مـحـٮ الامـام ڡـاطـمـه|8. يناير 2022|24. نوفمبر 2023
كفاية الأصول
الآخوند الخراساني
[ 1 ]
كفاية الاصول تأليف الاستاذ الاعظم المحقق الكبير الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني (قدس سره) تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلم لاحياء التراث
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم يا من أضاء على مطالع العقول والالباب وأنار عليها بسواطع السنة والكتاب، فأحكم الفروع بأصولها في كل باب، ونصلي على أفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله الطاهرين الاطياب، سيما المخصوص بالاخوة سيد أولي الالباب. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول وآل الرسول فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا سوء الحساب، واللعنة على أعدائهم من اليوم إلى يوم الحساب. وبعد: فالعلم على تشعب شؤونه، وتفنن غصونه، مفتقر إلى علم الاصول افتقار الرعية إلى السلطان، ونافذ حكمه عليها بالوجدان، ولا سيما العلوم الدينية، وخصوصا الاحكام الشرعية، فلولا الاصول لم تقع في علم الفقه على محصول. فيه استقرت قواعد الدين، وبه صار الفقه كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين، فلذا بادر علماء الامصار، وفضلاء الاعصار – في كل دور من الادوار – إلى تمهيد قواعده، وتقييد شوارده، وتبيين ضوابطه، وتوضيح روابطه، وتهذيب أصوله، وإحكام قوانينه، وترتيب فصوله. لكنه لما فيه من محاسن النكت والفقر، ولطائف معان تدق دونها الفكر، جل عن أن يكون شرعة لكل وارد، أو أن يطلع على حقائقه إلا واحد
[ 4 ]
بعد واحد، فنهض به من أولي البصائر كابر بعد كابر، فلله درهم من عصابة تلقوا وأذعنوا، وبرعوا فأتقنوا، وأجادوا فجادوا، وصنفوا وأفادوا، أثابهم الله برضوانه وبوأهم بحبوحات جنانه. حتى انتهى الامر إلى أوحد علماء العصر، قطب فلك الفقاهة والاجتهاد، ومركز دائرة البحث والانتقاد، الطود الشامخ، والعلم الراسخ، محيي الشريعة وحامي الشيعة، النحرير الاواه، والمجاهد في سبيل الله، خاتم الفقهاء والمجتهدين، وحجة الاسلام والمسلمين، الوفي الصفي، مولانا الآخوند (ملا محمد كاظم الهروي الطوسي النجفي) مد الله أطناب ظلاله على رؤوس الانام، وعمر بوجوده دوارس شرع الاسلام، فقد فاز – دام ظله – منه بالقدح المعلى وجل عن قول أين وأنى، وجرى بفكر صائب تقف دونه الافكار، ونظر ثاقب يكاد سنا برقه يذهب بالابصار، فلذا أذعن بفضله الفحول، وتلقوه بأنعم القبول. وأظهر صحفا هي المنتهى في التبيان، ذوات نكت لم يطمثهن قبله إنس ولا جان، ويغنيك العيان عن البيان، والوجدان عن البرهان. فما قدمته لك إحدى مقالاته الشافية، ورسائله الكافية، فقد أخذت بجزأيها على شطري الاصول الاصلية، من مباحث الالفاظ والادلة العقلية، وأغنت بالاشارة عن المطولات، فهي النهاية والمحصول، فحري بأن يسمى ب (كفاية الاصول)، فأين من يعرف قدرها، ولا يرخص مهرها، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل. قال أدام الله ظله [ بعد التسمية والتحميد والتصلية ] (1):
(1) نقلنا هذه المقدمة من ” ب “. *
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين. وبعد فقد رتبته على مقدمة، ومقاصد وخاتمة.
[ 7 ]
أما المقدمة ففي بيان أمور: الاول إن موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية – أي بلا واسطة في العروض – هو نفس موضوعات مسائله عينا، وما يتحد معها خارجا، وإن كان يغايرها مفهوما، تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده، والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة، جمعها اشتراكها في الداخل في الغرض الذي لاجله دون هذا العلم، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له دخل في مهمين، لاجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين. لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا، لا يكاد انفكاكهما. فإنه يقال: مضافا إلى بعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يبحث فيه تارة لكلا المهمين، واخرى لاحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فان حسن تدوين علمين – كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد – في جملة مسائلهما المختلفة، لاجل مهمين، مما لا يخفى.
[ 8 ]
وقد انقدح بما ذكرنا، أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كل باب، بل كل مسألة من كل علم، علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سببا لان يكون من الواحد. ثم إنه ربما لا يكون لموضوع العلم – وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل – عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا. وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الاصول، هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص الادلة الاربعة بما هي أدلة (1)، بل ولا بما هي هي (2)، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها، وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة، كعمدة مباحث التعادل والترجيح، بل ومسألة حجية خبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الادلة، ورجوع البحث فيهما – في الحقيقة – إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد، في مسألة حجية الخبر – كما افيد – (3) وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال غير مفيد فان البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو مفاد كان التامة، ليس بحثا عن عوارضه، فإنها مفاد كان الناقصة. لا يقال: هذا في الثبوت الواقعي، وأما الثبوت التعبدي – كما هو
: (1) كما هو المشهور بين الاصوليين. (2) صرح به صاحب الفصول، الفصول / 4. (3) افاده الشيخ (قده) في فرائد الاصول / 67، في بداية مبحث حجية الخبر الواحد.
[ 9 ]
المهم في هذه المباحث – فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة. فإنه يقال: نعم، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإن الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى. وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وإن كان منها، إلا أنه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيدا. وأما إذا كان المراد (1) من السنة ما يعم حكايتها، فلان البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلا أن البحث في غير واحد من مسائلها، كمباحث الالفاظ، وجملة من غيرها، لا يخص الادلة، بل يعم غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى. ويؤيد ذلك تعريف الاصول، بأنه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية)، وإن كان الاولى تعريفه بأنه (صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل)، بناء على أن مسألة حجية الظن على الحكومة، ومسائل الاصول العملية في الشبهات الحكمية من الاصول، كما هو كذلك، ضرورة أنه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات. الامر الثاني الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني، كما لا يخفى.
(1) هذا مراد صاحب الفصول، الفصول / 12. *
[ 10 ]
ثم إن الملحوظ حال الوضع: إما يكون معنى عاما، فيوضع اللفظ له تارة، ولافراده ومصاديقه أخرى، وإما يكون معنى خاصا، لا يكاد يصح إلا وضع اللفظ له دون العام، فتكون الاقسام ثلاثة، وذلك لان العام يصلح لان يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنه من وجوهها، ومعرفة وجه الشئ معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص، لا يكون وجها للعام، ولا لسائر الافراد، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له، ولا لها – أصلا – ولو بوجه. نعم ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عاما، كما كان الموضوع له عاما، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له – وهي الافراد – لا يكون متصورا إلا بوجهه وعنوانه، وهو العام، وفرق واضح بين تصور الشئ بوجهه، وتصوره بنفسه، ولو كان بسبب تصور أمر آخر. ولعل خفاء ذلك على بعض الاعلام (1)، وعدم تميزه بينهما، كان موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصا، مع كون الموضوع له عاما، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل. ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع (2) الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام، وكذا الوضع (3) العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الاجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهم (4) أنه وضع الحروف، وما ألحق بها من الاسماء، كما توهم (5) أيضا ان المستعمل فيه فيها (6)
(1) الظاهر أنه صاحب البدائع، البدائع / 39، في تقسيم الوضع إلى العام والخاص. (2 – 3) في ” أ وب “: وضع. (4) صاحب الفصول، الفصول / 16، في الوضع. (5) الفصول / 16، في الوضع. (6) في ” أ “: أن المستعمل فيها. *
[ 11 ]
خاص (1) مع كون الموضوع له كالوضع عاما. والتحقيق – حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق – أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الاسماء، وذلك لان الخصوصية المتوهمة، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح أن كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كليا، ولذا التجأ بعض الفحول (2) إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو كما ترى. وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث أنه لا يكاد يكون المعنى حرفيا، إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه: بأنه ما دل على معنى في غيره، فالمعنى، وإن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا، كما لوحظ أولا، ولو كان اللاحظ واحدا، إلا أن هذا اللحاظ لا يكاد مأخوذا في المستعمل فيه، وإلا فلابد من لحاظ آخر، متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لابد منه في استعمال الالفاظ، وهو كما ترى. مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها، حيث لا موطن له إلا الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد وإلغاء (3) الخصوصية، هذا مع أنه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا كلحاظه في نفسه في الاسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.
(1) في ” أ وب “: خاصا. (2) المراد من بعض الفحول، إما صاحب الفصول، الفصول / 16، وإما المحقق التقي، هداية المسترشدين / 30. (3) في ” ب “: إلقاء. *
[ 12 ]
وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء – مثلا – إلا الابتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته، فليكن كذلك فيها. إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفين، صح استعمال كل منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الاسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح. قلت: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث [ أنه ] (1) وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الاشارة إليه غير مرة، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع، يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن اتفقا فيما له الوضع، وقد عرفت – بما لا مزيد عليه – أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته. ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وإن اتفقا فيما استعملا فيه، فتأمل. ثم إنه قد انقدح مما حققناه، أنه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في مثل أسماء الاشارة والضمائر أيضا عام، وأن تشخصه إنما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث أن أسماء الاشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا
(1) أثبتناها من ” ب “. *
[ 13 ]
بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب به (1) المعنى، والاشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى، فدعوى أن المستعمل فيه في مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنما هو المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قبل الاشارة، أو التخاطب بهذه الالفاظ إليه، فإن الاشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه، غير مجازفة. فتلخص مما حققناه: ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات، لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا – كما في مثل أسماء الاشارة – أو ذهنيا – كما في أسماء الاجناس والحروف ونحوهما – من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الاجناس، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا في الحرف عين ولا أثر، وإنما ذهب إليه بعض من تأخر، (2) ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره، من خصوصيات الموضوع له، أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه، لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره، وإلا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك، فتأمل في المقام فإنه دقيق، وقد زل فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق. الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع، أو بالطبع ؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلا حسنه، والظاهر أن صحة الاستعمال
(1) في ” ب “: بها. (2) صاحب الفصول، الفصول / 16. *
[ 14 ]
اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله، كما يأتي الاشارة إلى تفصيله (1). الرابع لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: ضرب – مثلا – فعل ماض، أو صنفه كما إذا قيل: (زيد) في (ضرب زيد) فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله ك (ضرب) في المثال فيما إذا قصد. وقد أشرنا (2) إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه، إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى. وأما إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول (3). بيان ذلك: أنه إن اعتبر دلالته على نفسه – حينئذ – لزم الاتحاد، وإلا لزم تركبها من جزءين، لان القضية اللفظية – على هذا – إنما تكون حاكية عن المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين. قلت: يمكن أن يقال: إنه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا، وإن اتحدا ذاتا، فمن حيث أنه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، ومن حيث أن
(1) في الامر الرابع. (2) أشار إليه في الامر الثالث. (3) الفصول / 22، عند قوله: فصل قد يطلق اللفظ.. الخ. *
[ 15 ]
نفسه وشخصه مراده كان مدلولا، مع أن حديث تركب القضية من جزءين – لو لا اعتبار الدلالة في البين – إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة، وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الامر أنه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فانه لا يخلو عن دقة. وعلى هذا، ليس من باب استعمال اللفظ بشئ، بل يمكن أن يقال: إنه ليس أيضا من هذا الباب، ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاك (1)، وقد حكم عليه ابتداء، بدون واسطة أصلا، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه – بما هو مصداق لكلي (2) اللفظ، لا بما هو خصوص جزئية. نعم فيما إذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، اللهم إلا أن يقال: إن لفظ (ضرب) وإن كان فردا له، إلا أنه إذا قصد به حكايته، وجعل عنوانا له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان – حينئذ – كما إذا قصد به فرد مثله. وبالجملة: فإذا أطلق وأريد به نوعه، كما إذا أريد به فرد مثله، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فردا منه، وقد حكم في القضية بما يعمه، وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلية ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته، فليس من هذا الباب، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا
(1) في ” أ وب “: حاكي. (2) في ” أ “: لكليه. *
[ 16 ]
ليست كذلك، كما لا يخفى، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض). الخامس لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه. هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل، بلا تصرف في ألفاظ الاطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) – مثلا – هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه، كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع. وأما ما حكي (1) عن العلمين (الشيخ الرئيس (2)، والمحقق
(1) راجع الشفاء، قسم المنطق في المقالة الاولى من الفن الاول، الفصل الثامن / 42، عند قوله (وذلك لان معنى دلالة اللفظ، هو ان يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الاول) انتهى. وحكى العلامة الحلي (ره) في الجوهر النضيد في شرح التجريد / 4. عن أستاذه المحقق الطوسي (ره) قوله بأن اللفظ لا يدل بذاته على معناه بل باعتبار الارادة والقصد. (2) الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا الحكيم المشهور، أحد فلاسفة المسلمين ولد سنة 370 ه بقرية من ضياع بخارى، نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، لم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره الا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها، صنف كتاب ” الشفاء ” و ” النجاة ” و ” الاشارات ” و ” القانون ” وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف، *
[ 17 ]
الطوسي (1)) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الارادة، فليس ناظرا إلى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الافاضل (2)، بل ناظر إلى أن دلالة الالفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال، ولذا لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الافادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الارادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصورية، أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار. إن قلت: على هذا، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ، والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شئ، ولم يكن له من اللفظ مراد. قلت: نعم لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية – على ما بيناه – واضح لا محيص عنه، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلا عمن هو علم * (هوامش) * وله شعر، توفي بهمدان يوم الجمعة من شهر رمضان 428 ه ودفن بها. (وفيات الاعيان 2 / 157 رقم 190). (1) المحقق خواجه نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الحكيم الفيلسوف ولد في طوس عام 597 ه.، درس في صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الرياضيات وكان لا يزال في مطلع شبابه، سافر إلى نيشابور وقضى فيها فترة ظهر نبوغه وتفوقه، باشر إنشاء مرشد مراغة وأسس مكتبة مراغة، حضر درس المحقق الحلي عندما زار الفيحاء بصحبة هولاكو، كتب ما يناهز 184 مؤلفا في فنون شتى، توفي 682 ه ودفن في جوار الامام موسى الكاظم (عليه السلام). (أعيان الشيعة 9 / 414). (2) صاحب الفصول 17، السطر الاخير. *
[ 18 ]
في التحقيق والتدقيق ؟ !. السادس لا وجه لتوهم وضع للمركبات، غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة إليه، بعد وضعها بموادها، في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكرا) شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها، كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة على المعنى: تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك، هو وضع الهيئات على حدة، غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة على وضع كل منهما. السابع لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه – وبلا قرينة – علامة كونه حقيقة فيه، بداهة أنه لولا وضعه له، لما تبادر. ولا يقال: كيف يكون علامة ؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له، كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار. فإنه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإن العلم التفصيلي – بكونه موضوعا له – موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به، لا التفصيلي، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى.
[ 19 ]
ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه، لا إليها – كما قيل (1) – لعدم الدليل على اعتبارها إلا في إحراز المراد، لا الاستناد. ثم إن (2) عدم صحة سلب اللفظ – بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا كذلك – عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة. والتفصيل: إن عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما، علامة كونه نفس المعنى، وبالحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد وجودا، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية (3). كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منها، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وإن التصرف فيه في أمر عقلي، كما صار إليه السكاكي (4)، واستعلام حال اللفظ، وأنه حقيقة أو
(1) قوانين الاصول / 13. (2) في ” أ “: إنه كذلك عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم، المرتكز في الذهن إجمالا عن معنى.. الخ. (3) فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليا وفردا، لا فيما إذا كانا كليين متساويين، أو غيرهما، كما لا يخفى. منه قدس سره. وفي نسخة ” أ ” لم يظهر كونه تعليقا بل الظاهر دخوله في المتن. (4) مفتاح العلوم / 156، الفصل الثالث في الاستعارة. أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي الخوارزمي، ولد سنة 555 ه كان علامة بارعا في فنون شتى خصوصا المعاني والبيان، وله كتاب ” مفتاح العلوم ” فيه إثنا عشر علما من علوم العربية، وله النصيب الوافر في علم الكلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة 626 ه. (بغية الوعاة 2 / 364 رقم 2204). *
[ 20 ]
مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه، بالاجمال والتفصيل أو الاضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمل جيدا. ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة) (1)، وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلا أنه – حينئذ – لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا (2)، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة، لا يبقى مجال لاستعلام (3) حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره. الثامن انه للفظ أحوال خمسة، وهي: التجوز، والاشتراك، والتخصيص، والنقل، والاضمار، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي، إلا بقرينة صارفة عنه إليه. وأما إذا دار الامر بينها، فالاصوليون، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها، إلا أنها استحسانية، لا اعتبار بها، إلا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى.
(1) الزيادة من صاحب الفصول، الفصول / 38، فصل في علامة الحقيقة والمجاز. (2) في ” أ “: هاهنا. (3) في ” ب “: الاستعلام. *
[ 21 ]
التاسع إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، وهو: أن الوضع التعييني، كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل بإستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لا بد – حينئذ – من نصب قرينة، إلا أنه للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز، فافهم. وكون إستعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا (1)، أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز. إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما، كما لا يخفى. هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا. وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من * (هامش (1) راجع صفحة 14 الامر الرابع. *
[ 22 ]
قبلكم) (1) وقوله تعالى (وأذن في الناس بالحج) (2) وقوله تعالى (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (3) إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية، لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى. ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق – فضلا عن القطع – بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه، ومنه [ قد ] (4) إنقدح حال دعوى الوضع التعيني معه، ومع الغض عنه، فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل. وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ، ففيه إشكال، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع، لا دليل على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالاصل المثبت، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل.
العاشر أنه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات، أسام لخصوص الصحيحة أو للاعم منها ؟ وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين، يذكر أمور: منها: إنه لا شبهة في تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال. وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: إن النزاع وقع – على هذا – في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزل كلامه (1) عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر. وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا، إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته، استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه، من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنى لهم بإثبات ذلك. وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع – على ما نسب (2) إلى الباقلاني (3) –
(1) في ” أ “: تقديم (عليه) على (كلامه). (2) نسبه ابن الحاجب والعضدي: راجع شرح العضدي على مختصر الاصول: 1 / 51 – 52. (3) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري البغدادي المالكي الاصولي المتكلم كان مشهورا بالمناظرة وسرعة الجواب توفي سنة 403 ه ببغداد، (الكنى والالقاب: 2 / 55 والعبر في خبر من غبر: 2 / 207). *
[ 24 ]
وذلك بأن يكون النزاع، في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها إلا بالاخرى – الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه – هو تمام الاجزاء والشرائط، أو هما في الجملة، فلا تغفل. ومنها: أن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد، وهو التمامية، وتفسيرها بإسقاط القضاء – كما عن الفقهاء – أو بموافقة الشريعة – كما عن المتكلمين – أو غير ذلك، إنما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار، وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر، والحضر، والاختيار، والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى. ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فيختلف شئ واحد صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، وفاسدا بحسب أخرى، فتدبر جيدا. ومنها: أنه لابد – على كلا القولين – من قدر جامع في البين، كان هو المسمى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره، فإن الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا: بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما. والاشكال فيه (1) – بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا، إذ كل ما فرض جامعا، يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا، لما عرفت، ولا أمرا بسيطا، لانه لا يخلو: أما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوما مساويا له، والاول غير معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الطلب في متعلقه،
(1) الاشكال من صاحب التقريرات، مطارح الانظار / 6. *
[ 25 ]
مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب، وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الاجمال – حينئذ – في المأمور به فيها، وإنما الاجمال فيما يتحقق به، وفي مثله لا مجال لها، كما حقق في محله، مع أن المشهور القائلين بالصحيح، قائلون بها في الشك فيها، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا – مدفوع، بأن الجامع إنما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة. بحسب إختلاف الحالات، متحد معها نحو إتحاد، وفي مثله تجري البراءة، وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا، مسببا عن مركب مردد بين الاقل والاكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما، هذا على الصحيح. وأما على الاعم، فتصوير الجامع في غاية الاشكال، فما قيل في تصويره أو يقال: وجوه (1): أحدها (2): أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، كالاركان في الصلاة مثلا، وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمى. وفيه ما لا يخفى، فإن التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الاركان، بل وعدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الاجزاء والشرائط عند الاعمي، مع أنه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به – بأجزائه وشرائطه – مجازا عنده، وكان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب إطلاق الكلي على الفرد والجزئي، كما هو واضح، ولا يلتزم به القائل بالاعم، فافهم.
(1) راجع القوانين / 40 في الصحيح والاعم، ومطارح الانظار / 7 في الصحيح والاعم، والفصول / 46. (2) هذا ما يظهر من صاحب القوانين، القوانين 1 / 44 في الصحيح والاعم. *
[ 26 ]
ثانيها: أن تكون موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدقه عن عدمه. وفيه – مضافا إلى ما أورد على الاول أخيرا – أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى، فكان شئ واحد داخلا فيه تارة، وخارجا عنه أخرى، بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند إجتماع تمام الاجزاء، وهو كما ترى، سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات. ثالثها: أن يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية ك (زيد) فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر، ونقص بعض الاجزاء وزيادته، كذلك فيها. وفيه: أن الاعلام إنما تكون موضوعة للاشخاص، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص، ويكون الشخص حقيقة باقيا مادام وجوده باقيا، وإن تغيرت عوارضه من الزيادة والنقصان، وغيرهما من الحالات والكيفيات، فكما لا يضر اختلافها في التشخص، لا يضر اختلافها في التسمية، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات، ولا يكاد يكون موضوعا له، إلا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها، كما عرفت في الصحيح منها. رابعها: إن ما وضعت له الالفاظ إبتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الاجزاء والشرائط، إلا أن العرف يتسامحون – كما هو ديدنهم – ويطلقون تلك الالفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلا له منزلة الواجد، فلا يكون مجازا في الكلمة – على ما ذهب إليه السكاكي (1) في الاستعارة – بل يمكن دعوى
(1) مفتاح العلوم / 156، الفصل الثالث في الاستعارة. *
[ 27 ]
صيرورته حقيقة فيه، بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة، أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة، والمشارك في المهم أثرا تنزيلا أو حقيقة. وفيه: إنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين، وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له (1) فيها ابتداء مركبا، خاصا، ولا يكاد يتم في مثل العبادات، التي عرفت أن الصحيح منها يختلف حسب إختلاف الحالات، وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا (2) بحسب حالة أخرى، كما لا يخفى، فتأمل جيدا. خامسها: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والاوزان، مثل المثقال، والحقة، والوزنة إلى غير ذلك، مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة، فإن الواضع وإن لاحظ مقدارا خاصا، إلا أنه لم يضع له بخصوصه، بل للاعم منه ومن الزائد والناقص، أو أنه وإن خص به أولا، إلا أنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية أنهما منه، قد صار حقيقة في الاعم ثانيا. وفيه: إن الصحيح – كما عرفت في الوجه السابق – يختلف زيادة ونقيصة، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه، كي يوضع اللفظ لما هو الاعم، فتدبر جيدا. ومنها: ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له – في ألفاظ العبادات – عامين، واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا، لاستلزامه كون
(1) في ” ب “: الموضوع فيها. (2) في ” أ وب “: فاسد. *
[ 28 ]
استعمالها في الجامع، في مثل: (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و [ (عمود الدين) ] (1) و (الصوم جنة من النار) مجازا، أو منع استعمالها فيه في مثلها، وكل منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على أولي النهاية. ومنها: أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحي، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه، في رفع ما إذا شك في جزئية شئ للمأمور به أو شرطيته أصلا، لاحتمال دخوله في المسمى، كما لا يخفى، وجواز الرجوع إليه في ذلك على القول الاعمي، في غير ما إحتمل دخوله فيه، مما شك في جزئيته أو شرطيته، نعم لا بد في الرجوع إليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان، كما لا بد منه في الرجوع إلى سائر المطلقات، وبدونه لا مرجع أيضا إلا البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين. وقد إنقدح بذلك: إن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولين، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الاعم، والاشتغال على الصحيح (2)، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة، مع ذهابهم إلى الصحيح. وربما قيل (3) بظهور الثمرة في النذر أيضا. قلت: وإن كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى إعطاء درهم في البرء فيما لو أعطاه لمن صلى، ولو علم بفساد صلاته، لاخلاله بما لا يعتبر في الاسم على الاعم، وعدم البرء على الصحيح، إلا أنه ليس بثمرة لمثل هذه
(1) أثبتناها من (ب). (2) القوانين 1 / 40، مبحث الصحيح والاعم. (3) القوانين 1 / 43، مبحث الصحيح والاعم. *
[ 29 ]
المسألة، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الاصولية، هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الاحكام الفرعية، فافهم. وكيف كان، فقد استدل للصحيحي بوجوده: أحدها: التبادر، ودعوى أن المنسبق إلى الاذهان منها هو الصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الالفاظ على هذا القول مجملات، فإن المنافاة إنما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا مبينة بوجه، وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه. ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، بسبب الاخلال ببعض أجزائه، أو شرائطه بالمداقة، وإن صح الاطلاق عليه بالعناية. ثالثها: الاخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل (الصلاة عمود الدين) (1) أو (معراج المؤمن) (2) و (الصوم جنة من النار) (3) إلى غير ذلك، أو نفي ماهيتها وطبائعها، مثل (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (4) ونحوه، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الاولى، ونفي الصحة من الثانية، لشيوع إستعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه، واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع، حتى في مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) (5) مما يعلم أن المراد نفي الكمال، بدعوى استعماله
(1) دعائم الاسلام 1: 133، جامع الاخبار / 85، الكافي 3 / 99 باب النفساء الحديث 4 غوالي اللآلي 1 / 322 الحديث 55. (2) لم نجده في كتب الحديث، ولكن أورده في جواهر الكلام 7 / 2. (3) الفقيه 2 / 44 باب فضل الصيام، الحديث 1 و 5، الكافي 4 / 62 باب ما جاء في فضل الصوم والصائم الحديث 1. (4) غوالي اللآلي 1: 196، الحديث 2 وغوالي اللآلي 2: 218 الحديث 13. (5) دعائم الاسلام 1: 148، التهذيب 3: 261 باب 25 فضل المساجد والصلاة فيها، *
[ 30 ]
في نفي الحقيقة، في مثله أيضا بنحو من العناية، لا على الحقيقة، وإلا لما دل على المبالغة، فافهم (1). رابعها: دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم، وضع الالفاظ للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه، والحاجة وإن دعت أحيانا إلى إستعمالها في الناقص أيضا، إلا أنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة، بل ولو كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد. والظاهر أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة. ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة، إلا أنها قابلة للمنع، فتأمل. وقد إستدل للاعمي أيضا، بوجوه: منها: تبادر الاعم، وفيه: أنه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع الذي لا بد منه، فكيف يصح معه دعوى التبادر. ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد، وفيه منع، لما عرفت. ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم. وفيه أنه إنما يشهد على أنها للاعم، لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح، وقد عرفتها، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ، ولو بالعناية.
الحديث 55 وسائل الشيعة 3 / 478 الباب 2 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1. (1) إشارة إلى أن الاخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرة في ذلك – لمكان أصالة الحقيقة، ولازم ذلك كون الموضوع له للاسماء هو الصحيح، ضرورة اختصاص تلك الآثار به – إلا أنه لا يثبت بأصالتها كما لا يخفى، لاجرائها العقلاء في إثبات المراد، لا في أنه على نحو الحقيقة لا المجاز، فتأمل جيدا، منه قدس سره.
[ 31 ]
ومنها: استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الاخبار في الفاسدة، كقوله عليه الصلاة والسلام (بني الاسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، ولم يناد أحد بشئ كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع، وتركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله، ومات بغير ولاية، لم يقبل له صوم ولا صلاة) (1)، فإن الاخذ بالاربع، لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية، إلا إذا كانت أسامي للاعم. وقوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام اقرائك) (2) ضرورة أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة، لزم عدم صحة النهي عنها، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها. وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، مع أن المراد في الرواية الاولى، هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بني عليها الاسلام، ولا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعل أخذهم بها إنما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة، وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الاعم، والاستعمال في قوله: (فلو أن أحدا صام نهاره) [ إلى آخره ] (3)، كان كذلك – أي بحسب اعتقادهم – أو للمشابهة والمشاكلة. وفي الرواية الثانية، الارشاد (4) إلى عدم القدرة على الصلاة، وإلا كان الاتيان بالاركان، وسائر ما يعتبر في الصلاة، بل بما يسمى في العرف بها،
(1) الكافي 2 / 15 باب 13 دعائم الاسلام – الخصال / 277 باب الخمسة، الحديث 21 غوالي اللآلي 1 / 82، الفصل الخامس، الحديث 4. (2) التهذيب 1 / 384 باب 19 الحيض والاستحاضة والنفاس، الحديث 6 – الكافي 3 / 88 باب جامع في الحائض والمستحاضة الحديث 1. غوالي اللآلي 2 / 207 باب الطهارة الحديث 124. (3) أثبتنا هذه العبارة من ” ب “. (4) وفي بعض النسخ المطبوعة (النهي للارشاد). *
[ 32 ]
ولو أخل بمالا يضر الاخلال به بالتسمية عرفا. محرما على الحائض ذاتا، وإن لم تقصد به القربة. ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية، فتأمل جيدا. ومنها: أنه لا شبهة (1) في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه. وحصول الحنث بفعلها، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة، لا يكاد يحصل به الحنث أصلا، لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها، كما لا يخفى، بل يلزم المحال، فإن النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها، ولا يكاد يكون معه صحيحة، وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال. قلت: لا يخفى أنه لو صح ذلك، لا يقتضي إلا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح، لا عدم وضع اللفظ له شرعا، مع أن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقة، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها. ومن هنا إنقدح أن حصول الحنث إنما يكون لاجل الصحة، لولا تعلقه، نعم لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل (2)، لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الامكان. بقي أمور: الاول: إن أسامي المعاملات، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للاعم، لعدم إتصافها بهما، كما لا يخفى، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى، وأما إن كانت موضوعة للاسباب،
(1) في نسخة ” أ “: لا إشكال. (2) ولو مع النذر، ولكن صحته كذلك مشكل، لعدم كون الصلاة معه صحيحة مطلوبة، فتأمل جيدا. ” منه قدس سره “. *
[ 33 ]
فللنزاع فيه مجال، لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا، وان الموضوع له هو العقد المؤثر لاثر كذا شرعا وعرفا. والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات والمصاديق، وتخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محققا لما هو المؤثر، كما لا يخفى فافهم. الثاني: إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة، لا يوجب إجمالها، كألفاظ العبادات، كي لا يصح التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شئ في تأثيرها (1) شرعا، وذلك لان إطلاقها – لو كان مسوقا في مقام البيان – ينزل على أن المؤثر عند الشارع، هو المؤثر عند أهل العرف، ولم يعتبر في تأثيره عنده. غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزل عليه إطلاق كلام غيره، حيث أنه منهم، ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره، كان عليه البيان ونصب القرينة عليه، وحيث لم ينصب، بان عدم اعتباره عنده أيضا. ولذا يتمسكون بالاطلاق في أبواب المعاملات، مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح. نعم لو شك في اعتبار شئ فيها عرفا، فلا مجال للتمسك بإطلاقها في عدم اعتباره، بل لابد من اعتباره، لاصالة عدم الاثر بدونه، فتأمل جيدا. الثالث: إن دخل شئ وجودي أو عدمي في المأمور به: تارة: بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه ومن غيره، وجعل جملته متعلقا للامر، فيكون جزءا له وداخلا في قوامه. وأخرى: بأن يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية
(1) في ” أ “: تأثيره. *
[ 34 ]
المأخوذة فيه بدونه، كما إذا أخذ شئ مسبوقا أو ملحوقا به أو مقارنا له، متعلقا للامر، فيكون من مقدماته لا مقوماته. وثالثة: بأن يكون مما يتشخص به المأمور به، بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه، وربما يحصل له بسببه مزية أو نقيصة، ودخل هذا فيه أيضا، طورا بنحو الشطرية وآخر بنحو الشرطية، فيكون الاخلال بما له دخل بأحد النحوين في حقيقة المأمور به وماهيته، موجبا لفساده لا محالة، بخلاف ماله الدخل في تشخصه وتحققه مطلقا. شطرا كان أو شرطا، حيث لا يكون الاخلال به إلا إخلالا بتلك الخصوصية، مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى، غير موجبة لتلك المزية، بل كانت موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه، كالصلاة في الحمام. ثم إنه ربما يكون الشئ مما يندب إليه فيه، بلا دخل له أصلا – لا شطرا ولا شرطا – في حقيقته، ولا في خصوصيته وتشخصه، بل له دخل ظرفا في مطلوبيته، بحيث لا يكون مطلوبا إلا إذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوبا نفسيا في واجب أو مستحب، كما إذا كان مطلوبا كذلك، قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الاخلال به موجبا للاخلال به ماهية ولا تشخصا وخصوصية أصلا. إذا عرفت هذا كله، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسيا في التسمية بأساميها، وكذا فيما له دخل في تشخصها مطلقا، وأما ماله الدخل شرطا في أصل ماهيتها، فيمكن الذهاب أيضا إلى عدم دخله في التسمية بها، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءا فيها، فيكون الاخلال بالجزء مخلا بها، دون الاخلال بالشرط، لكنك عرفت أن الصحيح اعتبارهما فيها. * * *
[ 35 ]
الحادي عشر الحق وقوع الاشتراك، للنقل والتبادر، وعدم صحة السلب، بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد. وان أحاله بعض، لاخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الاخلال أولا، لامكان الاتكال على القرائن الواضحة، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا، لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا، كما أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم، لاجل لزوم التطويل بلا طائل، مع الاتكال على القرائن والاجمال في المقال، لو لا الاتكال عليها. وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى جل شأنه، كما لا يخفى، وذلك لعدم لزوم التطويل، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى، مع كونه مما يتعلق به الغرض، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر في كتابه الكريم (1)، بوقوعه فيه قال الله تعالى (فيه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات) (2). وربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات، لاجل عدم تناهي المعاني، وتناهي الالفاظ المركبات، فلابد من الاشتراك فيها، وهو فاسد لوضوح (3) امتناع الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الاوضاع الغير المتناهية، ولو سلم لم يكد يجدي إلا في مقدار متناه، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية، وجزئياتها وإن كانت غير متناهية، إلا أن وضع الالفاظ بإزاء كلياتها، يغنى عن وضع لفظ بإزائها، كما لا يخفى، مع أن المجاز باب واسع، فافهم.
(1) لا توجد كلمة ” الكريم ” في نسخة ” أ “. (2) آل عمران / 7. (3) في ” ب “: بوضوح. *
[ 36 ]
الثاني عشر إنه قد اختلفو في جواز استعمال اللفظ، في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال، بأن يراد منه كل واحد، كما إذا لم يستعمل إلا فيه، على أقوال (1): أظهرها عدم جواز الاستعمال في الاكثر عقلا. وبيانه: إن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى، بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك، إلا لمعنى واحد، ضرورة أن لحاظه هكذا في إرادة معنى، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث أن لحاظه كذلك، لا يكاد يكون إلا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه، فناء الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد، ومع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال. وبالجملة (2): لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد، لحاظه وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين، إلا أن يكون اللاحظ أحول العينين. فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقا – مفردا كان أو غيره – في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون (3) الوضع في حال وحدة المعنى، وتوقيفيته لا يقتضي عدم الجواز، بعد ما لم تكن الوحدة قيدا
(1) القوانين 1 / 67، في بيان الاشتراك، معالم الدين في الاصول / 32. (2) في ” أ “: وفي الجملة. (3) هذا رد على المحقق القمي، القوانين 1 / 67. *
[ 37 ]
للوضع، ولا للموضوع له، كما لا يخفى. ثم لو تنزلنا عن ذلك، فلا وجه للتفصيل (1) بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ وبنحو المجاز فيه، لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الاكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملا في جزء المعنى، بعلاقة الكل والجزء، فيكون مجازا، وذلك لوضوح أن الالفاظ لا تكون موضوعة إلا لنفس المعاني، بلا ملاحظة قيد الوحدة، وإلا لما جاز الاستعمال في الاكثر، لان الاكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشئ بشرط شئ، والشئ بشرط لا، كما لا يخفى، والتثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلا أن الظاهر أن اللفظ فيهما كأنه كرر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أنه أريد منه معنى من معانيه، فإذا قيل مثلا: (جئني بعينين) أريد فردان من العين الجارية، لا العين الجارية والعين الباكية، والتثنية والجمع في الاعلام، إنما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها، مع أنه لو قيل بعدم التأويل، وكفاية الاتحاد في اللفظ، في استعمالهما حقيقة، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الاكثر، لان هيئتهما إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه، استعمالهما في معنى واحد، كما إذا استعملا وأريد المتعدد من معنى واحد منهما، كما لا يخفى. نعم لو أريد مثلا من عينين، فردان من الجارية، وفردان من الباكية، كان من استعمال العينين في المعنيين، إلا أن حديث التكرار لا يكاد يجدي في ذلك أصلا، فإن فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا، ضرورة أن التثنية
(1) المفصل هو صاحب المعالم، معالم الدين / 32. *
[ 38 ]
عنده إنما يكون لمعنيين، أو لفردين بقيد الوحدة، والفرق بينهما وبين المفرد إنما يكون في أنه موضوع للطبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين، كما هو أوضح من أن يخفى. وهم ودفع: لعلك تتوهم أن الاخبار الدالة على أن للقرآن بطونا – سبعة أو سبعين – تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه، ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعله كان بارادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من اللفظ، كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها. الثالث عشر إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال، وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الاقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور: أحدها: إن المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات، مما يكون مقهومه منتزعا عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والايجاد (1)، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات، بل وصيغ المبالغة، وأسماء الازمنة والامكنة والآلات، كما هو ظاهر العنوانات، وصريح بعض المحققين، مع عدم صلاحية ما يوجب
(1) وفي بعض النسخ المطبوعة: أو الايجاد. *
[ 39 ]
اختصاص النزاع بالبعض إلا التمثيل به، وهو غير صالح، كما هو واضح. فلا وجه لما زعمه بعض الاجلة (1)، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصفات، ولعل منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى، مما اتفق عليه الكل، وهو كما ترى، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادي المشتقات، بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة – حسبما نشير إليه (2) – لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع ها هنا، كما لا يخفى. ثم إنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع، مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضي ولو كان جامدا، كالزوج والزوجة والرق والحر، وإن (3) ابيت إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع. كما يشهد به ما عن الايضاح (4) في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه: (تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين، وأما المرضعة الاخرى، ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف (رحمه الله) وابن ادريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته، لانه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا)، وما عن المسالك (5) في هذه المسألة، من ابتناء الحكم فيها
(1) صاحب الفصول، الفصول / 60، في المشتق. (2) إشارة إلى ما سيأتي من تفصيل الكلام في الامر الرابع صفحة 43. (3) في ” ب “: فإن أبيت. (4) إيضاح الفوائد 3: 52، أحكام الرضاع. (5) المسالك 1 / 379، كتاب النكاح. *
[ 40 ]
على الخلاف في مسألة المشتق. فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات – كانت عرضا أو عرضيا – كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من الاعتبارات والاضافات، كان محل النزاع وإن كان جامدا، وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات، فإنه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها. ثانيها: قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لان الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعم المتلبس به في المضي ؟ ويمكن حل الاشكال بأن انحصار مفهوم عام بفرد – كما في المقام – لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فيه تبارك وتعالى. ثالثها: إنه من الواضح خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع، لكونها غير جارية على الذوات، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة، في الدلالة على ما يتصف به الذوات ويقوم بها – كما لا يخفى – وإن الافعال إنما تدل على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو تركها منها، على اختلافها. إزاحة شبهة: قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتى أخذوا
[ 41 ]
الاقتران بها في تعريفه. وهو اشتباه، ضرورة عدم دلالة الامر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الامر نفس الانشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق والاسناد إلى الزمانيات، وإلا لزم القول بالمجاز والتجريد، عند الاسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات. نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع – بحسب المعنى – خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة، في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيات، ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال، ولا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، إلا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما، كما أن الجملة الاسمية ك (زيد ضارب) يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الازمنة، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا، فكانت الجملة الفعلية مثلها. وربما يؤيد ذلك أن الزمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة، وفي المضارع ماضيا كذلك، وإنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالاضافة، كما يظهر من مثل قوله: يجيئني زيد بعد عام، وقد ضرب قبله بأيام، وقوله: جاء زيد في شهر كذا، وهو يضرب في ذلك الوقت، أو فيما بعده مما مضى، فتأمل جيدا. ثم لا باس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه، بما يناسب المقام، لاجل الاطراد في الاستطراد في تمام الاقسام. فاعلم أنه وإن اشتهر بين الاعلام، أن الحرف ما دل على معنى في
[ 42 ]
غيره، وقد بيناه في الفوائد (1) بما لا مزيد عليه، إلا أنك عرفت فيما تقدم، عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى، وأنه فيهما ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية، ولا عدم الاستقلال بها، وإنما الفرق هو أنه وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو. وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية، وعدم الاستقلال بها، إنما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى، فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآلي، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له، وإن كان بغير ما وضع له، فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي (2) عقلي، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد، وإن كان بالوجود الذهني، فافهم وتأمل فيما وقع في المقام من الاعلام، من الخلط والاشتباه، وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا، بخلاف ما عداه فإنه عام. وليت شعري إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا، فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له ؟ وهل يكون ذلك إلا لكون هذا القصد، ليس مما يعتبر في الموضوع له، ولا المستعمل فيه بل في الاستعمال، فلم لا يكون فيها كذلك ؟ كيف، وإلا لزم أن يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها على هذا كليات
(1) حاشية كتاب فرائد الاصول، كتاب الفوائد / 305. (2) في (أ): الآلي الكلي. *
[ 43 ]
عقلية، والكلي العقلي لا موطن له إلا الذهن، فالسير والبصرة والكوفة (1)، في (سرت من البصرة إلى الكوفة) (2) لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة (3)، لتقيدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية، فيستحيل انطباقها على الامور الخارجية. وبما حققناه (4) يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي، والصدق على الكثيرين (5)، وإن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا، وكليته بلحاظ نفس المعنى، ومنه ظهر عدم اختصاص الاشكال والدفع بالحرف، بل يعم غيره، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام للاعلام، وقد سبق في بعض الامور بعض الكلام، والاعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والافادة، فافهم. رابعها: إن اختلاف المشتقات في المبادئ، وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة، وفي بعضها قوة وملكة، وفي بعضها فعليا، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى، غاية الامر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلا، لو أخذ حرفة أو ملكة، ولو لم يتلبس به إلى الحال، أو انقضى عنه، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعلى ا، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات، كما أشرنا إليه (6). خامسها: إن المراد بالحال في عنوان المسألة، هو حال التلبس
(1 و 2 و 3) في (أ): تقديم الكوفة على البصرة. (4) في هامش (ب): ثم إنه قد انقدح بما ذكرنا أن المعنى بما هو معنى اسمي، وملحوظ استقلالي، أو بما هو معنى حرفي وملحوظ آلي، كلي عقلي في غير الاعلام الشخصية، وفيها جزئي كذلك، وبما هو هو أي بلا أحد اللحاظين، كلي طبيعي أو جزئي خارجي، وبه… (نسخة بدل). (5) في (أ): على كثيرين. (6) اشار إليه في الامر الاول / 39. *
[ 44 ]
لا حال النطق ضرورة أن مثل (كان زيد ضاربا أمس) أو (سيكون غدا ضاربا) حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الامس، في المثال الاول، ومتلبسا به في الغد في الثاني، فجري المشتق حيث كان بلحاط حال التلبس، وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعد في آخر، كان حقيقة بلا خلاف، ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل (زيد ضارب غدا) مجاز، فإن الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال، كما هو قضية الاطلاق، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجري والاتصاف في الحال، والتلبس في الاستقبال. ومن هنا ظهر الحال في مثل (زيد ضارب أمس) وأنه داخل في محل الخلاف والاشكال. ولو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة. وبالجملة: لا ينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة، فيما إذا جرى على الذات، بلحاظ حال التلبس، ولو كان في المضي أو الاستقبال، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال، ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه الصفات الجارية على الذوات، ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال، أو الاستقبال، ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا ؟ وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال. لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه، وادعي أنه الظاهر في المشتقات، إما لدعوى الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة. لانا نقول: هذا الانسباق، وإن كان مما لا ينكر، إلا أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.
[ 45 ]
سادسها: إنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له، وأما ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز. إذا دار الامر بينهما لاجل الغلبة، فممنوع، لمنع الغلبة أولا، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا. وأما الاصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل (أكرم كل عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما (1) انقضى عنه المبدأ قبل الايجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء. فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم أن الاقوال في المسألة وإن كثرت، إلا أنها حدثت بين المتأخرين، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين، لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الاحوال، وقد مرت الاشارة (2) إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس في الحال، وفاقا لمتأخري الاصحاب والاشاعرة، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة، ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، وذلك لوضوح أن مثل: القائم والضارب والعالم، وما يرادفها من سائر اللغات، لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ، وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب، ويصح سلبها عنه، كيف ؟ وما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الاذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.
(1) في (أ): من انقضى. (2) تقدم في الامر الرابع، صفحة 43. *
[ 46 ]
وقد يقرر هذا وجها على حدة، ويقال (1): لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الاعم، لما كان بينها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر. ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة (2) من المعاصرين، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها. إن قلت: لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط. قلت: لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء، لو لم يكن بأكثر. إن قلت: على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الاغلب مجازا، وهذا بعيد، ربما لا يلائمه حكمة الوضع. لا يقال: كيف ؟ وقد قيل: بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك لو سلم، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد. نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك ؟ فافهم.
(1) البدائع / 181، في المشتق. (2) المراد من بعض الاجلة، هو صاحب البدائع، البدائع / 181. الشيخ الميرزا حبيب الله بن الميرزا محمد علي خان القوجاني الرشتي، ولد عام 1234 ه، حضر بحث صاحب الجواهر والشيخ الانصاري، كان من أكابر علماء عصره، أعرض عن الرئاسة ولم يرض أن يقلده أحد لشدة تورعه في الفتوى، ولم يتصد للوجوه، له تصانيف كثيرة منها ” بدائع الاصول ” و ” شرح الشرائع ” و ” كاشف الظلام في علم الكلام ” وغيرها، توفي ليلة الخميس 14 / ج 2 عام 1312 ه ودفن في النجف الاشرف. (طبقات أعلام الشيعة، نقباء البشر 1 / 357 رقم 719) *
[ 47 ]
قلت: مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمكان من الامكان، فيراد من جاء الضارب أو الشارب – وقد انقضى عنه الضرب والشرب – جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه، ضرورة أنه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين. وبالجملة: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الاطلاق، إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في المورد – ولو بالانطباق – لا وجه لملاحظة حالة أخرى، كما لا يخفى، بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإن استعماله – حينئذ – مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الامكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة، كما لا يخفى، فافهم. ثم إنه ربما أورد (1) على الاستدلال بصحة السلب، بما حاصله: إنه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقا، فغير سديد، وإن أريد مقيدا، فغير مفيد، لان علامة المجاز هي صحة السلب المطلق. وفيه: إنه إن أريد بالتقييد، تقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق – كما هو واضح – فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه، إلا أن تقييده ممنوع، وإن أريد تقييد السلب، فغير ضائر بكونها علامة، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان
(1) البدائع / 180، في المشتق. *
[ 48 ]
منع تقييده أيضا، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جدا. ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت (1) في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ، بين كون المشتق لازما وكونه متعديا، لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب، وكان متلبسا به سابقا، وأما إطلاقه عليه في الحال، فان كان بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، وإن كان بلحاظ الحال، فهو وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون الاستعمال أعم منها كما لا يخفى، كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه، بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس – أيضا – وإن كان معه أوضح، ومما ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل. حجة القول بعدم الاشتراط وجوه: الاول: التبادر، وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس. الثاني: عدم صحة السلب في مضروب ومقتول، عمن انقضى عنه المبدأ. وفيه: إن عدم صحته في مثلهما، إنما هو لاجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال، ولو مجازا. وقد انقدح من بعض المقدمات أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل البحث والكلام ومورد النقض والابرام، اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا، وأما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات، مما صدر
(1) التفصيل لصاحب الفصول، الفصول / 60، فصل حول إطلاق المشتق. *
[ 49 ]
عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع – كما عرفت – لا بلحاظ الحال أيضا، لوضوح صحة أن يقال: إنه ليس بمضروب الآن بل كان. الثالث: استدلال الامام – عليه السلام – تأسيا بالنبي – صلوات الله عليه – كما عن غير واحد من الاخبار بقوله (لا ينال عهدي الظالمين) (1) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الامامة والخلافة، تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة، ومن الواضح توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للاعم، وإلا لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة، والجواب منع التوقف على ذلك، بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس. وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي: إن الاوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الاحكام، تكون على أقسام: أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الاشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعا للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا. ثانيها: أن يكون لاجل الاشارة إلى علية المبدأ للحكم، مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه، ولو فيما مضى. ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري عليه، واتصافه به حدوثا وبقاء. إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم، لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الاخير، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق
(1) البقرة / 124. *
[ 50 ]
للاعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهرا حين التصدي، فلابد أن يكون للاعم، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم. وأما إذا كان على النحو الثاني، فلا، كما لا يخفى، ولا قرينة على أنه على النحو الاول، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الامامة والخلافة وعظم خطرها، ورفعة محلها، وإن لها خصوصية من بين المناصب الالهية، ومن المعلوم أن المناسب لذلك، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا، كما لا يخفى. إن قلت: نعم، ولكن الظاهر أن الامام – عليه السلام – إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعا، لا بقرينة المقام مجازا، فلا بد أن يكون للاعم، وإلا لماتم. قلت: لو سلم، لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازا، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس – كما عرفت – فيكون معنى الآية، والله العالم: من كان ظالما ولو آنا في زمان سابق (1) لا ينال عهدي أبدا، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس. ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به، باختيار عدم الاشتراط في الاول، بآية حد السارق والسارقة، والزاني والزانية، وذلك حيث ظهر أنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقا، ولو بعد انقضاء. المبدأ، مضافا إلى
(1) في ” ب “: السابق. *
[ 51 ]
وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محكوما عليه أو به، كما لا يخفى. ومن مطاوي ما ذكرنا – ها هنا وفي المقدمات – ظهر حال سائر الاقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات. بقي أمور: الاول: إن مفهوم المشتق – على ما حققه المحقق الشريف (1) في بعض حواشيه (2) -: بسيط منتزع عن الذات – باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به – غير مركب. وقد أفاد في وجه ذلك: أن مفهوم الشئ لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا، وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشئ، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة، فإن الشئ الذي له الضحك هو الانسان، وثبوت الشئ لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده الشريف، على ما لخصه بعض الاعاظم (3). وقد أورد عليه في الفصول (4)، بأنه يمكن أن يختار الشق الاول، ويدفع الاشكال بأن كون الناطق – مثلا – فصلا، مبني على عرف المنطقيين،
(1) المير سيد علي بن محمد بن علي الحسيني الاسترابادي، ولد المحقق الشريف سنة 740 ه بجرجان وكان متكلما بارعا، باهرا في الحكمة والعربية، روى عن جماعة منهم العلامة قطب الدين الرازي، واخذ منه العلامة المذكور، له شرح المطالع وشرح على مواقف القاضي عضد الايجي في علم أصول الكلام، عده القاضي نور الله من حكماء الشيعة وعلمائها. وتوفي في شيراز سنة 816 ه. (الكنى والالقاب 2 / 358). (2) في حاشيته على شرح المطالع عند قول الشارح: الا أن معناه شئ له المشتق منه… الخ، شرح المطالع / 11. (3) الفصول / 61، التنبيهات. (4) الفصول / 61، التنبيهات. *
[ 52 ]
حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك. وفيه: إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا، بل بماله من المعنى، كما لا يخفى. والتحقيق أن يقال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه، وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه، بل لا يكاد يعلم، كما حقق في محله، ولذا ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه، كالحساس والمتحرك بالارادة في الحيوان، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشئ في مثل الناطق، فإنه وإن كان عرضا عام، لا فصلا مقوما للانسان، إلا أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به كان من أظهر خواصه. وبالجملة لا يلزم من أخذ مفهوم الشئ في معنى المشتق، إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيدا. ثم قال: إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشئ والذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا. انتهى. ويمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا، وإن كان التقييد داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون ضرورية، ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان وان كان المقيد به بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية (الانسان ناطق) تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية (الانسان إنسان) وهي
[ 53 ]
ضرورية، والاخرى قضية (الانسان له النطق) وهي ممكنة، وذلك لان الاوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم تكون أوصافا، فعقد الحمل ينحل إلى القضية، كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ، وقضية ممكنة عند الفارابي (1)، فتأمل. لكنه (قدس سره) تنظر فيما أفاده بقوله: وفيه نظر لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة وإلا صدق السلب بالضرورة، مثلا: لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد [ الكاتب ] (2) بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة. انتهى. ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة، بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة، كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا، لضرورة السلب بهذا الشرط، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا، إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأي جهة منها، ومع أية منها في نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك، وإلا كانت الجهة منحصرة بالضرورة، ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب – بلحاظ الثبوت وعدمه – واقعا ضروريا، ويكون من باب الضرورة
(1) أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في الفلسفة والمنطق والموسيقى وغيرها من العلوم، أقام ببغداد برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران ثم رجع إلى بغداد ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان، ويحكى أن الآلة المسماة ” القانون ” من وضعه، وكان منفردا بنفسه لا يجالس الناس، أكثر تصانيفه فصول وتعاليق، توفي عام 339 بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة وصلى عليه سيف الدولة ودفن بظاهر دمشق. (وفيات الاعيان 5 / 153 رقم 701). (2) أثبتناها من (ب) *
[ 54 ]
بشرط المحمول. وبالجملة: الدعوى هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة، فيما ليست مادته واقعا في نفسه وبلا شرط غير الامكان. وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده (رحمه الله) بإبطال الوجه الاول، كما زعمه (قدس سره)، فإن لحوق مفهوم الشئ والذات لمصاديقهما، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما، لا مطلقا، ولو مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا، وقد عرفت حال الشرط، فافهم. ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل، ضرورة أن مصداق الشئ الذي له النطق هو الانسان، كان أليق بالشرطية الاولى، بل كان أولى (1) لفساده مطلقا، ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشئ في لازمه وخاصته، فتأمل جيدا. ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة، بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل زيد الكاتب، ولزومه من التركب، وأخذ الشئ مصداقا أو مفهوما في مفهومه. إرشاد: لا يخفى أن معنى البساطة – بحسب المفهوم – وحدته إدراكا وتصورا، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شئ واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شئ له الحجرية أو الشجرية، مع وضوح بساطة مفهومهما. وبالجملة: لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية – بالتعمل العقلي – وحدة المعنى
(1) في ” ب “: الاولى. *
[ 55 ]
وبساطة المفهوم كما لا يخفى، وإلى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقان (1) بين المحدود والحد، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا، فالعقل بالتعمل يحلل النوع، ويفصله إلى جنس وفصل، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا، وشيئا فاردا تصورا، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق. الثاني: الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ، ولا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية، وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما، من أن المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه، وصاحب الفصول (2) (رحمه الله) – حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد – أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك، لاجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات، وإن اعتبرا لا بشرط، وغفل عن أن المراد ما ذكرنا، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل، وبين المادة والصورة، فراجع. الثالث: ملاك الحمل – كما أشرنا إليه – هو الهوهوية والاتحاد من وجه،
(1) في ” أ وب “: الفارقين. (2) الفصول / 62، التنبيه الثاني من تنبيهات المشتق. هو الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم الطهراني الحائري، ولد في ” إيوان كيف “، أخذ مقدمات العلوم في طهران، ثم اكتسب من شقيقه الحجة الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب ” هداية المسترشدين ” في اصفهان، ثم هاجر إلى العراق فسكن كربلاء، كان مرجعا عاما في التدريس والتقليد، وقد تخرج من معهده جمع من كبار العلماء، أجاب داعي ربه سنة 1254 ه وله آثار أشهرها ” الفصول الغروية ” في الاصول (طبقات اعلام الشيعة الكرام البررة 1 / 390 رقم 795). *
[ 56 ]
والمغايرة من وجه آخر، كما يكون بين المشتقات والذوات، ولا يعتبر معه (1) ملاحظة التركيب بين المتغايرين، واعتبار كون مجموعهما – بما هو كذلك – واحدا، بل يكون لحاظ ذلك مخلا، لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية. ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد بين الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها، كما هو الحال في طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار. فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام. وفي كلامه موارد للنظر، تظهر بالتأمل وإمعان النظر. الرابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما، وإن اتحدا عينا وخارجا، فصدق الصفات – مثل: العالم، والقادر، والرحيم، والكريم، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال – عليه تعالى، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته، يكون على الحقيقة، فإن المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما. ومنه قد انقدح ما في الفصول، من الالتزام بالنقل (2) أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى، بناء على الحق من العينية، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق (3)، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما، ولا اتفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كمالا يخفى، وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.
(1) اشارة إلى ما افاده صاحب الفصول، الفصول، 62 التنبيه الثاني. (2) الفصول / 62، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق. (3) وهو الاتفاق الذي ادعاه صاحب الفصول (قدس سره) الفصول / 62. *
[ 57 ]
الخامس: إنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة – كما عرفت – بين المبدأ وما يجري عليه المشتق، في اعتبار قيام المبدأ به، في صدقه على نحو الحقيقة، وقد استدل من قال (1) بعدم الاعتبار، بصدق الضارب والمؤلم، مع قيام الضرب والالم بالمضروب والمؤلم – بالفتح -. والتحقيق: إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الالباب، في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، واختلاف الهيئات أخرى، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا، كما في صفاته تعالى، على ما أشرنا إليه آنفا، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه، كما في الاضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شئ، وتكون من الخارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما، وقائما به عينا، لكنه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية، وكان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد والعينية، وكان ما بحذائه عين الذات، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة، ولو بتأمل وتعمل من العقل. والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها. وبالجملة: يكون مثل العالم، والعادل، وغيرهما – من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره – جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد، وكيفية التلبس بالمبدأ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره، فلا وجه لما التزم به في
(1) الفصول / 62، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق. *
[ 58 ]
الفصول (1)، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى، كما لا يخفى، كيف ؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: إنه تعالى عالم، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشئ فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإما أن لا نعني شيئا، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة، وكونها بلا معنى، كما لا يخفى. والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، وهو كما ترى، وبالتأمل فيما ذكرنا، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين، فتأمل. السادس: الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة، التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به ولو مجازا، ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فاسناد الجريان إلى الميزاب، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز، إلا أنه في الاسناد، لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلا، كما لا يخفى، ولكن ظاهر الفصول (2) بل صريحه، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة، وهذا – هاهنا – محل الكلام بين الاعلام، والحمد لله، وهو خير ختام.
(1) الفصول / 62، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق. (2) الفصول / 62، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق. *
[ 59 ]
المقصد الاول الاوامر
[ 61 ]
المقصد الاول: في الاوامر وفيه فصول: الاول: فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات، وهي عديدة: الاولى: إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة، منها الطلب، كما يقال، أمره بكذا. ومنها الشأن، كما يقال: شغله أمر كذا. ومنها الفعل، كما في قوله تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) (1). ومنها الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا) (2). ومنها الشئ، كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا. ومنها الحادثة، ومنها الغرض، كما تقول: جاء زيد لامر كذا. ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم، ضرورة أن الامر في (جاء زيد لامر) ما إستعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض، نعم يكون مدخوله مصداقه، فافهم، وهكذا الحال في قوله
(1) هود: 97. (2) هود: 66، 82. *
[ 62 ]
تعالى (فلما جاء أمرنا) (1) يكون مصداقا للتعجب، لا مستعملا في مفهومه، وكذا في الحادثة والشأن. وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول (2)، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشئ، هذا بحسب العرف واللغة. وأما بحسب الاصطلاح، فقد نقل (3) الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، ومجاز في غيره، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه – حينئذ – لا يكون معنى حدثيا، مع أن الاشتقاقات منه – ظاهرا – تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الاخر، فتدبر. ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه، نعم القول المخصوص – أي صيغة الامر – إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص. وكيف كان، فالامر سهل لو ثبت النقل، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز. وما ذكر في الترجيح، عند تعارض هذه الاحوال، لو سلم، ولم يعارض بمثله، فلا دليل على الترجيح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه، ولو إحتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق، فليحمل عليه، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه
(1) هود: 66، 82. (2) الفصول / 62، القول في الامر. (3) الفصول / 62 – 63، القول في الامر. *
[ 63 ]
بالخصوص، أو فيما يعمه، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الاول. الجهة الثانية: الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه. وأما إحتمال اعتبار أحدهما فضعيف، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، وتوبيخه بمثل: إنك لم تأمره، إنما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه، وكيف كان، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل، ولو كان مستعليا كفاية. الجهة الثالثة: لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب، لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيد قوله تعال (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) (1) وقوله صلى الله عليه وآله (2): (لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) وقوله صلى الله عليه وآله (3): – لبريرة بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله ؟ -: (لا، بل إنما أنا شافع) إلى غير ذلك، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) (4). وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو
الحقيقة، كما لا يخفى، وأما ما أفيد (1) من أن الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد، لما مرت الاشارة إليه في الجهة الاولى، وفي تعارض الاحوال (2)، فراجع. والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة، وكل طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلا لا يفيد المدعى. الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا، بل طلبا إنشائيا، سواء أنشئ بصيغة إفعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الامر، أو بغيرها، ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي، كما أن الامر في لفظ الارادة على عكس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الارادة الحقيقية (3) واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة، من المغايرة بين الطلب والارادة، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما تكن عن المحذور خالية، والاعادة بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضا. فاعلم، أن الحق كما عليه أهله – وفاقا للمعتزلة وخلافا للاشاعرة – هو اتحاد الطلب والارادة، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
(1) أفاده العلامة (ره) نهاية الاصول / 64 مخطوطة. (2) في الامر الثامن من المقدمة ص 20. (3) في ” ب “: الحقيقة. *
[ 65 ]
أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية، وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه – كما عرفت – متحد مع الارادة الحقيقية (1) التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الامس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شئ والامر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها، يكون هو الطلب غيرها، سوى ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشئ والميل وهيجان الرغبة إليه، والتصديق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لاجلها. وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيص (2) عن إتحاد الارادة والطلب، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك، مسمى بالطلب والارادة كما يعب به تارة وبها أخرى، كما لا يخفى. وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية، والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجي والتمني والعلم إلى غيرذلك، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، وقد دل اللفظ عليها، كما قيل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد انقدح بما حققناه، ما في استدلال الاشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الارادة، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل، فإنه كما لا إرادة
(1) في ” ب “: الحقيقة. (2) في النسختين فلا محيص إلا، والظاهر ” إلا ” هنا مقحمة في السياق. *
[ 66 ]
حقيقة في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الانشائي الايقاعي، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بينا ولا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الارادة الانشائية. وبالجملة: الذي يتكفله الدليل، ليس إلا الانفكاك بين الارادة الحقيقية، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما. وهو مما لا محيص عن الالتزام به، كما عرفت، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي، كما لا يخفي. ثم إنه يمكن – مما حققناه – أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من الطلب، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه، وا لحقيقي من الارادة، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا، فافهم. دفع ووهم (1): لا يخفى أنه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة، من نفي غير الصفات المشهورة، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي، كما يقول به الاشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام. إن قلت: فماذا يكون مدلولا عليه عند الاصحاب والمعتزلة ؟ قلت: أما الجمل الخبرية، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج، كالانسان نوع أو كاتب. وأما الصيغ الانشائية، فهي – على ما حققناه في بعض فوائدنا (2) – موجدة
(1) المتوهم هو القوشجي، راجع شرح تجريد العقائد للقوشجي / 246، عند البحث عن المسموعات. (2) تعليقة المصنف على الفرائد، كتاب الفرائد / 285. *
[ 67 ]
لمعانيها في نفس الامر، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات. نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني – بالدلالة الالتزامية – على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما لاجل وضعها لايقاعها، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها، لاجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس، وضعا أو إطلاقا. إشكال ودفع: أما الاشكال، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة، في تكليف الكفار بالايمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالاركان، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك إرادة، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، وإعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة، فكيف تتخلف عن المراد ؟ ولا تكاد تتخلف، إذا أراد الله شيئا يقول له: كن فيكون. وأما الدفع، فهو إن إستحاله التخلف إنما تكون في الارادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الارادة التشريعية، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف. وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا فلابد من الاطاعة والايمان، وإذا تخالفتا، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان. إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.
[ 68 ]
قلت: إنما يخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الارادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. إن قلت: إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف ؟ وقد سبقهما الارادة الازلية والمشية الالهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار ؟ قلت: العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن (السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه) (1) و (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) (2)، كما في الخبر، والذاتي لا يعلل، فانقطع سؤال: إنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا ؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست) (3)، قد إنتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام. وهم ودفع: لعلك تقول: إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل، لزم – بناء على أن تكون عين الطلب – كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.
(1) ورد بهذا المضمون في توحيد الصدوق / 356 الباب 58 الحديث 3. (2) الروضة من الكافي 8 / 177، الحديث 197. مسند أحمد بن حنبل 2 / 539 وفيه تقديم الفضة على الذهب. وقريب منه في هذا المصدر صفحة 257، 260، 391، 438، 485، 498، 525 والبخاري 4 / 216. (3) يريد المؤلف (ره): وهنا يقف القلم، لان الكلام انتهى إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام، وما بين القوسين، تعبير فارسي ترجمته: لما وصل القلم إلى هنا انكسر رأسه. *
[ 69 ]
لكنك غفلت عن أن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجا لا مفهوما، وقد عرفت (1) أن المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلا في اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (2): (وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه). الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث: الاول: إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عد منها: الترجي، والتمني، والتهديد، والانذار، والاهانة، والاحتقار، والتعجيز، والتسخير، إلى غير ذلك، وهذا كما ترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لم يستعمل إلا في إنشاء الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى أحد هذه الامور، كما لا يخفى. قصارى ما يمكن أن يدعى، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداع آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره، فلا تغفل. إيقاظ: لا يخفى أن ما ذكروه في صيغة الامر، جار في سائر الصيغ الانشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام
(1) مر في صفحة 66 من هذا الكتاب عند قوله: وأما الصيغ الانشائية.. الخ. (2) نهج البلاغة / 39 الخطبة الاولى. *
[ 70 ]
بصيغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة، يكون الداعي غيرها أخرى، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى، مما لازمه العجز أو الجهل، وأنه لا وجه له، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة، كما عرفت، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا، لا لاظهار ثبوتها حقيقة، بل لامر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا. المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال، لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه (1)، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهورا فيه، ليرجح أو يتوقف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف ؟ وقد كثر إستعمال العام في الخاص، حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خص) ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص. المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث – مثل: يغتسل، ويتوضأ، ويعيد – ظاهرة في الوجوب أو لا ؟ لتعدد
(1) هذا تعريض بصاحب المعالم (قدس سره)، معالم الدين / 48، فصل في الاوامر: فائدة. *
[ 71 ]
المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها. الظاهر الاول، بل تكون أظهر من الصيغة، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام – أي الطلب – مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الاعلام، بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغ الانشائية، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواعي أخر، كما مر (1). لا يقال: كيف ؟ ويلزم الكذب كثيرا، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا. فإنه يقال: إنما يلزم الكذب، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام، لا لداعي البعث، كيف ؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل (زيد كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذبا، إذا قيل كناية عن جوده، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال. هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم.
(1) في المبحث الاول من هذا الفصل، عند قوله (قدس سره): إيقاظ / 69. *
[ 72 ]
المبحث الرابع: إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب، هذ لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون ؟ قيل بظهورها فيه، إما لغبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده أو أكمليته، والكل كما ترى، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأما الاكملية فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة أنس اللفظ بالمعنى، بحيث يصير وجها له، ومجرد الاكملية لا يوجبه، كما لا يخفى، نعم فيما كان الامر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان، كاف في بيانه، فافهم. المبحث الخامس: إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا، فيجزي إتيانه مطلقا، ولو بدون قصد القربة، أو لا ؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الاصل. لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات: إحداها: الوجوب التوصلي، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب، ويسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابد – في سقوطه وحصول غرضه – من الاتيان به متقربا به منه تعالى. ثانيتها: إن التقرب المعتبر في التعبدي، إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشئ في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.
[ 73 ]
وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة، والتمكن من إتيانها كذلك، بعد تعلق الامر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر، واضح الفساد، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان، إلا أنه لا سكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها، لعدم الامر بها، فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الامر، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به، لا إلى غيره. إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالامر بها مقيدة. قلت: كلا، لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة. إن قلت: نعم، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، وأما إذا أخذ شطرا، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد، يكون متعلقا للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالاسر، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه. قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري، فإن الفعل وإن كان بالارادة اختياريا، إلا أن إرادته – حيث لا تكون بإرادة أخرى، وإلا لتسلسلت – ليست باختيارية، كما لا يخفى. إنما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب عن قصد الامتثال، بداعي امتثال أمره.
[ 74 ]
إن قلت: نعم (1)، لكن هذا كله إذا كان إعتباره في المأمور به بأمر واحد، وأما إذا كان بأمرين: تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره، فلا محذور أصلا، كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة. قلت: – مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبات، غاية الامر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فيدور فيه خصوص المثوبات، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة – أن الامر الاول إن كان يسقط بمجرد موافقته، ولو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الامر الثاني، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الاول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط بذلك، فلا يكاد يكون له وجه، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، وإلا لما كان موجبا لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه، فيسقط أمره. هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال. وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحة [ أو له تعالى ] (2)، فاعتباره في متعلق الامر وإن كان بمكان من الامكان، إلا أنه غير معتبر فيه قطعا، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال، الذي عرفت
(1) إشارة إلى ما أفاده صاحب التقريرات في مطارح الانظار / 60، السطر الاخير، في التعبدي والتوصلي. (2) سقطت من ” أ “. *
[ 75 ]
عدم إمكان أخذه فيه بديهة. تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الاعلام. ثالثتها: إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه – ولو كان مسوقا في مقام البيان – على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه. فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الآمر، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها، نعم إذا كان الامر في مقام بصددبيان تمام ماله دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره، ومعه سكت في المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، وإلا لكان سكوته نقصا له وخلاف الحكمة، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام، من الرجوع إلى ما يقتضيه الاصل ويستقل به العقل. فاعلم: أنه لا مجال – ها هنا – إلا لاصالة الاشتغال، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين، وذلك لان الشك ها هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب – مع الشك وعدم إحراز الخروج – عقابا بلا بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة، والخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز. نعم: يمكن أن يقال: إن كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال،
[ 76 ]
أمرا كان مما يغفل عنه غالبا العامة (1)، كان على الآمر بيانه، ونصب قرينة على دخله واقعا، وإلا لاخل بما هو همه وغرضه، أما إذا لم ينصب دلالة على دخله، كشف عن عدم دخله، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الاخبار والآثار، وكانا مما يغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جيدا. ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار، لوضوح أنه لابد في عمومها من شئ قابل للرفع والوضع شرعا، وليس ها هنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي. ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعا، فبدليل الرفع – ولو كان أصلا – يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الامر الفعلي، كما عرفت، فافهم. المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة، كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته، فإذا كان في مقام البيان، ولم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شئ آخر أو لا، أتى بشئ آخر أو لا، أتى به آخر أو لا، كما هو واضح لا يخفى. المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال:
(1) هذا ما أثبتناه من ” أ وب “، وفي بعض النسخ المطبوعة هكذا (إن كل ما يحتمل بدوا دخله في الامتثال وكان يغفل عنه غالبا العامة).
[ 77 ]
نسب (1) إلى المشهور ظهورها في الاباحة. وإلى بعض العامة (2) ظهورها في الوجوب، وإلى بعض (3) تبعيته لما قبل النهي، إن علق الامر بزوال علة النهي، إلى غير ذلك. والتحقيق: إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب، أو الاباحة، أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه. غاية الامر يكون موجبا لاجمالها، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى، كما أشرنا. المبحث الثامن: الحق أن صيغة الامر مطلقا، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فإن المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة، كما لا يخفى. ثم لا يذهب عليك: أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين، لا يدل إلا على الماهية – على ما حكاه السكاكي (4) – لا يوجب كون النزاع ها هنا في الهيئة – كما في الفصول (5) – فإنه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على
(1) راجع الفصول / 70، وبدائع الافكار في النسخة الثانية من نسختي الاوامر / 294. (2) البصري في المعتمد / 75، باب في صيغة الامر الواردة بعد حظر، والبيضاوي وغيره راجع الابهاج في شرح المنهاج للسبكي: 2 / 43. (3) كالعضدي، شرح مختصر الاصول / 205، في مسألة وقوع صيغة الامر بعد الحظر. (4) مفتاح العلوم (5) الفصول / 71، فصل: الحق أن هيئة… الخ. *
[ 78 ]
الماهية، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات، بل هو صيغة مثلها، كيف ؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى. إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام. قلت: مع أنه محل الخلاف، معناه أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي، ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي تناسبه، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه، بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل، فافهم. ثم المراد بالمرة والتكرار، هل هو الدفعة والدفعات ؟ أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول، وتوهم (1) أنه لو أريد بالمرة الفرد، لكان الانسب، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي، من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد ؟ أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها الدفعة، فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى، فاسد، لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.
(1) المتوهم هو صاحب الفصول، الفصول / 71. *
[ 79 ]
أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الامر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الامر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالافراد، فإنه مما يقومه. تنبيه: لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال، وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا، على أن يكون أيضا به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار، فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الاهمال أو الاجمال، فالمرجع هو الاصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا، لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى. والتحقيق: إن قضية الاطلاق إنما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الاتيان بها مرة ومرات، فإنه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر، فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الامر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتي به، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه، بل
[ 80 ]
مطلقا، كما كان له ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الاجزاء. المبحث التاسع: الحق أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور ولا على التراخي، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدها، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية. وفيه منع، ضرورة أن سياق آية (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (1) وكذا آية (فاستبقوا الخيرات) (2) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى. مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك، كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الاطاعة، فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها، ولو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الاوامر الارشادية، فافهم. تتمة: بناء على القول بالفور، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا، في الزمان الثاني، أو لا ؟ وجهان: مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة المطلوب أو تعدده، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو
(1) آل عمران: 133. (2) البقرة: 148، المائدة: 48. *
[ 81 ]
المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيدا. الفصل الثالث الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام، ينبغي تقديم أمور: أحدها: الظاهر أن المراد من (وجهه) – في العنوان – هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا، فإنه عليه يكون (على وجهه) قيدا توضيحيا، وهو بعيد، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناء على المختار، كما تقدم من أن قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا، لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب (1)، فإنه – مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات – لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى. ثانيها: الظاهر أن المراد من الاقتضاء – ها هنا – الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الطبيعة. إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر، كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره، بنحو يفيد الاجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده.
(1) من المتكلمين، وأشار إليه في مطارح الانظار / 19. *
[ 82 ]
قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما، إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه، وعدم دلالته ؟ ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا، بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلا كبرويا، لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض (1). فافهم. ثالثها: الظاهر أن الاجزاء – ها هنا – بمعناه لغة، وهو الكفاية (2)، وإن كان يختلف ما يكفي عنه، فإن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي، فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهري الجعلي، فيسقط به القضاء، لا أنه يكون – ها هنا – اصطلاحا، بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء، فإنه بعيد جدا. رابعها: الفرق (3) بين هذه المسألة، ومسألة المرة والتكرار، لا يكاد يخفى، فإن البحث – ها هنا – في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا، بخلافه في تلك المسألة، فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بدلالة أخرى. نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها، بخلاف هذه المسألة، فإنه – كما عرفت – في
(1) وهو القاضي عبد الجبار، راجع المعتمد 1 / 90. (2) اجزأ الشئ إياي: كفاني. القاموس المحيط 1 / 10 مادة الجزء. أجزأني الشئ: كفاني. مجمع البحرين 1 / 85 مادة جزأ. (3) راجع مطارح الانظار / 19. *
[ 83 ]
أن الاتيان بالمأمور به بجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء، أو لا يجزي، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا. إذا عرفت هذه الامور، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين: الاول: إن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي – بل (1) بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا – يجزي عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه، لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا، بدلا عن التعبد به أولا، لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة (2)، وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض، وإن كان وافيا به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعد، فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أهريق (3) الماء واطلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلا لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر، كما كان له قبل إتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض، فلا يبقى موضع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل، ويؤيد ذلك – بل يدل عليه – ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى
(1) في نسختي ” أ وب ” بل أو.. (2) راجع تنبيه المبحث الثامن من هذا الكتاب / 79. (3) في ” ب “: أهرق. *
[ 84 ]
جماعة (1)، وأن الله تعالى يختار أحبهما إليه. الموضع الثاني: وفيه مقامان: المقام الاول: في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة، وفي خارجه قضاء، أو لا يجزي ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء، وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه. فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار، وافيا بتمام المصلحة، وكافيا فيما هو المهم والغرض، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شئ أمكن استيقاؤه أو لا يمكن. وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى أنه إن كان وافيا به يجزي، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، لا قضاء ولا إعادة، وكذا لو لم يكن وافيا، ولكن لا يمكن تداركه، ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض، وتفويت مقدار من المصلحة، لو لا مراعاة ما هو فيه من الاهم، فافهم. لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لا مكان استيفاء الغرض بالقضاء.
(1) الكافي: 3 / 379، باب الرجل يصلي وحده من كتاب الصلاة. التهذيب: 3 / 269 الحديث 94، وصفحة 270 الحديث 95 إلى 98 الباب 25. الفقيه: 1 / 251. الحديث 41 إلى 43 من باب الجماعة وفضلها. *
[ 85 ]
فإنه يقال: هذا كذلك، لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاولى، فيدور مدار كون العمل – بمجرد الاضطرار مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار – ذا مصلحة ووافيا بالغرض. وإن لم يكن وافيا، وقد أمكن تدارك الباقي (1) في الوقت، أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي، بل لابد (2) من إيجاب الاعادة أو القضاء، وإلا فيجزي، ولا مانع عن البدار في الصورتين، غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين: العمل الاضطراري في هذا الحال، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار، والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يجزي البدار ويستحب الاعادة بعد طرو الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله، مثل قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (3) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين) (4) و: (يكفيك عشر سنين) (5) هو الاجزاء، وعدم وجوب الاعادة أو القضاء، ولا بد في إيجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص. وبالجملة: فالمتبع هو الاطلاق لو كان، وإلا فالاصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الاعادة، لكونه شكا في أصل التكليف، وكذا عن إيجاب
(1) في ” ب “: ما بقي منه. (2) في ” أ “: ولابد. (3) النساء: 43، المائدة: 6. (4) التهذيب: 1 / 196 – 197، 200 باب التيمم وأحكامه. الكافي: 3 / 64. باب الوقت الذي يوجب التيمم، مع اختلاف في الالفاظ. (5) التهذيب: 1 / 194، الحديث 35، التيمم وأحكامه، وصفحة 199، الحديث 52. *
[ 86 ]
القضاء بطريق أولى، نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع، ولو لم يكن هو فريضة، كان القضاء واجبا عليه، لتحقق سببه، وإن أتى بالفرض لكنه مجرد الفرض. المقام الثاني: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري وعدمه. والتحقيق: إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه، وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل واستصحابهما في وجه قوي، ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجري، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط، ومبينا لدائرة الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا، كما هو لسان الامارات، فلا يجزي، فإن دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقدا (1). هذا على ما هو الاظهر الاقوى في الطرق والامارات، من أن حجيتها ليست بنحو السببية، وأما بناء عليها، وأن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد له، مع كونه فاقده، فيجزي لو كان الفاقد معه – في هذا الحال – كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي – إن وجب – وإلا لاستحب. هذا مع إمكان استيفائه، وإلا فلا مجال لاتيانه، كما عرفت في الامر الاضطراري.
(1) في ” أ وب “: فاقد. *
[ 87 ]
ولا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية – على هذا – هو الاجتزاء بموافقته أيضا، هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية، أي بنحو الموضوعية والسببية، وأما إذا شك [ فيها ] (1) ولم يحرز أنها على أي الوجهين، فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للاعادة في الوقت، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا، إلا على القول بالاصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي. وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، وشك في أنه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الاولي، كما في الاوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية، فقضية الاصل فيها – كما أشرنا إليه – عدم وجوب الاعادة، للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف. وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد، وكان الفوت المعلق عليه وجوب لا يثبت بأصالة عدم الاتيان، إلا على القول بالاصل المثبت، وإلا فهو واجب، كما لا يخفى على المتأمل، فتأمل جيدا. ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف، من الامارات الشرعية والاصول العملية، وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف، كما إذا قام الطريق أو الاصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لاجزائها مطلقا، غاية الامر أن تصير صلاة الجمعة فيها – أيضا – ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة، كما لا يخفى، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
(1) أثبتناها من ” أ “. *
[ 88 ]
تذنيبان: الاول: لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ، فإنه لا يكون موافقة للامر فيها، وبقي الامر بلا موافقة أصلا، وهو أوضح من أن يخفى، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي، وهكذا الحال في الطرق، فالاجزاء ليس لاجل اقتضاء امتثال الامر القطعي أو الطريقي للاجزاء – بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الاتمام والقصر، والاخفات والجهر. الثاني: لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الاصول والطرق والامارات، على ما عرفت تفصيله، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها، فإن الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، ليس إلا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات، وإنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي، وهو منفي في غير موارد الاصابة، وإن لم نقل بالاجزاء، فلا فرق بين الاجزاء وعدمه، إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الاصابة، وسقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه، وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الامارة، كيف ؟ وكان الجهل بها – بخصوصيتها أو بحكمها – مأخوذا في موضوعها، فلابد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها، كما لا يخفى.
[ 89 ]
فصل في مقدمة الواجب وقبل الخوض في المقصود، ينبغي رسم أمور: الاول: الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة، البحث عن الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية، لا عن نفس وجوبها، كما هو المتوهم من بعض العناوين (1)، كي تكون فرعية، وذلك لوضوح أن البحث كذلك لا يناسب الاصولي، والاستطراد لا وجه له، بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الاصولية. ثم الظاهر أيضا أن المسألة عقلية، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظية كما ربما يظهر من صاحب المعالم (2)، حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الالفاظ، ضرورة (3) أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته ثبوتا محل الاشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الاثبات والدلالة عليها بأحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى. الامر الثاني: إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات: منها: تقسيمها إلى داخلية وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها، والخارجية وهي الامور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه.
(1) كما في حاشية القزويني (ره) على القوانين. وربما يتوهم من عنوان البدائع، البدائع / 296 عند قوله أحدهما… في آخر الصفحة. (2) معالم الدين في الاصول / 61، في مقدمة الواجب. (3) اشارة إلى ما اورده صاحب التقريرات على صاحب المعالم مطارح الانظار / 37، في مقدمة الواجب. *
[ 90 ]
وربما يشكل (1) في كون الاجزاء مقدمة له وسابقة عليه، بأن المركب ليس إلا نفس الاجزاء بأسرها. والحل: إن المقدمة هي نفس الاجزاء بالاسر، وذو المقدمة هو الاجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما، وبذلك ظهر أنه لابد في اعتبار الجزئية أخذ الشئ بلا شرط، كما لابد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع. وكون الاجزاء الخارجية كالهيولى والصورة، هي الماهية المأخوذة بشرط لا ينافي ذلك، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الاجزاء الخارجية والتحليلية، من الجنس والفصل، وأن الماهية إذا أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا، لا بالاضافة إلى المركب، فافهم. ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع، كما صرح به بعض (2) وذلك لما عرفت من كون الاجزاء بالاسر عين المأمور به ذاتا، وإنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا، فتكون واجبة بعين وجوبه، ومبعوثا إليها بنفس الامر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلين، ولو قيل بكفاية تعدد الجهة، وجواز اجتماع الامر والنهي معه، لعدم تعددها ها هنا، لان الواجب بالوجوب الغيري، لو كان إنما هو نفس الاجزاء، لا عنوان مقدميتها والتوسل بها إلى المركب المأمور به، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة، لانه المتوقف عليه، لا عنوانها، نعم يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.
(1) هو المحقق صاحب حاشية المعالم. (2) وهو سلطان العلماء كما في بدائع الافكار / 299. *
[ 91 ]
فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري، باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري، اللهم إلا أن يريد أن فيه ملاك الوجوبين، وإن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه، فتأمل (1). هذا كله في المقدمة الداخلية، وأما المقدمة الخارجية، فهي ما كان خارجا عن المأمور به، وكان له دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه، وقد ذكر لها أقسام، وأطيل الكلام في تحديدها بالنقض والابرام، إلا أنه غير مهم في المقام. ومنها: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية: فالعقلية هي (2) ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه. والشرعية على ما قيل: ما استحيل وجوده بدونه شرعا، ولكنه لا يخفى رجوع الشرعية إلى العقلية، ضرورة أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا، إلا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده، يكون عقليا. وأما العادية، فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة، بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها، إلا أن العادة جرت على الاتيان به بواسطتها، فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقلية، إلا أنه لا ينبغي توهم دخولها في محل
(1) وجهه: إنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري، حيث أنه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل يتوقف على وجوده، وبدونه لا وجه لكونه مقدمة، كي يجب بوجوبه أصلا، كما لا يخفى. وبالجملة: لا يكاد يجدي تعدد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الاجزاء والكل في هذا الباب، وحصول ملاك وجوب الغيري المترشح من وجوب ذي المقدمة عليها، لو قيل بوجوبها، فافهم (منه قدس سره). (2) في ” أ وب ” فهي. *
[ 92 ]
النزاع، وإن كانت بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلا واقعيا، كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح، إلا أنه لاجل عدم التمكن من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا، وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا، فافهم. ومنها: تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة الوجوب، ومقدمة العلم. لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، ولو على القول بكون الاسامي موضوعة للاعم، ضرورة أن الكلام في مقدمة الواجب، لا في مقدمة المسمى بأحدها، كما لا يخفى. ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، وكذلك المقدمة العلمية، وإن استقل العقل بوجوبها، إلا أنه من باب وجوب الاطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز، لا مولويا من باب الملازمة، وترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة. ومنها: تقسيمها إلى المتقدم، والمقارن، والمتأخر، بحسب الوجود بالاضافة إلى ذي المقدمة، وحيث أنها كانت من أجزاء العلة، ولا بد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول أشكل الامر في المقدمة المتأخرة، كالاغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض، والاجازة في صحة العقد على الكشف كذلك، بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم حينه، كالعقد في الوصية والصرف والسلم، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه، لتصرمها حين تأثيره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في
[ 93 ]
الشرعيات – كما اشتهر في الالسنة – بل يعم الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين الاثر. والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها، لا يخلو إما يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، أو الوضع، أو المأمور به. أما الاول: فكون أحدهما شرطا له، ليس إلا أن للحاظه دخل في تكليف الامر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلا أن لتصوره دخلا في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الامر، كذلك المتقدم أو المتأخر. وبالجملة: حيث كان الامر من الافعال الاختيارية، كان من مبادئه بما هو كذلك تصور الشئ بأطرافه، ليرغب في طلبه والامر به، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره، فيسمى كل واحد من هذه الاطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا، لاجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارنا له أو لم يكن كذلك، متقدما أو متأخرا، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا، كان فيهما كذلك، فلا إشكال، وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا، فإن دخل شئ في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره ولحاظه وهو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن ؟ فتأمل تعرف. وأما الثاني: فكون شئ شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصل لذات المأمور به بالاضافة إليه وجه وعنوان، به يكون حسنا أو متعلقا للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات، مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه، والاضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شئ إلى مقارن له موجبا لكونه
[ 94 ]
معنونا بعنوان، يكون بذلك العنوان حسناو متعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى متأخر أو متقدم، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا، فلو لا حدوث المتأخر في محله، لما كانت للمتقدم تلك الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والامر به، كما هو الحال في المقارن أيضا، ولذلك أطلق عليه الشرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلا، لان المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلا طرف الاضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حقق في محله أنه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنها تكون بالاضافات. فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر، وقد عرفت أن إطلاقه عليه فيه، كإطلاقه على المقارن، إنما يكون لاجل كونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه، الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا، كما كان في الحكم لاجل دخل تصوره فيه، كدخل تصور سائر الاطراف والحدود، التي لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صح عنده الوضع. وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الاشكال، في بعض فوائدنا (1)، ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم، فافهم واغتنم. ولا يخفى أنها بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، وبناء على الملازمة يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق، إذ بدونه لا تكاد تحصل الموافقة، ويكون سقوط الامر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه، فلولا اغتسالها في الليل – على القول بالاشتراط – لما صح الصوم في اليوم. الامر الثالث: في تقسيمات الواجب منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط، وقد ذكر لكل منهما تعريفات
(1) تعليقة المصنف على فرائد الاصول، كتاب الفوائد / 302، فائدة في تقدم الشرط على المشروط. *
[ 95 ]
وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربما أطيل الكلام بالنقض والابرام (1) في النقض على الطرد والعكس، مع أنها – كما لا يخفى – تعريفات لفظية لشرح الاسم، وليست بالحد ولا بالرسم، والظاهر أنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كل منهما بما له من معناه العرفي، كما أن الظاهر أن وصفي الاطلاق والاشتراط، وصفان إضافيان لا حقيقيان، وإلا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الامور، لا أقل من الشرائط العامة، كالبلوغ والعقل. فالحري أن يقال: إن الواجب مع كل شئ يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروط به، فهو مطلق بالاضافة إليه، وإلا فمشروط كذلك، وإن كانا بالقياس إلى شئ آخر كانا بالعكس. ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة، ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر خطاب (إن جاءك زيد فأكرمه) كون الشرط من قيود الهيئة، وأن طلب الاكرام وإيجابه معلق على المجئ، لا أن الواجب فيه يكون مقيدا به، بحيث يكون الطلب والايجاب في الخطاب فعليا ومطلقا، وإنما الواجب يكون خاصا ومقيدا، وهو الاكرام على تقدير المجئ، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة (2) أعلى الله مقامه، مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة
(1) مطارح الانظار / 43، الفصول / 79، هداية المسترشدين / 192، قوانين الاصول 1 / 100، البدائع / 304. (2) مطارح الانظار / 45 – 46 و 52، في مقدمة الواجب. هو الشيخ مرتضى بن محمد امين الدزفولي الانصاري النجفي، ولد في دزفول 1214، قرأ أوائل أمره على عمه الشيخ حسين ثم خرج مع والده إلى زيارة مشاهد العراق وهو في العشرين من عمره، بقي في كربلاء آخذا عن الاستاذين السيد محمد مجاهد وشريف العلماء أربع = *
[ 96 ]
واقعا، ولزوم كونه من قيود المادة لبا، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهرا. أما امتناع كونه من قيود الهيئة، فلانه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة، حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة، فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة. وأما لزوم كونه من قيود المادة لبا، فلان العاقل إذا توجه إلى شئ والتفت إليه، فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلا، لا كلام على الثاني. وعلى الاول: فإما أن يكون ذاك الشئ موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاص، وذلك التقدير، تارة يكون من الامور الاختيارية، وأخرى لا يكون كذلك، وما كان من الامور الاختيارية، قد يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف، وقد لا يكون كذلك، على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه والامر به، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعية، كما لا يخفى، هذا موافق لما أفاده بعض الافاضل (1) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت، ولا يخفى ما فيه.
= سنوات، ثم عاد إلى وطنه، ثم رجع إلى العراق واخذ من الشيخ موسى الجعفري سنتين، عزم زيارة مشهد خراسان مارا في طريقه على كاشان، فاز بلقاء استاذه النراقي مما دعاه إلى الاقامة فيها نحو ثلاث سنين، ورد دزفول سنة 1214 ثم عاد إلى النجف الاشرف سنة 1249 فاختلف إلى مدرسة الشيخ علي بن الشيخ جعفر، ثم انتقل بالتدريس والتاليف، ووضع اساس علم الاصول الحديث، تخرج عليه الميرزا الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي وغيرهما له مؤلفات منها ” الرسائل ” في الاصول و ” المكاسب ” انتهت إليه رئاسة الامامية. توفي في 18 جمادي الاخرة سنة 1281 ودفن في المشهد الغروي (اعيان الشيعة 10 / 117). (1) هو العلامة الميرزا أبو القاسم النوري (ره)، على ما في مطارح الانظار، كما تقدم آنفا.
[ 97 ]
أما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة، فقد حققناه سابقا (1)، إن كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها، وإنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء، وإنما الفرق بينهما أنها وضعت لتستعمل وقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخصات الاستعمال، كما لا يخفى على أولي الدراية والنهى. فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق، قابل لان يقيد، مع أنه لو سلم أنه فرد، فانما يمنع عن التقيد لو أنشئ أولا غير مقيد، لا ما إذا أنشئ من الاول مقيدا، غاية الامر قد دل عليه بدالين، وهو غير إنشائه أولا ثم تقييده ثانيا، فافهم. فإن قلت: على ذلك، يلزم تفكيك الانشاء من المنشأ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط. قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله، فلابد أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث، وإلا لتخلف عن إنشائه، وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمل جيدا. وأما حديث (2) لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا ففيه: إن الشئ إذا توجه إليه، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا، لعدم مانع عن طلبه كذلك، يمكن أن يبعث إليه معلقا، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لاجل مانع عن الطلب
(1) راجع صفحة 11 و 12 من هذا الكتاب، الامر الثاني في تعريف الوضع. (2) هذه هي الدعوى الايجابية التي ادعاها الشيخ (قده)، من رجوع الشرط إلى المادة لبا. مطارح الانظار / 52، في مقدمة الواجب. *
[ 98 ]
والبعث فعلا قبل حصوله، فلا يصح منه إلا الطلب والبعث معلقا بحصوله، لا مطلقا ولو متعلقا بذاك على التقدير، فيصح منه طلب الاكرام بعد مجئ زيد، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيد بالمجئ، هذا بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح. وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور به، والمنهي عنه فكذلك، ضرورة أن التبعية كذلك، إنما تكون في الاحكام الواقعية بما هي واقعية، لا بما هي فعلية، فإن المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز، كما في موارد الاصول والامارات على خلافها، وفي بعض الاحكام في أول البعثة، بل إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه، مع أن حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الاحكام باقيا مر الليالي والايام، إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع (1) الظلام، كما يظهر من الاخبار المروية (2) عن الائمة (عليهم السلام). فان قلت: فما فائدة الانشاء ؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا، وبعثا حاليا. قلت: كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط، بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب كذلك للايجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثا فعليا بالاضافة إليه، وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد له، فافهم وتأمل جيدا.
(1) في ” ب “: (وارتفع الظلام). (2) الكافي: 1، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس الحديث 19. الكافي: 2 كتاب الايمان والكفر، باب الشرائع، الحديث 2 مع اختلاف يسير. *
[ 99 ]
ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط، في محل النزاع (1) أيضا، فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق، غاية الامر تكون في الاطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب الملازمة. وأما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه مما لا شبهة فيه، ولا ارتياب: أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور، لكونه مقدمة وجوبية لا وأما على المختار لشيخنا العلامة (2) – أعلى الله مقامه – فلانه وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب، إلا أنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه، فانه جعل الشئ واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلق به الطلب ؟ وهل هو إلا طلب الحاصل ؟ نعم على مختاره – قدس سره – لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه، لتعلق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال، وذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي، والواجب إنما هو استقبالي، كما يأتي في الواجب المعلق (3)، فإن الواجب المشروط على مختاره، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول (4) من المعلق، فلا تغفل. هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات، وأما المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها، حتى في الواجب المشروط – بالمعنى المختار – قبل حصول شرطه، لكنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الانام بمجرد قيام
(1) كما في مطارح الانظار / 44. (2) من رجوع الشرط إلى المادة لبا، مطارح الانظار / 45 – 46 و 52، في مقدمة الواجب. (3) سيأتي في الصفحة 103 من هذا الكتاب، عند قوله: وربما أشكل… الخ. (4) الفصول / 79 في آخر الصفحة. *
[ 100 ]
احتمالها، إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده بالبراءة، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان، والمؤاخذة عليها بلا برهان، فافهم. تذنيب: لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك على الحقيقة على مختاره (1) – قدس سره – في الواجب المشروط، لان الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه، إلا أن تلبسه بالوجوب في الحال، ومجاز على المختار، حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله، كما عن البهائي (2) (رحمه الله) تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط، بعلاقة الاول أو المشارفة. وأما الصيغة مع الشرط، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على مختاره (3) – قدس سره – في الطلب المطلق، وعلى المختار في الطلب المقيد، على نحو تعدد الدال والمدلول، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد، لا المبهم المقسم، فافهم. ومنها: تقسيمه إلى المعلق والمنجز، قال في الفصول (4): إنه ينقسم
(1) مطارح الانظار / 45 – 46 و 52 في مقدمة الواجب. (2) زبدة الاصول / 46 مخطوط. هو بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي، ولد في بعلبك عام 953 ه، انتقل به والده وهو صغير إلى الديار العجمية، أخذ عن والده وغيره من الجهابذة، ولي بها شيخ الاسلام، ثم أخذ في السياحة ثلاثين سنة، واجتمع في أثناء ذلك بكثير من أرباب الفضل، ثم عاد وقطن بأرض العجم، له كتب كثيرة منها ” الحبل المتين ” و ” الزبدة ” في الاصول و ” حاشية الشرح العضدي على مختصر الاصول ” وغيرها، له شعر كثير بالعربية والفارسية. قال تلميذه العلامة المولى محمد تقي المجلسي: ما رأيت بكثرة علومه ووفور فضله وعلو مرتبته أحدا، توفي سنة 1031. (أمل الآمل 1 / 155 رقم 158) (3) راجع المصدر المتقدم في هامش رقم (1). (4) الفصول / 79 آخر الصفحة. *
[ 101 ]
باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، كالمعرفة، وليسم منجزا، وإلى ما يتعلق وجوبه به، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسم معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة، أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله على مجئ وقته، وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب، وهنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه. لا يخفى أن شيخنا العلامة – أعلى الله مقامه – حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك، أي إثباتا وثبوتا، على خلاف القواعد العربية وظاهر المشهور، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي، أنكر (1) على الفصول هذا التقسيم، ضرورة أن المعلق بما فسره، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول، كان هو المعلق المقابل للمشروط. ومن ها انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط، بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور، والقواعد العربية، لا الواجب المعلق بالتفسير المذكور. وحيث قد عرفت – بما لا مزيد عليه – امكان رجوع الشرط إلى الهيئة، كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد، فلا يكون مجال لانكاره عليه. نعم يمكن أن يقال: إنه لا وقع لهذا التقسيم، لانه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصية (2) كونه حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم
(1) مطارح الانظار 51 – 52. في الهداية 6 من القول في وجوب مقدمة الواجب. (2) وفي ” ب “: خصوصيته. *
[ 102 ]
توجب الاختلاف في المهم، وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات، ولا اختلاف فيه، فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا – كما يأتي – إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته، لا من استقبالية الواجب، فافهم. ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر (1) من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق، وهو أن الطلب والايجاب، إنما يكون بأزاء الارادة المحركة للعضلات نحو المراد، فكما لا تكاد تكون الارادة منفكة عن المراد، فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي ؟ فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر. قلت: فيه أن الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات – فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة – ليس إلا لاجل تعلق إرادته به، وكونه مريدا له قاصدا إياه، لا يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك، ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد، وتوهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد، وقد غفل عن أن كونه (2) محركا نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه مما لا مؤونة له كحركة نفس العضلات، أو مما له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له، والجامع أن يكون نحو المقصود، بل مرادهم من هذا الوصف – في تعريف الارادة – بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الارادة، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة، ضرورة أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق
(1) هو المحقق النهاوندي، تشريح الاصول. (2) والصحيح ” كونها “. *
[ 103 ]
المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي، محتاج إلى ذلك. هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة أن البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلا بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقصره، فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب، ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، والاطناب إنما هو لاجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب. وربما أشكل على المعلق أيضا، بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث، مع أنها من الشرائط العامة. وفيه: إن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه، لا في زمان الايجاب والتكليف، غاية الامر يكون من باب الشرط المتأخر، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا، فراجع. ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر، أخذ على نحو يكون موردا للتكليف، ويترشح عليه الوجوب من الواجب، أو لا، لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق، دون المشروط، لثبوت الوجوب الحالي فيه، فيترشح منه الوجوب على المقدمة، بناء على الملازمة، دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط. نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر، وفرض وجوده، كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا، وليس الفرق بينه وبين المعلق حينئذ إلا كونه مرتبطا
[ 104 ]
بالشرط، بخلافه، وإن ارتبط به الواجب. تنبيه: قد انقدح – من مطاوي ما ذكرناه – أن المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها، هو فعلية وجوب ذيها، ولو كان أمرا استقباليا، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا، أو مطلقا، منجزا كان أو معلقا، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف، كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله، وتقدير وجوده – بلا اختيار أو باختياره – موردا للتكليف، ضرورة أنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا، لا يكاد يكون هناك وجوب إلا بعد حصوله، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به، فافهم. إذا عرفت ذلك، فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا في لزوم الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه، فيما كان وجوبه حاليا مطلقا، ولو كان مشروطا بشرط متأخر، كان معلوم الوجود فيما بعد، كما لا يخفى، ضرورة فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته، فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، وإنما اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به، بل لزوم الاتيان بها عقلا، ولو لم نقل بالملازمة، لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان، كالاتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه. فانقدح بذلك: أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق، أو بما يرجع إليه، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.
[ 105 ]
فانقدح بذلك: أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره مما وجب عليه الصوم في الغد، إذ يكشف به بطريق الان عن سبق وجوب الواجب، و إنما المتأخر هو زمان إتيانه، ولا محذور فيه أصلا، ولو فرض العلم بعدم سبقه، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري، فلو نهض دليل على وجوبها، فلا محالة يكون وجوبها نفسيا [ ولو ] (1) تهيؤا، ليتهيأ بإتيانها، ويستعد لايجاب ذي المقدمة عليه، فلا محذور أيضا. إن قلت: لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعا، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر. قلت: لا محيص عنه، إلا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة، وهي القدرة عليه بعد مجئ زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه، فتدبر جدا. تتمة: قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل، وكونه موردا للتكليف وعدمه، فإن علم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة، نحو الشرط المتأخر أو المقارن، وأن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أولا يجب، فإن كان في مقام الاثبات ما يعين حاله، وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية فهو، وإلا فالمرجع هو الاصول العملية. وربما قيل (2) في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة، بترجيح الاطلاق في طرف الهيئة، وتقييد المادة، بوجهين:
(1) أثبتناها من ” أ “. (2) راجع مطارح الانظار / 49 الهداية 5 من القول بوجوب المقدمة، في الوجه الخامس. *
[ 106 ]
أحدهما: إن إطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام لافراده، فإن وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق، يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة. ثانيهما: إن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة ويرتفع به مورده، بخلاف العكس، وكلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى. أما الصغرى، فلاجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لاطلاق المادة، لانها لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادة، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه. وأما الكبرى، فلان التقييد وإن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الاصل، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الاثر، وبطلان العمل به. وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الاستاذ العلامة أعلى الله مقامه، و أنت خبير بما فيهما. أما في الاول: فلان مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة، إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لانه أيضا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة، غاية الامر أنه تارة يقتضي العموم الشمولي، وأخرى البدلي، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا، كما لا يخفى. وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لاجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شموليا، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة، فيكون العام أظهر منه، فيقدم عليه، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول، لكان العام
[ 107 ]
يقدم بلا كلام. وأما في الثاني: فلان التقييد وإن كان خلاف الاصل، إلا أن العمل الي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة، وانتفاء بعض مقدماته، لا يكون على خلاف الاصل أصلا، إذ معه لا يكون هناك إطلاق، كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل. وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الاصل، إلا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الاثر، وبطلان العمل بإطلاق المطلق، مشاركا معه في خلاف الاصل أيضا. وكأنه توهم: أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت، ورفع اليد عن العمل به، تارة لاجل التقييد، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به، وهو فاسد، لانه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدمات. نعم إذا كان التقييد بمنفصل، ودار الامر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال، حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة، فتأمل. ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري، وحيث كان طلب شئ وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب، لا يكاد التوصل بدونه إليه، لتوقفه عليه، فالواجب غيري، وإلا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه، كالمعرفة بالله، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات. هذا، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك – أي بما له من الفائدة المترتبة عليه – كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة.
[ 108 ]
فإن قلت: نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما، إلا أنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الافعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف، لما كاد يتعلق بها الايجاب. قلت: بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة على السبب قدرة على المسبب، وهو واضح، وإلا لما صح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق.. إلى غير ذلك من المسببات، موردا لحكم من الاحكام التكليفية. فالاولى أن يقال: إن الاثر المترتب عليه وإن كان لازما، إلا أن ذا الاثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، بل ويذم تاركه، صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك، ولا ينافيه كونه مقدمة لامر مطلوب واقعا، بخلاف الواجب الغيري، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه، إلا أنه لا دخل له في إيجابه الغيري، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لاجل غيره، فلا يتوجه عليه بأن جل الواجبات – لو لا الكل – يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فإن المطلوب النفسي قلما يوجد في الاوامر، فإن جلها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها، فتأمل. ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين، وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري، فالتحقيق أن الهيئة، وإن كانت موضوعة لما يعمهما، إلا أن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم. وأما ما قيل (1) من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة، لدفع الشك
(1) مطارح الانظار / 67 في الهداية 11 من القول بوجوب المقدمة. *
[ 109 ]
المذكور، بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد، نعم لو كان مفاد الامر هو مفهوم الطلب، صح القول بالاطلاق، لكنه بمراحل من الواقع، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الامر، ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الارادة وحقيقتها، لا بواسطة مفهومها، وذلك واضح لا يعتريه ريب. ففيه: إن مفاد الهيئة – كما مرت الاشارة إليه – ليس الافراد، بل هو مفهوم الطلب، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف (1)، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي، والذي يكون بالحمل الشائع طلبا، وإلا لما صح إنشاؤه بها، ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الاسباب الخاصة. نعم ربما يكون هو السبب لانشائه، كما يكون غيره أحيانا. واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والارادة الحقيقية – الداعية إلى إيقاع طلبه، وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي – لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا، والوجود الانشائي لكل شئ ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر. ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا، يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع، ولعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له، وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا، وعدم تقييده بالانشائي لوضوح إرادة
(1) باعتبار أن الهيئة ملحقة بالحروف، راجع صفحة 11 من هذا الكتاب. *
[ 110 ]
خصوصه، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى. فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، كما مر هاهنا بعض الكلام، وقد تقدم (1) في مسألة اتحاد الطلب والارادة ما يجدي [ في ] المقام. هذا إذا كان هناك إطلاق، وأما إذا لم يكن، فلابد من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا، للعلم بوجوبه فعلا، وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلا فلا، لصيرورة الشك فيه بدويا، كما لا يخفى. تذنيبان الاول: لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا، وأما استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته، ففيه إشكال، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته، بما هو موافقة ومخالفة، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد، أو لثواب كذلك، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات. نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة، وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الاعمال، حيث صار أشقها، وعليه ينزل ما ورد في الاخبار (2) من الثواب على المقدمات، أو على التفضل فتأمل جيدا، وذلك لبداهة أن موافقة الامر الغيري – بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الامر النفسي – لا توجب قربا، ولا مخالفته – بما هو كذلك – بعدا، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات القرب والبعد.
(1) راجع صفحة 64 من الكتاب، الجهة الرابعة (في بحث الطلب والارادة). (2) كامل الزيارات / 133، فيما ورد في زيارة أبي عبدالله، من أنه لكل قدم ثواب كذا. *
[ 111 ]
إشكال ودفع: أما الاول: فهو أنه إذا كان الامر الغيري بما هو لا إطاعة له، ولا قرب في موافقته، ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدمات ؟ كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الاطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها، هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا، وقد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة. وأما الثاني: فالتحقيق أن يقال: إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة، وغاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات، فلا بد أن يؤتى بها عبادة، وإلا فلم يؤت بما هو مقدمة لها، فقصد القربة فيها إنما هو لاجل كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفيسة، لا لكونها مطلوبات غيرية والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنما هو لاجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث أنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة، فافهم. وقد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين (1): أحدهما ما ملخصه: إن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها، من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف عليه، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها ليس لاجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك، بل إنما كان لاجل إحراز نفس العنوان، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها. وفيه: مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك، لا مكان الاشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر، ولو
(1) مطارح الانظار / 71 في تنبيهات الهداية 12 من القول في وجوب مقدمة الواجب. *
[ 112 ]
بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها، غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، كما لا يخفى. ثانيهما: ما محصله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنما يكون لاجل أن الغرض من الامر النفسي بغاياتها، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك، لا باقتضاء أمرها الغيري. وبالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة، إنما هو لاجل أن الغرض في الغايات، لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا، بقصد الاطاعة. وفيه أيضا: إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، وأما ما ربما قيل (1) في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات، من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلقا بذات العمل، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الاول، لا يكاد يجزي في تصحيح اعتبارها في الطهارات، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الامر بالغايات، فمن أين يجئ طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها، ليتمكن به من المقدمة في الخارج. هذا مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا، فتذكر. الثاني: إنه قد انقدح مما هو التحقيق، في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها، نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري، لكان قصد الغاية مما لابد منه في وقوعها صحيحة، فان الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد
(1) مطارح الانظار / 71، في تنبيهات الهداية 12. *
[ 113 ]
التوصل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة، ولو لم يقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا. وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة، لا ما توهم (1) من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها، فإنه فاسد جدا، ضرورة أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب، ولا بالحمل الشائع مقدمة له، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الاولية، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها. الامر الرابع: لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة، يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا، ولا يكون مشروطا بإرادته، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (2) (رحمه الله) في بحث الضد، قال: وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا على الوجوب، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وأنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.
(1) مطارح الانظار / 72. (2) معالم الدين / 74، في آخر مبحث الضد. هو الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن الشيخ زين الدين، ولد سنة 959 ه، كان عالما فاضلا عاملا جامعا للفنون، اعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال، يروي عن جماعة من تلامذة أبيه، منهم الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي، له كتب ورسائل منها ” منتقى الجمان في الاحاديث الصحاح والحسان ” و ” معالم الدين وملاذ المجتهدين ” توفي سنة 1011 ه. (أمل الآمل 1 / 57 رقم 45). *
[ 114 ]
وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة ؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة – أعلى الله مقامه – بعض أفاضل (1) مقرري بحثه، أو ترتب ذي المقدمة عليها ؟ بحيث لو لم يترتب عليها لكشف (2) عن عدم وقوعها على صفة الوجوب، كما زعمه صاحب الفصول (3) (قدس سره) أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شئ منهما. الظاهر عدم الاعتبار: أما عدم اعتبار قصد التوصل، فلاجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لاجل المقدمية والتوقف، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح، ولذا اعترف (4) بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية، لحصول ذات الواجب، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص، فافهم. نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت (5) من انه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لامرها، وآخذا في امتثال الامر بذيها، فيثاب بثواب أشق الاعمال، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب، ولو لم يقصد به التوصل، كسائر الواجبات التوصلية، لا على حكمه السابق الثابث له، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما، وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية، غاية الامر يكون حينئذ متجرئا فيه، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.
(1) مطارح الانظار / 72. (2) في ” ب “: يكشف. (3) الفصول / 86، في مقدمة الواجب. (4) مطارح الانظار / 72. (5) راجع صفحة 112. *
[ 115 ]
وأما إذا قصده، ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي، بل بداع آخر أكده بقصد التوصل، فلا يكون متجرئا أصلا. وبالجملة: يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب، لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا، وإلا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به، كما لا يخفى. ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب، مع أنه ليس بواجب، وذلك لان الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب، لكونه كغيره في حصول الغرض به، بلا تفاوت أصلا، إلا أنه لاجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب، وهذا بخلاف [ ما ] ها هنا، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض، فلابد أن يقع على صفة الوجوب مثله، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، وإلا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة، والتالي باطل بداهة، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا، وانتظر لذلك تتمة (1) توضيح. والعجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة، واعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، على ما حرره بعض مقرري (2) بحثه (قدس سره) بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك، فراجع تمام كلامه زيد في علو مقامه، وتأمل في نقضه وإبرامه. وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه
(1) في ” ب “: جهة. (2) راجع مطارح الانظار / 74 و 75 في المقدمة الموصلة. *
[ 116 ]
والباعث على طلبه، وليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من فائدته وأثره، ولا يترتب على المقدمة إلا ذلك، ولا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب، وما لا يترتب عليه أصلا، وأنه لا محالة يترتب عليهما، كما لا يخفى. وأما ترتب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات، فإن الواجب إلا ما قل في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري، يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته، وأخرى عدم إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته، مع عدم ترتبه على تمامها (1)، فضلا عن كل واحدة منها ؟ نعم فيما كان الواجب من الافعال التسبيبية والتوليدية، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته، لعدم تخلف المعلول عن علته. ومن هنا [ قد ] انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة، يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية. فإن قلت: ما من واجب إلا وله علة تامة، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص. قلت: نعم وإن استحال صدور الممكن بلا علة، إلا أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها
(1) في ” ب “: عامها. (2) أثبتناها من ” ب “. *
[ 117 ]
بالاختيار، وإلا لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمل، ولانه لو كان معتبرا فيه الترتب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها، من دون انتظار لترتب الواجب عليها، بحيث لا يبقى في البين إلا طلبه وإيجابه، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته (1)، أو كانت حاصلة من الاول قبل إيجابه، مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف، كما في سقوط الامر بالكفن أو الدفن، بسبب غرق الميت احيانا أو حرقه، ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة. إن قلت: كما يسقط الامر في تلك الامور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير، أو المحرمات. قلت: نعم، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض، من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع، وهو كونه بالفعل محرما، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا، فيكف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر ؟ وقد استدل صاحب الفصول (2) على ما ذهب إليه بوجوه، حيث قال بعد بيان أن التوصل بها إلى الواجب، من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب، ما هذا لفظه: (والذي يدلك على هذا – يعني الاشتراط بالتوصل – أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور، وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أريد الحج، وأريد المسير الذي
(1) في ” ب “: بمقدمة. (2) الفصول / 86. في التنبيه الاول من تنبيهات مقدمة الواجب. *
[ 118 ]
يتوصل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الامر بمثل ذلك، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا، أو على تقدير التوصل بها إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه، وأيضا حيث أن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله، فلاجرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شئ آخر، لا يريده إذا وقع مجردا عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله). انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه. وقد عرفت بما لا مزيد عليه، أن العقل الحاكم بالملازمة دل على وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة، لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها، وعدم اختصاصه بالمقيد بذلك منها. وقد انقدح منه، أنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح، وأن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه (1) مجازفة، كيف يكون ذا مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا ؟ كما عرفت. نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما، وعدم حصوله في الاخرى، من دون دخل لها في ذلك أصلا، بل كان بحسن اختيار المكلف وسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما، وعدم حصوله في الاخرى، [ بل من ] (2) حيث أن الملحوظ بالذات هو
(1) ادعاه صاحب الفصول، حيث قال: ولا يأبى أن يقول الآمر الحكيم.. الخ… / الفصول / 86. (2) أثبتناها من ” أ “. *
[ 119 ]
هذا المطلوب، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة، فضلا عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها، كما لا يخفى، فافهم. إن قلت: لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الاخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها، وجواز التصريح بهما، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الاثر، كما مر. قلت: إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما، لو كان ذلك لاجل تفاوت في ناحية المقدمة، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا – كما هاهنا – ضرورة أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب، وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها، وكونه في كلا الصورتين على نحو واحد وخصوصية واحدة، ضرورة أن الاتيان بالواجب بعد الاتيان بها بالاختيار تارة، وعدم الاتيان به كذلك أخرى، لا يوجب تفاوتا فيها، كما لا يخفى. وأما ما أفاده (1) (قدس سره) من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد التوصل بها، فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها. ففيه: إنه إنما كانت مطلوبيتها لاجل عدم التمكن من التوصل بدونها، لا لاجل التوصل بها، لما عرفت من أنه ليس من آثارها، بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى، وهي مبادئ اختياره، ولا يكاد يكون مثل ذا غاية لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها، وصريح الوجدان إنما يقتضي بأن ما أريد لاجل غاية، وتجرد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ماله دخل في حصولها،
(1) الفصول / 86، في تنبيهات مقدمة الواجب. *
[ 120 ]
يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، كيف ؟ وإلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده، ومقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها. وهو كما ترى، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية، بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، وإلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها، كما أفاده. ولعل منشأ توهمه، خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية، هذا مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم واغتنم. ثم إنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها، إلا فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا، ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة، إلا أنه ليس لاجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة، بل لاجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى. مع أن في صحة المنع عنه كذلك نظر، وجهه أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا، لعدم التمكن شرعا منه، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به. وبالجملة يلزم أن يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال (1) فإنه يكون من طلب الحاصل المحال، فتدبر جيدا.
(1) حيث كان الايجاب فعلا متوقفا على جواز المقدمة شرعا، وجوازها كذلك كان متوقفا على إيصالها المتوقف على الاتيان بذي المقدمة بداهة، فلا محيص إلا عن كون إيجابه على تقدير الاتيان به، وهو من طلب الحاصل الباطل ” منه قدس سره “. *
[ 121 ]
بقي شئ وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا، ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة، بل فيما يترتب عليه الضد الواجب، ومع الاتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا، فلا يكون فعلها منهيا عنه، فلا تكون فاسدة. وربما أورد (1) على تفريع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد، وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة، بناء على المقدمة الموصلة، إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقيض، حيث أن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، وهو أعم من الفعل والترك الآخر المجرد، وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلا لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا، لان الفعل ايضا ليس نقيضا للترك، لانه أمر وجودي، ونقيض الترك إنما هو رفعه، ورفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا، وليس عينه، فكما أن هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام، غاية الامر أن ما هو النقيض في مطلق الترك، إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأما النقيض للترك الخاص فله فردان، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده، كما لا يخفى. قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإن الفعل في الاول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض، من رفع الترك المجامع معه تارة، ومع الترك المجرد أخرى، ولا تكاد تسري حرمة الشئ إلى ما يلازمه، فضلا عما يقارنه أحيانا. نعم لابد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه
(1) مطارح الانظار / 78. *
[ 122 ]
بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه متحد معه عينا وخارجا، فإذا كان الترك واجبا، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا. ومنها: تقسيمه إلى الاصلي والتبعي، والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الاصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت، حيث يكون الشئ تارة متعلقا للارادة والطلب مستقلا، للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيا أو غيريا، وأخرى متعلقا للارادة تبعا لارادة غيره، لاجل كون إرادته لازمة لارادته، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته، لا بلحاظ الاصالة والتبعية في مقام الدلالة والاثبات (1)، فإنه يكون في هذا المقام، تارة مقصودا بالافادة، وأخرى غير مقصود بها على حدة، إلا أنه لازم الخطاب، كما في دلالة الاشارة ونحوها. وعلى ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه بالاصالة والتبعية كليهما، حيث يكون متعلقا للارادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدمة، وأخرى لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك، فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لارادة ذي المقدمة على الملازمة. كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالاصالة، ولكنه لا يتصف بالتبعية، ضرورة أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه مصلحة نفسية، ومعها يتعلق الطلب بها مستقلا، ولو لم يكن هناك شئ آخر مطلوب أصلا، كما لا يخفى. نعم لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتصف النفسي بهما أيضا،
(1) كما هو مذهب صاحبي القوانين والفصول (قدس سرهما). القوانين 1 / 101 – 102، في مقدمة الواجب، المقدمة السادسة والسابعة. الفصول / 82. *
[ 123 ]
ضرورة أنه قد يكون غير مقصودة بالافادة، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها، لكن الظاهر – كما مر – أن الاتصاف بهما إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه، وإلا لما اتصف بواحد منهما، إذا لم يكن بعد مفاد دليل، وهو كما ترى. ثم إنه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي، ويترتب عليه آثاره إذا فرض له آثار شرعية (1)، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية. نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي، وإن كان يلزمه، لما كان يثبت بها إلا على القول بالاصل المثبت، كما هو واضح، فافهم. تذنيب: في بيان الثمرة، وهي في المسألة الاصولية – كما عرفت سابقا – ليست إلا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد، واستنباط حكم فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة، فإنه بضميمة مقدمة كون شئ مقدمة لواجب يستنتج انه واجب. ومنه قد انقدح، أنه ليس منها مثل برء النذر بإتيان مقدمة واجب، عند نذر الواجب، وحصول الفسق بترك الواجب بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة، لصدق الاصرار على الحرام بذلك، وعدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة. مع أن البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا برء بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي، كما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قيل بالملازمة، وربما
(1) في نسختي ” أو ب “: آثار شرعي. *
[ 124 ]
يحصل البرء به لو قصد ما يعم المقدمة ولو قيل بعدمها، كما لا يخفى. ولا يكاد يحصل الاصرار على الحرام بترك واجب، ولو كانت له مقدمات غير عديدة، لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب، ولا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا، لسقوط التكليف حينئذ، كما هو واضح لا يخفى. وأخذ الاجرة على الواجب لا بأس به، إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختل لولاها معاش العباد، بل ربما يجب أخذ الاجرة عليها لذلك، أي لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها، هذا في الواجبات التوصلية. وأما الواجبات التعبدية، فيمكن أن يقال بجواز أخذ الاجرة على إتيانها بداعي امتثالها، لا على نفس الاتيان، كي ينافي عباديتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي، غاية الامر يعتبر فيها – كغيرها – أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستاجر، كي لا تكون المعاملة سفهية، وأخذ الاجرة عليها أكلا بالباطل. وربما يجعل (1) من الثمرة، اجتماع الوجوب والحرمة – إذا قيل بالملازمة – فيما كانت المقدمة محرمة، فيبتني على جواز اجتماع الامر والنهي وعدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها، وفيه: أولا: إنه لا يكون من باب الاجتماع، كي تكون مبتنية عليه، لما أشرنا إليه غير مرة، إن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان المقدمة، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة والمعاملة.
(1) نسب إلى الوحيد البهبهاني، مطارح الانظار / 81. *
[ 125 ]
وثانيا: (1) إن الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصل (2) بالمقدمة المحرمة وعدمه أصلا، فإنه يمكن التوصل (3) بها إن كانت توصلية، ولو لم نقل بجواز الاجتماع، وعدم جواز التوصل (4) بها إن كانت تعبدية على القول بالامتناع، قيل بوجوب المقدمة أو بعدمه، وجواز التوصل (5) بها على القول بالجواز كذلك، أي قيل بالوجوب أو بعدمه. وبالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصل (6) بها، وعدم جوازه أصلا، بين أن يقال بالوجوب، أو يقال بعدمه، كما لا يخفى. في تأسيس الاصل في المسألة إعلم أنه لا أصل في محل البحث في المسألة، فإن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية، نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة، فالاصل عدم وجوبها. وتوهم عدم جريانه، لكون وجوبها على الملازمة، من قبيل لوازم الماهية، غير مجعولة، ولا أثر آخر مجعول مترتب عليه، ولو كان لم يكن بمهم ها هنا، مدفوع بأنه وإن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة، ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلا أنه
(1) قد حذف المصنف (قدس سره) إشكالا آخر من نسختي ” أ وب “، وجعل الثالث مكانه، وهذا يشعر بإضرابه عن الايراد الثاني وهو قوله: (لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا، لاختصاص الوجوب بغير المحرم، في غير صورة الانحصار به، وفيها اما لا وجوب للمقدمة، لعدم وجوب ذي المقدمة لاجل المزاحمة، واما لاحرمة لها لذلك، كما لا يخفى). (2) في ” أ “: التوسل. (3 و 4 و 5 و 6) في ” أ وب “: التوسل. *
[ 126 ]
مجعول بالعرض، ويتبع جعل وجوب ذي المقدمة، وهو كاف في جريان الاصل. ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين، وإنما ينافي الملازمة بين الفعليين، نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية، لما صح التمسك بالاصل، كما لا يخفى. إذا عرفت ما ذكرنا، فقد تصدى غير واحد من الافاضل (1) لاقامة البرهان على الملازمة، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل، والاولى إحالة ذلك إلى الوجدان، حيث أنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا أراد شيئا له مقدمات، أراد تلك المقدمات، لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولويا (أدخل السوق واشتر اللحم) مثلا، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب (أدخل) مثل المنشأ بخطاب (إشتر) في كونه بعثا مولويا، وأنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء، ترشحت منها له إرادة أخرى بدخو السوق، بعد الالتفات إليه وأنه يكون مقدمة له، كما لا يخفى. ويؤيد الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان، وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات، لوضوح أنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري، إلا إذا كان فيها مناطه، وإذا كان فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه به أيضا، لتحقق ملاكه ومناطه، والتفصيل بين السبب وغيره والشرط الشرعي وغيره سيأتي بطلانه، وأنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة. ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره – مما ذكره الافاضل (2)
(1) انظر مطارح الانظار / 83، في أدلة القائلين بوجوب المقدمة. (2) المصدر السابق / 83 – 84، الفصول / 84، هداية المسترشدين / 205، نهاية الاصول / 88، في المبحث الاول من الفصل الخامس في أحكام الوجوب. *
[ 127 ]
عن الاستدلالات – وهو ما ذكره أبو الحسن [ الحسين ] (1) البصري (2)، وهو أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها، وحينئذ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه. وفيه: – بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى، لا الاباحة الشرعية، وإلا كانت الملازمة واضحة البطلان، وإرادة الترك عما أضيف إليه الظرف، لا نفس الجواز، وإلا فمجرد الجواز بدون الترك، لا يكاد يتوهم [ معه ] (3) صدق القضية الشرطية الثانية – ما لا يخفى، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين، ولا يلزم أحد المحذورين، فإنه وإن لم يبق له وجوب معه، إلا أنه كان ذلك بالعصيان، لكونه متمكنا من الاطاعة والاتيان، وقد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب. نعم لو كان المراد من الجواز الترك شرعا وعقلا، يلزم أحد المحذورين، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الاولى ممنوعة، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا، لامكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا، وإن كان واجبا عقلا إرشادا، وهذا واضح. وأما التفصيل بين السبب وغيره، فقد استدل (4) على وجوب السبب،
(1) ما أثبتناه هو الصواب، راجع المعتمد في أصول الفقه 1 / 94، لابي الحسين البصري. (2) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق الاشعري من نسل أبي موسى الاشعري ولد في البصرة سنة 260 ه، تلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم، ثم رجع وجاهر بخلافهم، وأسس مذهب الاشاعرة، بلغت مصنفاته ثلاثمأة كتاب، توفي ببغداد سنة 326 ه (اعلام الزركلي 4 / 263). (3) زيادة تقتضيها العبارة. (4) بدائع الافكار / 353، القول الثالث في وجوب المقدمة. *
[ 128 ]
بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور، والمقدور لا يكون إلا هو السبب، وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا، ولا يكون من أفعال المكلف وحركاته أو سكناته، فلابد من صرف الامر المتوجه إليه عنه إلى سببه. ولا يخفى ما فيه، من أنه ليس بدليل على التفصيل، بل على أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب، مع وضوح فساده، ضرورة أن المسبب مقدور المكلف، وهو متمكن عنه بواسطة السبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة، كانت بلا واسطة أو معها، كما لا يخفى. وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره، فقد استدل (1) على الوجوب في الاول بأنه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا، حيث أنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة. وفيه – مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي – أنه لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة الواجب، فلو كانت مقدميته متوقفة على تعلقه بها لدار، والشرطية وإن كانت منتزعة عن التكليف، إلا أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط، لا عن الغيري، فافهم. تتمة: لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب، فتكون مستحبة – لو قيل بالملازمة – وأما مقدمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة، إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا، كما كان متمكنا قبله، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما، نعم ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب، لا محالة يكون مطلوب الترك، ويترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى
(1) المصدر المتقدم / 354، القول الرابع في وجوب المقدمة. *
[ 129 ]
معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته. لا يقال: كيف ؟ ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها يوجد، ضرورة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد. فإنه يقال: نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية، بل من المقدمات الغير الاختيارية، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار، والا لتسلسل، فلا تغفل، وتأمل. فصل الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده، أو لا ؟ فيه أقوال، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور: الاول: الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية، أو الجزئية، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين، وطلب ترك الآخر، أو المقدمية على ما سيظهر، كما أن المراد بالضد هاهنا، هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا. الثاني: إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة، وإن كانت أنه هل يكون للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة، إلا أنه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال، في المقدمية وعدمها، فنقول وعلى الله الاتكال: إن توهم توقف الشئ على ترك ضده، ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين، وقضيتها الممانعة بينهما، ومن الواضحات أن عدم
[ 130 ]
المانع من المقدمات. وهو توهم فاسد، وذلك لان المعاندة والمنافرة بين الشيئين، لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله، بل بينهما كمال الملاءمة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى. فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر، كذلك في المتضادين، كيف ؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشئ على عدم ضده، توقف الشئ على عدم مانعه، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشئ توقف عدم الشئ على مانعه، بداهية ثبوت المانعية في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور (1) واضح. وما قيل (2) في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلي، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنه بتوقف على فرض ثبوت المقتضي له، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده، ولعله كان محالا، لاجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الارادة الازلية به، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع، كي يلزم الدور. إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد، وأما إذا كان كل منهما متعلقا لارادة شخص، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شئ، وأراد الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا، فالعدم – لا محالة – يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.
(1) راجع هداية المسترشدين / 230 عند قوله: ثانيها. (2) المتفصي هو المحقق الخوانساري (قدس سره) على ما في مطارح الانظار / 109. *
[ 131 ]
قلت: هاهنا أيضا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته، وهي مما لابد منه في وجود المراد، ولا يكاد يكون بمجرد الارادة بدونها لا إلى وجود الضد، لكونه مسبوقا بعدم قدرته – كما لا يخفى – غير سديد، فإنه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلا أنه غائلة لزوم توقف الشئ على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها، لاستحالة أن يكون الشئ الصالح لان يكون موقوفا عليه [ الشئ ] (1) موقوفا عليه، ضرورة أنه لو كان في مرتبة يصلح لان يستند إليه، لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه. والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى: أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي، وإن كانت صادقة، إلا أن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها، مساوق (2) لمنع مانعية الضد، وهو يوجب رفع التوقف رأسا من البين، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر، إلا توهم مانعية الضد – كما أشرنا إليه – وصلوحه لها. إن قلت: التمانع بين الضدين كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النهار، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه، مما لا يقبل الانكار، فليس ما ذكر إلا شبهة في مقابل البديهة.
(1) أثبتناها من ” ب “. (2) مع أن حديث عدم اقتضاء صدق الشرطية لصدق طرفيها، وإن كان صحيحا، إلا أن الشرطية – هاهنا – غير صحيحة، فإن وجود المقتضي لضد، لا يستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضده، ولا يكون الاستناد مترتبا على وجوده، ضرورة أن المقتضي لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عما يقتضيه أصلا كما لا يخفى، فليكن المقتضي لاستناد عدم الضد إلى وجود ضده فعلا عند ثبوت مقتضي وجوده، هي الخصوصية التي فيه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضيه، كما هو الحال في كل مانع، وليست في الضد تلك الخصوصية، كيف ؟ وقد عرفت أنه لا يكاد يكون مانعا إلا على وجه دائر، نعم إنما المانع عن الضد هو العلة التامة لضده، لاقتضائها ما يعانده وينافيه، فيكون عدمه كوجود ضده مستندا إليها، فافهم (منه قدس سره). *
[ 132 ]
قلت: التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلا أنه لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع، وعدم وجود أحدهما إلا مع عدم الاخر، الذي هو بديل وجوده المعاند له، فيكون في مرتبته لا مقدما عليه ولو طبعا، والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود هو ماكان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشئ ويزاحمه في وجوده. نعم العلة التامة لاحد الضدين، ربما تكون مانعا عن الآخر، ومزاحما لمقتضيه في تأثيره، مثلا تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة له، تمنع عن أن يؤثر ما في الاخ الغريق من المحبة والشفقة، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ به الولد دونه، فتأمل جيدا. ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم، في أن عدمه الملائم للشئ المناقض لوجوده المعاند لذاك، لابد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه، بل عرفت ما يقتضي عدم سبقه. فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الاعلام (1)، حيث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم، فتأمل في أطراف ما ذكرناه، فإنه دقيق وبذلك حقيق. فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية. وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود، في الحكم، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكوما بحكمه. وعدم خلو الواقعة عن الحكم، فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا، بل على ما هو عليه، لولا
(1) هو المحقق الخونساري، راجع مطارح الانظار / 109. *
[ 133 ]
الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي، من الحكم الواقعي. الامر الثالث: إنه قيل (1) بدلالة الامر بالشئ بالتضمن على النهي عن الضد العام، بمعنى الترك، حيث أنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل والمنع عن الترك. والتحقيق أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا، ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب، لا مركبا من طلبين، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها، ربما يقال: الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك، ويتخيل منه أنه يذكر له حدا، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوماته، بل من خواصه ولوازمه، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة، وكان يبغضه البتة. ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية، ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية، لا الاتحاد والعينية. نعم لا بأس بها، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه، فافهم. الامر الرابع: تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة، وهي النهي عن الضد بناء على الاقتضاء، بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، يتنج فساده إذا كان عبادة. وعن البهائي (رحمه الله) (2) أنه أنكر الثمرة، بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الامر به، لاحتياج العبادة إلى الامر.
(1) القائل هو صاحب المعالم، المعالم / 63. (2) زبدة الاصول / 82، مخطوط. *
[ 134 ]
وفيه: إنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى، كي يصح أن يتقرب به منه، كما لا يخفى، والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة، كما هو مذهب العدلية، أو غيرها أي شئ كان، كما هو مذهب الاشاعرة، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث، بناء على الاقتضاء. ثم إنه تصدى جماعة من الافاضل (1)، لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على العصيان، وعدم إطاعة الامر بالشئ بنحو الشرط المتأخر، أو البناء على معصيته (2) بنحو الشرط المتقدم، أو المقارن، بدعوى أنه لا مانع عقلا عن تعلق الامر بالضدين كذلك، أي بأن يكون الامر بالاهم مطلقا، والامر بغيره معلقا على عصيان ذاك الامر، أو البناء والعزم عليه، بل هو واقع كثيرا عرفا. قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد، آت في طلبهما كذلك، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما، إلا أنه كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا. لا يقال: نعم لكنه بسوء اختيار المكلف حيق يعصي فيما بعد بالاختيار، فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالاهم، ولا برهان على امتناع الاجتماع، إذا كان بسوء الاختيار. فإنه يقال: استحالة طلب الضدين، ليس إلا لاجل استحالة طلب المحال، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته، لا تختص بحال دون
(1) منهم صاحب كشف الغطاء، كشف الغطاء / 27، البحث الثامن عشر. (2) في ” ب ” معصية، وفي بعض النسخ المطبوعة ” المعصية “. *
[ 135 ]
حال، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال. إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك، فإن الطلب في كل منهما في الاول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم، فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالاهم، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، وعدم عصيان أمره. قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الاهم ؟ وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته، ومضادة متعلقه للاهم ؟ والمفروض فعليته، ومضادة متعلقه له. وعدم إرادة غير الاهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه، على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير، مع ما هما عليه من المطاردة، من جهة المضادة بين المتعلقين، مع أنه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه أصلا بمجال. إن قلت: فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات ؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون الامر بغير الاهم، بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة. وإما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالاهم، لا أنه أمر مولوي فعلي كالامر به، فافهم وتامل جيدا. ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب، بما هو لازمه من الاستحقاق في
[ 136 ]
صورة مخالفة الامرين لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيدنا الاستاذ (قدس سره) (1) لا يلتزم به – على ما هو ببالي – وكنا نورد به على الترتب، وكان بصدد تصحيحه، فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة، مع مضادتها لما هو أهم منها، إلا ملاك الامر. نعم فيما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمة بالاهم ببعض الوقت، لا في تمامه، يمكن أن يقال: إنه حيث كان الامر بها على حاله، وإن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من أفرادها من تحتها، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الامر، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها، إلا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها، كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال، والاتيان به بداعي ذاك الامر، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا. ودعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها، وما زوحم منها بالاهم، وإن كان من أفراد الطبيعة، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها، فاسدة، فإنه إنما يوجب ذلك، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها، إلا أنه ليس لقصور فيه، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه عقلا، وعلى كل حال، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الامر بها، بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا.
(1) هو آية الله مجدد المذهب الحاج ميرزا محمد حسن بن السيد ميرزا محمود الحسيني الشيرازي ولد في 15 ج 1230 1، حضر درس المحقق السيد حسن المدرس والمحقق الكلباسي قصد العراق عام 1259، حضر الاندية العلمية، اختص في التلمذة والحضور بأبحاث المحقق الانصاري، عين مرجعا بعده، حج سنة 1288، وهاجر إلى سامراء شعبان سنة 1291 ثم تبعه تلاميذه، أخذ منه كثير من فحول العلماء، منهم: آقا رضا الهمداني والشيخ فضل الله النوري والآخوند الخراساني، توفي ليلة الاربعاء 24 شعبان 1312 ه. (الكنى والالقاب 3 / 184) *
[ 137 ]
هذا على القول بكون الاوامر متعلقة بالطبائع. وأما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك، وإن كان جريانه عليه أخفى، كما لا يخفى، فتأمل. ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته، لابد من الالتزام بوقوعه، من دون انتطار دليل آخر عليه، وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتنع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك، فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة: ولم يكن في الملاك كفاية، كانت العبادة مع ترك الاهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال، كما إذا لم تكن هناك مضادة. فصل لا يجوز أمر الآمر، مع علمه بانتفاء شرطه، خلافا لما نسب (1) إلى أكثر مخالفينا (2)، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشئ مع عدم علته، كما هو المفروض ها هنا، فإن الشرط من أجزائها، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى، وكون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام. نعم لو كان المراد من لفظ الامر، الامر ببعض مراتبه، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخر، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاء مع علمه بانتفاء شرطه، بمرتبة فعلية. وبعبارة أخرى: كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه، لكان جائزا، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات
(1) كما في معالم الاصول / 85، وقوانين الاصول / 125. (2) راجع شرح مختصر الاصول للعضدي / 107، وتيسير التحرير 2 / 240. *
[ 138 ]
غنى وكفاية، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان. وقد عرفت سابقا (1) أن داعي إنشاء الطلب، لا ينحصر بالبعث و التحريك جدا حقيقة، بل قد يكون صوريا امتحانا، وربما يكون غير ذلك. ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا، وإن كان في محله، إلا أن إطلاق الامر عليه، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا، مما لا بأس به أصلا، كما لا يخفى. وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض والابرام، وربما يقع به التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين، فتأمل جدا. فصل الحق أن الاوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد، ولا يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد، كما أن متعلقه في النواهي هو محض الترك، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة بقيود، تكون بها موافقة للغرض والمقصود، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام، بل في المحصورة، على ما حقق في غير المقام. وفي مراجعة الوجدان للانسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع، ولا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية، وعوارضها العينية، وإن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب، وإن كان ذاك الوجود
(1) في المقصد الاول، الفصل الثاني، المبحث الاول صفحة / 69. *
[ 139 ]
لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية. فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد، انها بوجودها السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود، متعلقة للطلب، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له، كما ربما يتوهم، فإنها كذلك ليست إلا هي، نعم هي كذلك تكون متعلقة للامر، فإنه طلب الوجود، فافهم. دفع وهم: لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب، إنما يكون بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد، وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة، وإفاضته، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل، كما توهم، ولا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة، وقد جعل وجودها غاية لطلبها. وقد عرفت أن الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي، لا يعقل أن يتعلق بها طلب لتوجد أو تترك، وأنه لابد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه، كي يكون ويصدر منه، هذا بناء على أصالة الوجود. وأما بناء على أصالة الماهية، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والاعيان الثابتات، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة الوجود. وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود، فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن، فافهم وتأمل جيدا. فصل إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ، على بقاء الجواز
[ 140 ]
بالمعنى الاعم، ولا بالمعنى الاخص، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الاحكام، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الاربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ – بإحدى الدلالات – على تعيين واحد منها، كما هو أوضح من أن يخفى، فلابد للتعيين من دليل آخر، ولا مجال لاستصحاب الجواز، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر، وقد حققنا في محله (1)، أنه لا يجري الاستصحاب فيه، ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عد عرفا – لو كان – أنه باق، لا أنه أمر حادث غيره. ومن المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا، من المباينات والمتضادات، غير الوجوب والاستحباب، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب. فصل إذا تعلق الامر بأحد (2) الشيئين أو الاشياء، ففي وجوب كل واحد على التخيير، بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل، أو وجوب الواحد بعينه، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما، أو وجوب المعين عند الله، أقوال. والتحقيق أن يقال: إنه إن كان الامر بأحد الشيئين، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام
(1) في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب / 406. (2) في ” ب ” باحدى. *
[ 141 ]
الغرض، ولذا يسقط به الامر، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول. وعليه: فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين. وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب، يستكشف عنه تبعاته، من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما، والعقاب على تركهما، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو (1) أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما، كما هو واضح، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الامر بأحدهما بالملاك الاول، من أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما، ولا أحدهما معينا، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض [ ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض، وعدم جواز الايجاب كذلك مع عدم إمكانه ] (2) فتدبر. بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الاقل والاكثر، أولا ؟
(1) فإنه وإن كان مما يصح أن يتعلق به بعض الصفات الحقيقية ذات الاضافة كالعلم، فضلا عن الصفات الاعتبارية المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما، مما كان من خارج المحمول الذي ليس بحذائه في الخارج شئ غير ما هو منشأ انتزاعه، إلا أنه لا يكاد يصح البعث حقيقة إليه، والتحريك نحوه، كما لا يكاد يتحقق الداعي لارادته، والعزم عليه، ما لم يكن مائلا إلى إرادة الجامع، والتحرك نحوه، فتأمل جيدا (منه قدس سره). (2) أثبتناها من ” ب “. *
[ 142 ]
ربما يقال، بأنه محال، فإن الاقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة، ولو كان في ضمن الاكثر، لحصول الغرض به، وكان الزائد عليه من أجزاء الاكثر زائدا على الواجب، لكنه ليس كذلك، فإنه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الاكثر، هو الاكثر لا الاقل الذي في ضمنه، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله، وإن كان الاقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا، فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الاقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص، فإن الاكثر بحده يكون مثله على الفرض، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد، لا على القصير في ضمنه، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان. إن قلت: هبه في مثل ما إذا كان للاكثر وجود واحد، لم يكن للاقل في ضمنه وجود على حدة، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه، فإن الاقل قد وجد بحده، وبه يحصل الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائة عليه مما لا دخل له في حصوله، فيكون زائدا على الواجب، لا من أجزائه. قلت: لا يكاد يختلف الحال بذاك، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الاقل في ضمن الاكثر، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام، ومعه كان مترتبا على الاكثر بالتمام. وبالجملة إذا كان كل واحد من الاقل والاكثر بحده مما يترتب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان، على ما عرفت.
[ 143 ]
نعم لو كان الغرض مترتبا على الاقل، من دون دخل للزائد، لما كان الاكثر مثل الاقل وعدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره، مستحبا كان أو غيره، حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيدا. فصل في الوجوب (1) الكفائي: والتحقيق أنه سنخ من الوجوب، وله تعلق بكل واحد، بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم، وذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد، حصل بفعل واحد، صادر عن الكل أو البعض. كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكل، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد. فصل لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب، إلا أنه تارة مما له دخل فيه شرعا فيكون موقتا، وأخرى لا دخل له فيه أصلا فهو غير موقت، والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيق، وإما أن يكون أوسع منه فموسع. ولا يذهب عليك أن الموسع كلي، كما كان له أفراد دفعية، كان له أفراد تدريجية، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا. ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى، ووقوع الموسع فضلا عن
(1) في ” ب “: في الوجوب الواجب الكفائي. *
[ 144 ]
إمكانه، مما لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات كما يظهر من المطولات. ثم إنه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت، بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به. نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله. وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل، ولو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة، وإن لم يكن بتمام المطلوب، إلا أنه لابد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة، ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت، فتدبر جيدا. فصل الامر بالامر بشئ، أمر به لو كان الغرض حصوله، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ (1) أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالامر أو النهي. وأما لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشئ، من دون تعلق غرضه به، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا، بل بعد تعلق أمره به، فلا يكون أمرا بذاك الشئ، كما لا يخفى. وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الامر بالامر، على كونه أمرا به، ولا بد في الدلالة
(1) في ” ب “: بتبليغ. *
[ 145 ]
عليه من قرينة عليه. فصل إذا ورد أمر بشئ بعد الامر به قبل امتثاله، فهل يوجب تكرار ذاك الشئ، أو تأكيد الامر الاول، والبعث الحاصل به ؟ قضية إطلاق المادة هو التأكيد، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين، من دون أن يجئ تقييد لها في البين، ولو كان بمثل (مرة اخرى) كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الاخر، كما لا يخفى، والمنساق من إطلاق الهيئة، وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها، فيما كانت مسبوقة بمثلها، ولم يذكر هناك سبب، أو ذكر سبب واحد.
[ 147 ]
المقصد الثاني النواهي
[ 149 ]
المقصد الثاني: في النواهي فصل الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب، مثل الامر بمادته وصيغته، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود، وفي الآخر العدم، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا، نعم يختص النهي بخلاف، وهو: إن متعلق الطلب فيه، هل هو الكف، أو مجرد الترك وأن لا يفعل ؟ والظاهر هو الثاني، وتوهم أن الترك ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار، فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب، فاسد، فإن الترك أيضا يكون مقدورا، وإلا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالارادة والاختيار، وكون العدم الازلي لا بالاختيار، لا يوجب أن يكون بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف. ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الامر وإن كان قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلقهما، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلق بها الامر مرة والنهي أخرى، ضرورة أن وجودها يكون بوجود فرد واحد، وعدمها لا يكاد يكون إلا بعدم الجميع، كما لا يخفى. ومن ذلك يظهر أن الدوام والاستمرار، إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة، إلا بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.
[ 150 ]
وبالجملة قضية النهي، ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له، كانت مقيدة أو مطلقة، وقضية تركها عقلا، إنما هو ترك جميع أفرادها. ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل لابد في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبر جيدا. فصل اختلفوا في جواز اجتماع الامر والنهي في واحد، وامتناعه، على أقوال: (1) ثالثها (2): جوازه عقلا وامتناعه عرفا، وقبل الخوض في المقصود يقدم أمور: الاول: المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين، ومندرجا تحت عنوانين، بأحدهما كان موردا للامر، وبالآخر للنهي، وإن كان كليا مقولا على كثيرين، كالصلاة في المغصوب، وإنما ذكر لاخراج ما إذا تعدد متعلق الامر والنهي ولم يجتمعا وجودا، ولو جمعهما واحد مفهوما، كالسجود لله تعالى، والسجود للصنم مثلا، لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة والسكون الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية. الثاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة (3)، هو أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل، هي أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الامر والنهي، بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد، أو لا يوجبه، بل يكون حاله حاله، فالنزاع في سراية كل
(1) راجع مطارح الانظار / 129. في اجتماع الامر والنهي. (2) مجمع الفائدة والبرهان للاردبيلي 2: 110. (3) في ” ب ” العبادات.
[ 151 ]
من الامر والنهي إلى متعلق الآخر، لاتحاد متعلقيهما وجودا، وعدم سرايته لتعددهما وجها، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الاخرى، فإن البحث فيها في أن النهي في العبادة [ أو المعاملة ] (1) يوجب فسادها، بعد الفراغ عن التوجه إليها. نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع، يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة. فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح، وأما ما أفاده في الفصول (2)، من الفرق بما هذه عبارته: (ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم، وهو أن الامر والنهي هل يجتمعان في شئ واحد أو لا ؟ أما في المعاملات فظاهر، وأما في العبادات، فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الامر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة، وإن كان بينهما عموم مطلق، وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد، بأن تعلق الامر بالمطلق، والنهي بالمقيد) انتهى موضع الحاجة، فاسد، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات، لا يوجب التمايز بين المسائل، ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، ومعه لا حاجة أصلا إلى تعددها، بل لابد من عقد مسألتين، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس، كما لا يخفى. ومن هنا انقدح أيضا فساد الفرق، بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا، وهناك في دلالة النهي لفظا، فإن مجرد ذلك لو لم يكن تعدد الجهة في البين، لا يوجب إلا تفصيلا في المسألة الواحدة، لا عقد مسألتين، هذا مع
(1) أثبتناها من ” ب “. (2) الفصول / 140، فصل في دلالة النهي على فساد المنهي عنه. *
[ 152 ]
عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر. الثالث: إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الاصولية، لا من مبادئها الاحكامية، ولا التصديقية، ولا من المسائل الكلامية، ولا من المسائل الفرعية، وإن كانت فيها جهاتها، كما لا يخفى، ضرورة أن مجرد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى، يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال حينئذ لتوهم عقدها من غيرها في الاصول، وإن عقدت كلامية في الكلام، وصح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام، وقد عرفت في أول الكتاب (1) أنه لا ضير في كون مسألة واحدة، يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالاخرى من آخر، فتذكر. الرابع: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه، أن المسألة عقلية، ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الايجاب والتحريم باللفظ، كما ربما يوهمه التعبير بالامر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول، إلا أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما، كما هو أوضح من أن يخفى، وذهاب البعض (2) إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا، ليس بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين، وإلا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي، غاية الامر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبر جيدا. الخامس: لا يخفى أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم جميع أقسام الايجاب والتحريم، كما هو قضية إطلاق لفظ الامر والنهي،
(1) في الامر الاول من مقدمة الكتاب / 7. (2) الاردبيلي في شرح الارشاد 2 / 110. *
[ 153 ]
ودعوى الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما، غير خالية عن الاعتساف، وإن سلم في صيغتهما، مع أنه فيها ممنوع (1). نعم لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الاطلاق، بمقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الاقسام، وكذا ما وقع في البين من النقض والابرام، مثلا إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما، وكذلك نهى عن التصرف في الدار والمجالسة مع الاغيار، فصلى فيها مع مجالستهم، كان حال الصلاة فيها حالها، كما إذا أمر بها تعيينا (2)، ونهى عن التصرف فيها كذلك في جريان النزاع في الجواز والامتناع، ومجئ أدلة الطرفين، وما وقع من النقض والابرام في البين، فتفطن. السادس: إنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربما قيل: بأن الاطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال. ولكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادين، وعدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه، وأن تعدد الوجه يجدي في رفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة وعدمها، ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع. نعم لابد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا، لمن يرى التكليف بالمحال محذورا ومحالا، كما ربما لابد من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا. وبالجملة لا وجه لاعتبارها، إلا لاجل اعتبار القدرة على الامتثال، وعدم
(1) في ” ب “: ممنوعة. (2) في ” ب “: تعينا. *
[ 154 ]
لزوم التكليف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال، فافهم واغتنم. السابع: إنه ربما يتوهم تارة أن النزاع في الجواز والامتناع، يبتني على القول بتعلق الاحكام بالطبائع، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فلا يكاد يخفى، ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي، ولو كان ذا وجهين على هذا القول. وأخرى أن القول بالجواز مبني على القول بالطبائع، لتعدد متعلق الامر والنهي ذاتا عليه، وإن اتحد وجودا، والقول بالامتناع على القول بالافراد، لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا، وكونه فردا واحدا. وأنت خبير بفساد كلا التوهمين، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والايجاد، لكان يجدي ولو على القول بالافراد، فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين، يكون فردا لكل من الطبيعتين، فيكون مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين، لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكل من الطبيعتين، وإلا لما كان يجدي أصلا، حتى على القول بالطبائع، كما لا يخفى، لوحدة الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا، فكما أن وحدة الصلاتية والغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما وكونها طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا غير ضائر بكونه فردا للصلاة، فيكون مأمورا به، وفردا للغصب فيكون منهيا عنه، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين، لكونه مصداقا للطبيعتين، فلا تغفل. الثامن: إنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا، حتى في مورد
[ 155 ]
التصادق والاجتماع، كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله (1). وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك، فلا يكون من هذا الباب، ولا يكون مورد الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منها، إذا كان له مناطه، أو حكم آخر غيرهما، فيما لم يكن لواحد منهما، قيل بالجواز والامتناع، هذا بحسب مقام الثبوت. وأما بحسب مقام الدلالة والاثبات، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان، إذا احرز أن المناط من قبيل الثاني، فلابد من حمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح والتخيير، وإلا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا، لكونه أقوى مناطا، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا، بل لابد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الاشارة (2) إليها. نعم لو كان كل منها متكفلا للحكم الفعلي، لوقع بينهما التعارض، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة، لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة، فتفطن. التاسع: إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب، أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها، مشتملة على مناط الحكم مطلقا، حتى في حال الاجتماع، فلو كان هناك ما دل على ذلك من اجماع أو غيره فلا إشكال، ولو لم يكن إلا اطلاق دليلي الحكمين، ففيه تفصيل وهو: إن الاطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي، لكان دليلا على ثبوت
(1 و 2) راجع التنبيه الثاني من تنبيهات اجتماع الامر والنهي، ص 174. *
[ 156 ]
المقتضي والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، ولو كان بصدد الحكم الفعلي، فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين. وأما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا، فإن انتفاء أحد المتنافيين، كما يمكن أن يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون لاجل انتفائه، إلا أن يقال: إن قضية التوفيق بينهما، هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي، لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلا فخصوص الظاهر منهما. فتلخص أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين، كان من مسألة الاجتماع، وكلما لم تكن هناك دلالة عليه، فهو من باب التعارض مطلقا، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلا فعلى الامتناع. العاشر (1): إنه لا إشكال في سقوط الامر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا، ولو في العبادات، وإن كان معصية للنهي أيضا، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر، إلا أنه لا معصية عليه، وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الامر به مطلقا في غير العبادات، لحصول الغرض الموجب له، وأما فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا، فإنه وإن كان متمكنا – مع عدم الالتفات – من قصد القربة، وقد قصدها، إلا أنه مع التقصير لا يصلح لان يتقرب به أصلا، فلا يقع مقربا، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة، كما لا يخفى. وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا، وقد قصد القربة بإتيانه، فالامر
(1) من هنا إلى ص 184 عند قوله ” ضرورة أنه لو لا جلعه ” سقط من نسخة (أ) المعتمدة عندنا. *
[ 157 ]
يسقط، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على المصلحة، مع صدوره حسنا لاجل الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من الامر، فيسقط به قطعا، وإن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الاحكام لما هو الاقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح، لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله. مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الافراد في الوفاء بغرض (1) الطبيعة المأمور بها، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي. ومن هنا انقدح أنه يجزي، ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضد الواجب، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا. وبالجملة مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما، يكون الاتيان بالمجمع امتثالا، وبداعي الامر بالطبيعة لا محالة، غاية الامر أنه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للاحكام الواقعية، وأما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الاحكام، لكان مما تسعه وامتثالا لامرها بلا كلام. وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين، وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع. وقيل بالامتناع، وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحا في غير مورد من موارد الجهل والنسيان، لموافقته للغرض بل للامر، ومن هنا علم أن
(1) في ” ب “: لغرض، وما أثبتناه من النسخ المطبوعة هو الاصح. *
[ 158 ]
الثواب عليه من قبيل الثواب على الاطاعة، لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة. وقد ظهر بما ذكرناه، وجه حكم الاصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم إذا كان عن قصور، مع أن الجل لو لا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر، فلتكن من ذلك على ذكر. إذا عرفت هذه الامور، فالحق هو القول بالامتناع، كما ذهب إليه المشهور، وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل، أو يمكن أن يقال، من وجوه الاستدلال لسائر الاقوال، يتوقف على تمهيد مقدمات: إحداها: إنه لاريب في أن الاحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان، وإن لم يكن بينها مضادة ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى، فاستحالة اجتماع الامر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضا. ثانيتها: إنه لا شبهة في أن متعلق الاحكام، هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه، وهو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه، بحيث لو لا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا، لا كان بحذائه شئ خارجا ويكون خارج المحمول، كالملكية والزوجية والرقية والحرية والمغصوبية (1)، إلى غير ذلك من الاعتبارات والاضافات، ضرورة أن البعث ليس نحوه، والزجر لا يكون عنه، وإنما يؤخذ في متعلق الاحكام آلة للحاظ
(1) في ” ب “: الغصبية. *
[ 159 ]
متعلقاتها، والاشارة إليها، بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه، وعلى استقلاله وحياله. ثالثتها: إنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون، ولا ينثلم به وحدته، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد، وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيط من جمبع الجهات، ليس فيه حيث غير حيث، وجهة مغايرة لجهة أصلا، كالواجب تبارك وتعالى، فهو على بساطته ووحدته وأحديته، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية، له الاسماء الحسنى والامثال العليا، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الاحد. عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير رابعتها: إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد، إلا ماهية واحدة وحقيقة فاردة، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة، وكانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية وذاتا لا محالة، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الامر والنهي، إلا أنه كما يكون واحدا وجودا، يكون واحدا ماهية وذاتا، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية. ومنه يظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة، على القولين في تلك المسألة، كما توهم في الفصول (1)، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج، وعدم تعدده، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له، وإن مثل الحركة في دار من أي
(1) راجع الفصول / 125. *
[ 160 ]
مقولة كانت، لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها، وقعت جزءا للصلاة أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (1). إذا عرفت ما مهدناه، عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا، كان تعلق الامر والنهي به محالا، ولو كان تعلقهما به بعنوانين، لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه، متعلقا للاحكام لا بعناوينه الطارئة عليه، وأن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الاحكام تتعلق بالطبائع لا الافراد (2)، فإن غاية تقريبه أن يقال: إن الطبائع من حيث هي هي، وإن كانت ليست إلا هي، ولا تتعلق بها الاحكام الشرعية، كالآثار العادية والعقلية، إلا أنها مقيدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجا والتقيد داخلا، صالحة لتعلق الاحكام بها، ومتعلقا الامر والنهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا، لا في مقام تعلق البعث والزجر، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الامر بإتيان المجمع بسوء الاختيار. أما في المقام الاول، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما هو خارج عنهما، بما هما كذلك. وأما في المقام الثاني، فلسقوط أحدهما بالاطاعة، والآخر بالعصيان بمجرد الاتيان، ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد ؟ وأنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت، من أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية، ولا تنثلم به وحدته أصلا، وأن المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما
صفحة 160: (1) وقد عرفت أن صدق العناوين المتعددة، لا تكاد تنثلم به وحدة المعنون – لا ذاتا ولا وجودا – غايته أن تكون له خصوصية بها يستحق الاتصاف بها، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها عليه، كما لا يخفى، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلا، فتدبر جدا (منه قدس سره). (2) كما في قوانين الاصول 1 / 140. *
[ 161 ]
هي حاكيات كالعبارات، لا بما هي على حيالها واستقلالها. كما ظهر مما حققناه: أنه لا يكاد يجدي أيضا كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار، وذلك – مضافا إلى وضوح فساده، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف ؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود، ولا تعدد كما هو واضح – أنه إنما يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد. ثم إنه قد استدل (1) على الجواز بأمور: منها (2): إنه لو لم يجز اجتماع الامر والنهي، لما وقع نظيره وقد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام في السفر وفي بعض الايام. بيان الملازمة: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددهما، لعدم اختصاصهما من بين الاحكام بما يوجب الامتناع من التضاد، بداهة تضادها بأسرها، والتالي باطل، لوقوع اجتماع الكراهة والايجاب أو الاستحباب، في مثل الصلاة في الحمام، والصيام في السفر، وفي عاشوراء ولو في الحضر، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار. والجواب عنه أما إجمالا: فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أن
(1) انظر قوانين الاصول 1 / 140. (2) هذا هو الوجه الثاني الذي استدل له، قوانين الاصول 1 / 142. *
[ 162 ]
الظهور لا يصادم البرهان، مع أن قضية ظهور تلك الموارد، اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين، فهو أيضا لابد [ له ] من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا، كما لا يخفى. وأما تفصيلا: فقد أجيب عنه بوجوه (1)، يوجب ذكرها بما فيها من النقض والابرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالاولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الاشكال، فيقال وعلى الله الاتكال: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته، ولا بدل له، كصوم يوم عاشوراء (2)، والنوافل المبتدئة في بعض الاوقات (3). ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك، ويكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام (4). ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا،
صفحة 162: (1) راجع مطارح الانظار / 130 وما بعده. (2) الكافي 4 / 146، باب صوم عرفة وعاشوراء، الاحاديث 3 إلى 7 – وللمزيد راجع وسائل الشيعة، 7 / 339 الباب 21 من أبواب الصوم المندوب. (3) الكافي 3 / 288 باب التطوع في وقت الفريضة والساعات التي لا يصلى فيها – الاستبصار 1 / 277 باب وقت نوافل النهار – وللمزيد راجع وسائل الشيعة 3 / 170، الباب 38 من أبواب المواقيت. (4) الكافي 3 / 390 الحديث 12 من باب الصلاة في الكعبة… الخ. *
[ 163 ]
أو ملازم له خارجا، كالصلاة في مواضع التهمة (1)، بناء على كون النهي عنها لاجل اتحادها مع الكون في مواضعها. أما القسم الاول: فالنهي تنزيها عنه بعد الاجتماع على أنه يقع صحيحا، ومع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الائمة عليهم السلام على الترك، إما لاجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن كان مصلحة الترك أكثر، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، وإلا فيتعين الاهم وإن كان الآخر يقع صحيحا، حيث أنه كان راجحا وموافقا للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات، وارجحية الترك من الفعل لا توجب (2) حزازة ومنقصة فيه أصلا، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع، فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به، بخلاف المقام، فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض، هوامش صفحة 163: (1) التهذيب 2 / 219 الحديث 71 من باب 11 ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان… الخ. وللمزيد راجع وسائل الشيعة 3 / 466 الباب 34 من أبواب مكان المصلي. (2) ربما يقال: إن أرجحية الترك، وإن لم توجب منقصة وحزازة في الفعل أصلا، إلا أنه توجب المنع منه فعلا، والبعث إلى الترك قطعا، كما لا يخفى، ولذا كان ضد الواجب – بناء على كونه مقدمة له – حراما، ويفسد لو كان عبادة، مع أنه لا حزازة في فعله، وإنما كان النهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدمية له، وهو على ما هو عليه من المصلحة، فالمنع عنه لذلك كاف في فساده لو كان عبادة. قلت: يمكن أن يقال: إن لنهي التحريمي لذلك وإن كان كافيا في ذلك بلا إشكال، إلا أن التنزيهي غير كاف، إلا إذا كان عن حزازة فيه، وذلك لبداهة عدم قابلية الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه، بخلاف التنزيهي عنه إذا كان لا لحزازة فيه، بل لما في الترك من المصلحة الراجحة، حيث أنه معه مرخوص فيه، وهو على ما هو عليه من الرجحان والمحبوبية له تعالى، ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضد المستحبة أهم اتفاقا، فتأمل (منه قدس سره). *
[ 164 ]
كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا. وإما لاجل ملازمة الترك لعنوان كذلك، من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلا في أن الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، فإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات من غير فرق، إلا أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلا، غاية الامر كون الترك أرجح. نعم يمكن أن يحمل النهي – في كلا القسمين – على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الارجح وأكثر ثوابا لذلك، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة، لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل. وأما القسم الثاني: فالنهي فيه يمكن أن يكون لاجل ما ذكر في القسم الاول، طابق النعل بالنعل، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها، لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه، لا يناسب كونها معراجا، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا، بل كان راجحا، كما لا يخفى. وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والامكنة الشريفة، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في حد نفسها، إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزية، كالصلاة في الدار مثلا، وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بماله شدة الملاءمة، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة، ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد، ويكون أكثر ثوابا منه، وليكن
[ 165 ]
هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا، ولا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة، ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب، لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا، إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها، ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه أكثر ثوابا، ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للارشاد، بخلاف القسم الاول، فإنه يكون فيه مولويا، وإن كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان. وأما القسم الثالث: فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها من سائر الافراد، مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة، بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا، هذا على القول بجواز الاجتماع. وأما على الامتناع، فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر – كما هو المفروض، حيث أنه صحة العبادة – فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه، طابق النعل بالنعل، حيث أنه بالدقة يرجع إليه، إذا على الامتناع، ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت. وقد انقدح بما ذكرناه، أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الاول مطلقا، وفي هذا القسم على القول بالجواز، كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها، وأن الامر الاستحبابي يكون على نحو
[ 166 ]
الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة، ومولويا اقتضائيا كذلك، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب، أو متحدا (1) معه على القول بالجواز. ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الاول هاهنا، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد إيجابه، لا أنه يوجب استحبابه أصلا، ولو بالعرض والمجاز، إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان، فإنه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا بالعرض والمجاز، فتفطن. ومنها: إن أهل العرف يعدون من اتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم، مطيعا وعاصيا من وجهين (2)، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص، كما مثل به الحاجبي (3) والعضدي (4)، فلو خاطه في ذاك المكان، عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان. وفيه – مضافا إلى المناقشة في المثال، بأنه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا، كما لا يخفى –
(1) في ” ب “: متحدة. (2) دليل آخر للمجوزين، قوانين الاصول 1 / 148. (3 و 4) انظر شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 92، 93. مسألة استحالة كون الشئ واجبا حراما من جهة واحدة. ابن الحاجب ابو عمرو عثمان بن عمر بن ابي بكر المالكي، تولد سنة 570 ه باسناد كان ابوه جنديا، اشتغل ابنه في صغره بالقاهرة، وحفظ القرآن المجيد، واخذ بعض القراءات عن الشاطبي وسمع من البوصيري وجماعة، لزم الاشتغال حتى برع في الاصول والعربية، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها، كان الاغلب عليه النحو، وصنف في عدة علوم، له كتاب ” الكافية ” في النحو و ” الشافية ” في الصرف و ” مختصر الاصول ” ثم انتقل إلى الاسكندرية، مات بها سنة 646 ه. (الكنى والالقاب 1 / 244). *
[ 167 ]
المنع إلا عن صدق أحدهما، إما الاطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر، أو العصيان فيما غلب جانب النهي، لما عرفت من البرهان على الامتناع. نعم لا بأس بصدق الاطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات، وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها، إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه، كما تقدم (1). بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام (2)، والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا. وفيه: إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع، إلا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما أشرنا إليه من النظر المسامحي الغير المبتني على التدقيق والتحقيق، وأنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق، وقد عرفت فيما تقدم (3) أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الامر والنهي، بل في الاعم، فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه (4) تناف، لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبر. وينبغي التنبيه على أمور: الاول: إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته، والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه – لو كان – مؤثرا له، كما إذا لم يكن
(1) في الامر العاشر / 156. (2) المحقق الاردبيلي في شرح الارشاد 2: 110، وقد ينسب ذلك إلى صاحب الرياض (قده) أيضا وكأنه مسموع منه شفاها، على حد تعبير صاحب مطارح الانظار / 129. (3) في الامر الرابع / 152. (4) في ” ب ” تعينه. *
[ 168 ]
بحرام بلا كلام، إلا أنه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة، فإن الخطاب بالزجر عنه حينئذ، وإن كان ساقطا، إلا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب، لا يصلح لان يتعلق بها الايجاب، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب. وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره، مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار في كونه منهيا عنه، أو مأمورا به، مع جريان حكم المعصية عليه، أو بدونه، فيه أقوال، هذا على الامتناع. وأما على القول بالجواز، فعن أبي هاشم (1) أنه مأمور به ومنهي عنه، واختاره الفاضل القمي (2)، ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء. والحق أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون مامورا به، كما إذا لم يكن هناك توقف (3) عليه، أو بلا انحصار به، وذلك ضرورة أنه حيث كان قادرا على ترك
(1) راجع شرح مختصر الاصول / 94. هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، ولد عام 247 ه من أبناء ابان مولى عثمان، عالم بالكلام، من كبار المعتزلة، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت ” البهشمية ” نسبة إلى كنيته أبي هاشم وله مصنفات منها: ” الشامل ” في الفقه و ” تذكرة العالم ” و ” العدة ” في الاصول مات سنة 321 ه. ” الاعلام للزركلي 4 / 7 “. (2) قوانين الاصول 1 / 153، في التنبيه الثاني، من قانون دلالة النهي على الفساد. (3) لا يخفى إنه لا توقف ها هنا حقيقة، بداهة أن الخروج إنما هو مقدمة للكون في خارج الدار، لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب، لكونه ترك الحرام، نعم بينهما ملازمة لاجل التضاد بين الكونين، ووضوح الملازمة بين وجود الشئ وعدم ضده، فيجب الكون في خارج الدار عرضا، لوجوب ملازمه حقيقة، فيجب مقدمته كذلك، وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أن مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام، فافهم. (منه قدس سره). *
[ 169 ]
الحرام رأسا، لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره، ويكون معاقبا عليه، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه، أو مع عدم الانحصار به، ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به، لكونه بسوء الاختيار. إن قلت: كيف لا يجديه، ومقدمة الواجب واجبة ؟ قلت: إنما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية. وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها، إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلا أنه كان بسوء الاختيار، ومعه لا يتغير عما هو علهى من الحرمة والمبغوضية، وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى، مع أنه خلاف الفرض، وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار. إن قلت (1): إن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام، بلا إشكال ولا كلام، وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم، ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام، فهو ليس بحرام في حال من الحالات، بل حاله حال مثل شرب الخمر، المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات.
(1) إشارة إلى مختار الشيخ (قده) مطارح الانظار / 155، الهداية 6 من القول في جواز اجتماع الامر والنهي. *
[ 170 ]
ومنه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول، وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لانه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه، وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلا ترك الدخول، فمن لم يشرب الخمر، لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا، لم يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه ما شرب الخمر فيها، إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى. وبالجملة لا يكون الخروج – بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له – إلا مطلوبا، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية، ويحكم عليه بغير المطلوبية. قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، على ما في تقريرات بعض الاجلة (1)، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب، إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل، وإن كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه، ولم يقع بسوء اختياره، إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الاقدام على ما هو قبيح وحرام، لولا [ أن ] (2) به التخلص بلا كلام كما هو المفروض في المقام، ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره. وبالجملة كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا، كما يتمكن منه دخولا، غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الاوقات، فكذلك الخروج، مع أنه مثله في
(1) مطارح الانظار 155. الهداية 6، من القول في جواز اجتماع الامر والنهي. (2) اثبتناها من بعض النسخ المطبوعة. *
[ 171 ]
الفرعية على الدخول، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين. ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة، وأنه إنما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه، لكون الغرض فيه أعظم، [ ف ] (1) من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى هلاك النفس، أو شرب الخمر، لئلا يقع في أشد المحذورين منهما، فيصدق أنه تركهما، ولو بتركه ما لو فعله لادي لا محالة إلى أحدهما، كسائر الافعال التوليدية، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها، واختيار تركها بعدم العمد إلى الاسباب، وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج، وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة. ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك، ولو على نحو هذه السالبة، ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما (2)، لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج. إن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا ؟ مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه، و [ وضوح ] (3) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة، ولو كان بسوء الاختيار، والعقل قد استقل بان
(1) أثبتناه من بعض النسخ المطبوعة. (2) في ” ب “: فيها. (3) أثبتناها من هامش ” ب ” المصححة. *
[ 172 ]
الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا. قلت: أولا: إنما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا، لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه، فإنه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع، كما إذا كانت المقدمة ممتنعة. وثانيا: لو سلم، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب لا لزوم إتيانه عقلا، خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا، ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الاشد ونقض الغرض الاهم، حيث أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا، وإنما كان سقوط الخطاب لاجل المانع، وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا، فتدبر جيدا. وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به، مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة، ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والايجاب، قبل الدخول وبعده، كما في الفصول (1)، مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما، وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما، وهذا أوضح من أن يخفى، كيف ؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول، عصيانا للنهي السابق، وإطاعة للامر اللاحق فعلا، ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد، وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز، فضلا عن القائل بالامتناع. كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة، كون النهي مطلقا وعلى كل حال، وكون الامر مشروطا بالدخول، ضرورة منافاة حرمة شئ كذلك، مع وجوبه
(1) الفصول / 138، الفصل الرابع من فصول النهي. *
[ 173 ]
في بعض الاحوال. وأما القول (1) بكونه مأمورا به ومنهيا عنه، ففيه – مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص، وكان بغير إذن المالك، وليس التخلص إلا منتزعا عن ترك الحرام المسبب (2) عن الخروج، لا عنوانا له – أن الاجتماع ها هنا لو سلم أنه لا يكون بمحال، لتعدد العنوان، وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد، كان محالا لاجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا، وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار، وما قيل أن الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، إنما هو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بأن الافعال غير اختيارية، بقضية أن الشئ ما لم يجب لم يوجد. فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول، بأن الامر بالتخلص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، ولا موجب للتقييد عقلا، لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين، إذ منشأ الاستحالة: إما لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم، مع تعدد الجهة، وإما لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار، وذلك لما عرفت من
(1) راجع قوانين الاصول 1 / 140، قانون اجتماع الامر والنهي. (2) قد عرفت – مما علقت على الهامش – أن ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة، وإنما المسبب عنه إنما هو الملازم له، وهو الكون في خارج الدار، نعم يكون مسببا عنه مسامحة وعرضا، وقد انقدح بذلك أنه لا دليل في البين الا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج، من باب أنه أقل المحذورين وأنه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر، فحينئذ يجب إعماله أيضا، بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال [ كإعمال ] النهي عن الغصب، ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه، فافهم (منه قدس سره). *
[ 174 ]
ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا بعنوانين، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال، نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الايجاب. ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع، وأما على القول بالامتناع، فكذلك، مع الاضطرار إلى الغصب، لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج، على القول بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية (1) عليه، أو مع غلبة ملاك الامر على النهي مع ضيق الوقت، أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن الضد واقتضائه، فإن الصلاة في الدار المغصوبة، وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلا أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادها، بناء على أنه لا يبقي مجال مع إحداهما للاخرى، مع كونها أهم منها، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة، وإن لم تكن مأمورا بها. الامر الثاني: قد مر (2) – في بعض المقدمات – أنه لا تعارض بين مثل خطاب (صل) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع، تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان، كي يقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا، بل إنما هو من باب
(1) اختاره الشيخ (قده)، مطارح الانظار / 153، وابن الحاجب، راجع شرح مختصر الاصول 94. (2) في الامر التاسع من المقصد الثاني في النواهي / 155. *
[ 175 ]
تزاحم المؤثرين والمقتضيين، فيقدم الغالب منهما، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه، هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما، وإلا كان بين الخطابين تعارض، فيقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا، وبطريق الان يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضيا، هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي، وإلا فلا بد من الاخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان، وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الاصول العملية. ثم لا يخفى (1) أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا، كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين، بل قضيته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا، وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها، لاضطرار أو جهل أو نسيان، كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية أصلا. فانقدح بذلك فساد الاشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما، فيما إذا قدم خطاب (لا تغصب) كما هو الحال فيما إذا كان الخطابان من أول الامر متعارضين، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا، وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب كما إذا لم يقع بينهما تعارض، ولم يكونا متكلفين للحكم الفعلي، فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلا المختص بما إذا لم يمنع عن
(1) هذا رد على الشيخ (قدس سره)، مطارح الانظار / 152. *
[ 176 ]
تأثيره مانع المقتضي، لصحة مورد الاجتماع مع الامر، أو بدونه فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له، أو عن فعليته، كما مر تفصيله. وكيف كان، فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح، وقد ذكروا لترجيح النهي وجوها: منها: إنه أقوى دلالة، لاستلزامه انتفاء جميع الافراد، بخلاف الامر. وقد أورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة، كدلالة الامر على الاجتزاء بأي فرد كان. وقد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالاطلاق بمقدمات الحكمة، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمال مثل (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقة، وهذا واضح الفساد، فتكون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي، يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الافراد، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها، إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه. قلت: دلالتها على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما، فيختلف سعة وضيقا، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الافراد، إلا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته (1) عليه بالخصوص، إلا بالاطلاق وقرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الاطلاق في غير مقام البيان، لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة، وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق، إذ الفرض عدم الدلالة على أنه المقيد أو المطلق.
(1) الظاهر أن أصل العبارة: عدم دلالة، (حقائق الاصول 1 / 412). *
[ 177 ]
اللهم إلا أن يقال: إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدعى ذلك في مثل (كل رجل)، وإن مثل لفظة (كل) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب وإن كان لا يلزم مجاز أصلا، لو أريد منه خاص بالقرينة، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا فيه إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول، لعدم استعماله إلا فيما وضع له، والخصوصية مستفادة من دال آخر، فتدبر. ومنها: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. وقد أورد عليه في القوانين (1)، بأنه مطلقا ممنوع، لان في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين. ولا يخفى ما فيه، فإن الواجب ولو كان معينا، ليس إلا لاجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أن الحرام ليس إلا لاجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه. ولكن يرد عليه أن الاولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصا مثل الصلاة وما يتلو تلوها. ولو سلم فهو أجنبي عن المقام (2)، فإنه فيما إذا دار بين الواجب والحرام.
(1) قوانين الاصول 1 / 153، في قانون اجتماع الامر والنهي. (2) فإن الترجيح به إنما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك، بما هو أوفق بغرضه، لا المقام وهو مقام جعل الاحكام، فإن المرجح هناك ليس إلا حسنها أو قبحها العقليان، لا موافقة الاغراض ومخالفتها، كما لا يخفى، تأمل تعرف (منه قدس سره). *
[ 178 ]
ولو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع. ولو سلم أنه يجدي ولو لم يحصل، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال لاصالة البراءة أو الاشتغال، كما في دوران الامر بين الوجوب والحرمة التعيينيين، لا فيما تجري، كما في محل الاجتماع، لاصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الاجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلا ونقلا. نعم لو قيل (1) بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة، ولو قيل بأصالة البراءة في الاجزاء والشرائط، لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية، فتأمل. ومنها: الاستقراء، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار، وعدم جواز الوضوء من الاناءين المشتبهين.
(1) كما هو غير بعيد كله بتقريب أن إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتية كاف في تأثيرها بما لها من المرتبة، ولا يتوقف تأثيرها كذلك على إحرازها بمرتبتها، ولذا كان العلم بمجرد حرمة شئ موجبا لتنجز حرمته، على ما هي عليه من المرتبة ولو كانت في أقوى مراتبها، ولاستحقاق العقوبة الشديدة على مخالفتها حسب شدتها، كما لا يخفى. هذا، لكنه إنما يكون إذا لم يحرز أيضا ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضية، وأما معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز أنه ذو مصلحة أو مفسدة مما لا يستقل العقل بحسنه أو قبحه، وحينئذ يمكن أن يقال بصحته عبادة لو أتى به بداعي الامر المتعلق بما يصدق عليه من الطبيعة، بناء على عدم اعتبار أزيد من إتيان العمل قربيا في العبادة، وامتثالا للامر بالطبيعة، وعدم اعتبار كونه ذاتا راجحا، كيف ويمكن أن لا يكون جل العبادات ذاتا راجحا، بل إنما يكون كذلك فيما إذا أتى بها على نحو قربي، نعم المعتبر في صحته عبادة، إنما هو أن لا يقع منه مبغوضا عليه، كما لا يخفى، وقولنا: (فتأمل) إشارة إلى ذلك (منه قدس سره). *
[ 179 ]
وفيه: أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء، ما لم يفد القطع. ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار. ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الايام، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطا بالمقام، لان حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الامكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا، فيحكم بجميع أحكامه، ومنها حرمة الصلاة عليها لا لاجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى، هذا لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، وإلا فهو خارج عن محل الكلام. ومن هنا انقدح أنه ليس منه ترك الوضوء من الاناءين، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعيا، ولا تشريع فيما لو توضأ منهما احتياطا، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك، بل إراقتهما كما في النص (1)، ليس إلا من باب التعبد، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحم الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الاناء الثانية، إما بملاقاتها، أو بملاقاة الاولى، وعدم استعمال مطهر بعده، ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالاولى. نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها، بلا حاجة إلى التعدد وانفصال الغسالة لا يعلم تفصيلا بنجاستها، وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الاولى أو الثانية إجمالا، فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة. الامر الثالث: الظاهر لحوق تعدد الاضافات، بتعدد العنوانات والجهات، في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا، في جواز الاجتماع، كان تعدد الاضافات مجديا، ضرورة أنه يوجب أيضا
(1) التهذيب 1 / الباب 11، باب تطهير المياه من النجاسات، الحديث 43 – 44.. *
[ 180 ]
اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا، وبحسب الوجوب والحرمة شرعا، فيكون مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفساق) من باب الاجتماع (كصل ولا تغصب) لا من باب التعارض، إلا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض، كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين، فما يتراءى منهم من المعاملة مع مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفساق) معاملة تعارض العموم من وجه، إنما يكون بناء على الامتناع، أو عدم المقتضي لاحد الحكمين في مورد الاجتماع. فصل في أن النهي عن الشئ، هل يقتضي فساده أم لا ؟ وليقدم أمور: الاول: إنه قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة، وإنه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما، بما هو جهة البحث في الاخرى، وإن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الامر والنهي في مورد الاجتماع أم لا ؟ الثاني: إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الالفاظ، إنما هو لاجل أنه في الاقوال قول بدلالته على الفاسد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، ولا ينافي ذلك أن الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير عدمها تكون منتفية بينهما، لامكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة، بما تعم دلالتها بالالتزام، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمل جيدا.
[ 181 ]
الثالث: ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي، إلا أن ملاك البحث يعم التنزيهي، ومعه لا وجه لتخصيص العنوان (1)، واختصاص عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى. كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي، فيعم الغيري إذا كان أصليا، وأما إذا كان تبعيا، فهو وإن كان خارجا عن محل البحث، لما عرفت أنه في دلالة النهي والتبعي منه من مقولة المعنى، إلا أنه داخل فيما هو ملاكه، فإن دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للارشاد إليه، إنما يكون لدلالته على الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك، كما توهمه القمي (2) (قدس سره) ويؤيد ذلك أنه جعل ثمرة النزاع في أن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، فساده إذا كان عبادة، فتدبر جيدا. الرابع: ما يتعلق به النهي، إما أن يكون عبادة أو غيرها، والمراد بالعبادة – هاهنا – ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لولا حرمته، كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه، أو ما لو تعلق الامر به كان أمره أمرا عباديا، لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربى، كسائر أمثاله، نحو صوم العيدين والصلاة في أيام العادة، لا ما أمر به
(1) ذهب إليه الشيخ (قده)، مطارح الانظار / 157. (2) قوانين الاصول 1 / 102. في المقدمة السادسة. هو ابو القاسم ابن المولى محمد حسن الجيلاني المعروف بالميرزا القمي. تولد سنة 1151 في جابلق، فرغ من تشييد مقدمات الكمال في قم، ثم انتقل إلى خونسار فاشتغل على المحقق الامير سيد حسين ثم توجه إلى العتبات العاليات، تتلمذ عند العلامة المروج فاجاز له في الرواية والاجتهاد، له مؤلفات كثيرة منها ” القوانين ” و ” الغنائم ” و ” المناهج “. توفي سنة 1231 (روضات الجنات 5 / 369 رقم 547). *
[ 182 ]
لاجل التعبد به (1)، ولا ما يتوقف صحته على النية (2)، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شئ (3)، كما عرف بكل منها العبادة، ضرورة أنها بواحد منها، لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي، مع ا أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا، أو بغيره، كما يظهر من مراجعة المطولات (4)، وإن كان الاشكال بذلك فيها في غير محله، لاجل كون مثلها من التعريفات، ليس بحد ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم كما نبهنا عليه غير مرة، فلا وجه لاطالة الكلام بالنقض والابرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة. الخامس: إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد، بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الاثر، وأخرى لا كذلك، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه، أما ما لا أثر له شرعا، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه، كبعض أسباب الضمان، فلا يدخل في عنوان النزاع لعدم طروء الفساد عليه كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه أو لا، فالمراد بالشئ في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي تقدم، والمعاملة بالمعنى الاعم، مما يتصف بالصحة والفساد، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما، فافهم. السادس: إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والانظار، فربما يكون شئ واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر وفاسدا بحسب آخر، ومن هنا صح أن يقال: إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنى واحد وهو التمامية، وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار
(1) اختاره الشيخ (قده) مطارح الانظار / 158، في الامر الثالث. (2) مال إليه المحقق القمي، قوانين الاصول 1 / 154، في المقدمة الاولى. (3) يزين الرب تلمحقق القمي أيضا، المصدر السابق. (4) راجع مطارح الانظار 158، والفصول / 139. (*)
[ 183 ]
التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة، إنما يكون لاجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الاثر، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا. فلما كان غرض الفقيه، هو وجوب القضاء، أو الاعادة، أو عدم الوجوب، فسر صحة العبادة بسقوطهما، وكان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة، فسرها بما يوافق الامر تارة، وبما يوافق الشريعة اخرى. وحيث أن الامر في الشريعة يكون على أقسام: من الواقعي الاولى، والثانوي، والظاهري، والانظار تختلف في أن الاخيرين يفيدان الاجزاء أو لا يفيدان، كان الاتيان بعبادة موافقة لامر ومخالفة لاخر، أو مسقطا للقضاء والاعادة بنظر، وغير مسقط لهما بنظر آخر، فالعبادة الموافقة للامر الظاهري، تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه، بناء على أن الامر في تفسير الصحة بموافقة الامر أعم من الظاهري، مع اقتضائه للاجزاء، وعدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته، بناء على عدم الاجزاء، وكونه مراعى بموافقة الامر الواقعي [ و ] (1) عند المتكلم، بناء على كون الامر في تفسيرها خصوص الواقعي. تنبيه: وهو أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم، وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها، وأما الصحة بمعنى سقوط القضاء والاعادة عند الفقيه، فهي من لوازم الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الاولي عقلا، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الاعادة أو القضاء معه جزما، فالصحة بهذا المعنى فيه، وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف، إلا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم (2)، بل مما يستقل به
(1) اثبتنا الزيادة من طبعة المشكيني. (2) انظر مطارح الانظار / 160، في تذنيب الهداية الاولى من القول في اقتضاء النهي للفساد. (*)
[ 184 ]
العقل، كما يستقل باستحقاق المثوبة به وفي غيره، فالسقوط ربما يكون مجعولا، وكان الحكم به تخفيفا ومنة على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما، كما عرفت في مسألة الاجزاء، كما ربما يحكم بثبوتهما، فيكون الصحة والفساد فيه حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين. نعم، الصحة والفساد في الموارد الخاصة، لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنما هي تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به، هذا في العبادات. وأما الصحة في المعاملات، فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتب الاثر على معاملة إنما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاء، ضرورة أنه لولا جعله، لما كان يترتب عليه، لاصالة الفساد. نعم صحة كل معاملة شخصية وفسادها، ليس إلا لاجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه، كما هو الحال في التكليفية من الاحكام، ضرورة أن اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما، ليس إلا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام. السابع: لا يخفى أنه لا أصل في المسألة يعول عليه، لو شك في دلالة النهي على الفساد. نعم، كان الاصل في المسألة الفرعية الفساد، لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة. وأما العبادة فكذلك، لعدم الامر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى. الثامن: إن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة، أو جزأها، أو شرطها الخارج عنها، أو وصفها الملازم لها كالجهر والاخفات (1) للقراءة، أو وصفها الغير الملازم كالغصبية لاكوان الصلاة المنفكة عنها.
(1) فإن كل واحد منهما لا يكاد ينفك عن القراءة، وإن كانت هي تنفك عن أحدهما، فالنهي عن أيهما يكون مساوقا للنهي عنها، كما لا يخفى. (منه قدس سره).
[ 185 ]
لا ريب في دخول القسم الاول في محل النزاع، وكذا القسم الثاني بلحاظ أن جزء العبادة عبادة، إلا أن بطلان الجزء لا يوجب بطلانها، إلا مع الاقتصار عليه، لا مع الاتيان بغيره مما لا نهي عنه، إلا أن يستلزم محذورا آخر. وأما القسم الثالث، فلا يكون حرمة الشرط والنهي عنه موجبا لفساد العبادة، إلا فيما كان عبادة، كي تكون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به. وبالجملة لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة به، لو لم يكن موجبا لفساده، كما إذا كانت عبادة. وأما القسم الرابع، فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها، لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها، مع كون الجهر بها منهيا عنه (1) فعلا، كما لا يخفى. وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقا، كما في القسم الخامس، فإن النهي عنه لا يسري إلى الموصوف، إلا فيما إذا اتحد معه وجودا، بناء على امتناع الاجتماع، وأما بناء على الجواز فلا يسري إليه، كما عرفت في المسألة السابقة، هذا حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف. وأما النهي عن العبادة لاجل أحد هذه الامور، فحاله حال النهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق. وبعبارة أخرى: كان النهي عنها بالعرض، وإن كان النهي عنها على نحو الحقيقة، والوصف بحاله، وإن كان بواسطة أحدها، إلا أنه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض، كان حاله حال النهي في القسم الاول، فلا تغفل.
(1) في ” ب “: عنها. (*)
[ 186 ]
ومما ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة، يظهر حال الاقسام في المعاملة، فلا يكون بيانها على حدة بمهم، كما أن تفصيل الاقوال في الدلالة على الفساد وعدمها، التي ربما تزيد على العشرة – على ما قيل (1) – كذلك، إنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة، ولا بد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الاقوال، من بسط المقال في مقامين: الاول في العبادات: فنقول وعلى الله الاتكال: إن النهي المتعلق بالعبادة بنفسها، ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة – كما عرفت – مقتض (2) لفسادها، لدلالته على حرمتها ذاتا، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحة بمعنى موافقة الامر أو الشريعة مع الحرمة، وكذا بمعنى سقوط الاعادة، فإنه مترتب على إتيانها بقصد القربة، وكانت مما يصلح لان يتقرب به (3)، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك، ويتأتى قصدها من الملتفت إلى حرمتها، كما لا يخفى. لا يقال: هذا لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية، ولا يكاد يتصف بها العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلا تشريعا، ومعه تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة، ومعه لا تتصف بحرمة أخرى، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين. فإنه يقال: لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة – لو كان مأمورا به – بالحرمة الذاتية، مثلا صوم العيدين كان عبادة منهيا عنها، بمعنى أنه لو أمر به كان عبادة، لا يسقط الامر به إلا إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الايام، هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة، كالسجود لله تعالى ونحوه، وإلا كان محرما مع
(1) مطارح الانظار / 162، في الهداية الثانية من القول في اقتضاء النهي للفساد. (2) في ” أ وب “: مقتضى. (3) هكذا في ” أ وب “: وفي بعض النسخ المطبوعة ” بها “. (*)
[ 187 ]
كونه فعلا عبادة، مثلا إذا نهي الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى، كان عبادة محرمة ذاتا حينئذ، لما فيه من المفسدة والمبغوضية في هذا الحال، مع أنه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعية، بناء على أن الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متصفا بالحرمة، بل إنما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجري والانقياد، فافهم. هذا مع أنه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة، لكان دالا على الفساد، لدلالته على الحرمة التشريعية، فإنه لا أقل من دلالته على أنها ليست بمأمور بها، وإن عمها إطلاق دليل الامر بها أو عمومه، نعم لو لم يكن النهي عنها إلا عرضا، كما إذا نهى عنها فيما كانت ضد الواجب مثلا، لا يكون مقتضيا للفساد، بناء على عدم اقتضاء الامر (1) بالشئ للنهي عن الضد الا كذلك أي عرضا، فيخصص به أو يقيد. المقام الثاني في المعاملات: ونخبة القول، أن النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد، لعدم الملازمة فيها – لغة ولا عرفا – بين حرمتها وفسادها أصلا، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبب بها إليه، وإن لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الافعال بحرام، وإنما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع أو بيع شئ. نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الارشاد إلى فسادها، كما أن الامر بها يكون ظاهرا في الارشاد إلى صحتها من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها، كما لا يخفى، لكنه في المعاملات بمعنى العقود والايقاعات، لا المعاملات بالمعنى الاعم المقابل للعبادات، فالمعول هو ملاحظة القرائن في
(1) في ” ب ” عدم الاقتضاء للامر بالشئ.. الخ (*).
[ 188 ]
خصوص المقامات، ومع عدمها لا محيص عن الاخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة، وقد عرفت أنها غير مستتبعة للفساد، لا لغة ولا عرفا. نعم ربما يتوهم استتباعها له شرعا، من جهة دلالة غير واحد من الاخبار عليه، منها ما رواه في الكافي والفقيه، عن زرارة، عن الباقر عليه السلام (1): (سأله عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذلك إلى سيده، إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله تعالى، إن الحكم بن عتيبة (2) وإبراهيم النخعي وأصحابهما، يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا يحل إجازة السيد له، فقال أبو جعفر عليه السلام: إنه لم يعص الله، إنما عصى سيده، فإذا أجاز فهو له جائز) حيث دل بظاهره ان النكاح لو كان مما حرمه الله تعالى عليه كان فاسدا، ولا يخفى أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا، أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى، ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به، كما أطلق عليه (3) بمجرد عدم إذن السيد فيه أنه معصية. وبالجملة: لو لم يكن ظاهرا في ذلك، لما كان ظاهرا فيما توهم، وهكذا
(1) الكافي / 478، الحديث 3، باب المملوك يتزوج بغير إذن مولاه، الفقيه 3 / 350 الحديث 4 باب طلاق العبد – التهذيب 7 / 351 الحديث 63 في العقود على الاماء. (2) في ” أ وب “: حكم بن عتبة. (3) وجه ذلك أن العبودية تقتضي عدم صدور العبد إلا عن أمر سيده وإذنه، حيث أنه كل عليه لا يقدر على شئ، فإذا استقل بأمر كان عاصيا حيث أتى بما ينافيه مقام عبوديته، لا سيما مثل التزوج الذي كان خطيرا، وأما وجه أنه لم يعص الله فيه، فلاجل كون التزوج بالنسبة إليه أيضا كان مشروعا ماضيا، غايته أنه يعتبر في تحققه إذن سيده ورضاه، وليس كالنكاح في العدة غير مشروع من أصله، فإذا أجاز ما صدر عنه بدون إذنه فقد وجد شرط نفوذه وارتفع محذور عصيانه، فعصيانه لسيده. (منه قدس سره). *
[ 189 ]
حال سائر الاخبار الواردة في هذا الباب (1)، فراجع وتأمل. تذنيب: حكي عن أبي حنيفة (2) والشيباني (3) دلالة النهي على الصحة، وعن الفخر (4) أنه وافقهما في ذلك، والتحقيق (5) انه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالامر، ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة، وأما إذا كان عن السبب، فلا، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا، نعم قد عرفت أن النهي عنه لا ينافيها. وأما العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى، فمع النهي عنه يكون مقدورا، كما إذا كان مامورا به، وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مامورا به، فلا يكاد يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الامر والنهي في شئ ولو بعنوان واحد، وهو محال، وقد عرفت أن النهي في هذا القسم إنما يكون نهيا عن العبادة، بمعنى أنه لو كان مأمورا به، كان الامر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة، فافهم.
(1) راجع وسائل الشيعة 14، الباب 23 إلى 25 من أبواب نكاح العبيد والاماء. (2 و 3) شرح تنقيح الفصول، 173. (4) أي فخر المحققين (ره) نجل العلامة الحلي (ره). (5) ملخصه أن الكبرى وهي: ان النهي – حقيقة – إذا تعلق بشئ ذي أثر كان دالا على صحته وترتب أثره عليه، لاعتبار القدرة فيما تعلق به النهي كذلك وإن كانت مسلمة، إلا أن النهي كذلك لا يكاد يتعلق بالعبادات، ضرورة امتناع تعلق النهي كذلك بما تعلق به الامر كذلك، وتعلقه بالعبادات بالمعنى الاول وإن كان ممكنا، إلا أن أثر المرغوب منها عقلا أو شرعا غير مترتب عليها مطلقا، بل على خصوص ما ليس بحرام منها وهكذا الحال في المعاملات، فإن كان الاثر في معاملة مترتبا عليها ولازما لوجودها كان النهي عنها دالا على ترتبه عليها، لما عرفت. (منه قدس سره). *
[ 191 ]
المقصد الثالث المفاهيم
[ 193 ]
المقصد الثالث: في المفاهيم مقدمة وهي: إن المفهوم – كما يظهر من موارد إطلاقه – هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ، بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الايجاب والسلب أو خالفه، فمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه) مثلا – لو قيل به – قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها، لازمة للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية اللفظية، وتكون لها خصوصية، بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها، فصح أن يقال: إن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور، لا أنه حكم لغير مذكور، كما فسر (1) به، وقد وقع فيه النقض والابرام بين الاعلام (2)، مع أنه لا موقع له كما أشرنا إليه في غير مقام، لانه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي. ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام، فلا يهمنا التصدي لذلك، كما لا يهمنا بيان أنه من صفات المدلول أو الدلالة وإن كان بصفات
(1) كما عن العضدي، راجع شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 306، في المنطوق والمفهوم. (2) راجع تقريرات الشيخ مطارح الانظار / 167 والفصول / 145 والقوانين 1 / 167. *
[ 194 ]
المدلول أشبه، وتوصيف الدلالة [ به ] (1) أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق. وقد انقدح من ذلك أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة، إنما يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الاخرى، أم لا ؟ فصل الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام، أم لا ؟ فيه خلاف بين الاعلام. لا شبهة في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام، إنما الاشكال والخلاف في أنه بالوضع أو بقرينة عامة، بحيث لابد من الحمل عليه لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلا بد للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة، بأحد الوجهين على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط، نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة. وأما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة، فإن له منع دلالتها على اللزوم، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق، أو منع دلالتها على الترتب، أو على نحو الترتب على العلة، أو العلة المنحصرة بعد تسليم اللزوم أو العلية. لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى كونها اتفاقية، في غاية السقوط، لانسباق اللزوم منها قطعا، وأما المنع عن أنه بنحو الترتب على العلة فضلا عن كونها منحصرة، فله مجال واسع. ودعوى تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة – مع كثرة
(1) أثبتناه من ” أ “. *
[ 195 ]
استعمالها في الترتب على نحو الترتب على الغير المنحصرة منها بل في مطلق اللزوم – بعيدة، عهدتها على مدعيها، كيف ؟ ولايرى في استعمالها فيهما (1) عناية، ورعاية علاقة، بل إنما تكون إرادته كإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عناية، كما يظهر على من أمعن النظر وأجال البصر (2) في موارد الاستعمالات، وفي عدم الالزام والاخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات، وصحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه مفهوم، وعدم صحته لو كان له ظهور فيه معلوم. وأما دعوى الدلالة، بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل افرادها، وهو اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها، ففاسدة جدا، لعدم كون الاكملية موجبة للانصراف إلى الاكمل، لاسيما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى. هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة، فإن الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاص الذي لا بد منه في تأثير العلة في معلولها آكد وأقوى. إن قلت: نعم، ولكنه قضية الاطلاق بمقدمات الحكمة، كما ان قضية إطلاق صيغة الامر هو الوجوب النفسي. قلت: أولا: هذا فيما تمت هناك مقدمات الحكمة، ولا تكاد تتم فيما هو مفاد الحرف كما هاهنا، وإلا لما كان معنى حرفيا، كما يظهر وجهه بالتأمل. وثانيا: تعينه من بين أنحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين، ومقايسته مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الامر مع الفارق، فإن النفسي هو الواجب على كل حال بخلاف الغيري، فإنه واجب على تقدير دون
(1) في ” ب “: فيها. (2) في ” ب “: البصيرة. *
[ 196 ]
تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الاطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة، ضرورة أن كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب، محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى. ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب أنه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده، وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا. وفيه أنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلا أنه من المعلوم ندرة تحققه، لو لم نقل بعدم اتفاقه. فتلخص بما ذكرناه، أنه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، ولم تقم عليها قرينة عامة، أما قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها، مما لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم، انه قضية (1) الاطلاق في مقام من باب الاتفاق. وأما توهم أنه قضية (2) إطلاق الشرط، بتقريب أن مقتضاه تعينه، كما أن مقتضى إطلاق الامر تعين الوجوب. ففيه: أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا، كما كان في الوجوب كذلك، وكان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر، لابد في التخييري منهما من العدل، وهذا بخلاف الشرط فإنه واحدا كان أو متعددا، كان نحوه واحدا ودخله في المشروط بنحو واحد، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق إثباتا، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل لاحتياج ما له العدل إلى زيادة مؤونة، وهو ذكره بمثل (أو كذا)
(1 و 2) في ” ب “: قضيته. *
[ 197 ]
واحتياج ما إذا كان الشرط متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد، لا لبيان نحو الشرطية، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف، كان هناك شرط آخر أم لا، حيث كان مسوقا لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال. بخلاف إطلاق الامر، فإنه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الاهمال أو الاجمال، تأمل تعرف. هذا مع أنه لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم، لما عرفت أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الاطلاق من باب الاتفاق. ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه: أحدها: ما عزي إلى السيد (1) من أن تأثير الشرط، إنما هو تعليق الحكم به، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن كونه شرطا، فإن قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (2) يمنع من قبول الشاهد الواحد، حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الاول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم امرأتين إلى الشاهد الاول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإن انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها، والامثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا. والجواب: أنه (قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في مقام الثبوت وفي الواقع، فهو مما لا يكاد ينكر، ضرورة أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الاثبات، ودلالة القضية الشرطية عليه، وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرد الاحتمال لا يضره، ما لم يكن
(1) الذريعة: 1 / 406، في جوابه عن ثالث وجوه أدلة القول بثبوت المفهوم. (2) البقرة / 282. *
[ 198 ]
بحسب القواعد اللفظية راجحا أو مساويا، وليس فيما أفاده ما يثبت ذلك أصلا، كما لا يخفى. ثانيها: إنه لو دل لكان بإحدى الدلالات، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة، وقد أجيب عنه بمنع بطلان التالي، وأن الالتزام ثابت، وقد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل. ثالثها: قوله تبارك وتعالى (1): (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا). وفيه ما لا يخفى، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له أحيانا وبالقرينة، لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها، وإنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة، كما عرفت. بقى هاهنا أمور: الامر الاول: إن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه، ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده، فلا (2) يتمشى الكلام – في أن للقضية الشرطية مفهوما أو ليس لها مفهوم – إلا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء، وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا، وإنما وقع النزاع في أن النزاع في أن لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون لها دلالة. ومن هنا انقدح أنه ليس من المفهوم دلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والاوقاف والنذور والايمان، كما توهم (3)، بل عن الشهيد
(1) النور / 33. (2) في ” ب “: ولا. (3) مطارح الانظار / 173، الهداية الثالثة من القول في المفهوم والمنطوق. *
[ 199 ]
في تمهيد القواعد (1)، أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم، وذلك لان انتفاءها عن غير ما هو المتعلق لها، من الاشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شئ أو بشرطه، مأخوذة في العقد أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل لاجل أنه إذا صار شئ وقفا على أحد أو أوصى به أو نذر له، إلى غير ذلك، لا يقبل أن يصير وقفا على غيره أو وصية أو نذرا له، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير مورد المتعلق، قد عرفت أنه عقلي مطلقا ولو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له. إشكال ودفع: لعلك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم ؟ لا نفس شخص الحكم في القضية، وكان الشرط في الشرطية إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره، فغاية قضيتها انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه، وهكذا الحال في سائر القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم. ولكنك غفلت عن أن المعلق على الشرط، إنما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد الصيغة ومعناها، وأما الشخص والخصوصية الناشئة من قبل استعمالها فيه، لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه، كما لا يخفى، كما لا تكون الخصوصية الحاصلة من قبل الاخبار به،، من خصوصيات ما أخبر به
(1) تمهيد القواعد / 14، القاعدة 25، عند قوله: ذهب جماعة من الاصوليين إلى أن مفهوم الصفة والشرط حجة… الخ. الشهيد الثاني هو الشيخ الاجل زين الدين بن نور الدين العاملي الجبعي ولد عام 911 ه، قرأ على والده جملة من الكتب العربية والفقه، ختم القرآن وعمره تسع سنين. ارتحل إلى بلاد عديدة وقرأ على كثير من العلماء منهم الشيخ علي بن عبد العالي الميسي، ثم انتقل إلى بلده واشتغل بالتدريس والتصنيف ومصنفاته كثيرة مشهورة أولها ” الروض ” وآخرها ” الروضة ” ومن تلامذته ابنه صاحب المعالم وصاحب المدارك ووالد البهائي وغيرهم، استشهد سنة 966 ه (الكنى والالقاب 2 / 344). *
[ 200 ]
واستعمل فيه إخبارا لا إنشاء. وبالجملة: كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الاخبار به، كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه، وقد عرفت بما حققناه في معنى الحرف وشبهه، أن ما استعمل فيه الحرف عام كالموضوع له، وأن خصوصية لحاظه بنحو الآلية والحالية لغيره من خصوصية الاستعمال، كما أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك، فيكون اللحاظ الآلي كالاستقلالي، من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه. وبذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات (1) في مقام التفصي عن هذا الاشكال، من التفرقة بين الوجوب الاخباري والانشائي، بأنه كلي في الاول، وخاص في الثاني، حيث دفع الاشكال بأنه لا يتوجه في الاول، لكون الوجوب كليا، وعلى الثاني بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها، فإنه يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب والوصف. وأورد (2) على ما تفصي به عن الاشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه، بما حاصله: إن التفصي لا يبتني على كلية الوجوب، لما أفاده، وكون الموضوع له في الانشاء عاما لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه، حيث أن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الالفاظ. وذلك لما عرفت من أن الخصوصيات في الانشاءات والاخبارات، إنما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلا بينهما، ولعمري – لا يكاد ينقضي تعجبي – كيف تجعل خصوصيات الانشاء من خصوصيات المستعمل
) (1) مطارح الانظار / 173، في الهداية الثالثة من القول في المنطوق والمفهوم. (2) المصدر المتقدم / 173 في الهداية الثالثة من القول في المفهوم والمنطوق. *
[ 201 ]
فيه ؟ مع أنها كخصوصيات الاخبار، تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمل. الامر الثاني: إنه إذا تعدد الشرط، مثل (إذا خفي الاذان فقصر، وإذا خفي الجدران فقصر)، فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، لابد من التصرف ورفع اليد عن الظهور. إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين. وإما برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شئ آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الاول، فإن فيهما الدلالة على ذلك. وإما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء الاذان والجدران معا، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو خفي أحدهما. وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدد الشرط قرينة على أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان. ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني، كما أن العقل ربما يعين هذا الوجه، بملاحظة أن الامور المتعددة بما هي مختلفة، لا يمكن أن يكون كل منها مؤثرا في واحد، فإنه لا بد من الربط الخاص بين العلة والمعلول، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطا بالاثنين بما هما اثنان، ولذلك إيضا لا يصدر من الواحد إلا الواحد، فلا بد من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والاذهان العامية
[ 202 ]
على تعدد الشرط وتأثير كل شرط بعنوانه الخاص، فافهم. الامر الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، فلا إشكال على الوجه الثالث، وأما على سائر الوجوه، فهل اللازم لزوم الاتيان بالجزاء متعددا، حسب تعدد الشروط ؟ أو يتداخل، ويكتفى بإتيانه دفعة واحدة ؟ فيه أقوال: والمشهور عدم التداخل، وعن جماعة – منهم المحقق الخوانساري (1) – التداخل، وعن الحلي (2) التفصيل بين اتحاد جنس الشروط وتعدده. والتحقيق: إنه لما كان ظاهر الجملة الشرطية، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه، أو بكشفه عن سببه، وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط، كان الاخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجودا محالا، ضرورة أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة – مثل الوضوء – بما هي واحدة، في مثل (إذا بلت فتوضأ، وإذا نمت فتوضأ)، أو فيما إذا بال مكررا، أو نام (3) كذلك، محكوما بحكمين متماثلين، وهو واضح الاستحالة كالمتضادين. فلابد على القول بالتداخل من التصرف فيه: إما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرد الثبوت، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة، إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط، متصادقة على واحد، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة، حسب
(1) مشارق الشموس 61، كتاب الطهارة في تداخل الاغسال الواجبة، قال: لان تداخل الاسباب لا يوجب تعدد المسببات. (2) السرائر / 55، في باب أحكام السهو والشك في الصلاة. هو محمد بن احمد بن ادريس الحلي، فاضل فقيه ومحقق نبيه، فخر الاجلة وشيخ فقهاء الحلة صاحب كتاب ” السرائر ” و ” مختصر تبيان الشيخ ” توفي سنة 598 وهو ابن خمس وخمسين (الكنى والالقاب 1 / 201) (3) في ” ب “: و. *
[ 203 ]
تعدد الشروط، إلا أن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها، كما في (أكرم هاشميا وأضف عالما)، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة، ضرورة أنه بضيافته بداعي الامرين، يصدق أنه امتثلهما، ولا محالة يسقط الامر بامتثاله وموافقته، وإن كان له امتثال كل منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة، وأضاف العالم الغير الهاشمي. إن قلت: كيف يمكن ذلك – أي الامتثال بما تصادق (1) عليه العنوانان – مع استلزامه محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه ؟ قلت: انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين، بل غايته أن انطباقهما عليه يكون منشأ لاتصافه بالوجوب وانتزاع صفته له، مع أنه – على القول بجواز الاجتماع – لا محذور في اتصافه بهما، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد، فافهم. أو الالتزام بحدوث الاثر عند وجود كل شرط، إلا أنه وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الاول، وتأكد وجوبه عند الآخر. ولا يخفى أنه لا وجه لان يصار إلى واحد منها، فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه، مع ما في الاخيرين من الاحتياج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق على واحد، وإن كان صورة واحدا سمي (2) باسم واحد، كالغسل، وإلى إثبات أن الحادث بغير الشرط الاول تؤكد ما حدث بالاول، ومجرد الاحتمال لا يجدي، ما لم يكن في البين ما يثبته. إن قلت: وجه ذلك هو لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية، لعدم امكان الاخذ بظهورها، حيث أن قضيته اجتماع الحكمين في الوضوء في
(1) في ” أ وب “: تصادقا. (2) في ” أ ” مسمى. *
[ 204 ]
المثال، كما مرت الاشارة إليه. قلت: نعم، إذا لم يكن المراد بالجملة – فيما إذا تعدد الشرط كما في المثال – هو وجوب وضوء مثلا بكل شرط غير ما وجب بالآخر، ولا ضير في كون فرد محكوما بحكم فرد آخر أصلا، كما لا يخفى. إن قلت: نعم، لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الاطلاق. قلت: نعم، لو لم يكن ظهور الجملة [ الشرطية ] (1) في كون الشرط سببا أو كاشفا عن السبب، مقتضيا لذلك أي لتعدد الفرد، و (2) بيانا لما هو المراد من الاطلاق. وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الاطلاق ضرورة أن ظهور الاطلاق يكون معلقا على عدم البيان، وظهورها في ذلك صالح لان يكون بيانا، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلا، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى (3). فتلخص بذلك، أن قضية ظاهر الجملة الشرطية، هو القول بعدم التداخل عند تعدد الشرط. وقد انقدح مما ذكرناه، أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه
(1) أثبتناها من ” ب “. (2) في ” أ “: والا كان بيانا. ولكن شطب عليه المصنف في ” ب “. (3) هذا واضح بناء على ما يظهر من شيخنا العلامة من كون ظهور الاطلاق معلقا على عدم البيان مطلقا، ولو كان منفصلا، وأما بناء على ما اخترناه في غير مقام، من أنه إنما يكون معلقا على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا، فالدوران حقيقة بين الظهورين حينئذ وإن كان، إلا أنه لا دوران بينهما حكما، لان العرف لا يكاد يشك بعد الاطلاع على تعدد القضية الشرطية أن قضيته تعدد الجزاء، وأنه في كل قضية وجوب فرد غير ما وجب في الاخرى، كما إذا اتصلت القضايا وكانت في كلام واحد، فافهم (منه قدس سره). *
[ 205 ]
التي ذكرناها، لا مجرد كون الاسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات، فلا وجه لما عن الفخر (1) وغيره، من ابتناء المسألة على أنها معرفات أو مؤثرات (2)، مع أن الاسباب الشرعية حالها حال غيرها، في كونها معرفات تارة ومؤثرات أخرى، ضرورة أن الشرط للحكم الشرعي في الجمل (3) الشرطية، ربما يكون مما له دخل في ترتب الحكم، بحيث لولاه لما وجدت له علة، كما أنه في الحكم الغير الشرعي، قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أن له الدخل فيهما، كما لا يخفى. نعم، لو كان المراد بالمعرفية في الاسباب الشرعية أنها ليست بدواعي الاحكام التي هي في الحقيقة علل لها، وإن كان لها دخل في تحقق موضوعاتها، بخلاف الاسباب الغير الشرعية، فهو وإن كان له وجه، إلا أنه مما لا يكاد يتوهم أنه يجدي فيما هم وأراد. ثم إنه لا وجه للتفصيل (4) بين اختلاف الشروط بحسب الاجناس وعدمه، واختيار عدم التداخل في الاول، والتداخل في الثاني، إلا توهم عدم صحة التعلق بعموم اللفظ في الثاني، لانه من أسماء الاجناس، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم يوجد إلا السبب الواحد، بخلاف الاول، لكون كل منها سببا، فلا وجه لتداخلها، وهو فاسد.
(1) فخر المحققين ابو طالب محمد بن جمال الدين حسن بن يوسف المطهر الحلي، ولد سنة 682، فاز بدرجة الاجتهاد في السنة العاشرة من عمره الشريف كان والده العلامة يعظمه ويثني عليه، له كتب منها ” غاية السؤل ” و ” شرح مبادئ الاصول “. توفي سنة 771 ه. (روضات الجنات 6 / 230 رقم 591). (2) حكى الشيخ الاعظم (ره) نسبته إلى فخر المحققين (ره) واحتمل تبعة النراقي (ره) له في العوائد / مطارح الانظار / 175 في الهداية 6 من القول في المفهوم والمنطوق. (3) في ” ب “: الجملة. (4) المفصل هو ابن إدريس في السرائر / 55، عند قوله (قده): فإن سها المصلي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرات كثيرة… الخ. *
[ 206 ]
فإن قضية اطلاق الشرط في مثل (إذا بلت فتوضأ) هو حدوث الوجوب عند كل مرة لو بال مرات، وإلا فالاجناس المختلفة لابد من رجوعها إلى واحد، فيما جعلت شروطا وأسبابا لواحد، لما مرت إليه الاشارة، من أن الاشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسبابا لواحد، هذا كله فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلا للتعدد. وأما ما لا يكون قابلا لذلك، فلابد من تداخل الاسباب، فيما لا يتأكد المسبب، ومن التداخل فيه فيما يتأكد. فصل الظاهر أنه لا مفهوم للوصف وما بحكمه مطلقا، لعدم ثبوت الوضع، وعدم لزوم اللغوية بدونه، لعدم انحصار الفائدة به، وعدم قرينة أخرى ملازمة له، وعليته فيما إذا استفيدت غير مقتضية له، كما لا يخفى، ومع كونها بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له، إلا أنه لم يكن من مفهوم الوصف، ضرورة أنه قضية العلة الكذائية المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام، وهو مما لا إشكال فيه ولا كلام، فلا وجه لجعله تفصيلا في محل النزاع، وموردا للنقض والابرام. ولا ينافي ذلك ما قيل من أن الاصل في القيد أن يكون احترازيا، لان الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية، مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد، فلا فرق أن يقال: جئني بإنسان أو بحيوان ناطق، كما أنه لا يلزم في حمل المطلق على المقيد، فيما وجد شرائطه إلا ذلك، من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم، فإنه من المعلوم أن قضية الحمل ليس إلا أن المراد بالمطلق هو المقيد، وكأنه لا يكون في البين غيره، بل ربما قيل (1):
(1) مطارح الانظار / 183. *
[ 207 ]
إنه لا وجه للحمل لو كان بلحاظ المفهوم، فإن ظهوره فيه ليس بأقوى من ظهور المطلق في الاطلاق، كي يحمل عليه، لو لم نقل بأنه الاقوى، لكونه بالمنطوق، كما لا يخفى. وأما الاستدلال على ذلك – أي عدم الدلالة على المفهوم – بآية (وربائبكم اللاتي في حجوركم) (1) ففيه أن الاستعمال في غيره أحيانا مع القرينة مما لا يكاد ينكر، كما في الآية قطعا، مع أنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل بالدلالة، أن لا يكون واردا مورد الغالب كما في الآية، ووجه الاعتبار واضح، لعدم دلالته معه على الاختصاص، وبدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم، فافهم. تذنيب: لا يخفى أنه لا شبهة في جريان النزاع، فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه، في مورد الافتراق من جانب الموصوف، وأما في غيره، ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه، وإن كان يظهر مما عن بعض الشافعية (2)، حيث قال: (قولنا في الغنم السائمة زكاة، يدل على عدم الزكاة في معلوفة الابل) جريانه فيه، ولعل وجهه استفادة العلية المنحصرة منه. وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا، فيدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه، فلا وجه في التفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخص من وجه (3)، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف، بأنه لا وجه للنزاع فيهما، معللا بعدم الموضوع، واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
(1) النساء / 23. (2) راجع المنخول للغزالي / 222، في مسائل المفهوم، عند قوله: (كقوله: في عوامل الابل زكاة… الخ). (3) التفصيل للشيخ، مطارح الانظار 182، عند قوله قده: ثم إن الوصف قد يكون مساويا… الخ.
[ 208 ]
فصل هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية، بناء على دخول الغاية في المغيى، أو عنها وبعدها، بناء على خروجها، أو لا ؟ فيه خلاف، وقد نسب (1) إلى المشهور الدلالة على الارتفاع، وإلى جماعة منهم السيد (2) والشيخ (3)، عدم الدلالة عليه. والتحقيق: إنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للحكم، كما في قوله: (كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام) (4)، و (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر) (5)، كانت دالة على ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلك منها، كما لا يخفى، وكونه قضية تقييده بها، وإلا لما كان ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النهاية. وأما إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع، مثل (سر من البصرة إلى
(1) كما في مطارح الانظار / 186، في مفهوم الغاية، المقام الثاني. (2) الذريعة 1 / 407، في عدم الفرق بين الوصف والغاية. (3) راجع عدة الاصول 2 / 24، تعليق الحكم بالغاية. هو ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، ولد سنة 385، قدم العراق سنة 408 ه، تلمذ على الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابي الحسين علي بن احمد بن محمد بن ابي الجيد القمي، ثم هاجر إلى مشهد امير المؤمنين (ع) خوفا من الفتنة التي تجددت ببغداد واحرقت كتبه وكرسي درسه، بقي في النجف إلى ان توفي سنة 460 ه له مصنفات كثيرة منها: ” التبيان ” و ” التهذيب ” و ” الاستبصار ” و ” المبسوط ” و ” الخلاف ” و ” العدة ” في الاصول. (الكنى والالقاب 2 / 357) (4) الكافي: 5 / 313. الحديث 40 من باب النوادر، كتاب المعيشة. باختلاف يسير. (5) التهذيب: 1 / 284. الحديث 119. باختلاف يسير. *
[ 209 ]
الكوفة)، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة، وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه وتعلق الطلب به، وقضيته ليس إلا عدم الحكم فيها إلا بالمغيى، من دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره، لعدم ثبوت وضع لذلك، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا، دلت على اختصاص الحكم به، وفائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد، غير منحصرة بإفادته كما مر في الوصف. ثم إنه في الغاية خلاف آخر، كما أشرنا إليه، وهو أنها هل هي داخلة في المغيى بحسب الحكم ؟ أو خارجة عنه ؟ والاظهر خروجها، لكونها من حدوده، فلا تكون محكومة بحكمه، ودخوله فيه في بعض الموارد إنما يكون بالقرينة، وعليه تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الاول، كما أنه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقا، ثم لا يخفى أن هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم، فلا تغفل (1). فصل لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم – سلبا أو إيجابا – بالمستثنى منه ولا يعم المستثنى، ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتا، ومن الاثبات نفيا، وذلك للانسباق عند الاطلاق قطعا، فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة (2) من عدم الافادة، محتجا بمثل (لا صلاة إلا بطهور) ضرورة ضعف احتجاجه:
(1) حيث أن المغيى حينئذ هو نفس الحكم، لا المحكوم به ليصح أن ينازع في دخول الغاية في حكم المغيى، أو خارج عنه، كما لا يخفى، نعم يعقل أن ينازع في أن الظاهر هل هو انقطاع الحكم المغيى بحصول غايته [ في ] الاصطلاح، اي مدخول إلى أو حتى. أو استمراره في تلك الحال، ولكن الاظهر هو انقطاعه، فافهم واستقم، (منه قدس سره). (2) راجع شرح مختصر الاصول للعضدي / 265، والتقرير والتحبير 1 / 313. = *
[ 210 ]
أولا: يكون المراد من مثله (1) أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لاجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة، إلا إذا كانت واجدة للطهارة، وبدونها لا تكون صلاة على وجه، وصلاة تامة مأمورا بها على آخر. وثانيا: بأن الاستعمال مع القرينة، كما في مثل التركيب، مما علم فيه الحال لا دلالة له على مدعاه أصلا، كما لا يخفى. ومنه قد انقدح (2) أنه لا موقع للاستدلال على المدعى، بقبول رسول الله صلى الله عليه وآله إسلام من قال كلمة التوحيد، لامكان دعوى أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال. والاشكال في دلالتها عليه – بأن خبر (لا) اما يقدر (ممكن) أو (موجود) وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه، أما على الاول: فإنه (3) حينئذ لا دلالة لها إلا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى، لا وجوده، وأما على الثاني: فلانها وإن دلت على وجوده تعالى، إلا أنه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر – مندفع، بأن المراد من الاله هو واجب الوجود، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج، وإثبات فرد منه فيه – وهو الله – يدل بالملازمة البينة على امتناع تحققه في ضمن غيره تبارك وتعالى، ضرورة أنه لو لم يكن ممتنعا لوجد، لكونه من أفراد الواجب.
= أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي ولد عام 80 ه امام الحنفية – احد الائمة الاربعة عند اهل السنة، قيل اصله من ابناء فارس، ولد ونشأ بالكوفة، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ثم انقطع للتدريس والافتاء، توفي ببغداد عام 150 ه (الكنى والالقاب 1 / 50) (1) بل المراد من مثله في المستثنى منه نفي الامكان، وأنه لا يكاد يكون بدون المستثنى، قضيته ليس إلا إمكان ثبوته معه لا ثبوته فعلا، لما هو واضح لمن راجع أمثاله من القضايا العرفية (منه قدس سره). (2) رد على صاحب الفصول والشيخ (قدس سره) أنظر الفصول / 195، مطارح الانظار / 187 * (3) في ” ب ” فلانه. *
[ 211 ]
ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم، وأنه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية، نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة، كانت بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد. ومما يدل على الحصر والاختصاص (إنما) وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة. ودعوى – أن الانصاف (1) أنه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا، حتى يستكشف منها (2) ما هو المتبادر منها – غير مسموعة، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل. وربما يعد مما دل على الحصر، كلمة (بل) الاضرابية، والتحقيق أن الاضراب على أنحاء: منها: ماكان لاجل أن المضرب عنه، إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له على الحصر أصلا، فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء، كما لا يخفى. ومنها: ما كان لاجل التأكيد، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه، فلا دلالة له عليه أيضا. ومنها: ما كان في مقام الردع، وإبطال ما أثبت أولا، فيدل عليه (3) وهو
(1) المدعي هو الشيخ (قدس) مطارح الانظار / 188. (2) في ” ب “: منه. (3) إذا كان بصدد الردع عنه ثبوتا، وأما إذا كان بصدده إثباتا، كما إذا كان مثلا بصدد بيان أنه إنما أثبته أولا بوجه لا يصح معه الاثبات اشتباها، فلا دلالة له على الحصر أيضا، فتأمل جيدا (منه قدس سره) *
[ 212 ]
واضح. ومما يفيد الحصر – على ما قيل – تعريف المسند إليه باللام، والتحقيق أنه لا يفيده إلا فيما اقتضاه المقام، لان الاصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس، كما أن الاصل في الحمل في القضايا المتعارفة، هو الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود، فإنه الشائع فيها، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم، كما لا يخفى، وحمل شئ على جنس وماهية كذلك، لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به وحصرها عليه، نعم، لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق، أو أن مدخوله أخذ بنحو الارسال والاطلاق، أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لافيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به. وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الاعلام في المقام، وما وقع منهم من النقض والابرام، ولا نطيل بذكرها فإنه بلا طائل، كما يظهر للمتأمل، فتأمل جيدا. فصل لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلا، وقد عرفت أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم، كما أن قضية التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه، لانه ليس بذاك الخاص والمقيد، وأما الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالاضافة إلى كلا طرفيه، نعم لو كان لمجرد التحديد بالنظر إلى طرفه الاقل لما كان في الزيادة ضير أصلا، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة، كما لا يخفى، وكيف كان، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم، بل إنما يكون لاجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق، كما هو معلوم.
[ 213 ]
المقصد الرابع العام والخاص
[ 215 ]
المقصد الرابع: في العام والخاص فصل قد عرف (1) العام بتعاريف، وقد وقع من الاعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام، فإنها تعاريف لفظية، تقع في جواب السؤال عنه ب (ما) (2) الشارحة، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب (ما) (3) الحقيقية، كيف ؟ وكان المعنى المركوز منه في الاذهان أوضح مما عرف به مفهوما ومصداقا، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه، المقياس في الاشكال عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة يعتريه من أحد، والتعريف لابد أن يكون بالاجلى، كما هو أوضح من أن يخفى. فالظاهر أن الغرض من تعريفه، إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الاحكام، لا بيان ما هو حقيقته (4) وماهيته، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الاحكام من أفراده ومصاديقه، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الاحكام.
(1) راجع معارج الاصول / 81، وزبدة الاصول / 95، والمستصفى 2 / 32. (2 و 3) في ” أ “: بالما، وفي ” ب “: بالماء. (4) في ” ب ” حقيقة. *
[ 216 ]
ثم الظاهر أن ما ذكر له من الاقسام: من الاستغراقي (1) والمجموعي والبدلي إنما هو باختلاف كيفية تعلق الاحكام به، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الامر أن تعلق الحكم به تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا، بحيث لو أخل بإكرام واحد في (أكرم كل فقيه) مثلا، لما امتثل أصلا، بخلاف الصورة الاولى، فإنه أطاع وعصى، وثالثة بنحو يكون كل واحد موضوعا على البدل، بحيث لو أكرم واحدا منهم، لقد أطاع وامتثل، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل. وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها، فافهم. فصل لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه – لغة وشرعا – كالخصوص كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما، ضرورة أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه في أي لغة كان تخصه، ولا يخص الخصوص ولا يعمه، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في الخصوص عناية، بادعاء أنه العموم، أو بعلاقة العموم والخصوص. ومعه لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة، ولو في ضمنه بخلافه، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى، ولا إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع، حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خص)، والظاهر يقتضي كونه حقيقة، لما هو الغالب تقليلا للمجاز، مع أن تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به، مع
(1) إن قلت: كيف ذلك ؟ ولكل واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل (أي رجل) للبدلي، و (كل رجل) للاستغراقي. قلت: نعم، ولكنه لا يقتضي أن تكون هذه الاقسام له بملاحظة إختلاف كيفية تعلق الاحكام، لعدم إمكان تطرق هذه الاقسام إلا بهذه الملاحظة، فتأمل جيدا (منه قدس سره). *
[ 217 ]
كون العموم كثيرا ما يراد، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية، كما يأتي توضيحه، ولو سلم فلا محذور فيه أصلا إذا كان بالقرينة، كما لا يخفى. فصل ربما عد من الالفاظ الدالة على العموم، النكرة في سياق النفي أو النهي، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود، وإلا كانت موجودة، لكن لا يخفى أنها تفيده إذا أخذت مرسلة (1) لا مبهمة قابلة للتقيد، وإلا فسلبها لا يقتضي إلا استيعاب السلب، لما أريد منها يقينا، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فإنها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها، لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كل) على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة. نعم لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعا كان أو مفردا – بناء على إفادته للعموم – ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره، وإطلاق التخصيص على تقييده، ليس إلا من قبيل (ضيق فم الركية)، لكن دلالته على العموم وضعا محل منع، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمركب منهما، كما لا يخفى، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.
(1) وإحراز الارسال فيما اضيفت [ إليه ] إنما هو بمقدمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة، وهي ليست إلا بحكم الجزئية، فلا تفيد إلا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها، فافهم فإنه لا يخلو من دقة (منه قدس سره). *
[ 218 ]
فصل لا شبهة في أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقى فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا ولو كان متصلا، وما احتمل دخوله فيه أيضا إذا كان منفصلا، كما هو المشهور (1) بين الاصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلا إلى بعض (2) أهل الخلاف. وربما فصل (3) بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته، واحتج النافي بالاجمال، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات، وتعيين (4) الباقي من بينها بلا معين ترجيح بلا مرجح. والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا، أما في التخصيص بالمتصل، فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلا، وإن أدوات العموم قد استعملت فيه، وإن كان دائرته سعة وضيقا تختلف باختلاف ذوي الادوات، فلفظة (كل) في مثل (كل رجل) و (كل رجل عالم) قد استعملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالاضافة إلى الآخر بل في نفسها في غاية القلة. واما في المنفصل، فلان إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاص قرينة عليه، بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة، وكون الخاص مانعا عن حجية ظهوره تحكيما للنص، أو الاظهر على الظاهر، لامصادما لاصل ظهوره، ومعه لا مجال للمصير إلى أنه قد استعمل فيه مجازا، كي يلزم الاجمال.
(1) أنظر مطارح الانظار / 192. (2) كأبي ثور وعيسى بن أبان، راجع الاحكام في أصول الاحكام، الجزء الثاني / 443. (3) كالبلخي، راجع المصدر المتقدم / 444. (4) في ” ب ” تعين. *
[ 219 ]
لا يقال: هذا مجرد احتمال، ولا يرتفع به الاجمال، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه. فإنه يقال: مجرد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية تحكيما لما هو الاقوى، كما أشرنا إليه آنفا. وبالجملة: الفرق بين المتصل والمنفصل، وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الاول إلا في الخصوص، وفي الثاني إلا في العموم، إلا أنه لا وجه لتوهم استعماله مجازا في واحد منهما أصلا، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الاول، وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه في الثاني، فتفطن. وقد أجيب عن الاحتجاج (1)، بأن الباقي أقرب المجازات. وفيه: لا اعتبار في الاقربية بحسب المقدار، وإنما المدار على الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال، وفي تقريرات بحث شيخنا الاستاذ (2) (قدس سره) في مقام الجواب عن الاحتجاج، ما هذا لفظه: والاولى أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي، بأن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده، ولو كانت دلالة مجازية، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود، لان المانع في مثل المقام إنما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره، فلو شك فالاصل عدمه، انتهى موضع الحاجة.
قلت: لا يخفى أن دلالته على كل فرد إنما كانت لاجل دلالته على العموم والشمول، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص – كما هو المفروض – مجازا، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء التخصيص إليه، واستعمال العام فيه مجازا ممكنا، كان تعين (1) بعضها بلا معين ترجيحا بلا مرجح، ولا مقتضي لظهوره فيه، ضرورة أن الظهور إما بالوضع وإما بالقرينة، والمفروض أنه ليس بموضوع له، ولم يكن هناك قرينة، وليس له موجب آخر، ودلالته على كل فرد على حدة حيث كانت في ضمن دلالته على العموم، لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه، فالمانع عنه وإن كان مدفوعا بالاصل، إلا أنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع، نعم إنما يجدي إذا لم يكن مستعملا إلا في العموم، كما فيما حققناه في الجواب، فتأمل جيدا. فصل إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا، بأن كان دائرا بين الاقل والاكثر وكان منفصلا، فلا يسري إجماله إلى العام، لا حقيقة ولا حكما، بل كان العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص، لوضوح أنه حجة فيه بلا مزاحم أصلا، ضرورة أن الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه، تحكيما للنص أو الاظهر على الظاهر، لا فيما لا يكون كذلك، كما لا يخفى. وإن لم يكن كذلك بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا، أو بين الاقل والاكثر فيما كان متصلا، فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين المتباينين، وحقيقة في غيره: * (هامش (1) في ” أ “: تعيين. *
[ 221 ]
أما الاول: فلان العام – على ما حققناه (1) – كان ظاهرا في عمومه، إلا أنه يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما. وأما الثاني: فلعدم (2) انعقاد ظهور من رأس للعام، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكل واحد من الاقل والاكثر، أو لكل واحد من المتباينين، لكنه حجة في الاقل، لانه المتيقن في البين. فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل، وكذا في المجمل بين المتباينين والاكثر والاقل، فلا تغفل. وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق، بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون فردا له أو باقيا تحت العام، فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان متصلا به، ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلا في الخصوص، كما عرفت. وأما إذا كان منفصلا عنه، ففي جواز التمسك به خلاف، والتحقيق عدم جوازه، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه، أن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان فعلا حجة، ولا يكون حجة فيما اشتبه أنه من أفراده، فخطاب (لا تكرم فساق العلماء) لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل (أكرم العلماء) ولا يعارضه، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة، وهو في غاية الفساد، فإن الخاص وإن لم يكن دليلا في الفرد المشتبه فعلا، إلا أنه يوجب اختصاص حجية العام في غير عنوانه من الافراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلا وحجة في العالم الغير الفاسق، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقا للعام بلا كلام، إلا أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة، لاختصاص حجيته بغير الفاسق. وبالجملة العام المخصص بالمنفصل، وإن كان ظهوره في العموم، كما إذا
(1) في صفحة 219. (2) في ” ب “: ولعدم. *
[ 222 ]
لم يكن مخصصا، بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت، إلا أنه في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص مثله، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين، فلابد من الرجوع إلى ما هو الاصل في البين، هذا إذا كان المخصص لفظيا. وأما إذا كان لبيا، فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم، إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب، فهو كالمتصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص، وإن لم يكن كذلك، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه. والسر في ذلك، أن الكلام الملقى من السيد حجة، ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم، فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه، مثلا إذا قال المولى: (أكرم جيراني) وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدوا له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعدواته، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا، فإن قضية تقديمه عليه، هو كون الملقى إليه كأنه كان من رأس لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلا، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته، إلا فيما قطع أنه عدوه، لا فيما شك فيه، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى له لو لم يكرم واحدا من جيرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته على مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور. وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما، بإلقاء حجتين هناك، تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام، كأنه لم يعمه حكما من رأس،
[ 223 ]
وكأنه لم يكن بعام، بخلاف هاهنا، فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في (اكرم جيراني) مثلا، لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه من تحته، فإنه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلابد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه. بل يمكن أن يقال: إن قضية عمومه للمشكوك، أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه، فيقال في مثل (لعن الله بني أمية قاطبة) (1): إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا، فينتج أنه ليس بمؤمن، فتأمل جيدا. إيقاظ: لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل، لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص، كان إحراز المشتبه منه بالاصل الموضوعي في غالب الموارد – إلا ما شذ – ممكنا، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا كلام، ضرورة أنه قلما لا يوجد (2) عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنه مما بقي تحته، مثلا إذا شك أن امرأة تكون قرشية، فهي وإن كانت وجدت اما قرشية أو غيرها، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها، إلا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش (3) تجدي في تنقيح أنها ممن لا تحيض إلا إلى خمسين، لان المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش (4) انتساب أيضا باقية تحت ما دل على أن المرأة إنما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشية، فتأمل تعرف. وهم وإزاحة: ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك
(1) كامل الزيارات / 176، الباب 71. (2) في ” ب “: لم يوجد. (3 و 4) في ” أ وب ” القريش. *
[ 224 ]
في فرد، لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل (أوفوا بالنذور) فيما إذا وقع متعلقا للنذر، بأن يقال: وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا، للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات (1) وفي السفر (2) إذا تعلق بهما النذر كذلك. والتحقيق أن يقال: إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكلفة لاحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها، إذا أخذ في موضوعاتها أحد الاحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الاولية (3)، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد، والوفاء بالنذر وشبهه في الامور المباحة أو الراجحة، ضرورة أنه معه لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شئ أو حليته جواز التمسك بعموم دليل وجوب الاطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته. نعم لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه، فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا، فإذا شك في جوازه صح (4) التمسك بعموم دليلها في الحكم بجوازها، وإذا كانت محكومة بعناوينها الاولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية، وقع (5) المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثر الاقوى منهما لو
(1) التهذيب 5 / 53، الاحاديث 8 إلى 10 من باب 6 المواقيت. الاستبصار 2 / 161 الاحاديث 8 إلى 10 من باب 93 من أحرم قبل الميقات، وللمزيد راجع وسائل الشيعة 8 / 236 الباب 13 من ابواب المواقيت. (2) التهذيب 4 / 235 الحديث 63 و 64 من باب 57 حكم المسافر والمريض في الصيام وللمزيد راجع وسائل الشيعة 7 / 139 الباب 10 من ابواب من يصح منه الصوم الحديث 1 و 7. (3) في ” أ “: الاولوية. (4) في ” أ “: فصح. (5) في ” أ “: فتقع. *
[ 225 ]
كان في البين، وإلا لم يؤثر أحدهما، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، فليحكم عليه حينئذ بحكم آخر، كالاباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر للحرمة مثلا. وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه – بناء على عدم صحته فيه بدونه – وكذا الاحرام قبل الميقات، فإنما هو لدليل خاص، كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات، وإنما لم يأمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما ربما يدل عليه ما في الخبر من كون الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت (1). لا يقال: لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما، ضرورة كون وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلا الاتيان بالمنذور بأي داع كان. فإنه يقال: عباديتهما إنما تكون لاجل كشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما، ملازم لتعلق النذر بهما، هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل، وإلا أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما، بعد تعلق النذر بإتيانهما عباديا ومتقربا بهما منه تعالى، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله، إلا أنه يتمكن منه بعده، ولا يعتبر في حصة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه، فتأمل جيدا. بقي شئ، وهو أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص ؟ في إحراز عدم كون ما شك في أنه من مصاديق العام، مع العلم بعدم كونه محكوما
(1) لم نعثر على الخبر المشار إليه في المتن، ولكن ورد أنه كمن صلى في السفر اربعا وترك الثنتين. راجع الكافي 4 / 321 الحديث 2، 6 من باب من احرم دون الوقت. *
[ 226 ]
بحكمه، مصداقا له، مثل ما إذا علم أن زيدا يحرم إكرامه، وشك في أنه عالم، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) أنه ليس بعالم، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الاحكام. فيه إشكال، لاحتمال اختصاص حجيتها بما إذا شك في كون فرد العام محكوما بحكمه، كما هو قضية عمومه، والمثبت من الاصول اللفظية وإن كان حجة، إلا أنه لابد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل، ولا دليل هاهنا إلا السيرة وبناء العقلاء، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك، فلا تغفل. فصل هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ؟ فيه خلاف، وربما نفي (1) الخلاف عن عدم جوازه، بل ادعي الاجماع (2) عليه، والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام، أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا ؟ أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به ؟ بعد الفراغ عن (3) اعتبارها بالخصوص في الجملة، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص والياس. فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص، فيما إذا كان في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة، وذلك لاجل أنه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله، فلا أقل من الشك،
(1) الغزالي في المستصفى 2 / 157. (2) مطارح الانظار / 197، قال: ” بل ادعى عليه الاجماع كما عن النهاية ” ولم نعثر عليه في مظانه من النهاية، راجع نهاية الاصول / 139. ونقل الاجماع عن الغزالي والامدي، راجع فواتح الرحموت 1 / 267. (3) في ” ب “: من. *
[ 227 ]
كيف ؟ وقد ادعي الاجماع على عدم جوازه، فضلا عن نفي الخلاف عنه، وهو كاف في عدم الجواز، كما لا يخفى. وأما إذا لم يكن العام كذلك، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل المحاورات، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الاجمالي به (1) أو حصول الظن بما هو التكليف (2)، أو غير ذلك رعايتها، فتختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى. ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل، باحتمال أنه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا، ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى. إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا، وبينه في الاصول العملية، حيث أنه هاهنا عما يزاحم الحجة (3)، بخلافه هناك، فإنه بدونه لا حجة، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان، والنقل وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا، إلا أن الاجماع بقسميه على تقييده به، فافهم. فصل هل الخطابات الشفاهية مثل: (يا أيها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعم غيره من الغائبين، بل المعدومين ؟
(1) استدل بهذا الوجه الشيخ (قده) مطارح الانظار / 202، رابعها (2) راجع زبدة الاصول / 97. (3) في ” ب “: الحجية. *
[ 228 ]
فيه خلاف، ولابد قبل الخوض في تحقيق المقام، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والابرام بين الاعلام. فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين، كما صح تعلقه بالموجودين، أم لا ؟ أو في صحة المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب، أو بنفس توجيه الكلام إليهم، وعدم صحتها، أو في عموم الالفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب، للغائبين بل المعدومين، وعدم عمومها لهما، بقرينة تلك الاداة. ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الاولين يكون عقليا، وعلى الوجه الاخير لغويا. إذا عرفت هذا، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا، بمعنى بعثه أو زجره فعلا، ضرورة أنه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة، نعم هو بمعنى إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر، لا استحالة فيه أصلا، فإن الانشاء خفيف المؤونة، فالحكيم تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة، طلب شئ قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر، فتدبر. ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة، بعد وجوده بإنشائه، ويتلقى لها من الواقف بعقده، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا. وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط، فإمكانه بمكان
[ 229 ]
من الامكان. وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة، وعدم إمكانه، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام، ويلتفت إليه. ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب، مثل أدوات النداء، لو كان موضوعا للخطاب الحقيقي، لاوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره، لكن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك، بل للخطاب الايقاعي الانشائي، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسرا وتأسفا وحزنا مثل: يا كوكبا ما كان أقصر عمره (1)……. أو شوقا، ونحو ذلك، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي – حينئذ – التخصيص بمن يصح مخاطبته، نعم لا يبعد دعوى الظهور، انصرافا في الخطاب الحقيقي، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها، على ما حققناه في بعض المباحث السابقة (2)، من كونها موضوعة للايقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في
(1) وعجزه…. وكذاك عمر كواكب الاسحار. وهو من رائية ابو الحسن التهامي في رثاء ولده الذي مات صغيرا، وهي في غاية الحسن والجزالة وفخامة المعنى وجودة السرد وصدرها: حكم المنية في البرية جار * ما هذه الدنيا بدار قرار سجن بالقاهرة سنة 416 ثم قتل سرا. رأه بعض اصحابه بعد موته في المنام وساله عن حاله قال: غفر لي ربي، فقال: باي الاعمال. قال: بقولي في مرثية ولدي الصغير: جاورت اعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري (شهداء الفضيلة: 24) (2) في مبحث الاوامر / 64. *
[ 230 ]
الواقعي منها انصرافا، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه، كما يمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: (يا أيها الناس اتقوا) و (يا أيها المؤمنون) بمن حضر مجلس الخطاب، بلا شبهة ولا ارتياب. ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالادوات، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية. وتوهم كونه ارتكازيا، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه، والتفتيش عن حاله مع حصوله بذلك لو كان مرتكزا، وإلا فمن أين يعلم بثبوته كذلك ؟ كما هو واضح. وإن أبيت إلا عن وضع الادوات للخطاب الحقيقي، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الالهية بأداة الخطاب، أو بنفس توجيه الكلام بدون الاداة كغيرها بالمشافهين، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم. وتوهم صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين، فضلا عن الغائبين، لاحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال، فاسد، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى، كما لا يخفى، كما أن خطابه اللفظي لكونه تدريجيا ومتصرم الوجود، كان قاصرا عن أن يكون موجها نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل يا أيها الناس اتقوا في الكتاب حقيقة إلى غير النبي صلى الله عليه وآله بلسانه. وأما إذا قيل بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما، فلا محيص إلا عن كون الاداة في مثله للخطاب الايقاعي ولو مجازا، وعليه لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين، بل يعم المعدومين، فضلا عن الغائبين.
[ 231 ]
فصل ربما قيل: إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان: الاولى (1): حجية ظهور خطابات (2) الكتاب لهم كالمشافهين. وفيه: إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام، وقد حقق عدم الاختصاص بهم. ولو سلم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحد من الاخبار. الثانية (3): صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم، لثبوت الاحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين، وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف، وعدم صحته على عدمه، لعدم كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين، فلابد من إثبات اتحاده معهم في الصنف، حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الاحكام، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلا الاجماع، ولا إجماع عليه إلا فيما اتحد الصنف، كما لا يخفى. ولا يذهب عليك، أنه يمكن إثبات الاتحاد، وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له، بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق، مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان، وإن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك. وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الاحكام، لا الاتحاد فيما كثر
(1) ذكرها المحقق القمي (ره) في القوانين 1 / 233، في الخطابات المشافهة. (2) في ” ب “: الخطابات. (3) راجع كلام المحقق الوحيد البهبهاني (قده) في كتاب ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد / 55. *
[ 232 ]
الاختلاف بحسبه، والتفاوت بسببه بين الانام، بل في شخص واحد بمرور الدهور والايام، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين – فضلا عن المعدومين – حكم من الاحكام. ودليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان، لو [ لم ] (1) يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم أيضا، فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم، لما أفاد دليل الاشتراك، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم، فتأمل جيدا. فتلخص: أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام، وقد حقق عدم الاختصاص به في غير المقام، واشير (2) إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام. فصل هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده، يوجب تخصيصه به أو لا ؟ فيه خلاف بين الاعلام وليكن محل الخلاف ما إذا وقعا في كلامين، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك وتعالى: (والمطلقات يتربصن) إلى قوله (وبعولتهن أحق بردهن) (3) وأما ما إذا كان مثل: والمطلقات ازواجهن احق بردهن، فلا شبهة في تخصيصه به.
(1) اثبتناه من ” ب “. (2) في رده للثمرة الاولى / 231. (3) البقرة: 228. *
[ 233 ]
والتحقيق أن يقال: إنه حيث دار الامر بين التصرف في العام، بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرف في ناحية الضمير: إما بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسع في الاسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكل توسعا وتجوزا، كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير، وذلك لان المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفية الاستعمال، وإنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الاسناد مع القطع بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضمير. وبالجملة: أصالة الظهور إنما يكون حجة فيما إذا شك فيما أريد، لا فيما إذا شك في أنه كيف اريد، فافهم، لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم، بأن لا يعد ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفا، وإلا فيحكم عليه بالاجمال، ويرجع إلى ما يقتضيه الاصول، إلا أن يقال باعتبار اصالة الحقيقة تعبدا، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما عن بعض الفحول. فصل قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف، مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق، على قولين، وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور. وتحقيق المقام: أنه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين، ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر، ودار الامر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كل منهما إن كانت
[ 234 ]
بالاطلاق بمعونة مقدمات الحكمة، أو بالوضع، فلا يكون هناك عموم، ولا مفهوم، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لاجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك، فلا بد من العمل بالاصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، وإلا كان مانعا عن انعقاد الظهور، أو استقراره في الآخر. ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم، ذاك الارتباط والاتصال، وأنه لا بد أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل، لو لم يكن في البين أظهر، والا فهو المعول، والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل. فصل الاستثناء المتعقب لجمل متعددة، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل (1) أو خصوص الاخيرة (2)، أو لا ظهور له في واحد منهما (3)، بل لابد في التعيين من قرينة ؟ أقوال. والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الاخيرة على أي حال، ضرورة أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم (4) (رحمه الله) حيث مهد مقدمة لصحة رجوعه إليه، أنه محل الاشكال والتأمل.
(1) نسبه السيد المرتضى (ره) إلى مذهب الشافعي وأصحابه، الذريعة إلى أصول الشريعة: 1 / 249، راجع المعتمد في أصول الفقه: 1 / 245، وشرح المختصر للعضدي: 1 / 260. (2) في المصدرين المتقدمين أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه. (3) الذريعة إلى اصول الشريعة 1 / 249. (4) معالم الدين / 127، حيث قال: ولنقدم على توجيه المختار مقدمة… الخ. *
[ 235 ]
وذلك ضرورة أن تعدد المستثنى منه، كتعدد المستثنى، لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الاداة بحسب المعنى، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا، وكان المستعمل فيه الاداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوما، وبذلك يظهر أنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع، أو خصوص الاخيرة، وإن كان الرجوع إليها متيقنا على كل تقدير، نعم غير الاخيرة أيضا من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه، فلابد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاصول. اللهم إلا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبدا، لا من باب الظهور، فيكون المرجع (1) عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا، لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة، فإنه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع، فتأمل (2). فصل الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد، بلا ارتياب، لما هو الواضح من سيرة الاصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الائمة عليهم السلام، واحتمال أن يكون ذلك
(1) في ” ب “: مرجع. (2) إشارة إلى أنه يكفي في منع جريان المقدمات، صلوح الاستثناء لذلك، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه، لاعتقاد أنه كاف فيه، اللهم إلا أن يقال: إن مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه، غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع، فأصالة الاطلاق مع عدم القرينة محكمة، لتمامية مقدمات الحكمة، فافهم (منه قدس سره). *
[ 236 ]
بواسطة القرينة واضح البطلان. مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك. وكون العام الكتابي قطعيا صدورا، وخبر الواحد ظنيا سندا (1)، لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا، وإلا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا، مع أنه جائز جزما. والسر: أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية (2) على التصرف فيها، بخلافها، فإنها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره، ولا ينحصر (3) الدليل على الخبر بالاجماع، كي يقال بأنه فيما لا يوجد على خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة القرآنية (4) يسقط وجوب العمل به. كيف ؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية، والاخبار الدالة على أن الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها (5) أو ضربها على الجدار، أو أنها زخرف (6)، أو أنها مما لم يقل به الامام عليه السلام (7)، وإن كانت كثيرة جدا، وصريحة الدلالة على طرح المخالف، إلا
(1) انظر معالم الدين / 147، في جواز تخصيص الكتاب بالخبر.. (2) في ” ب “: للقرينة. (3) رد على ما أجاب به المحقق عن استدلال المجوزين لتخصيص الكتاب بالخبر الواحد، معارج الاصول / 96. (4) في ” ب ” دلالة القرائنة. (5) أصول الكافي: 1 / 69 باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب. وسائل الشيعة 18 / 78 الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 10. (6) اصول الكافي: 1 / 69 الحديث 3، 4، وسائل الشيعة 18 / 78 الحديث 12 و 14. (7) اصول الكافي 1 / 69 الحديث 5، وسائل الشيعة / 18 / 79 الحديث 15. *
[ 237 ]
أنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الاخبار غير مخالفة العموم، إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا، كيف ؟ وصدور الاخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم السلام كثيرة جدا، مع قوة احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا – وإن كان هو على خلافه ظاهرا – شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه، فافهم. والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما، لاختصاص النسخ بالاجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قل الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص. فصل لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين، يختلف حالهما ناسخا ومخصصا ومنسوخا، فيكون الخاص: مخصصا تارة، وناسخا مرة، ومنسوخا أخرى، وذلك لان الخاص إن كان مقارنا مع العام، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له. وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي، وإلا لكان الخاص أيضا مخصصا له، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات. وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام، يحتمل أن يكون العام ناسخا له، وإن كان الاظهر أن يكون الخاص مخصصا، كثرة التخصيص، حتى اشتهر (ما من عام الا وقد خص) مع قلة النسخ في الاحكام جدا، وبذلك يصير ظهور الخاص في
[ 238 ]
الدوام – ولو كان بالاطلاق – أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع، كما لا يخفى، هذا فيما علم تاريخهما. وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره، فالوجه هو الرجوع إلى الاصول العملية. وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا، وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا، وأنه واجد لشرطه إلحاقا له بالغالب، إلا أنه لا دليل على اعتباره، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، لصيرورة الخاص لذلك في الدوام اظهر من العام، كما أشير إليه، فتدبر جيدا. ثم إن تعين الخاص للتخصيص، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به، إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، وإلا فلا يتعين له، بل يدور بين كونه مخصصا (1) وناسخا في الاول، ومخصصا ومنسوخا في الثاني، إلا أن الاظهر كونه مخصصا، وإن كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام (2)، لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه، وندرة النسخ جدا في الاحكام. ولا بأس بصرف (3) الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ، فاعلم أن
(1) لا يخفى أن كونه مخصصا بمعنى كونه مبينا بمقدار المرام عن العام، وناسخا بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الامر في مورد الخاص، مع كونه مرادا ومقصودا بالافهام في مورده بالعام كسائر الافراد، وإلا فلا تفاوت بينهما عملا أصلا، كما هو واضح لا يكاد يخفى (منه قدس سره). (2) في ” ب “: ولو فيما كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهور الخاص في الخصوص. (3) في ” ب “: لصرف. *
[ 239 ]
النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا، إلا أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره، أو أصل إنشائه وإقراره، مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار، أو ليس له دوام واستمرار، وذلك لان النبي صلى الله عليه وآله الصادع للشرع، ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال، وأنه ينسخ في الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل. وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا، وإن كان بحسب الظاهر رفعا، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العلم، لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة، ولا لزوم (1) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ، فإن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للامر به امتنع النهي عنه، وإلا امتنع الامر به، وذلك لان الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لارادته، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته، ولم يكن الامر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة، وإنما كان إنشاء الامر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة. وأما البداء في التكوينيات (2) بغى ذاك المعنى، فهو مما دل عليه الروايات المتواترات (3)، كما لا يخفى، ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به، مع علمه بأنه يمحوه، أو مع عدم علمه به، لما أشير إليه من عدم الاحاطة بتمام ما جرى في علمه، وإنما يخبر به لانه حال الوحي أو الالهام لارتقاء نفسه الزكية، واتصاله بعالم لوح المحو والاثبات اطلع على
(1) في بعض النسخ المطبوعة: وإلا لزم. (2) في ” ب “: التكوينات. (3) الوافي: 1 / 112، باب البداء. *
[ 240 ]
ثبوته، ولم يطلع على كونه معلقا على [ أمر ] (1) غير واقع، أو عدم الموانع، قال الله تبارك وتعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) (2) الآية، نعم من شملته العناية الالهية، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي [ هو ] من أعظم العوالم الربوبية، وهو أم الكتاب، يكشف عنده الواقعيات على ماهي عليها، كما ربما يتفق لخاتم الانبياء، ولبعض الاوصياء، كان عارفا بالكائنات (3) كما كانت وتكون. نعم مع ذلك، ربما يوحى إليه حكم من الاحكام، تارة بما يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام، معه أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها (4) بخطاب آخر، وأخرى بما يكون ظاهرا في الجد، مع أنه لا يكون واقعا بجد، بل لمجرد الابتلاء والاختبار، كما أنه يؤمر وحيا أو الهاما بالاخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع، لاجل حكمة في هذا الاخبار أو ذاك الاظهار، فبدا له تعالى بمعنى أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا، ويبدي ما خفي ثانيا. وإنما نسب إليه تعالى البداء، مع إنه في الحقيقة الابداء، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم في باب النسخ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الالباب. ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ، ضرورة أنه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأسا، وعلى النسخ، على ارتفاع حكمه عنه من حينه، فيما دار الامر بينهما في المخصص، وأما إذا دار بينهما في الخاص والعام، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا، وعلى النسخ كان محكوما به من حين صدور دليله، كما لا يخفى.
(1) أثبتناها من ” ب “. (2) الرعد: 39. (3) في ” ب “: على الكائنات. (4) في ” ب “: يتعينها. *
[ 241 ]
المقصد الخامس المطلق والمقيد
[ 243 ]
المقصد الخامس: في المطلق والمقيد والمجمل والمبين فصل عرف (1) المطلق بأنه: ما دل على شائع في جنسه، وقد أشكل عليه بعض الاعلام (2)، بعدم الاطراد أو الانعكاس، وأطال الكلام في النقض والابرام، وقد نبهنا في غير مقام على أن مثله شرح الاسم، وهو مما يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس، فالاولى الاعراض عن ذلك، ببيان ما وضع له بعض الالفاظ التي يطلق عليها المطلق، أو من غيرها مما يناسب المقام. فمنها: اسم الجنس، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض إلى غير ذلك من أسماء الكليات من الجواهر والاعراض بل العرضيات، ولا ريب أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة، بلا شرط أصلا ملحوظا معها، حتى لحاظ أنها كذلك. وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى، وصرف المفهوم الغير الملحوظ معه شئ أصلا الذي هو المعنى بشرط شئ، ولو كان ذاك الشئ هو الارسال والعموم البدلي، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شئ معه الذي هو
(1) هذا التعريف لاكثر الاصوليين على ما ذكره المحقق القمي، القوانين 1 / 321، المطلق والمقيد. (2) المستشكل هو صاحب الفصول، قال في الفصول / 218، في فصل (المطلق): ويخرج بقولنا شيوعا حكميا… إلى أن قال: وقد أهملوا هذا القيد فيرد ذلك على طردهم… الخ. *
[ 244 ]
الماهية اللابشرط القسمي، وذلك لوضوح صدقها بما لها من المعنى، بلا عناية التجريد عما هو قضية الاشتراط والتقييد فيها، كما لا يخفى، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الافراد، وإن كان يعم كل واحد منها بدلا أو استيعابا، وكذا المفهوم اللابشرط (1) القسمي، فإنه كلي عقلي لا موطن له إلا الذهن لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها، بداهة أن مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجا، فكيف يمكن أن يتحد معها ما لا وجود له إلا ذهنا ؟ ومنها: علم الجنس (2) كأسامة، والمشهور بين أهل العربية أنه موضوع للطبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعينة بالتعين (3) الذهني ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف. لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شئ معه أصلا كاسم الجنس، والتعريف فيه لفظي، كما هو الحال في التأنيث اللفظي، وإلا لما صح حمله على الافراد بلا تصرف وتاويل، لانه على المشهور كلي عقلي، وقد عرفت أنه لا يكاد صدقه عليها مع صحة حمله عليها بدون ذلك، كما لا يخفى، ضرورة أن التصرف في المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسف، لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه، مع أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال، لا يكاد يصدر عن جاهل، فضلا عن الواضع الحكيم. ومنها: المفرد المعرف باللام، والمشهور أنه على أقسام: المعرف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه، على نحو الاشتراك بينها لفظا أو معنى، والظاهر أن الخصوصية في كل واحد من الاقسام من قبل خصوص
(1) في (أ): لا بالشرط. (2) في ” ب “: للجنس. (3) في ” ب “: بالتعيين. *
[ 245 ]
اللام، أو من قبل قرائن المقام، من باب تعدد الدال والمدلول، لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك، فكان المدخول على كل حال مستعملا فيما يستعمل فيه الغير المدخول. والمعروف أن اللام تكون موضوعة للتعريف، ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني، وأنت خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الاشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهنا، ولازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الافراد، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا بالتجريد، ومعه لا فائدة في التقييد، مع أن التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف. هذا مضافا إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه، بل لا بد من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه، كان لغوا، كما أشرنا إليه، فالظاهر أن اللام مطلقا يكون للتزيين، كما في الحسن والحسين، واستفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعينها على كل حال، ولو قيل بإفادة اللام للاشارة إلى المعنى، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الاشارة، لو لم تكن مخلة، وقد عرفت إخلالها، فتأمل جيدا. وأما دلالة الجمع (1) المعرف باللام على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه، فلا دلالة فيها على أنها تكون لاجل دلالة اللام على التعين (2)، حيث لا تعين إلا للمرتبة المستغرقة لجميع الافراد، وذلك لتعين المرتبة الاخرى، وهي أقل مراتب الجمع، كما لا يخفى. فلا بد أن يكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك، لا إلى دلالة
(1) رد على صاحب الفصول، الفصول / 169. التنبيه الاول. (2) في ” ب “: التعيين. *
[ 246 ]
اللام على الاشارة إلى المعين، ليكون به التعريف، وإن أبيت إلا عن استناد الدلالة عليه إليه، فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين، فلا يكون بسببه تعريف إلا لفظا، فتأمل جيدا. ومنها: النكرة مثل (رجل) في (وجاء رجل من أقصى المدينة) أو في (جئني برجل) ولا إشكال أن المفهوم منها في الاول، ولو بنحو تعدد الدال والمدلول، هو الفرد المعين في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الرجل. كما أنه في الثاني، هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة، فيكون حصة من الرجل، ويكون كليا ينطبق على كثيرين، لا فردا مرددا بين الافراد (1). وبالجملة: النكرة – أي [ ما ] بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم – إما هو فرد معين في الواقع غير معين للمخاطب، أو حصة كلية، لا الفرد المردد بين الافراد، وذلك لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة، مع أنه يصدق على كل من جئ به من الافراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره، كما هو قضية الفرد المردد، لو كان هو المراد منها، ضرورة أن كل واحد هو هو، لا هو أو غيره، فلابد أن تكون النكرة الواقعة في متعلق الامر، هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة، فيكون كليا قابلا للانطباق، فتأمل جيدا. إذا عرفت ذلك، فالظاهر صحة اطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني، كما يصح لغة. وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الاطلاق على وفق اللغة، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها، كما لا يخفى. نعم لو صح ما نسب إلى المشهور، من كون المطلق عندهم موضوعا لما
(1) قال به صاحب الفصول، الفصول / 163، في صيغة العموم، عند قوله: ومدلولها فرد من الجنس لا بعينه… الخ. *
[ 247 ]
قيد بالارسال والشمول البدلي، لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق، إلا أن الكلام في صدق النسبة، ولا يخفى أن المطلق بهذا المعنى لطروء القيد غير قابل، فإن ماله من الخصوصية ينافيه ويعانده، بل (1) وهذا بخلافه بالمعنيين، فإن كلا منهما له قابل، لعدم انثلامهما بسببه أصلا، كما لا يخفى. وعليه لا يستلزم التقييد تجوزا في المطلق، لامكان إرادة معنى لفظه منه، وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال، وإنما استلزمه لو كان بذاك المعنى، نعم لو أريد من لفظه المعنى المقيد، كان مجازا مطلقا، كان التقييد بمتصل أو منفصل. فصل قد ظهر (2) لك أنه لا دلالة لمثل (رجل) إلا على الماهية المبهمة وضعا، وأن الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجا عما وضع له، فلا بد في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة، وهي تتوقف على مقدمات: إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، لا الاهمال أو الاجمال. ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين. ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، ولو كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنه غير مؤثر في رفع الاخلال بالغرض، لو كان بصدد البيان، كما هو الفرض، فإنه فيما تحققت لو لم يرد الشياع لاخل بغرضه، حيث أنه لم ينبه مع أنه بصدده، وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به، حيث لم يكن مع انتفاء الاولى، إلا في مقام الاهمال أو الاجمال، ومع انتفاء الثانية، كان البيان بالقرينة، ومع انتفاء الثالثة،
(1) أثبتناها من ” أ “. (2) تقدم في المقصد الخامس، الفصل الاول / 243. *
[ 248 ]
لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده، فإن الفرض أنه بصدد بيان تمامه، وقد بينه، لا بصدد بيان أنه تمامه، كي أخل ببيانه، فافهم (1). ثم لا يخفى عليك أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده، مجرد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه، ولو لم يكن عن جد، بل قاعدة وقانونا، لتكون حجة فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا يكون الظفر بالمقيد – ولو كان مخالفا – كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به أصلا، فتأمل جيدا. وقد انقدح بما ذكرنا (2) أن النكرة في دلالتها على الشياع والسريان – أيضا – تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال من مقدمات الحكمة، فلا تغفل. بقى شئ: وهو أنه لا يبعد أن يكون الاصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، هو كونه بصدد بيانه، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالاطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها، مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان، وبعد كونه لاجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم، ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الاحراز والغفلة عن وجهه، فتأمل جيدا.
(1) إشارة إلى أنه لو كان بصدد بيان أنه تمامه ما أخل ببيانه، بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الافراد، فإنه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد، وإلا كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها، وإلا قد أخل بغرضه، نعم لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلا بصدد بيان أن المتيقن مراد، لا بصدد بيان أن غيره مراد أو ليس بمراد، قبالا للاجمال والاهمال المطلقين، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة (منه أعلى الله مقامه). (2) في صفحة 247 من هذا الكتاب. *
[ 249 ]
ثم إنه قد انقدح بما عرفت – من توقف حمل المطلق على الاطلاق، فيما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة – أنه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الافراد أو الاصناف، لظهوره فيه، أو كونه متيقنا منه، ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما أنه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويا زائلا بالتأمل، كما أنه منها ما يوجب الاشتراك أو النقل. لا يقال: كيف يكون ذلك وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلا. فإنه يقال: مضافا إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له، لا عدم إمكانه، فإن استعمال المطلق في المقيد بمكان من الامكان، إن كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدال آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزية أنس، كما في المجاز المشهور، أو تعينا (1) واختصاصا به، كما في المنقول بالغلبة، فافهم. تنبيه: وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان واردا في مقام البيان من جهة منها، وفي مقام الاهمال أو الاجمال من أخرى، فلابد في حمله على الاطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أخرى، إلا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة، كما لا يخفى. فصل إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين، فإما يكونان مختلفين في الاثبات والنفي، وإما يكونان متوافقين، فإن كانا مختلفين مثل (أعتق رقبة) و (لا
(1) في ” ب “: تعيينا. *
[ 250 ]
تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد، وإن كانا متوافقين، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد، وقد استدل بأنه جمع بين الدليلين وهو أولى. وقد أورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الامر في المقيد على الاستحباب. وأورد عليه بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ، وإنما هو تصرف في وجه من وجوه المعنى، اقتضاه تجرده عن القيد، مع تخيل وروده في مقام بيان تمام المراد، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الاجمال، فلا إطلاق فيه حتى يستلزم تصرفا، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد، بحمل أمره على الاستحباب. وأنت (1) خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق، لما عرفت من أن الظفر بالمقيد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل عن عدم كون الاطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة، بمراد جدي، غاية الامر أن التصرف فيه بذلك لا يوجب التجوز فيه، مع أن حمل الامر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزا فيه، فإنه في الحقيقة مستعمل في الايجاب، فإن المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب، كان من أفضل أفراد الواجب، لا مستحبا فعلا، ضرورة أن ملاكه لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه. نعم، فيما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالاصل، كان من التوفيق بينهما، حمله على أنه سيق في مقام الاهمال على خلاف مقتضى الاصل، فافهم. ولعل وجه التقييد كون ظهور إطلاق الصيغة في الايجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق.
(1) رد على الشيخ (قده) في انتصاره لدليل المشهور، مطارح الانظار / 220. *
[ 251 ]
وربما يشكل بأنه يقتضي التقييد في باب المستحبات، مع أن بناء المشهور على حمل الامر بالمقيد فيها على تأكد الاستحباب، اللهم إلا أن يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الافراد بحسب مراتب (1) المحبوبية، فتأمل. أو أنه كان بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات، وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجئ دليل المقيد، وحمله على تأكد استحبابه، من التسامح (2) فيها. ثم إن الظاهر أنه لا يتفاوت فيما ذكرنا بين المثبتين والمنفيين بعد فرض كونهما متنافيين، كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف، من وحدة السبب وغيره (3)، من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر، فليتدبر. تنبيه: لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين، بين كونهما في بيان الحكم التكليفي، وفي بيان الحكم الوضعي، فإذا ورد مثلا: إن البيع سبب، وإن البيع الكذائي سبب، وعلم أن مراده إما البيع على إطلاقه، أو البيع الخاص، فلابد من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الاطلاق فيه، كما هو ليس ببعيد، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيد – بخلاف العكس – بالغاء القيد، وحمله على أنه غالبي، أو على وجه آخر، فإنه على خلاف المتعارف.
(1) في ” أ وب “: المراتب، والصواب ما أثبتناه. (2) ولا يخفى أنه لو كان حمل المطلق على المقيد جمعا عرفيا، كان قضيته عدم الاستحباب إلا للمقيد، وحينئذ إن كان بلوغ الثواب صادقا على المطلق كان استحبابه تسامحيا، وإلا فلا استحباب له أصلا، كما لا وجه – بناء على هذا الحمل وصدق البلوغ – يؤكد الاستحباب في المقيد، فافهم (منه قدس سره). (3) تعريض بصاحب المعالم والمحقق القمي، حيث اعتبرا وحدة السبب في عنوان البحث، معالم الدين / 155، القوانين 1 / 322. *
[ 252 ]
تبصرة لا تخلو من تذكرة، وهي: إن قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات، فإنها تارة يكون حملها على العموم البدلي، وأخرى على العموم الاستيعابي، وثالثة على نوع خاص مما ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام، واختلاف الآثار والاحكام، كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام. فالحكمة في إطلاق صيغة الامر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي، فإن إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان، ولا معنى لارادة الشياع فيه، فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان، كما أنها قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في (أحل الله البيع) إذ إرادة البيع مهملا أو مجملا، ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، وإرادة العموم البدلي لا يناسب المقام، ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف، أي بيع كان، مع أنها تحتاج إلى نصب دلالة عليها، لا يكاد يفهم بدونها من الاطلاق، ولا يصح قياسه على ما إذا أخذ في متعلق الامر، فإن العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته، وإرادة غير العموم البدلي، وإن كانت ممكنة، إلا أنها منافية للحكمة، وكون المطلق بصدد البيان. فصل في المجمل والمبين والظاهر أن المراد من المبين في موارد إطلاقه، الكلام الذي له ظاهر، ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى، والمجمل بخلافه، فما ليس له ظهور مجمل وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه، كما أن ماله الظهور مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره وأنه مؤول، ولكل منهما في الآيات والروايات، وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى، إلا أن لهما أفراد مشتبهة وقعت محل البحث والكلام للاعلام، في أنها من أفراد أيهما ؟ كآية
[ 253 ]
السرقة (1)، ومثل (حرمت عليكم أمهاتكم) (2) و (أحلت لكم بهيمة الانعام) (3) مما أضيف التحليل إلى الاعيان ومثل (لا صلاة إلا بطهور) (4). ولا يذهب عليك أن إثبات الاجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان، لما عرفت من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور، ويكون قالبا لمعنى، وهو مما يظهر بمراجعة الوجدان، فتأمل. ثم لا يخفى أنهما وصفان إضافيان، ربما يكون مجملا عند واحد، لعدم معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حف به لديه، ومبينا لدى الآخر، لمعرفته وعدم التصادم بنظره، فلا يهمنا التعرض لموارد الخلاف والكلام والنقض والابرام في المقام، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.
(1) المائدة: 38 (2) النساء: 23 (3) المائدة: 1 (4) الفقية: 1 / 35 الباب 14 في من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه. *
[ 255 ]
المقصد السادس الامارات
[ 257 ]
المقصد السادس: في بيان الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا وقبل الخوض في ذلك، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الاحكام، وإن كان خارجا من مسائل الفن، وكان أشبه بمسائل الكلام، لشدة مناسبته مع المقام. فاعلم: أن البالغ الذي وضع عليه القلم، إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري، متعلق به أو بمقلديه، فإما أن يحصل له القطع به، أولا، وعلى الثاني، لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل، من اتباع الظن لو حصل له، وقد تمت مقدمات الانسداد – على تقدير الحكومة – وإلا فالرجوع إلى الاصول العقلية: من البراءة والاشتغال والتخيير، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى. وإنما عممنا متعلق القطع، لعدم اختصاصه أحكامه بما إذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية، وخصصنا بالفعلي، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به – على ما ستطلع عليه – ولذلك عدلنا عما في رسالة (1) شيخنا العلامة – أعلى الله مقامه – من تثليث الاقسام. وإن أبيت إلا عن ذلك، فالاولى أن يقال: إن المكلف إما أن يحصل له
(1) فرائد الاصول / 2. *
[ 258 ]
القطع أولا، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا، لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام، ومرجعه على الاخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع، ومن يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محله – إن شاء الله تعالى – حسبما يقتضي دليلها. وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه، يستدعي رسم أمور: الامر الاول: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا، ولزوم الحركة على طبقه جزما، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته، وعذرا فيما أخطأ قصورا، وتأثيره في ذلك لازم، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان. ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشئ ولوازمه، بل عرضا بتبع جعله بسيطا. وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا، وحقيقة في صورة الاصابة، كما لا يخفى. ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا، وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز، واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة، وذلك لان الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي، ولا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان مما سكت الله عنه، كما في الخبر (1)، فلاحظ وتدبر. نعم، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين، على ما يأتي (2) تفصيله إن شاء الله تعالى، مع ما هو
(1) الفقيه 4 / 53، باب نوادر الحدود، الحديث 15. (2) في بداية مبحث الامارات ص 277. *
[ 259 ]
التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر. الامر الثاني: قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة، والمثوبة على الموافقة في صورة الاصابة، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئا ؟ الحق أنه يوجبه، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، وذمه على تجريه، وهتكه لحرمة مولاه (1) وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان، وصحة مثوبته، ومدحه على قيامه (2) بما هو قضية عبوديته، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته، وإن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة، بمجرد سوء سريرته أو حسنها، وإن كان مستحقا للوم (3) أو المدح بما يستتبعانه، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة. وبالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما، إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك، وحسنها معه، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الاطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان. ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى [ به ] أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن
(1) في الاصل: وهتك حرمته لمولاه، والصحيح ما أثبتناه. (2) في الاصل: إقامته، والصحيح ما أثبتناه. (3) في هامش ” ب ” من نسخة أخرى: للذم. *
[ 260 ]
أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعا، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته (1) أصلا، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه، مع القطع بأنه إبنه، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا. هذا مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا ؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية. إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار ؟ قلت: العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار. إن قلت: إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست باختيارية، وإلا لتسلسل. قلت: – مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلا أن بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه
(1) في هامش (ب) من نسخة أخرى: بجهة. *
[ 261 ]
من تبعة العقوبة واللوم والمذمة – يمكن أن يقال: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة، وإن لم يكن باختياره (1) إلا أنه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانه (2)، وإذا انتهى الامر إليه يرتفع الاشكال وينقطع السؤال ب (لم) فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات. وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان ؟ والمطيع والمؤمن الاطاعة والايمان ؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا ؟ والانسان لم يكون ناطقا ؟ وبالجملة: تفاوت أفراد الانسان في القرب منه تعالى (3) والبعد عنه، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، [ وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ]، وتفاوتها في ذلك بالاخرة يكون ذاتيا، والذاتي لا يعلل. إن قلت: على هذا، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والانذار. قلت: ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربه أنسه، ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، قال الله تبارك وتعالى:
(1) كيف لا، وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية، فإنها هي المخالفة العمدية، وهي لا تكون بالاختيار، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنما الموجبة له هي العمدية منها، كما لا يخفى على أولى النهى (منه قدس سره). (2) المطبوع في ” ب ” إمكانا، ولكن صححه المصنف (قده) بما في المتن. (3) في ” ب “: جل شأنه وعظمت كبرياؤه. (أثبتناها من ” ب “. *
[ 262 ]
(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) (1) وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، كيلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له حجة بالغة. ولا يخفى أن في الآيات (2) والروايات (3)، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة، ومعه لا حاجة إلى ما استدل (4) على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله: إنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره، مع بطلانه وفساده، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق العاصي دونه، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه، وهو مخالفته عن عمد واختيار، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا، ولو بلا اختيار، بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر، مع أنه لم يكن بالخمر، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه. ثم لا يذهب عليك: إنه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم (5)، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما، كما لا يخفى.
(1) الذاريات: 55. (2) الاسراء: 36. والبقرة: 225 و 284. والاحزاب: 5. (3) الكافي 2 / 69 باب النية من كتاب الايمان والكفر. وللمزيد راجع وسائل الشيعة 1 / 35، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 10. (4) استدل به المحقق السبزواري، ذخيرة المعاد / 209 – 210. (5) راجع الفصول / 87، التنبيه الرابع من مقدمة الواجب. *
[ 263 ]
ولا منشأ لتوهمه، إلا بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلا عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الان عن وحدة السبب. الامر الثالث: إنه قد عرفت (1) أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب، يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب، أو الذم والعقاب، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه، لا يماثله ولا يضاده، كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه (إذا قطعت بوجوب شئ يجب عليك التصدق بكذا) تارة بنحو يكون تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ولو أخطأ موجبا لذلك، وأخرى بنحو يكون جزؤه وقيده، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له، وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به، وذلك لان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الاضافة – ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره – صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة، بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه، فتكون أقسامه أربعة، مضافا إلى ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ في الموضوع شرعا. ثم لا ريب في قيام الطرق والامارات المعتبرة – بدليل حجيتها واعتبارها – مقام هذا القسم، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الاقسام، بل لابد من دليل آخر على التنزيل، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار، لا له بما هو صفة وموضوع، ضرورة أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات. ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو
(1) في الامر الاول صفحة 258. *
[ 264 ]
الكشف، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا، كسائر مالها (1) دخل في الموضوعات أيضا، فلا يقوم مقامه شئ بمجرد حجيته، وقيام (2) دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله، ودخله في الموضوع كدخله، وتوهم (3) كفاية دليل الاعتبار الدال على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع، من جهة كونه موضوعا ومن جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا، فاسد جدا. فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين، حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه، ولحاظهما في أحدهما آلي، وفي الآخر استقلالي، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما. نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين، والمفروض أنه ليس، فلا يكون دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه، وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه بناء على استحقاق المتجري، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله في الموضوع، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي. لا يقال: على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين، ما لم يكن هناك قرينة في البين. فإنه يقال: لا إشكال في كونه دليلا على حجيته، فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام
(1) في حقائق الاصول: ماله، الحقائق 2: 24. (2) في ” ب “: أو قيام دليل… الخ. (3) تعريض بما ذكره الشيخ الانصاري (قده) فرائد الاصول / 4. *
[ 265 ]
للاعلام. ولا يخفى أنه لو لا ذلك، لامكن أن يقوم الطريق بدليل واحد – دال على إلغاء احتمال خلافه – مقام القطع بتمام أقسامه، ولو فيما (1) أخذ في الموضوع على نحو الصفتية، كان تمامه أو قيده وبه قوامه. فتلخص مما ذكرنا: إن الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلا مقام ما ليس بمأخوذ (2) في الموضوع أصلا. وأما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها – أيضا – غير الاستصحاب، لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والاحكام، من تنجز التكليف وغيره – كما مرت (3) إليه الاشارة – وهي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا. لا يقال: إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان. فإنه يقال: أما الاحتياط العقلي، فليس إلا لاجل حكم العقل بتنجز التكليف، وصحة العقوبة على مخالفته، لا شئ يقوم مقامه في هذا الحكم. وأما النقلي، فإلزام الشارع به، وإن كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على المخالفة كالقطع، إلا أنه لا نقول به في الشبهة البدوية، ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الاجمالي، فافهم. ثم لا يخفى إن دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ
(1) الظاهر أنه رد على الشيخ حيث فصل بين القطع الموضوعي الطريقي وبين القطع الموضوعي الصفتي، من جهة قيام الامارة مقامه وعدم قيامها مقامه، فرائد الاصول / 3. (2) في ” ب “: مأخوذا. (3) في ص 264 عند قوله: (فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه…). *
[ 266 ]
في الموضوع مطلقا، وإن مثل (لا تنقض اليقين) لا بد من أن يكون مسوقا إما بلحاظ المتيقن، أو بلحاظ نفس اليقين. وما ذكرنا في الحاشية (1) – في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع، وأن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع، وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما، وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة – لا يخلو من تكلف بل تعسف. فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع أو قيده، بما هو كذلك بلحاظ أثره، إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان، أو تنزيله في عرضه، فلا يكاد يكون دليل الامارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع، ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر، فيما لم يكن محرزا حقيقة، وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة، كما في ما نحن فيه – على ما عرفت (2) – لم يكن دليل الامارة دليلا عليه أصلا، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى، فإن الملازمة (3) إنما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، وتنزيل المؤدى منزلة الواقع كما لا يخفى، فتأمل جيدا، فإنه لا يخلو عن دقة. ثم لا يذهب عليك أن (4) هذا لو تم لعم، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذا على نحو الكشف. الامر الرابع: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا
(1) حاشية المصنف على الفرائد / 8 في كيفية تنزيل الامارة مقام القطع. (2) في عدم إمكان الجمع بين اللحاظين / 264. (3) في بعض النسخ المطبوعة زيادة هنا حذفها المصنف من نسختي ” أ ” و ” ب “. (4) في ” أ ” و ” ب “: إنه. *
[ 267 ]
الحكم للزوم الدور، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين، ولاضده للزوم اجتماع الضدين، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده. وأما الظن بالحكم، فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون، إلا أنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة، كان جعل حكم آخر في مورده – مثل الحكم المظنون أو ضده – بمكان من الامكان. إن قلت: إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا، بأن يكون الظن متعلقا بالحكم الفعلي، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله ضده، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين، وإنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر، كما في القطع، طابق النعل بالنعل. قلت: يمكن أن يكون الحكم فعليا، بمعنى أنه لو تعلق به القطع – على ما هو عليه من الحال – لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف، برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة، وإلى ضده أخرى، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضده، كما لا يخفى، فافهم. إن قلت: كيف يمكن ذلك ؟ وهل هو إلا أنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين ؟. قلت: لا بأس بإجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى – أي لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز – مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الاصل أو الامارة، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص، على ما سيأتي (1) من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
(1) في بحث الامارات / 278، عند قوله: لان أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه… إلخ. *
[ 268 ]
الامر الخامس: هل تنجز التكليف بالقطع – كما يقتضي موافقته عملا – يقتضي موافقته إلتزاما، والتسليم له اعتقادا وانقيادا ؟ كما هو اللازم في الاصول الدينية والامور الاعتقادية، بحيث كان له امتثالان وطاعتان، إحداهما بحسب القلب والجنان، والاخرى بحسب العمل بالاركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا، أو لا يقتضي ؟ فلا يستحق العقوبة عليه، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية. الحق هو الثاني، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بذلك، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لامر سيده إلا المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن متسلما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا، كما لا يخفى. ثم لا يذهب عليك، إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية، لو كان المكلف متمكنا منها لوجب، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما، كما إذا علم إجمالا بوجوب شئ أو حرمته، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت، وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة. وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا، فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة، مع ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا، لا الالتزام به أو بضده تخييرا. ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاصول
[ 269 ]
الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جارية، مع قطع النظر عنه، كما لا يدفع (1) بها محذور عدم الالتزام به (2). إلا أن يقال: إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام في الاطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في الالتزام بحكم آخر. إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي، مع عدم ترتب أثر علمي عليها، مع أنها أحكام عملية كسائر الاحكام الفرعية، مضافا إلى عدم شمول أدلتها لاطرافه، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها، كما ادعاه (3) شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، وإن كان محل تأمل ونظر، فتدبر جيدا. الامر السادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف، ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالبا في القطاع، ضرورة أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك، ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله. نعم (4) ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا، والمتبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كل مورد، فربما يدل على اختصاصه بقسم في
(1) إشارة إلى ما في فرائد الاصول / 19، عند قوله: وأما المخالفة الغير العملية… الخ. (2) هنا زيادة في بعض النسخ المطبوعة حذفها المصنف من نسختي ” أ ” و ” ب “. (3) فرائد الاصول / 429، عند قوله: بل لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض… الخ. (4) قد نبه الشيخ في فرائد الاصول / 3، على هذا الاستدراك. *
[ 270 ]
مورد، وعدم اختصاصه به في آخر، على اختلاف الادلة واختلاف المقامات، بحسب مناسبات الاحكام والموضوعات، وغيرها من الامارات. وبالجملة القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، ولا من حيث المورد، ولا من حيث السبب، لا عقلا – وهو واضح – ولا شرعا، لما عرفت (1) من أنه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا، وإن نسب إلى بعض الاخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية، إلا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها، وأنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شئ وحكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي (2) عن السيد الصدر (3) في باب الملازمة، فراجع. وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية، لانها لا تفيد إلا الظن، كما هو صريح الشيخ المحدث الامين الاسترآبادي – رحمه الله – حيث قال – في جملة ما استدل به في فوائده (4) على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين (عليهم السلام). الرابع: إن كل مسلك غير ذلك المسلك – يعني التمسك بكلامهم (عليهم الصلاة والسلام) – إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا
(1) تقدم في الامر الاول: 258. (2) راجع ما حكاه الشيخ عن السيد الصدر: فرائد الاصول: 11، وكلام السيد الصدر في شرح الوافية. (3) السيد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القمي، أخذ من أفاضل علماء إصفهان، كالمدقق الشيرواني والاقا جمال الدين الخونساري والشيخ جعفر القاضي، ثم إرتحل إلى قم، فأخذ في التدريس إلى أن اشتعلت نائرة فتنة الافغان، فانتقل منها إلى موطن أخيه الفاضل بهمدان ثم منها إلى النجف الاشرف، فاشتغل فيها على المولى الشريف أبي الحسن العاملي والشيخ أحمد الجزائري، تلمذ عليه الاستاذ الاكبر المحقق البهبهاني، له كتاب ” شرح الوافية ” توفي في عشر الستين بعد المئة والالف وهو ابن خمس وستين سنة (الكنى والالقاب 2 / 375). (4) الفوائد المدنية: 129. *
[ 271 ]
سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها) وقال في جملتها أيضا – بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة – ما هذا لفظه (1): (وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة، فنقول: إن تمسكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عصمنا من الخطأ، وإن تمسكنا بغيره لم يعصم عنه، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا، ألا ترى أن الامامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ، وذلك الامر محل، لانه قبيح، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى)، انتهى موضع الحاجة من كلامه. وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة – أعلى الله مقامه – في الرسالة (2). وقال في فهرست فصولها (3) أيضا: (الاول: في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام)، انتهى. وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه، هو العقلي الغير المفيد للقطع، وإنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع. وكيف كان، فلزوم اتباع القطع مطلقا، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن
(1) المصدر السابق: 130، مع اختلاف يسير. (2) فرائد الاصول / 9 مبحث القطع. (3) الفوائد المدنية / 90، باختلاف غير قادح في العبارة. *
[ 272 ]
فاضل، فلابد فيما يوهم (1) خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي (2) لاجل منع بعض مقدماته الموجبة له، ولو إجمالا، فتدبر جيدا. الامر السابع: إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علة تامة لتنجزه، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا، فهل القطع الاجمالي كذلك ؟ فيه إشكال، ربما يقال: إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الاذن من الشارع بمخالفته احتمالا بل قطعا، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالا [ إلا ] (3) محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة، بل الشبهة البدوية (4)، ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والاذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلا، فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في القطع به في الاطراف المحصورة أيضا، كما لا يخفى، [ وقد أشرنا إليه سابقا، ويأتي (5) إن شاء الله مفصلا ] (6). نعم كان العلم الاجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية التامة (7)، فيوجب تنجز التكليف أيضا لو لم يمنع عنه مانع عقلا، كما كان في أطراف كثيرة غير
(1) المحاسن / 286، الحديث 430 – الكافي: 2 / 16، الحديث 5. الوسائل: 18 / الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37. (2) في هامش ” ب ” عن نسخة أخرى: العقلي. (3) أثبتناه من ” ب “. (4) كان هنا اشكال آخر ضرب عليه المصنف في نسختي ” أ ” و ” ب “. (5) تقدم في الامر الرابع / 267، عند قوله: قلت: لا بأس باجتماع… الخ، ويأتي في أوائل البحث عن حجية الامارات. (6) شطب المصنف على هذه العبارة في (ب). (7) لكنه لا يخفى أن التفصي عن المناقضة – على ما يأتي – لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي ما لم يصر فعليا والحكم الظاهري الفعلي، كان الحكم الواقعي في موارد الاصول والامارات المؤدية = *
[ 273 ]
محصورة، أو شرعا كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها، كما هو ظاهر (كل شئ فيه حلال وحرام، فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه) (1). وبالجملة: قضية صحة المؤاخذة على مخالفته، مع القطع به بين أطراف محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها، أو مع الاذن في الاقتحام فيها، هو كون القطع الاجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة. وأما احتمال (2) أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، وبنحو العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية، فضعيف جدا. ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجبا لجواز الاذن في الاقتحام، بل لو صح الاذن في المخالفة الاحتمالية صح في القطعية أيضا، فافهم. ولا يخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال – بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية – هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا وعدم ثبوته، كما لا مجال بعد
=: إلى خلافه لا محالة غير فعلي، فحينئذ فلا يجوز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الاذن في مخالفته، بل يستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالا بلزوم موافقته وإطاعته. نعم لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليته شرعا أو عقلا، كما إذا كان مخلا بالنظام، فلا تنجز حينئذ، لكنه لاجل عروض الخلل في المعلوم لا لقصور العلم عن ذلك، كان الامر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام، فإنه أيضا موجب للخلل في المعلوم، لا المنع عن تأثير العلم شرعا، وقد انقدح بذلك أنه لا مانع عن تأثيره شرعا أيضا، فتأمل جيدا (منه قدس سره). (1) باختلاف يسير في العبارة: الكافي 5 / 313 باب النوادر من كتاب المعيشة، الحديث 39. التهذيب 7 / 226، الباب 21 من الزيادات، الحديث 8، الفقيه 3 / 216، الباب 96 الصيد والذبايح الحديث 92. (2) هذه إشارة إلى التفصيل في حجية العلم الاجمالي كما يستفاد من كلمات الشيخ الانصاري في مبحث العلم الاجمالي / 21، عند قوله: (وأما المخالفة العملية فإن كانت…)، ومبحث الاشتغال / 242، عند قوله: (نعم لو أذن الشارع…). *
[ 274 ]
البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك أصلا، كما لا يخفى. هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به، وأما سقوطه به بأن يوافقه إجمالا، فلا إشكال فيه في التوصليات. وأما [ في ] (1) العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردد أمر عبادة بين الاقل والاكثر، لعدم الاخلال بشئ مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها، مما لا يمكن أن يؤخذ فيها، فإنه نشأ من قبل الامر بها، كقصد الاطاعة والوجه والتمييز فيما إذا أتى بالاكثر، ولا يكون إخلال حينئذ إلا بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها، واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية. وأما فيما احتاج إلى التكرار، فربما يشكل (2) من جهة الاخلال بالوجه تارة، وبالتمييز أخرى، وكونه لعبا وعبثا ثالثة. وأنت خبير بعدم الاخلال بالوجه بوجه في الاتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الامر أنه لا تعيين له ولا تمييز فالاخلال إنما يكون به، واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف، لعدم عين منه ولا أثر في الاخبار، مع أنه مما يغفل عنه غالبا، وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلا لاخل بالغرض، كما نبهنا عليه سابقا (3). وأما كون التكرار لعبا وعبثا، فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى، هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال. وأما إذا لم يتمكن الا من الظن به كذلك، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره، إلا فيما إذا لم يتمكن منه، وأما لو قام على اعتباره
(1) من هامش (ب) عن نسخة أخرى. (2) راجع كلام الشيخ قدس فرائد الاصول / 299، في الخاتمة في شرائط الاصول. (3) في مبحث التعبدي والتوصلي، 76. *
[ 275 ]
مطلقا، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي في قبال الظني، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط، وأما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه العسر المخل بالنظام، أو لانه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار، كما توهم، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك. وعليه: فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد، وإن احتاط فيها، كما لا يخفى. هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال، فيقع المقام فيما هو المهم من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الامارات، أو صح أن يقال، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور: أحدها: إنه لا ريب في أن الامارة الغير العلمية، ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية، بل مطلقا، وأن ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتا بلا خلاف، ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر فيه من بعض المحققين (1) الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ، ولعله لاجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمل. ثانيها: في بيان إمكان التعبد بالامارة الغير العلمية شرعا، وعدم لزوم
(1) لعله المحقق الخوانساري (ره) كما قد يستظهر من بعض كلماته في مسألة ما لو تعدد الوضوء ولم يعلم محل المتروك (الخلل)، راجع مشارق الشموس / 147. *
[ 276 ]
محال منه عقلا، في قبال دعوى استحالته للزومه، وليس (1) الامكان بهذا المعنى، بل مطلقا أصلا متبعا (2) عند العقلاء، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع، لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه، ومنع حجيتها – لو سلم ثبوتها – لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، والظن به لو كان فالكلام الآن في إمكان التعبد بها وامتناعه، فما ظنك به ؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا، أو على الحكيم تعالى، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الامكان، وبدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح. وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة (3) – أعلى الله مقامه – من كون الامكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا، والامكان في كلام الشيخ الرئيس (4): (كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان، ما لم يذدك عنه واضح البرهان)، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والايقان، ومن الواضح أن لا موطن له إلا الوجدان، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان. وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور: أحدها: إجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب، أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤديات الامارات أحكام.
(1) هذا تعريض بالشيخ (ره) حيث اعترض على المشهور بما لفظه: (وفي هذا التقرير نظر…)، فرائد الاصول / 24، في إمكان التعبد بالظن. (2) في ” أ “: بأصل متبع. (3) فرائد الاصول / 24، في إمكان التعبد بالظن. (4) راجع الاشارات والتنبيهات: 3 / 418، النمط العاشر في أسرار الآيات، نصيحة. *
[ 277 ]
ثانيها: طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب. ثالثها: تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوما بسائر الاحكام. والجواب: إن ما ادعي لزومه، إما غير لازم، أو غير باطل، وذلك لان التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الكراهة والارادة، كما لا يخفى. وأما تفويت مصلحة الواقع، أو الالقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء. نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للاحكام التكليفية، أو بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الاحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلا أنهما ليسا بمثلين أو ضدين، لان احدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لانشائه الموجب للتنجز، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الاعلى، إلا أنه إذا أوحى بالحكم الناشئ (1) من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي، أو ألهم به الولي، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (2)، الارادة أو الكراهة الموجبة للانشاء بعثا أو زجرا، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق، بل إنما كانت في نفس
(1) في ” ب “: الشاني. (2) أثبتناها من ” أ “. *
[ 278 ]
إنشاء الامر به طريقيا. والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، موجبة لارادته أو كراهته، الموجبة لانشائه بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الاعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة – كما أشرنا – فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة وكراهة، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا وزجرا، وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادة بين الانشاءين فيما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي، فافهم. نعم يشكل الامر في بعض الاصول العملية، كأصالة الاباحة الشرعية، فإن الاذن في الاقدام والاقتحام ينافي المنع فعلا، كما فيما صادف الحرام، وإن كان الاذن فيه لاجل مصلحة فيه، لا لاجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في المأذون فيه، فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا، كما في المبدأ الاعلى، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها، وكونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية، فيما إذا لم ينقدح فيها الاذن لاجل مصلحة فيه. فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاصول والامارات فعليا، كي يشكل تارة بعدم لزوم الاتيان حينئذ بما قامت الامارة على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الاحكام الانشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر، ولزوم الاتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان. لا يقال: لا مجال لهذا الاشكال، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الامارة إليها إنشائية، لانها بذلك تصير فعلية، تبلغ تلك المرتبة. فإنه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبدا، إلا حكم إنشائي تعبدا، لا حكم إنشائي أدت إليه الامارة، أما
[ 279 ]
حقيقة فواضح، وأما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤداها (1) هو الواقع تعبدا، لا الواقع الذي أدت إليه الامارة، فافهم. أللهم إلا أن يقال: إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع – الذي صار مؤدى لها – هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء، لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للاحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلا، وإلا لم تكن لتلك الدلالة مجال، كما لا يخفى. وأخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك ؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والاصول العملية المتكلفة لاحكام فعلية، ضرورة أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله. فلا يصح التوفيق بين الحكمين، بالتزام كون الحكم الواقعي – الذي يكون مورد الطرق – إنشائيا غير فعلي، كما لا يصح بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، وذلك لا يكاد يجدي، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي، إلا أنه يكون في مرتبته أيضا. وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق. ثالثها: إن الاصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبد به واقعا، عدم حجيته جزما، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا، فإنها لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا، ولا يكاد يكون الاتصاف بها، إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون
(1) في ” أ “: مؤداه. *
[ 280 ]
مخالفته تجريا، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شئ من الآثار عليه، للقطع بانتفاء الموضوع معه، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان. وأما صحة الالتزام (1) بما أدى إليه من الاحكام، وصحة نسبته إليه تعالى، فليسا من آثارها، ضرورة أن حجية الظن عقلا – على تقرير الحكومة في حال الانسداد – لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا، كما أشرنا إليه آنفا. فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد، وعدم جواز إسناده (2) إليه تعالى غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم، كما أتعب به شيخنا العلامة (3) – أعلى الله مقامه – نفسه الزكية، بما أطنب من النقض والابرام، فراجعه بما علقناه (4) عليه، وتأمل. وقد انقدح – بما ذكرنا – أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الاصل، فتدبر جيدا. إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.
(1) هذا تعرض بالشيخ، فرائد الاصول / 30 في المقام الثاني. (2) في ” ب “: الاستناد. (3) راجع فرائد الاصول / 30. (4) حاشية فرائد الاصول / 44، عند قوله: ولا يخفى أن التعبد… الخ. *
[ 281 ]
فصل لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة، لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الافادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح. والظاهر (1) أن سيرتهم على اتباعها، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا، ضرورة أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها، بعدم إفادتها للظن بالوفاق، ولا بوجود الظن بالخلاف. كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمه أو يخصه، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحة الشهادة بالاقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه، ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والائمة الطاهرين. وإن ذهب بعض الاصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب، إما بدعوى
(1) إشارة إلى التفصيلين أشار إليهما الشيخ في رسائله. فرائد الاصول / 44. *
[ 282 ]
اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ما (1) ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة (2) عن الفتوى به. أو بدعوى (3) أنه لاجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الانظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف ؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الاوائل إلا الاوحدي من الافاضل، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شئ. أو بدعوى (4) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله. أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا، إلا أنه صار منه عرضا، للعلم الاجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر. أو بدعوى شمول الاخبار الناهية (5) عن تفسير القرآن بالرأي، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى. ولا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الاخير والثالث يكون صغرويا، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي، ويكون
(1) وسائل الشيعة 18: 29، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 527، الكافي 8: 311، الحديث 485. (2) هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسي البصري، مفسر حافط ضرير أكمه، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، كان مع علمه بالحديث رأسا في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب، وكان يرى القدر وقد يدلس في الحديث، مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه، وهو ابن ست وخمسين سنة. (تذكرة الحفاظ 1: 122 الرقم 107). (3) حكي عن الاخباريين، راجع فرائد الاصول / 34. (4) حكاه الشيخ (قدس سره) عن السيد الصدر، فرائد الاصول / 38، شرح الوافية. (5) تفسير العياشي: 1 / 17 – 18، عيون أخبار الرضا: 1 / 59، الباب 11، الحديث 4، أمالي الصدوق: 155 / الحديث 3، التوحيد: 905، الحديث 5. *
[ 283 ]
المنع عن الظاهر، إما لانه من المتشابه قطعا أو احتمالا، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي، وكل هذه الدعاوي فاسدة: أما الاولى، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته، بداهة أن فيه ما لا يختص به، كما لا يخفى. وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لاجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به، كيف ؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات (1) الارجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته (2). وأما الثانية، فلان احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام وحجيتها، كما هو محل الكلام. وأما الثالثة، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ومجمل. وأما الرابعة، فلان العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر، إنما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال. مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمل جيدا.
(1) مثل رواية الثقلين، راجع الخصال: 1 / 65، الحديث 98، معاني الاخبار / 90، التهذيب: 1 / 363، الحديث 27 من باب صفة الوضوء، الوسائل: 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1. (2) في ” ب “: الآيات. *
[ 284 ]
وأما الخامسة، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنه كشف القناع ولا قناع للظاهر، ولو سلم، فليس من التفسير بالرأي، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك الاعتبار، من دون السؤال عن الاوصياء، وفي بعض الاخبار (1) (إنما هلك الناس في المتشابه، لانهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم). هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين مادل على جواز التمسك بالقرآن، مثل خبر الثقلين (2)، وما دل على التمسك به، والعمل بما فيه (3)، وعرض الاخبار المتعارضة عليه (4)، ورد الشروط المخالفة له (5)، وغير ذلك (6)، مما لا محيص عن إرادة الارجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها، ليست إلا ظاهرة في معانيها، ليس فيها ما كان نصا، كما لا يخفى. ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو: إما بإسقاط، أو
(1) وسائل الشيعة 18 / 148، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 62. (2) الخصال: 1 / 65 الحديث 98، ومعاني الاخبار / 90، الحديث 1. (3) نهج البلاغة: باب الخطب، الخطبة 176. (4) الوسائل 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 12، 15، 29. (5) الوسائل 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث: 1. (6) التهذيب: 1 / 363، الحديث 27 من باب صفة الوضوء. الوسائل: 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث: 1. الوسائل: 1 / 327 الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث: *
[ 285 ]
تصحيف (1)، وإن كانت غير بعيدة، كما يشهد به بعض الاخبار (2) ويساعده الاعتبار، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره، لعدم العلم بوقوع خلل (3) فيها بذلك أصلا. ولو سلم، فلا علم بوقوعه في آيات الاحكام، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات، والعلم الاجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة، وإلا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم. نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به، لاخل بحجيته، لعدم انعقاد ظهور له حينئذ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله. ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل (يطهرن) بالتشديد والتخفيف، يوجب الاخلال بجواز التمسك والاستدلال، لعدم إحراز ما هو القرآن، ولم يثبت تواتر القراءات، ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب (4) إلى المشهور تواترها، لكنه مما لا أصل له، وإنما الثابث جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى. ولو فرض جواز الاستدلال بها، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الاصل في تعارض الامارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى، بناء على اعتبارها من باب الطريقية، والتخيير بينها بناء على السببية، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الامارات، فلابد من الرجوع حينئذ إلى الاصل أو العموم، حسب اختلاف المقامات.
(1) في ” ب “: بتصحيف. (2) الاتقان: 1 / 101، 121. مسند أحمد: 1 / 47. صحيح مسلم: 4 / 167. (3) في ” ب “: الخلل. (4) نسبة الشيخ (قده) راجع فرائد الاصول / 40. *
[ 286 ]
فصل قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام: فإن أحرز بالقطع وأن المفهوم منه جزما – بحسب متفاهم أهل العرف – هو ذا فلا كلام، وإلا فإن كان لاجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الاصل عدمها، لكن الظاهر أنه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء، لا أنه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم. وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو، وإن لم يكن بخال عن الاشكال – بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد – إلا أن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل، وإن كان لاجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا، فالاصل يقتضي عدم حجية الظن فيه، فإنه ظن في أنه ظاهر، ولا دليل إلا على حجية الظواهر. نعم نسب (1) إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الاوضاع، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج، وعن بعض (2) دعوى الاجماع على ذلك. وفيه: أن الاتفاق – لو سلم اتفاقه – فغير مفيد، مع أن المتيقن منه هو الرجوع إليه مع إجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة. والاجماع المحصل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصا في مثل
(1) نسبه الشيخ (قده) راجع فرائد الاصول / 45، في القسم الثاني من الظنون المستعملة لتشخيص الاوضاع. (2) كالسيد المرتضى على ما نسب إليه، الذريعة 1 / 13. *
[ 287 ]
المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها. والمتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق (1) والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالاوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همه ضبط موارده، لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا، وإلا لوضعوا لذلك علامة، وليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه، للانتقاض بالمشترك. وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى، لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، وإن كان المعنى معلوما في الجملة لا يوجب اعتبار قوله، ما دام انفتاح باب العلم بالاحكام، كما لا يخفى، ومع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن، من باب حجية مطلق الظن، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد. نعم لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة. لا يقال: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة. فإنه يقال: مع هذا لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى – بعد الظفر به وبغيره في اللغة – وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيرا، وهو يكفي في الفتوى.
(1) في ” ب “: موجبا للوثوق. *
[ 288 ]
فصل الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلابد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها. وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور: الاول: إن وجه اعتبار الاجماع، هو القطع برأي الامام (عليه السلام)، ومستند القطع به لحاكيه – على ما يظهر من كلماتهم – هو علمه بدخوله (عليه السلام) في المجمعين شخصا، ولم يعرف عينا، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه (عليه السلام) عقلا من باب اللطف، أو عادة أو اتفاقا من جهة حدس رأيه، وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلا ولا عادة، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الاجماع، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالبا وعدم العلم بدخول جنابه (عليه السلام) في المجمعين عادة، يحكون الاجماع كثيرا، كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى الاجماع إلى العلم بدخوله (عليه السلام) وممن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنه استند إلى قاعدة اللطف. هذا مضافا إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم، وربما
[ 289 ]
يتفق لبعض الاوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته (عليه السلام) وأخذه الفتوى من جنابه، وإنما لم ينقل عنه، بل يحكي الاجماع لبعض دواعي الاخفاء. الامر الثاني: إنه لا يخفى اختلاف نقل الاجماع، فتارة ينقل رأيه (عليه السلام) في ضمن نقله حدسا كما هو الغالب، أو حسا وهو نادر جدا، وأخرى لا ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله، عقلا أو عادة أو اتفاقا، واختلاف ألفاظ النقل أيضا صراحة وظهورا وإجمالا في ذلك، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب. الامر الثالث: إنه لا إشكال في حجية الاجماع المنقول بأدلة حجية الخبر، إذا كان نقله متضمنا لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل بأن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدا، وكذا إذا لم يكن متضمنا له، بل كان ممحضا لنقل السبب عن حس، إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا عقلا أو عادة أو اتفاقا، فيعامل حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره. وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إليه ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الادلة على حجيته، إذ المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك، كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك (1)، على تقدير دلالتهما، خصوصا فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة، هذا فيما انكشف الحال. وأما فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإن عمدة أدلة حجية الاخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشئ على التوقف والتفتيش، عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على (2) طبقه والجري على
(1) في ” ب “: قدم ” على تقدير دلالتهما ” على ” ذلك “. (2) في ” أ “: على العمل طبقه. *
[ 290 ]
وفقه بدون ذلك، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة. هذا لكن الاجماعات المنقولة في ألسنة الاصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلا، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا إلى الحس، فلابد في الاجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كأنه المحصل، فإن كان بمقدار تمام السبب، وإلا فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الاقوال أو سائر الامارات ما به (1) تم، فافهم. فتلخص بما ذكرنا: أن الاجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الامام (عليه السلام) بالتضمن أو الالتزام، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه (عليه السلام) وما نقله من الاقوال، بنحو الجملة والاجمال، وتعمه أدلة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية. وأما من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الاقوال التي نقلت إليه على الاجمال بألفاظ نقل الاجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له (2) – من أقوال السائرين أو سائر الامارات – مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الاجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، ويكون حاله كما إذا كان كله منقولا، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجيته بلا ريب في تعيين حال السائل، وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك مما له دخل في تعيين
(1) في ” ب “: بانه. (2) في ” أ “: إليه، وصححه المصنف. *
[ 291 ]
مرامه (عليه السلام) من كلامه. وينبغي التنبيه على أمور: الاول: إنه قد مر أن مبنى دعوى الاجماع غالبا، هو اعتقاد الملازمة عقلا، لقاعدة اللطف، وهي باطلة، أو اتفاقا بحدس رأيه (عليه السلام) من فتوى جماعة، وهي غالبا غير مسلمة، وأما كون المبنى العلم بدخول الامام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى، فقليل جدا في الاجماعات المتداولة في السنة الاصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم بدخوله (عليه السلام) على نحو الاجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل تشرف بعض الاوحدي بخدمته ومعرفته أحيانا، فلا يكاد يجدي نقل الاجماع إلا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصل. الثاني: إنه لا يخفى أن الاجماعات المنقولة، إذا تعرض إثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعرض إلا بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين، لاحتمال صدق الكل، لكن نقل الفتاوى على الاجمال بلفظ الاجماع حينئذ، لا يصلح لان يكون سببا، ولا جزء سبب، لثبوت الخلاف فيها، إلا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه (عليه السلام) لو اطلع عليها، ولو مع اطلاعه على الخلاف، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلا ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملا بعيد، فافهم. الثالث: إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الاجماع حال نقل التواتر، وأنه من حيث المسبب لا بد في اعبتاره من كون الاخبار به إخبارا على الاجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به، ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان اخباره بالتواتر دالا عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل، فربما لا يكون إلا دون حد
[ 292 ]
التواتر، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الاخبار، يبلغ المجموع ذاك الحد. نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة – ولو عند المخبر – لوجب ترتيبه عليه، ولو لم يدل على ما بحد التواتر من المقدار. فصل مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى، ولا يساعده دليل، وتوهم (1) دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى، لكون الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده الخبر، فيه مالا يخفى، ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن، غايته تنقيح ذلك بالظن، وهو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة. وأضعف منه، توهم دلالة المشهورة (2) والمقبولة (3) عليه، لوضوح أن المراد بالموصول في قوله في الاولى: (خذ بما اشتهر بين أصحابك) وفي الثانية: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به) هو الرواية، لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى. نعم بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته، بل على حجية (4) كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.
(1) راجع تعليقة المصنف على كتاب فرائد الاصول / 57. (2) عوالي اللآلي 4 / 133، الحديث 229. (3) التهذيب 6 / 301، الحديث 52، والفقيه 3 / 5، الحديث: 2، باختلاف يسير في الرواية. (4) في ” ب “: حجيته. *
[ 293 ]
فصل المشهور بين الاصحاب حجية خبر الواحد في الجملة بالخصوص، ولا يخفى أن هذه المسألة من أهم المسائل الاصولية، وقد عرفت في أول الكتاب (1) أن الملاك في الاصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، ولو لم يكن البحث فيها عن الادلة الاربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الاصول هي الادلة، وعليه لا يكاد يفيد في ذلك – أي كون هذه المسألة أصولية – تجشم دعوى (2) أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل، ضرورة أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الادلة، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها، كما لا يكاد يفيد عليه تجشم دعوى (3) أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة – وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره – هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة ؟ فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الاخبار بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى، مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنما هو الملاك في أنها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح.
(1) راجع ص 9. (2) انظر دعوى صاحب الفصول، الفصول / 12. (3) راجع فرائد الاصول / 67، في الخبر الواحد. *
[ 294 ]
وكيف كان، فالمحكي عن السيد (1) والقاضي (2) وابن زهرة (3) والطبرسي (4) وابن إدريس (5) عدم حجية الخبر، واستدل (6) لهم بالآيات الناهية (7) عن اتباع غير العلم، والروايات (8) الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم (عليهم
(1) الذريعة 2: 528، في التعبد بخبر الواحد ورسالة للسيد في إبطال العمل بالخبر الواحد، المطبوعة في رسائل السيد المرتضى 3: 309 وأجوبته عن مسائل التبانيات المطبوعة في ضمن رسائله 1: 21، الفصل الثاني. علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين المشهور بالسيد المرتضى، تولد سنة 355، حاز من الفضائل ما تفرد به، له تصانيف مشهورة منها ” الشافي ” في الامامة و ” الذخيرة ” و ” الذريعة ” وغيرها، خلف بعد وفاته ثمانين الف مجلد من مقرواته ومصنفاته، توفي لخمس بقين من شهر ربيع الاول سنة 436 ه. (الكنى والالقاب 2 / 483). (2) الشيخ عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج، وجه الاصحاب وفقيههم، لقب بالقاضي لكونه قاضيا في طرابلس، قرأ على السيد والشيخ فترة ويروي عنهما وعن الكراجكي وأبي الصلاح الحلبي. له ” المهذب ” و ” الموجز ” و ” الكامل ” و ” الجواهر “. توفي في 9 شعبان سنة 481 (الكنى والالقاب 1 / 224). (3) الغنية: 475، (المطبوعة في الجوامع الفقهية). أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي العالم الفاضل الفقيه، يروي عن والده وغيره، له ” غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع ” و ” قبس الانوار في نصرة العترة الاطهار ” توفي سنة 585 في سن اربع وسبعين، قبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد السقط. (الكنى والالقاب 1 / 299). (4) كذا يظهر من تفسيره آية النبأ، مجمع البيان 5: 133. أمين الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي مفسر فقيه صاحب كتاب مجمع البيان وجوامع الجامع، كان معاصرا لصاحب الكشاف، يروي عنه جماعة من أفاضل العلماء، منهم ولده الحسن بن الفضل وابن شهر آشوب والقطب الراوندي، انتقل من المشهد الرضوي إلى سبزوار سنة 523 وانتقل منها إلى دار الخلود سنة 548 وحمل نعشه إلى المشهد المقدس وقبره معروف (رياض العلماء 4 / 340). (5) السرائر: 5. (6) المعتمد 2: 124. (7) الاسراء: 36، النجم: 28. (8) مستدرك الوسائل 3: 186، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10. *
[ 295 ]
السلام)، أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان (1)، أو لم يكن موافقا للقرآن إليهم (2)، أو على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله (3)، أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف (4)، أو على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة (5)، إلى غير ذلك (6). والاجماع المحكي (7) عن السيد في مواضع من كلامه، بل حكي (8) عنه أنه جعله بمنزلة القياس، في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة. والجواب: أما عن الآيات، فبأن الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو اتباع غير العلم في الاصول الاعتقادية، لا ما يعم الفروع الشرعية، ولو سلم عمومها لها، فهي مخصصة بالادلة الآتية على اعتبار الاخبار. وأما عن الروايات، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد، فإنها أخبار آحاد. لا يقال: إنها وإن لم تكن متواترة لفظا ولا معنى، إلا أنها متواترة إجمالا، للعلم الاجمالي بصدور بعضها لا محالة. فإنه يقال: إنها وإن كانت كذلك، إلا أنها لا تفيد إلا فيما توافقت عليه، وهو غير مفيد في إثبات السلب كليا، كما هو محل الكلام ومورد النقض والابرام، وإنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة، والالتزام به ليس بضائر، بل
(1) وسائل الشيعة 18: 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 18. (2) مستدرك الوسائل 3: 186، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5. (3) المحاسن 1: 221. (4) وسائل الشيعة 18: 78، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12. (5) وسائل الشيعة 18: 78، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11. (6) راجع وسائل الشيعة 18: 75: أحاديث باب 9 من أبواب صفات القاضي. (7) أجوبة المسائل التبانيات 1: 24، الفصل الثاني. (8) رسائل السيد المرتضى 3: 309، رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد. *
[ 296 ]
لا محيص عنه في مقام المعارضة. وأما عن الاجماع، فبأن المحصل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل، خصوصا في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمل، مع أنه معارض بمثله، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه. وقد استدل للمشهور بالادلة الاربعة: فصل في الآيات التي استدل بها: فمنها: آية النبأ، قال الله تبارك وتعالى: (إن جاء كم فاسق بنبأ فتبينوا) (1). ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه (2): أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جئ به على كون الجائي به الفاسق (3)، يقتضي انتفاءه عند انتفائه. ولا يخفى أنه على هذا التقرير لا يرد: أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم. نعم لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجئ الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، مع أنه يمكن أن يقال: إن القفضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبر. ولكنه يشكل (4) بأنه ليس لها هاهنا ملهوم، ولو سلم أن أمثالها ظاهرة في
المفهوم، لان التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق، يكون قرينة على أنه ليس لها مفهوم. ولا يخفى أن الاشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أن دعوى أنها بمعنى السفاهة وفعل مالا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة. ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل، ربما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الامام (عليه السلام) بواسطة أو وسائط، فإنه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الاثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب، فيما كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر، لانه وإن كان أثرا شرعيا لهما، إلا أنه بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض. نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضا، حيث إنه صار أثرا بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلا جعل واحد، فتدبر. ويمكن ذب الاشكال (1)، بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية، والحكم فيها بلحاظ طبيعة الاثر، بل بلحاظ أفراده، وإلا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع. هذا مضافا إلى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الاثر – أي وجوب التصديق – بعد تحققه بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظا (2) لاجل المحذور، وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار، في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع، صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحكم في الآية به، فافهم.
(1 و 2) الصحيح ما أثبتناه وما في النسخ المطبوعة خطأ ظاهر. *
[ 298 ]
ولا يخفى أنه لا مجال بعد اندفاع الاشكال بذلك للاشكال في خصوص الوسائط من الاخبار، كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلا، بأنه لا يكاد يكون خبرا تعبدا إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد، فكيف يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبدا مثلا حكما له أيضا، وذلك لانه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطا، وإن لم يشمله لفظا، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جيدا. ومنها: آية النفر، قال الله تبارك وتعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة) (1) الآية، وربما يستدل بها من وجوه: أحدها: إن كلمة (لعل) وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي، وهو الترجي الايقاعي الانشائي، إلا أن الداعي إليه حيث يستحيل في حقه تعالى أن يكون هو الترجي الحقيقي، كان هو محبوبية التحذر عند الانذار، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا، لعدم الفصل، وعقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، وعدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه. ثانيها: إنه لما وجب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضية كلمة (لولا) التحضيضية، وجب التحذر، وإلا لغى وجوبه. ثالثها: إنه جعل غاية للانذار الواجب، وغاية الواجب واجب. ويشكل الوجه الاول، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته، من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف، ولم يثبت ها هنا عدم الفصل، غايته عدم
(1) التوبة: 122. *
[ 299 ]
القول بالفصل. والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الانذار ب [ إيجاب ] (1) التحذر تعبدا، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الاطلاق، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر، لا لبيان غايتية التحذر، ولعل وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بكونه مشروطا به، فإن النفر إنما يكون لاجل التفقه وتعلم معالم الدين، ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين، على الوجهين في تفسير الآية، لكي يحذروا إذا أنذروا بها، وقضيته إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الانذار بها، كما لا يخفى. ثم إنه أشكل أيضا، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الاخبار بما تحمله، لا التخويف والانذار، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد. قلت: لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الاول في نقل ما تحملوا من النبي (صلى الله عليه وعلى أهل بيته الكرام) أو الامام (عليه السلام) من الاحكام إلى الانام، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام. ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الابلاغ والانذار والتحذير بالبلاغ، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجة بدونه أيضا، لعدم الفصل بينهما جزما، فافهم. ومنها: آية الكتمان، (إن الذين يكتمون ما أنزلنا) (2) الآية. وتقريب الاستدلال بها: إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب (3) القبول عقلا،
(1) اثبتناها من ” ب “. (2) البقرة: 159. (3) أثبتناها من ” أ “. *
[ 300 ]
للزوم لغويته بدونه، ولا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال (1) للايراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الاهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنها تنافيهما، كما لا يخفى، لكنها ممنوعة، فإن اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبدا، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لاجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبينه، لئلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له علهيم الحجة البالغة. ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (2). وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان. وفيه: إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبد بالجواب. وقد أورد (3) عليها: بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر والعلم، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية. وفيه: إن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الامام (عليه السلام) كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن [ أهل ] (4) الذكر والعلم، ولو كان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقا، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل
(1) دفع لما أورده الشيخ – من الاشكالين الاولين في آية النفر – على الاستدلال بهذه الآية، فرائد الاصول / 81. (2) النحل: 43، الانبياء: 7. (3) هذا هو الايراد الثالث للشيخ على الاستدلال بالآية، فرائد الاصول / 82. (4) أثبتناها من ” ب “. *
[ 301 ]
الذكر، وإنما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم. ومنها: آية الاذن (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (1) فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين، وقرنه بتصديقه تعالى. وفيه: إولا: إنه إنما مدحه بأنه أذن، وهو سريع القطع، لا الاخذ بقول الغير تعبدا. وثانيا: إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين، هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر، ويظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما نمه، وتصديقه لله تعالى بأنه نمه، كما هو المراد من التصديق في قوله (عليه السلام): (فصدقه وكذبهم)، حيث قال – على ما في الخبر (2) -: (يا محمد (3) كذب سمعك وبصرك عن أخيك: فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا، وقال: لم أقله، فصدقه وكذبهم) فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرهم، وتكذيبهم فيما يضره ولا ينفعهم، وإلا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين ؟ وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصة إسماعيل (4)، فتأمل جيدا. فصل في الاخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد. وهي وإن كانت طوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة الوسائل (5) وغيرها،
(1) التوبة: 61. (2) عقاب الاعمال / 295، الحديث 1، الكافي 8 / 147، الحديث 125. (3) في ” أ وب “: يا أبا محمد والصحيح ما أثبتناه، لانه خطاب لمحمد بن فضيل المكنى بأبي جعفر. (4) الكافي 5 / 299، باب حفظ المال وكراهة الاضاعة من كتاب المعيشة، الحديث 1. (5) الوسائل 18: 72 الباب 8 من أبواب صفات القاضي والباب 9، الحديث 5 والباب 11، *
[ 302 ]
إلا أنه يشكل الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غير متفقة على لفظ ولا على معنى، فتكون متواترة لفظا أو معنى. ولكنه مندفع بأنها وإن كانت كذلك، إلا أنها متواترة إجمالا، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم (عليهم السلام)، وقضيته وإن كان حجية خبر دل على حجيته أخصها مضمونا (1) إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية، وقد دل على حجية ما كان أعم، فافهم. فصل في الاجماع على حجية الخبر. وتقريره من وجوه: أحدها: دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الاصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه (عليه السلام) بذلك، ويقطع به، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية، ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى، لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه (عليه السلام) من تتبعها، وهكذا حال تتبع الاجماعات المنقولة، اللهم إلا أن يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد. ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملا – بل كافة المسلمين – على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.
الحديث 4 و 40. (1) في الحقائق 2: 132، وإن كان حجية خبر أخصها مضمونا… الخ. *
[ 303 ]
وفيه: مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الاول، أنه لو سلم اتفاقهم على ذلك، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين، كما هو لا يزالون يعملون بها في غير الامور الدينية من الامور العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الاديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي، ضرورة أنه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه يكشف عن رضى الشارع به في الشرعيات أيضا. إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية، والروايات المانعة عن اتباع غير العلم، وناهيك قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1)، وقوله تعالى: (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) (2). قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه – مضافا إلى أنها وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، ولو سلم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة – لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر، وذلك لان الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقف على الردع عنها بها، وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها، كما لا يخفى. لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا، إلا على وجه دائر، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها، وهو يتوقف على تخصيصها بها، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها. فإنه يقال: إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها، لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى، ضرورة أن ما
(1) الاسراء: 36. (2) النجم: 28. *
[ 304 ]
جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الاطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة، ولو في صورة المخالفة عن الواقع (1)، يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات، فافهم وتأمل. فصل في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر (3) الواحد. أحدها: إنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الائمة الاطهار (عليهم السلام) بمقدار واف بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لا نحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات إلى
(1) الصواب: المخالفة للواقع. (2) قولنا: (فافهم وتأمل) إشارة إلى كون خبر الثقة متبعا، ولو قيل بسقوط كل من السيرة والاطلاق عن الاعتبار، بسبب دوران الامر بين ردعها به وتقييده بها، وذلك لاجل استصحاب حجيته الثابتة قبل نزول الآيتين. فان قلت: لا مجال لاحتمال التقييد بها، فإن دليل اعتبارها مغيى بعدم الردع به عنها، ومعه لا تكون صالحة لتقييد الاطلاق مع صلاحيته للردع عنها، كما لا يخفى. قلت: الدليل ليس إلا إمضاء الشارع لها ورضاه بها، المستكشف بعدم الردع عنها في زمان مع إمكانه، وهو غير مغيى، نعم يمكن أن يكون له واقعا، وفي علمه تعالى أمد خاص، كحكمه الابتدائي، حيث أنه ربما يكون له أمر فينسخ، فالردع في الحكم الامضائي ليس إلا كالنسخ في الابتدائي وذلك غير كونه بحسب الدليل مغيى، كما لا يخفى. وبالجملة: ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم، والعام المؤخر، في دوران الامر بين التخصيص بالخاص، أو النسخ بالعام، ففيهما يدور الامر أيضا بين التخصيص بالسيرة أو الردع بالآيات فافهم (منه قدس سره). (3) أثبتناه من هامش نسخة ” ب “، وفي ” أ “: خبر الواحد. *
[ 305 ]
العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الامارات الغير المعتبرة، ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الاخبار المثبتة، وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناء على جريانه في أطراف [ ما ] (1) علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلا لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال. وفيه: إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر، بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن كان يسلم عما أورد عليه (2) من أن لازمه الاحتياط في سائر الامارات، لا في خصوص الروايات، لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينهما بما علم بين الاخبار بالخصوص ولو بالاجمال فتأمل جيدا. ثانيها: ما ذكره في الوافية (3)، مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الاربعة، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر، وهو: (إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيما بالاصول الضرورية، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والانكحة ونحوها، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان). انتهى. وأورد (4) عليه: أولا: بأن العلم الاجمالي حاصل بوجود الاجزاء والشرائط
(1) الزيادة من ” ب “. (2) أورده الشيخ على الوجه الاول بتقريره فليلاحظ، فرائد الاصول / 103. (3) الوافية / 57. (4) إشارة إلى ما أورده الشيخ (قده)، فرائد الاصول / 105، في جوابه عن التقرير الثاني من *
[ 306 ]
بين جميع الاخبار، لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذ: إما الاحتياط، أو العمل بكل ما دل على جزئية شئ أو شرطيته (1). قلت: يمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي وإن كان حاصلا بين جميع الاخبار، إلا أن العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم (عليهم السلام) بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم الاجمالي، وصيرورة غيره خارجا عن طرف العلم، كما مرت إليه الاشارة في تقريب الوجه الاول، اللهم إلا أن يمنع عن ذلك، وادعي (2) عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعي (3) العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها، فتأمل. وثانيا: بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون الاخبار النافية لهما. والاولى أن يورد عليه: بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالاخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما، من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منهما، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلا، كما لا يخفى. ثالثها: ما أفاده بعض المحققين (4) بما ملخصه: إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلابد من الرجوع إليهما كذلك، وإلا فلا
دليل العقل. (1) كذا في النسختين، والموجود في الرسائل: (فاللازم حينئذ: إما الاحتياط، والعمل بكل خبر دل على جزئية شئ أو شرطيته، وإما العمل بكل خبر ظن صدوره مما دل على الجزئية أو الشرطية)، راجع فرائد الاصول / 105. (2 و 3) الاولى في الموردين: يدعى. (4) هو العلامة الشيخ محمد تقي الاصفهاني في هداية المسترشدين / 397، السادس من وجوه حجية الخبر. *
[ 307 ]
محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار، فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما. وفيه: إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الاخبار الحاكية للسنة، كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه – زيد في علو مقامه – إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار، فإن وفى، وإلا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة لو كان، وإلا فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره، وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة – بذاك المعنى – فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع. وأما الايراد (1) عليه: برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية، وإما إلى الدليل الاول، لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الاخبار. ففيه: إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف، بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.
(1) المستشكل عليه هو الشيخ (قده)، فرائد الاصول / 106. *
[ 308 ]
فصل في الوجوه (1) التي أقاموها على حجية الظن، وهي أربعة: الاول: إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم. أما الصغرى، فلان الظن بوجوب شئ أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها، بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد. وأما الكبرى، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح (2)، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه، إذا قيل باستقلاله، ولذا أطبق العقلاء عليه، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبر جيدا. والصواب في الجواب: هو منع الصغرى، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين
(1) ذكر الشيخ (قده) هذه الوجوه أيضا، فرائد الاصول / 106. (2) هذا رد على الحاجبي: العضدي في شرحه، شرح العضدي على مختصر الاصول: 1 / 163. *
[ 309 ]
مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها، وبمجرد (1) الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به، كي يكون مخالفته عصيانه. إلا أن يقال: إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده، بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه، فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا، لا سيما إذا كان هو العقوبة الاخروية، كما لا يخفى. وأما المفسدة فلانها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه، إلا أنها ليست بضرر على كل حال، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا، كما لا يخفى. وأما تفويت المصلحة، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة، بل ربما يكون في استيفائها المضرة، كما في الاحسان بالمال. هذا مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به (2) والمنهي عنه (3)، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها، كما حققناه في بعض فوائدنا (4). وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الافعال وأنيط بهما الاحكام بمضرة، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الافعال على القول باستقلاله بذلك، هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة رفع
(1) في ” ب “: ومجرد. (2 و 3) أنث الضمير في النسخ، والصواب ما أثبتناه. (4) الفوائد: 337، فائدة في اقتضاء الافعال للمدح والذم، عند قوله: فيمكن أن يكون صورية… ويمكن أن يكون حقيقية. وراجع ما ذكره في حاشيته على الرسائل: 76، عند قوله: مع احتمال عدم كون الاحكام تابعة لهما، بل تابعة لما في انفسهما من المصلحة… الخ. *
[ 310 ]
الضرر المظنون ها هنا أصلا، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة، فافهم. الثاني: إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح. وفيه: إنه لا يكاد يلزم منه ذلك إلا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو بطرفه لازما، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا، أو عدم وجوبه شرعا، ليدور الامر بين ترجيحه وترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الامر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد، وإلا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الاشخاص أو الاحوال في اختلاف المقدمات، على ما ستطلع على حقيقة الحال. الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (1) (قدس سره)، من: إنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لانه عسر اكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لان الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل
(1) هو السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي الحائري، ولد في الكاظمية عام 1161 ه اشتغل على ولد الاستاذ العلامة ثم اشتغل عند خاله الاستاذ العلامة ” وحيد البهبهاني ” وبعد مدة قليلة اشتغل بالتصنيف والتدريس والتأليف، له شرحان معروفان على النافع كبير موسوم ب ” رياض المسائل ” وصغير وغيرهما، ونقل عنه أيضا أنه كان يحضر درس صاحب الحدائق، وكتب جميع مجلدات الحدائق بخطه الشريف، تخرج عليه صاحب المقابس وصاحب المطالع وصاحب مفتاح الكرامة وشريف العلماء وأمثالهم من الاجلة. توفي سنة 1231 ه ودفن تقريبا من قبر خاله العلامة (روضات الجنات 4 / 399 الرقم 422). *
[ 311 ]
إجماعا (1). ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، ومعه لا يكون دليل آخر، بل ذاك الدليل. الرابع: دليل الانسداد، وهو مؤلف من مقدمات، يستقل العقل مع تحققها بكفاية الاطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف، ولا يكاد يستقل بها بدونها، وهي خمس (2). أولها: إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة. ثانيها: إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها. ثالثها: إنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا. رابعها: إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الاصل في المسألة، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها. خامسها: إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا، فيستقل العقل حينئذ بلزوم الاطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة، وإلا لزم – بعد انسداد باب العلم والعلمي بها – إما إهمالها، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع إلى الاصل الجاري في كل مسألة، مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالاطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية.
(1) حكى هذا القول الشيخ الانصاري (قدس سره) في فرائد الاصول / 111، نقلا عن أستاذه شريف العلماء عن أستاذه السيد الاجل الاقا ميرزا سيد علي الطباطبائي (قدس سره) ” صاحب الرياض ” في مجلس المذاكرة، كما صرح بذلك العلامة المرحوم الميرزا محمد حسن الاشتياني (قدس سره) راجع بحر الفوائد 189. (2) الصواب ما أثبتناه وفي النسخ: خمسة. *
[ 312 ]
والفرض بطلان كل واحد منها: أما المقدمة الاولى: فهي وإن كانت بديهية إلا أنه قد عرفت انحلال العلم الاجمالي بما في الاخبار الصادرة عن الائمة الطاهرين (عليهم السلام) التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات، وهو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه، ولو سلم الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال. وأما المقدمة الثانية: أما بالنسبة إلى العلم، فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بينة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد. وأما بالنسبة إلى العلمي، فالظاهر أنها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الادلة على حجية خبر يوثق بصدقه، وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها، كما لا يخفى. وأما الثالثة: فهي قطعية، ولو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا مطلقا أو فيما جاز، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي، وذلك لان إهمال معظم الاحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا. إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الاطراف – كما أشير إليه – فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الاطراف – حينئذ – على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان ؟ والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان ؟ ! قلت: هذا إنما يلزم، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم به بنحو اللم، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا الحال، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا، [ وأما
[ 313 ]
مع استكشافه ] (1) فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان، كما حققناه في البحث وغيره. وأما المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام، فيما يوجب عسره اختلال النظام، وأما فيما لا يوجب، فمحل نظر بل منع، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط، وذلك لما حققناه (2) في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر، من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف، وإنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا. نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر – كما قيل (3) – لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط، لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه. ولا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الاطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لابد من دعوى وجوبه شرعا، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة، فافهم وتأمل جيدا. وأما الرجوع إلى الاصول، فبالنسبة إلى الاصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل وعموم النقل. هذا، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي،
(1) هكذا في ” أ ” وشطب عليها في ” ب “. (2) تعرض المصنف لقاعدة لا ضرر في ص 72 (الكتاب) فليراجع عند قوله أن الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة ادعاء.. وقوله بعد أسطر ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر… الخ. (3) القائل هو الشيخ الانصاري (قدس سره) انظر، فرائد الاصول / 314 ورسالة قاعدة نفي الضرر في مكاسبه، المكاسب / 372. *
[ 314 ]
لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى (لا تنقض) لوجوبه في البعض، كما هو قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) وذلك لانه إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا. وأما إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام، كما لا يخفى، فلا يكاد يلزم ذلك، فإن قضية (لا تنقض) ليس حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم. ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الاصول النافية أيضا، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا، أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالا، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، وإن لم يكن بذاك المقدار، ومن الواضح أنه يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال. وقد ظهر بذلك أن العلم الاجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الاصول المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا، كما لا يخفى. كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك، كان خصوص موارد أصول النافية مطلقا – ولو من مظنونات [ عدم ] (1) التكليف – محلا للاحتياط فعلا، ويرفع اليد عنه فيها كلا أو بعضا، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر – على ما عرفت – لا محتملات التكليف مطلقا.
(1) أثبتناها من ” ب “. *
[ 315 ]
وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز، ضرورة أنه لا يجوز إلا للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل ؟ وأما المقدمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا يجوز التنزل – بعد عدم التمكن من الاطاعة العلمية أو عدم وجوبها – إلا إلى الاطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية، لبداهة مرجوحيتها بالاضافة إليها، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح، لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الاطاعة الاحتمالية، مع دوران الامر بين الظنية والشكية أو الوهمية، من جهة ما أوردناه على المقدمة الاولى من انحلال العلم الاجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيته الاحتياط بالالزام عملا بما فيها من التكاليف، ولا بأس به حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام. وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاصول مطلقا، ولو كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع لو كان التكليف في موارد الاصول المثبتة وما علم منه تفصيلا، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال، وإلا فإلى الاصول المثبتة وحدها، وحينئذ كان خصوص موارد الاصول النافية محلا لحكومة العقل، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها، ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا، بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا – على ما عرفت تفصيله – هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبر جيدا. فصل هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع، أو بالطريق، أو بهما ؟ أقوال: والتحقيق أن يقال: إنه لا شبهة في أن هم العقل في كل حال إنما هو
[ 316 ]
تحصيل الامن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها، وفي أن كلما كان القطع به مؤمنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما، وإن المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك، لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق ومتعلق العلم، وهو طريق شرعا وعقلا، أو بإتيانه الجعلي، وذلك لان العقل قد استقل بأن الاتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو، لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعا. كيف ؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا وإمضاء، إثباتا ونفيا، ولا يخفى أن قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق، ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلا توهم أنه قضية اختصاص المقدمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الاصول، وعدم إلجاء في التنزل إلى الظن فيها، والغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في مقام يحصل الامن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في غالب الاصول مفتوحا، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنين، كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان: أحدهما: ما أفاده بعض الفحول (1) وتبعه في الفصول (2)، قال فيها: إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الاحكام طريقا مخصوصا،
(1) هو العلامة المحقق الشيخ اسد الله الشوشتري، كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع / 460. (2) الفصول / 277، مع اختلاف في الالفاظ. *
[ 317 ]
وكلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث أنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على [ عدم ] (1) حجيته، لانه أقرب إلى العلم، وإلى إصابة الواقع مما عداه. وفيه: أولا – بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية، وعدم وجود المتيقن بينها أصلا – أن قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن. لا يقال (2): الفرض هو عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه، لان الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الاحكام، مما يوجب العسر المخل بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق. فإن قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها، والرجوع إلى الاصل فيها ولو كان نافيا للتكليف، وكذا فيما إذا نهض الكل على نفيه، وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الاطراف فيه نفيا وإثباتا مع ثبوت المرجح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، ومطلقا في غيره بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الاخبار، وكذا لو تعارض إثنان منها في الوجوب والتحريم، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الاصل الجاري فيها ولو كان نافيا، لعدم نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه، فافهم. وكذا كل مورد لم يجر فيه الاصل المثبت، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فيه
(1) أثبتنا الزيادة من الفصول. (2) إيراد ذكره الشيخ (قدس سره) وأمر بالتأمل فيه، فرائد الاصول / 132، عند قوله: أللهم إلا أن يقال إنه يلزم الحرج… الخ. *
[ 318 ]
إجمالا بسبب العلم به، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناء على عدم جريانه بذلك. وثانيا: لو سلم أن قضيته (1) لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم أن الوظيفة حينئذ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن، بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا، ومن الظن بالواقع، كما لا يخفى. لا يقال: إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد، فإن الالتزام به بعيد، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا، فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الاجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، كما عرفت. ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد، مع أن الالتزام بذلك غير مفيد، فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، والظن بالطريق ما لم يظن بإصابته (2) الواقع غير مجد بناء على التقييد، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه. هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد، غايته أن العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية، والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية، إلا أنه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما، والفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز. وعليه يكون التكاليف الواقعية، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية
(1) في ” ب “: قضية. (2) في ” ب “: بإصابة. *
[ 319 ]
الظن بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى، ولابد حينئذ من عناية أخرى (1) في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الاطاعة، وعدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليه (2)، ولا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ لكونه أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام، من الظن بالطريق، فلا أقل من كونه مساويا فيما يهم العقل من تحصيل الامن من العقوبة في كل حال، هذا مع ما عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق، وهو بلا شبهة يكفي، ولو لم يكن هناك ظن بالطريق، فافهم فإنه دقيق. ثانيهما: ما اختص به بعض المحققين (3)، قال: (لا ريب في كوننا مكلفين بالاحكام الشرعية، ولم يسقط عنا التكليف بالاحكام الشرعية، وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به، وسقوط تكليفنا عنا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مر تفصيل القول فيه. فحينئذ نقول: إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب
(1) وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللم، من عدم الاهمال في حال الانسداد قطعا إجماعا بل ضرورة، وهو يقتضي التنزل إلى الطن بالواقع حقيقة أو تعبدا، إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالا، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بكل ما يجب تحصيل القطع به في حال الانفتاح إلى الظن به في هذا الحال، وإلى الظن بخصوص الواقعيات التي تكون مؤديات الطرق المعتبرة، أو بمطلق المؤديات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها، فلا يكاد أن تصل النوبة إلى الظن بالطريق بما هو كذلك وإن كان يكفي، لكونه مستلزما للظن بكون مؤداه مؤدى طريق معتبر، كما يكفي الظن بكونه كذلك، ولو لم يكن ظن باعتبار طريق أصلا كما لا يخفى، وأنت خبير بأنه لا وجه لاحتمال ذلك، وإنما المتيقن هو لزوم رعاية الواقعيات في كل حال، بعد عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالاجمال بين أطراف كثيرة، فافهم (منه قدس سره). (2) راجع صفحة / 312. (3) وهو العلامة المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني، هداية المسترشدين / 391. *
[ 320 ]
علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو الاقرب إلى العلم به، فيتعين الاخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل، بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف، دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع، كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن). انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه. وفيه أولا: إن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالاطاعة والامتثال إنما هو العقل، وليس للشاعر في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو [ هو ] (1) مفرغ، وأن القطع به حقيقة أو تعبدا مؤمن جزما، وأن المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح، فيكون الظن بالواقع أيضا مؤمنا حال الانسداد. وثانيا: سلمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمة – فيما إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب – ليس إلا بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أن دعوى أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به أولى، كما لا يخفى، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا. إن قلت: كيف يستلزمه (2) الظن بالواقع ؟ مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه، كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه ولو كان من القياس. قلت: الظن بالواقع أيضا يستلزم (3) الظن بحكمه بالتفريغ (4)، ولا ينافي
(1) أثبتنا الزيادة من ” أ “. (2) في ” ب “: يستلزم. (3) وذلك لضرورة الملازمة بين الاتيان بما كلف به واقعا وحكمه بالفراغ ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه، لو سئل عن أن الاتيان بالمأمور به على وجهه، هل هو مفرغ ؟ ولزوم حكمه بأنه مفرغ، والا لزم عدم إجزاء الامر الواقعي، وهو واضح البطلان (منه قدس سره). (4) كذا في النسخة المصححة، وفي ” أ “: الظن بهما على الاقوى يستلزم الحكم بالتفريغ. *
[ 321 ]
القطع بعدم حجيته لدى الشارع، وعدم كون المكلف معذورا – إذا عمل به فيهما – فيما أخطأ، بل كان مستحقا للعقاب – ولو فيما أصاب – لو بنى على حجيته والاقتصار عليه لتجريه، فافهم. وثالثا: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به، لكن قضيته ليس إلا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، لا خصوص الظن بالطريق، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا. فصل لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا، ضرورة أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال، ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة، ضرورة أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، والمورد هاهنا غير قابل له، فإن الاطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح. واقتصار المكلف بما دونها، لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا، أو فيما أصاب الظن، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى، ولا بأس به إرشاديا، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية. وصحة نصبه الطريق وجعله في كل حال بملاك يوجب نصبه وحكمة داعية إليه، لا تنافي استقلال العقل بلزوم الاطاعة بنحو حال الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها
[ 322 ]
مولويا، لما عرفت. فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلا على نحو الحكومة دون الكشف، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا، سببا وموردا ومرتبة، لعدم تطرق الاهمال والاجمال في حكم العقل، كما لا يخفى. أما بحسب الاسباب فلا تفاوت بنظره فيها. وأما بحسب الموارد، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الاطاعة الظنية، إلا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر. وأما بحسب المرتبة، فكذلك لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف (1)، إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر. وأما على تقرير الكشف، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الاسباب، بل يستكشف حينئذ أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيق، وإلا فلا مجال لاستكشاف حجية (2) غيره، ولا بحسب الموارد، بل يحكم بحجيته في جميعها، وإلا لزم عدم وصول الحجة، ولو لاجل التردد في مواردها، كما لا يخفى. ودعوى الاجماع (3) على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا.
(1) كذا صححه في ” ب “، وفي ” أ “: فكذلك لا يستقل إلا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظن إلا على… إلخ. (2) في ” ب “: حجة. (3) ادعاه الشيخ (قده) فرائد الاصول / 139. *
[ 323 ]
وأما بحسب المرتبة، ففيها إهمال، لاجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافيا، فلابد من الاقتصار عليه، ولو قيل بأن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه، فلا إهمال فيها بحسب الاسباب، لو لم يكن فيها تفاوت أصلا، أو لم يكن بينها إلا واحد، وإلا فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب، حتى ينتهي إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها، فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار، فيقتصر عليه. وأما بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه، فتدبر جيدا. ولو قيل بأن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلا، فالاهمال فيها يكون من الجهات، ولا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق بمراعاة اطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار، لو لم يلزم منه محذور، وإلا لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمل فإن المقام من مزال الاقدام. وهم ودفع: لعلك تقول: إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا. لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله، لاجل اليقين بأنه لو كان شئ حجة شرعا كان هذا الشئ حجة قطعا، بداهة أن الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر، لا الدليل على الملازمة. ثم لا يخفى أن الظن باعتبار ظن (1) بالخصوص، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل
(1) في ” ب “: الظن. *
[ 324 ]
بنفسه، فإنه حينئذ يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أو لا، واحتمال عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، ضرورة أنه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجة بلا نصب قرينة، ولكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار، وبالجملة الامر يدور بين حجية الكل وحجيته، فيكون مقطوع الاعتبار. ومن هنا ظهر حال القوة، ولعل نظر من رجح بها إلى هذا الفرض، وكان منع شيخنا العلامة (1) – أعلى الله مقامه – عن الترجيح بهما (2)، بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه، أو الطريق ولو لم يصل أصلا، وبذلك ربما يوفق بين كلمات الاعلام في المقام، وعليك بالتأمل التام. ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بهما (3) إنما هو على تقدير كفاية الراجح، وإلا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية، فيختلف الحال باختلاف الانظار بل الاحوال. وأما تعميم النتيجة (4) بأن قضية العلم الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه، فهو لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلا، مع أن التعميم بذلك لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الاطراف دون النافيات، إلا فيما إذا كان هناك ناف من جميع الاصناف، ضرورة أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم، حيث لا ينافيه، كيف ؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية، كما لا يخفى، فما ظنك بما لا يجب الاخذ بموجبه إلا من باب الاحتياط ؟ فافهم.
(1) فرائد الاصول / 142، وأما المرجح الثاني. (2) في ” ب “: بها. (3) في ” ب “: بها. (4) هذا ثالث طرق ” تعميم النتيجة ” الذي نقله الشيخ (قده) عن شيخه المحقق شريف العلماء (قده)، واستشكل عليه، فرائد الاصول 150. *
[ 325 ]
فصل قد اشتهر الاشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة، وتقريره على ما في الرسائل (1) أنه: (كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للاطاعة والمعصية، ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس، ولا يجوز الشارع العمل به ؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا، جرى في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلا، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس [ بل وأزيد ] (2) واختفى علينا، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص). انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه. وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا، وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا، بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما، والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شئ، بل هو يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعي، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا كالامر بما لا يفيده، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه، لا يصح الاشكال فيه بلحاظه.
نعم لا بأس بالاشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق. غاية الامر تلك المحاذير – التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب – كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الاصابة، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد. واستلزام إمكان المنع عنه، لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل، إلا أنه إنما يكون بالاضافة إلى تلك الامارة، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، وإلا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع (1). وقياس حكم العقل (2) بكون الظن مناطا للاطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فساده، لوضوح أنه مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق. ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس، مع جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلا لاجل أن حكمه به معلق على عدم النصب، ومعه لا حكم له، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيدا.
(1) سيأتي تحقيقه في الفصل الآتي. (2) ذكره الشيخ (قده) في فرائد الاصول / 156. *
[ 327 ]
وقد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الاشكال: تارة (1) بأن المنع عن القياس لاجل كونه غالب المخالفة، وأخرى (2) بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الاصابة، وذلك لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن، ولا يكاد يجدي صحته كذلك في ذب الاشكال في صحته بهذا اللحاظ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة. وأما ما قيل في جوابه (3)، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع حصول الظن منه بعد انكشاف حاله، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه، ففي غاية الفساد، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد – لدعوى الاجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه في بعض الاحيان – لا يكاد يكون في دفع الاشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية الامر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنه غير فرض الاشكال، فتدبر جيدا. فصل إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص، فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد: إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه، فضلا عما إذا ظن، كما أشرنا إليه في الفصل السابق، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى، وإلا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه وإن احتمل، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وإن انسد باب هذا الاحتمال معها، كما لا يخفى، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال
(1) هذا سابع الوجوه التي ذكرها الشيخ (قده) في الجواب عن الاشكال، فرائد الاصول / 161. (2) هو الوجه السادس الذي أفاده الشيخ (قده) واستشكل عليه، فرائد الاصول / 160. (3) راجع الوجهين الاولين من الوجوه السبعة التي ذكره الشيخ (قده) فرائد الاصول / 157. *
[ 328 ]
حسب الفرض ومنه قد انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الاصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم. فصل لا فرق في نتيجة دليل الانسداد، بين الظن بالحكم من أمارة عليه، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح، ولا يخفى أن اعتبار ما يورثه لا محيص عنه فيما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد. نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية، إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص، أو ذاك المخصوص، ومثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي، كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا، لا آخر. فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية. تنبيه: لا بيعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مهما أمكن في الرواية، وعدم الاقتصار على (1) الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي، وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه عقلا، فتأمل جيدا. فصل إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها، لا
(1) في ” أ “: بالظن. *
[ 329 ]
حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها، بل لابد من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى. نعم ربما يجري نظير مقدمت الانسداد في الاحكام في بعض الموضوعات الخارجية، من انسداد باب العلم به غالبا، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفة (1) الواقع بإجراء الاصول فيه مهما أمكن، وعدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم إمكانه عقلا، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا، فافهم. خاتمة: يذكر فيها أمران استطرادا: الاول: هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية، المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح، يتبع في الاصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له، أو لا ؟. الظاهر لا، فإن الامر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به، إلا أن باب الاعتقاد إجمالا – بما هو واقعه والانقياد له وتحمله – غير منسد، بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط، والمفروض عدم وجوبه شرعا، أو عدم جوازه عقلا، ولا أقرب من العمل على وفق الظن. وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الاعمال الجوانحية على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع، ولا ينقاد إلا له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف العمليات، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد. نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه، ومعرفة
(1) في ” ب “: بمخالفته. *
[ 330 ]
أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وكذا معرفة الامام (عليه السلام) على وجه صحيح (1)، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك، ولاحتمال الضرر في تركه، ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر، إلا ما وجب شرعا معرفته، كمعرفة الامام (عليه السلام) على وجه آخر غير صحيح، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص، لا من العقل ولا من النقل، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة (2). ولا دلالة لمثل قوله تعالى (وما خلقت الجن والانس) (3) الآية، ولا لقوله (صلى الله عليه وآله): (وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) (4) ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم، ضرورة أن المراد من (ليعبدون) هو خصوص عبادة الله ومعرفته، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلا، ومثل آية النفر (5)، إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته، كما لا يخفى، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به. ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا، حيث أنه ليس بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن، ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة (6) المطلب مع قلة الاستعداد، كما هو المشاهد في
(1) وهو كون الامامة كالنبوة منصبا إلهيا يحتاج إلى تعيينه – تعالى – ونصبه، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين، وهو الوجه الآخر (منه قدس سره الشريف). (2) هذا تعريض بما أفاده الشيخ (قده) انتصارا للعلامة، فرائد الاصول / 170. (3) الذاريات: 56. (4) وقريب منه: الكافي 3 / 264، والتهذيب 2 / 236. (5) التوبة: 122. (6) في ” ب “: الغموضية. *
[ 331 ]
كثير من النساء بل الرجال، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد، ولو لاجل حب طريقة الآباء والاجداد واتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي للخلف، وقلما عنه تخلف (1). والمراد من المجاهدة في قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (2) هو المجاهدة مع النفس، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل، وهي التي كانت أكبر من الجهاد، لا النظر والاجتهاد، وإلا لادى إلى الهداية، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة، إلا إذا كانت هناك منه – تعالى – عناية، فإنه غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق، لا بصدد الحق، فيكون مقصرا مع اجتهاده، ومؤاخذا إذا أخطأ على قطعه واعتقاده. ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه، لما أشرنا إليه (3) من أن الامور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها، فلا إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية، كما لا يخفى. وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه، فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا، بل الادلة الدالة على النهي عن اتباع الظن، دليل على عدم جوازه أيضا. وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون (4) معذورا عقلا.
(1) في ” ب “: يتخلف. (2) العنكبوت / 69. (3) أشار إليه في الامر الاول من خاتمة دليل الانسداد / 329. (4) ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة، بل استحقاقه دركة لنقصانه بسبب فقدانه للايمان به تعالى أو = *
[ 332 ]
ولا يصغى إلى ما ربما قيل: بعدم وجود القاصر فيها، لكنه إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق، إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله. هذا بعض الكلام مما يناسب المقام، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والاسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة. الثاني: الظن الذي لم يقم على حجيته دليل، هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح به أحد المتعارضين، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لاحدهما، أو كان للآخر منهما، أم لا ؟ ومجمل القول في ذلك: إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته، هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية، كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية، فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به، فراجع أدلة اعتبارها. وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دليل الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر، إلا فيما أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لولا عروض انتفائه، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، وكذا عدم وهن دلالته مع ظهوره، إلا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة مانعة
= برسوله، أو لعدم معرفة أوليائه، ضرورة أن نقصان الانسان لذلك يوجب بعده عن ساحة جلاله تعالى، وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات، وعليه فلا إشكال فيما هو ظاهر بعض الروايات والآيات، من خلود الكافر مطلقا ولو كان قاصرا، فقصوره إنما ينفعه في دفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات، لا فيما يستتبعه نقصان ذاته ودنو نفسه وخساسته، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك فلا مجال للسؤال عنه، ب (لم ذلك ؟) فافهم (منه قدس سره). *
[ 333 ]
عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لولا تلك القرينة، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره، أو ظن بعدم إرادة ظهوره. وأما الترجيح بالظن، فهو فرع دليل على الترجيح به، بعد سقوط الامارتين بالتعارض من البين، وعدم حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه، وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به. وإن ادعى شيخنا (1) العلامة – أعلى الله مقامه – استفادته من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة، على ما في (2) تفصيله في التعادل والترجيح (3). ومقدمات الانسداد في الاحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة، لا الترجيح به ما لم يوجب ظن بأحدهما، ومقدماته في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح، لا أنه مرجح إلا إذا ظن أنه – أيضا – مرجح، فتأمل جيدا، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل. وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح، فيما لا يكون لغيره أيضا، وكذا فيما يكون به أحدهما، لوضوح أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة – بعد المنع عنه – لا يوجب خروجه عن تحت دليل حجيته (4)، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين، وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا، وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا، ودخله في واحد منها نحو استعمال له فيها، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
(1) فرائد الاصول / 187، حيث قال الثالث: ما يظهر من بعض الاخبار… إلخ. (2) في ” ب “: على ما يأتي تفصيله. (3) في ” أ “: التراجيح. (4) في ” ب “: الحجية. *
[ 335 ]
المقصد السابع الاصول العملية
[ 337 ]
المقصد السابع: في الاصول العملية. وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل، والمهم منها أربعة، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية (1)، وإن كان مما ينتهي إليه فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته، إلا أن البحث عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابتة بلا كلام، من دون حاجة إلى نقض وإبرام، بخلاف الاربعة، وهي: البراءة والاحتياط، والتخيير والاستصحاب: فإنها محل الخلاف بين الاصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان، هذا مع جريانها في كل الابواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فافهم.
(1) لا يقال: إن قاعدة الطهارة مطلقا، تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية، فإن الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع. فإنه يقال: أولا: نمنع ذلك، بل إنهما من الاحكام الوضعية الشرعية، ولذا اختلفتا في الشرائع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما، كما لا يخفى. وثانيا: إنهما لو كانتا كذلك، فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكمية، فإنه لا مرجع لرفعها إلا الشارع، وما كانت كذلك ليست إلا حكمية (منه قدس سره). *
[ 338 ]
فصل لو شك في وجوب (1) شئ أو حرمته، ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الاول وفعل الثاني، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النص أو إجماله، واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين. وأما بناء على التخيير – كما هو المشهور – فلا مجال لاصالة البراءة وغيرها، لمكان وجود الحجة المعتبرة، وهو أحد النصين فيها، كما لا يخفى، وقد استدل على ذلك بالادلة الاربعة:
(1) لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل، وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة، إنما هو لاجل عدم الحاجة إلى ذلك، بعد الاتحاد فيما هو الملاك، وما هو العمدة من الدليل على المهم، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول، لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة. وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الاصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير، كما أنه داخل فيما لا حجة فيه – بناء على سقوط النصين عن الحجية – وأما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الاصولية، بل فقهية، فلا وجه لبيان حكمها في الاصول إلا استطرادا فلا تغفل، (منه قدس سره). *
[ 339 ]
أما الكتاب: فبآيات أظهرها قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (1). وفيه: إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده، مع استحقاقهم لذلك، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا، مع وضوح منعه، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه، فافهم. وأما السنة: فبروايات (2) منها: حديث الرفع (3)، حيث عد (ما لا يعلمون) من التسعة المرفوعة فيه، فالالزام المجهول مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا، فلا مؤاخذة عليه قطعا. لا يقال: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا، فلا دلالة له على ارتفاعها (4). فإنه يقال: إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا، إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه، من إيجاب الاحتياط شرعا، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته. لا يقال: لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف
(1) الاسراء: 15. (2) في ” ب “: فروايات. (3) الكافي / 2 كتاب الايمان والكفر، باب ما رفع عن الامة، الحديث 2، الفقيه 1 / 36، الباب 14، الحديث 4، والخصال 2 / 417، باب التسعة. (4) مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام، والتحقيق في الجواب أن يقال – مضافا إلى ما قلناه – أن الاستحقاق وإن كان أثرا عقليا، إلا أن عدم الاستحقاق عقلا، مترتب على عدم التكليف شرعا ولو ظاهرا، تأمل تعرف، (منه قدس سره). *
[ 340 ]
المجهول، بل على مخالفة (1) نفسه، كما هو قضية إيجاب غيره. فإنه يقال: هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا، وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول، كما هو الحال في غيره من الايجاب والتحريم الطريقيين، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به، ويقال لم أقدمت مع إيجابه ؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما. وقد انقدح بذلك، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الامة، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته (2) من إيجاب الاحتياط، فرفعه، فافهم. ثم لا يخفى (3) عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في (ما لا يعلمون)، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا، وإن كان في غيره لابد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه، فإنه ليس ما اضطروا وما استكرهوا… إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة. نعم لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه، لكان أحد الامرين مما لا بد منه أيضا. ثم لا وجه (4) لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الاثر الظاهر في كل منها، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها، كما أن ما يكون بلحاظه الاسناد إليها مجازا، هو هذا، كما لا يخفى. فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الامة، كما
(1) في ” ب “: مخالفته. (2) في ” ب “: قضية. (3) خلافا لما أفاده الشيخ، فرائد الاصول / 195. (4) المصدر السابق. *
[ 341 ]
استشهد الامام (عليه السلام) بمثل (1) هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق. ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره، مما أخذ بعنوانه الثانوي، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الاولي، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للاثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجبا لرفعه ؟ لا يقال كيف ؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها. فإنه يقال: بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى. ومنها: حديث الحجب (2)، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع، إلا أنه ربما يشكل (3) بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه، لعدم أمر رسله بتبليغه، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى. ومنها: قوله (عليه السلام) (4) (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) الحديث، حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته، وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، يتم المطلوب.
(1) المحاسن 2 / 339، الحديث 124. (2) التوحيد للصدوق (ره) 413، باب التعريف والبيان والحجة، الحديث 9. والوسائل 18 / 12، باب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28. (3) أورده الشيخ (ره) على الاستدلال بهذا الحديث، فرائد الاصول / 199. (4) قريب من هذا المضمون روايات، الوسائل: 12 / 59، باب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديثان 1 و 4 والوسائل: 17 / 90، باب 61 من الاطعمة المباحة، الاحاديث، 1 و 2 و 7. *
[ 342 ]
مع إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته، فهو حلال، تأمل. ومنها: قوله (عليه السلام) (1) (الناس في سعة ما لا يعلمون) فهم في سعة ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته، ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا، فيعارض به ما دل على وجوبه، كما لا يخفى. لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط. فإنه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله ؟ نعم لو كان الاحتياط واجب نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا، لاجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا، فافهم. ومنها: قوله (عليه السلام) (2) (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره. لا يقال: نعم، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم. فإنه يقال: وإن تم الاستدلال به بضميمتها، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا. لا يقال: نعم، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالاباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.
(1) الوسائل: 2 / 1073، باب 5 من أبواب النجاسات، الحديث 11 بتفاوت يسير في العبارة. (2) الوسائل: 18 / 127، باب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60. *
[ 343 ]
فإنه يقال: حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان، وإباحته (1) في آخر، واشتبها من حيث التقدم والتأخر. لا يقال: هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته. فإنه يقال: وإن لم يكن بينها الفصل، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها الدليل، لا الاصل، فافهم. وأما الاجماع: فقد نقل (2) على البراءة، إلا أنه موهون، ولو قيل باعتبار الاجماع المنقولة في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل، ومن واضح النقل عليه دليل، بعيد جدا. وأما العقل: فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه، فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان. ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، كي يتوهم أنها تكون بيانا، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل. وأما ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملا، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا
(1) في ” ب “: إباحة. (2) راجع الوجه الثاني من وجوه التقرير الثاني للاجماع على حجية البراءة في كلام الشيخ (قده) فرائد الاصول / 202. *
[ 344 ]
يلازم احتمال المضرة، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام، وقد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح وقبح ماكان ذات المفاسد، ليست براجعة إلى المنافع والمضار، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا. إن قلت: نعم، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة (1) (قدس سره)، على أن الاشياء على الحظر أو الوقف. قلت: استقلاله بذلك ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والاديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته، كيف ؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل. واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة، بالادلة الثلاثة: أما الكتاب: فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم (2)، وعن الالقاء في التهلكة (3)، والآمرة بالتقوى (4). والجواب: إن القول بالاباحة شرعا وبالامن من العقوبة عقلا، ليس قولا بغير علم، لما دل على الاباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا، ولا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى.
(1) عدة الاصول 2 / 117 ولكن المتراءى منه غير هذا. (2) الاعراف: 33، الاسراء: 36، النور: 15. (3) البقرة: 195. (4) البقرة: 102، التغابن: 16. *
[ 345 ]
وأما الاخبار: فبما (1) دل على وجوب التوقف عند الشبهة، معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة، من الاخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقة أو إلتزاما، وبما (2) دل على وجوب الاحتياط من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة. والجواب: إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل على [ الاباحة ] (3) وحكم العقل بالبراءة كما عرفت. وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم، وإن كان واردا على حكم العقل، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول. ولا يصغى إلى ما قيل (4): من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا، وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات والاصول العملية. إلا أنها تعارض بما هو أخص وأظهر، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص، بل هو في الدلالة على الحلية نص، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط، مع أن هناك قرائن دالة على أنه للارشاد، فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه.
(1) الوسائل: 18 / 75 الباب 9 من أبواب صفات القاضي / الحديث 1 – الوسائل 14 / 193، الباب 157 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2. الوسائل: 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي / أحاديث: 3، 4، 10، 31، 35. (2) الوسائل: 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي / أحاديث: 1، 37، 41، 54. (3) أثبتناها من ” ب “. (4) القائل هو الشيخ الاعظم، فرائد الاصول / 208. *
[ 346 ]
ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا، مع أنه آب عن التخصيص قطعا، كيف لا يكون قوله: (قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) للارشاد ؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة ؟ لا يقال: نعم، ولكنه يستكشف منه (1) على نحو الان إيجاب الاحتياط من قبل، ليصح به العقوبة على المخالفة. فإنه يقال: إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فتأمل جيدا. وأما العقل: فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته، مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغا للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الاصحاب. والجواب: إن العقل وإن استقل بذلك، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحل هاهنا، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاصول العملية.
(1) في ” ب “: عنه. *
[ 347 ]
إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالتكاليف (1). قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي. إن قلت: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا، وأما بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا، كما لا يخفى. قلت: قضية الاعتبار شرعا – على اختلاف ألسنة أدلته – وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الاطراف، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الاناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر، ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية. هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى. وربما استدل بما قيل (2): من استقلال العقل بالحظر في الافعال الغير الضرورية قبل الشرع، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله، لا به ولا بالاباحة،
(1) في ” أ “: بالواجبات. (2) قرر الشيخ (قده) هذا الوجه العقلي بقوله: ” الوجه الثاني “، فرائد الاصول / 214. *
[ 348 ]
ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الاباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط. وفيه أولا: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الافعال على الاباحة. وثانيا: إنه ثبت الاباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها. وثالثا: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة، للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وما قيل (1) – من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة – ممنوع، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، والمفسدة فيما فيه المنفعة، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلا عن احتماله. بقي أمور مهمة لا بأس بالاشارة إليها: الاول: إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا ولو كان موافقا لها، فإنه معه لا مجال لها أصلا، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (2) فلا تجري – مثلا – أصالة الاباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في
(1) القائل هو شيخ الطائفة، عدة الاصول / 117. (2) يأتي تحقيق الورود في خاتمة الاستصحاب – حقائق – 2 / 256. *
[ 349 ]
قبوله التذكية، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجه (1) فيما لم يذك وهو حرام إجماعا، كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا، ضرورة كفاية كونه مثله حكما، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الاوداج [ الاربعة ] (2) مع سائر شرائطها، عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية، ومع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا يخفى. نعم لو شك بقبوله التذكية وشك في الحلية، فأصالة الاباحة فيه محكمة، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلا أصالة الاباحة، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام. هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك – مثلا – في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها، أم لا ؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، ومعها لا مجال لاصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها، فالاصل أنه كذلك بعده. ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا. الثاني: إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو (3) التحريمية في العبادات وغيرها، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما
(1) في ” أ “: تدرجها. (2) أثبتناها من ” ب “. (3) في ” أ “: و. *
[ 350 ]
إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي. وربما يشكل (1) في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب، من جهة أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا. وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال، ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته ؟ وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الامر به من جهة ترتب الثواب عليه، ضرورة أنه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه ؟ هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الان، بل يكون حاله في ذلك حال الاطاعة، بإنه نحو من الانقياد والطاعة. وما قيل (2) في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة. فيه: مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا، والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه. نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لما
(1) ذكر الشيخ هذا الاشكال في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة من جهة عدم النص، فرائد الاصول / 228. (2) ذكره الشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة، فرائد الاصول / 229. *
[ 351 ]
كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى أنه التزام بالاشكال وعدم جريانه فيها، وهو كما ترى. قلت: لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها، مما يتعلق بها الامر المتعلق بها، فيشكل جريانه حينئذ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها (1)، وقد عرفت أنه فاسد (2)، وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لاجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه. وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان، ضرورة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الامر أنه لابد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا، بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى، فيقع حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد. وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها (3)،
(1) هكذا صححه في ” ب “، وفي ” أ “: لعدم التمكن من إتيان جميع ما اعتبر فيها… إلخ. (2) هذا مع أنه لو أغمض عن فساده، لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الاشكال فيها، فكما يلتزم في دفعه بتعدد الامر فيها، ليتعلق أحدهما بنفس الفعل والآخر بإتيانه بداعي أمره، كذلك فيما احتمل وجوبه منها، كان على هذا احتمال أمرين كذلك، أي أحدهما كان متعلقا بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الامر، فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا، وانقيادا لو لم يكن كذلك. نعم كان بين الاحتياط ها هنا وفي التوصليات فرق، وهو أن المأتي به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا، بخلافه هاهنا، فإنه لا يوافق إلا على تقدير وجوبه واقعا، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلا على هذا التقدير، ولكنه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه، وكونه واجبا. ودعوى عدم كفاية الاتيان برجاء الامر في صيرورته عبادة أصلا – ولو على هذا التقدير – مجازفة، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لامره على نحو العبادة لو كان، وهو الحاكم في باب الاطاعة والعصيان، فتأمل جيدا (منه قدس سره). (3) خلافا لما يظهر من الشيخ في بداية كلامه، فرائد الاصول / 228. *
[ 352 ]
بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشئ، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى. فظهر أنه لو قيل (1) بدلالة أخبار (2) (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه. لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لكانت دالة على استحباب الاتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر الاحتياط، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي. فإنه يقال: إن الامر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط، ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفا. ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الاخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب، فإن صحيحة (3) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من بلغه عن النبي – صلى الله عليه وآله – شئ من الثواب فعمله، كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لم يقله) ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ذو ثواب، وكون العمل متفرعا على البلوغ، وكونه الداعي إلى
(1) هذا رد للشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغيره، فرائد الاصول / 229. (2) الوسائل: 1 / 59 ب 18 من أبواب مقدمة العبادات، أحاديث الباب. (3) المحاسن / 25، وكتاب ثواب الاعمال الباب 1، الحديث 2. *
[ 353 ]
العمل غير موجب (1) لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان. وإتيان (2) العمل بداعي طلب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قيد به في بعض الاخبار (3)، وإن كان انقيادا، إلا أن الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو إلتماسا للثواب الموعود، كما قيد به في بعضها الآخر (4)، لاوتي الاجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة، فيكون وزانه وزان (من سرح لحيته) (5) أو (من صلى أو صام فله كذا) ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب، فافهم وتأمل. الثالث: إنه لا يخفى أن النهي عن شئ، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالاصل، فلا يجوز الاتيان بشئ يشك معه في تركه، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به. نعم، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة. فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شئ لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان
(1 و 2) تعريض بالشيخ في أخبار من بلغ، فرائد الاصول / 230. (3) الوسائل: 1 / 60، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 4. (4) المصدر السابق، الحديث 7. (5) الوسائل: 1 / 429، الباب 76 من أبواب آداب الحمام. *
[ 354 ]
الشئ مسبوقا بالترك، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا، فكما يجب فيما علم وجوب شئ إحراز إتيانه إطاعة لامره، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه. غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل، كذلك يحرز ترك الحرام به، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا، فتفطن. الرابع: إنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام، ما لم يخل بالنظام فعلا، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا، كان في الامور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها، وكان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا، كانت الحجة على خلافه أو لا، كما أن الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسنا كذلك، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الامر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا، فافهم.
[ 355 ]
فصل إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا، ففيه وجوه: الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به، ووجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا، والتخيير بين الترك والفعل عقلا، مع التوقف عن الحكم به رأسا، أو مع الحكم عليه بالاباحة شرعا، أوجهها الاخير، لعدم الترجيح بين الفعل والترك، وشمول مثل (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام) له، ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا. وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام إلتزاما، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا، وقياسه بتعارض الخبرين – الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب – باطل، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة، إلا أن أحدهما – تعيينا أو تخييرا – حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة مع
[ 356 ]
اجتماع سائر الشرائط، صار (1) حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا، أو التخيير تخييرا، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا ؟ وهو حاصل، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل. نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لاجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثهما الترديد بينهما، لكان القياس في محله، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير ها هنا، فتأمل جيدا. ولا مجال – ها هنا – لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه – ها هنا – وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة، كما لا يخفى. ثم إن مورد هذه الوجوه، وإن كان ما [ إذا ] (2) لم يكن واحدا من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة، لانها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الاستاذ (3) (قدس سره)، إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه، وتركه كذلك، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح. فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام، وإن اختص بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى. ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه (4) كما هو الحال
(1) كذا صححه في ” ب “، وفي ” أ “: جعل. (2) أثبتناها من ” ب “. (3) راجع فرائد الاصول / 236. (4) في ” ب “: بتبعيته. *
[ 357 ]
في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة، ووجب الترجيح بها، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران. ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا، لاجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما ؟ فافهم.
[ 358 ]
فصل لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم، فتارة لتردده بين المتابينين، وأخرى بين الاقل والاكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في مقامين: المقام الاول: في دوران الامر بين المتابينين. لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا – ولو كانا فعل أمر وترك آخر – إن كان فعليا من جميع الجهات، بأن يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي، مع ما هو [ عليه ] (1) من الاجمال والتردد والاحتمال، فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته، وحينئذ لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الاباحة مما يعم أطراف العلم مخصصا عقلا، لاجل مناقضتها معه. وإن لم يكن فعليا كذلك، ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته، لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة الشرعية للاطراف. ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي، إلا أنه لا مجال
(1) زيادة يقتضيها السياق. *
[ 359 ]
للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات، لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات، وله مجال مع الاجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليا معه، لامكان جعل الظاهري في أطرافه، وإن كان فعليا من غير هذه الجهة، فافهم. ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم، مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات. وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها، في التنجز وعدمه، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه. والحاصل أن اختلاف الاطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم، ولو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الاطراف قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك، وقد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين التفصيلي والاجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا، فتأمل تعرف. وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها، ضرروة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا، وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا. ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا، إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر، كأيام حيض المستحاضة
[ 360 ]
مثلا، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية، لكان منجزا ووجب موافقته. فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم للمستطيع، فافهم. تنبيهات الاول: إن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين، ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الاطراف أو تركه، تعيينا أو تخييرا، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا، وذلك لان (1) التكليف المعلوم بينها من أول الامر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الاطراف بلا تعيين. لا يقال: الاضطرار إلى بعض الاطراف ليس إلا كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن
(1) لا يخفى أن ذلك إنما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، وأما لو كان إلى أحدهما المعين، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالا، المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلا، وعروض الاضطرار إنما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالاجمال المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقا، فافهم وتأمل (منه قدس سره). *
[ 361 ]
عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه. فإنه يقال: حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، كان التكليف المتعلق به مطلقا، فإذا اشتغلت الذمة به، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنه من حدود التكليف به وقيوده، ولا يكون الاشتغال به من الاول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده، ولا يكون إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا. الثاني: إنه لما كان النهي عن الشئ (1) إنما هو لاجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه، لو لم يكن له داع آخر – ولا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلا، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل – كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لابد منه في تأثير العلم، فإنه بدونه لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به. ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة، لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب (2)، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا شك في التقييد بشئ (3) بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه، لا فيما شك في اعتباره في صحته، تأمل (4) لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.
(1) كما أنه إذا كان فعل الشئ الذي كان متعلقا لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد، وأن لا يكون له داع إليه، لم يكن للامر به والبعث إليه موقع أصلا، كما لا يخفى (منه قدس سره). (2) تعريض بما قد يظهر من الشيخ، فرائد الاصول / 252. (3) هكذا صححه المصنف في ” ب “، وفي ” أ “: به. (4) نعم لو كان الاطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء – لو لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف – *
[ 362 ]
الثالث: إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة. نعم ربما تكون كثرة الاطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها أو ارتكابه، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا، وليس بموجبة لذلك في غيره، كما أن نفسها ربما يكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة في مورد آخر، فلابد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون مع كثرة أطرافه وملاحظة أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى. ولو شك في عروض الموجب، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، وإلا فالبراءة لاجل الشك في التكليف الفعلي، هذا هو حق القول في المقام، وما قيل (1) في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف. الرابع: إنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الاطراف، مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا. ومنه ينقدح الحال في المسألة ملاقاة شئ مع أحد أطراف النجس المعلوم بالاجمال، وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه، فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعا، ولو لم يجتنب عما يلاقيه، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس، قد شك في وجوده، كشئ آخر شك في نجاسته بسبب آخر.
كان الاطلاق وعدم بيان التقييد دالا على فعليته، ووجود الابتلاء المصحح لهما، كما لا يخفى، فافهم (منه قدس سره). (1) راجع فرائد الاصول / 260 – 262. *
[ 363 ]
ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم (1) أن قضية الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل. وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة شئ آخر ثم حدث (العلم ب) (2) الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشئ أيضا، فإن حال (3) الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي، وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا، لا إجمالا ولا تفصيلا، وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي، ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده. وثالثة يجب الاجتناب عنهما، فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا: إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنان (4). المقام الثاني: (في دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين). والحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما – أيضا – يوجب الاحتياط عقلا بإتيان الاكثر، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا.
جعل الشيخ هذا التوهم أحد الاحتمالين في المسألة، مستشهدا له بكلام السيد أبي المكارم في الغنية ولم نعثر عليه في الغنية، نعم استدل أبو المكارم بايتي تحريم الخبائت وتحريم الميتة، ولكن يظهر ما ذكره الشيخ من كلام السيد المرتضى في الناصريات، للمزيد راجع فرائد الاصول 252 والغنية (الجوامع الفقهية 489) والناصريات (الجوامع الفقهية 214). (2) أثبتناها من ” ب “. (3) وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه إلا من ملاقاته، (منه قدس سره). (4) في نسختي ” أ وب ” الاثنين. *
[ 364 ]
وتوهم (1) انحلاله إلى العلم بوجوب الاقل تفصيلا والشك في وجوب الاكثر بدوا – ضرورة لزوم الاتيان بالاقل لنفسه شرعا، أو لغيره كذلك أو عقلا، ومعه لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالاكثر – فاسد قطعا، لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقف لزوم الاقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالاقل كان خلفا، مع أنه يلزم من وجوده عدمه، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا، المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمه محال. نعم إنما ينحل إذا كان الاقل ذا مصلحة ملزمة، فإن وجوبه حينئذ يكون معلوما له، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الاكثر ذا مصلحتين، أو مصلحة أقوى من مصلحة الاقل، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام، إلا أنه خارج عما هو محل النقض والابرام في المقام. هذا مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالاكثر، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه، وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية، وقد مر (2) اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الامر وسقوطه، فلابد من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى. ولا وجه للتفصي عنه (3): تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية، وجريانها على ما ذهب إليه الاشاعرة المنكرين لذلك، أو
(1) تعريض بالشيخ (قدس سره)، راجع فرائد الاصول / 274. (2) في المبحث الخامس من الفصل الثاني من المقصد الاول في الاوامر حيث قال: وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد له وجه إلا عدم حصول غرضه.. إلخ. (3) رد على الشيخ، أنظر فرائد الاصول / 273. *
[ 365 ]
بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به. وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا – ليؤتى بها مع قصد الوجه – مجال، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الامر، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا، لتنجزه بالعلم به إجمالا. وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته، فإن العقوبة عليه بلا بيان. وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة – على مذهب الاشعري – لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية، بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر ومصلحته – على هذا المذهب أيضا – هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا، فافهم. وحصول اللطف والمصلحة في العبادة، وإن كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها، كيف ؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين، ولا يكاد يمكن مع اعتباره. هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك، والمراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي، وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الاكثر بمكان من الامكان، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الاقل، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه، واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله، بلا تمييز ماله دخل في الواجب من أجزائه، لاسيما إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته وجزءا لفرده، حيث ينطبق الواجب على المأتي حينئذ بتمامه وكماله، لان الطبيعي
[ 366 ]
يصدق على الفرد بمشخصاته. نعم، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزءا، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته، لا بتمامه بل بسائر أجزائه. هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه، مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لابد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات، مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا، ولو بإتيان الاقل لو لم يحصل الغرض، وللزم الاحتياط بإتيان الاكثر مع حصوله، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الاقل بسبب بقاء غرضه، فافهم. هذا بحسب حكم العقل. وأما النقل (1) فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد أمره بين الاقل والاكثر، ويعينه في الاول. لا يقال (2): إن جزئية السورة المجهولة (3) – مثلا – ليست بمجعولة وليس لها أثر مجعول، والمرفوع بحديث رافع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره، ووجوب الاعادة
(1) لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي، ضرورة أنه ينافيه دفع الجزئية المجهولة، وإنما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك، بل علم مجرد ثبوته واقعا، وبالجملة الشك في الجزئية والشرطية وإن كان جامعا بين الموردين، إلا أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالايجاب، فافهم (منه قدس سره). (2) القائل هو الشيخ الانصاري (قدس سره)، فرائد الاصول / 278. (3) هكذا صححه في ” ب ” وفي ” أ “: المنسية. *
[ 367 ]
إنما هو أثر بقاء الامر الاول بعد العلم (1) مع أنه عقلي، وليس إلا من باب وجوب الاطاعة عقلا. لانه يقال: إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلا أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا كاف في صحة رفعها. لا يقال: إنما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، إلا أن نسبة حديث الرفع – الناظر إلى الادلة الدالة على بيان الاجزاء – إليها نسبة الاستثناء، وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلا مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبر جيدا. وينبغي التنبيه على أمور: الاول: إنه ظهر مما مر حال دوران الامر بين المشروط بشئ ومطلقه، وبين الخاص كالانسان وعامه كالحيوان، وأنه لا مجال ها هنا للبراءة عقلا، بل كان الامر فيهما أظهر، فإن الانحلال المتوهم في الاقل والاكثر لا يكاد يتوهم هاهنا، بداهة أن الاجزاء التحليلية لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا، فالصلاة – مثلا – في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى. نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط وغيره، دون دوران الامر (2) بين الخاص وغيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته، وليس كذلك خصوصية الخاص، فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص، فيكون الدوران بينه و (بين) غيره من قبيل الدوران بين
(1) في ” أ “: التذكر. (2) في ” أ “: دون الدوران بين… إلخ. *
[ 368 ]
المتباينين، فتأمل جيدا. الثاني: إنه لا يخفى أن الاصل فيما إذا شك في جزئية شئ أو شرطيته في حال نسيانه عقلا ونقلا، ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية، فلولا مثل حديث الرفع (1) مطلقا ولا تعاد (2) في الصلاة لحكم (3) عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا نصا أو إجماعا. ثم لا يذهب عليك أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع، كذلك يمكن تخصيصهما (4) بهذا الحال بحسب الادلة الاجتهادية، كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر، أو وجه إلى الناسي خطاب يخصه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهم (5) لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل. الثالث: إنه ظهر – مما مر – حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا أو شطرا في الواجب – مع عدم اعتباره في جزئيته، وإلا لم يكن من زيادته بل من نقصانه – وذلك لاندراجه في الشك في دخل شئ فيه جزءا أو شرطا، فيصح لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا أو سهوا، وإن استقل العقل
(1) الخصال 2 / 417، الحديث 9 والفقيه 1 / 36 الحديث 4. (2) الفقيه 1 / 225، أحكام السهو الحديث 8، الفقيه 1 / 181، في القبلة / الحديث 17، والتهذيب 2 / 52، ب 9 / الحديث 55. (3) في ” ب “: يحكم. (4) في ” ب “: تخصيصها. (5) المتوهم هو الشيخ (قدس سره)، فرائد الاصول / 286. *
[ 369 ]
لولا النقل بلزوم الاحتياط، لقاعدة الاشتغال. نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه، لكان باطلا مطلقا أو في صورة عدم دخله فيه، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة، مع استقلال العقل بلزوم الاعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال. وأما لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحا، ولو كان مشرعا في دخله الزائد فيه بنحو، مع عدم علمه بدخله، فإن تشريعه في تطبيق المأتي مع المأمور به، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال. ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة، وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام، ويأتي (1) تحقيقه في مبحث الاستصحاب، إن شاء الله تعالى. الرابع: إنه لو علم بجزئية شئ أو شرطيته في الجملة، ودار (الامر) بين أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه، فيسقط الامر بالعجز عنه على الاول، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به، لا على الثاني فيبقى متعلقا بالباقي، ولم يكن هناك ما يعين أحد الامرين، من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي، فإن العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان. لا يقال: نعم ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن منه. فإنه يقال: إنه لا مجال ها هنا لمثله، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان،
(1) الظاهر انه (قدس سره) لم يف بوعده، وللمزيد راجع نهاية الدراية 2 / 288. *
[ 370 ]
فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته. نعم ربما يقال (1): بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذر أيضا. ولكنه لا يكاد يصح إلا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب، وكان ما تعذر مما يسامح به عرفا، بحيث يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه، ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام (2). كما أن وجوب الباقي في الجملة ربما قيل (3) بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم) (4) وقوله: (الميسور لا يسقط بالمعسور) (5) وقوله: (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (6) ودلالة الاول مبنية على كون كلمة (من) تبعيضية، لا بيانية، ولا بمعنى الباء، وظهورها في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى، إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الافراد، ولو سلم فلا محيص عن أنه – هاهنا – بهذا اللحاظ يراد، حديث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به، فقد روي أنه خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) (7)، فقال: (إن الله كتب
(1) راجع فرائد الاصول / 294. (2) سيأتي في مبحث الاستصحاب / 425. (3) راجع فرائد الاصول / 294. (4) عوالي اللآلي 4 / 58، مع اختلاف يسير. (5) عوالي اللآلي 4 / 58، باختلاف يسير. * (6) عوالي اللآلي 4 / 58، باختلاف يسير. (7) راجع مجمع البيان 2: 250، في ذيل الآية 101 من سورة المائدة والتفسير الكبير للفخر الرازي 12: 106 وأنوار التنزيل للبيضاوي 1: 294، وفي الاخير فقام سراقة بن مالك. *
[ 371 ]
عليكم الحج، فقام عكاشة (1) – ويروى سراقة بن مالك (2) – فقال: في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال: ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه). هذا مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما، لعدم اختصاصه بالواجب، ولا مجال لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم، إلا أن يكون المراد عدم سقوطه بماله من الحكم وجوبا كان أو ندبا، بسبب سقوطه عن المعسور، بأن يكون قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك، كما أن الظاهر من مثل (لا ضرر ولا ضرار) (3) هو نفي ماله من تكليف أو وضع، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة
(1) عكاشة بن محصن بن حرثان، شهد بدرا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم لم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى قتل في قتال أهل الردة، كان عمره عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعا وأربعين سنة. (تهذيب الاسماء 1: 338. رقم 418) (2) سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي، كنيته أبو سفيان، له صحبة، كان يسكن قديد، مات بعد عثمان، روى عنه سعيد بن المسيب وأبو رشدين وعبد الرحمن بن مالك. (الجرح والتعديل 4: 308 رقم 1342). (3) الكافي 5 / 293، كتاب المعيشة باب الضرار