسلان أخوان، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، ولم يكن لاحد أن يقول: لم فعل الله ذلك ؟ وإن الامامة خلافة الله عزوجل ليس لاحد أن يقول: لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن ؟ لان الله عزوجل هو الحكيم في افعاله لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون. إلى آخره. (*) الاستحداد: الاحتلاق بالحديد، لسان العرب، ج 3، ص 141، في لغة (حدد) (*)

[ 332 ]

وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه (رحمه الله) في كتاب النبوة بإسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ” ما هذه الكلمات ؟ قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم. فقلت: يابن رسول الله فما يعني بقوله (فأتمهن) ؟ فقال: أتمهن إلى القائم اثنى عشر إماما، تسعة من ولد الحسين (عليه السلام). قال المفضل: فقلت له: يابن رسول الله فأخبرني عن قول الله عزوجل ” وجعلها كلمة باقية في عقبه ” قال: يعني بذلك الامامة جعلها الله في عقب الحسين (عليه السلام) إلى يوم القيامة، فقلت له: يابن رسول الله فكيف صارت الامامة في ولد الحسين دون ولد الحسن، وهما جميعا ولدا رسول الله وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة ؟ فقال: إن موسى وهارون نبيان مرسلان أخوان، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، ولم يكن لاحد أن يقول: لم فعل الله ذلك ؟ وإن الامامة خلافة الله عزوجل ليس لاحد أن يقول: لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن ؟ لان الله عزوجل هو الحكيم في أفعاله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (1). فأتمهن: فأداهن كملا، وقام بهن حق القيام. وفي القراءة الاخيرة، الضمير المستتر لربه، أي أعطاه جميع ما سأل. قال إنى جاعلك للناس إماما: جملة مستأنفة إن اضمر ناصب (إذ) والتقدير: فماذا قال ربه حين أتمهن، فاجيب بأنه قال إني الخ. أو بيان للابتلاء، فيكون الكلمات ما ذكره من الامامة وتطهير البيت وغير ذلك. وإن كان ناصبة (قال) فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها. وجاعل: من جعل المتعدي إلى مفعولين. والامام: اسم لمن يؤتم به في أقواله وأفعاله، ويقوم بتدبير الامامة، وسياستها،


(1) تقدم تمام الحديث آنفا. (*)

[ 333 ]

[ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبرهم مصلى وعهدنا إلى إبرهم وإسمعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعكفين والركع السجود (125) ] والقيام بامورها، وتأديب جنايتها، وتولية ولايتها، وإقامة الحدود على مستحقها، ومحاربة من يكيدها ويعاديها. وقد يطلق على المقتدى به في أقواله وأفعاله. قال ومن ذريتي: عطف على الكاف عطف تلقين، أي وبعض ذريتي، كما تقول: وزيدا في جواب ساكرمك. والذرية نسل الرجل، فعلية أو فعولة، من الذر، بمعنى التفريق، والاصل ذرية على الاول، وعلى الثاني ذرورة قلبت راؤها الثالثة ياء، كما في تقضيت، ثم ابدلت الواو والضمة، أو فعلية أو فعولة من الذر بمعنى الخلق، فخففت الهمزة. وقرئ ذريتي بالكسر، وهي لغة، وبعض العرب بفتح الذال. قال لا ينال عهدي الظلمين: والعهد: الامامة، كما روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) (1) أي لا يكون الظالم إماما للناس. واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الامام لا يكون إلا معصوما عن القبائح، لان الله سبحانه نفى أن ينال عهده – الذي هو الامامة – ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه أو لغيره. لا يقال: إنما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمى ظالما، فيصح أن يناله. لانا نقول: إن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما، وقد حكم عليه بأنه لا ينالها، والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت،


(1) تفسير العياشي: ج 1، ح 89، من تفسير سورة البقرة. (*)

[ 334 ]

فيجب أن تكون محموله على الاوقات كلها، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد. وإذ جعلنا البيت: أي الكعبة، غلب عليها كالنجم على الثريا. مثابة للناس: أي مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار، أو أمثالهم، أو موضع ثواب يثابون بحجته واعتماره، أو موضع لا ينصرف منه أحد إلا وينبغي أن يكون على قصد الرجوع إليه. وقد ورد في الخبر: إن من رجع من مكة وهو ينوي الحج من قابل زيد في عمره، ومن خرج من مكة وهو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله (1). وأمنا: أي موضع أمن، والحمل للمبالغة، وذلك أنه لا يتعرض لاهله، أو يأمن حجه من عذاب الآخرة لان الحج يجب ما قبله، أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه، والحمل على العموم أولى. واتخذوا من مقام إبرهم مصلى: على إرادة القول، أو عطف على المقدر العامل في (إذ) أو اعتراض معطوف على مضمر، تقديره توبوا إليه واتخذوا. ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه، والمراد باتخاذه مصلى الصلاة فيه بعد الصلاة كما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة ونسى أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم، فقال: يصليها ولو بعد أيام ان الله تعالى يقول: ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” (2). وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة: مقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، والحجر الاسود استودعه الله ابراهيم (عليه السلام) حجرا أبيض، وكان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم (3).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 203، في نقل المعنى لآية 125. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 58، ح 92، من تفسير سورة البقرة، وفي مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 203، في نقل المعنى لآية 125. (3) رواه في مجمع البيان ج 1 – 2، ص 203، في نقل المعنى لآية 125، كما في المتن، ورواه العياشي في تفسيره: ج 1، ص 59، ح 93، ولفظه (عن المنذر الثوري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الحجر ؟ (*)

[ 335 ]

وروي في سبب النزول عن ابن عباس، وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن أبن أبي عمير عن أبان عن الصادق (عليه السلام) أنه لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل امرأة منهم وماتت هاجر، فاستاذن إبراهيم سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم (عليه السلام) إذ قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ليس هاهنا ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثم يرجع، فقال إبراهيم: هل عندك ضيافة ؟ قالت: ليس عندي شئ وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم (عليه السلام): إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم (عليه السلام)، فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد ؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك ؟ قالت: قال لي: اقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج اخرى. فلبث إبراهيم ما شاء أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور اسماعيل، فأذنت له واشترطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجيئ الآن إن شاء الله فأنزل يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة ؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءت بالمقام، فوضعته على شقه الايمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الايمن، ثم حولت المقام إلى شقة الايسر، فغسلت شق رأسه الايسر، فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاءك زوجك فاقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد ؟ قالت:


فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة: الحجر الاسود استودعه إبراهيم، ومقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، قال أبو جعفر: إن الله استودع إبراهيم الحجر الابيض. الحديث. (*)

[ 336 ]

نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، فقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، فقال إسماعيل: ذاك إبراهيم (1). وفي رواية اخرى عنه (عليه السلام): إن إبراهيم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له على أن لا يلبث عنها، وأن لا ينزل من حماره، فقيل له: فكيف كان ذلك ؟ فقال: إن الارض طويت له (2). وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن نورهما طمس لاضاء ما بين المشرق والمغرب (3). واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف، بأن الله تعالى أمر بذلك، وظاهر الامر يقتضي الوجوب، ولا صلاة واجبة عند مقام إبراهيم غير صلاة الطواف بلا خلاف، والاستدلال بها معاضد بالروايات الواردة عن الائمة (عليهم السلام) (4). وعهدنا إلى إبرهم وإسمعيل: أمرناهما. أن طهرا بيتى: بأن طهرا، ويجوز أن تكون (أن) مفسرة، لتضمن العهد معنى القول. يريد طهراه من الاوثان والانجاس وما لا يليق به، أو أخلصاه. للطائفين: حوله. والعكفين: المقيمين عنده، أو المعتكفين فيه. والركع السجود: اي المصلين، جمع راكع وساجد.


(1) مجمع البيان، ج 1 – 2، ص 204. (2 و 3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 204. (4) الوسائل: ج 9، ص 155، كتاب الحج، الباب (71 – 72) من أبواب الطواف وفي خلال سائر الابواب أيضا. (*)

[ 337 ]

[ وإذ قال إبرهم رب اجعل هذا بلداءامنا وارزق أهله من الثمرت من ءامن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) ] وإذ قال إبرهم رب اجعل هذا: معطوف على (إذ جعلنا) والاشارة إلى البلد أو المكان. بلداءامنا: ذا أمن كقوله تعالى ” في عيشة راضية ” (1) أو آمنا أهله كقوله: ليله نائم. والمراد بالبلد: مكة، والمراد بكونه آمنا أنه لا يصاد طيره ولا يقطع شجره ولا يختلى خلاه (2). كما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: من دخل الحرم مستجيرا بالله فهو آمن من سخط الله عزوجل، ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم (3). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة: إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والارض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لاحد قبلي ولا تحل


(1) سورة الحاقة: الآية 21. (2) ومنه حديث مكة: لا يختلى خلاها بضم أوله وفتح اللام أي لا يجز نبتها الرقيق ولا يقطع ما دام رطبا، وإذا يبس فهو حشيش. مجمع البحرين: ج 1، ص 129، في لغة (خلا) والخلا هو الرطب من الكلاء. قالوا: الخلا والعشب اسم للرطب منه. والحشيش والهشيم اسم لليابس منه، والكلاء يقع على الرطب واليابس، ومعنى يختلى: يؤخذ ويقطع. شرح النووي لصحيح مسلم: ج 9، ص 125، باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 206. (*)

[ 338 ]

لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار (1). فهذا الخبر وأمثاله المشهورة في روايات أصحابنا، يدل على أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم، وإنما تأكدت حرمته بدعاءه (عليه السلام). وبعضهم قالوا: إنما صار حرما بدعاء إبراهيم، وكان قبل ذلك كسائر البلاد، واستدلوا عليه بقول النبي (صلى الله عليه وآله): إن إبراهيم (عليه السلام) حرم مكة، وإني حرمت المدينة (2). والجواب: أنه يحتمل أن يكون حرمه بغير الوجه الذي كانت حراما قبله، لجواز كونها حراما قبل بمعنى كونها ممنوعا من الاصطلام والانتقال كما لحق غيرها من البلاد وصارت حراما بعد دعاء إبراهيم (عليه السلام) بتعظيمه على ألسنة الرسل وغير ذلك. وارزق أهله من الثمرت من ءامن منهم بالله واليوم الاخر: (من آمن) بدل من (أهله) بدل البعض. قال ومن كفر: مبتدأ متضمن معنى الشرط. فأمتعه قليلا: خبره، والجملة معطوفة على محذوف، أي من آمن مرزوق، ومن كفر فامتعه قليلا. ثم أضطره إلى عذاب النار: أدفعه وأسوقه إليها في الآخرة. وبئس المصير: المخصوص محذوف، أي العذاب و ” قليلا ” منصوب على المصدر، أو الظرف، وقرئ بلفظ الامر في (فأمتعه) و (أضطره) على أنه من دعاء إبراهيم، و الضمير في ” قال ” راجع إليه.


(1) رواه الخاصة والعامة في الصحاح والسنن. الوسائل: ج 9، ص 68، الباب 50، من أبواب الاحرام، ح 7، وصحيح مسلم: ج 2، باب 82 تحريم مكة وصيدها، ح 445، ومسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 253، وغيرها. (2) مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 119، ومجمع البيان: ج 1 – 2، ص 206. (*)

[ 339 ]

[ وإذ يرفع إبرهم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ] وإذ يرفع إبرهم القواعد من البيت: حكاية حال ماضية، تقديره واذكر ” إذ يرفع “. والقواعد: جمع قاعدة وهي الاساس، صفة غالبة ومعناها الثابتة، ومنه قعدك الله أي أسأل الله ان يقعدك أي يثبتك، ورفعها البناء عليها، لانها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتطاولت بعد التقاصر. ويحتمل أن يراد بها سافات البناء، فان كل ساف قاعدة يوضع فوقه ويرفع بناؤها، لانه إذا وضع ساف فوق ساف فقد رفع السافات. ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت، أي استوطأ، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء. وقيل: المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ودعاء الناس إلى حجه. روي عن أئمتنا (عليهم السلام) أنه قد كان آدم بناه، ثم عفا أثره فجدده إبراهيم (عليه السلام) (1). وقال مجاهد: بل إنشاء إبراهيم (عليه السلام) بأمر الله عزوجل (2). وكان الحسن (عليه السلام) يقول: أول من حج البيت إبراهيم (3). وفي أكثر الروايات أن أول من حج البيت آدم (عليه السلام) (4). ويمكن الجمع بأنه كان مطاف آدم البيت المعمور، ومطاف إبراهيم الكعبة. كما روي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد


(1 و 2 و 3 و 4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 207. (*)

[ 340 ]

شرقي وغربي، وقال لآدم: أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة، فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور، ثم أن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرئيل مكانه (1). أو كان بناه آدم أولا ثم زال أثره، ثم أمر ابراهيم (عليه السلام) بالبناء ورفع القواعد. وإسمعيل: كان يناوله الحجارة، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه. وقيل: كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب. يقولان: ربنا تقبل منا: على تقدير الحال. وقرئ باظهار يقولان. إنك أنت السميع: لدعائنا. العليم: بنياتنا. وقصة مهاجرة إسماعيل وهاجر على ما رواه الشيخ الطبرسي، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن ابراهيم (عليه السلام) كان نازلا في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لانه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه، فشكا ذلك إبراهيم إلى الله عزوجل فأوحى الله إليه: إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن تركته استمتعت به، وإن رمت أن تقيمه كسرته. وقد قال القائل في ذلك: هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها ثم أمره أن يخرج إسماعيل وأمه عنها، فقال: أي رب، إلى أي مكان ؟ قال:


(1) الكشاف: ج 1، ص 187، في تفسيره لآية 128، من سورة البقرة. (*)

[ 341 ]

إلى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من أرضي، وهي مكة. وأنزل عليه جبرئيل بالبراق، فحمل عليه هاجر وإسماعيل وإبراهيم، فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال: يا جبرئيل إلى هاهنا ؟ فيقول جبرئيل: لا إمض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فالقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته، فلما سرحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال إبراهيم: ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، ثم انصرف عنهم، فلما بلغ كدى (1)، وهو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع. إلى قوله: لعلهم يشكرون (2) ثم مضى وبقيت هاجر فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس ؟ فغاب عنها إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي، وظنت أنه ماء فنزلت في بطن الوادي وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا وهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا فنظرت إلى اسماعيل، حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلما كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعدت حتى جمعت حوله رملا وانه كان سائلا، فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم، وكانت جرهم (3) نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء


(1) وفيه أنه دخل مكة عام الفتح من كداء ودخل في العمرة من كدى، وكداء بالفتح والمد: الثنية العليا بمكة مما يلي المقابر وهو المعلا، وكدى بالضم والقصر الثنية السفلى مما يلي باب العمرة، وأما كدي بالضم وتشديد الياء فهو موضع بأسفل مكة وقد تكرر ذكر الاولين في الحديث، النهاية: ج 4، ص 156، باب الكاف مع الدال. (2) سورة إبراهيم: الآية 37. (3) جرهم بضم الجيم والهاء، حي من اليمن. مجمع البحرين: ج 6، ص 31، في لغة جرهم. (*)

[ 342 ]

بمكة عكفت الطير والوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نزلا في ذلك الموضع قد استظلا بشجرة قد ظهر لهم الماء، فقال لهم جرهم: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي ؟ قالت: أنا ام ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا، فقالوا لها: أتأذنين أن نكون بالقرب منكم ؟ فقالت: حتى أسأل إبراهيم، قال: فزارهما إبراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر: يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ فقال إبراهيم: نعم، فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم وأنست هاجر و إسماعيل بهم، فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية ونظر إلى كثرة الناس حولهم، سر بذلك سرورا شديدا، فلما تحرك إسماعيل وكانت جرهم قد وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين، فكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها، فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت، فقال يا رب: في أي بقعة ؟ قال: في البقعة التي انزلت على آدم القبة، فأضاءت الحرم، قال: ولم تزل القبة التي أنزلها على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمن نوح، فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة وغرقت الدنيا ولم تغرق مكة فسمي البيت العتيق، لانه اعتق من الغرق، فلما أمر الله عزوجل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبريل (عليه السلام)، فخط له موضع البيت وأنزل عليه القواعد من الجنة، وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج، فلما مسته أيدي الكفار إسود، قال: فبنى إبراهيم البيت ونقل إبراهيم الحجر من ذي طوى، فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الذي هو فيه وجعل له بابين بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب، فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر الاذخر وعلقت هاجر على بابه كساء كان معها، فكانوا يكونون تحته، فلما بناه وفرغ حج إبراهيم وإسماعيل ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجة فقال: قم يا إبراهيم فارتو من الماء لانه لم يكن بمنى وعرفات ماء فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها، ففعل به ما


[ 343 ]

[ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ءايتك و يعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129) ] فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت: رب اجعل إلى آخر الآية (1). ربنا واجعلنا مسلمين لك: مخلصين لك، من أسلم وجهه، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد، وقرئ على لفظ الجمع على أن المراد أنفسهما وهاجر، أو أن التثنية من مراتب الجمع. ومن ذريتنا أمة مسلمة لك: أي واجعل بعض ذريتنا، والتخصيص بالدعاء لانهم أحق بالشفقة، ولانهم إذا صلحوا صلح بهم الاتباع. وخصا بعضهم لما اعلما أن في ذريتهما ظلمة، وعلما أن الحكمة الالهية لا تقتضي الاتفاق على الاخلاص والاقبال على الله تعالى، فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقاء لخربت الدنيا. وقيل: المراد بالامة، امة محمد (صلى الله عليه وآله)، ويحتمل أن تكون (من) للتبيين. وروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالامة بنو هاشم خاصة (2). وأرنا: من رأى بمعنى أبصر أو عرف، ولذلك لم يتجاوز مفعولين. مناسكنا: المواضع التي يتعلق النسك بها، لنفعله عندها ونقضي عباداتنا


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 208. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 210. (*)

[ 344 ]

فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها، وقال عطا ومجاهد: معنى مناسكنا مذابحنا، والاول أقوى (1). والنسك في الاصل: غاية العبادة، وشاع في الحج، لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. وقرأ ابن كثير ويعقوب (أرنا) قياسا على فخذ في فخذ (2). وتب علينا: قالا تلك الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والانقطاع إلى الله، ليقتدي بهما الناس فيهما. وقيل: أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما. وقيل معناه: ارجع علينا بالرحمة. فليس فيها دلالة على جواز الصغيرة عليهم كما لا يخفى. إنك أنت التواب: القابل للتوبة من عظائم الذنوب، أو الكثير القبول للتوبة مرة بعد اخرى. الرحيم: بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام وتكفير الآثام. وفي هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة. ربنا وابعث فيهم: في الامة المسلمة. رسولا منهم: ولم يبعث من ذريتهما غير محمد (صلى الله عليه وآله)، فهو المجاب به دعوتهما كما قال (صلى الله عليه وآله): أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام) وبشرى عيسى (عليه السلام) يعنى قوله: ” ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد ” ورؤيا امي (3) وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف من بني زهرة، رأت في المنام أنها وضعت نورا أضاء به قصور الشام من بصرى.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 210. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 209. (3) مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 127 و 128. وج 5، ص 262. ولفظ الاخير (لقمان بن عامر قال: سمعت أبا امامة قال: قلت: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك ؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت امي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام). (*)

[ 345 ]

[ ومن يرغب عن ملة إبرهم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفينه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العلمين (131) ] يتلوا عليهم ءايتك: التي توحي بها إليه. ويعلمهم الكتب: أي القرآن. والحكمة: ما يكمل به نفوسهم من المعارف والاحكام. ويزكيهم: عن الشرك والمعاصي. إنك أنت العزيز: الذي لا يغلب على ما يريد. الحكيم: المحكم له. ومن يرغب: أي لا يرغب. عن ملة إبرهم: إنكار لان يكون أحد يرغب من ملته الواضحة الغراء. إلا من سفه نفسه: إلا من أذلها واستخف بها، قال المبرد وثعلب: ” سفه ” بالكسر متعد وبالضم لازم (1). وقيل: أصله ” سفه نفسه ” بالرفع، فنصب على التميز، نحو غبن رأيه، أو سفه في نفسه، فنصب بنزع الخافض. والمستثنى في محل الرفع بدلا من الضمير في (يرغب) لانه في معنى النفي. روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الاسلام، فقال: لقد علمنا صفة محمد في التوراة، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فأنزل الله هذه الآية (2).


(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 83. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 212. (*)

[ 346 ]

[ ووصى بها إبرهم بنيه ويعقوب يبنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) ] ولقد اصطفينه: اخترناه بالرسالة. في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين: قيل: وإنما خص الآخرة بالذكر وإن كان في الدنيا كذلك، لان المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة وحسن الثواب، فلما كان خلوص في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك. إذ قال: ظرف لاصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، أو انتصب بإضمار اذكر استشهادا على ما ذكر من حاله، كانه قيل: اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله. له ربه أسلم: أخطر ببالك النظر في الدلالة المؤدية إلى المعرفة. قال أسلمت لرب العلمين: أي فنظر وعرف. وقيل: أسلم أي أذعن، وقيل: أن يكون المراد اثبت على الانقياد. ووصى بها: أي بالملة، أو الكلمة، وهي أسلمت لرب العالمين. وقرئ وأوصى. إبرهم بنيه ويعقوب: عطف على إبراهيم داخل في حكمه، والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضا، وقرئ بالنصب عطفا على بنيه، والمعنى ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب. يبنى: على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق ب‍ (وصى) لانه في معنى القول. وفي قراءة ابي وابن مسعود أن يا بني (1). إن الله اصطفى لكم الدين: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الاديان، وهو


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 191. (*)

[ 347 ]

[ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبرهم وإسمعيل وإسحق إلها وحدا ونحن له مسلمون (133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (134) ] دين الاسلام ووفقكم الاخذ به. فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون: لا يكن موتكم على حال إلا على حال كونكم ثابتين على الاسلام، فالنهي راجع إلى كونهم على خلاف الاسلام في حال الموت، والنكتة في إدخال النهي على الموت، إظهار أن الموت على غير الاسلام كلا موت، والموت الحقيقي هو موت السعداء وهو الموت على الاسلام. أم كنتم: (أم) هي المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها الانكار، أي ما كنتم. شهداء: جمع شهيد، بمعنى الحاضر. قيل: إن اليهود قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت ردا عليهم (1) أي ما كنتم حاضرين. إذ حضر: وقرئ حضر بكسر الصاد، وهي لغة. يعقوب الموت: فالخطاب لليهود. وقيل: الخطاب للمؤمنين، يعني ما شاهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى: تقريرا لهم على التوحيد والاسلام، و


(1) تفسير البحر المحيط لابي حيان الاندلسي: ج 1، ص 400. وفي مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 214. (*)

[ 348 ]

(ما) عام في كل شئ، فإذا علم فرق بما ومن. ويمكن أن يقال: ” ما تعبدون ” سؤال عن صفة المعبود، كما تقول: ما زيد ؟ تريد أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات ؟ قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك: وقرأ ابي بطرح (آبائك) وقرئ (أبيك) إما بالافراد وكون إبراهيم وحده عطف بيان له، أو بالجمع بالياء والنون. إبرهيم وإسمعيل وإسحق: عطف بيان لآبائك. وعد إسماعيل من آبائه، لان العرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما، لا نخراطهما في سلك واحد وهو الاخوة ووجوب تعظيمهما. وفي الحديث: عم الرجل صنو أبيه (1)، أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. إلها وحدا: بدل من ” إله آبائك ” كقوله: ” بالناصية ناصية كاذبة ” (2) أو على الاختصاص أي نريد بإله آبائك، إلها واحدا. ونحن له مسلمون: حال من فاعل ” نعبد ” أو من مفعوله، لرجوع الهاء إليه في (له)، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على ” نعبد ” وأن يكون جملة اعتراضية مؤكدة، إن جاز وقوع الاعتراض في الآخر كما هو مذهب البعض، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون بالتوحيد، أو مذعنون. وروى العياشي عن الباقر (عليه السلام) أنها جرت في القائم (عليه السلام) (3). وقال بعضهم في توجيه الحديث: لعل مراده (عليه السلام) بكون الآية: أنها جارية في قائم آل محمد، فكل قائم منهم يقول حين موته ذلك لبنيه، ويحبيبونه بما أجابوا به.


(1) رواه أئمة الصحاح والسنن عنه (صلى الله عليه وآله) في موارد عديدة، ومنها قوله (عليه السلام) (يا أيها الناس من آذى العباس فقد آذاني إنما عم الرجل صنو أبيه) مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 165. (2) سورة العلق: الآية 15 – 16. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 61، ح 102، ولفظ الحديث (عن جابر عن أبي جعفر قال: سألته عن تفسير هذه الآية من قول الله: ” إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ” الآية قال: جرت في القائم (عليه السلام). (*)

[ 349 ]

[ وقالوا كونوا هودا أو نصرى تهتدوا قل بل ملة إبرهم حنيفا وما كان من المشركين (135) ] أقول: ويمكن أن يكون مراده (عليه السلام) جارية في القائم (عليه السلام)، كون الوصية والتقرير بالقائم (عليه السلام) داخلين في وصية يعقوب وتقريره لبنيه، أي وصى بنيه وقررهم بالقائم (عليه السلام) فيما أوصاه وقرره. ويؤيد هذا التوجيه ما كتبه صاحب نهج الامامة، قال: روى صاحب شرح الاخبار بإسناده يرفعه قال: قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله عزوجل: ” و وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون ” بولاية على (عليه السلام) (1). تلك: أي الامة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون أمة قد خلت: قد مضت. لها ما كسبت: لا ينفعكم إلا ما كسبوا من أعمال الخير. ولكم ما كسبتم: لا ينفعكم إلا ما كسبتم منها. ولا تسئلون عما كانوا يعملون: لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم، والمقصود نفي الانهار بالوائل (كذا) ونحو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم (2). وقالوا كونوا هودا أو نصرى تهتدوا: أي قالت اليهود: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا.


(1) تفسير البرهان: ج 1، ص 156، ح 2، نقلا عن ابن شهر آشوب وغيره عن صاحب شرح الاخبار. (2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 194، في تفسير آية 134، من سورة البقرة. (*)

[ 350 ]

[ قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبرهم و إسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى و عيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) ] قل بل ملة إبرهم: أي بل نكون ملة إبراهيم، أي أهل ملته، وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ بالرفع، أي ملته ملتنا، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته. حنيفا: حال من المضاف إليه كقولك: رأيت وجه هند قائمة والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق، والحنف الميل في القدمين، وتحنف إذا مال. روى العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: الحنيفية، هي الاسلام (1). وعن الباقر (عليه السلام) قال: ما أبقت الحنيفة شيئا، حتى أن منها قص شارب وقلم الاظفار والختان (2). وما كان: إبراهيم. من المشركين: تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لان كلا منهم يدعي إتباع إبراهيم وهو على الشرك. قولوا ءامنا بالله: خطاب للكافرين، أي قولوا: لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل. وكذا قوله: بل ملة إبراهيم، يجوز أن يكون على معنى بل إتبعوا أنتم ملة إبراهيم وكونوا أهل ملته. والاظهر أن الخطاب للمؤمنين، ويؤيده ما نرويه في تأويله.


(1 و 2) تفسير العياشي: ج 1، ص 61، ح 103 و 104. (*)

[ 351 ]

وهو ما رواه محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان، عن سلام بن عمرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزوجل: ” قولوا امنا بالله وما انزل إلينا ” قال: إنما عنى بذلك عليا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجرت بعدهم في الائمة، ثم رجع القول من الله في الناس فقال ” فإن آمنوا ” يعني الناس ” بمثل ما آمنتم به ” يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين والائمة (عليهم السلام) ” فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق ” يعني الناس. انتهى (1). ومعناه أن الله سبحانه أمر الائمة صلوات الله عليهم أن يقولوا: آمنا بالله وما بعدها، لانهم المؤمنون بما امروا به حقا وصدقا، ثم قال مخاطبا للامة يعني الناس: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، فقد اهتدوا بكم وبما آمنتم به، وإن تولوا فإنما هم في شقاق ومصارعة ومحاربة لك يا محمد، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. وما أنزل إلينا: وهو القرآن. وما أنزل إلى إبرهم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط: جمع سبط، وهو الحافد، وهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. روى العياشي عن الباقر (عليه السلام): أنه سئل هل كان ولد يعقوب أنبياء ؟ قال: لا ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الانبياء، لم يكونوا يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا (2). والمراد بما انزل على هؤلاء الصحف. وما أوتى موسى وعيسى: التوراة والانجيل. وما أوتى النبيون: جملة المذكورين وغيرهم. من ربهم: متعلق بالايتاء، وكلمة ” من ” إبتدائية. لا نفرق بين أحد منهم: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود


(1) الكافي: ج 1، ص 415، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 19، ورواه العياشي في تفسيره: ج 1، ص 62، ح 107. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 62، ح 106. (*)

[ 352 ]

[ فإن ءامنوا بمثل ماءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عبدون (138) قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعملنا ولكم أعملكم ونحن له مخلصون (139) ] والنصارى، ولوقوع (أحد) في سياق النفي وعمومه أضيف إليه (بين)، وقيل: لانه في معنى الجماعة. ونحن له مسلمون: منقادون في جميع ما أمر به ونهى عنه. وفي الخصال: فيما علم أمير المؤمنين أصحابه: إذا قرأتم قولوا آمنا، فقولوا: آمنا إلى قوله: ” مسلمون ” (1). وفي الفقيه: في وصاياه لابنه محمد بن الحنفية: وفرض على اللسان الاقرار والتعبير بما عقد عليه، فقال عزوجل: ” قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا ” الآية (2). فإن ءامنوا: أي سائر الناس. بمثل ما ءامنتم به: من باب التبكيت، لان دين الحق واحد لا مثل له، ولو فرض أنهم حصلوا دينا آخر مثل دينكم في الصحة والسداد فقد اهتدوا، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أنه لا أصوب من رأيك، والمراد تبكيته. ويجوز أن يكون الباء للاستعانة، أي فإن دخلوا في الايمان بشهادة مثل


(1) الخصال: ج 2، ص 629، حديث الاربعمائة. (2) الفقيه: ج 2، ص 129، باب 227 الفروض على الجوارح. (*)

[ 353 ]

شهادتكم التي آمنتم بها. أو المثل مقحم كما في قوله: ” وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ” (1) أي عليه. وقرئ بحذفه، وقرأ ابي بالذي آمنتم به (2). فقد اهتدوا: إلى الحق. وإن تولوا: عما أنتم عليه. فإنما هم في شقاق: في كفر على ما رواه الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) (3). وأصله المخالفة: المناواة، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر. فسيكفيكهم الله: تسلية للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصر. وهو السميع: لاقوالكم. العليم: بنياتكم. صبغة الله: مصدر منتصب من قوله: ” آمنا به ” وهي فعلة، من صبغ كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله، لان الايمان يطهر النفوس. والاصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر، يسمونه المعمودية، ويقولون هو تطهير لهم، فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك، قال: الآن صار نصرانيا حقا فامر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا: آمنا وصبغنا الله بالايمان صبغة لا مثل صبغتنا وطهرنا به لا مثل تطهيرنا، أو يقولوا: صبغنا الله بالايمان صبغته ولم يصبغ صبغتكم، فهو من باب المشاكلة، كما تقول لمن يغرس الاشجار: إغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرام.


(1) سورة الاحقاف: الآية 10. (2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 195. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 218، في بيان معنى الآية 137، من سورة البقرة. (*)

[ 354 ]

وفسرها الصادق (عليه السلام) بالاسلام (1). روى الشيخ محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عزوجل ” صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ” قال: صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق (2). وأقول: يظهر من الخبرين أن الاسلام لا يتحقق بدون الولاية، وقد ذكرنا لك مرارا ما يدلك على هذا. ومن أحسن من الله صبغة: لا أحسن من صبغته. ونحن له عبدون: معطوف على (آمنا بالله) وتعريض بهم، أي لا نشرك به كشرككم. وقيل: صبغة الله بدل من ” ملة إبراهيم ” أو نصب على الاغراء، بمعنى عليكم صبغة الله، ويردهما هذا العطف، للزوم فك النظم، وإخراج الكلام عن التيامه. قل أتحاجوننا في الله: قرئ اتحاجونا بإدغام النون، يعني تحاجونا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل الله على أحد لانزل علينا، لانا أهل الكتاب والعرب عبدة الاوثان، ونحن أسبق في النبوة، لان الانبياء كلهم كانوا منا. وهو ربنا وربكم: لا اختصاص له بقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء. ولنا أعملنا ولكم أعملكم: فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا. ونحن له مخلصون: موحدون نخلصه بالايمان والطاعة دونكم. والحاصل أن إعطاء الكرامة إما بالتفضل وكونه ربا، أو بالعمل، أو بالاخلاص، والاولان مشتركان بيننا وبينكم، والاخير مختص بنا، فدعوتكم الاحقية ساقطة لا وجه لها، بل نحن أحق.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 219. (2) الكافي: ج 1، ص 422، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 53. (*)

[ 355 ]

[ أم تقولون إن إبرهم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصرى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهدة عنده من الله وما الله بغفل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141) ] أم تقولون: يحتمل على قراءة التاء أن تكون (أم) معادلة للهمزة في (أتحاجوننا) بمعني أي الامرين يأتون للمحاجة في حكم الله أم إدعاء اليهودية والنصرانية على الانبياء، والمقصود إنكارهما والتوبيخ عليهما معا، وأن تكون منقطعة بمعنى بل تقولون، والهمزة على قراءة الياء لا تكون إلا منقطعة. إن إبرهم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصرى: ولم يكونوا مسلمين. قل ءأنتم أعلم أم الله: وأنه شهد لهم بالاسلام في قوله: ” ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ” (1). ومن أظلم ممن كتم شهدة عنده من الله: أي شهادة الله لابراهيم بالحنيفية، و ” من ” فيه كما في قولك: ” هذه شهادة مني لفلان “، إذا شهدت له، والمعنى أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لانهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها، أو إنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها، أو الاعم من المعنيين، وفي الاخيرين تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد (عليه السلام) بالنبوة في كتبهم، والآية تدل على كفر من كتم شهادة الله بالولاية، وعلى كفر أهل الخلاف.


(1) سورة آل عمران: الآية 67. (*)

[ 356 ]

[ * سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم (142) ] وتقريره: ان نص النبي على شئ شهادة الله عليه، فكتمان نص النبي كتمان شهادة الله، وكتمان شهادة الله أشد الظلم، فهو إما الكفر أو أشد منه، وعلى كلا التقديرين يلزم المدعى. ويدل عليه أيضا ما رواه في الفقيه عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في أثناء خبر قال: فقلت له: أرأيت من جحد الامام منكم ما حاله ؟ فقال: من جحد إماما من الله وبرئ منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الاسلام، لان الامام من الله ودينه دين الله، ومن برئ من دين الله فهو كافر و دمه مباح في تلك الحال، إلا أن يرجع ويتوب إلى الله عزوجل مما قال (1). وما الله بغفل عما تعملون: وعيد لهم، وقرئ بالتاء. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون: قيل: التكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطبائع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم، أو الخطاب فيما سبق لهم. وفي هذه الآية لنا تحذير عن الاقتداء بهم. أو المراد بالامة في الاول الانبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى. سيقول السفهاء من الناس: الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والاعراض عن النظر، يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين.


(1) كتاب الغيبة للنعماني: باب 7، ما روي فيمن شك في واحد من الائمة، ص 129، ح 3، و رواه في الوسائل: ج 18، ص 565، الباب 10، من أبواب حد المرتد، ح 38. (*)

[ 357 ]

وفائدة تقديم الاخبار، توطين النفس وإعداد الجواب، وفي المثل: قتل الرمي برأس السهم. ما ولهم: ما صرفهم ؟ عن قبلتهم التى كانوا عليها: وهي بيت المقدس. قل لله المشرق والمغرب: بلاد الشرق والغرب، أو الارض كلها. يهدي من يشاء إلى صرط مستقيم: وهي ما توجبه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس واخرى إلى الكعبة. وفي تفسير الامام (عليه السلام) عند قوله عزوجل: ما ننسخ من آية أو ننسها، وفي الاحتجاج عنه (عليه السلام) أيضا قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة أمره الله عز وجل أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته، ويجعل الكعبة بينه و بينها إذا أمكن، وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلما كان بالمدينة و كان متعبدا باستقبال بيت المقدس، استقبله وانحرف عن الكعبة، وكان متعبدا سبعة عشر شهرا، وجعل قوم من مردة اليهود يقولون: والله ما يدري محمد كيف يصلي حتى صار يتوجه إلى قبلتنا، ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا، فاشتد ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما اتصل به عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة، فجاءه جبرئيل (عليه السلام)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة، ولقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبا، فقال جبرئيل: فسل ربك أن يحولك إليها، فإنه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك، فلما استتم دعاءه صعد جبرئيل (عليه السلام) ثم عاد من ساعته فقال: اقرأ يا محمد ” قد نرى تقلب وجهك في السماء ” الآية. فقالت اليهود عند ذلك ” ما وليهم عن قبلتهم التى كانوا عليها ” فأجابهم الله بأحسن جواب، فقال: ” قل لله المشرق والمغرب ” وهو يملكهما، وتكليفه التحول إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، هو مصلحتهم و مؤديهم بطاعته إلى جنات النعيم.


[ 358 ]

وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها، أفحقا كان ما كنت عليه، فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق فهو باطل، أو كان باطلا فقد كنت عليها طول المدة، فلا يؤمننا أن تكون الآن على باطل ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بل كان ذلك حقا وهذا حق، يقول الله تعالى: ” قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ” إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في إستقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم. ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد تركتم العمل يوم السبت ثم عملتم به في سائر الايام ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده، أفتركتم الحق إلى الباطل، أو الباطل إلى حق، أو الباطل إلى باطل، أو الحق إلى الحق، قولوا: كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم، قالوا: بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق، ثم قبلة الكعبة في وقتها حق، فقالوا يا محمد: فبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس وحين نقلك إلى الكعبة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما بدا له عن ذلك فإنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح، لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم جل عن ذلك، ولا يقع عليه أيضا مانع يمنعه عن مراده، وليس يبدو إلا لمن كان هذا صفته، وهو جل وعز يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا. ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها اليهود أخبروني عن الله أليس يمرض ثم يصح ويصح ثم يمرض، أبدا له في ذلك ؟ أليس يحيي ويميت، أبدا له في كل واحد من ذلك ؟ قالوا: لا، قال: فكذلك الله تعبد نبيه بالصلاة إلى الكعبة بعد أن كان تعبد بالصلاة إلى بيت المقدس، وما بدا له في الاول. قال: أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف والصيف بعد الشتاء، أبدا له في كل واحد من ذلك ؟


[ 359 ]

قالوا: لا، قال: فكذلك لم يبد له في القبلة، ثم قال: أليس قد ألزمكم في الشتاء أن تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة، وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر، فبدا له في الصيف حتى أمركم بخلاف ما كان أمركم في الشتاء ؟ قالوا: لا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فكذالكم الله في تعبدكم في وقت لصلاح يعلمه بشئ، ثم تعبده في وقت آخر لصلاح آخر يعلمه بشئ آخر، فإذا أطعتم الله في الحالين استحققتم ثوابه، وأنزل الله ” ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله ” إذا توجهتم بأمره فثم الوجه الذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عباد الله أنتم المرضى والله رب العالمين كالطبيب، وصلاح المريض فيما يعلمه الطبيب ويدبره، لا فيما يشتهيه و يقترحه، ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين (1) انتهى. وهذا الخبر كما ترى يدل على نفي البداء لله تعالى. وقد روى محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر، وأن يقر لله بالبداء (2). فوقع التنافي بين الخبرين. وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الاجر ما فروا عن الكلام فيه (3). فينبغي التكلم في الجمع بين الخبرين فأقول: البداء له معنيان:


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 201، في تفسير قوله تعالى: ” ما ننسخ من آية ” الآية. وفي احتجاج الطبرسي: ج 1، ص 40، احتجاجه (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليهود في جواز نسخ الشرائع وفي غير ذلك. (2) الكافي: ج 1، ص 148، كتاب التوحيد، باب البداء، ح 15. (3) الكافي: ج 1، ص 148، كتاب التوحيد، باب البداء، ح 12. (*)

[ 360 ]

الاول: أن يبدو له رأي غير الرأي الاول، لمفسدة في الرأي الاول، أو لمحمدة في الرأي الثاني لم يعلم به سابقا. وهو بهذا المعنى منفي عنه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وهو المراد في الخبر الاول. والثاني: أن يكون في علمه السابق أن الصلاح في وقت معين في الفعل الفلاني، وإذا جاز ذلك الوقت فالمصلحة في الشئ الفلاني، وكان في علمه السابق تغيير ذلك الشئ إذا جاء وقته. أو كان مقررا في علمه السابق أن زيدا إن لم يعمل بالخيرات مات في وقت كذا، وإن عمل مات في وقت بعده مع علمه بوقوع أحدهما، لكن كان ذلك العلم مخزونا عنده لا يبديه لاحد من ملائكته وأنبيائه وأئمته. والبداء إنما يكون بهذا المعنى، فالبداء في الحقيقة في علم الملك أو النبي أو الامام، بمعنى الظهور لاحدهم غير ما ظهر لهم أولا، لا في علمه تعالى بذلك المعنى، وهو المراد حيث اثبت له البداء، تعالى الله عما يقول الظالمون. ويؤيد هذا المعنى ما رواه محمد بن يعقوب، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وعلم علمه ملائكته ورسله. فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء (1). وأيضا قد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه، فنحن نعلمه (2). * * *


(1) الكافي: ج 1، ص 147، كتاب التوحيد، باب البداء، ح 6. (2) الكافي: ج 1، ص 147، كتاب التوحيد، باب البداء، ح 8. (*)

[ 361 ]

[ وكذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله و ما كان الله ليضيع إيمنكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143) ] وكذلك جعلنكم أمة: اي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم امة. روى الصدوق: يعني أئمة (1). وسطا: أي خيارا، وقيل للخيار وسط، لان الاطراف يتسارع إليها الخلل. وقال الصدوق: أي عدلا وواسطة بين الرسول والناس (2). لتكونوا شهداء على الناس: يعني يوم القيامة. ويكون الرسول عليكم شهيدا: روي في التفاسير أن الامم يوم القيامة يجحدون بتبليغ الانبياء، فيطالب الله الانبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بامة محمد (صلى الله عليه وآله) فيشهدون، فتقول الامم: من أين عرفتم ؟ فيقول: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد (صلى الله عليه وآله) فيسأل عن حال امته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، و ذلك قوله: ” فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (3).


(1 و 2) تفسير القمي: ج 1، ص 63، قال: وأما قوله: ” وكذلك جعلناكم امة وسطا “، يعني أئمة وسطا، أي عدلا وواسطة بين الرسول والناس. (3) تفسير الكشاف: ج 1، ص 199. (*)

[ 362 ]

وفي الكافي (1)، والعياشي: عن الباقر (عليه السلام): نحن الامة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه وسمائه (2) وفي حديث ليلة القدر: عنه، عن علي (عليه السلام) وأيم الله لقد قضي الامر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف، ولذلك جعلهم شهداء على الناس يشهد محمد (صلى الله عليه وآله) ونشهد على شيعتنا، ويشهد شيعتنا على الناس (3). وروى الحسكاني في شواهد التنزيل: بإسناده عن سليم بن قيس عن علي (عليه السلام): إن الله تعالى إيانا عني بقوله: ” لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ” فرسول الله شاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه، ونحن الذين قال الله: ” وكذلك جعلناكم امة وسطا ” (4). وروى العياشي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال (عليه السلام): نحن نمط الحجاز، قيل: وما نمط الحجاز ؟ قال: أوسط الانماط، إن الله يقول: وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيدا عليكم، قال: ولا يكون شهداء على الناس إلا الائمة (عليهم السلام)، فأما الامة فإنه غير جائز أن يشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل (5). وما جعلنا القبلة التى كنت عليها: هي بيت المقدس، أي غيرناه إلى الكعبة. وقيل: هي الكعبة، لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم امر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود، ثم حول إلى


(1) الكافي: ج 1، ص 190، باب في أن الائمة شهداء على الناس، ح 2. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 62، ح 11. (3) الكافي: ج 1، ص 366، باب في شأن انا انزلناه في ليلة القدر، قطعة من ح 7. (4) شواهد التنزيل: ج 1، ص 92، ومما نزل فيهم (عليهم السلام) ” وكذلك جعلناكم امة وسطا ” ح 129، ورواه في مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 224. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 63، ح 111، وفيه بعد قوله تعالى: ” وكذلك جعلناكم امة وسطا ” ما لفظه، قال: ثم قال: إلينا يرجع القالي وبنا يلحق التالي. وأما بقية الحديث الذي أورده المصنف قدس سره فهو مضمون الحديث 114، في تفسير العياشي فلا حظ. (*)

[ 363 ]

الكعبة، وينافيه ما رويناه سابقا من أنه (عليه السلام) كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس. إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه: يرتد عن دينه، إلفا لقبلة آبائه. وذلك أن هوى أهل المدينة كان في بيت المقدس، فأمرهم بمخالفته، ليبين من يوافق محمدا فيما يكرهه، وقال (لنعلم) ولم يزل عالما بذلك، إما لان المراد ليعلم رسول الله والمؤمنون، والاسناد إلى ذاته لانهم خواصه، أو لان المراد ليتميز التابع من الناكص بوضع العلم موضع التميز، لان العلم يقع به التميز، أو لان المراد لنعلم علما يتعلق به الخبر، أو هو أن يعلمه موجودا حاصلا. والاخير مروي في التفسير المنسوب إلى الامام (1) وفي الاحتجاج أيضا (2). وإن كانت: إن هي المخففة التي تلزمها اللام الفارقة، والضمير في كانت للصلاة إلى بيت المقدس، أو لما دل عليه قوله ” وما جعلنا القبلة ” من الردة أو التحويلة أو الجعلة. لكبيرة: لثقيلة شاقة إلا على الذين هدى الله، وعرف أن الله يتعبد بخلاف ما يريده المرء، ليبتلي طاعته في مخالفة هواه. وفي الكشاف: أنه يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن: ما رأيك في أبي تراب ؟ فقرأ قوله: إلا على الذين هدى الله: ثم قال: وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم (3). وما كان الله ليضيع إيمنكم: أي صلاتكم.


(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 202، قال: ولما قال الله عزوجل: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وهي بيت المقدس، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنعلم ذلك منه موجودا بعد أن علمناه سيوجد. (2) وفي الاحتجاج: ص 42، في احتجاجه (صلى الله عليه وآله) على اليهود في جواز نسخ الشرائع مثله. (3) الكشاف: ج 1، ص 201، في تفسير آية 143، من سورة البقرة. (*)

[ 364 ]

[ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغفل عما يعملون (144) ] روى العياشي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن الايمان أقول هو وعمل، أم قول بلا عمل ؟ فقال: الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل مفترض من الله مبين في كتابه، واضح نوره ثابتة حجته، يشهد له بها الكتاب و يدعو إليه، ولما أن صرف نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون للنبي (صلى الله عليه وآله): أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالنا فيها، وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله: ” وما كان الله ليضيع إيمانكم ” فسمى الصلاة إيمانا، فمن لقي الله حافظا لجوارحه، موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لايمانه وهو من أهل الجنة، ومن خان في شئ منها وتعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الايمان (1). وقرئ ليضيع بالتشديد. إن الله بالناس لرءوف: لا يضيع أجورهم. رحيم: لا يترك ما يصلحهم. قد نرى: ربما نرى، وأصل الرؤية إدراك الشئ بالبصر، ويستعمل بمعنى العلم. تقلب وجهك في السماء: تردده تطلعا على الوحي، في موضع مفعولي


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 63، ح 115. (*)

[ 365 ]

(نرى) أو هو مما لمفعول واحد. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لانها قبلة إبراهيم (عليه السلام) وأقدم القبلتين، وأدعى للعرب إلى الايمان، ولمخالفة اليهود، وذلك على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل. فلنولينك قبلة: فلنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا، إذا صيرته واليا له، أو فلنحولنك إلى جهتها. ترضها: تحبها وتتشوق إليها لمقاصد دينية وافقت مشيتة الله تعالى وحكمه. والرضا والمحبة نظيران، ويظهر الفرق بأن ضد المحبة: البغض وضد الرضا: السخط. فول وجهك شطر المسجد الحرام: أي نحوه. قال الشاعر: وقد أظلكم من شطر ثغركم * هول له ظلم يغشاكم قطعا (1) – أي من نحو ثغركم وتلقائه. وقيل: جانبه، لان الشطر لما انفصل عن الشئ، من شطر إذا انفصل، ودار شطورة أي منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبه، وإن لم ينفصل كالقطر. وقيل: شطر الشئ نصفه، من شطرت الشئ جعلته نصفين. و ” الحرام ” المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب، والحساب بمعنى المحسوب. أي محرم فيه القتال، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه. وذكر (المسجد) دون الكعبة، لان البعيد يكفيه مراعاة الجهة، بخلاف القريب. والنبي (صلى الله عليه وآله) كان حينئذ في المدينة بعد أن صلى إلى بيت المقدس سته عشر شهرا، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر


(1) قائله لقيط الايادي على ما قاله الفخر الرازي في التفسير الكبير: ج 4، ص 112، وضبط في المصراع الاول (شعركم) بدل (ثغركم) واستشهد به في مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 226، وفي الجامع لاحكام القرآن للقرطبي: ج 2، ص 159، وفي تفسير البحر المحيط لابي حيان من دون تعرض لقائله. (*)

[ 366 ]

بشهرين، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمي المسجد مسجد القبلتين. وحيث ما كنتم: في الارض في بر أو بحر أو سهل أو جبل في بيت المقدس وفي غيره. فولوا وجوهكم شطره: تخصيص الخطاب بالنبي أولا، تعظيمه (عليه السلام)، والتصريح بعموم الحكم. وفيه تأكيد لامر القبلة وتحضيض للامة على المتابعة وسلوك طريق الاسترواح والرفق بالمأمورين. وإن الذين أوتوا الكتب: علماء اليهود، وقيل: هم والنصارى. ليعلمون أنه: أي التحويل أو التوجيه. الحق من ربهم: لانه كان في بشارة الانبياء لهم أن يكون نبي في صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أن يصلي إلى القبلتين. وما الله بغفل عما يعملون: وعد للمطيعين ووعيد لغيرهم. وقرئ بالتاء. قال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا من شأن القبلة (1)، وقال قتادة: نسخت هذه الآية ما قبلها (2). والاقوى أنه مما نسخ السنة بالقرآن كما قاله جعفر بن مبشر، لانه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس. ومن قال: نسخت قوله: ” فأينما تولوا فثم وجه الله ” (3)، ففيه أن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر، روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (4) وليست مخصوصة، واختلف في صلاة النبي إلى بيت المقدس، فقال قوم: كانت صلاته (عليه السلام) بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة امر بالصلاة إليه ثم حول إلى


(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 227. (3) سورة البقرة: الآية 115. (4) لاحظ الوسائل: ج 3، ص 242، كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، أحاديث 18 و 19 و 23. (*)

[ 367 ]

[ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظلمين (145) ] الكعبة أيضا، وقال آخرون: كانت صلاته بمكة أيضا إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها، ولا يصلي في مكان لا يمكن هذا فيه. وقال آخرون: كان يصلي بمكة وبعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها، ثم امر بالتوجه إلى الكعبة. ولئن أتيت: اللام موطئة للقسم، أي والله. الذين أوتوا الكتب: من علماء اليهود والنصارى، وقيل: جميع أهل الكتاب. بكل ءاية: برهان وحجة على أن الكعبة قبلة. ما تبعوا قبلتك: جواب القسم المضمر ساد مسد الشرط، سواء قدر القسم مقدما على الشرط، فيتعين كون الجواب له، ولا يصح جعله جزاء للشرط ومؤخرا عنه، فيسوغ الامران بقرينة ترك الفاء وهو لازم في الماضي المنفي، وفيه من القطع بعدم المتابعة ما ليس في جعله جزاء للشرط، وإن أكد بالقسم، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تنزيلها بحجة وإنما خالفوك عنادا. وما أنت بتابع قبلتهم: قطع لطمعهم، فإنهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، تغريرا له وطمعا في رجوعه، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق، أو الاقرار للاشعار بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) لا يمكن له المتابعة لواحد.


[ 368 ]

[ الذين ءاتينهم الكتب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرت أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير (148) ] وما بعضهم بتابع قبلة بعض: فإن يهود تستقبل صخرة، والنصارى مطلع الشمس، لا يرجى توافقهم، لتصلب كل حزب فيما هو فيه، وفيه تسلية الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن عنادهم لا يخصه، ورد لاعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب فيما ورثوه عن أنبياء الله، وأن بيت المقدس لم تزل كان قبلة الانبياء، فهو أولى بأن يكون قبلة، أي فكما جاز أن يخالف بين جهتهم للاستصلاح جاز أن يخالف بحهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح. ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم: على سبيل الفرض والتقدير. إنك إذا لمن الظلمين: أكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه، تعظيما للحق المعلوم، وتحريضا على اقتفائه، وتحذيرا عن متابعة الهوى، وتأكيدا للاجتناب عنه. الذين ءاتينهم الكتب: يعني علمائهم. يعرفونه: قيل: الضمير لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو للعلم، أو القرآن، أو التحويل. كما يعرفون أبناءهم: أي يعرفونه بأوصافه كمعرفة أبنائهم لا يلتبسون عليهم بغيرهم.


[ 369 ]

وفي اصول الكافي عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه عن محمد بن داود الغنوي، عن الاصبغ بن نباته في حديث طويل فيه يقول (عليه السلام): فأما أصحاب المشأمة فهم اليهود والنصارى، يقول الله عزوجل: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، يعرفون محمدا والولاية في التوراة والانجيل كما يعرفون أبناءهم في منازلهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك إنك الرسول إليهم فلا تكونن من الممترين (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، قال الله تبارك وتعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه، يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يعرفون أبناءهم، لان الله عزوجل أنزل عليهم في التوراة والانجيل والزبور صفة محمد (صلى الله عليه وآله) وصفة أصحابه ومبعثه ومهاجرته، وهو قول الله عزوجل: ” محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل ” (2). فهذه صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التوراة والانجيل وصفة أصحابه، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب، كما قال جل جلاله: ” فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ” (3 / 4). وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون: تخصيص لمن عاند واستثناء لمن آمن. الحق من ربك: كلام مستأنف، و (الحق) إما مبتدأ خبره (من ربك) واللام للعهد والاشارة إلى ما عليه الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو الحق الذي يكتمونه، أو للجنس، والمعنى أن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه،


(1) الكافي: ج 2، ص 283، ح 16، وفي تفسير البرهان: ج 1، ص 161، ح 1. (2) سورة الفتح: الآية 29. (3) سورة البقرة: الآية 89. (4) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 32. (*)

[ 370 ]

لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق و (من ربك) حال أو خبر بعد خبر، وقرئ بالنصب على أنه بدل من الاول، أو مفعول (يعلمون). فلا تكونن من الممترين: أي الشاكين في أنه من ربك، أو في كتمانهم الحق عالمين به، والمراد أما تحقيق الامر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمر الامة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الابلغ، وإلا فالشك غير متوقع من الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولا يكون بقصد واختيار في غيره. ولكل وجهة: أي ولكل امة قبلة، أو لكل قوم جهة وجانب من الكعبة والتنوين بدل الاضافة. هو موليها: أحد المفعولين محذوف، أي هو موليها وجهه، أو الله تعالى موليها وجهه. وقرئ لكل وجهة بالاضافة والمعنى: وكل وجهة الله تعالى موليها أهلها، واللام مزيدة للتأكيد، جبرا لضعف العامل، وقرأ ابن عامر مولى، أي هو مولى تلك الجهة قد وليها. فاستبقوا الخيرت: من أمر القبلة وغيره مما يوجب السعادة، وأعظمها الولاية، بل ينحصر فيها، كما يأتي في الخبر. أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا: أي يجمعكم للحساب أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة، يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة، أو الخطاب لاصحاب القائم (عليه السلام) على ما رواه أبو جعفر محمد بن بابويه رحمه الله في كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) بإسناده إلى سهل بن زياد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (عليهم السلام): إني لارجو أن يكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، فقال (عليه السلام): يا أبا القاسم ما منا إلا وهو قائم بأمر الله عزوجل وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهر الله به الارض من أهل الكفر والجحود، ويملاها عدلا وقسطا هو الذي تخفى على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم


[ 371 ]

تسميته، وهو سمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكنيه وهو الذي تطوى له الارض ويذل له كل صعب، يجتمع إليه أصحابه عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاصي الارض، ذلك قول الله عزوجل: ” أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير ” فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الاخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد – وهو عشرة آلاف رجل – خرج بإذن الله عزوجل، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضي الله تعالى. قال عبد العظيم: فقلت: يا سيدي كيف يعلم أن الله عزوجل قد رضي ؟ قال: يلقي في قلبه الرحمة، فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما (1). وبإسناده إلى ابي خالد الكابلي، عن سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: المفقودون عن فرشهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدة أصحاب بدر، فيصبحون بمكة، وهو قول الله عزوجل: ” أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ” وهم أصحاب القائم (عليه السلام) (2). وبإسناده إلى محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لقد نزلت هذه الآية في المفتقدين من أصحاب القائم (عليه السلام) قوله عزوجل: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا، إنهم ليفتقدون عن فرشهم ليلا فيصبحون بمكة، وبعضهم يسير في السحاب يعرف باسمه واسم أبيه وحليته ونسبه، قال: فقلت: جعلت فداك أيهم أعظم إيمانا ؟ قال: الذي يسير في السحاب نهارا (3). وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لكأني أنظر


(1) كمال الدين وتمام النعمة: ص 377، باب 36، ما روي عن أبي جعفر الثاني في النص على القائم وغيبته وأنه الثاني عشر من الائمة (عليهم السلام)، ح 2. (2) كمال الدين وتمام النعمة: ص 654، باب 57، ما روي في علامات خروج القائم (عليه السلام)، ح 21. (3) كمال الدين وتمام النعمة: ص 672، باب 58، في نوادر الكتاب، ح 24. (*)

[ 372 ]

إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد حقه، إلى أن قال: هو والله المضطر في كتاب الله في قوله: ” أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض ” (1)، فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا، فمن كان ابتلي بالمسير وافى، ومن لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه، وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هم المفقودون عن فرشهم، وذلك قول الله عزوجل: ” فاستبقوا الخيرات، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ” قال: الخيرات: الولاية (2). وذكر الشيخ المفيد في كتاب الغيبة بإسناده عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: المعني بهذا الخطاب أصحاب القائم (عليه السلام)، قال بعد ذكر علامات ظهوره: ثم يجمع الله له أصحابه وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدة أهل بدر، يجمعهم الله له على غير ميعاد قزعا كقزع الخريف (3)، وهي يا جابر الآية التي ذكرها الله في كتابه ” أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ” (4). إن الله على كل شئ قدير: فيقدر على الاماتة والاحياء والجمع. * * *


(1) سورة النمل: الآية 62. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 205 في سورة سبأ في تفسيره الآية: ” ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت “. الآية. (3) وفي حديث علي كرم الله وجهه حين ذكر يعسوب الدين فقال: يجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف، يعني قطع السحاب، لانه أول الشتاء والسحاب يكون فيه متفرقا غير متراكم ولا مطبق، ثم يجتمع بعضه إلى بعض بعد ذلك (لسان العرب: ج 8، في لغة قزع). وفي حديث علي: فيجتمعون إليه كما تجتمع قزع الخريف، مثله في أصحاب القائم يجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف أي قطع السحاب المتفرقة، قيل: وإنما خص الخريف لانه أول الشتاء والسحاب يكون فيه متفرق غير متراكم ولا مطبق ثم يجتمع بعضه إلى بعض بعد ذلك (مجمع البحرين: ج 4، ص 378، في لغة قزع). (4) لم أعثر على حديث بهذه الالفاظ. (*)

[ 373 ]

[ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) ] ومن حيث خرجت: للسفر. فول وجهك شطر المسجد الحرام: إذا صليت. وإنه: أي هذا الامر. للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون: وقرأ أبو عمرو بالياء. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره: تكرير هذا الحكم لتعدد علله، فإنه ذكر للتحويل ثلاث علل، تعظيم الرسول بإبتغاء مرضاته، وجري العادة الالهية على أن يولي كل صاحب دعوة جهة يستقبلها، ودفع حجج المخالفين. وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريرا وللتأكيد، لان القبلة لها شان والنسخ من مظان الفتنة. لئلا يكون للناس عليكم حجة: علة ل‍ (ولوا) والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، والمشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته. إلا الذين ظلموا: استثناء من الناس، أي لا يكون حجة إلا للمعاندين. منهم: فإنهم يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده، وبدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك إلى دينهم أن يرجع. ويسمي هذه حجة،


[ 374 ]

[ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم ءايتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) ] لانهم يسوقونها مساقها كقوله تعالى: ” حجتهم داحضة ” (1). وقيل: الحجة بمعنى الاحتجاج. وقيل: الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا، كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (2) للعلم بأن الظالم لا حجة له. وقرئ: ألا الذين ظلموا، على أنه استئناف بحرف التنبيه. فلا تخشوهم: فإن مطاعنهم لا تضركم. واخشوني: ولا تخالفوني ما أمرتكم به. ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون: إما علة لمحذوف، أي أمرتكم لاتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم، أو معطوف على علة مقدرة، أي اخشوني لاحفظكم عنهم ولاتم نعمتي عليكم، أو على (لئلا يكون). كما أرسلنا فيكم رسولا منكم: إما متصل بما قبله، أي ولاتم نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة كما أتمها بإرسال الرسل، أو بما بعده أي كما


(1) سورة الشورى، الآية 16. (2) هو من قصيدة للنابغة الذبياني يمدح بها النعمان بن الحرث، الضمير في فيهم وفي سيوفهم يرجع إلى جيش النعمان، والفلول بالفاء كفلوس جمع فل، وهو الكسر في حد السيف، والقراع بالقاف والراء والعين المهملتين ككتاب، بمعنى الضرب، والكتائب جمع كتيبه وهي بالمثناة والياء والموحدة كسفينة الجيش. جامع الشواهد: باب الواو بعده اللام، ص 329. (*)

[ 375 ]

[ فاذكروني أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون (152) يأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصبرين (153) ] ذكرتكم بالارسال فاذكروني. يتلوا عليكم ءايتنا ويزكيكم: يحملكم على ما به تصيرون أزكياء. ويعلمكم الكتب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون: بالفكر والنظر ولا طريق له سوى الوحي. وتكرير الفعل للدلالة على أنه جنس آخر. فاذكروني: بالطاعة. أذكركم: بالثواب. واشكروا لى: ما أنعمت به عليكم. ولا تكفرون: بجحد النعم وعصيان الامر. وفي كتاب معاني الاخبار بإسناده إلى أبي الصباح بن نعيم العابدي، عن محمد بن مسلم قال في حديث طويل في آخره: تسبيح فاطمة الزهراء من ذكر الله الكثير الذي قال عزوجل: ” فاذكروني أذكركم ” (1). وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن يزيد، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث طويل: الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، قال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (2).


(1) معاني الاخبار: ص 193، باب معنى ذكر الله كثيرا، ذيل حديث 5. (2) الكافي: ج 2، كتاب الايمان والكفر، باب وجوه الكفر، قطعة من حديث 1، ولفظه (والوجه الثالث من الكفر كفر النعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان: ” هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر = (*)

[ 376 ]

وفي تفسير علي بن إبراهيم وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ” ولذكر الله أكبر ” (1) يقول: ذكر الله لاهل الصلاة أكبر من ذكرهم إياه، ألا ترى أنه يقول: اذكروني أذكركم (2). وفي روضة الكافي: باسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، في حديث طويل يقول فيه (عليه السلام): والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين، واعلموا أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير، فاعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته (3). وفي مجمع البيان: وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن الملك ينزل الصحيفة من أول النهار وأول الليل يكتب فيها عمل ابن آدم، فاملوا في أولها خيرا وفي آخرها خيرا، فإن الله يغفر لكم ما بين ذلك، إن شاء الله، فإنه يقول: ” اذكروني أذكركم ” (4). وفي كتاب الخصال فيما أوصى به النبي عليا (عليه السلام): ثلاث لا تطيقها هذه الامة: المواساة للاخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كل حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم الله عليه خاف الله عنده وتركه (5). وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: العبد بين ثلاثة:


= أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ” وقال: ” لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ” وقال: ” فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون “. (1) سورة العنكبوت: الآية 45. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 150، في تفسيره لقوله تعالى: ” ولذكر الله أكبر “. (3) الكافي: ج 8، ص 7، ح 1. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 234، في بيان المعنى لآية (152) ” فاذكروني أذكركم “. والوسائل: ج 4، كتاب الصلاة، ص 1183، الباب 5، من أبواب الذكر، ح 11. (5) الخصال: ص 125، باب الثلاثة، باب ما جاء على ثلاثة في وصية النبي لامير المؤمنين (عليهم السلام)، قطعة من حديث 122. (*)

[ 377 ]

بلاء وقضاء ونعمة، فعليه في البلاء من الله الصبر فريضة، وعليه في القضاء من الله التسليم فريضة، وعليه في النعمة من الله الشكر فريضة (1). وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهما السلام): ومن قال: الحمد لله، فقد أدى شكر كل نعم الله تعالى (2). وفيما علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه: اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم (3). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل له: وشكر كل نعمة الورع عما حرم الله تعالى (4). يأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر: عن المعاصي وحظوظ النفس. والصلوة: التي هي عماد الدين. إن الله مع الصبرين: بالنصرة وإجابة الدعوة. في مصباح الشريعة: قال الصادق (عليه السلام) في كلام طويل: ومن استقبل البلايا بالرحب، وصبر على سكينة ووقار، فهو من الخاص، ونصيبه ما قال الله عزوجل: ” إن الله مع الصابرين ” (5). وفي تفسير العياشي: عن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: يا فضيل، بلغ من لاقيت من موالينا عنا السلام وقل لهم: إني أقول: لا اغني عنكم من الله شيئا إلا بورع، فاحفظوا ألسنتكم وكفوا أيديكم وعليكم بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (6).


(1) الخصال: ص 86، باب الثلاثة، ثلاث خصال العبد بينهن، ح 17. (2) الخصال: ص 299، باب تمجيد الله عز وجل، قطعة من حديث 72. (3) الخصال: ص 613، حديث أربعمائة. (4) الخصال: ص 14، باب الواحد، خصلة هي الزهد في الدنيا وخصلة هي شكر كل نعمة، قطعة من حديث 50. (5) مصباح الشريعة: ص 62، الباب الحادي والتسعون. (6) تفسير العياشي: ج 1، ص 68، ح 123. (*)

[ 378 ]

[ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموت بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع و نقص من الامول والانفس والثمرت وبشر الصبرين (155) الذين إذا أصبتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه رجعون (156) ] ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموت: أي هم أموات. بل أحياء: أي بل هم أحياء. ولكن لا تشعرون: ما حالهم. والآية نزلت في شهداء بدر كانوا أربعة عشر. وفي مجمع البيان: (بل أحياء) قيل فيه أقوال: الرابع: أن المراد أحياء لما نالوا من جميل الذكر والثناء، كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: هلك خزان الاموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم (1) في القلوب موجودة (2). وفيه: روى الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الاحكام مسندا إلى علي بن مهزيار عن الحسن، عن القاسم بن محمد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ قلت: يقولون: تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك، أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر، يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك


(1) وفي رواية (وأمثالهم). (2) نهج البلاغة: ص 496، الخطبة 147، ومن كلام له (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي. (*)

[ 379 ]

الصورة التي كانت في الدنيا (1). وعنه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أرواح المؤمنين ؟ فقال في الجنة، على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان (2). وفي الحديث أنه يفسخ له مد بصره، ويقال له: نم نومة العروس (3). ولنبلونكم: أي ولنصيبنكم إصابة من يختبر لاحوالهم، هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء. بشئ من الخوف والجوع: أي بقليل من ذلك بالقياس إلى ما وقاهم عنه، أو بالنسبة إلى ما يصيب معانديهم في الآخرة. والاخبار به قبل الوقوع، للتوطين. ونقص من الامول والانفس والثمرت: عطف على شئ، أو الخوف. وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة، بإسناده إلى محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن لقيام (4) القائم (عليه السلام) علامات تكون من الله عزوجل للمؤمنين، قلت: فما هي جعلني الله فداك ؟ قال: ذلك قول الله عزوجل: (ولنبلونكم) يعني المؤمنين قبل خروج القائم (عليه السلام) (بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين) قال: يبلوهم بشئ من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم (والجوع) بغلاء أسعارهم (ونقص من الاموال) قال: كساد التجارات وقلة الفضل (و) نقص من (الانفس) قال: موت ذريع ونقص من (الثمرات) لقلة ريع ما يزرع (وبشر الصابرين) عند ذلك بتعجيل خروج القائم (عليه السلام)، قال: يا محمد هذا تأويله، إن الله عزوجل يقول: ” وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون


(1) التهذيب: ج 1، ص 466، باب 23، تلقين المحتضرين، ح 171، من ابواب الزيادات. (2) التهذيب: ج 1، ص 466، باب 23، تلقين المحتضرين، ح 172، من ابواب الزيادات. (3) روى الطبرسي هذا الحديث والاحاديث السابقة في مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 236. (4) وفي رواية (قدام). (*)

[ 380 ]

في العلم ” (1) (2) وفي تفسير العياشي: عن الثماني قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: ” لنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ” ؟ قال: ذلك جوع خاص وجوع عام، فأما بالشام فإنه عام، وأما الخاص بالكوفة يخص ولا يعم، ولكنه يخص بالكوفة أعداء آل محمد (عليه الصلاة والسلام) فيهلكهم الله بالجوع، وأما الخوف فإنه عام بالشام، وذلك الخوف إذا قام القائم (عليه السلام)، وأما الجوع فقبل قيام القائم (عليه السلام)، وذلك قوله: ” ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ” (3). وفي كتاب علل الشرائع، باسناده إلى سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في كتاب علي (عليه السلام): إن أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الامثل فالامثل، وإنما ابتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وصح عمله اشتد بلاؤه، وذلك أن الله عزوجل لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه، والبلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الارض (4). وفي نهج البلاغة: إن الله يبتلي عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر (5). وبشر الصبرين * الذين إذا أصبتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه رجعون: الخطاب للرسول، أو لمن تتأتى منه البشارة. والمصيبة تعم ما يصيب الانسان من مكروه.


(1) سورة آل عمران: الآية 7. (2) كمال الدين وتمام النعمة: ص 649، باب 57، ما روي في علامات خروج القائم (عليه السلام)، ح 3. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 68، ح 125. (4) علل الشرائع: ج 1، ص 44، باب 40، العلة التي من أجلها يبتلى النبيون والمؤمنون، ح 1. (5) نهج البلاغة: ص 199، الخطبة 143. (*)

[ 381 ]

[ أولئك عليهم صلوت من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157) * إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158) ] أولئك عليهم صلوت من ربهم ورحمة: الصلاة في الاصل الدعاء، ومن الله التزكية والمغفرة وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها، والمراد بالرحمة اللطف والاحسان وفي كتاب الخصال، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله تعالى: إني أعطيت الدنيا بين عبادي قيضا (1)، فمن أقرضني قرضا أعطيته بكل واحدة منها عشرا إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه قسرا (2) أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا: الصلاة، والهداية، والرحمة. إن الله تعالى يقول: ” الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ” واحدة من الثلاث، و ” رحمة ” اثنتين. وأولئك هم المهتدون: ثلاث. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا (3).


(1) وقايضه مقايضة في البيع: إذا أعطاه سلعة، وأخذ عوضها سلعة اخرى. النهاية لابن الاثير: ج 4، ص 132 في لغة ” قيض “. (2) هو القهر والغلبة، يقال: قسره يقسره قسرا، وقد تكرر في الحديث. النهاية لابن الاثير: ج 4، ص 59، في لغة ” قسر ” (3) الخصال: ص 130، باب الثلاثة. ثلاث خصال لمن يؤخذ منه شئ من دنياه قسرا، ح 135. (*)

[ 382 ]

وعن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أربع خصال من كن فيه كان في نور الله الاعظم، من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون الحديث (1) وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن أبي المفضل المنشائي، عن هارون بن فضل قال: رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون مضى أبو جعفر (عليه السلام)، فقيل له: وكيف عرفت ؟ قال: لانه قد دخلني ذلة لم أكن أعرفها (2). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن معروف بن حزبوذ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين تفجأه إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وكلما ذكر مصيبة فاسترجع عند ذكر المصيبة غفر الله له كل ذنب فيما بينهما (3). علي، عن ابن أبي عمير، عن داود بن رزين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من ذكر مصيبته ولو بعد حين فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، اللهم آجرني على مصيبتي واخلف علي أفضل منها، كان له من الاجر مثل ما كان عند أول صدمته (4). علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد رفعه قال: جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أشعث بن قيس يعزيه بأخ له فقال له: إن جزعت فحق الرحم أتيت، وإن


(1) الخصال: ص 222، باب الاربعة، أربع خصال من كن فيه كان في نور الله الاعظم، ح 49، و تمام الحديث: ومن إذا أصاب خيرا قال الحمد لله رب العالمين، ومن إذا أصاب خطيئة قال: استغفر الله وأتوب إليه. (2) الكافي: ج 1، ص 381، كتاب الحجة، باب في أن الامام متى يعلم أن الامر قد صار إليه، ح 5. (3) الكافي: ج 3، كتاب الجنائز، ص 224، باب الصبر والجزع والاسترجاع، ح 5. (4) الكافي: ج 3، ص 224، كتاب الجنائز، باب الصبر والجزع والاسترجاع، ح 6. (*)

[ 383 ]

صبرت فحق الله أديت، على أنك إن صبرت جرى القضاء وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم، فقال له الاشعث: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال امير المؤمنين (عليه السلام): أتدرى ما تأويلها ؟ فقال الاشعث: لا، أنت غاية العلم ومنتهاة، فقال له: أما قولك: إنا لله فإقرار منك بالملك، وأما قولك: وإنا إليه راجعون فإقرار منك بالهلاك (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: وسئل أبو عبد الله (عليه السلام)، ما بلغ من حزن يعقوب ؟ قال: حزن سبعين ثكلى على أولادها، وقال: إن يعقوب لم يعرف الاسترجاع فيها، واأسفى على يوسف (2). وفي نهج البلاغة وقال (عليه السلام): وقد سمع رجلا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون فقال: قولنا: إنا لله إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: وإنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلاك (3). وفي مجمع البيان: وفي الحديث: من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، و أحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه (4). وقال (عليه السلام): من اصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها، كتب الله من الاجر مثل يوم اصيب (5). وذكر الشيخ جمال الدين (6) – قدس الله روحه – في كتاب نهج الحق، عن ابن مردويه – من طريق العامة – بإسناده إلى ابن عباس، قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لما وصل إليه قتل عمه حمزة: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فنزلت هذه


(1) الكافي: ج 3، ص 261، كتاب الجنائز، باب النوادر، ح 40. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 350، في تفسيره لقوله تعالى ” وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم “. (3) نهج البلاغة: ص 485، باب المختار من حكم امير المؤمنين (عليه السلام)، رقم 99. (4 و 5) مجمع البيان: ج 1، ص 238، في بيان المعنى للآية 157، من سورة البقرة. (6) هو أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف المطهر (648 ه‍ – 726 ه‍) المعروف بالعلامة الحلي. (*)

[ 384 ]

الآية، وبشر الصابرين الآية، وهو القائل عند تلاوتها: إنا لله إقرار بالملك، وإنا إليه راجعون إقرار بالهلاك (1). إن الصفا والمروة: علما جبلين بمكة. وفي كتاب علل الشرايع بإسناده إلى عبد الحميد بن أبي الديلم، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: سمي الصفا صفا، لان المصطفى آدم هبط عليه فقطع للجبل اسم من اسم آدم (عليه السلام)، يقول الله عزوجل: ” إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ” (2) وقد هبطت حواء على المروة، وإنما سميت المروة مروة لان المرأة هبطت عليها فقطع للجبل اسم من اسم المرأة (3). من شعائر الله: أعلام مناسكه، جمع شعيرة، وهي العلامة. فمن حج البيت أو اعتمر: الحج لغة: القصد، والاعتمار الزيارة، فغلبا شرعا على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين. فلا جناح عليه أن يطوف بهما: قيل كان (أساف) على الصفا و (نائلة) على المروة (4) وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوها، فلما جاء الاسلام وكسر الاصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بهما لذلك، فنزلت. والاجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة، والخلاف في وجوبه، وذهب بعض


(1) نهج الحق مخطوط: في تعيين إمامة علي بالقران، قال ما لفظه (الحادية والثمانون قوله تعالى: الذين إذا أصابتهم، الآية نزلت في علي (عليه السلام) لما وصل إليه قتل حمزة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فنزلت هذه الآية. (2) سورة آل عمران: الآية 33. (3) علل الشرايع: ج 2، ص 431، الباب الخامس والستون والمائة، (165) العلة التي من أجلها سمي الصفا صفا والمروة مروة، ح 1. (4) وأساف وإساف: اسم صنم لقريش. الجوهري وغيره: أساف ونائلة صنمان كانا لقريش وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة. وزعم بعضهم أنهما كانا من جرهم أساف بن عمرو ونائلة بنت سهل ففجرا في الكعبة فمسخا حجرين عبدتهما قريش، وقيل كانا رجلا و امرأة دخلا البيت فوجدا خلوة فوثب أساف على نائلة، وقيل فأحدثا فمسخهما الله حجرين. لسان العرب: ج 9، ص 6، في لغة أسف. (*)

[ 385 ]

العامة إلى عدم وجوبه. وفي من لا يحضره الفقيه روى عن زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا: قلنا لابي جعفر (عليه السلام): ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ؟ فقال: إن الله عزوجل يقول: ” إذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ” فصار التقصير في السفر واجبا، كوجوب التمام في الحضر (1) فقال (عليه السلام) أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة: ” فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ” ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لان الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (عليه السلام) وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي (صلى الله عليه وآله) وذكره الله تعالى ذكره في كتابه (2). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن معاوية بن حكيم، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسن بن علي الصيرفي، عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة ؟ فقال: فريضة، قلت: أو ليس قال الله عزوجل: ” فلا جناح عليه أن يطوف بهما ” ؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شرط عليهم (3) أن يرفعوا الاصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الايام واعيدت الاصنام، فجاؤوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إن فلانا لم يسع بين الصفا والمروة، وقد اعيدت الاصنام، فأنزل الله عزوجل: ” فلا جناح عليه أن يطوف بهما ” أي وعليهما الاصنام (4).


(1) هكذا في النسخ، ولكن سقط من متن الحديث جملة، وهي هذه (قالا: قلنا: إنما قال الله عزوجل: (فليس عليكم جناح) ولم يقل: (إفعلوا) فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟). (2) من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 278، باب 59، الصلاة في السفر، ح 1. (3) يعني شرط على المشركين أن يرفعوا أصنامهم التي كانت على الصفا والمروة حتى ينقضي أيام المناسك ثم يعيدوها. كما في هامش الكافي نقلا عن الوافي. (4) الكافي: ج 4، ص 435، كتاب الحج، باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه: ح 8. (*)

[ 386 ]

وفي علل الشرائع بإسناده إلى معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إبراهيم (عليه السلام) لما خلف إسماعيل بمكة عطش الصبي، وكان فيما بين الصفا والمروة شجرة، فخرجت امه حتى قامت على الصفا فقالت: هل بالوادي من أنيس ؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة، فقالت: هل بالوادي من أنيس ؟ فلم يجبها أحد، ثم رجعت إلى الصفا فقالت كذلك، حتى صنعت ذلك سبعا، فأجرى الله ذلك سنة، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجه (1). وبإسناده إلى معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صار السعي بين الصفا والمروة، لان إبراهيم (عليه السلام) عرض له إبليس، فأمره جبرئيل (عليه السلام) فشد عليه فهرب منه، فجرت به السنة يعني الهرولة (2). وبإسناده إلى حماد، عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): لم جعل السعي بين الصفا والمروة ؟ لان الشيطان تراءى لابراهيم في الوادي، فسعى، وهو منازل الشيطان (3). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله تعالى عليه: ” وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ” (4) فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى صوتهم بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحج في عامه هذا، فعلم به من حضر في المدينة وأهل العوالي والاعراب، واجتمعوا لحج رسول الله (صلى الله عليه وآله)


(1) علل الشرايع: ص 432، باب 166، قطعة من حديث 1. (2) علل الشرايع: ص 432، باب 167، ح 1. (3) علل الشرايع: ص 433، باب 167، ح 2. (4) سورة الحج: الآية 27. (*)

[ 387 ]

وإنما كانوا تابعين ينتظرون ما يؤمرون ويتبعونه أو يصنع شيئا فيصنعونه فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى إلى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر، وعزم بالحج مفردا، وخرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الاول، فصف له سماطان (1) فلبى بالحج مفردا وساق الهدي ستا وستين أو أربعا وستين حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة، فطاف بالبيت سبعة أشواط ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم (عليه السلام)، ثم عاد إلى الحجر فاستلمه وقد كان استلمه في أول طوافه، ثم قال: ” إن الصفا والمروة من شعائر الله ” فأبدء بما بدأ الله تعالى، وإن المسلمين كانوا يظنون السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون، فأنزل الله تعالى ” إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ” والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث طويل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أبدء بما بدأ الله تعالى به، فأتى الصفا فبدأ بها (3). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أبدء بما بدأ الله ثم صعد على الصفا فقام عليه مقدار ما يقرأ سورة البقرة، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (4). ابن محبوب، عن عبد العزيز العبدي، عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله


(1) في الحديث حتى انتهى رسول الله إلى البيداء فصف الناس له سماطين، السماط ككتاب: الصف من الناس، والسماطان صفان. مجمع البحرين: ج 4، ص 255، لغة ” سمط “. (2) الكافي: ج 4، كتاب الحج، ص 245، باب حج النبي (صلى الله عليه وآله) ح 4. (3) الكافي: ج 4، ص 249، كتاب الحج، باب حج النبي (صلى الله عليه وآله) ح 6. (4) الكافي: ج 4، ص 250، كتاب الحج، باب حج النبي (صلى الله عليه وآله) ح 7. (*)

[ 388 ]

(عليه السلام) عن رجل طاف بالبيت اسبوعا طواف الفريضة، ثم سعى بين الصفا والمروة أربعة أشواط، ثم غمزه بطنه فخرج وقضى حاجته ثم غشى أهله ؟ قال: يغتسل ثم يعود فيطوف ثلاثة أشواط ويستغفر ربه ولا شئ عليه، قلت: فإن كان طاف بالبيت طواف الفريضة، فطاف أربعة أشواط ثم غمزه بطنه فخرج فقضى حاجته، فغشى أهله ؟ فقال: أفسد حجه وعليه بدنة، ويغتسل ثم يرجع فيطوف اسبوعا ثم يسعى ويستغفر ربه، قلت: كيف لم تجعل عليه حين غشى أهله قبل أن يفرغ من سعيه كما جعلت عليه هديا حين غشى أهله قبل أن يفرغ من طوافه ؟ قال: إن الطواف فريضة وفيه صلاة، والسعي سنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قلت: أليس الله يقول: ” إن الصفا والمروة من شعائر الله ” ؟ قال: بلى ولكن قال فيها: ” ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ” فلو كان السعي فريضة لم يقل: ومن تطوع خيرا (1). قوله (عليه السلام): (والسعي سنة) أي ليس وجوبه كوجوب الطواف، وإن كان هو واجبا من سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن ابي عمير ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين فرغ من طوافه و ركعتيه قال: إبدء بما بدأ الله عز وجل به من إتيان الصفا، إن الله عزوجل يقول: ” إن الصفا والمروة من شعائر الله ” والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (2). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد رفعه قال: ليس لله منسك أحب إليه من السعي، وذلك أنه يذل فيه الجبارين (3). أحمد بن محمد، عن التميلي، عن الحسين بن أحمد الحلبي، عن أبيه، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جعل السعي بين الصفا والمروة مذلة


(1) الكافي: ج 4، كتاب الحج، ص 379، باب المحرم يأتي أهله وقد قضى بعض مناسكه، ح 7. (2) الكافي: ج 4، كتاب الحج، ص 431، باب الوقوف على الصفا والدعاء، ح 1. (3) الكافي: ج 4، ص 434، كتاب الحج، باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه، ح 4. (*)

[ 389 ]

[ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينت والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160) ] للجبارين (1). ومن تطوع خيرا: أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا. (وخيرا) نصب على أنه صفة مصدر محذوف، أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى. وقرأ يعقوب والكسائي وحمزة (يطوع) وأصله يتطوع، فادغم مثل يطوف (2). فإن الله شاكر: مثيب على الطاعة. عليم: لا تخفى عليه طاعة. إن الذين يكتمون: كأحبار اليهود. ما أنزلنا من البينت: كالآيات الشاهدة على أمر محمد (عليه السلام). والهدى: وما يهدي إلى وجوب اتباعه والايمان به. وفي تفسير العياشي: عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى في علي (3). وعن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله: ” إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس ” يعني بذلك نحن، والله المستعان (4).


(1) الكافي: ج 4، كتاب الحج، ص 434، باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه، ح 5. (2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 92 (3 و 4) تفسير العياشي: ج 1، ص 70، ح 136، ح 137. (*)

[ 390 ]

عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قوله: ” إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ” قال: نحن يعني بها، والله المستعان، إن الرجل منا إذا صارت إليه لم يكن له، أو لم يسعه، إلا أن يبين للناس من يكون بعده (1). من بعد ما بينه للناس: لخصناه لهم. في الكتب: في التوراة، وعلى ما سبق في الحديث يشمل القرآن أيضا. أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون: أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين. وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ” أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ” قال: كل من قد لعنه الله من الجن والانس يلعنهم (2). وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي – رحمه الله – عن أبي محمد العسكري (عليه السلام) في حديث طويل فيه: قيل لامير المؤمنين (عليه السلام): من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى ؟ قال: العلماء إذا صلحوا، قيل: فمن شر خلق الله بعد إبليس وفرعون وثمود وبعد المتسمين بأسمائهم وبعد المتلقبين بألقابهم و الآخذين لامكنتكم والمتأمرين في ممالككم ؟ قال: العلماء إذا أفسدوا، هم المظهرون للاباطيل الكاتمون للحقايق، وفيهم قال الله عزوجل: ” اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا ” الآية (3). وفي مجمع البيان: روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار (4). إلا الذين تابوا: عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه. وأصلحوا: ما أفسدوا بالتدارك.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 71، ح 139. (2) تفسير القمي: ج 1، ص 64 (3) الاحتجاج: ج 1 – 2، ص 458، احتجاج ابي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) في أنواع شتى من علوم الدين. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 241. (*)

[ 391 ]

[ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين (161) خلدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (162) وإلهكم إله وحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) ] وبينوا: ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم، وقيل: ما أحدثوه من التوبة ليمحو سمة الكفر عن أنفسهم، ويقتدي بهم أضرابهم. فأولئك أتوب عليهم: بالقبول والمغفرة. وأنا التواب الرحيم: المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة. إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار: أي ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات. أولئك عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين: يعني استقر عليهم لعنة الله ولعنة من يعتد بلعنه من خلقه، وقيل: الاول لعنهم أحياء، والثاني لعنهم أمواتا. وقرئ برفع الملائكة والناس وأجمعون، عطفا على محل اسم (الله) لانه فاعل في المعنى، كقولك: أعجبني ضرب زيد وعمرو، وفاعلا لفعل مقدر، أي ويلعنهم الملائكة. خلدين فيها: أي في اللعنة، أو النار، وإضمارها في الذكر تفخيما لشأنها و تهويلا، أو الاكتفاء بدلالة اللعن عليها. لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون: أي لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة. وفي الآية دلالة على كفر من كتم ما انزل في علي (عليه السلام) بناء على ما سبق من الخبر.


[ 392 ]

[ إن في خلق السموت والارض واختلف اليل والنهار والفلك التى تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايت لقوم يعقلون (164) ] وإلهكم إله وحد: خطاب عام، أي المستحق للعبادة منكم واحد لا شريك له يصح أن يعبد ويسمى إلها. لا إله إلا هو: تقرير للوحدانية وإزاحة لان يتوهم أن في الوجود إلها، ولكنه لا يستحق العبادة منهم. الرحمن الرحيم: كالحجة عليها، فإنه لما كان مولى النعم كلها اصولها و فروعها، وما سواه أما نعمة أو منعم عليه، لم يستحق العبادة أحد غيره. وهما خبران آخران لقوله: (إلهكم) أو لمبتدأ محذوف. قيل: لما سمعه المشركون تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزلت. إن في خلق السموت والارض: وإنما جمع السماوات وأفرد الارض، لانها طبقات بالذات، مختلفة بالحقيقة، بخلاف الارضين. واختلف اليل والنهار: تعاقبهما، كقوله: ” جعل الليل والنهار خلفة “. (1). والفلك التى تجرى في البحر بما ينفع الناس: أي ينفعهم، أو بالذي ينفعهم، والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله، وتخصيص الفلك بالذكر، لانه


(1) سورة الفرقان: الآية 62. (*)

[ 393 ]

سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه، ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب لان منشأهما البحر في غالب الامر، وتأنيث الفلك لانه بمعنى السفينة. وقرئ بضمتين على الاصل، أو الجمع، وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين. وما أنزل الله من السماء من ماء: ” من ” الاولى للابتداء، والثانية للبيان، و ” السماء ” يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلو. فأحيا به الارض بعد موتها: بالنبات. وبث فيها من كل دابة: عطف على ” أنزل ” كأنه استدل بنزول المطر و تكون النبات به وبث الحيوانات في الارض، أو على (أحيا) فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالماء. والبث: النشر والتفريق. وتصريف الريح: في مهابها وأحوالها. وقرأ حمزة والكسائي على الافراد (1). والسحاب المسخر بين السماء والارض: لا ينزل ولا يتقشع مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله، وقيل: المسخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، واشتقاقه من السحب، لان بعضه يجر بعضا. لايت لقوم يعقلون: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم. والكلام المجمل في الاستدلال بهذه الامور أنها ممكنة، وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السماوات، أو بعضها كالارض، وأن تتحرك بعكس حركاتها، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا، أو على هذا الوجه لبساطها وتساوي أجزائها، فلابد لها من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته، متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه، فإن توافقت إرادتهما، فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع المؤثرين


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 244. (*)

[ 394 ]

على أثر واحد، وإن كان لاحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وعجز الآخر المنافي للالهية، وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد كما أشار إليه بقوله: ” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ” (1). وفي اصول الكافي: بعض أصحابنا رفعه عمن رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): يا هشام، إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته فقال: ” و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون ” (2). وفي كتاب الاهليلجة: قال الصادق (عليه السلام) في كلام طويل: ثم نظرت العين إلى العظيم من الآيات، مثل السحاب المسخر بين السماء والارض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشئ من الارض والجبال، يتخلل الشجرة فلا يحرك منها شيئا ولا يهصر منها غصنا ولا يعلق منها بشئ، يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته، ويحتمل من ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته، مع ما فيه من الصواعق الصادعة والبروق اللامعة والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الاوهام صفته ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه، فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه وينفجر بعد تمسكه. إلى أن قال (عليه السلام): ولو أن ذلك السحاب والثقل من الماء، هو الذي يرسل نفسه، لما احتمله ألفي فرسخ أو اكثر، و أقرب من ذلك وأبعد ليرسله قطرة بعد قطرة بلا هزة ولا فساد، ولا صار به إلى بلدة وترك اخرى (3).


(1) سورة الانبياء: الآية 22. (2) الكافي: ج 1، كتاب العقل والجهل، ص 13، ح 12. (3) بحار الانوار: ج 3، كتاب التوحيد، ص 163، باب 5، ح 1. (*)

[ 395 ]

[ ومن الناس من يتخذ من دون الله أدادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) ] وفي عيون الاخبار: عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه: لما نظرت إلى جسدي فلم يمكنني فيه زيادة ولا نقصان في العرض أو الطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه، علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا (1). وفي كتاب التوحيد: قال هشام: فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه ؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): وجود الافاعيل التي دلت على أن صانعا صنعها، ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده (2). وفي اصول الكافي: مثله سواء (3). ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا: من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم، أو الاعم منهم ومن كل ما يتخذونهم أندادا.


(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 131، باب 11، ما جاء عن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) من الاخبار في التوحيد، قطعة من حديث 28، في مناظرة الزنديق مع الرضا (عليه السلام). (2) التوحيد: ص 244، باب 36، الرد على الثنوية والزنادقة. (3) الكافي: ج 1، كتاب التوحيد، ص 80، باب حدوث العالم وإثبات المحدث، قطعة من حديث 5. (*)

[ 396 ]

يحبونهم: يعظمونهم ويطيعونهم. كحب الله: لتعظيمه والميل إلى طاعته، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة، أو يحبونهم كما ينبغي أن يحب الله، من المصدر المبني للمفعول، وأصله من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لانه أصابها ورسخ فيها، ومحبة العبد لله: إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مرضاته، ومحبته للعبد: إرادة إكرامه و استعماله وصونه عن المعاصي. والذين ءامنوا أشد حبا لله: لانه لا تنقطع محبتهم لله، بخلاف محبة الانداد، فإنها لاغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب. ولو يرى الذين ظلموا: ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذهم الانداد. إذ يرون العذاب: إذا عاينوه يوم القيامة وأجرى المستقبل مجرى الماضي، لتحققه، كقوله: ” ونادى أصحاب الجنة ” (1). أن القوة لله جميعا: ساد مسد مفعولي ” يرى ” وجواب ” لو ” محذوف، أي لندموا أشد الندم. وقيل: هو متعلق الجواب، والمفعولان محذوفان، والتقدير: ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع، لعلموا أن القوة لله كلها، لا ينفع ولا يضر. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب: ولو ترى، على أنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) أي ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما (2). وابن عامر: إذ يرون، على البناء للمفعول (3)، ويعقوب (إن) بالكسر (4)، وكذا. وأن الله شديد العذاب: على الاستئناف، أو إضمار القول.


(1) سورة الاعراف: الآية 44. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 248. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 248. (4) مجمع البيان، ج 1 – 2، ص 248. (*)

[ 397 ]

[ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعملهم حسرت عليهم وما هم بخرجين من النار (167) ] إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا: بدل من ” إذ يرون ” أي إذ تبرأ المتبعون من الاتباع، وقرئ بالعكس أي تبرأ الاتباع من الرؤساء. ورأوا العذاب: أي رائين له، والواو للحال، وقد مضمرة، وقيل: عطف على (تبرأ). وتقطعت بهم الاسباب: يحتمل العطف على ” تبرأ ” و ” رأوا ” والحال والاسباب التي كانت بينهم من الاتباع والاتقان على الدين والاغراض الداعية إلى ذلك. وأصل السبب: الحبل الذي يرتقى به الشجر. وقرئ (تقطعت) على البناء للمفعول. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا: ” لو ” للتمني ولذلك اجيب بالفاء، أي ليت لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم. كذلك: مثل تلك الاراءة القطعية. يريهم الله أعملهم حسرت عليهم: ندمات، وهي ثالث مفاعيل ” يرى ” إن كان من رؤية القلب، وإلا فحال. وما هم بخرجين من النار: أصله وما يخرجون فعدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والاقناط من الخلاص والرجوع إلى الدنيا. وفي أمالي شيخ الطائفة قدس سره بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: أين خليفة الله في أرضه ؟ فيقوم


[ 398 ]

داود النبي (عليه السلام) فيأتي النداء من عند الله عزوجل: لسنا إياك أردنا وإن كنت لله خليفة، ثم ينادي مناد ثانيا: اين خليفة الله في أرضه ؟ فيقوم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فيأتي النداء من قبل الله عزوجل: يا معشر الخلائق، هذا علي بن أبي طالب خليفته في أرضه وحجته على عباده، فمن تعلق بحبله في دار الدنيا فليتعلق بحبله في هذا اليوم يستضئ بنوره، وليتبعة إلى الدرجات العلى من الجنات، قال: فيقوم الناس الذين قد تعلقوا بحبله في الدنيا فيتبعونه إلى الجنة، ثم يأتي النداء من عند الله جل جلاله: ألا من ائتم (1) بإمام في دار الدنيا فليتبعه إلى حيث يذهب، فحينئذ يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (2). وفي اصول الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن ثابت، عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل ” ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ” (3) قال: هم والله أولياء فلان وفلان، اتخذوهم أئمة من دون الامام الذي جعله الله للناس إماما، ولذلك قال: ” ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العقاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب و تقطعت بهم الاسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ” ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): هم والله – يا جابر – أئمة الضلال وأشياعهم (4). وفي تفسير العياشي: عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في قوله: ” ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم


(1) وفي نسخة (تعلق) (2) الامالي: ج 1، الجزء الثالث، ص 61. (3) سورة البقرة: الآية 165. (4) الكافي: ج 1، ص 374، كتاب الحجة، باب من ادعى الامامة وليس لها بأهل ومن جحد الائمة أو بعضهم، الحديث 11. (*)

[ 399 ]

[ يأيها الناس كلوا مما في الارض حللا طيبا ولا تتبعوا خطوت الشيطن إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169) ] كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ” قال: آل محمد (صلى الله عليه وآله) (1). وعن منصور بن حازم قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): وما هم بخارجين من النار، قال: أعداء علي هم المخلدون في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين (2). وفي الكافي: أحمد بن أبي عبد الله، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ” قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا، ثم يموت فيدعه لمن يعمل بطاعة الله أو معصية الله، فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فرآه حسرة، وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله (3). وفي نهج البلاغة: وقال (عليه السلام): إن أعظم الحسرات يوم القيامة، حسرة رجل كسب مالا في غير طاعة الله، فورثه رجلا فأنفقه، في طاعة الله – سبحانه فدخل به الجنة ودخل به الاول النار (4). وفي مجمع البيان: أعمالهم حسرات عليهم، فيه أقوال: إلى قوله: والثالث ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: هو الرجل يكتسب المال ولا يعمل به خيرا، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا، فيرى الاول ما كسبه حسرة في ميزان غيره (5). يأيها الناس كلوا مما في الارض حللا: نزلت في قوم حرموا على أنفسهم


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 72، ح 143 (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 73، ح 145 (3) الكافي: ج 4، كتاب الزكاة، ص 42، باب الانفاق، ح 2. (4) نهج البلاغة: ص 552، باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) رقم 429. (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 251. (*)

[ 400 ]

رفيع الاطعمة والملابس. و (حلالا) مفعول (كلوا) أو صفة مصدر محذوف، أو حال من (ما في الارض) و (من) للتبعيض، إذ لا يؤكل كل ما في الارض. طيبا: يستطيبه الشرع، أو الشهوة المستقيمة، أي لا تأكلوا على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة. ولا تتبعوا خطوت الشيطن: لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال و تحللوا الحرام. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): أن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق، والنذور في المعاصي، وكل يمين بغير الله تعالى (1). وفي تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لا تتبعوا خطوات الشيطان، قال: يمين بغير الله (2). وقرأ نافع وأبو عمر وحمزة بتسكين الطاء، وهما لغتان في جمع خطوة، وهي ما بين قدمي الخاطي (3) وقرئ بضمتين وهمزة، جعلت ضمة الطاء كأنها عليها، و بفتحتين على أنه جمع خطوة، وهي المرة من الخطو. إنه لكم عدو مبين: ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، ولذلك سماه وليا في قوله: ” أولياءهم الطاغوت ” (4). إنما يأمركم بالسوء والفحشاء: بيان لعداوته ووجوب التحرز عن متابعته، واستعير الامر لتزيينه، وبعثه لهم على الشر تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم. والسوء والفحشاء: ما أنكره العقل واستقبحه الشرع، والعطف لاختلاف الوصفين، فإنه سوء لاغتمام العاقل به، وفحشاء باستقباحة إياه.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 252. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 74، الحديث 150، ولفظ الحديث ” قال: كل يمين بغير الله فهي من خطوات الشياطين ” (3) تفسير مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 251. (4) سورة البقرة: الآية 257. (*)

[ 401 ]

[ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا أولو كان ء اباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170) ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون (171) يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبت ما رزقنكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172) ] وقيل: السوء يعم القبائح، والفحشاء ما تجاوز الحد في القبح من الكبائر. وقيل: الاول: ما لا حد فيه، والثاني: ما شرع فيه الحد. وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون: كاتخاذ الانداد، وتحليل المحرمات، وتحريم المحللات. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله: الضمير للناس، وعدل عن الخطاب معهم للنداء على ضلالتهم، كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون ؟ !. قالوا بل نتبع ما ألفينا: وجدنا. عليه ءاباءنا: نزلت في المشركين امروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج والآيات، فجنحوا إلى التقليد. وقيل: في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الاسلام، فقالوا ذلك، وقالوا: إن آبائنا كانوا خيرا منا. أولو كان ء اباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون: ” الواو ” للحال، أو لعطف، والهمزة للرد والتعجب، وجواب ” لو ” محذوف، أي لو كان آباؤهم جهلة لا تبعوهم ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء: على


[ 402 ]

حذف مضاف، تقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق، أو مثل الذين كفروا كمثل البهائم الذي ينعق، والمعنى أن مثل الذين كفروا في دعائك إياهم، أي مثل الداعي لهم إلى الايمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت، فكما أن الانعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهم المعنى، فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إياهم إلى الايمان إلا السماع دون تفهم المعنى، لانهم يعرضون عن قبول قولك و ينصرفون عن تأمله، فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه، وهذا كما تقول العرب: فلان يخافك كخوف الاسد، والمعنى كخوفه من الاسد، وأضاف الخوف إلى الاسد، وهو في المعنى مضاف إلى الرجل، قال: فلست مسلما ما دمت حيا * على زيد بتسليم الامير (1) يراد بتسليمي على الامير، وقيل: هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها، بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته، أو تمثيلهم في دعائهم الاصنام بالناعق في نعقه، وهو التصويت على البهائم، والاول هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) على ما في مجمع البيان (2). صم بكم عمى: رفع على الذم. فهم لا يعقلون: أي بالفعل، للاخلال بالنظر.


(1) عن الاصمعي قال: كان أعرابيان متواخيين بالبادية غير أن احدهما استوطن الريف واختلف إلى باب الحجاج بن يوسف واستعمله على أصبهان فسمع أخوه الذي بالبادية فضرب إليه فأقام ببابه حينا لا يصل إليه ثم أذن له بالدخول، فأخذه إلى جب فمشى به وهو يقول: سلم على الامير، فلم يلتفت إلى قوله: ثم أنشأ يقول: فلست مسلما ما دمت حيا إلى آخره، قال زيد: لا ابالي، فقال الاعرابي: أتذكر إذ لحافك جلد شاة * وإذ نعلاك من جلد البعير ؟ فقال: نعم، فقال الاعرابي: فسبحان الذي أعطاك ملكا * وعلمك الجلوس على السرير تاريخ بغداد: ج 1، ص 251. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 254، قال في بيان المعنى لآية 171، من سورة البقرة بعد نقل المعنى الاول: وهذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتاده، وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). (*)

[ 403 ]

[ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173) ] يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبت ما رزقنكم: لما وسع الامر على الناس كافة، وأباح لهم ما في الارض سوى ما حرم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها، فقال: واشكروا لله: على ما رزقكم وأحل لكم. إن كنتم إياه تعبدون: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم، فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر، فالمعلق بفعل العبادة هو الامر بالشكر لاتمامه، وهو عدم عند عدمه. وعن النبي (صلى الله عليه وآله) يقول الله تعالى: إني والانس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري (1). إنما حرم عليكم الميتة: أكلها والانتفاع بها، وهي التي ماتت من غير ذكاة، والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما استثني كما سيجئ. والدم ولحم الخنزير: إنما خص اللحم بالذكر، لانه معظم ما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه كالتابع له.


(1) رواه في الكشاف: ج 1، ص 214، في تفسير الآية 172، من سورة البقرة، وقال في هامش الكشاف: ج 1، ص 214، ما لفظه: أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، والبيهقي في الشعب من رواية بقية، حدثنا صفوان بن عمر حدثني عبد الرحمن بن جبير النفير وشريح بن عبيد عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: قال الله عزوجل.. إلى آخره. (*)

[ 404 ]

وما أهل به لغير الله: أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم، والاهلال أصله رؤية الهلال، لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره. وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، في باب ذكر ما كتب به الرضا (عليه السلام) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله من العلل: وحرم الميتة لما فيها من فساد الابدان والآفة، ولما أراد الله عزوجل أن يجعل التسمية سبب التحليل وفرقا بين الحلال والحرام، وحرم الله الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الابدان، ولما يورث الماء الاصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويسئ الخلق، ويورث القسوة للقلب وقلة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل ولده ووالده وصاحبه، وحرم الخنزير لانه مشوه جعله الله تعالى عظة للخلق وعبرة وتخويفا ودليلا على ما مسخ على خلقته، ولان غذاءه أقذر الاقذار مع علل كثيرة، وكذلك حرم القردة لانه مسخ مثل الخنزير وجعل عظة وعبرة للخلق ودليلا على ما مسخ على خلقته و صورته، وجعل فيه شبيها من الانسان ليدل على أنه من الخلق المغضوب عليه، وحرم ما أهل به لغير الله للذي أوجب الله عزوجل على خلقه من الاقرار به، وذكر اسمه على الذبائح المحللة، ولئلا يسوي بين ما تقرب إليه وبين ما جعل عبادة الشياطين والاوثان، لان في تسمية الله عزوجل الاقرار بربوبيته وتوحيده وما في الاهلال لغير الله من الشرك والتقرب به إلى غيره، ليكون ذكر الله تعالى وتسميته على الذبيحة فرقا بين ما أحل الله وبين ما حرم الله (1). وفي كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى محمد بن عذافر، عن بعض رجاله، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: لم حرم الله عزوجل الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سوى ذلك، من رغبة فيما أحل لهم، ولا زهد فيما حرم عليهم، ولكنه عزوجل خلق الخلق


(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 93 – 94، باب 33، في ذكر ما كتب به الرضا (عليه السلام) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله مع تقديم وتأخير في بعض العبارات. (*)

[ 405 ]

فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحل لهم وأباحه، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم، ثم أحله للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثم قال: الميتة فإنه لم ينل أحد منها إلا اضعفت بدنه و أوهنت قوته وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة، وأما الدم فيورث أكله الماء الاصفر ويورث الكلب وقساوة القلب وقلة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن على حميمه ولا يؤمن على من صحبه، وأما لحم الخنزير فإن الله عزوجل مسخ قوما في صور شتى مثل الخنزير والقرد والدب، ثم نهى عن أكل المثلة لكيما ينتفع بها ولا يستخف بعقوبته، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (1). وفي كتاب الخصال: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عشرة أشياء من المتية ذكية العظم، والشعر، والصوف، والريش، والقرن، والحافر، والبيض، والانفحة، واللبن، والسن (2). وفي الكافي: محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عاصم بن حميد، عن علي بن أبي المغيرة قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، الميتة ينتفع بشئ منها ؟ قال: لا، قلت: بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها، أن ينتفعوا بإهابها، أي تزكى (3). فمن اضطر غير باغ ولا عاد: قيل: الباغي: المستأثر على مضطر آخر، والعادي: المتجاوز سد الرمق. وفي كتاب معاني الاخبار: بإسناده إلى البزنطي، عمن ذكره، عن أبي عبد الله


(1) علل الشرايع: ج 2، ص 483، باب 237، ح 1، وفي النسخ المطبوعة والمخطوطة (ثم نهى عن أكل المثلة) والظاهر أنه تصحيف والصحيح (ثم نهى عن أكل الثلاثة) أي الخنزير والقرد والدب. (2) الخصال: باب العشرة، ص 434، ح 19. (3) الكافي: ج 6، ص 259، كتاب الاطعمة، باب ما ينتفع به من الميتة وما لا ينتفع به منها، الحديث 7، وتمام الحديث (قال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى آخره. (*)

[ 406 ]

(عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد ” قال: الباغي: الذي يخرج على الامام العادل، والعادي الذي يقطع الطريق، لا تحل لهما الميتة (1). وفي الكافي: الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد ” قال: الباغي: باغي الصيد، والعادي: السارق، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين. (2) وفي من لا يحضره الفقيه: روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) قال: قلت يابن رسول الله، فما معنى قوله عزوجل: ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد ” قال: العادي: السارق، والباغي: الذي يبغي الصيد بطرا ولهوا، لا ليعود به على عياله، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار، كما هي حرام عليهما في حال الاختيار (3). وبالاضطرار يحل عموم المحرمات. يدل عليه ما رواه في الكافي: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل والمرأة يذهب بصره فيأتيه الاطباء فيقولون: نداويك شهرا، أو أربعين ليلة مستلقيا كذلك يصلي ؟ فرخص في ذلك، وقال: ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ” (4). وفي من لا يحضره الفقيه: وفي رواية محمد بن عمرو بن سعيد، رفعه عن امرأة أتت عمر فقالت: يا أمير المؤمنين إني فجرت فأقم علي حدود الله عزوجل، فأمر برجمها، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) حاضرا فقال: سلها كيف فجرت فسألها، فقالت: كنت في فلاة من الارض فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة


(1) معاني الاخبار: ص 213، باب معنى الباغي والعادي، ح 1. (2) الكافي: ج 3، ص 438. كتاب الصلاة، باب صلاة الملاحين والمكارين وأصحاب الصيد.. ح 7. (3) الفقيه: ج 3، ص 217، باب 96، الصيد والذبائح، قطعة من حديث 97. (4) الكافي: ج 3، ص 410، كتاب الصلاة، باب صلاة الشيخ الكبير والمريض، ح 4 (*)

[ 407 ]

[ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب و يشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) ] فأتيتها فأصبت فيها رجلا أعرابيا فسألته ماء فابى علي أن يسقيني إلا أكون أن امكنه من نفسي، فوليت منه هاربة فاشتد بي العطش حتى غارت عيناي وذهب لساني، فلما بلغ مني العطش أتيته فسقاني ووقع علي. فقال علي (عليه السلام): هي التي قال الله عزوجل: ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد ” هذه غير باغية ولا عادية، فخلى سبيلها، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر (1). ويجب تناول المحرم عند الاضطرار. قال الصادق (عليه السلام): من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت فهو كافر (2). فلا إثم عليه: في تناوله. إن الله غفور: لما فعل. رحيم: بالرخصة فيه. فإن قلت: ” إنما ” يفيد القصر على ما ذكر، وكم من محرم لم يذكر ؟ قلت: المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه، لا مطلقا، أو قصر حرمته على حال الاختيار، كأنه قيل: إنما حرم عليكم هذه الاشياء ما لم تضطروا إليها. إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به ثمنا


(1) الفقيه: ج 4، ص 25، باب 4، ما يجب به التعزير والحد والرجم والقتل والنفي في الزنا، ح 40. (2) الفقيه: ج 3، ص 218، باب 96 الصيد والذبائح، ح 98. (*)

[ 408 ]

[ أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتب لفى شقاق بعيد (176) ] قليلا: عوضا حقيرا. أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار: أما في الحال لانهم أكلوا ما ينسب إلى النار، أو في المآل أي يوم القيامة، ومعنى (في بطونهم) ملاء بطونهم، يقال: أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه. ولا يكلمهم الله يوم القيمة: عبارة عن غضبه عليهم. ولا يزكيهم: ولا شئ عليهم. ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى: في الدنيا. والعذاب بالمغفرة: في الآخرة بكتمان الحق. فما أصبرهم على النار: تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غير مبالاة، و (ما) تامة مرفوعة بالابتداء، وتخصيصها كتخصيص (شر أهر ذاناب) (1) أو استفهامية وما بعد، الخبر أو موصولة، وما بعدها صلة والخبر محذوف. وفي اصول الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في


(1) يقال: (أهر) إذا حمله على الهرير، و (شر) رفع بالابتداء، وهو نكرة وشرط النكرة أن لا يبتدأ بها حتى تخصص بصفة، كقولنا رجل من بني تميم فارس، وابتدؤوا بالنكرة هاهنا من غير صفة، وإنما جاز ذلك ؟ لان المعنى: ما أهر ذاناب إلاشر، وذوالناب: السبع، يضرب في ظهور إمارات الشر ومخايله. مجمع الامثال للميداني: ج 1، ص 370، الباب الثالث عشر فيما اوله الشين. (*)

[ 409 ]

قول الله عزوجل: ” فما أصبرهم على النار “، فقال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار (1). وفي مجمع البيان: قول الله عزوجل: ” فما أصبرهم على النار ” فيه أقوال: أحداها: أن معناه ما أجرأهم على النار، رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، والثاني: ما أعملهم بأعمال أهل النار وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2). ذلك: أي العذاب. بأن الله نزل الكتب بالحق: أي بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالكتمان والتكذيب. وإن الذين اختلفوا في الكتب: اللام فيه إما للجنس، واختلافهم: إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض آخر، أو للعهد، والاشارة إما إلى التوراة، واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها، أو خلفوا خلاف ما أنزل الله مكانه، أي حرفوا فيها، أو اختلفوا بمعنى أن بعضهم آمنوا به وبعضهم أحرفوه عن مواضعه. وأما إلى القرآن، واختلافهم: قولهم سحر، وتقول، وكلام علمه بشر، وأساطير الاولين. لفى شقاق بعيد: لفي خلاف بعيد عن الحق. * * *


(1) الكافي: ج 2، ص 269، كتاب الايمان والكفر، باب الذنوب، ح 2. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 259. (*)

[ 410 ]

[ * ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الاخر والملئكة والكتب والنبين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلوة وءاتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصبرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177) ] ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب: البر: كل فعل مرضي، والخطاب لاهل الكتاب فإنهم أكثر، والخوض في أمر القبلة حين حولت وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته فرد الله عليهم، وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما بينه واتبعه المؤمنون. وقيل: عام لهم وللمسلمين، أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها. وقرأ حمزة وحفص: ليس البر بالنصب (1). ولكن البر من ءامن بالله واليوم الاخر والملئكة والكتب والنبين: أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به، بر من آمن، أو ولكن ذا البر من آمن، ويؤيده قراءة: ولكن البار. والمراد بالكتاب: الجنس أو القرآن. وقرأ نافع وابن عامر (ولكن) بالتخفيف ورفع البر (2).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 261. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 261. (*)

[ 411 ]

وءاتى المال على حبه: أي على حب المال، أو على حب الله، أو على حب الايتاء. والجار والمجرور في موضع الحال. ذوى القربى: قدمه لانه أفضل، كما روي عنه (عليه السلام): صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان، صدقة وصلة (1). ويحتمل أن يكون المراد قرابة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (2). واليتمى: جمع يتيم وهو من الاطفال من فقد أباه. والمسكين: جمع المسكين، وهو الذي أسكنته الخلة، وأصله دائم السكون، كالمسكير دائم السكر. وابن السبيل: المسافر، سمي به لملازمته السبيل، كما سمي القاطع ابن الطريق، وقيل: الضيف. والسائلين: الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال. قال (عليه السلام): للسائل حق وإن جاء على فرس (3). وفي من لا يحضره الفقيه: في الحقوق المروية عن علي بن الحسين (عليهما السلام): وحق السائل إعطاؤه على قدر حاجته، وحق المسئول إن أعطى، فاقبل منه بالشكر والمعرفة بفضله، وإن منع فاقبل عذره (4). وفى الرقاب: في تخليصها، كمعاونة المكاتبين، وفك الاسارى، وابتياع الرقاب لعتقها. وأقام الصلوة: المفروضة. وءاتى الزكوة: المراد منها الزكاة المفروضة، والغرض من الاول أما بيان مصارفها، أو نوافل الصدقات.


(1) الدر المنثور للسيوطي: ج 1، ص 415، في تفسيره لقوله تعالى: (ذوي القربى). (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 263، في بيان المعنى لآية 177، من سورة البقرة. (3) الدر المنثور للسيوطي: ج 1، ص 415، في تفسيره لقوله تعالى (والسائلين). (4) الفقيه: ج 2، ص 381، باب الحقوق. (*)

[ 412 ]

والموفون بعهدهم إذا عهدوا: عطف على من آمن. والصبرين في البأساء والضراء: نصب على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الاعمال، وعن الازهري: البأساء في الاموال كالفقر، والضراء في الانفس كالمرض. (1) وفي عيون الاخبار: بإسناده إلى الحارث بن دلهاث – مولى الرضا (عليه السلام) – قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال، سنة من ربه وسنة من نبيه وسنة من وليه، إلى قوله: أما السنة من وليه فالصبر على البأساء والضراء، فإن الله تعالى يقول: ” والصابرين في البأساء والضراء ” (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم قوله: ” والصابرين في البأساء والضراء ” قال: في الجوع والخوف والعطش والمرض (3). وحين البأس: قال: عند القتل. أولئك الذين صدقوا: في الدين واتباع الحق وطلب البر. وأولئك هم المتقون: عن الكفر وسائر الرذائل. وفي تفسير علي بن إبراهيم: إن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (صلوات الله عليه، لان هذه الشروط شرط الايمان وصفات الكمال، وهي لا توجد إلا فيه وفي ذريته الطيبين صلوات الله عليهم أجمعين (4).


(1) انوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 98. (2) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 256، باب 26، ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الاخبار النادرة في فنون شتى، ح 9، وتمام الحديث (قال بعد قوله: وسنة من وليه: فالسنة من ربه كتمان سره قال الله عزوجل: ” عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ” وأما السنة من نبيه فمداراة الناس، فإن الله عزوجل أمر نبيه بمداراة الناس فقال: ” خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ” و أما السنة من وليه إلى آخره. (3) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 64، في تفسير قوله تعالى: ” والصابرين في البأساء والضراء “. (4) لم أعثر على حديث بهذه الالفاظ. (*)

[ 413 ]

[ يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسن ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178) ] يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى: كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لاحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالانثى، فلما جاء الاسلام تحاكموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنزلت، وأمرهم أن يتكافئوا. وعن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ” الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى “، فقال: لا يقتل حر بعبد، ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد، وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوا أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل (1). وفي تهذيب الاحكام: صفوان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام قال: قلت: قول الله تعالى: ” كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى ” قال: لا يقتل حر بعبد، ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم ثمن العبد (2). وفي مجمع البيان: نفس الرجل لا تساوي نفس المرأة، بل هي على النصف


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 75، ح 158. (2) التهذيب: ج 10، ص 191، باب 14، القود بين الرجال والنساء والمسلمين والكفار والعبيد والاحرار، ح 51. (*)

[ 414 ]

منها، فيجب إذا اخذت النفس الكاملة بالناقصة أن يرد فضل ما بينهما (1)، وكذلك رواه الطبري في تفسيره عن علي (عليه السلام) (2). وفيه قال الصادق (عليه السلام): لا يقتل حر بعبد، ولكن يضرب ضربا شديدا، ويغرم دية العبد (3). فمن عفى له من أخيه شئ: أي شئ من العفو، لانه عفا لازم، وفائدته الاشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص. وقيل: (عفا) بمعنى ترك، و (شئ) مفعول به، وهو ضعيف إذ لم يثبت عفا الشئ بمعنى تركه، بل أعفاه وعفى، يعدى ب‍ (عن) إلى الجاني وإلى الذنب، قال الله تعالى: ” عفا الله عنك ” (4). وقال: عفا عنها، وإذا عدي به إلى الذنب، عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، يعني ولي الدم. وذكره بلفظ الاخوة – الثابتة بينهما من الجنسية والاسلام – ليرق له ويعطف عليه. فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسن: أي فليكن اتباع، أو فالامر اتباع، والمراد وصية العافي بأن يطالب الدية بالمعروف فلا يعنف، والمعفو عنه بأن يؤديها بإحسان، وهو أن لا يمطل (5) ولا يبخس. وفي الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ” قال:


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 265 في بيان المعنى لآية 178، من سورة البقرة. (2) جامع البيان للطبري: ج 2، ص 62. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 275، في بيان المعنى لآية 178، من سورة البقرة. (4) سورة التوبة: الآية 43. (5) المطل: التسويف والمدافعة بالعدة والدين.. وفي الحديث: مطل الغني ظلم. لسان العرب: ج 11، ص 624 في لغة ” مطل “. (*)

[ 415 ]

ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية، وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: ” فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ” قال: هو الرجل يقبل الدية، فينبغي للطالب أن يرفق به ولا يعسره، وينبغي للمطلوب أن يؤدي ولا يمطله إذا قدر (2). أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف و اداء إليه باحسان ” ما ذلك الشئ ؟ قال: هو الرجل يقبل الدية، فأمر الله عزوجل الذي له الحق أن يتبعه بمعروف ولا يعسره، وأمر الذي عليه الحق أن يودي إليه بإحسان إذا أيسر. (3). ذلك: أي الحكم المذكور في العفو والدية. تخفيف من ربكم ورحمة: لما فيه من التسهيل والنفع، وقيل: كتب على اليهود: القصاص وحده، وعلى النصارى: العفو مطلقا، وخير هذه الامة بينهما وبين الدية تيسيرا عليهم. فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم: وفي الحديث السابق قال سماعة: قلت: أرأيت قوله عزوجل: ” فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ” قال: هو الرجل يقبل الدية أو يصالح، ثم يجئ بعد فيمثل أو يقتل، فوعده الله عذابا أليما (4).


(1) الكافي: ج 7، كتاب الديات، ص 358، باب الرجل يتصدق بالدية على القاتل. قطعة من حديث 1. (2) الكافي: ج 7، كتاب الديات، ص 358، باب الرجل يتصدق بالدية على القاتل. قطعة من حديث 2. (3) الكافي: ج 7، كتاب الديات، ص 359، باب الرجل يتصدق بالدية على القاتل. قطعة من حديث 4. (4) الكافي: ج 7، كتاب الديات، ص 359، باب الرجل يتصدق بالدية عى القاتل. قطعة من حديث 4. (*)

[ 416 ]

[ ولكم في القصاص حيوة يأولى الالبب لعلكم تتقون (179) كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للولدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) ] علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ” فقال: هو الرجل يقبل الدية، أو يعفو ويصالح، ثم يعتدي فيقتل فله عذاب أليم، كما قال الله عزوجل (1). ولكم في القصاص حيوة: كلام في غاية الفصاحة والبلاغة، من حيث جعل الشئ محل ضده، وعرف القصاص ونكر الحياة، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما. (ولكم في القصاص) يحتمل أن يكونا خبرين ل‍ (حياة)، وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له، أو لها، لا من الضمير المستكن فيه. وقرئ في القصص، أي فيما قص عليكم من حكم القتل، أو في القرآن حياة القلوب. يأولى الالبب: ذوي العقول الكاملة. لعلكم تتقون: في المحافظة على القصاص والحكم به والاذعان له، أو


(1) الكافي: ج 7، كتاب الديات، ص 358، باب الرجل يتصدق بالدية على القاتل. قطعة من حديث 1. (*)

[ 417 ]

من القصاص فتكفوا عن القتل. وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي – رحمه الله – بإسناده إلى علي بن الحسين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة الآية. ولكم يا امة محمد في القصاص حياة، لان من هم بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل كان حياة للذي هم بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص، يا اولي الالباب، اولي العقول لعلكم تتقون (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ” ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب ” قال: يعنى لولا القصاص لقتل بعضكم بعضا (2). وفي نهج البلاغة: فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك، والقصاص حقنا للدماء (3). وفي أمالي شيخ الطائفة: بإسناده إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قلت: أربعا أنزل الله تعالى تصديقا بها في كتابه، إلى قوله (عليه السلام): قلت: القتل يقل القتل، فأنزل الله ” ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب “. (4). كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت: أي أسبابه وأماراته. إن ترك خيرا: أي مالا كثيرا. لما روي عن علي (عليه السلام) أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة درهم، أو ستمائة، فقال: ألا اوصي ؟ فقال: إنما قال الله سبحانه: ” إن ترك خيرا ” وليس لك مال كثير (5). الوصية للولدين والاقربين: مرفوع ب‍ (كتب) وتذكير فعلها للفصل، أو


(1) كتاب الاحتجاج: ج 2، ص 319، احتجاجات الامام السجاد. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 65. (3) نهج البلاغة: ص 512، باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، تحت رقم 252. (4) الامالي: ج 2، ص 108. (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 267. (*)

[ 418 ]

على تأويل أن يوصي، أو الايصاء، ولذلك ذكر الراجع في قوله: ” فمن بدله ” والعامل في ” إذا ” مدلول كتب، لا الوصية، لتقدمه عليها. وقيل: مبتدأ خبره ” للوالدين ” والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء، كقوله: * من يفعل الحسنات الله يشكرها * (1) ورد بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر. وكان هذا الحكم، أي وجوب الوصية، في بدء الاسلام فنسخ بآية المواريث. وفي تفسير العياشي: عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قوله: ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين ” قال: هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث (2)، ويجوز الوصية للوارث. قال في الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ابن بكير، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الوصية للوارث ؟ فقال: تجوز، ثم تلا هذه الآية: ” إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين “. (3) وفي من لا يحضره الفقيه: روى محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: ” الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على


(1) هو من أبيات لعبد الرحمان بن حسان بن ثابت الانصاري. وقبله: إن يسلم المرء من قتل ومن هرم * للذة العيش أفناه الجديدان فإنما هذه الدنيا وزينتها * كالزاد لا بد يوما أنه فان كلمة ” من ” شرطية و ” الحسنات ” بفتحتين جمع حسنة وهي نقيض السيئة، و ” يشكرها ” بمعنى ينيلها يضاعفها والباء في ” بالشر ” للمقابلة أو للمصاحبة أو للسببية، قوله (عند الله مثلان) أي في المجازات. جامع الشواهد: ص 281، باب الميم بعده النون. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 77، ح 167. (3) الكافي: ج 7، كتاب الوصايا، باب الوصية للوارث، ص 10، ح 5. (*)

[ 419 ]

المتقين ” قال: هو الشئ جعله الله عزوجل لصاحب هذا الامر قال: قلت: فهل لذلك حد ؟ قال: نعم، قلت: وما هو ؟ قال: أدنى ما يكون ثلث الثلث (1). وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي – رحمه الله – عن الزهراء (عليها السلام) في حديث طويل، تقول فيه للقوم وقد منعوها ما منعوها: وقال: ” واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ” (2) وقال: ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ” (3) وقال: ” إن ترك خيرا ” وزعمتم أن لا حظوة ولا إرث ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) (4). بالمعروف: بالعدل، فلا يفضل الغنى ولا يتجاوز الثلث. حقا: مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقا. على المتقين * فمن بدله: غيره من الاوصياء والشهود. بعد ما سمعه: وصل إليه وتحقق عنده. فإنما إثمه على الذين يبدلونه: فما اثم التبديل إلا على مبدله، لانه هو الذي خالف الشرع. إن الله سميع عليم: وعيد للمبدل. وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أوصى بماله في سبيل الله ؟ فقال: اعطه لمن أوصى به له وإن كان يهوديا أو نصرانيا، إن الله تعالى يقول: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه “. (5) محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن الحكم، عن العلا بن رزين،


(1) الفقيه: ج 4، ص 175، باب نوادر الوصايا، ح 16. (2) سورة الانفال: الآية 75. (3) سورة النساء: الآية 11. (4) احتجاج الطبرسي: ج 1، ص 102، احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك. (5) الكافي: ج 7، ص 14، كتاب الوصايا، باب إنفاذ الوصية على جهتها، ح 1. (*)

[ 420 ]

عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) في رجل أوصى بماله في سبيل الله، فقال: اعطه لمن أوصى به له، وإن كان يهوديا أو نصرانيا، إن الله تعالى يقول: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ” (1). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن مهزيار قال: كتب أبو جعفر (عليه السلام) إلى جعفر وموسى: وفيما أمرتكما به من الاشهاد بكذا وكذا نجاة لكما في آخرتكما، وإنفاذا لما أوصى به أبو اكما، وبرا منكما لهما، واحذرا أن لا تكونا بدلتما وصيتهما ولا غير تماها عن حالها لانهما قد خرجا من ذلك – رضي الله عنهما – وصار ذلك في رقابكما. وقد نزل الله تعالى في كتابه في الوصية: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ” (2). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن يونس بن يعقوب: إن رجلا كان بهمذان ذكر أن أباه مات، وكان لا يعرف هذا الامر، فأوصى بوصية عند الموت، وأوصى أن يعطي شئ في سبيل الله، فسأل عنه أبو عبد الله (عليه السلام) كيف يفعل به ؟ فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الامر، فقال: لو أن رجلا أوصى إلي أن اضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما، إن الله عزوجل يقول: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ” فانظر إلى من يخرج إلى هذا الوجه، يعني الثغور، فابعثوا به إليه (3). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحجاج الخشاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن امرأة أوصت إلي بمال أن يجعل في سبيل الله، فقيل لها: نحج به، فقالت: اجعله في سبيل الله، فقالوا لها: نعطيه آل محمد، قالت: اجعله في سبيل الله فقال أبو عبد الله عليه السلام: أجعله في سبيل الله كما أمرت، قلت مرني كيف أجعله ؟ قال: اجعله كما أمرتك، إن الله تبارك وتعالى يقول: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه


(1) الكافي: ج 7، ص 14، كتاب الوصايا، باب إنفاذ الوصية على جهتها، ح 2. (2) الكافي: ج 7، ص 14، كتاب الوصايا، باب إنفاذ الوصية على جهتها، ح 3. (3) الكافي: ج 7، ص 14، كتاب الوصايا، باب إنفاذ الوصية على جهتها، ح 4. (*)

[ 421 ]

[ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182) يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) ] إن الله سميع عليم ” أرأيتك لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا، قال: فمكثت بعد ذلك سنين، ثم دخلت عليه، ثم قلت له مثل الذي قلت له أول مرة: فسكت هنيئة، ثم قال: هاتها، قلت: من أعطيتها ؟ قال: عيسى شلقان. (1) علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن شبيب قال: أوصت ماردة لقوم نصارى فراشين بوصية، فقال أصحابنا: اقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك، فسألت الرضا عليه السلام فقلت: إن اختي أوصت بوصية لقوم نصارى، وأردت أن أصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا المسلمين، فقال: إمض الوصية على ما أوصت به، قال الله تبارك وتعالى: ” فإنما إثمه على الذين يبدلونه ” (2). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي سعيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن رجل أوصى بحجة فجعلها وصية في نسمة ؟ فقال: يغرمها وصيه ويجعلها في حجة كما أوصى به، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ” (3). فمن خاف من موص: أي توقع وعلم من قولهم: أخاف أن ترسل السماء.


(1) الكافي: ج 7، ص 15، كتاب الوصايا، باب آخر منه، ح 1، ونقل عن رجال الكشي: أن عيسى كان من وكلائه (عليه السلام). (2) الكافي: ج 7، ص 16، كتاب الوصايا، باب آخر منه، ح 2. (3) الكافي: ج 7، ص 22، كتاب الوصايا، باب أن الوصي إذا كانت الوصية في حق فغيرها فهو ضامن، ح 2. (*)

[ 422 ]

جنفا: ميلا بالخطأ في الوصية. أو إثما: تعمدا للحيف. فأصلح بينهم: بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع. فلا إثم عليه: في هذا التبديل، لانه تبديل باطل إلى حق، بخلاف الاول. إن الله غفور رحيم: وعد للمصلح، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الاثم، وكون الفعل من جنس ما يؤثم به. وفي كتاب علل الشرائع: حدثنا محمد بن الحسن رحمه الله قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن أبي طالب عبد الله الصلت القمي، عن يونس بن عبد الرحمان رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ” قال: يعني إذا اعتدى في الوصية، يعني إذا زاد على الثلث (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: قال الصادق (عليه السلام): إذا أوصى الرجل بوصية فلا يحل للوصي أن يغير وصية يوصيها، بل يمضيها على ما أوصى، إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصى في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يردها إلى الحق، مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا، فالوصى جائز له أن يرده إلى الحق وهو قوله: جنفا أو إثما، فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، والاثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر، فيحل للوصي أن لا يعمل بشئ من ذلك (2). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن رجاله قال: قال: إن الله عزوجل أطلق للموصى إليه أن يغير الوصية إذا لم تكن بالمعروف وكان فيها حيف ويردها إلى المعروف، لقوله تعالى: ” فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم


(1) علل الشرائع: ج 2، ص 567، الباب 369، ح 4. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 65، في تفسيره لقوله تعالى: ” فمن خاف من موص الآية “. (*)

[ 423 ]

عليه ” (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ايوب، عن محمد بن سوقة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: ” فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ” قال: نسختها الآية التي بعدها قوله: ” فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ” قال: يعني الموصى إليه إن خاف جنفا فيما أوصى به إليه مما لا يرضى الله به من خلاف الحق، فلا إثم عليه أن يرد إلى الحق وإلى ما يرضى الله به من سبيل الخير (2). يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم: يعني الانبياء دون الامم، فإن الامم كان عليهم صوم أكثر من ذلك في غير ذلك الشهر. يدل عليه ما في الصحيفة الكاملة: ثم آثرتنا به على سائر الامم، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل، فصمنا بأمرك نهاره، وقمنا بعونك ليله (3). وما رواه في من لا يحضره الفقيه، قال: روى سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث النخعي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا، فقلت: فقول الله عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ” قال: إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الانبياء دون الامم، ففضل به هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى امته (4). والصوم في اللغة: الامساك عما تنازع النفس إليه، وفي الشرع: الامساك عن


(1) الكافي: ج 7، ص 20، كتاب الوصايا، باب أن من حاف في الوصية فللوصي أن يردها إلى الحق، ح 1. (2) الكافي: ج 7، ص 21، كتاب الوصايا، باب أن من حاف في الوصية فللوصي أن يردها إلى الحق، ح 2. (3) الدعاء الخامس والاربعون، وكان من دعائه (عليه السلام) في وداع شهر رمضان. (4) الفقيه: ج 2، ص 161، باب 28 فضل شهر رمضان وثواب صيامه، ح 14. (*)

[ 424 ]

المفطرات، فإنها معظم ببما تشتهيه الانفس. والخطاب في عليكم عام. وفي تفسير العياشي: عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عقول الله عزوجل ” كتب عليكم القتال ” و ” يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ” قال: فقال: هذه كلها تجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة (1). وأما ما رواه البرقي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ” قال: هي للمؤمنين خاصة (2). فمعناه أن المؤمنين هم المنتفعون بها. وفي كتاب الخصال: عن علي (عليه السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأله أن قال: لاي شئ فرض الله الصوم على امتك بالنهار ثلاثين يوما، وفرض على الامم أكثر من ذلك ؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن آدم (عليه السلام) لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما، ففرض على ذريته ثلاثين يوما الجوع والعطش، والذين يأكلونه تفضل من رحمة الله عليهم، وكذلك كان على آدم، ففرض الله تعالى ذلك على أمتي، ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية: ” كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات ” قال اليهودي: صدقت يا محمد (3). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن سيف بن عميرة، عن عبد الله، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما حضر شهر رمضان، و ذلك في ثلاث بقين من شعبان قال لبلال: ناد في الناس، فجمع الناس ثم صعد


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 78، ح 175. (2) رواه العياشي في تفسيره: ج 1، ص 78، ح 174، نقلا عن البرقي. (3) كتاب الخصال: ص 530، أبو اب الثلاثين وما فوقه، ح 6. (*)

[ 425 ]

المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن هذا الشهر قد خصكم به وحضركم، وهو سيد الشهور، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (1). لعلكم تتقون: المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها. وفي عيون الاخبار: في باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها أنه سمعها من الرضا (عليه السلام): فإن قال: فلم أمر بالصوم ؟ قيل: لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعا ذليلا مأجورا محتسبا عارفا صابرا على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات، وليكون ذلك واعظا لهم في العاجل ورائضا لهم على أداء ما كلفهم، ودليلا لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض الله تعالى في أموالهم، فإن قال: فلم جعل الصوم في شهر رمضان خاصة دون سائر الشهور ؟ قيل: لان شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن وفيه فرق بين الحق والباطل، كما قال الله عزوجل: ” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ” وفيه نبئ محمد (صلى الله عليه وآله)، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهو رأس السنة، يقدر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر أو مضرة أو منفعة أو رزق أو أجل، ولذلك سميت ليلة القدر. فإن قال: لم أمر بصوم شهر رمضان لا أقل من ذلك ولا أكثر ؟ قيل: لانه قوة العباد الذي يعم فيه القوي والضعيف. وإنما أوجب الله تعالى الفرائض على أغلب الاشياء و أعظم القوى، ثم رخص لاهل الضعف ورغب أهل القوة في الفضل، ولو كانوا يصلحون على أقل من ذلك لنقصهم، ولو احتاجوا إلى أكثر من ذلك لزادهم. (2)


(1) الكافي: ج 4، ص 67، كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصوم والصائم، ح 5. (2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ص 115، باب 34، العلل التي ذكر الفضل بن شاذان، في آخرها أنه سمعها من الرضا (عليه السلام) علة جعل الصوم في شهر رمضان دون سائر الشهور. (*)

[ 426 ]

[ أياما معدودت فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184) ] أياما معدودت: موقتات بعدد معلوم ووقت معين، أو قلائل، فإن القليل من المال يعد عدا، والكثير يهال هيلا. ونصبها بإضمار صوموا، أو ب‍ (كما كتب) على الظرفية، أو بأنه مفعول ثان له على السعة، وليس بالصيام، للفصل بينهما. فمن كان منكم مريضا: مرضا يضره الصوم. أو على سفر: أو راكب سفر. فعدة من أيام أخر: أي فعليه صوم عدد أيام المرض والسفر من أيام اخر، وهذا على الوجوب. في من لا يحضره الفقيه: روي عن الزهري أنه قال: قال لي علي بن الحسين (عليهما السلام): ونقل حديثا طويلا يقول فيه (عليه السلام): وأما صوم السفر والمرض فإن العامة اختلفت: فقال قوم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام و إن شاء أفطر. وأما نحن فنقول: يفطر في الحالتين جميعا، فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء في ذلك، لان الله عزوجل يقول: ” فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر ” (1). وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حد


(1) الفقيه: ج 2، ص 48، باب وجوه الصوم، ح 1. (*)

[ 427 ]

المرض الذي يجب على صاحبه فيه الافطار، كما يجب عليه في السفر في قوله: ” ومن كان مريضا أو على سفر ” ؟ قال: هو مؤتمن عليه مفوض إليه، فإن وجد ضعفا فليفطر، وإن وجد قوة فليصم، كان المريض على ما كان (1). عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصوم في السفر تطوعا ولا فريضة، يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، نزلت هذه الآية ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بكراع الغميم عند صلاة الفجر، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإناء فشرب، فأمر الناس أن يفطروا، وقال قوم: قد توجه النهار ولو صمنا يومنا هذا، فسماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2). وفي كتاب الخصال: عن أبي جعفر محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تبارك وتعالى أهدى إلي وإلى امتي هدية لم يهدها إلى أحد من الامم كرامة من الله لنا، قالوا: وما ذلك يا رسول الله ؟ قال: الافطار في السفر والتقصير في الصلاة، فمن لم يفعل ذلك فقد رد على الله هديته (3). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: رجل صام في السفر، فقال: إن كان بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ذلك فعليه القضاء، وإن لم يكن بلغه فلا شئ عليه (4). أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن ليث المرادي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سافر الرجل


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 81، ح 188. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 81، ح 190. (3) الخصال: ج 1، ص 12، باب الواحد، إن الله تبارك وتعالى أهدى إلى محمد صلى الله عليه وآله وإلى امته هدية لم يهدها إلى أحد من الامم، ح 43. (4) الكافي: ج 4، ص 128، كتاب الصيام، باب من صام في السفر بجهالة، ح 1. (*)

[ 428 ]

في شهر رمضان أفطر، وإن صامه بجهالة لم يقضه (1). وفي من لا يحضره الفقيه: روى ابن بكير، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما حد المرض الذي يفطر فيه الصائم ويدع الصلاة من قيام ؟ قال: بل الانسان على نفسه بصيرة، هو أعلم بما لا يطيقه (2). روى جميل بن دراج، عن الوليد بن صبيح قال: حممت يوما بالمدينة في شهر رمضان، فبعث إلي أبو عبد الله (عليه السلام) بقصعة فيها خل وزيت، وقال: افطر وصل وأنت قاعد (3). وفي رواية حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر (4). وعلى الذين يطيقونه: أي على الذين كانوا يطيقون الصوم فلم يطيقوه الآن، لمرض العطاش أو كبر، أو أفطروا لمرض أو سفر، ثم زال عذرهم وأطاقوا ولم يقضوا حتى دخل رمضان آخر. فدية طعام مسكين: بمد من كل يوم. في الكافي: محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ” قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش (5). أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: ” وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ” قال: الذين كانوا يطيقون الصوم فأصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك، فعليهم بكل


(1) الكافي: ج 4، ص 128، كتاب الصيام، باب من صام في السفر بجهالة، ح 2. (2) و (3) الفقيه: ج 2، ص 83، باب 40، حد المرض الذي يفطر صاحبه ح 1 وح 2. (4) الفقيه: ج 2، ص 84، باب 40، حد المرض الذي يفطر صاحبه ح 5. (5) الكافي: ج 4، ص 116، كتاب الصيام، باب الشيخ والعجوز يضعفان عن الصوم، قطعة من حديث 1. (*)

[ 429 ]

[ شهر رمضان الذى أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون (185) ] يوم مد (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ” وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ” قال: من مرض في شهر رمضان فأفطر ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء شهر آخر، فعليه أن يقضي ويتصدق عن كل يوم بمد من الطعام (2). وقرأ نافع وابن عامر بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع المساكين (3). فمن تطوع خيرا: فزاد في الفدية. فهو: أي التطوع، أو الخير. خير له وأن تصوموا: أي صومكم على تقدير عدم المانع، وتكلف الصوم على تقدير وجوده. خير لكم: من الفدية، أو تطوع الخير، أو منهما. إن كنتم تعلمون: ما في الصوم من الفضيلة، وجوابه محذوف، أي اخترتموه، أو إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك. شهر رمضان: مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ذلكم شهر


(1) الكافي: ج 4، ص 116، كتاب الصيام، باب الشيخ والعجوز يضعفان عن الصوم، ح 5. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 66. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 272. (*)

[ 430 ]

رمضان، أو بدل من الصيام على حذف المضاف، أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان، وقرئ بالنصب على إضمار صوموا أو على أنه بدل من (أياما معدودات) أو مفعول (وأن تصوموا) وفيه ضعف. ورمضان مصدر رمض إذا احترق، فأضيف إليه الشهر وجعل علما له، ومنع من الصرف للعلمية والالف والنون. وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تقولوا رمضان، ولكن قولوا: شهر رمضان، فإنكم لا تدرون ما رمضان (1). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن هشام بن سالم، عن سعد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنا عنده ثمانية رجال، فذكرنا رمضان فقال: لا تقولوا هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله عزوجل لا يجيئ ولا يذهب وإنما يجيئ و يذهب الزائل، ولكن قولوا: شهر رمضان، فالشهر مضاف إلى الاسم، والاسم اسم الله عز ذكره، وهو الشهر الذي انزل فيه القرآن، جعله مثلا وعيدا (2). الذى أنزل فيه القرءان: الموصول بصلته خبرا لمبتدأ أو صفته والخبر ” فمن شهد ” أي انزل في شأنه القران وهو قوله ” كتب عليكم الصيام ” أو ” انزل فيه القرآن ” جملة واحدة إلى البيت المعمور ثم نزل. في اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن القاسم، عن محمد بن سليمان، عن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ” وإنما انزل في عشرين سنة بين أوله وآخره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نزل القرآن جملة


(1) الكافي: ج 4، ص 69، كتاب الصيام، باب في النهي عن قول رمضان بلا شهر، ح 1. (2) الكافي: ج 4، ص 69، كتاب الصيام، باب في النهي عن قول رمضان بلا شهر، ح 2. (*)

[ 431 ]

واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، و انزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، وانزل الانجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، وانزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان (1). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عمرو الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ونزل القرآن في أول ليلة من شهر رمضان، فاستقبل الشهر بالقرآن (2). ويمكن الجمع بين الخبرين، بحمل الانزال جملة واحدة في ثلاث وعشرين إلى البيت المعمور، وحمل الانزال في أول ليلة ابتداء إنزاله منجما إلى الدنيا. عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي يحيى، عن الاصبغ بن نباته قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام (3). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن علي بن عقبة، عن داود بن فرقد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم، ونبأ ما يكون بعدكم، وفصل ما يكون بينكم (4). أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع


(1) الكافي: ج 2، ص 628، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ح 6. (2) الكافي: ج 4، ص 69، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، قطعة من حديث 1. (3) الكافي: ج 2، ص 627، كتاب فضل القرآن، باب النوار، ح 2. (4) الكافي: ج 2، ص 627، كتاب فضل القرآن، باب النوار، ح 3. (*)

[ 432 ]

في عدونا، وربع سنن وأحكام (أمثال)، وربع فرائض وأحكام (1). والجمع بين الخبر الاول والثاني أن المراد بالخبر الاول أن ثلث القرآن فينا وفي عدونا بحسب بطونه، وأن كان بحسب ظاهر ألفاظه في شئ من السنن والاحكام والقصص وغير ذلك، وثلثاه الآخران ليسا كذلك. والجمع بينه وبين الثالث بأن قائله أمير المؤمنين (عليه السلام) وله الاختصاص ببعض الآيات، لم يشركه فيها باقي الائمة (عليهم السلام)، وقائل الخبر الثالث أبو جعفر (عليه السلام)، ومراده (عليه السلام): أن الربع يشترك فيه كلنا. وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن الفضل بن يسار قال: قلت: إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد (2). هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان: حالان من القرآن، أي انزل وهو هداية للناس بإعجازه، وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق به بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والاحكام. وفي كتاب معاني الاخبار: بإسناده إلى ابن سنان وغيره، عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان أهما شيئان أم شئ واحد ؟ قال: فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل به (3). فمن شهد منكم: في الفاء إشعار بأن الانزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم فيه. الشهر: فيه وضع المظهر موضع المضمر، للتعظيم، نصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير على الاتساع. وقيل: من شهد منكم هلال الشهر فليصمه على أنه مفعول به، كقولك شهدت


(1) الكافي: ج 2، ص 628، كتاب فضل القرآن، باب النوار، ح 4. (2) الكافي: ج 2، ص 630، كتاب فضل القرآن، باب النوار، ح 13. (3) معاني الاخبار: ص 189، باب معنى القرآن والفرقان، ح 1. (*)

[ 433 ]

يوم الجمعة أي صلاتها. في كتاب الخصال: فيما علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه: ليس للعبد أن يخرج إلى سفر إذا حضر شهر رمضان، لقوله تعالى: ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه ” (1). وفي من لا يحضره الفقيه: وسأل عبيد بن زرارة أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه ” قال: ما أبينها، من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه (2). روى الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا (3)، ثم يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان أن يسافر، فسكت، فسألته غير مرة فقال: يقيم أفضل إلا أن تكون له حاجة لابد له من الخروج فيها، أو يتخوف على ماله (4). وفي تفسير العياشي: عن الصباح بن سيابة قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): إن ابن يعقوب أمرني أن أسألك عن مسائل، فقال: وما هي ؟ قال: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي إلي أن اسافر ؟ قال: إن الله يقول: ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه ” ومن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا إلى الحج أو عمرة، أو في طلب مال يخاف تلفه (5). فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: مخصص لسابقه، لان المسافر والمريض ممن شهد الشهر، ولعل تكريره لذلك. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر: أي يريد أن ييسر عليكم


(1) الخصال: ص 614، حديث الاربعمائة (علم امير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد). (2) الفقيه: ج 2، ص 91، باب وجوب التقصير في الصوم في السفر، ح 2. (3) يقال: ما برح من مكانه أي لم يفارقه. مجمع البحرين: ج 2، ص 342، لغة (برح) (4) الفقيه: ج 2، ص 89، باب 46، ما جاء في كراهية السفر في شهر رمضان، ح 2. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 80، ح 186. (*)

[ 434 ]

ولا يعسر عليكم، ولذلك أوجب الفطر للسفر والمرض. وفي تفسير العياشي: عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ” قال: اليسر علي، وفلان وفلان العسر، فمن كان من ولد آدم لم يدخل في ولاية فلان وفلان (1). ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون: علل الفعل محذوف دل عليه ما سبق، أي شرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بالصوم، والمسافر والمريض بالافطار، ومراعاة عدة ما أفطر فيه لتكملوا العدة إلى آخرها على سبيل اللف، فإن قوله: ” ولتكملوا ” علة الامر بمراعاة العدة، ” ولتكبروا الله ” علة أمر الشاهد بالصوم، و ” لعلكم تشكرون ” علة الامر المسافر والمريض بالافطار، أو لافعال كل لفعله، أو معطوفة على علة مقدرة، مثل ليسهل عليكم، أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا، ويجوز أن يعطف على اليسر، أي يريد لكم لتكملوا، كقوله: ” يريدون ليطفئوا ” (2). والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه، ولذلك عدي ب‍ (على) ومن جملته تكبير يوم الفطر، وقيل: المراد التكبير عند الاهلال. و ” ما ” يحتمل المصدر والخبر، أي الذي هداكم إليه، وعن عاصم ولتكملوا بالتشديد (3) وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا في ستة أيام ثم اختزلها (4) عن أيام السنة، والسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، شعبان لا يتم أبدا، ورمضان لا ينقص والله أبدا، ولا تكون فريضة ناقصة،


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 82، ح 191. (2) سورة التوبة: الآية 32. (3) يقال: خزلته خزلا من باب قتل اقتطعته ومنه الحديث: إن الله خلق الدنيا في ستة أيام ثم اختزلها. مجمع البحرين: ج 5، ص 363، باب ما أوله الخاء. (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 102. (*)

[ 435 ]

إن الله عزوجل يقول: ” ولتكملوا العدة ” وشوال تسعة وعشرون يوما، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (1). وفي تفسير العياشي: عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلاثين، أحق هذا ؟ قال: ما خلق الله من هذا حرفا، ما صامه النبي (صلى الله عليه وآله) إلا ثلاثين، لان الله يقول: ” و لتكملوا العدة ” وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينقصه ! (2). وفي الكافي: علي بن محمد، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن سعيد النقاش قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لي: أما إن في الفطر تكبيرا ولكنه مسنون، قال: قلت: وأين هو ؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر، وفي صلاة العيد ثم يقطع قال: قلت: كيف أقول ؟ قال: تقول: الله اكبر الله اكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله اكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، وهو قول الله تعالى: ” ولتكملوا العدة – يعني الصيام – ولتكبرو الله على ما هداكم ” (3). وفي محاسن البرقي: عنه، عن بعض أصحابنا رفعه في قول الله: ” ولتكبروا الله على ما هداكم ” قال: التكبير: التعظيم لله، والهداية: الولاية (4). عنه، عن بعض أصحابنا رفعه في قول الله: ” ولتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون ” قال: التكبير: التعظيم لله، والهداية: الولاية (5). عنه، عن بعض أصحابنا في قول الله تبارك وتعالى: ” ولتكبروا الله على ما


(1) الكافي: ج 4، ص 78، كتاب الصيام، باب نادر، ح 2. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 82، ح 194. (3) الكافي: ج 4، ص 166، كتاب الصيام، باب التكبير ليلة الفطر ويومه، ح 1. (4) المحاسن: كتاب الصفوة والنور والرحمة، ص 142، باب 10، باب الولاية، ح 36. (5) الظاهر أنه مكرر وقد أثبتناه آنفا من المحاسن، ص 142، ح 36. (*)

[ 436 ]

[ وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون (186) ] هداكم ولعلكم تشكرون ” قال: الشكر: المعرفة (1). وفي من لا يحضره الفقيه: وفي العلل التي روي عن الفضل بن شاذان النيشابوري رضي الله عنه ويذكر أنه سمعها عن الرضا (عليه السلام): إنه إنما جعل يوم الفطر العيد، إلى أن قال: وإنما جعل التكبير فيها أكثر منه في غيرها من الصلوات، لان التكبير هو تمجيد لله، وتمجيد على ما هدى وعافى، كما قال عزوجل: ” ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ” (2 / 3). وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب: فقل لهم: ” إني قريب ” وهو تمثيل لكمال علمه لافعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم، بحال من قرب مكانه منهم. روي أن أعرابيا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت (4). أجيب دعوة الداع إذا دعان: تقريب للقرب، ووعد للداعي بالاجابة.


(1) تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 170 ح 587. (2) الفقيه: ج 1، باب 79، صلاة العيدين، ص 330، قطعة من حديث 32. (3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2، ص 116، باب 34، العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها أنه سمعها من الرضا (عليه السلام). (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 278، في سبب نزول آية 186، من سورة البقرة (وإذا سألك عبادي الآية). وفي الدر المنثور: ج 1، ص 194، في تفسير قوله: ” فإني قريب “. (*)

[ 437 ]

فليستجيبوا لى: إذا دعوتهم للايمان والطاعة، كما اجيبهم إذا دعوني لمهماتهم. وليؤمنوا بى: أمر بالدوام والثبات. لعلهم يرشدون: راجين إصابة الرشد، وهو إصابة الحق. وقرئ بفتح الشين وكسرها. وفي اصول الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي عمر قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): أخبرني عنك لو أني قلت لك قولا، أكنت تثق به ؟ فقلت له: جعلت فداك إذا لم أثق بقولك فبمن أثق، وانت حجة الله على خلقه ؟ قال: فكن بالله أوثق، فإنك موعد من الله أليس الله عزوجل يقول: ” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان ” وقال: ” لا تقنطوا من رحمة الله ” (1) وقال: ” والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ” (2) فكن بالله عزوجل أوثق منك بغيره ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيرا فإنه مغفور بكم (3)، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. وفي روضة الكافي في خطبة طويلة مسندة لامير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها: فاحترسوا من الله عزوجل بكثرة الذكر، واخشوا منه بالتقى، وتقربوا إليه بالطاعة، فإنه قريب مجيب، قال الله تعالى: ” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ” (4). وفي نهج البلاغة: قال (عليه السلام): ثم جعل يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطك إبطاء إجابته، فإن العطية عل قدر النية، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألته الشئ


(1) سورة الزمر: الآية 53. (2) سورة البقرة: الآية 268. (3) الكافي: ج 2، ص 488، كتاب الدعاء، باب من أبطات عليه الاجابة، قطعة من حديث 1. (4) الكافي: ج 8، ص 390، خطبة 586، لامير المؤمنين عليه السلام. (*)

[ 438 ]

فلا تؤتاه واوتيت خيرا منه عاجلا وآجلا، وصرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له (1). وفيه قال (عليه السلام): إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم أسأل حاجتك، فان الله اكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الاخرى (2). وفي مجمع البيان: روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (وليؤمنوا بي) أي وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه (لعلهم يرشدون) أي لعلهم يصيبون الحق ويهتدون (3). ورى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن العبد ليدعوا الله وهو يحبه، فيقول: يا جبرئيل لا تقض لعبدي هذا حاجة وأخرها، فإني احب أن لا أزال أسمع صوته، وإن العبد ليدعوا الله وهو يبغضه فيقول: يا جبرئيل اقض لعبدي هذا حاجته بإخلاصه وعجلها أكره أن أسمع صوته (4). ثم بين أحكام الصوم، فقال: * * *


(1) نهج البلاغة: ص 399، ومن وصية له (عليه السلام) للحسن بن علي (عليه السلام) كتبها إليه (بحاضرين) عند انصرافه من صفين. (2) نهج البلاغة: ص 538، باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم 361. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 278، في بيان المعنى لآية 186، من سورة البقرة، (وإذا سألك عبادي عني الآية). (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 279، في بيان المعنى لآية 186، من سورة البقرة، (وإذا سألك عبادي عني الآية). (*)

[ 439 ]

[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله ءايته للناس لعلهم يتقون (187) ] أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم: ليلة الصيام الليلة التي يصبح منها صائما، والرفث كناية عن الجماع، لانه لا يكاد يخلو من رفث، وهو الافصاح بما يجب أن يكنى عنه وعدي ب‍ (إلى) لتضمنه معنى الافضاء، وإيثاره هنا، لتقبيح ما ارتكبوه، ولذلك سماه خيانة. وقرئ الرفوث. وفي كتاب الخصال: فيما علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه من الاربعمائة باب، قال (عليه السلام): يستحب للرجل أن يأتي أهله أول ليلة من شهر رمضان لقوله تعالى: ” احل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ” والرفث: المجامعة (1). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن


(1) الخصال: ج 2، ص 612، (علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربع مائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه) ح 10. (*)

[ 440 ]

جده الحسن بن راشد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حدثني أبي، عن جدي، عن آبائه (عليهم السلام) أن عليا (صلوات الله عليه) قال: يستحب للرجل أن يأتي أهله، وذكر كما في كتاب الخصال سواء (1). وفي مجمع البيان: وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله عليه السلام كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر إلا أول ليلة من شهر رمضان فإنه يستحب ذلك لمكان الآية (2). هن لباس لكم وأنتم لباس لهن: استئناف يبين سبب الاخلال، وهو قلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه، شبه باللباس، أو لان كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور. علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم: تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب. والاختيان أبلغ من الخيانة، كالاكتساب من الكسب. فتاب عليكم: لما تبتم مما اقترفتموه. وعفا عنكم: ومحا عنكم أثره. فالئن بشروهن: لما نسخ عنكم التحريم. والمباشرة: إلزاق البشرة بالبشرة، كنى به عن الجماع. وابتغوا ما كتب الله لكم: واطلبوا ما قدر لكم وأثبته في اللوح من الولد. وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر: شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الافق وما يمتد معه من غلس الليل، بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الابيض بقوله: ” من الفجر “


(1) الكافي: ج 4، ص 180، كتاب الصيام، باب النوادر، ح 3. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 280، في بيان المعنى لآية 187، من سورة البقرة، ” احل لكم ليلة الصيام الآية “. (*)

[ 441 ]

عن بيان الخيط الاسود، لدلالته عليه، وبذلك خرجا من الاستعارة إلى التمثيل، و يجوز أن يكون ” من ” للتبعيض، فإن ما يبدو بعض الفجر. وفي الكافي: محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وأحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار جميعا عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله عزوجل: ” احل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ” الآية فقال: نزلت في خوات بن جبير الانصاري (1) وكان مع النبي (صلى الله عليه وآله) في الخندق وهو صائم فأمسى وهو على تلك الحال، وكانوا قبل أن تنزل هذه الآية إذا نام أحدهم حرم عليه الطعام والشراب، فجاء خوات إلى أهله حين أمسى فقال: هل عندكم طعام ؟ قالوا: لا تنم حتى نصلح لك طعاما، فاتكى فنام فقالوا له: قد فعلت قال: نعم، فبات على تلك الحال فأصبح ثم غدا إلى الخندق، فجعل يغشى عليه، فمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رأى الذي أخبره كيف كان أمره، فأنزل الله عزوجل فيه الآية ” كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ” (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي رفعه قال: قال الصادق (عليه السلام): كان النكاح والاكل محرمان في شهر رمضان بالليل بعد النوم، يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال له خوات بن جبير أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكله بمهم الشعب يوم احد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه، بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب، وكان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، وكان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لاهله: قد حرم


(1) خوات بتشديد الواو والتاء المنقطة بعد الالف – ابن جبير بضم الجيم بدري ومن أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام). تنقيح المقال: ج 1، ص 403. (2) الكافي: ج 4، ص 98، كتاب الصيام، باب الفجر ما هو ومتى يحل ومتى يحرم الاكل، ح 4. (*)

[ 442 ]

علي الاكل في هذه الليلة، فلما اصبح حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرق له، وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: ” احل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ” فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل في شهر رمضان، والاكل بعد النوم إلى طلوع الفجر، لقوله حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، قال: هو بياض النهار في سواد الليل (1). وفي من لا يحضره الفقيه: وسئل الصادق (عليه السلام) عن الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ؟ فقال: بياض النهار من سواد الليل (2). وقال في خبر آخر: هو الفجر الذي لا شك فيه (3). وفي الكافي: علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن مهزيار قال: كتب أبو الحسن بن الحصى ان إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) معي: جعلت فداك قد اختلفت مواليك في صلاة الفجر فمنهم من يصلي إذا طلع الفجر الاول المستطيل في السماء، ومنهم من يصلي إذا اعترض مع أسفل الافق واستبان، ولست أعرف أفضل الوقتين فاصلي فيه فإن رأيت أن تعلمني أفضل الوقتين وتحده لي، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبين معه حتى يحمر ويصبح، وكيف أصنع مع الغيم، وما حد ذلك في السفر والحضر فعلت إن شاء الله ؟ فكتب (عليه السلام) بخطه و قرأته: الفجر – يرحمك الله – هو الخيط الابيض المعترض، ليس هو الابيض صعدا، فلا تصل في سفر ولا حضر حتى تتبينه، فإن الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في


(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 66، في تفسيره لقوله (شهر رمضان الآية). (2) الفقيه: ج 2، ص 82، باب 39، الوقت الذي يحرم فيه الاكل والشرب على الصائم وتحل فيه صلاة الغداة، ح 3. (3) الفقيه: ج 2، ص 82، باب 39، الوقت الذي يحرم فيه الاكل والشرب على الصائم وتحل فيه صلاة الغداة، ح 4. (*)

[ 443 ]

شبهة من هذا، فقال: ” كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ” فالخيط الابيض هو المعترض الذي يحرم به الاكل والشرب في الصوم، وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران قال: سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر فقال أحدهما: هو ذا، وقال الآخر: ما أرى شيئا، قال: فليأكل الذي لم يستبين له الفجر، وقد حرم على الذي زعم أنه رأى الفجر إن الله يقول: ” وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ” (2). ثم أتموا الصيام إلى اليل: بيان آخر وقته وإخراج الليل عنه، فينفي صوم الوصال. وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألته عن قوم صاموا شهر رمضان فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس فظنوا انه ليل فافطروا، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس، فقال: على الذي أفطر صيام ذلك اليوم، إن الله عزوجل يقول: ” ثم أتموا الصيام إلى الليل ” فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه لانه أكل متعمدا (3). وفي تفسير العياشي: القاسم بن سليمان، عن جراح، عنه قال: قال الله: ” ثم أتموا الصيام إلى الليل ” يعني صوم رمضان فمن رأى هلال شوال بالنهار فليتم صيامه (4). ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد: معتكفون فيها. والاعتكاف: هو اللبث في المسجد بقصد القربة، والمراد بالمباشرة، الوطئ، وعن


(1) الكافي: ج 3، ص 282، كتاب الصلاة باب وقت الفجر، ح 1. (2) الكافي: ج 4، ص 97، كتاب الصيام باب من أكل أو شرب وهو شاك في الفجر أو بعد طلوعه ح 7. (3) الكافي: ج 4، ص 100، كتاب الصيام باب من ظن أنه ليل فأفطر قبل الليل، ح 1. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 84، ح 201. (*)

[ 444 ]

قتادة: كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك (1). وفي كتاب الخصال: عن موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد (عليهم السلام) أنه قال: سئل أبي عما حرم الله تعالى من الفروج في القرآن، وعما حرمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سنته ؟ فقال: الذي حرم الله من ذلك أربعة وثلاثون وجها، سبعة عشر في القرآن، وسبعة عشر في السنة، فأما التي في القرآن فالزنا. إلى قوله (عليه السلام): والنكاح في الاعتكاف لقوله تعالى: ” ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ” (2). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن يزيد قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها ؟ فقال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة صلى فيه إمام عدل بصلاة جماعة، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكة (3). سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا اعتكاف إلا في العشرين من شهر رمضان، وقال: إن عليا (عليه السلام) كان يقول: لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول، أو مسجد جامع، ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لحاجة لابد منها ثم لا يجلس حتى يرجع، والمرأة مثل ذلك (4). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله قال: سئل عن الاعتكاف ؟ قال: لا يصلح الاعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو مسجد الكوفة، أو مسجد جماعة،


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 232. (2) الخصال: ج 2، ص 532، ابواب الثلاثين وما فوقه (الفروج المحرمة في الكتاب والسنة..) ح 10. (3 و 4) الكافي: ج 4، ص 176، كتاب الصيام، باب المساجد التي يصلح الاعتكاف فيها، ح 1 وح 2. (*)

[ 445 ]

[ ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أمول الناس بالاثم وأنتم تعلمون (188) ] وتصوم ما دمت معتكفا (1). واعلم أنه ينبغي حمل مسجد الجماعة في الاخبار التي وقع فيها على مسجد جمع فيه الامام العدل، ليطابق الخبر الاول. تلك: أي الاحكام التي ذكرت. حدود الله: حدود قررها الله. فلا تقربوها: نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل، لئلا يداني الباطل، فضلا عن أن يتخطى. كما قال (عليه السلام): إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه (2)، وهو أبلغ من قوله: ” فلا تعتدوها ” (3). ويجوز أن يريد ب‍ ” حدود الله ” محارمه ومناهيه. كذلك: مثل ذلك التبيين. يبين الله ءايته للناس لعلهم يتقون: مخالفة الاوامر والنواهي. ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل: أي ولا يأكل بعضكم مال بعض


(1) الكافي: ج 4، ص 176، كتاب الصيام، باب المساجد التي يصلح الاعتكاف فيها، ح 3. (2) رواه أصحاب الصحاح والسنن مع تقديم وتأخير في بعض الجملات، لاحظ مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 267، و 269، و 270 و 271 و 275. وفي الوسائل: ج 18، ص 112، كتاب القضاء، الباب 12، من ابواب صفات القاضي، ح 39. (3) سورة البقرة: الآية 229. (*)

[ 446 ]

بالوجه الذي لم يبحه الله. و (بين) نصب على الظرف، أو الحال من الاموال. وتدلوا بها إلى الحكام: عطف على المنهي، أو نصب باضمار (أن)، و الادلاء: الالقاء، أي ولا تلقوا حكومتها إلى حكام الجور. لتأكلوا: بالتحاكم فريقا: طائفة. من أمول الناس بالاثم: بما يوجب إثما، كشهادة الزور، أو اليمين الكاذبة، أو متلبسين بالاثم. وأنتم تعلمون: أنكم مبطلون، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح. وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن زياد بن عيسى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ” فقال: كانت قريش يتقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عن ذلك (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن بحر، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام) قول الله عزوجل في كتابه ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ” فقال: يا أبا بصير إن الله عزوجل قد علم أن في الامة حكاما يجورون، أما إنه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنه عنى حكام أهل الجور (2). وفي تفسير العياشي: عن الحسن بن علي قال: قرأت في كتاب أبي الاسد إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) وجوابه بخطه، سأل ما تفسير قوله تعالى: ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ” ؟ قال: فكتب إليه: الحكام


(1) الكافي: ج 5، ص 122، كتاب المعيشة، باب القمار والنهبة، ح 1. (2) الكافي: ج 7، ص 411، كتاب القضاء والاحكام، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، قطعة من حديث: 3. (*)

[ 447 ]

[ سئلونك عن الاهلة قل هي موقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوبها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189) ] القضاة، ثم كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم عاص فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له به إذا كان قد علم أنه ظالم (1). وفي من لا يحضره الفقيه: روى سماعة بن مهران قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): الرجل منا يكون عنده الشئ يتبلغ به وعليه الدين، أيطعمه عياله حتى يأتيه الله عزوجل بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة ؟ فقال: يقضي بما عنده دينه ولا يأكل أموال الناس إلا وعنده ما يؤدي إليهم، إن الله عزوجل يقول: ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ” (2). وفي مجمع البيان: وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الاموال (3). وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية ” فإنه قال العالم (عليه السلام): علم الله أن يكون حكام يحكمون بغير الحق، فنهى أن يحاكم إليهم، لانهم لا يحكمون بالحق، فتبطل الاموال (4). يسئلونك عن الاهلة: سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة فقالا: ما بال


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 85، ح 206. (2) الفقيه: ج 3، ص 112، باب 60، الدين والقروض، ح 12. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 282. (4) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 67. (*)

[ 448 ]

الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يستوى ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ؟ (1). قل هي موقيت للناس والحج: إنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن يكون معالم للناس يوقتون بها امورهم، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها وخصوصا الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء. والمواقيت: جمع ميقات من الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان، أن المدة المطلقة إمتداد حركة الفلك من مبدأها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة، والوقت: الزمان المفروض لامر. وفي تهذيب الاحكام: علي بن حسن بن فضال قال: حدثني محمد بن عبد الله بن زرارة، عن محمد بن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن عبد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الاهلة ؟ قال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فافطر (2). علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: صم حين يصوم الناس، وأفطر حين يفطر الناس، فإن الله عزوجل جعل الاهلة مواقيت (3). أبو الحسن محمد بن أحمد بن داود قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد، عن أبي الحسن بن القاسم، عن علي بن إبراهيم قال: حدثني أحمد بن عيسى بن عبد الله، عن عبد الله بن علي بن الحسن، عن أبيه، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في قول الله


(1) الدر المنثور: ج 1، ص 490، في تفسيره لقوله تعالى (يسألونك عن الاهلة). (2) التهذيب: ج 4، ص 161، باب 41، علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله، قطعة من حديث 27. (3) التهذيب: ج 4، ص 161، باب 41، علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله، ح 27. (*)

[ 449 ]

عزوجل: ” قل هي مواقيت للناس والحج ” قال: لصومهم وفطرهم وحجهم (1). وليس البربأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى: وجه اتصاله بما قبله: أنهم سألوا عن الامرين (2) أو أنه لما سألوا عما لا يعنونه ولا يتعلق بعلم النبوة، وتركوا السؤال عما يعنونه ويختص بعلم النبوة، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق لهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها. أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه. والمعنى: وليس البر أن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجر على مثله. وأتوا البيوت من أبوبها: إذ ليس في العدول بر. في مجمع البيان: فيه وجوه: أحدها: أنه كان المحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكنهم كانوا يتنقبون في ظهور بيوتهم، أي في مؤخرها نقبا يدخلون ويخرجون منه، فنهوا عن التدين بذلك، رواه أبو الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام). وثانيها: أن معناه ليس البر بأن تأتو البيوت من غير جهاتها، وينبغي أن تؤتى الامور من جهاتها، أي الامور كان، وهو المروي عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) وقال أبو جعفر (عليه السلام): آل محمد أبواب الله وسبله والدعاة إلى الجنة والقادة إليها والادلاء عليها إلى يوم القيامة. وقال النبي (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها، ولا تؤتى المدينة إلا من بابها. ويروى: أنا مدينة الحكمة (3). وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي (رحمة الله): عن الاصبغ بن نباته قال: كنت


(1) التهذيب: ج 4، ص 166، باب 41، علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله، ح 44. (2) أي الاهلة وإتيان البيوت من ظهورها. (3) إلى هنا كلام مجمع البيان: لاحظ ج 1 – 2، ص 284. (*)

[ 450 ]

عند أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ جاءه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين من البيوت في قول الله عزوجل: (ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى و اتوا البيوت من أبوابها) فقال (عليه السلام): نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منها، فمن تابعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها، ان الله عزوجل لو شاء عرف الناس نفسه حتى يعرفونه ويأتونه من بابه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه، قال: فمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها وإنهم عن الصراط لناكبون (1). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل، وفيه: وقد جعل الله للعلم أهلا وفرض على العباد طاعتهم بقوله: ” واتوا البيوت من أبوابها ” والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الانبياء وأبوابها أوصياؤهم (2). وفي تفسير العياشي: عن سعد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن هذه الآية ” وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وآتوا البيوت من أبوابها ” ؟ فقال: آل محمد أبواب الله وسبله والدعاة إلى الجنة والقادة إليها والادلاء عليها إلى يوم القيامة (3). ويؤيده ما رواه محمد بن يعقوب رحمه الله، عن علي، عن محمد بن جمهور، عن سليمان بن سماعة، عن عبد الله القاسم، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الاوصياء هم أبواب الله عزوجل التي يؤتى منها، ولولا هم ما عرف الله عزوجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه (4).


(1) الاحتجاج: ج 1، ص 227، احتجاجه على بعض اليهود وغيره في أنواع شتى من العلوم وأسقط بعد كلمة (من ظهورها) أسطرا فلاحظ. (2) تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 177. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 86، ح 210. (4) الكافي: ج 1، ص 193، كتاب الحجة باب أن الائمة (عليهم السلام) خلفاء الله عزوجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح 2. (*)

[ 451 ]

[ وقتلوا في سبيل الله الذين يقتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) ] وروي في معنى من يأتي البيوت من غير أبوابها ما رواه أبو عمر الزاهد في كتابه بإسناده إلى محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قلت له: إنا نرى الرجل من المخالفين عليكم له عبادة واجتهاد وخشوع فهل ينفعه ذلك ؟ فقال: يا أبا محمد إنما مثلهم كمثل أهل بيت في بني إسرائيل كان إذا اجتهد أحد منهم أربعين ليلة ودعا الله اجيب، وإن رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثم دعا الله فلم يستجب له، فأتى عيسى بن مريم (عليه السلام) يشكو إليه ما هو فيه، ويسأله الدعاء له قال: فتطهر عيسى (عليه السلام) ثم دعا الله، فأوحى الله إليه: يا عيسى إنه أتاني من غير الباب الذي اوتى منه، إنه دعاني وفي قلبه شك منك، فلو دعاني حتى ينقطع عنقه وتنتشر أنامله ما استجبت له، قال: فالتفت عيسى (عليه السلام) وقال: تدعو ربك وفي قلبك شك من نبيه ؟ فقال: يا روح الله وكلمته قد كان ما قلت، فأسأل الله أن يذهب به عني، فدعا له عيسى (عليه السلام)، فتقبل الله فيه و صار الرجل من جملة أهل بيته، وكذلك نحن أهل البيت لا يقبل الله عمل عبد و هو يشك فينا (1). واتقوا الله: في تغيير أحكامه. لعلكم تفلحون: لكي تظفروا بالهدى والبر. وقتلوا في سبيل الله: جاهدوا لاعلاء كلمته وإعزاز دينه. الذين يقتلونكم: قيل: كان ذلك قبل أن يأمروا بقتال المشركين كافة، المقاتل منهم والمحاجز، وقيل: معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم القتال


(1) لم نعثر عليه. (*)

[ 452 ]

[ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكفرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدون إلا على الظلمين (193) ] دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء، أو الكفرة كلهم، فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده. وفي مجمع البيان: المروي عن أئمتنا (عليهم السلام): أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى ” كفوا أيديكم ” (1) وكذلك قوله: ” واقتلوهم حيث ثقفتموهم ” ناسخ لقوله ” ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم ” (2 / 3). ولا تعتدوا: بابتداء القتال، أو بقتال المعاهد، أو المفاجأة من غير دعوة، أو المثلة، أو قتل من نهيتم عن قتله من النساء والصبيان. إن الله لا يحب المعتدين: لا يريد بهم الخير. واقتلوهم حيث ثقفتموهم: حيث وجدتموهم في حل أو حرم. وأصل الثقف: الحذق في إدراك الشئ علما كان أو عملا، فهو يتضمن معنى الغلبة، ولذلك استعمل فيها قال: فإما تثقفوني فاقتلوني * فمن اثقف فليس إلى خلود (4) –


(1) سورة النساء: الآية 77. (2) سورة الاحزاب: الآية 48. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 285، في ذيل آية 190. (4) لم يسم قائله. (إما) هي (إن) الشرطية ادغمت نونها في (ما) الزائدة للتنصيص على التعميم، = (*)

[ 453 ]

وأخرجوهم من حيث أخرجوكم: أي مكة، وقد فعل ذلك لمن لم يؤمن يوم الفتح. والفتنة أشد من القتل: أي المحنة التي يفتتن بها الانسان كالاخراج من الوطن أصعب من القتل، لدوام تعبها وتألم النفس بها. وقيل: معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه. ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه: أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد. فإن قتلوكم فاقتلوهم: فلا تبالوا بقتالهم ثمة، فانهم الذين هتكوا حرمته. وقرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم (1)، والمعنى حتى يقتلوا بعضهم. كذلك جزاء الكفرين: مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا. فإن انتهوا: عن القتال والكفر. فإن الله غفور رحيم: يغفر لهم ما قد سلف. وقتلوهم حتى لا تكون فتنة: شرك. ويكون الدين لله: خالصا ليس للشيطان فيه نصيب. وفي مجمع البيان: وفي الآية دلالة على وجوب إخراج الكفار من مكة، لقوله (حتى لا تكون فتنة)، والسنة أيضا قد وردت بذلك، وهو قوله (عليه السلام): لا يجتمع في جزيرة العرب دينان (2)


= والثقف: القبض والضبط، ومنه الثقاف وهو الآلة التي تعض الرماح وتقبضها لتقويمها، يقول: إن تدركوني في أي وقت وتغلبوني فاقتلوني فإن من أدركني منكم ليس مجابا أو منتهيا إلى خلود، بل لابد من قتله. هذا من الاشاحة والجد في القتال وقطع أطماع الصلح من البال: هامش تفسير الكشاف، ج 1، ص 236. (1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 285. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 286، ذيل آية 191، ونحو هذا الحديث ما ورد في مسند أحمد بن = (*)

[ 454 ]

فإن انتهوا عن الشرك فلا عدون إلا على الظلمين: أي لا تعتدوا عليهم، إذ لا يحسن الظلم إلا على من ظلم، فوضع العلة موضع الحكم وسمى جزاء الظلم باسمه للمشاكلة، أو إنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين ويحسن العدوان عليكم. والفاء الاولى للتعقيب، والثانية للجزاء. وفي تفسير العياشي: عن الحسين بياع الهروي يرفعه عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله: ” لا عدوان إلا على الظالمين ” قال: إلا على ذرية قتلة الحسين (عليه السلام) (1). علي بن إبراهيم قال: أخبرني من رواه عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قلت: ” لا عدوان إلا على الظالمين ” قال: لا يعتدي الله على أحد إلا على نسل قتلة الحسين (عليه السلام) (2). وفي هذا الخبر إشكال بحسب المعنى، لانه إن اريد بالاعتداء الزيادة في العذاب على قدر العمل، لا يجوز إسناده إلى الله عزوجل، لانه عدل لا يجور، وإن اريد مجازاة العمل القبيح لا يختص بذرية قتلة الحسين (عليه السلام). وأيضا الاشكال في مؤاخذة ذرية قتلة الحسين (عليه السلام) بأعمال آبائهم. ويمكن أن يقال: المراد بالاعتداء: العذاب الغليظ المتجاوز عما يحيط به العقل، وذلك بسبب شدة قبح أعمال آبائهم، والقبيح عنهم الرضا بفعال أسلافهم وعدم اللعن عليهم في ليلهم ونهارهم، وقبيح عمل غيرهم ليس بهذه المثابة وإن كان ملحقا بهم ومن جملتهم، فيحسن الاعتداء بهذا المعنى عليه أيضا.


= حنبل: ج 6، ص 275، إليك نص الحديث (عن عائشة قالت: كان آخر ما عهد رسول الله (صلى الله عليه (آله) وسلم) أن قال: لا يترك بجزيرة العرب دينان. (1) تفسير العياشي: ج 1، ص 86، ح 214. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 87، ح 116، وفيه (عن إبراهيم) بدل (علي بن إبراهيم). (*)

[ 455 ]

[ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمت قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194) وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195) ] الشهر الحرام بالشهر الحرام: قيل: قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة، واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه، فكرهوا أن يقاتلوهم فيه، لحرمته، فقيل لهم: هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به. والحرمت قصاص: أي كل حرمة يجرى فيها القصاص، فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا مثله. وفي مجمع البيان: والحرمات قصاص قيل فيه قولان: أحدهما: أن الحرمات قصاص بالمراغمة بدخول البيت في الشهر الحرام، قال مجاهد: لان قريشا فخرت بردها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام الحديبية محرما في ذي القعدة من البلد الحرام، فأدخله عزوجل مكة في العام المقبل في ذي القعدة فقضى عمرته، واقتصه بما حيل بينه وبينه، قال: وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله (1). وفي تفسير العياشي: عن العلا بن فضيل قال: سألته عن المشركين أيبتدء بهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام ؟ فقال: إذا كان المشركون ابتدؤهم باستحلالهم ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قوله: ” الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ” (2).


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 287، في بيان المعنى للآية 194، من سورة البقرة (الشهر الحرام بالشهر الحرام). (2) تفسير العياشي: ج 1 – 2، ص 86، ح 215. (*)

[ 456 ]

فمن اعتدى عليكم: في الحرم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم: في الحرم. وفي تهذيب الاحكام: موسى بن القاسم، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: فرجل قتل رجلا في الحرم وسرق في الحرم، فقال: يقام عليه الحد وصغار له، لانه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله تعالى: ” فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ” يعني في الحرم، وقال ” فلا عدوان إلا على الظالمين ” (1). واتقوا الله: في الانتصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم. واعلموا أن الله مع المتقين: فيحرسهم ويصلح شأنهم. وأنفقوا في سبيل الله: ولا تمسكوا كل الامساك. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة: بالاسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكف عن الغزو والانفاق فيه، فإنه يقوي العدو ويسلطهم على إهلاككم، أو بالامساك وحب المال، فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد، ولذا سمي البخل هلاكا. وهو في الاصل انتهاء الشئ في الفساد. والالقاء: طرح الشئ، وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة. والمراد بالايدي: الانفس. والتهلكة والهلاك والهلك واحد، فهي مصدر كالتصرة والتسرة (2) أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك، وقيل معناه: لا تجعلوها آخذة بأيديكم، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها، فحذف المفعول. وأحسنوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على المحاويج. إن الله يحب المحسنين: ويجازيهم أحسن جزاء الاحسان وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، عن ابن


(1) التهذيب: ج 5، ص 419، باب 26 من الزيادات في فقه الحج، قطعة من حديث 102. (2) ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم: (التضرة والتسرة) ونحوها في الاعيان التنضبة والتنفلة. الكشاف: ج 1، ص 238، في تفسير الآية 195، من سورة البقرة. (*)

[ 457 ]

محبوب، عن يونس بن يعقوب، عن حماد اللحام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق، أليس يقول الله: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ” يعني المقتصدين (1). وفي عيون الاخبار في باب ذكر مولد الرضا (عليه السلام): ملك عبد الله المأمون عشرين سنة وثلاثة وعشرين يوما، فأخذ البيعة في ملكه لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بعهد المسلمين من غير رضاه، وذلك بعد أن تهدده بالقتل وألح عليه مرة بعد اخرى في كلها يأتي عليه حتى أشرف من تأبيه على الهلاك، فقال (عليه السلام): اللهم إنك قد نهيتني عن الالقاء بيدي إلى التهلكة وقد اكرهت و اضطررت، كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل شئ لم أقبل ولاية عهده، وقد اكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال (عليهما السلام) إذ قبل كل منهما الولاية من طاغية زمانه، اللهم لا عهد إلا عهدك ولا ولاية إلا من قبلك، فوفقني لاقامة دينك وإحياء سنة نبيك محمد فإنك أنت المولى وأنت النصير ونعم المولى أنت ونعم النصير. ثم قبل ولاية العهد من المأمون وهو باك حزين على أن لا يولي أحدا ولا يعزل أحدا، ولا يغير رسما ولا سنة، وأن يكون في الامر مشيرا من بعيد (2). وفيه في خبر آخر طويل قال له المأمون: بعد أن أبى من قبول العهد، فبالله اقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله عزوجل أن القي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الامر على هذا فافعل ما بدا لك وانا أقبل ذلك على أن لا اولي أحدا ولا اعزل أحدا، ولا أنقض رسما ولا سنة، وأكون في الامر من بعيد مشيرا، فرضي منه


(1) الكافي: ج 4، ص 53، كتاب الزكاة، باب فضل القصد، ح 7. (2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1، ص 19، باب 3 في ذكر مولد الرضا (عليه السلام)، قطعة من حديث 1. (*)

[ 458 ]

بذلك، فجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام) لذلك (1). وفي من لا يحضره الفقيه: في الحقوق المروية عن علي بن الحسين (عليهما السلام): وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة، وأنه مبتلى فيك بما جعله الله عزوجل له عليك من السلطان، وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه فتلقي بيدك إلى التهلكة، وتكون شريكا له فيما يأتي إليك من سوء (2). وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى سلمان الفارسي رحمه الله عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث طويل يقول فيه لعلي (عليه السلام): يا أخي أنت ستبقى من بعدي، وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك، فإن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك وإن لم تجد أعوانا فاصبر وكف يدك ولا تلق بها إلى التهلكة (3). وفي اصول الكافي: علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا (عليه السلام): أمير المؤمنين (عليه السلام) قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لما سمع صياح الاوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول ام كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار و أمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عرف عليه السلام أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف، كان هذا مما لا يحسن تعرضه، فقال: ذلك كان، ولكنه خير في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عزوجل (4).


(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 140، باب 40 السبب الذي من أجله قبل علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولاية العهد من المأمون، قطعة من حديث 3. (2) الفقيه: ج 2، ص 377، باب 226 الحقوق. (3) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1، ص 244، باب 24 ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، في النص على القائم (عليه السلام)، ح 10. (4) الكافي: ج 1، كتاب الحجة، ص 259، باب إن الائمة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون وانهم لا يموتون إلا باختيار منهم، ح 4. (*)

[ 459 ]

[ وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196) ] وفي أمالي الصدوق باسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله في نهيه، إن الله عزوجل يقول: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ” (1). وأتموا الحج والعمرة لله: أي ائتوا بهما تامين لوجه الله، وهو يدل على وجوبهما. وفي مجمع البيان: ” واتموا الحج والعمرة لله ” أي أتموها بمناسكهما وحدودهما و تأدية كل ما فيهما. وقيل معناه: أقيموهما إلى آخر ما فيهما، وهو المروي عن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين (عليهما السلام) (2). والظاهر: إن ما ذكره من المعنيين مع ما أوردنا متحد. وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) في باب ما كتبه الرضا (عليه السلام)


(1) الامالي للصدوق: ص 203، المجلس الرابع والخمسون. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ذيل الآية 196. (*)

[ 460 ]

للمأمون من محض الاسلام وشرائع الدين: ولا يجوز القران والافراد الذي يستعمله العامة إلا لاهل مكة وحاضريها، ولا يجوز الاحرام دون الميقات قال الله عزوجل: ” واتموا الحج والعمرة لله ” (1). وفي كتاب الخصال، عن الاعمش، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: هذه شرايع الدين، إلى أن قال: ولا يجوز القران والافراد إلا لمن كان أهله حاضري المسجد الحرام، ولا يجوز الاحرام قبل بلوغ الميقات، ولا يجوز تأخيره عن الميقات إلا لمرض، أو تقية، وقد قال الله تعالى ” واتموا الحج والعمرة لله ” وتمامهما اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج (2). وفي كتاب علل الشرايع: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف، عن علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، وحماد، وصفوان بن يحيى، و فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج من استطاع، لان الله عزوجل يقول: ” واتموا الحج والعمرة لله ” وانما نزلت العمرة بالمدينة، وأفضل العمرة عمرة رجب (3). حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن حماد بن عيسى، عن أبان بن عثمان، عمن أخبره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: لم سمي الحج حجا ؟ قال: حج فلان أفلح فلان (4). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر ابن


(1) عيون اخبار الرضا (عليه السلام): ج 2، ص 124، باب 35، ما كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون في محض الاسلام وشرايع الدين، ح 1. (2) الخصال: ج 2، ص 606، ابواب الماءة فما فوقه، خصال من شرايع الدين، ح 9. (3) علل الشرايع: ج 2، ص 408، باب 144، العلة التي من اجلها صارت العمرة على الناس واجبة، بمنزلة الحج، ح 1. (4) علل الشرايع: ج 2، ص 411، باب 148، العلة التي من أجلها سمي الحج حجا، ح 1. (*)

[ 461 ]

اذينة قال: كتبت إلى ابي عبد الله عليه السلام بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس، فجاء الجواب باملائه: سألت عن قول الله عزوجل ” ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ” يعنى به الحج والعمرة جميعا، لانهما مفروضان، وسألته عن قول الله: ” وأتموا الحج والعمرة لله ” قال: يعني بتمامها أدائهما واتقاء ما يتقي المحرم فيهما. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (1). الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أبان بن عثمان، عن الفضل أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وأتموا الحج والعمرة لله) قال: هما مفروضان (2). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان في قول الله تعالى: ” وأتموا الحج والعمرة لله “. قال: إتمامهما أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (3). ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العمرة واجبة على الخلق، بمنزلة الحج على من استطاع، لان الله تعالى يقول: ” و أتموا الحج والعمرة لله ” وانما نزلت العمرة بالمدينة قال: قلت له: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أيجزي ذلك منه ؟ قال: نعم (4). وفي تهذيب الاحكام: روى موسى بن القاسم، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج، لان الله تعالى يقول: ” وأتموا الحج والعمرة لله ” وإنما نزلت العمرة بالمدينة (5).


(1) الكافي: ج 4، ص 264، كتاب الحج، باب فرض الحج والعمرة، ح 1. (2) الكافي: ج 4، ص 265، كتاب الحج، باب فرض الحج والعمرة، ح 2. (3) الكافي: ج 4، ص 337، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، ح 2. (4) الكافي: ج 4، ص 265، كتاب الحج، باب فرض العمرة، ح 4. (5) التهذيب: ج 5، ص 433، باب 26، من الزيادات في فقه الحج، قطعة من حديث 148. (*)

[ 462 ]

وفي الكافي محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن جابر، عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: تمام الحج لقاء الامام (1). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، وابن أبي عمير جميعا، عن معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله كثيرا وقلة الكلام إلا بخير، فإن من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير كما قال الله تعالى، فإن الله عز وجل يقول: ” فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ” الحديث (2). وفي عيون الاخبار: باسناده إلى اسماعيل بن مهران، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: إذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا، لان ذلك من تمام الحج (3). فإن أحصرتم: منعتم، يقال: حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي، مثل صد وأصد. قيل: المراد حصر العدو، لقوله تعالى: ” فإذا أمنتم ” ولنزوله في الحديبية، ولقول ابن عباس: ” لا حصر إلا حصر العدو ” (4). وقيل: وكل من منع من عدو ومن مرض، أو غيرهما، لما روي عنه (عليه السلام): من كسر أو عرج فقد حل، فعليه الحج من قابل (5). والتحقيق أن المحصور: هو المحصور بالمرض، والمصدود بالعدو، وإن كان المراد


(1) الكافي: ج 4، ص 549 كتاب الحج، ابواب الزيارات، باب اتباع الحج بالزيارة، ح 2. (2) الكافي: ج 4، ص 337، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، ح 3 وتمام الحديث ” والرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: ” لا والله وبلى والله “. (3) عيون الاخبار: ج 2، ص 265، باب 66، في ذكر ثواب زيارة الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ح 28. (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 106. (5) سنن الترمذي: ج 5، ص 277، كتاب الحج، باب 96، ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج، ح 940 ولفظه ” من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة اخرى “. (*)

[ 463 ]

بالحصر بالقرينة هو العموم هنا. فما استيسر من الهدى: أي فعليكم ما استيسر، أو فالواجب ما استيسر، أو فاعدوا من استيسر. والمعنى: ان احصر المحرم واراد أن يتحلل، تحلل بذبح هدي يسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن داود بن سرحان، عن عبد الله بن فرقد، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله حين صد بالحديبية قصر وأحل ونحر ثم انصرف منها ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك، فأما المحصور فانما يكون عليه التقصير (1). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير وصفوان، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: المحصور غير المصدود، المحصور: المريض، والمصدود: الذي يصده المشركون، كما ردوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليس من مرض، والمصدود تحل له النساء، والمحصور لا تحل له النساء. قال: وسألته عن رجل احصر فبعث بالهدي، قال: يواعد اصحابه ميعادا، ان كان في الحج فمهل الهدي يوم النحر، فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه، ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي المناسك، وإن كان في عمرة، فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة قصر وأحل، وإن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع رجع إلى أهله ونحر بدنة، أو أقام مكانه حتى يبرأ إذا كان في عمرة، وإذا برء فعليه العمرة واجبة وإن كان عليه الحج رجع أو أقام ففاته الحج، فإن عليه الحج من قابل، فإن الحسين بن علي صلوات الله عليه خرج معتمرا فمرض في الطريق فبلغ عليا (عليه السلام) ذلك وهو في المدينة فخرج في طلبه فأدركه بالسقيا وهو مريض بها، فقال: يا بني ما تشتكي ؟


(1) الكافي: ج 4، ص 368، كتاب الحج، باب المحصور والمصدود وما عليهما من الكفارة، ح 1. (*)

[ 464 ]

فقال: اشتكي راسي فدعا علي (عليه السلام) ببدنة فنحرها وحلق رأسه ورده إلى المدينة، فلما برء من وجعه اعتمر. قلت: أرأيت حين برء من وجعه قبل أن يخرج إلى العمرة حلت له النساء ؟ قال: لا تحل له النساء حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، قلت: فما بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين رجع من الحديبية حلت له ولم يطف بالبيت ؟ قال: ليسا سواء كان النبي (صلى الله عليه وآله) مصدودا والحسين (عليه السلا محصورا (1). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رياب، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا احصر الرجل بعث بهديه، فإذا أفاق ووجد من نفسه خفة فليمض إن ظن أنه يدرك الناس، فإن قدم مكة قبل أن ينحر الهدي فليقم على إحرامه حتى يفرغ من جميع المناسك ولينحر هديه ولا شئ عليه، وإن قدم مكة وقد نحر هديه فإن عليه الحج من قابل أو العمرة، قلت: فإن مات وهو محرم قبل أن ينتهي إلى مكة ؟ قال: يحج عنه إن كانت حجة الاسلام، ويعتمر انما هو شئ عليه (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: في المحصور ولم يسق الهدي، قال: ينسك ويرجع، فإن لم يجد ثمن هدي صام (3). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن مثنى، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا احصر الرجل فبعث بهديه، فإن آذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنه يذبح شاة في المكان الذي احصر فيه أو يصوم أو يتصدق، والصوم ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين، نصف صاع لكل مسكين (4). سهل، عن ابن أبي نصر، عن رفاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يشترط، وهو ينوي المتعة، فيحصر، هل يجزيه أن لا يحج من قابل ؟ قال


(1) الكافي: ج 4، ص 369، كتاب الحج، باب المحصور والمصدود وما عليهما من الكفارة، ح 3. (2 و 3 و 4) الكافي: ج 4، ص 370، كتاب الحج، باب المحصور والمصدود وما عليهما من الكفارة، ح 4 و 5 و 6. (*)

[ 465 ]

يحج من قابل، والحاج مثل ذلك إذا احصر، قلت: رجل ساق الهدي ثم احصر ؟ قال: يبعث بهديه، قلت: هل يتمتع من قابل ؟ قال: لا، ولكن يدخل في مثل ما خرج منه (1). حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المصدود يذبح حيث صد ويرجع صاحبه فيأتي النساء، والمحصور يبعث بهديه ويعدهم يوما فإذا بلغ الهدي أحل هذا في مكانه، قلت له: أرأيت إن ردوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه، وقد أحل فأتى النساء ؟ قال: فليعد وليس عليه شئ، وليمسك العام عن النساء إذا بعث (2). وفي عيون الاخبار: في باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان أنه سمعها من الرضا (عليه السلام): فان قال: فلم امرو بحجة واحدة لا أكثر من ذلك ؟ قيل له: لان الله تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم كما قال عزوجل: ” فما استيسر من الهدي ” يعني شاة، ليسع القوي والضعيف. وكذلك سائر الفرائض إنما وضعت على أدنى القوم قوة (3). ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله: أي لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث بلغ محلة، أي حيث يحل ذبحه فيه. والمحل بالكسر يطلق للمكان والزمان، والهدي جمع هديه كجدي وجدية، وقرء هدي جمع هدية كمطي ومطية. وفي الكافي: علي بن ابراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، جميعا عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رسول


(1 و 2) الكافي: ج 4، ص 371، كتاب الحج، باب المحصور والمصدود وما عليهما من الكفارة، ح 7 و 9. (3) عيون الاخبار: ج 2، ص 20، باب 34 العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في اخرها انه سمعها من الرضا (عليه السلام) وتمامه (فكان من تلك الفرائض الحج المفروض واحدا ثم رغب بعد اهل القوة بقدر طاقتهم). (*)

[ 466 ]

الله صلى الله عليه وآله حين حج حجة الوداع خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجره فصلى بها، ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها وأهل بالحج وساق مأة بدنة وأحرم الناس كلهم بالحج، لا ينوون عمرة [ ولا يدرون عمرة ] ولا يدرون ما المتعة حتى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه، ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، قال: أبدء بما بدأ الله به فاتي الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا، فأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة وهو شئ أمر الله تعالى به، فأحل الناس وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع أن يحل من أجل الهدي الذي كان معه، إن الله تعالى يقول: ” ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ” فقال سراقة بن مالك بن جعشتم الكناني: يا رسول الله علمنا ديننا كانا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أو لكل عام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا، بل لابد الابد. وإن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر ؟ !، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بل إنك لن تؤمن بهذا أبدا، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (1). وفي كتاب علل الشرايع: حدثنا محمد بن الحسن (رحمه الله)، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: في حجة الوداع لما فرغ من السعي قام عند المروة فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الناس هذا جبرئيل، وأشار بيده إلى خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولكني سقت الهدي، وليس لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله، فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم الكناني فقال: يا رسول الله


(1) الكافي: ج 4، ص 248، كتاب الحج، باب حج النبي صلى الله عليه وآله، قطعة من حديث 6. (*)

[ 467 ]

علمنا ديننا فكأنا خلقنا اليوم، أرايت هذا الذي أمرتنا به لعامنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا، بل لابد الابد. وإن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إنك لن تؤمن بها أبدا (1). حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن الوليد رضي الله عنهما قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد الاصفهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن فضيل بن عياض قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الناس في الحج، فبعضهم يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله مهلا بالحج، وقال بعضهم: مهلا بالعمرة، وقال بعضهم: خرج قارنا، وقال بعضهم: ينتظر أمر الله عزوجل، فقال أبو عبد الله عليه السلام: علم الله عزوجل إنها حجة لا يحج رسول الله صلى الله عليه وآله بعدها أبدا، فجمع الله عزوجل له ذلك كله في سفرة واحدة ليكون جميع ذلك سنة لامته، فلما طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرئيل عليه السلام أن يجعلها عمرة، إلا من كان له هدي، فهو محبوس على هدي لا يحل لقوله عزوجل ” حتى يبلغ الهدي محله ” فجمعت له العمرة والحج. وكان خرج على خروج العرب الاول، لان العرب كانت لا تعرف إلا الحج، وهو في ذلك ينتظر أمر الله عزوجل، وهو يقول: الناس على أمر جاهليتهم إلا ما غيره الاسلام، وكانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، فشق على أصحابه، حين قال: اجعلوها عمرة، لانهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج. وهذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كان في الوقت الذي أمرهم فيه بفسخ الحج وقال: خلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه، يعني في أشهر الحج، قلت: أفيعتد بشئ من أمر الجاهلية، قال: إن أهل الجاهلية ضيعوا كل شئ من دين إبراهيم عليه السلام إلا الختان والتزويج والحج.


(1) علل الشرايع: ج 2، ص 413، باب 153، العلة التي من أجلها لم يتمتع النبي صلى الله عليه وآله بالعمرة إلى الحج وأمر الناس بالتمتع، ح 2. (*)

[ 468 ]

فانهم تمسكوا بها ولم يضيعوها (1). فمن كان منكم مريضا: مرضا يحوجه إلى الحلق. أو به أذى من رأسه: من جراحة وقمل. ففدية فعليه فدية إن حلق. من صيام أو صدقة أو نسك: بيان لجنس الفدية وأما قدرها، ففي الكافي: علي، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عمن أخبره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: مر رسول الله على كعب بن عجرة (2) والقمل يتناثر من رأسه، وهو محرم، فقال له: أتوذيك هوامك ؟ فقال: نعم، فانزلت هذه الآية ” فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ” فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحلق وجعل الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مدين، والنسك شاة، قال أبو عبد الله عليه السلام وكل شئ من القرآن (أو) فصاحبه بالخيار يختار ما يشاء، وكل شئ في القرآن: فمن لم يجد كذا فعليه كذا، فالاولى الخيار (3). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن مثنى، عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا احصر الرجل فبعث بهديه فآذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنه يذبح شاة في المكان الذي احصر فيه، أو يصوم أو يتصدق، والصوم ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين، نصف صاع لكل مسكين (4).


(1) علل الشرايع: ج 2، ص 414، باب 153، العلة التي من أجلها لم يتمتع النبي صلى الله عليه وآله بالعمرة إلى الحج وامر الناس بالتمتع، ح 3. (2) كعب بن عجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء المهملة والهاء، عده الشيخ في رجاله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تارة ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام اخرى (تنقيح المقال: ج 2، ص 39، تحت رقم 9889). (3) الكافي: ج 4، ص 358، كتاب الحج، باب العلاج للمحرم إذا مرض أو أصابه جرح أو خراج أو علة، ح 2. (4) الكافي: ج 4، ص 370، كتاب الحج، باب المحصور والمصدود وما عليهما من الكفارة، ح 6. (*)

[ 469 ]

وفي من لا يحضره الفقيه: ومر النبي صلى الله عليه وآله على كعب بن عجرة الانصاري وهو محرم وقد أكل القمل رأسه وحاجبيه وعينيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما كنت أرى أن الامر يبلغ ما أرى، فأمره فنسك عنه نسكا وحلق رأسه، يقول الله: ” فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ” فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين لكل مسكين صاع من تمر، والنسك شاة، لا يطعمها أحد إلا المساكين (1). وما وقع في الاحاديث الثلاثة من الاختلاف في إعطاء المسكين، فإنه في الاول مدان، وفي الثاني نصف صاع، وفي الثالث صاع، فإنه لا اختلاف بين الاولين في المعنى، فإن نصف الصاع هو المدان، فإن الصاع أربعة أمداد، ويحتمل في الخبر الاخير أن يكون سقط لفظ نصف، وأن يكون محمولا على الافضل. فإذا أمنتم: الاحصار، أو كنتم في حال أمن وسعة. فمن تمتع بالعمرة إلى الحج: الحاج على ثلاثة وجوه: المتمتع: وهو الذي يحج في أشهر الحج، ويقطع التلبية إذا نظر إلى بيوت مكة، فإذا دخل مكة طاف بالبيت سبعا، وصلى ركعتين عند مقام ابراهيم عليه السلام، وسعى بين الصفا والمروة سبعا، وقصر، واحل، فهذه عمرة يتمتع بها من الثياب والجماع والطيب وكل شئ يحرم على المحرم، إلا الصيد لانه حرام على المحل في الحرم وعلى المحرم في الحل والحرم ويتمتع بما سوى ذلك إلى الحج. والحج ما يكون بعد يوم التروية من عقد الاحرام الثاني بالحج المفرد والخروج إلى منى ومنها إلى عرفات، وقطع التلبية عند زوال الشمس يوم عرفة، ويجمع فيها بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، والبيتوتة بها إلى غروب الشمس، والافاضة إلى المشعر الحرام، والجمع بين المغرب والعشاء بها بأذان واحد وإقامتين، والبيتوتة بها، والوقوف بها بعد الصبح إلى أن تطلع الشمس على جبل ثبير (2) والرجوع إلى


(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 228، باب 118، ما يجوز للمحرم اتيانه واستعماله وما لا يجوز من جميع الانواع، ح 55. (2) ثبير: كأمير جبل بمكة، كأنه من الثبرة وهي الارض السهلة، وفي الحديث: كبش اسماعيل (*)

[ 470 ]

منى، والذبح والحلق والرمي ودخول مسجد الحصباء (1) والاستلقاء فيه على القفا، وزيارة البيت، وطواف الحج وهو طواف الزيارة، وطواف النساء. فهذه صفة التمتع بالعمرة إلى الحج. والمتمتع عليه ثلاثة أطواف بالبيت، طواف العمرة وطواف الحج وطواف النساء وسعيان بين الصفا والمروة كما ذكرناه. وعلى القارن والمفرد طوافان بالبيت، وسعيان بين الصفا والمروة، ولا يحلان بعد العمرة، يمضيان على إحرامهما الاول، ولا يقطعان التلبية إذا نظرا إلى بيوت مكة كما يفعل المتمتع، ولكنهما يقطعان التلبية يوم عرفة عند زوال الشمس. والقارن والمفرد صفتهما واحدة إلا أن القارن يفضل على المفرد بسياق الهدي. فما استيسر من الهدى: فعليه ما استيسر من الهدي بسبب التمتع، وهو هدي التمتع. وفي كتاب علل الشرايع: في العلل التي ذكر الفضل بن شاذان أنه سمعها، عن الرضا عليه السلام، فإن قال: فلم امروا بالتمتع في الحج ؟ قيل: ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، لان يسلم الناس في إحرامهم ولا يطول ذلك عليهم فيدخل عليهم الفساد، وأن يكون الحج والعمرة واجبين جميعا فلا تعطل العمرة وتبطل، ولا يكون الحج مفردا من العمرة ويكون بينهما فصل وتمييز، وأن لا يكون الطواف بالبيت محظورا، لان المحرم إذا طاف بالبيت قد أحل إلا لعلة، فلولا التمتع لم يكن للحاج أن يطوف، لانه إن طاف أحل وفسد إحرامه ويخرج منه قبل أداء الحج، و لان يجب على الناس الهدي والكفارة فيذبحون وينحرون ويتقربون إلى الله جل جلاله، فلا تبطل هراقة الدماء والصدقة على المسلمين (2).


= تناوله (يعني جبرئيل) من قلة ثبير (مجمع البحرين: ج 3، ص 235، لغة ثبر). (1) والتحصيب المستحب هو النزول في مسجد المحصبة والاستلقاء فيه، وهو في الابطح، وهذا الفعل مستحب تأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله وليس لهذا المسجد أثر في هذا الزمان فتتأدى السنة بالنزول في الابطح قليلا (مجمع البحرين: ج 2، ص 43، لغة حصب). (2) علل الشرايع: ج 1، ص 259، باب 182، علل الشرايع واصول الاسلام، قطعة من حديث 9. (*)

[ 471 ]

حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن عبيد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الحج، متصل بالعمرة، لان الله عزوجل يقول: ” فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ” فليس ينبغي لاحد إلا أن يتمتع، لان الله عزوجل أنزل ذلك في كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله (1). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى ” فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ” قال: شاة (2). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن ابن مسكان، عن سعيد الاعرج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): فيمن تمتع في أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى يحضر الحج من قابل، فعليه شاة، ومن تمتع في غير أشهر الحج ثم جاور حتى يحضر الحج فليس عليه دم، إنما هي حجة مفردة، وإنما الاضحية على أهل الامصار (3). فمن لم يجد: أي الهدي وروي في معنى عدم الوجدان: أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن المتمتع يكون له فضول من الكسوة بعد الذي يحتاج إليه فتسوى بذلك الفضول مأة درهم يكون ممن يجب عليه الهدي ؟ فقال: له بد من كرى ونفقة. قلت: له كرى أوما يحتاج إليه بعد هذا الفضل من الكسوة. فقال: وأي شئ كسوة بمائة درهم ؟ هذا ممن قال الله: ” فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في


(1) علل الشرايع: ج 2، ص 96، باب 149، العلة التي من أجلها يجب التمتع بالعمرة إلى الحج دون القران والافراد، ح 1. (2) الكافي: ج 4، ص 487، كتاب الحج، باب أدنى ما يجزي من الهدي، ح 1. (3) الكافي: ج 4، ص 487، كتاب الحج، باب من يجب عليه الهدي واين يذبحه، ح 1. (*)

[ 472 ]

الحج وسبعة إذا رجعتم ” (1). فصيام ثلثة أيام في الحج: في أيام الاشتغال به. في الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد جميعا، عن رفاعة بن موسى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتمتع لا يجد الهدي قال: يصوم قبل التروية بيوم، ويوم التروية ويوم عرفة قلت: فإنه قدم يوم التروية قال: يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق قلت: لم يقم عليه جماله قال: يصوم يوم الحصبة و بعده يومين قال: قلت: ما الحصبة ؟ قال: يوم نفره قلت يصوم وهو مسافر قال: نعم، أليس هو يوم عرفة مسافرا إنا أهل بيت نقول ذلك بقول الله تعالى ” فصيام ثلاثة أيام في الحج ” يقول في ذي الحجة (2). أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم بن عمرو، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) إنه قال: من لم يجد هديا وأحب أن يقدم الثلاثة الايام في أول العشر، فلا بأس (3). علي بن ابراهيم، عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى وابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن متمتع لم يجد هديا ؟ قال: يصوم ثلاثة أيام في الحج، يوما قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، قال: قلت له: فإن فاته ذلك ؟ قال: يتسحر ليلة الحصبة ويصوم ذلك اليوم ويومين بعده، قلت: فإن لم يقم عليه جماله أيصومها في الطريق ؟ قال: إن شاء صامها في الطريق، وإن شاء رجع إلى أهله (4). علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: رجل تمتع بالعمرة إلى الحج، وفي عيبته ثياب له، يبيع من ثيابه شيئا ويشتري هديه ؟


(1) الوسائل: ج 1، ص 171، كتاب الحج، باب 57، من ابواب الذبح، ح 1، رواه نقلا عن التهذيب ورواه أيضا عن قرب الاسناد مع اختلاف يسير في بعض الالفاظ. (2) الكافي: ج 4، ص 506، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 1. (3) الكافي: ج 4، ص 507، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 2. (4) الكافي: ج 4، ص 507، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 3. (*)

[ 473 ]

قال: لا، هذا يتنرين به المؤمن، يصوم ولا يأخذ من ثيابه شيئا (1). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في متمتع يجد الثمن ولا يجد الغنم ؟ قال: يخلف الثمن عند بعض أهل مكة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه، وهو يجزي عنه، فإن مضى ذو الحجة أخر ذلك إلى قابل من ذي الحجة (2). أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن يحيى الازرق قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)، عن متمتع كان معه ثمن هدي، وهو يجد بمثل ذلك الذي معه هديا، فلم يزل يتوانى ويؤخر ذلك حتى إذا كان آخر النهار غلت الغنم فلم يقدر أن يشتري بالذي معه هديا ؟ قال: يصوم ثلاثة أيام بعد أيام التشريق (3). وأما ما رواه في الكافي عن بعض أصحابنا، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن عبد الله الكرخي قال: قلت للرضا (عليه السلام): المتمتع يقدم وليس معه هدي أيصوم لما لم يجب عليه ؟ قال: يصبر إلى يوم النحر فان لم يصب فهو ممن لم يجد (4). فهو محمول على من لم يكن معه هدي ولكنه يتوقع المكنة، فهذا يجب عليه الصبر، وأما من لم يكن معه ولم يتوقع المكنة فعليه ما تقدم من صوم اليوم السابع والثامن والتاسع، ومع التأخير بعد أيام التشريق ويجب فيه التتابع. روى في الكافي، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان، عن الحسين بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: السبعة الايام والثلاثة الايام في الحج لا يفرق، إنما هي بمنزلة الثلاثة الايام في اليمين (5).


(1) الكافي: ج 4، ص 508، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 5. (2) الكافي: ج 4، ص 508، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 6. (3) الكافي: ج 4، ص 508، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 7. (4) الكافي: ج 4، ص 510، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 16. (5) الكافي: ج 4، ص 140، كتاب الصيام، باب صوم كفارة اليمين، ح 3. (*)

[ 474 ]

وسبعة إذا رجعتم: إلى أهليكم، وقرئ سبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام. وإذا أقام بمكة صبر، فإذا ظن أن رفقائه وصلوا إلى بلده صام السبعة. وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن أبي بصير، قال: سألته عن رجل تمتع فلم يجد هديا فصام الثلاثة الايام، فلما قضى نسكه، بدا له أن يقيم بمكة، قال: ينتظر مقدم أهل بلاده، فإذا ظن أنهم قد دخلوا فليصم السبعة الايام (1). وإذا صام الثلاثة ومات قبل وصوله إلى بلده لم يقض عنه وليه إلا استحبابا. روى في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن رجل يتمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن له هدي فصام ثلاثة أيام في الحج، ثم مات بعد ما رجع إلى أهله قبل أن يصوم السبعة الايام، أعلى وليه أن يقضي عنه ؟ قال: ما أرى عليه قضاء (2). وأما ما رواه فيه عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار قال: من مات ولم يكن له هدي لمتعته، فليصم عنه وليه (3) فحمله في الفقيه على الاستحباب (4) ويمكن حمله على ما إذا تمكن ولم يصم حتى مات. وإذا صام الثلاثة الايام ثم وجد الهدي وجب. روى في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن رجل


(1) الكافي: ج 4، ص 509، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 8. (2) الكافي: ج 4، ص 509، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 13. (3) الكافي: ج 4، ص 509، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 12. (4) الفقيه: ج 2، ص 303، باب 208، ما يجب من الصوم على المتمتع إذا لم يجد ثمن الهدي، قال بعد نقل الحديث الذي قدمناه ما لفظه: ” قال مصنف هذا الكتاب (رضي الله عنه) هذا على الاستحباب لا على الوجوب، وهو إذا لم يصم الثلاثة في الحج ايضا “. (*)

[ 475 ]

تمتع وليس معه ما يشتري به هديا، فلما أن صام ثلاثة أيام في الحج أيسر أيشترى هديا فينحره، أو يدع ذلك ويصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ؟ قال: يشتري هديا فينحره، ويكون صيامه الذي صامه نافلة له (1). ولا ينافيه ما رواه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن رجل تمتع فلم يجد ما يهدي به حتى إذا كان يوم النفر وجد ثمن شاة، يذبح أو يصوم ؟ قال: بل يصوم فإن أيام الذبح قد مضت (2). فانه محمول على ما إذا صام الايام الثلاثة ومضى وقت الذبح، وأما إذا لم يصم الثلاثة فعليه الذبح وكذا إذا لم يصم الثلاثة حتى انقضى ذو الحجة. يدل على ذلك ما رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص البختري، عن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من لم يصم في ذى الحجة حتى يهل هلال المحرم فعليه دم شاة فليس له صوم ويذبح بمنى (3). تلك عشرة: فذلكة الحساب، وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو، نحو جالس الحسن وابن سيرين (4) وان لم يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فان أكثر العرب لم يحسنوا الحساب، وان المراد بالسبعة هو العدد، دون الكثرة، فانه يطلق لهما. كاملة: صفة مؤكدة يفيد المبالغة في محافظة العدد. أو مبينة كمال العشرة، فإنه أول عدد كامل، إذ به ينتهي الآحاد وتتم مراتبها. أو مفيدة تفيد كمال بدليتها من الهدي.


(1) الكافي: ج 4، ص 510، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 14. (2) الكافي: ج 4، ص 509، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 9. (3) الكافي: ج 4، ص 509، كتاب الحج، باب صوم المتمتع إذا لم يجد الهدي، ح 10. (4) قال في مغني اللبيب، ص 468، (حرف الواو): الثاني ان يكون بمعنى أو في الاباحة والتخيير قاله الزمخشري: وزعم أنه يقال: جالس الحسن وابن سيرين أي أحدهما وأنه لهذا قيل: ” تلك عشرة كاملة ” بعد ذكر ثلاثة وسبعة لئلا يتوهم إرادة الاباحة إلى آخره. (*)

[ 476 ]

في تهذيب الاحكام: موسى بن القاسم، عن محمد، عن زكريا المؤمن، عن عبد الرحمان بن عتبة، عن عبد الله بن سليمان الصيرفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لسفيان الثوري: ما تقول في قول الله تعالى: ” فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ” ؟ أي شئ يعني بكاملة ؟ قال: سبعة وثلاثة، قال: ويختل ذا على ذي حي أن سبعة وثلاثة، عشرة، قال: فأي شئ أصلحك الله ؟ قال: أنظر، قال: لا علم لي، فأي شئ هو أصلحك الله ؟ قال: الكاملة، كمالها كمال الاضحية (1). ذلك: أي التمتع، إذ لا متعة لحاضري المسجد الحرام. في الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لاهل مكة متعة ؟ قال: لا، ولا لاهل بستان، ولا لاهل ذات عرق، ولا لاهل عسفان و نحوها (2). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم بن عمرو، عن سعيد الاعرج، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ليس لاهل سرف (3)، ولا لاهل مر (4)، ولا لاهل مكة متعة، لقول الله عزوجل: ” ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ” (5). لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام: اي لم يكن منزله في أطراف مكة.


(1) التهذيب: ج 5، ص 40، باب 4، ضروب الحج، ح 49. (2) الكافي: ج 4، ص 299، كتاب الحج، باب حج المجاورين وقطان مكة، ح 2. (3) السرف – بالسين المهملة ككتف -: موضع قريب من التنعيم وهو من مكة على عشرة أميال و قيل اكثر. مجمع البحرين: ج 5، ص 69 (4) المر – بالفتح -: الحبل وبطن مر أيضا: موضع وهو من مكة على مرحلة. الصحاح: ج 2، ص 814. (5) الكافي: ج 4، ص 299، كتاب الحج، باب حج المجاورين وقطان مكة، ح 1. (*)

[ 477 ]

في الكافي: روى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام ” قال: من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها، وثمانية عشر ميلا من خلفها، وثمانية عشر ميلا عن يمينها، وثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له مثل مر واشباهها (1). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن داود، عن حماد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن أهل مكة أيتمتعون ؟ قال: ليس لهم متعة، قلت: فالقاطن بها ؟ قال: إذا قام بها سنة أو سنتين صنع ما يصنع أهل مكة، قلت: فإن مكث الشهر، قال: يتمتع، قلت: من أين ؟ قال: يخرج من الحرم قلت: أين يهل بالحج ؟ قال: مكة نحوا مما يقول الناس (2). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سألت أبا جعفر (3) عليه السلام في السنة التي حج فيها، وذلك في سنة اثنتي عشرة ومأتين، فقلت: جعلت فداك بأي شئ دخلت مكة، مفردا أو متمتعا ؟ فقال: متمتعا، فقلت: أيهما أفضل، المتمتع بالعمرة إلى الحج، أو من أفرد وساق الهدي ؟ فقال: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: المتمتع بالعمرة إلى الحج أفضل من المفرد السائق للهدي، وكان يقول: ليس يدخل الحاج بشئ أفضل من المتعة (4). واتقوا الله في المحافظة على أوامره ونواهيه مطلقا، وخصوصا في الحج. واعلموا أن الله شديد العقاب: لمن لم يتقه ليصدكم العلم به عن العصيان.


(1) الكافي: ج 4، ص 300، كتاب الحج، باب حج المجاورين وقطان مكة، ح 3. (2) الكافي: ج 4، ص 300، كتاب الحج، باب حج المجاورين وقطان مكة، ح 4. (3) المسؤول منه أبا جعفر الثاني عليه السلام وهو الذي دخل مكة متمتعا، والمراد بقوله: ثانيا: ” كان أبو جعفر يقول ” يعني الباقر عليه السلام. (4) الكافي: ج 4، ص 292، كتاب الحج، باب أصناف الحج، ح 11. (*)

[ 478 ]

[ الحج أشهر معلومت فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولى الالبب (197) ] الحج: أو وقته، كقولك: البرد شهران. أشهر معلومت: معروفات، وهي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، و سمي شهرين وبعض شهر، أشهرا، إقامة للبعض مقام الكل، أو إطلاق الجمع على ما فوق الواحد، أو الكلام بمعنى أن ليس لاحد أن يحج فيما سواهن كما في الخبر (1). فمن فرض فيهن الحج: فمن أوجبه على نفسه بالاحرام فيهن. فلا رفث: فلا جماع. ولا فسوق: والفسوق الكذب ولا جدال في الحج: والجدال قول: ” لا والله وبلى والله “. في الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن مثنى الحناط، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” الحج أشهر معلومات ” شوال وذو القعدة وذو الحجة، ليس لاحد أن يحج فيما سواهن (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج ” الفرض: التلبيته والاشعار


(1) سيأتي عن قريب. (2) الكافي: ج 4، ص 289، كتاب الحج، باب اشهر الحج، ح 1. (*)

[ 479 ]

والتقليد، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج ولا يفرض الحج إلا في هذه الشهور التي قال الله عزوجل: ” الحج أشهر معلومات ” وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة (1). علي بن إبراهيم باسناده قال: أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة (2). وفي من لا يحضره الفقيه: روى معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن أراد الحج وفر شعره إذا نظر إلى هلال ذي القعدة، ومن أراد العمرة وفر شعره شهرا (3). وفي مجمع البيان: وأشهر الحج عندنا شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة على ما روي عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عن عطا والربيع وطاوس، وروي ذلك في أخبارنا (4). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن اسماعيل بن مرار، عن يونس، عن سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (5). على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، قال: قال أبو


(1) الكافي: ج 4، ص 289، كتاب الحج، باب اشهر الحج، ح 2. (2) الكافي: ج 4، ص 290، كتاب الحج، باب اشهر الحج، ح 3، وتمام الحديث: ” واشهر السياحة عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الاول وعشر من شهر ربيع الآخر ” وقال في الوافي، ج 2 باب 40 ص 445 ما لفظله: ” معنى اشهر السياحة أن النبي صلى الله عليه وآله لما أمر بقتال المشركين بنزول سورة البراءة، أمر أن يمهلهم أربعة أشهر من يوم النحر ثم يأخذهم ويقتلهم أينما وجدوا وحيثما ثقفوا قال الله تعالى ” براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر “. (3) التهذيب: ج 5، ص 46، كتاب الحج، باب 5، باب العمل والقول عند الخروج، ح 2. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 293 في ذيل الآية 197 من سورة البقرة. (5) الكافي: ج 4، ص 302، كتاب الحج، باب حج المجاورين وقطان مكة، قطعة من حديث 10. (*)

[ 480 ]

عبد الله (عليه السلام): من أحرم بالحج في غير أشهر الحج، فلا حج له (1). علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله سبحانه وتعالى: ” الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ” فقال: إن الله عزوجل اشترط على الناس شرطا وشرط لهم شرطا، قلت: فما الذي اشترط عليهم ؟ وما الذي اشترط لهم ؟ فقال: أما الذي اشترط عليهم فإنه قال: ” الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ” وأما ما شرط لهم فإنه قال: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ” قال: يرجع لا ذنب له، قال: قلت له: أرأيت من ابتلي بالفسوق ما عليه ؟ قال: لم يجعل الله له حدا، يستغفر الله ويلبي، قلت: فمن ابتلي بالجدال ما عليه ؟ قال: إذا جادل فوق مرتين فعلى المصيب دم يهريقه، و على المخطئ بقرة (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، وابن أبي عمير جميعا، عن معاوية بن عمار، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله كثيرا و قلة الكلام إلا بخير، فإن من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال الله تعالى: فإن الله عزوجل يقول: ” فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ” والرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: ” لا والله وبلى والله “. واعلم أن الرجل إذا حلف بثلاثة أيمان ولاء في مقام واحد وهو محرم، فقد جادل، فعليه دم يهريقه ويتصدق به، وإذا حلف يمينا واحدة كاذبة فقد جادل وعليه دم يهريقه ويتصدق به (3).


(1) الكافي: ج 4، ص 322، كتاب الحج، باب من احرم دون الوقت، ح 4. (2) الكافي: ج 4، ص 337، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، ح 1. (3) الكافي: ج 4، ص 337، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، قطعة من حديث 3. (*)

[ 481 ]

وقال: سألته عن الرجل يقول: لا، لعمري وبلى لعمري ؟ قال: ليس هذا من الجدال، إنما الجدال لا والله وبلى والله (1). الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام قال: إذا حلف ثلاث أيمان متتابعات صادقا فقد جادل وعليه دم، وإذا حلف بيمين واحدة كاذبة فقد جادل وعليه دم (2). أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عبد الله بن مسكان، عن ابي بصير، قال: سألته عن المحرم يريد أن يعمل العمل، فيقول له صاحبه: والله لا تعمله، فيقول: والله لاعملنه، فيحالفه مرارا، أيلزمه ما يلزم الجدال ؟ قال: لا، إنما أراد بهذا إكرام أخيه، إنما ذلك ما كان فيه معصية (3). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن أبي المغرا، عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في الجدال شاة، وفي السباب والفسوق بقرة، والرفث فساد الحج (4). وما تفعلوا من خير يعلمه الله: حث على الخير، عقيب النهي عن الشر، ليستبدل به ويستعمل مكانه. وتزودوا فإن خير الزاد التقوى: وتزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد. وقيل: نزلت في أهل يمن: كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فيكونون كلا على الناس، فامروا أن يتزودوا، ويتقوا الابرام في السؤال والتثقيل على الناس (5).


(1) الكافي: ج 4، ص 338، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، قطعة من حديث 3. (2) الكافي: ج 4، ص 338، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، ح 4. (3) الكافي: ج 4، ص 338، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، ح 5. (4) الكافي: ج 4، ص 339، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، ح 6. (5) الكشاف: ج 1، ص 224، في تفسير آية 197، من سورة البقرة (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى). (*)

[ 482 ]

[ – ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) ] وفي نهج البلاغة: اوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ (1). واتقون يأولى الالبب: فان قضية اللب خشية وتقوى. حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها، هو الله، فيتبرؤوا عن كل شئ سواه، وهو مقتضى العقل العري عن شوائب الاوهام، فلذا خص اولي الالباب بهذا الخطاب. ليس عليكم جناح أن تبتغوا: أن تطلبوا. فضلا من ربكم: عطاء ورزقا منه، يريد به الربح في التجارة. في مجمع البيان: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، قيل: كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج، فرفع سبحانه بهذا اللفظ الاثم عمن يتجر في الحج عن ابن عباس والمروي عن أئمتنا عليهم السلام، وقيل: لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) (2). فإذا أفضتم من عرفت: دفعتم منها بكثرة، من افضت الماء، إذا صببته


(1) نهج البلاغة: ص 169، خطبة 114. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 295، ذيل الآية 198. (*)

[ 483 ]

بكثرة. وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في رفعت من البصرة و عرفات. جمع سمي به كأذرعات. وانما نون وكسر، وفيه العلمية والتأنيث ؟ لان تنوين الجمع، تنوين المقابلة، لا تنوين التمكين، ولذلك يجتمع مع اللام، وذهاب الكسرة، يتبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهاهنا ليس كذلك، أو لان التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة، وهي ليست تاء تأنيث، و إنما هي مع الالف التي قبلها علامة جمع المؤنث، أو بتاء مقدرة كما في سعاد، ولا يصح تقديرها لان المذكورة تمنعه من حيث أنها كالبدل لها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت. وإنما سمي الموقف عرفة لانه نعث لابراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه روي ذلك عن علي عليه السلام. أو لان جبرئيل كان يدور به في المشاعر، فلما أراه قال: قد عرفت. أو لان آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا رواه أصحابنا أيضا (1)، أو لان الناس يتعارفون فيه (2). وفي كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن عرفات، لم سمي عرفات ؟ فقال: إن جبرئيل عليه السلام خرج بإبراهيم صلوات الله عليه يوم عرفة فلما زالت الشمس قال له جبرئيل (عليه السلام): إعترف بذنبك واعرف مناسكك، فسمي عرفات لقول جبرئيل عليه السلام: اعترف، فاعترف (3). وفي الكافي باسناده إلى أبي بصير أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام يذكران أنه قال جبرئيل عليه السلام لابراهيم عليه السلام: هذه عرفات فاعرف بها


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 295، ذيل الآية 198. (2) ما اورده من وجوه التسمية بتمامه مذكورة في الكشاف: ج 1، ص 245، في تفسيره الآية 198، من سورة البقرة. (3) علل الشرايع: ج 2، ص 121، باب 173، العلة التي من أجلها سميت عرفات، ح 1. (*)

[ 484 ]

مناسكك واعترف بذنبك فسمي عرفات، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (1). فاذكروا الله: بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل بصلاة العشائين. عند المشعر الحرام: قيل: جبل وسمى قزح. وقيل ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، وسمي مشعرا، لانه معلم العبادة، ووصف بالحرم لحرمته، ومعنى عند المشعر الحرام، مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل. واذكروه كما هديكم: كما علمكم، و (ما) مصدرية أو كافة. وإن كنتم من قبله: أي الهدى. لمن الضالين: الجاهلين بالايمان والطاعة، و (إن) هي المخففة، واللام هي الفارقة، وقيل: (إن) نافية، واللام بمعنى إلا، كقوله: ” وان نظنك لمن الكاذبين ” (2). ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس: في مجمع البيان: من حيث أفاض الناس، قيل فيه قولان: أحدهما: أن المراد الافاضة من عرفات، وأراد بالناس سائر العرب، فإنه أمر لقريش وحلفائهم وهم الحمس (3) لانهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة، ولا يفيضون منها، ويقولون: نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه، وكانوا يقفون بالمزدلفة و يفيضون منها، فأمرهم الله بالوقوف بعرفة والافاضة منها كما يفيض الناس، وأراد


(1) الكافي: ج 4، ص 207، كتاب الحج، باب حج ابراهيم واسماعيل وبنائهما البيت ومن ولي البيت بعدهما عليهما السلام، قطعة من حديث 9. (2) سورة الشعراء: الآية 186. (3) الحمس جمع الاحمس وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانته، وجديلة قيس، سموا حمسا لانهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة: الشجاعة، كانوا يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون. النهاية لابن الاثير: ج 1، ص 440، ” في لغة حمس “. (*)

[ 485 ]

بالناس ساير العرب، وهو المروي عن الباقر (عليه السلام). والثاني: أن المراد به الافاضة من المزدلفة إلى مني يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر. ومما يسأل على القول الاول أن يقال: إذا كان ثم للترتيب، فما معنى الترتيب هنا ؟ وقد روى أصحابنا في جوابه: إن ها هنا تقديما وتأخيرا، وتقديره ” ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، ثم افيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ” (1). وفي تفسير العياشي: عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: ” أفيضوا من حيث أفاض الناس ” قال: اولئك قريش كانوا يقولون: نحن أولى الناس بالبيت، ولا يفيضون إلا من المزدلفة فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة (2). وعن رفاعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله ” ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ” قال: إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام و يقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة، وكان رجلا يكنى أبا سيار وكان له حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفة، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه (3). وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ” ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ” قال: هم أهل اليمن (4). وفي روضة الكافي: ابن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: إن رجلا جاء إلى


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 296، في ذيل الآية 199. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 96، ح 263. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 97، ح 264. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 98، ح 269. (*)

[ 486 ]

أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني إن كنت عالما عن الناس وعن أشباه الناس وعن النسناس ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا حسين أجب الرجل فقال الحسين عليه السلام: أما قولك أخبرني عن الناس، فنحن الناس ولذلك قال الله تبارك وتعالى ذكره في كتابه ” ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ” فرسول الله الذي أفاض بالناس، وأما قولك عن أشباه الناس، فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام: ” فمن تبعني فإنه مني ” (1) وأما قولك عن النسناس فهم السواد الاعظم وأشار بيده إلى جماعة الناس، ثم قال: ” إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا ” (2 / 3). واستغفروا الله: من جاهليتكم في تغيير المناسك. إن الله غفور رحيم: يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه. وفي الكافي: علي بن ابراهيم، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام وقال: في حديث طويل: ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزلوا الدور، فلما كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلوا بالحج، وهو قول الله تعالى الذي أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله: ” و اتبعوا ملة أبيكم ابراهيم ” (4) فخرج النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه مهلين بالحج حتى أتى منى فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثم غدا والناس معه، وكانت قريش تفيض من المزدلفة، وهي جمع، ويمنعون الناس أن يفيضوا منها فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وقريش ترجو أن يكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل الله تعالى ” ثم أفيضوا من حيث افاض الناس ” يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم، فلما رأت قريش أن قبة


(1) سورة إبراهيم: الآية 36. (2) سورة الفرقان: الآية 44. (3) الكافي: ج 8، ص 244، ح 339. (4) سورة الحج: الآية 78. (*)

[ 487 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شئ للذي كانوا يرجون من إفاضته من مكانهم حتى انتهى إلى نمرة (1) وهي بطن عرنة بحيال الاراك فضربت قبته وضرب الناس أخبتيهم (2) عندها، فلما زالت الشمس خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثم صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم مضى إلى الموقف فوقف به، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها، فنحاها ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيها الناس ليس موضع إخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كله، وأومى بيده إلى الموقف، فتفرق الناس، وفعل ذلك بالمزدلفة، فوقف الناس حتى وقع قرص الشمس، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة، حتى انتهى إلى المزدلفة، وهي المشعر الحرام (3). علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن المشركين كانوا يفيضون من قبل أن تغيب الشمس، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأفاض بعد غروب الشمس، قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا غربت الشمس فافض مع الناس وعليك السكينة والوقار، وافض بالاستغفار، فإن الله عزوجل يقول: ” ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ” والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (4).


(1) وفي حديث الحج: ” حتى آتى نمرة ” هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم بعرفات. النهاية لابن الاثير: ج 5، ص 118، لغة (نمرة). (2) (خبا) في حديث الاعتكاف: ” فأمر بخبائه فقوض ” الخباء: أحد بيوت العرب من وبر أو صوف ولا يكون من شعر ويكون على عمودين أو ثلاثة، والجمع أخبية، وقد تكرر في الحديث مفردا ومجموعا. النهاية لابن الاثير: ج 2، ص 9، لغة (خبا). (3) الكافي: ج 4، ص 245، باب حج النبي (صلى الله عليه وآله) قطعة من حديث 4. (4) الكافي: ج 4، ص 467، باب الافاضة من عرفات، قطعة من حديث 2. (*)

[ 488 ]

[ فإذا قضيتم منسككم فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربناءاتنا في الدنيا وما له في الاخرة من خلق (200) ومنهم من يقول ربناءاتنا في الدنيا حسنة وفى الاخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202) ] فإذا قضيتم منسككم: فإذا أديتم العبادات الحجية وفرغتم منها. فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم: فاكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة. أو أشد ذكرا: إما مجرور معطوف على الذكر، بجعل الذكر ذاكرا على المجاز، والمعنى: فاذكروا الله ذكرا كذكركم آبائكم، أو كذكرا أشد منه وأبلغ. أو على ما اضيف إليه بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا. وإما منصوب بالعطف على آبائكم وذكر من فعل المذكور، بمعنى أو كذكركم أشد مذكورا من آبائكم. أو بمضمر دل عليه المعنى، تقديره أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم. في الكافي: أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى ” واذكروا الله في أيام معدوات ” قال: هي أيام التشريق، كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله تعالى: ” فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا ” قال: والتكبير: الله اكبر الله اكبر لا إله الا الله والله اكبر الله اكبر ولله الحمد الله اكبر على ما هدانا الله اكبر على


[ 489 ]

ما رزقنا من بهيمة الانعام (1). وفي مجمع البيان: ” كذكركم آبائكم ” معناه ما روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): إنهم كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك ويعدون مفاخر آبائهم ومآثرهم، ويذكرون أيامهم القديمة وأياديهم الجسيمة، فأمرهم الله سبحانه أن يذكروه مكان ذكر آبائهم في هذا الموضع (أو أشد ذكرا) أو يزيدوا على ذلك بأن يذكروا نعم الله سبحانه ويعدوا آلائه ويشكروا نعمائه، لان آبائهم وإن كانت لهم عليهم أياد ونعم، فنعم الله سبحانه عليهم أعظم وأياديه عندهم أفخم، ولانه سبحانه المنعم بتلك المآثر والمفاخر على آبائهم وعليهم (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم: ” فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا ” قال: كانت العرب إذا وقفوا بالمشعر، يتفاخرون بآبائهم، فيقول: لا وأبيك، لا و أبي، فامرهم الله أن يقولوا: لا والله وبلى والله (3). وفي تفسير العياشي: عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله بدون لفظ يتفاخرون بآبائهم (4). فمن الناس من يقول: تفسير للذاكرين، إلى مقل لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا، ومكثر يطلب به خير الدارين، اريد به الحث على الاكثار والارشاد إليه. ربنا ءاتنا في الدنيا: اجعل ايتائنا في الدنيا. وما له في الاخرة من خلق: أي نصيب وحظ، لان همه مقصور بالدنيا، أو من طلب خلاق. ومنهم من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة: السعة في الرزق والمعاش


(1) الكافي: ج 4، ص 516، باب التكبير ايام التشريق، ح 3. (2) مجمع البيان: ج 2، ص 297، ذيل الآية 200. (3) تفسير علي ابن ابراهيم القمي: ج 1، ص 69. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 98، ح 272، ولفظ الحديث هكذا (عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قوله: ” اذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا ” قال: إن أهل الجاهلية كان من قولهم: كلا وأبيك بلى وأبيك، فامروا أن يقولوا: لا والله وبلى والله “. (*)

[ 490 ]

وحسن الخلق. وفى الاخرة حسنة: رضوان الله والجنة. وقنا عذاب النار: بالعفو والمغفرة. أولئك: إشارة إلى الفريق الثاني، أو إليهما. لهم نصيب مما كسبوا: أي من جنسه، وهو جزائه، أو من أجله، كقوله: خطيئاتهم اغرقوا ” (1) أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، فسمي الدعاء كسبا، لانه من الاعمال. والله سريع الحساب: يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة، أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات. في كتاب معاني الاخبار: وحدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ” قال: رضوان الله والجنة في الآخرة والسعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا (2). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: طف بالبيت سبعة أشواط وتقول في الطواف اللهم إني أسألك، إلى أن قال عليه السلام: وتقول فيما بين الركن اليماني والحجر الاسود ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ” (3).


(1) سورة نوح: الآية 25. (2) معاني الاخبار: ص 174، باب معنى حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ح 1. (3) الكافي: ج 4، ص 406، كتاب الحج، باب الطواف وإستلام الاركان. قطعة من حديث 1. (*)

[ 491 ]

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يستحب أن تقول بين الركن والحجر ” اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ” وقال: إن ملكا موكلا يقول: آمين (1). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ” رضوان الله والجنة في الآخرة والمعاش وحسن الخلق في الدنيا (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف فقال: أترى يخيب الله هذا الخلق كله ؟ فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلا غفر الله له مؤمنا كان أو كافرا، إلا إنهم في مغفرتهم على ثلاث منازل، مؤمن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر واعتقه الله من النار، وذلك قوله تعالى: ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ” وسنذكر تتمة الحديث إن شاء الله تعالى (3). وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله: روي عن موسى بن جعفر عن أبيه، عن آبائه، عن الحسن بن علي، عن أبيه عليهم السلام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله جالس إذ سأل عن رجل من أصحابه. فقالوا يا رسول الله: إنه صار في البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه، فأتاه عليه السلام فإذا هو كهيئة الفرخ لا ريش عليه من شدة البلاء فقال له: تدعو في صحتك دعاء ؟ قال: نعم أقول: يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فعجلها لي في الدنيا، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ألا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فقال: فكانما


(1) الكافي: ج 4، ص 408، كتاب الحج، باب الطواف واستلام الاركان: ح 7 (2) الكافي: ج 5، ص 711، كتاب المعيشه، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة: ح 2 (3) الكافي: ج 4، ص 521، كتاب الحج، باب النفر من منى الاول والآخر، ح 10. (*)

[ 492 ]

[ * واذكروا الله في أيام معدودت فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203) ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) ] نشط من عقال وقام صحيحا وخرج معنا، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (1). وفي مجمع البيان: ” والله سريع الحساب ” ورد في الخبر: أنه سبحانه يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر (2). وروي بقدر حلب شاة (3). وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: معناه أنه يحاسب الخلائق دفعة كما يرزقهم دفعة (4). واذكروا الله في أيام معدودت: في أدبار الصلوات في أيام التشريق. في الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حرير، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل ” واذكروا الله في أيام معدودات ” قال: التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من يوم الثالث، وفي الامصار عشر صلوات، فإذا نفر بعد الاولى أمسك أهل الامصار، ومن أقام بمنى فصلى بها الظهر والعصر فليكبر (5).


(1) لم نعثر عليه. (2 و 3 و 4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 298، في ذيل الآية 202. (5) الكافي: ج 4، ص 516، كتاب الحج، باب التكبير ايام التشريق، ح 1. (*)

[ 493 ]

وفي كتاب معاني الاخبار: أبي رحمه الله قال: حدثنا محمد بن أحمد بن علي بن الصلت، عن عبد الله بن الصلت، عن يونس بن عبد الرحمن، عن المفضل بن صالح، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في قول الله عز وجل: ” واذكروا الله في أيام معدودات ” قال: المعلومات والمعدودات واحدة، وهي أيام، التشريق (1). وقد سبق من الاخبار ما يدل على صورة التكبير. فمن تعجل: النفر في يومين: أي نفر في ثاني أيام التشريق. فلا إثم عليه: باستعجاله. ومن تأخر: في النفر حتى رمي اليوم الثالث. فلا إثم عليه: بتأخيره، ومعنى نفي الاثم بالتعجيل والتأخير، التخيير بينهما، والرد على أهل الجاهلية، فإن منهم من إثم المستعجل، ومنهم من إثم المتأخر. لمن اتقى: أي الذي ذكر من التخيير لمن اتقى الصيد، فإن من لم يتق الصيد ليس له التخيير، بل يتعين عليه التأخير. في تهذيب الاحكام: محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن حماد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الاول، ومن نفر في النفر الاول فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الناس، وهو قول الله عزوجل ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى ” قال: إتقى الصيد (2). عن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن علي، عن أحدهما عليهما السلام أنه قال: في رجل بعث بثقله يوم النفر الاول وأقام هو إلى الاخير ؟ قال: هو ممن تعجل في يومين (3). وفي من لا يحضره الفقيه: وروى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام


(1) معاني الاخبار: ص 296، باب معنى الايام المعلومات والايام المعدودات، ح 3. (2) التهذيب: ج 5، ص 490، باب 26، من الزيادات في فقه الحج، ح 404. (3) التهذيب: ج 5، ص 490، باب 26، من الزيادات في فقه الحج، ح 403. (*)

[ 494 ]

قال: سمعته يقول في قول الله عزوجل: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ” فقال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى في النفر الاخير (1). وفي رواية ابن محبوب، عن أبي جعفر الاحول، عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله عليه في إحرامه (2). وفي رواية علي بن عطية، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (لمن اتقى الله عزوجل (3). وروي انه يخرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته امه (4). وروي: من وفى، وفى الله له (5). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف فقال: أترى يخيب الله هذا الخلق كله ؟ فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلا غفر الله له مؤمنا كان أو كافرا، إلا أنهم في مغفرتهم على ثلاث منازل، إلى قوله: ومنهم من غفر الله له ما تقدم من ذنبه. وقيل له: أحسن فيما بقى من عمرك، وذلك قوله تعالى: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ” يعني من مات قبل أن يمضى فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى الكبائر (6). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن داود بن النعمان عن أبي أيوب قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام إنا نريد أن نتعجل السير، وكانت


(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 288، باب 194، النفر الاول والاخير، ح 2. (2) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 288، باب 194، النفر الاول والاخير، ح 3 (3) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 288، باب 194، النفر الاول والاخير، ح 4. (4) من لا يحضره الففيه: ج 2، ص 288، باب 194، النفر الاول والاخير، ح 5. (5) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 288، باب 194، النفر الاول والاخير، ح 6. (6) الكافي: ج 4، ص 521، كتاب الحج، باب النفر من منى الاول والآخر، قطعة من حديث 10. (*)

[ 495 ]

ليلة النفر حين سألته، فأي ساعة ننفر ؟ فقال لي: أما اليوم الثاني فلا تنفر حتى تزول الشمس، وكانت ليلة النفر، وأما اليوم الثالث فإذا ابيضت الشمس فانفر على بركة الله، فإن الله تعالى يقول: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ” فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجل، ولكنه قال: ” ومن تأخر فلا إثم عليه ” (1). حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن معاوية بن وهب، عن إسماعيل بن نجيح الرماح قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام بمنى ليلة من الليالي فقال: ما يقول هؤلاء: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ” ؟ قلنا: ما ندري، قال: بلى يقولون: من تعجل من أهل البادية فلا إثم عليه، ومن تأخر من أهل الحضر فلا إثم عليه، وليس كما يقولون، قال الله جل ثنائه: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ” ألا لا إثم عليه ” ومن تأخر فلا إثم عليه ” ألا لا إثم عليه، لمن اتقى، إنما هي لكم، والناس سواد وأنتم الحاج (2). عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عبد الاعلى قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبي يقول: من أم هذا البيت حاجا أو معتمرا مبرء من الكبر رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته امه، ثم قرء ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ” قلت: ما الكبر ؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق، قلت: ما غمص الخلق وسفه الحق ؟ قال: يجهل الحق ويطعن على أهله، فمن فعل ذلك نازع الله ردائه (3). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا


(1) الكافي: ج 4، ص 519، كتاب الحج، باب النفر من منى الاول والآخر، ح 1. (2) الكافي: ج 4، ص 523، كتاب الحج، باب النفر من منى الاول والآخر، ح 12. (3) الكافي: ج 4، ص 252، كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة وثوابهما، ح 2. (*)

[ 496 ]

إثم عليه لمن اتقي ” قال: يرجع لا ذنب له (1). وفي كتاب معاني الاخبار: حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عامر، عن عبد الله بن عامر، عن محمد بن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن عبد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ” قال: يرجع ولا ذنب له. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (2). وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجا لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلا كتب الله له بها حسنة، ومحى عنه سيئة، ورفع له بها درجة، فإذا وقف بعرفات فلو كانت ذنوبه عدد الثرى رجع كما ولدته امة، فقال له: إستانف العمل، يقول الله: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ” (3). عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: ” فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ” الآية قال: أنتم والله هم، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا يثبت على ولاية علي إلا المتقون (4). عن حماد، عنه عليه السلام في قوله: ” لمن اتقى ” الصيد، فإن ابتلي بشئ من الصيد ففداه، فليس له أن ينفر في يومين (5). واتقوا الله: في مجامع اموركم ليعبأ بكم. واعلموا أنكم إليه تحشرون: للجزاء بعد الاحياء. وأصل الحشر الجمع، وهو ضم المتفرق. ومن الناس من يعجبك قوله: يروقك ويعظم في نفسك والتعجب: حيرة تعرض


(1) الكافي: ج 4، ص 337، كتاب الحج، باب ما ينبغي تركه للمحرم من الجدال وغيره، قطعة من حديث 1. (2) معاني الاخبار: ص 294، باب ما اشترط الله عزوجل على الناس في الحج وما شرط لهم، قطعة من حديث 1. (3 و 4 و 5) تفسير العياشي: ج 1، ص 100، ح 283 و 285 و 286. (*)

[ 497 ]

[ وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207) ] الانسان لجهله بسبب المتعجب منه. في الحيوة الدنيا: متعلق بالقول، أي ما يقول في امور الدنيا وأسباب المعاش، وفي معنى الدنيا، فإنها مرادة من إدعاء المحبة وإظهار الايمان. أو بيعجبك، أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة، لما يعتريه من الدهشة والحبسة، أو لانه لا يؤذن له في الكلام. ويشهد الله على ما في قلبه. يحلف ويشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه. وهو ألد الخصام: شديد العداوة والجدال للمسلمين، والخصال: المخاصمة، و يجوز ان يكون جمع خصم كصعب وصعاب، بمعنى أشد الخصوم خصومة. قيل: نزلت في الاخنس بن شريق الثقفي، وكان حسن المنظر، حلو المنطق، يوالي رسول الله صلى الله عليه وآله ويدعي الاسلام، وقيل: في المنافقين كلهم (1). وإذا تولى: أدبر وانصرف عنك، وقيل: إذا غلب وصار واليا. سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل: كما فعل الاخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والاتلاف، أو بالظلم حتى يمنع الله بسوء منهم القطر، فيهلك الحرث والنسل.


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 148. (*)

[ 498 ]

والله لا يحب الفساد: لا يرتضيه، فاحذروا غضبه عليه. وفي تفسير العياشي، عن الحسين بن بشار قال: سألت أبا الحسن عليه السلام، عن قول الله ” ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ” قال: فلان وفلان ” و يهلك الحرث والنسل ” النسل هم الذرية والحرث الزرع (1). عن سعد الاسكاف: عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله يقول في كتابه ” وهو ألد الخصام ” بل هم يختصمون قال: قلت: وما الفرق ؟ قال: الخصومة (2). عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قال: سألتهما عن قوله ” و إذا تولى سعى في الارض ” إلى آخر الآية، فقال: النسل: الولد، والحرث: الارض (3). وقال أبو عبد الله عليه السلام: الحرث: الذرية (4). وفي روضة الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن محمد بن سليمان الازدي عن أبي الجارود، عن أبي إسحاق، عن أمير المؤمنين عليه السلام ” وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ” بظلمه وسوء سريرته ” والله لا يحب الفساد ” (5). في مجمع البيان: روي عن الصادق عليه السلام إن الحرث في هذا الموضع الدين، والنسل: الناس (6). وفي تفسير علي بن إبراهيم قال: الحرث في هذا الموضع الدين، والنسل: الناس و نزلت في الثاني، وقيل في معاوية (7). وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم: حملته الانفة على الاثم وألزمته إياه،


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 100، ح 287. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 101، ح 291 وفيه (قلت ما ألد ؟ قال: شديد الخصومة). (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 100، ح 288. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 101، ح 289. (5) الكافي: ج 8، ص 289، ح 435. (6) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 300، ذيل الآية 205، من سورة البقرة. (7) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 71. (*)

[ 499 ]

من قولك: أخذته بكذا حملته عليه. فحسبه جهنم: كفته جزاء وعذابا. وجهنم علم لدار العقاب، غير منصرف للتأنيث والعلمية، وهو في الاصل مرادف للنار، وقيل: معرب. ولبئس المهاد: جواب قسم مقدر، والمخصوص بالذم محذوف، للعلم به، و ” المهاد ” الفراش وقيل: ما يوطأ للجنب. ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله: طلبا لرضاه. روى الثعلبي في تفسيره قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وآله الهجرة خلف عليا عليه السلام لقضاء ديونه ورد الودايع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال له: يا علي أتشح ببردي الحضرمي، ثم نم على فراشي، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله. ففعل ما أمره به، فأوحى الله عزوجل إلى جبرئيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله عزوجل إليهما، ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الارض، فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل يقول: بخ بخ من مثلك يا علي بن أبي طالب، يباهي الله بك ملائكته، فأنزل الله عزوجل على رسوله صلى الله عليه وآله، وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام ” ومن الناس من يشري ” الآية (1). وروى أخطب خوارزم حديثا يرفعه بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نزل علي جبرئيل عليه السلام صبيحة يوم الغار فقلت: حبيبي جبرئيل مالي أراك فرحا مستبشرا فقال: يا محمد وكيف لا أكون كذلك وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام امتك علي بن أبي طالب، فقلت: وبماذا أكرمه الله ؟ قال: باهى الله بعبادته البارحة ملائكته،


(1) تفسير البرهان: ج 1، ص 207، ح 1، نقلا عن تفسير الثعلبي، مع اختلاف يسير. (*)

[ 500 ]

وحملة عرشه وقال: ملائكتي انظروا إلى حجتي في أرضي على عبادي بعد نبيي وقد بذل نفسه وعفر خده في التراب تواضعا لعظمتي، اشهدكم بأنه إمام خلقي ومولى بريتى (1). وفي أمالي شيخ الطائفة رحمه الله: بإسناده إلى حكيم بن جبير، عن علي بن الحسين صلوات الله عليه في قول الله عزوجل: ” ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله ” قال: نزلت في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله (2). وبإسناده إلى سعيد بن أوس قال: كان أبو عمرو بن العلا إذا قرء ” ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله ” قال: كرم الله عليا عليه السلام فيه نزلت هذه الآية (3). وبإسناده إلى أنس بن مالك قال: لما توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الغار ومعه أبو بكر أمر النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام أن ينام على فراشه ويتوشح ببردته، فبات علي عليه السلام موطنا نفسه على القتل، وجاءت رجال قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما أرادوا أن يضعوا عليه أسيافهم، لا يشكون أنه محمد صلى الله عليه وآله فقالوا: أيقظوه ليجد ألم القتل ويرى السيوف تأخذه فلما أيقظوه فرأوه عليا تركوه، فتفرقوا في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله، فأنزل الله عزوجل ” ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد ” (4) وفي تفسير علي بن إبراهيم قوله: ” ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ” قال: ذاك أمير المؤمنين عليه السلام، ومعنى ” يشري نفسه ” يبذلها (5). وفي مجمع البيان: روى السدي، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في


(1) المناقب للخوارزمي: ج 1، ص 288، الفصل التاسع عشر، في فضائل له شتى، وليس فيه كلمة (الغار) ولا (بذل نفسه). (2 و 3 و 4) الامالي للطوسي: ج 2، ص 61، (الجزء السادس عشر). (5) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 71، في تفسيره للآية الشريفة. (*)

[ 501 ]

علي بن أبي طالب عليه السلام حين هرب النبي صلى الله عليه وآله من المشركين إلى الغار ونام علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله، ونزلت الآية بين مكة والمدينة (1). وروي أنه لما نام على فراشه قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، و جبرائيل ينادي بخ بخ من مثلك يا علي بن أبي طالب يباهي الله تعالى الملائكة بك (2). وما روي عن علي عليه السلام: من أن المراد بالآية: الرجل يقتل بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر (3). فلا ينافي ما سبق من الاخبار، لان ما ذكر في الاخبار سبب نزوله أولا، ثم جرى فيمن يشاركه في بعض أوصافه ممن ذكر في هذا الخبر. وقد روي في كتاب الخصال عن الحسن بن علي الديلمي مولى الرضا عليه السلام قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: من حج بثلاثة نفر من المؤمنين فقد اشترى نفسه من الله عزوجل بالثمن ولم يسأله من أين كسب ماله من حلال أو حرام (4). والله رءوف بالعباد: حيث أرشدهم على مثل هذا الشراء، ويجازيهم عليه الجزاء. وورد في تفسير الامام أبي محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما قال عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: معاشر عباد الله عليكم بخدمة من أكرمه الله بالارتضاء واجتباه بالاصطفاء وجعله أفضل أهل الارض والسماء بعد محمد صلى الله عليه وآله سيد الانبياء علي بن أبي طالب وبموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وقضاء حقوق إخوانكم الذين هم في موالاته ومعاداة أعدائه شركائكم، فإن رعاية علي أحسن من رعاية هؤلاء التجار الخارجين بصاحبكم الذي ذكرتموه


(1 و 2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 301، في سبب نزول الآية 207. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 301، في سبب نزول الآية 207. (4) الخصال: ص 118، باب الثلاثة، ح 103. (*)

[ 502 ]

إلى الصين الذي عرضوه للفناء وأعانوه بالشراء، أما إن شيعة علي من يأتي يوم القيامة وقد وضع له في كفة ميزانه من الآثام ما هو أعظم من الجبال الرواسي والبحار السيارة، يقول الخلائق: قد هلك هذا العبد، فلا يشكون أنه من الهالكين وفي عذاب الله من الخالدين، فيأتيه النداء من قبل الله تعالى عزوجل، أيها العبد الجاني هذه الذنوب الموبقات فهل لك بازائها حسنات تكافيها، فتدخل جنة الله برحمة الله، أو تزيد عليها فتدخلها بوعد الله ؟ فيقول العبد: لا أدري، فيقول منادي ربنا عزوجل: فإن ربي يقول: ناد في عرصات القيامة: ألا وإني فلان بن فلان من أهل بلد كذا وكذا وقرية كذا وكذا، قد رهنت بسيئاتي كأمثال الجبال والبحار ولا حسنات لي بازائها، فأي أهل هذا المحشر كان لي عنده يدا وعارفة فليغثني بمجازاتي عنها، فهذا أوان شدة حاجتي إليها، فينادي الرجل بذلك، فأول من يجيبه علي بن أبي طالب عليه السلام: لبيك لبيك أيها الممتحن في محبتي المظلوم بعدواتي. ثم يأتي هو ومعه عدد كبير وجم غفير، وإن كانوا أقل عددا من خصمائه الذين لهم قبله الظلامات. فيقول ذلك العدد: يا أمير المؤمنين نحن إخوانه المؤمنون وقد كان بنا بارا ولنا مكرما، وفي معاشرته إيانا مع كثرة إحسانه إلينا متواضعا، وقد بذلنا له عن جميع طاعتنا وبذلناها له، فيقول علي عليه السلام فبماذا تدخلون جنة ربكم ؟ فيقولون: برحمة الله الواسعة التي لا يعدمها من والاك ووالى وليك يا أخا رسول الله، فيأتي النداء من قبل الله تعالى يا أخا رسول الله هؤلاء إخوانه المؤمنون قد بذلوا له، فأنت ماذا تبذل له، فإني أنا الحكم، ما بيني وبينه من الذنوب فقد غفرتها له بموالاته إياك، وما بينه وبين عبادي من الظلامات، فلا بد من فصل الحكم بينه وبينهم، فيقول علي عليه السلام: يا رب أفعل ما تأمرني، فيقول الله تعالى: يا علي أضمن لخصمائه تعويضهم عن ظلاماتهم قبله، فيضمن لهم علي عليه السلام ذلك، ويقول: اقترحوا علي ما شئتم اعطيكم عوضا عن ظلاماتكم، فيقولون: يا أخا رسول الله تجعل لنا بازاء ظلاماتنا قبله ثواب نفس من أنفاسك ليلة بيتوتك على فراش محمد


[ 503 ]

[ يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوت الشيطن إنه لكم عدو مبين (208) ] رسول الله صلى الله عليه وآله، فيقول علي عليه السلام: قد وهبت ذلك لكم، فيقول الله عزوجل فانظروا عبادي الآن إلى ما نلتموه من علي فداء لصاحبه من ظلاماتكم ويظهر لهم ثواب نفس واحد في الجنان من عجائب قصورها وخيراتها، فيكون من ذلك ما يرضي الله عزوجل به خصماء أولئك المؤمنين ثم يريهم بعد ذلك من الدرجات والمنازل ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيقولون: يا رب هل بقي من جنتك شئ، إذا كان هذا كله لنا فأين محل سائر عبادك المؤمنين والانبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ويخيل إليهم عند ذلك أن الجنة بأسرها قد جعلت لهم، فيأتي النداء من قبل الله تعالى يا عبادي: هذا ثواب نفس من أنفاس علي الذي اقترحتموه عليه جعلته لكم، فخذوه وانظروا فيبصرونهم، وهذا المؤمن الذي عوض علي عليه السلام إلى تلك الجنان، ثم يرون ما يضيفه الله عزوجل إلى ممالك علي عليه السلام في الجنان ما هو أضعاف ما بذله عن وليه الموالي له مما شاء الله عزوجل من الاضعاف التي لا يعرفها غيره، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ” (1) المعدة لمخالفي أخي ووصيي علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2). * * *


(1) سورة الصافات: الآية 63. (2) تفسير الامام العسكري عليه السلام: ص 48، في تفسير قوله تعالى ” اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى “. (*)

[ 504 ]

يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة: بالكسر والفتح، الاستسلام والطاعة، ولذلك يطلق في الصلح والاسلام، فتحه ابن كثير والنافع والكسائي، والباقون كسروه (1). و ” كافة ” اسم للجملة، لانها تكف الاجزاء عن التفرق، حال من الضمير، أو ” السلم ” لانها تؤنث كالحرب (2) والمراد بها ولاية أمير المؤمنين والائمة عليهم السلام كما سيجئ، والخطاب للمؤمنين بالله والرسول. ولا تتبعوا خطوت الشيطن. بالتفرق والتفريق. إنه لكم عدو مبين: ظاهر العداوة. في اصول الكافي: الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي الوشاء، عن مثنى الحناط، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: ” يا ايها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ” قال: في ولايتنا (3). وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ادخلوا في السلم كافة ” قال: في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام (4). وفي أمالي شيخ الطائفة: باسناده إلى محمد بن إبراهيم قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول في قوله تعالى: ” ادخلوا في السلم كافة ” قال: في ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ” ولا تتبعوا خطوات الشيطان ” قال: لا تتبعوا غيره (5). وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ” يا ايها الذين آمنوا ادخلو في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ” قال: أتدرى ما السلم ؟ قال: قلت: لا أعلم قال: ولاية على والائمة الاوصياء من بعده، قال: و ” خطوات


(1 و 2) تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 111. (3) الكافي: ج 1، ص 417، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 29. (4) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 71. (5) أمالي الشيخ الطوسي: ج 1، ص 306. (*)

[ 505 ]

الشيطان ” والله ولاية فلان وفلان (1). عن زرارة، وحمران، ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام قالوا: سألناهما عن قول الله ” يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ” قالوا: امروا بمعرفتنا (2). عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ” قال: السلم هم آل محمد صلى الله عليه وآله، أمر الله بالدخول فيه (3). عن أبي بكر الكلبي، عن أبي جعفر، عن أبيه عليهما السلام في قوله: ” ادخلوا في السلم كافة “، هو ولايتنا (4). عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذكر عترة خاتم النبيين والمرسلين، وهم باب السلم فادخلوا في السلم ولا تتبعوا خطوات الشيطان (5) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه في أماليه، عن محمد بن القطان بإسناده، عن علي بن بلال، عن الامام علي بن موسى، عن موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن محمد بن علي، عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي عليهم السلام، عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن اللوح، عن القلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: ولاية علي بن ابي طالب حصني ومن دخل حصني أمن من ناري (6).


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 102، ح 294. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 102، ح 295. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 102، ح 296. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 102، ح 297. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 102، قطعة من حديث 300 (6) امالي الصدوق: ص 195، ح 9. وفيه احمد بن الحسن القطان. (*)

[ 506 ]

[ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينت فاعلموا أن الله عزيز حكيم (209) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملئكة وقضى الامر وإلى الله ترجع الامور (210) ] فإن زللتم: عن الدخول في السلم. من بعد ما جاءتكم البينت: الآيات والحجج على أنه الحق. فاعلموا أن الله عزيز: لا يعجزه الانتقام. حكيم: لا ينتقم إلا على الحق. هل ينظرون: استفهام في معنى النفي، ولذلك جاء بعده. إلا أن يأتيهم الله: أي يأتيهم أمره، أو بأسه، أو يأتيهم الله بأمره، أو بأسه، فحذف المأتي به للقرينة. في ظلل من الغمام: السحاب الابيض، وانما يأتيهم العذاب فيه، لانه مظنة الرحمة، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع، لان الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. والملئكة: فإنهم الواسطة في إتيان أمره والآتون على الحقيقة ببأسه وقرئ بالجر عطفا على ظلل، أو الغمام. وفي عيون الاخبار: محمد بن أحمد بن إبراهيم المعاذي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي الهمداني قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه قال: سألت الرضا عليه السلام، إلى أن قال: وسألته عن قول الله تعالى: ” هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ” قال: يقول: هل ينظرون


[ 507 ]

إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل الغمام، وهكذا نزلت (1). وأما ما روي عن جابر قال: قال أبو جعفر عليه السلام في قوله تعالى: ” في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الامر ” قال: ينزل في سبع قباب من نور ولا يعلم في أيها هو، حين ينزل في ظهر الكوفة، فهذا حين ينزل (2). فيمكن أن يكون المراد منه بيان كيفية نزول أمره حينئذ، ويكون فاعل ينزل الملك الموكل بالامر. وقضى الامر: أتم أمر اهلاكهم وفرغ منه. وضع الماضي موضع المستقبل، لدنوه وتيقن وقوعه وقرئ وقضاء الامر عطفا على الملائكة. وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل، وفي آخره: وأما قضاء الامر، فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر (3). وإلى الله ترجع الامور: قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، على أنه من الرجع، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، و قرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول (4). علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن عمرو بن أبي شيبة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: إبتداء منه، أن الله إذا بدا له أن يبين خلقه ويجمعهم لما لابد منه، أمر مناديا ينادي، فاجتمع الجن والانس في أسرع من طرفة عين، ثم أذن لسماء الدنيا فتنزل وكان من وراء الناس، وأذن للسماء الثانية فتنزل وهي ضعف التي تليها، فإذا رآها أهل سماء الدنيا، قالوا: جاء ربنا ؟ قالوا: لا، وهو آت يعني أمره حتى تنزل كل سماء يكون كل واحدة منها من وراء الاخرى وهي ضعف التي يليها، ثم ينزل أمر الله في ظلل من الغمام والملائكة


(1) عيون اخبار الرضا: ج 1، ص 125، باب 11، ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار: في التوحيد، قطعة من حديث 19. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 103، ح 301. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 103، ح 303. (4) تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 112. (*)

[ 508 ]

[ سل بنى إسرءيل كم ءاتينهم من ءاية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (211) زين للذين كفروا الحيوة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة والله يرزق من يشاء بغير حساب (212) ] وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور، ثم يأمر الله مناديا ينادي ” يا معشر الجن والانس إن إستطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ” (1) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. سل بني إسرءيل: أمر للرسول، أو لكل أحد، والمراد بهذا السؤال تقريعهم. كم ءاتينهم من ءاية بينة: معجزة ظاهرة، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب، على أيدي الانبياء، و ” كم ” خبرية، أو إستفهامية مقررة، ومحلها النصب على المفعولية، أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر، وانه مميزها، و ” من ” للفصل. ومن يبدل نعمة الله: أي آياته فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم بجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس، أو بالتحريف والتأويل الزائغ، ومن جملة نعم الله العظمى ولاية أمير المؤمنين والائمة الاوصياء من بعده. من بعد ما جاءته: من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها. فإن الله شديد العقاب: فيعاقبه أشد عقوبة، لانه ارتكب أشد جريمة. وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين بولاية الشياطين على ملك سليمان. ويقرء أيضا: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية


(1) تفسير البرهان: ج 1، ص 209، ذيل الآية 210، ح 5. (*)

[ 509 ]

بينة فمنهم من آمن ومنهم من جحد، ومنهم من اقر ومنهم من بدل، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (1). زين للذين كفروا الحيوة الدنيا: حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها، وفي وصفهم بالكفر إشعار بأن لذلك الوصف دخلا في التزيين، وهو كذلك، لانهم بسبب رين الكفر وقساوته صارت طبايعهم أميل إلى ما تشتهيه القوة الحيوانية وغفلوا عن المثوبات الاخروية. ويسخرون من الذين ءامنوا: يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب، أي يسترذلونهم، أو يستهزؤن بهم على رفضهم الدنيا واقبالهم على العقبى. و ” من ” للابتداء، كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم. والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة: لانهم في أعلى عليين، وهم في أسفل السافلين، أو لانهم في كرامة وهم في مذلة، أو لانهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا. وإنما قال: ” والذين اتقوا ” بعد قوله: ” والذين آمنوا ” ليدل على أنهم متقون، وأن استعلامهم للتقوى. والله يرزق من يشاء: في الدارين. بغير حساب: بغير تقدير، فيوسع في الدنيا إستدراجا تارة، وإبتلاء اخرى. * * *


(1) الكافي: ج 8، ص 290، ح 440. (*)

[ 510 ]

[ كان الناس أمة وحدة فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينت بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم (213) ] كان الناس أمة وحدة: كلهم ضلالا قبل نوح. فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين: عن كعب: الذي علمته من عدد الانبياء، مائة وأربعة وعشرون ألفا، والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكور في القرآن بإسم العلم ثمانية وعشرون (1). وأنزل معهم الكتب: يريد به الجنس، ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم وإنما يأخذون بكتاب من قبلهم. بالحق: حال من الكتاب، أي متلبسا بالحق شاهرا به. ليحكم بين الناس: أي الله، أو النبي المبعوث، أو الكتاب. فيما اختلفوا فيه: أي فيما التبس عليهم وتخلفوا فيه عن الحق. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه: أي ما اختلف في الكتاب، أو الحق بعد إتيانه إلا الذين اوتوه، وصار مبدء الخلاف ناشئا عنهم وتبعهم فيه من بعدهم، أي عكسوا الامر فجعلوا ما أنزل مزيحا للالتباس، سببا لاستحكامه.


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 113. (*)

[ 511 ]

من بعد ما جاءتهم البينت بغيا بينهم: حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه: أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف من الحق: بيان لما أختلفوا فيه. بإذنه: بأمره ولطفه. والله يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم: لا يضل سالكه. في روضة الكافي: حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن عديس، عن يعقوب بن شعيب أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: ” كان الناس امة واحدة ” فقال: كان قبل نوح امة ضلال فبدا لله، فبعث الله المرسلين، وليس كما يقولون، ولم يزل وكذبوا (1). وفي تفسير العياشي: عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: ” كان الناس امة واحدة ” قال: كان هذا قبل نوح امة واحدة، فبدا لله، فأرسل الرسل قبل نوح، قلت: أعلى هدى كانوا أم على ضلالة ؟ قال: بل كانوا ضلالا، لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين (2). وعن مسعدة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: ” كان الناس امة واحدة فبعث النبيين مبشرين ومنذرين ” فقال: كان ذلك قبل نوح، قيل: فعلى هدى كانوا ؟ قال: لا، كانوا ضلالا، وذلك أنه لما انقرض آدم وصالح ذريته، بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته، و ذلك أن قابيل توعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فسار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالا حتى لم يبق على الارض معهم إلا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله، فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر، وكذبوا، إنما هو شئ يحكم الله به في كل


(1) الكافي: ج 8، ص 82، ح 40، وتمام الحديث ” يفرق الله في ليلة القدر ما كان من شدة أو رخاء أو مطر، بقدر ما يشاء الله عزوجل أن يقدر إلى مثلها من قابل “. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 104، ح 306. (*)

[ 512 ]

[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214) يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللولدين والاقربين واليتمى والمسكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215) ] عام، ثم قرأ: ” فيها يفرق كل أمر حكيم ” (1) فيحكم الله تبارك وتعالى ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت: أعلى ضلال كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول إبراهيم: ” لئن لم يهدني ربي لا كونن من القوم الضالين ” (2) أي ناسيا للميثاق (3). وأما ما رواه في مجمع البيان: عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين (4). فالمراد من الضال: الكافر، والمراد به في الاخبار السابقة الذي على الفطرة لم يهتد إلى الحق بالبرهان فلا منافاة. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة: خاطب به النبي والمؤمنين بعد ما ذكر ما ذكر اختلاف الامم على الانبياء بعد مجيئ الآيات تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفيهم.


(1) سورة الدخان: الآية 4. (2) سورة الانعام: الآية 78. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 104، ح 309. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2 ص 307، في ذيل الآية 213. (*)

[ 513 ]

و (ام) منقطعة، ومعناها الانكار. ولما يأتكم: ولم يأتكم، قيل: وأصل ” لما ” لم، زيدت عليها ” ما ” وفيها توقع، و لذلك جعل مقابل ” قد “. مثل الذين خلوا من قبلكم: أي حالهم التي هي مثل في الشدة. مستهم البأساء والضراء: بيان له على الاستيناف. وزلزلوا: أي ازعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد. حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه: لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر. وقرئ نافع (يقول) بالرفع على أنها حكاية حال ماضية، كقولك: مرض فلان حتى لا يرجونه (1). متى نصر الله: استبطاء له، لتأخره. ألا إن نصر الله قريب: استيناف على إرادة القول، أي فقيل لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. في الخرائج والجرائح: عن زين العابدين، عن آبائه عليهم السلام قال: فبما تمدون أعينكم، ألستم آمنين ؟ لقد كان من قبلكم ممن هو على ما أنتم عليه يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب، ثم تلا ” أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم ” الآية (2). وفي روضة الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سيف، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي بكر بن محمد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقرأ: ” وزلزلوا ثم زلزلوا حتى يقول الرسول ” (3). يسئلونك ماذا ينفقون: عن ابن عباس أن عمرو بن الجموح الانصاري


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114. (2) الخرائج والجرائح: فصول في العلامات التي تكون قبل المهدي عليه السلام، ص 196، فصل عن زين العابدين عليه السلام. (3) الكافي: ج 8، ص 290، ح 439. (*)

[ 514 ]

[ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216) ] كان هما (1) ذا مال عظيم، فقال: يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا ؟ وأين نضعها ؟ فنزلت (2). قل ما أنفقتم من خير فللولدين والاقربين واليتمى والمسكين وابن السبيل: سأل عن المنفق فاجيب ببيان المصرف، لانه أهم، فان إعتداد النفقة باعتباره، ولانه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكورا في الآية ذكر بعض المصارف، ثم عمم بقوله: وما تفعلوا من خير: ” ما ” شرطية. فإن الله به عليم: جوابه، أي إن تفعلوا خيرا فإن الله يعلمه ويجازي عليه. كتب عليكم القتال وهو كره لكم: مكروه طبعا، وهو مصدر، نعت به للمبالغة، أو فعل بمعنى المفعول، كالخبر وقرء بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف، أو بمعنى الاكراه على المجاز. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم: حفت الجنة بالمكاره. وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم: حفت النار بالشهوات. والله يعلم: ما هو خير لكم. وأنتم لا تعلمون: ذلك، أو لستم من أهل العلم.


(1) الهم بالكسر والتشديد: الشيخ الكبير، والمرأة همة. مجمع البحرين: ج 6، ص 189، في لغة همم. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114. (*)

[ 515 ]

[ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد – عن سبيل – الله – وكفر به – والمسجد – الحرام وإخراج – أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا والاخرة وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (217) ] يسئلونك عن الشهر الحرام: قال البيضاوي: روي أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادي الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصد عيرا لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين و استاقوا العير وفيها تجارة الطائف وكان ذلك في غرة رجب وهم يظنونه من جمادي الآخرة، فقالت قريش إستحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس إلى معايشهم وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا ورد رسول الله صلى الله عليه وآله العير والاسارى (1). وعن ابن عباس: لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله الغنيمة، وهى أول غنيمة في الاسلام، والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا وتعييرا، وقيل: أصحاب السرية (2). قتال فيه: بدل اشتمال، وقرئ عن قتال. قل قتال فيه كبير: أي كبير لو لم يكن يعارضه ما هو أكبر منه.


(1 و 2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 114. (*)

[ 516 ]

[ إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218) ] وصد عن سبيل الله: أي المنع والصرف عن الاسلام وما يوصل إلى الله. وكفر به: أي الله. والمسجد الحرام: أي وصد عن المسجد الحرام. وإخراج أهله منه: وهم النبي والمؤمنون. أكبر عند الله: مما فعلته السرية خطأ بناء على الظن. وهو خبر عن الاشياء الاربعة المعدودة، وإفراده بناء على تنكيره. والفتنة أكبر من القتل: أي ما ارتكبوه من الاخراج والشرك افظع مما ارتكبوه من قتل الحضرمي. ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم: إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم. و (حتى) للتعليل. إن استطعوا: وهو استبعاد لاستطاعتهم، كقول الواثق بقوته على قرينه: ان ظفرت بي فلا تبق علي، وإيذان بأنهم لا يردونهم. ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم: وقرئ حبطت بالفتح وهو لغة فيه. في الدنيا: لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للاسلام من الفوائد الدنيوية. والاخرة: بسقوط الثواب. وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون: كسائر الكفرة. إن الذين ءامنوا: قيل: نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجر.


[ 517 ]

[ يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنفع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الايت لعلكم تتفكرون (219) ] والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله: كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، فكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء. أولئك يرجون رحمت الله: ثوابه، وأثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم. والله غفور: للكبير الذي عارضه الكبر. رحيم: بإجزال الاجر والثواب. يسئلونك عن الخمر والميسر: الخمر في الاصل: مصدر خمره إذا ستره سمي به لانه يخمر العقل. في مجمع البيان: الخمر كل شراب مسكر مخالط للعقل مغط عليه، وما أسكر كثيره فقليله خمر، هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا (1). والميسر أيضا مصدر كالموعد، سمي به القمار، لانه أخذ مال الغير ميسرا، وسلب يساره. وفي تفسير العياشي: عن حمدويه، عن محمد بن عيسى قال: سمعته يقول: كتب إليه إبراهيم بن عنبسه، يعني إلى علي بن محمد عليهم السلام: إن رأى سيدي و مولاي أن يخبرني عن الخمر والميسر، الآية فما الميسر جعلت فداك ؟، فكتب: كل ما


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 316، في ذيل الآية 219، من سورة البقرة ” يسألونك عن الخمر والميسر الآية “. (*)

[ 518 ]

قومر به فهو الميسر، وكل مسكر حرام (1). وعن عامر بن السمط، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: الخمر من ستة أشياء: التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل والذرة (2). وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن عليه السلام قال: النرد والشطرنج والاربعة عشر بمنزلة واحدة وكل ما قومر عليه فهو ميسر (3). عدة من أصحابنا: عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الشطرنج والنرد هما الميسر (4). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الملك القمي قال: كنت أنا وإدريس أخي عند أبي عبد الله عليه السلام فقال إدريس: جعلنا الله فداك، ما الميسر ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: هي الشطرنج، قال: فقلت: أما أنهم يقولون: إنها النرد، قال: والنرد أيضا (5). قال البيضاوي: روي أنه نزل بمكة قوله: ” ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ” (6) فأخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمر ومعاذا في نفر من الصحابة قالوا: أفتنا يا رسول الله في الخمر ؟ فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمان بن عوف ناسا منهم فشربوا فسكروا، فأم أحدهم فقرأ ” أعبد ما تعبدون ” فنزلت: ” لا تقربوا الصلاة و


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 106، الحديث 311، وفي الهامش بعد قوله: فما الميسر ؟ ما لفظه: هذا هو الظاهر الموافق لنسخة الوسائل، ولكن في نسختي الاصل والبرهان (فما المنفعة) عوض (فما الميسر). (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 106، ح 313. (3) الكافي: ج 6، ص 435، كتاب الاشربة، باب النرد والشطرنج، ح 1. (4) الكافي: ج 6، ص 435، كتاب الاشربة، باب النرد والشطرنج، ح 3. (5) الكافي: ج 6، ص 436، كتاب الاشربة، باب النرد والشطرنج، ح 8. (6) سورة النحل: الآية 68. (*)

[ 519 ]

أنتم سكارى ” (1) فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الانصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت ” إنما الخمر والميسر ” إلى قوله: ” فهل أنتم منتهون ” (2) فقال عمر: إنتهينا يا رب (3). وهذا النقل منه يدل على عدم حرمة الخمر في أول الاسلام، وعدم إنتهاء عمر عن الخمر قبل نزول ” إنما الخمر ” إلى آخره. والصحيح أن الخمر كان حراما، وهذا أول آية نزلت في التحريم. روي في الكافي: عن بعض أصحابنا مرسلا قال: إن أول ما نزل في تحريم الخمر قول الله عزوجل: ” يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ” فلما نزلت الآية أحس القوم بتحريم الخمر وتحريم الميسر وعلموا أن الاثم مما ينبغي إجتنابه ولا يحمل الله عزوجل عليهم من كل طريق، لانه قال: ” ومنافع للناس ” ثم أنزل عزوجل آية اخرى (4) الحديث. ويدل عليه أيضا الاخبار السابقة. وقوله قل فيهما إثم كبير: من حيث أنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور به وإرتكاب المنهي عنه. ومنفع للناس: من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان. وإثمهما أكبر من نفعهما: أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما، والمفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل. وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال:


(1) سورة النساء: الآية 43. (2) سورة المائدة: الآية 94 – 95. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 116، في تفسير الآية 220. (4) الكافي: ج 6، ص 406، كتاب الاشربة، باب تحريم الخمر في الكتاب، قطعة من حديث 2 والحديث طويل. (*)

[ 520 ]

سمعت الرضا عليه السلام يقول: ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء (1). ويسئلونك ماذا ينفقون: قيل: سائله عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف وثانيا عن كيفية الانفاق. قل العفو: أي الوسط، لا إقتار ولا إسراف. والعفو ضد الجهد ومنه يقال للارض السهلة: العفو. في الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي بصير، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل ” ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ” قال: العفو الوسط (2). وفي تفسير علي بن ابراهيم: قوله: ” ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ” قال: لا إقتار ولا إسراف (3). وفي مجمع البيان: ” قل العفو ” فيه أقوال: إلى قوله: ” وثالثها “: أن العفو ما فضل عن قوت السنة. عن الباقر عليه السلام قال: ونسخ ذلك بآية الزكاة (4). كذلك: أي مثل ما بين أن العفو أصلح، أو ما ذكر من الاحكام. والكاف في موضع النصب: صفة بمصدر محذوف، أي تبيينا مثل التبيين، ووحد العلامة والمخاطب جمع، على تأويل القبيل والجمع. يبين الله لكم الايت: الدالة على ما فيه إرشادكم. لعلكم تتفكرون: في الدلائل والاحكام.


(1) الكافي: ج 1، ص 148، كتاب التوحيد، باب البداء، ح 15. (2) الكافي: ج 4، ص 52، كتاب الزكاة، باب فضل القصد، ح 3. (3) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 72، في تفسير الآية 219، من سورة البقرة. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 316، في ذيل الآية 219. (*)

[ 521 ]

[ في الدنيا والاخرة ويسئلونك عن اليتمى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخونكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم (220) ] في الدنيا والاخرة: في أمور الدارين فتأخذون بالاصلح وتتركون المضر. ويسئلونك عن اليتمى: في تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن صفوان، عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه لما انزلت ” إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ” (1) أخرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله في إخراجهم، فأنزل الله تبارك وتعالى ” ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وأن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح “. وفي مجمع البيان عند قوله: ” وآتوا اليتامى أموالهم ” الآية (2) روى أنه لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله سبحانه وتعالى: ” ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم الآية ” عن الحسن والمروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام) (3). قل إصلاح لهم خير: أي مداخلتهم لاصلاحهم خير من مجانبتهم. قال الصادق عليه السلام: لا بأس بأن تخالط طعامك بطعام اليتيم، فان الصغير يوشك أن يأكل كما يأكل الكبير، وأما الكسوة وغيره فيحسب على كل


(1) سورة النساء: الآية 10. (2) سورة النساء: الآية 3. (3) مجمع البيان: ج 3 – 4، ص 4، ذيل الآية 2، من سورة النساء. (*)

[ 522 ]

رأس صغير وكبير وكم يحتاج إليه (1). وإن تخالطوهم فإخونكم: حث على المخالطة، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الاخ أن يخالط الاخ وقيل: المراد بالمخالطة، المصاهرة. والله يعلم المفسد من المصلح: وعيدو وعد لمن خالطهم لا فساد واصلاح، اي يعلم أمره فيجازيه عليه. وفي الكافي: عثمان، عن سماعة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل ” وإن تخالطوهم فاخوانكم ” قال: يعني اليتامى، إذا كان الرجل يلي الايتام في حجره فليخرج من ماله على قدر ما يخرج كل إنسان منهم فيخالطهم، و يأكلون جميعا، ولا يرزئن (2) من أموالهم شيئا، إنما هي النار (3). أحمد بن محمد، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: أرأيت قول الله عزوجل ” وإن تخالطوهم فاخوانكم ” قال: تخرج من أموالهم بقدر ما يكفيهم وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثم تنفقه قلت: أرأيت إن كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم أعلا كسوة من بعضهم، وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعا، فقال: أما الكسوة فعلى كل إنسان منهم ثمن كسوته، وأما الطعام فاجعلوه جميعا، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (4) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قيل لابي عبد الله عليه السلام: إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك ؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم، فلا بأس وإن كان فيه ضرر فلا، وقال: ” بل


(1) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 72، في تفسيره لآية 220، من سورة البقرة. (2) رزأه ماله: أصاب من ماله شيئا. لسان العرب: ج 1، ص 85، لغة (رزا). (3) الكافي: ج 5، ص 129، كتاب المعيشة، باب ما يحل لقيم مال اليتيم منه، قطعة من حديث 2. (4) الكافي: ج 5، ص 130، كتاب المعيشة، باب ما يحل لقيم مال اليتيم منه، قطعة من حديث 5. (*)

[ 523 ]

الانسان على نفسه بصيرة ” فأنتم لا يخفى عليكم، وقد قال الله عزوجل: ” وإن تخالطوهم فاخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح ” (1). وفي تفسير العياشي: عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله: إن أخي هلك وترك أيتاما ولهم ماشية فما يحل لي منها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن كنت تليط (2) حوضها وترد ناديتها (3) وتقوم على رعيتها فاشرب من ألبانها غير مجتهد (4) للحلب ولا ضار بالولد والله يعلم المفسد من المصلح (5). عن علي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله في اليتامى ” و إن تخالطوهم فاخوانكم ” قال: يكون لهم التمر واللبن ويكون لك مثله على قدر ما يكفيك ويكفيهم، ولا يخفى على الله المفسد من المصلح (6). عنه، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له: يكون لليتيم عندي الشئ، وهو في حجري أنفق عليه منه، وربما أصيب [ اصبت ] مما يكون له من الطعام وما يكون مني إليه أكثر، فقال: لا بأس بذلك والله يعلم المفسد من المصلح (7). ولو شاء الله لاعنتكم: أي لو شاء الله إعناتكم لاعنتكم، أي كلفكم ما يشق عليكم، من العنت، وهي المشقة، ولم يجوز لكم مداخلتهم. إن الله عزيز: غالب يقدر على الاعنات.


(1) الكافي: ج 5، ص 129، كتاب المعيشة، باب أكل مال اليتيم، ح 4. (2 و 3) لاط الحوض: مدره لئلا ينشف الماء. والنادية: النوق المتفرقة. هامش تفسير العياشي: ج 1، ص 107. (4) أي غير مبالغ في الحلب، ويحتمل أيضا كونه تصحيف (منهك) كما في رواية الطبرسي في كتاب مجمع البيان في سورة النساء، وظاهر نسخة الوسائل أيضا، وهو من نهك الضرع، استوفى جميع ما فيه. هامش تفسير العياشي: ج 1، ص 108. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 107، ح 321. (6) تفسير العياشي: ج 1، ص 108، ح 324. (7) تفسير العياشي: ج 1، ص 108، ح 325. (*)

[ 524 ]

[ ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين ءايته للناس لعلهم يتذكرون (221) ] حكيم: يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة. ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن: أي ولا تتزوجوهن، وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين. روي أنه بعث عليه السلام مرثد بن أبي مرثد الغنوي (1) إلى مكة ليخرج اناسا من المسلمين، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية، فقالت: ألا نخلو ؟ فقال: إن الاسلام حال بيننا، فقالت: لك أن تتزوج بي، فقال: نعم ولكن أستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، فاستأمره، فنزلت (2). والمشركات تعم الكتابيات وغيرهم. وفي مجمع البيان: عند قوله: ” والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب ” روى أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام أنه منسوخ بقوله: ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ” وبقوله: ” ولا تمسكوا بعصم الكوافر ” (3).


(1) مرثد بفتح الميم وسكون الراء بعد ثاء مثلثة ودال مهملة واسم أبيه كناز. تنقيح المقال: ج 3، ص 208، تحت رقم 11626. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 117. (3) سورة الممتحنة: الآية 10. (*)

[ 525 ]

وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، قال: قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام: يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوج نصرانية على مسلمة ؟ قلت: جعلت فداك وما قولي بين يديك ؟ قال: لتقولن: فإن ذلك يعلم به قولي: قلت: لا يجوز تزويج النصرانية على مسلمة ولا غير مسلمة قال: لم ؟ قلت: لقول الله عزوجل ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ” قال: فما تقول في هذة الآية: ” والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ” ؟ (1) قلت: قوله: ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ” نسخت هذه الآية، فتبسم وسكت (2). والمراد بالنكاح العقد الدائم. وروي جواز التمتع باليهودية والنصرانية في من لا يحضره الفقيه، وسأل الحسن التفليسي الرضا عليه السلام يتمتع الرجل من اليهودية والنصرانية، قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: يتمتع من الحرة المؤمنة، وهي أعظم حرمة منهما (3). ولامة مؤمنة خير من مشركة: أي لامرة مؤمنة، حرة كانت أو مملوكة، فإن الناس عبيد الله وإمائه. ولو أعجبتكم: بحسنها وشمائلها، والواو للحال، و ” لو ” بمعنى ” أن ” وهو كثير. ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا: ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا، وهو على عمومه. ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم: تعليل للنهي عن مواصلتهم، و ترغيب في مواصلة المؤمنين. أولئك: إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات.


(1) سورة المائدة: الآية: 7. (2) الكافي: ج 5، ص 357، كتاب النكاح، باب نكاح الذمية، ح 6. (3) الوسائل: ج 14، ص 452، كتاب النكاح، الباب 7، من أبواب المتعة، ح 3. (*)

[ 526 ]

[ ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوبين و يحب المتطهرين (222) ] يدعون إلى النار: إلى الكفر المؤدي إلى النار، فلا يجوز مصاهرتهم. والله: أي أوليائه المؤمنون، حذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه، تفخيما لشأنهم، أو الله: يدعوا: بهذا الكتاب. إلى الجنة والمغفرة: أي أسبابهما من الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما. بإذنه: بتوفيقه وقضائه. ويبين ءايته للناس لعلهم يتذكرون: أي لكي يتذكروا، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر، لما ركز في العقول من نيل الخير ومخالفة الهوى. ويسئلونك عن المحيض: هو مصدر كالمجيئ والمبيت، قيل: ولعله سبحانه إنما ذكر ” يسألونك ” بغير واو ثلاثا، ثم بها ثلاثا، لان السؤالات الاول كانت في أوقات متفرقة، والثلاث الاخيرة كانت في وقت واحد، فلذلك ذكرها بحرف الجمع. في كتاب علل الشرايع: باسناده إلى أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، قال: الحيض من النساء نجاسة رماهن الله بها، قال: وكن النساء من زمن نوح انما تحيض المرأة في كل سنة حيضة حتى خرجن نسوة من حجابهن، وهن سبعماءة إمرأة فانطلقن فلبسن المعصفرات من الثياب وتحلين وتعطرن ثم خرجن فتفرقن في البلاد، فجلسن مع الرجال، وشهدن الاعياد معهم، وجلسن في صفوفهم،


[ 527 ]

فرماهن الله بالحيض عند ذلك في كل شهر أولئك النسوة باعيانهن فسالت دمائهن فخرجن من بين الرجال، وكن يحضن في كل شهر حيضة، قال: فاشغلهن الله تبارك وتعالى بالحيض وكثر شهوتهن، قال: وكان غيرهن من النساء اللواتي لم يفعلن مثل فعلهن يحضن في كل سنة حيضة قال: فتزوج بنو اللاتي يحضن في كل شهر حيضة بنات اللاتي يحضن في كل سنة حيضة، قال: فامتزج القوم فحضن بنات هؤلاء وهؤلاء في كل شهر حيضة، قال: وكثر أولاد اللاتي يحضن في كل شهر حيضة لاستقامة الحيض وقل أولاد اللاتي لا يحضن في السنة إلا حيضة لفساد الدم، قال: وكثر نسل هؤلاء وقل نسل اولئك (1). روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يواكلوها كفعل اليهود والمجوس، واستمر ذلك أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك، فنزلت. قل هو أذى: أي المحيض مستقذر موذ من يقربه. فاعتزلوا النساء في المحيض: أي فاجتنبوا مجامعتهن، وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود وإخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى ومجامعتهن في المحيض. وإنما وصف بأنه ” أذى ” ورتب الحكم عليه بالفاء، إشعارا بأنه العلة. في الكافي: علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله لما أصاب آدم وزوجته الخطيئة [ الحنطة خ ل ] أخرجهما من الجنة وأهبطهما إلى الارض، فأهبط آدم إلى الصفا وأهبطت حواء على المروة، فقال آدم: ما تفرق بيني وبينها إلا أنها لا تحل لي، ولو كانت تحل لي هبطت معي على الصفا، ولكنها حرمت علي من أجل ذلك وفرق بيني وبينها، فمكث آدم معتزلا حواء، فكان يأتيها نهارا، فيتحدث عندها على المروة، فإذا كان الليل وخاف أن تغلبه نفسه يرجع إلى الصفا فيبيت عليه، ولم يكن لآدم انس غيرها، ولذلك سمين النساء، من أجل أن


(1) علل الشرائع: ج 1، ص 290، الباب 215، علة الطمث، ح 2. (*)

[ 528 ]

حواء كانت انسا لآدم، لا يكلمه الله ولا يرسل إليه رسولا (1). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد القلانسي، عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله (2). وفي كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى عذافر الصيرفي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ترى هؤلاء المشوهين ؟ قال: نعم، قال: هؤلاء الذين يأتي آبائهم نسائهم في الطمث (3). ولا تقربوهن حتى يطهرن: تأكيد للحكم، وبيان لغايته. وفي رواية ابن عباس ” يطهرن ” بتشديد الطاء (4) أي يتطهرن، والمراد به إن كان إنقطاع الدم، فالنهي نهي تحريم، وإن كان الغسل بعد الانقطاع فنهي تنزيه، يدل عليه الاخبار. فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله: أي المأتي الذي حلله لكم إن الله يحب التوبين: من الذنوب. ويحب المتطهرين: أي المتنزهين عن الفواحش والاقذار كمجامعة الحائض في كتاب الخصال: عن موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد عليهم السلام أنه قال: سئل أبي عما حرم الله تعالى من الفروج في القرآن وعما حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله في السنة ؟ فقال: الذي حرم الله تعالى من ذلك أربعة وثلاثون وجها، سبعة عشر في القرآن وسبعة عشر في السنة، فأما التي في القرآن فالزنى إلى قوله: والحائض حتى تطهر، لقوله تعالى ” ولا تقربوهن حتى يطهرن ” (5). عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله


(1) الكافي: ج 4، ص 190، كتاب الحج، باب في حج آدم عليه السلام، قطعة من حديث 1. (2) الكافي: ج 4، ص 191، كتاب الحج، باب في حج آدم عليه السلام، قطعة من حديث 2. (3) علل الشرايع: ج 1، ص 82، الباب 75، علة المشوهين في خلقهم، ح 1. (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 118. (5) كتاب الخصال: ص 532، ابواب الثلاثين وما فوقه، الفروج المحرمة في الكتاب والسنة… قطعة من حديث 10. (*)

[ 529 ]

صلى الله عليه وآله: إن الله كره لكم أيتها الامة أربعا وعشرين خصلة ونهاكم عنها، كره لكم العبث في الصلاة، إلى أن قال: وكره للرجل أن يغشي إمرأته وهي حائض، فإن غشيها فخرج الولد مجذوما وأبرصا فلا يلومن إلا نفسه (1). عن بعض أصحابنا قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليهما السلام يوم الاربعاء وهو يحتجم، قلت له: إن أهل الحرمين يروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من احتجم يوم الاربعاء فأصابه بياض فلا يلومن إلا نفسه، فقال: كذبوا، إنما يصيب ذلك من حملته امه في طمث (2). وفي كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى أبي خديجة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان الناس يستنجون بثلاثة أحجار، لانهم كانوا يأكلون البر فيبعرون بعرا، فأكل رجل من الانصار الدبا فلان بطنه واستنجى بالماء، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وآله قال: فجاء الرجل وهو خائف يظن أن يكون قد نزل فيه أمر يسوئه في استنجائه بالماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هل عملت في يومك هذا شيئا ؟ فقال يا رسول الله إني والله ما حملني على الاستنجاء بالماء إلا أني أكلت طعاما فلان بطني، فلم تغن عني الاحجار شيئا فاستنجيت بالماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هنيئا لك، فإن الله عزوجل قد أنزل فيك آية فابشر ” ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” فكنت أنت أول من صنع هذا أول التوابين وأول المتطهرين (3). وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن


(1) كتاب الخصال: ص 520، ابواب العشرين وما فوقه، النهي عن أربع وعشرين خصلة. قطعة من حديث 9. (2) الكافي: ج 8، ص 192، ح 224، ولفظ الحديث: عن شعيب العقرقوفي قال: دخلت على أبي الحسن الاول عليه السلام وهو يحتجم يوم الاربعاء في الحبس، فقلت: إن هذا يوم يقول الناس: إن من احتجم فيه أصابه البرص، فقال: إنما يخاف ذلك من حملته امه في حيضها. (3) علل الشرايع: ج 1، ص 286، الباب 205، العلة التي من أجلها كان الناس يستنجون بثلاثة أحجار والعلة التي من أجلها صاروا يستنجون بالماء، ح 1. (*)

[ 530 ]

زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن محمد بن النعمان الاحول، عن سلام بن المستنير قال: قال أبو جعفر عليه السلام: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه في حديث طويل: ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله، فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله عزوجل ” إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” وقال: ” استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ” (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله يحب المفتن التواب، ومن لا يكون ذلك منه كان أفضل (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا رفعه قال: إن الله عزوجل أعطى التائبين ثلاث خصال، لو أعطى خصلة منها جميع أهل السماوات والارض لنجوا بها، قوله عزوجل ” إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” فمن أحبه الله لم يعذبه، والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (3). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته ومزاده في ليلة ظلماء، فوجدها، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها (4). وفي الكافي: محمد بن إسماعيل، عن الفضل، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال في قول الله عزوجل: ” إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” قال: وكان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار، ثم احدث الوضوء، وهو خلق كريم، فأمر به رسول الله


(1) الكافي: ج 2، ص 423، كتاب الايمان والكفر، باب تنقل احوال القلب، ح 1. (2) الكافي: ج 2، ص 435، كتاب الايمان والكفر، باب التوبة، ح 9. (3) الكافي: ج 2، ص 432، كتاب الايمان والكفر، باب التوبة، قطعة من حديث 5. (4) الكافي: ج 2، ص 435، كتاب الايمان والكفر، باب التوبة، ح 8. (*)

[ 531 ]

[ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وبشر المؤمنين (223) ولا تجعلوا الله عرضة لايمنكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224) ] صلى الله عليه وآله وصنعه، فأنزل الله في كتابه ” إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” (1). وفي كتاب الخصال: فيما علم أمير المؤمنين أصحابه: توبوا إلى الله عزوجل وادخلوا في محبته، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، والمؤمن تواب (2). وفي مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام: خلق القلب طاهرا صافيا، وجعل غذاءه الذكر والفكر والهيبة والتعظيم، فإذا شيب القلب الصافي في التغذية بالغفلة والكدر، صقل بمصقلة التوبة ونظف بماء الانابة، ليعود على حالته الاولى و جوهريته الاصلية الصافية، قال الله تعالى: ” إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ” (3). نساؤكم حرث لكم: مواضع حرث لكم، شبهن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور. فأتوا حرثكم: أي فأتوهن كما تأتون المحارث، وهو كالبيان لقوله ” فأتوهن


(1) الكافي: ج 3، ص 18، كتاب الطهارة، باب القول عند دخول الخلاء وعند الخروج والاستنجاء… ح 13. (2) كتاب الخصال: ص 623، باب علم أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه في مجلس واحد أربع مائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه. (3) مصباح الشريعة: الباب الثامن في السواك، ص 8. (*)

[ 532 ]

من حيث امركم الله “. أنى شئتم: من أي جهة شئتم. روي أن اليهود كانوا يقولون: من جامع إمرأته من دبرها في قبلها كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله، فنزلت (1). وقدموا لانفسكم: قيل: ما يدخر لكم الثواب، وقيل: هو طلب الولد، وقيل: التسمية على الوطئ. واتقوا الله: بالاجتناب عن معاصيه. واعلموا أنكم ملقوه: فتزودوا مما لا تفتضحون به عنده. وبشر المؤمنين: الكاملين في الايمان بالكرامة والنعيم الدائم، أمر الرسول صلى الله عليه وآله ان يبشر من صدقه وامتثل أمره. واعلم أن الوطى في دبر المرأة جائزة إذا رضي، مكروه، وليس بحرام، وفي الآية دلالة عليهما. وفي تهذيب الاحكام: أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن أسباط، عن محمد بن حمران، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن الرجل يأتي المرأة في دبرها ؟ قال: لا بأس إذا رضيت، قلت: فأين قول الله ” فأتوهن من حيث أمركم الله ” ؟ قال: هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله إن الله يقول: ” نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ” (2). وفي تفسير العياشي: عن عبد الله بن أبي يعفور، قال سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن إتيان النساء في أعجازهن قال: لا بأس، ثم تلا هذه الاية ” نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ” (3).


(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 266. (2) التهذيب: ج 7، ص 414، باب 36، السنة في عقود النكاح وزفاف النساء وآداب الخلوة والجماع، ح 29. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 110، ح 330. (*)

[ 533 ]

وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: ” نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ” قال: حيث شاء (1). وأما ما رواه عن صفوان بن يحيى، عن بعض أصحابنا قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن قول الله: ” نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ” فقال: من قدامها وخلفها في القبل (2). وعن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: أي شئ يقولون في إتيان النساء في أعجازهن ؟ قلت: بلغني أن أهل المدينة لا يرون به بأسا، قال: إن اليهود كانت تقول: إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول، فأنزل الله ” نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ” يعني من قدام أو خلف، خلافا لقول اليهود، ولم يعن في أدبارهن (3). وعن الحسن بن علي، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله (4). وعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها، فكره ذلك وقال: إياكم ومحاش النساء، وقال: إنما معنى ” نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ” أي ساعة شئتم (5). وعن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام في مسألة، فورد منه الجواب، سألت عمن أتى جاريته في دبرها، والمرأة لعبة لا تؤذى، وهي حرث كما قال الله (6). فمحمولة على الكراهة بقرينة الاخبار السابقة، وفي ألفاظ تلك الاخبار أيضا دلالة على ذلك.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 111، ح 331. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 111، ح 332. (3) تفسير العياشي ج 1، ص 111، ح 333. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 111، ذيل الحديث 333. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 111، ح 335 والحديث عن أبي بصير فلا حظ. (6) تفسير العياشي: ج 1، ص 111، ح 336. (*)

[ 534 ]

ولا تجعلوا الله عرضة لايمنكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس: العرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة بمعنى المقبوض، يطلق لما يعرض دون الشئ وللمعرض للامر، ومعنى الآية على الاول: لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه من أنوال الخير، فيكون المراد بالايمان، الامور المحلوف عليها، يعنى إن حلفتم على الامور التي تركها مرجوح شرعا، لا ينعقد يمينكم، فأتوا بما هو الراجح شرعا منها، وحينئذ ” أن ” مع صلتها عطف بيان للايمان، واللام صلة ” عرضة ” لما فيها من معنى الاعتراض، ويجوز أن يكون للتعليل ويتعلق ” أن ” بالفعل، أو ” عرضه ” أي ولا تجعلوا الله عرضة لان تبروا لاجل أيمانكم به، وعلى الثاني ولا تجعلوه معرضا لايمانكم فتتبذلوه بكثرة الحلف به، ” أن تبروا ” علة للنهي، أي أنهاكم عنه، إرادة بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، فإن الحلاف مجتر على الله، والمجتري عليه لا يكون برا متقيا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين. والآية نزلت في أبي بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح، لافترائه على عائشة (1). وقيل: في عبد الله بن رواحه حين حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين اخته (2). والله سميع: لايمانكم. عليم: بنياتكم. في اصول الكافي: علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن إسماعيل، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ” قال: إذا دعيت لصلح بين اثنين، فلا تقل: علي يمين أن لا أفعل (3).


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 118. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 118. (3) الكافي: ج 2، ص 210، كتاب الايمان والكفر، باب الاصلاح بين الناس، ح 6. (*)

[ 535 ]

وفي تفسير علي بن ابراهيم: قوله: ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا و تتقوا وتصلحوا بين الناس ” قال: هو قول الرجل في كل حالة، لا والله وبلى والله (1). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزاز قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فان الله عزوجل يقول: ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” (2). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يحيى بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلام المتعبد أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول لسدير: يا سدير، من حلف بالله كاذبا كفر، ومن حلف بالله صادقا أثم، إن الله عزوجل يقول: ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” (3). وفي تفسير العياشي: عن زرارة، وحمران، ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم (4). عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام، ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” قال: يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه، وما أشبه ذلك أو لا يكلم امه (5). وعن أيوب قال: سمعته يقول: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فان الله يقول: ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” قال: إذا استعان رجل برجل على صلح


(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 73. (2) الكافي: ج 7، ص 434، كتاب الايمان والنذور، باب كراهية اليمين، ح 1، وليس في سند الحديث (سهل بن زياد). (3) الكافي: ج 7، ص 434، كتاب الايمان والنذور، باب كراهية اليمين، ح 4. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 112، ح 338. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 112، ح 339. (*)

[ 536 ]

[ لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمنكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلق فإن الله سميع عليم (227) ] بينه وبين رجل، فلا تقولن: إن علي يمينا أن لا أفعل، وهو قول الله عزوجل ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ” (1). وفي من لا يحضره الفقيه: وروى محمد بن إسماعيل، عن سلام بن سهم الشيخ المتعبد أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: وذكر مثله (2). لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمنكم: اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام و غيره. ولغو اليمين ما لا عقد معه كما سبق اللسان به، أو تكلم به جاهلا بمعناه. ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم: أي بما قصدتم من الايمان، وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم. والله غفور: حيث لا يؤاخذكم باللغو. حليم: حيث لم يعاجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة. للذين يؤلون من نسائهم: أي يحلفون على أن لا يجامعوهن مطلقا، أو مقيدا بالدوام، أو بأكثر من أربعة أشهر إذا كن مدخولا بهن. والايلاء: الحلف، وتعديته ب‍ (على) ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد، عدى ب‍ ” من “.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 112، ح 340 وقريب منه ما في الكافي: ج 2، ص 210، كتاب الايمان والكفر، باب الاصلاح بين الناس، ح 6. (2) الفقيه: ج 3، ص 234، باب 98، الايمان والنذور والكفارات، ح 39. (*)

[ 537 ]

تربص أربعة أشهر: مبتدأ ما قبله خبره، أو فاعل الظرف، و ” التربص ” التوقف، اضيف إلى الظرف على الاتساع، أي للمولى حق التربص في هذه المدة لا يطالب بفئ ولا طلاق. فإن فاءوا: أي رجعوا في اليمين بالحنث والكفارة. فإن الله غفور رحيم: للمولى أثم حنثه إذا كفر، أو ما توخى بالايلاء من إضرار المرأة. وإن عزموا الطلق: أي صمموا قصده. فإن الله سميع: بطلاقهم. عليم: بغرضهم ونياتهم. في كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى أبي خالد الهيثم، قال: سألت أبا الحسن الثاني عليه السلام، كيف صار عدة المطلقة ثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ؟ قال: أما عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر فلاستبراء الرحم من الولد، وأما المتوفى عنها زوجها فإن الله عزوجل شرط للنساء شرطا وشرط عليهن شرطا فلم يجابهن فيما شرط لهن ولم يجر فيما شرط عليهن (1) بل شرط عليهن مثل ما شرط لهن فأما ما شرط لهن فإنه جعل لهن في الايلاء أربعة أشهر، لانه علم أن ذلك غاية صبر النساء، فقال عزوجل ” للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ” فلا يجوز للرجل. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الايلاء هو أن يحلف الرجل على إمرأته أن لا يجامعها، فإن صبرت عليه فلها أن تصبر، فان رفعته إلى الامام أنظره أربعة أشهر


(1) هكذا في النسخة التي عندي، وفي النسخة المطبوعة من علل الشرايع ” فان الله عزوجل شرط للنساء شرطا فلم يحلهن فيه وفيما شرط عليهن ” وفي هامش النسخة المطبوعة ما لفظه (كذا في أكثر النسخ التي عندنا لكن في نسخة الاصل فلم يجهلن بدل فلم يحلهن وفي نسخة البحار فلم يحملهن). (2) علل الشرايع: ج 2، ص 507، الباب 277، ح 1. (*)

[ 538 ]

ثم يقول له بعد ذلك: إما أن ترجع إلى المناكحة، وإما أن تطلق، فأن أبى حبسه أبدا (1). وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه بنى حظيرة من قصب، وجعل فيها رجلا آلى من إمرأته بعد أربعة أشهر فقال: إما أن ترجع إلى المناكحة، وإما أن تطلق، وإلا أحرقت عليك الحظيرة (2). وفي الكافي: أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، وأبو العباس محمد بن جعفر، عن أيوب بن نوح، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وحميد بن زياد، عن ابن سماعة، جميعا عن صفوان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن الايلاء ما هو ؟ قال: هو أن يقول الرجل لامرأته: والله لا اجامعك كذا وكذا، ويقول: والله لا غيضنك، فيتربص بها أربعة أشهر ثم يؤخذ فيوقف بعد الاربعة أشهر، فإن فاء وهو أن يصالح أهله ” فإن الله غفور رحيم ” وإن لم يفئ جبر على أن يطلق، ولا يقع طلاق فيما بينهما ولو كان بعد أربعة أشهر ما لم ترفعه إلى الامام (3). علي، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن بكر بن أعين، و بريد بن معاوية، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب إمرأته، فليس لها قول ولا حق في الاربعة أشهر ولا إثم عليه في كفه عنها في الاربعة أشهر قبل أن يمسها، فإن مضت الاربعة قبل أن يمسها فسكتت ورضيت فهو في حل وسعة، فإن رفعت أمرها، قيل له: أما تفئ أن فتمسها، وإما أن تطلق، وعزم الطلاق أن يخلى عنها فإذا حاضت وطهرت طلقها وهو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الايلاء الذي أنزل الله تبارك وتعالى في


(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 73، في تفسيره لآية 226، من سورة البقرة وفيه ” وإلا حبستك أبدا ” بدل ” فان أبى حبسه أبدا “. (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 73، في تفسيره لآية 226، من سورة البقرة. (3) الكافي: ج 6، ص 132، كتاب الطلاق، باب الايلاء، ح 9. (*)

[ 539 ]

[ والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلحا ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228) ] كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله (1). محمد بن يحيى: عن أحمد بن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل آلى من امرأته بعد ما دخل بها، قال: إذا مضت أربعة أشهر وقف، وإن كان بعد حين، فإن فاء فليس بشئ فهي امرأته، وإن عزم الطلاق فقد عزم، وقال: الايلاء أن يقول الرجل لامرأته والله لا غيظنك ولاسوئنك ثم يهجرها ولا يجامعها حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر فقد وقع الايلاء، وينبغي للامام أن يجبره على أن يفئ أو يطلق فإن فاء فإن الله غفور رحيم، وإن عزم الطلاق فإن الله سميع عليم، وهو قول الله تبارك وتعالى في كتابه (2). والمطلقت: يريد بها المدخول بهن من ذوات الاقراء، لما دلت الآيات والاخبار على أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر. يتربصن: خبر صورة وأمر معنى. وتغيير العبارة للتأكيد والاشعار بأنه مما يجب أن يسار إلى امتثاله، وكان المخاطب قصد أن يمتثل الامر فيخبر عنه. وبناؤه


(1) الكافي: ج 6، ص 131، كتاب الطلاق، باب الايلاء، ح 4. (2) الكافي: ج 6، ص 132، كتاب الطلاق، باب الايلاء، ص 7. (*)

[ 540 ]

على المبتدأ يفيد فضل تأكيد. بأنفسهن: تهييج وبعث لهن على التربص، فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال، فامرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربص. ثلثة قروء: نصب على الظرف، أو المفعول به، أي يتربصن مضيها. والقروء: جمع قرء، كان القياس أن يذكر بصيغة القلة التي هي الاقراء، ولكنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البنائين مكان الآخر. ولعل الحكم لما عمم المطلقات ذوات الاقراء تضمن معنى الكثرة، فحسن بناؤها. والقرء يطلق للحيض والطهر الفاصل بين الحيضتين وهو المراد ها هنا. في الكافي: عنه، عن صفوان، عن موسى بن بكر، عن زرارة، قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: إني سمعت ربيعة الرأى (1) يقول: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة بانت منه، وانما القرء ما بين الحيضتين، وزعم أنه أخذ ذلك برأيه، فقال أبو جعفر عليه السلام: كذب لعمري، ما قال ذلك برأيه، ولكنه أخذه عن علي عليه السلام قال: قلت له: وما قال فيها علي عليه السلام ؟ قال: كان يقول: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ولا سبيل له عليها، وإنما القرء ما بين الحيضتين، وليس لها أن تتزوج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة (2). علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: سمعت ربيعة الرأى يقول: من رأيي أن الاقراء التي سمى الله عزوجل في القرآن إنما هو الطهر فيما بين الحيضتين، فقال: كذب لم يقله برأيه، ولكنه بلغه عن علي عليه السلام، فقلت له: أصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك ؟ قال: نعم، إنما القرء الطهر يقرى فيه الدم فيجمعه، فإذا جاء المحيض


(1) ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي. ربيعة بالراء المهملة المفتوحة والباء الموحدة المكسورة والباء المثناة من تحت الساكنة والعين المهملة والهاء، عامي، وفي الوجيزة: انه ضعيف، وطريقته في الاستقلال بالرأي في أحكام الله تعالى معروفة، وإضافة اسمه إلى الرأي تشعر بذلك. تلخيص من تنقيح المقال: ج 1، ص 427، تحت رقم 4021. (2) الكافي: ج 6، ص 88، كتاب الطلاق، باب الوقت الذي تبين منه المطلقة.. ح 9. (*)

[ 541 ]

دفقه (1). علي بن إبراهيم: عن أبيه، عن ابن أبي عمير، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر جميعا، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: القرء ما بين الحيضتين (2). علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: القرء ما بين الحيضتين (3). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن ثعلبة، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: الاقراء هي الاطهار (4). سهل، عن أحمد، عن عبد الكريم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عدة التي لم تحض والمستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، وعدة التي تحيض و يستقيم حيضها ثلاثة قروء، والقرء جمع الدم بين الحيضتين (5). وأما ما رواه في كتاب الخصال: قال: حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمران أيهما سبق إليها بانت به المطلقة المسترابة التي تستريب الحيض، إن مرت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت بها، وإن مرت بها ثلاث حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض (6). وما رواه في كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى أبي خالد الهيثم قال: سألت أبا الحسن الثاني عليه السلام كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر و


(1) الكافي: ج 6، ص 89، كتاب الطلاق، باب معنى الاقراء، ح 1. (2) الكافي: ج 6، ص 89، كتاب الطلاق، باب معنى الاقراء، ح 2. (3) الكافي: ج 6، ص 89، كتاب الطلاق، باب معنى الاقراء، ح 3. (4) الكافي: ج 6، ص 89، كتاب الطلاق، باب معنى الاقراء، ح 4. (5) الكافي: ج 6، ص 99، كتاب الطلاق، باب عدة المسترابة، ح 3. (6) الخصال: ص 47، باب الاثنين، ح 44. (*)

[ 542 ]

عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ؟ قال: أما عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر فلاستبراء الرحم من الولد (1) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. فيمكن أن يحمل على التقية، لانه موافق لمذهب أكثر العامة. ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من الولد والحيض إستعجالا في العدة، وإبطالا لحق الرجعة. وفيه دليل على أن قولها مقبول في ذلك. إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر: ليس المراد منه تقييد نفي الحل بأيمانهم، بل تنبيه على أنه ينافي الايمان، وأن المؤمن لا يجتري عليه، ولا ينبغي له أن يفعل. وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ” يعني لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلقت وهي حبلى والزوج لا يعلم بالحمل، فلا يحل لها أن تكتم حملها وهو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع (2). وبعولتهن: أي أزواج المطلقات، جمع بعل، والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤلة، أو مصدر من قولك: بعل حسن البعولة، نعت به واقيم مقام المضاف المحذوف، أي وأهل بعولتهن. أحق بردهن: إلى النكاح والرجعة إليهن، وأفعل: بمعنى الفاعل. في ذلك: أي في زمان التربص. إن أرادوا إصلحا: بالرجعة، لاضرار المرأة، والمراد منه التحريض عليه والمنع من قصد الاضرار، لا شرطية قصد الاصلاح للرجعة. ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف: أي لهن حقوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة. وللرجال عليهن درجة: زيادة في الحق وفضل. والله عزيز: يقدر على الانتقام ممن خالف الاحكام. حكيم: يشرعها لمصالح وحكم.


(1) علل الشرايع: ج 2، ص 194، الباب 277، ح 1. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 115، ح 356. (*)

[ 543 ]

[ الطلق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافا الا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون (229) ] في من لا يحضره الفقيه: وسأل إسحاق بن عمار أبا عبد الله عليه السلام عن حق المرأة على زوجها، قال: يشبع بطنها ويكسو جثتها وإن جهلت غفر لها (1). وروى الحسن بن محبوب، عن مالك عن عطية، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاءت إمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة ؟ فقال لها: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدق من بيتها بشئ إلا بإذنه، ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب (2)، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الارض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها، فقالت: يا رسول الله من أعظم الناس حقا على الرجل ؟ قال: والده، قالت: يا رسول الله فمن أعظم الناس حقا على المرأة ؟ قال: زوجها قالت: فما لي من الحق عليه بمثل ما له علي ؟ قال: لا ولا من كل مائة واحدة، قال: فقالت: والذي بعثك بالحق نبيا لا يملك رقبتي رجل أبدا (3). الطلق: أي الطلاق الذي عهد سابقا، وهو ما يجوز معه الرجوع في مدة


(1) الفقيه: ج 3، ص 279، باب 131، باب حق المرأة على الزوج، ح 2. (2) القتب: رحل صغير على قدر السنام. الصحاح: ج 1، ص 198. (3) الكافي: ج 5، ص 506، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح 1. (*)

[ 544 ]

التربص. مرتان: بأن طلق أولا ثم رجع ثم طلق ثانيا، فإن رجع. فإمساك بمعروف: بحسن المعاشرة. أو تسريح بإحسن: بالطلقة الثالثة، ولا يجوز له الرجوع أصلا حتى تنكح زوجا غيره. في عيون الاخبار: بإسناده إلى الرضا عليه السلام في حديث طويل أن الله تبارك وتعالى إنما أذن في الطلاق مرتين، فقال عزوجل ” الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ” يعني في التطليقة الثالثة (1). وفي الكافي: أبو علي الاشعري، عن محمد بن عبد الجبار، ومحمد بن جعفر أبو العباس الرزاز، عن أيوب بن نوح، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: طلاق السنة، يطلقها تطليقة، يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين، ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها، فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه، وهو خاطب من الخطاب إن شاءت أنكحته وإن شاءت فلا، وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تمضي أقرأوها فتكون عنده على التطليقة الماضية قال: وقال أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام هو قول الله عزوجل ” الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ” (2). ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا: من الصداق والهبة. في تهذيب الاحكام: أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيز أو لم يحز، أليس الله تعالى يقول ” ولا تأخذوا مما


(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 85، باب 32، في ذكر ما جاء عن الرضا عليه السلام من العلل قطعة من حديث 27. (2) الكافي: ج 6، ص 64، كتاب الطلاق، باب تفسير طلاق السنة والعدة وما يوجب الطلاق، ح 1. (*)

[ 545 ]

اتيتموهن شيئا ” وقال: ” فإن طبن لكم عن شئ منه فكلوه هنيئا مريئا ” وهذا يدخل في الصداق والهبة (1) وفي الكافي مثله سواء. وهذا الحكم بعمومه يشمل صور الطلاق، أي لا يحل لكم إذا طلقتم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا والخطاب للحكام، لانهم الآمرون، أو للازواج. إلا أن يخافا: أي الزوجان، وقرئ يظنا. ألا يقيما حدود الله: وقرأ حمزة ويعقوب على البناء للمفعول، وإبدال أن بصلته عن الضمير بدل الاشتمال، وقرأ (تخافا) و (تقيما) بتاء الخطاب (2). فإن خفتم: ايها الحكام. ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به: على الرجل في أخذ ما أفتدت به نفسها، وعلى المرأة في إعطائه حتى يخالعها. في مجمع البيان: ” فيما افتدت به ” قيل: إنه يجوز الزيادة على المهر، وقيل: المهر فقط رووه عن علي عليه السلام (3). وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن المختلعة كيف يكون خلعها ؟ فقال: لا يحل خلعها حتى تقول: والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا وطين فراشك، ولا دخلن عليك بغير إذنك، فإذا قالت هي ذلك، فقد حل خلعها، وحل له ما أخذ منها من مهرها وما زاد، وهو قول الله عزوجل ” فلا جناح عليهما فيما افتدت به “، وإذا فعلت ذلك فقد بانت منه بتطليقة، وهي أملك بنفسها إن شاءت نكحته وإلا فلا، فإن نكحته فهي عنده بثنتين (4).


(1) التهذيب: ج 7، ص 462، باب 41، من ابواب الزيادات في فقه النكاح، ح 66، وسند الحديث (الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر عليه السلام، وفيه ” حازا أو لم يحازا ” بدل (حيز أولم يحز). (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 121. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 329، في تفسيره لآية 228، من سورة البقرة. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 117، ح 367. (*)

[ 546 ]

[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) ] تلك: إشارة إلى الاحكام التي حدت. حدود الله فلا تعتدوها: بالمخالفة. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون: عقب النهي بالوعيد مبالغة في التهديد. واعلم: أن كل ما حد الله تعالى، الافراط فيه والتفريط كلاهما تعد. و كذلك كل ما يفعله أهل الوسوسة في الشرع بغير مأخذ ويسمونه إحتياطا وتقوى، تعد عن حدود الله، ومن يفعله ظالم. يدل على ذلك ما رواه العياشي في تفسيره: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى ” تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون ” فقال: إن الله غضب على الزاني فجعل له جلدة مائة، فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى الله منه برئ، فذلك قوله تعالى: ” تلك حدود الله فلا تعتدوها ” (1). فإن طلقها: متعلق بقوله ” الطلاق مرتان ” تفسير لقوله: ” أو تسريح بإحسان ” إعترض بينهما ذكر الخلع، دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة، وبعوض اخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين. فلا تحل له من بعد: ذلك الطلاق. حتى تنكح زوجا غيره: حتى تزوج غيره بالعقد الدائم ويدخل بها، والنكاح


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 117، ح 368. (*)

[ 547 ]

يسند إلى كل منهما. في عيون الاخبار: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، قال: سألت الرضا عليه السلام عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، فقال: إن الله تبارك وتعالى إنما أذن في الطلاق مرتين، فقال عزوجل: ” الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ” يعني في التطليقة الثالثة. ولدخوله فيما كره الله عزوجل له من الطلاق الثالث حرمها الله عليه ” فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ” لئلا يوقع الناس الاستخفاف بالطلاق ولا تضار النساء (1). وفي الكافي: سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن مثنى، عن أبي حاتم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يطلق إمرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ثم تزوج رجلا ولم يدخل بها، قال: لا، حتى يذوق عسيلتها (2). في عيون الاخبار في باب ذكر ما كتب به الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل: وعلة الطلاق ثلاثا، لما فيه من المهلة فيما بين الواحدة إلى الثلاثة، لرغبة تحدث، أو سكون غضبه إن كان، وليكون ذلك تخويفا وتأديبا للنساء وزجرا لهن عن معصية أزواجهن (3). وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل طلق إمرأته تطليقة واحدة، ثم


(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 85، باب 32، في ذكر ما جاء عن الرضا عليه السلام من العلل، ح 27. (2) الكافي: ج 5، ص 425، كتاب النكاح، باب تحليل المطلقة لزوجها وما يهدم الطلاق الاول، ح 4. (3) عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 95، باب 33 في ذكر ما كتب به الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل. (*)

[ 548 ]

تركها حتى أنقضت عدتها، ثم تزوجها رجل غيره، ثم إن الرجل مات أو طلقها فراجعها الاول، قال: هي عنده على تطليقتين باقيتين (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن مهزيار قال: كتب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام: روى بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام، في الرجل يطلق إمرأته على الكتاب والسنة، فتبين منه بواحدة، فتزوج زوجا غيره، فيموت عنها أو يطلقها، فترجع إلى زوجها الاول، إنها تكون عنده على تطليقتين تامتين، وواحدة قد مضت، فوقع عليه السلام بخطة: صدقوا. وروى بعضهم أنها تكون عنده على ثلاث مستقبلات، وأن تلك الطلقة التي طلقت ليس بشئ، لانها قد تزوجت زوجا غيره، فوقع عليه السلام بخطه: لا (2). سهل، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن المثنى، عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فتزوجها عبد ثم طلقها، هل يهدم الطلاق ؟ قال: نعم، لقول الله عزوجل في كتابه: ” حتى تنكح زوجا غيره ” وقال: هو أحد الازواج (3). فإن طلقها: الزوج الثاني. فلا جناح عليهما أن يتراجعا: أي يرجع كل منهما إلى الآخر بالتزوج. إن ظنا أن يقيما حدود الله: أي ما حدده الله. وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون: يفهمون. في تفسير العياشي: عن الحسن بن زياد قال: سألته عن رجل طلق امرأته، فتزوجت بالمتعة، أتحل لزوجها الاول ؟ قال: لا، لا تحل له حتى تدخل في مثل الذي


(1) الكافي: ج 5، ص 426، كتاب النكاح، باب تحليل المطلقة لزوجها وما يهدم الطلاق الاول، ح 5. (2) الكافي: ج 5، ص 426، كتاب النكاح، باب تحليل المطلقة لزوجها وما يهدم الطلاق الاول، ح 6. (3) الكافي: ج 5، ص 425، كتاب النكاح، باب تحليل المطلقة لزوجها وما يهدم الطلاق الاول ح 3. (*)

[ 549 ]

[ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذواء ايت الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم (231) ] خرجت من عنده، وذلك قوله: ” فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ” والمتعة ليس بطلاق (1). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل طلق إمرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وتزوجها رجل متعة، أيحل له أن ينكحها ؟ قال: لا حتى تدخل في مثل ما خرجت منه (2). وفي الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن رجل طلق إمرأته ثلاثا ثم تمتع فيها رجل آخر، هل تحل للاول ؟ قال: لا (3). وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن: الاجل يطلق للمدة ولمنتهاها، والبلوغ


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 118، ح 371، وفيه (والمتعة ليس فيها طلاق). (2) الكافي: ج 5، ص 425، كتاب النكاح، باب تحليل المطلقة لزوجها وما يهدم الطلاق الاول، ح 2. (3) الكافي: ج 5، ص 425، كتاب النكاح، باب تحليل المطلقة لزوجها وما يهدم الطلاق الاول ح 1. (*)

[ 550 ]

هو الوصول إلى الشئ، وقد يقال للدنو منه على الاتساع. فإن حمل الاجل على المعنى الاول، فالبلوغ على أصله. وإن حمل على الثاني فالبلوغ على الاتساع، ليترتب عليه. فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف: وهو إعادة الحكم في بعض صوره للاهتمام به. ولا تمسكوهن ضرارا: نصب على العلة أو الحال، أي لا تراجعوهن إرادة الاضرار أو مضارين، كأن المطلق يترك المعتدة حتى يشارف الاجل ثم يراجع ليطول العدة عليها، فنهى عنه بعد الامر بضده مبالغة. لتعتدوا: لتظلموهن بالتطويل والالجاء إلى الافتداء. واللام متعلق بالضرار، إذ المراد تقييده. في من لا يحضره الفقيه: روى المفضل بن صالح، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول الله عزوجل: ” ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ” قال: الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات، فنهى الله عزوجل عن ذلك (1). وروى البزنطي، عن عبد الكريم بن عمرو، عن الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها وليس له فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه، إلا أن يطلق ثم يراجعها، وهو ينوي الامساك (2). ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه: بتعريضها للعقاب. ولا تتخذواء ايت الله هزوا: بالاعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها. في نهج البلاغة: من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا (3).


(1) الفقيه: ج 3، ص 323، باب 155، طلاق العدة، ح 1. (2) الفقيه: ج 3، ص 323، باب 155، طلاق العدة، ح 2. (3) نهج البلاغة فيض الاسلام: ص 1187. (*)

[ 551 ]

[ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزوجهن إذا ترضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232) ] واذكروا نعمت الله عليكم: التي من جملتها نبوة محمد وولاية علي والائمة من بعده بالشكر والقيام بحقوقها. وما أنزل عليكم من الكتب والحكمة: القرآن والسنة، أفردهما بالذكر، إظهارا لشرفهما. يعظكم به: بما أنزل عليكم. واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم: تأكيد وتهديد. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن: إنقضت عدتهن. فلا تعضلوهن أن ينكحن أزوجهن: العضل: الحبس والتضييق. إذا ترضوا بينهم: ظرف لان ينكحهن، أو لا تعضلوهن. بالمعروف: بما يعرفه الشرع، حال عن الضمير المرفوع، أو صفة مصدر محذوف، أي تراضيا كائنا بالمعروف. ذلك: إشارة إلى ما مضى ذكره، والخطاب للجميع على تأويل القبيل، أو كل واحد، أو للنبي صلى الله عليه وآله. يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر: لانه المنتفع به. ذلكم: أي العمل بمقتضى ما ذكر. أزكى لكم: أنفع. وأطهر: من دنس الآثام.


[ 552 ]

[ والولدت يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار ولدة بولدها – ولا مولود له – بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولدكم فلا جناح – عليكم إذا سلمتم ما ءاتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233) ] والله يعلم: ما فيه من النفع. وأنتم لا تعلمون: ما فيه، أو لستم من أهل العلم. والولدت يرضعن أولدهن: قال البيضاوي: أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة، و معناه الندب أو الوجوب، فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من امه، أو لم يجد له ظئرا، أو عجز الوالد عن الاستيجار (1) والوالدت تعم المطلقات وغيرهن. وليس للوالد أن يأخذهم ويجعل غيرهن مرضعة إذا تبرعن أو رضين بما رضي به غيرهن. حولين كاملين: أكده بصيغة الكمال، لانه مما يتسامح فيه. لمن أراد أن يتم الرضاعة: بيان لمن يتوجه إليه الحكم، أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة، أو متعلق ب‍ (يرضعن) فإن الاب يجب عليه الارضاع والام ترضع. وفيه دلالة على أن مدة الارضاع حولان، ولا عبرة به بعدهما، وأنه يجوز أن ينقص عنه.


(1) تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 123. (*)

[ 553 ]

وعلى المولود له: أي الوالد، فإن الولد يولد له. وتغيير العبارة للاشارة إلى المعنى المقتضي للارضاع ومؤن المرضعة. رزقهن وكسوتهن: أجرة لهن. بالمعروف: حسب ما يراه أهل الشرع. لا تكلف نفس إلا وسعها: تعليل لايجاب المؤن. لا تضار ولدة بولدها ولا مولود له بولده: أي لا يضار كل واحد منهما الآخر بسبب الولد، بأن يكلفه ما ليس في وسعه، أو يترك مجامعته بسبب الولد. في الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، والحسين بن سعيد جميعا، عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل ” لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ” فقال: كانت المراضع مما يدفع إحداهن الرجل إذا أراد الجماع تقول: لا أدعك، إني اخاف أحبل فاقتل ولدي هذا الذي ارضعه، وكان الرجل تدعوه المرأة فيقول أخاف أن اجامعك فأقتل ولدي فيدعها ولا يجامعها، فنهى الله عزوجل عن ذلك بأن يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل (1). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام نحوه (2). وفي مجمع البيان: ” لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ” قيل: معناه لا تضار والدة الزوج بولدها ولو قيل في ولدها لجاز في المعنى. وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام ” لا تضار والدة ” بان يترك جماعها خوف الحمل لاجل ولدها المرتضع ” ولا مولود له بولده ” أي لا تمنع نفسها من الاب خوف الحمل فيضر ذلك بالاب (3).


(1) الكافي: ج 6، ص 41، كتاب العقيقة، باب الرضاع ح 6. (2) الكافي: ج 6، ص 41، كتاب العقيقة، باب الرضاع ذيل الحديث 6. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 335، في تفسيره لآية 232 من سورة البقرة. (*)

[ 554 ]

وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا طلق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها، وإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارها إلا أن يجد من هو أرخص أجرا منها، فإن هي رضيت بذلك الاجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه (1). علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الحبلى المطلقة ينفق عليها حتى تضع حملها، وهي أحق بولدها أن ترضعه بما تقبله إمرأة اخرى، إن الله عزوجل يقول ” لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك ” قال: كانت المرأة منا ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها، فتقول: لا أدعك إني أخاف أن أحمل على ولدي، ويقول الرجل: لا اجامعك أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي فنهى الله عزوجل أن تضار المرأة الرجل، أو يضار الرجل المرأة أما قوله: ” وعلى الوارث مثل ذلك ” فإنه نهى أن يضار بالصبي، أو تضار امه في رضاعه، وليس لها أن يأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين، وإن أراد فصالا عن تراض منهما قبل ذلك كان حسنا، والفصال هو الفطام (2). وعلى الوارث مثل ذلك: عطف على قوله ” وعلى المولود رزقهن وكسوتهن ” وما بينهما معترض، والمراد بالوارث الباقي من أبويه. قال في مجمع البيان: وهو الصحيح عندنا، وقد روي أيضا في أخبارنا: على الوارث كائنا من كان النفقة، وهذا يوافق الظاهر (3). وفي تفسير علي بن إبراهيم، قوله: ” وعلى الوارث مثل ذلك ” قال: لا تضار المرأة التي لها ولد وقد توفى زوجها فلا يحل للوارث أن يضار أم الولد في النفقة فيضيق عليها (4).


(1) الكافي: ج 6، ص 103، كتاب الطلاق، باب نفقة الحبلى المطلقة ح 2. (2) الكافي: ج 6، ص 103، كتاب الطلاق، باب نفقة الحبلى المطلقة الحديث 3. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 335، في تفسيره لآية 232، من سورة البقرة. (4) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 77. (*)

[ 555 ]

وفي تفسير العياشي، عن العلا، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قوله ” وعلى الوارث مثل ذلك ” قال: هو في النفقة، على الوارث مثل ما على الوالد (1). وقيل: المراد بالوارث: وارث الاب وهو الصبي، أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الاب. والاحسن أن يقال: المراد بالوارث الباقي من أبويه، وعليه مثل ذلك، أي عدم المضارة بأنه إن كان للمولود له مال عنده لا يقتر عليه ولا يمنع الولد من أن يأتي امها، وإن لم يكن له مال وكان ممن يجب نفقته عليه أنفق عليه وغير ذلك، والاخبار التي أستدل بها الشيخ الطبرسي كلها يحمل على ذلك. يدل على هذا الحمل ما رواه أبو الصباح قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل ” وعلى الوارث مثل ذلك ” قال: ليس للوارث أن يضار المرأة فيقول لا أدع ولدها يأتيها ويضار ولدها إن كان لهم عنده شئ ولا ينبغي له أن يقتر عليه (2). وفي من لا يحضره الفقيه: وقضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل توفي وترك صبيا واسترضع له، أن أجر رضاع الصبي مما يرث من أبيه وامه (3). فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور: وتشاور أي فصالا صادرا عن التراضي منهما والتشاور قبل الحولين. والتشاور والمشاورة والمشورة، إستخراج الرأي، من شرت العمل إذا استخرجته. فلا جناح عليهما: في ذلك، واعتبار التراضي لمصلحة الطفل. وإن أردتم أن تسترضعوا أولدكم: أي تسترضعوا المراضع أولادكم، من استرضعها إياه، فحذف المفعول الاول للقرينة.


(1 و 2) تفسير العياشي: ج 1، ص 121، ح 383 وح 384. (3) الفقيه: ج 3، ص 309، باب 146، الرضاع، ح 25. (*)

[ 556 ]

فلا جناح عليكم: فيه، وفي نفي الجناح إشعار بأن لبن امه اولى. وفي كتاب عيون الاخبار: بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس للصبى لبن خير من لبن امه (1). إذا سلمتم: إلى المراضع. ما ءاتيتم: أي أردتم إيتائه كقوله: ” إذا قمتم إلى الصلاة ” (2) وقرأ ابن كثير ما أتيتم، من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وقرئ اوتيتم، أي ما آتاكم الله (3). بالمعروف: صلة (سلمتم) أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فلا جناح عليه، أو الشرط في موضع الحال، فلا يحتاج إلى الجواب. واتقوا الله: مبالغة في أمر الاطفال والمراضع، ومن جملة التقوى في أمر الاطفال إختيار المراضع الجياد لاولادكم فإن اللبن يعدي. وفي كتاب عيون الاخبار بإسناده إلى الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء فان اللبن يعدي (4) وفي كتاب الخصال فيما علم أمير المؤمنين أصحابه: وتوقوا أولادكم من لبن البغي من النساء والمجنون فإن اللبن يعدي (5). واعلموا أن الله بما تعملون بصير: حث وتهديد. وفي إيراد البصير مكان العليم زيادة مبالغة.


(1) عيون اخبار الرضا: ج 2، ص 34، باب 31، فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة ح 69. (2) سورة المائدة: الآية 8. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 124. (4) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 34، باب 31، فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة، ح 67. (5) لم نعثر عليه. (*)

[ 557 ]

[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (235) ] والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا: أي أزواج الذين، أو يتربصن بعدهم الازواج المتروكة. وقرئ يتوفون بفتح الياء، أي يتوفون آجالهم، وتأنيث العشر باعتبار الليالي، لانها غرر الشهور والايام. ولعل المقتضي لهذا التقدير: أن الجنين في غالب الامر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا، ولاربعة أشهر إن كان انثى، فاعتبر أقصى الاجلين وزيد عليه العشر إستظهارا، إذ ربما يضعف حركة في المبادي فلا يحسن بها. وفي تفسير العياشي: عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بانفسهن أربعة أشهر وعشرا ” جئن النساء يخاصمن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقلن: لا نصبر، فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وآله: كانت إحداكن إذا مات زوجها


[ 558 ]

أخذت بعرة فالقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتتها ثم اكتحلت بها ثم تزوجت، فوضع الله عنكن ثمانية أشهر (1). وفي الكافي حميد، عن ابن سماعة، عن محمد بن أبي حمزة، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: جاءت امرأة إلى أبي عبد الله عليه السلام تسفتيه في المبيت في غير بيتها وقد مات زوجها، فقال: إن أهل الجاهلية كان إذا مات زوج المرأة أحدت عليه امرأته اثنى عشر شهرا، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله رحم ضعفهن فجعل عدتهن أربعة أشهر وعشرا، وانتن لا تصبرن على هذا (2). وعموم اللفظ يقتضي تساوي الحرة والامة، زوجة كانت أو ملك يمين والمسلمة والكتابية والدائمة والمتعة والحائل والحامل إن وضع الحمل قبل المدة. وفي تهذيب الاحكام: أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام ما عدة المتعة إذا مات عنها الذي يتمتع بها ؟ قال: أربعة أشهر وعشرا، قال: ثم قال: يا زرارة كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة، أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر وعشرا (3). فإذا بلغن أجلهن: انقضت عدتهن. فلا جناح عليكم: أيها الامة والمسلمون. فيما فعلن في أنفسهن: من التعرض للخطاب وساير ما حرم عليهن للعدة. بالمعروف: بالوجه الذي يعرفه الشرع، وإن فعلن ما ينكره الشرع فعليهم أن يكفوهن.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 121، ح 386. (2) الكافي: ج 6، ص 117، كتاب الطلاق، باب المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتدو ما يجب عليها ح 10. (3) الوسائل: ج 15، ص 484 كتاب الطلاق، الباب 52، من أبواب العدد، قطعة من حديث 2. (*)

[ 559 ]

والله بما تعملون خبير: فيجازيكم عليه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء: التعريض ايهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجاز، كقول السائل: جئتك لاسلم عليك، و (الخطبة) بالكسر والضم، اسم غير أن المضمومة خصت بالموعظة، والمكسورة بطلب المرأة، والمراد ب‍ ” النساء ” المعتدات للوفاة، وتعريض خطبتها أن يقول لها: إنك جميلة، أو نافقة (1) أو لا تحدثي حدثا، أو نحو ذلك. أو أكننتم في أنفسكم: أي اضمرتم في أنفسكم ولم تذكروه تصريحا و تعريضا. علم الله أنكم ستذكرونهن: ولا تصبرون على السكوت. ولكن لا تواعدوهن سرا: إستدراك عن محذوف، أي فاذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا، أي نكاحا أو جماعا، عبر بالسر عن الوطي، لانه يسر، ثم من العقد لانه سبب فيه. وقيل: معناه لا تواعدوهن في السر بما يستهجن. إلا أن تقولوا قولا معروفا: وهو التعريض بالخطبة، والمستثنى منه محذوف، أي لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة، أو إلا مواعدة بقول معروف. وقيل: أنه إستثناء منقطع من ” سرا “، وفيه أنه يؤدي إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض وهو غير موعود. وفي الآية دلالة على حرمة تصريح خطبة المعتدة وجواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة. ولا تعزموا عقدة النكاح: قيل: ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد. وقيل: معناه لا تقطعوا عقدة النكاح، فان أصل العزم القطع. ويحتمل: أن يكون المراد: لا تقصدوا عقد النكاح قبل انقضاء العدة فإن قصد الحرام حرام، ويكون قوله: حتى يبلغ الكتب أجله: متعلق بالنكاح لا بالعزم، يعني حتى ينتهي ما


(1) نفقت السلعة والمرأة نفاقا: كثر طلابها وخطابها. المصباح المنير، ص 850. (*)

[ 560 ]

كتب من العدة. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم: من العزم على ما لا يجوز وما يجوز. فاحذروه: ولا تعزمو على ما لا يجوز. واعلموا أن الله غفور: لمن تاب. حليم: لا يعاجلكم بالعقوبة لعلكم تتوبون. وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” ولكن لا تواعدوهن سرا، إلا أن تقولوا قولا معروفا ” قال: هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها أو اعدك بيت آل فلان ليعرض لها بالخطبة، ويعني بقوله ” إلا أن تقولوا قولا معروفا ” التعريض بالخطبة، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله (1). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن أبي نصر، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: ” ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ” قال: السر أن يقول الرجل: موعدك بيت آل فلان، ثم يطلب إليها أن لا تسبقه بنفسه إذا انقضت عدتها قلت: قوله: ” إلا أن تقولوا قولا معروفا ” قال: هو طلب الحلال من غير أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله (2). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول الله عزوجل ” ولكن لا تواعدوهن سرا “


(1) الكافي: ج 5، ص 434، كتاب النكاح، باب في قول الله عزوجل ” ولكن لا تواعدوهن سرا ” ح 1. (2) الكافي: ج 5، ص 434، كتاب النكاح، باب في قول الله عزوجل: ” ولكن لا تواعدوهن سرا ” ح 2. (*)

[ 561 ]

قال: يقول الرجل: أواعدك بيت آل فلان، يعرض لها بالرفث ويرفث، يقول الله عزوجل ” إلا أن تقولوا قولا معروفا ” والقول المعروف التعريض بالخطبة على وجهها وحلها، ” ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ” (1). حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن غير واحد، عن أبان، عن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” إلا أن تقولوا قولا معروفا ” قال: يلقاها، فيقول: إني فيك لراغب، وإني للنساء لمكرم فلا تسبقيني بنفسك، والسر لا يخلو معها حيث وعدها (2). وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” ولا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ” قال: المرأة في عدتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك ولا تقول: إني أصنع كذا وأصنع كذا، القبيح من الامر في البضع، وكل أمر قبيح (3). عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله ” إلا أن تقولوا قولا معروفا ” قال: يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها: يا هذه ما احب إلا ما أسرك، ولو قد مضى عدتك لا تفوتني إن شاء الله فلا تسبقيني بنفسك، وهذا كله من غير أن يعزموا عقدة النكاح (4). * * *


(1) الكافي: ج 5، ص 435، كتاب النكاح، باب في قول الله عزوجل: ” ولكن لا تواعدوهن سرا ” ح 3. (2) الكافي: ج 5، ص 435، كتاب النكاح، باب في قول الله عزوجل: ” ولكن لا تواعدوهن سرا ” ح 4. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 123، ح 394. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 123، ح 395. (*)

[ 562 ]

[ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متعا بالمعروف حقا على المحسنين (236) ] لا جناح عليكم: لا تبعة من مهر ووزر. إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن: أي تجامعوهن. أو تفرضوا لهن فريضة: أي قبل تحقق أحد الامرين، المجامعة وتعيين الفريضة، أي المهر وهي فعيلة بمعنى المفعول، والفرض التقدير، نصب على المفعول، فإنه على تقدير تحقق الاول، إما يجب المسمى أو مهر المثل. وعلى تقدير تحقق الثاني يجب المسمى أو نصفه، فعدم شئ إنما هو على تقدير عدم تحقق أحدهما. ومتعوهن: عطف على مقدر، أي فطلقوهن ومتعوهن. والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق. على الموسع قدره وعلى المقتر قدره: أي على كل من الذي له سعة، والمقتر الضيق الحال ما يطيقه ويليق به. عن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: ” ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ” وما قدر الموسع والمقتر ؟ قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام يمتع براحلته، يعني حملها الذي عليها (1). عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يريد أن يطلق إمرأته قال: يمتعها قبل أن يطلقها قال الله في كتابه ” ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ” (2).


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 124، ح 400. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 124، ح 401. (*)

[ 563 ]

وفي الكافي: أحمد بن محمد بن علي، عن محمد بن سنان، عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله عزوجل: ” وكان بين ذلك قواما ” قال: القوام هو المعروف، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، على قدر عياله ومؤنتهم التي هي صلاح لهم، ” ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها ” (1). وفي من لا يحضره الفقيه: روى محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا طلق الرجل إمرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها، وإن لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ولها أن تتزوج من شاءت من ساعتها (2). وفي رواية البزنطي: أن متعة المطلقة فريضة (3). وروي أن الغني يتمتع بدار أو خادم، والوسط يتمتع بثوب، والفقير بدرهم أو خاتم (4). ورى: أن أدناه الخمار ونحوه (5). وفي مجمع البيان: على الموسع قدره، والمتعة خادم، أو كسوة، أو ورق، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام. ثم اختلف في ذلك: فقيل: إنما يجب المتعة التي لم يسم لها صداق، خاصة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وقيل: المتعة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طلقت قبل الدخول فانما لها نصف الصداق ولا متعة لها رواه أصحابنا أيضا، وذلك محمول على الاستحباب (6).


(1) الكافي: ج 4، ص 56، كتاب الزكاة، باب كراهية السرف والتقتير، ح 8. (2) الفقيه: ج 3، ص 326، باب 159، طلاق التي لم يدخل بها وحكم المتوفى عنها زوجها قبل الدخول وبعده، ح 1. (3) الفقيه: ج 3، ص 327، باب 159، طلاق التي لم يدخل بها وحكم المتوفى عنها زوجها قبل الدخول وبعده، ح 3. (4 و 5) الفقيه: ج 3، ص 327، باب 159، طلاق التي لم يدخل بها وحكم المتوفى عنها زوجها قبل الدخول وبعده، ح 4 وح 5. (6) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 340، في بيان معنى الآية 236، من سورة البقرة. (*)

[ 564 ]

[ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237) ] وفي الكافي: بإسناده عن أحمد بن محمد، عن عبد الكريم، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لاتمتع المختلعة (1). علي بن إبراهيم عن ابن ابي عمير، عن حماد، عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تمتع (2). متعا: أي تمتيعا. بالمعروف: بالوجه الذي يستحسنه الشرع كما سبق في الاخبار. حقا: صفة لمتاعا، أو مصدر مؤكد، أي حق حقا. على المحسنين: الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال وبالتقوى، والاجتناب عما يسخط الرب، أو إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم محسنين للمشارفة ترغيبا وتحريصا. وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن ابي عمير، عن حفص بن البخترى، عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يطلق إمرأته، أيمتعها ؟ قال: نعم، أما يحب أن يكون من المحسنين، أما يحب أن يكون من المتقين (3). وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف


(1) الكافي: ج 6، ص 144، كتاب الطلاق، باب عدة المختلعة والمباراة ونفقتهما وسكناهما، ح 2. (2) الكافي: ج 6، ص 144، كتاب الطلاق، باب عدة المختلعة والمباراة ونفقتهما وسكناهما، ح 3. (3) الكافي: ج 6، ص 104، كتاب الطلاق، باب متعة المطلقة، ح 1. (*)

[ 565 ]

ما فرضتم: أي فلهن نصف ما فرضتم لهن، أو فالواجب. إلا أن يعفون: أي المطلقات فلا يأخذن شيئا. أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح: في مجمع البيان: قيل: هو الولي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، وقيل: الزوج ورواه أصحابنا غير أن الاول أظهر وعليه المذهب انتهى (1). وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: ” أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ” قال: هو الاخ والاب والرجل يوصى إليه والذي يجوز أمره في ماله يتيمه قلت له: أرأيت إن قالت: لا اجيز ما يصنع، قال: ليس لها ذلك، أتجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا (2). وعن إسحاق بن عمار، قال: سألت جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله ” إلا أن يعفون ” قال: المرأة تعفو عن نصف الصداق، قلت: ” أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ” قال: أبوها إذا عفى جاز له، وأخوها إذا كان يقيم بها وهو القائم عليها فهو بمنزلة الاب، يجوز له، وإذا كان الاخ لا يهتم ولا يقيم بها لم يجز عليها أمره (3). وعن رفاعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” الذي بيده عقدة النكاح ” وهو الولي الذي أنكح يأخذ بعضا ويدع بعضا، وليس له أن يدع كله (4). وفي تهذيب الاحكام: روى ابن أبي عمير، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ومتى طلقها قبل الدخول بها، فلابيها أن يعفو عن بعض الصداق ويأخذ بعضا، وليس له أن يدع كله، وذلك قول الله عزوجل ” إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ” يعني الاب، والذي توكله المرأة في تولية


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 341، في بيان معنى الآية 237، من سورة البقرة. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 125، ح 408، وفيه (بقيمة) بدل (يتيمه). (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 126، ح 410. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 125، ح 407. (*)

[ 566 ]

أمرها من أخ وقرابة أو غيرهما (1) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. وفي الكافي: وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة جميعا، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل ” وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ” قال: هو الاب أو الاخ أو الرجل الذي يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها فتجيز فإذا عفى فقد جاز (2). ومما يدل على أن المراد من الذي بيده عقدة النكاح، الزوج: ما رواه في من لا يحضره الفقيه: عن الحسن بن محبوب، عن حماد الناب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل تزوج إمرأة على بستان له معروف، وله غلة كثيرة، ثم مكث سنين لم يدخل بها، ثم طلقها، قال: ينظر إلى ما صار إليه من غلة البستان من يوم تزوجها فيعطها نصفه ويعطيها نصف البستان إلا أن تعفو فيقبل منه ويصطلحا على شئ ترضى به منه، فهو أقرب للتقوى (3). ويمكن حمل عبارة الآية على إرادة كلا المعنيين، فإن الزوج والولي كليهما بيدهما عقدة النكاح، للجمع بين الاخبار، فالمراد بعفو الزوج العفو عن استرداد النصف، و بعفو الولي، العفو عن بعض ما تستحقه المرأة من النصف. وأن تعفوا أقرب للتقوى: أي عفوكم عن الاسترداد أقرب إلى التقوى. وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن نجية العطار قال: سافرت مع أبي جعفر (عليه السلام) إلى مكة فأمر غلامه بشئ فخالفه إلى غيره، فقال أبو جعفر عليه السلام والله لاضربنك يا غلام، قال: فلم أره ضربه، فقلت: جعلت فداك، إنك حلفت لتضربن غلامك


(1) التهذيب: ج 6، ص 215، باب 86، الوكالات، قطعة من حديث 6. (2) الكافي: ج 6، ص 106، كتاب الطلاق، باب ما للمطلقة التي لم يدخل بها من الصداق، ح 2. (3) الفقيه: ج 3، ص 272، باب 124، ما أحل الله عزوجل من النكاح وما حرم منه: ح 77. (*)

[ 567 ]

فلم أرك ضربته ؟ قال: أليس الله عزوجل يقول: ” وإن تعفوا أقرب للتقوى ” (1). ولا تنسوا الفضل بينكم: أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض. إن الله بما تعملون بصير: لا يضيع تفضلكم. وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يأتي على الناس زمان عضوض، يعض كل إمرء على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال الله عزوجل ” ولا تنسوا الفضل بينكم ” ينبري في ذلك الزمان قوم يعاملون المضطر هم شرار الخلق (2). وفي نهج البلاغة: قال عليه السلام: يأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر فيه على ما في يديه ولم يؤمر بذلك، قال الله سبحانه ” ولا تنسوا الفضل بينكم ” تنهد فيه الاشرار وتستذل الاخيار، ويباع المضطرون، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن بيع المضطرين (3). وفي عيون الاخبار: في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة، وبإسناده عن الحسين بن على عليهما السلام أنه قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمن بذلك، قال الله تعالى: ” ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ” (4). وفي تفسير العياشي: عن بعض بني عطية، عن أبي عبد الله عليه السلام في مال اليتيم يعمل به الرجل، قال: يقبله من الربح شيئا، إن الله يقول: ” ولا تنسوا الفضل بينكم ” (5).


(1) الكافي: ج 7، ص 460، كتاب الايمان والنذور والكفارات، باب النوادر، ح 4. (2) الكافي: ج 5، ص 310، كتاب المعيشة، باب النوادر، ح 28. (3) نهج البلاغة: ص 557، باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام تحت رقم 468. (4) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 45، باب 31 فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة، ح 168. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 126، ح 413، وفيه (ينيله) بدل (يقبله). (*)

[ 568 ]

[ حفظوا على الصلوت والصلوة الوسطى وقوموا لله قنتين (238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239) والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لازوجهم متعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240) ] حفظوا على الصلوت: بالاداء لوقتها والمداومة عليها: ولعل الامر بها في تضاعيف أحكام الاولاد والازواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بها عنها. وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبان بن تغلب قال: كنت صليت خلف أبي عبد الله عليه السلام بالمزدلفة فلما انصرف إلتفت إلي، فقال: يا أبان الصلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهن، وحافظ على مواقيتهن لقى الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لم يقم حدودهن ولم يحافظ على مواقيتهن لقى الله ولا عهد له إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (1). علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يزال الشيطان ذعرا (2) من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيعهن تجرأ عليه فأدخله


(1) الكافي: ج 3، ص 267، كتاب الصلاة، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها، ح 1. (2) ذعر خاف فهو مذعور وذعر ذعرا: دهش. (*)

[ 569 ]

في العظائم (1). جماعة، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن حسين بن عثمان، عن سماعة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الصلاة إذا ارتفعت في وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة، تقول: حفظتني حفظك الله. وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعتني ضيعك الله (2). والصلوة الوسطى: أي الوسطى بينها، وهي صلاة الظهر كما في بعض الاخبار (3). أو العصر كما في بعض آخر (4). أو أمير المؤمنين عليه السلام، كما في بعض آخر (5). ويمكن الحمل على الكل جمعا بين الاخبار. وقرئ بالنصب على الاختصاص. في الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل يقول فيه عليه السلام: وقال تعالى: ” حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ” وهي صلاة الظهر، وهي اول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي وسط النهار، ووسط صلاتين بالنهار، صلاة الغداة وصلاة العصر وفي بعض القراءة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر، وقوموا لله قانتين قال: و نزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله في سفره، فقنت فيها


(1) الكافي: ج 3، ص 269، كتاب الصلاة، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها، ح 8. (2) الكافي: ج 3، ص 268، كتاب الصلاة، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها، قطعة من حديث 4. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 127، ح 415، 417، 419. (4) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 79. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 128، ح 421. (*)

[ 570 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلى الله عليه وآله يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام، فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في ساير الايام (1). وفي تهذيب الاحكام: أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام مثله (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قرأ: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر، وقوموا لله قانتين، وقوله: ” وقوموا لله قانتين ” قال: إقبال الرجل على صلاته ومحافظته حتى لا يلهيه، ولا يشغله عنها شئ (3). وفي تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الصلاة الوسطى، فقال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر، وقوموا لله قانتين والوسطى هي الظهر، وكذلك كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وآله (4). عن زرارة، ومحمد بن مسلم أنهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن قول الله: ” حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ” قال: صلاة الظهر (5). عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الصلاة الوسطى، هي الوسطى من صلاة النهار، وهي الظهر، وإنما يحافظ أصحابنا على الزوال من


(1) الكافي: ج 3، ص 271، كتاب الصلاة، باب فرض الصلاة، قطعة من حديث 1. (2) التهذيب: ج 2، ص 241، أبواب الزيادات، باب 12، فضل الصلاة والمفروض منها والمسنون، قطعة من حديث 23. (3) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 79. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 127، ح 415. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 127، ح 417، وتمام الحديث: ” وفيها فرض الله الجمعة، وفيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل خيرا إلا أعطاه الله إياه “. (*)

[ 571 ]

أجلها (1). وفي كتاب علل الشرايع: بإسناده إلى الحسن بن عبد الله، عن آبائه، عن جده الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث طويل يقول فيه صلى الله عليه وآله وقد سأله بعض اليهود عن مسائل: وأما صلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم فيها من الشجرة، فأخرجه الله من الجنة، فأمر الله عزوجل ذريته بهذه الصلاة إلى يوم القيامة واختارها لامتي، فهي من أحب الصلوات إلى الله عزوجل، وأوصاني أن احفظها من بين الصلوات (2). وباسناده عن عبد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: الموتور أهله وماله من ضيع صلاة العصر، قلت: ما الموتور أهله وماله ؟ قال: لا يكون له في الجنة أهل ولا مال، يضيعها فيدعها متعمدا حتى تصفر الشمس وتغيب (3). وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ” حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ” قال: الصلوات رسول الله و أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، والوسطى أمير المؤمنين، وقوموا لله قانتين، طائعين للائمة (4). وقوموا لله: أي في الصلاة. قنتين: أي ذاكرين داعين في القيام، روي عن سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام، أن القنوت هو الدعاء (5). وقد سبق أيضا أن المراد به طائعين للائمة.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 128، ح 419. (2) علل الشرايع: ج 2، ص 26، باب 36، العلة التي من أجلها فرض الله عزوجل على الناس خمس صلوات في خمس مواقيت، قطعة من حديث 1. (3) الوسائل: ج 5، ص 112، كتاب الصلاة، الباب 9، من أبواب المواقيت، ح 10. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 128، ح 421. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 128، ح 420. (*)

[ 572 ]

فإن خفتم: من عدو أو غيره. فرجالا أو ركبانا: فصلوا رجالا أو ركبانا، رجال: جمع راجل، كقيام وقائم، و ركبان: جمع راكب، كشاب وشبان. وفي الكافي: أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: ” فان خفتم فرجالا أو ركبانا ” كيف يصلي ؟ وما يقول: إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلي ؟ قال: يكبر ويومي إيماء برأسه (1). وفي تفسير العياشي: عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: صلاة المواقفة، فقال: إذا لم يكن الضعف من عدوك صليت إيماء راجلا كنت أو راكبا، فإن الله يقول ” فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ” تقول في الركوع: لك ركعت و أنت ربي، وفي السجود: لك سجدت وأنت ربي، أينما توجهت بك دابتك، غير أنك تتوجه حين تكبر أول تكبيرة (2). وعن أبان بن منصور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: فات أمير المؤمنين عليه السلام والناس يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمرهم أمير المؤمنين عليه السلام: أن يسبحوا ويكبروا ويهللوا، قال: وقال الله ” فان خفتم فرجالا أو ركبانا ” فأمرهم علي عليه السلام فصنعوا ذلك ركبانا ورجالا (3). وفي مجمع البيان: ويروي أن عليا عليه السلام صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالايماء، وفعل بالتكبير، وأن النبي صلى الله عليه وآله صلى يوم الاحزاب بإيماء (4). وفي من لا يحضره الفقيه: روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن الصادق


(1) الكافي: ج 3، ص 457، كتاب الصلاة، باب صلاة الخوف، ح 6. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 128، ح 422. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 128، ح 423. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 344، في بيان المعنى لآية 213، من سورة البقرة. (*)

[ 573 ]

عليه السلام في صلاة الزحف، قال: تكبير وتهليل، يقول الله عزوجل ” فان خفتم فرجالا أو ركبانا ” (1). وروي عن أبي بصير أنه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصا أو سبعا في الفريضة، فصل وأنت على دابتك (2). وفي رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: الذي يخاف اللصوص يصلي إيماء على دابته (3). فإذا أمنتم: من الخوف. فاذكروا الله: صلاة الامن. أو اشكروه على الامن. كما علمكم: ذكرا مثل ما علمكم، و ” ما ” مصدرية أو موصولة، أو موصوفة. ما لم تكونوا تعلمون: مفعول ” علمكم “. والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لازوجهم: التقدير على قراءة النصب، ليوصوا وصية، أو كتب الله عليهم وصية، أو الزموا وصية. وعلى قراءة الرفع وصية الذين، أو حكمهم، أو هم أهل وصية، أو كتب عليهم وصية، أو عليهم وصية. وقرء متاع بدلها. متعا إلى الحول: نصب ب‍ ” ليوصوا ” إن اضمرت، وإلا فبالوصية، أو بمتاع على قراءة من قرأه لانه بمعنى التمتيع. غير إخراج: بدل منه، أو مصدر مؤكد، كقولك هذا القول غير ما تقول، أو حال من ” أزواجهم ” أي غير مخرجات. والمعنى أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لازواجهم بأن يتمتعن بعدهم حولا بالسكنى. وذلك أول الاسلام فنسخت المدة بقوله: ” أربعة أشهر وعشرا ” لانه متأخر عنه بالنزول.


(1) الفقيه: ج 1، ص 295، باب 63 صلاة الخوف والمطاردة والمواقفة والمسايفة ح 8. (2) الفقيه: ج 1، ص 295، باب 63 صلاة الخوف والمطاردة والمواقفة والمسايفة ح 9. (3) الفقيه: ج 1، ص 295، باب 63 صلاة الخوف والمطاردة والمواقفة والمسايفة ح 10. (*)

[ 574 ]

[ وللمطلقت متع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذلك يبين الله لكم ءايته لعلكم تعقلون (242) ] وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي جعفر قال: سألته عن قوله: ” متاعا إلى الحول غير إخراج ” ؟ قال: منسوخة نسختها آية ” يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ” ونسختها آيات الميراث (1). عن أبن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: سألته عن قول الله ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ” قال: منسوخة، وذكر كما سبق سواء (2 / 3). فإن خرجن: عن منزل الازواج. فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف: مما لم ينكره الشرع غير الخروج، وأما فيه فعليكم الجناح في ترك كفهن. والله عزيز: غالب على الانتقام ممن خالفه. حكيم: بمصالحهم. وللمطلقت: سواء المفوضة وغيرها، سوى المختلعة كما مر، إلا أن للمفوضة على


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 129، ح 426، والحديث عن ابن أبي عمير، عن معاوية، وفيه (قال: سألته عن قول الله: ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم ” إلى آخر الحديث). (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 129، ح 427، والحديث عن أبي بصير ولفظه هكذا (قال: سألته عن قول الله: ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ” قال: هي منسوخة، قلت: وكيف كانت ؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على أمرأته من صلب المال حولا ثم اخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها). (3) هذا واعلم أن ما عزاه المصنف إلى أبي بصير، هو عن معاوية بن عمار وما عزاه إلى معاوية بن عمار، هو عن أبي بصير مضافا إلى ان مضمونهما ايضا مختلفة. (*)

[ 575 ]

سبيل الوجوب ولغيرها على الاستحباب. متع: متعة. بالمعروف: بما يعرفه الشرع. حقا على المتقين: الكاملين الذين يتقون في ترك الواجبات والمندوبات، وقال قوم: المراد بالمتاع نفقة العدة. وفي الكافي: أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن عبد الكريم، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل ” وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ” قال: متاعها بعد ما تنقضي عدتها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وكيف يمنعها وهي في عدتها، ترجوه ويرجوها، ويحدث الله عزوجل بينهما ما يشاء، وقال: إذا كان الرجل موسعا عليه متع امرأته بالعبد والامة والمقتر بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم، وأن الحسن بن علي عليهما السلام متع إمرأة له بأمة، ولم يطلق إمرأة إلا متعها (1). حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن محمد بن زياد، عن عبد الله بن سنان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن سماعة جميعا، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في قول الله عزوجل ” وللمطلقات متاع بالمعروف حقا، على المتقين ” قال: متاعها بعد ما تنقضي عدتها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، قال: فكيف يمتعها في عدتها وهي ترجوه ويرجوها، ويحدث الله ما يشاء. أما أن الرجل الموسر يمتع المرأة بالعبد والامة، ويمتع الفقير بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم، و أن الحسن بن علي عليهما السلام متع إمرأة طلقها بأمة ولم يكن يطلق إمرأة إلا متعها (2). حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن محمد بن زياد، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، إلا أنه قال: كان الحسن بن علي عليهما السلام يمتع


(1) الكافي: ج 6، ص 105، كتاب الطلاق، باب متعة المطلقة، ح 3، وفيه (وكيف لا يمتعها) (2) الكافي: ج 6، ص 105، كتاب الطلاق، باب متعة المطلقة، ح 4. (*)

[ 576 ]

[ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديرهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحيهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) ] نسائة بالامة (1). عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن أبي بصير قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: أخبرني عن قول الله عزوجل ” وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ” ما أدنى ذلك المتاع ؟ إذا كان معسرا لا يجد ؟ قال: خمار وشبهه (2). كذلك: اشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدد. يبين الله لكم ءايته: وعد بأنه سيبين لعباده ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد. لعلكم تعقلون: أي تستعملون العقل في فهمها. ألم تر: تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ. وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع، فإنه صار مثلا في التعجب. إلى الذين خرجوا من ديرهم: قيل: يريد أهل داوردان (3)، قرية قبل


(1 و 2) الكافي: ج 6، 105، كتاب الطلاق، باب متعة المطلقة، ح 4 وح 5. (3) بفتح الواو وسكون الراء وآخره نون: من نواحي شرقي واسط بينهما فرسخ، قال ابن عباس في قوله عزوجل: ” الم تر إلى الذين خرجوا.. ” قال: كانت قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها إلى آخره. (معجم البلدان: ج 2، ص 434، باب الدال والالف). (*)

[ 577 ]

واسط، وسيجئ في الحديث أن هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام. وهم ألوف: أي الوف كثيرة، أعني سبعين ألف بيت. وقيل: متألفون، جمع الف والف، كقاعد وقعود، والاول هو الصحيح، والواو للحال حذر الموت: مفعول له. فقال لهم الله موتوا: قال لهم: موتوا، فماتوا، كقوله: كن فيكون، والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة بمشيئة الله وأمره ثم أحيهم: حين مر عليهم حزقيل. إن الله لذو فضل على الناس: حيث أحياهم للاعتبار والفوز بالسعادات ولكن أكثر الناس لا يشكرون: لا يشكرونه كما ينبغي، أولا يعتبرون وفي عيون الاخبار: في مجلس الرضا عليه السلام مع اهل الاديان والمقالات في التوحيد، في كلام للرضا عليه السلام مع النصارى، قال عليه السلام: فمتى اتخذتم عيسى ربا لجاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل (1) ربا لانهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم عليهما السلام من إحياء الموتى وغيره. إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون، وهم الوف حذر الموت، فأماتهم ألله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة، ولم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل، فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله إليه أتحب أن أحييهم لك، فتنذرهم ؟ قال: نعم يا رب، فأوحى الله إليه أن نادهم، فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله تعالى، فقاموا أحياء أجمعون، ينفضون التراب عن رؤوسهم (2). وفي هذا المجلس يقول الرضا عليه السلام: وقد صنع حزقيل النبي عليه السلام


(1) حزقيل: هو اسم سرياني أو عبراني مضاد عبد الله أو هبة الله. تاج العروس: ج 7، ص 278 فصل الحاء من باب اللام. حزقيل نبي من أنبياء الله من بني اسرائيل مجمع البحرين: ج 5، ص 349 لغة حزقل (2) عيون اخبار الرضا، ج 1، ص 160، باب (12) ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع أهل الاديان واصحاب المقالات في التوحيد. (*)

[ 578 ]

مثل ما صنع عيسى بن مريم، فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل بعد موتهم بستين سنة ثم التفت إلى رأس الجالوت، فقال له: يا راس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة، اختارهم بخت نصر من بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم انصرف بهم إلى بابل (1) فأرسله الله عزوجل إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم (2) وفي روضة الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد وغيره، عن بعضهم عن أبي عبد الله عليه السلام وبعضهم عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل: ” الم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ” فقال: ان هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام، وكانوا سبعين الف بيت وكان الطاعون يقع فيهم في كل أوان، فكانوا إذا أحسوا به خرج من المدينة الاغنياء لقوتهم، وبقي فيهما الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا، ويقل في الذين خرجوا، فيقول الذين خرجوا: لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت ويقول الذين أقاموا لو كنا خرجنا لقل فينا الموت، قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنه إذا وقع الطاعون فيم وأحسوا به خرجوا كلهم من المدينة، فلما أحسوا بالطاعون خرجوا جميعا وتنحوا عن الطاعون حذر الموت فساروا في البلاد ما شاء الله، ثم انهم مروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها، وأفناهم الطاعون، فلما حطوا رحالهم فاطمأنوا بها، قال لهم الله موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما يلوح، وكانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم في موضع، فمر بهم نبي من انبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكى واستعبر و


(1) بابل بكسر الباء اسم ناحية منها الكوفة والحلة، وقال المفسرون في قوله تعالى: (وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماورت) قيل: بابل العراق، وقيل: بابل دنباوند، وقال أبو الحسن: بابل الكوفة، ويقال: أول من سكنها نوح عليه السلام، وهو اول من عمرها وكان قد نزلها بعقب الطوفان غسار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الدفئ (معجم البلدان باب الباء والالف في لغة بابل). (2) عيون اخبار الرضا: ج 1، ص 159 باب (12) ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع اهل الاديان و اصحاب المقالات في التوحيد). (*)

[ 579 ]

قال: يا رب لو شئت لاحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك وولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى الله أفتحب ذلك ؟ قال: نعم يا رب، فأحياهم الله، قال: فأوحى الله إليه أن قل: كذا وكذا، فقال الذي أمر الله عزوجل أن يقوله: فقال أبو عبد الله عليه السلام: وهو الاسم الاعظم، فلما قال حزقيل ذلك الكلام: نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض. فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون الله عز ذكره ويكبرونه ويهللونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أن الله على كل شئ قدير قال عمر بن يزيد: قال أبو عبد الله عليه السلام: فيهم نزلت هذه الآية (1) وفى مجمع البيان: وسأل زرارة بن أعين أبا جعفر عليه السلام عن هؤلاء القوم الذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم فقال: أحياهم حتى نظر الناس إليهم ثم أماتهم أم ردهم إلى الدنيا حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ؟ قال: لا، بل ردهم الله حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ومكثوا بذلك ما شاء الله ثم ماتوا بآجالهم (2) وفي عوالي اللئالي عن الصادق عليه السلام حديث طويل يذكر فيه النيروز الفرس، وفيه: ثم أن نبيا من أنبياء بني إسرائيل سأل ربه أن يحيي القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت، فأماتهم الله، فأوحى إليه أن صب الماء في مضاجعهم فصب عليهم الماء في هذا اليوم، فعاشوا وهم ثلاثون ألفا، فصار صب الماء في اليوم النوروز سنة ماضية لا يعرف سببها الا الراسخون في العلم (3) وقتلوا في سبيل الله: لما بين ان الفرار من الموت غير منج، أمرهم بالقتال، إذ لو جاء أجلهم ففى سبيل الله وإلا فالنصر والثواب واعلموا أن الله سميع: لما يقول المتخلف والسابق عليم: بما يضمرانه ومجاز عليهما.


(1) الكافي: ج 8، ص 170، قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، ح 237. (2) مجمع البيان، ج 1 – 2، ص 347، في نقل القصة لآية (243) من سورة البقرة (3) عوالي اللالي: ج 3، ص 41، باب الطهارة، ح 116. (*)

[ 580 ]

[ من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون (245) ] من ذا الذى يقرض الله: ” من ” استفهامية، مرفوعة المحل بالابتداء، و ” ذا ” خبر، و ” الذي ” صفة ” ذا ” أو بدله. وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه قرضا حسنا: مقرونا بالاخلاص وطيب النفس، أو مقرضا حلالا طيبا. وقيل: القرض الحسن: المجاهدة والانفاق في سبيل الله. وفي الخبر أنه صلة الامام (1) فيضعفه له: فيضاعف جزاءه له، أخرجه على صورة المغالبة، للمبالغة وقرأ عاصم: بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى، فان ” من ذا الذي يقرض الله ” في معنى أيقرض الله أحد (2) وقرأ ابن كثير فيضعفه بالرفع والتشديد (3)، وابن عامر ويعقوب بالنصب (4) أضعافا كثيرة: وأضعاف جمع ضعف، ونصبه على الحال من الضمير المنصوب، أو المفعول الثاني، لتضمن المضاعفة معنى التصدير، أو المصدر على أن الضعف اسم المصدر وجمعه للتنويع، والكثيرة من الله لا يقدرها الا الله. في كتاب معاني الاخبار: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى، عن أيوب الخزاز قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لما انزلت هذه الآية على النبي


(1) ثواب الاعمال: ص 99. (2) و (3) و (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 128. (*)

[ 581 ]

صلى الله عليه وآله ” من جاء بالحسنة فله خير منها ” قال رسول الله صلى الله عليه واله: اللهم زدني، فأنزل الله عزوجل ” من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ” فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اللهم زدني، فأنزل الله عزوجل ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ” فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى (1). وفي اصول الكافي: عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد، عن الوشا، عن عيسى بن سليمان النحاس، عن المفضل بن عمر، عن الخيبرى ويونس بن ظبيان قالا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: ما من شئ أحب إلى الله من إخراج الدراهم إلى الامام وإن الله ليجعل له الدرهم في الجنة مثل جبل احد، ثم قال: إن الله يقول في كتابه ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ” قال: هو والله في صلة الامام خاصة (2) عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شئ من الفضائل والاحكام والحدود وغير ذلك ؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحد، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى الله عزوجل، قلت: أليس الله عزوجل يقول ” من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ” وزعمت أنهم يجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن، قال: أليس قد قال الله عزوجل ” يضاعفه له أضعافا كثيرة ” فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عزوجل لهم حسناتهم لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا فضل المؤمن، ويزيده الله في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير، والحديث طويل أخذت منه موضع الجاجة (3).


(1) معاني الاخبار: ص 397، باب نوادر المعاني، ح 54. (2) الكافي: ج 1، ص 537، كتاب الحجة، باب صلة الامام، ح 2. (3) الكافي: ج 2، ص 26، كتاب الايمان والكفر، باب أن الايمان يشرك الاسلام والاسلام لا = (*)

[ 582 ]

والمسلم والمؤمن كلاهما من أهل الولاية، لكن المؤمن أعلى مرتبة، وهو من دخل الايمان في قلبه بالبرهان واعتقاده أكمل وإخلاصه أوفر. وفي كتاب ثواب الاعمال: أبي رضي الله عنه قال: حدثنا أحمد بن إدريس عن حمران بن موسى، عن يعقوب بن يزيد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن إسحاق بن عمار، قال: قلت للصادق عليه السلام: ما معنى قول الله تبارك وتعالى ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ” ؟ قال: صلة الامام (1) أبي رحمه الله قال: حدثنا محمد بن أحمد بن علي بن الفضل، عن أبي طالب عبد الله بن الصلت، عن يونس بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله (2) والله يقبض ويبصط: أي يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضته حكمته. وقرئ (يبسط) بالصاد. وإليه ترجعون: فيجازيكم على ما قدمتم. في كتاب التوحيد: باسناده إلى سليمان بن مهران، عن أبي عبد الله عليه السلام، في حديث طويل يقول عليه السلام: والقبض من الله تعالى في موضع آخر المنع، والبسط منه الاعطاء والتوسع كما قال عزوجل ” والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ” يعنى، يعطي ويوسع ويمنع ويقبض (3) * * *


= يشرك الايمان، قطقه من حديث (1) ثواب الاي: ص 99 (2) ثواب الاعمال: ص 99 (3) كتاب التوحيد: ص 161، باب 17 تفسير قوله عز وجل ” والارض جميعا قبضته يوم القيامة ” قطقه من حديث 2. (*)

[ 583 ]

[ ألم تر إلى الملا من بنى إسرءيل من بعد موسى إذ قالوا – لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا قالوا ومالنا ألا نقتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديرنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظلمين (246) ] ألم تر إلى الملا من بنى إسرءيل: ” الملا ” جماعة يجتمعون للتشاور، لا واحد له كالقوم، و ” من ” للتبعيض. من بعد موسى: أي من بعد وفاته، و ” من ” للابتداء إذ قالوا لنبى لهم: قيل: هو يوشع، وقيل: شمعون وفي مجمع البيان: اختلف فيه، فقيل: اشمويل، وهو بالعربية إسماعيل، من أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام (1) ابعث لنا ملكا نقتل في سبيل الله: أقم لنا أميرا لننهض معه للقتال، و ” نقاتل ” مجزوم على الجواب وقرئ بالرفع على أنه حال أي مقدرين القتال، و يقاتل بالياء مجزوما على الجواب، ومرفوعا على الوصف ل (ملكا). قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا: وقرأ نافع ” عسيتم ” بالكسر (2)، و ” ألا تقاتلوا ” خبر ” عسى ” فصل بينه وبين خبره بالشرط، و


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 350 في بيان المعنى لاية (246) من سورة البقرة. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 129، في تفسيره لقوله تعالى: (ومالنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا الآية). (*)

[ 584 ]

[ – وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله وسع عليم (247) ] إدخال ” هل ” على الفعل المتوقع، للتقرير والتثبيت قالوا ومالنا ألا نقتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديرنا وأبنائنا أي: أي غرض لنا في التخلف عن القتال وقد عرض ما يوجبه من الاخراج عن الاوطان، والافراد عن الاولاد. وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم، قيل: و أسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين (1) فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم في كتاب معاني الاخبار: أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزوجل ” فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ” قال: كان القليل ستين ألفا (2) والله عليم بالظلمين: وعيد لهم بترك الجهاد. وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا: ” طالوت “


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 129. (2) معاني الاخبار: ص 151 باب معنى القليل ح 1 (*)

[ 585 ]

علم عبري كداود. وجعله فعلوتا من الطول، يدفعه منع صرفه. نقل أن نبيهم عليه السلام لما دعى الله أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت قالوا أنى يكون له الملك علينا: وكانت النبوة في ولد لاوي بن يعقوب، والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لامه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة. ونحن أحق بالملك منه: وراثة. ولم يؤت سعة من المال: لان طالوت كان فقيرا، فنحن أحق بالملك منه قال: النبي عليه السلام: إن الله اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله وسع عليم: رد لاستبعادهم من وجوه أربعة: الاول: أن المعتبر إصطفاء الله وقد اصطفاه عليكم. الثاني: أن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن من السياسة، وجسامة البدن ليكون له خطر في القلوب وقوة على مقاومة العدو، وقد زاده الله فيهما. الثالث: أن الله مالك الملك يؤتي ملكه من يشاء. الرابع: أنه واسع الفضل، فيغني الفقير، عليم بمن يليق بالملك. وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي: من كلام لامير المؤمنين عليه السلام: إسمعوا ما أتلو عليكم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل، لتتعظوا، فإنه والله أبلغ عظة لكم، فانتفعوا بمواعظ الله، وانزجروا عن معاصي الله، فقد وعظكم الله بغيركم، فقال لنبيه عليه السلام: ” ألم تر إلى الملا ” إلى قوله ” والله سميع عليم ” أيها الناس إن لكم في هذه الآيات عبرة، لتعلموا أن الله جعل الخلافة والامرة من بعد الانبياء في أعقابهم، وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه، وزاده بسطة في العلم والجسم، فهل تجدون الله اصطفى بني امية على بني هاشم وزاد


[ 586 ]

معاوية علي بسطة في العلم والجسم (1) وفي أمالي شيخ الطائفة قدس سره بإسناده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قلت: أربع أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، إلى قوله عليه السلام: وقلت قدرا وقال: قيمة كل امرء ما يحسن، فأنزل الله تعالى في قصة طالوت انا لله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم (2). وفي عيون الاخبار في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام في وصف الامامة و الامام: إن الانبياء والائمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم في قوله عزوجل: ” أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون ” وقوله عزوجل في طالوت ” إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ” (3) وفي تفسير علي بن ابراهيم: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام: إن بني إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي وغيروا دين الله وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه (4) وروي أنه أرميا النبي، فسلط الله عليهم جالوت، وهو من القبط فأذلهم و قتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأموالهم واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم و قالوا: سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني اسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع الله لهم النبوة والملك في بيت


(1) احتجاج الطبرسي، ص 173 احتجاجه على قومه في الحث على المسير إلى الشام لقتال معاوية. (2) الامالي: لشيخ الطائفة، ج 2، ص 108. (3) عيون أخبار الرضا: ص 221، باب 20 ما جاء عن الرضا عليه السلام في وصف الامامة والامام… ح 1. (4) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 81، قصة طالوت وجالوت. (*)

[ 587 ]

واحد، فمن ذلك قالوا ” ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ” فقال نبيهم: ” هل عسيتم أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وأبنائنا ” وكان كما قال الله تبارك وتعالى: ” فلما كتب عليهم القتال تولوا الا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ” فقال لهم نبيهم: ” ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا ” فغضبوا من ذلك ” وقالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ” وكانت النبوة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد بنيامين أخو يوسف لامه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: ” إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ” وكان أعظمهم جسما وكان شجاعا قويا وكان أعلمهم، الا انه كان فقيرا فعابوه بالفقر فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيهم ” إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم و بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ” وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه امه فألقته في اليم، فكان في بني إسرائيل معظما يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الالواح ودرعه وما كان عنده آيات النبوة و أودعه يوشع وصيه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله طالوت إليهم ملكا يقاتل معهم رد الله عليهم التابوت كما قال الله ” ان آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ” قال: البقية، ذرية الانبياء، قوله: ” فيه سكينة من ربكم ” فإن التابوت كان يوضع بين يدي العدو وبين المسلمين، فيخرج منه ريح طيبة لها وجه كوجه الانسان (1) وما في هذا الخبر من أن ذلك النبي كان إرميا، ينافي ما نقل في مجمع البيان


(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 81 قصة طالوت وجالوت (*)

[ 588 ]

[ وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هرون تحمله الملئكة إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين (248) ] عن أبي جعفر عليه السلام أنه اشموئيل (1) ويمكن الجمع بينهما بأنهما واحد والاختلاف من النقلة. أو من اختلاف التسمية بأن عبر عنه بإسمين عند أهل زمانه. وقوله في آخر الخبر ” البقية ذرية الانبياء ” معناه أن البقية مما تركه ذرية الانبياء، كما يشرح في خبر آخر سيجئ. وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت: الصندوق فعلوت، من التوب، فإنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وفي تفسير العياشي عن العباس بن هلال، قال: سأل علي بن أسباط الرضا عليه السلام فقال: أي شئ التابوت الذي كان في بني إسرائيل ؟ قال: كان فيه ألواح موسى التي تكسرت، والطشت التى يغسل فيها قلوب الانبياء (2) وفي كتاب معاني الاخبار: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن ابراهيم بن هاشم، عن اسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته ما كان تابوت موسى ؟ و كم كان سعته ؟ قال: ثلاثة أذرع في ذراعين، قلت: ما كان فيه ؟ قال: عصا موسى والسكينة، قلت: وما السكينة ؟ قال: روح الله يتكلم، كانوا إذا اختلفوا


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 350. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 133، ح 442. (*)

[ 589 ]

في شئ كلمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون (1) ولا ينافيه ما يأتي: من أنه ريح، لاحتمال أن يكون الريح والروح واحدا. وفي اصول الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنما مثل السلاح فينا، مثل التابوت في بني اسرائيل، كانت بنو اسرائيل اي اهل بيت وجد التابوت على بابهم اوتوا النبوة، فمن صار إليه السلاح منا، اوتى الامامة (2) وبهذا المعنى من الاخبار كثيرة (3) فيه سكينة من ربكم: قيل: أي في إيتاء التابوت، أو في التابوت ما تسكنون إليه، وهو التوراة. وكان موسى إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، وقيل: صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها و جناحان، فتأن، فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا و نزل النصر (4). قال في مجمع البيان: روي ذلك في أخبارنا (5). وقيل: صور الانبياء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله. وقيل: التابوت هو القلب، والسكينة لما فيه من العلم والاخلاص، وإتيانه تصيير قلبه مقر العلم والوقار بعد أن لم يكن (6) والصحيح ما ذكر في الخبر السالف، من أنه ريح طيبة يخرج من التابوت له


(1) معاني الاخبار: ص 284، باب معنى السكينة، ح 2. (2) الكافي: ج 1، ص 238، كتاب الحجة، باب إن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بني اسرائيل، ح 1 (3) الكافي: ج 1، ص 238، كتاب الحجة، باب إن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بني اسرائيل، ح (2 – 3 – 4) (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 130 في تفسيره لقوله تعالى (فيه سكينة من ربكم). (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 353 في بيان المعنى لاية (248) سورة البقرة. (6) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 130، في تفسيره لقوله تعالى (فيه سكينة من ربكم). (*)

[ 590 ]

وجه كوجه الانسان. وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن الحسن بن خالد، عن الرضا عليه السلام أنه قال: السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الانسان (1) وبقية مما ترك ءال موسى وءال هرون: أي ذرية الانبياء، وهما موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لانهم أبنائهما. في تفسير العياشي: عن حريز، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله: ” يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ” فقال: رضاض (2) الالواح فيها العلم والحكمة، العلم جاء من السماء فكتب في الالواح وجعل في التابوت (3) تحمله الملئكة: قيل: رفعه الله بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل: كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه و كان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت، فوضعوه على ثورين فساقهما الملائكة إلى طالوت (4) وفي كتاب المناقب لابن شهر اشوب: وفي حديث جابر بن يزيد الجعفي أنه لما شكت الشيعة إلى زين العابدين عليه السلام مما يلقونه من بني امية دعا الباقر عليه السلام وأمر أن يأخذ الخيط الذي نزل به جبرئيل إلى النبي عليه السلام و يحركه تحريكا خفيفا، قال: فمضى إلى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم وضع خده على الثرى وتكلم بكلمات ثم رفع رأسه فأخرج من كمه خيطا دقيقا يفوح منه رائحة المسك وأعطاني طرفا منه، فمشيت رويدا فقال: قف يا جابر فحرك الخيط تحريكا لينا خفيفا، ثم قال: اخرج فانظر ما حال الناس، فخرجت من المسجد فإذا صياح وصراخ وولولة من كل ناحية وإذا زلزلة شديدة وهدة ورجفة، قد أخربت عامة


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 82، في تفسيره لاية (248) من سورة البقرة. (2) الرضاض: الفتات مما رض: لسان العرب: ج 7، ص 154، لغة (رضض). (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 133، ح 440. (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 254، في تفسيره لقوله تعالى: ” تحمله الملائكة “. (*)

[ 591 ]

[ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصبرين (249) ] دور المدينة وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف إنسان إلى قوله: سألته عن الخيط ؟ قال: هذا من البقية قلت: وما البقية يابن رسول الله ؟ قال: يا جابر بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ويضعه جبرئيل لدينا (1). إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين: يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي، وأن يكون إبتداء خطاب من الله. فلما فصل طالوت بالجنود: إنفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة وأصله فصل نفسه عنه، ولكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم قيل: إنه قال لهم: لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا (2). والاظهر أنه إجتمع إليه ستون ألفا وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، لما سيأتي من


(1) المناقب لابن شهر اشوب: ص 184، باب أمانة أبي جعفر الباقر عليه السلام. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 130، في تفسيره لقوله تعالى ” فلما فصل طالوت بالجنود “. (*)

[ 592 ]

أن من شرب ستون ألفا، ومن لم يشرب ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة وسألوا ان يجري الله لهم نهرا. قال: أي نبيهم إن الله مبتليكم بنهر: يعاملكم معاملة المختبر بما اقترحوه فمن شرب منه فليس منى: فليس من أشياعي، أو بمتحد معي ومن لم يطعمه فإنه منى: أي من لم يذقه، من طعم الشئ إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا. إلا من اغترف غرفة بيده: استثناء من قوله ” فمن شرب ” وقدم عليه الجملة الثانية، للعناية بها، والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرئ بفتح الغين فشربوا منه إلا قليلا منهم: أي فكرعوا فيه، إذ الاصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط. أو أفرطوا في الشرب إلا قليلا منهم. وقرئ بالرفع حملا على المعنى، أي لم يطيعوه. وروي أن الذين شربوا منه كانوا ستين ألفا (1) وروي عن ابى عبد الله عليه السلام أنه قال: القليل الذي لم يشربوا ولم يغترفوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا (2) فلما جاوزه هو: أي طالوت النهر، إلى جنود جالوت. والذين ءامنوا معه: أي القليل الذين لم يخالفوه. قالوا: أي الذين شربوا منه. لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده: لكثرتهم وقوتهم، هذا إعتذار منهم في التخلف وتحذير للقليل. قال الذين يظنون أنهم ملقوا الله: أي الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وثوابه بالموت وسماه ظنا، لشبه اليقين بالموت بالظن والشك، كما ورد في الخبر أنه ما من


(1 و 2) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 83، في تفسيره لقوله تعالى: ” فشربوا منه إلا قليلا “. (*)

[ 593 ]

[ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكفرين (250) ] يقين لا شك فيه، أشبه بشك لا يقين فيه من الموت (1). وهم القليل الذين لم يشربوا. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله: بتيسيره و توفيقه، و ” كم ” يحتمل الخبر والاستفهام. و ” من ” مبينة أو مزيدة، و ” الفئة ” الفرقة من الناس، من فاوت رأسه، اي شققته. أو من فاء إذا رجع، فوزنها فعة، أو فلة. ولا ينافي إطلاق الفئة هنا على أقل من عشرة الآف. ما رواه العياشي عن حماد بن عثمان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا يخرج القائم عليه السلام في أقل من الفئة، ولا يكون الفئة أقل من عشرة آلاف (2) من وجهين: الاول: أن الاطلاق على الاقل هنا للفئة الموصوفة بالقلة، لا الفئة المطلق، و في الخبر مطلقة. والثاني: أن المراد بالفئة في الخبر المعهودة المذكورة سابقا بأنها يكون مع القائم عليه السلام، لا مطلق الفئة. والله مع الصبرين: بالنصر والاثابة ولما برزوا لجالوت وجنوده: أي ظهروا لهم ودنوا منهم قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم


(1) لم نعثر عليه. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 134، ح 444. (*)

[ 594 ]

[ فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وءاتيه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العلمين (251) تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252) ] الكفرين: سألوا أولا، إفراغ الصبر في قلوبهم، وهو الذي ملاك الامر وثانيا: ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه. وثالثا: النصر على العدو المترتب عليهما. فهزموهم بإذن الله: فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إياهم، إجابة لدعائهم. روي في تفسير علي بن إبراهيم عن الرضا عليه السلام: لما تأذى بنو إسرائيل من جالوت، أوحى الله إلى نبيهم أن جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى عليه السلام، وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب عليه السلام، اسمه داود بن آسي، و كان آسي راعيا، وكان له عشرة بنين أصغرهم داود. فلما بعث طالوت إلى بني اسرائيل وجمعهم لحرب جالوت، بعث إلى آسي أن احضر ولدك، فلما حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه درع موسى عليه السلام، فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه، فقال لآسي: هل خلفت من ولدك أحدا ؟ قال: نعم، أصغرهم تركته في الغنم راعيا، فبعث إليه أبنه فجاء به، فلما دعى أقبل ومعه مقلاع (1)


(1) رجاء يكون فيه زاد الراعى وماله. (*)

[ 595 ]

فنادته ثلاث صخرات في طريقه، فقالت: يا داود خذنا، فأخذها في مخلاته. وكان شديد البطش قويا في بدنه شجاعا، فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه ففصل طالوت بالجنود حتى برزوا لجالوت وجنوده، فجاء داود حتى وقف بحذاء جالوت، وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التاج، وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها، وجنوده من بين يديه، فأخذ داود من تلك الاحجار حجرا فرمى به ميمنة جالوت فمر في الهوى ووقع عليهم فانهزموا، وأخذ حجرا اخر فرمى به في ميسرة جالوت فوقع عليهم فانهزموا، ورمى جالوت بحجر فصك الياقوتة في جبهته ووصلت إلى دماغه، ووقع إلى الآرض ميتا، وهو قوله ” فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة ” (1). وقتل داود جالوت: بالوجه الذي روي وءاتيه الله الملك: أي ملك بني اسرائيل قيل: ولم يجتمعوا قبل داود على ملك. والحكمة: النبوة، وأنزل عليه الزبور. وعلمه مما يشاء: صنعة الحديد ولينه له في كتاب الخصال عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى لم يبعث أنبياء ملوكا إلا أربعة بعد نوح: ذا القرنين واسمه عياش، وداود وسليمان ويوسف عليهم السلام. فأما عياش فملك ما بين المشرق والمغرب. وأما داود ما بين الشامات إلى بلاد أصطخر، وكذلك كان ملك سليمان، وأما يوسف فملك مصر وبراريها، ولم يتجاوز إلى غيرها (2). وعن أبي الحسن الاول عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شئ أربعة، اختار من الانبياء للسيف إبراهيم


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 82. (2) كتاب الخصال: ص 248، باب الاربعة (ملوك الانبياء في الارض أربعة)، ح 110. (*)

[ 596 ]

وداود وموسى وأنا (1). وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: عاش داود عليه السلام ماءة سنة، منها أربعين سنة في ملكه (2) وفي تفسير علي بن إبراهيم: قال: وكان بين موسى وبين داود خمسماءة سنة، و بين داود وعيسى ألف سنة وخمسماءة سنة (3). ولو لا دفع الله: وقرأ نافع هنا وفي الحج دفاع الله (4). الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العلمين: قيل: أي لولا أنه تعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار، لغلبوا وأفسدوا في الارض، أو فسدت الارض بشؤمتهم وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا. وأن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا. وأن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا، وهو قول الله عزوجل ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين ” فوالله ما نزلت إلا فيكم ولا عنى بها غيركم (5)


(1) كتاب الخصال: ص 225، باب الاربعة، إن الله عزوجل اختار من كل شئ أربعة، قطعة من حديث 58. (2) بحار الانوار، ج 14، ص 15، كتاب النبوة، باب قصص داود، لفظه (وكان عمر داود عليه السلام لما توفي مائة سنة صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وكانت مدة ملكه أربعين سنة) وفي كتاب كمال الدين: الباب 46 باب ما جاء في التعمير، ص 524، قطقه من حديث 3. (3) نور الثقلين: ج 1، ص 253، ح 1004 نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم. (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 131. (5) الكافي: ج 2، ص 451، كتاب الايمان والكفر، باب أن الله يدفع بالعامل عن غير العامل، ح 1. (*)

[ 597 ]

وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله ليدفع، وذكر مثله، إلا قوله: ” فو الله ما نزلت ” الخ (1) وفي مجمع البيان: ” ولولا دفع الله الناس.. الآية ” فيه ثلاثة أقوال: الثاني: أن معناه يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك، عن علي عليه السلام (2) وقريب منه ما روي عن النبي صل الله عليه وآله: لولا عباد لله ركع وصبيان رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا (3) وروى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله، لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم (4). تلك: إشارة إلى ما قص من القصص السالفة. ءايت الله: دلائله على قدرته، وإرسالك رسولا.


(1) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 83، في تفسيره لآية (251) من سورة البقرة. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 357، في نقل القصة لآية (251) من سورة البقرة. (3) رواه الطبرسي في مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 357 في نقل القصة لآية (251) من سورة البقرة وقريب منه ما في أصول الكافي: ج 2، ص 276، كتاب الايمان والكفر، باب الذنوب، ح 31 ولفظ الحديث (عن أبي الحسن عليه السلام قال: إن لله عزوجل في كل يوم وليلة مناديا ينادي: مهلا مهلا عباد الله عن معاصي الله، فلولا بهائم رتع وصبية رضع وشيوخ ركع لصب عليكم العذاب صبا ترضون به رضا) وأورده في مستدرك الوسائل: ج 2، ص 353، كتاب الجهاد، الباب 96 من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 5 ولفظه ” وعنه صلى الله عليه وآله ان لله تعالى ملكا ينزل في كل ليلة، فينادي يا أبناء العشرين جدوا واجتهدوا، ويا أبناء الثلاثين لا تغرنكم الحياة الدنيا، ويا أبناء الاربعين ماذا أعددتم للقاء ربكم، ويا أبناء الخمسين أتتكم النذير، ويا أبناء الستين زرع آن حصاده، ويا ابناء السبعين نودي لكم فأجيبوا، ويا أبناء الثمانين أتتكم الساعة وأنتم غافلون، ثم يقول: لولا عباد ركع ورجال خشع و صبيان رضع وأنعام رتع لصب عليكم العذاب صبا “. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 357، الآية 251، من سورة البقرة. (*)

[ 598 ]

[ * تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجت وءاتينا عيسى ابن مريم البينت وأيدنه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينت ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253) يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقنكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفعة والكفرون هم الظلمون (254) ] نتلوها عليك بالحق: بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب و أرباب التواريخ. وإنك لمن المرسلين: لما أخبرت بها من غير تعرف واستماع. تلك الرسل: أي الجماعة المذكورة قصصهم، أو المعلومة لك أيها النبي، أو جماعة الرسل، واللام للاستغراق. فضلنا بعضهم على بعض: بأن خصصناه بما ليس لغيره. منهم من كلم الله: قيل: هو موسى، وقيل: موسى ليلة الحيرة في الطور، ومحمد صلى الله عليه وآله ليلة المعراج. وقرء كلم الله وكالم الله (1) بنصب لفظ الجلالة. ورفع بعضهم درجت: بأن فضله على غيره، قيل: وهو محمد صلى الله عليه


(1) وقرأ اليماني: كالم الله، من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم الله، بمعنى مكالمه. الكشاف: ج 1، ص 290، في تفسيره لآية 254، من سورة البقرة. (*)

[ 599 ]

وآله، فإنه فضل على غيره من وجوه متعددة، فإنه خص بالدعوة العامة، والحجج المتكاثرة، والمعجزات المستمرة، والفضائل العلمية والعملية الفانية للحصر. وفي عيون الاخبار باسناده إلى علي بن موسى، عن أبيه، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما خلق الله خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني قال علي عليه السلام: فقلت يا رسول الله: أفأنت أفضل أم جبريل ؟ فقال عليه السلام: إن الله تعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللائمة من بعدك وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة (1). وقيل: إبراهيم خصصه بالخلة التي أعلى المراتب. وقيل: إدريس لقوله تعالى: ” ورفعناه مكانا عليا ” (2). وقيل: أولوا العزم من الرسل. والايهام في جميع تلك الاحتمالات للتفخيم. ويحتمل الحمل على الكل والايهام لعدم التعيين. يدل عليه ما رواه العياشي في تفسيره عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بالزيادة بالايمان يفضل المؤمنون بالدرجات عند الله، قلت: إن للايمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله ؟ قال: نعم، قلت: صف لي ذلك رحمك الله حتى أفهمه فقال: أما فضل الله أوليائه بعضهم على بعض فقال: ” تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ” إلى آخر الآية، وقال: ” ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ” وقال: ” انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات ” وقال: ” هم درجات عند الله ” فهذا ذكر درجات الايمان ومنازله عند الله (3).


(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 262، باب 26، ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار النادرة في فنون شتى، قطعة من حديث 22. (2) سورة مريم: الآية 57. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 135، ح 447. (*)

[ 600 ]

وءاتينا عيسى ابن مريم البينت: المعجزات. أفرده لافراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه. وجعل معجزاته مخصوصة بالذكر، لانها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره. وأيدنه بروح القدس: في اصول الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه رفعه، عن محمد بن داود الغنوي، عن الاصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل يقول فيه عليه السلام: فأما ما ذكر من أمر السابقين، فإنهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين، جعل الله فيهم خمسة أرواح، روح القدس وروح الايمان وروح القوة وروح الشهوة وروح البدن، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين وبها علموا الاشياء. وبروح الايمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئا، وبروح القوة جاهدوهم وعالجوا معاشهم، وبروح الشهوة أصابوا لذيد الطعام ونكحوا النكاح من شباب النساء، وبروح البدن دبوا أو درجوا، فهؤلاء مغفور مصفوح عن ذنوبهم، ثم قال: قال الله عزوجل ” تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ” ثم قال في جماعتهم ” وأيدهم بروح منه ” يقول: أكرمهم، ففضلهم على من سواهم، فهؤلاء مغفور مصفوح عن ذنوبهم (1). ولو شاء الله: إلزام الناس على طريقة واحدة، مشية حتم. ما اقتتل الذين من بعدهم: من بعد الرسل. من بعد ما جاءتهم البينت: المعجزات. ولكن اختلفوا: لانه لم يجبرهم على الاهتداء للابتلاء. فمنهم من ءامن: بتوفيقه. ومنهم من كفر: لاعراضه عنه بخذلانه. ولو شاء الله ما اقتتلوا: التكرار للتوكيد. ولكن الله يفعل ما يريد: فيوفق من يشاء فضلا، ويخذل من يشاء عدلا.


(1) الكافي: ج 2، ص 214، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، ح 16. (*)

[ 601 ]

وفي هذه الآية دلالة على أن المختلفين بعد الرسل بين مؤمن وكافر لا ثالث لهما. وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله عن الاصبغ بن نباته (1) قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى توقف بين يديه، فقال يا أمير المؤمنين: كبر القوم وكبرنا وهلل القوم وهللنا وصلى القوم وصلينا، فعلام نقاتلهم ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: على ما أنزل الله في كتابه، فقال يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه، فعلمنيه، فقال علي عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة فقال يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه فقال عليه السلام هذه الآية ” تلك الرسل ” وقرء إلى أن ” يفعل ما يريد ” فنحن الذين آمنا، وهم الذين كفروا، فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة، ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه الله (2). وفي أمالي شيخ الطائفة شبهه مع تغيير غير مغير للمعنى وفي آخره بعد قوله: ” ومنهم من ” فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله عزوجل وبالنبي صلى الله عليه


(1) أصبغ بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة ثم العين المعجمة، ونباتة بضم النون وفتح الباء الموحدة والالف وتائين مثناتين فوقانيتين أولهما مفتوحة من أصحاب علي والحسن عليهما السلام، وروى عن علي عليه السلام عهد الاشتر ووصيته إلى محمد ابنه، وروى أيضا الاحاديث الواردة في أن الحسين عليه السلام يقتل بكربلا، وعن أبي الجارود قال: قلت للاصبغ بن نباته: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم ؟ قال: ما أدري ما تقول، إلا أن سيوفنا كانت على عواتقنا فمن أومى إليه ضربناه بها، وكان يقول لنا تشترطوا تشترطوا فوالله ما اشتراطكم لذهب ولا فضة وما اشتراطكم إلا للموت، إن قوما من قبلكم من بني اسرائيل تشارطوا بينهم فمات أحد منهم حتى كان نبي قومه أو نبي قريته أو نبي نفسه وإنكم لبمنزلتهم إلا إنكم لستم أنبياء، وفي حديث إن أمير المؤمنين دعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال: أدخل علي عشرة من ثقاتي، فقال: سمهم لي يا أمير المؤمنين فقال له: ادخل أصبغ بن نباته الحديث، فظهر أنه كان من شرطة الخميس ومن أجلاء أصحابه عليه السلام. تنقيح المقال: ج 1، ص 150، تحت رقم 982 ملخصا. (2) احتجاج الطبرسي: ج 1، ص 169، إحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام بعد دخوله البصرة بأيام على من قال من أصحابه أنه ما قسم الفيئ فينا بالسوية. (*)

[ 602 ]

وآله وبالكتاب وبالحق، فنحن الذين آمنوا وهم الذين الذين كفروا ولو شاء الله قتالهم بمشيته وإرادته (1). وفي روضة الكافي: ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: إن العامة يزعمون أن بيعة أبي بكر حيث اجتمع الناس كان رضا الله عز ذكره، وما كان ليفتن امة محمد صلى الله عليه وآله من بعده، فقال أبو جعفر عليه السلام: أوما يقرؤون كتاب الله ؟ أو ليس الله يقول ” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الشاكرين ” قال: قلت: إنهم يفسرون على وجه آخر، قال: أو ليس أخبر الله عزوجل من الذين من قبلهم من الامم إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، حيث قال: ” وآتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ” فهذا يستدل به على أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر (2). يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقنكم: ما أوجب عليكم إنفاقه. من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفعة: وهو يوم القيامة الذي لا بيع فيه فيحصل ما ينفق بالبيع، أو يفتدي النفس ويخلص من العذاب باعطاء شئ و شرائها، ولا خلة حتى يستغني بالاخلاء ولا شفاعة إلا لمن رضي له قولا حتى يتكل على الشفعاء. والكفرون هم الظلمون: يريد التاركون للزكاة الذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه على غير وجهه، فوضع الكافرون موضعه تغليظا و تهديدا، كقوله: ” ومن كفر ” (3) مكان من لم يحج، وإيذانا بأن ترك الزكاة من


(1) كتاب الامالي للطوسي: ج 1، الجزء السابع، ص 200. (2) الكافي: ج 8، ص 270، ح 398. (3) سورة آل عمران: الآية 98. (*)

[ 603 ]

صفات الكفار لقوله: ” وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ” (1). وفي من لا يحضره الفقيه: وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله عزوجل ” حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ” (2). واعلم أن الاخبار في فضل آية الكرسي كثيرة: فمنها ما مر في صدر الكتب. ومنها ما رواه في الخرائج والجرائح، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا لقيت السبع ماذا تقول ؟ قلت: لا أدري قال: إذا لقيته فاقرأ في وجهه آية الكرسي وقل: عزمت عليك بعزيمة الله وعزيمة رسوله وعزيمة سليمان بن داود وعزيمة علي أمير المؤمنين والائمة من بعده، فإنه ينصرف عنك، قال عبد الله: فقدمت الكوفة فخرجت مع ابن عم لي إلى قرية، فإذا سبع قد اعترض لنا في الطريق، فقرأت في وجهه آية الكرسي وقلت: عزمت عليك بعزيمة الله إلى آخرها إلا تنحيت عن طريقنا ولم تؤذنا فانا لا نؤذيك (3). ومنها ما رواه في الكافي: عن علي بن إبراهيم، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، وسهل بن زياد جميعا، عن محمد بن عيسى، عن أبي محمد الانصاري،


(1) سورة فصلت: الآية 7. (2) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 7، باب 2 ما جاء في مانع الزكاة، ح 9. (3) الخرائج في اعلام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ص 96 وتمام الحديث (فنظرت إليه وقد طأطأ رأسه ودخل ذنبه بين رجليه وركب الطريق راجعا من حيث جاء فقال ابن عمي ما سمعت كلاما أحسن من كلامك هذا فقلت: هذا كلام الامام جعفر بن محمد قال: أشهد أنه إمام فرض الله طاعته، وما كان ابن عمي يعرف قليلا وكثيرا. قال: فدخلت على أبي عبد الله من قابل فاخبرته الخبر فقال: ترى اني لم اشهدكم، بئس ما ترى، ثم قال: إن لكل ولي اذن سامعة وعينا ناظرة ولسانا ناطقا، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: أنا والله صرفته عنكما وعلامة ذلك أنكما في البرية على شاطئ النهر واسم ابن عمك حبيب عندنا والله ما كان ليمته حتى يعرف هذا الامر. قال: فرجعت إلى الكوفة فاخبرت به ابن عمي بمقالة أبي عبد الله ففرح فرحا شديدا وسر به وما زال مستبصرا حتى مات) ورواه في اصول الكافي ج 2، كتاب الدعاء، باب الحرز والعوذة ص 572، ح 11، إلى قوله (وأدخل ذنبه بين رجليه وانصرف). (*)

[ 604 ]

عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شكى إليه رجل عبث أهل الارض بأهل بيته وبعياله، فقال: كم سقف بيتك ؟ قال: عشرة أذرع فقال: أذرع ثمانية أذرع ثم أكتب آية الكرسي فيما بين الثماني إلى العشرة كما تدور، فان كل بيت سمكت أكثر من ثمانية أذرع فهو محتضر تحضر الجن تكون فيه تسكنه (1). وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن اسماعيل بن مرار، وأحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه جميعا، عن يونس، عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: في سمك البيت إذا رفع ثمانية أذرع كان مسكونا، فإذا زاد على ثمان فليكتب على رأس الثمانية آية الكرسي (2). وباسناده إلى محمد بن إسماعيل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان البيت فوق ثمانية أذرع فاكتب في أعلاه آية الكرسي (3). ومنها ما رواه في من لا يحضره الفقيه في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: يا علي ومن كان في بطنه ماء أصفر فليكتب في بطنه آية الكرسي و يشربه فإنه يبرأ بإذن الله عزوجل (4). ومنها ما رواه في كتاب الخصال: عن عتبة، عن عبيد بن عمير الليثي، عن أبي ذر رحمه الله قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في المسجد جالس وحده إلى أن قال: قلت له: فأي آية أنزلها الله عليك أعظم ؟ قال: آية الكرسي ثم قال: يا أبا ذر ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة (5). وفيه فيما علم أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه: وإذا اشتكى أحدكم عينيه فليقرأ آية الكرسي وليضمر في نفسه أنها تبرأ، فإنه يعافى انشاء الله (6). ومنها ما رواه في اصول الكافي: عن محمد بن يحيى، عن عبد الله بن جعفر، عن


(1 و 2 و 3) الكافي: ج 6، ص 529، كتاب الزي والتجمل، باب تشييد البناء، ح 3 و 4 و 7. (4) من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 269، باب 176، باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب، ح 1. (5) الخصال: ص 523، ابواب العشرين وما فوقه، الخصال التي سأل عنها أبو ذر رحمه الله رسول الله صلى الله عليه وآله، قطعة من ح 13. (6) الخصال: ص 616، حديث أربعماءة. (*)

[ 605 ]

[ الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموت وما في الارض من ذا الذى يشفع عنده إلا – بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموت والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم (255) ] السياري، عن محمد بن بكر، عن أبي الجارود عن الاصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: إن في بطني ماء أصفر، فهل من شفاء ؟ فقال: نعم، بلا درهم ولا دينار، ولكن أكتب على بطنك آية الكرسي و تغسلها وتشربها وتجعلها ذخيرة في بطنك فتبرأ بإذن الله عزوجل، ففعل الرجل، فبرأ بإذن الله عزوجل (1). ومنها ما رواه في كتاب ثواب الاعمال باسناده عن رجل سمع أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها بعد كل صلاة لم يضره ذو حمه (2). ومنها ما رواه في عيون الاخبار: في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة بإسناده عن علي عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: من قرأ آية الكرسي ماءة مرة كان كمن عبد الله طول حياته (3). الله لا إله إلا هو: مبتدأ وخبر، وللنحاة خلاف في أنه هل يضمر للاخير، مثل


(1) الكافي: ج 2، ص 624، باب فضل القرآن، قطعة من حديث 21. (2) ثواب الاعمال: ص 104، ثواب من قرأ آية الكرسي عند منامه ومن قرأها عقيب كل صلاة. (3) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 65، باب 31، فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة، ح 289. (*)

[ 606 ]

في الوجود، أو يصح، أو يوجد ؟ والاصح أن ” إلا هو ” خبره، والمعنى أن الله انتفى مستحق للعبادة غيره بحسب الامكان والوجود، يعني لا يمكن ولا يوجد مستحق للعبادة. الحى قيل: (الحى) الذي له صفة يقتضي الحس والحركة الارادية، ويقتضي صحة العلم والقدرة. والمراد به في صفة الله تعالى: أنه غير مرتبط الوجود بغيره بطريق المعلولية مع كونه قديرا عالما. وفي كتاب التوحيد: باسناده إلى أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه صفة الرب عزوجل، وفيه يقول: لم يزل حيا بلا حياة (1). القيوم: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، ” فيعول ” من قام الامر إذا حفظه. وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثنا محمد بن أبي عبد الله، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، عن علي بن العباس، عن جعفر بن محمد، عن الحسين بن أسد، عن يعقوب بن جعفر قال: سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: إن الله تبارك و تعالى أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وآله أنه لا إله إلا هو الحي القيوم، و يسمى بهذه الاسماء الرحمن الرحيم العزيز الجبار العلي العظيم، فتاهت هنالك عقولهم واستخفت أحلامهم، فضربوا له الامثال وجعلوا له أندادا وشبهوه بالامثال و مثلوه أشباها وجعلوه يزول ويحول، فتاهوا في بحر عميق لا يدرون ما غوره ولا يدركون كنه بعده (2). لا تأخذه سنة ولا نوم: السنة فتور يتقدم النوم، والنوم حال يعرض للحيوان من إسترخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأسا. وهنا إشكال مشهور: وهو تقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه.


(1) كتاب التوحيد: ص 173، باب 28، نفي المكان والزمان والسكون والحركة والنزول والصعود والانتقال عن الله عزوجل قطعة من حديث 2. (2) تفسير علي بن إبراهيم: ج 2، ص 361، في تفسير سورة الحشر. (*)

[ 607 ]

واجيب: بأنه قدمه على ترتيب الوجود، وبأنه على القياس وهو الترقي من الادنى إلى الاعلى، والجملة تأكيد لما قبله، ولذلك ترك العاطف، فإن عدم أخذ السنة والنوم يؤكد كونه قيوما، وكذا في قوله: له ما في السموت وما في الارض: لانه تقرير لقيومية واحتجاج على تفرده في الالهية. وما فيهما أعم من أن يكون داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما. من ذا الذى يشفع عنده إلا بأذنه: ” من ” استفهامية مبتدأ، و (ذا) موصول خبره، والموصول صفته، والاستفهام على سبيل الانكار، وهو بيان لكبرياء شأنه، أي لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بدفع ما يريد شفاعة، فضلا عن أن يقاومه عنادا. ومن يشفع: يشفع باذنه وله مكانة عنده. وفي محاسن البرقي: باسناده قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام قوله: ” من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم ” قال: نحن اولئك الشافعون (1). يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم: ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس لانك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي، أو امور الدنيا وامور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسونه وما يعقلونه، أو ما يدركونه وما لا يدركونه. والضمير لما في السماوات وما في الارض، لان فيهم العقلاء، أو لما دل عليه من ” ذا ” من الملائكة والانبياء والائمة. ولا يحيطون بشئ من علمه: من معلوماته. إلا بما شاء: أن يعلموا. وسع كرسيه السموت والارض: الكرسي في الاصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، وكأنه منسوب إلى الكرس، وهو الملبد، مجاز عن علمه تعالى. في كتاب التوحيد: قال: حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله،


(1) محاسن البرقي: ص 183، كتاب الصفوة والنور والرحمة من المحاسن باب 44، شيعتنا آخذون بحجزتنا، ح 174. (*)

[ 608 ]

عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل ” وسع كرسيه السماوات والارض ” قال: علمه (1). حدثنا محمد الحسن بن أحمد بن الوليد قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن ربعي، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عزوجل ” وسع كرسيه السماوات والارض ” فقال: يا فضيل السماوات والارض وكل شئ في الكرسي (2). وفي الكافي مثله سواء (3). وكذا العرش مجاز عن علم له تعالى أعلى من الاول. كما رواه في كتاب التوحيد: باسناده إلى حنان بن سدير، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: ثم العرش في الوصل متفرد من الكرسي، لانهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعا غيبان وهما في الغيب مقرونان، لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنه الاشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والعين والمشية وصفة الارادة وعلم الالفاظ والحركات والترك وعلم العود والبداء، فهما في العلم بابان مقرونان، لان ملك العرش سوى ملك الكرسي وعلمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: ” رب العرش العظيم ” أي صفة أعظم من صفة الكرسي، وهما في ذلك مقرونان (4). وقيل: الكرسي جسم بين يدي العرش، ولذلك سمي كرسيا، محيط بالسماوات السبع.


(1) كتاب التوحيد: ص 327، باب 52، معنى قول الله عزوجل: وسع كرسيه السماوات والارض، ح 1. (2) كتاب التوحيد: ص 327، باب 52 معنى قول الله عزوجل: وسع كرسيه السماوات والارض، ح 3. (3) الكافي: ج 1، ص 102، كتاب التوحيد، باب العرش والكرسي، ح 3. (4) كتاب التوحيد: ص 321، باب 50 معنى العرش وصفاته قطعة من حديث 1. (*)

[ 609 ]

لما رواه في كتاب التوحيد: بإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث طويل يذكر فيه عظمة الله جل جلاله يقول فيه عليه السلام بعد أن ذكر الارضين السبع ثم السماوات السبع: وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والحجب عند الهواء الذي تحار فيه القلوب كحلقة في فلاة قي (1) والسبع والبحر المكفوف والحجب والهواء عند الكرسي كحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية ” وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ” (2). وفي روضة الكافي باسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله مثله (3). وروى الاصبغ بن نباته أن عليا صلوات الله عليه سئل عن قول الله تبارك وتعالى ” وسع كرسيه السماوات والارض ” قال: السماوات والارض وما بينهما من مخلوق في جوف الكرسي وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله، فأما ملك منهم في صورة الآدميين وهي أكبر الصور على الله، وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب سعة الرزق لبني آدم. والملك الثاني في صورة الثور وهو سيد البهائم ويطلب إلى الله ويتضرع إليه ويطلب السعة في الرزق للبهائم. والملك الثالث في صورة النسر وهو سيد الطيور، وهو يطلب إلى الله تبارك وتعالى ويتضرع إليه ويطلب السعة في الرزق لجميع الطيور. والملك الرابع في صورة الاسد، وهو سيد السباع، وهو يرغب إلى الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع، ولم يكن في هذه الصور أحسن من الثور، ولا أشد انتصابا منه حتى اتخذ الملا من بني إسرائيل العجل، فلما عكفوا عليه وعبدوه من دون الله خفض الملك الذي في صورة الثور رأسه استحياء من الله أن عبد من دون الله شئ يشبهه وتخوف أن ينزل به العذاب (4) وعلى هذا العرش جسم أيضا. روي في كتاب التوحيد: عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل، وفيه قال السائل: فقوله ” الرحمن على العرش استوى ” قال أبو عبد الله عليه السلام: بذلك وصف


(1) والقي بالكسر والتشديد من القوي وهي الارض القفر الخالية، ومنه ما في حديث زينب العطارة: هذه الارض بمن عليها كحلقة في فلاة قي مجمع البحرين: ج 1، ص 350، في لغة قوا. (2) كتاب التوحيد: ص 277 باب 38، ذكر عظمة الله جل جلاله، قطعة من حديث 1. (3) الكافي: ج 8، ص 154، ح 143، وفيهما اختلاف فاحش في الالفاظ والجملات، فلاحظ. (4) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 85، في تفسيره لآية الكرسي. (*)

[ 610 ]

نفسه، وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، ولا أن يكون العرش حاويا له، ولا أن يكون العرش محتازا له ولكنا نقول: هو حامل العرش و ممسك العرش ونقول من ذلك ما قال: ” وسع كرسيه السماوات والارض ” فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاويا، أو أن يكون عزوجل محتاجا إلى مكان، أو إلى شئ مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه (1). وقيل: انه الفلك المشهور بفلك البروج، كما أن العرش الفلك المشهور بالفلك الاطلس والاعظم وقيل: تصوير لعظمته وتمثيل مجرد ولا كرسي في الحقيقة. ولا يؤده: لا يثقله، من الاود وهو الاعوجاج. حفظهما: أي حفظه السماوات والارض، فحذف الفاعل، وهو أحد المواضع الاربعة التي حذف الفاعل فيه قياس، واضيف المصدر إلى المفعول. وهو العلى: المتعالي عن الانداد والاشباه. العظيم: المستحقر بالاضافة إليه كل ما سواه. وفي عيون الاخبار: باسناده إلى محمد بن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام، هل كان الله عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق ؟ قال: نعم، قلت: يراها و يسمعها ؟ قال: ما كان يحتاج إلى ذلك، لانه لم يكن يسألها ولا يطلب منها، هو نفسه ونفسه هو، قدرته نافذة، فليس يحتاج إلى أن يسمي نفسه، ولكنه اختار لنفسه اسما لغيره يدعوه بها، لانه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فأول ما اختاره لنفسه ” العلي العظيم ” لانه أعلى الاشياء كلها، فمعناه الله، واسمه العلي العظيم هو أول أسمائه، لانه علا كل شئ (2). واعلم أن المشهور أن آية الكرسي هي هذه. وما رواه في اصول الكافي (3)، ومثله في روضة الكافي: عن محمد بن خالد، عن حمزة بن حميد، عن اسماعيل بن عباد، عن أبي عبد الله عليه السلام ” ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ” آخرها ” وهو العلي العظيم ” والحمد لله رب العالمين وآيتين بعدها (4).


(1) كتاب التوحيد: ص 248، باب 36، باب الرد على الثنوية والزنادقة قطعة من حديث 1. (2) عيون اخبار الرضا: ج 1، ص 129، باب 11، ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار في التوحيد، ح 24. (3) الكافي: ج 2، ص 621، كتاب فضل القرآن، ح 5. (4) الكافي: ج 8، ص 290، ح 438. (*)

[ 611 ]

[ لا إكراه في الدين – – – – من الغى فمن – يكفر بالطغوت ويؤمن – بالله – فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256) ] بظاهره يدل عليه، لان الظاهر رجوع الضمير في (آخرها) إلى آية الكرسي. وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد: أنه قرأ علي بن موسى صلوات الله عليهما على التنزيل: ” الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم ” (1). وذكر محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله بإسناده أنه يقرأ بعدها: والحمد لله رب العالمين (2). وفي الرواية الاولى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت هم الظالمون لآل محمد يخرجونهم من النور إلى الظلمات اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والحمد لله رب العالمين) كذا نزلت (3). لا إكراه في الدين: إذ الاكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا، ولكن قد تبين الرشد من الغى: تميز كل ما هو رشد عن كل ما هو غي، إذ يجب حمل اللام


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 84، قطعة من حديث طويل. (2) الكافي: ج 8، ص 290، ح 438. (3) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 85، قطعة من حديث طويل. (*)

[ 612 ]

على الاستغراق، لعدم قرينة التخصيص المقام الخطابي، وتبين الرشد من الغي لا تخصيص فيه بزمان دون زمان وبأحد دون أحد، فيفيد تبيين الرشد في كل زمان لكل أحد، فيدل على وجود معصوم في كل زمان إتباعه هو الرشد وعدم إتباعه هو الغي. فمن يكفر بالطغوت: فعلوة من الطغيان قلب عينه ولامه، وهم ظالموا حق آل محمد. روى الشيخ أبو جعفر الطوسي: باسناده إلى الفضل بن شاذان، عن داود بن كثير، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: أنتم الصلاة في كتاب الله عزوجل وانتم الزكاة وأنتم الحج، فقال: يا داود نحن الصلاة في كتاب الله عزوجل ونحن الزكاة ونحن الصيام ونحن الحج ونحن الشهر الحرام ونحن البلد الحرام ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله ونحن وجه الله قال الله تعالى: ” فأينما تولوا فثم وجه الله ” ونحن الآيات ونحن البينات. وعدونا في كتاب الله عزوجل الفحشاء والمنكر والبغي والخمر والميسر والانصاب والازلام والاصنام والاوثان والجبت والطاغوت والميتة والدم ولحم الخنزير، يا داود إن الله خلقنا فأكرم خلقنا وجعلنا امنائه وحفظته وخزانه على ما في السماوات وما في الارض، وجعل لنا أضدادا وأعداء فسمانا في كتابه، وكنى عن أسمائنا بأحسن الاسماء وأحبها إليه، تكنية عن العدو، وسمى أضدادنا وأعدائنا في كتابه وكنى عن أسمائهم وضرب لهم الامثال في كتابه في أبغض الاسماء إليه وإلى عبادة المتقين (1). وفي مجمع البيان: في الطاغوت خمسة أقوال: أحدها إنه الشيطان، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام (2). ويؤمن بالله: بالتوحيد والتصديق للرسل في كل ما جاؤوا به، ومن جملتها، بل عمدتها ولاية الائمة من آل محمد عليهم السلام. فقد استمسك بالعروة الوثقى: طلب الامساك من نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق، وهي مستعارة لمستمسك المحق من الرأي القويم، اطلق هنا على الايمان بالله، وهو يلازم ولاية الائمة عليهم السلام.


(1) بحار الانوار: ج 24، ص 303، كتاب الامامة، ح 14، نقلا عن كنز الفوائد. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 364، في بيان المعنى لآية 256، من سورة البقرة. (*)

[ 613 ]

في اصول الكافي: حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن غير واحد، عن أبان، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام في قول الله عزوجل ” فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ” قال: هي الايمان (1). علي بن إبراهيم: عن أبيه ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في قوله عزوجل: ” فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها “، قال: هي الايمان بالله وحده لا شريك (2) له والحديثان طويلان أخذنا منهما موضع الحاجة. وفي محاسن البرقي: عنه، عن محسن بن أحمد، عن أبان الاحمر، عن أبي جعفر الاحول، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: عروة الوثقى التوحيد، والصبغة الاسلام (3). وفي كتاب المناقب لابن شهر آشوب: موسى بن جعفر، عن أبيه عليهما السلام و أبو الجارود عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: ” فقد استمسك بالعروة الوثقى ” قال: مودتنا أهل البيت (4). وفي عيون الاخبار: بإسناده إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أحب أن يركب سفينة النجاة ويستمسك بالعروة الوثقى ويعتصم بحبل الله المتين فليوال عليا بعدي وليعاد عدوه، وليأتم بالائمة الهداة من ولده (5). وفيه فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة


(1) الكافي: ج 2، ص 12، باب في أن الصبغة هي الاسلام، قطعة من حديث 3. (2) الكافي: ج 2، ص 12، في أن الصبغة هي الاسلام، قطعة من حديث 1. (3) المحاسن: كتاب مصابيح الظلم، ص 240، باب 24، جوامع من التوحيد ح 221. (4) لم أعثر عليه في المناقب ولكن رواه في الصافي: ج 1، ص 262، في تفسيره لقوله تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى) عن الباقر عليه السلام. (5) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 227، باب 28، فيما جاء عن الامام عليه السلام من الاخبار المتفرقة قطعة من حديث 43. (*)

[ 614 ]

باسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: والائمة من ولد الحسين عليهم السلام من أطاعهم فقد أطاع الله ومن عصاهم فقد عصى الله، هم العروة الوثقى وهم الوسيلة إلى الله تعالى (1). وفي باب ما كتبه الرضا عليه السلام للمأمون من محض الاسلام وشرايع الدين، أن الارض لا تخلو من حجة الله تعالى على خلقه في كل عصر وأوان، و أنهم العروة الوثقى وأئمة الهدى والحجة على أهل الدنيا إلى أن يرث الله الارض ومن عليها (2). وفي كتاب الخصال: عن عبد الله بن العباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله فينا خطيبا فقال: في آخر خطبته نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الاعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى (3). وفي كتاب التوحيد: باسناده إلى أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته أنا حبل الله المتين وأنا عروة الله الوثقى (4). وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة: باسناده إلى إبراهيم بن ابي محمود عن الرضا عليه السلام في حديث طويل نحن حجج الله في خلقه وكلمة التقوى والعروة الوثقى (5). وفي كتاب معاني الاخبار: باسناده إلى عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله


(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 58، باب 31، فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة، ح 217. (2) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 121، باب 35، ما كتبه الرضا عليه السلام للمأمون في محض الاسلام وشرايع الدين، قطعة من حديث 1. (3) كتاب الخصال: ص 432، باب العشرة (عشر خصال جمعها الله عزوجل لنبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم) قطعة من حديث 14. (4) كتاب التوحيد: ص 164، باب 22، معنى جنب الله عزوجل قطعة من حديث 2. (5) كتاب كمال الدين وتمام النعمة: ص 202، باب 21، العلة التي من أجلها يحتاج إلى الامام عليه السلام الحديث 6. (*)

[ 615 ]

عليه وآله: من أحب أن يستمسك بالعروة التي لا انفصام لها فليستمسك بولاية أخي ووصيي علي بن أبي طالب فإنه لا يهلك من أحبه وتولاه ولا ينجو من أبغضه وعاداه (1). وذكر صاحب نهج الايمان (2) في معنى هذه الآية ما هذا لفظه: روى أبو عبد الله الحسين بن جبير رحمه الله في كتاب نخب المناقب لآل أبي طالب (3) حديثا مسندا إلى الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أحب أن يستمسك بالعروة الوثقى فليستمسك بحب علي بن أبي طالب (4). واعلم أن ما ذكر في الاخبار من تفسير العروة الوثقى، تارة بحب أهل البيت، و تارة بالائمة، وتارة بولاية الائمة، وتارة بالنبي، وتارة بأمير المؤمنين. مؤداة واحدة. وكذا ما رواه في عيون الاخبار بإسناده إلى الرضا عليه السلام: إنه ذكر القرآن يوما وعظم الحجة فيه، والآية والمعجزة في نظمه، فقال: هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى (5). لا ينافي ما سبق من الاخبار، لان كلا منها يستلزم الآخر، إذ المراد بالمحبة والولاية ما هو بالطريق المقرر في القرآن.


(1) معاني الاخبار: ص 368، باب معنى العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ح 1. (2) هو الشيخ علي بن يوسف الشهير بابن جبير وسبط ابن جبير، له كتاب نهج الايمان في الامامة والمناقب، رتبه في 48 فصلا، جمعه المؤلف من ألف كتاب، كما صرح بذلك في أوله. وابن جبير هذا حفيد ابن جبير صاحب نخب المقال. (الذريعة: ج 24، ص 411، تحت رقم 2169) (3) الناخب هو أبو عبد الله الحسين بن جبير تلميذ نجيب الدين علي بن فرج الذي كان تلميذ ابن شهر اشوب المؤلف، وابن جبير هذا هو جد علي بن يوسف المعروف بسبط ابن جبير ومؤلف نهج الايمان، له كتاب المناقب لآل أبي طالب وهو منتخب في مناقب آل أبي طالب تصنيف محمد بن علي بن شهر اشوب. (الذريعة: ج 24، ص 88، تحت رقم 462) (4) مناقب آل أبي طالب: ج 3، ص 76، فصل في أنه حبل الله والعروة الوثقى وصالح المؤمنين، والاذن الواعية، والنبأ العظيم. (5) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 130، باب 35، ما كتبه الرضا عليه السلام للمأمون في محض الاسلام وشرايع الدين، قطعة من حديث 9. (*)

[ 616 ]

[ الله ولى الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمت إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمت أولئك أصحب النار هم فيها خلدون (257) ألم تر إلى الذى حاج إبرهم في ربه أن ءاتيه الله الملك إذ قال إبرهم ربى الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبرهم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظلمين (258) ] لا انفصام لها: لا انقطاع لها، يقال: فصمته فانفصم، إذا كسرته. والله سميع: بالاقوال. عليم: بالنيات وساير الاعمال، وهو وعد للكافر بالطاغوت، وتهديد لغيره. الله ولى الذين ءامنوا: محبهم أو متولي أمرهم. والمراد بالذين آمنوا، الذين كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله بمعنى ذكرناه. يخرجهم من الظلمت: أي ظلمات الذنوب. إلى النور: إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل كما يأتي في الخبر، أو يخرجهم بالايمان من الظلمات التي فيها غيرهم إلى نور الايمان، أي يجعل لهم نورا ليس لغيرهم. وفي كتاب الخصال: عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: المؤمن ينقلب في خمسة من النور، مدخله نور ومخرجه نور


[ 617 ]

وعلمه نور وكلامه نور ومنظره يوم القيامة إلى النور (1). أو يخرجهم من ظلمات الجهل واتباع الهوى والوساوس، والشبه المؤدية إلى الكفر، (إلى النور إلى الهدى الموصل إلى الايمان. والجملة خبر بعد خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو إستيناف مبين أو مقرر للولاية. والذين كفروا أولياؤهم الطغوت: في روضة الكافي: سهل، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام (والذين كفروا: اوليائهم الطواغيت) (2). قيل: الشياطين، أو المضلات من الهوى والشياطين، وغيرهما. وعلى الخبر الذي سبق: الظالمون لآل محمد حقهم والذين كفروا أشياعهم. يخرجونهم من النور إلى الظلمت: من النور الذي منحوه بالفطرة إلى الكفر فساد الاستعداد، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات. أولئك أصحب النار هم فيها خلدون: وعيد وتحذير وفي تفسير العياشي: عن مسعدة بن صدقة، قال: قص أبو عبد الله عليه السلام: قصة الفريقين جميعا في الميثاق حتى بلغ الاستثناء من الله في الفريقين، فقال: إن الخير والشر خلقان من خلق الله له فيهما المشية في تحويل ما شاء الله فيما قدر فيها حال عن حال، والمشية فيما خلق لها من خلقه في منتهى ما قسم لهم من الخير والشر، و ذلك إن الله قال في كتابه: ” الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ” فالنور هم آل محمد والظلمات عدوهم (3). وعن مهزم الاسدي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال الله تبارك


(1) كتاب الخصال: ص 277، باب الخمسة (المؤمن ينقلب في خمسة من النور)، ح 20. (2) الكافي: ج 8، ص 289، ح 436. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 138، ح 461. (*)

[ 618 ]

وتعالى: ” لاعذبن كل رعية دانت بإمام ليس من الله وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولاغفرن عن كل رعية دانت بكل إمام من الله وإن كانت الرعية في أعمالها سيئة “، قلت: فيعفو عن هؤلاء ويعذب هؤلاء ؟ قال: نعم، إن الله تعالى يقول: ” الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور “. ثم ذكر الحديث الاول، حديث ابن أبي يعفور (1) برواية محمد بن الحسين، وزاد فيه. فأعداء علي أمير المؤمنين هم الخالدون في النار وإن كانوا في أديانهم على غاية الورع والزهد والعبادة (2). وفي أصول الكافي: عن أبي عبد الله عليه السلام حديث طويل في طينة المؤمن والكافر. وفيه: أو من كان ميتا فأحييناه، فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، فكان حياته حين فرق الله بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عزوجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور (3). وباسناده إلى الباقر عليه السلام في حديث طويل، في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر يقول فيه عليه السلام: وقد ذكر نزول الملائكة بالعلم فان قالوا من سماء إلى سماء، فليس في السماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية، فإن قالوا: من سماء إلى أرض وأهل الارض أحوج الخلق إلى ذلك، فقل لهم: فهل لهم بد من سيد يتحاكمون إليه، فان قالوا: فإن الخليفة هو حكمهم، فقل: ” الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ” إلى قوله: ” هم فيها خالدون ” لعمري ما في الارض ولا في السماء ولي لله عز ذكره إلا وهو مؤيد، ومن أيده الله لم يخط، وما في الارض عدو لله عز ذكره إلا وهو مخذول، ومن خذل لم يصب، كما أن الامر لا بد من تنزيله


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 138، ح 460، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إني اخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم إلى آخره والحديث طويل. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 139، ح 462 وتمام الحديث: (والمؤمنون بعلي عليه السلام هم الخالدون في الجنة وان كانوا في اعمالهم (سيئة) على ضد ذلك). (3) الكافي: ج 2، ص 4، كتاب الايمان والكفر، باب طينة المؤمن والكافر قطعة من حديث 7. (*)

[ 619 ]

من السماء يحكم به أهل الارض كذلك لا بد من وال (1). عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد العزيز العبدي، عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إني اخالط الناس فيكثر عجبى من أقوام لا يتولونكم ويتولون فلانا وفلانا، لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الامانة، ولا الوفاء والصدق، قال: فاستوى أبو عبد الله عليه السلام جالسا، فأقبل علي كالغضبان، ثم قال: لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان الله بولاية إمام عادل، قلت: ولا دين لاولئك ولا عتب على هؤلاء ؟ قال: نعم لا دين لاولئك ولا عتب على هؤلاء، ثم قال: الا تسمع لقول الله عزوجل: ” الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ” يعني ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل امام عادل من الله عزوجل، وقال: ” والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ” قال: قلت: اليس الله عنى بها الكفار حين قال: ” والذين كفروا ” قال: فقال: وأي نور للكافر وهو كافر فاخرج منه إلى الظلمات كذا في تفسير العياشي (2) إنما عنى الله بهذا: إنهم كانوا على نور الاسلام، فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من الله خرجوا بولايتهم من نور الاسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب الله لهم النار مع الكفار، فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (3). وفي أمالي شيخ الطائفة قدس سره بإسناده إلى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله انه تلا هذه الآية: ” فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ” قيل: من أصحاب النار يا رسول الله ؟ قال: من قاتل عليا بعدي فاولئك أصحاب النار


(1) الكافي: ج 1، نهاية، ص 245، كتاب الحجة، باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها قطعة من حديث 1 وهو طويل. (2) أي ما بين القوسين زائد من تفسير العياشي وليس في الاصول كما أشار إليه المصنف بقوله (كذا في تفسير العياشي). (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 138، ح 460. والكافي: ج 1، ص 307، كتاب الحجة باب فيمن دان الله عزوجل بغير إمام من الله جل جلاله، ح 3. (*)

[ 620 ]

مع الكفار فقد كفروا بالحق لما جائهم (1). ألم تر: تعجيب. إلى الذى حاج إبرهم في ربه: وهو نمرود. أن ءاتيه الله الملك: لان آتاه، أي أبطره إيتاة الملك. وحمله على المحاجة، أو حاج لاجله شكرا له على طريق العكس، كقولك عاديتني لان أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه الله الملك. قيل: وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك الكافر. وفيه إحتمال كون معنى الايتاء التخلية، فلا يكون حجة عليه. وفي كتاب الخصال: عن محمد بن خالد باسناده رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: ملك الارض كلها أربعة، مؤمنان وكافران. فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين. وأما الكافران نمرود وبخت نصر (2 / 3). وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: لما دخل يوسف على الملك قال له: كيف أنت يا إبراهيم ؟ قال: أنا لست بابراهيم، أنا يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم قال: وهو صاحب إبراهيم الذي حاج إبراهيم في ربه، قال: فكان أربعماءة سنة شابا (4). وفي مجمع البيان: واختلف في وقت المحاجة، قيل: بعد إلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما عن الصادق عليه السلام (5).


(1) امالي الطوسي: ج 1، ص 374، الجزء الثالث عشر، وتمام الحديث (ألا وإن عليا منى فمن حاربه فقد حاربني وأسخط ربي ثم دعا عليا فقال: يا علي حربك حربي، وسلمك سلمي، وأنت العلم فيما بيني وبين امتي). (2) بخت: اصله بوخت ومعناه ابن ونصر: كبقم صنم (نقلا عن هامش بحار الانوار: ج 14 ص 351 باب 25 قصص ارميا ودانيال وعزير وبخت نصر). (3) كتاب الخصال: ص 255، باب الاربعة ملك الارض كلها أربعة مؤمنان وكافران، ح 130 و تمام الحديث ” واسم ذي القرنين عبد الله بن ضحاك بن معد “. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 139 في تفسيره لقوله تعالى (ربي الذي يحيي ويميت) ح 464. (5) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 367 في تفسيره لآية 258 من سورة البقرة. (*)

[ 621 ]

إذ قال إبرهم: ظرف لحاج، أو بدل من أن آتاه على الوجه الثاني. ربى الذى يحى ويميت: تخلق الحياة والموت في الاجساد. وقرأ حمزة رب بحذف الياء (1). قال أنا أحى وأميت: بالعفو عن القتل، والقتل. وقرأ نافع أنا بالالف (2). قال إبرهم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب: أعرض إبراهيم عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه، دفعا للمشاغبة، فهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي، من مقدوراته التي يعجز بها غيره، لا من حجة إلى اخرى، ولعل نمرود يزعم أنه يقدر أن يفعل كل فعل يفعله الله، فنقضه إبراهيم عليه السلام بذلك، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته. فبهت الذى كفر: فصار مبهوتا. وقرئ (فبهت) أي فغلب إبراهيم الكافر. والله لا يهدى القوم الظلمين: الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية، وقيل: لا يهديهم محجة الاحتجاج، أو سبيل النجاة، أو طريق النجاة يوم القيامة. في روضة الكافي: علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن حجر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خالف ابراهيم صلى الله عليه قومه وعاب آلهتهم حتى ادخل على نمرود فخاصمهم، فقال ابراهيم: (ربى الذي يحيي) إلى آخر الآية (3) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. وفي كتاب ثواب الاعمال: باسناده إلى حنان بن سدير قال: حدثني رجل من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة سبعة نفر، أولهم ابن آدم الذي قتل أخاه، ونمرود الذي حاج إبراهيم في


(1 و 2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 135. (3) الكافي: ج 8، ص 368، قطعة من حديث 559. (*)

[ 622 ]

[ أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم – لبثت قال – لبثت – يوما – أو بعض – يوم قال بل لبثت – مائة عام فانظر إلى طعامك – وشرابك لم يتسنه – وانظر – إلى حمارك ولنجعلك – ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير (259) ] (1) الحديث يأتي بقيته. وفيه باسناده إلى اسحاق بن عمار الصيرفي، عن أبي الحسن الماضي عليه السلام في حديث طويل يقول في آخره: وإن في جوف تلك الحية سبع صناديق فيها خمسة من الامم السالفة واثنان من هذه الامة، قال: قلت جعلت فداك: ومن الخمسة ومن الاثنان ؟ قال: أما الخمسة فقابيل الذي قتل هابيل، ونمرود الذي حاج إبراهيم في ربه قال أنا احيي واميت، وفرعون الذي قال أنا ربكم الاعلى، و يهودا الذي هود اليهود، وبولس الذي نصر النصارى، ومن هذه الامة أعرابيان (2). أو كالذى مر على قرية: تقديره أو رأيت، فحذف لدلالة (ألم تر) عليه، و تخصيصه بحرف التشبيه، لان المنكر للاحياء كثير، والجاهل بكيفيته أكثر من أن


(1) ثواب الاعمال: ص 214، كتاب عقاب الاعمال، عقاب ابن آدم الذي قتل أخاه، ونمرود الذي حاج إبراهيم. (2) ثواب الاعمال ص 215 كتاب عقاب الاعمال عقاب ابن آدم الذي قتل أخاه، ونمرود الذي حاج ابراهيم. (*)

[ 623 ]

يحصى، بخلاف مدعي الربوبية. وقيل: الكاف مزيدة، وتقدير الكلام: ألم تر إلى الذي مر. وقيل: أنه عطف محمول على المعنى، كأنه قيل: ألم تر كالذي حاج، أو كالذي مر. وقيل: إنه من كلام ذكره جوابا لمعارضته، تقديره: أو إن كنت تحيي فاحي كإحياء الله. ويؤيده ما روي عن الصادق عليه السلام: إن إبراهيم قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا (1). قال البيضاوي: الذي مر عزير بن شرحيا، أو الخضر، أو كافر بالبعث ويؤيده نظمه مع نمرود (2) وفي مجمع البيان: أو كالذي مر، هو عزير، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: هو أرميا، وهو المروي عن ابي جعفر عليه السلام (3). أقول: أما ما روي أنه عزير فما روي عن علي عليه السلام أن عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة، فأماته الله ماءة سنة ثم بعثه، فرجع إلى أهله ابن خمسين وله ابن له ماءة سنة، فكان ابنه أكبر منه، فذلك من آيات الله (4). وما رواه في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى محمد بن إسماعيل القرشي، عمن حدثه، عن اسماعيل بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث طويل وقد ذكر بخت نصر وأنه قتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريا وخرب بيت المقدس وتفرقت اليهود في البلدان، وفي سبعة و أربعين سنة من ملكه بعث الله عزوجل العزير نبيا إلى أهل القرى التي أمات الله عزوجل أهلها ثم بعثهم له، وكانوا من قرى شتى فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 367 في تفسيره لآية 258 من سورة البقرة. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 135. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 370 في تفسيره لآية 259 من سورة البقرة. (4) رواه في مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 370 في بيان المعنى لآية 259، من سورة البقرة. (*)

[ 624 ]

جوار عزير وكانوا مؤمنين وكان عزير يختلف إليهم ويسمع كلامهم وإيمانهم و أحبهم على ذلك وآخاهم عليه، فغاب عنهم يوما واحدا ثم أتاهم فوجدهم موتى صرعى فحزن عليهم وقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، تعجبا منهم حيث أصابهم وقد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته الله عزوجل عند ذلك ماءة عام، فهي ماءة سنة، ثم بعثه الله وإياهم وكانوا ماءة ألف مقاتل، ثم قتلهم الله عزوجل أجمعين لم يفلت منهم أحد على يدي بخت نصر (1). وما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره: قال: حدثني أبي عن إسماعيل بن أبان، عن عمر بن عبد الله الثقفي قال: أخرج هشام بن عبد الملك أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام من المدينة إلى الشام فأنزله معه، وكان يقعد مع الناس في مجالسهم، فبينا هو قاعد وعنده جماعة من الناس يسألونه إذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك، فقال: ما لهؤلاء القوم ؟ ألهم عيد اليوم ؟ فقالوا: لا يابن رسول الله، لكنهم يأتون عالما في هذا الجبل في كل سنة في هذا اليوم، فيخرجونه فيسألونه عما يريدون وعما يكون في عامهم، فقال أبو جعفر عليه السلام: وله علم ؟ فقالوا: هو من أعلم الناس قد أدرك أصحاب الحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام قال: فهل نذهب إليه ؟ فقالوا: ذلك إليك يابن رسول الله قال: فقنع أبو جعفر عليه السلام رأسه بثوبه ومضى هو وأصحابه، فاختلطوا بالناس حتى أتوا الجبل، فقعد أبو جعفر وسط النصارى هو وأصحابه فأخرج النصارى بساطا ثم وضعوا الوسائد، ثم دخلوا فأخرجوه، ثم ربطوا عينيه، فقلب عينيه كأنهما عيني أفعى، ثم قصد أبا جعفر فقال: يا شيخ أمنا أنت أم من الامة المرحومة ؟ فقال أبو جعفر: بل من الامة المرحومة، فقال: أمن علمائهم أم من جهالهم ؟ قال: لست من جهالهم، فقال النصراني: إني أسالك أم تسألني ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: سلني فقال النصراني: يا معشر النصارى رجل من امة محمد يقول: سلني، ان هذا لعالم بالمسائل، ثم قال: يا عبد الله


(1) كمال الدين وتمام النعمة: ص 226، الباب الثاني والعشرون، باب اتصال الوصية من لدن آدم عليه السلام وأن الارض لا تخلو من حجة لله عزوجل على خلقه إلى يوم القيامة، قطعة من حديث 20. (*)

[ 625 ]

أخبرني عن ساعة ما هي من الليل ولا هي من النهار أي ساعة هي ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، إلى أن قال النصراني: فأسألك أو تسألني ؟ قال أبو جعفر عليه السلام: سلني، فقال: يا معشر النصارى والله لاسئلنه مسألة يرتطم فيها كما يرتطم الحمار في الوحل، فقال له: سل، فقال: أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت باثنين، حملتهما جميعا في ساعة واحدة و ولدتهما في ساعة واحدة، وماتا في ساعة واحدة، ودفنا في قبر واحد، عاش أحدهما خمسين وماءة سنة وعاش الآخر خمسين سنة من هما ؟ فقال أبو جعفر: هما عزير و عزرة، كانا حملت امهما بهما على ما وصفت، ووصفتهما على ما وصفت، وعاش عزير وعزرة كذا وكذا سنة، ثم أمات الله عزيرا ماءة سنة ثم بعث الله عزيرا فعاش مع عزرة هذه الخمسين سنة وماتا كلاهما في ساعة واحدة، فقال النصراني: يا معشر النصارى ما رأيت بعيني قط أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام، ردوني، فقال: فردوه في كهفه ورجع النصارى مع أبي جعفر (1). وما رواه العياشي في تفسيره، عن علي بن محمد العلوي، عن علي بن مرزوق، عن ابراهيم بن محمد قال: ذكر جماعة من أهل العلم: إن ابن الكوا قال لعلي عليه السلام: ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا ؟ قال: اولئك ولد عزير حين مر على قرية خربة وقد جاء من ضيعة له تحته حماره، ومعه سلة فيها تين، وكوز فيه عصير مر على قرية خربة فقال: ” أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله ماءة عام ” فتوالد ولده وتناسلوا، ثم بعث الله إليه فأحياه في المولد الذي أماته فيه، أولئك ولده أكبر من أبيهم (2). وأما ما يدل على أنه ارميا. فما رواه العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: ” أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 98، في تفسيره لآية (زين للناس حب الشهوات) من سورة آل عمران. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 141، ح 468. (*)

[ 626 ]

الله بعد موتها ” فقال: إن الله بعث على بني إسرائيل نبيا يقال له ارميا فقال لهم: ما بلد تنقيته من كرائم البلدان، وغرس فيه من كرائم الغرس ونقيته من كل غريبة، فأخلف فانبت خرنوبا (1) قال: فضحكوا واستهزووا به، فشكاهم إلى الله، قال: ” فأوحى الله إليه أن قل لهم: إن البلد بيت المقدس والغرس بنوا اسرائيل، تنقيته من كل غرس ونحيت عنهم كل جبار، فأخلفوا فعملوا المعاصي، فلاسلطن عليهم في بلدهم من يسفك دمائهم ويأخذ أموالهم، فإن بكوا لي لم أرحم بكائهم وإن دعوا لم أستجب دعائهم، فشلتهم وفشلت ثم لاخربنها مأة عام، ثم لاعمرنها، فلما حدثهم جزعت العلماء فقالوا: يا رسول الله ما ذنبنا نحن، ولم نكن نعمل بعملهم، فعاود لنا ربك، فصام سبعا فلم يوح إليه شئ، فأكل أكلة ثم صام سبعا فلم يوح إليه شئ فأكل أكلة ثم صام سبعا، فلما أن كان اليوم الواحد والعشرين، أوحى الله إليه لترجعن عما تصنع، أتراجعنى في أمر قضيته أو لاردن وجهك على دبرك، ثم أوحى إليه قل لهم: لانكم رأيتم المنكر فلم تنكروه، فسلط الله عليهم بخت نصر، فصنع بهم ما قد بلغك، ثم بعث بخت نصر إلى النبي فقال: إنك قد نبئت عن ربك وحدثتهم بما أصنع بهم، فإن شئت فأقم عندي وإن شئت فاخرج فقال: لا بل أخرج، فتزود عصيرا وتينا وخرج، فلما أن غاب مد البصر التفت إليها فقال: ” أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله ماءة عام ” أماته غدوة وبعثه عشية قبل أن تغيب الشمس، وكان أول شئ خلق منه عيناه في مثل غرقئ البيض (2) ثم قيل


(1) والخروب بالضم والتشديد: نبت معروف، والخرنوب بالنون لغة فيه، مجمع البحرين: ج 2، ص 53، في لغة (خرب). (خرنب) قال الازهري في الرباعي: الخروب والخرنوب شجر ينبت في جبال الشام له حب كحب الينبوت، يسميه صبيان أهل العراق القثاء الشامي، وهو يابس أسود. لسان العرب: ج 1، ص 351، في لغة خرنب. (2) والغرقئ كزبرج: القشرة الملتزقة ببياض البيض، أو البياض الذي يؤكل، ومنه حديث لسفيان الثوري حين دخل على أبي عبد الله عليه السلام فرأى عليه ثيابا كأنها غرقئ البيض، قال الفراء همزته زائدة، مجمع البحرين: ج 5، ص 222، في لغة غرق. (*)

[ 627 ]

له: ” كم لبثت قال لبثت يوما ” فلما نظر إلى الشمس لم تغب قال: ” أو بعض يوم قال: بل لبثت ماءة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك و لنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما “، قال: فجعل ينظر إلى عظامه كيف يصل بعضها إلى بعض، ويرى العروق كيف تجري، فلما استوى قائما قال: ” أعلم أن الله على كل شئ قدير ” وفي رواية هارون فتزود عصيرا ولبنا (1). عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله هكذا: ألم تر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له، قال: ما تبين لرسول الله إنها في السماوات قال رسول الله: أعلم أن الله على كل شئ قدير، سلم رسول الله للرب وآمن، بقول الله: فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شئ قدير (2). وما رواه الشيخ الطبرسي في احتجاجه: عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل يقول فيه عليه السلام: وأمات الله ارميا النبي الذي نظر إلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاه بخت نصر، فقال: ” أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله ماءة عام ثم أحياه ” ونظر إلى أعضائه كيف يلتئم وكيف يلبس اللحم، وإلى مفاصله وعروقه توصل، فلما استوى قاعدا قال: ” أعلم أن الله على كل شي قدير ” (3). وما رواه علي بن ابراهيم في تفسيره: قال: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما عملت


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 140، ح 466. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 141، ح 467. (3) الاحتجاج: ج 2، ص 344، احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه السلام في أنواع شتى من العلوم الدينية على أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات (*)

[ 628 ]

بنوا اسرائيل المعاصي وعتوا عن أمر ربهم، أراد الله أن يسلط عليهم من يذلهم و يقتلهم، فأوحى الله إلى ارميا، يا ارميا ما بلد انتخبته من بين البلدان وغرست فيه من كرائم الشجر، فأخلف فأنبت خرنوبا، فأخبر ارميا أحبار بني اسرائيل، فقالوا له: راجع ربك ليخبرنا ما معنى هذا المثل ؟ فصام ارميا سبعا، فأوحى إليه يا ارميا، أما البلد فبيت المقدس، وأما الغرس فاسرائيل وكرائم ولده، وأما ما أنبت فيها فبنوا اسرائيل الذين أسكنتهم فيها، فعملوا بالمعاصي وغيروا ديني وبدلوا نعمتي كفرا، فبي حلفت لامتحننهم بفتنة يظل الحكيم فيه حيرانا ولاسلطن عليهم شر عبادي ولادة وشرهم مطعما، وليسلطن عليهم بالجبرية، فيقتل مقاتلهم، ويسبي حريمهم و يخرب بيتهم الذي يعتزون به، ويلقي حجرهم الذي يفتخرون به على الناس في المزابل مائة سنة. وأخبر ارميا أحبار بني اسرائيل، فقالوا: راجع ربك فقل له: ما ذنب الفقراء والمساكين والضعفاء، فصام ارميا سبعا ثم أكل أكلة فلم يوح إليه شئ، ثم صام سبعا فأكل أكلة فلم يوحى إليه شئ، ثم صام سبعا فأوحى الله إليه يا ارميا لتكفن عن هذا أو لاردن وجهك إلى قفاك، قال: ثم أوحى الله إليه قل لهم لانكم رأيتم المنكر فلم تنكروه، فقال ارميا: رب أعلمني من هو حتى آتيه وآخذ لنفسي وأهل بيتى منه أمانا ؟ فقال: أئت موضع كذا وكذا فانظر إلى غلام أشدهم زمنا، وأخبثهم ولادة، وأضعفهم جسما، وأشرهم غذاء فهو ذاك، فأتى ارميا ذلك البلد فإذا هو بغلام في خان زمن ملقى في مزبلة وسط الخان، وإذا له ام تزبي (1) بالكسر وتفت الكسر في قصعة وتحلب عليه لبن خنزيرة لها، ثم تدنيه من ذلك الغلام فيأكله، فقال ارميا: إن كان في الدنيا الذي وصفه الله فهو هذا، فدنا منه فقال: ما اسمك ؟ فقال: بخت نصر، فعرف انه هو، فعالجه حتى برء، ثم قال: لا تعرفني ؟ قال: لا أنت رجل صالح قال: أنا ارميا نبي بني اسرائيل، أخبرني الله أنه سيسلطك على بني إسرائيل فتقتل رجالهم، وتفعل بهم


(1) الزبيه: حفيرة يشتوى فيها ويختبز، وزبى اللحم وغيره: طرحه فيها. لسان العرب: ج 14، ص 353. (*)

[ 629 ]

كذا وكذا، فتاه الغلام في نفسه في ذلك الوقت، ثم قال ارميا: اكتب لي كتابا بأمان منك، فكتب له كتابا، وكان يخرج إلى الجبل ويحتطب ويدخل المدينة، فدعا إلى حرب بني إسرائيل وكان مسكنهم في بيت المقدس، فأجابوه، وأقبل بخت نصر فيمن أجابه نحو بيت المقدس، وقد اجتمع عليه بشر كثير، فلما بلغ ارميا إقباله نحو بيت المقدس، استقبله على حمار له ومعه الامان الذي كتبه له بخت نصر، فلم يصل إليه ارميا من كثرة جنوده وأصحابه. فصير الامان على خشبة ورفعها، فقال: من أنت ؟ فقال: أنا ارميا النبي الذي بشرتك بأنك سيسلطك الله على بني اسرائيل وهذا أمانك لي، قال: أما أنت فقد أمنتك، وأما أهل بيتك فاني أرمي من ههنا إلى بيت المقدس، فإن وصلت رميتي إلى بيت المقدس فلا أمان لهم عندي وإن لم تصل فهم آمنون، وانتزع قوسه ورمى نحو بيت المقدس فحملت الريح النشابة حتى علقتها في بيت المقدس، فقال لهم: لا أمان لهم عندي. فلما وافى، نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة، وإذا دم يغلي وسطه كلما القي عليه التراب خرج وهو يغلي، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: هذا دم نبي كان لله فقتله ملوك بني إسرائيل ودمه يغلي كلما ألقينا عليه التراب خرج يغلي. فقال بخت نصر: لاقتلن بني اسرائيل أبدا حتى يسكن هذا الدم. وكان ذلك الدم دم يحيى بن زكريا وكان في زمانه ملك جبار يزني بنساء بني إسرائيل، وكان يمر بيحيى بن زكريا، فقال له يحيى: اتق الله أيها الملك لا يحل لك هذا، فقالت له امرأة من اللواتي التي كان يزني بهن حين سكر: أيها الملك اقتل يحيى، فأمر أن يؤتى برأسه فاتى برأس يحيى في طشت، وكان الرأس يكلمه ويقول: يا هذا اتق الله لا يحل لك هذا، ثم غلى الدم في الطشت حتى فاض إلى الارض فيخرج يغلي ولا يسكن. وكان بين قتل يحيى وبين خروج بخت نصر ماءة سنة، فلم يزل بخت نصر يقتلهم، وكان يدخل قرية قرية فيقتل الرجال والنساء والصبيان وكل حيوان والدم يغلي ولا يسكن حتى أفناهم. ثم قال: هل بقي أحد في هذه البلاد ؟ قالوا: عجوز في موضع كذا وكذا، فبعث إليها فضرب عنقها على الدم فسكن وكانت آخر من بقي.


[ 630 ]

ثم أتى بابل فبنى بها مدينة وأقام وحفر بئرا فألقى فيها دانيال وألقى معه اللبوة (1) فجعلت اللبوة يأكل طين البئر ويشرب دانيال لبنها فلبث بذلك زمانا، فأوحى الله إلى النبي الذي كان في بيت المقدس أن أذهب بهذا الطعام والشراب إلى دانيال واقرأه مني السلام، قال: وأين هو يا رب ؟ قال: هو في بئر بابل في موضع كذا وكذا قال: فأتاه فاطلع في البئر فقال: يا دانيال قال: لبيك صوت غريب ؟ قال: إن ربك يقرئك السلام وقد بعث إليك بالطعام والشراب، فدلاه إليه قال: فقال دانيال: الحمد لله الذي لا يخيب من دعاه الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، الحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، الحمد لله الذي يجزي بالاحسان إحسانا، الحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة، الحمد لله الذي يكشف ضرنا (حزننا) عند كربتنا، الحمد لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع الحيل، الحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ساء ظننا بأعمالنا. قال: فاؤري بخت نصر في نومه كأن رأسه من حديد ورجليه من نحاس وصدره من ذهب، قال: فدعى المنجمين فقال لهم: ما رأيت ؟ قالوا: ما ندري ولكن قص علينا ما رأيت، فقال: أنا أجري عليكم الارزاق منذ كذا وكذا ولا تدرون ما رأيت في المنام، فأمر بهم فقتلوا، قال: فقال له بعض من كان عنده، إن كان عند أحد شئ فعند صاحب الجب فإن اللبوة لم تعرض له وهي تأكل الطين وترضعه، فبعث إلى دانيال فقال: ما رأيت في المنام ؟ قال: رأيت كان رأسك من حديد ورجليك من نحاس وصدرك من ذهب، قال: هكذا رأيت، فما ذاك ؟ قال: قد ذهب ملكك، وانت مقتول إلى ثلاثة أيام، يقتلك رجل من ولد فارس، قال: فقال له: إن علي سبع مدائن على باب كل مدينة حرس، وما رضيت بذلك حتى وضعت بطة من نحاس على باب كل مدينة، لا يدخل غريب الا صاحت


(1) واللبوة بضم الباء: الانثى من الاسود والهاء فيها لتأكيد التأنيث كما في ناقة، لانها ليس لها مذكر حتى يكون الهاء فارقة وسكون الباء مع الهمزة وإبدالها واوا لغتان فيها (مجمع البحرين: ج 1، ص 371، في لغة لبا). (*)

[ 631 ]

عليه حتى يؤخذ، قال: فقال له: إن الامر كما قلت لك، قال: فبث الخيل وقال: لا تلقون أحدا من الخلق إلا قتلتموه كائنا من كان، وكان دانيال جالسا عنده وقال: لا تفارقني هذه الثلاثة أيام، فإن مضت قتلتك، فلما كان اليوم الثالث ممسيا أخذه الغم فخرج فتلقاه غلام كان يخدم ابنا له من أهل فارس وهو لا يعلم أنه من أهل فارس فدفع إليه سيفه وقال له: يا غلام لا تلقي أحدا من الخلق إلا وقتلته وإن لقيتني أنا فاقتلني، فأخذ الغلام سيفه فضرب به بخت نصر ضربة فقتله. فخرج ارميا على حماره ومعه تين قد تزوده وشئ من عصير، فنظر إلى سباع البر وسباع البحر وسباع الجو تأكل تلك الجيف، ففكر في نفسه ساعة، ثم قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها وقد أكلتهم السباع فأماته الله مكانه، وهو قول الله تبارك وتعالى: ” أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله ماءة عام ثم بعثه ” أي أحياه. فلما رحم الله بني إسرائيل وأهلك بخت نصر رد بني اسرائيل إلى الدنيا، وكان عزير لما سلط الله بخت نصر على بني اسرائيل هرب ودخل في عين وغاب فيها، وبقي ارميا ميتا ماءة سنة ثم أحياه الله تعالى، فأول ما أحيا منه عينيه في مثل غرقئ البيض، فنظر فأوحى الله تعالى إليه: ” كم لبثت قال لبثت يوما ” ثم نظر إلى الشمس وقد ارتفعت فقال: ” أو بعض يوم ” فقال الله تعالى: ” بل لبثت ماءة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ” – أي لم يتغير – وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ” فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطرة تجمع إليه وإلى اللحم الذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ها هنا وها هنا ويلتزق بها حتى قام وقام حماره فقال: ” اعلم أن الله على كل شئ قدير ” (1). فقد ظهر لك من تلك الاخبار: أن تلك الحكاية وقعت بالنظر إلى عزير وارميا كليهما، ويمكن أن يكون قوله: ” أو كالذي مر على قرية ” إشارة إلى كليهما علي


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، في تفسيره للآية الشريفة من ص 86 إلى ص 91. (*)

[ 632 ]

سبيل البدل، والقرية بيت المقدس حين خربه بخت نصر. وقيل: القرية التي منها الالوف. وقيل: غيرهما، واشتقاقها من القرى وهو الجمع. وهى خاوية على عروشها: خالية ساقطة حيطانها على سقوفها. قال أنى يحى هذه الله بعد موتها: اعتراف بالقصور عن معرفة طريق الاحياء، واستعظام لقدرة المحيي و ” انى ” في موضع نصب على الظرف بمعنى متى، أو على الحال بمعنى كيف. فأماته الله مائة عام: فألبثه ميتا ماءة عام. ثم بعثه: بالاحياء. قال أي الله، وقيل: ملك، أو نبي آخر. كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم: قال قبل النظر إلى الشمس يوما، ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على سبيل الاضراب. قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه: لم يتغير بمرور الزمان. واشتقاقه من السنة والهاء أصلية إن قدر لام السنة هاء، وهاء سكت إن قدرت واوا. وقيل: أصله لم يتسنن، من الحمأ المسنون، فابدلت النون الثالثة حرف علة كتقضى البازي (1). وإنما أفرد الضمير ؟ لان الطعام والشراب كالجنس الواحد. وقد سبق في الخبر إن طعامه كان تينا وشرابه عصيرا ولبنا، وكان الكل على حاله. وقرأ حمزة والكسائي (لم يتسن) بغير الهاء في الوصل (2). وانظر إلى حمارك: كيف تفرقت عظامه، أو انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته.


(1) في هامش بعض النسخ التي عندنا ما لفظه (التقضض نزول الطير من الجو، وأصله التقضض ابدلت الضاد الاخيرة ياء) وفي الهامش أيضا (فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الاخيرة ياءا ثم ابدلت الياء بالهاء). (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 136. (*)

[ 633 ]

[ وإذ قال إبرهم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260) ] ولنجعلك ءاية للناس: أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية. وانظر إلى العظام: يعني عظام الحمار، أو عظام الموتى التي تعجبت من احيائها، أو عظامه. كيف ننشزها: كيف يجنيها، أو نرفع بعضها إلى بعض، و (كيف) منصوب ب‍ (ننشزها) والجملة حال من العظام، أي انظر إليها محياة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ننشرها من أنشر الله الموتى، وقرئ ننشرها من نشرهم، بمعنى أنشرهم (1). ثم نكسوها لحما فلما تبين له: فاعل تبين مضمر، يفسره ما بعده و تقديره فلما تبين له إن الله على كل شي قدير. قال أعلم أن الله على كل شئ قدير: فحذف الاول لدلالة الثاني عليه، أو ما قبله، أي فلما تبين له ما أشكل عليه. وقرأ حمزة والكسائي قال: إعلم، على الار، والامر مخاطبه، أو هو نفسه خاطبها به على طريقة التبكيت (2). وإذ قال إبرهم رب أرني كيف تحى الموتى: قيل: إنما سأل ذلك ؟ ليصير علمه عيانا. وقيل: لما قال نمرود: أنا احيي واميت، قال له: إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها، فقال نمرود: هل عاينته ؟ فلم يقدر أن يقول نعم، وانتقل إلى تقدير آخر ثم


(1 و 2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 136. (*)

[ 634 ]

سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سأل عنه مرة اخرى. قال أولم تؤمن: باني قادر على الاحياء، قال ذلك له وقد علم أنه آمن، ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه. قال بلى ولكن ليطمئن قلبى: أي بلى آمنت ولكن سألته لازيد بصيرة بمضامة العيان إلى الوحي. وفي محاسن البرقي: عنه، عن محمد بن عبد الحميد، عن صفوان بن يحيى قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله لابراهيم ” أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ” أكان في قلبه شك ؟ قال: لا كان على يقين ولكنه أراد من الله الزيادة في يقينه (1). وفي تفسير العياشي: عن علي بن أسباط، أن أبا الحسن الرضا عليه السلام سئل عن قول الله عزوجل: ” قال ولكن ليطمئن قلبي ” أكان في قلبه شك ؟ قال: لا ولكن أراد الزيادة في يقينه، قال: والجزء واحدة من عشرة (2). وفي روضة الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والارض إلتفت فرأى جيفة على ساحل البحر نصفها في الماء ونصفها في البر، تجيئ سباع البحر فتأكل ما في الماء، ثم ترجع فيشد بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، وتجئ سباع البر فتأكل منها، فيشد بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، فعند ذلك تعجب إبراهيم مما رأى فقال: ” رب أرني كيف تحي الموتى ” قال: كيف تخرج ما تناسل الذي أكل بعضها بعضا ” قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ” يعني أرى هذا كما رأيت الاشياء كلها، ف‍ ” قال خذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل


(1) المحاسن: ص 247، كتاب مصابيح الظلم من المحاسن باب 29 باب اليقين والصبر في الدين، ح 249. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 143، ح 472. (*)

[ 635 ]

على كل جبل منهن جزأ ” فقطعهن واخلطهن كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضا، فخلط ” ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ثم ادعهن يأتينك سعيا ” فلما دعاهن أجبنه، وكانت الجبال عشرة (1). قال فخذ أربعة من الطير: نسرا، وبطا، وطاووسا، وديكا. وروي: الطاووس، والحمامة، والديك، والهدهد (2). وروي: الديك، والحمامة، والطاووس، والغراب (3). وخص الطير لانه أقرب إلى الانسان، وأجمع لخواص الحيوان. والطير مصدر سمي به، أو جمع كصحب. فصرهن إليك: واضممهن إليك، لتتأملها وتتعرف شأنها، لئلا يلتبس عليك بعد الاحياء. وقرأ حمزة ويعقوب فصرهن بالكسر، وهما لغتان، وقرئ فصرهن بضم الصاد وكسرها، مشددة الراء من صره يصره إذا جمعه وحضرهن من التصرية، وهي الجمع أيضا (4). ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا: وقرأ أبو بكر جزء بضم الزاي حيث وقع (5) أي ثم جزهن وفرق باجزائهن على الجبال التي بحضرتك. ثم ادعهن: بأسمائهن. يأتينك سعيا: مسرعات طيرانا. واعلم أن الله عزيز: لا يعجز عما يريد. حكيم: ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره. وفي عيون الاخبار: حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي، رضي الله عنه


(1) روضة الكافي: ص 305، قطعة من حديث 473. (2) الخصال: ص 265، قطعة من حديث 146. (3) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 373، في تفسيره لآية 260 من سورة البقرة قال وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام ورواه السيوطي في الدر المنثور: عن مجاهد في تفسيره للآية الشريفة ج 1، ص 335. (4 و 5) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 137. (*)

[ 636 ]

قال: حدثني أبي، عن حمدان بن سليمان النيسابوري، عن علي بن محمد الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام فقال له: يابن رسول الله أليس من قولك أن الانبياء معصومون ؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله عزوجل ” وعصى آدم ربه ” إلى أن قال: فأخبرني عن قول إبراهيم: ” رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ” قال الرضا عليه السلام: إن الله تعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته، فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام أنه ذلك الخليل فقال: ” رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ” على الخلة ؟ قال: ” فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ” فأخذ إبراهيم نسرا وبطا وطاووسا وديكا فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله، وكانت عشرة، منهن جزءا، وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حبا وماء فتطايرت تلك الاجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الابدان وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم عن مناقيرهن فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب وقلن يا نبي الله أحييتنا أحياك الله، فقال إبراهيم: بل الله يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير قال المأمون: بارك الله فيك يا أبا الحسن (1). وفيه في باب استسقاء المأمون بالرضا عليه السلام بعد جري كلام بين الرضا و بين بعض أهل النصب من حجاب فغضب الحاجب عند ذلك فقال: يابن موسى لقد عدوت طورك وتجاوزت قدرك أن بعث الله تعالى بمطر يقدر وقته لا يتقدم ولا يتأخر جعلته آية تستطيل بها، وصولة تصول بها كأنك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم عليه السلام لما أخذ رأس الطير بيده ودعا أعضاءها التي كان فرقها على الجبال فأتينه سعيا وتركبن على الرؤوس فخفقن وطرن بإذن الله عزوجل، فإن كنت


(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 198، باب 15 ذكر مجلس آخر للرضا عليه السلام عند المأمون في عصمة الانبياء عليهم السلام، قطعة من حديث 1. (*)

[ 637 ]

صادقا فيما توهم فاحي هذين وسلطهما علي، فإن ذلك يكون حينئذ آية معجزة، فأما ماء المطر المعتاد فلست أنت أحق بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الذي دعا كما دعوت. وكان الحاجب أشار إلى اسدين مصورين على مسند المأمون الذي كان مستندا إليه وكانا متقابلين على المسند، فغضب علي بن موسى الرضا عليه السلام وصاح بالصورتين دونكما الفاجر، فافترساه ولا تبقيا له عينا ولا أثرا، فوثبت الصورتان وقد عادت أسدين فتناولا الحاجب ورضاه وهشماه وأكلاه ولحسا دمه والقوم ينظرون متحيرين مما يبصرون، فلما فرغا أقبلا على الرضا عليه السلام وقالا له: يا ولي الله في أرضه ماذا تأمرنا أن نفعل بهذا، نفعل به فعلنا هذا، يشيران إلى المأمون، فغشي على المأمون مما سمع منهما، فقال الرضا عليه السلام: قفا، فوقفا، ثم قال الرضا عليه السلام: صبوا عليه ماء ورد وطيبوه، ففعل ذلك به، وعاد الاسدان يقولان: أتأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الذي أفنيناه ؟ قال: فإن لله عزوجل فيه تدبيرا ممضيه، فقالا: ماذا تأمرنا ؟ فقال: عودا إلى مقركما كما كنتما، فعادا إلى المسند وصارا صورتين كما كانتا، فقال المأمون: الحمد لله الذي كفاني شر حميد بن مهران، يعني الرجل المفترس، ثم قال للرضا عليه السلام: يابن رسول الله هذا الامر لجدكم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم لكم ولو شئت لنزلت عنه لك، فقال الرضا عليه السلام: لو شئت لما ناظرتك ولم أسألك، فإن الله عزوجل قد أعطاني من طاعة ساير خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصورتين، إلا جهال بني آدم، فإنهم وإن خسروا حظوظهم فلله عزوجل فيه تدبير، وقال: أمرني بترك الاعتراض عليك ؟ وإظهار ما أظهر من العمل من تحت يدك كما أمر يوسف بالعمل من تحت يد فرعون، قال: فما زال المأمون ضئيلا إلى أن قضى في علي بن موسى الرضا ما قضى (1). وفي كتاب الخصال: عن أبي عبد الله عليه السلام، في قول الله تعالى: ” فخذ


(1) عيون اخبار الرضا: ج 2، ص 171، باب 41، استسقاء المأمون بالرضا عليه السلام وما أراه الله عزوجل من القدرة في الاستجابة له، وفي إهلاك من أنكر دلالته في ذلك، قطعة من حديث 1. (*)

[ 638 ]

أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا الآية ” قال: أخذ الهدهد والصرد والطاووس والغراب فذبحهن وعزل رؤوسهن ثم نحز أبدانهن في المنحاز (1) بريشهن ولحمومهن وعظامهن حتى اختطلت ثم جزأهن عشرة أجزاء على عشرة أجبل ثم وضع عنده حبا وماء، ثم جعل مناقيرهن بين أصابعه، ثم قال: اتين سعيا بإذن الله، فتطاير بعضها إلى بعض اللحوم والريش والعظام حتى استوت الابدان كما كانت وعاد كل بدن حتى التزق برقبته التي فيها رأسه والمنقار، فخلى إبراهيم عن مناقيرهن فوقعن فشربن من ذلك الماء ولتقطن من ذلك الحب ثم قلن يا نبي الله أحييتنا أحياك الله، فقال إبراهيم: بل الله يحيي ويميت، فهذا تفسير الظاهر. قال عليه السلام: وتفسيره في الباطن، خذ أربعة ممن يحتمل الكلام فاستودعهن علمك، ثم ابعثهن في أطراف الارض حججا على الناس، وإذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الاكبر يأتوك سعيا بإذن الله تعالى (2). وفي هذا الكتاب: وروي أن الطيور التي أمر بأخذها، الطاوس والنسر والديك والبط (3). وفي تفسير العياشي: عن عبد الصمد قال: جمع لابي جعفر المنصور القضاة، فقال لهم: أوصى رجل بجزء من ماله، فكم الجزء ؟ فلم يعلموا كم الجزء وشكوا فيه، فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمد عليهما السلام رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء ؟ فقد أشكل ذلك على القضاة فلم يعلموا كم الجزء، فأن هو أخبرك به، وإلا فاحمله على البريد ووجهه إلي، فأتى صاحب


(1) النحز: الدق، والمنحاز: الهاون. لسان العرب: ج 5، ص 414. (2) الخصال: ص 264، قول الله عزوجل لابراهيم: ” فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ” ح 146. (3) الخصال: ص 64، قول الله عزوجل لابراهيم: ” فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ” ح 146. (*)

[ 639 ]

المدينة أبا عبد الله عليه السلام فقال له: إن أبا جعفر بعث إلي أن أسألك عن رجل أوصى بجزء من ماله، وسأل من قبله من القضاة فلم يخبروه ما هو، وقد كتب إلي إن فسرت ذلك له، وإلا حملتك على البريد إليه ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: هذا في كتاب الله بين، إن الله يقول: مما قال إبراهيم ” رب أرني كيف تحيي الموتى ” إلى قوله: ” على كل جبل منهن جزءا ” كانت الطير أربعة والجبال عشرة، يخرج الرجل من عشرة أجزاء جزء واحدا، وإن إبراهيم دعا بمهراس (1) فدق فيه الطير جميعا، وحبس الرؤوس عنده، ثم أنه دعا بالذي أمر به فجعل ينظر إلى الريش كيف يخرج، والى العروق عرقا عرقا حتى تم جناحه مستويا، فأهوى نحو إبراهيم، فقال إبراهيم: ببعض الرؤوس فاستقبله به فلم يكن الرأس الذي استقبله لذلك البدن حتى انتقل إليه غيره فكان موافقا للرأس، فتمت العدة وتمت الابدان (2). وفي الخرائج والجرائح: وروي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصادق عليه السلام مع جماعة فقلت: قول الله لابراهيم: ” خذ أربعة من الطير فصرهن إليك ” أكانت أربعة من أجناس مختلفة أو من جنس واحد ؟ قال: أتحبون أن اريكم مثله ؟ قلنا: بلى، قال: يا طاووس، فإذا طاووس طار إلى حضرته، ثم قال: يا غراب، فإذا غراب بين يديه، ثم قال: يا بازي، فإذا بازي بين يديه، ثم قال: يا حمامة فإذا حمامة بين يديه، ثم أمر بذبحها كلها وتقطيعها ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كله بعضه ببعض، ثم أخذ رأس الطاووس فقال: يا طاووس فرأيت لحمه و عظامه وريشه تتميز عن غيرها حتى التصق ذلك كله برأسه وقام الطاووس بين يديه حيا ثم صاح بالغراب كذلك وبالبازى والحمامة كذلك فقامت كلها أحياء بين يديه (3).


(1) المهراس: بكسر الميم حجر مستطيل ينقر ويدق فيه، وقد استعير للخشبة التي يدق فيها الحب فقيل لها المهراس من الحجر (المصباح المنير: ص 876). (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 143، ح 473. (3) الخرايج والجرائح: ص 35، الباب السابع في معجزات الامام جعفر الصادق صلوات الله عليه. (*)

[ 640 ]

[ مثل الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضعف لمن يشاء والله وسع عليم (261) الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (262) * قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غنى حليم (263) ] مثل الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة: على تقدير مضاف، أي مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. وإسناد الانبات إلى الحبة مجاز، والمعنى أنه يخرج منها ساق ينشعب منها سبع شعب، لكل منها سنبلة فيها ماءة حبة. وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه، وقد يكون في الذرة والدخن وفي البر وفي الاراضي المغلة (1).


(1) قد تصدى أكثر أرباب التفاسير في تفاسيرهم عند وصولهم إلى هذه الآية في هذا التسائل بأنه ما معنى هذا المثل مع العلم بعدم وجوده في الخارج وأجابوا عنه بأجوبة وجيهة أو غير وجيهة ونحن نذكر بعضها على سبيل الاجمال ونذر النظر والحكم إلى القاري الكريم. مجمع البيان: ومتى قيل: هل رأى في سنبلة ماءة حبة حتى يضرب المثل بها، فجوابه أن ذلك متصور و إن لم ير، إلى أن قال: وايضا فقد رأى ذلك في الجاورس ونحوه. الكشاف: فإن قلت: كيف صح هذا التمثيل والممثل به غير موجود ؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الاراضي القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحا على سبيل الفرض والتقدير. = (*)

[ 641 ]

………………………….


= أنوار التنزيل وأسرار التأويل: وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه، وقد يكون في الذرة والدخن وفي البر في الاراضي المغلة. التفسير الكبير: للفخر الرازي: فإن قيل: فهل رأيت سنبلة فيها ماءة حبة حتى يضرب المثل بها ؟ قلنا: الجواب عنه من وجوه. الاول: ان المقصود من الآية انه لو علم انسان يطلب الزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعماءة حبة، ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه، فكذلك ينبغي لمن طلب الاجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة، وماءة، وسبعماءة. وإذا كان هذا المعنى معقولا سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أولم يوجد كان المعنى حاصلا مستقيما، وهذا قول القفال ره وهو حسن جدا. والجواب الثاني: إنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس، وهذا الجواب في غاية الركاكة. جامع البيان للطبري: فان قال قائل: وهل رأيت سنبلة فيها ماءة حبة ؟ أو بلغتك ؟ فضرب بها مثل المنفق في سبيل الله ماله. قيل: إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك، وإلا فجائز أن يكون معناه كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة ماءة حبة أن جعل الله ذلك فيها. ويحتمل أن يكون معناه في كل سنبلة مائة حبة، يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة، فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من الماءة حبة مضافا إليها، لانه كان عينها، وقد تأول ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل. التبيان للطوسي: فإن قيل: هل رأى في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها ؟ قيل: عنه ثلاثة أجوبة أولها: أن ذلك متصور فشبه لذلك وإن لم ير، كما قال إمرء القيس: * ومسنونة زرق كانياب اغوال * وقال تعالى: ” طلعها كانه رؤوس الشياطين ” الثاني: إنه قد رأى ذلك في سنبل الدخن. الثالث: إن السنبلة تنبت مائة حبة، فقيل فيها على ذلك المعنى، كما يقال: في هذه الحبة حب كثير، والاول هو الوجه. الجامع لاحكام القرآن للقرطبي: ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد قلت: هذا ليس بشئ، فإن سنبل الدخن يجئ في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر على ما شاهدناه قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في ساير الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، ثم أورد ما نقلناه عن الطبري آنفا. تفسير أبي السعود: يشاهد ذلك في الذرة والدخن في الاراضي المغلة، بل أكثر من ذلك. روح البيان للشيخ اسماعيل حقي: كما يشاهد ذلك في الذرة والدخن في الاراضي المغلة، بل أكثر = (*)

[ 642 ]

والله يضعف: تلك المضاعفة. لمن يشاء: بفضله، وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه. وفي تفسير علي بن إبراهيم، وقال أبو عبد الله عليه السلام: والله يضاعف لمن يشاء لمن أنفق ماله إبتغاء مرضات الله (1). وفي كتاب ثواب الاعمال: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف الله له عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله تعالى: ” والله يضاعف لمن يشاء ” (2). والله وسع: لا يضيق عليه ما يتفضل به. عليم: بنية المنفق وإخلاصه. وفي تفسير العياشي: عن المفضل بن محمد الجعفي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: ” حبة أنبتت سبع سنابل ” قال: الحبة فاطمة صلى الله عليها، والسبعة السنابل، سبعة من ولدها سابعها قائمهم، قلت: الحسن ؟ قال: إن الحسن إمام من الله مفترض طاعته، ولكن ليس من السنابل السبعة أولهم الحسين وآخرهم القائم عليهم السلام فقلت: قوله: في كل سنبلة مائة حبة، قال: يولد الرجل منهم في الكوفة ماءة من صلبه وليس ذلك إلا هؤلاء السبعة (3). الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: المن أن يعتد بإحسانه


= من ذلك. الميزان للعلامة الطباطبائي المعاصر: ومن أسخف الاشكال ما اورد على الآية. إنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج، وهو اشتمال السنبلة على مائة حبة. وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونه في الخارج، فالامثال التخيلية أكثر من ان تعد وتحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمائة حبة ليس بعزيز الوجود هذا ما تيسر عاجلا من أقوال المفسرين في ذلك، والله الهادي إلى الصواب. (1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 92. (2) ثواب الاعمال: ص 168، ثواب الاحسان. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 147، ح 480. (*)

[ 643 ]

على من أحسن إليه، والاذي أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، و ” ثم ” للتفاوت بين الانفاق وترك المن والاذى، ولعلة لم يدخل الفاء عليه. وقد تضمن ما اسند إليه معنى الشرط، إيهاما بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا، فكيف بهم إذا فعلوا. وفي كتاب الخصال: عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله كره لكم أيتها الامة أربعا وعشرين خصلة ونهاكم عنها، إلى قوله: وكره المن في الصدقة (1). عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله قال: ثلاثة لا يكلمهم الله، المنان الذي لا يعطي شيئا إلا بمنة، والمسبل إزاره (2) والمنفق سلعته بالحلف الفاجر (3). عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله تعالى كره لي ست خصال وكرهتهن للاوصياء من ولدي وأتباعهم من بعدي، العبث في الصلاة، والرفث في الصوم، والمن بعد الصدقة الحديث (4). قول معروف: رد جميل. ومغفرة: تجاوز عن السائل الحاجة، أو نيل مغفرة من الله بالرد الجميل، أو عفو عن السائل بأن يعذره ويغتفر رده. خير من صدقة يتبعها أذى: خبر عنهما، والابتداء بالنكرة المخصصة بالصفة. والله غنى: عن الانفاق بمن وأذى.


(1) كتاب الخصال: ص 520، ابواب العشرين وما فوقه، النهي عن أربع وعشرين خصلة قطعة من حديث 9. (2) قد تكرر ذكر الاسبال في الحديث كما ورد فيه ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة المسبل إزاره، هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الارض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كبرا واختيالا النهاية لابن الاثير: ج 2، ص 339، لغة (سبل). (3) الخصال: ص 184، ثلاثة لا يكلمهم الله عزوجل، ح 253. (4) من لا يحضره الفقيه: ج 2، في فضل الصدقة ص 41، ح 34، وتمام الحديث (وإتيان المساجد جنبا والتطلع في الدور والضحك بين القبور). (*)

[ 644 ]

[ يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والاذى كالذى ينفق ماله رئاء الناس ولا – يؤمن – بالله – واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب – فأصابه – وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكفرين (264) ] حليم: عن معاجلة من يمن ويؤذي. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منه، ثم ردوا عليه بوقار، ولين، إما بذل يسير أو رد جميل، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله تعالى، رواه في مجمع البيان (1). يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والاذى: لا تبطلوا أجرها بكل واحد منهما. وفي مجمع البيان: روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثم آذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل الله صدقته (2). وفي تفسير العياشي: عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن جعفر بن محمد وأبي جعفر عليهما السلام في قول الله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى ” إلى آخر الآية قال: نزلت في عثمان وجرت في معاوية و


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 375، في بيان المعنى لآية 263 من سورة البقرة. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2 – ص 377، في بيان المعنى لآية 264 من سورة البقرة. (*)

[ 645 ]

أتباعهما (1). وعن أبي عبد الله عليه السلام في قوله (يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) لمحمد وآل محمد عليه الصلاة والسلام هذا تأويل قال: نزلت في عثمان (2). كالذى ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر: كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله ولا ثواب الآخرة، أو مماثلين الذي ينفق رئاء، فالكاف في محل النصب على المصدر، أو الحال، و (رئاء) نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا، أو المصدر أي إنفاق رئاء. وفي تفسير العياشي: عن أبي عبد الله عليه السلام أنه فلان وفلان وفلان ومعاوية وأشياعهم (3). فمثله كمثل صفوان: كمثل حجر أملس. عليه تراب فأصابه وابل: مطر عظيم القطر. فتركه صلدا: أملس نقيا من التراب. لا يقدرون على شئ مما كسبوا: لا ينتفعون بما فعلوا رئاء، ولا يجدون ثوابه والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى، كقوله: * وإن الذي حانت بفلج دمائهم (4).


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 147، ح 482. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 147، ح 483. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 148، ح 484. (4) استشهد به في تفسير التبيان: ج 1، ص 208، وقال في معجم البلدان ج 4، ص 272، في لغة (فلج) ما لفظه (فلج بفتح اوله وسكون ثانيه وآخره جيم إلى أن قال: قال أبو منصور: فلج اسم بلد ومنه قيل لطريق تأخذ من طريق البصرة إلى اليمامة: طريق بطن فلج، وأنشد للاشهب: وان الذي حانت بفلج دمائهم * هم القوم كل القوم يا ام خالد هم ساعد الدهر الذي يتقى به * وما خير كف لا تنوء بساعد وقال غيره فلج: واد بين البصرة وحمى ضرية من منازل عدي بن جندب إلى آخره. وفي لسان العرب: ج 2، ص 349، في لغة (فلج) بعد نقل الاقوال فيه، قال: قال الاشهب بن رميلة: = (*)

[ 646 ]

[ ومثل الذين ينفقون أمولهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265) أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الانهر له فيها من كل الثمرت وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الايت لعلكم تتفكرون (266) ] والله لا يهدى القوم الكفرين: إلى الخير والرشاد. وفي الآية بناء على ما سبق من الخبر تصريح بكفر فلان وفلان وأشياعهم. ومثل الذين ينفقون أمولهم ابتغاء مرضات الله: في تفسير العياشي: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ” ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ” قال: علي أمير المؤمنين أفضلهم، وهو ممن ينفق ماله ابتغاء مرضات الله (1). وتثبيتا من أنفسهم: وتثبيتا بعض أنفسهم على الايمان، فان المال شقيق


= وإن الذي حانت بفلج إلى آخره ثم قال: قال ابن بري: النحويون يستشهدون بهذا البيت على حذف النون من الذين لضرورة الشعر. وفي جامع الشواهد: ص 302، باب الواو بعده الالف، قال: هو من قصيدة للاشهب بن رميلة النهشلي، وقوله حانت بالحاء المهملة والنون وتاء التأنيث ماض بمعنى هلكت، والمراد منه هنا أنه ذهبت هدرا لم يثار به، وفلج كفلس بالفاء والجيم موضع بين مكة والبصرة، وقوله: هم القوم كل القوم، أي هم الكاملون في الرجولية، والمشهورون فيها، وام خالد إسم إمرة. (1) تفسير العياشي: ج 1، ص 148، ح 486. (*)

[ 647 ]

الروح، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها، أو تصديقا للاسلام، وتحقيقا للجزاء مبتداء من أصل أنفسهم، أو تثبيتا من أنفسهم عن المن والاذى، كما رواه العياشي عن أبي جعفر عليه السلام وقال: انزلت في علي عليه السلام (1). كمثل جنة بربوة: أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة كمثل بستان بموضع مرتفع، فإن شجره يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. وقرأ ابن عامر وعاصم (بربوة) بالفتح، وقرئ بالكسر، وثلاثتها لغات فيها (2). أصابها وابل: مطر عظيم القطر. فاتت أكلها: ثمرتها، وقرئ بالسكون للتخفيف. ضعفين: نصب على الحال، أي مضاعفا، والضعف المثل، أي مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. وقيل: أربعة أمثاله. وقيل: مثل الذي كان تثمر، كما اريد بالزوج الواحد في قوله: ” من كل زوجين اثنين ” (3). فإن لم يصبها وابل: أي فيصيبها طل، أو فالذي يصيبها. فطل: أو فطل يكفيها، لكرم منبتها وبرودة هوائها، لارتفاع مكانها. و ” الطل ” ما يقع بالليل على الشجر والنبات، والمعنى: إن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله. والله بما تعملون بصير: تحذير عن الريا، وترغيب في الاخلاص.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 148، ح 485. (2) قال في تحبير التسير في قراءات الائمة العشرة، للمحقق الجزري ص 95، ما لفظه: ” عاصم وابن عامر بربوة هنا وفي المؤمنين بفتح الراء والباقون بضمها انتهى ” ولم يتعرض للغات الثلاث فيها، وفي مجمع البيان: ج 1 – 2 ص 377، في الشواذ عن ابن عباس بكسر الراء. (3) سورة المؤمنون: الآية 27. (*)

[ 648 ]

أيود أحدكم: الهمزة للانكار. أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الانهر له فيها من كل الثمرت: جعل الجنة منهما مع ما فيها من ساير الاشجار، تغليبا لهما، لشرفهما وكثرة منافعهما، ثم ذكر إن فيها من كل الثمرات، ليدل على احتوائها على ساير أنواع الاشجار. قيل: ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع. وأصابه الكبر: أي كبر السن، فان الفاقة في الشيخوخة أصعب. والواو للحال، أو العطف حملا على المعنى، فكأنه قيل: يود أحدكم أن لو كانت له جنة وأصابه الكبر. وله ذرية ضعفاء: لا قدرة لهم على الكسب. فأصابها إعصار: في تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام: إعصار فيه نار قال: ريح (1). فيه نار: صفة إعصار. فاحترقت: عطف على أصابه، أو تكون باعتبار المعنى. وفي تفسير العياشي: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الاعصار الرياح فمن امتن على من تصدق عليه كان كمن كانت له جنة كثيرة الثمار، وهو شيخ ضعيف له أولاد ضعفاء فتجيئ نار فتحرق ماله كله (2). كذلك: أي مثل هذا التبيين. يبين الله لكم الايت لعلكم تتفكرون: فيها فتعتبرون.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 148، ح 487. (2) لا يوجد هذه الحديث في تفسير العياشي بل في تفسير علي بن ابراهيم، لا حظ تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 92. (*)

[ 649 ]

[ يأيها – الذين – ءامنوا – أنفقوا من طيبت ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم باخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غنى حميد (267) الشيطن يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله وسع عليم (268) ] يأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبت ما كسبتم: من حلاله أو جياده. وفي الكافي: عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قوله تعالى: ” أنفقوا من طيبات ما كسبتم ” فقال: كان القوم قد كسبوا مكاسب السوء في الجاهلية، فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا (1). وفي تفسير العياشي: عن اسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: كان أهل المدينة يأتون بصدقة الفطر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وفيه عذق (2) يسمى الجعرور (3) وعذق يسمى معافارة (4)، كانا عظيم نواهما، رقيق لحاهما، في طعمهما مرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للخارص: لا


(1) الكافي: ج 4، كتاب الزكاة باب النوادر ص 48، ح 10. (2) وهي عنقود التمر والجمع أعذاق كأحمال (مجمع البحرين: ج 5، ص 212، لغة ” عذق “). (3 و 4) وفي حديث الزكاة: تترك معافارة وأم جعرور للمارين أو للحارس والطيور: معافاره وأم جعرور ضربان رديان من اردئ التمر (مجمع البحرين: ج 3، ص 409، لغة ” عفر “) وفي النهاية لابن الاثير: ج 1، ص 276، لغة (جعر) وفيه انه نهى عن لونين من التمر الجعرور ولون حبيق، الجعرور: ضرب من الدقل يحمل رطبا صغارا لا خير فيه. (*)

[ 650 ]

تخارص عليهم هاذين اللونين لعلهم يستحيون لا يأتون بهما، فأنزل الله تبارك و تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ” إلى قوله: ” تنفقون ” (1). وفي مجمع البيان: وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في ثمر الصدقة عن علي عليه السلام (2). وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إن الله يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب (3). ومما أخرجنا لكم من الارض: أي من طيباته، فحذف المضاف لدلالة ما تقدم. ولا تيمموا الخبيث: ولا تقصدوا الردي. منه: أي من المال، وقرئ بضم التاء وكسر الميم (4). تنفقون: حال مقدرة من فاعل (تيمموا) ويجوز أن يتعلق به ” منه ” ويكون الضمير للخبيث والجملة حالا منه. وقيل: يجوز أن يكون الضمير لما أخرجنا وتخصيصه بذلك، لان التفاوت فيه أكثر. وفي اصول الكافي: على بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا زنى الرجل، فارقه روح الايمان قال: فقال: هذا مثل قول الله عزوجل ” ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ” ثم قال: غير هذا أبين منه، ذلك قول الله عزوجل: ” وأيدهم بروح منه ” هو الذي فارقه (5).


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 150، الحديث 493. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 380، في نقل شأن النزول لآية 267 من سورة البقرة. (3) تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 286، تحت الرقم 1125. (4) قرأ ابن عباس: ولا تيمموا بضم التاء. الكشاف: ج 1، ص 314، في تفسير لقوله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه). (5) الكافي: ج 2، ص 284، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، ح 17، وقريب منه الحديث 11 في تلك الباب. (*)

[ 651 ]

ولستم باخذيه: أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم. إلا أن تغمضوا فيه: إلا أن تتسامحوا فيه، مجاز من أغمض بصره، إذا غضه. وقرئ من باب التفعيل أي تحملوا على الاغماض، أو توجدوا مغمضين (1). وفي الكافي: الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشا، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ” قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيئ قوم بألوان من التمر، وهو من أردئ التمر يؤدونه من زكاتهم تمرا، يقال له: الجعرور والمعافارة، قليلة اللحا عظيمة النوى، وكان بعضهم يجيئ بها عن التمر الجيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منهما بشئ وفي ذلك نزل ” ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ” والاغماض أن يأخذ هاتين التمرتين (2). واعلموا أن الله غنى: عن إنفاقكم، وانما يأمركم به لانتفاعكم. حميد: بقبوله وإثابته. الشيطن يعدكم الفقر: في الانفاق. والوعد في الاصل شايع في الخير والشر. و قرئ الفقر بالضم والسكون، وبضمتين وفتحتين (3). ويأمركم بالفحشاء: ويغريكم على البخل. والعرف يسمى البخيل فاحشا. وقيل: المعاصي. والله يعدكم مغفرة منه: أي في الانفاق. وفضلا: خلقا أفضل ما أنفقتم. والله وسع: الفضل لمن أنفق وغيره.


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 139. (2) الكافي: ج 4، ص 48، كتاب الزكاة، باب النوادر، ح 9. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (*)

[ 652 ]

[ يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالبب (269) ] عليم: بالانفاق وغيره. وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ” الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ” قال: الشيطان يقول: لا تنفق مالك فانك تفتقر ” والله يعدكم مغفرة منه ” أي يغفر لكم إن أنفقتم لله، و (فضلا) قال: يخلف عليكم (1). وفي كتاب علل الشرايع: أبي رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال: حدثنا الحسن بن علي، عن عباس، عن أسباط، عن عبد الرحمن قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إني ربما حزنت فلا أعرف في حال ولا مال ولا ولد، وربما فرحت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد ؟ فقال: إنه ليس من أحد إلا ومعه ملك وشيطان، فإذا كان فرحه كان دنو الملك منه، وإذا كان حزنه كان دنو الشيطان منه، وذلك قول الله تعالى: ” الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ” (2). يؤتى الحكمة من يشاء: مفعول أول آخر للاهتمام بالمفعول الثاني. ومن يؤت الحكمة: بناؤه للمفعول، لانه المقصود. وقرأ يعقوب بالكسر، أي ومن يؤته الله (3).


(1) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 92. (2) علل الشرايع: ج 1، ص 87، باب 84، العلة التي من أجلها، يغتم الانسان ويحزن من غير سبب ويفرح ويسر من غير سبب، ح 1. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (*)

[ 653 ]

فقد أوتى خيرا كثيرا: والمراد بالحكمة طاعة الله، ومعرفة الاسلام، معرفة الامام التي هي العمدة في كلتا المعرفتين الاولتين. في محاسن البرقي: عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن الحلبي، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: ” ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ” فقال: طاعة الله ومعرفة الاسلام (1). وفي مجمع البيان: ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إن الله تبارك وتعالى آتاني القرآن وآتاني الحكمة مثل القرآن، وما من بيت ليس فيه شئ من الحكمة إلا كان خرابا، ألا فتفقهوا وتعلموا ولا تموتوا جهالا (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم: قوله: ” يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ” قال: الخير الكثير معرفة أمير المؤمنين والائمة عليهم السلام (3). وفيه خطبة له عليه السلام: وفيها: رأس الحكمة مخافة الله (4). وفي تفسير العياشي: عن سليمان بن خالد قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى: ” ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ” فقال: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما أحد يموت من المؤمنين أحب إلى ابليس من فقيه (5). وفي كتاب الخصال: عن الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: كان آخر ما أوصى به الخضر موسى بن عمران عليه السلام أن قال: لا تعيرن أحدا بذنب، إلى قوله: ورأس الحكمة مخافة الله تبارك وتعالى (6).


(1) المحاسن: ص 148، كتاب الصفوة والنور والرحمة من المحاسن 19 باب المعرفة ح 60. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2 – ص 382 في بيان المعنى لآية 269 من سورة البقرة. (3) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 92. (4) من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 272، باب 176، النوادر وهو آخر أبواب الكتاب، ح 8 ومن ألفاظ رسول الله الموجزة التي لم يسبق إليها. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 151، ح 498. (6) كتاب الخصال: ص 111، باب الثلاثة، أحب الامور ثلاثة، الحديث 83 وتمام الحديث (وإن = (*)

[ 654 ]

عن محمد بن أحمد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن عليه السلام: من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة، وإن الصمت تكسب المحبة، وإنه دليل على كل خير (1). عن ابي جعفر عليه السلام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فالتفت إليهم فقال: ما أنتم ؟ فقالوا: مؤمنون قال: ما حقيقة إيمانكم ؟ قالوا: الرضا بقضاء الله والتسليم لامر الله والتفويض إلى الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: علماء حكماء، كادوا أن يكونوا من الحكمة انبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون (2). وما يذكر: وما يتعظ بما قص من الآيات، أو ما يتفكرون. فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة. إلا أولوا الالبب: ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى. وفي اصول الكافي: بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام: يا هشام إن الله ذكر اولي الالباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية فقال: ” يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا اولي الالباب ” (3). علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أيوب بن الحر، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” ومن يؤت الحكمة فقد اوتى


= أحب الامور إلى الله عزوجل ثلاثة: القصد في الجدة والعفو في المقدرة، والرفق بعباد الله، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله عزوجل به يوم القيامة، ورأس الحكمة مخافة الله تبارك وتعالى). (1) كتاب الخصال: ص 158، باب الثلاثة ثلاث خصال من علامات الفقه، ح 202. (2) كتاب الخصال: ص 146، باب الثلاثة حقيقة الايمان ثلاث خصال ح 175، وقريب منه ما في الكافي: ج 2، ص 48، كتاب الايمان والكفر، باب خصال المؤمن، ح 4. (3) الكافي: ج 1، ص 15، كتاب العقل والجهل، قطعة من حديث 12. (*)

[ 655 ]

[ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظلمين من أنصار (270) ] خيرا كثيرا ” فقال: طاعة الله ومعرفة الامام (1). يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ” ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ” قال: معرفة الامام و اجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ذكر القرآن: لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة (3). وفي مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق، ولو قلت ما أنعم الله على عباده بنعمة أنعم وأعظم وأرفع و أجزل وأبهى من الحكمة، لقلت قال الله عزوجل: ” يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا اولي الالباب ” أي لا يعلم ما أودعت وهيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي، وخصصته بها، والحكمة هي الكتاب وصفة الحكمة الثبات عند أوائل الامور، والوقوف عند عواقبها وهو هادي خلق الله إلى الله (4). وما أنفقتم من نفقة: قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل.


(1) الكافي: ج 1، ص 185، كتاب الحجة باب معرفة الامام والرد إليه، ح 11. وفي تفسير البرهان ج 1، ص 255. وفي تفسير العياشي: ج 1، ص 151، الحديث 496، بحذف السند. (2) الكافي: ج 2، ص 284، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، الحديث 20، وفي تفسير البرهان ج 1 ص 255، وفي تفسير العياشي: ج 1، ص 151، ح 497، نقلا عن أبي جعفر عليه السلام. (3) الكافي: ج 2، ص 598، كتاب فضل القرآن، قطعة من حديث 2، والحديث طويل. (4) مصباح الشريعة: ص 57، الباب التاسع والتسعون. (*)

[ 656 ]

[ إن – تبدوا الصدقت – فنعما – هي – وإن – تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيأتكم والله بما تعملون – خبير (271) * ليس عليك هديهم ولكن الله يهدى من يشاء و ما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (272) ] أو نذرتم من نذر: في طاعة أو معصية. فإن الله يعلمه: فيجازيكم عليه. ودخول الفاء، إما في خبر المبتدأ لتضمنه معنى الشرط، أو في جزاء الشرط لكون كلمة ” ما ” هنا من أداة الشرط. وما للظلمين: الذين يضعون الشئ في غير موضعه، فينفقون في المعاصي و ينذرون فيها، أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر. من أنصار: ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه. جمع ناصر كأصحاب جمع صاحب. إن تبدوا الصدقت فنعما هي: فنعم شئ أبداها (1). كلمة ” ما ” تمييز والمضاف محذوف. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الاصل. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وقالون: بكسر النون وسكون العين. وروي بكسر النون وإخفاء


(1) وفي الكشاف: ج 1، ص 316، ومعنى (فنعما هي) فنعم شيئا إبداؤها. (*)

[ 657 ]

حركة العين (1). وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم: والمراد بالصدقات سوى الزكاة، وصلة قرابتك الواجبة من الصدقات النافلة، فإن الاعلان بالزكاة أفضل. روي في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن أبي المغرا عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: قوله: ” إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ” قال: ليس من الزكاة، وصلتك من قرابتك ليس من الزكاة (2) والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة. علي بن إبراهيم: عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن اسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) قال: هي سوى الزكاة، إن الزكاة علانية غير سر (3). علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكل ما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أن رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه علانية كان حسنا جميلا (4). علي بن ابراهيم: عن أبيه، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل: ” إن تبدوا الصدقات فنعما هي ” قال: يعني الزكاة المفروضة، قال: ” وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء ” قال: يعنى النافلة، إنهم


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (2) الكافي: ج 3، ص 499، كتاب الزكاة، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق قطعة من حديث 9. (3) الكافي: ج 3، ص 502، كتاب الزكاة، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق، ح 17. (4) الكافي: ج 3، ص 501، كتاب الزكاة، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق، قطعه من حديث 16. (*)

[ 658 ]

كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل (1). الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن مرداس، عن صفوان بن يحيى، والحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: قال لي أبو عبد الله: يا عمار، الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك والله العبادة في السر أفضل منها في العلانية (2). وفي تفسير العياشي: عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: ” وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ” قال: ليس تلك الزكاة ولكنه الرجل يتصدق لنفسه والزكاة علانية أفضل (3). واعلم أن بعض تلك الاحاديث يدل على أن في الآية استخداما، والمراد بالصدقات، الصدقات الواجبة، وبضميرها المندوبة. ويمكن حمل البعض الآخر عليه أيضا، إلا الخبر الاول، ويمكن أن يقال أيضا أنه تفسير لقوله: ” وإن تخفوها ” إلى آخره. ويكفر عنكم من سيأتكم: قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء، أي والله يكفر، أو الاخفاء (4). وقرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم في رواية أبي عياش ويعقوب بالنون، مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأ، أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء، أي ونحن نكفر (5) وقرأ نافع وحمزة والكسائي به مجزوما على محل الفاء وما بعده (6)، وقرئ مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات (7).


(1) الكافي: ج 4، ص 60، كتاب الزكاة، باب النوادر، ح 1. (2) الكافي: ج 4، ص 8، كتاب الزكاة، باب فضل صدقة السر، ح 2. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 151، ح 499 وفيه (والزكاة علانية ليس بسر). (4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (5) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (6) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (7) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 140. (*)

[ 659 ]

والله بما تعملون خبير: ترغيب في الاسرار. ليس عليك هديهم: ليس عليك أن تجعل كل الناس مهديين، بمعنى الالزام على الحق، لانك لا تتمكن منه وإنما عليك إراءة الحق والحث عليهم. ولكن الله يهدى من يشاء: لانه يقدر عليه. وما تنفقوا من خير: من نفقة معروفة. فلانفسكم: فهو لانفسكم لا ينتفع به غيركم، فلا تمنوا عليه ولا تنفقوا الخبيث. وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله: أي حال كونكم غير منفقين إلا لابتغاء وجهه. وقيل: نفي في معنى النهي. وما تنفقوا من خير يوف إليكم: ثوابه أضعافا مضاعفة. فهو تأكيد للشرطية السابقة، أو ما يخلف المنفق استجابة لقوله عليه السلام: اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا (1). وأنتم لا تظلمون: بتنقيص ثواب نفقتكم، أو إذهاب ثوابها.


(1) رواه الفريقان بكلمات متقاربة الكافي: ج 4 كتاب الزكاة ص 42، باب الانفاق ح (1) ولفظ الحديث (عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الشمس لتطلع ومعها أربعة أملاك: ملك ينادي يا صاحب الخير أتم وابشر، وملك ينادي يا صاحب الشر أنزع وأقصر، وملك ينادي إعط منفقا خلفا وآت ممسكا تلفا، وملك ينضحها بالماء ولولا ذلك اشتعلت الارض. وفي اسد الغابة في معرفة الصحابة ج 2 ص 399 باب الشين والفاء قال: عن شفي بن مانع الاصبحي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن في السماء اربعة املاك ينادون من أقصاها إلى أدناها: يا صاحب الخير ابشر ويا صاحب الشر إقصر ويقول الاخر اللهم اعط كل منفق الخ. وفي مسند احمد بن حنبل: ج 2، ص 305، ولفظه إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن ملكا بباب من أبواب السماء يقول: من يقرض اليوم يجزى غدا، وملكا بباب آخر يقول: اللهم اعط منفقا خلفا وعجل لممسك تلفا. (*)

[ 660 ]

[ للفقراء – الذين – أحصروا في سبيل – الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيمهم لا يسلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273) الذين ينفقون أمولهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274) ] للفقراء متعلق بمحذوف، أي اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقونه لهم، أو صدقاتكم للفقراء. الذين أحصروا في سبيل الله أي أحصرهم الاشتغال بالعبادة. لا يستطيعون لاشتغالهم. ضربا في الارض ذهابا فيها للكسب. وفي مجمع البيان قال أبو جعفر عليه السلام: نزلت الآية في أصحاب الصفة (1). يحسبهم الجاهل: بحالهم. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين (2). أغنياء من التعفف: من أجل تعففهم عن السؤال. وفي تفسير علي بن إبراهيم: قال العالم عليه السلام: الفقراء هم الذين لا يسألون،


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 387، في بيان شأن النزول لآية (273) من سورة البقرة. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 141. (*)

[ 661 ]

لقول الله تعالى في سورة البقرة ” للفقراء الذين ” إلى قوله ” إلحافا ” (1). تعرفهم بسيمهم: من الضعف ورثاثة الحال، والخطاب للرسول صلى الله عليه وآله، أو لكل أحد. لا يسلون الناس إلحافا: إلحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطييه شيئا من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي أعطاني من فضل ما عنده (2) قيل: المعنى إنهم لا يسألون، وإن سألوا عن ضرورة لم يلحو. والخبر الذي رواه على بن إبراهيم عن العالم عليه السلام يرده، بل هو نفي للامرين. كقوله: * على لا حب لا يهتدى بمناره * (3)


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 298 في تفسير قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء الآية قال: وبين الصادق عليه السلام من هم فقال: الفقراء هم الذين لا يسألون وعليهم مؤنات من عيالهم، والدليل على أنهم هم الذين لا يسألون. قول الله في سورة البقرة الحديث. (2) قال الازهري: أخبرني المنذري، عن الحراني، عن ابن السكيت أنه أنشده لجرير: كم قد نزلت بكم ضيفا فتلحفني * فضل اللحاف ونعم الفضل يلتحف قال: أراد أعطيتني فضل عطاءك وجودك، إلى أن قال: والمعنى في قوله: ” لا يسألون الناس إلحافا ” أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف، كما قال امرء القيس: * على لا حب لا يهتدى بمناره * المعنى: ليس به منار فيهتدي به. لسان العرب ج 9 ص 314، في لغة لحف. (3) هذا القول لامرء القيس وإليك ما قبله: وإني زعيم إن رجعت مملكا * بسير ترى منه الفرانق أزورا على لا حب لا يهتدى بمناره * إذا ساقه العود النباطي جرجرا والزعيم الكفيل والفرانق بضم الفاء: رسول يوصل خبر الخوف. والازور: المائل، واللحب واللاحب: الطريق الواسع. والمنار: اعلام الطريق. وساقه يوسقه سوقا: إذا شمه شما. والعود: الجمل المسن، والنباطي: نسبة للنبط، والجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، يعني إنه طريق واسع لا منار فيه يهتدى به، وفيه نوع من البديع يسمونه نفي الشئ بايجابه، ويفسرونه بأن يكون الكلام ظاهره ايجاب الشئ وباطنه نفيه، بأن ينفي ما هو من سببه، وهو المنفي في الباطن. وفي البيت نفي الاهتداء بالمنار والمقصود نفي المنار. كما ذكره السيوطي في شرح عقود الجمان: إذا شمه الجمل المسن عرف أنه طريق وعر = (*)

[ 662 ]

ونصبه على المصدر، فانه نوع من السؤال، أو على الحال وفي مجمع البيان: وفي الحديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتباؤس ويحب الحليم المتعفف من عباده ويبغض الفاحش البذي السؤال الملحف. وعنه عليه السلام قال: إن الله كره لكم ثلاثا، قيل: وما هن ؟ قال: كثرة السؤال وإضاعة المال ونهى عن عقوق الامهات ووأد البنات. وقال عليه السلام: الايدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسائلته يوم القيامة كدوحا أو خموشا أو خدوشا (1) في وجهه، قيل: وما معنى غناه ؟ قال: خمسون درهما أو عدلها من الذهب (2). وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم: ترغيب في الانفاق وخصوصا على هؤلاء. الذين ينفقون أمولهم باليل والنهار سرا وعلانية: أي يعمون الاوقات والاحوال بالخير. وفي تفسير العياشي: عن أبي اسحاق قال: كان لعلي بن أبي طالب عليه السلام أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا علي ما حملك على ما صنعت ؟ قال: إنجاز موعد الله، فأنزل الله ” الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ” إلى آخر الآيه (3).


= لتجربته الطرق. وجرجر خوفا منه لصعوبته عليه مع تمرنه على السفر، سيما إذا كان من إبل النبط لكثرة رحيلهم (تلخيص من هامش الكشاف: ج 1، ص 318، في ذيل آية (273) من سورة البقرة). (1) والكدح: دون الخدش، والخدش دون الخمش، يقال: خدشت المرأة وجهها إذا خدشته بظفر أو حديدة، والخمش يستعمل على معنى القطع يقال: خمشني فلان أي قطع مني عضوا وفي وجهه كدوح هو بالضم جمع كدح وهو كل أثر من خدش أو عض (مجمع البحرين ج 2، ص 406، لغة كدح). (2) إلى هنا مقبول عن مجمع البيان: ج 1 – 2، ص (387) في بيان المعنى لاية (273) من سورة البقرة. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 151، ح 502. (*)

[ 663 ]

وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن أبى المغرا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: قول الله عزوجل: ” الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ” قال: ليس من الزكاة (1)، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة. عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن الوليد الوصافي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى (2) وفي من لا يحضره الفقيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله في قول الله تعالى: ” الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” قال: نزلت في النفقة على الخيل. قال مصنف هذا الكتاب: روي أنها نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام، وكان سبب نزولها أنه كان معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم منها بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم في السر، وبدرهم في العلانية فنزلت هذه الآية، والآية إذا نزلت في شئ فهي منزلة في كل ما يجري فيه، فالاعتقاد في تفسيرها إنها نزلت في أمير المؤمنين وجرت في النفقة على الخيل وأشباه ذلك انتهى (3). وفي مجمع البيان: قال ابن عباس: نزلت هذه الآيه في علي عليه السلام كانت معه أربعة دراهم فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا وبواحد علانية، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (4). فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: خبر ” الذين ينفقون ” والفاء للسببية.


(1) الكافي: ج 3، كتاب الزكاة باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ص 499، قطعة من حديث ح 9. (2) الكافي: ج 4، ص 8، كتاب الزكاة باب فضل صدقة السر، ح 3. (3) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 188 باب 89، ثواب النفقة على الخيل، ح 1 وذيله. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 388، في بيان شان النزول لآية (274) من سورة البقرة. (*)

[ 664 ]

[ الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطن من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا وأحل الله البيع وحرم الربوا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (275) يمحق الله الربوا ويربى الصدقت والله لا يحب كل كفار أثيم (276) ] وقيل: للعطف والخبر محذوف، أي ومنهم الذين ينفقون، ولذا جوز الوقف على (وعلانية) الذين يأكلون الربوا: أي الآخذون للربا، وانما ذكر الاكل، لانه معظم منافع المال. وهو بيع جنس بما يجانسه مع الزيادة بشرط كونه مكيلا أو موزونا، والقرض مع اشتراط النفع. وانما كتب بالواو كالصلوة، للتفخيم على لغة من يفخم، وزيدت الالف بعدها تشبيها بألف الجمع. لا يقومون إذا بعثوا من قبورهم، أو في المحشر، أو في الدنيا يؤول عاقبة أمرهم إلى ذلك. في تفسير العياشي عن شهاب بن عبد ربه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان (1).


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 152، ح 503. (*)

[ 665 ]

وفي الاخبار ما يدل على الاولين (1). ويمكن الجمع بأن ابتداء حصول هذه الآية في الدنيا. إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطن: قياما كقيام المصروع، بناء على زعم الناس: أن الشيطان يمس الانسان فيصرع، والخبط صرع على غير اتساق، كالعشواء، أو الافساد. من المس: متعلق ب‍ (لا يقومون) أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا، أو ب‍ (يقوم) أو ب‍ (يتخبطه) فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين، لا لاختلال عقلهم، ولكن لان الله أربى ما في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم. وفي تفسير علي بن ابراهيم: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لما اسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس (2). ذلك: العقاب. بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا بسبب إنهم نظموا البيع والربا في سلك واحد، لافضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلالا له. وهو من باب القلب، والاصل: إنما الربا مثل البيع، عكس للمبالغة، كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا البيع به. وأحل الله البيع وحرم الربوا في موضع الحال. في عيون الاخبار: في باب ما كتب الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل: وعلة تحريم الربا: إنها نهى الله عنه لما فيه من فساد


(1) لا حظ مستدرك الوسائل: ج 2 ص 478 كتاب التجارة، الباب (1) من أبواب الربا. (2) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 93 في تفسيره لآية (الذين يأكلون الربا الآية) من سورة البقرة. (*)

[ 666 ]

الاموال، لان الانسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين، كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا، فبيع الربا واشتراؤه وكس على كل حال على المشتري وعلى البايع، فحرم الله تعالى الربا لعلة فساد الاموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من إفساده حتى يؤنس منه رشده فلهذه العلة حرم الله تعالى الربا وبيع الدرهم بدرهمين يدا بيد. وعلة تحريم الربا بعد البينة: لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرم وهي كبيرة بعد البيان وتحريم الله تعالى لها، ولم يكن ذلك منه إلا إستخفافا بالمحرم الحرام، والاستخفاف بذلك دخول في الكفر وعلة تحريم الربا بالنسية، لعلة ذهاب المعروف وتلف الاموال ورغبة الناس في الربح وتركهم القرض وصنايع المعروف وما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الاموال (1). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إني رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرره، فقال: أو تدري لم ذاك ؟ قلت: لا، قال: لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف (2). علي بن إبراهيم، عن أبيه عن إبن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما حرم الله عزوجل الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف (3). روى علي بن ابراهيم: عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم في بيت الله الحرام، وقال: الربا سبعون جزءا أيسره أن ينكح الرجل امه في بيت الله


(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 93، باب 33، في ذكر ما كتب به الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل، ح 1. (2) الكافي: ج 5، ص 146، كتاب المعيشة، باب الربا، ح 7. (3) الكافي: ج 5، ص 146، كتاب المعيشة، باب الربا، ح 8. (*)

[ 667 ]

الحرام (1). فمن جاءه موعظة أي وعظ وتوبة. في تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم أن رجلا سأل أبا جعفر عليه السلام وقد عمل بالربا حتى كثر ماله بعد أن سأل غيره من الفقهاء فقالوا: ليس يقبل منك شئ إلا أن ترده إلى أصحابه، فلما قص على أبي جعفر عليه السلام قال له أبو جعفر عليه السلام: مخرجك في كتاب الله قوله: ” فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ” والموعظة التوبة (2). وفي اصول الكافي: علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام في قول الله عزوجل ” فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ” قال: الموعظة، التوبة (3). من ربه أي بلغه النهي عن الربا من ربه. فانتهى عن أخذه وتاب عنه. فله ما سلف ما تقدم من أخذه، ولا يسترد منه. (وما) في موضع الرفع بالظرف إن جعلت (من) موصولة. وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي سيبويه، إذ الظرف معتمد على ما قبله. وأمره إلى الله أي يجازيه على انتهائه، أو يحكم في شأنه، ولا اعتراض لكم عليه. في الكافي: أحمد بن محمد، عن الوشا، عن أبي المغرا، عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا عنه، فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة. وأيما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الربا فجهل ذلك ثم عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، فما مضى فله، ويدعه فيما يستأنف (4).


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 93، في تفسيره لآية ” الذين ياكلون الربا ” من سورة البقرة. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 152، ح 506. (3) الكافي: ج 2، ص 431، كتاب الايمان والكفر، باب التوبة، ح 2. (4) الكافي: ج 5، ص 145، كتاب المعيشه، باب الربا، قطعة من حديث 4 (*)

[ 668 ]

علي بن إبراهيم: عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله: قد وضع ما مضى من الربا وحرم عليهم ما بقي، فمن جهله وسع له جهله حتى يعرفه فإذا عرف تحريمه حرم عليه، ووجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب على من يأكل الربا (1). عدة من أصحابنا: عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل اربي بجهالة ثم أراد أن يتركه ؟ قال: قال: أما ما مضى فله، وليتركه فيما يستقبل (2). ومن عاد إلي تحليل الربا، إذ الكلام فيه. فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون: لانهم كفروا به كما مر في حديث العيون. وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن منصور، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنه له حلال ؟ قال: لا يضر حتى يصيبه متعمدا، فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل (3). يمحق الله الربوا: يذهب بركته، ويهلك المال الذي فيه. في من لا يحضره الفقيه: وسأل رجل الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل ” يمحق الله الربا ويربي الصدقات ” وقد أرى من يأكل الربا يربوا ماله ؟ قال: فأي محق أمحق من درهم ربا، يمحق الدين، فإن تاب منه ذهب ماله و افتقر (4).


(1) الكافي: ج 5، ص 145، كتاب المعيشة، باب الربا قطعة من حديث ح 5. (2) الكافي: ج 5، ص 146، كتاب المعيشة باب الربا قطعة من حديث 9. (3) الكافي: ج 5، ص 144، كتاب المعيشة، باب الربا، ح 3. (4) من لا يحضره الفقيه: ج 3، ص 176، باب 87 الربا، ح 15. (*)

[ 669 ]

ويربى الصدقت يضاعف ثوابها ويبارك فيما اخرجت منه. في تفسير العياشي: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله يقول: ليس من شئ إلا وكلت به من يقبضه غيري إلا الصدقة فإني أتلقفها بيدي تلقفا (1) حتى أن الرجل والمرأة يتصدق بالتمرة وبشق تمرة، فاربيها كما يربي الرجل فلوه وفصيله (2) فيلقى في يوم القيامة وهو مثل احد وأعظم من احد (3). وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا خالق كل شئ، وكلت بالاشياء غيري إلا الصدقة، وذكر نحو ما سبق (4). وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنه ليس شئ إلا وقد وكل به ملك غير الصدقة، فإن الله يأخذه بيده ويربيه كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهي مثل احد (5). وفي مجمع البيان: روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو * * *


(1) وفي حديث الصدقة: اتلقفها تلقفا، اي اتناولها بسرعة، وهو على المجاز دون الحقيقة: مجمع البحرين: ج 5، ص 121، لغة لقف. (2) في الحديث القدسي: الرجل يتصدق بالتمرة ونصف التمرة فاربيها كما يربي الرجل فلوه وفصيله. الفلو بتشديد الواو وضم اللام المهر يفصل عن امه لانه يفتلى، أي يفطم والجمع افلاء كعدو واعداء، وإنما ضرب المثل بالفلو لانه يريد زيادة تربيته، وكذا الفصيل، مجمع البحرين: ج 1، ص 332 لغه فلا. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 152، ح 507. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص 153، ح 509. (5) تفسير العياشي: ج 1، ص 153، ح 510. (*)

[ 670 ]

[ إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277) يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أمولكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) ] فصيله حتى أن اللقمة لتصير مثل احد (1). وفي أمالي الصدوق رحمه الله بإسناده إلى الصادق عليه السلام أنه قال: من تصدق بصدقة في شعبان رباه عزوجل كما يربي أحدكم فصيله حتى يوافي يوم القيامة وقد صارت مثل احد (2). والله لا يحب كل كفار لا يرضاه. أثيم منهمك في الاثم. إن الذين ءامنوا: بالله ورسله واوصياء رسله. وعملوا الصلحت عطف على (آمنوا) ولا يدل على خروج العمل عن الايمان، كما لا يدل عطف. وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة عليه على خروجه عنه. لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم على آت. ولا هم يحزنون: فائت.


(1) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 390، في بيان المعنى لآية (279) من سورة البقره. (2) الامالي للصدوق: ص 373، المجلس الحادى والتسعون. (*)

[ 671 ]

يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا. إن كنتم مؤمنين بقلوبكم، فإن دليله امتثال ما امرتم به. في تفسير على بن إبراهيم: إن سبب نزولها أنه لما أنزل الله ” الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ” فقام خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله ربا أبي في ثقيف، وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله تبارك وتعالى الآية، قال: ومن أخذ الربا وجب عليه القتل وكل من اربى وجب عليه القتل (1). فإن لم تفعلوا فأذنوا فاعلموا من أذن بالشئ، إذا علم به وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عباس: (فأذنوا) أي فاعلموا بها غيركم، من الاذن وهو الاستماع، فانه من طرق العلم (2). بحرب من الله ورسوله تنكيره للتعظيم، أي حرب عظيم. وذلك يقتضي أن يقاتل الحربي بعد الاستتابة حتى يفئي إلى أمر الله، وذلك يقتضي كفره. وإن تبتم: رجعتم من الارتباء واعتقاد حله فلكم رءوس أمولكم فيه دلالة على أن المربي لو لم يتب لم يكن له رأس ماله، وهو كذلك، لان المصر على التحليل مرتد وماله فيئ. لا تظلمون بأخذ الزيادة. ولا تظلمون بالمطل والنقصان من رأس المال. وفي تفسير العياشي: عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة قال: ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ” إلى قوله ” ولا تظلمون ” فهذا ما دعى الله إليه من التوبة، ووعدهم عليها من ثوابه، فمن خالف ما أمره الله به من التوبة سخط


(1) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 93، في تفسيره لقوله تعالى: ” الذين يأكلون الربا “. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 143. (*)

[ 672 ]

[ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن – كنتم – تعلمون (280) – واتقوا – يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى – كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281) ] الله عليه، وكانت النار أولى به وأحق (1). وفي الكافي: أحمد بن محمد، عن الوشا، عن أبي المغرا، عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أن في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالا طيبا فليأكله، وإن عرف منه شيئا أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليرد الربا (2). وإن كان ذو عسرة: أي إن وقع غريم ذو عسرة. وقرئ ذا عسرة. والمعسر من لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد (3). قال في مجمع البيان: روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام (4). والظاهر أن المراد ما فضل عن قوت اليوم والليلة. فنظرة: أي فالحكم نظرة. أو فعليكم نظرة. أو فليكن نظرة، وهي الانظار. وقرئ فناظرة على لفظ الخبر، على معنى فالمستحق ناظرة، أي منتظرة.


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 153، ح 512. (2) الكافي: ج 5، ص 145، كتاب المعيشة، باب الربا، قطعة من حديث 4. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 143. (4) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 393، في بيان المعنى لآية (280) من سورة البقرة. (*)

[ 673 ]

أو صاحب نظرية على طريق النسب. أو على لفظ الامر أي فسامحه بالنظرة (1). وعلى كل تقدير فانظار المعسر واجب في كل دين. قال في مجمع البيان: وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (2). إلى ميسرة: يسار. وقرأ نافع وحمزة بضم السين، وهما لغتان كمشرقة ومشرقة (3) وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الاضافة. كقوله: * واخلفوك عدا الامر الذي وعدوا (4) * في الكافي: محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سليمان، عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا محمد قال: سأل الرضا عليه السلام رجل وأنا أسمع فقال له: جعلت فداك إن الله تبارك وتعالى يقول ” وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ” أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه، لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر لابد له من أن ينظر، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله، وليس له غلة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محله، ولا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال نعم: ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الامام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله، فان كان انفقه في


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 143. (2) مجمع البيان: ج 1 – 2، ص 393، في بيان المعنى لآية (280) من سورة البقرة. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 143. (4) لابي امية الفضل ابن العباس بن عبتة بن أبي لهب وقيل لزهير، وقبله: إن الخليط أجدوا البين وانجردوا * وأخلفوك عدا الامر الذي وعدوا والخيط المخالط في العشرة، وهو كالعشير يقال للواحد والمتعدد، وأجدوا البين: اجتهدوا في الفراق، وانجردوا: مضوا، وعدا الامر: أصله عدة الامر، وأصلها وعد، فعوضت التاء عن الواو، ثم حذفت التاء للاضافة، كالتنوين على لغة (عن هامش الكشاف: ج 1، ص 323، في تفسيره لآية (280) من سورة البقرة). (*)

[ 674 ]

معصية الله فلا شئ له على الامام قلت: فما لهذا الرجل الذي إئتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة الله أم في معصية الله ؟ قال: سعى له في ماله فيرده وهو صاغر (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي، عن السكوني، عن مالك بن مغيرة، عن حماد بن سلمة، عن جذعان، عن سعيد بن المسيب عن عايشة أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة المسلمين واستبان للوالي عسرته، إلا برئ هذا المعسر من دينه وصار دينه على والي المسلمين فيما في يديه من أموال المسلمين. قال عليه السلام: ومن كان له على رجل مال أخذه ولم ينفقه في إسراف أو في معصية فعسر عليه أن يقضيه فعلى من له المال أن ينظره حتى يرزقه الله فيقضيه. وان كلام الامام العادل قائما فعليه أن يقضي عنه دينه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فعلى الامام ما ضمنه الرسول (2). وأن تصدقوا: بالابراء. وقرأ عاصم بتخفيف الصاد (3). خير لكم: اكثر ثوابا من الانظار. إن كنتم تعلمون إنه معسر. في الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وآله المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على أنبيائه صلى الله عليهم ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى


(1) الكافي: ج 5، ص 93، كتاب المعيشة، باب الدين ح 5. (2) تفسير علي بن ابراهيم: ج 1، ص 94، في تفسير لآية (فنظرة إلى ميسرة) من سورة البقرة. (3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 143. (*)

[ 675 ]

يستوفيه. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: ” وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ” أنه معسر، فتصدقوا بمالكم عليه فهو خير لكم (1). محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أراد أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، قالها ثلاثا، فهابه الناس أن يسألوه، فقال: فلينظر معسرا أو ليدع له من حقه (2). محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في يوم حار، وحنا كفه (3) من أحب أن يستظل من فور جهنم (4)، قالها: ثلاث مرات، فقال الناس في كل مرة: نحن يا رسول الله، فقال: من أنظر غريما أو ترك المعسر. ثم قال لي أبو عبد الله عليه السلام: قال لي عبد الله بن كعب بن مالك: إن أبي أخبرني أنه لزم غريما له في المسجد فاقبل رسول الله صلى الله عليه وآله فدخل بيته ونحن جالسان، ثم خرج في الهاجرة (5) فكشف رسول الله صلى الله عليه وآله ستره وقال: يا كعب ما زلتما جالسين ؟ قال: نعم بأبى وامي قال: فأشار رسول الله صلى الله عليه وآله بكفه خذ النصف قال: فقلت: بأبي وامي ثم قال: إتبعه ببقية حقك، قال: فأخذت النصف ووضعت له النصف (6). واتقوا يوما: نصب على المفعول به على الاتساع، أي ما فيه.


(1) الكافي: ج 4، ص 35، كتاب الزكاة باب إنظار المعسر ح 4. (2) الكافي: ج 4، ص 35، كتاب الزكاة باب إنظار المعسر ح 1. (3) حنا كفه مخففة ومشددة: لواها وعطفها. (4) وفور جهنم: وهجها وغليانها. (5) الهاجرة اشتداد الحر نصف النهار. (6) الكافي: ج 4 ص 35 كتاب الزكاة باب إنظار المعسر ح 2. (*)

[ 676 ]

ترجعون فيه إلى الله: يوم القيامة أو يوم الموت، أو الاعم، فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمر ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم (1). ثم توفى كل نفس ما كسبت: جزاء ما عملت من خير أو شر. وهم لا يظلمون بنقص ثواب وتضعيف عذاب. قال البيضاوي: وعن ابن عباس إنها آخر آية نزل بها جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ضعها في رأس المأتين والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وآله بعدها إحدى وعشرين يوما، وقيل: إحدى وثمانين، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات (2). * * *


(1 و 2) انوار التنزيل واسرار التأويل: ج 1، ص 143. (*)

[ 677 ]

[ يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهدة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم (282) ] يأيها الذين ءأمنا إذا تداينتم بدين: إذا داين بعضكم بعضا. والتداين والمدانية المعاملة نسية معطيا أو آخذا. وذكر الدين لدفع توهم أنه من التداين بمعنى المجازات. إلى أجل مسمى: معلوم بالايام والاشهر، فإنه معلوم، لا بالحصاد وقدوم


[ 678 ]

الحاج، فانه لا يجوز لانه غير معلوم. فاكتبوه: لانه أوثق وأدفع للنزاع. والامر بها للاستحباب. في كتاب علل الشرايع: باسناده إلى أبي جعفر عليه السلام: إن الله عزوجل عرض على أدم أسماء الانبياء وأعمارهم، قال: فمر آدم باسم داود عليه السلام، فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا رب ما أقل عمر داود وما أكثر عمري، يا رب إن أنا زدت داود ثلاثين سنة، اثبتت ذلك له ؟ قال: نعم يا آدم قال: فإنى قد زدته من عمري ثلاثين سنة، فأنفذ ذلك له وأثبتها له عندك واطرحها من عمري، قال أبو جعفر عليه السلام: فأثبت الله عزوجل لداود في عمره ثلاثين وكانت له عند الله مثبتة، فذلك قوله عزوجل: ” يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ” فمحى الله ما كان مثبتا لآدم وأثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا. قال فمضى عمر آدم فهبط ملك الموت لقبض روحه فقال له آدم: يا ملك الموت إنه قد بقي من عمري ثلاثون سنة، فقال له ملك الموت: يا آدم ألم تجعلها لابنك داود النبي وطرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الانبياء من ذريتك وعرضت عليك أعمارهم وأنت يومئذ بوادي الاحياء ؟ فقال له آدم: ما أذكر هذا، قال: فقال له ملك الموت: يا آدم لا تجحد ألم تسأل الله عزوجل أن يثبته لداود ويمحوها من عمرك، فأثبتها لداود في الزبور ومحاها عن عمرك في الذكر قال آدم: حتى أعلم ذلك. قال أبو جعفر: وكان آدم صادقا، لم يذكر ولم يجحد فمن ذلك اليوم أمر الله تبارك وتعالى أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل، لنسيان آدم وجحوده ما جعل على نفسه (1). وفي الكافي: أبو علي الاشعري، عن عيسى بن أيوب، عن علي بن مهزيار، عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما عرض على آدم ولده نظر إلى داود فأعجبه فزاده خمسين سنة من عمره، قال: ونزل جبرئيل وميكائيل فكتب


(1) علل الشرايع: ج 2، ص 239، الباب (341) العلة التي من اجلها امر الله تبارك وتعالى عباده إذا تداينوا وتعاملوا ان يكتبوا بينهم كتابا ح 1. (*)

[ 679 ]

عليه ملك الموت صكا (1) بالخمسين سنة، فلما حضرته الوفاة انزل عليه ملك الموت فقال آدم: قد بقي من عمري خمسون سنة، قال: فأين الخمسون سنة التي جعلتها لابنك داود ؟ قال: فأما أن يكون نسيتها أو أنكرها، فنزل جبرئيل وميكائيل فشهدا عليه، وقبضه ملك الموت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان أول صك كتب في الدنيا (2). وفيه حديث آخر طويل نحوه غير أن فيه: أن عمر داود كان أربعين سنة فزاده آدم ستين تمام الماءة (3). وليكتب بينكم كاتب بالعدل: بالسوية لا يزيد ولا ينقص. وهو للاستحباب أيضا. ولا يأب كاتب: لا يمتنع أحد من الكتاب. وهو للاستحباب أيضا. أن يكتب كما علمه الله: من كتبة الوثائق، وهو أن يكتب بالعدل. أو لا يأب أن ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها. فليكتب: تلك المعلمة، أمر بها بعد النهي عن الاباء، تأكيدا. وقيل: يجوز أن يتعلق الكاف بالامر فيكون النهي عن الامتناع ثم الامر بها مقيدة، وهو ضعيف. وليملل الذى عليه الحق: لانه المقر. والاملال والاملاء واحدة. وليتق الله ربه: أي المملي أو الكاتب. ولا يبخس: لا ينقص. منه شيئا: اي من الحق، أو مما املي عليه. فإن كان الذى عليه الحق سفيها: ناقص العقل.


(1) الصك. الكتاب: نهاية ابن الاثير: ج 3، ص 43، باب الصاد مع الكاف الصك بتشديد الكاف: كتاب كالسجل يكتب في المعاملات. مجمع البحرين: ج 5، ص 279. لغة صكك. (2) الكافي: ج 7، ص 379، كتاب الشهادات، باب أول صك كتب في الارض، ح 2. (3) الكافي: ج 7، ص 378، كتاب الشهادات، باب أول صك كتب في الارض، ح 1. (*)

[ 680 ]

أو ضعيفا: صبيا. وفي تفسير العياشي: عن ابن سنان قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: متى يدفع إلى الغلام ماله ؟ قال: إذا بلغ واونس منه رشد، ولم يكن سفيها أو ضعيفا، قال: قلت: فإن منهم من يبلغ خمس عشر سنة وستة عشر سنة ولم يبلغ، قال: إذا بلغ ثلاث عشرة سنة جاز أمره إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا، قال: قلت: وما السفيه والضعيف ؟ قال: السفيه الشارب الخمر، والضعيف الذي يأخذ واحدا باثنين (1). وفي تهذيب الاحكام: علي بن الحسين، عن أحمد ومحمد ابني الحسن، عن أبيهما، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل ” حتى إذا بلغ ” قال: الاحتلام قال: فقال: يحتلم في ستة عشر وسبع عشر سنة ونحوها، فقال: إذا أتت عليه ثلث عشر سنة كتبت له الحسنات وجاز أمره إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا، فقال: وما السفيه ؟ فقال: الذي يشتري الدرهم بأضفافه، قال: وما الضعيف ؟ قال: الابله (2). أو لا يستطيع أن يمل هو: هو لخرس أو جهل باللغة. فليملل وليه بالعدل: أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه، من الولي الشرعي للصبي والمختل العقل، والوكيل المترجم المعتبر على الوجه الذي اعتبره الشرع، من كونه عدلين خبيرين بقصده. واستشهدوا شهيدين: واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدين. من رجالكم: المؤمنين. فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان: أي فليشهدا أو فالمستشهد رجل وامراتان. ممن ترضون من الشهداء: لعلمكم بعد التهم. في الكافي: أحمد بن محمد العاصمي، عن علي بن الحسن التيمي، عن ابن


(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 155، ح 521. (2) التهذيب: ج 9، ص 182 باب 8 وصية الصبي والمحجور عليه ح 6. (*)

[ 681 ]

بقاح، عن أبي عبد الله المؤمن، عن عمار بن أبي عاصم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أربعة لا يستجاب لهم دعوة، أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بينة، يقول الله عزوجل: الم آمرك بالشهادة (1). عدة من أصحابنا: عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن علي، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من ذهب حقه على غير بينة لم يوجر (2). محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله (3). وفي تهذيب الاحكام: سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد، وعلي بن حديد، عن علي بن نعمان، عن داود بن الحصين، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن شهادة النساء في النكاح بلا رجل معهن إذا كانت المرأة منكرة فقال: لا بأس إلى قوله: وكان أمير المؤمنين عليه السلام يجيز شهادة امرأتين في النكاح عند الانكار، ولا يجيز في الطلاق إلا شاهدين عدلين، قلت: فأين ذكر الله تعالى وقوله ” فرجل وامرأتان ” فقال: ذلك في الدين، إذا لم يكن رجل فرجل وامرأتان، ورجل واحد ويمين المدعى إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام بعده عندكم (4). أن تضل إحديهما: أي تضل احدى المرأتين، أي نسيت الشهادة. فتذكر إحديهما الاخرى: أي إنما اعتبر التعدد في المرأة، لارادة أن تذكر إحداهما الاخرى إن ضلت ونسيت الشهادة، وذلك لنقصان عقولهن وقلة ضبطهن. والعلة في الحقيقة التذكير، وضع سببه مقامه وقرأ حمزة (وأن تضل)


(1) الكافي: ج 5، ص 298 كتاب المعيشه باب من ادان ماله بغير بينة، ح 2. (2) الكافي: ج 5 ص 298 كتاب المعيشة باب من ادان ماله بغير بينة ح 3. (3) الكافي: ج 5، ص 298، كتاب المعيشة باب من ادان ماله بغير بينة، ذيل الحديث ح 3. (4) التهذيب: ج 6، ص 281، باب 90 البينتين يتقابلان، أو يترجح بعضها على بعض ح 179. (*)

[ 682 ]

على الشرط (فتذكر) بالرفع. وابن كثير وأبو عمر ويعقوب (فتذكر) من الاذكار (1). ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا: لتحمل الشهادة. وسموا شهداء، تنزيلا لما يشارف منزله الواقع. و (ما) مزيدة. وقيل: لاداء الشهادة، أو التحمل. وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ” قال: لا ينبغي لاحد إذا دعي للشهادة يشهد عليها، أن يقول: لا أشهد عليكم (2). عدة من أصحابنا: عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن عليه السلام في قوله عزوجل: ” ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ” فقال: إذا دعاك الرجل تشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك أن تقاعس عنه (3). علي بن إبراهيم: عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ” ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ” قال: قبل الشهادة (4). عدة من أصحابنا: عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن ابي نصر، عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يأب الشهداء أن تجيب حين تدعى قبل الكتاب (5). ولا تسئموا أن تكتبوه: ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين.


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 144. (2) الكافي: ج 7، ص 379، كتاب الشهادات، باب الرجل يدعى إلى الشهادة ح 1. (3) الكافي: ج 7، ص 380، كتاب الشهادات، باب الرجل يدعى إلى الشهادة ح 3. (4) الكافي: ج 7، ص 380، كتاب الشهادات، باب الرجل يدعى إلى الشهادة ح 4. (5) الكافي: ج 7، ص 380، كتاب الشهادات، باب الرجل يدعى إلى الشهادة ح 6. (*)

[ 683 ]

وقيل: كنى بالسأمة عن الكسل. صغيرا أو كبيرا: كان الحق صغيرا أو كبيرا. أو الكتاب مختصرا أو مشبعا. إلى أجله: متعلق ب‍ (تكتبوه) أي وقت حلوله الذي أقر به المديون. ذلكم: اشارة إلى (أن تكتبوه). أقسط عند الله: أكثر قسطا. وأقوم للشهدة: وأثبت لها. وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس. أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده. وأدنى ألا ترتابوا: وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك. إلا أن تكون تجرة: استثناء عن مفعول فاكتبوه الراجع إلى دين باعتبار تعلق الكتابة به، وتعلقه بالتداين، وما بينهما إعتراض. أي اكتبوا الدين المتداين به إلا أن تكون تجارة. ونصب عاصم تجارة على أنه الخبر، والاسم مضمر، تقديره إلا أن تكون الدين المتداين به تجارة. وقرأ الباقون بالرفع على أن الخبر (تديرونها)، أو على كان التامة (1). حاضرة: والتجارة الحاضرة يكون بدين وعين. تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها: وإدارة التجارة تعاطيهم إياها يدا بيد، فهو على تقدير كونه صفة مخصصة أي فلا بأس بعدم الكتابة حينئذ. وأشهدوا إذا تبايعتم مطلقا، لانه أحوط.


(1) يحتمل البناء للفاعل والمفعول، والدليل عليه قراءة عمر ولا يضارر بالاظهار والكسر. وقراءة ابن عباس (رض) ولا يضارر بالاظهار والفتح (الكشاف: ج 1، ص 327، في تفسيره لآية (282) من سورة البقرة (ولا يضار كاتب). (*)

[ 684 ]

وقيل: المراد هذا التبايع. والاوامر التي في هذه الآية للاستحباب. وقيل: للوجوب فمن قائل بالاحكام وقايل بالنسخ. ولا يضار كاتب ولا شهيد: يحتمل البنائين ويدل عليه قرائة ولا يضارر، وبالكسر والفتح (1)، فعلى البناء للفاعل نهي لهما عن ترك الاجابة والتحريف والتغيير في الكتبة والشهادة. وعلى البناء للمفعول نهي للمستكتب والمستشهد من أن يضارهما بالتكليف لهما ما لا يسوغ لهما من جنس جعل الكاتب وحبس الشهيد وغير ذلك. وإن تفعلوا: ما نهيتم عنه. فإنه فسوق بكم: خروج عن الطاعة. واتقوا الله: في مخالفة نهيه. ويعلمكم الله: أحكامه المتضمنة لمصالحكم. والله بكل شئ عليم: كرر لفظ (الله) في الجمل الثلاث للمبالغة. فإنه لما كان موضوعا للذات الكاملة مع جميع صفات الكمال على الكمال، فيكون عقابه في النهاية والكمال فيقتضي الانهاء منه أشد اقتضاء، ويكون تعليمه للاحكام في نهاية الافضال، فلا يجوز مخالفة حكمه بحال، ويكون علمه بقدر الجزاء شاملا أتم شمول، فلا يسوغ إغفال العمل بالذهول. وقيل: كرر لاستقلالها. فإن الاولى حث على التقوى، والثانية عد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه، ولانه أدخل في التعظيم من الكناية. والوجه الاول من تعليله ضعيف، والاضمار لا يقتضي عدم الاستقلال، فتأمل.


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 143. (*)

[ 685 ]

[ * وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمنته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهدة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم (283) ] وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا: راكب سفر، أي مسافرين. فرهن مقبوضة: أي فالذي يستوثق فرهان. أو فعليكم رهان. أو فليؤخذ رهان. وظن مجاهد والضحاك أن هذا التعليق، لاشتراط السفر في الارتهان (1). وليس كما ظنا، بل الظاهر أنه لاقامة التوثيق بالارتهان مقام التوثق بالكتب في السفر الذي هو مظنة الاعواز. وبعضهم استدل بالآية على أن القبض بالمعنى الاخص معتبر في الرهن. وفيه أنه يحتمل أن يكون ذكر القبض واردا في الآية على ما هو أكثر موارده. على أنه يحتمل أن يكون المراد بالقبض ما يشمل عدم جواز تصرف الراهن بدون إذن المرتهن فيه. وما رواه العياشي: في تفسيره، عن محمد بن عيسى، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا رهن إلا مقبوضا (2). محمول على هذا المعنى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن) كسقف، وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون،


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 145. (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 156، ح 525. (*)

[ 686 ]

وقرئ باسكان الهاء على التخفيف (1). فإن أمن بعضكم بعضا: أي عد بعضكم بعض الآخر أمينا، واستغنى بأمانته عن الكتبه والارتهان. فليؤد الذى اؤتمن أمنته: أي دينه، سماه أمانة، لايتمانه عليه بترك الارتهان. ويحتمل أن يكون المراد بلايتمان: الاستيداع. وقرئ الذيتمن بقلب الهمزة ياء. والذتمن بادغام الياء في التاء. قيل: وهو خطأ لان المنقلبة عن الهمزة في حكمها، فلا يدغم. وليتق الله ربه: في الخيانة. وفي ذكر الرب والاضافة إلى المؤتمن – بعد ذكر الاسم الدال على الذات المستجمع لجميع الصفات، المقتضية للاتقاء عنه – زيادة إقتضاء للاتقاء على وجه اللطف والرحمة، لاشعاره بأنه تعالى مربية، فيجب أن لا يرتكب ما فيه مناقصة بكمال تربيته، فإن فيه كسر للمربي ظاهرا، ففيه نهاية الاعطاف والافضال وإظهار الملاطفة والاشعار، فاعتبروا يا اولي الابصار. ولا تكتموا الشهدة أيها الشهود، وقيل: أو المديون، والشهادة شهادتهم على أنفسهم. ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه: أي يأثم قلبه، أو قلبه يأثم وعلى الثاني الجملة خبر إن، وإسناد الاثم إلى القلب، لان الكتمان يقترفه. أو للمبالغة، فإنه رئيس الاعضاء وأفعاله أعظم الافعال. وفي نهج البلاغه: قال عليه السلام: وبما في الصدور يجازي العباد (2). وقرئ: قلبه بالنصب كحسن وجهه. وفي من لا يحضره الفقيه: روى جابر عن أبي جعفر قال في قول الله عزوجل:


(1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 145. (2) نهج البلاغة: ص 103، من كلام له عليه السلام لما بلغه إتهام بني اميه له بالمشاركة في دم عثمان. (*)

[ 687 ]

[ – لله ما في السموت وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شئ قدير (284) ] ” ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ” قال: كافر قلبه (1). والله بما تعملون عليم: في آمالي الصدوق: في مناهي النبي صلى الله عليه وآله: ونهى صلى الله عليه وآله عن كتمان الشهادة قال: ومن يكتمها أطعمه الله لحمه على رؤوس الخلايق، وهو قول الله عزوجل: ” ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ” (2). وفي الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، ومحمد بن علي، عن أبي جميلة عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرء مسلم، أو ليزوي مال امرء مسلم اتي يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر، وفي وجهه كدوح (3) تعرفه الخلايق بأسمه ونسبه (4). لله ما في السموت وما في الارض: خلقا وملكا. وإن تبدوا ما في أنفسكم: ما استقر في أنفسكم من السوء حتى تعزموا


(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3، ص 35، باب 22 الامتناع من الشهادة وما جاء في اقامتها وتأكيدها وكتمانها ح 5 (2) الامالي للصدوق: ص 257، المجلس السادس والستون. (3) الكدوح: الخدوش، وكل أثر من خدش أو عض فهو كدح نهاية ابن الاثير: ج 4، ص 155. (4) الكافي: ج 7، ص 380، كتاب الشهادات، باب كتمان الشهادة ح 1. (*)

[ 688 ]

عليه، لا ما خطر فيه، فإنه موضوع عنكم، فإن تبدوه بالعمل أو باللسان. أو تخفوه يحاسبكم به الله: يوم القيامة. فيغفر لمن يشآء: مغفرته. ويعذب من يشآء: تعذيبه وقد رفعهما عامر وعاصم ويعقوب على الاستيناف. وجزمهما الباقون عطفا على جواب الشرط. ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلا عنه، بدل البعض من الكل، أو الاشتمال: كقوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا (1) وادغام الراء في اللام لحن، إذ الراء لا يدغم إلا في مثله. وفي تفسير العياشي: عن سعدان، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ” وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ” قال: حقيق على الله أن لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من حبهما (2). وفي كتاب التوحيد: باسناده إلى جرير بن عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن امتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما اكرهوا عليه، ومالا يطيقون، ومالا يعلمون، وما أضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة (3). وباسناده إلى حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن


(1) هو من ابيات لعبد الله بن الحر يصف فيها نفسه بحسن القيام في خدمة الضيف. قوله: تأتنا مضارع من الاتيان. وتلمم مضارع من الالمام بمعنى النزول. والديار ككتاب جمع دار وهى مسكن الرجل. وتجد مضارع من الوجدان بمعنى الادراك. والجزل بالجيم والزاء المعجمه كفلس اليابس من الحطب وغيره. وتأجج بالجيمين أولهما مشددة ماض من التأجج، وهو تلهب النار (جامع الشواهد: ص 273، باب الميم بعده التاء). (2) تفسير العياشي: ج 1، ص 156، ح 528. (3) كتاب التوحيد: ص 353، باب 56 الاستطاعة، ح 24. (*)

[ 689 ]

[ ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد – من رسله وقالوا – سمعنا وأطعنا – غفرانك ربنا و – إليك المصير (285) ] الاستطاعة، فلم يجبني، فدخلت عليه دخلة اخرى فقلت: أصلحك الله أنه قد وضع في قلبي منها شئ ولا يخرجه إلا شئ أسمعه منك، قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك (1) وسيأتى تمام الحديث إن شاء الله. والله على كل شئ قدير فيقدر على الاحياء والمحاسبة والمغفرة والتعذيب. ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه: شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والاعتداد به وأنه جازم في أمره غير شاك فيه. في كتاب الغيبة لشيخ الطائفة رحمه الله باسناده إلى سلام، قال: سمعت أبا سلمى راعي النبي صلى الله عليه وآله (2). يقول: سمعت رسول الله صلى الله


(1) كتاب التوحيد: ص 346، باب 56 الاستطاعة، ح 3. (2) تصدى لترجمته بالاجمال في الاستيعاب في أسماء الاصحاب، وفي الاصابة في تمييز الصحابة. وتعرض لترجمته في أسد الغابة في معرفة الصحابة، وإليك نص ما نقله ” أبو سلمى راعي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، قيل إسمه حريث، كوفي، وقيل: شامي، روى عنه أبو سلام الاسود وابو معمر، عباد بن عبد الصمد إلى ان قال: اخبرنا عباد بن عبد الصمد قال: حدثني أبو سلمى راعي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال: سمعت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم يقول: من لقى الله عزوجل يشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله وامن بالبعث والحساب دخل الجنة، قلت: انت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟ فادخل اصبعيه في اذنيه وقال: سمعت هذا منه غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا اربع. وروى الفضل بن الحسين عن عباد بن عبد الصمد قال: بينا أنا بالكوفة إذ قيل: هذا رجل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وكان خادما لرسول الله فناداه = (*)

[ 690 ]

عليه وآله يقول: ليلة أسري بي إلى السماء قال العزيز جل ثنائه: ” آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ” قلت: والمؤمنون، قال: صدقت يا محمد (1). وروى المقلد بن غالب رحمه الله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن رهبان، عن محمد بن أحمد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: سمعت أبا سلمى راعي النبي صلى الله عليه وآله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ليلة اسري بي إلي السماء قال الرب عزوجل: ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ” قلت: والمؤمنون قال: صدقت يا محمد، من خلفت على امتك ؟ قلت: خيرها، قال: علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ قلت: نعم يا رب، فقال: يا محمد إني اطلعت إلى الارض إطلاعة فاخترتك منها، وشققت لك إسما من أسمائي، فلا اذكر في موضع إلا ذكرت معي، فأنا المحمود وأنت المحمد. ثم اطلعت ثانية واخترت عليا فشققت له اسما من أسمائي، فانا الاعلى وهو علي يا محمد إني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن والحسين والائمة من ولد الحسين من نوري. يا محمد إني عرضت ولايتكم على أهل السماوات والارضين فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الظالمين. يا محمد تحب أن تراهم ؟ قلت: نعم يا رب قال: إلتفت، فالتفت عن يمين العرش فإذا أنا بإسم علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن، والمهدي في وسطهم كأنه كوكب دري، فقال: يا محمد هؤلاء حججي على خلقي، وهذا القائم


= رجل يكنى ابا مسعر فقال: يا عبد الله كنت خادما لرسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟ قال: نعم كنت ارعى له، فقال: الا تحدثنا ما سمعته منه ؟ قال: بلى حدثني رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم انه قال بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: سلمى ضبطه إبن الفرضي بالضم وهو الصحيح (اسد الغابة ج 5، ص 219). (1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص 95. (*)

[ 691 ]

من ولدك بالسيف والمنتقم من أعدائك (1) فعلى هذين الخبرين. قوله والمؤمنون معطوف على الرسول عطف تلقين. وقوله: كل ءامن بالله وملئكته وكتبه ورسله: مبتدأ وخبر. والضمير الذي ناب عنه التنوين في (كل) للرسول وللمؤمنين. وجوز البيضاوي كون (المؤمنون) مبتدأ أولا وكون الضمير لهم، و (كل) مبتدأ ثانيا مع خبره. وهو مع خبره، خبر للاول، قال: ويكون إفراد الرسول لتعظيمه، أو لان إيمانه عن مشاهدة وعيان وإيمانهم عن نظر واستدلال (2). وقرأ حمزة والكسائي (وكتابه) يعني القرآن، أو الجنس. والفرق بينه وبين الجمع أنه شايع في وحدات الجنس والجمع في جموعه، ولذلك قيل: الكتاب أكثر من الكتب (3). لا نفرق بين أحد من رسله بالتصديق لبعضهم والتكذيب لبعض آخر، أي يقولون: (لا نفرق). ويحتمل عدم تقدير القول، بجعله حالا من الفاعل وهو الرسول والمؤمنون، ويكون العدول عن الغيبة لتعظيمهم، وذلك أوجه. وقرأ يعقوب بالياء على أن الفعل لكل. وقرأ لا يفرقون، حملا على المعنى (4). وقالوا سمعنا قولك. وأطعنا: أمرك. غفرانك ربنا: اي إغفر غفرانك، أو نطلب غفرانك. ويحتمل بعيدا كونه معمول (أطعنا وسمعنا) على سبيل التنازع، أي


(1) رواه والذي قبله في كتاب الغيبة (اصدار مكتبة نينوى الحديثه في طهران) في ص 95، ورواه المحدث الاكبر محمد بن الحسن الحر العاملي نور الله مضجعه في كتاب إثبات الهداة ج 1، الباب التاسع ص (548) تحت رقم (374) كما في المتن من جهة المتن، ولم نعثر على السند الذي نقله المصنف قدس سره عن المقلد بن غالب، والله العالم. (2 و 3 و 4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 146. (*)

[ 692 ]

[ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما – كسبت – وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا – تحمل علينا – إصرا – كما حملته على الذين من قبلنا – ربنا – ولا تحملنا – ما لا – طاقة – لنا به واعف – عنا واغفر – لنا وارحمنا أنت – مولينا – فانصرنا على – القوم الكفرين (286) ] غفرانك، أي موجبه وهو الايمان سمعناه وأطعناه فآمنا. وإليك المصير بعد الموت. وهو إقرار منهم بالبعث. وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث طويل، وفيه خطبة الغدير، وفيها معاشر الناس: قولوا: الذي قلت لكم: وسلموا على علي بإمرة المؤمنين، وقولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (1). لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الا ما يسعه قدرتها، أو ما دون مدى طاقتها ويكون يسيرا عليها لقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (2). وفيه تصريح بعدم وقوع التكليف بالمحال. وفي كتاب التوحيد بإسناده إلى أبي جميلة المفضل بن صالح، عن محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما امر العباد إلا بدون سعتهم،


(1) كتاب الاحتجاج: ج 1، ص 66، إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله يوم الغدير على الخلق كلهم وفي غيره من الايام بولاية علي بن أبي طالب ومن بعده من ولده. (2) سورة البقره: الآيه 185. (*)

[ 693 ]

وفي كل شئ امر الناس بأخذه فهم متسعون له، وما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم، ولكن الناس لا خير فيهم (1). وبإسناده إلى عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: من قال بالجبر فلا تعطوه من الزكاة ولا تقبلوا له شهادة، إن الله تبارك وتعالى يقول: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” ولا يحمل فوق طاقتها ” ولا تكسب كل نفس إلا عليها ” ” ولا تزر وازرة وز أخرى ” (2). وباسناده إلى حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الاستطاعة، إلى قوله: قلت: أصلحك الله فإني أقول: إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد إلا ما يستطيعون وإلا ما يطيقون، وأنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدرته قال: وهذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي (عليهما السلام) (3) لها ما كسبت من خير. وعليها ما اكتسبت من شر، لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعصيتها غيرها. وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر، لان الاكتساب فيه اعتمال، والشر تشتهيه الانفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير (4). ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان


(1) كتاب التوحيد: ص 347، باب الاستطاعة ح 6. (2) كتاب التوحيد: ص 362، باب 59 نفي الجبر والتفويض ح 9. (3) كتاب التوحيد: ص 346، باب 56، الاستطاعة قطعة من حديث 3. (4) قال في الكشاف: ج 1، ص 332، في تفسير الآية ما لفظه (فان قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب ؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ومما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال). (*)

[ 694 ]

أو خطأ، أو بما يودي الخطأ والنسيان إليه بالآخرة من عمل آخر، فإنهما يمكن أن يؤدي كثرتهما واعتيادهما إلى عمل قبيح. وقيل: أو بأنفسهما، إذ لا يمتنع المؤاخذة بهما عقلا فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطاء، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلا، فيجوز أن يدعو الانسان به إستدامة وإعتدادا بالنعمة فيه. وفي اصول الكافي: الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق قال: حدثني عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن امتي أربع خصال: خطاؤها ونسيانها وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوه. وذلك قول الله عزوجل ” ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ” وقوله: ” إلا من إكره وقلبه مطمئن بالايمان ” (1). ويحتمل أن يكون هذا دعوة الرسول صلى الله عليه وآله قبل رفع الخطأ والنسيان، وبعدها كما رفع، يجيئ في الخبر. والغرض من الدعاء به، التأسي به وتذكر ما أنعم الله تعالى بسبب دعوته. ربنا ولا تحمل علينا إصرا: ثقيلا يأمر صاحبه، أي يحبسه في مكانه. والمراد به التكاليف الشاقة. وقرئ (ولا تحمل) بالتشديد للمبالغة (2). كما حملته على الذين من قبلنا ربنا: حملا مثل حملك إياه عليهم. أو مثل الذي حملته إياهم، فيكون صفة لاصرا. والمراد به ما كلف به بنوا إسرائيل من الامور التي ذكر في الخبر الذي ينقل من الاحتجاج (3).


(1) الكافي: ج 2، كتاب الايمان والكفر، باب ما رفع عن الامة، ص 462، ح 1. (2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج 1، ص 147. (3) الاحتجاج: ج 1، ص 327 إحتجاجه عليه السلام على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الكتب والصحف في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وكثير من فضائله. (*)

[ 695 ]

ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به: من البلاء والعقوبة. أو من التكاليف التي لا تفي بها القوة البشرية. وهو لا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق، بناء على احتمال كون المراد مما لا طاقة لنا، العقوبة، لا التكاليف، والتشديد هنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثان. واعف عنا: وامح ذنوبنا. واغفر لنا: واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة. وارحمنا: وتعطف منا وتفضل علينا. أنت مولينا: سيدنا وناصرنا. فانصرنا على القوم الكفرين: والمراد بهم عامة الكفرة. وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله: وروى موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي، عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله فدنى بالعلم فتدلى، فدنى له من الجنة رفرف أخضر وغشى النور بصره، فرأى عظمة ربه عزوجل بفؤاده ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينها وبينه أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. وكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة قوله تعالى: ” لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير ” وكانت الآية قد عرضت على الانبياء من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تعالى محمدا، وعرضت على الامم فأبوا أن يقبلوا من ثقلها، وقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وعرضها على امته فقبلوها، فلما رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونها. فلما أن سار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه. فقال: ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ” فأجاب صلى الله عليه وآله مجيبا عنه وعن امته ” والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ” فقال جل ذكره: لهم الجنة والمغفرة على إن فعلوا ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وآله: إذا فعلت ذلك ربنا فغفرانك ربنا وإليك المصير، يعني المرجع


[ 696 ]

في الآخرة، قال: فأجابه جل ثنائه. وقد فعلت ذلك بك وبامتك. ثم قال عزوجل: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الامم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها امتك، فحق علي أن أرفعها عن امتك، وقال: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت ” من خير ” وعليها ما اكتسبت ” من شر. فقال النبي صلى الله عليه وآله لما سمع ذلك: أما إذا فعلت ذلك بي وبامتي، فزدني، قال: سل، قال: ” ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ” قال الله عزوجل: لست اؤاخذ امتك بالنسيان أو الخطاء لكرامتك علي. وكانت الامم السابقة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب، وقد رفعت ذلك عن امتك. وكانت الامة السالفة إذا أخطأوا اخذوا بالخطاء وعوقبوا، وقد رفعت ذلك عن امتك لكرامتك علي. فقال النبي صلى الله عليه وآله: إذا أعطيتني ذلك فزدني، فقال الله تعالى: سل، قال: ” ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ” يعني بالاصر الشدايد التي كانت على من كان قبلنا، فأجابه الله إلى ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن امتك الاصار التي كانت على الامم السالفة. كنت لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع من الارض معلومة إخترتها لهم وإن بعدت، وقد جعلت الارض لامتك كلها مسجدا وطهورا، فهذه من الاصار التي كانت على الامم قبلك، فرفعتها عن امتك. وكانت الامم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم، وقد جعلت الماء لامتك طهورا، فهذه من الاصار التي كانت عليهم فرفعتها عن امتك. وكانت الامم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس، فمن قبلت ذلك منه ارسلت إليه نارا فأكلته ورجع مسرورا، ومن لم أقبل ذلك، رجع مثبورا. وقد جعلت قربان امتك في بطون فقرائها ومساكينها، فمن قبلت ذلك منه اضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه، رفعت عنه عقوبات الدنيا، وقد رفعت ذلك عن امتك، وهي من الاصار التي كانت على


[ 697 ]

الامم قبلك. وكانت الامم السالفة صلاتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي من الشدايد التي كانت عليهم فرفعتها عن امتك وفرضت عليهم صلاتهم في أطراف الليل والنهار في أوقات نشاطهم. وكانت الامم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا، وهي الاصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امتك وجعلتها خسما في خسمة أوقات، وهي احدى وخمسون ركعة، وجعلت لهم أجر خمسين صلاة. وكانت الامم السالفة، حسنتهم بحسنة، وسيئتهم بسيئة، وهي من الاصار التي كانت عليهم فرفعتها عن امتك، وجعلت الحسنة بعشر والسيئة بواحدة. وكانت الامم السالفة، إذا نوى أحدهم بحسنة ثم لم يعملها، لم يكتب له، وإن عملها كتبت له حسنة، وإن امتك إذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها، كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشرا، وهي من الاصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امتك. وكانت الامم السالفة إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها، لم يكتب عليه، وإن عملها، كتبت له سيئة، وإن امتك إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها، كتبت له حسنة، وهذه من الاصار التي كانت عليهم فرفعت ذلك عن امتك. وكانت الامم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم، وجعلت توبتهم من الذنوب إن حرمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن امتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم، وجعلت عليهم ستورا كثيفة، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ولا اعاقبهم بأن احرم عليهم أحب الطعام إليهم. وكانت الامم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة وثمانين سنة أو خمسين سنة، ثم لا أقبل توبتهم دون أن اعاقبهم في الدنيا بعقوبة، وهي من الاصار التي كانت عليهم فرفعتها عن امتك. وأن الرجل من امتك ليذنب عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، أو مائة سنة، ثم يتوب ويندم طرفة عين فأغفر ذلك كله. فقال النبي صلى الله عليه وآله: إذا أعطيتني ذلك كله فزدني، قال:


[ 698 ]

سل، قال: ” ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ” قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بامتك وقد رفعت عنهم عظم بلايا الامم، وذلك حكمي في جميع الامم أن لا اكلف خلقا فوق طاقتهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ” قال الله عزوجل: قد فعلت ذلك بتائبي امتك، ثم قال: ” فانصرنا على القوم الكافرين ” قال الله جل إسمه: إن امتك في الارض كالشامة البيضاء في الثور الاسود، هم القادرون، هم القاهرون يستخدمون ولا يستخدمون لكرامتك علي، وحق علي أن اظهر دينك على الاديان حتى لا يبقى في شرق الارض وغربها دين إلا دينك، أو يودون إلى أهل دينك الجزية (1). وفي كتاب بصائر الدرجات: أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الصمد بن بشير قال: ذكر أبو عبد الله عليه السلام بدو الاذان وقصة الاذان في إسراء النبي صلى الله عليه وآله حتى انتهى إلى سدرة المنتهى قال: فقال: السدرة ما جاز في مخلوق قبل، قال: ” ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ” (2) قال: فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فأخذ كتاب أصحاب اليمين بيمينه ففتحه فنظر إليه، فإذا فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم قال: فقال له: ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ” فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته ورسله ” فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ” فقال الله: قد فعلت، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ” قال الله قد فعلت، قال النبي صلى الله عليه وآله: ” ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ” كل ذلك يقول


(1) الاحتجاج: ج 1، ص 327 – 330، إحتجاجه عليه السلام على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الكتب والصحف في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وكثير من فضائله. (2) سورة النجم: الآيات 8 و 9 و 10. (*)

[ 699 ]

الله عزوجل: قد فعلت، ثم قال: طوى الصحيفة فأمسكها بيمينه. وفتح صحيفة أصحاب الشمال، فإذا فيها أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم (1). وفي تفسير علي بن إبراهيم: أما قوله: ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ” فإنه حدثني أبي، عن إبن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله عليه السلام إن هذه الآية مشافهة لنبيه صلى الله عليه وآله لما اسري به إلى السماء قال النبي صلى الله عليه وآله: إنتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظل امة من الامم، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى الله عزوجل، فناداني ربي تبارك وتعالى ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ” فقلت أنا مجيبه عني وعن امتى ” والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ” فقلت ” سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ” فقال الله: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ” فقلت: ” ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ” فقال الله: لا اوآخذك فقلت: ” ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ” فقال الله: لا أحملك، فقلت: ” ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ” فقال الله تعالى: قد أعطيت ذلك لك ولامتك. فقال الصادق عليه السلام: ما وفد إلى الله تبارك وتعالى أحد أكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله حين سأل لامته هذه الخصال (2). وفي تفسير العياشي: عن عبد الصمد بن شيبة، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل وفيه نحو ما في تفسير علي بن إبراهيم إلا قوله: فقال الصادق عليه السلام: إلى آخره (3).


(1) بصائر الدرجات: ج 4، ص 190، باب (5) في الائمة عليهم السلام عندهم الصحيفة التي فيها أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار، ح (1). (2) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 95، في تفسيره لآية (286) من سورة البقرة. (3) تفسير العياشي: ج 1، ص 159، ح (531) وراوي الحديث عبد الصمد بن بشير، وفي الهامش نقلا عن إثبات الهداة (عبد الصمد بن مسيب) وفي المتن أيضا إختلاف كثير، فلا حظ. (*)

[ 700 ]

في فضل قوله ” آمن الرسول ” إلى آخر السورة: روي عن قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا قرأ هذه الآية ” آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ” حتى يختمها قال: وحق الله إن لله كتابا قبل أن يخلق السماوات والارض بألفي سنة فوضعه عنده فوق العرش، فانزلت آيتين فختم بهما البقرة، فأيما بيت قرئتا فيه لم يدخله شيطان (1). وفي كتاب ثواب الاعمال: عن عمرو بن جميع رفعه إلى علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه، ولم يقربه شيطان ولا ينسى القرآن (2). وعن جابر بن عبد الله عن النبي في حديث طويل يقول عليه السلام فيه: قال لي الله تعالى: وأعطيت لك ولامتك كنزا من كنوز الجنة فاتحة الكتاب وخاتمة سورة البقرة (3). تم الجزء الاول من هذا التفسير القيم والسفر الجليل حسب تجزءتنا ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران. وقد تم الفراغ من استنساخه وتحقيقه في النصف الاول من شهر جمادى الثاني من شهور سنة 1407 هجرية. وذلك تحت الضربات العنيفة من الغارات الجوية لعملاء الاستكبار العالمية


(1) الدر المنثور، في التفسير بالمأثور: ج 2، ص 137، ولفظه ” وأخرج أبو عبيد والدارمي والترمذي والنسائي وابن الضريس ومحمد بن نصر وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الاسماء والصفات عن النعمان بن بشير: إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والارض بالفي عام، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان وأخرجه ايضا في ص 138 بطريق آخر ولم نعثر عليه من طريق قتادة، كما أورده المصنف قدس سره. (2) ثواب الاعمال: ص 104، ثواب من قرأ أربع آيات من أول البقرة. (3) تفسير الصافي: ج 1، في آخر سورة البقرة، وبمضمونه روايات نقلها في تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي: ج 1، ص 341. (*)

[ 701 ]

لابن كثير الدمشقي: ج 1، ص 341. (*)


[ 701 ]

وأبناء الشياطين وأتباع الطواغيت صدام المعتدي وحزبه البعث العفلقي على ايران. وراح ضحيتها الآلاف من المسلمين المؤمنين الابرياء من النساء والرجال والاطفال والشيوخ، وخلف عددا كثيرا من اليتامى والثكالى والارامل كما ترك جمعا غفيرا من المجروحين والمعلولين. هذا بالنسبة إلى الارواح الطاهرة والنفوس البريئة، وأما بالنسبة إلى الممتلكات فإنه هدم البيوت والجسور والاسواق والمستشفيات والمدارس الغاصة بطلابها حين الدرس والجامعات والكليات بل المدارس العلمية الدينية أيضا. وهكذا أخذ يقصف بغاراته الجوية العمياء القبور ومقابر العلماء الاخيار والصلحاء الابرار فأخذ لا يتعطف حتى على الموتى من تحت الثرى. نعم أخذ يقصف بكل قساوة وشدة متكررا بلا أي ترحم ومروءة أغلب مدن ايران حتى عش آل محمد ألا وهي مدينة قم المشرفة حيث ذكرتني تلك الاحداث الجريحة المؤلمة طرفا من المصائب التي حلت بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله في كربلاء المقدسة حيث هجم جيش ابن زياد وشمر وعمر بن سعد (وهم أهل الكوفة) على خيم أبي الاحرار وسيد الشهداء الحسين روحي له الفداء فأخذ ينادي بنفسى وامي يا آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم أنا الذي اقاتلكم وأنتم تقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح. فنسأل الله بحق محمد وآل محمد وبحرمة القرآن المجيد أن يوفقنا لاعلاء كلمة الحق وأن ينصرنا على أعدائنا لاحباط دولة الكفر والالحاد وإنشاء دولة إسلامية في العراق الجريح إنه خير ناصر ومعين

اترك تعليقاً