فقه السنة

الشيخ سيد سابق ج 3


[ 3 ]

فقه السنة تأليف السيد السابق المجلد الثالث الاجزاء الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر المعاملات الناشر دار الكتاب العربي بيروت – لبنان


[ 4 ]

الطبعة الاولى رمضان 1391 ه‍ – نوفمبر 1971 م حقوق الطبع محفوظة


[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قرآن كريم


[ 7 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الاولين والاخرين، سيدنا (محمد) وعلى آله ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو الجزء الثاني عشر من كتاب (فقه السنة) نقدمه للقراء الكرام، سائلين الله سبحانه أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. السيد سابق


[ 9 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الايمان تعريفها: الايمان: جمع يمين، وهو اليد المقابلة لليد اليسرى، وسمي بها الحلف لانهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل: لانها تحفظ الشئ كما تحفظه اليمين. ومعنى اليمين في الشرع: تحقيق الامر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته. أو هو عقد يقوي به الحالف عزمه على الفعل أو الترك. واليمين والحلف والابلاء والقسم بمعنى واحد. اليمين لا تكون إلا بذكر الله أو صفة من صفاته: ولا يكون الحلف إلا بذكر اسم الله أو صفة من صفاته سواء أكانت صفات ذات أم صفات أفعال، كقوله: والله وعزة الله وعظمته وكبريائه وقدرته وإرادته وعلمه… وكذا


[ 10 ]

الحلف بالمصحف أو القرآن أو سورة أو آية منه. وفي القرآن الكريم يقول الله سبحانه: (وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) (1). ويقول: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين) (2). وعن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ومقلب القلوب). وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: (كان رسول الله، صلى الله صلى الله عليه وسلم، إذا اجتهد (3) في الدعاء قال: (والذي نفس أبي القاسم بيده) رواه أبو داود. (أيم الله وعمر الله وأقسمت عليك) قسم: (أيم الله يمين، لانها بمعنى: والله – أو: وحق الله. (هامش) (1) سورة الذاريات آية رقم 22، 23. (2) سورة المعارج آية رقم 40، 41. (3) اجتهد: بالغ. (.)


[ 11 ]

ويمين الله، يمين عند الاحناف والمالكية، لان معناها: أحلف بالله. وقالت الشافعية: لا تكون يمينا إلا بالنية، فإن نوى الحالف اليمين انعقدت، وإن لم ينو لم تنعقد. وعند أحمد: روايتان، أصحهما أنها تنعقد. وعمر الله يمين عند الاحناف والمالكية، لانها بمعنى: وحياة الله وبقائه. وقال الشافعي، رضي الله عنه وأحمد وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية. وكلمة أقسمت عليك – وأقسمت بالله، يرى بعض العلماء أنه يكون يمينا مطلقا، ويرى أكثرهم أنه لا يكون يمينا إلا بالنية. وذهبت الشافعية إلى أن ما ذكر فيه اسم الله يكون يمينا. وأن ما لم يذكر فيه اسم الله لا يكون يمينا، وإن نوى اليمين. وقال مالك، رضي الله عنه: إن قال الحالف: أقسمت بالله كان يمينا، وإن قال: أقسمت أو أقسمت عليك، فإنه في هذه الصورة لا يكون يمينا إلا بالنية.


[ 12 ]

الحلف بأيمان المسلمين: سبق أن قلنا في الجزء الثامن من فقه السنة إن الحلف بأيمان المسلمين لا يلزم به شئ، ومن حلف فقال: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله الحرام. أو قال: إن فعلت كذا فالحلال علي حرام. أو قال: إن فعلت كذا فكل ما أملكه صدقة. فهذا وأمثاله فيه كفارة يمين متى حنث، وهو أظهر أقوال العلماء – وقيل: لا شئ فيه. وقيل: إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. الحلف بأنه غير مسلم – أو الحلف بالبراءة من الاسلام: من حلف أنه يهودي أو نصراني أو أنه برئ من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم إن فعل كذا ففعله. فقال جماعة من العلماء منهم الشافعي: ليس هذا بيمين ولا كفارة عليه، لان النصوص اقتصرت على التهديد والزجر الشديد. وروى أبو داود والنسائي عن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فقال: إني برئ من الاسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال (1). وإن كان صادقا (هامش) (1) أي هو كما قال عقوبة له على كذبه. (.)


[ 13 ]

فلن يرجع إلى الاسلام سالما) (1). وعن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير ملة الاسلام فهو كما قال). وذهب الاحناف وأحمد وإسحاق وسفيان والاوزاعي: إلى أنه يمين، وعليه الكفارة إن حنث. الحلف بغير الله محظور: وإذا كانت اليمين لا تكون إذا بذكر اسم الله أو ذكر صفة من صفاته، فإنه يحرم الحلف بغير ذلك، لان الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، والله وحده هو المختص بالتعظيم. فمن حلف بغير الله فأقسم بالنبي أو الولي أو الاب أو الكعبة أو ما شابه ذلك، فإن يمينه لا تنعقد، ولا كفارة عليه إذا حنث. وأثم بتعظيمه غير الله. 1 – عن ابن عمر، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر رضي الله عنه في ركب وهو يحلف (هامش) (1) إن قصد بذلك إبعاد نفسه لم يكفر. وليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستغفر الله ويتوب إليه. وإن أراد الكفر إذا فعل المحلوف عليه كفر والعياذ بالله. (.)


[ 14 ]

بأبيه، فناداهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. ذاكرا ولا آثرا) (1). 2 – وسمع ابن عمر، رضي الله عنهما رجلا يحلف: لا، والكعبة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك). 3 – وعن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى: فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق) (2). 4 – وعند أبي داود (من حلف بالامانة فليس منا) أي ليس على طريقتنا. (هامش) (1) أي لم يحلف بأبيه من قبل نفسه ولا حاكيا عن غيره. (2) اللات والعزى: صنمان لاهل مكة كانوا يحلفون بهما في الجاهلية، فمن حلف بهما، فليكفر بقوله: لا إله إلا الله. كما يتصدق إذا طلب لعب القمار من صاحبه. (.)


[ 15 ]

– وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالانداد – أي الاصنام – ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة. الحلف بغير الله دون تعظيم المحلوف به: جاء النهي عن الحلف بغير الله إذا كان يقصد بذكره التعظيم، كالحالف بالله يقصد بذكره تعظيمه. أما إذا لم يقصد التعظيم، بل قصد تأكيد الكلام فهو مكروه من أجل المشابهة، ولانه يشعر بتعظيم غير الله. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للاعرابي: (أفلح وأبيه). قال البيهقي: إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد. وأيد النووي هذا الرأي وقال: إنه هو الجواب المرضي. قسم الله بالمخلوقات: كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم فيلقون إليه السمع مصغين، لانهم يرون أن قسم المتكلم دليل على عظم الاهتمام بما يريد أن يتكلم به، وأنه أقسم ليؤكد كلامه.


[ 16 ]

وعلى هذا جاء القرآن يقسم بأشياء كثيرة، منها القرآن، كقوله تعالى: (والقرآن المجيد). ومنها بعض المخلوقات مثل: (والشمس وضحاها) (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى). وإنما كان ذلك لحكم كثيرة في المقسم به والمقسم عليه. من هذه الحكم: لفت النظر إلى مواضع العبرة في هذه الاشياء بالقسم بها، والحث على تأملها، حتى يصلوا إلى وجه الصواب فيها. فقد أقسم سبحانه وتعالى بالقرآن لبيان أنه كلام الله حقا وبه كل أسباب السعادة. وأقسم بالملائكة لبيان أنهم عباد الله خاضعون له، وليسوا بآلهة يعبدون. وأقسم بالشمس والقمر والنجوم لما فيها من الفوائد والمنافع، وأن تغيرها من حال إلى حال يدل على حدوثها، وأن لها خالقا وصانعا حكيما، فلا يصح الغفلة عن شكره والتوجه إليه. وأقسم بالريح. والطور. والقلم. والسماء ذات البروج.


[ 17 ]

إذ أن ذلك كله من آيات الله التي يجب التوجه إليها بالفكر والنظر. أما المقسم عليه فأهمه: وحدانية الله، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث الاجساد مرة أخرى، ويوم القيامة. لان هذه هي أسس الدين التي يجب أن تعمق جذورها في النفس. والقسم بالمخلوقات مما اختص الله به. أما نحن البشر فلا يصح لنا أن نقسم إلا بالله أو بصفة من صفاته على النحو المتقدم ذكره. شرط اليمين وركنها: ويشترط في اليمين: العقل. والبلوغ. والاسلام. وإمكان البر. والاختيار. فإن حلف مكرها لم تنعقد يمينه. وركنها: اللفظ المستعمل فيها. حكم اليمين: وحكم اليمين أن يفعل الحالف المحلوف به فيكون بارا. أو لا يفعله فيحنث، وتجب الكفارة. أقسام اليمين تنقسم الايمان أقساما ثلاثة:


[ 18 ]

1 – اليمين اللغو. (2) اليمين المنعقدة. 3 – اليمين الغموس. اليمين اللغو وحكمها: ويمين اللغو: هي الحلف من غير قصد اليمين، كان يقول المرء: والله لتأكلن، أو لتشربن، أو لتحضرن. ونحو ذلك. لا يريد به يمينا ولا يقصد به قسما، فهو من سقط القول. فعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: أنزلت هذه الاية: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم). في قول الرجل: لا والله. وبلى والله. وكلا والله. رواه البخاري مسلم وغيرهما. وقال مالك، رضي الله عنه، والاحناف، والليث، والاوزاعي: لغو اليمين أن يحلف على شئ يظن صدقه، فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ. وعند أحمد، رضي الله عنه روايتان كالمذهبين. وحكم هذا اليمين: أنه لا كفارة فيه، ولا مؤاخذة عليه.


[ 19 ]

اليمين المنعقدة وحكمها: واليمين المنعقدة هي اليمين التي يقصدها الحالف ويصمم عليها، فهي يمين متعمدة مقصودة، وليست لغوا يجري على اللسان بمقتضى العرف والعادة. وقيل: اليمين المنعقدة هي أن يحلف على أمر من المستقبل أن يفعله أو لا يفعله. وحكمها: وجوب الكفارة فيها عند الحنث. يقول الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) (1). ويقول: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون). (2) (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 225. (2) سورة المائدة آية رقم 89. (.)


[ 20 ]

اليمين الغموس وحكمها: واليمين الغموس وتسمى أيضا: الصابرة – وهي اليمين الكاذبة التي تهضم بها الحقوق، أو التي يقصد بها الغش والخيانة. وهي كبيرة من كبائر الاثم – ولا كفارة فيها (1) – لانها أعظم من أن تكفر، وسميت غموسا لانها تغمس صاحبها في نار جهنم. وتجب التوبة منها. ورد الحقوق إلى أصحابها إذا ترتب عليها ضياع هذه الحقوق. يقول الله سبحانه: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم. فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) (2). 1 – وروى أحمد، رضي الله عنه وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، ويمين صابرة يقطع بها مالا (هامش) (1) وقال الشافعي ورواية عن أحمد رضي الله عنهما – فيها الكفارة. (2) سورة النحل آية رقم 94. (.)


[ 21 ]

بغير حق). 2 – وروى البخاري عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الاشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس). 3 – وروى أبو داود عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين مصبورة (1) كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار). (هامش) (1) مصبورة: أي ألزم بها وحبس عليها – وكانت لازمة من جهة الحكم. (.) مبنى الايمان على العرف والنية: أمر الايمان مبني على العرف الذي درج عليه الناس لا على دلالات اللغة ولا على اصطلاحات الشرع، فمن حلف أن لا يأكل لحما، فأكل سمكا فإنه لا يحنث وإن كان الله سماه لحما، إلا إذا نواه، أو كان يدخل في عموم اللحم في عرف قومه. ومن حلف على شئ وورى بغيره فالعبرة بنيته لا بلفظه، إلا إذا حلفه غيره على شئ، فالعبرة بنية المحلف لا الحالف، وإلا لم يكن للايمان فائدة في


[ 22 ]

التقاضي. قال النووي: إن اليمين على نية الحالف في كل الاحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فهي على نية القاضي أو نائبه، ولا تصح التورية هنا وتصح في كل حال، ولا يحنث بها وإن كانت للباطل حراما. والدليل على أن العبرة بنية الحالف إلا إذا حلفه غيره، ما رواه أبو داود وابن ماجه عن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل ابن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي. قال: (صدقت، المسلم أخو المسلم). والدليل على أن العبرة بنية المستحلف إذا استحلف على شئ، ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين على نية المستحلف). وفي رواية: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك). والصاحب هو المستحلف، وهما طالبا اليمين.


[ 23 ]

لا حنث مع النسيان أو الخطأ: من حلف أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو خطأ فإنه لا يحنث لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: – (إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). والله يقول: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) (1). (هامش) (1) سورة الاحزاب آية رقم 5. (.) يمين المكره غير لازمة: لا يلزم الوفاء باليمين التي يكره المرء عليها، ولا يأثم إذا حنث (2) فيها للحديث المتقدم، ولان المكره مسلوب الارادة، وسلب الارادة يسقط التكليف. ولهذا ذهب الائمة الثلاثة إلى أن يمين المكره لا تنعقد، خلافا لابي حنيفة. (هامش) (2) الحنث في اليمين يكون بفعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله. (.) الاستثناء في اليمين: من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه. فعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. فلا حنث عليه).


[ 24 ]

رواه أحمد وغيره، وصححه ابن حبان. تكرار اليمين: إذا كرر اليمين على شئ واحد أو على أشياء وحنث فقال أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد: يلزم بكل يمين كفارة. وعند الحنابلة، أن من لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة، لانها كفارات من جنس واحد. وإن اختلف موجب الايمان، وهو الكفارة، كظهار ويمين بالله لزمته الكفارتان ولم تتداخلا. كفارة اليمين تعريف الكفارة: الكفارة صيغة مبالغة من الكفر، وهو الستر، والمقصود بها هنا الاعمال التي تكفر بعض الذنوب وتسترها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به في الدنيا ولا في الاخرة. والذي يكفر اليمين المنعقدة إذا حنث فيها الحالف: 1 – الاطعام 2 – الكسوة 3 – العتق


[ 25 ]

على التخيير. فمن لم يستطع فليصم ثلاثة أيام. وهذه الثلاثة مرتبة ترتيبا تصاعديا – أي تبدأ من الادنى للاعلى، فالاطعام أدناها، والكسوة أوسطها، والعتق أعلاها. يقول الله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) (1) حكمة الكفارة: الحنث خلف وعدم وفاء، فتجب الكفارة جبرا لهذا. (هامش) (1) سورة المائدة آية رقم 89. (.) الاطعام: لم يرد نص شرعي في مقدار الطعام ونوعه، وكل ما كان كذلك يرجع فيه إلى التقدير بالعرف، فيكون الطعام مقدرا بقدر ما يطعم منه الانسان أهل بيته غالبا – لا من الاعلى الذي يتوسع به في المواسم والمناسبات، ولا من الادنى الذي يطعمه في بعض الاحيان.


[ 26 ]

فلو كانت عادة الانسان الغالبة في بيته أكل اللحم والخضروات وخبز البر فلا يجزئ ما دونه، وإنما يجزئ ما كان مثله وأعلى منه، لان المثل وسط، والاعلى فيه الوسط وزيادة. وهذا مما يختلف باختلاف الافراد والبلاد. وقد كان الامام مالك، رضي الله عنه، يرى أن المد يجزئ في المدينة، قال: وأما البلدان فلهم عيش غير عيشنا، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم، لقوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم). وهذا مذهب داود وأصحابه. واشترط الفقهاء أن يكون العشرة المساكين من المسلمين إلا أبا حنيفة، فإنه جوز دفعها إلى فقراء أهل الذمة. ولو أطعم مسكينا عشرة أيام، فإنه يجزئ عن عشرة مساكين عند أبي حنيفة. وقال غيره: يجزئ عن مسكين واحد. وإنما تجب كفارة الاطعام على المستطيع، وهو من يجد ذلك فاضلا عن نفقته ونفقة من يعول. وقدر بعض العلماء الاستطاعة بوجود خمسين درهما


[ 27 ]

عنده كما قال قتادة، أو عشرين كما قاله النخعي. الكسوة: وهي اللباس. ويجزئ منها ما يسمى كسوة. وأقل ذلك ما يلبسه المساكين عادة – لان الاية لم تقيدها بالاوسط، أو بما يلبسه الاهل، فيكفي القميص السابغ (جلابية) مع السراويل. كما تكفي العباءة أو الازار والرداء. ولا يجزئ فيها القلنسوة أو العمامة أو الحذاء أو المنديل أو المنشفة. وعن الحسن وابن سيرين: أن الواجب ثوبان، ثوبان. وعن سعيد بن المسيب: عمامة يلف بها رأسه، وعباءة يلتحف بها. وعن عطاء، وطاووس، والنخعي: ثوب جامع كالملحفة والرداء. وعن ابن عباس، رضي الله عنه: عباءة لكل مسكين أو شملة. وقال مالك وأحمد، رضي الله عنهما: يدفع لكل مسكين ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلا أو امرأة، كل بحسبه.


[ 28 ]

تحرير الرقبة: أي إعتاق الرقيق وتحريره من العبودية، ولو كان كافرا، عملا بإطلاق الاية عند أبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر. واشترط الجمهور الايمان، حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل والظهار، إذ تقول الاية: (فتحرير رقبة مؤمنة) (1). (هامش) (1) سورة النساء آية رقم 92. (.) الصيام عند عدم الاستطاعة: فمن لم يستطع واحدة من هذه الثلاث، وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام. فإن لم يستطع لمرض أو نحوه – ينوي الصيام عند الاستطاعة، فإن لم يقدر، فإن عفو الله يسعه. ولا يشترط التتابع في الصوم. فيجوز صيامها متتابعة، كما يجوز صيامها متفرقة. وما ذكره الحنفية، والحنابلة – من اشتراط التتابع – غير صحيح. فقد استدلوا بقراءة جاء فيها كلمة (متتابعات) وهي قراءة شاذة ولا يستدل بالقراءة الشاذة، لانها ليست قرآنا – ولم تصح هنا حديثا حتى تكون تفسيرا من النبي


[ 29 ]

صلى الله عليه وسلم، للاية. إخراج القيمة: اتفق الائمة الثلاثة على أن كفارة اليمين لا يجزئ فيها إخراج القيمة عن الاطعام والكسوة. وأجاز ذلك أبو حنيفة، رضي الله عنه. الكفارة قبل الحنث وبعده: اتفق العلماء على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، واختلفوا في جواز تقديمها عليه. فجمهور الفقهاء يرى أنه يجوز تقديم الكفارة على الحنث، وتأخيرها عنه، ففي الحديث عند مسلم وأبي داود والترمذي: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل). (1) ففي هذا الحديث جواز تقديم الكفارة على الحنث. وإذا تقدمت الكفارة على الحنث كان الشروع في الحنث غير شروع في الاثم، إذ تقديم الكفارة يجعل الشئ المحلوف عليه مباحا. وعند مسلم أيضا ما يفيد جواز تأخير الكفارة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى (هامش) (1) أي يفعل ما فيه الخير. (.)


[ 30 ]

غيرها خيرا منها فليأتها، وليكفر عن يمينه). قال هؤلاء: ومن قدم الحنث كان شارعا في معصية، وقد يموت قبل أن يتمكن من الكفارة، ولعل هذه هي حكمة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقديم الكفارة. ويرى أبو حنيفة أن الكفارة لا تصح إلا بعد الحنث، لتحقق موجبها حينئذ. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير). معناه عنده: فليقصد أداء الكفارة، كقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) (1) أي إذا أردت. والاول أرجح. (هامش) (1) سورة النجل آية رقم 98. (.) جواز الحنث للمصلحة: الاصل أن يفي الحالف باليمين. ويجوز له العدول عن الوفاء، إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة. يقول الله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا


[ 31 ]

وتصلحوا بين الناس) (1). أي لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من البر والتقوى والاصلاح. ويقول عزوجل: (قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم) (2). أي شرع الله لكم تحليل الايمان بعمل الكفارة. روى أحمد والبخاري ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك). (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 224. (2) سورة التحريم آية رقم 2. (.) أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه: وعلى هذا يمكن تقسيم اليمين باعتبار المحلوف عليه إلى الاقسام الاتية: 1 – أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم، فهذا يحرم الحنث فيه، لانه تأكيد لما كلفه الله به من عبادة. 2 – أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم. فهذا


[ 32 ]

يجب الحنث فيه لانه حلف على معصية، كما تجب الكفارة. 3 – أن يحلف على فعل مباح، أو تركه. فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر. 4 – أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه. فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه. وتجب الكفارة. 5 – أن يحلف على فعل مندوب. أو ترك مكروه، فهذا طاعة لله. فيندب له الوفاء، ويكره الحنث.


[ 33 ]

النذر معناه: النذر هو التزام قربة غير لازمة في أصل الشرع بلفظ يشعر بذلك، مثل أن يقول المرء: لله علي أن أتصدق بمبلغ كذا، أو إن شفى الله مريضي فعلي صيام ثلاثة أيام ونحو ذلك. ولا يصح إلا من بالغ عاقل مختار ولو كان كافرا. النذر عبادة قديمة: ذكر الله سبحانه عن أم مريم أنها نذرت ما في بطنها لله فقال: – (إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) (1). (هامش) (1) سورة آل عمران آية 35. (.)


[ 34 ]

وأمر الله مريم به فقال: (فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) (1). النذر في الجاهلية: وذكر الله عن أهل الجاهلية ما كانوا يتقربون به إلى آلهتهم من نذور، طلبا لشفاعتهم عند الله، وليقربوهم إليه زلفى فقال: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون) (2). مشرعيته في الاسلام: وهو مشروع بالكتاب والسنة، ففي الكتاب يقول الله سبحانه: (وما أنفقتم مننفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) (3). (هامش) (1) سورة مريم آية رقم 26. (2) سورة الانعام آية رقم 136. (3) سورة البقرة آية رقم 270. (.)


[ 35 ]

ويقول: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) (1). ويقول: (يوفون (2) بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) (3) وفي السنة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه). رواه البخاري ومسلم عن عائشة. والاسلام وإن كان قد شرعه إلا أنه لا يستحبه، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. رواه البخاري ومسلم. (هامش) (1) سورة الحج آية رقم 29. (2) سورة الدهر آية رقم 7. (3) عن قتادة في هذه الاية: قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا. أخرجه الطبراني بسند صحيح. (.) متى يصح ومتى لا يصح: يصح النذر وينعقد إذا كان قربة يتقرب بها إلى الله


[ 36 ]

سبحانه. ويجب الوفاء به. ولا يصح إلا نذر أن يعصي الله، ولا ينعقد. كالنذر على القبور وعلى أهل المعاصي، وكأن ينذر أن يشرب الخمر أو يقتل أو يترك الصلاة أو يؤذي والديه. فإن نذر ذلك لا يحب الوفاء به بل يحرم عليه أن يفعل شيئا من ذلك ولا كفارة عليه (1) لان النذر لم ينعقد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية) (2) وقيل: (3) تجب الكفارة زجرا له وتغليظا عليه. (هامش) (1) هذا مذهب الاحناف وأحمد. (2) رواه مسلم من حديث عمران بن حصين. (3) جمهور الفقهاء ومنهم المالكية والشافعية. (.) النذر المباح: سبق أن ذكرنا أنه يصح النذر إذا كان قربة، ولا يصح إذا كان معصية. وأما النذر مباح مثل أن يقول: لله علي أن أركب هذا القطار أو ألبس هذا الثوب، فقد قال جمهور العلماء: ليس هذا بنذر ولا يلزم به شئ. روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر وهو يخطب إلى أعرابي قائم في الشمس فقال: ما شأنك؟ قال: نذرت أن لا أزال في الشمس


[ 37 ]

حتى يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخطبة. فقال الرسول: (ليس هذا بنذر، إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله). وقال أحمد: ينعقد، والناذر يخير بين الوفاء وبين تركه، وتلزمه الكفارة إذا تركه. ورجح هذا صاحب الروضة الندية فقال: النذر المباح يصدق عليه مسمى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للامر بالوفاء به، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود: (أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: أوفي بنذرك) وضرب الدف إذا لم يكن مباحا فهو إما مكروه أو أشد من المكروه، ولا يكون قربة أبدا. فإن كان مباحا فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروها فالاذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالاولى. النذر المشروط وغير المشروط: والنذر قد يكون مشروطا، وقد يكون غير مشروط. فالاول: هو التزام قربة عند حدوث نعمة أو دفع نقمة. مثل: إن شفى الله مريضي فعلي إطعام ثلاثة مساكين، أو: إن حقق الله أملي في كذا فعلي كذا. فهذا يلزم الوفاء به عند


[ 38 ]

حصول المطلوب. والثاني: النذر المطلق، وهو أن يلتزم ابتداء بدون تعليق على شئ، مثل: لله علي أن أصلي ركعتين. فهذا يلزم الوفاء به، لدخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). النذر للاموات: وفي كتب الاحناف: أن النذر الذي يقع للاموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الاولياء الكرام تقربا إليهم، كأن يقول: يا سيدي فلان، إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من النقد أو الطعام أو الشمع أو الزيت كذا، فهو بالاجماع باطل وحرام لوجوه، منها: 1 – أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لانه عبادة، وهي لا تكون إلا لله. 2 – أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. 3 – أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الامور دون الله تعالى فاعتقاده ذلك كفر والعياذ بالله. اللهم إلا أن يقول: يا ألله، إني نذرت لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أطعم الفقراء


[ 39 ]

الذين بباب الولي الفلاني، أو أشتري حصرا لمسجد أو زيتا لوقوده أو دارهم لمن يقوم بشعائره… إلى غير ذلك مما فيه نفع للفقراء والنذر لله عزوجل. وذكر الولي إنما هو محل لصرف النذر لمستحقيه القاطنين برباطه أو مسجده. فيجوز بهذا الاعتبار. ولا يجوز أن يصرف ذلك لغني ولا لشريف ولا لذي منصب أو ذي نسب أو علم ما لم يكن فقيرا. ولم يثبت في الشرع جواز الصرف للاغنياء. نذر العبادة بمكان معين: ولو نذر صلاة أو صياما أو قراءة أو اعتكافا في مكان بعينه، فإن كان للمكان المتعين مزية في الشرع كالصلاة في المساجد الثلاثة: لزم الوفاء به، وإلا لم يتعين بالنذر الذي أمر الله بالوفاء به. وهذا مذهب الشافعية، قالوا: وإذا نذر إنسان التصدق بشئ على أهل بلد معين لزمه ذلك وفاء بالتزامه، ولو نذر صوما في بلد لزمه الصوم لانه قربة ولم يتعين مكان الصوم في ذلك البلد، فله الصوم في غيره. ولو نذر صلاة في بلدة لم يتعين لها ويصلي في غيرها


[ 40 ]

لانها لا تختلف باختلاف الامكنة إلا المسجد الحرام أي الحرم كله ومسجد المدينة ومسجد الاقصى، إذا نذر الصلاة في أحد هذه المساجد، فيتعين لعظم فضلها، إذا نذر الصلاة في أحد هذه المساجد، فيتعين لعظم فضلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الاقصى). واستدلوا بدليل نقلي على تعيين مكان التصدق بالنذر. وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أذبح كذا وكذا، لمكان يذبح فيه أهل الجاهلية. قال: لصنم؟ قالت: لا. قال: لوثن؟ قالت: لا. قال: أوفي بنذرك). وقال الاحناف: من قال: (لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا أو أتصدق على فقراء بلد كذا) يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أبي حنيفة وصاحبيه، لان المقصود من النذر هو التقرب إلى الله عزوجل، وليس لذات المكان دخل في القرية. وإن نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام فأداها في مكان أقل منه شرفا أو فيما لا شرف له أجزأه عندهم، لان المقصود هو القربة إلى الله تعالى، وذلك يتحقق في أي مكان.


[ 41 ]

النذر لشيخ معين: ومن نذر لشيخ معين فإن كان حيا وقصد الناذر الصدقة عليه لفقره وحاجته أثناء حياته كان ذلك النذر صحيحا، وهذا من باب الاحسان الذي حبب فيه الاسلام. ولو كان ميتا وقصد الناذر الاستغاثة به وطلب قضاء الحاجات منه، فإن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به. من نذر صوما وعجز عنه: من نذر صوما مشروعا وعجز عن الوفاء به لكبر سن أو لوجود مرض لا يرجى برؤه… كان له أن يفطر ويكفر كفارة يمين أو يطعم عن كل يوم مسكينا. وقيل: يجمع بينهما احتياطا. الحلف بالصدقة بالمال: من حلف بأن يتصدق بماله كله أو قال: مالي في سبيل الله. فهو من نذر اللجاج وفيه كفارة يمين، وعليه الشافعي، وقال مالك: يخرج ثلث ماله. وقال أبو حنيفة: ينصرف ذلك إلى كل ما تجب فيه الزكاة من عينه من المال، دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها.


[ 42 ]

كفارة النذر: إذا حنث الناذر أو رجع عن نذره لزمته كفارة يمين. روى عقبة بن عامر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين). رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح غريب. من مات وعليه نذر صيام: روى ابن ماجه أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي توفيت وعليها نذر صيام، فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال: (ليصم عنها الولي).


[ 43 ]

البيع التبكير في طلب الرزق: روي الترمذي عن صخر الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لامتي في بكورها) (1). قال: (وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا، وكان إذا بعث تجارة بعث أول النهار، فأثرى وكثر ماله). الكسب الحلال: عن علي، كرم الله وجهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يحب أن يرى عبده. يعني في طلب الحلال)، رواه الطبراني والديلمي. وعن مالك بن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله (هامش) (1) البكور: السعي مبكرا أول النهار. (.)


[ 44 ]

صلى الله عليه وسلم قال: (طلب الحلال واجب على كل مسلم). رواه الطبراني. قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله. وعن رافع بن خديج أنه قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ (1) قال: (عمل المرء بيده، وكل بيع مبرور) (2). رواه أحمد والبزاز. ورواه الطبراني عن ابن عمر بسند رواته ثقات. وجوب العلم بأحكام البيع والشراء: يجب على كل من تصدى للكسب أن يكون عالما بما يصححه ويفسده لتقع معاملته صحيحة، وتصرفاته بعيدة عن الفساد. فقد روي أن عمر، رضي الله عنه، كان يطوف بالسوق ويضرب بعض التجار بالدرة، ويقول: (لا يبع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى). وقد أهمل كثير من المسلمين الان تعلم المعاملة وأغفلوا (هامش) (1) أي: أحل وأبرك. (2) ماخلا من الحرام والغش: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصنعة. وأطيبها ما كان بعمل اليد، وما يكتسب من الغنائم التي تغنم بالجهاد، وقيل: التجارة. (.)


[ 45 ]

هذه الناحية وأصبحوا لا يبالون بأكل الحرام مهما زاد الربح وتضاعف الكسب. وهذا خطأ كبير يجب أن يسعى في درئه كل من يزاول التجارة، ليتميز له المباح من المحظور، ويطيب له كسبه ويبعد عن الشبهات بقدر الامكان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). فليتنبه لهذا من يريد أن يأكل حلالا ويكسب طيبا ويفوز بثقة الناس ورضي الله. عن النعمان بن بشير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (الحلال بين (1) والحرام بين (2) وبينهما أمور مشتبهة (3)، فمن ترك ما يشتبه عليه من الاثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم أوشك أن يواقع ما استبان. والمعاصي حمى الله. من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه). (هامش) (1) الحلال البين: هو ما طلب الشارع فعله. (2) الحرام البين: هو ما طلب الشارع تركه طلبا جازما. (3) الامور المشتبهة: هي ما تعارضت فيها الادلة واختلف فيه العلماء. (.)


[ 46 ]

رواه البخاري ومسلم. معنى البيع: البيع معناه لغة: مطلق المبادلة. ولفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الاخر، فهما من الالفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. ويراد بالبيع شرعا مبادلة مال بمال (1) على سبيل التراضي أو نقل ملك (2) بعوض (3) على الوجه المأذون (4) فيه. مشروعيته: البيع مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الامة. أما الكتاب فيقول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (5). وأما السنة: فلقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) (6) (هامش) (1) المال: كل ما يملك وينتفع به، وسمي مالا لميل الطبع إليه. (2) احتراز عن ما لا يملك. (3) احتراز عن الهبات وما لا يجوز أن يكون عوضا. (4) احتراز عن البيوع المنهي عنها. (5) سورة البقرة آية رقم 275. (6) البيع المبرور: هو الذي لا غش فيه ولا خيانة. (.)


[ 47 ]

وقد أجمعت الامة على جواز البيع والتعامل به من عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا. حكمته: شرع الله البيع توسعة منه على عباده، فإن لكل فرد من أفراد النوع الانساني ضرورات من الغذاء والكساء وغيرها مما لا غنى للانسان عنه ما دام حيا، وهو لا يستطيع وحده أو يوفرها لنفسه لانه مضطر إلى جلبها من غيره. وليس ثمة طريقة أكمل من المبادلة، فيعطي ما عنده مما يمكنه الاستغناء عنه بدل ما يأخذه من غيره مما هو في حاجة إليه. أثره: إذا تم عقد (1) البيع واستوفى أركانه وشروطه ترتب عليه نقل ملكية البائع للسلعة إلى المشتري، ونقل ملكية المشتري للثمن إلى البائع، وحل لكل منهما التصرف فيما انتقل ملكه إليه بكل نوع من أنواع التصرف المشروع. أركانه وينعقد بالايجاب (2) والقبول، و يستثنى من ذلك (هامش) (1) العقد معناه: الربط والاتفاق. (2) البيع وغيره من المعاملات بين العباد أمور مبنية على الرضى النفسي: وهذا لا يعلم لخفائه فأقام الشارع القول المعبر عما في النفس من رضى مقامه، وناط به الاحكام. والايجاب ما صدر أولا من أحد الطرفين. والقبول ما صدر ثانيا. ولا فرق بين أن يكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري أو يكون الامر بالعكس. فيكون الموجب هو المشتري والقابل هو البائع.


[ 48 ]

الشئ الحقير، فلا يلزم فيه إيجاب وقبول، وإنما يكتفى فيه بالمعاطاة، ويرجع في ذلك إلى العرف وما جرت به عادات الناس غالبا. ولا يلزم في الايجاب والقبول ألفاظ معينة، لان العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالالفاظ والمباني. والعبرة في ذلك بالرضى (1) بالمبادلة، والدلالة على الاخذ والاعطاء، أو أي قرينة دالة على الرضى ومنبئة عن معنى التملك والتمليك، كقول البائع: بعت أو أعطيت أو ملكت، أو هو لك، أو هات الثمن. وكقول المشتري: اشتريت أو أخذت أو قبلت أو رضيت أو، خذ الثمن. (هامش) (1) سيأتي حكم لبيع المكره. (.) شروط الصيغة: ويشترط في الايجاب والقبول، وهما صيغة العقد: أولا: أن يتصل كل منهما بالاخر في المجلس دون أن يحدث بينهما مضر.


[ 49 ]

ثانيا: وأن يتوافق الايجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن، فلو اختلفا لم ينعقد البيع. فلو قال البائع: بعتك هذا الثوب بخمسة جنيهات، فقال المشتري: قبلته بأربعة، فإن البيع لا ينعقد بينهما لاختلاف الايجاب عن القبول. ثالثا: وأن يكون بلفظ الماضي مثل أن يقول البائع: بعت، ويقول المشتري: قبلت. أو بلفظ المضارع إن أريد به الحال، مثل: أبيع وأشتري، مع إرادة الحال. فإذا أراد به المستقبل أو دخل عليه ما يمحضه للمستقبل كالسين وسوف ونحوهما كان ذلك وعدا بالعقد. والوعد بالعقد لا يعتبر عقدا شرعيا. ولهذا لا يصح العقد. العقد بالكتابة: وكما ينعقد البيع بالايجاب والقبول ينعقد بالكتابة بشرط أن يكون كل من المتعاقدين بعيدا عن الاخر، أو يكون العاقد بالكتابة أخرس لا يستطيع الكلام، فإن كانا في مجلس واحد، وليس هناك عذر يمنع من الكلام فلا ينعقد بالكتابة، لانه لا يعدل عنا لكلام، وهو أظهر أنواع الدلالات، إلى غيره إلا حينما يوجد سبب حقيقي


[ 50 ]

يقتضي العدول عن الالفاظ إلى غيرها. ويشترط لتمام العقد أن يقبل من كتب إليه في مجلس قراءة الخطاب. عقد بواسطة رسول: وكما ينعقد العقد بالالفاظ والكتابة ينعقد بواسطة رسول من أحد المتعاقدين إلى الاخر بشرط أن يقبل المرسل إليه عقب الاخبار. ومتى حصل القبول في هاتين الصورتين تم العقد، ولا يتوقف على علم الموجب بالقبول. عقد الاخرس: وكذلك ينعقد بالاشارة المعروفة من الاخرس، لان إشارته المعبرة عما في نفسه كالنطق باللسان سواء بسواء. ويجوز للاخرس أن يعقد بالكتابة بدلا عن الاشارة إذا كان يعرف الكتابة. وما اشترطه بعض الفقهاء من التزام ألفاظ معينة لم يجئ بما قالوا فيه كتاب ولا سنة. شروط البيع لابد من أن يتوافر في البيع شروط حتى يقع صحيحا، وهذه الشروط: منها ما يتصل بالعاقد، ومنها ما يتصل بالمعقود عليه،


[ 51 ]

أو محل التعاقد، أي المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الاخر، ثمنا أو مثمنا، أي مبيعا (1). (هامش) (1) الثمن: ما لا يبطل العقد بتلفه ويصح إبداله والتصرف فيه قبل القبض وهو المتصل بالباء في الغالب. المبيع: هو ما لا يبطل العقد بتلفه واستحقاقه ويفسخ معيبه ولا يبدل إذ يصير بيع ما ليس عنده. (.) شروط العاقد: أما العاقد فيشترط فيه العقل والتمييز فلا يصح عقد المجنون ولا السكران ولا الصبي غير المميز. فإذا كان المجنون يفيق أحيانا ويجن أحيانا كان ما عقده عند الافاقة صحيحا وما عقده حال الجنون غير صحيح. والصبي المميز عقده صحيح، ويتوقف على إذن الولي، فإن أجازه كان معتدا به شرعا. شروط المعقود عليه: وأما المعقود عليه فيشترط في ستة شروط: 1 – طهارة العين. 2 – الانتفاع به. 3 – ملكية العاقد له. 4 – القدرة على تسليمه. 5 – العلم به. 6 – كون المبيع مقبوضا.


[ 52 ]

وتفصيل ذلك فيما يأتي: 1 – الاول: أن يكون طاهر العين، لحديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام. فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويتصبح بها الناس. فقال: لا، هو حرام. والضمير يعود إلى البيع، بدليل أن البيع هو الذي نعاه الرسول على اليهودي في الحديث نفسه. وعلى هذا يجوز الانتفاع بشحم الميتة بغير البيع فيدهن بها الجلود ويستضاء بها وغير ذلك مما لا يكون أكلا أو يدخل في بدن الادمي. قال ابن القيم في أعلام الموقعين: (في قوله صلى الله عليه وسلم (حرام) قولان: أحدهما: أن هذه الافعال حرام. والثاني: أن البيع حرام. وإن كان المشتري يشتريه لذلك.


[ 53 ]

والقولان مبنيان على أن السؤال: هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور، أو عن الانتفاع المذكور؟ والاول اختاره شيخنا. وهو الاظهر. لانه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبيعونه لهذا الانتفاع فلم يرخص لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين عدم جواز البيع وحل المنفعة) اه‍. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه (1) ثم باعوه وأكلوا ثمنه). والعلة في تحريم بيع الثلاثة الاولى، هي النجاسة عند جمهور العلماء، (2) فيتعدى ذلك إلى كل نجس. (1) جملوه، أي: أذابوه. (2) يراجع التحقيق في نجاسة الخمر في الجزء الاول من فقه السنة. والظاهر أن تحريم بيعها لانها تسلب الانسان أعظم مواهب الله له وهو العقل فضلا عن أضرارها الاخرى التي أشرنا إليها في الجزء التاسع. وأما الخنزير فمع كونه نجسا إلا أن به ميكروبات ضارة لا تموت بالغلي وهو يحمل الدودة الشريطية التي تمتص الغذاء النافع من جسم الانسان. وأما تحريم بيع الميتة فلانها غالبا ما يكون موتها نتيجة أمراض فيكون تعاطيها مضرا بالصحة، فضلا عن كونها مما تعافه النفوس. وما يموت فجأة من الحيوانات فإن الفساد يتسارع إليه لاحتباس الدم فيه. والدم أصلح بيئة لنمو الميكروبات التي قد لا تموت بالغلي. ولذلك حرم الدم المسفوح أكله وبيعه لنفس الاسباب. (.)


[ 54 ]

واستثنى الاحناف والظاهرية كل ما فيه منفعة تحل شرعا فجوزوا بيعه، فقالوا: يجوز بيع الارواث والازبال النجسة التي تدعو الضرورة إلى استعمالها في البساتين، وينتفع بها وقودا وسمادا. وكذلك يجوز بيع كل نجس ينتفع به في غير الاكل والشرب كالزيت النجس يستصبح به ويطلى به. والصبغ يتنجس فيباع ليصبغ به ونحو ذلك، مادام الانتفاع به في غير الاكل. روى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر سئل عن زيت وقعت فيه فأرة فقال: (استصبحوا به وادهنوا به وأدمكم). ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة ليمونهة فوجدها ميتة ملقاة فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه وانتفعتم به. فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها. ومعنى هذا أنه يجوز الانتفاع في غير الاكل. وما دام الانتفاع بها جائزا فإنه يجوز بيعها مادام القصد بالبيع المنفعة المباحة (1).


[ 55 ]

2 – الثاني: أن يكون منتفعا به، فلا يجوز بيع الحشرات ولا الحية والفأرة إلا إذا كان ينتفع بها. ويجوز بيع الهرة والنحل وبيع الفهد والاسد وما يصلح للصيد أو ينتفع بجلده، ويجوز بيع الفيل للحمل ويجوز بيع الببغاء والطاووس والطيور المليحة الصورة، وإن كانت لا تؤكل، فإن التفرج بأصواتها والنظر إليها غرض مقصود مباح، وإنما لا يجوز بيع الكلب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا في غير الكلب المعلم وما يجوز اقتناؤه ككلب الحراسة وككلب الزرع، فقد قال أبو حنيفة بجواز بيعه، وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. رواه النسائي عن جابر. قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات. وهل تجب القيمة على متلفه؟ قال الشوكاني: فمن قال بتحريم بيعه قال بعدم الوجوب. ومن قال بجوازه قال بالوجوب. ومن فصل في البيع فصل في لزوم القيمة.


[ 56 ]

وروي عن مالك أنه لا يجوز بيعه وتجب القيمة. وروي عنه أن بيعه مكروه فقط. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه ويضمن متلفه. بيع آلات الغناء: ويدخل في هذا الباب بيع آلات الغناء. فإن الغناء في مواضعه جائز والذي يقصد به فائذة مباحة حلال، وسماعه مباح، وبهذا يكون منفعة شرعية يجوز بيع آلته وشراؤها لانها متقومه. ومثال الغناء الحلال: 1 – تغني النساء لاطفالهن وتسليتهن. 2 – تغني أصحاب الاعمال وأرباب المهن أثناء العمل للتخفيف عن متاعبهم والتعاون بينهم. 3 – والتغني في الفرح إشهارا له. 4 – والتغني في الاعياد إظهارا للسرور. 5 – والتغني للتنشيط للجهاد. وهكذا في كل عمل طاعة حتى تنشط النفس وتنهض بحملها. والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن دائرة الحلال كأن يهيج


[ 57 ]

الشهوة أو يدعو إلى فسق أو ينبه إلى الشر أو اتخذ ملهاة عن الطاعات، كان غير حلال. فهو حلال في ذاته وإنما عرض ما يخرجه عن دائرة الحلال. وعلى هذا تحمل أحاديث النهي عنه. والدليل على حله: 1 – ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة، رضي الله عنها، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد). 2 – ما رواه الامام أحمد والترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه فلما انصرف جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى. قال: (إن كنت نذرت فاضربي). فجعلت تضرب. 3 – ما صح عن جماعة كثيرين من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يسمعون الغناء والضرب على المعازف.


[ 58 ]

فمن الصحابة: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر وغيرهما. ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وشريح القاضي، وعبد العزيز بن مسلمة، مفتي المدينة وغيرهم. 3 – الثالث: أن يكون المتصرف فيه مملوكا للتعاقد، أو مأذونا فيه من جهة المالك، فإن وقع البيع أو الشراء قبل إذنه فإن هذا يعتبر من تصرفات الفضولي. بيع الفضولي: والفضولي هو الذي يعقد لغيره دون إذنه، كأن يبيع الزوج ما تملكه الزوجة دون إذنها، أو يشتري لها ملكا دون إذنها له بالشراء. ومثل أن يبيع إنسان ملكا لغيره وهو غائب، أو يشتري – دون إذن منه – كما يحدث عادة. وعقد الفضولي يعتبر عقدا صحيحا، إلا أن لزومه يتوقف على إجازة المالك أو وليه (1)، فإن أجازه نفذ وإن لم يجزه بطل. (هامش) (1) هذا مذهب المالكية وإسحاق بن راهويه وإحدى الروايتين عند الشافعية والحنابلة. (.)


[ 59 ]

ودليل ذلك ما رواه البخاري عن عروة البازقي أنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار لاشتري له به شاة، فاشتريت له به شاتين. بعت إحداهما بدينار وجئته بدينار وشاة، فقال لي: (بارك الله في صفقة يمينك). وروى أبو داود والترمذي، عن حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشتري أضحية فأربح فيها دينارا فباعها بدينارين، ثم اشترى شاة أخرى مكانها بدينار، وجاء بها وبالدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (بارك الله لك في صفقتك). ففي الحديث الاول أن عروة اشترى الشاة الثانية وباعها دون إذن مالكها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليه وأخبره أقره ودعا له، فدل ذلك على صحة شراء الشاة الثانية وبيعه إياها. وهذا دليل على صحة بيع الانسان ملك غيره وشرائه له دون إذن. وإنما يتوقف على الاذن مخافة أن يلحقه من هذا


[ 60 ]

التصرف ضرر. وفي الحديث الثاني أن حكيما باع الشاة بعدما اشتراها وأصبحت مملوكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اشترى له الشاة الثانية ولم يستأذنه، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على تصرفه وأمره أن يضحي بالشاة التي أتاه بها ودعا له، فدل ذلك على أن بيعة الشاة الاولى وشراءه الثانية صحيح. ولو لم يكن صحيحا لا نكره عليه وأمره برد صفقته. 4 – الرابع: أن يكون المعقود عليه مقدورا على تسليمه شرعا وحسا، فما لا يقدر على تسليمه حسا لا يصح بيعه كالسمك في الماء. وقد روى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر). وقد روي عن عمران بن الحصين مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي النهي عن ضربة الغائض. والمراد به أن يقول من يعتاد الغوص في البحر لغيره: ما أخرجته في هذه الغوصة فهو لك بكذا من الثمن. ومثله الجنين في بطن أمه. ويدخل في هذا بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه


[ 61 ]

إلى محله، فإن اعتاد الطائر رجوعه إلى محله، ولو كيلا، لم يصح أيضا عند أكثر العلماء إلا النحل (1)، لان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الانسان ما ليس عنده. ويصح عند الاحناف لانه مقدور على تسليمه إلا النحل. ويدخل في هذا الباب عسب الفحل، وهو ماؤه، والفحل الذكر من كل حيوان: فرسا، أو جملا أو ت يسا، وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. كما رواه البخاري وغيره، لانه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه. وقد ذهب الجمهور إلى تحريمه بيعا وإجازة، ولا بأس بالكرامة، وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير اشتراط شئ عليه. وقيل: يجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة وبه قال: الحسن وابن سيرين، وهو مروي عن مالك، ووجه للشافعية والحنابلة. (هامش) (1) يرى الائمة الثلاثة جواز بيع دود القز والنحل منفردة عن الخلية إذا كانت محبوسة في بيوتها ورآها المتبايعان، خلافا لابي حنيفة. (.)


[ 62 ]

وكذلك بيع اللبن في الضرع – أي قبل انفصاله – لما فيه من الغرر والجهالة. قال الشوكاني: إلا أن يبيع منه كيلا، نحو أن يقول: بعت منك صاعا من حليب بقرتي. فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر والجهالة. ويستثنى أيضا لبن الظئر فيجوز بيعه لموضع الحاجة. وكذا لا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير المبيع بالمبيع. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع تمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر (1) أو لبن في ضرع، أو سمن في اللبن. رواه الدار قطني: والمعجوز عن تسليمه شرعا كالمرهون والموقوف، فلا ينعقد بيعهما. ويلحق بهذا التفريق بالبيع بين البهيمة وولدها لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان. ويرى بعض العلماء جواز ذلك قياسا على الذبح (هامش) (1) أما بيع الصوف على الظهر بشرط الجز، فقد أجازه الحنابلة في رواية عندهم لانه معلوم ويمكن تسليمه. (.)


[ 63 ]

وهو الاولى. وأما بيع الدين: فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز بيع الدين ممن عليه الدين – أي المدين. وأما بيعه إلى غير المدين، فقد ذهب الاحناف والحنابلة والظاهرية إلى عدم صحته لان البائع لا يقدر على التسليم. ولو شرط التسليم على المدين فإنه لا يصح أيضا لانه شرط التسليم على غير البائع، فيكون شرطا فاسدا يفسد به البيع. 5 – الخامس: أن يكون كل من المبيع والثمن معلوما. فإذا كانا مجهولين أو كان أحدهما مجهولا فإن البيع لا يصح لما فيه من غرر، والعلم بالمبيع يكتفى فيه بالمشاهدة في المعين ولو لم يعلم قدره كما في بيع الجزاف. أما ما كان في الذمة فلا بد من معرفة قدره وصفته بالنسبة للمتعاقدين. والثمن يجب أن يكون معلوم الصفة والقدر والاجل. أما بيع ما غاب عن مجلس العقد، وبيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر، وبيع الجزاف، فلكل واحد من هذه


[ 64 ]

البيوع أحكام نذكرها فيما يلي: بيع ما غاب عن مجلس العقد بشرط أن يوصف وصفا يؤدي إلى العلم به، ثم إن ظهر موافقا للوصف لزم البيع وإن ظهر مخالفا ثبت لمن لم يره من المتعاقدين الخيار في إمضاء العقد أو رده، يستوي في ذلك البائع والمشتري. روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه). أخرجه الدار قطني والبيهقي (1) (هامش) (1) وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكروي وهو ضعيف. (.) بيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر: وكذا يجوز بيع المغيبات إذا وصفت أو علمت أوصافها بالعادة والعرف. وذلك كالاطعمة المحفوظة والادوية المعبأة في القوارير وأنابيب الاكسوجين وصفائح البنزين والغاز ونحو ذلك مما لا يفتتح إلا عند الاستعمال لما يترتب على فتحه من


[ 65 ]

ضرر أو مشقة. ويدخل في هذا الباب ما غيبت ثمارة في باطن الارض مثل الجزر واللفت والبطاطس والقلقاس والبصل، وما كان من هذا القبيل. فإن هذه لا يمكن بيعها بإخراج المبيع دفعة واحدة لما في ذلك من المشقة على أربابها، ولا يمكن بيعها شيئا فشيئا لما في ذلك من الحرج والعسر، وربما أدى ذلك إلى فساد الاموال أو تعطيها. وإنما تباع عادة بواسطة التعاقد على الحقول الواسعة التي لا يمكن بيع ما فيها من الزروع المغيبة إلا على حالها. وإذا ظهر أن المبيع يختلف عن أمثاله اختلافا فاحشا يوقع الضرر بأحد المتعاقدين ثبت الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه، كما في صورة ما إذا اشترى بيضا فوجده فاسدا فله الخيار في إمساكه أو رده دفعا للضرر عنه (1). (هامش) (1) مذهب الجمهور بطلان البيع في هذه الصورة لما فيها من الغرر والجهالة المنهي عنها والاحناف جوزوا البيع وأثبتوا الخيار عند الرؤية. (.) بيع الجزاف: الجزاف: هو الذي لا يعلم قدره على التفصيل. وهذا النوع من البيع كان متعارفا عليه بين الصحابة


[ 66 ]

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المتبايعان يعقدان العقد على سلعة مشاهدة لا يعلم مقدارها إلا بالحرز والتخمين من الخبراء وأهل المعرفة الذين يعهد فيهم صحة التقدير، فقلما يخطئون فيه، ولو قدر أن ثمة غررا فإنه يكون يسيرا يتسامح فيه عادة لقلته. قال ابن عمر رضي الله عنه: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. فالرسول أقرهم على بيع الجزاف، ونهى عن البيع قبل النقل فقط. قال ابن قدامة: يجوز بيع الصيرة جزافا، لا نعلم فيه خلافا، إذا جهل البائع والمشتري قدرها. 6 – السادس: أن يكون المبيع مقبوضا إن كان قد استفاده بمعاوضة وفي هذا تفصيل نذكره فيما يلي: يجوز بيع الميراث والوصية والوديعة وما لم يكن الملك حاصلا فيه بمعاوضة قبل القبض وبعده. وكذلك يجوز لمن اشترى شيئا أن يبيعه أو يهبه أو يتصرف فيه التصرفات المشروعة بعد قبضه. أما إذا لم يكن


[ 67 ]

قبضه فإنه يصح له التصرف فيه بكل نوع من أنواع التصرفات المشروعة، ما عدا التصرف بالبيع. أما صحة التصرف فيما عدا البيع فلان المشتري ملك المبيع بمجرد العقد، ومن حقه أن يتصرف في ملكه كما يشاء. قال ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشتري. رواه البخاري. أما التصرف بالبيع قبل القبض فإنه لا يجوز، إذ يحتمل أن يكون هلك عند البائع الاول فيكون بيع غرر، وبيع الغرر غير صحيح سواء أكان عقارا (1) أم منقولا وسواء أكان مقدرا أم جزافا. لما رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه). وروى البخاري ومسلم: أن الناس كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يؤدوه إلى رحالهم. (هامش) (1) مثل الارض والمنازل والحدائق والشجر. (.)


[ 68 ]

ويستثنى من هذه القاعدة جواز بيع أحد النقدين بالاخر قبل القبض. فقد سأل ابن عمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الابل بالدنانير وأخذ الدراهم بدلا منها فأذن له. معنى القبض: والقبض في العقار يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل ملكه إليه على وجه يتمكن معه من الانتفاع به فيما يقصد منه، كزرع الارض وسكنى المنزل والاستظلال بالشجر أو جني ثماره ونحو ذلك. والقبض فيما يمكن نقله كالطعام والثياب والحيوان ونحو ذلك يكون على النحو الاتي: أولا: باستيفاء القدر كيلا أو وزنا إن كان مقدرا. ثانيا: بنقله من مكانه إلى كان جزافا. ثالثا: يرجع إلى العرف فيما عدا ذلك. والدليل على أن القبض في المنقول يكون باستيفاء القدر ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: (إذا سميت الكيل فكل). فهذا دليل على وجوب الاكتيال عند اشتراط التقدير بالكيل. ومثله الوزن لاشتراكهما في أن كلا منهما معيار


[ 69 ]

لتقدير الاشياء، فوجب أن يكون كل شئ يملك مقدرا يجري القبض فيه باستيفاء قدره سواء أكان طعاما أم كان غير طعام. ودليل وجوب النقل من مكانه من رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه). وليس هذا خاصا بالطعام بل يشمل الطعام وغيره كالقطن والكتان وأمثالهما إذا بيعت جزافا، لانه لا فرق بينهما. أما ما عدا هذا مما لم يرد فيه نص فيرجع فيه إلى عرف الناس وما جرى عليه التعامل بينهم، وبهذا نكون قد أخذنا بالنص ورجعنا إلى العرف فيما لا نص فيه. حكمته: وحكمة النهي عن بيع السلع قبل قبضها زيادة على ما تقدم: أن البائع إذا باعها ولم يقبضها المشتري فإنها تبقى في ضمانه، فإذا هلكت كانت خسارتها عليه دون المشتري. فإذا باعها المشتري في هذه الحال وربح فيها كان رابحا لشئ لم يتحمل فيه تبعة الخسارة، وفي هذا يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن


[ 70 ]

بيع ربح ما لم يضمن. وأن المشتري الذي باع ما اشتراه قبل قبضه يماثل من دفع مبلغا من المال إلى آخر ليأخذ في نظيره مبلغا أكثر منه، إلا أن هذا أراد أن يحتال على تحقيق قصده بإدخال السلعة بين العقدين، فيكون ذلك أشبه بالربا. وقد فطن إلى هذا ابن عباس، رضي الله عنهما، وقد سئل عن سبب النهي عن بيع ما لم يقبض، فقال: (ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ). الاشهاد على عقد البيع أمر الله بالاشهاد على عقد البيع فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد) (1). والامر بالاشهاد للندب والارشاد إلى ما فيه المصلحة والخير. وليس للوجوب كما ذهب إليه البعض (2). قال الجصاص في كتاب أحكام القرآن: (ولا خلاف بين فقهاء الامصار أن الامر بالكتابة (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 282. (2) ممن ذهب إلى أن الاشهاد واجب في كل شئ ولو كان شيئا تافها: عطاء، والنخعي، ورجحه أبو جعفر الطبري. (.)


[ 71 ]

والاشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الاية، ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب). وقد نقلت الامة خلفا عن سلف عقود المداينات والاشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الاشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وف ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتر مستفيضا، ولانكرت على فاعله ترك الاشهاد. فلما لم ينقل عنهم الاشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة، ثبت بذلك أن الكتاب والاشهاد في الديوان والبياعات غير واجبين. اه‍. البيع على البيع يحرم البيع على البيع لما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بيع أحدكم على بيع أخيه). رواه أحمد والنسائي.


[ 72 ]

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه). وعند أحمد والنسائي وأبي داود والترمذي وحسنه: أن من باع من رجلين فهو للاول منهما). وصورته كما قال النووي: – أن يبيع أحد الناس سلعة من السلع بشرط الخيار للمشتري، فيجئ آخر يعرض على هذا أن يفسخ العقد ليبيعه مثل ما اشتراه بثمن أقل. وصورة الشراء على شراء الاخر أن يكون الخيار للبائع، فيعرض عليه بعض الناس فسخ العقد على أن يشتري منه ما باعه بثمن أعلى. وهذا الصنيع في حالة البيع أو الشراء، صنيع آثم، منهي عنه. ولكن لو أقدم عليه بعض الناس وباع أو اشترى ينعقد البيع والشراء عند الشافعية وأبي حنيفة وآخرين من الفقهاء. ولا ينعقد عند داود بن علي، شيخ أهل الظاهر، وروي عن مالك في ذلك روايتان) اه‍. وهذا بخلاف المزايدة في البيع فإنها جائزة، لان العقد لم يستقر بعد، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بعض السلع، وكان يقول: من يزيد.


[ 73 ]

من باع من رجلين فهو للاول منهما من باع شيئا من رجل ثم باعه من آخر لم يكن للبيع الاخر حكم بل هو باطل لانه باع غير ما يملك إذ قد صار في ملك المشتري الاول، ولا فرق بين أن يكون البيع الثاني وقع في مدة الخيار أو بعد انقضائها لان المبيع قد خرج من ملكه بمجرد البيع. فعن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة زوجها وليان فهي للاول منهما. وأيما رجل باع بيعا من رجلين فهو للاول منهما. زيادة الثمن نظير زيادة الاجل يجوز البيع بثمن حال كما يجوز بثمن مؤجل، وكما يجوز أن يكون بعضه معجلا وبعضه مؤخرا، متى كان ثمة تراض بين المتبايعين. وإذا كان الثمن مؤجلا وزاد البائع فيه من أجل التأجيل جاز، لان للاجل حصة من الثمن. وإلى هذا ذهب الاحناف والشافعية وزيد بن علي والمؤيد بالله وجمهور الفقهاء، لعموم الادلة القاضية بجوازه. ورجحه الشوكاني.


[ 74 ]

جواز السمسرة قال الامام البخاري: لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا (1). وقال ابن عباس: لا بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك. وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم). رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة. وذكره البخاري تعليقا. (هامش) (1) السمسار: هو الذي يتوسط بين البائع والمشتري لتسهيل عملية البيع. (.) بيع المكره اشترط جمهور الفقهاء أن يكون العاقد مختارا في بيع متاعه، فإذا أكره على بيع ماله بغير حق فإن البيع لا ينعقد لقول الله سبحانه: (إلا أن تكون تجارة (2) عن تراض منكم). (هامش) (2) سورة النساء آية رقم 29. والتجارة كل عقد يقصد به الربح مثل عقد البيع وعقد الاجارة وعقد الهبة بشرط العوض، لان المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الاعواض لا غير، وعلى هذا فالتجارة أعم من البيع. (.)


[ 75 ]

ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض). وقوله: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه. رواه ابن ماجه ابن حبان والدار قطني والطبراني والبيهقي والحاكم. وقد اختلف في حسنه وضعفه. أما إذا أكره على بيع ماله بحق فإن البيع يقع صحيحا. كما إذا أجبر على بيع الدار لتوسعة الطريق أو المسجد أو المقبرة. أو أجبر على بيع سلعة ليفي ما عليه من دين (1) أو لنفقة الزوجة أو الابوين. ففي هذه الحالات وأمثالها يصح البيع إقامة لرضا الشرع مقام رضاه. قال عبد الرحمن بن كعب: كان معاذ بن جبل شابا سخيا. وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، حتى قام معاذ بغير شئ. (هامش) (1) من غير تفرقة بين دين ودين ولا بين مال ومال. (.)


[ 76 ]

بيع المضطر قد يضطر الانسان لبيع ما في يده لدين عليه، أو لضرورة من الضرورات المعاشية، فيبيع ما يملكه بأقل من قيمته من أجل الضرورة، فيكون البيع على هذا النحو جائزا مع الكراهة ولا يفسخ. والذي يشرع في مثل هذه الحال أن يعان المضطر ويقرض حتى يتحرر من الضيق الذي ألم به. وقد روي في ذلك حديث رجل مجهول. فعند أبي داود عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: (سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك. قال الله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) (1)، ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك) (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 237. (.) بيع التلجئة إذا خاف إنسان اعتداء ظالم على ماله فتظاهر ببيعه


[ 77 ]

فرارا من هذا الظالم وعقد عقد البيع مستوفيا شروطه وأركانه فإن هذا العقد لا يصح، لان العاقدين لم يقصدوا البيع فهما كالهازلين. وقيل: هو عقد صحيح، لانه استوفى أركانه وشروطه. قال ابن قدامة: بيع التلجئة باطل. وقال أبو حنيفة والشافعي: هو صحيح لان البيع تم بأركانه وشروطه خاليا من مفسد فصح به، كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقد البيع بلا شرط، ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح كالهازلين) اه‍. البيع مع استثناء شئ معلوم يجوز أن يبيع المرء سلعة ويستثني منها شيئا معلوما، كأن يبيع الشجر ويستثني منها واحدة، أو يبيع أكثر من منزل ويستثني منزلا، أؤ قطعة من الارض ويستثني منها جزءا معلوما. فعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا (1) إلا أن تعلم. (هامش) (1) الثنيا: الاستثناء في البيع. (.)


[ 78 ]

فإن استثنى شيئا مجهولا غير معلوم لم يصح البيع، لما يتضمنه من الجهالة والغرر. ايفاء الكيل والميزان يأمر الله، سبحانه، بإيفاء الكيل والميزان فيقول: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) (1). ويقول: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير وأحسن تأويلا) (2). وينهى عن التلاعب بالكيل والوزن وتطفيفهما فيقول: (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين) (3). (هامش) (1) سورة الانعام آية رقم 152. (2) سورة الاسراء آية رقم 35. (3) سورة المطففين آيات رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6. (.) ويندب ترجيح الميزان: عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله


[ 79 ]

عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالاجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زن وأرجح). أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي حسن صحيح. السماحة في البيع والشراء: روى البخاري والترمذي عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلا سمحا (1) إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) (2). (هامش) (1) سمحا: سهلا. (2) اقتضى: طلب حقه. (.) بيع الغرر بيع الغرر (3) هو كل بيع احتوى جهالة أو تضمن مخاطرة أو قمارا، وقد نهى عنه الشارع ومنع منه، قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا. (هامش) (3) الغرر: أي الغرور وهو الخداع الذي هو مظنة عدم الرضا به عند تحققه، فيكون من باب أكل أموال الناس بالباطل. (.)


[ 80 ]

ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعا، بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، كبيع أساس البناء تبعا للبناء واللبن في الضرع تبعا للدابة. والثاني: ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، كدخول الحمام بالاجر مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطنا. وقد أفاض الشارع في المواضع التي يكون فيها. وإليك بعضها حسب ما كانوا يتعاملون به في الجاهلية. 1 – النهي عن بيع الحصاة: فقد كان أهل الجاهلية يعقدون على الارض التي لا تتعين مساحتها ثم يقذفون الحصاة حتى إذا استقرت كان ما وصلت إليه هو منتهى مساحة البيع. أو يبتاعون الشئ لا يعلم عينه، ثم يقذفون بالحصاة فما وقعت عليه كان هو المبيع. ويسمى هذا بيع الحصاة. 2 – النهي عن ضربة الغواص: فقد كانوا يبتاعون من الغواص ما قد يعثر عليه من لقطات البحر حين غوصه، ويلزمون المتبايعين بالعقد


[ 81 ]

فيدفع المشتري الثمن ولو لم يحصل على شئ، ويدفع البائع ما عثر عليه ولو أبلغ أضعاف ما أخذ من الثمن. ويسمى هذا ضربة الغواص. 3 – بيع النتاج: وهو العقد على نتاج الماشية قبل أن تنتج، ومنه بيع ما في ضروعها من لبن. 4 – بيع الملامسة: وهو أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه أو سلعته فيجب البيع بذلك دون علم بحاله أو تراض عنها. 5 – بيع المنابذة: وهو أن ينبذ كل من المتعاقدين ما معه، ويجعلان ذلك موجبا للبيع دون تراض منهما. 6 – ومنه بيع المحاقلة: والمحاقلة بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم. 7 – ومنه بيع المزابنة: والمزابنة بيع ثمر النخل بأوساق من التمر. 8 – ومنع بيع المخاضرة: والمخاضرة بيع الثمرة الخضراء قبل بدو صلاحها.


[ 82 ]

9 – ومنه بيع الصوف في الظهر 10 – ومنه بيع السمن في اللبن. 11 – ومنع بيع حبل الحبلة: ففي الصحيحين: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فهذه البيوع وأمثالها نهى عنها الشارع لما فيها من غرور وجهالة بالمعقود عليه. حرمة شراء المغصوب والمسروق يحرم على المسلم أن يشتري شيئا وهو يعلم أنه أخذ من صاحبه بغير حق، لان أخذه بغير حق ينقل الملكية من يد مالكه، فيكون شراؤه له شراء ممن لا يملك، مع ما فيه من التعاون على الاثم والعدوان. روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشتري سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها). بيع العنب لمن يتخذه خمرا وبيع السلاح في الفتنة لا يجوز بيع العنب لمن يتخذه خمرا، ولا السلاح في


[ 83 ]

الفتنة ولا لاهل الحرب، ولا ما يقصد به الحرام. وإذا وقع العقد فإنه يقع باطلا (1): لان المقصود من العقد هو انتفاع كل واحد من المتبايعين بالبدل، فينتفع البائع بالثمن وينتفع المشتري بالسلعة. وهنا لا يحصل المقصود من الانتفاع لما يترتب عليه من ارتكاب المحظور، ولما فيه من التعاون على الاثم والعدوان المنهي عنهما شرعا، قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) (2). عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حبس العنب أبام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا، فقد تقحم النار على بصيرة). وعن عمر بن الحصين قال: (هامش) (1) يرى أبو حنيفة والشافعي صحة العقد لتحقق ركنه وتوفر شروطه، لان الغرض غير المباح أمر مستتر ويترك فيه الامر لله يعاقب عليه. (2) سورة المائدة آية رقم 2. (.)


[ 84 ]

(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة) أخرجه البيهقي. قال ابن قدامة: (إن بيع العصير لمن يعتقد أن يتخذه خمرا محرم، إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم قصد المشتري بذلك، إما بقوله وإما بقرائن مختصة به. فإن كان محتملا مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل الخمر والخل معا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز. وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لاهل الحرب، أو لقطاع الطريق أو في الفتنة… أو إجارة داره لبيع الخمر فيها وأشباه ذلك. فهذا حرام، والعقد باطل. اه‍. بيع ما اختلط بمحرم إذا اشتملت الصفقة على مباح ومحرم. فقيل: يصح العقد في المباح، ويبطل في المحظور. وهو أظهر القولين للشافعي، ومذهب مالك. وقيل: يبطل العقد فيهما.


[ 85 ]

النهي عن كثرة الحلف 1 – نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف فقال: (الحلف منفقة للسلعة (1)، ممحقة للبركة). رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة. لما يترتب على ذلك من قلة التعظيم لله، وقد يكون سببا من أسباب التغرير. 2 – وعند مسلم: (إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق (2) ثم يمحق). 3 – وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن التجارهم الفجار، فقيل: يا رسول الله، أليس قد أحل الله البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون). رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح. 4 – عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هامش) (1) السلعة: المبيع. ينفق: يروج وزنا ومعنى. (.)


[ 86 ]

(من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان). قال: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عزوجل: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لاخلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (1). متفق عليه. 5 – روى البخاري أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الاشراك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قال: وما اليمين الغموس؟ قال: الذ يقتطع مال امرئ مسلم، يعني بيمين هو فيها كاذب. وسميت غموسا لانها تغمس صاحبها في نار جهنم، ولا كفارة لها عند بعض الفقهاء، لانها لشدة فحشها وكبر إثمها لا يمكن تداركها بالكفارة. 6 – وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هامش) (1) سورة آل عمران آية رقم 77. (.)


[ 87 ]

(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك). رواه مسلم. البيع والشراء في المسجد أجاز أبو حنيفة البيع في المسجد، وكره إحضار السلع وقت البيع في المسجد تنزيها له. وأجاز مالك والشافعي مع الكراهة. ومنع صحة جوازه أحمد وحرمه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك). البيع عند أذان الجمعة البيع عند ضيق وقت المكتوبة وعند أذان الجمعة حرام، ولا يصح عند أحمد (1) لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم (هامش) (1) وجوزه غيره مع الكراهة. (.)


[ 88 ]

إن كنتم تعلمون) (1). والنهي يقتضي الفساد بالنسبة للجمعة، ويقاس عليها غيرها من سائر الصلوات. (هامش) (1) سورة الجمعة آية رقم 9. (.) جواز التولية والمرابحة والوضيعة: تجوز التولية والمرابحة والوضيعة. ويشترط أن يعرف كل من البائع والمشتري الثمن الذي اشتريت به السلعة. والتولية، هي البيع برأس المال دون زيادة أو نقص. والمرابحة، هي البيع بالثمن الذي اشتريت به السلعة مع ربح معلوم. والوضيعة، هي البيع بأقل من الثمن الاول. بيع المصحف وشراؤه: اتفق الفقهاء على جواز شراء المصحف واختلفوا في بيعه. فأباحه الائمة الثلاثة، وحرمته الحنابلة، وقال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة. بيع بيوت مكة وإجارتها: أجاز كثير من الفقهاء، منهم الاوزاعي والثوري ومالك والشافعي. وقول لابي حنيفة.


[ 89 ]

بيع الماء: مياه البحار والانهار وما يشابهها مباحة للناس جميعا لا يختص بها أحد دون أحد، ولا يجوز بيعها ما دامت في مقارها. وفي الحديث: يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (الناس شركاء في الماء والكلا والنار) فإذا أحرزها إنسان أو حفر بئرا في ملكه أو وضع آلة يستخرج بها الماء أصبحت ملكا له ويجوز له حينئذ بيع الماء، ويكون في هذه الحال مثل الحطب المباح أخذه، الذي يحل بيعه بعد إحرازه. وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتطب أحدكم حزمة من حطب فيبيعها خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه). وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وفيها بئر تسمى بئر رومة، يملكها يهودي ويبيع الماء منها للناس، فأقره على بيعه وأقر المسلمين على شرائهم منه، واستمر الامر على هذا حتى اشتراها عثمان رضي الله عنه وحبسها على المسلمين. وبيع الماء يجري حسب ما يجري عليه العرف، إلا إذا كان هناك مثل العداد فإنه يحتسب به القدر المبيع.


[ 90 ]

بيع الوفاء: بيع الوفاء هو أن يبيع المحتاج إلى النقد عقارا على أنه متى وفى الثمن استرد العقار… وحكمه حكم الرهن في أرجح الاقوال عندنا. بيع الاستصناع: والاستصناع هو شراء ما يصنع وفقا للطلب، وهو معروف قبل الاسلام. وقد أجمعت الامة على مشروعيته. وركنه الايجاب والقبول. وهو جائز في كل ما جرى التعامل باستصناعه. وحكمه: إفادة الملك في الثمن والمبيع. وشروط صحته: بيان جنس المستصنع ونوعه وصفته وقدره بيانا تنتفي معه الجهالة ويرتفع النزاع. والمشتري عند رؤية المبيع مخير بين أن يأخذه بكل الثمن وبين أن يفسخ العقد بخيار الرؤية، سواء وجده على الحالة التي وصفها أم لا، عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما. وقال أبو يوسف: إن وجده على ما وصف فلا خيار له دفعا للضرر عن الصانع، إذ قد لا يشتري غيره المصنوع


[ 91 ]

بما يشتريه به هو. بيع الثمار والزروع بيع الثمار قبل بدو الصلاح وبيع الزرع قبل اشتداد الحب لا يصح، مخافة التلف وحدوث العاهة قبل أخذها. 1 – روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، (نهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها: نهى البائع والمبتاع). 2 – وروى مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشتري). 3 – وروى البخاري عن أنس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟). فإن بيعت الثمار قبل بدو الصلاح، والزروع قبل اشتداد الحب بشرط القطع في الحال، صح إن كان يمكن الانتفاع بها ولم تكن مشاعة، لانه لا خوف في هذه الحال من التلف ولا خوف من حدوث العاهة. فإن بيعت بشرط القطع ثم تركها المشتري حتى بدا


[ 92 ]

صلاحها، قيل إن البيع يبطل، وقيل لا يبطل ويشتركان في الزيادة. بيعها لمالك الاصل أو لمالك الارض: هذا هو الحكم بالنسبة لغير مالك الاصل ولغير مالك الارض، فإن بيعت الثمار قبل بدو صلاحها لمالك الاصل صح البيع، كما لو بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح مع الاصل. وكذلك يصح بيع الزروع قبل بدو الصلاح لمالك الارض، لحصول التسليم بالنسبة للمشتري على وجه الكمال. بم يعرف الصلاح؟: ويعرف صلاح البلح بالاحمرار والاصفرار. أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم،: (نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو). قيل لانس: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار. ويعرف صلاح العنب بظهور الماء الحلو واللين والاصفرار (1). (هامش) (1) وما ورد من النهي عن بيع العنب حتى يسود فإنه بالنسبة للعنب الاسود. (.)


[ 93 ]

ويعرف صلاح سائر الفواكه بطيب الاكل وظهور النضج. روى البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب). ويعرف صلاح الحبوب والزروع بالاشتداد (1). (هامش) (1) وعند الاحناف أن بدو الصلاح يكون بأن تؤمن العاهة والفساد، أي أن المعتبر ظهور الثمرة. (.) بيع الثمار التي تظهر بالتدريج: إذا بدأ صلاح بعض الثمر أو الزرع جاز بيعه جميعا صفقة واحدة، ما بدا صلاحه وما لم يبد منه، متى كان العقد واردا على بطن واحدة. وكذلك يجوز البيع إذا كان العقد على أكثر من بطن وأريد بيعه بعد ظهور الصلاح في البطن الاول. ويتصور هذا في حالة ما إذا كان الشجر مما ينتج بطونا متعددة كالموز من الفواكه، والقثاء من الخضروات، والورد من الازهار، ونحو ذلك مما تتلاحق بطونها، وإلى هذا ذهب فقهاء المالكية وبعض فقهاء الحنفية والحنابلة، واستدلوا على هذا بما يأتي: 1 – أنه ثبت عن الشارع جواز بيع الثمر إذا بدا


[ 94 ]

صلاح بعضه فيكون ما لم يبد صلاحه تابعا لما بدا منه، فكذلك ما هنا: يقع العقد فيه على الموجود ويكون المعدوم تبعا له (1). 2 – أن عدم جواز هذا البيع يؤدي إلى محظورين: (أ) وقوع التنازع. (ب) وتعطيل الاموال. أما وقوع التنازع، فإن العقد كثيرا ما يقع على المزاع الواسعة، ولا يتمكن المشتري من قبض البطن الاول من ثمارها إلا في وقت قد يطول ويتسع لظهور شئ من البطن الثاني، ولا يمكن تميزه من البطن الاول، فيقع النزاع بين المتعاقدين ويأكل أحدهما مال الاخر. أما المحظور الثاني، فإن البائع قلما يتيسر له في كل وقت من يشتري منه ما يظهر من ثمره أولا فأول، فيؤدي ذلك إلى ضياع ماله. وإذا كان ذلك كذلك فإنه يجوز البيع في هذه الصورة، والقول بعدم الجواز يوقع في الحرج والمشقة، وهما مرفوعان بقوله تعالى (2): (هامش) (1) هذا إذا اشترى جميع الثمار، أما إذا اشترى بعضها فلكل شجرة حكم بنفسها. (2) سورة الحج آية رقم 78. (.)


[ 95 ]

(وما جعل عليكم في الدين من حرج) (1). وقد رجح ابن عابدين هذا القول، وأخذت به مجلة الاحكام الشرعية. (هامش) (1) يرى جمهور الفقهاء عدم جواز العقد في هذه الصورة وقالوا: يجب أن يباع كل بطن على حدة. (.) بيع الحنطة في سنبلها: يجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره والارز والسمسم والجوز واللوز، لانه حب منتفع به، فيجوز بيعه في سنبله كالشعير، والنبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، ولان الضرورة تدعو إليه فيغتفر ما فيه من غ رر، وهذا مذهب الاحناف والمالكية. وضع الجوائح الجوائح جمع جائحة، وهي الافة التي تصيب الزروع أو الثمار فتهلكها دون أن يكون لادمي صنع فيها، مثل القحط والبرد والعطش. وللجوائح حكم يختص بها. فإذا بيعت الثمرة بعد ظهور صلاحها وسلمها البائع للمشتري بالتخلية ثم تلفت بالجائحة قبل أوان الجذاذ،


[ 96 ]

فهي من ضمان البائع وليس على المشتري أن يدفع ثمنها، لان الرسول صلى الله عليه وسلم (أمر بوضع الجوائح). رواه مسلم عن جابر. وفي لفظ قال: (إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟). وهذا الحكم في حالة ما إذا لم يبعها البائع مع أصلها أو لم يبعها لمالك أصلها أو يؤخر المشتري أخذها عن عادته، ففي هذه الحالات تكون من ضمان المشتري. فإن لم يكن التلف بسبب الجائحة بل كان من عمل الادمي، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن على البائع وبين الامساك ومطالبة المتلف بالقيمة. وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أصحاب الحديث. ورجحه ابن القيم قال في تهذيب سنن أبي داود: وذهب جمهور العلماء إلى أن الامر بوضع الجوائح أمر ندب واستحباب، عن طريق المعروف والاحسان، لا على سبيل الوجوب والالزام. وقال مالك بوضع الثلث فصاعدا، ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث.


[ 97 ]

قال أصحابه: ومعنى هذا الكلام أن الجائحة إذا كانت دون الثلث كان من مال المشتري، وما كان أكثر من الثلث فهو من مال البائع. واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الايجاب: بأنه أمر حدث بعد استقرار ملك المشتري عليها، فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك منه فيها. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ربح ما لم يضمن. فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه. وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائة. اه‍ الشروط في البيع الشروط في البيع قسمان: القسم الاول: صحيح لازم. القسم الثاني: مبطل للعقد. فالاول: ما وافق مقتضى العقد، وهو ثلاثة أنواع:


[ 98 ]

1 – شرط يقتضيه البيع، كشرط التقابض وحلول الثمن. 2 – شرط ما كان من مصلحة العقد، مثل شرط تأجيل الثمن، أو تأجيل بعضه، أو شرط صفة معينة في المبيع، كأن تكون الدابة لبونا أو حاملا، وكأن يكون البازي صيودا فإذا وجد الشرط لزم البيع. وإن لم يوجد الشرط كان للمشتري فسخ العقد لفوات الشرط. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (المسلمون على شروطهم). وكان له أيضا أن ينقص من قيمة السلعة بقدر فقد الصفة المشروطة. 3 – شرط ما فيه نفع معلوم للبائع أو المشتري، كما لو باع دارا واشترى منفعتها مدة معلومة كأن يسكنها شهرا أو شهرين. وكذلك لو باع دابة واشترط أن تحمله إلى موضع معين. لما رواه البخاري ومسلم، أن جابرا باع النبي، صلى الله عليه وسلم، جملا، واشترط ظهره إلى المدينة. متفق عليه. وكذلك يصح أن يشترط المشتري على البائع نفعا معلو ما، كحمل ما باعه إلى موضع معلوم (1) أو تكسيره (هامش) (1) فإن لم يكن معلوما لم يصح الشرط: فلو شرط الحمل إلى منزله، والبائع لا يعرفه لم يصح الشرط. (.)


[ 99 ]

أو خياطته أؤ تفصيله. وقد اشترى محمد بن مسلمة حزمة حطب من نبطي وشارطه على حملها، واشتهر ذلك فلم ينكر. وهذا مذهب أحمد والاوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر. وذهب الشافعي والاحناف إلى عدم صحة هذا البيع، لان النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع وشرط. ولكن هذا النهي لم يصح. وإنما نهى عن شرطين في بيع. القسم الثاني من الشروط: الشرط الفاسد، وهو أنواع: 1 – ما يبطل العقد من أصله، كأن يشترط على صاحبه عقدا آخر، مثل قول البائع للمشتري: أبيعك هذا على أن تبيعني كذا أو تقرضني. ودليل ذلك قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ” لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع “. رواه الترمذي وصححه. قال أحمد: وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي، فهذا كله لا يصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي


[ 100 ]

وجمهور الفقهاء. وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا، قال: ولا ألتفت الى اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا. 2 – ما يصح معه البيع ويبطل الشرط، وهو الشرط المنافي لمقتضى العقد، مثل اشتراط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ” كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط “. متفق عليه. وإلى هذا ذهب أحمد والحسن والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع فاسد. 3 – ما لا ينعقد معه بيع، مثل: بعتك إن رضي فلان، أو إن جئتني بكذا. وكذلك كل بيع علق على شرط مستقبل. بيع العربون صفة بيع العربون أن يشتري شيئا ويدفع جزءا من ثمنه إلى البائع. فإن نفذ البيع احتسب من الثمن، وإن لم ينفذ أخذه البائع على أنه هبة له من المشتري. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحة هذا البيع، لما


[ 101 ]

رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع العربون. وضعف الامام أحمد هذا الحديث، وأجاز بيع العربون لما رواه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر كان البيع نافذا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم. وقال ابن سيرين وابن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، وأجازه أيضا ابن عمر. البيع بشرط البراءة من العيوب ومن باع شيئا بشرط البراءة من كل عيب مجهول، لم يبرأ البائع – ومتى وجد المشتري عيبا بالمبيع فله الخيار لانه إنما يثبت بعد البيع، فلا يسقط قبله. فإن سمي العيب أو أبرأه المشتري بعد العقد برئ. وقد ثبت أن عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة بثمانمائة درهم، فأصاب به زيد عيبا، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب. فقال: لا. فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم.


[ 102 ]

ذكره الامام أحمد وغيره. قال ابن القيم: وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاق من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة. الاختلاف بين البائع والمشتري إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن وليس بينهما بينة فالقول قول البائع مع يمينه، والمشتري مخير بين أن يأخذ السلعة بالثمن الذي قال به البائع وبين أن يحلف بأنه ما اشتراها بثمن أقل. فإن حلف برئ منها، وردت السلعة على البائع، وسواء أكانت السلعة قائمة أم تالفة. وأصل ذلك ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن قيس ابن الاشعث عن أبيه عن جده قال: اشترى الاشعث رقيقا من رقيق الخمس من عبد الله بعشرين ألفا، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم. فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف. فقال عبد الله: فاختر رجلا يكون بيني وبينك. قال الاشعث: أنت بيني وبين نفسك. قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول


[ 103 ]

رب السلعة أو يتتاركان ” (1). وقد تلقى العلماء هذا الحديث بالقبول. وقال بعمومه الامام الشافعي، وأن البائع والمشتري كما يتحالفان إذا اختلفا في الثمن فإنهما يتحالفان إذا اختلفا في الاجل أو في خيار الشرط أو في الرهن أو في الضمين. حكم البيع الفاسد: البيع الصحيح ما وافق أمر الشارع باستيفاء أركانه وشروطه، فحل به ملك المبيع والثمن والانتفاع بهما. فإذا خالف أمر الشارع لم يكن صحيحا بل يقع فاسدا باطلا. فالبيع الفاسد هو البيع الذي لم يشرعه الاسلام، وهو لهذا ينعقد ولا يفيد حكما شرعيا ولا يترتب عليه الملك ولو قبض المشتري المبيع، لان المحظور لا يكون طريقا إلى الملك. قال القرطبي: ” كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها، فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له قيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض). (هامش) (1) يفسخان العقد. (.)


[ 104 ]

الربح في البيع الفاسد: ذهب الاحناف إلى أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبض البائع الثمن وتصرفه فيه فربح فعليه فسخ البيع ورد الثمن للمشتري والتصدق بالربح لحصوله له من وجه منهي عنه ومحظور عليه بنص الكتاب. التسعير معناه: التسعير معناه وضع ثمن محدد للسلع التي يراد بيعها بحيث لا يظلم المالك ولا يرهق المشتري. النهي عنه: روى أصحاب السنن بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله: ” إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق. وإني لازجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني مظلمة في دم ولا مال. وقد استنبط العلماء من هذا الحديث حرمة تدخل الحاكم في تحديد سعر السلع لان ذلك مظنة الظلم، والناس أحرار في التصرفات المالية، والحجر عليهم مناف


[ 105 ]

لهذه الحرية. ومراعاة مصلحة المشتري ليست أولى من مراعاة مصلحة البائع. فإذا تقابل الامران وجب تمكين الطرفين من الاجتهاد في مصلحتهما. قال الشوكاني: ” إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والامام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الامران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لانفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1). اه‍. ثم إن التسعير يؤدي إلى اختفاء السلع، وذلك يؤدي إلى ارتفاع الاسعار، وارتفاع الاسعار يضر بالفقراء، فلا يستطيعون شراءها، بينما يقوى الاغنياء على شرائها من السوق الخفية بغبن فاحش، فيقع كل منهما في الضيق والحرج ولا تتحقق لهما مصلحة. (هامش) (1) سورة النساء آية رقم 29. (.)


[ 106 ]

الترخيص فيه عند الحاجة إليه: على أن التجار إذ ظلموا وتعدوا تعديا فاحشا يضر بالسوق وجب على الحاكم أن يتدخل ويحدد السعر صيانة لحقوق الناس، ومنعا للاحتكار، ودفعا للظلم الواقع عليهم من جشع التجار. ولذلك يرى الامام مالك جواز التسعير، كما يرى بعض الشافعية جوازه أيضا في حالة الغلاء. كما ذهب إلى إجازته أيضا في السلع جماعة من أئمة الزيدية ومنهم: سعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعد الانصاري، كلهم يرون جواز التسعير إذا دعت مصلحة الجماعة لذلك… قال صاحب الهداية: (ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصر). الاحتكار تعريفه: الاحتكار هو شراء الشئ وحبسه ليقل بين


[ 107 ]

الناس فيغلو سعره (1) ويصيبهم بسبب ذلك الضرر. حكمه: والاحتكار حرمه الشارع ونهى عنه لما فيه من الجشع والطمع وسوء الخلق والتضييق على الناس. 1 – روى أبو داود والترمذي ومسلم عن معمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من احتكر فهو خاطئ). 2 – وروى أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه “. 3 – وذكر رزين في جامعه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ” بئس العبد المحتكر: إن سمع برخص ساءه، وإن سمع بغلاء فرح “. 4 – وروى ابن ماجة والحاكم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هامش) (1) بعض العلماء ضيق المواد التي يكون فيهها الاحتكار: فيرى الشافعي وأحمد أن الاحتكار لا يكون إلا في طعام لانه قوت الناس، ومنهم من وسعها. فيرى أن الاحتكار في أي شئ حرام لضرره حيث لا يكون الثمن متعادلا مع السلعة المحتكرة، ويرى بعضهم أنه إذا احتكر زرعه أو صنعة يده فلا بأس. (.)


[ 108 ]

” الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون “. والجالب هو الذي يجلب السلع ويبيعها بربح يسير. 5 – وروى أحمد والطبراني عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده ” بعظم من النار يوم القيامة “. متى يحرم الاحتكار: ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الاحتكار المحرم هو الاحتكار الذي توفر فيه شروط ثلاثة: 1 – أن يكون الشئ المحتكر فاضلا عن حاجته وحاجة من يعولهم سنة كاملة، لانه يجوز أن يدخر الانسان نفقته ونفقة أهله هذه المدة، كما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم. 2 – أن يكون قد انتظر الوقت الذي تغلو فيه السلع ليبيع بالثمن الفاحش لشدة الحاجة إليه. 3 – أن يكون الاحتكار في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى المواد المحتكرة من الطعام والثياب ونحوها. فلو كانت هذه المواد لدى عدد من التجار – ولكن لا يحتاج


[ 109 ]

الناس إليها – فإن ذلك لا يعد احتكارا، حيث لا ضرر يقع بالناس. الخيار هو طلب خير الامرين من الامضاء أو الالغاء، وهو أقسام نذكرها فيما يلي: خيار المجلس إذا حصل الايجاب والقبول من البائع والمشتري وتم العقد فلكل واحد منهما حق إبقاء العقد أو إلغائه ماداما في المجلس (أي محل العقد)، ما لم يتبايعا على أنه لا خيار. فقد يحدث أن يتسرع أحد المتعاقدين في الايجاب أو القبول، ثم يبدو له أن مصلحته تقتضي عدم إنفاذ العقد، فجعل له الشارع هذا الحق لتدارك ما عسى أن يكون قد فاته بالتسرع. روى البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما “.


[ 110 ]

أي أن لكل من المتبايعين حق إمضاء العقد أو إلغائه ماداما لم يتفرقا بالابدان، والتفرق يقدر في كل حالة بحسبها، ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث، فإن قاما معا أو ذهبا معا فالخيار باق. والراجح أن التفرق موكول إلى العرف، فما اعتبر في العرف تفرقا حكم به وما لا فلا. روى البيهقي عن عبد الله ابن عمر قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه مالا بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يردني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا. وإلى هذا ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين. وأخذ به الشافعي وأحمد من الائمة وقالا: إن خيار المجلس ثابت في البيع والصلح والحوالة والاجارة وفي كل عقود المعاوضات اللازمة التي يقصد منها المال (1). أما العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض مثل عقد (هامش) (1) خالف ذلك أبو حنيفة ومالك وقالا: إن خيار المجلس باطل. والعقد بالقول كاف لازم، وإذا وجب البيع فليس لاحدهما الخيار وإن كانا في المجلس. وحملا التفرق في الحديث على التفرق في الاقوال. (.)


[ 111 ]

الزواج والخلع فإنه لا يثبت فيها خيار المجلس. وكذلك العقود غير اللازمة كالمضاربة والشركة والوكالة. متى يسقط: ويسقط خيار الشرط بإسقاطهما له بعد العقد وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الاخر. وينقطع بموت أحدهما. خيار الشرط خيار الشرط هو أن يشتري أحد المتبايعين شيئا على أن له الخيار مدة معلومة وإن طالت (1) إن شاء أنفذ البيع في هذه المدة وإن شاء ألغاه، ويجوز هذا الشرط للمتعاقدين معا ولاحدهما إذا اشترطه. والاصل في مشروعيته: 1 – ما جاء عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار “. أي لا يلزم البيع بينهما حتى يتفرقا، إلا إذا اشترط أحدهما أو كلاهما شرط الخيار مدة معلومة. (هامش) (1) هذا مذهب أحمد: وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن مدة الخيار ثلاثة أيام فما دونها. وقال مالك: المدة مقدرة بقدر الحاجة. (.)


[ 112 ]

2 – وعنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخبر أحدهما الاخر فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع “. رواه الثلاثة. ومتى انقضت المدة المعلومة ولم يفسخ العقد لزم البيع. ويسقط الخيار بالقول كما يسقط بتصرف المشتري في السلعة التي اشتراها بوقف أو هبة أو سوم لان ذلك دليل رضاه. ومتى كان الخيار له فقد نفذ تصرفه. خيار العيب حرمه كتمان العيب عند البيع: يحرم على الانسان أن يبيع سلعة بها عيب دون بيانه للمشتري. 1 – فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ” المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه “. رواه أحمد وابن ماجه والدار قطني والحاكم والطبراني.


[ 113 ]

2 – وقال العداء بن خالد: كتب لي النبي، صلى الله عليه وسلم،: هذا ما اشتراه العداء بن خالد بن هوذه من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة، بيع المسلم من المسلم “. 3 – ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” من غشنا فليس منا “. حكم البيع مع وجود العيب: ومتى تم العقد وقد كان المشتري عالما بالعيب فإن العقد يكون لازما ولا خيار له لانه رضي به. أما إذا لم يكن المشتري عالما به ثم علمه بعد العقد فإن العقد يقع صحيحا، ولكن لا يكون لازما، وله الخيار بين أن يرد المبيع ويأخذ الثمن الذي دفعه إلى البائع وبين أن يمسكه ويأخذ من البائع من الثمن بقدر ما يقابل النقص الحاصل بسبب العيب، إلا إذا رضي به أو وجد منه ما يدل على رضاه، كأن يعرض ما اشتراه للبيع أو يستغله أو يتصرف فيه. قال ابن المنذر: إن الحسن وشريحا وعبد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري وأصحاب الرأي يقولون:


[ 114 ]

” إذا اشترى سعلة فعرضها للبيع بعد علمه بالعيب بطل خياره “. وهذا قول الشافعي. الاختلاف بين المتبايعين: إذا اختلف المتبايعان فيمن حدث عنده العيب مع الاحتمال ولا بينة لاحدهما فالقول قول البائع مع يمينه، وقد قضى به عثمان. وقيل: القول قول المشتري مع يمينه ويرده على البائع. شراء البيض الفاسد: من اشترى بيض الدجاج فكسره فوجده فاسدا رجع بكل الثمن على البائع إذا شاء، لان العقد في هذه الحال يكون فاسدا لعدم مالية المبيع، وليس عليه أن يرده إلى البائع لعدم الفائدة فيه. الخراج بالضمان: وإذا انفسخ العقد وقد كان للمبيع فائدة حدثت في المدة التي بقي فيها عند المشتري فإن هذه الفائدة يستحقها. فعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:


[ 115 ]

” الخراج بالضمان “. رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي. أي أن المنفعة التي تأتي من المبيع تكون من حق المشتري بسبب ضمانه له لو تلف عنده. فلو اشترى بهيمة واستغلها أياما ثم ظهر بها عيب سابق على البيع بقول أهل الخبرة فله حق الفسخ، وله الحق في هذا الاستغلال دون أن يرجع عليه البائع بشئ. وجاء في بعض الروايات: أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب. فقال البائع: غلة عبدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الغلة بالضمان “. رواه أبو داود وقال فيه: هذا إسناد ليس بذاك. خيار التدليس في البيع: إذا دلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن حرم عليه ذلك. وللمشتري خيار الرد ثلاثة أيام، وقيل إن الخيار يثبت له على الفور. أما الحرمة فللغش والتغرير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:


[ 116 ]

” من غشنا فليس منا “. وأما ثبوت خيار الرد فلقوله صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه عنه أبو هريرة: ” لا تصروا الابل والغنم (1) فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر ” (2) رواه البخاري ومسلم. قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في النهي عن الغش وأصل في أنه (أي التدليس) لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها. فإذا كان التدليس من البائع بدون قصد انتفت الحرمة مع ثبوت الخيار للمشتري دفعا للضرر عنه. خيار الغبن (3) في البيع والشراء: الغبن قد يكون بالنسبة للبائع، كأن يبيع ما يساوي خمسة بثلاثة. (هامش) (1) أي لا تتركوا لبنها في ضرعها أياما حتى يعظم فتشتد الرغبة فيها. (2) أي يرد معها صاعا من تمر أو شيئا من غالب قوتهم بدلا من اللبن الزائد عن نفقتها إذا كانت تعلف، أو ما يرتضيه المتعاقدان من قوت وغيره. (3) ويسمى بالمسترسل. (.)


[ 117 ]

وقد يكون بالنسبة للمشتري، كأن يشتري ما قيمته ثلاثة بخمسة. فإذا باع الانسان أو اشترى وغبن كان له الخيار في الرجوع في البيع وفسخ العقد، بشرط أن يكون جاهلا ثمن السلعة ولا يحسن المماكسة، لانه يكون حينئذ مشتملا على الخداع الذي يجب أن يتنزه عنه المسلم. فإذا حدث هذا كان له الخيار بين إمضاء العقد أو إلغائه. ولكن هل يثبت الخيار بمجرد الغبن؟ قيده بعض العلماء بالغبن الفاحش، وقيده بعضهم بأن يبلغ ثلث القيمة، وقيده البعض بمجرد الغبن. وإنما ذهبوا إلى هذا التقييد لان البيع لا يكاد يسلم من مطلق الغبن، ولان القليل يمكن أن يتسامح به في العادة. وأولى هذه الاراء أن الغبن يقيد بالعرف والعادة. فما اعتبره العرف والعادة غبنا ثبت فيه الخيار، وما لم يعتبراه لا يثبت فيه. وهذا مذهب أحمد ومالك، وقد استدلا عليه بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال:


[ 118 ]

ذكر رجل – اسمه حبان بن منقذ – للنبي صلى الله الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فقال: ” إذا بايعت فقل: لا خلابة ” (1). زاد ابن اسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الاعلى عنه: ” ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد “. فبقي ذلك الرجل حتى أدرك عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمن عثمان، فكان إذا اشترى شيئا، فقيل له: إنك غبنت فيه، رجع، فيشهد له رجل من الصحابة بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد جعله بالخيار ثلاثا، فترد له دراهمه. وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يثبت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين ما فيه غبن وغيره. وأجابوا عن الحديث المذكور: بأن الرجل كان ضعيف العقل، وإن كان ضعفه لم يخرج به عن حد التمييز، فيكون تصرفه مثل تصرف الصغير المميز (هامش) (1) أي لا خديعة. وظاهر هذا أن من قال ذلك ثبت له الخيار سواء غبن أم لم يغبن. (.)


[ 119 ]

المأذون له بالتجارة، فيثبت له الخيار مع الغبن، ولان الرسول، صلى الله عليه وسلم، لقنه أن يقول: لا خلابة، أي عدم الخداع، فكان بيعه وشراؤه مشروطين بعدم الخداع، فيكون من باب خيار الشرط. تلقي الجلب: ومن صور الغبن تلقي الجلب، وهو أن يقدم ركب التجارة بتجارة فيتلقاه رجل قبل دخولهم البلد وقبل معرفتهم السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، فإذا تبين لهم ذلك كان لهم الخيار دفعا للضرر، لما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن تلقي الجلب، وقال: ” لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار “. وهذا النهي للتحريم في قول أكثر العلماء. التناجش: ومنه أيضا التناجش، وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة لرفع سعرها ولا يريد شراءها ليغر غيره بالشراء بهذا السعر الزائد. وفي البخاري ومسلم عن ابن عمر: نهى رسول الله


[ 120 ]

صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو محرم باتفاق العلماء. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: ” واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة المالك أو صنعه. والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسا على المصراة، والاصح عندهم صحة البيع مع الاثم، وهو قول الحنفية “. ا ه‍. الاقالة من اشترى شيئا ثم ظهر له عدم حاجته إليه. أو باع شيئا بدا له أنه محتاج إليه. فلكل منهما أن يطلب الاقالة وفسخ العقد (1). وقد رغب الاسلام فيها ودعا إليها. روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هامش) (1) كما تصح من المضارب والشريك. (.)


[ 121 ]

” من أقال مسلما أقال الله عثرته “. وهي فسخ لا بيع. وتجوز قبل قبض البيع، ولا يثبت فيها خيار المجلس ولا خيار الشرط ولا شفعة فيها لانها ليست بيعا. وإذا انفسخ العقد رجع كل من المتعاقدين بما كان له، فيأخذ المشتري الثمن ويأخذ البائع العين المبيعة. وإذا تلفت العين المبيعة أو مات العاقد أو زاد الثمن أو نقص فإنها لا تصح. السلم تعريفه: السلم ويسمى السلف (1) وهو بيع شئ موصوف في الذمة بثمن معجل، والفقهاء تسميه: بيع المحاويج، لانه بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري السلعة، وصاحب السلعة محتاج إلى ثمنها قبل حصولها عنده لينفقها على نفسه وعلى زرعه حتى ينضج فهو من المصالح الحاجية. (هامش) (1) مأخوذ من التسليف وهو التقديم لان الثمن هنا مقدم على المبيع. (.)


[ 122 ]

ويسمي المشتري: المسلم، أو رب السلم. ويسمى البائع: المسلم إليه. والبيع: المسلم فيه، والثمن: رأس مال السلم. مشروعيته: وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والاجماع. 1 – قال ابن عباس، رضي الله عنهما،: ” أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه “. ثم قرأ قوله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتهم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (1) “. 2 – وروى البخاري ومسلم: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: ” من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم “. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز. (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 282. (.)


[ 123 ]

مطابقته لقواعد الشريعة: ومشروعية السلم مطابقة لمقتضى الشريعة ومتفقة مع قواعدها وليست فيها مخالفة للقياس، لانه كما يجوز تأجيل الثمن في البيع يجوز تأجيل المبيع في السلم، من غير تفرقة بينهما والله سبحانه وتعالى يقول: ” إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه “. والدين هو المؤجل من الاموال المضمونة في الذمة، ومتى كان المبيع موصوفا ومعلوما ومضمونا في الذمة، وكان المشتري على ثقة من توفية البائع المبيع عند حلول الاجل، كان المبيع دينا من الديون التي يجوز تأجيلها والتي تشملها الاية كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما. ولا يدخل هذا في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع المرء ما ليس عنده، كما جاء في قوله لحكيم بن حزام: ” لا تبع لا ليس عندك (1) “. فإن المقصود من هذا النهي أن يبيع المرء مالا قدرة له على تسليمه، لان مالا قدرة له على تسليمه ليس عنده حقيقة فيكون بيعه غررا ومغامرة. (هامش) (1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان. (.)


[ 124 ]

أما بيع الموصوف المضمون في الذمة مع غلبة الظن بإمكان توفيته في وقته، فليس من هذا الباب في شئ. شروطه: للسلم شروط لا بد من أن تتوفر فيه حتى يكون صحيحا. وهذه الشروط منها ما يكون في رأس المال. ومنها ما يكون في المسلم فيه. شروط رأس المال: أما شروط رأس المال فهي: 1 – أن يكون معلوم الجنس. 2 – أن يكون معلوم القدر. (3) أن يسلم في المجلس. شروط المسلم فيه: ويشترط في المسلم فيه: 1 – أن يكون في الذمة. 2 – وأن يكون موصوفا بما يؤدي إلى العلم بمقداره وأوصافه التي تميزه عن غيره، كي ينتي الغرر وينقطع النزاع. 3 – وأن يكون الاجل معلوما. وهل يجوز إلى الحصاد والجذاذ وقدوم الحاج إلى العطاء؟


[ 125 ]

فقال مالك: يجوز متى كانت معلومة كالشهور والسنين. اشتراط الاجل: ذهب الجمهور إلى اعتبار الاجل في السلم، وقالوا: لا يجوز السلم حالا. وقالت الشافعية: يجوز، لانه إذ جار مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى. وليس ذكر الاجل في الحديث لاجل الاشتراط بل معناه إن كان لاجل فليكن معلوما. قال الشوكاني: والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الاجل لعدم ورود دليل يدل عليه، فلا يلزم التقيد بحكم بدون دليل. وأما ما يقال: من أنه يلزم مع عدم الاجل أن يكون بيعا للمعدوم، ولم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الاجل: فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة، وذلك كاف. لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه: لا يشترط في السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه بل يراعى وجوده عند الاجل. ومتى انقطع المبيع عند


[ 126 ]

محل الاجل انفسخ العقد، ولا يضر انقطاعه قبل حلوله. روى البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى فقالا: سله هل كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، يسلفون في الحنطة؟ فقال عبد الله: كنا نسلف نبيط (1) أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزي، فسألته فقال: كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، يسلفون على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم نسألهم ألهم حرث أم لا. لا يفسد العقد بالسكوت عن موضع القبض: لو سكت المتعاقدان عن تعيين موضع القبض فالسلم صحيح ولو لم يتعين الموضع لانه لم يبين في الحديث. (هامش) (1) أهل الزراعة، وقيل: نصارى الشام. (.)


[ 127 ]

ولو كان شرطا لذكره الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الكيل والوزن والاجل. السلم في اللبن والرطب: قال القرطبي: ” وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة. وهي مبنية على قاعدة المصلحة، لان المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء، لان النقد قد لا يحضره، ولان السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد لان الذي عنده عروض لا ينصرف له، فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح “. اه‍. جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه: ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه مع بقاء عقد السلم، لانه يكون قد باع دين المسلم فيه قبل قبضه. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:


[ 128 ]

” من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره ” (1). وأجازه الامام مالك وأحمد. قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: ” إذا أسلفت في شئ إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين “. رواه شعبة وهو قول الصحابي، وقول الصحابي حجة ما لم يخالف. وأما الحديث ففيه عطية بن سعد وهو لا يحتج بحديثه. ورجح هذا ابن القيم فقال – بعد أن ناقش أدلة كل من الفريقين -: فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الاباحة. والواجب عند التنازع الرد إلى الله وإلى الرسول، صلى الله عليه وسلم. وأما إذا انفسخ عقد السلم بإقالة ونحوها. فقيل: لا يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه. (هامش) (1) رواه الدار قطني عن ابن عمر. (.)


[ 129 ]

وقيل: يجوز أخذ العوض عنه، وهو مذهب الشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وابن تيمية. قال ابن القيم: وهو الصحيح، لان هذا عوض مستقر في الذمة فحازت المعاوضة كسائر الديون من القرض وغيره.


[ 130 ]

الربا تعريفه: – الربا في اللغة: الزيادة، والمقصود به هنا: الزيادة على رأس المال، قلت أو كثرت. يقول الله سبحانه: ” وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ” (1). حكمه: – وهو محرم في جميع الاديان السماوية، ومحظور في اليهودية والمسيحية والاسلام. جاء في العهد القديم: (إذا أقرضت مالا لاحد من أبناء شعبي، فلا تقف منه موقف الدائن. لا تطلب منه ربحا لمالك). آية 25، فصل 22، من سفر الخروج. وجاء فيه أيضا: (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 279. (.)


[ 131 ]

(إذا افتقر أخوك فاحمله… لا تطلب منه ربحا ولا منفعة). آية 35، فصل 25، من سفر اللاويين. إلا أن اليهود لا يرون مانعا من أخذ الربا من غير اليهودي، كما جاء في آية 20، من الفصل 23، من سفر التثنية. وقد رد عليهم القرآن، ففي سورة النساء (1): (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه). وفي كتاب العهد الجديد: (إذا أقرضتم لمن تنتظرون منه المكافأة، فأي فضل يعرف لكم؟ ولكن افعلوا الخيرات، وأقرضوا غير منتظرين عائدتها. وإذن يكون ثوابكم جزيلا). آية 34 وآية 35، من الفصل 6، من إنجيل لوقا. واتفقت كلمة رجال الكنيسة على تحريم الربا تحريما قاطعا استنادا إلى هذه النصوص. قال سكوبار: (إن من يقول إن الربا ليس معصية يعد ملحدا (هامش) (1) سورة النساء آية رقم 269. (.)


[ 132 ]

خارجا عن الدين). وقال الاب بوني: (إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا، وليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم). وفي القرآن الكريم تحدث عن الربا في عدة مواضع مرتبة ترتيبا زمنيا، ففي العهد المكي نزل قول الله سبحانه: ” وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (1) “. وفي العهد المدني نزل تحريم الربا صراحة في قول الله سبحانه: ” يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم ترحمون (2) “. وآخر ما ختم به التشريع قول الله سبحانه: ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من (هامش) (1) سورة الروم آية رقم 39. (2) سورة آل عمران آية رقم 130. (.)


[ 133 ]

الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (1) “. وفي هذه الاية رد قاطع على من يقول: إن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافا مضاعفة، لان الله لم يبح إلا رد رءوس الاموال دون الزيادة عليها. وهذا آخر ما نزل في هذا الامر. وهو من كبائر الاثم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” اجتنبوا السبع الموبقات “. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات “. وقد لعن الله كل من اشترك في عقد الربا، فلعن الدائن الذي يأخذه، والمستدين الذي يعطيه، والكاتب الذي يكتبه، والشاهدين عليه. روى البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود، والترمذي وصححه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله، صلى الله (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 278، وآية رقم 279. (.)


[ 134 ]

عليه وسلم، قال: (لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه) روى الدار قطني عن عبد الله بن حنظلة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” الدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة “. وقال صلى الله عليه وسلم: ” الربا تسعة وتسعون بابا، أدناها كأن يأتي الرجل بأمه “. الحكمة في تحريم الربا: الربا محرم في جميع الاديان السماوية، والسبب في تحريمه ما فيه من ضرر عظيم: 1 – أنه يسبب العداوة بين الافراد، ويقصي على روح التعاون بينهم. والادبان كلها، ولا سيما الاسلام، تدعو إلى التعاون والايثار وتبغض الاثرة والانانية واستغلال جهد الاخرين. 2 – وأنه يؤدي إلى حلق طبقة مترفة لا تعمل شيئا، كما يؤدي إلى تضخيم الاموال في أيديها دون جهد مبذول، فتكون كالنباتات الطفيلية تنمو على حساب غيرها. والاسلام يمجد العمل ويكرم العاملين ويجعله أفضل وسيلة من وسائل الكسب، لانه يؤدي إلى المهارة، ويرفع


[ 135 ]

الروح المعنوية في الفرد. 3 – وهو وسيلة الاستعمار، ولذلك قيل: الاستعمار يسير وراء تاجر أو قسيس. ونحن قد عرفنا الربا وآثاره في استعمار بلادنا. 4 – والاسلام بعد هذا يدعو إلى أن يقرض الانسان أخاه قرضا حسنا إذا احتاج إلى المال ويثيب عليه أعظم مثوبة: ” وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ” (1). أقسامه: والربا قسمان: (1) ربا النسيئة (2) وربا الفضل. ربا النسيئة: وربا النسيئة (2) هو الزيادة المشروطة التي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل. وهذا النوع محرم بالكتاب والسنة وإجماع الائمة. (هامش) (1) سورة الروم آية رقم 39. (2) النسيئة: التأجيل والتأخير أي الربا الذي يكون بسبب التأجيل. (.)


[ 136 ]

ربا الفضل: وربا الفضل وهو بيع النقود بالنقود أو الطعام بالطعام مع الزيادة وهو محرم بالسنة والاجماع لانه ذريعة إلى ربا النسيئة. وأطلق عليه اسم الربا تجوزا. كما يطلق اسم المسبب على السبب. روى أبو سعيد الخدري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكم الرماء ” أي: الربا. فنهى عن ربا الفضل لما يخشاه عليهم من ربا النسيئة. وقد نص الحديث على تحريم الربا في ستة أعيان: الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح. فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: ” الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الاخذ والمعطي سواء “. رواه أحمد والبخاري.


[ 137 ]

علة التحريم: هذه الاعيان الستة التي خصها الحديث بالذكر تنتظم الاشياء الاساسية التي يحتاج الناس إليها والتي لا غنى لهم عنها. فالذهب والفضة هما العنصران الاساسيان للنقود تنضبط بها المعاملة والمبادلة، فهما معيار الاثمان الذي يرجع إليه في تقويم السلع. وأما بقية الاعيان الاربعة فهي عناصر الاغذية وأصول القوت الذي به قوام الحياة. فإذا جرى الربا في هذه الاشياء كان ضارا بالناس ومفضيا إلى الفساد في المعاملة، فمنع الشارع منه رحمة بالناس ورعاية لمصالحهم. ويظهر من هذا أن علة التحريم بالنسبة للذهب والفضة كونهما ثمنا، وأن علة التحريم بالنسبة لبقية الاجناس كونها طعاما. فإذا وجدت هذه العلة في نقد آخر غير الذهب والفضة أخذ حكمه، فلا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد. وكذلك إذا وجدت هذه العلة في طعام آخر غير القمح والشعير والتمر والملح، فإنه لا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد. روى مسلم عن معمر بن عبد الله عن النبي أنه نهى


[ 138 ]

عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل، فكل ما يقوم مقام هذه الاجناس الستة يقاس عليها ويأخذ حكمها، فإذا اتفق البدلان في الجنس والعلة حرم التفاضل وحرم النساء أي التأجيل. فإذا بيع ذهب بذهب أو قمح بقمح فإنه يشترط لصحة هذا التبادل شرطان: 1 – التساوي في الكمية بقطع النظر عن الجودة والرداءة للحديث المذكور، ولما رواه مسلم أن رجلا جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشئ من التمر، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم،: ما هذا من تمرنا؟ فقال الرجل: يارسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع. فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك الربا، ردوه ثم بيعوا تمرنا ثم اشتروا لنا من هذا. وروى أبو داود عن فضالة قال: أتي النبي، صلى الله عليه وسلم، بقلادة فيها ذهب وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير أو سبعة، فقال النبي: لا، حتى تميز بينهما. قال: فرده حتى ميز بينهما. ولمسلم: ” أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: الذهب بالذهب وزنا بوزن ” (1). (هامش) (1) أفاد ابن القيم يحل بيع المصوغات المباحة بأكثر من وزنها ذهبا، والمصوغات (.)


[ 139 ]

2 – عدم تأجيل أحد البدلين، بل لا بد من التبادل الفوري، لقوله صلى الله عليه وسلم: ” إذا كان يدا بيد “. وفي هذا يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، ” لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا (1) بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز “. رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد. وإذا اختلف البدلان في الجنس واتحدا في العلة حل التفاضل وحرم النساء. فإذا بيع ذهب بفضة أو قمح بشعير فهنا يشترط شرط واحد وهو الفورية، ولا يشترط التساوي في الكم بل يجوز التفاضل. روى أبو داود أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما، يدا بيد “. وفي حديث عبادة عند أحمد ومسلم: ” فإذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم إذا (هامش) الفضية المباحة بأكثر من وزنها فضة. (1) تشفوا: تفضلوا. (.)


[ 140 ]

كان يدا بيد “. وإذا اختلف البدلان في الجنس والعلة فإنه لا يشترط شئ فيحل التفاضل والنساء. فإذا بيع الطعام بالفضة حل التفاضل والتأجيل، وكذا إذا بيع ثوب بثوبين أو إناء بإناءين. والخلاصة أن كل ما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيه الربا، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ونسيئة، ويجوز فيه التفرق قبل التقابض، فيجوز بيع شاة بشاتين نسيئة، ونقدا، وكذلك شاة بشاة لحديث عمرو بن العاص (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة). أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. ورواه البيهقي، وقوى الحافظ بن حجر إسناده. وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس، وإلى هذا ذهب الشافعي. بيع الحيوان بلحم: قال جمهور الائمة: لا يجوز بيع حيوان يؤكل بلحم


[ 141 ]

من جنسه (1)، فلا يجوز بيع بقرة مذبوحة ببقرة حيه يقصد منها الاكل، لما رواه سعيد بن المسيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الحيوان باللحم. رواه مالك في المطإ عن سعيد مرسلا وله شواهد. قال الشوكاني: ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه، وروى البيهقي عن أهل المدينة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى أن يباح حي بميت، ثم قال، أي البيهقي: وهذا مرسل يؤكد مرسل ابن المسيب. بيع الرطب باليابس: ولا يجوز بيع الرطب بما كان يابسا إلا لاهل العرايا، وهم الفقراء الذين لانخل لهم، فلهم أن يشتروه من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجره بخرصه ثمرا. روى مالك وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك. (هامش) (1) عند الحنابلة يصح بيع اللحم بحيوان من غير جنسه، كقطعة من لحم الابل بشاة، لانه ليس أصله ولا جنسه. (.)


[ 142 ]

روى البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. أي يبيع الرجل ثمر حائطه (بستانه) إن كان نخلا بتمر كيلا. وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا. وإن كان زرعا أن يبيع بكيل طعام. نهى عن ذلك كله. وروى البخاري عن زيد بن ثابت: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا. بيع العينة: بيع العينة نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لانه ربا وإن كان في صورة بيع وشراء. ذلك أن الانسان المحتاج إلى النقود يشتري سلعة بثمن معين إلى أجل، ثم يبيعها ممن اشتراها منه بثمن حال أقل فيكون الفرق هو فائدة المبلغ الذي أخذه عاجلا. وهذا البيع حرام ويقع باطلا (1). 1 – روى ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (هامش) (1) وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويرى غيرهم جوازه ومنهم الشافعي لتحقق ركنه، ولا عبرة بالنية التي لا يمكن تحققها يقينا. (.)


[ 143 ]

” إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم “. أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه. وقال الحافظ بن حجر: رجاله ثقات. 2 – وقالت العالية (1) بنت أيفع بن شرحبيل: ” دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، ثم اشتريته بستمائة درهم نقدا، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب “. أخرجه مالك والدار قطني. (هامش) (1) هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي البيعي. (.)


[ 144 ]

القرض معناه: القرض هو المال الذي يعطيه المقرض للمقترض ليرد مثله إليه عند قدرته عليه، وهو في أصل اللغة: القطع. وسمي المال الذي يأخذه المقترض بالقرض لان المقرض يقطعه قطعة من ماله. مشروعيته: وهو قربة يتقرب بها إلى الله سبحانه، لما فيه من الرفق بالناس، والرحمة بهم، وتيسير أمورهم، وتفريج كربهم. وإذا كان الاسلام ندب إليه وحبب فيه بالنسبة للمقترض فإنه أباحه للمقترض، ولم يجعله من باب المسألة المكروهة لانه يأخذ المال لينتفع به في قضاء حوائجه ثم يرد مثله. 1 – روى أبو هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم،


[ 145 ]

” من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه “. رواه مسلم وأبو داود والترمذي. 2 – وعن ابن مسعود: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة “. رواه ابن ماجه وابن حبان. 3 – وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل. ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لان السائل يسأل وعنده. والمستقرض لا يستقرض إلامن حاجة “. عقد القرض: وعقد القرض عقد تمليك فلا يتم إلا ممن يجوز له التصرف، ولا يتحقق إلا بالايجاب والقبول فقه السنة – 10


[ 146 ]

كعقد البيع والهبة. وينعقد بلفظ القرض و السلف، وبكل لفظ يؤدي إلى معناه. وعند المالكية أن الملك يثبت بالعقد ولو لم يقبض المال. ويجوز للمقترض أن يرد مثله أو عينه، سواء أكان مثليا أم غير مثلي، ما لم يتغير بزيادة أو نقص. فإن تغير وجب رد المثل. اشتراط الاجل فيه: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز اشتراط الاجل في القرض، لانه تبرع محض. وللمقرض أن يطالب ببذله في الحال. فإذا أجل القرض إلى أجل معلوم لم يتأجل وكان حالا. وقال مالك: يجوز اشتراط الاجل، ويلزم الشرط. فإذا أجل القرض إلى أجل معلوم تأجل، ولم يكن له حق المطالبة قبل حلول الاجل، لقول الله تعالى: ” إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ” (1). ولما رواه عمر وبن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” المسلمون عند شروطهم “. (هامش) (1) سورة البقرة آية 282. (.)


[ 147 ]

رواه أبو داود وأحمد والترمذي والدارقطني. ما يصح فيه القرض: يجوز قرض الثياب والحيوان، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم استلف بكرا (1). كما يجوز قرض ما كان مكيلا أو موزونا، أو ما كان من عروض التجارة. كما يجوز قرض الخبز والخمير، لحديث عائشة: ” قلت يارسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصانا، فقال: لا بأس. إنما ذلك من مرافق الناس، لا يراد به الفضل “. وعن معاذ أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير فقال: ” سبحان الله، إنما هذا من مكارم الاخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء. سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك “. كل قرض جرنفعا فهو ربا: إن عقد القرض يقصد به الرفق بالناس ومعاونتهم على شئون العيش وتيسير وسائل الحياة، وليس هو وسيلة من (هامش) (1) البكر: الثني من الابل، وهو بمنزلة الفتى من الناس. (.)


[ 148 ]

وسائل الكسب، ولا أسلوبا من أساليب الاستغلال. ولهذا لا يجوز أن يرد المقترض إلى المقرض إلا ما اقترضه منه أو مثله، تبعا للقاعدة الفقهية القائلة: كل قرض جر نفعا فهو ربا (1). والحرمة مقيدة هنا بما إذا كان نفع القرض مشروطا أو متعارفا عليه. فإن لم يكن مشروطا ولامتعارفا عليه، فللمقترض أن يقضي خيرا من القرض في الصفة أو يزيد عليه في المقدار، أو يبيع منه داره إن كان قد شرط أن يبيعها منه، وللمقرض حق الاخذ دون كراهة، لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. عن أبي رافع قال: استلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكرا، فقلت: لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا (2)، (هامش) (1) هذه القاعدة صحيحة شرعا، وإن كان لم يثبت فيها حديث: والحديث الذي جاء فيها عن علي إسناه ساقط. قال الحافظ: وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد عند البيهقي، وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام عند البخاري. (2) الخبار: المختار. والرباعي: الذي استكمل ست سنين، ودخل في السابعة. (.)


[ 149 ]

فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: ” أعطه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء “. وقال جابر بن عبد الله: ” كان لي على رسول الله حق فقضاني وزادني “. رواه أحمد والبخاري ومسلم. التعجيل بقضاء الدين قبل الموت: 1 – روى الامام أحمد أن رجلا سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أخيه، مات وعليه دين، فقال: ” هو محبوس بدينه، فاقض عنه “. فقال يا رسول الله: ” قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة “. فقال: ” أعطها فإنها محقة “. 2 – وروي أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن جاهدت بنفسي ومالي فقتلت صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أدخل الجنة؟ قال: نعم. فقال ذلك مرتين أو ثلاثا. قال: ” إلا ان مت وعليك دين وليس عندك وفاء “.


[ 150 ]

وأخبرهم (1) بتشديد أنزل، فسألوه عنه فقال: ” الدين. والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله ما دخل الجنة حتى يقضي دينه “. 3 – وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يصلي على رجل مات وعليه دين. فأتي بميت، فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة الانصاري: هما علي يا رسول الله. قال: فصلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فلما فتح الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته “. أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. 4 – وحديث البخاري عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: من أخذ أموال الناس يريد (هامش) (1) أي الرسول صلى الله عليه وسلم. (.)


[ 151 ]

أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله “. مطل الغني ظلم: عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع ” (1). رواه أبو داودو غيره. استحباب إنظار المعسر: يقول الله سبحانه: ” وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ” (2). 1 – وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى ثم وجده، فقال: إني معسر، فقال: الله (3)؟ قال: فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ” من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس (هامش) (1) أي إذا أحيل على غني فليقبل الاحالة. (2) سورة البقرة آية رقم 280. (3) الهمزة الاولى ممدودة على الاستفهام والثانية من غير مدوالهاء فيهما مكسورة. (.)


[ 152 ]

عن معسر أو يضع عنه “. وعن كعب بن عمر قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ” من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله في ظله “. ضع وتعجل: ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم وضع قدر من الدين نظير التعجيل بالقضاء قبل الاجل المتفق عليه. فمن أقرض غيره قرضا إلى أجل، ثم قال المقرض للمقترض: أضع عنك بعض الدين نظير أن ترد الباقي قبل الاجل فإنه يحرم. ويروي ابن عباس وزفر جواز ذلك، لما رواه ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ضعوا وتعجلوا “.


[ 153 ]

الرهن تعريفه: يطلق الرهن في اللغة على الثبوت والدوام، كما يطلق على الحبس. فمن الاول قولهم: نعمة راهنة، أي ثابتة ودائمة. ومن الثاني قوله تعالى: ” كل نفس بما كسبت رهينة ” (1). أي محبوسة بكسبها وعملها. وأما معناه في الشرع: فقد عرفه العلماء بأنه جعل عين لها قيمة مالية في نظر الشرع وثيقة بدين (2)، بحيث يمكن أخذ ذلك الدين، أو أخذ بعضه من تلك العين. فإذا استدان شخص دينا من شخص آخر وجعل له في (هامش) (1) سورة المدثر آية رقم 38. (2) شيئا مستوثقا به، وذلك لان الدين أصبح بحبس هذه العين محكما لابد من أدائه أو تضيع على المدين العين المرهونة كلها أو بعضها بحسب ذلك الدين. (.)


[ 154 ]

في نظير ذلك الدين عقارا أو حيوانا محبوسا تحت يده حتى يقضيه دينه، كان ذلك هو الرهن شرعا. ويقال لمالك العين المدين: ” راهن “، ولصاحب الدين الذي يأخذ العين ويحبسها تحت يده نظير دينه: ” مرتهن ” كما يقال للعين المرهونة نفسها: ” رهن “. مشروعيته: الرهن جائز، وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب: فلقول الله تعالى: ” وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أوتمن أمانته وليتق الله ربه (1) “. وأما السنة: فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي. طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” كذب، إني لامين في الارض، أمين في السماء، ولو ائتمنني لاديت، اذهبوا إليه بدرعي “. (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 283. (.)


[ 155 ]

وروى البخاري وغيره عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: ” اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما ورهنه درعه “. وقد أجمع العلماء على ذلك، ولم يختلف في جوازه ولا مشروعيته أحد، وإن كانوا قد اختلفوا في مشروعيته في الحضر. فقال الجمهور: يشرع في الحضر، كما يشرع في السفر، لفعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، له وهو مقيم بالمدينة، وأما تقيده بالسفر في الآية فإنه خرج مخرج الغالب، فإن الرهن غالبا يكون في السفر. وقال مجاهد والضحاك، والظاهرية: لايشرع الرهن إلا في السفر استدلالا بالآية. والحديث حجة عليهم. شروط صحته: يشترط لصحة عقد الرهن الشروط الآتية: أولا: العقل. ثانيا: البلوغ. ثالثا: أن تكون العين المرهونة (1) موجودة وقت (هامش) (1) قال القرطبي: لما قال الله تعالى ” فرهان مقبوضة ” قال علماؤنا: فيه ما (.)


[ 156 ]

العقد، ولو كانت مشاعة. رابعا: أن يقبضها المرتهن أو وكيله. قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم. وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، ومتى قبضه المرتهن فإن الراهن يملك الانتفاع به، خلافا للشافعي الذي قال: بأن له حق الانتفاع ما لم يضر بالمرتهن. انتفاع المرتهن بالرهن: عقد الرهن عقد يقصد به الاستيثاق وضمان الدين وليس المقصود منه الاستثمار والربح، وما دام ذلك كذلك فإنه لا يحل للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة، ولو أذن له الراهن، لانه قرض جر نفعا، وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وهذا في حالة ما إذا لم يكن الرهن دابة تركب أو بهيمة تحلب، فإن كان دابة أو بهيمة فله أن ينتفع بها (هامش) يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع خلافا لابي حنيفة وأصحابه. قال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه وقال الاحناف: يجب أن تكون العين المرهونة متميزة فلا يصح رهن المشاع سواء أكان عقارا أم حيوانا أم عروض تجارة أم غيرذلك. وخالف في ذلك الائمة الثلاثة. (.)


[ 157 ]

نظير النفقة عليها فإن قام بالنفقة عليها كان له حق الانتفاع، فيركب ما أعد للركوب كالابل والخيل والبغال ونحوها ويحمل عليها، ويأخذ لبن البهيمة كالبقر والغنم ونحوها (1). والادلة على ذلك ما يأتي: (أ) عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا، والظهر يركب (2) بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة “. قال أبو داود: وهو عندنا صحيح، وقد أخرجه آخرون منهم البخاري والترمذي وابن ماجه. (ب) وعن أبي هريرة أيضا، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: ” الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب (هامش) (1) هذا مذهب أحمد وإسحاق، وخالف في ذلك الجمهور من العلماء وقالوا: لا ينتفع المرتهن بشئ. والحديث التالي حجة عليهم. (2) فاعل يركب ويشرب المرتهن بقرينة العوض وهو الركوب، واحتمال أنه الراهن بعيد. (.)


[ 158 ]

النفقة “. رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وفي لفظ: ” إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته “. رواه أحمد، رضي الله عنه. (ج‍) وعن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” الرهن محلوب مركوب ” أو ” مر كوب محلوب ” كما جاء في رواية أخرى. مؤونة الرهن ومنافعه: مؤونة الرهن وأجرة حفظه وأجرة رده على مالكه. ومنافع الرهن للراهن، ونماؤه يدخل في الرهن، ويكون رهنا مع الاصل، فيدخل فيه الولدوالصوف والثمرة واللبن، لقوله صلى الله عليه وسلم: ” له غنمه، وعليه غرمه “. وقال الشافعي: لايدخل شئ من ذلك في الرهن. وقال مالك: لايدخل إلا الولد وفسيل النخل. فإذا أنفق المرتهن على الرهن بإذن الحاكم مع غيبة الراهن وامتناعه كان دينا للمنفق على الراهن.


[ 159 ]

الرهن أمانة: والرهن امانة في يد المرتهن، لا يضمن إلا بالتعدي عند أحمد والشافعي. بقاء الرهن حتى يؤدى الدين: قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من رهن شيئا بمال فأدى بعضه وأراد إخراج بعض الرهن فإن ذلك ليس له حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه. غلق الرهن: كان من عادة العرب أن الراهن إذا عجز عن أداء ما عليه من دين خرج الرهن عن ملكه، واستولى عليه المرتهن، فأبطله الاسلام ونهى عنه. ومتى حل الاجل لزم الراهن الايفاء وأداء ما عليه من دين، فإن امتنع من وفائه ولم يكن أذن له ببيع الرهن أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن باعه وفضل من ثمنه شئ فلمالكه، وإن بقي شئ فعلى الراهن. ففي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر: أن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل مسمى، فمضى الاجل، فقال الذي ارتهن: منزلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:


[ 160 ]

” لا يغلق الرهن (1) من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه “. رواه الشافعي والاثرم والدارقطني، وقال: إسناده حسن متصل. قال الحافظ بن حجر في بلوغ المرام: ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله. اشتراط بيع الرهن عند حلول الاجل: فإذا اشترط بيع الرهن عند حلول الاجل جاز هذا الشرط وكان من حق المرتهن أن يبيعه، خلافا للامام الشافعي الذي يرى بطلان الشرط. بطلان الرهن: ومتى رجع الرهن إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن. (هامش) (1) غلق الرهن: أي لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه، وهومن باب فرح. (.)


[ 161 ]

المزارعة فضل المزارعة: قال القرطبي: الزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الامام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الاشجار. 1 – روى البخاري ومسلم عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا (1) فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة “. 2 – وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: ” التمسوا الرزق من خبايا الارض “. (هامش) (1) الغرس: ماله ساق كالنخل والعنب، والزرع: مالاساق له مثل القمح والشعير. (.) فقه السنة – 11


[ 162 ]

تعريفها: معنى المزارعة في اللغة: المعاملة على الارض ببعض مايخرج منها. ومعناها هنا: إعطاء الارض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الاكثر من ذلك أو الادنى حسب ما يتفقان عليه. مشروعيتها: الزراعة نوع من التعاون بين العامل وصاحب الارض، فربما يكون العامل ماهرا في الزراعة وهو لا يملك أرضا. وربماكان مالك الارض عاجزا عن الزراعة. فشرعها الاسلام رفقا بالطرفين. المزارعة عمل بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمل بها أصحابه من بعده. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر مايخرج منها من زرع أو ثمر. وقال محمد الباقر بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما بالمدينة أهل بيت هجرة (1) إلا يزرعون على الثلث (هامش) (1) يقصد المهاجرين. (.)


[ 163 ]

والربع، وزارع علي، رضي الله عنه، وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين. رواه البخاري. قال في المغني: ” هذا أمر مشهور، عمل به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم. ولم يبق من المدينة من أهل بيت إلا عمل به، وعمل به أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، من بعده. ومثل هذا مما لا يجوز أن ينسخ، لان النسخ إنما يكون في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأما شئ عمل به إلى أن مات، ثم عمل به خلفاؤه من بعده، وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه، وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد، فكيف يجوز نسخه؟ فإن كان نسخه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف عمل به بعد نسخه، وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها، فأين كان راوي النسخ حتى لم يذكروه ولم يخبرهم به؟


[ 164 ]

رد ما ورد من النهي عنها: وأما ما ذكره رافع بن خديج أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فقدرده زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأخبر أن النهي كان لفض النزاع، فقال: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه. إنما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم رجلان من الانصار قد اقتتلا، فقال: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع، فسمع رافع قوله: فلا تكروا المزارع. رواه أبو داود والنسائي. كما رده ابن عباس رضيا لله عنه، وبين أن النهي إنما كان من أجل إرشادهم إلى ما هو خير لهم، فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحرم المزارعة، ولكن أمر أن يرفق الناس بعضهم ببعض، بقوله: ” من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه “. وعن عمرو بن دينار، رضي الله عنه، قال: سمعت ابن عمر يقول:


[ 165 ]

ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عنها. فذكرته لطاووس فقال: قال لي أعلمهم ” يقصد ابن عباس “: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم ينه عنها، ولكن قال: ” لان يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما “. رواه الخمسة. كراء الارض بالنقد: تجوز المزارعة بالنقد وبالطعام وبغيرهما مما يعد مالا، فعن حنظلة بن قيس، رضيا لله عنه، قال: سألت رافع ابن خديج عن كراء الارض فقال: نهى رسول الله، صلى عليه وسلم، عنه فقلت: بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به. رواه الخمسة إلا الترمذي، وهذا مذهب أحمد وبعض المالكية والشافعية. قال النووي: وهذا هو الراجح المختار من جميع الاقوال. المزارعة الفاسدة: سبق أن قلنا إن المزارعة الصحيحة هي إعطاء الارض


[ 166 ]

لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها، كالثلث والربع ونحو ذلك، أي أن يكون نصيبه غير معين. فإذا كان نصيبه معينا بأن يحدد مقدارا معينا مما تخرج الارض، أو يحدد قدرا معينا من مساحة الارض تكون غلتهاله، والباقي يكون للعامل أو يشتر كان فيه: فإن المزارعة في هذه الحال تكون فاسدة، لما فيها من الغرر ولانها تفضي إلى النزاع. روى البخاري عن رافع بن خديج قال: ” كنا أكثر أهل الارض (أي المدينة) مزروعا. كنا نكري الارض بالناحية منها تسمى لسيد الارض، فربما يصاب ذلك وتسلم الارض، وربما تصاب الارض ويسلم ذلك، فنهينا “. وروي أيضا عنه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” ما تصنعون بمحاقلكم ” – المزارع. قالوا: نؤجرها على الربع، وعلى الاوسق من التمر والشعير. قال: ” لا تفعلوا “.


[ 167 ]

وروى مسلم عنه قال: وإنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما على الماديانات – ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء وأقيال الجداول – أوائل السواقي – وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كري إلا هذا، فلذلك زجر عنه.


[ 168 ]

احياء الموات معناه: إحياء الموات معناه إعداد الارض الميتة التي لم يسبق تعميرها وتهيئتها وجعلها صالحة للانتفاع بها في السكنى والزرع ونحو ذلك. الدعوة إليه: والاسلام يحب أن يتوسع الناس في العمران وينشروا في الارض ويحيوا مواتها فتكثر ثرواتهم ويتوفر لهم الثراء والرخاء، وبذلك تتحقق لهم الثروة والقوة. وهو لذلك يحبب إلى أهله أن يعمدوا إلى الارض الميتة ليحيوا مواتها ويستثمروا خيراتها وينتفعوا ببركاتها. 1 – فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” من أحيا أرضا ميتة فهي له “. رواه أبو داودو النسائي والترمذي وقال: إنه حسن.


[ 169 ]

2 – وقال عروة: إن الارض أرض الله والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتا فهو أحق بها. جاءنا بهذا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين جاؤوا بالصلوات عنه. 3 – وقال: ” من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكله العوافي (1) فهو له صدقة “. رواه النسائي وصححه ابن حبان. 4 – وعن الحسن بن سمرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من أحاط حائطا على أرض فهي له “. رواه أبو داود. 5 – وعن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فبايعته، فقال: ” من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له “. فخرج الناس يتعادون يتحاطون (2). شروط إحياء الموات: يشترط لاعتبار الارض مواتا أن تكون بعيدة عن (هامش) (1) العوافي: الطير والسباع. (2) يتحاطون: أي يحيطون ما أحرزوه بما يفيد إحرازهم له. (.)


[ 170 ]

العمران، حتى لا تكون مرفقا من مرافقه، ولا يتوقع أن تكون من مرافقه. ويرجع إلى العرف في معرفة مدى البعد عن العمران. إذن الحاكم: اتفق الفقهاء على أن الاحياء سبب للملكية. واختلفوا في اشتراط إذن الحاكم في الاحياء. فقال أكثر العلماء: إن الاحياء سبب للملكية من غير اشتراط إذن الحاكم، فمتى أحياها أصبح مالكا لها من غير إذن من الحاكم. وعلى الحاكم أن يسلم بحقه إذا رفع إليه الامر عند النزاع، لما رواه أبو داود عن سعيد بن زيد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من أحيا أرضا ميتة فهي له “. وقال أبو حنيفة: الاحياء سبب للملكية، ولكن شرطها إذن الامام وإقراره. وفرق مالك بين الاراضي المجاورة للعمران والارض البعيدة عنه. فإن كانت مجاورة فلا بد فيها من إذن الحاكم. وإن كانت بعيدة فلا يشترط فيها إذنه، وتصبح ملكا لمن أحياها.


[ 171 ]

متى يسقط الحق: من أمسك أرضا وعلمها بعلم أو أحاطها بحائط ثم لم يعمرها بعمل سقط حقه بعد ثلاث سنين. عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال على المنبر: من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين. وذلك أن رجالا كانوا يحتجرون من الارض ما لا يعملون (1). وعن طاووس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: ” عادي الارض لله وللرسول، ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر بعد ثلاث سنين ” (2). من أحيا أرض غيره دون علمه: إن ما جرى عليه عمل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز: أنه إذا عمر المرء أرضا من الاراضي ظانا إياها من الاراضي الساقطة، أي غير المملوكة لاحد، ثم جاء رجل (هامش) (1) أي لا يستثمرونه. (2) رواه أبو عبيد في الاموال وقال: عادي الارض التي بها مساكن في آباد الدهر فانقرضوا. نسبهم إلى عاد لانهم مع تقدمهم ذوو قوة وآثار كثيرة. فنسب كل أثر قديم إليهم. (.)


[ 172 ]

آخر وأثبت أنها له، خير في أمره: إما أن يسترد من العامر أرضه بعد أن يؤدي إليه أجرة عمله، أو يحيل إليه حق الملكية بعد أخذ الثمن. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق ” (1). إقطاع الارض والمعادن والمياه: يجوز للحاكم العادل أن يقطع بعض الافراد من الارض الميتة والمعادن والمياه ما دامت هناك مصلحة (2). وقد فعل ذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما فعله الخلفاء من بعده، كما يتضح من الاحاديث الاتية: 1 – عن عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعني رسول الله، صلى الله عليه سلم، وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، فذهب الزبير إلى آل عمر فاشترى نصيبه منهم فأتى عثمان فقال: إن عبد الرحمن ابن عوف زعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطعه (هامش) (1) كتاب ملكية الارض. (2) إذا لم تكن هناك مصلحة من الاقطاع كما يفعل الحكام الظالمون من إعطاء بعض الافراد محاباة له بغير حق فإنه لا يجوز. (.)


[ 173 ]

وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان: عبد الرحمن جائز الشهادة له وعليه. رواه أحمد. 2 – وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطعه أرضا في حضر موت. 3 – وعن عمر بن دينار قال: لما قدم النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة أقطع أبا بكر وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 4 – وعن ابن عباس قال: أقطع النبي، صلى الله عليه وسلم، بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها (1) وغوريها. أخرجه أحمد وأبو داود. قال أبو يوسف: ” فقد جاءت هذه الاثار بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطع أقواما، وأن الخلفاء من بعده أقطعوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك، إذ كان فيه تأليف على الاسلام وعمارة الارض. وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له غناء في الاسلام ونكاية (هامش) (1) القبلية: نسبة إلى قبل مكان بساحل البحر. والجلس: المرتفع من الارض، والغور: المنخفض منها. (.)


[ 174 ]

للعدو، ورأوا أن الافضل ما فعلوا، ولو لا ذلك لم يأتوه، ولم يقطعوا حق مسلم ولا معاهد “. نزع الارض ممن لا يعمرها: وإنما يقطع الحاكم من أجل المصلحة، فإذا لم تتحقق بأن لم يعمرها من أقطع له ولم يستثمرها فإنها تنزع منه. 1 – عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقطع لاناس من مزينة أو جهينة أرضا فلم يعمروها فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهنيون أو المزنيون إلى عمر بن الخطاب فقال: لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها. 2 – وعن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، قال: فلما كان زمان عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجره عن الناس، إنما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي.


[ 175 ]

هلاك المبيع قبل القبض وبعده 1 – إذا هلك البيع كله أو بعضه قبل القبض بفعل المشتري، فإن البيع لا ينفسخ، ويبقى العقد كما هو، وعليه أن يدفع الثمن كله لانه هو المتسبب في الهلاك. 2 – وإذا هلك بفعل أجنبي فإن المشتري بالخيار بين الرجوع على هذا الاجنبي وبين فسخ العقد. 3 – ويفسخ البيع إذا هلك المبيع كله قبل القبض بفعل البائع أو بفعل المبيع نفسه أو بآفة سماوية. 4 – فإذا هلك بعض المبيع بفعل البائع سقط عن المشتري من الثمن بقدر الجزء الهالك. ويخير في الباقي بأخذه بحصته من الثمن. 5 – أما إذا كان هلاك بعض المبيع بفعل نفسه فإنه لا يسقط شئ من ثمنه، والمشتري مخير بين فسخ العقد وبين أن يأخذ ما بقي بجميع الثمن.


[ 176 ]

6 – وإذا كان الهلاك بآفة سماوية ترتب عليها نقصان قدره، فيسقط من الثمن بقدر النقصان الحادث، ثم يكون المشتري بالخيار بين فسخ العقد وبين أخذ الباقي بحصته من الثمن. هلاك المبيع بعد القبض: إذا هلك المبيع بعد القبض كان من ضمان المشتري. ويلزم بثمنه إن لم يكن فيه خيار للبائع، وإلا فيلزم بالقيمة أو المثل


[ 177 ]

الاجارة تعريفها: الاجارة مشتقة من الاجر وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرا. وفي الشرع: عقد على المنافع بعوض، فلا يصح استئجار الشجر من أجل الانتفاع بالثمر، لان الشجر ليس منفعة، ولا استئجار النقدين، ولا الطعام للاكل، ولا المكيل والموزون لانه لا ينتفع بها إلا باستهلاك أعيانها. وكذلك لا يصح استئجار بقرة أو شاة أو ناقة لحلب لبنها لان الاجارة تملك المنافع، وفي هذه الحال تملك اللبن وهو عين. والعقد يرد على المنفعة لا للعين… والمنفعة قد تكون منفعة عين، كسكنى الدار، أو ركوب السيارة… فقه السنة – 12


[ 178 ]

وقد تكون منفعة عمل، مثل عمل المهندس والبناء والنساج والصباغ والخياط والكواء، وقد تكون منفعة الشخص الذي يبذل جهده، مثل الخدم والعمال… والمالك الذي يؤجر المنفعة يسمى: مؤجرا. والطرف الاخز الذي يبذل الاجر يسمى: مستأجرا. والشئ المعقود عليه المنفعة يسمى: مأجورا. والبذل المبذول في مقابل المنفعة يسمى: أجرا وأجرة. ومتى صح عقد الاجارة ثبت للمستأجر ملك المنفعة. وثبت للمؤجر ملك الاجرة، لانها عقد معاوضة. مشروعيتها: الاجارة مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع. يقول الله سبحانه وتعالى: 1 – أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ” (1). ويقول جل شأنه: 2 – ” وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح (هامش) (1) سورة الزخرف آية رقم 32. (.)


[ 179 ]

عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ” (1). ويقول عزوجل: 3 – ” قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين. قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجر ني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ” (2). وجاء في السنة ما يأتي: 1 – روى البخاري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استأجر رجلا من بني الديل (3) يقال له: عبد الله بن الاريقط وكان هاديا خريتا أي ماهرا. 2 – وروى ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه “. 3 – وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن سعد بن (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 233. (2) سورة القصص الاية رقم 26 و 27. (3) حي من عبد قيس. (.)


[ 180 ]

أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: ” كنا نكري الارض بما على السواقي من الزرع “. فنهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وأمرنا أن نكريها يذهب أو ورق. 4 – وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم،: ” احتجم وأعطى الحجام أجره “. وعلى مشروعية الاجارة أجمعت الامة، ولا عبرة بمن خالف هذا الاجماع من العلماء. حكمة مشروعيتها: وقد شرعت الاجارة لحاجة الناس إليها، فهم يحتاجون إلى الدور للسكنى، ويحتاج بعضهم لخدمة بعض، ويحتاجون إلى الدواب للركوب والحمل، ويحتاجون إلى الارض للزراعة، وإلى الالات لا ستعمالها في حوائجهم المعاشية. ركنها: والاجارة تنعقد بالايجاب والقبول بلفظ الاجارة والكراء وما اشتق منهما، وبكل لفظ يدل عليها. شروط العاقدين: ويشترط في كل من العاقدين الاهلية بأن يكون كل منهما عاقلا مميزا، فلو كان أحدهما مجنونا أو صبيا غير مميز فإن العقد لا يصح.


[ 181 ]

ويضيف الشافعية والحنابلة شرطا آخر وهو البلوغ. فلا يصح عندهم عقد الصبي ولو كان مميزا. شروط صحة الاجارة: ويشترط لصحة الاجارة الشروط الاتية: 1 – رضا العاقدين. فلو أكره أحدهما على الاجارة فإنها لا تصح لقول الله سبحانه: ” يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالبا؟ ل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم. ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ” (1). 2 – معرفة المنفعة المعقود عليها معرفة تامة تمنع من المنازعة. والمعرفة التي تمنع المنازعة تم بمشاهدة العين التي يراد استئجارها أو بوصفها إن انضبطت بالوصف، وبيان مدة الاجارة كشهر أو سنة أو أكثر أو أقل، وبيان العمل المطلوب. 3 – أن يكون المعقود عليه المقدور الاستيفاء حقيقة وشرعا، فمن العلماء من اشترط هذا الشرط فرأى أنه لا يجوز إجارة المشاع من غير الشريك، وذلك لان منفعة (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 29. (.)


[ 182 ]

المشاع غير مقدورة الاستيفاء. وهذا مذهب أبي حنيفة وزفر. وقال جمهور الفقهاء: يجوز إجارة المشاع مطلقا من الشريك وغيره. لان للمشاع منفعة والتسليم ممكن بالتخلية أو المهايأة بالتهيؤ (1). كما يجوز ذلك في البيع. والاجارة أحد نوعي البيع. فإن لم تكن المنفعة معلومة كانت الاجارة فاسدة. 4 – القدرة على تسليم العين المستأجرة مع اشتمالها على المنفعة، فلا يصح تأجير دابة شاردة، ولا مغصوب لا يقدر على انتزاعه لعدم القدرة على التسليم. ولا أرض للزرع لا تنبت، أو دابة للحمل وهي زمنة: لعدم المنفعة التي هي موضوع العقد. 5 – أن تكون المنفعة مباحة لا محرمة ولا واجبة. فلا تصح الاجارة على المعاصي، لان المعصية يجب اجتنابها. فمن استأجر رجلا ليقتل رجلا ظلما أو رجلا ليحمل له الخمر أو أجر داره لمن يبيع بها الخمر أو ليلعب فيها القمار أو ليجعلها كنيسة فإنها تكون إجارة فاسدة. (هامش) (1) أي تقسيم المنافع. (.)


[ 183 ]

وكذلك لا يحل حلوان الكاهن (1) والعراف (2) وهو ما يعطاه على كهانته وعرافته، إذ أنه عوض عن محرم وأكل لاموال الناس بالباطل. ولا تصح الاجارة على الصلاة والصوم، لان هذه فرائض عينية يجب أداؤها على من فرضت عليه. الاجرة على الطاعات: أما الاجرة على الطاعات فقد اختلف العلماء في حكمها، ونذكر بيان مذاهبهم فيما يلي: قالت الاحناف: الاجارة على الطاعات كاستئجار شخص آخر ليصلي أو يصوم أو يحج عنه أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه إليه أو يؤذن أو يؤم بالناس أو ما أشبه ذلك لا يجوز، ويحرم أخذ الاجرة عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ” اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به “. وقوله، صلى الله عليه وسلم، لعمرو بن العاص: وان اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الاذان أجرا ” ولان القربة متى حصلت وقعت عن العامل فلا يجوز أخذ الاجرة (هامش) (1) الكاهن: هو الذي يتعاطى الاخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الاسرار. (2) العراف: هو الذي يدعي معرفة الاشياء المسروقة ومكان الضالة. (.)


[ 184 ]

عليها من غيره، ومما هو شائع من ذلك في بلادنا المصرية الوصايا بالختمات والتسابيح بأجر معلوم ليهدي ثوابها إلى روح الموصي، وكل ذلك غير جائز شرعا، لان القارئ إذا قرأ لاجل المال فلا ثواب له، فأي شئ يهديه إلى الميت؟… وقد نص الفقهاء على أن الاجرة المأخوذة في نظير عمل الطاعات حرام على الاخذ، ولكن المتأخرين منهم استثنوا من هذا الاصل تعليم القرآن والعلوم الشرعية، فأفتوا بجواز أخذ الاجرة عليه استحسانا، بعد أن انقطعت الصلات والعطايا التي كانت تجرى على هؤلاء المعلمين، في الصدر الاول، من الموسرين وبيت المال، دفعا للحرج والمشقة، لانهم يحتاجون إلى ما به قوام حياتهم هم ومن يعولونهم…. وفي اشتغالهم بالحصول عليه من زراعة أو تجارة أو صناعة إضاعة للقرآن الكريم والشرع الشريف بانقراض حملته، فجاز إعطاؤهم أجرا على هذا التعليم…. وقالت الحنابلة: لا تصح الاجارة لاذان وإقامة وتعليم قرآن وفقه وحديث ونيابة في حج وقضاء، ولا يقع إلا قربة لفاعله


[ 185 ]

ويحرم أخذ الاجرة عليه، وقالوا: ويجوز أخذ رزق من بيت المال أو من وقف على عمل يتعدى نفعه، كقضاء وتعليم قرآن وحديث وفقه ونيابة في حج وتحمل شهادة وأدائها وأذان ونحوها، لانها من المصالح، وليس بعوض بل رزق للاعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة ولا يقدح في الاخلاص، وإلا ما استحقت الغنائم وسلب القاتل… وذهبت المالكية والشافعية وابن حزم: إلى جواز أخذ الاجرة على تعليم القرآن والعلم لانه استئجار لعمل معلوم ببذل معلوم. قال ابن حزم: ” والاجارة جائزة على تعليم القرآن وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة، كل ذلك جائز وعلى الرقى وعلى نسخ المصاحف ونسخ كتب العلم لانه لم يأت في النهي عن ذلك نص، بل قد جاءت الاباحة “. ويقوي هذا المذهب ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ” أن نفرا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، مروا بماء فيه لديغ أو سليم. فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، فإن في الماء رجلا


[ 186 ]

لديغا أو سليما… فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء (1)، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا. حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله “. وكما اختلف الفقهاء في أخذ الاجرة على تلاوة القرآن وتعليمه، فقد اختلفوا أيضا في أخذ الاجرة على الحج والاذان والامامة. فقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز ذلك جريا على أصله في عدم أخذ الاجرة على الطاعات. وقال مالك: كما يجوز أخذ الاجرة على تعليم القرآن يجوز أخذها على الحج والاذان. فأما الامامة فإنه لا يجوز أخذ الاجرة عليها إن أفردها وحدها. فإن جمعها مع الاذان جازت الاجرة، وكانت على الاذان والقيام بالمسجد لا على الصلاة. وقال الشافعي: تجوز الاجرة على الحج ولا تجوز على الامامة في صلاة الفرائض، ويجوز بالاتفاق الاستئجار (هامش) (1) شياه. (.)


[ 187 ]

على تعليم الحساب والخط واللغة والادب والحديث وبناء المساجد والمدارس. وعند الشافعية: تجوز الاجارة على غسل الميت وتلقينه ودفنه. وأبو حنيفة قال: لا يجوز الاستئجار على غسل الميت، ويجوز على حفر القبور وحمل الجنائز. كسب الحجام: كسب الحجام غير حرام، لان النبي، صلى الله عليه وسلم، احتجم وأعطى الحجام أجره، كما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. ولو كان حراما لم يعطه. قال النووي: ” وحملوا الاحاديث التي وردت في النهي عنه على التنزيه والارتفاع عن دنئ الكسب والحث على مكارم الاخلاق ومعالي الامور “. 5 – أن تكون الاجرة مالا متقوما معلوما (1) بالمشاهدة أو الوصف، لانها ثمن المنفعة، وشرط الثمن أن يكون معلوما، لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: ” من استأجر أجيرا فليعلمه أجره ” (2). (هامش) (1) وخالف في ذلك الظاهرية. (2) رواه عبد الرازق عن أبي سعيد – قال أبو زرعة – الصحيح وقفه على أبي سعيد. (.)


[ 188 ]

ويصح تقدير الاجرة بالعرف… أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي أن سويد بن قيس قال: ” جلبت أنا ومخرمة العبدي برا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه. وثم رجل يزن بالاجر فقال له: ” زن وأرجح “… فهنا لم يسم له الاجرة بل أعطاه ما اعتاده الناس. قال ابن تيمية: ” إذا ركب دابة المكاري أو دخل حمام الحمامي أو دفع ثيابه أو طعامه إلى من يغسل ويطبخ فإن له الاجر المعروف “. وقد دل على ثبوت عوض الاجارة بالمعروف قوله تعالى: ” فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ” (1). فأمر بإيفائهن أجورهن بمجرد الارضاع. والمرجع في الاجور إلى العرف… اشتراط تعجيل الاجرة وتأجيلها: الاجرة لا تملك بالعقد عند الاحناف، ويصح اشتراط (هامش) (1) سورة الطلاق الاية رقم 6. (.)


[ 189 ]

تعجيل الاجرة وتأجيلها كما يصح تعجيل البعض وتأجيل البعض الاخر، حسب ما يتفق عليه المتعاقدان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم،: ” المسلمون عند شروطهم “. فإذا لم يكن هناك اتفاق على التعجيل أو التأجيل فإن كانت الاجرة مؤقتة بوقت معين فإنه يلزم إيفاؤها بعد انقضاء ذلك الوقت. فمن أجر دارا شهرا مثلا ثم مضى الشهر فإنه تجب الاجرة بانقضائه… وإن كان عقد الاجارة على عمل فإنه يلزم إيفاؤها عند الانهاء من العمل. وإذا أطلق العقد ولم يشترط قبض الاجرة ولم ينص على تأجيلها: قال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما: إنها تجب جزءا جزءا بحسب ما يقبض من المنافع. وقال الشافعي وأحمد: إنها تستحق بنفس العقد، فإذا سلم المؤجر العين المستأجرة إلى المستأجر استحق جميع الاجرة، لانه قد ملك المنفعة بعقد الاجارة ووجب تسليم الاجرة ليلزم تسليم العين إليه. استحقاق الاجرة: وتستحق الاجرة بما يأتي:


[ 190 ]

1 – الفراغ من العمل، لما رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه “. 2 – استيفاء المنفعة إذا كانت الاجارة على عين مستأجرة، فإذا تلفت العين قبل الانتفاع ولم يمض شئ من المدة بطلت الاجارة. 3 – التمكن من استيفاء المنفعة، إذا مضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ولو لم تستوف بالفعل. 4 – تعجيلها بالفعل أو اتفاق المتعاقدين على اشتراط التعجيل. هل تسقط الاجرة بهلاك العين في عقد إجارة الاعمال؟ إذا عمل الاجير في ملك المستأجر أو بحضرته استحق الاجرة لانه تحت يده، فكلما عمل شيئا صار مسلما له. وإن كان العمل في يد الاجير لم يستحق الاجرة بهلاك الشئ في يده لانه لم يسلم العمل. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. استئجار الظئر (1): استئجار الرجل زوجته على رضاع ولده منها لا يجوز، (هامش) (1) الظئر: المرضع. (.)


[ 191 ]

لان ذلك أمر واجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى (1). أما استئجار المرضع غير الام فإنه يجوز بأجر معلوم، ويجوز أيضا بطعامها وكسوتها، وجهالة الاجرة في هذه الحال لا يفضي إلى المنازعة. والعادة جرت بالمسامحة مع المراضع والتوسعة عليهن رفقا بالاولاد. ويشترط العلم بمدة الرضاع ومعرفة الطفل بالمشاهدة وموضع الرضاع. يقول الله سبحانه: ” وإن أردتم أن تسترضعوا أولاكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف. واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ” (2). وهي بمنزلة الاجير الخاص، فلا يجوز لها أن ترضع صبيا آخر… وعلى الظئر القيام بالارضاع وبما يحتاج إليه الصبي من غسله وغسل ثيابه وطبخ طعامه، وعلى الاب نفقات الطعام وما يحتاج إليه الصبي من الريحان والدهن، وإذا (هامش) (1) هذا مذهب الائمة الثلاثة. وزاد مالك: تجبر على ذلك إلا أن تكون شريفة ولا يرضع مثلها، وقال أحمد: يصح. (2) سورة البقرة الاية رقم 233. (.)


[ 192 ]

مات الصبي أو المرضع انفسخت الاجارة. لان المنفعة في حالة موت المرضع تكون قد فاتت بهلاك محلها…. وفي حالة موت الطفل يتعذر استيفاء المعقود عليه. الاستئجار بالطعام والكسوة: اختلف العلماء في حكم الاستئجار بالطعام والكسوة فأجازه قوم ومنعه آخرون، وحجة المجيزين ما رواه أحمد وابن ماجه عن عتبة بن الندر قال: ” كنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقرأ ” طسم ” حتى بلغ قصة موسى عليه السلام فقال: ” إن موسى أجر نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه ” وهو مروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى. وإلى هذا ذهب مالك والحنابلة، وجوزه أبو حنيفة في الظئر دون الخادم… وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد والهادوية والمنصور بالله لا يصح للجهالة… ويرى المالكية الذين أجازوا استئجار الاجير بطعامه وكسوته: أن ذلك يكون على حسب المتعارف. قالوا: ولو قال: احصد زرعي ولك نصفه، أو اطحنه أو


[ 193 ]

اعصر الزيت، فإن ملكه نصفه الان جاز، وإن أراد نصف ما يخرج منه لم يجز، للجهالة. إجارة الارض (1): ويصح استئجار الارض، ويشترط فيه بيان ما تستأجر له من زرع أو غرس أو بناء. وإذا كانت للزراعة فلا بد من بيان ما يزرع فيها، إلا أن يأذن له المؤجر بأن يزرع فيها ما يشاء. فإذا لم تتحقق هذه الشروط فإن الاجارة تقع فاسدة، لان منافع الارض تختلف باختلاف البناء والزرع كما يختلف تأخير المزروعات في الارض، وله أن يزرعها زرعا آخر غير الزرع المتفق عليه بشرط أن يكون ضرره مثل ضرر الزرع المتفق عليه أو أقل منه. وقال داود: ليس له ذلك. استئجار الدواب: ويصح استئجار الدواب. ويشترط فيه بيان المدة أو المكان، كما يشترط بيان ما تستأجر له الدابة من الحمل أو الركوب، وبيان ما يحمل عليها ومن يركبها. (هامش) (1) يرجع إلى الجزء السابق (12) في باب المزارعة. (.) فقه السنة – 13


[ 194 ]

وإذا هلكت الدواب المؤجرة للحمل والركوب فإن كانت مؤجرة معيبة فهلكت انقضت الاجارة، وإن كانت غير معيبة فهلكت لا تبطل الاجارة. وعلى المؤجر أن يأتي بغيرها وليس له أن يفسخ العقد لان الاجارة وقعت على منافع في الذمة ولم يعجز المؤجر عن وفاء ما التزمه بالعقد. وهذا متفق عليه بين فقهاء المذاهب الاربعة. استئجار الدور للسكنى: واستئجار الدور للسكن يبيح الانتفاع بسكناها سواء سكن فيها المستأجر أو أسكنها غيره بالاعارة أو الاجارة على أن لا يمكن من سكناها من يضر بالبناء أو يوهنه مثل الحداد وأمثاله. وعلى المؤجر إتمام ما يتمكن به المستأجر من الانتفاع حسب ما جرت به العادة. تأجير العين المستأجرة: ويجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة. فإذا كانت دابة وجب عليه أن يكون العمل مساويا أو قريبا للعمل الذي استؤجرت من أجله أولا، حتى لا تضار الدابة.


[ 195 ]

ويجوز له أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها بمثل ما أجرها به أو أزيد أو أقل، وله أن يأخذ ما يسمى بالخلو. هلاك العين المستأجرة: العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر لانه قبضها ليستوفي منها منفعة يستحقها، فإذا هلكت لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ. ومن استأجر دابة ليركبها فكبحها بلجامها كما جرت به العادة فلا ضمان عليه.


[ 196 ]

الاجير الاجير: خاص وعام… فالاجير الخاص: هو الشخص الذي يستأجر مدة معلومة ليعمل فيها، فإن لم تكن المدة معلومة كانت الاجارة فاسدة. ولكل واحد من الاجير والمستأجر فسخها متى أراد… وفي الاجارة: إذا كان الاجير سلم نفسه للمستأجر زمنا ما فليس له في هذه الحال إلا أجر المثل (1) عن المدة التي عمل فيها… والاجير الخاص لا يجوز له أثناء المدة المتعاقد عليها أن يعمل لغير مستأجره. فإن عمل لغيره في المدة نقص من أجره بقدر عمله… (هامش) (1) الاجر الذي يتساوى فيه مع أمثاله. (.)


[ 197 ]

وهو يستحق الاجرة متى سلم نفسه ولم يمتنع عن العمل الذي استؤجر من أجله. وكذلك يستحق الاجرة كاملة لو فسخ المستأجر الاجارة قبل المدة المتفق عليها في العقد ما لم يكن هناك عذر يقتضي الفسخ. كأن يعجز الاجير عن العمل أو يمرض مرضا لا يمكنه من القيام به. فإن وجد عذر من عيب أو عجز ففسخ المستأجر الاجارة لم يكن للاجير إلا أجرة المدة التي عمل فيها – ولا تجب على المستأجر الاجرة الكاملة. والاجير الخاص مثل الوكيل في أنه أمين على ما بيده من عمل، فلا يضمن منه ما تلف إلا بالتعدي أو التفريط. فإن فرط أو تعدي ضمن كغيره من الامناء. الاجير المشترك: والاجير المشترك هو الذي يعمل لاكثر من واحد فيشتركون جميعا في نفعه كالصباغ، والخياط، والحداد، والنجار، والكواء. وليس لمن استأجره أن يمنعه من العمل لغيره، ولا يستحق الاجرة إلا بالعمل. وهل يده يد ضمان أو يد أمانة؟؟. ذهب الامام علي وعمر، رضي الله عنهما، وشريح


[ 198 ]

القاضي وأبو يوسف ومحمد والمالكية إلى أن يد الاجير المشترك يد ضمان، وأنه يضمن الشئ التالف ولو بغير تعذ أو تقصير منه صيانة لاموال الناس وحفاظا على مصالحهم. روي البيهقي عن علي – كرم الله وجهه – أنه كان يضمن الصباغ والصانع وقال: ” لا يصلح الناس إلا ذاك “. وروى أيضا: أن الشافعي، رضي الله عنه، ذكر أن شريحا ذهب إلى تضمين القصار (1)، فضمن قصارا احترق بيته فقال: تضمنني وقد احترق بيتي؟ فقال شريح: أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك؟ وذهب أبو حنيفة وابن حزم إلى أن يده يد أمانة فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة والصحيح من أقوال الشافعي رضي الله عنه. وقال ابن حزم: لا ضمان على أجير مشترك أو غير مشترك ولاعلى صانع أصلا، إلا ما ثبت أنه تعدى فيه أو أضاعه. (هامش) (1) القصار: الصباغ. (.)


[ 199 ]

فسخ الاجارة وانتهاؤها: الاجارة عقد لازم لا يملك أحد المتعاقدين فسخه لانه عقد معاوضة، إلا إذا وجد ما يوجب الفسخ كوجود عيب، كما سيأتي… فلا تفسخ الاجارة بموت أحد المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه ويقوم الوارث مقام مورثه سواء أكان مؤجرا أو مستأجرا… خلافا للحنفية والظاهرية والشعبي والثوري والليث بن سعد. ولا تفسخ ببيع العين المستأجرة للمستأجر أو لغيره، ويتسلمها المشتري إذا كان غير المستأجر بعد انقضاء مدة الاجارة (1). وتفسخ بما يأتي: 1 – طروء العيب الحادث على المأجور وهوفي يد المستأجر أو ظهور العيب القديم فيه. 2 – هلاك العين المؤجرة المعينة كالدار المعينة والدابة المعينة… (هامش) (1) هذا مذهب مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لاتباع إلا برضا المستأجر أو يكون عليه دين يحبسه الحاكم بسببه فيبيعها في دينه. (.)


[ 200 ]

3 – هلاك المؤجر عليه كالثوب المؤجر للخياطة، لانه لا يمكن استيفاء المعقود عليه بعد هلاكه… 4 – استيفاء المنفعة المعقود عليها أو إتمام العمل أو انتهاء المدة إلا إذا كان هناك عذر يمنع الفسخ، كما لو انتهت مدة إجارة الارض الزراعية قبل أن يستحصد الزرع فتبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد، ولو جبرا على المؤجر منعا لضرر المستأجر بقلع الزرع قبل أو انه. 5 – وقال الاحناف: يجوز فسخ الاجارة لعذر يحصل ولو من جهته، مثل أن يكتري حانوتا ليتجر فيه فيحترق ماله أو يسرق أو يغصب أو يفلس فيكون له فسخ الاجارة… رد العين المستأجرة: ومتى انتهت الاجارة وجب على المستأجر رد العين المستأجرة. فإن كانت من المنقولات سلمها لصاحبها… وإن كانت من العقارات المبينة سلمها لصاحبها خالية من متاعه. وإن كانت من الاراضي الزراعية سلمها خالية من الزرع، إلا إذا كان هناك عذر كما سبق، فإنها تبقى بيد المستأجر حتى يحصد الزرع بأجر المثل.


[ 201 ]

وقالت الحنابلة: متى انقضت الاجارة رفع المستأجر يده ولم يلزمه الرد ولا مؤونته مثل المودع، لانه عقد لا يقتضي الضمان، فلا يقتضي رده ومؤونته. قالوا: وتكون بعد انقضاء المدة بيد المستأجر أمانة إن تلفت بغير تفريط فلاضمان عليه.


[ 202 ]

المضاربة تعريفها: المضاربة مأخوذة من الضرب في الارض وهو السفر للتجارة، يقول الله سبحانه: ” وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله ” (1). وتسمى قراضا، وهو مشتق من القرض، وهو القطع، لان المالك قطع قطعة من ماله ليتجر فيها وقطعة من ربحه. وتسمى أيضا: معاملة. والمقصود بهاهنا: عقد بين طرفين على أن يدفع أحدهما نقدا إلى الآخر ليتجر فيه، على أن يكون الربح بينهما حسب ما يتفقان عليه. حكمها: وهي جائزة بالاجماع. (هامش) (1) سورة المزمل الآية رقم 20. (.)


[ 203 ]

وقد ضارب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لخديجة – رضي الله عنها – بمالها، وسافر به إلى الشام قبل أن يبعث، وقد كان معمولا بها في الجاهلية، ولما جاء الاسلام أقرها. قال الحافظ بن حجر: ” والذي نقطع به أنها كانت ثابتة في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، يعلم بها وأقرها، ولو لا ذلك لما جازت ألبتة… وروى أن عبد الله وعبيدالله ابي عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش العراق فلما قفلا (1) مرا على عامل لعمر: وهو أبو موسى الاشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما ربحه، فقالا: وددنا، ففعل. فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا وربحا قال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال عمر: (هامش) (1) أي رجعا. (.)


[ 204 ]

ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيدالله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه، فقال: أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيدالله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا (1)، فرضي عمر وأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيدالله نصف ربح المال. حكمتها: وقد شرعها الاسلام وأباحها تيسيرا على الناس. فقد يكون بعض منهم مالكا للمال، ولكنه غير قادر على استثماره. وقد يكون هناك من لا يملك المال، لكنه يملك القدرة على استثماره. فأجاز الشارع هذه المعاملة لينتفع كل واحد منهما، فرب المال ينتفع بخبرة المضارب، والمضارب ينتفع بالمال. ويتحقق بهذا تعاول المال والعمل. والله ما شرع العقود إلا لتحقيق المصالح ودفع الجوائح. ركنها: وركنها الايجاب والقبول الصادران ممن لهما أهلية التعاقد. (هامش) (1) أي لو عملت بحكم المضاربة، وهو أن يجعل لهما النصف ولبيت المال النصف. (.)


[ 205 ]

ولا يشترط لفظ معين، بل يتم العقد بكل ما يؤدي إلى معنى المضاربة، لان العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للالفاظ والمباني. شروطها: ويشترط في المضاربة الشروط الآتية: 1 – أن يكون رأس المال نقدا. فإن كان تبرا أو حليا أو عروضا فإنها لا تصح. قال ابن المنذر: ” أجمع كل من نحفظ عنه أنه لا يجوز أن يجعل الرجل دينا له على رجل مضاربة ” انتهى. 2 – أن يكون معلوما، كي يتميز رأس المال الذي يتجر فيه من الربح الذي يوزع بينهما حسب الاتفاق. 3 – أن يكون الربح بين العامل وصاحب رأس المال معلوما بالنسبة، كالنصف والثلث والربع، لان النبي، صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها. وقال ابن المنذر: ” أجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة ” انتهى. وعلة ذلك أنه لو اشترط قدر معين لاحدهما فقد لا يكون الربح إلا هذا القدر، فيأخذه من اشترط له ولا يأخذ الآخر شيئا. وهذا مخالف المقصود من عقد المضاربة الذي


[ 206 ]

راد به نفع كل من المتعاقدين. 4 – أن تكون المضاربة مطلقة، فلا يقيد رب المال العامل بالاتجار في بلد معين أوفي سلعة معينة، أو يتجر في وقت دون وقت، أو لا يتعامل إلا مع شخص بعينه، ونحو ذلك من الشروط، لان اشتراط التقييد كثيرا ما يفوت المقصود من العقد، وهو الربح. فلابد من عدم اشتراطه، وإلا فسدت المضاربة. وهذا مذهب مالك والشافعي. وأما أبو حنيفة وأحمد فلم يشترطا هذا الشرط وقالا: ” إن المضاربة كما تصح مطلقة فإنها تجوز كذلك مقيدة “. (1) وفي حالة التقييد لا يجوز للعامل أن يتجاوز الشروط التي شرطها، فإن تعداها ضمن. روي عن حكيم بن حزام: أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به: ” أن لا يجعل مالي في كبد رطبة، ولا يحمله في بحر، ولا ينزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي “. وليس من شروط المضاربة بيان مدتها، فإنها عقد جائز يمكن فسخه في أي وقت. (هامش) (1) الافصاح ص 258. (.)


[ 207 ]

وليس من شروطها أن تكون بين مسلم ومسلم، بل يصح أن تكون بين مسلم وذمي. العامل أمين: ومتى تم عقد المضاربة وقبض العامل المال كانت يد العامل في المال يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي. فإذا تلف المال بدون تعد منه فلاشئ عليه، والقول قوله مع يمينه إذا ادعى ضياع المال أو هلاكه، لان الاصل عدم الخيانة. العامل يضارب بمال المضاربة: وليس للعامل أن يضارب بمال المضاربة ويعتبر ذلك تعديا منه. قال في بداية المجتهد: ” ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الامصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر فإنه ضامن إن كان خسران، وإن كان ربح فذلك على شرطه، ثم يكون للذي عمر شرطه على الذي دفع إليه فيوفيه حظه مما بقي من المال ” (1). نفقة العامل: نفقة العامل في مال المضاربة من ماله مادام مقيما، وكذلك إذا سافر للمضاربة. لان النفقة (هامش) (1) يرى أبو قلابة ونافع وأحمد و إسحاق: أن المضارب إذا خالف فهو ضامن والربح لرب المال. وقال أصحاب الرأي: الربح للمضارب ويتصدق به، والوضيعة عليه وهو ضامن لرأس المال في الوجهين معا. (.)


[ 208 ]

قد تكون قدر الربح فيأخذه كله دون رب المال ولان له نصيبا من الربح مشروطا له فلا يستحق معه شيئا آخر. لكن إذا أذن رب المال للعامل بأن ينفق على نفسه من مال المضاربة أثناء سفره أو كان ذلك مما جرى به العرف فإنه يجوز له حينئذ أن ينفق من مال المضاربة. ويرى الامام مالك أن للعامل أن ينفق من مال المضاربة متى كان المال كثيرا يتسع للانفاق منه. فسخ المضاربة: وتنفسخ المضاربة بما يأتي: 1 – أن تفقد شرطا من شروط الصحة. فإذا فقدت شرطا من شروط الصحة وكان العامل قد قبض المال واتجر فيه فإنه يكون له في هذه الحال أجرة مثله، لان تصرفه كان بإذن من رب المال وقام بعمل يستحق عليه الاجرة. وما كان من ربح فهو للمالك وما كان من خسارة فهي عليه، لان العامل لا يكون إلا أجيرا، والاجير لا يضمن إلا بالتعدي. 2 – أن يتعدى العامل أو يقصر في حفظ المال، أو يفعل شيئا يتنافى مع مقصود العقد، فإن المضاربة في هذه الحال تبطل، ويضمن المال إذا تلف، لانه هو المتسبب في


[ 209 ]

التلف. 3 – أن يموت العامل أو رب المال. فإذا مات أحدهما انفسخت المضاربة. تصرف العامل بعد موت رب المال: إذا مات رب المال انفسخت المضاربة بموته، ومتى انفسخت المضاربة فإن العامل لا حق له في التصرف في المال، فإذا تصرف بعد علمه بالموت وبغير إذن الورثة فهو غاصب، وعليه ضمان. ثم إذا ربح المال فالربح بينهما، قال ابن تيمية: ” وبه حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما أخذ ابناه من بيت المال، فاتجرا فيه بغير استحقاق فجعله مضاربة ” انتهى. وإذا انفسخت المضاربة ورأس المال عروض، فلرب المال وللعامل أن يبيعاه أو يقتسماه لان ذلك حق لهما. وإن رضي العامل بالبيع وأبى رب المال أجبر رب المال على البيع لان للعامل حقا في الربح ولا يحصل عليه إلا بالبيع. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. اشتراط حضور رب المال عند القسمة: قال ابن رشد. فقه السنة – 14


[ 210 ]

” أجمع علماء الامصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بخضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال و أخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه في حضور بينة أو غيرها “. انتهى


[ 211 ]

الحوالة تعريفها: الحوالة (1) (1) مأخوذة من التحويل بمعنى الانتقال، والمقصود بها هنا نقل الدين من ذمة المحيل الى ذمة المحال عليه. وهي تقتضي وجود محيل، ومحال، ومحال عليه. فالمحيل هو المدين، والمحال هو الدائن، والمحال عليه هو الذي يقوم بقضاء الدين. والحوالة تصرف من التصرفات التي لا تحتاج الى ايجاب وقبول، وتصح بكل ما يدل عليها: كأحلتك وأتبعتك بدينك على فلان… ونحو ذلك. مشروعيتها: وقد شرعها الاسلام وأجازها للحاجة إليها. روى الامام البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم (هامش) (1) الحوالة بفتح الحاء وقد تكسر. (.)


[ 212 ]

على ملئ فليتبع ” (1). ففي هذا الحديث أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، الدائن إذا أحاله المدين على غني ملئ قادر أن يقبل الاحالة، وأن يتبع الذي أحيل عليه بالمطالبة حتى يستوفي حقه. هل الامر للوجوب أو الندب؟: ذهب الكثير من الحنابلة وابن جرير وأبو ثور والظاهرية: إلى أنه يجب على الدائن قبول الاحالة على الملئ عملا بهذا الامر. وقال الجمهور: إن الامر للاستحباب. شروط صحتها: ويشترط لصحة الحوالة الشروط الآتية: 1 – رضا المحيل والمحال دون المحال عليه استدلالا بالحديث المتقدم، فقد ذكرهما الرسول، صلى الله عليه وسلم. ولان المحيل له أن يقضي الدين الذي عليه من أي جهة أراد. ولان المحال حقه في ذمة المحيل فلا ينتقل إلا برضاه. وقيل: لا يشترط رضاه لان المحال يجب عليه قبولها (هامش) (1) المطل في الاصل المد. والمراد به هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر والغني هنا: القادر على الاداء ولو كان فقيرا. والملئ: الغني المقتدر. (.)


[ 213 ]

لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع. ولان له أن يستوفي حقه سواء أكان من المحيل نفسه أو ممن قام مقامه. وأما عدم اشتراط رضا المحال عليه فلان الرسول لم يذكره في الحديث، ولان الدائن أقام المحال مقام نفسه في استيفاء حقه فلا يحتاج إلى رضا من عليه الحق. وعند الحنفية والاصطخري من الشافعية اشتراط رضاه أيضا. 2 – تماثل الحقين في الجنس والقدر والحلول والتأجيل والجودة والرداءة، فلا تصح الحوالة إذا كان الدين ذهبا وأحاله ليأخذ بدله فضة. وكذلك إذا كان الدين حالا وأحاله ليقبضه مؤجلا أو العكس. وكذلك لا تصح الحوالة إذا اختلف الحقان من حيث الجودة والرداءة أو كان أحدهما أكثر من الآخر. 3 – استقرار الدين، فلو أحاله على موظف لم يستوف أجره بعد فإن الحوالة لا تصح. 4 – أن يكون كل من الحقين معلوما. هل تبرأ ذمة المحيل بالحوالة؟: إذا صحت الحوالة برئت ذمة المحيل، فإذا أفلس


[ 214 ]

الحال عليه أو جحد الحوالة أو مات لم يرجع المحال على المحيل بشئ. وهذا هو ما ذهب إليه جماهير العلماء. إلا أن المالكية قالوا: إلا أن يكون المحيل غر المحال فأحاله على عديم، قال مالك في الموطأ: ” الامر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه، إن أفلس الذي أحيل عليه أو مات ولم يدع وفاء فليس للمحال على الذي أحاله شئ، وأنه لا يرجع على صاحبه الاول. قال: ” وهذا الامر الذي لااختلاف فيه عندنا “. وقال أبو حنيفة وشريح وعثمان البتي وغيرهم: يرجع صاحب الدين إذا مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحوالة.


[ 215 ]

الشفعة تعريفها: الشفعة مأخوذة من الشفع وهو الضم، وقد كانت معروفة عند العرب. فان الرجل في الجاهلية إذا أراد بيع منزل أو حائط أتاه الجار والشريك والصاحب يشفع إليه فيما باع فيشفعه ويجعله أولى به ممن بعد منه، فسميت شفعة، وسمي طالبها شفيعا. والمقصود بها في الشرع: تملك المشفوع فيه جبرا عن المشتري بما قام عليه من الثمن والنفقات. مشروعيتها: والشفعة ثابتة بالسنة، واتفق المسلمون على أنها مشروعة. ” روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن الرسول،


[ 216 ]

صلى الله عليه وسلم، قضى في الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق فلا شفعة “. حكمتها: وقد شرع الاسلام الشفعة ليمنع الضرر ويدفع الخصومة، لان حق تملك الشفيع للمبيع الذي اشتراه أجنبي يدفع عنه ما قد يحدث له من ضرر ينزل به من هذا الاجنبي الطارئ. واختار الشافعي أن الضرر هو ضرر مؤونة القسمة واستحداث المرافق وغيرها. وقيل: ضرر سوء المشاركة. الشفعة للذمي: وكما تثبت الشفعة للمسلم فإنها للذمي عند جمهور الفقهاء. وقال أحمد والحسن والشعبي: لا تثبت للذمي، لما رواه الدارقطني عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لاشفعة لنصراني “. استئذان الشريك في البيع: ويجب على الشريك أن يستأذن شريكه قبل البيع فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وإن أذن في البيع وقال: لاغرض لي فيه، لم يكن له الطلب بعد البيع. هذا مقتضى حكم رسول الله، ولا معارض له بوجه. 1 – وروى مسلم عن جابر قال:


[ 217 ]

” قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة (1) أو حائط (2). لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به “. 2 – وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من كان له شرك في نخل أو ربعة فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ وإن كره ترك “. رواه يحيى بن آدم عن زهير عن أبي الزبير وإسناده على شرط مسلم. قال ابن حزم: ” لا يحل لمن له ذلك أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه، فإن أراد من يشركه فيه الاخذ له بما أعطى فيه غيره فالشريك أحق به، وإن لم يرد فقد سقط حقه، ولاقيام له بعد ذلك إذا باعه ممن باعه. فإن لم يعرض عليه، كما ذكرنا، حتى باعه من غير من يشركه فيه فمن يشركه مخير بين أن يمضي ذلك البيع وبين أن يبطله ويأخذ ذلك الجزء لنفسه بما بيع به “. (هامش) (1) الربعة: المنزل. (2) الحائط: البستان. (.)


[ 218 ]

وقال ابن القيم: ” وهذا مقتضى حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به. وذهب بعض العلماء ومنهم الشافعية إلى أن الامر محمول على الاستحباب. قال النووي: هو محمول عند أصحابنا على الندب إلى إعلامه وكراهة بيعه قبل إعلامه وليس بحرام. الاحتيال لاسقاط الشفعة: ولا يجوز الاحتيال لاسقاط الشفعة، لان في ذلك إبطال حق المسلم، لما روي عن أبي هريرة مرفوعا: ” لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل “. وهذا مذهب مالك وأحمد، ويرى أبو حنيفة والشافعي أنه يجوز الاحتيال. والاحتيال لاسقاط الشفعة مثل أن يقر له ببعض المالك فيصبح بهذا الاقرار شريكا له، ثم يبيعه الباقي أو يهبه له “. شروط الشفعة يشترط للاخذ بالشفعة الشروط الآتية: أولا: أن يكون المشفوع فيه عقارا كالارض والدور وما يتصل بها اتصال قرار، كالغراس والبناء والابواب


[ 219 ]

والرفوف، وكل ما يدخل في البيع عند الاطلاق، لما تقدم عن جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة أو حائط. وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء، وخالف في ذلك أهل مكة والظاهرية، ورواية عن أحمد، وقالوا: إن الشفعة في كل شئ، لان الضرر الذي قد يحدث للشريك في العقار قد يحدث أيضا للشريك في المنقول، ولما قاله جابر قال: ” قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شئ “. قال ابن القيم: ورواة هذا الحديث ثقات، ولحديث ابن عباس، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” الشفعة في كل شئ ” ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالارسال، وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به، وقد انتصر لهذا ابن حزم فقال: ” الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم، بى اثنين فصاعدا، من أي شئ كان مما ينقسم أولا: من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، أو عبد أو أمة، أم من سيف أو من طعام أو من حيوان أو من أي شئ بيع “. ثانيا: أن يكون الشفيع شريكا في المشفوع فيه، وأن


[ 220 ]

تكون الشركة متقدمة على البيع، وأن لا يتميز نصيب كل واحد من الشريكين، بل تكون الشركة على الشيوع. فعن جابر رضي الله عنه قال: ” قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة “. رواه الخمسة. أي أن الشفعة ثابتة في كل مشترك مشاع قابل للقسمة، فإذا قسم وظهرت الحدود ورسمت الطرق بينهما فلاشفعة. وإذا كانت الشفعة تثبت للشريك فإنها تثبت فيما يقبل القسمة، ويجبر الشريك فيها على القسمة بشرط أن ينتفع بالمقسوم على الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة، ولهذا لا تثبت الشفعة في الشئ الذي لو قسم لبطلت منفعته، قال في المنهاج: ” وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لاشفعة فيه على الاصح “. وروى مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ” أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود بينهم فلاشفعة “. وهذا مذهب علي وعثمان وعمر وسعيد بن المسيب


[ 221 ]

وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك والشافعي والاوزاعي وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والامامية. قال في شرح السنة: ” اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع المنقسم إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة، فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع. وإن باع بثئ متقوم من ثوب فيأخذ بقيمته ” انتهى. وأما الجار فإنه لاحق له في الشفعة عندهم. وخالف في ذلك الاحناف فقالوا: إن الشفعة مرتبة: فهي تثبت للشريك الذي لم يقاسم أولا، ثم يليه الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة، ثم الجار الملاصق. ومن العلماء من توسط فأثبتها عند الاشتراك في حق من حقوق الملك، كالطريق والماء ونحوه، ونفاها عند تميز كل ملك بطريق حيث لا يكون بين الملاك اشتراك، واستدل لهذا بما رواه أصحاب السنن بإسناده صحيح عن جابر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا “.


[ 222 ]

قال ابن القيم: ” وعلى هذا القول تدل أحاديث جابر منطوقها ومفهومها ويزول عنها القضاء والاختلاف “. قال: ” والاقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وأعدلها واحسنها هذا القول الثالث ” انتهى. ثالثا: أن يخرج المشفوع فيه من ملك صاحبه بعوض مالي، بأن يكون مبيعا (1) أو يكون في معنى المبيع، كصلح عن إقرار بمال، أو عن جناية توجبه أو هبة ببيع بعوض معلوم لانه بيع في الحقيقة. فلاشفعة فيما انتقل عنه ملكه بغير بيع كمر هوب بغير عوض وموصى به وموروث. وفي بداية المجتهد: ” واختلف في الشفعة في المساقاة، وهي تبديل أرض بأرض، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: الجواز والمنع والثالث أن تكون المناقلة بين الاشراك أو الاجانب، فلم يرها في الاشراك ورآها في الاجانب. رابعا: أن يطلب الشفيع على الفور، أي أن الشفيع إذا علم بالبيع فإنه يجب عليه أن يطلب الشفعة حين يعلم متى كان ذلك ممكنا، فإن علم ثم أخر الطلب من غير عذر سقط حقه فيها. (هامش) (1) الاحناف يرون أن الشفعة لا تكون إلا في المبيع فقط، أخذا بظاهر الاحاديث. (.)


[ 223 ]

والسبب في ذلك أنه لو لم يطلبها الشفيع على الفور وبقي حقه في الطلب متراخيا لكان في ذلك ضرر بالمشتري، لان ملكه لا يستقر في المبيع ولا يتمكن من التصرف فيه بالعمارة خوفا من ضياع جهده وأخذه بالشفعة. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وهو الراجح من مذهب الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد (1)، وهذا ما لم يكن الشفيع غائبا، أو لم يعلم بالمبيع، أو كان يجهل الحكم. فإن كان غائبا أو لم يعلم بالبيع أو كان يجهل أن تأخير الطلب يسقط الشفعة فإنها لا تسقط. ويرى ابن حزم وغيره أن الشفعة تثبت حقا له بإيجاب الله فلا تسقط بترك الطلب ولو ثمانين سنة أو أكثر، إلا إذا أسقطه بنفسه. ويرى أن القول بأن الشفعة لمن واثبها لفظ فاسد، لا يحل أن يضاف مثله إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال مالك: لا تجب على الفور بل وقت وجوبها متسع. (هامش) (1) أصح الروايتين عن أبي حنيفة: أن الطلب لا يجب أن يكون فور العلم بالبيع، لان الشفيع قد يحتاج إلى التروي في الامر، فيجب أن يمكن من ذلك. وهذا يكون بجعل الخيار له طول مجلس علمه بالبيع. فلا تبطل شفعته إلا إذا قام عن المجلس أو تشاغل عن الطلب بأمر آخر. (.)


[ 224 ]

قال ابن رشد: واختلف قوله في هذا الوقت، هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود، وإنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغيرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت. ومرة حدد هذا الوقت، فروي عنه السنة، وهو الاشهر، وقيل أكثر من سنة. وقد قيل عنه: إن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة. خامسا: أن يدفع الشفيع للمشتري قدر الثمن الذي وقع عليه العقد فيأخذ الشفيع الشفعة بمثل الثمن إن كان مثليا أو بقيمته إن كان متقوما. ففي حديث جابر مرفوعا ” هو أحق به بالثمن ” رواه الجوزجاني. فإن عجز عن دفع الثمن كله سقطت الشفعة. ويرى مالك والحنابلة أن الثمن إذا كان مؤجلا كله أو بعضه فإن للشفيع تأجيله أو دفعه منجما ” مقسطا ” حسب المنصوص عليه في العقد، بشرط أن يكون موسرا أو يجئ بضامن له موسر، وإلا وجب أن يدفع الثمن حالا رعاية للمشتري.


[ 225 ]

والشافعي والاحناف يرون أن الشفيع مخير، فإن عجل تعجلت الشفعة، وإلا تتاخر إلى وقت الاجل. سادسا: أن يأخذ الشفيع جميع الصفقة، فإن طلب الشفيع أخذ البعض سقط حقه في الكل. وإذا كانت الشفعة بين أكثر من شفيع فتركها بعضهم فليس للباقي إلا أخذ الجميع حتى لا تتفرق الصفقة على المشتري. الشفعة بين الشفعاء: إذا كانت الشفعة بين أكثر من شفيع وهم أصحاب سهام متفاوتة فإن كل واحد منهم يأخذ من المبيع بقدر سهمه عند مالك، والاصح من قولي الشافعي وأحمد، لانها حق يستفاد بسبب الملك فكانت على قدر الاملاك. وقال الاحناف وابن حزم: إنها على عدد الرؤوس لاستوائهم جميعا في سبب استحقاقها. وراثة الشفعة: يرى مالك والشافعي (1) أي الشفعة تورث ولا تبطل بالموت، فإذا أوجبت له الشفعة فمات ولم يعلم بها، أو علم بها ومات قبل التمكن من الاخذ انتقل الحق إلى الوارث قياسا على الاموال. (هامش) (1) وأهل الحجاز. (.) فقه السنة – 15


[ 226 ]

وقال أحمد: لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها. وقالت الاحناف: إن هذا الحق لا يورث كما أنه لا يباع وإن كان الميت طالب بالشفعة إلا أن يكون الحاكم حكم له بها ثم مات. تصرف المشتري: تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة صحيح لانه تصرف في ملكه، فإن باعه فللشفيع أخذه بأحذ البيعين. وإن وهبه أو وقفه أو تصدق به أو جعله صداقا ونحوه فلاشفعة، لان فيه إضرارا بالمأخوذ منه لان ملكه يزول عنه بغير عوض والضرر لا يزال بالضرر، أما تصرف المشتري بعد أخذ الشفيع بالشفعة فهو باطل، لانتقال الملك للشفيع بالطلب. المشتري يبني قبل الاستحقاق بالشفعة: إذا بنى المشتري أو غرس في الجزء المشفوع فيه قبل قيام الشفعة ثم استحق عليه بالشفعة. فقال الشافعي وأبو حنيفة: للشفيع أن يعطيه قيمة البناء منقوضا، وكذلك قيمة العرش مقلوعا أو يكلفه بنقضه.


[ 227 ]

وقال مالك: لاشفعة إلا أن يعطى المشتري قيمة ما بنى وما غرس. المصالحة عن إسقاط الشفعة: إذا صالح عن حقه في الشفعة أو باعه من المشتري كان عمله باطلا ومسقطا لحقه في الشفعة، وعليه رد ما أخذه عوضا عنه من المشتري. وهذا عند الشافعي. وعند الائمة الثلاثة يجوز له ذلك، وله أن يتملك ما بذله له المشتري.


[ 228 ]

الوكالة تعريفها: الوكالة (1): معناها التفويض، تقول: وكلت أمري إلى الله، أي فوضته إليه – وتطلق على الحفظ، ومنه قول الله سبحانه: ” حسبنا الله ونعم الوكيل (2) “. والمراد بها هنا استنابة الانسان غيره فيما يقبل النيابة. مشروعيتها: وقد شرعها الاسلام للحاجة إليها، فليس كل إنسان قادرا على مباشرة أموره بنفسه فيحتاج إلى توكيل غيره ليقوم بها بالنيابة عنه، جاء في القرآن الكريم قول الله سبحانه في قصة أهل الكهف: ” وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم. قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. قالوا: ربكم أعلم بما (هامش) (1) بفتح الواو وكسرها. (2) أي الحافظ. (.)


[ 229 ]

لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه، وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ” (1). وذكر الله عن يوسف أنه قال للملك: ” اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم “. وجاءت الاحاديث الكثيرة تفيد جواز الوكالة، منها أنه، صلى الله عليه وسلم، وكل أبا رافع ورجلا من الانصار فزوجاه ميمونة رضي الله عنها – وثبت عنه، صلى الله عليه وسلم، التوكيل في قضاء الدين، والتوكيل في إثبات الحدود واستيفائها، والتوكيل في القيام على بدنه وتقسيم جلالها (2) وجلودها، وغير ذلك. وأجمع المسلمون على جوازها بل على استحبابها، لانها نوع من التعاون على البر والتقوى الذي دعا إليه القرآن الكريم وحببت فيه السنة، يقول الله سبحانه: ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان “. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه “. (هامش) (1) سورة الكهف الآية (19). (2) البدن، الحيوان البدين من ناقة أو بقر. والجلة، البعرة. (.)


[ 230 ]

وقد حكى صاحب البحر الاجماع على كونها مشروعة. وفي كونها نيابة أو ولاية وجهان: فقيل: نيابة، لتحريم المخالفة، وقيل: ولاية لجواز المخالفة إلى الاصلح، كالبيع بمعجل وقد أمر بمؤجل. أركانها: الوكالة عقد من العقود، فلا تصح إلا باستيفاء أركانها من الايجاب والقبول، ولا يشترط فيهما لفظ معين بل تصح بكل ما يدل عليهما من القول أو الفعل. ولكل واحد من المتعاقدين أن يرجع في الوكالة ويفسخ العقد في أي حال. لانها من العقود الجائزة أي غير اللازمة. التنجيز والتعليق: وعقد الوكالة يصح منجزا ومعلقا ومضافا إلى المستقبل كما يصح مؤقتا بوقت، أو بعمل معين، فالمنجز مثل: وكلتك في شراء كذا. والتعليق مثل: إن تم كذا فأنت وكيلي، والاضافة إلى المستقبل مثل: إن جاء شهر رمضان فقد وكلتك عني، والتوقيت مثل: وكلتك مدة سنة أو لتعمل كذا. وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ورأى الشافعية أنه لا يجوز تعليقها بالشرط. والوكالة قد تكون تبرعا من الوكيل وقد تكون بأجر لانه تصرف لغيره لا يلزمه فجاز أخذ العوض عليه، وحينئذ للموكل أن يشترط عليه أن لا يخرج نفسه منها إلا بعد


[ 231 ]

أجل محدود وإلا كان عليه التعويض (1). وإن نص في العقد على أجرة للوكيل اعتبر أجيرا وسرت عليه أحكام الاجير. شروطها: والوكالة لا تصح إلا إذا استكملت شروطها، وهذه الشروط منها شروط خاصة بالموكل ومنها شروط خاصة بالوكيل، ومنها شروط خاصة بالموكل فيه، أي محل الوكالة. شروط الموكل: ويشترط في الموكل أن يكون مالكا للتصرف فيما يوكل فيه، فإن لم يكن مالكا للتصرف فلا يصح توكيله: كالمجنون والصبي غير المميز، فإنه لا يصح أن يوكل واحد منهما غيره، لان كلا منهما فاقد الاهلية، فلا يملك التصرف ابتداء. أما الصبي المميز فإنه يصح توكيله في التصرفات النافعة له نفعا محضا، مثل التوكيل بقبول الهبة والصدقة والوصية. فإن كانت التصرفات ضارة به ضررا محضا مثل الطلاق والهبة والصدقة فإن توكيله لا يصح. شروط الوكيل: ويشترط في الوكيل أن يكون عاقلا، (هامش) (1) قالت الحنابلة: إن قال بع هذا بعشرة فما زاد فهو لك صح البيع وله الزيادة، وهو قول إسحاق وغيزه، وكان ابن عباس لا يرى بذلك بأسا لانه مثل المضاربة. (.)


[ 232 ]

فلو كان مجنونا أو معتوها أو صبيا غير مميز فإنه لا يصح توكيله. أما الصبي المميز فإنه يجوز توكيله عند الاحناف لانه مثل البالغ في الاحاطة بأمور الدنيا، ولان عمرو ابن السيدة أم سلمة زوج أمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صبيا لم يبلغ الحلم بعد. شروط الموكل فيه: ويشترط في الموكل فيه أن يكون معلوما للوكيل أو مجهولا جهالة غير فاحشة، إلا إذا أطلق الموكل كأن يقول له: اشتر لي ما شئت، كما يشترط فيه أن يكون قابلا للنيابة. ويجري ذلك في كل العقود التي يجوز للانسان أن يعقدها لنفسه: كالبيع والشراء والاجارة وإثبات الدين والعين والخصومة والتقاضي والصلح وطلب الشفعة والهبة والصدقة والرهن والارتهان والاعارة والاستعارة والزواج والطلاق وإدارة الاموال، سواء أكان الموكل حاضرا أم غائبا وسواء أكان رجلا أم امرأة. روي البخاري عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الابل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه، فطلبواله سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها. فقال: أعطوه. فقال: أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صلى الله


[ 233 ]

عليه وسلم: ” إن خيركم أحسنكم قضاء “. قال القرطبي: فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه. وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي، صلى الله عليه وسلم، مريضا ولا مسافرا، وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما “: إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضاء الخصم “، وهذا الحديث خلاف قولهما. صابط ما تجوز فيه الوكالة: وقد وضع الفقهاء ضابطا لما تجوز فيه الوكالة فقالوا: كل عقد جاز أن يعقده الانسان لنفسه جاز أن يوكل به غيره، أما ما لا تجوز فيه الوكالة، فكل عمل لا تدخله النيابة، مثل الصلاة والحلف والطهارة، فإنه لا يجوز في هذه الحالات أن يوكل الانسان غيره فيها لان الغرض منها الابتلاء والاختبار وهو لا يحصل بفعل الغير. الوكيل أمين: ومتى تمت الوكالة كان الوكيل أمينا فيما وكل فيه فلا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، ويقبل قوله في التلف كغيره من الامناء (1). (هامش) (1) ومن صور التفريط أن يبيع السلعة ويسلمها قبل قبض الثمن أو أن يستعمل العين استعمالا خاصا أو أن يضعها في غير حرز. (.)


[ 234 ]

التوكيل بالخصومة: ويصح التوكيل بالخصومة في إثبات الديون والاعيان وسائر حقوق العباد، سواء أكان الموكل مدعيا أم مدعى عليه، وسواء أكان رجلا أم امرأة، وسواء رضي الخصم أم لم يرض، لان المخاصمة حق خالص للموكل، فله‌أن يتولاه بنفسه وله أن يوكل عنه غيره فيه، وهل يملك الوكيل بالخصومة الاقرار على موكله؟ وهل له الحق في قبض المال الذي يحكم به له؟ والجواب عن ذلك نذكره فيما يلي: إقرار الوكيل على موكله: إقرار الوكيل على موكله في الحدود والقصاص لا يقبل مطلقا، سواء أكان بمجلس القضاء أم بغيره. وأما إقراره في غير الحدود والقصاص، فإن الائمة اتفقوا على أنه لا يقبل في غير مجلس القضاء، واختلفوا فيما إذا أقر عليه بمجلس القضاء فقال الائمة الثلاثة: لا يصح، لانه إقرار فيما لا يملكه، وقال أبو حنيفة: ” يصح إلا إن شرط عليه ألا يقر عليه “. الوكيل بالخصومة ليس وكيلا بالقبض: والوكيل بالخصومة ليس وكيلا بالقبض، لانه قد يكون كفئا للتقاضي والمخاصمة ولايكون أمينا في قبض الحقوق، وهذا ما ذهب إليه


[ 235 ]

الائمة الثلاثة، خلافا للاحناف الذين يرون أن له قبض المال الذي يحكم به لموكله، لان هذا من تمام الخصومة ولا تنتهي إلا به، فيعتبر موكلا فيه. التوكيل باستيفاء القصاص: ومما اختلف العلماء فيه التوكيل باستيفاء القصاص، فقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا إذا كان الموكل حاضرا، فإذا كان غائبا فإنه لا يجوز لانه صاحب الحق، وقد يعفو لو كان حاضرا فلا يجوز استيفاء القصاص مع وجود هذه الشبهة، وقال مالك: يجوز ولو لم يكن الموكل حاضرا. وهذا أصح قولي الشافعي، وأظهر الروايتين عن أحمد. الوكيل بالبيع: ومن وكل غيره ليبيع له شيئا وأطلق الوكالة فلم يقيده بثمن معين ولا أن يبيعه معجلا أن مؤجلا فليس له أن يبيعه إلا بثمن المثل ولا أن يبيعه مؤجلا، فلو باعه بما لا يتغابن الناس بمثله أو باعه مؤجلا لم يجز هذا البيع إلا برضا الموكل، لان هذا يتنافي مع مصلحته فيرجع فيه إليه، وليس معنى الاطلاق أن يفعل الوكيل ما يشاء، بل معناه الانصراف إلى البيع المتعارف لدى التجار وبما هو أنفع للموكل، قال أبو حنيفة: يجوز أن يبيع كيف شاء نقداأو نسيئة، وبدون ثمن المثل وبما لا يتغابن


[ 236 ]

الناس بمثله وبنقد البلد وبغير نقده، لان هذا هو معنى الاطلاق. وقد يرغب الانسان في التخلص من بعض ما يملك ببيعه ولو بغبن فاحش. هذا إذا كانت الوكالة مطلقة، فإذا كانت مقيدة فإنه يجب على الوكيل أن يتقيد بما قيده به الموكل، ولايجوز مخالفته إلا إذا خالفه إلى ما هو خير للموكل، فإذا قيده بثمن معين فباعه بأزيد، أو قال بعه مؤجلا فباعه حالا صح هذا البيع. فإذا لم تكن المخالفة إلى ما هو خير للموكل كان تصرفه باطلا عند الشافعي، ويرى الاحناف أن هذا التصرف يتوقف على رضا الموكل فإن أجازه صح وإلا فلا (1). شراء الوكيل من نفسه لنفسه: وإذا وكل في بيع شئ هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟. قال مالك: للوكيل أن يشتري من نفسه لنفسه بزيادة في الثمن. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: لا يصح شراء (هامش) (1) وعند الحنابلة، أن الوكيل إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو الثمن الذي قدره له الموكل بما لا يتغابن الناس فيه عادة صح الشراء للموكل وضمن الوكيل الزيادة. والبيع كالشراء في صحته، وضمان الوكيل النقص في الثمن أماما يتغابن فيه الناس عادة فعفو لا يضمنه. (.)


[ 237 ]

الوكيل من نفسه لنفسه، لان الانسان حريص بطبعه على أن يشتري لنفسه رخيصا، وغرض الموكل الاجتهاد في الزيادة، وبين الغرضين مضادة. التوكيل بالشراء: الوكيل بالشراء إن كان مقيدا بشروط اشترطها الموكل وجب مراعاة تلك الشروط، سواء أكانت راجعة إلى ما يشترى أو إلى الثمن، فإن خالف فاشترى غير ما طلب منه شراؤه، أو اشترى بثمن أزيد مما عينه الموكل كان الشراء له دون الموكل، فإن خالف إلى ما هو أفضل جاز، فعن عروة البارقي، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أعطاه دينارا يشتري به ضحية أو شاة، فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. رواه البخاري وأبو داود والترمذي. وفي هذا دليل على أنه يجوز للوكيل إذا قال له المالك: اشتر بهذا الدينار شاة ووصفها أن يشتري به شاتين بالصفة المذكورة، لان مقصود الموكل قد حصل، وزاد الوكيل خيرا، ومثل هذا لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها. بدرهمين أو أن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم. وهو الصحيح عند الشافعية كما نقله النووي في زيادة


[ 238 ]

الروضة…. وإن كانت الوكالة مطلقة فليس للوكيل أن يشتري بأكثر من ثمن المثل أو بغبن فاحش، وإذا خالف كان تصرفه غير نافذ على الموكل ووقع الشراء للوكيل نفسه. انتهاء عقد الوكالة: ينتهي عقد الوكالة بما يأتي: 1 – موت أحد المتعاقدين أو جنونه، لان من شروط الوكالة الحياة والعقل، فإذا حدث الموت أو الجنون فقد فقدت ما يتوقف عليه صحتها. 2 – إنهاء العمل المقصود من الوكالة، لان العمل المقصود إذا كان قد انتهى فإن الوكالة في هذه الحال تصبح لا معنى لها… 3 – عزل الموكل للوكيل ولو لم يعلم (1). ويرى الاحناف: أنه يجب أن يعلم الوكيل بالعزل، وقبل العلم تكون تصرفاته كتصرفاته قبل العزل في جميع الاحكام. 4 – عزل الوكيل نفسه. ولا يشترط علم الموكل بعزل نفسه أو حضوره، والاحناف يشترطون ذلك حتى لا يضار. 5 – خروج الموكل فيه عن ملك الموكل. (هامش) (1) وهذا عند الشافعي والحنابلة، ويكون ما بيده بعد العزل أمانة. (.)


[ 239 ]

العارية تعريفها: العارية (1) عمل من أعمال البر التي ندب إليها الاسلام ورغب فيها. يقول الله سبحانه: ” وتعاونوا على البر والتقوي ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ” (2). وقال أنس، رضي الله عنه: كان فزع بالمدينة فاستعار النبي، صلى الله عليه وسلم، فرسا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركبه فلما رجع قال: ” ما رأينا من شئ وإن وجدناه لبحرا “. وقد عرفها الفقهاء بأنها إباحة المالك منافع ملكه لغيره بلا عوض. (هامش) (1) عارية أو عارية بالتخفيف والتشديد. (2) سورة المائدة الآية رقم 2. (.)


[ 240 ]

بم تنعقد: وتنعقد بكل ما يدل عليها من الاقوال والافعال. شروطها: ويشترط لها الشروط الآتية: 1 – أن يكون المعير أهلا للتبرع. 2 – أن تكون العين منتفعا بها مع بقائها. 3 – أن يكون النفع مباحا. إعارة الاعارة وإجارتها: ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن المستعير له إعارة العارية وإن لم يأذن المالك إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل. وعند الحنابلة أنه متى تمت العارية جاز للمستعير أن ينتفع بها بنفسه أو بمن يقوم مقامه، إلا أنه لا يؤجرها ولا يعيرها إلا بإذن المالك. فإن أعارها بدون إذنه فتلفت عند الثاني فللمالك أن يضمن أيهما شاء، ويستقر الضمان على الثاني لانه قبضها على أنه ضامن لها وتلفت في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب من الخاصب. متى يرجع المعير: وللمعير أن يسترد العارية متى شاء، ما لم يسبب ضررا للسمتعير.


[ 241 ]

فإن كان في استردادها ضرر بالمستعير أجل حتى يتقي ما يتعرض له من ضرر. وجوب ردها: ويجب على المستعير أن يرد العارية التي استعارها بعد استيفاء نفعها لقول الله سبحانه: ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها ” (1). وعن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” أد الامانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك “. أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، والحاكم وحسنه. وروى أبو داود والترمذي وصححه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” العارية مؤداة ” (2). إعارة ما لا يضر المعير وينفع المستعير: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يمنع الانسان جاره من غرز خشبة في جداره ما لم يكن في ذلك ضرر (هامش) (1) سورة النساء الآية رقم 58. (2) أي تعاد لصاحبها. (.) فقه السنة – 16


[ 242 ]

يصيب الجدار. فعن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لايمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره “. قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لارمين بها بين أكتافكم. رواه مالك. واختلف العلماء في معنى الحديث، هل هو على المندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره أم على الايجاب. وفيه قولان للشافعي وأصحاب مالك، أصحهما في المذهبين الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، والثاني الايجاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وهو ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال: ظاهر الحديث أنهما توقفوا عن العمل، فلهذا قال: مالي أراكم عنها معرضين. وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب لا الايجاب، ولو كان واجبا لما أطبقوا على الاعراض عنه. والله أعلم. ويدخل في هذا كل ما ينتفع به المستعير ولاضرر فيه على المعير، فإنه لا يحل منعه وإذا منعه صاحبه قضى الحاكم به. لما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك ابن قيس ساق خليجا له من العريض فأراد أن يمر في أرض


[ 243 ]

محمد بن مسلمة، فأبى محمد – فقال له الضحاك: أنت تمنعني وهو لك منفعة – تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد. فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، قال محمد: لا، فقال عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك، فقال محمد: لا – فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به – ففعل الضحاك. ولحديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط فمنعه صاحب الحائط. فكلم عمر بن الخطاب – فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله. وهذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي ثور وداود وجماعة أهل الحديث. ويرى أبو حنيفة ومالك: أنه لا يقضي بمثل هذا، لان العارية لا يقضى بها. والاحاديث المتقدمة ترجح الرأي الاول. ضمان المستعير: ومتى قبض المستعير العارية فتلفت ضمنها، سواء فرط أم لم يفرط.


[ 244 ]

وإلى هذا ذهب ابن عباس وعائشة وأبو هريرة والشافعي وإسحاق. ففي حديث سمرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” على اليد ما أخذت حتى تودي ” (1). وذهب الاحناف والمالكية إلى أن المستعير لا يضمن إلا بتفريط منه، لقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ” ليس على المستعير غير المغل (2) ضمان، ولا المستودع غير المغل ضمان “. أخرجه الدارقطني. (هامش) (1) أي اليد ضمان ما أخذت حتى ترده إلى مالكه. (2) المغل: الخائن. (.)


[ 245 ]

الوديعة تعريفها: الوديعة مأخوذة من ودع الشئ بمعنى تركه. وسمي الشئ الذي يدعه الانسان عند غيره ليحفظه له بالوديعة، لانه يتركه عند المودع. حكمها: والايداع والاستيداع جائزان، ويستحب قبولها لمن يعلم عن نفسه القدرة على حفظها، ويجب على المودع أن يحفظها في حرز مثلها. والوديعة أمانة عند المودع يجب ردها عندما يطلبها صاحبها، يقول الله سبحانه: ” فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اوتمن أمانته وليتق الله ربه ” (1). (هامش) (1) سورة البقرة الآية رقم 283. (.)


[ 246 ]

وقد تقدم حديث ” أد الامانة إلى من ائتمنك… الخ ” ضمانها: ولا يضمن المودع إلا بالتقصير أو الجناية منه على الوديعة، للحديث المتقدم الذي رواه الدارقطني في الباب المتقدم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من أودع وديعة فلاضمان عليه “. رواه ابن ماجه. وفي حديث رواه البيهقي: ” لا ضمان على مؤتمن “. وقضى أبو بكر رضي الله عنه في وديعة كانت في جراب فضاعت من خرق الجراب أن لا ضمان فيها. وقد استودع عروة بن الزبير أبا بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام ما لا من مال بني مصعب، قال: فأصيب المال عند أبي بكر، أو بعضه، فأرسل إليه عروة: أن لا ضمان عليك، إنما أنت مؤتمن. فقال أبو بكر: قد علمت أن لا ضمان علي. ولكن لم تكن لتحدث قريشا أن أمانتي قد خربت. ثم إنه باع مالا له فقضاه. قبول قول المودع مع يمينه: وإذا ادعى المودع تلف الوديعة دون تعد منه فإنه يقبل


[ 247 ]

قوله مع يمينه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن المودع إذا أحرزها ثم ذكر أنها ضاعت أن القول قوله. ادعاء سرقة الوديعة: وفي مختصر الفتاوى لابن تيمية: ” من ادعى أنه حفظ الوديعة مع ماله فسرقت دون ماله كان ضامنا لها “. وقد ضمن عمر، رضي الله عنه، أنس بن مالك، رضيا لله عنه، وديعة ادعى أنها ذهبت دون ماله. من مات وعنده وديعة لغيره: من مات وثبت أن عنده وديعة لغيره ولم توجد فهي دين عليه تقضى من تركته. وإذا وجدت كتابة بخطه وفيها إقرار بوديعة ما فإنه يؤخذ بها ويعتمد عليها، فإن الكتابة تعتبر كالاقرار سواء بسواء متى عرف خطه.


[ 248 ]

الغصب تعريفه: جاء في القرآن الكريم: ” أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ” (1). والغصب هو أخذ شخص حق غيره والاستيلاء عليه عدوانا وقهرا عنه (2). حكمه: وهو حرام يأثم فاعله، يقول الله سبحانه: (هامش) (1) سورة الكهف آية رقم 79. (2) إن أخذ المال سرا من حرز مثله كان سرقه، وإن أخذ مكابرة كان محاربة، وإن أخذ استيلاء كان اختلاسا، وإن أخذ ممن كان له مؤتمنا عليه كان خيانة. (.)


[ 249 ]

” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ” (1). 1 – وفي خطبة الوداع التي رواها البخاري ومسلم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا “. 2 – وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة (2) يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن “. 3 – وعن السائب بن يزيد عن أبيه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولالاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه “. أخرجه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه. 4 – وعند الدارقطني من طريق أنس مرفوعا إلى النبي (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 188. (2) النهبة وزن غرفة: الشئ المنهوب. (.)


[ 250 ]

صلى الله عليه وسلم: ” لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه “. 5 – وفي الحديث: ” من أخذ مال أخيه بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة… فقال رجل: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان عودا من أراك “. 6 – وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من ظلم شبرا من الارض طوقه الله من سبع أرضين “. زرع الارض أو غرسها أو البناء عليها غصبا: ومن زرع في أرض مغصوبة فالزرع لصاحب الارض وللغاصب النفقة، هذا إذا لم يكن الزرع قد حصد، فإذا كان قد حصد فليس لصاحب الارض بعد الحصد إلا الاجرة. أما إذا كان غرس فيها فإنه يجب قلع ما غرسه وكذلك إذا بنى عليها فإنه يجب هدم ما بناه. ففي حديث رافع بن خديج، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ، وله نفقته “.


[ 251 ]

رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وأحمد وقال: إنما أذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس. وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من أحيا أرضا فهي له وليس لعرق ظالم حق “. قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر. فقضى لصاحب الارض بأرضه. وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس وإنها لنخل عم “. چحرمة الانتفاع بالمغصوب: وما دام الغصب حراما فإنه لا يحل الانتفاع بالمغصوب بأي وجه من وجوه الانتفاع، ويجب رده إن كان قائما بنمائه (1) سواء أكان متصلا أم منفصلا. ففي حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ” على اليد (2) ما أخذت حتى تؤديه “. (هامش) (1) فإن كان النتاج مستولدا من الغاصب فمن العلماء من يجعل النماء مقاسمة بين المالك والغاصب كالمضاربة. (2) أي على اليد ضمان ما أخذت. (.)


[ 252 ]

أخرجه أحمد وأبو داود، والحاكم وصححه، وابن ماجه. فإن هلك وجب على الغاصب رد مثله أو قيمته سواء أكان التلف بفعله أو بآفة سماوية. وذهبت المالكية إلى أن العروض والحيوان وغيرها، مما لا يكال ولا يوزن، يضمن بقيمته إذا غصب وتلف. وعند الاحناف والشافعية أن على من استهلكه أو أفسده ضمان المثل، ولا يعدل عنه إلا عند عدم المثل. واتفقوا على أن المكيل والموزون إذا غصبا وحدث التلف ضمن مثله إذا وجد مثله، لقوله تعالى: ” فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (1) “. ومؤونة الرد وتكاليفه على الغاصب بالغة ما بلغت. وإذانقص المغصوب وجب رد قيمة النقص، سواء أكان النقص في العين أو الصفة. الدفاع عن المال: ويجب على الانسان أن يدفع عن ماله متى أراد غيره أن ينتهبه، ويكون الدفع بالاخف، فإن لم ينفع الاخف دفع (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 194. (.)


[ 253 ]

بالاشد، ولو أدى ذلك إلى المقاتلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد “. رواه البخاري ومسلم والترمذي. من وجد ماله عند غيره فهو أحق به: ومتى وجد المغصوب منه ماله عند غيره كان أحق به ولو كان الغاصب باعه لهذا الغير، لان الغاصب حين باعه لم يكن مالكاله، فعقد البيع لم يقع صحيحا. وفي هذه الحال يرجع المشتري على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه. روى أبو داود والنسائي عن سمرة، رضيا لله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه – أي يرجع المشتري على البائع. فتح باب القفص: من فتح باب قفص فيه طير ونفره ضمن. واختلفوا فيما إذا فتح القفص عن الطائر فطار، أو


[ 254 ]

حل عقال البعير فشرد. فقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه على كل وجه. وقال مالك و أحمد: عليه الضمان سواء خرج عقيبه أو متراخيا. وعن الشافعي قولان: في القديم: لا ضمان عليه مطلقا. وفي الجديد: إن طار عقيب الفتح وجب الضمان، وإن وقف ثم طار لم يضمن.


[ 255 ]

اللقيط تعريفه: اللقيط هو الطفل غير البالغ الذي يوجد في الشارع أو ضال الطريق ولايعرف نسبه. حكم التقاطه: والتقاطه فرض من فروض الكفاية، كغيره من كل شئ ضائع لا كافل له، لان في تركه ضياعه. ويحكم بإسلامه متى وجد في بلاد المسلمين. من الاولى باللقيط: والذي يجده هو الاولى بحضانته إذا كان حرا عدلا أمينا رشيدا، وعليه أن يقوم بتربيته وتعليمه روى سعيد بن منصور في سننه، أن سنين بن جميلة قال: وجدت ملقوطا فأتيت به عمر بن الخطاب، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح. فقال عمر: أكذلك هو؟ قال: نعم. قال: اذهب به، وهو


[ 256 ]

حر ولك ولاؤه (1)، وعلينا نفقته، وفي لفظ: وعلينا رضاعه. فإن كان في يد فاسق أو مبذر أخذ منه وتولى الحاكم أمر تربيته. النفقة عليه: وينفق عليه من ماله إن وجد معه مال، فإن لم يوجد معه مال، فنفقته من بيت المال لان بيت المال معد لحوائج المسلمين، فإن لم يتيسر فعلى من علم بحاله أن ينفق عليه، لان ذلك إنقاذ له من الهلاك، ولا يرجع على بيت المال إلا إذا كان القاضي أذن له بالنقة عليه، فإن لم يكن أذن له كانت نفقته تبرعا. ميراث اللقيط: وإذا مات اللقيط وترك ميراثا ولم يخلف وارثا كان ميراثه لبيت المال، وكذلك ديته تكون لبيت المال إذاقتل، وليس لملتقطه حق ميراثه. ادعاء نسبه: ومن ادعى نسبه من ذكر أو أنثى ألحق به متى كان وجوده منه ممكنا، لما فيه من مصلحة اللقيط دون ضرر يلحق بغيره، وحينئذ يثبت نسبه وإرثه لمدعيه. فإن ادعاه أكثر من واحد ثبت نسبه لن أقام البينة على دعواه فإن لم يكن لهم بينة أو أقامها كل واحد منهم عرض على القافة الذين يعرفون الانساب بالشبه، ومتى (هامش) (1) ولك ولاؤه: أي ولايته وحضانته. (.)


[ 257 ]

حكم ينسبه قائف واحد أخذ بحكمه متى كان مكلفا ذكرا عدلا مجربا في الاصابة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ” دخل علي النبي، صلى الله عليه وسلم، مسرور اتبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض ” رواه البخاري ومسلم. فإن لم يتيسر ذلك اقترعوا بينهم، فمن خرجت قرعته كان له. وقال الحنفية: لا يعمل بالقائف ولا بالقرعة، بل لو تساوي جماعة في ولد وكان مشتركا بينهم ورث كل منهم كابن كامل، وورثوه جميعا كأب واحد. فقه السنة – 17


[ 258 ]

اللقطة تعريفها: اللقطة هي كل مال معصوم معرض للضياع لايعرف مالكه. وكثيرا ما تطلق على ما ليس بحيوان، أما الحيوان فيقال له: ضالة. حكمها: أخذ اللقطة مستحب. وقيل: يجب. وقيل: إن كانت في موضع يأمن عليها الملتقط إذ تركها استحب له الاخذ. فإن كانت في موضع لا يأمن عليها فيه إذا تركها وجب عليه التقاطها، وإذا علم من نفسه الطمع فيها حرم عليه أخذها. وهذا الاختلاف بالنسبة للحر البالغ العاقل، ولو لم يكن مسلما.


[ 259 ]

أما غير الحر والصبي وغير العاقل فليس مكلفا بالتقاط اللقطة. والاصل في هذا الباب ما جاء عن زيد بن خالد، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقطة فقال: ” اعرف عفاصها (1)، ووكاءها (2)، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا شأنك بها (3) قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لاخيك (4) أو للذئب (5). قال: فضالة الابل؟ قال: مالك ولها (6) معها سقاؤها (7) وحذاؤها (8) (هامش) (1) العفاص: الوعاء الذي يكون فيه الشئ من جلد أو نسيج أو خشب أو غيره. (2) الوكاء. الخيط الذي يشد به على رأس الكيس والصرة. والمقصود من معرفة العفاص والوكاء تمييزهما عن غيرهما حتى لا تختلط اللقطة بمال الملتقط، وحتى يستطيع إذا جاءه صاحبها أن يستوصفه العلامات التي تميزها عن غيرها ليتبين صدقه من كذبه. (3) تصرف فيها. (4) أي صاحبها أو ملتقط آخر. (5) كل حيوان مفترس. (6) دعها وشأنها. (7) السقاء، وعاء الماء، والمراد به هنا كرشها الذي تختزن فيه الماء. (8) أخفافها. (.)


[ 260 ]

وترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها “. رواه البخاري وغيره بألفاظ مختلفة. لقطة الحرم: وهذه في غير لقطة الحرم. أما لقطته فيحرم أخذها إلا لتعريفها، لقوله، صلى الله عليه وسلم: ” ولا يلتقط لقطتها (1) إلا من عرفها “. وقوله: ” لا يرفع لقطتها إلا منشد ” أي المعرف بها (2). التعريف بها: يجب على ملتقطها أن يتبين علاماتها التي تميزها عن غيرها من وعاء ورباط، وكذا كل ما اختصت به من نوع وجنس ومقدار (3). ويحفظها كما يحفظ ماله ويستوي في ذلك الحقير والخطير. وتبقى وديعة عنده لا يضمنها إذا هلكت إلا بالتعدي، ثم ينشر نبأها في مجتمع الناس بكل وسيلة في الاسواق وفي غيرها من الاماكن حيث يظن أن ربها هناك. (هامش) (1) أي مكة. (2) ويصح إعطاء اللقطة للحكومة إذا كانت في الجهة التي وجدت فيها حكومة أمينة فيها محل لحفظها ومشهور بين الناس لان ذلك أحفظ لها وأيسر على الناس. (3) أي كيل أو وزن أو ذرع (.)


[ 261 ]

فإن جاء صاحبها وعرف علاماتها والامارات التي تميزها عما عداها حل للملتقط أن يدفعها إليه وإن لم يقم البينة. وإن لم يجئ عرفها الملتقط مدة سنة. فإن لم يظهر بعد سنة حل له أن يتصدق بها أو الانتفاع بها، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ولا يضمن. لما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال: لقيت أوس بن كعب فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: عرفها حولا. فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها. وسئل رسول الله في اللقطة توجد في سبيل العامرة، قال: عرفها حولا، فإن وجدت باغيها فأدها إليه، وإلا فهي لك. قال: ما يوجد في الخراب؟ قال: فيه وفي الركاز الخمس “. قال ابن القيم: والافتاء بما فيه متعين، وإن خالفه من خالفه فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه. استثناء المأكول والحقير من الاشياء: وهذا بالنسبة لغير المأكول وغير الحقير من الاشياء. فأن المأكول لا يجب


[ 262 ]

التعريف به ويجوز أكله، فعن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر بثمرة في الطريق فقال: ” لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لاكلتها ” رواه البخاري ومسلم. وكذلك الشئ الحقير لايعرف سنة بل يعرف زمنا يظن أن صاحبه لا يطلبه بعده، وللملتقط أن ينتفع به إذا لم يعرف صاحبه. فعن جابر، رضي الله عنه، قال: ” رخص لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به ” أخرجه أحمد وأبو داود. وعن علي، كرم الله وجهه، أنه جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بدينار وجده في السوق، فقال النبي صلى عليه وسلم: عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعرفه، فقال: كله “. أخرجه عبد الرزاق عن أبي سعيد. ضالة الغنم: ضالة الغنم ونحوها يجوز أخذها لانها ضعيفة ومعرضة للهلاك وافتراس الوحوش. ويجب تعريفها، فإن لم يطلبها صاحبها كان للملتقط أن يأخذها وغرم لصاحبها. وقالت المالكية: إنه يملكها بمجرد الاخذ ولاضمان عليه، ولو جاء صاحبها، لان الحديث سوى بين الذئب


[ 263 ]

والملتقط، والذئب لاغرامة عليه فكذلك الملتقط. وهذا الخلاف في حالة ما إذا جاء صاحبها بعد أكلها. أما إذا جاء قبل أن يأكلها الملتقط ردت إليه بإجماع العلماء. ضالة الابل والبقر والخيل والبغال والحمير: اتفق العلماء على أن ضالة الابل لا تلتقط، ففي البخاري ومسلم عن زيد بن خالد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سئل عن ضالة الابل، فقال: ” مالك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها “. أي أن ضالة الابل مستغنية عن الملتقط وحفظه، ففي طبيعتها الصبر على العطش والقدرة على تناول المأكول من الشجر بغير مشقة لطول عنقها فلاتحتاج إلى ملتقط، ثم إن بقاءها حيث ضلت يسهل على صاحبها العثور عليه بدل أن يتفقدها في إبل الناس. وقد كان الامر على هذا حتى عهد عثمان، رضي الله عنه، فلما كان عثمان رأى التقاطها وبيعها، فإن جاء صاحبها أخذ ثمنها. قال ابن شهاب الزهري: ” كانت ضوال الابل في زمان


[ 264 ]

عمر بن الخطاب إبل مؤيلة (1) حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها “. رواه مالك في الموطأ. على أن الامام عليا كرم الله وجهه أمر بعد عثمان أن يبني لها بيت يحفظها فيه ويعلفها علفا لا يسمنها ولا يهزلها، ثم من يقيم البينة على أنه صاحب شئ منها تعطى له، وإلا بقيت على حالها لا يبيعها. واستحسن ذلك ابن المسيب. وأما البقر والخيل والبغال والحمير فهي مثل الابل عند الشافعي (2) وأحمد. وروى البيهقي أن المنذر بن جرير قال: كنت مع أبي بالبوازيج (3) بالسواد، فراحت البقر فرأى بقرة أنكرها فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: بقرة لحقت بالبقر فأمر بها فطردت حتى توارت، ثم قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ” لا يأوي الضالة إلا ضال ” (4). (هامش) (1) كثيرة متخذ للقنية. (2) واستثنى الشافعي الصغار منها وقال: يجوز التقاطها. (3) بلد قديم على دجلة فوق بغداد. (4) أي لا يأوي الضالة من الابل والبقر التي تستطيع حماية نفسها وتقدر على التنقل في طلب الكلا والماء إلا ضال. (.)


[ 265 ]

وقال أبو حنيفة: يجوز التقاطها. وقال مالك: ” يلتقطها إن خاف عليها من السباع وإلا فلا “. النفقة على اللقطة: وما أنفقه الملتقط على اللقطة فإنه يسترده من صاحبها، اللهم إلا إذا كانت النفقة نظير الانتفاع بالركوب أو الدر.


[ 266 ]

الاطعمة تعريفها: الاطعمة جمع طعام، وهي ما يأكله الانسان ويتغذى به من الاقوات وغيرها. وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ” (1) أي على آكل يأكله. ولا يحل منها إلا ما كان طيبا تتوقه النفس. يقول الله تعالى: ” يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ” (2). والمقصود بالطيب هنا ما تستطيبه النفس وتشتهيه وهذا مثل قول الله تعالى: (هامش) (1) سورة الانعام آية رقم 145. (2) سورة المائدة آية رقم 4. (.)


[ 267 ]

” ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ” (1). والطعام، منه ما هو جماد، ومنه ما هو حيوان. فالجماد حلال كله ما عدا النجس والمتنجس والضار والمسكر وما تعلق به حق الغير. فالنجس مثل الدم والمتنجس (2) كالسمن الذي ماتت فيه فأرة، لحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري عن ميمونة أنه سئل عن سمن وقعت فيه فأرة فقال: ” القوها، وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم “. وقد أخذ من هذا الحديث أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك منه. وأما المائع فإنه ينجس بملاقاة النجاسة (3). والضار من السموم وغيرها. فالسموم مثل السموم المستخرجة من العقارب والنحل والحيات السامة وما يستخرج (هامش) (1) سورة الاعراف آية رقم 157. (2) المختلط بالنجاسة. (3) روى الزهري والاوزاعي وابن عباس وابن مسعود والبخاري أن المائع إذا وقعت فيه النجاسة فإنه لا ينجس إلا إذا تغير بالنجاسة. فإن لم يتغير فهو طاهر. (.)


[ 268 ]

من النبات السام والجماد كالزرنيخ، لقول الله تعالى: ” ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ” (1). وقوله جل شأنه: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ” (2). وقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أبو هريرة: ” من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ” ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ” رواه البخاري. وإنما يحرم من السموم القدر الذي يضر. وأما ما يحرم للضرر من غير السموم مثل الطين والتراب والحجر والفحم بالنسبة لمن يضره تناولها فلقول الرسول، صلى الله عليه وسلم،: ” لا ضر ولا ضرار ” رواه أحمد وابن ماجه. ويدخل في هذا الباب ” الدخان ” فإنه ضار بالصحة وفيه (هامش) (1) سورة النساء آية رقم 29. (2) سورة البقرة آية رقم 195. (.)


[ 269 ]

تبذير وضياع للمال، والمسكر مثل الخمر وغيرها من المخدرات. وما تعلق به حق الغير مثل المسروق والمغصوب فإنه لا يحل شئ من ذلك كله. والحيوان منه ما هو بحري (1) ومنه ما هو بري (2). فأما البحري فهو حلال كله. والحيوان البري: منه ما هو حلال أكله ومنه ما هو حرام. وقد فصل الاسلام ذلك كله وبينه بيانا وافيا، مصداقا لقول الله عزوجل: ” وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ” (3). وقد جاء هذا التفصيل مشتملا على أمور ثلاثة: الامر الاول: النص على المباح. الامر الثاني: النص على الحرام. الامر الثالث: ما سكت عنه الشارع. (هامش) (1) الحيوان البحري ما كان ساكنا في البحر بالفعل. (2) الحيوان البري ما يعيش في البر من الدواب والطيور. (3) سورة الانعام آية رقم 119. (.)


[ 270 ]

ما نص الشارع على أنه مباح: وما نص الشارع على أنه مباح نذكره فيما يلي: الحيوان البحري: الحيوان البحري حلال كله – ولا يحرم منه إلا ما فيه سم للضرر، سواء أكان سمكا أم كان من غيره وسواء اصطيد أم وجد ميتا، وسواء أصاده مسلم أم كتابي أم وثني، وسواء أكان مما له شبه في البر أم لم يكن له شبه. والحيوان البحري لا يحتاج إلى تزكية. والاصل في ذلك قول الله عزوجل: ” أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ” (1) قال ابن عباس: ” صيد البحر وطعامه: ما لفظ البحر ” رواه الدار قطني. وروى عنه في معنى طعامه ” ميتته ” لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هو الطهور ماؤه والحل ميتته “. (هامش) (1) سورة المائدة آية رقم 96. (.)


[ 271 ]

رواه الخمسة. وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح. وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: حديث صحيح. السمك المملح: كثيرا ما يخلط السمك بالملح ليبقى مدة طويلة بعيدا عن الفساد ويتخذ من أصنافه المختلفة: السردين، والفسيخ، والرنجة، والملوحة. وكل هذه طاهرة ويحل أكلها ما لم يكن فيه ضرر فإنه يحرم لضرره بالصحة حينئذ. قال الدرديري – رضي الله عنه – من شيوخ المالكية: ” الذي أدين الله به أن الفسيخ طاهر لانه لا يملح ولا يرضخ إلا بعد الموت، والدم المسفوح لا يحكم بنجاسته إلا بعد خروجه، وبعد موت السمك إن وجد فيه دم يكون كالباقي في العروق بعد الذكاة الشرعية، فالرطوبات الخارجة منه بعد ذلك طاهرة لا شك في ذلك “. وإلى هذا ذهب الاحناف والحنابلة وبعض علماء المالية. الحيوان يكون في البر والبحر: قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه، لانه تعارض فيه دليلان: دليل تحليل، ودليل تحريم، فنغلب دليل التحريم احتياطا.


[ 272 ]

أما غيره من العلماء فيرى أن جميع ما يكون في البحر بالفعل تحل ميتته، ولو كان يمكن أن يعيش في البر، إلا الضفدع للنهي عن قتلها. فعن عبد الرحمن بن عثمان رضي الله عنه أن طبيبا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه عن قتلها. رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه الحاكم (1). الحلال من الحيوان البري: والحلال من الحيوان البري المنصوص عليه نذكره فيما يلي: بهيمة الانعام، بقول الله تعالى: ” والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون ” (2). ويقول جل شأنه: ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم ” (3). وبهيمة الانعام هي: الابل والبقر ومنه الجاموس والغنم (هامش) (1) القول بتحريم الضفدع فيه نظر وسيأتي تحقيق ذلك في هذا الباب. (2) سورة النحل آية رقم 5. (3) سورة المائدة آية رقم 1. (.)


[ 273 ]

ويشمل الضأن والمعز ويلحق بها بقر الوحش وإبل الوحش والظباء، فهذه كلها حلال بالاجماع، وثبت في السنة الترخيص في: الدجاج (1) والخيل (2) وحمار الوحش (3) والضب والارنب (4) والضبع (5) والجراد (6) والعصافير. ” عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي الزبير قال: سألت جابرا عن الضب فقال: لا تطعموه وقذره. وقال: قال عمر بن الخطاب، إن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يحرمه، إن الله ينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاة منه، ولو كان عندي طعمته “. وقال ابن عباس، رواية عن خالد بن الوليد، رضي الله عنهما، أنه دخل مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (هامش) (1) رواه البخاري، ومسلم الترمذي والنسائي، ومثله الاوز والبط والرومي. (2) رواه البخاري، ويرى مالك وأبو حنيفة أنها مكروهة لان الله تعالى ذكرها وبين أنها معدة للركوب والزينة ولم يذكر الاكل. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) رواه البخاري ومسلم. (5) رواه الترمذي. (6) رواه البخاري ومسلم. (.)


[ 274 ]

على خالته ميمونة بنت الحارث فقدمت إلى رسول الله لحم ضب جاءها مع قريبة لها من نجد، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يأكل شيئا حتى يعلم ما هو – فاتفق النسوة ألا يخبرنه حتى يرين كيف يتذوقه ويعرفه إن ذاقه، فلما أن سأل عنه وعلم به تركه وعافه، فسأله خالد: أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته إلى فأكلته ورسول الله ينظر. وروي عن عبد الرحمن بن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، آكلها؟ قال: نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الترمذي بسند صحيح. وممن ذهب إلى جواز أكله الشافعي وأبو يوسف ومحمد وابن حزم. وقال الشافعي فيه: إن العرب تستطيبه وتمدحه ولا يزال يباع ويشترى بين الفا والمروة من غير نكير. ويري بعض العلماء أنه حرام لانه سبع، ولكن الحديث حجة عليهم. وذكر أبو داود وأحمد أن ابن عمر سئل عن القنفذ


[ 275 ]

فتلا: ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه “. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” خبيثة من الخبائث “. فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا فهو كما قال. وهذا الحديث من رواية عيسى ابن نميلة وهو ضعيف، قال الشوكاني: فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من أدلة الحل العامه، وبناء على ما قاله الشوكاني يكون أكله حلالا. وقال مالك وأبو ثور ويحكى عن الشافعي والليث أنه لا بأس بأكله، لان العرب تستطيبه ولان حديثه ضعيف. وكرهه الاحناف. وقالت عائشة في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت: ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه “. وعند مالك لا بأس بأكل خشاش الارض وعقاربها ودودها، ولا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه. قال القرطبي: وحجته قول ابن عباس وأبي الدرداء: ” ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما


[ 276 ]

سكت عنه فهو عفو “. قال أحمد في الباقلاء المدود: تجنبه أحب إلي، وإن لم يستقذر فأرجو (أي أنه لا يكون في أكله بأس). وقال عن تفتيش التمر المدود: لا بأس به، وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه أتي بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه وينقيه. قال ابن قدامة: وهو أحسن. ويرى ابن شهاب وعروة والشافعي والاحناف وبعض علماء أهل المدينة أنه لا يجوز أكل شئ من خشاش الارض وهو امها مثل الحيات والفأرة وما أشبه ذلك وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه. وقال الشافعي: لا بأس بالوبر واليربوع. وفي أكل العصافير يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ” ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله تعالى عنها. قيل: يا: رسول الله، وما حقها؟ قال: يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمي بها ” رواه النسائي. وأكل بعض الصحابة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، لحم الحباري ” طائر “.


[ 277 ]

رواه أبو داود والترمذي. ما نص الشارع على حرمته: والمحرمات من الطعام في كتاب الله تعالى محصورة في عشرة أشياء منصوص عليها في قوله سبحانه: (1) ” حرمت عليكم الميتة (2) والدم (3) ولحم الخنزير (4) وما أهل لغير (5) الله به والمنخنقة (6) والموقوذة (7) والمتردية (8) والنطيحة (9) وما أكل السبع (10) إلا ما ذكيتم وما ذبح على (هامش) (1) سورة المائدة آية رقم 3. (2) ” الميتة ” ما مات حتف أنفه. وإنما حرم الله الميتة لضررها إذ أنها لم تمت إلا بسبب الامراض التي لحقتها. (3) ” والدم ” أي الدم المسفوح. وحرم الدم لضرره وهو أصلح بيئة لنمو الميكروبات. (4) ” ولحم الخنزير ” كما قال في المنار: لانه قذر وأشهى غذاء له القاذورات والنجاسات. وهو ضار في جميع الاقاليم ولا سيما الحارة كما ثبت بالتجربة. وأكل لحمه من أسباب الدودة القتالة: ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة. (5) ” وما أهل لغير الله به ” أي ذكر غير اسم الله عند ذبحه. وهذا تحريم ديني من أجل المحافظة على التوحيد. (6) ” والمنخنقة ” أي التي تخنق فتموت. (7) ” والموقوذة ” أي التي ضربت بعصى فقتلت. (8) ” والمتردية ” هي التى تتردى من مكان عال فتموت. (9) النطيحة ” هي التي تنطحها أخرى فتقتلها. (10) ” وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ” أي وما جرحه الحيوان المفترس إلا إذا أدركتموه وفيه حياة فذبحتموه فإنه يحل حينئذ. (.)


[ 278 ]

النصب (1) وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق “. وهذا تفصيل للاجمال المذكور في قوله سبحانه: ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ” (2). فإنه ذكر هنا أربعة أشياء مجملة، وذكر في الاية السابقة تفصيلها فلا تنافي بين الايتين. ما قطع من الحي: ويلحق بهذه المحرمات ما قطع من الحي. لحديث أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ” ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة “. رواه أبو داود والترمذي وحسنه، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم. ويستثنى من ذلك: (أ): ميتة السمك والجراد فإنها طاهرة لحديث ابن (هامش) (1) ” وما ذبح على النصب ” أي ما ذبح وقصد به تعظيم الطاغوت. والطاغوت: كل ما عبد من دون الله. (2) سورة الانعام آية رقم 145. (.)


[ 279 ]

عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ” أحل لنا ميتتان ودمان. أما الميتتان فالحوت (1) والجراد، واما الدمان: فالكبد والطحال “. رواه أحمد والشافعي وابن ماجه والبيهقي والدار قطني. والحديث ضعيف، لكن الامام أحمد صحح وقفه، كما قاله أبو زرعة وأبو حاتم، ومثل هذا له حكم الرفع، لان قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا، مثل قوله: أمرنا ونهينا – وقد تقدم ما يؤكد هذا الحديث. وإذا كانت الميتة محرمة فالمقصود بالتحريم أكل اللحم، أما ما عداه فهو طاهر يحل الانتفاع به. (ب): فعظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وجلده وكل ما هو من جنس ذلك طاهر. لان الاصل في هذه كلها الطهارة، ولا دليل على النجاسة. قال الزهري في عظام الموتى، نحو الفيل وغيره: ” أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها، لا يرون به بأسا “. رواه البخاري. (هامش) (1) الحوت: السمك. (.)


[ 280 ]

وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ” تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: ” إنما حرم أكلها “. رواه الجماعة إلا ابن ماجه، قال فيه عن ميمونة. وليس في البخاري ولا النسائي ذكر الدباغ. وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ هذه الاية: ” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ” وقال: ” إنما حرم ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والقد (1) والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال “. رواه ابن المنذر وابن حاتم. وكذلك إنفحة الميتة وليتها طاهر لان الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس وهو يعمل بالانفحة مع أن ذبائحهم تعتبر كالميتة. وقد ثبت عن سلمان الفارسي، رضي الله عنه، أنه سئل عن شئ من الجبن والسمن والفراء، فقال: الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما (هامش) (1) القد: بكسر القاف الاناء من الجلد. (.)


[ 281 ]

سكت عنه فهو مما عفا عنه، ومن المعلوم أن السؤال كان عن جبن المجوس حينما كان سلمان نائب عمر بن الخطاب عن المدائن. (ج): والدم: يعفى عن اليسير منه، فعن ابن جريج في قوله تعالى: ” أو دما مسفوحا ” قال: المسفوح الذي يهراق. ولا بأس بما كان في العروق منها. أخرجه ابن المنذر. وعن أبي مجلز في الدم يكون في مذبح الشاة أو الدم يكون في أعلى القدر قال: لا بأس، إنما نهى عن الدم المسفوح. أخرجه ابن حميد وأبو الشيخ. وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر. حرمة الحمر والبغال: ومما يدخل في دائرة التحريم الحمر الاهلية (1) والبغال (هامش) (1) لا يقال إن آية تحريم الطعام تفيد الحصر فلا يحرم غيرها فقد أجاب القرطبي عن هذا فقال: إن هذه الاية مكية وكل محرم حرمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو جاء في الكتاب مضموم إليها فهو زيادة حكم من الله عز وجل عن لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. قال: على هذا أكثر أهل العلم من النظر وأهل الفقه والاثر، ونظيره نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله: ” وأحل لكم ما وراء ذلكم “، وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله ” فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان “. (.)


[ 282 ]

بقول الله سبحانه: ” والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة (1) “. 1 – روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن المقداد ابن معد يكرب، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الاهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه ” (2). 2 – وعن أنس، رضي الله عنه، قال: لما فتح النبي، صلى الله عليه وسلم، خيبر أصبنا من القرية حمرا، فطبخنا منها، فنادى النبي: ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان، فأكفئت القدور وإنها لتفور بما فيها. رواه الخمسة. 3 – وعن جابر، رضي الله عنه، قال: نهانا النبي، (هامش) (1) سورة النحل آية رقم 8. (2) أي يأخذ كفايته ولو بالقوته. (.)


[ 283 ]

صلى الله عليه وسلم، يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. والمروي عن ابن عباس أنه أباح الحمر الاهلية، والصحيح أنه توقف فيها وقال: لا أدري أنهى عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أجل أنها كانت حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرم يوم خيبر لحم الحمر الاهلية – كما رواه البخاري… تحريم سباع البهائم والطير: ومما حرمه الاسلام السباع من البهائم والطير. روى مسلم عن ابن عباس قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. والسباع جمع سبع وهو المفترس من الحيوان، والمراد بذي الناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم مثل الذئب والاسد والكلب والفهد والنمر والهر، فهذه كلها محرمة عند جمهور العلماء. ويرى أبو حنيفة أن كل ما أكل اللحم فهو سبع وأن من السباع الفيل والضبع واليربوع والهر، فهي كلها محرمة عنده. ويرى الشافعي أن السباع المحرمة هي التي تعدو على


[ 284 ]

الناس كالاسد والنمر والذئب. وروى مالك في الموطإ عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ” أكل كل ذي ناب من السباع حرام “. وقال مالك بعد هذا الحديث: وعلى ذلك الامر عندنا. وروى ابن القاسم عنه أنها مكروهة، وبه أخذ جمهور أصحابه. وأجاز أكل الثعلب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وأجاز ابن حزم الفيل والسمور. ويحرم أكل القرد، قال أبو عمر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن أكله. وأما ذو المخلب من الطير فالمقصود به الطيور التي تعدو بمخالبها مثل الصقر والشاهين والعقاب والنسر والباشق ونحو ذلك، فهي محرمة عند جمهور العلماء. ويرى مالك أنها مباحة، ولو كانت جلالة. تحريم الجلالة: والجلالة هي التي تأكل العذرة (1) من الابل والبقر (هامش) (1) العذرة: الغائط. (.)


[ 285 ]

والغنم والدجاج والاوز وغيرها حتى يتغير ريحها. وقد ورد النهي عن ركوبها وأكل لحمها وشرب لبنها. 1 – فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شرب لبن الجلالة “. رواه الخمسة إلا ابن ماجه. وصححه الترمذي. وفي رواية ” نهى عن ركوب الجلالة ” رواه أبو داود. 2 – وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: ” نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن لحوم الحمر الاهلية وعن الجلالة: عن ركوبها وأكل لحومها ” رواه أحمد والنسائي وأبو داود. فإن حبست بعيدة عن العذرة زمنا وعلفت طاهر فطاب لحمها وذهب اسم الجلالة عنها حلت. لان علة النهي التغيير وقد زالت. تحريم الخبائث: وبجانب هذا التفصيل وضع القرآن الكريم قاعدة عامة لكل ما هو محرم. بقول الله تعالى: ” ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ” (1). (هامش) (1) سورة الاعراف آية رقم 157. (.)


[ 286 ]

والطيبات ما تستطيبه الناس وتستلذه من غير ورود نص بتحريمه فإن استخبثته فهو حرام. ويرى الشافعي والحنابلة أن الطيبات ما تستطيبه العرب وتستلذه لا غيرهم. والمقصود بالعرب هم سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي. وفي كتاب الدراري المضية يرجح القول باستطابة الناس لا العرب وحدهم، فيقول: ” ما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم اعتياد بل لمجرد استخباث فهو حرام، وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالاكثر كحشرات الارض وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة فتندرج تحت قوله سبحانه: ” ويحرم عليهم الخبائث “. ويدخل في الخبائث كل مستقذر مثل البصاق والمخاط والعرق والمني والروث والقمل والبراغيث ونحو ذلك. تحريم ما أمر الشارع بقتله: ويرى بعض العلماء تحريم ما أمر الرسول، صلى الله


[ 287 ]

عليه وسلم، بقتله وتحريم ما نهى عن قتله. فما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله خمس من الدواب، وهي: الغراب (1) والحدأة والعقرب والفأر والكلب العقور. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة، رضي الله عنها، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال ” خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأر والكلب العقور “. وما نهى عن قتله من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد. روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد “. وقد ناقش الشوكاني هذا الرأي ونقده فقال: ” وقد قيل إن من أسباب التحريم الامر بقتل الشئ كالخمس الفواسق والوزغ ونحو ذلك، والنهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك، ولم يأت الشارع ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نهى عن قتله حتى يكون الامر والنهي دليلين على ذلك، (هامش) (1) يرى المالكية حل جميع الغربان من غير كراهة تبعا لرأيهم في جميع الطيور. (.)


[ 288 ]

ولا ملازمة عقلية ولا عرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم، بل إن كان المأمور بقتله أو المنهى عن قتله مما يدخل في الخبائث كان تحريمه بالاية الكريمة. وإن لم يكن من ذلك كان حلالا، عملا بما أسلفنا من أصالة الحل وقيام الادلة الكلية على ذلك “. المسكوت عنه: أما ما سكت الشارع عنه ولم يرد نص بتحريمه فهو حلال تبعا للقاعدة المتفق عليها، وهي أن الاصل في الاشياء الاباحة، وهذه القاعدة أصل من أصول الاسلام. وقد جاءت النصوص الكثيرة تقررها، فمن ذلك قول الله سبحانه: 1 – ” هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ” (1). 2 – وروى الدار قطني عن أبي ثعلبة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها “. 3 – وعن سلمان الفارسي أن الرسول، صلى الله عليه (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 29. (.)


[ 289 ]

وسلم، سئل عن السمن والجبن والفراء فقال: ” الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم “. أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه أيضا الحاكم في المستدرك شاهدا. 4 – وروى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شئ لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته “. 5 – وعن أبي الدرداء أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا “. وتلا: ” وما كان ربك نسيا (1) “. أخرجه البزار وقال: سنده صحيح، والحاكم وصححه. اللحوم المستوردة: اللحوم المستوردة من خارج البلاد الاسلامية يحل أكلها (هامش) (1) سورة مريم آية رقم 64. (.) فقه السنة – 19


[ 290 ]

بشرطين: 1 – أن تكون من اللحوم التي أحلها الله. 2 – أن تكون قد ذكيت ذكاة شرعية. فإن لم يتوفر فيها هذا الشرطان بأن كانت من اللحوم المحرمة مثل الخنزير أو كانت ذكاتها غير شرعية فإنها في هذه الحال تكون محظورة لا يحل أكلها. وقد أصبح من الميسور معرفة هذين الشرطين بواسطة الوسائل الاعلامية التي وفرها العلم الحديث. وكثيرا ما تكون العلب التي تحتوي على هذه اللحوم مكتوبا عليها ما يعرف بها وبأنواعها، ويمكن الاكتفاء بهذه المعلومات، إذ الاصل فيها غالبا الصدق. وقد أفتى الفقهاء من قبل في مثل هذا، فجاء في الاقناع من كتب الشافعية للخطيب الشربيني: ” لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذبح هذه الشاة مثلا حل أكلها، لانه من أهل الذبح، فإذا كان في البلد مجوس ومسلمون وجهل ذابح الحيوان هل هو مسلم أو مجوسي؟ لم يحل أكله للشك في الذبح المبيح والاصل عدمه. نعم إن كان المسلمون أغلب كما في بلاد الاسلام فينبغي أن يحل. وفي معنى المجوس كل من لم تحل ذبيحته “.


[ 291 ]

إباحة أكل ما حرم عند الاضطرار: وللمضطر أن يأكل من الميتة ولحم الخنزير وما لا يحل من الحيوانات (1) التي لا تؤكل وغيرها مما حرمه الله، محافظة على الحياة وصيانة للنفس من الموت. والمقصود بالاباحة هنا وجوب الاكل لقوله تعالى: ” ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ” (2). حد الاضطرار: وإنما يكون الانسان مضطرا إذا وصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي به إليه سواء أكان طائعا أو عاصيا. يقول الله سبحانه: ” فمن اضطر غير باغ (3) ولا عاد (4) فلا إثم عليه (هامش) (1) حتى إن الشافعية والزيدية أجازوا اللحم الادمي عند عدم غيره بشروط اشترطوها. وخالف في ذلك الاحناف والظاهرية وقالوا: لا يباح لحم الادمي ولو كان ميتا. (2) سورة النساء آية رقم 29. (3) الباغي: هو الذي يبغي على غيره عند تناول الميتة فينفرد بها فيهلك غيره من الجوع. (4) العادي: الذي يتجاوز حد الشبع وقيل: الذي يتجاوز القدر الذي يسد الرمق ويدفع عن نفسه الضرر. (.)


[ 292 ]

إن الله غفور رحيم ” (1). وروى أبو داود عن الفجيع العامري أنه أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا: نغتبق (2) ونصطبح (3). قال: ” ذاك – وأبي (4) – الجوع “. فأحل لهم الميتة على هذه الحال. وقال ابن حزم: ” حد الضرورة أن يبقى يوما وليلة لا يجد فيهما ما يأكل أو يشرب، فإن خشي الضعف المؤذي الذي إن تمادى به أدى إلى الموت أو قطع به عن طريقه وشغله، جل له من الاكل والشرب ما يدفع به عن نفسه الموت بالجوع أو العطش. أما تحديدنا ذلك ببقاء يوم وليلة بلا أكل فلتحريم النبي، صلى الله عليه وسلم، الوصال يوما وليلة – أي وصل الصيام -. (هامش) (1) سورة البقرة آية رقم 173. (2) الغبوق: الشرب مساء. (3) الصبوح: الشرب صباحا. (4) قسم. أي وحق أبي إن هذا هو الجوع. (.)


[ 293 ]

وأما قولنا إن خاف الموت قبل ذلك فلانه مضطر “. والمالكية يرون أنه إذا لم يأكل شيئا ثلاثة أيام فله أن يأكل ما حرم الله عليه مما يتيسر له ولو من مال غيره. القدر الذي يؤخذ: ويتناول المضطر من الميتة القدر الذي يحفظ حياته ويقيم أوده، وله أن يتزود حسب حاجته ويدفع ضرورته. وفي رواية عن مالك وأحمد: يجوز له الشبع، لما رواه أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته: اسلخها حتى نقد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فسأله فقال: هل عندك غناء يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوها “. وقال أصحاب أبي حنيفة لا يشبع منه. وعن الشافعي قولان. لا يكون مضطرا من وجد بمكان به طعام ولو كان للغير: وإنما يكون الانسان مضطرا إذا لم يجد طعاما يأكله ولو كان مملوكا للغير. فإن كان مضطرا ووجد طعاما مملوكا للغير فله أن يأكل منه ولو لم يأذن صاحبه به ولم يختلف في ذلك العلماء.


[ 294 ]

وإنما اختلفوا في الضمان. فذهب الجمهور منهم إلى أنه إن اضطر في مخمصة ومالك الطعام غير حاضر فله أن يأخذ منه ويضمن له، لان الاضطرار لا يبطل حق الغير. وقال الشافعي: لا يضمن، لان المسئولية تسقط بالاضطرار لوجود الاذن من الشارع، ولا يجتمع إذن وضمان. فإن كان الطعام موجودا ومنعه صاحبه فللمضطر أن يأخذه بالقوة متى كان قادرا على ذلك. وقالت المالكية: يجوز في هذه الحال مقاتلة صاحب الطعام بالسلاح بعد الانذار بأن يعلمه المضطر بأنه مضطر وإنه إن لم يعطه قاتله، فإن قتله بعد ذلك فدمه هدر، لوجوب بذل طعامه للمضطر. وإن قتله الآخر فعليه القصاص. وقال ابن حزم: من اضطر إلى شئ من المحرمات ولم يجد مال مسلم ولا ذمي فله أن يأكل حتى يشبع ويتزود حتى يجد حلالا، فإذا وجده عاد ذلك المحرم حراما كما كان. فإن وجد مال مسلم أو ذمي فقد وجد ما أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإطعامه منه لقوله ” أطعموا الجائع ” فحقه فيه، فهو غير مضطر إلى الميتة فإن منع ذلك


[ 295 ]

ظلما كان حينئذ مضطرا. هل يباح الخمر للعلاج؟ وقد اتفق العلماء على إباحة الحرام للمضطر ولم يختلف منهم أحد. وإنما اختلفوا في التداوي بالخمر، فمنهم من منعه ومنهم من أباحه، والظاهر أن المنع هو الراجح، فقد كان الناس في الجاهلية قبل الاسلام يتناولون الخمر للعلاج. فلما جاء الاسلام نهاهم عن التداوي به وحرمه، فقد روى الامام أحمد ومسلم وأبو داود و الترمذي عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الخمر فنهاه عنها فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: ” إنه ليس بدواء، ولكنه داء “. وروى أبو داود عن أبي الدرداء أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام “. وكانوا يتعاطون الخمر في بعض الاحيان قبل الاسلام اتقاء لبرودة الجو، فنهاهم الاسلام عن ذلك أيضا. فقد روى أبو داود أن ديلم الحميري سأل النبي،


[ 296 ]

صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنانتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال رسول الله: هل يسكر؟ قال: نعم. قال: فاجتنبوه، قال: إن الناس غير تاركيه. قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم “. وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وأن لا يقصد المتداوي به اللذة والنشوة، ولا يتجاوز مقدار ما يحدده الطبيب. كما أجازوا تناول الخمر في حال الضطرار، ومثل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر. أو من أشرف على الهلاك من البرد، ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة من خمر، أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت. فعلم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر. فهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات.


[ 297 ]

الذكاة الشرعية تعريفها: الذكاة في الاصل معناه التطيب، ومنه: رائحة ذكية، أي طيبة، وسمي بها الذبح لان الاباحة الشرعية جعلته طيبا. وقيل: الذكاة معناها: التتميم، ومنه: فلان ذكي، أي: تام الفهم. والمقصود بها هنا ذبح الحيوان أو نحره بقطع حلقومه (1) أو مريئه (2)، فإن الحيوان الذي يحل أكله لا يجوز أكل شئ منه إلا بالتذكية ما عدا السمك والجراد. (هامش) (1) الحلقوم: مجرى النفس. (2) المرئ: مجرى الطعام والشراب من الحلق. (.)


[ 298 ]

ما يجب فيها: يجب في الذكاة الشرعية ما يأتي: 1 – أن يكون الذابح عاقلا سواء أكان ذكرا أم أنثى مسلما أو كتابيا. فإذا فقد الاهلية بأن كان سكران أو مجنونا أو صبيا غير مميز فإن ذبيحته لا تحل. وكذلك لا تحل ذبيحة المشرك من عبدة الاوثان والزنديق والمرتد عن الاسلام. ذبائح أهل الكتاب: قال القرطبي: قال ابن عباس: قال الله تعالى: ” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق “. (1) ثم استثنى فقال: ” وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ” (2). يعني ذبيحة اليهودي والنصراني. وإن كان النصراني يقول عند الذبح: باسم المسيح، واليهودي يقول: باسم عزيز، وذلك أنهم يذبحون على الملة. وقال عطاء: كل من ذبيحة النصراني وإن قال: باسم (هامش) (1) الآية رقم 121 من سورة الانعام. (2) سورة المائدة الآية رقم 5. (.)


[ 299 ]

المسيح، لان الله عزوجل أباح ذبائحهم وقد علم ما يقولون. وقال القاسم بن مخيمرة: كل من ذبيحته وإن قال: باسم سرجس (اسم كنيسة لهم). وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول. وروي عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عزوجل، فلا تأكل. وقال بهذا من الصحابة: علي وعائشة وابن عمر، وهو قول طاوس والحسن، متمسكين بقول الله تعالى: ” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق “. وقال مالك: أكره ذلك. ولم يحرمه. ذبائح المجوس والصابئين: اختلف الفقهاء في ذبيحة المجوس بناء على اختلافهم في أصل دينهم، فمنهم من رأى أنهم كانوا أصحاب كتاب فرفع، كما روي عن علي، كرم الله وجهه، ومنهم من يرى أنهم مشركون. والذين رأوا أنهم كانوا أصحاب كتاب قالوا بحل


[ 300 ]

ذبائحهم وأنهم داخلون في قول الله سبحانه: ” وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم “. ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ” سنوا بهم سنة أهل الكتاب ” قال ابن حزم في المجوس: إنهم أهل كتاب فحكمهم كحكم أهل الكتاب في كل ذلك. وإلى هذا ذهب أبو ثور والظاهرية. أما جمهور الفقهاء فإنهم حرموها لانهم مشركون في نظرهم. والصابئون (1): قيل لا تجوز ذبائحهم. وقيل بالجواز. 2 – أن تكون الآلة التي يذبح بها محددة يمكن أن تنهر الدم وتقطع الحلقوم، مثل السكين والحجر والخشب والسيف والزجاج والقصب الذي له حد يقطع كما تقطع السكين والعظم، إلا السن والظفر. (أ): روى مالك أن امرأة كانت ترعى غنما فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله، (هامش) (1) ودينهم بى المجوسية والنصرانية ويعتقدون بتأثير النجوم. (.)


[ 301 ]

صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقال: ” لا بأس بها “. (ب): وروي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قيل له: أنذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال: أعجل وأرن، وما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر. رواه مسلم. (ج‍): ونهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شريطة الشيطان: ” وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الاوداج ” (1). أخرجه أبو داود عن ابن عباس، وفي إسناده عمرو ابن عبد الله الصنعاني وهو ضعيف. 3 – قطع الحلقوم والمرئ ولا يشترط إبانتهما ولا قطع الودجين (2) لانهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة وهو الغرض من الموت، ولو أبان الرأس لم يحرم ذلك المذبوح. وكذلك لو ذبحه من قفاه متى أتت الآلة على محل الذبح. 4 – التسمية: قال مالك: كل ما ذبح ولم يذكر عليه (هامش) (1) ثم تترك حتى تموت. (2) الودجين: عرقان غليظان في جانبي ثغرة النحر. وهذا مذهب الشافعي وأحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الودجين والحلقوم. (.)


[ 302 ]

اسم الله فهو حرام، سواء ترك ذلك الذكر عمدا أو نسيانا. وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. وقال أبو حنيفة: إن ترك الذكر عمدا حرم، وإن ترك نسيانا حل. وقال الشافعي: يحل متروك التسمية سواء كان عمدا أم خطأ إذا كان الذابح أهلا للذبح. عن عائشة أن قوما قالوا: يارسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا عليه أنتم وكلوا، قالت: ” وكانوا حديثي عهد بالكفر ” أخرجه البخاري وغيره. ما يكره فيها: ويكره في الذكاة ما يأتي: 1 – أن يكون الذبح بآلة كالة، لما رواه مسلم عن شداد بن أوس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إن الله كتب الاحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وابرح ذبيحته “. 2 – وعن ابن عمر، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم.


[ 303 ]

رواه أحمد. 3 – كسر عنق الحيوان أو سلخه قبل زهوق روحه، لما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا تعجلوا الانفس قبل أن تزهق “. وأما استقبال القبلة عند الذبح فلم يرد في استحبابه شئ. ذبح الحيوان وفيه رمق أو به مرض: إذا ذبح الحيوان وفيه حياة أثناء الذبح حل أكله، ولو لم تكن هذه الحياة مستقرة يعيش الحيوان بمثلها. وكذلك المريضة التي لا يرجى حياتها إذا ذبحت وفيها الحياة. وتعرف الحياة بحركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو جريان نفسها أو نحو ذلك، فإذا صارت في حال النزع ولم تحرك يداو لا رجلا فإنها في هذه الحال تعتبر ميتة ولا تفيد فيها الذكاة، لقول الله سبحانه: ” حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاما ذكيتم ” (1). (هامش) (1) سورة المائدة آية رقم 3. (.)


[ 304 ]

أي أن هذه الاشياء محرمة عليكم، إلا ما أدركتموه، فإن ذكاته تحله. وقد سئل ابن عباس عن ذئب عداعلى شاة فشق بطنها ثم انتثر قصبها (1) فذبحت فقال: كل، وما انتثر من قصبها فلا تأكل. رفع اليد قبل تمام الذكاة: وإذارفع المذكي يده قبل تمام الذكاة ثم رجع فورا وأكمل الذكاة فإن هذا جائز لانه جرحها ثم ذكاها بعد وفيها الحياة فهي داخلة في وقول الله تعالى ” إلا ما ذكيتم “. جرح الحيوان عند تعذر الذكاة: الحيوان الذي يحل بالذكاة إن قدر على ذكاته ذكي في محل الذبح، وإن لم يقدر عليها كانت ذكاته بجرح جزء منه في أي موضع من بدنه‌بشرط أن يكون الجرح مدميا يجوز وقوع القتل به. قال رافع بن خديج: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سفر فند (2) بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله، (هامش) (1) القصب: الامعاء. (2) ند، بمعنى شردوذهب على وجهه. (.)


[ 305 ]

صلى الله عليه وسلم،: ” إن لهذه البهائم أوابد (1) كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا “. رواه البخاري ومسلم. وروى أحمد وأصحاب السنن عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: ” لو طعنت في فخذها أجزأ عنك “. قال أبو داود: وهذا لا يصح إلا في المتردية والمتوحش. قال الترمذي: وهذا في حال الضرورة كالحيوان الذي تمرد أو شرد فلم نقدر عليه أو وقع في بحر وخفنا غرقه فنضربه بسكين أو بسهم فيسيل دمه فيموت فهو حلال. وروى البخاري عن علي وابن عباس وابن عمرو عائشة: ما أعجزك من البهائم مما في يدك فهو كالصيد، وما تردى في بئر فذكاته حيث قدرت عليه. ذكاة الجنين: إذا خرج الجنين من بطن أمه وفيه حياة مستقرة وجب أن يذكى. فإن ذكيت أمه وهو في بطنها فذكاته ذكاة أمه إن خرج ميتا أو به رمق. (هامش) (1) الاوابد التي تأبدت أي توحشت جمع آبدة. (.) فقه السنة – 20


[ 306 ]

لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين: ” ذكاته ذكاة أمه “. رواه عن أبي سعيد: أحمد، وابن ماجه، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان وصححه. وقال ابن المنذر: وممن قال: ” ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر “: علي بن أبي طالب، وسعيد بن المسيب، وأحمد، وإسحاق، والشافعي وقال: إنه لم يرد عن أحد من الصحابة ولامن العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلاما روي عن أبي حنيفة رحمه الله. وقال ابن القيم: وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه، خلاف الاصول، وهو تحريم الميتة. فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة، فكيف وليست بميتة فإنها جزء من أجزاء الام والذكاة قد أتت على جميع أعضائها، فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة.


[ 307 ]

والجنين تابع للام، جزء منها، فهذا مقتضى الاصول الصحيحة، ولو لم ترد السنة بالاباحة، فكيف وقد وردت بالاباحة الموافقة للقياس والاصول. وقد اتفق النص والاصل والقياس، ولله الحمد.


[ 308 ]

الصيد تعريفه: الصيد هو اقتناص الحيوان الحلال المتوحش بالطبع، الذي لا يقدر عليه. حكمه: وهو مباح، أباحه الله سبحانه بقوله: ” وإذا حللتم فاصطادوا (1) “. والصيد مباح كله، ما عدا صيد الحرم، فقد تقدم الكلام عليه في باب الحج. وصيد البحر جائز في كل حال، وكذلك صيد البر، إلا في حالة الاحرام. يقول الله تعالى: ” أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم صيد البر ما دمتم حرما ” (2). (هامش) (1) سورة المائدة الآية رقم 2. (2) سورة المائدة الآية رقم 96. (.)


[ 309 ]

الصيد الحرام: والصيد المباح هو الصيد الذي يقصد به التذكية، فإن لم يقصد به التذكية فإنه يكون حراما لانه من باب الافساد وإتلاف الحيوان لغير منفعة: وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن قتل الحيوان إلا لمأكله. روى النسائي وابن حبان أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من قتل عصفورا عبثا عج (1) إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة “. وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا ” (2). ومر صلوات الله وسلامه عليه على طائر قد اتخذه بعض الناس هدفا يصوبون إليه ضرباتهم، فقال: ” لعن الله من فعل هذا “. شروط الصائد: ويشترط في الصائد الذي يحل أكل (هامش) (1) عج – رفع صوته بالشكوى. (2) الهدف يصوب إليه. (.)


[ 310 ]

صيده ما يشترط في الذابح بأن يكون مسلما أو كتابيا. فصيد اليهودي والنصراني كذبيحته، وكذلك ما ألحق بهما كما هو موضح في باب الذكاة الشرعية. الصيد بالسلاح الجارح وبالحيوان: والصيد قد يكون بالسلاح الجارح كالرماح والسيوف والسهام ونحوها. وفي هذا يقول الله سبحانه: ” يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ” (1). وقد يكون بواسطة الحيوان، وفيه يقول الله سبحانه: ” يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله واتقوا الله إن الله سريع الحساب ” (2). وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله، إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي؟ فقال: ” ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، (هامش) (1) سورة المائدة آية رقم 94. (2) سورة المائدة آية رقم 4. (.)


[ 311 ]

وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل “. رواه البخاري ومسلم. شروط الصيد بالسلاح: ويشترط في الصيد بالسلاح ما يأتي: 1 – أن يخزق السلاح جسم الصيد وينفذ فيه، ففي حديث عدي بن حاتم قال: يارسول الله، إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: ” يحل لكم كل ما ذكيتم وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم (1) فكلوا “. قال الشوكاني: ” فدل على أن المعتبر مجرد الخزق وإن كان القتل بمثقل. فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، لان الرصاص تخزق خزقا زائدا على السلاح فلها حكمه، وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك “. وأما النهي من الاكل مما أصابته البندقية ولم يذك واعتباره موقوذة كما جاء في الحديث، فإن المقصود من البندقية هنا ما يصنع من الطين ثم ييبس ويرمى به، (هامش) (1) فخزقتم أي خرقتم وجرحتم. (.)


[ 312 ]

فليست مثل البندقية التي يرمى بها البارود والرصاص. وكما نهى الاسلام عن الاكل من البندقية هذه: (أي المصنوعة من الطين): نهى عن الرمي بالحصاة وما يماثلها. يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، معللا ذلك: ” إنها لاتصيد صيدا ولا تنكأ عدوا، لكنها تكسر السن وتفقأ العين “. ويحرم كذلك ما قتل بمثقل كالعصا ونحوها، إلا إذا أدرك حيا وذبح. ففي حديث عدي قال قلت: فإني أرمي بالمعارض الصيد فأصيد. قال: ” إذا رميت بالمعارض فخزق (1) فكل. وإن أصابه بعرضه فلا تأكل “. 2 – أن يذكر الصائد اسم الله عند رمي الصيد، ولم تختلف الائمة على أن التسمية مشروعة لحديث أبي ثعلبة المتقدم ذكره ولغيره من الاحاديث، وإنما اختلفوا في حكمها. فذهب أبو ثور والشعبي وداود والظاهري وجماعة أهل (هامش) (1) أي نفذ. (.)


[ 313 ]

الحديث إلى أن التسمية شرط في الاباحة بكل حال، فإن تركها عامدا أو ساهيا لم تحل… وهذا أظهر الروايات عن أحمد. وقال أبو حنيفة: هي شرط في حال الذكر فإن تركها ناسيا حل الصيد، وإن تركها عامدا لا يحل. وكذلك قال مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي وجماعة من المالكية التسمية سنة، فإن تركها ولو عامدا لم يحرم الصيد ويحل أكله، وحملوا الامر بالتسمية على الندب. شروط الصيد بالجوارح: والصيد بالجوارح مثل الصقر والبازي والفهد والكلب غيرها مما يقبل التعليم جائز بالشروط الآتية: 1 – تعليم الحيوان الصيد، ويعرف ذلك بأن يأتمر إذا أمر، وينزجر إذا زجر. 2 – أن يمسك على صاحبه بترك الاكل من الصيد، فإن أكل فقد أمسك على نفسه فلا يحل صيده، ففي حديث عدي بن حاتم قال الرسول صلى الله عليه وسلم له: ” إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك، وإن أكل الكلب فلا تأكل، فإني


[ 314 ]

أخاف أن يكون مما أمسك على نفسه “. 3 – أن يرسله ويذكر اسم الله، أما ذكر التسمية فقد تقدم حكمها، وأما قصد إرسال الحيوان فإنه شرط من شروط الصيد، فإذا انبعث الحيوان الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولاإغراء من الصائد فلا يجوز صيده، ولا يحل أكله عند مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، لانه صاد لنفسه من غير إرسال وإمسك عليها ولا صنع للصائد فيه فلا ينسب إليه، لانه لا يصدق عليه الحديث المتقدم ” إذا أرسلت كلابك المعلمة… إلخ ” فمفهوم الشرط أن غير المرسل لا يكون كذلك. وقال عطاء والاوزاعي: يؤكل صيده إذا كان أخرج للصيد وكان معلما. اشتراك جارحين في صيد: إذا اشترك جارحان في صيد فهو حلال إذا كان كل واحد منهما أرسله صاحبه للصيد، أما إذا كان أحدهما مرسلا دون الآخر فإنه لا يؤكل لقوله صلى الله عليه وسلم: ” فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره “. الصيد بكلب اليهودي والنصراني: ويجوز الاصطياد بكلب اليهودي والنصراني وبازه


[ 315 ]

وصقره إذا كان الصائد مسلما، وذلك مثل شفرته. إدراك الصيد حيا: إذا أدرك الصائد الصيد وهو حي وكان قد قطع حلقومه ومريئه ان تمزقت أمعاؤه وخرج حشوه فإنه في هذه الحال يحل بدون زكاة. أما إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، فإنه يحب في هذه الحال ذكاته، ولا يحل بدونها. وجود الصيد ميتا بعد إصابته: إذا رمى الصائد الصيد فأصابه ثم غاب عنه ثم وجده بعد ذلك ميتا، فإنه يكون حلالا بشروط ثلاثة: الاول: أن لا يكون قد تردى من جبل أو وجده في الماء لاحتمال أن يكون موته بالتردي أو الغرق. روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إذا رميت بسهمك فاذكر الله، فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك “.


[ 316 ]

الثاني: أن يعلم أن رميته هي التي قتلته وليس به أثر من رمي غيره أو حيوان آخر. فعن عدي قال: قلت: يا رسول الله، أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال: ” إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل “. وفي رواية للبخاري: ” إنا نرمي الصيد فتقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتا وفيه سهمه. قال: يأكل إن شاء “. الثالث: أن لا يفسد فسادا يبلغ درجة النتن، فإنه حينئذ يكون من المستقذرات الضارة التي تمجها الطباع. فعن أبي ثعلبة الخشني أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إذا رميت بسهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن “. أخرجه مسلم.


[ 317 ]

الاضحية تعريفها: الاضحية والضحية اسم لما يذبح من الابل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق تقربا إلى الله تعالى. مشروعيتها: وقد شرع الله الاضحية بقوله سبحانه: ” إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابتر “. وقوله: ” والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ” (1). والنحر هنا هو ذبح الاضحية. وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضحى وضحى المسلمون وأجمعوا على ذلك. (هامش) (1) سورة الحج آية رقم 36. (.)


[ 318 ]

فضلها: روى الترمذي عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم (1). إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظللافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان (2) قبل أن يقع على الارض، فطيبوا بها نفسا “. حكمها: الاضحية سنة مؤكدة، ويكره تركها مع القدرة عليها لحديث أنس الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضحى بكبشين أملحين (3) أقرنين (4) ذبحهما بيده وسمى وكبر. وروى مسلم عن أم سلمة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره “. فقوله أراد أن يضحي دليل على السنة لا على الوجوب. (هامش) (1) إسالته أي ذبح الاضحية. (2) كناية عن سرعة قبولها. (3) الاملح ما يخالط بباضه سواد. (4) ما له قرن. (.)


[ 319 ]

وروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما، مخافة أن يرى ذلك واجبا (1). متى تجب: ولا تجب إلا بأحد أمرين: 1 – أن ينذرها لقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: ” من نذر أن يطيع الله فليطعه ” وحتى لو مات الناذر فإنه تجوز النيابة فيما عينه بنذره قبل موته “. 2 – أن يقول: هذه لله، أو: هذه أضحية. وعند مالك إذا اشتراها نيته الاضحية وجبت. حكمتها: والاضحية شرعها الله إحياء لذكرى إبراهيم وتوسعة على الناس يوم العيد، كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم: إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل. مم تكون: ولا تكون إلا من الابل والبقر والغنم، ولا تجزئ من غير هذه الثلاثة. يقول الله سبحانه: (هامش) (1) وقال ابن حزم: لم يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة ويرى أبو حنيفة أنها واجبة على ذوي اليسار ممن يملكون نصابا من المقيمين غير المسافرين، لقوله صلى الله عليه وسلم:: من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ” رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ورجح الائمة وقفه. (.)


[ 320 ]

” ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام ” (1) ويجزئ من الضأن ما له نصف سنة، ومن المعز ما له سنة، ومن البقر ما له سنتان، ومن الابل ما له خمس سنين، يستوي في ذلك الذكر والانثى. 1 – روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” نعمت الاضحية الجذع (2) من الضأن “. 2 – وقال عقبة بن عامر: قلت يا رسول الله، أصابني جذع قال: ضح به. رواه البخاري ومسلم. 3 – وروى مسلم عن جابر أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا تذبحوا إلا مسنة، فإن تعسر عليكم فاذبحوا جدعة من الضأن “. والمسنة الكبيرة هي من الابل ما لها خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان. ومن المعز ما له سنة، ومن الضأن ما له سنة وستة أشهر، على الخلاف المذكور من الائمة. وتسمى المسنة بالثنية. (هامش) (1) سورة الحج آية رقم 34. (2) ما له ستة أشهر عند الحنفية. وما له سنة في الاصح عند الشافعية. (.)


[ 321 ]

الاضحية بالخصي: ولا بأس بالاضحية بالخصي. روى أحمد عن أبي رافع قال: ضحى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكبشين أملحين موجوءين خصيين، ولان لحمه أطيب وألذ. ما لا يجوز أن يضحى به: ومن شروط الاضحية السلامة من العيوب، فلا تجوز الاضحية بالمعيبة (1) مثل: 1 – المريضة البين مرضها 2 – العوراء البين عورها 3 – العرجاء البين ظلعها 4 – العجفاء (2) التي لا تنفي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. 5 – العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أربعة لا تجزئ في الاضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والعجفاء التي لا تنقي “. (هامش) (1) المعيبة: المقصود بالعيب الظاهر الذي ينقص اللحم، فإذا كان العيب يسيرا فإنه لا يضر. (2) العجفاء التي ذهب مخها من شدة الهزال. فقه السنة – 21


[ 322 ]

ويلحق بهذه: الهتماء (1) والعصماء (2) والعمياء والتولاء (3) والجرباء التي كثر جربها. ولا بأس بالعجماء والبتراء والحامل وما خلق بغير أذن أو ذهب نصف أذنه أو أليته والاصح عند الشافعية لا تجزئ مقطوعة الالية والضرع لفوات جزء مأكول وكذا مقطوعة الذنب. قال الشافعي: لا نحفظ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الاسنان شيئا. وقت الذبح: ويشترط في الاضحية ألا تذبح إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد ويمر من الوقت قدر ما يصلى العيد، ويصح ذبحها بعد ذلك في أي يوم من الايام الثلاثة في ليل أو نهار، ويخرج الوقت بانقضاء هذه الايام. فعن البراء، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: إن أول ما نبدأ به في يومنا (4) هذا أن نصلي (هامش) (1) الهتماء هي التي ذهب ثناياها من أصلها. (2) العصماء ما انكسر غلاف قرنها. (3) التولاء التي تدور في المرعى ولا ترعى. (4) أي يوم العيد. (.)


[ 323 ]

ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لاهله ليس من النسك في شئ “. وقال أبو بردة: خطبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم النحر فقال: ” من صلى صلاتنا ووجه قبلتنا ونسك نسكنا فلا يذبح حتى يصلي، روى الشيخان عن الرسول صلى الله عليه وسلم: من ذبح قبل الصلاة، فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة والخطبتين فقد أتم نسكه وأصاب سنة المسلمين “. كفاية أضحية واحدة عن البيت الواحد: إذا ضحى الانسان بشاة من الضأن أو المعز أجزأت عنه وعن أهل بيته. فقد كان الرجل من الصحابة، رضي الله عنهم، يضحي بالشاة عن نفسه وعن أهل بيته، فهي سنة كفاية. روى ابن ماجه والترمذي وصححه أن أبا أيوب قال: ” كان الرجل في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى “. جواز المشاركة في الاضحية: تجوز المشاركة في الاضحية إذا كانت من الابل أو البقر، وتجزئ البقرة أو الجمل


[ 324 ]

عن سبعة أشخاص إذا كانوا قاصدين الاضحية والتقرب إلى الله، فعن جابر قال: ” نحرنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة “. رواه مسلم وأبو داود والترمذي. توزيع لحم الاضحية: يسن للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي الاقارب ويتصدق منها على الفقراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” كلوا وأطعموا وادخروا ” وقد قال العلماء: الافضل أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويدخر الثلث. ويجوز نقلها ولو إلى بلد آخر، ولا يجوز بيعها ولا بيع جلدها. [ ولا يعطى الجزار من لحمها شيئا كأجر، وله أن يكافئه نظير عمله ] وإنما يتصدق به المضحي أو يتخذ منه ما ينتفع به. وعند أبي حنيفة أنه يجوز بيع جلدها ويتصدق بثمنه وأن يشتري بعينه ما ينتفع به في البيت. المضحي يذبح بنفسه: يسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بيده ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن فلان – ويسمي نفسه – فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذبح كبشا وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي “.


[ 325 ]

رواه أبو داود والترمذي. فإن كان لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة: يا فاطمة، قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملته، وقولي: ” إن صلاتي ونسكي (1) ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين “. فقال أحد الصحابة: يا رسول الله، هذا لك ولاهل بيتك خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: بل للمسلمين عامة. (هامش) (1) النسك: الذبح. (.)


[ 326 ]

العقيقة تعريفها: العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود. قال صاحب مختار الصحاح: العقيقة والعقة بالكسر، الشعر الذي يولد عليه كل مولود من الناس والبهائم، ومنه سميت الشاة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه. حكمها: والعقيقة سنة مؤكدة ولو كان الاب معسرا، فعلها الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه، روى أصحاب السنن أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا، ويرى وجوبها الليث وداود الظاهري. ويجري فيها ما يجري في الاضحية من الاحكام، إلا


[ 327 ]

أن العقيقة لا تجوز فيها المشاركة. فضلها: روى أصحاب السنن عن سمرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: 1 – ” كل مولود رهينة (1) بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى “. 2 – وعن سلمان بن عامر الضبي، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” مع الغلام عقيقته، فأهريقوا علهى دما، وأميطوا عنه الاذى (2) ” رواه الخمسة. ما يذبح عن الغلام وللبنت: ومن الافضل أن يذح عن الولد شاتان متقاربتان شبها وسنا. وعن البنت شاة. فعن أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ” عن الغلام شاتان متكافئتان (3) وعن الجارية شاة “. (هامش) (1) أي تنشئته تنشئة صالحة وحفظه حفظا كاملا مرهون بالذبح عنه. (2) أي أزيلوا عنه القذارة والنجاسة. (3) أي شاتان متقاربتان شبها وسنا. (.)


[ 328 ]

ويجوز ذبح شاة واحدة عن الغلام لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك مع الحسن والحسين – رضي الله عنهما – كما تقدم في الحديث. وقت الذبح: والذبح يكون يوم السابع بعد الولادة إن تيسر، وإلا ففي اليوم الرابع عشر وإلا ففي اليوم الواحد والعشرين من يوم ولادته، فإن لم يتيسر ففي أي يوم من الايام. ففي حديث البيهقي: تذبح لسبع، ولاربع عشر، ولاحدي وعشرين. اجتماع الاضحية والعقيقة: قالت الحنابلة: وإذا اجتمع يوم النحر مع يوم العقيقة فإنه يمكن الاكتفاء بذبيحة واحدة عنهما، كما إذا اجتمع يوم عيد ويوم جمعة واغتسل لاحدهما. التسمية والحلق: ومن السنة أن يختار للمولود اسم حسن ويحلق شعره ويتصدق بوزنه فضة إن تيسر ذلك، لما رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عق عن الحسن بشاة، وقال: يا فاطمة، احلقي رأسه وتصدقي بوزنه فضة على المساكين، فوزناه فكان وزنه درهما أو بعض درهم.


[ 329 ]

أحب الاسماء: وأحب الاسماء عبد الله وعبد الرحمن، لحديث مسلم، وأصدقها همام وحارث كما ثبت في الحديث الصحيح. ويصح التسمية بأسماء الملائكة والانبياء وطه ويس. وقال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى، وعبد هبل، وعبد عمر، وعبد الكعبة، حاشا عبد المطلب. كراهة بعض الاسماء: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمي بالاسماء الاتية: يسار، ورباح، ونجيح، وأفلح، لان ذلك ربما يكون وسيلة من وسائل التشاتم، ففي حديث سمرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا تسم غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول: أثم هو – فلا يكون – فيقول: لا “. رواه مسلم. الاذان في أذن المولود: ومن السنة أن يؤذن في أذن المولود اليمنى، ويقيم في الاذن اليسرى، ليكون أول ما يطرق سمعه اسم الله.


[ 330 ]

روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، عن أبي رافع رضي الله عنه، قال: رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، أذن بالصلاة في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة رضي الله عنهم. وروى ابن السني عن الحسن بن علي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” من ولد له ولد فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان ” (1). لا فرع ولا عتيرة: الفرع: ذبح أول ولد الناقة، كانت العرب تذبحه لاصنامهم. العتيرة: ذبيحة رجب تعظيما له. وقد نهى الاسلام عن الذبح تعظيما للاصنام، وغير معالم الجاهلية. وأباح الذبح باسم الله برا وتوسعا. روى أبو هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا فرع ولا عتيرة ” (2). رواه البخاري ومسلم. (هامش) (1) يقال إنها القرينة. (2) بالمعنى الذي كان عليه في الجاهلية. (.)


[ 331 ]

وقال نبيشة، رضي الله عنه: نادى رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا لله وأطعموا. قال: إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية، فما تأمرنا؟ قال: في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استجمل (1) ذبحته، فتصدقت بلحمه على ابن السبيل، فذلك خير “. رواه أبو داود والنسائي. وعن أبي رزين قلت: يا رسول الله، كنا نذبح في رجب فنأكل ونطعم من جاءنا، فقال: ” لا بأس به “. وروى أحمد والنسائي عن عمر بن الحارث أنه لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله الفرائع والعتائر؟ قال: من شاء فرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر في الغنم الاضحية “. (هامش) (1) أي صار جملا. (.)


[ 332 ]

ثقب أذن الصغير: في كتب الحنابلة: إن تثقيب آذان الصبية للحلية جائز ويكره للصبيان. وفي فتاوي قاصي خان، من الحنفية: لا بأس بتثقيب آذان الصبية، لانهم كانوا في الجاهلية يفعلونه، ولم ينكره عليهم النبي، صلى الله عليه وسلم.


[ 333 ]

الكفالة تعريفها: الكفالة معناها في اللغة: الضم، ومنه قول الله، عز وجل: ” وكفلها زكريا (1) “. وفي الشرع عبارة عن ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الاصيل في المطالبة بنفس أو دين أو عين أو عمل، وهذا التعريف لفقهاء الاحناف. وعند غيرهم من الائمة يعرفونها بأنها ضم الذمتين في المطالبة والدين. والكفالة تسمي: حمالة وضمانة وزعامة. وهي تقتضي كفيلا وأصيلا ومكفولا له ومكفولا به. (هامش) (1) سورة آل عمران الاية رقم 37. (.)


[ 334 ]

فالكفيل هو الذي يلتزم بأداء المكفول به، ويجب أن يكون بالغا عاقلا مطلق التصرف في ماله رضايا بالكفالة (1) فلا يكون المجنون ولا الصبي ولو كان مميزا كفيلا. ويسمى الكفيل بالضامن والزعيم والحميل والقبيل. والاصيل هو المدين وهو المكفول عنه، ولا يشترط بلوغه ولا عقله ولا حضوره ولا رضاه بالكفالة. بل تجوز الكفالة عن الصبي والمجنون والغائب. ولكن الفيل لا يرجع على أحد من هؤلاء إذا أدى عنه، بل يعتبر متبرعا إلا في حالة ما إذا كانت الكفالة عن الصبي المأذون له في التجارة وكانت بأمره. والمكفول له هو الدائن. ويشترط أن يعرفه الضامن، لان الناس يتفاوتون في المطالبة تسهيلا وتشديدا. والاغراض تختلف بذلك، فيكون الضمان بدونه غررا. ولا تشترط معرفة المضمون عنه. والمكفول به هو النفس أو الدين أو العين أو العمل الذي وجب أداؤه على المكفول عنه، وله شروط ستأتي في موضعها. مشروعيتها: والكفالة مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع. (هامش) (1) لانه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه. (.)


[ 335 ]

ففي الكتاب يقول الله تعالى: ” قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به (1) “، وقوله، جل شأنه: ” ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ” (2). وجاء في السنة عن أبي أمامة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: ” الزعيم غارم “. رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان. ومعنى الزعيم: الكفيل. والغارم: الضامن. وقد أجمع العلماء على جوازها. ولا يزال المسلمون يكفل بعضهم بعضا من عصر النبوة إلى وقتنا هذا، دون تكبر من أحد من العلماء. التنجيز والتعليق والتوقيت: وتصح الكفالة منجزة، ومعلقة، ومؤقتة. فالمنجزة مثل قول الكفيل: أنا أضمن فلانا الان، وأكفله. قال العلماء: إذا قال الرجل: تحملت أو تكفلت أو ضمنت، أو (هامش) (1) سورة يوسف الاية رقم 66. (2) سورة يوسف الاية رقم 72. (.)


[ 336 ]

أنا حميل لك، أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي، فذلك كله كفالة. ومتى انعقدت الكفالة كانت تابعة للدين في الحلول والتأجيل والتقسيط، إلا إذا كان الدين حالا واشترط الكفيل تأجيل المطالبة إلى أجل معلوم، فإنه يصح، لما رواه ابن ماجه عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم: تحمل عشرة دنانير عن رجل قد لزمه غريمه إلى شهر، وقضاها عنه. وفي هذا دليل على أن الدين إذا كان حالا وضمنه الكفيل إلا أجل معلوم صح، ولا يطالب به الضامن قبل مضي الاجل. والمعلقة مثل: إن أقرضت فلانا فأنا ضامن لك، وكما جاء في الاية الكريمة قول الله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير ” (1). والمؤقتة مثل: إذا جاء شهر رمضان فأنا ضامن لك. وهذا مذهب أبي حنيفة وبعض الحنابلة. وقال الشافعي: لا يصح التعليق في الكفالة. (هامش) (1) سورة يوسف الاية 72. (.)


[ 337 ]

مطالبة الكفيل والاصيل معا: ومتى انعقدت الكفالة جاز لصاحب الحق أن يطالب الضامن والمضمون معا، كما جاز له أن يطالب أيهما شاء بناء على تعدد محل الحق، كما يرى جمهور العلماء. أنواع الكفالة: والكفالة نوعان: الاول: كفالة بالنفس. الثاني: كفالة بالمال. الكفالة بالنفس: وتعرف بضمان الوجه، وهي التزام الكفيل بإحضار الشخص المكفول إلى المكفول له. وتصح بقوله: أنا كفيل بفلان أو ببدنه أو وجهه، أو: أنا ضامن أو زعيم ونحو ذلك، وهي جائزة إذا كان على المكفول به حق لادمي، ولا يشترط العلم بقدر ما على المكفول لانه تكفل بالبدن لا بالمال. أما إذا كانت الكفالة في حدود الله، فإنها لا تصح، سواء أكان الحد حقا لله تعالى كحد الخمر، أو كان حقا لادمي كحد القذف. وهذا مذهب أكثر العلماء، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ” لا كفالة في حد “. فقه السنة – 22


[ 338 ]

رواه البيهقي بإسناد ضعيف وقال: إنه منكر. ولان مبناه على الاسقاط والدرء بالشبهة، فلا يدخله الاستيثاق، ولا يمكن استيفاؤه من غير الجاني. وعند أصحاب الشافعي تصح الكفالة بإحضار من عليه عقوبة لادمي كقصاص وحد قذف، لانه حق لازم، أما إذا كان حدا لله فلا تصح فيه الكفالة. ومنعها ابن حزم فقال: ” لا تجوز الضمانة بالوجه أصلا لا في مال ولا حد، ولا في شئ من الاشياء، لان كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ومن طريق النظر أن نسأل من قال بصحته عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول عنه ماذا تصنعون بالضامن بوجهه؟ أتلزمونه غرامة ما على المضمون؟ فهذا جور وأكل مال بالباطل، لانه لم يلتزمه قط. أم تتركونه؟ فقد أبطلتم الضمان بالوجه، أم تكلفونه طلبه؟ فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة له به وما لم يكلفه الله إياه قط. وأجاز الكفالة بالوجه جماعة من العلماء. واستدلوا بأنه، صلى الله عليه وسلم، كفل في تهمة، قال: وهو خبر باطل، لانه من رواية إبراهيم بن خيثم بن عراك، وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما.


[ 339 ]

ثم ذكر آثارا عن عمر بن عبد العزيز وردها كلها بأنها لا حجة فيها، ” إذا الحجة في كلام الله ورسوله لا غير “. ومتى تكفل بإحضاره لزمه إحضاره فإن تعذر عليه إحضاره مع حياته أن امتنع الكفيل عن إحضاره غرم ما عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ” الزعيم غارم “. إلا إذا اشترط إحضاره دون المال، وصرح بالشرط لانه يكون ألزم ضد ما اشترط، وهذا مذهب المالكية وأهل المدينة. وقالت الاحناف: يحبس الكفيل إلى أن يأتي به أو يعلم موته، ولا يغرم المال إلا إذا شرطه على نفسه. وقالوا: إذا مات الاصيل فإنه لا يلزم الكفيل الحق الذي عليه، لانه إنما تكفل بالنفس ولم يكفل بالمال، فلا يلزمه ما لم يتكفل به. وهذا هو المشهور من قول الشافعي. وكذلك يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول نفسه. ولا يبرأ الكفيل بموت المكفول له بل تقوم ورثته مقامه في المطالبة بإحضار المكفول.


[ 340 ]

الكفالة بالمال: والكفالة بالمال: هي التي يلتزم فيها الكفيل التزاما ماليا، وهي أنواع ثلاثة: 1 – الكفالة بالدين: وهي التزام أداء دين في ذمة الغير. ففي حديث سلمة بن الاكوع، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، امتنع من الصلاة على من عليه الدين، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه. فصلى عليه (1) ويشترط في الدين: (أ) أن يكون ثابتا وقت الضمان كدين القرض والثمن والاجرة والمهر، فإذا لم يكن ثابتا فإنه لا يصح، فضمان ما لم يجب غير صحيح، كما إذا قال: بع لفلان وعلي أن أضمن الثمن، أو: أقرضه، وعلي أن أضمن بدله. وهذا مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن والظاهرية. وأجاز ذلك أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف، وقالوا بصحة ضمان ما لم يجب. (ب) أن يكون معلوما، فلا يصح ضمان المجهول، لانه غرر، فلو قال: ضمنت لك ما في ذمة فلان، وهما لا (هامش) (1) ذهب الجمهور إلى صحة الكفالة عن الميت ولا رجوع له في مال الميت. والحديث من رواية البخاري وأحمد. (.)


[ 341 ]

يعلمان مقداره فإنه لا يصح. وهذا مذهب الشافعي وابن حزم. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يصح ضمان المجهول. 2 – كفالة بالعين أو كفالة بالتسليم: وهي التزام تسليم عين معينة موجودة بيد الغير مثل: رد المغصوب إلى الغاصب وتسليم المبيع إلى المشتري. ويشترط فيها أن تكون العين مضمونة على الاصيل كما في المغصوب. فإذا لم تكن مضمونة كالعارية والوديعة فإن الكفالة لا تصح. 3 – كفالة بالدرك: أي بما يدرك المال المبيع ويلحق به من خطر بسبب سابق على البيع، أي أنها كفالة. وضمانة لحق المشتري تجاه البائع إذا ظهر للمبيع مستحق، كما لو تبين أن المبيع مملوك لغير البائع أو مرهون. رجوع الكفيل على المضمون عنه: وإذا أدى الضامن عن المضمون عنه ما عليه من دين رجع عليه متى كان الضمان والاداء بإذنه، لانه أنفق ماله فميا ينفعه بإذنه. وهذا مما اتفق الائمة الاربعة عليه. واختلفوا فيما إذا ضمن عن غيره حقا بغير أمره وأداه. وقال الشافعي وأبو حنيفة: هو متطوع، وليس له


[ 342 ]

الرجوع عليه. والمشهور عن مالك: أن له الرجوع به. وعن أحمد: روايتان. قال ابن حزم: ” لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره أو بغيره أمره إلا أن يكون المضمون عنه استقرضه. قال: وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو ثور وأبو سليمان بمثل قولنا “. ا ه‍. من أحكان الكفالة: 1 – ومتى عدم المضمون أو غاب، ضمن الكفيل، ولا يخرج عن الكفالة إلا بأداء الدين منه أو من الاصيل، أو بإبراء الدائن نفسه من الدين أو نزوله عن الكفالة، وله هذا النزول لانه من حقه. 2 – من حق المكفول له (أي صاحب الدين) فسخ عقد الكفالة من ناحية، ولو لم يرض المدين المكفول عنه أو الكفيل. وليس هذا الفسخ للمكفول عنه ولا للكفيل.


[ 343 ]

المساقاة تعريفها: المساقاة مفاعلة من السقي، وهذه المفاعلة على غير بابها. وسميت بهذه التسمية لان شجر أهل الحجاز أكثر حاجة إلى السقي لانها تسقى من الابار، فسميت بهذه التسمية. وهي في الشرع دفع الشجر لمن يقوم بسقيه ويتعهده حتى يبلغ تمام نضجه نظير جزء معلوم من ثمره. فهي شركة زراعية على استثمار الشجر يكون فيها الشجر من جانب، والعمل في الشجر من جانب، والثمرة الحاصلة مشتركة بينهما بنسبة يتفق عليها المتعاقدان كالنصف والثلث ونحو ذلك. ويسمى العامل بالمساقي، والطرف الاخر يسمى برب الشجر.


[ 344 ]

والشجر يطلق على كل ما غرس ليبقى في الارض سنة فأكثر من كل ما ليس لقطعه مدة ونهاية معلومة، سواء أكان مثمرا أم غير مثمر. وتكون المساقاة على غير المثمر نظير ما يأخذه المساقي من السعف والحطب ونحوها. مشروعيتها: والمساقاة مشروعة بالسنة، وقد اتفق الفقهاء على جوازها للحاجة إليها، ما عدا أبا حنيفة الذي رأى أنها لا تجوز. وقد استدل الجمهور من العلماء على جوازها بما يأتي: 1 – روى مسلم عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. 2 – وروى البخاري أن الانصار قالت للنبي، صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا. أي أن الانصار أرادوا أن يشركوا معهم المهاجرين في النخيل فعرضوا ذلك على الرسول، صلى الله عليه وسلم، فأبى، فعرضوا أن يتولوا أمره ولهم الشطر فأجابهم.


[ 345 ]

وفي نيل الاوطار: قال الحازمي: روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب الزهري، ومن أهل الرأي أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، فقالوا: تجوز المزارعة والمساقاة بجزء من الثمر أو الزرع قالوا: ويجوز العقد على المزارعة والمساقاة مجتمعين، فتساقيه على النخل وتزارعه على الارض كما جري في خيبر. ويجوز العقد على كل واحدة منها منفردة. أركانها: والمساقاة لها ركنان: 1 – الايجاب. 2 – القبول. وتنعقد بكل ما يدل عليها من القول أو الكتابة أو الاشارة ما دام ذلك صادرا ممن يجوز تصرفهم. شروطها: ويشترط في المساقاة الشروط الاتية: 1 – أن يكون الشجر المساقى عليه معلوما بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها، لانه لا يصح العقد على مجهول. 2 – أن تكون مدتها معلومة، لانها عقد لازم يشبه


[ 346 ]

عقد الايجار، وحتى ينتفي الغرر. وقال أبو يوسف ومحمد: إن بيان المدة ليس بشرط في المساقاة استحسانا، لان وقت إدراك الثمر معلوم غالبا ولا يتفاوت تفاوتا يعتد به. وممن قال بعدم اشتراط هذا الشرط الظاهرية، واستدلوا بما رواه مالك مرسلا، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال لليهود: ” أقركم ما أقركم الله “. وعند الاحناف أنه متى انتهت مدة المساقاة قبل نضج الثمر تترك الاشجار للعامل ليعمل فيها بلا أجر إلى أن ينضج. 3 – أن يكون عقد المساقاة قبل بدو الصلاح، لانها في هذه الحال تفتقر إلى عمل. أما بعد بدو الصلاح، فمن الفقهاء من رأى أن المساقاة لا تجوز، لانه لا ضرورة تدعو إليها. ولو وقعت، لكانت إجارة لا مساقاة. ومنهم من جوزها في هذه الحال، لانها إذا جازت قبل أن يخلق الله الثمر فهي بعد بدو الثمر أولى. 4 – أن يكون للعامل جزء مشاع معلوم من الثمرة، أي يكون نصيبه معلوما بالجزئية: كالنصف والثلث، فلو شرط له أو لصاحب الشجر نخلات معينة أو قدرا معينا بطلت.


[ 347 ]

وقال في بداية المجتهد: واتفق القائلون بالمساقاة على أنه إن كانت النفقة كلها على رب الحائط (1) وليس على العامل إلا ما يعمل بيده أن ذلك لا يجوز، لانها إجارة بما لم يخلق. ومتى فقد شرط من هذه الشروط انفسخ العقد وفسدت المساقاة، فإن كان قد مضى فيها المساقي ونما الشجر أو الزرع بعمله فله أجر مثله، ونماء الشجر أو الزرع لمالكه. ما تجوز فيه المساقاة: اختلف الفقهاء فيما تجوز عليه المساقاة. فمنهم من قصرها على النخل كداود، ومنه من زاد على النخل العنب كالشافعي، ومنهم من توسع في هذا كالاحناف، فعندهم تصح على الشجر والكروم والبقول وكل ما له أصول في الارض ليس لقلعها نهاية معلومة، بل كلما جزت نبتت، وذلك كالكراث والقصب الفارسي. وإذا لم تبين المدة وقع العقد على أول جز يحصل بعد العقد. وتصح أيضا على ما تتلاحق آحاده وتظهر شيئا فشيئا كالباذنجان. ولو دفع شخص لاخر رطبة انتهى جذاذها على أن يقوم (هامش) (1) الحائط: البستان. (.)


[ 348 ]

بخدمتها وسقيها حتى يخرج بذرها ويكون بينهما أنصافا جاز ذلك بلا بيان المدة. وعند مالك أنها تجوز في كل أصل ثابت، كالرمان والتين والزيتون وما أشبه ذلك من غير ضرورة، وتكون في الاصول غير النابتة كالمقاثي والبطيخ مع عجز صاحبها عنها، وكذلك الزرع. وعند الحنابلة تجوز المساقاة في كل ثمر مأكول. قال في المغني: وتصح المساقاة على البعلي من الشجر، كما تجوز فيما يحتاج إلى سقي، وبهذا قال مالك. قال: ولا نعلم فيه خلافا. وظيفة المساقي: ووظيفة عامل المساقاة – كما قال النووي: أن عليه كل ما يحتاج إليه في إصلاح الثمر، واستزادته مما يتكرر كل سنة: كالسقي وتنقية الانهار وإصلاح منابت الشجر وتلقيحه وتنحية الحشيش والقضبان عنه وحفظ الثمرة وجذاذها ونحو ذلك. وأما ما يقصد به حفظ الاصل ولا يتكرر كل سنة. كبناء الحيطان وحفر الانهار فعلى المالك. عجر العامل عن العمل: إذا وجد عذر يمنع العامل من العمل، كأن يمرض أو


[ 349 ]

تصيبه عاهة أو يسافر سفرا اضطراريا فإن المساقاة تفسخ. وهذا في حالة ما إذا كان الطرف الاخر قد اشترط عليه أن يعمل بنفسه. فإذا لم يكن قد اشترط عليه هذا الشرط فإن المساقاة لا تنفسخ بل على العامل أن يقيم غيره مقامه. وهذا عند الاحناف. وقال مالك: إذا عجز العامل وقد حل بيع الثمر لم يكن له أن يساقي غيره، ووجب عليه أن يستأجر من يعمل. وإن لم يكن له شئ استؤجر من نصيبه من الثمر. وقال الشافعي: تنفسخ المساقاة بالعجز. موت أحد المتعاقدين: إذا مات أحد المتعاقدين فإن كان في الشجر ثمر لم يبد صلاحه فلرعاية مصلحة الطرفين يستمر العامل أو ورثته على العمل حتى ينضج الثمر، ولو جبرا على صاحب الشجر أو ورثته، لانه لا ضرر على أحد في ذلك، وليس للعامل أجرة في المدة التي بين انفساخ العقد ونضج الثمر. وإذا امتنع العامل أو ورثته عن العمل بعد انتهاء المدة أو انفساخ العقد لا يجبرون عليه، ولكنهم إذا أرادوا قطع الثمر قبل نضجه فلا يمكنون منه، وإنما يكون الحق للمالك أو ورثته في أحد ثلاثة أشياء:


[ 350 ]

1 – الموافقة على قطع الثمر وقسمته حسب الاتفاق. 2 – إعطاء العامل أو ورثته من النقود قيمة ما يخص نصيبهم وهو مستحق القطع. 3 – الانفاق على الشجر حتى ينضج الثمر ثم الرجوع على المساقي أو ورثته بما أنفق أو يأخذ به ثمارا من نصيبه. وهذا مذهب الاحناف.


[ 351 ]

الجعالة () تعريفها: الجعالة عقد على منفعة يظن حصولها، كمن يلتزم بجعل (1) معين لمن يرد عليه متاعه الضائع، أو دابته الشاردة، أو يبني له هذا الحائط، أو يحفر له هذه البئر حتى يصل إلى الماء، أو يحفظ ابنه القرآن، أو يعالج المريض حتى يبرأ، أو يفوز في مسابقة كذا… الخ. مشروعيتها: والاصل في مشروعيتها قول الله سبحانه: (2) (هامش) الجعالة مثلثة الجيم. (1) الجعل. ما يعطى مقابل عمل. (2) سورة يوسف الاية رقم 72. (.)


[ 352 ]

ولمن جاء به حمل بعير (1) وأنا به زعيم ” (2). ولان الرسول، صلى الله عليه وسلم، أجاز أخذ الجعل على الرقية بام القرآن كما تقدم في باب الاجارة. وقد أجيزت للضرورة، ولهذا جاز فيها من الجهالة ما لم يجز في غيرها، فإنه يجوز أن يكون العمل مجهولا. ولا يشترط في عقد الجعالة حضور المتعاقدين كغيره من العقود، لقول الله تعالى: ” ولمن جاء به حمل بعير “. والجعالة عقد من العقود الجائزة التي يجوز لاحد المتعاقدين فسخه. ومن حق المجعول له أن يفسخه قبل الشروع في العمل كما أن له أن يفسخه بعد الشروع إذا رضي بإسقاط حقه. أما الجاعل فليس له أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. وقد منعها بعض الفقهاء منهم ابن حزم، قال في المحلى: ” لا يجوز الحكم بالجعل على أحد. فمن قال لاخر: إن جئتني بعبدي الابق فلك علي دينار، أو قال: إن فعلت (هامش) (1) البعير: الجمل. (2) الزعيم: الكفيل. (.)


[ 353 ]

كذا وكذا فلك درهم، أو ما أشبه ذلك، فجاءه بذلك. أو هتف وأشهد على نفسه: من جاءني بكذا فله كذا فجاءه به، لم يقض عليه بشئ، ويستحب لو وفى بوعده. وكذلك من جاء بآبق فلا يقضى له بشئ، سواء عرف بالمجئ بالاباق أو لم يعرف بذلك، إلا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة أو ليأتيه به من مكان معروف، فيجب له ما استأجره به. وأوجب قوم الجعل وألزموه الجاعل واحتجوا بقول الله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ” (1). وبقول يوسف عليه السلام: ” قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم “، وبحديث الذي رقى على قطيع من الغنم “. انتهى. (هامش) (1) سورة المائدة الاية رقم 1. (.) فقه السنة – 23


[ 354 ]

الشركة تعريفها: الشركة هي الاختلاط. ويعرفها الفقهاء بأنها عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (1). مشروعيتها: وهي مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع. ففي الكتاب يقول الله سبحانه: ” فهم شركاء في الثلث ” (2). وقوله سبحانه: ” وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات (هامش) (1) التعريف عند الاحناف. (2) سورة النساء الاية رقم 12. (.)


[ 355 ]

وقليل ما هم ” (1)، والخلطاء هم الشركاء. وفي السنة يقول الرسول، صلوات الله وسلامه عليه: إن الله تعالى يقول: ” أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه. فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما ” (2). رواه أبو داود عن أبي هريرة. وقال زيد: كنت أنا والبراء شريكين. رواه البخاري. وأجمع العلماء على هذا. ذكر ذلك ابن المنذر. أقسامها: والشركة قسمان: القسم الاول: شركة أملاك. والقسم الثاني: شركة عقود. شركة الاملاك: وهي أن يتملك أكثر من شخص عينا من غير عقد. وهي إما أن تكون اختيارية أو جبرية: فالاختيارية، مثل أن يوهب هبة أو يوصى لهما بشئ فيقبلا فيكون الموهوب والموصى به ملكا لهما على (هامش) (1) سورة ” ص “، الاية رقم 24. (2) أي أن الله يبارك للشريكين في المال ويحفظه لهما ما لم تكن خيانة بينهما. فإذا خان أحدهما نزع البركة من المال. (.)


[ 356 ]

سبيل المشاركة. وكذلك إذا اشتريا شيئا لحسابهما فيكون المشترى شركة بينهما شركة ملك. والجبرية: هي التي تثبت لاكثر من شخص جبرا دون أن يكون فعل في إحداث الملكية كما في الميراث. فإن الشركة تثبت للورثة دون اختيار منهم، وتكون شركة بينهم شركة ملك. حكم هذه الشركة: وحكم هذه الشركة أنه لا يجوز لاي شريك أن يتصرف في نصيب صاحبه بغير إذنه، لانه لا ولاية لاحدهما في نصيب الاخر، فكأنه أجنبي. شركة العقود: هي أن يعقد اثنان فأكثر عقدا على الاشتراك في المال وما نتج عنه من ربح. أنواعها: وأنواعها كما يلي: 1 – شركة العنان. 2 – شركة المفاوضة. 3 – شركة الابدان. 4 – شركة الوجوه. ركنها: وركنها الايجاب والقبول، فيقول أحد الطرفين: شاركتك في كذا وكذا، ويقول الثاني: قبلت.


[ 357 ]

حكمها: أجاز الاحناف كل نوع من أنواع الشركات السابقة متى توفر فيها الشروط التي ذكروها. والمالكية أجازوا كل الشركات، ما عدا شركة الوجوه. والشافعية أبطلوها كلها ما عدا شركة العنان. والحنابلة أجازوها كلها ما عدا شركة المفاوضة. شركة العنان: (1) وهي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه والربح بينهما، ولا يشترط فيها المساواة في المال ولا في التصرف ولا في الربح. فيجوز أن يكون مال أحدهما أكثر من الاخر. ويجوز أن يكون أحدهما مسئولا دون شريكه. ويجوز أن يتساويا في الربح. كما يجوز أن يختلفا حسب الاتفاق بينهما. فإذا كان ثمة خسارة فتكون بنسبة رأس المال. شركة المفاوضة: (2) هي التعاقد بين اثنين أو أكثر على الاشتراك في عمل بالشروط الاتية: (هامش) (1) العنان بكسر العين وتفتح قال الفراء: اشتقاقها من عن الشئ إذا عرض، فالشريكان كل واحد منها تعن شركة الاخر. وقيل هي مشتقة عناني الفرسين في التساوي. (2) المفاوضة: أي المساواة وسميت بهذه التسمية لاعتبار المساواة في رأس المال والربح والتصرف، وقيل: هي من التفويض لان كل واحد يفوض شريكه في التصرف. (.)


[ 358 ]

1 – التساوي في المال، فلو كان أحد الشركاء أكثر مالا فإن الشركة لا تصح (1). 2 – التساوي في التصرف، فلا تصح الشركة بين الصبي والبالغ. 3 – التساوي في الدين، فلا تنعقد بين مسلم وكافر. 4 – أن يكون كل واحد من الشركاء كفيلا عن الاخر فيما يجب عليه من شراء وبيع كما أنه وكيل عنه، فلا يصح أن يكون تصرف أحد الشركاء أكثر من تصرف الاخر. فإذا تحققت المساواة في هذه النواحي كلها انعقدت الشركة وصار كل شريك وكيلا عن صاحبه وكفيلا عنه يطالب بعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته. وقد أجازها الحنفية والمالكية ولم يجزها الشافعي، وقال: ” إذا لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا ” لانها عقد لم يرد الشرع بمثله. وتحقق المساواة في هذه الشركة أمر عسير لما فيها من غرر وجهالة. وما ورد من (هامش) (1) فلو كان أحد الشركاء يملك 100 والاخر يملك دون ذلك فإن الشركة لا تصح ولو لم يكن ذلك مستعملا في التجارة. (.)


[ 359 ]

الحديث: ” فاوضوا فإنه أعظم للبركة ” وقوله: ” إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة ” فإنه لم يصح شئ من ذلك. وصفتها عند الامام مالك: هي أن يفوض كل واحد منهما إلى الاخر التصرف مع حضوره وغيبته، وتكون يده كيده. ولا يكون شريكه إلا بما يعقدان الشركة عليه. ولا يشترط المفاوضة أن يتساوي المال ولا أن لا يبقي أحدهما مالا إلا ويدخله في الشركة. شركة الوجوه: هي أن يشتري اثنان فاكثر من الناس دون أن يكون لهم رأس مال اعتمادا على جاههم وثقة التجار بهم، على أن تكون الشركة بينهما في الربح، فهي شركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وهي جائزة. عند الحنفية والحنابلة لانها عمل من الاعمال فيجوز أن تنعقد عليه الشركة ويصح تفاوت ملكيتهما في الشئ المشترى. وأما الربح فيكون بينهما على قدر نصيب كل منهما في الملك. وأبطلها الشافعية والمالكية، لان الشركة إنما تتعلق بالمال أو العمل، وهما هنا غير موجودين. شركة الابدان: هي أن يتفق اثنان على أن يتقبلا عملا من الاعمال على أن تكون أجرة هذا العمل بينهما حسب الاتفاق.


[ 360 ]

وكثيرا ما يحدث هذا بين النجارين والحدادين والحمالين والخياطين والصاغة وغيرهم من المحترفين. وتصح هذه الشركة سواء اتحدث حرفتها أم اختلفت ” كنجار مع نجار أو نجار مع حداد “. وسواء عملا جميعا أو عمل أحدهما دون الاخر، منفردين ومجتمعين. وتسمى هذه الشركة بشركة الاعمال أو الابدان أو الصنائع أو التقبل. ودليل جواز هذه الشركة ما رواه أبو عبيدة عن عبد الله قال: ” اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ “. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويرى الشافعي أن هذه الشركة باطلة، لان الشركة عنده تختص بالاموال لا بالاعمال. وفي كتاب الروضة الندية كلام حسن في هذا الموضوع نورده فيما يلي: ” واعلم أن هذه الاسامي التي وقعت في كتب الفروع لانواع من الشركة: كالمفاوضة، والعنان، والوجوه، والابدان، لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية، بل اصطلاحات


[ 361 ]

حادثة متجددة، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها، لان للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ما لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه، وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين وكونهما نقدا واشتراط العقد، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف. وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شئ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن، كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة ودخل فيها جماعة من الصحابة فكانوا يشتركون في شراء شئ من الاشياء ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته يتولى الشراء أحدهما أو كلاهما. وأما اشتراط العقد والخلط فلم يرد ما يدل على اعتباره. وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الاخر أن يستدين له مالا ويتجر فيه ويشتركا في الربح كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا. ولكن لا وجه لما ذكروه من الشروط. وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الاخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه كما هو معنى شركة الابدان اصطلاحا. ولا معنى لا شتراط


[ 362 ]

شروط في ذلك. والحاصل أن جميع هذه الانواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي، لان ما كان منها من التصرف في الملك فمناطه التراضي ولا يتحتم اعتبار غيره. وما كان منها من باب الوكالة أو الاجارة فيكفي فيه ما يكفي فيهما، فما هذه الانواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها؟ وأي دليل عقلي أو نقلي ألجأهم إلى ذلك؟ فإن الامر أيسر من هذا التهويل والتطويل، لان حاصل ما يستفاد من شركة: المفاوضة، والعنان، والوجوه، أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شئ وبيعه، ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن، وهذا شئ واحد واضح المعنى يفهمه العامي فضلا عن. العالم، ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل، وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف، وأعم من أن يكون المدفوع نقدا أو عرضا، وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما أو بعضه، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما. وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذا الاقسام – التي هي في الاصل شئ واحد – اسما يخصه، فلا مشاحة في الاصطلاحات، لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات،


[ 363 ]

وتكلفهم لتلك الشروط، وتطويل المسافة على طالب العلم وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته؟ وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن: جواز الاشتراك في شراء الشئ وفي ربحه، لم يصعب عليه أن يقول: نعم. ولو قلت له: هل يجوز العنان أو الوجوه أو الابدان؟ لحار في فهم معاني هذه الالفاظ. بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع يلتبس عليه الكثير من تفاصيل هذه الانواع ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض. اللهم إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه، فربما يسهل عليه ما يهتدى به إلى ذلك. وليس المجتهد من وسع دائرة الاراء العاطلة عن الدليل، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل، فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد، بل المجتهد من قرر الصواب، وأبطل الباطل، وفحص في كل مسألة عن وجوه الدلائل، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين، فالحق لا يعرف بالرجال. ولهذا المقصد سلكنا في هذه الابحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صفى فهمه عن التعصبات، وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات. والله المستعان “. ا ه‍.


[ 364 ]

شركة الحيوان: ويرى ابن القيم جواز المشاركة في الحيوان بأن تكون العين مملوكة لشخص ويقوم الاخر على تربيتها على أن يكون الربح بينهما حسب الاتفاق. قال في إعلام الموقعين: تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره، بأن يدفع إليه أرضه ويقول: اغرسها من الاشجار كذا وكذا، والغرس بيننا نصفان، وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهما، وكما يدفع إليه شجره يقوم عليه والثمر بينهما، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها والدر والنسل بينهما، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما، وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها والاجرة بينهما، وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها وسهمها بينهما، وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها والماء بينهما، ونظائر ذلك، فكل ذلك شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها، والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب


[ 365 ]

الاجارة، فالعوض مجهول فيفسد. ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها والمضاربة للاجماع دون ما عدا ذلك، ومنه من خص الجواز بالمضاربة، ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنه من منع الجواز فيما إذا كان بعض الاصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الاصل كالدر والنسل، والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها، فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك: هذا بماله وهذا بعمله، وما رزق الله فهو بينهما، وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الاجارة، حتى قال شيخ الاسلام: هذه المشاركات أحل من الاجارة. قال: لان المستاجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر، إذا قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة، فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء، إن رزق الله الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا في الحرمان، وهذا غاية العدل، فلا تاتي الشريعة بحل الاجارة وتحريم هذه المشاركات.


[ 366 ]

وقد أقر النبي، صلى الله عليه وسلم، المضاربة على ما كانت عليه قبل الاسلام، فضارب أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الامة، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهذا كانه رأي عين، ثم لم ينسخه ولا ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم، يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره، ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع، إلا فيما منع منه النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، والله ورسوله لم يحرم شيئا من ذلك، وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك، فإذا بلي الرجل بمن يحتج في التحريم بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا، ولا يدله من فعل ذلك، إذ لا تقوم مصلحة الامة إلا به، فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه، فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ولم يحرمه على الامة. بعض صور من الشركات الجائزة: أورد ابن قدامة بعض صور من الشركات الجائزة، فقال في المغني:


[ 367 ]

” فإن كان لقصار أداة ولاخر بيت، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما، جاز، والاجرة على ما شرطاه، لان الشركة وقعت على عملهما والعمل يستحق به الربح في الشركة، والالة والبيت لا يستحق بهما شئ لانهما يستعملان في العمل المشترك، فصارا كالدابتين اللتين أجراهما لحمل الشئ الذي تقبلا حملا. وإن فسدت الشركة قسم ما حصل لهما على قدر أجر عملهما وأجر الدار والالة، وإن كانت لاحدهما آلة وليس للاخر شئ، أو لاحدهما بيت وليس للاخر شئ، فاتفقا على أن يعملا بالالة أو في البيت والاجرة بينهما، جاز لما ذكرناه. قال: وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا، صح، نص عليه في رواية الاثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد، ونقل عن الاوزاعي ما يدل على هذا. وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب الدابة لان الحمل الذي يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله، لان هذا ليس من أقسام الشركة، إلا أن تكون


[ 368 ]

المضاربة، ولا تصح المضاربة بالعروض، ولان المضاربة تكون بالتجارة في الاعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها. وقال القاضي: يتخرج أن لا يصح، بناء على أن المضاربة بالعروض لا تصح، فعلى هذا: إن كان أجر الدابة بعينها فالاجر لمالكها، وإن تقبل حمل شئ فحمله عليها أو حمل عليها شيئا مباحا فباعه، فالاجرة والثمن له، وعليه أجرة مثلها لمالكها. ولنا انها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة والارض في المزارعة. وقولهم إنه ليس من أقسام الشركة ولا هو مضاربة، قلنا: نعم، لكنه يشبه المساقاة والمزارعة، فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها. وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعرض فاسد، فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال، وهذا بخلافه. قال: ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو ألا يكون به بأس. قال إسحاق ابن إبراهيم قال أبو عبد الله: إذا كان على النصف والربع فهو جائز، وبه قال الاوزاعي.


[ 369 ]

قال: وقالوا (1) لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر مثلها. وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق بينهما على ما شرطا، لانها عين تنمى بالعمل فيها فصح دفعها ببعض نمائها كالارض ” (انتهى). (هامش) (1) أي بعض أئمة الفقه. (.) فقه السنة – 24


[ 370 ]

شركات التأمين: أفتى فضيلة الشيخ أحمد ابراهيم بعدم جواز عقود التأمين على الحياة، فقال: إن حقيقة الامر في عقود التأمين على الحياة هو عدم صحتها، ولبيان ذلك أقول: إن عاقد التأمين مع الشركة إذا أوفى الاقساط حال حياته كان له أن يسترد من الشركة كل المبلغ الذي دفعه مقسطا مع الربح الذي اتفق عليه مع الشركة. فأين هذا من عقد المضاربة الجائزة شرعا؟. فعقد المضاربة: أن يعطي زيد بكرا مائة جنيه (مثلا) ليتجر بها بكر على أن يكون الربح بينهما مشتركا بنسبة كذا على حسب ما يتفقان، لرب المال النصف وللمضارب الذي هو العامل النصف. الاول في مقابلة ماله، والثاني


[ 371 ]

في مقابلة عمله. أو يكون للاول الثلثان وللثاني الثلث أو العكس. وهكذا. فشرط صحة المضاربة الاساسي أن يأخذ رب المال حقه مما تربحه التجارة بماله بعمل المضارب. فإذا لم تكسب التجارة ولم تخسر سلم لرب المال رأس ماله ولا شئ له ولا للمضارب بعد ذلك لعدم الربح، عملا بحكم المضاربة. وإذا خسرت التجارة كانت الخسارة على رب المال من رأس ماله دون المضارب، ولاشئ للمضارب في مقابل عمله لانه في هذه الحالة شريك وليس بأجير. أما إذا شرط رب المال على المضارب أن يأخذ رب المال مقدارا معينا فوق رأس ماله بصرف النظر عن كون التجارة كسبت أو خسرت، فهذا شرط فاسد، لانه يؤدي إلى قطع الشركة في الربح، وهذا مخالف لحكم المضاربة، أو إلى التزام المضارب بدفع مبلغ من ماله الخاص لرب المال. وهذا من باب أكل أموال الناس بالباطل. ثم إذا فسدت المضاربة بالشرط الذي ذكرته آنفا وهو الموجود في عقد التأمين، وربحت التجارة، كان الربح كله لرب المال. وأما المضارب فاء على رب المال أجر مثل


[ 372 ]

عمله بالغا ما بلغ، على رواية الاصل لمحمد (رحمه الله) لانه انقلب أجيرا بفساد المضاربة وخرج عن كونه شريكا. وعلى قول أبي يوسف المفتى به يكون للعامل أجر مثل (1) عمله دون أن يتجاوز المتفق عليه في العقد. وذلك لان المضاربة إذا كانت صحيحة لم يكن للعامل إلا المتفق عليه مع الربح. فإذا فسد العقد فلا ينبغي أن يستفيد المضارب من العقد الفاسد أكثر مما يستفيده من العقد الصحيح. وقول محمد في الاصل هو القياس. وقول أبي يوسف استحسان، للمعنى الذي قلنا. هذه هي المضاربة الشرعية، وهذه هي أحكامها… فهل يندرج عقد التأمين تحت المضاربة الصحيحة؟. الجواب: لا. وإذن هو يندرج تحت المضاربة الفاسدة. وحكمها شرعا هو ما أسمعتك هنا، وهو مخالف لحكم عقد التأمين قانونا. ولا يمكن أن يقال إن الشركة تتبرع للمؤمن بما (هامش) (1) أجر المثل: هو الاجر الذي قدره أهل الحبرة المنزهين عن الهوى والتحيز، ويكون اختيارهم بموافقة المتعاقدين أو باختيار الحاكم. (.)


[ 373 ]

التزمته. لان طبيعة عقد التأمين قانونا أنه من عقود المعاوضة الاحتمالية. وإذا قيل إن ما يدفعه المؤمن للشركة يعتبر قرضا يسترده مع أرباحه إذا كان حيا، فهذا قرض جر نفعا. وهو حرام. وهذا هو الرب المنهي عنه. وبالجملة فالموضوع على أي وجه قلبته وجدته لا ينطبق على عقد يصححه الشرع الاسلامي. وهذا الذي قدمناه هو فيما إذا بقي المؤمن على حياته حيا بعد توفيته ما التزمه على نفسه من الاقساط، أما إذا مات قبل إيفاء جميع الاقساط، وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط، وقد يكون الباقي مبلغا عظيما جدا، لان مبلغ التأمين على الحياة موكول تقديره إلى طرفي العقد على ما هو معلوم، فإذا أدت الشركة المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته، ففي مقابل أي شئ دفعت الشركة هذا المبلغ؟. أليست هذه مخاطرة ومغامرة؟ وإذا لم يكن هذا من صميم المغامرة، ففي أي شئ المغامرة إذن…؟ وهل يتصور أن يجيز شرع يحرم أكل أموال الناس


[ 374 ]

بالباطل أن يكون موت شخص مصدرا لان يجني ورثته أو من يقوم مقامه بعد موته ربحا اتفق عليه قبل موته مع آخر مجازف يؤديه بعد موت الاول إلى هؤلاء؟ مع العلم بأنه يجوز الاتفاق على أي مبلغ، بالغا قدره ما بلغ؟ ومتى كانت حياة الانسان وموته محلا للتجارة، ومن الاشياء التي تقوم بالمال غير الواقف مقداره عند أي حد، بل يوكل ذلك إلى تقدير العاقدين؟ على أن المغامرة حاصلة أيضا من ناحية أخرى. فإن المؤمن له، بعد أن يوفي جميع ما التزمه من الاقساط يكون له كذا. وإن مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته كذا. أليس هذا قمارا ومخاطرة؟ حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الامرين على التعيين…


[ 375 ]

الصلح تعريفه: الصلح في اللغة: قطع المنازعة. وفي الشرع: عقد ينهي الخصومة بين المتخاصمين. ويسمى كل واحد من المتعاقدين مصالحا. ويسمى الحق المتنازع فيه، مصالحا عنه. وما يسمى يؤديه أحدهما لخصمه قطعا للنزاع: مصالحا عليه أو بدل الصلح. مشروعيته. والصلح مشروع بالكتاب والسنة والاجماع من أجل أن يحل الوفاق محل الشقاق، ولكي يقضي على البغضاء بين المتنازعين. ففي الكتاب يقول الله سبحانه وتعالى:


[ 376 ]

” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (1) “. وفي السنة يروي أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حيان عن عمرو بن عوف أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ” الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما “. وزاد الترمذي: ” والمسلمون على شروطهم ” ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وقال عمر،، رضي الله عنه: ” ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن “. وقد أجمع المسلمون على مشروعية الصلح بين الخصوم. أركانه: وأركان الصلح: الايجاب والقبول بكل لفظ ينبئ عن المصالحة، كأن يقول المدعى عليه: (هامش) (1) سورة الحجرات الاية رقم 9. (.)


[ 377 ]

” صالحتك على المائة التي لك عندي على خمسين “. ويقول الاخر: ” قبلت “. ونحو ذلك. ومتى تم الصلح أصبح عقدا لازما للمتعاقدين، فلا يصح لاحدهما أن يستقل بفسخه بدون رضا الاخر، وبمقتضى العقد يملك المدعي بدل الصلح ولا يملك المدعى عليه استرداده وتسقط دعوى المدعي فلا تسمع منه مرة أخرى. شروطه: من شروط الصلح ما يرجع إلى المصالح، ومنها ما يرجع إلى المصالح به، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه. شروط المصالح: يشترط في المصالح أن يكون ممن يصح تبرعه، فلو كان المصالح ممن لا يصح تبرعه مثل: المجنون أو الصبي أو ولي اليتيم أو ناظر الوقف، فإن صلحه لا يصح لانه تبرع، وهم لا يملكونه. ويصح صلح الصبي المميز وولي اليتيم وناظر الوقف إذا كان فيه نفع للصبي أو لليتيم أو للوقف، مثل أن يكون هناك دين على آخر وليس ثمة أدلة على ثبوت هذا الدين،


[ 378 ]

فيصالح المدين على أخذ بعض دينه وترك البعض الاخر. شروط المصالح به: 1 – أن يكون مالا متقوما مقدور التسليم، أو يكون منفعة. 2 – أن يكون معلوما علما نافيا للجهالة الفاحشة المؤدية إلى النزاع إن كان يحتاج إلى التسلم والتسليم. قال الاحناف: فإن كان لا يحتاج إلى التسليم والتسلم فإنه لا يشترط العلم به، كما إذا ادعى كل من رجلين على صاحبه شيئا، ثم تصالحا على أن يجعل كل منهما حقه بدل صلح عما للاخر. ورجح الشوكاني جواز الصلح بالمجهول عن المعلوم. فعن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: ” جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فإ مواريث بينهما قد درست (1) ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر (2) (هامش) (1) درست: أي قدم عليها العهد حتى ذهبت معالمها. (2) بشر: يطلق على الواحد وعلى الجمع. (.)


[ 379 ]

ولعل بعضكم ألحن (1) بحجته من بعض. وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما (2) في عنقه يوم القيامة. فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لاخي. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا (3) الحق. ثم استهما (4) ثم ليحلل (5) كل واحد منكما صاحبه “. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية لابي داود: ” وإنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه “. قال الشوكاني: وفيه دليل على أنه يصح الابراء عن المجهول، لان (هامش) (1) ألحن: أبلغ. (2) إسطاما: الحديدة التي تحرك بها النار. (3) توخيا: اقصدا. (4) استهما: أي ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة بعد القسمة. (5) ثم ليحلل: أي ليسأل كل واحد صاحبه أن يجعله في حل من قبله بإبراء ذمته. (.)


[ 380 ]

الذي في ذمة كل واحد ههنا غير معلوم. وفيه أيضا صحة الصلح بمعلوم عن المجهول. ولكن لا بد مع ذلك من التحليل (1). وحكي في البحر عن الناصر والشافعي أنه لا يصح الصلح بمعلوم عن مجهول. انتهى. شروط المصالح عنه ” الحق المتنازع فيه “. ويشترط في المصالح عنه الشروط الاتية: 1 – أن يكون مالا متقوما أو يكون منفعة، ولا يشترط العلم به لانه لا يحتاج فيه إلى التسليم. ” فعن جابر أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي (2) ويحلوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي، صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: سنغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة. فجذذتها (3) فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها “. (هامش) (1) أي بشرط أن يحل كل من المتصالحين صاحبه. (2) الحائط: البستان. (3) قطعتها. (.)


[ 381 ]

وفي لفظ ” أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود. فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم اليهودي ليأخذ ثمرة نخله بالذي له فأبى، فدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جذ له فأوف له الذي له، فجذه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت سبعة عشر وسقا ” رواه البخاري. قال الشوكاني: وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول. 2 – أن يكون حقا من حقوق العباد يجوز الاعتياض عنه ولو كان غير مال كالقصاص. أما حقوق الله فلا صلح عنها. فلو صالح الزاني أو السارق أو شارب الخمر من أمسكه ليرفع أمر إلى الحاكم على مال ليطلق سراحه فإن الصلح لا يجوز، لانه لا يصح أخذ العوض في مقابلته. ويعتبر أخذ العوض في هذه الحال رشوة. وكذلك لا يصح الصلح عن حد القذف لانه شرع للزجر وردع الناس عن الوقوع في الاعراض، فهو وإن كان فيه حق للعبد ولكن حق الله فيه أغلب.


[ 382 ]

ولو صالح الشاهد على مال ليكتم الشهادة عليه بحق لله تعالى أو بحق لادمي فإن الصلح غير صحيح لحرمة كتمان الشهادة. قال تعالى: ” ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ” (1). وقال، جل شأنه: ” وأقيموا الشهادة لله ” (2). ولا يصح الصلح على ترك الشفعة. كما إذا صالح المشتري الشفيع على شئ ليترك الشفعة فالصلح باطل، لان الشفعة شرعت لازالة ضرر الشركة ولم تشرع من أجل استفادة المال، وكذلك لا يصح الصلح على دعوى الزوجية. أقسام الصلح: الصلح إما أن يكون صلحا عن إقرار، أو صلحا عن إنكار، أو صلحا عن سكوت. الصلح عن إقرار: والصلح عن إقرار: هو أن يدعي إنسان على غيره دينا أو عينا أو منفعة فيقر المدعى عليه بالدعوى ثم يتصالحا (هامش) (1) سورة البقرة الاية رقم 283. (2) سورة الطلاق الاية رقم 2. (.)


[ 383 ]

على أن يأخذ المدعي من المدعى عليه شيئا لان الانسان لا يمنع من إسقاط حقه أو بعضه. قال أحمد رضي الله عنه، ولو شفع فيه شافع لم يأثم، لان النبي، صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر. وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر. يشير الامام أحمد إلى ما رواه النسائي وغيره عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما وكشف سجف حجرته فنادى: يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله. قال: ضع من دينك هذا. وأومأ إلى الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: قم فاقضه “. ثم إن المدعى عليه إن اعترف بنقد وصالح على نقد فإن هذا يعتبر صرفا ويعتبر فيه شروطه، وإن اعترف بنقد وصالح على عروض أو بالعكس فهذا بيع يثبت فيه أحكامه كلها. وإن اعترف بنقد أو عرض وصالح على منفعة كسكنى دار وخدمة فهذه إجارة تثبت فيها أحكامها، وإذا استحق المصالح عنه، الحق المتنازع فيه، كان من حق المدعى عليه


[ 384 ]

أن يسترد بدل الصلح لانه ما دفعه إلا ليسلم له ما في يده. وإذا استحق البدل رجع المدعي على المدعى عليه لانه ما ترك المدعى إلا ليسلم له البدل. الصلح عن إنكار: والصلح عن إنكار: هو أن يدعي شخص على آخر عينا أو دينا أو منفعة فينكر ما ادعاه ثم يتصالحا. الصلح عن سكوت: والصلح عن سكوت: هو أن يدعي شخص على آخر ما ذكر فيسكت المدعى عليه، فلا يقر ولا ينكر. حكم الصلح عن إنكار وسكوت: وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى جواز الصلح عن الانكار والسكوت. وقال الامام الشافعي وابن حزم: لا يجوز إلا الصلح عن إقرار. لان الصلح يستدعي حقا ثابتا ولم يوجد في حال الانكار والسكوت. أما في حال الانكار فلان الحق لا يثبت إلا بالدعوى وهي معارضة بالانكار، ومع التعارض لا يثبت الحق. وأما في حال السكوت فلان الساكت يعتبر منكرا حكما حتى تسمع عليه البينة. وبذل كل منهما المال لدفع الخصومة


[ 385 ]

غير صحيح. لان الخصومة باطلة، فيكون البذل في معنى الرشوة، وهي ممنوعة شرعا لقول الله تعالى: ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون ” (1). وقد توسط بعض العلماء فلم يمنعه بإطلاق ولم يبحه بإطلاق. فقال: والاولى أن يقال: إن كان المدعي يعلم أن له حقا عند خصمه جاز له قبض ما صولح عليه. وإن كان خصمه منكرا وإن كان يدعي باطلا فإنه يحرم عليه الدعوى، وأخذ ما صولح به. والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه، وإنما ينكر لغرض وجب عليه تسليم ما صولح عليه. وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريمه وأذيته. وحرم على المدعي أخذه. وبهذا تجتمع الادلة: فلا يقال الصلح على الانكار لا يصح، ولا أنه يصح على الاطلاق. بل يفصل فيه (2). (هامش) (1) سورة البقرة الآية رقم 188. (2) من كتاب ” فتح العلام شرح بلوغ المرام ” (.)


[ 386 ]

والذين أجازوا الصلح عن إنكار أو سكوت قالوا: إن حكمه يكون في حق المدعي معاوضة عن حقه. وفي حق المدعى عليه افتداء ليمينه وقطعا للخصومة عن نفسه. ويترتب على هذا أن بدل الصلح إذا كان عينا كان في معنى البيع، فتجري عليه جميع أحكامه. وإن كان منفعة كان في معنى الاجارة فتجري عليه أحكامها. وأما المصالح عنه فإنه لا يكون كذلك لانه في مقابلة انقطاع الخصومة وليس عوضا عن مال، ومتى استحق بدل الصلح رجع المدعي بالخصومة على المدعى عليه، لانه لم يترك الدعوى إلا ليسلم له البدل. ومتى استحق المصالح عنه رجع المدعى عليه على المدعي لانه لم يدفع البدل إلا ليسلم له المدعى، فإذا استحق لم يتم مقصوده، فيرجع على المدعي. الصلح عن دين المؤجل ببعضه حالا: ولو صالح عن الدين المؤجل ببعضه حالا لم يصح عند الحنابلة وابن حزم. قال ابن حزم في المحلي: ” ولا يجوز في الصلح الذي يكون فيه إبراء من البعض


[ 387 ]

شرط تأجيل أصلا، لانه شرط ليس في كتاب الله. فهو باطل. ولكنه يكون حالا في الذمة ينظره به ما شاء بلا شرط، لانه فعل خير “. وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس، وابن سيرين والنخعي: أنه لا باس به.


[ 389 ]

بسم الله الرحمن الرحيم القضاء العدل هو الغاية من رسالات الله: إن العدل قيمة من القيم الاسلامية العليا. ذلك أن إقامة الحق والعدل هي التي تشيع الطمأنينة، وتنشر الامن، وتشد علاقات الافراد بعضهم ببعض، وتقوي الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتنمي الثروة، وتزيد في الرخاء، وتدعم الاوضاع، فلا تتعرض لخلخلة أو اضطراب، ويمضي كل من الحاكم والمحكوم إلى غايته في العمل، والانتاج، وخدمة البلاد، دون أن يقف في طريقه ما يعطل نشاطه، أو يعوقه عن النهوض. وإنما يتحقق العدل بإيصال كل حق إلى مستحقه والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام ويتجنب الهوى بالقسمة بين الناس بالسوية.


[ 390 ]

وما كانت مهمة رسل الله إلا القيام بهذا الامر وانفاذه. وما كانت وظيفة أتباع الرسل إلا السير على هذا النهج كي تبقى النبوة تمد الناس بظلها الظليل ” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ” (1). القضاء (2) في الاسلام: ومن أهم الوسائل التي يتحقق بها القسط وتحفظ الحقوق وتصان الدماء والاعراض والاموال هي إقامة النظام القضائي الذي فرضه الاسلام وجعله جزءا من تعاليمه وركيزة من ركائزه التي لابد منها ولاغنى عنها. وكان أول من تولى هذه الوظيفة في الاسلام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء في المعاهدة التي تمت بعد الهجرة بين المسلمين واليهود وغيرهم: ” إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد رسول الله “. (هامش) (1) سورة الحديد الاية رقم 24. (2) القضاء في اللغة: إتمام الشئ قولا وفعلا. وفي الشرع: الفصل بين الناس في الخصومات حسما للخلاف وقطعا للنزاع بمقتضى الاحكام التي شرعها الله (.)


[ 391 ]

وقد أمره الله عزوجل أن يحكم بما أنزل فقال: ” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما “… الخ (1). وتولى قضاء مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد كما تولى علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – قضاء اليمن. روى أهل السنن وغيرهم أن عليا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا قال: يارسول الله، بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: ” اللهم أهده وثبت لسانه “. قال علي: فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين “. وعن علي كرم الله وجهه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الاخر، كما سمعت من الاول فإنك إذا (هامش) (1) سورة النساء الايات من 105 – 113 (.)


[ 392 ]

فعلت ذلك تبين لك القضاء ” (1) فيم يكون القضاء: والقضاء يكون في جميع الحقوق سواء أكانت حقوقا لله أم حقوقا للادميين. وقد أفاد ابن خلدون ” أن منصب القضاء استقر آخر الامر على أن يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أحوال المحجور عليهم من المجانين واليتام والمفلسين وأهل السفه. وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الايامى عند فقد أوليائهن على رأي من يراه. والنظر في مصالح الطرقات والابنية وتصفح الشهود والامناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجراح ليحصل له الوثوق بهم. وصارت هذه كلها من متعلقات وظيفته وتوابع ولايته ” ا. ه‍. منزلة القضاء: والقضاء فرض كفاية لدفع التظالم وفصل التخاصم ويجب على الحاكم أن ينصب للناس قاضيا ومن أبي أجبره عليه. وإذا كان الانسان في جهة لا يصلح للقضاء غيره تعين (هامش) (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (.)


[ 393 ]

عليه ووجب عليه الدخول فيه. وقد رغب الاسلام في الحكم بين الناس بالحق وجعله من الغبطة: روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” لاحسد (1) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس “. ووعد القاضي العادل بالجنة: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار ” (2). وعن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان ” (3). (هامش) (1) المقصود بالحسد هنا الغبطة. وهي أن يتمى الانسان أن يكون له مثل ما لغيره. (2) رواه أبو داود (3) رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه (.)


[ 394 ]

أما ما جاء من الاحاديث في التحذير من الدخول في القضاء مثل ما رواه سعيد المغبري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين ” (1). (أي فقد تعرض لذبح نفسه وإهلاكها بتوليه القضاء). فإنها ترجع إلى الاشخاص الذين لاعلم لهم بالحق ولا قدرة لهم على الصدع به ولا يتمكنون من ضبط أنفسهم ولا كبح جماحها ومنعها من الميل إلى الهوى. والذي يرشد إلى هذا حديث أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف. وإنها أمانة (2) وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها ” (3). وعن أبي موسى الاشعري قال: دخلت على النبي (هامش) (1) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب من هذا الوجه. (2) أي أنها تكليف شاق يستلزم القيام بحقوق الناس على الوجه الذي يحقق كل مطالبهم. (3) رواه مسلم (.)


[ 395 ]

صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عزوجل. وقال الاخر مثل ذلك فقال: إنا والله لانولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه “. وعن أنس (1) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده ” (2). والخوف من العجز عن القيام بالقضاء على الوجه الاكمل هو السبب في امتناع بعض الائمة عن الدخول في القضاء. ومن طريف ما يروى في هذا: أن حياة بن شريح دعي إلى أن يتولى قضاء مصر. فلما عرض عليه الامير امتنع فدعا له بالسيف. فلما رأى ذلك أخرج مفتاحا كان معه وقال: هذا مفتاح بيتي ولقد اشتقت إلى لقاء ربي. فلما رأى الامير عزيمته تركه. من يصلح للقضاء: ولا يقضي بين الناس إلا من كان عالما بالكتاب (هامش) (1) رواه الترمذي وأبو داود. (2) أي يرشده إلى الحق والصواب (.)


[ 396 ]

والسنة فقيها في دين الله قادرا على التفرقة بين الصواب والخطأ. بريئا من الجور بعيدا عن الهوى. وقد اشترط الفقهاء في القاضي أن يبلغ درجة الاجتهاد (1) فيكون عالما بآيات الاحكام وأحاديثها، عالما بأقوال السلف ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، عالما باللغة وعالما بالقياس، وأن يكون مكلفا ذكرا عدلا سميعا بصيرا ناطقا. وهذه الشروط تعتبر حسب الامكان ويجب تولية الامثل فالامثل. فلا يصح قضاء المقلد ولا الكافر ولا الصغير ولا المجنون ولا الفاسق ولا المرأة (2) لحديث أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: ” لن يفلح (هامش) (1) هذا هو الذي ذهب إليه الشافعي وهو قول عند المالكية والقول الاخر أنه مستحب. ولم يشترط أبو حنيفة هذا الشرط. (2) جوز أبو حنيفة للمرأة أن تكون قاضية في الاموال. وقال الطبري: يجوز للمرأة أن تكون قاضيا في كل شئ. قال في نيل الاوطار – قال في الفتح: ” وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي الاعند الحنفية. واستثنوا الحدود. وأطلق ابن جرير. ويؤيد ما قاله الجمهور أن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولاسيما في محافل الرجال ” (.)


[ 397 ]

قوم ولوا أمرهم امرأة ” (1). وقد اشترط الفقهاء أيضا مع هذه الشروط تولية الحاكم للقاضي فانها شرط في صحة قضائه وهذا بخلاف المتداعيين إذا ارتضيا حكما يقضي بينهما ممن ليس له ولاية القضاء، فقد أجازه مالك وأحمد (2) ولم يجوزه أبو حنيفة إلا بشرط أن يوافق حكمه حكم قاضي البلد. وقد ذكر الله لنا المثل الاعلى في القضاء فقال جل شأنه: ” يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ” (3) وإذا كان هذا الخطاب موجها إلى داود عليه السلام فهو في الواقع موجه إلى ولاة الامور لان الله لم يذكر ذلك إلا ليبين لنا المثل الاعلى في (هامش) (1) رواه احمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه. (2) ومتى رضي المتداعيان حكمه وحكماه ثم حكم لزمهما حكمه ولا يعتبر رضاهما بالحكم ولايجوز للحاكم نقضه. وللشافعي قولان: أحدهما يلزمه حكمه. والثاني لا يلزم إلا بتراضيهما بل يكون ذلك كالفتوى. وهذا التحكيم في قضايا الاموال. أما الحدود واللعان والنكاح فلا يجوز فيها التحكيم بالاجماع. (3) سورة ص آية 26 (.)


[ 398 ]

الحكم وأن داود وهو نبي معصوم يخاطبه الله بقوله: ” ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله “. فإذا كان النبي وهو معصوم يخشى عليه من اتباع الهوى فأولى بأن يخشى على غيره من غير المعصومين. وعن أبي بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ” (1). ومع الكتاب والسنة كان بعض القضاة يرجع في قضائه إلى أقوال الائمة واختيار الرأي القوي الذي يتفق مع الحق بعد انتهاء عصر الاجتهاد. ذكر محمد بن يوسف الكندي ان ابراهيم بن الجراح تولى القضاء في سنة 204. وقد قال عمربن خالد: ما صحبت أحدا من القضاة كابراهيم بن الجراح. كنت إذا عملت له المحضر وقرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ويرى فيه رأيه، فإذا أراد أن يقضي به دفعه إلي لانشى (هامش) (1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه (.)


[ 399 ]

منه سجلا فأجد في ظهره: قال أبو حنيفة كذا. وفي سطر: قال ابن أبي ليلى كذا. وفي سطر آخر: قال أبو يوسف وقال مالك كذا. ثم أجد على سطر منها علامة كالخط فأعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ السجل عليه. وقد رأى بعض العلماء إلزام القضاة بالقضاء بمذهب معين منعا للاضطراب وبلبلة الافكار. قال الدهلوي: إن بعض القضاة لما جاروا في أحكامهم صار أولياء الامور يلزمون القضاة بأن يحكموا بمذهب معين لا يعدونه، ولم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة وتكون شيئا قد قيل من قبل. قضاء من ليس بأهل للقضاء: قال العلماء: كل من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فهو آثم ولا ينفذ حكمه وسواء وافق الحق أم لا، لان اصابة الحق اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا. وأحكامه مردودة كلها. ولا يعذر في شئ من ذلك. النهج القضائي: وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الذي ينبغي


[ 400 ]

أن يسلكه القاضي في قضائه لما بعث معاذا إلى اليمن فقال له: ” بم تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبرأيي ” (1). وعلى القاضي أن يتحرى الحق فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يشوش فكره فلا يقضي أثناء الغضب الشديد أو الجوع المفرط أ و الهم المقلق أو الخوف المزعج أو النعاس الغالب أو الحر الشديد أو البرد الشديد أو شغل القلب شغلا يصرف عن المعرفة الصحيحة والفهم الدقيق. ففي حديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان “. فإذا حكم القاضي أثناء حالة من هذه الحالات صح حكمه إن وافق الحق عند جمهور الفقهاء. المجتهد مأجور: ومهما اجتهد القاضي في معرفة الحق وإصابة الصواب فهو مأجور ولو لم يصب الحق. فعن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وان اجتهد (هامش) (1) رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (.)


[ 401 ]

فأخطأ فله أجر ” (1). قال الخطابي: إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لان اجتهاده عبادة. ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الاثم فقط. وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعا لالة الاجتهاد عارفا بالاصول وبوجوه القياس. وأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إنما أنا بشر وانكم تختصمون إلي. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ” (2). وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن أحدهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك. (هامش) (1) رواه البخاري ومسلم. (2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن (.)


[ 402 ]

وقالت الاخرى: إنما ذهب بابنك. فتحا كما إلى داود فقضى للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى “. وهذا من فقه سليمان. فقد عمد إلى هذا الاسلوب لمعرفة الام الحقيقية فلما قال: ائتوني بالسكين أشقه، تحركت عاطفة الام الحقيقية ورفضت أن يقتل ابنها وآثرت أن يبقى حيا بعيدا عنها على قتله. فاستدل سليمان بهذه القرينة على أنه ابنها. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة داود وسليمان فقال جل شأنه: ” وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما… ” (1). ذكر المفسرون: أن الغنم انتشرت في الزرع فأفسدته، وأن أصحاب الزرع اختصموا معهم فرفعت القضية إلى داود ليحكم فيها فحكم داود بالغنم لاصحاب الزرع. (هامش) (1) سورة الانبياء الاية رقم 78 – 79 (.)


[ 403 ]

فخرجا من عنده ومرا بسليمان فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بما هو أرفق بالفريقين. فبلغ ذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضي؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرقه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك. الواجب على القاضي: وعلى القاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء (1): 1 – في الدخول عليه 2 – والجلوس بين يديه 3 – والاقبال عليهما 4 – والاستماع لهما 5 – والحكم عليهما والمطلوب منه التسوية بينهما في الافعال دون القلب، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته (هامش) (1) نقل الرازي عن الشافعي (.)


[ 404 ]

على الاخر فلا شئ عليه، لانه لا يمكنه التحرز عنه. ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته، لان ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعى عليه الانكار والاقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أولا يشهدوا، ولا أن يضيف أحد الخصمين دون الاخر، لان ذلك يكسر قلب الاخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه، ولا يقبل الهدية من أحد إلا إذا كانت ممن جرت عادته بأن يهديه قبل تولي منصب القضاء، فإن الهدية إلى القاضي ممن لم تجر عادته بإهدائه تعتبر من الرشوة. عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول ” (1). وقال عليه الصلاة والسلام: ” لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم ” (2). (هامش) (1) رواه أبو داود. (2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه (.)


[ 405 ]

قال الخطابي: وانما يلحقهما العقوبة معا إذا استويا في القصد والارادة، فرشا المعطي لينال به باطلا ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلما فإنه غير داخل في هذا الوعيد. روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابربن زيد وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وكذلك الاخذ انما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه على حق يلزمه أداؤه، فلا يفعل ذلك حتى يرشى. أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشى. ا. ه‍ قال في فتح العلام: ” وحاصل ما يأخذه القضاة من الاموال على أربعة أقسام: رشوة، وهدية، وأجرة، ورزق.


[ 406 ]

فالاول الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الاخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي. لانها لاستيفاء حقه، فهي كجعل الابق وأجرة الوكالة على الخصومة. وقيل: تحرم لانها توقع الحاكم في الاثم. وأما الهدية وهي الثاني: فإن كان ممن يهاديه قبل الولاية فلا يحرم استدامتها. وإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية: فان كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده، جازت وكرهت. وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي. وأما الاجرة وهي الثالث: فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق منه حرمت بالاتفاق، لانه إنما أجري له الرزق لاجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للاجرة. وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الاجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه. لانه إنما يعطى الاجرة لكونه عمل عملالا لاجل كونه حاكما. فأخذه لما زاد على أجر مثله غير حاكم إنما أخذها لافي مقابلة شئ بل في مقابلة كونه حاكما.


[ 407 ]

ولا استحق لاجل كونه حاكما شيئا من أموال الناس اتفاقا. فأجرة العمل أجرة مثله، فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام. ولذا قيل إن تولية القضاء من كان غنيا أولى من توليته من كان فقيرا. وذلك لانه لفقره يصير متعرضا لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال ” ا. ه‍. رسالة عمربن الخطاب في القضاء: ولقد وضع عمربن الخطاب الدستور المحكم للقضاء في الرسالة التي أرسلها إلى أبي موسى الاشعري نذكرها فيما يلي. بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمربن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له، آس (1) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى (هامش) (1) آس بين الناس: سوبينهم (.)


[ 408 ]

لا يطمع شريف في حيفك (1) ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا. لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق. فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج (2) في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الاشباه والامثال فقس الامور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا (3) في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ (4) بالبينات والايمان، وإياك والقلق والضجر (5) (هامش) (1) حيفك: أي ميلك معه لشرفه. (2) تلجلج: تردد. (3) ظنين: متهم. (4) درأ: دفع. (5) القلق والضجر: ضيق الصدر وقلة الصبر (.)


[ 409 ]

والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فان الحق في مواطن الحق يعظم الله به الاجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق (1) للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عزوجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام. شفاعة القاضي: وللقاضي أن يشفع الشفاعة الحسنة فيطلب من الخصوم أن يصطلحوا أو يتنازل أحدهم عن بعض حقه. عن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف (2) حجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال،: لبيك يارسول الله، فأشار له بيده، أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال (هامش) (1) تخلق الناس: أظهر لهم في خلقه خلاف نيته. (2) ستر (.)


[ 410 ]

النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه ” (1). نفاذ الحكم ظاهرا: حكم القاضي لا يحل حلالا ولا يحرم حراما لحديث السيدة أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار ” (2). وقد حكى الشافعي الاجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام. فإذا ادعى إنسان على آخر حقا وأقام الشهود على ذلك وحكم القاضي للمدعي فإنه يحل له أن يأخذ هذا الحق متى كانت البينة بينة صادقة. فإذا كانت البينة التي أقامها المدعي كاذبة كأن كان الشهود شهود زور فحكم له بمقتضى هذه الشهادة فإن الحكم لا يغير الواقع ولا يبيح للمدعي أن يأخذ الحق المدعى لانه على ملك صاحبه. (هامش) (1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. (2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن (.)


[ 411 ]

ولم يختلف أحد من الفقهاء في هذا، إلا أن أبا حنيفة قال: إن القضاء في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا.. فإذا شهد شاهد زور عند القاضي على طلاق امرأة فحكم القاضي بالطلاق طلقت من زوجها بقضائه، وجاز لها أن تتزوج من آخر. كما يجوز أن يتزوجها من شهد بطلاقها زورا. وكذلك لو شهد شهادة زور على أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة فحكم القاضي بمقتضى هذه الشهادة فإنها تحل له بمقتضى هذا الحكم. وما ذهب إليه أبو حنيفة من التفرقة بين قضايا الدماء والاملاك وقضايا العقود والفسوخ غير صحيح لانه لافرق بين هذا وذاك. وخالفه في ذلك أصحابه. القضاء على الغائب الذي لا وكيل له: يجوز للمدعي أن يدعي على الغائب الذي لا وكيل له. ويجوز للحاكم أن يحكم عليه متى ثبتت الدعوى. ودليل ذلك: 1 – أن الله سبحانه وتعالى يقول:


[ 412 ]

” فاحكم بين الناس بالحق ” (1) والذي ثبت بالبينة حق فيجب الحكم به. 2 – ذكرت هند لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان رجل شحيح هل لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: ” خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف “. وهذا قضاء على غائب. 3 – وروى مالك في الموطا أن عمر قال: 3 – من كان له دين فليأتنا غدا فإنا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه. وكان الشخص الذي قضى عليه ببيع ماله غائبا. 4 – ولان الامتناع عن القضاء عليه اضاعة الحقوق إذ لا يعجز الممتنع عن الوفاء من الغيبة، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وقالوا: ان الغائب لا يفوت عليه حق فانه إذا حضر كانت حجته قائمة وتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم لانه في حكم المشروط. وقال شريح وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى (هامش) (1) سورة ” ص ” الاية رقم 26 (.)


[ 413 ]

وأبو حنيفة: إن القاضي لا يقضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه كوكيل أو وصي لانه يمكن أن يكون معه حجة تبطل دعوى المدعي، ولان الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي في الحديث المتقدم: ” يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الاخر كما سمعت من الاول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء ” (1). قال الخطابي: وقد حكم أصحاب الرأي على الغائب في مواضع: منها الحكم على الميت والطفل. وقالوا: في الرجل يودع وديعة ثم يغيب فإذا ادعت امرأته النفقة وقدمت المودع إلى الحاكم قضى لها عليه بها. وقالوا: إذا ادعى الشفيع على الغائب أنه باع عقاره وسلم واستوفى الثمن فإنه يقضي له بالشفعة. وكل هذا حكم على الغائب. القضاء بين الذميين: – وإذا تحاكم الذميون إلى قضاة المسلمين جازذلك. (هامش) (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (.)


[ 414 ]

ويقضى بينهم بما أنزل الله وبما يقضى به بين المسلمين. يقول الله تعالى: ” فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ” (1). هل لصاحب الحق أن يأخذه من المماطل بدون تقاض: قالت الشافعية: من له‌عند شخص حق وليس له بينة، وهو منكر، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله إن قدر ولا يأخذ غير الجنس مع قدرته على الجنس. قالوا: فإن لم يجد إلا غير الجنس جاز له الاخذ. ولو أمكن تحصيل الحق بالقاضي، بأن كان من عليه الحق مقرا مماطلا أو منكرا وعليه البينة، أو كان يرجو إقراره لو حضر عند القاضي وعرض عليه اليمين فهل يستقل بالاخذ أم يجب الرفع إلى القاضي؟ فيه خلاف. الراجح جواز الاخذ ويشهد له قضية هند زوجة (هامش) (1) سورة المائدة الاية رقم 42. (.)


[ 415 ]

أبي سفيان. ولان في المرافعة مشقة ومؤونة وتضييع زمان. قالوا: ثم متى جاز له الاخذ فلم يصل إلى حقه إلا بكسر الباب وثقب الجدار جاز له ذلك ولا يضمن مما أتلف كمن لم يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله فأتلفه لا يضمن. وما ذهبوا إليه لا يتنافى مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ” قال الخطابي: ” وذلك لان الخائن هو الذي يأخذ ما ليس له أخذه ظلما وعدوانا. فأما من كان مأذونا له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراك ظلامته منه، فليس بخائن، وإنما معناه: لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته، وهذا لم يخنه، لانه يقبض حقا لنفسه، والاول يغتصب حقا لغيره ” ا. ه‍. ظهور حكم جديد القاضي: إذا حكم القاضي في قضية باجتهاده ثم ظهر له حكم آخر يخالف الحكم الاول فإنه لا ينقضه وكذلك إذا


[ 416 ]

رفع إليه حكم قاض آخر فلم يره فإنه لا ينقضه وأصل ذلك ما رواه عبد الرزاق في قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لابيها وأمها وأخويها لامها فأشرك عمر بين الاخوة للام والاب والاخوة للام في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم. قال ابن القيم: فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق. نماذج من القضاء في صدر الاسلام: أخرج أبو نعيم في الحلية قال: وجد علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – درعا له عند يهودي التقطها فعرفها فقال: درعي سقطت عن جمل له أورق. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. ثم قال اليهودي بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحا. فلما رأى عليا قد أقبل تحرف عن موضعه. وجلس علي فيه. ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجلس، وساق الحديث. قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين. قال درعي


[ 417 ]

سقطت عن جمل لي أورق فالتقطها هذا اليهودي. قال شريح: ما تقول يايهوي. قال: درعي وفي يدي. قال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا بد من شاهدين. فدعا قنبر والحسن بن علي وشهدا أنها درعه. فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها. فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة “. قال: اللهم نعم. قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ ثم قال اليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي. صدقت والله ياأمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فوهبها له علي. كرم الله وجهه. وأجازه بتسعمائة. وقتل معه يوم صفين ” ا. ه‍.


[ 418 ]

الدعاوى والبينات تعريف الدعاوى: الدعاوى جمع دعوى وهي في اللغة الطلب، يقول الله سبحانه: ” ولكم فيها ما تدعون ” (1) أي تطلبون. وفي الشرع: هي إضافة الانسان إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره أو في ذمته. والمدعي: هو الذي يطالب بالحق. وإذا سكت عن المطالبة ترك. والمدعى عليه: هو المطالب بالحق. وإذا سكت لم يترك. ممن تصح الدعوى: والدعوى لا تصح إلا من الحر العاقل البالغ الرشيد. فالعبد والمجنون والمعتوه والصبي والسفيه لا تقبل دعواهم. وكما تجب هذه الشروط بالنسبة للمدعي فإنها تجب أيضا بالنسبة للمنكر للدعوى. (هامش) (1) سورة حم فصلت الاية رقم 31. (.)


[ 419 ]

لا دعوى إلا ببينة: ولا تثبت دعوى إلا بدليل يستبين به الحق ويظهر. فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه “. رواه أحمد ومسلم. المدعي هو الذي يكلف بالدليل: والمدعي هو الذي يكلف بإقامة الدليل على صدق دعواه وصحتها، لان الاصل في المدعى عليه براءة ذمته. وعلى المدعي أن يثبت العكس. فقد روى البيهقي والطبراني بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” البينة على المدعي واليمين على من أنكر “. اشتراط قطعية الدليل: ويشترط في الدليل أن يكون قطعيا لان الدليل الظني لا يفيد اليقين ” وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ” (1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ترى الشمس؟ قال: نعم. قال: (هامش) (1) سورة النجم الاية رقم 28. (.)


[ 420 ]

على مثلها فاشهد أو دع ” رواه الخلال في جامعه وابن عدي وهو ضعيف لان في إسناده محمد بن سليمان، ضعفه النسائي، وقال البيهقي لم يرد من وجه يعتمد عليه. طرق إثبات الدعوى: وطرق إثبات الدعوى هي: (1) الاقرار (2) الشهادة (3) اليمين (4) الوثائق الرسمية الثابتة. ولكل طرق من هذه الطرق أحكام نذكرها فيما يلي:


[ 421 ]

الاقرار تعريفه: الاقرار في اللغة: الاثبات من قر الشئ يقر، وفي الشرع: الاعتراف بالمدعى به، وهو أقوى الادلة لاثبات دعوى المدعى عليه ولهذا يقولون: إنه سبد الادلة ويسمى بالشهادة على النفس. مشروعيته: أجمع العلماء على أن الاقرار مشروع بالكتاب والسنة، يقول الله سبحانه: ” يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ” (1). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها “. ويقول ” صل من قطعتك. وأحسن إلى من أساء إليك. وقل الحق ولو على (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 135. (.)


[ 422 ]

نفسك “. (1) وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين، وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي، وإن قطعوني وجفوني. وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحدا شيئا، وأن استكثر من ” لا حول ولا قوة إلا بالله “، فإنها من كنوز الجنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي به في الدماء والحدود والاموال. شروط صحته: ويشترط لصحة الاقرار ما يأتي: العقل والبلوغ والرضا وجواز التصرف. وأن لا يكون المقر هازلا. وان لا يكون أقر بمحال عقلا أو عادة. فلا يصح إقرار المجنون ولا الصغير ولا المكره ولا المحجور عليه ولا الهازل ولا بما يحيله العقل أو العادة لان كذبه في هذه الاحوال معلوم ولا يحل الحكم بالكذب. الرجوع عن الاقرار: ومتى صح الاقرار كان ملزما للمقر ولا يصح له (هامش) (1) الجامع الصغير 5004. (.)


[ 423 ]

رجوعه عنه متى كان الاقرار متعلقا بحق من حقوق الناس. أما إذا كان الاقرار متعلقا بحق من حقوق الله كما في حد الزنا والخمر فإنه يصح فيه الرجوع: لقوله صلى الله عليه وسلم: ” ادرأوا الحدود بالشبهات “. ولما تقدم في حديث ما عز في باب الحدود. وخالف الظاهرية ومنعوا صحة الرجوع عن الاقرار سواء أكان في حق من حقوق الله أو حق من حقوق العباد. الاقرار حجة قاصرة: والاقرار حجة قاصرة لا تتعدى غير المقر. فلو أقر على الغير فإن إقراره عليه لا يجوز بخلاف البينة فإنها حجة متعدية إلى الغير. فلو ادعى مدع على آخرين دينا وأقر به بعضهم وأنكر البعض الاخر فإن الاقرار لا يلزم إلا من أقر. ولو ادعى هذه الدعوى وأثبتها بالبينة فإنها تلزم الجميع.


[ 424 ]

الاقرار لا يتجزأ: الاقرار كلام واحد لا يؤخذ بعضه ويترك البعض الاخر. الاقرار بالدين: إذا أقر إنسان لاحد ورثته بدين فإن كان في مرض موته لا يصح لا ما لم يصدقه باقي الورثة، وذلك لان احتمال كون المريض قصد بهذا الاقرار حرمان الورثة مستندا إلى كونه في المرض، أما إذا كان الاقرار في حال الصحة فإنه جائز، واحتمال إرادة حرمان سائر الورثة حينئذ من حيث إنه احتمال مجرد ونوع من التوهم لا يمنع حجة الاقرار. وعند الشافعية أن إقرار الصحيح صحيح حيث. لا مانع لوجود شروط الصحة. أما إقرار المريض في مرض الموت فإن أقر لاجنبي فإقراره صحيح سواء أكان المقر به دينا أو عينا، وقيل هو محسوب من الثلث. وإن كان إقراره لوارث فالراجح عندهم صحة الاقرار لان المقر انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر، والظاهر في مثل هذه الحال أنه لا يقر إلا عن تحقيق ولا يقصد الحرمان. وفيه قول


[ 425 ]

آخر عندهم، وهو عدم الصحة، لانه قد يقصد حرمان بعض الورثة. وعندهم أنه إذا أقر في صحته بدين ثم أقر لاخر في مرضه، تقاسما، ولا يقدم الاول. وقال أحمد: لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا، واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية أن يجعلها إقرارا. على أن الاوزاعي وجماعة من العلماء أجازوا إقرار المريض بشئ من ماله للوارث، لان التهمة في حق المحتضر بعيدة، وأن مدار الاحكام على الظاهر، فلا يترك إقراره للظن المحتمل، فإن أمره إلى الله.


[ 426 ]

الشهادة تعريفها: الشهادة مشتقة من المشاهدة، وهي المعاينة لان الشاهد يخبر عما شاهده وعاينه، ومعناها الاخبار عما علمه بلفظ أشهد أو شهدت. وقيل الشهادة مأخوذة من الاعلام من قوله تعالى: – شهد الله أنه لا إلا إلا هو ” (1) أي علم. والشاهد حامل الشهادة ومؤديها لانه شاهد لما غاب عن غيره. لا شهادة إلا بعلم: ولا يحل لاحد أن يشهد إلا بعلم. والعلم يحصل بالرؤية أو بالسماع أو باستفاضة فيما يتعذر علمه غالبا بدونها والاستفاضة هي الشهرة التي تثمر الظن أو العلم. (هامش) (1) سورة آل عمران الاية رقم 18. (.)


[ 427 ]

وتصح الشهادة بالاستفاضة عند الشافعية في النسب والولادة والموت والعتق والولاء والولاية والوقف والعزل والنكاح وتوابعه والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسفه والملك. وقال أبو حنيفة: تجوز في خمسة أشياء: النكاح والدخول والنسب والموت وولاية القضاء. وقال أحمد وبعض الشافعية: تصح في سبعة: النكاح والنسب والموت والعتق والولاء والوقف والملك المطلق. حكمها: وهي فرض عين على من تحملها متى دعي إليها وخيف من ضياع الحق، بل تجب إذا خيف من ضياعه ولو لم يدع لها لقول الله تعالى: ” ولا تكتموا الشهادة ” (1) ” ومن يكتمها فإنه آثم قلبه “. وقوله ” وأقيموا الشهادة لله ” (2). وفي الحديث الصحيح: (هامش) (1) سورة البقرة الاية رقم 283. (2) سورة الطلاق الاية رقم 2. (.)


[ 428 ]

” انصر أخاك ظالما أو مظلوما ” وفي أداء الشهادة نصره. وعن زيد بن خالد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” ألا أخبركم بخير الشهداء؟… الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها! “. وإنما تجب متى قدر على أدائها بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله لقول الله تعالى: – ” ولا يضار كاتب ولا شهيد ” (1). ومتى كثر الشهود ولم يخش على الحق ان يضيع كانت الشهادة في هذه الحالة مندوبة فإن تخلف عنها لغير عذر لم يأثم. ومتى تعينت فانه يحرم أخذ الاجرة عليها إلا إذا تأذى بالمشي فله أجر ما يركبه، أما إذا لم تتعين فإنه يجوز أخذ الاجرة. شروط قبول الشهادة: يشترط في قبول الشهادة الشروط الاتية: 1 – الاسلام: فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم إلا في الوصية أثناء السفر عند الامام أبي حنيفة فإنه جوزها في هذه الحال هو وشريح وإبراهيم النخعي وهو (هامش) (1) سورة البقرة الاية رقم 282. (.)


[ 429 ]

قول الاوزاعي لقول الله تعالى: – ” يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين. فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ” (1) وكذلك أجاز الاحناف شهادة الكفار بعضهم على بعض لان النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزني. وعن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة وأتيا الاشعري – هو أبو موسى – فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته. فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (هامش) (1) سورة المائدة الاية رقم 106، 107. (.)


[ 430 ]

فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وانها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما. قال الخطابي فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة. وقال أحمد: لا تقبل شهادتهم الا في مثل هذا الموضوع للضرورة. ا. ه‍ وقال الشافعي ومالك: لا تجوز شهادة الكافر على المسلم لا في الوصية أثناء السفر ولا في غيرها. والاية منسوخة عندهم. شهادة الذمي للذمي: أما شهادة الذمي للذمي فهي موضع اختلاف عند الفقهاء. قال الشافعي ومالك: لا تقبل شهادة الذمي لا على مسلم ولا على كافر. قال أحمد: لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض. وقال الاحناف: شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة. وقال الشعبي وابن أبي ليلى واسحاق: شهادة اليهودي على اليهودي جائزة – ولا تجوز على النصراني والمجوسي لانها ملل مختلفة. ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة اخرى.


[ 431 ]

2 – والعدالة: صفة زائدة عن الاسلام ويجب توافرها في الشهود بحيث يغلب خيرهم شرهم، ولم يجرب عليهم اعتياد الكذب لقول الله تعالى: ” وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ” (1). وقوله تعالى: ” ممن ترضون من الشهداء ” (2). وقوله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ” (3) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية أبي داود: لا تجوز شهادة خائن ولاخائنة ولازان ولازانية ” فلا تقبل شهادة الفاسق ولا من اشتهر بالكذب أو بسوء الحال وفساد الاخلاق هذا هو المختار في معنى العدالة (4). (هامش) (1) سورة الطلاق الآية رقم 2. (2) سورة البقرة الآية رقم 282. (3) سورة الحجرات الآية رقم 6. (4) وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الاسلام وألا تعلم منه ما يجرح شرفه وسمعته وهذا في الاموال دون الحدود. وأجاز في الزواج شهادة الفسقة وقال ينعقد بشهادة فاسقين. وبعض المالكية جوز القضاء بشهادة غير العدول للضرورة وشهادة من لا تعرف عدالته في الامور اليسيرة. (.)


[ 432 ]

أما الفقهاء فقالوا: إنها مقيدة بالصلاح في الدين وبالاتصاف بالمروءة. أما الصلاح في الدين فيتم بأداء الفرائض والنوافل واجتناب المحرمات والمكروهات وعدم ارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة. أما المروءة فهي أن يفعل الانسان ما يزينه ويترك ما يشينه من الاقوال والافعال. وهل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب؟ اتفق الفقهاء على قبول شهادة الفاسق إذا تاب. إلا أن الامام أبا حنيفة قال: إذا كان فسقه بسبب القذف في حق الغير فإن شهادته لاتقبل، لقول الله تعالى: ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ” (1). 3، 4 – البلوغ والعقل: ولما كانت العدالة شرطا في قبول الشهادة فإن البلوغ والعقل شرط في العدالة. فلا تقبل شهادة الصغير – ولو شهد على صبي مثله – ولا المجنون ولا المعتوه لان شهادتهم لا تفيد (هامش) سورة النور الآية رقم 4 (.).


[ 433 ]

اليقين الذي يحكم بمقتضاه. وأجاز الامام مالك شهادة الصبيان في الجراح ما لم يختلفوا ولم يتفرقوا كما أجازها عبد الله بن الزبير. وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا، وهذا هو الراجح. فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولاسيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطأوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الاداء واتفقت كلمتهم، فان الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده، فلا نظن بالشريعة الكاملة، الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها، وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك. 5 – الكلام: ولا بد أن يكون الشاهد قادرا على الكلام، فإذا كان أخرس لايستطيع النطق فان شهادته لاتقبل، ولو كان يعبر بالاشارة وفهمت اشارته إلا إذا فقه السنة – 28


[ 434 ]

كتب الشهادة بخطه، وهذا عند أبي حنيفة وأحمد والصحيح من مذهب الشافعي. 6 – الحفظ والضبط: فلا تقبل شهادة من عرف بسوء الحفظ وكثرة السهو والغلط لفقد الثقة بكلامه، ويلحق به المغفل ومن على شاكلته. 7 – نفي التهمة: ولاتقبل شهادة المتهم بسبب المحبة أو العداوة. وخالف في ذلك عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر والشافعي في أحد قوليه وقالوا: تقبل شهادة الولد لوالده و الوالد لولده ما دام كل منهما عدلا مقبول الشهادة: أفاده الشوكاني وابن رشد. فلا تقبل شهادة العدو على عدوه إذا كانت العداوة بينهما عداوة دنيوية لوجود التهمة. أما إذا كانت العداوة دينية فإنها لا توجب التهمة لان الدين ينهي عن شهادة الزور. فلا توجد التهمة في هذه الحالة. وكذلك لا تقبل شهادة الاصل كالولد يشهد الوالده وشهادة الفرع كالوالد يشهد لولده ولكن تجوز الشهادة عليهما. ومثل ذلك الام تشهد لابنها والابن يشهد لامه. والخادم الذي


[ 435 ]

ينفق عليه صاحب البيت، فإن الشهادة في هذه الحال لا تقبل لوجود التهمة ولما روته السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لاتقبل شهادة خائن ولا خائنة ولاذي غمر (1) على أخيه المسلم. ولا شهادة الولد لوالده ولا شهادة الوالد لولده “. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ” لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولاذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لاهل البيت. والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت “، رواه أحمد وأبو داود قال في التلخيص لابن حجر: وسنده قوي. وقال صلى الله عليه وسلم: ” لا تقبل شهادة خصم على خصمه ” اعتمد الشافعي هذا الخبر. قال الحافظ: ليس له إسناد صحيح لكن له (هامش) (1) صاحب الحقد: والعداوة تظهر في الاقوال أو الافعال ومن مظاهرها أن يفرح بما يصيب عدوه من ضير ويحزن لما يصيبه من خير ويتمنى له كل شر. وذكر الفقهاء من أسباب العداوة القذف والغضب والسرقة والقتل وقطع الطريق فلا تقبل شهادة المغضوب منه على الغاضب ولا شهادة المقذوف على القاذف ولا المسروق على السارق ولا ولي المقتول على القاتل. (.)


[ 436 ]

طرق يتقوى بعضها ببعض. أفاده الشوكاني. ويدخل في هذا الباب شهادة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها لان الزوجية مظنة للتهمة إذ الغالب فيها المحاباة. وفي بعض روايات الحديث: ” لاتقبل شهادة المرأة لزوجها ولا شهادة الزوج لامرأته “. وأخذ بهذا مالك وأحمد وأبو حنيفة. وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن. أما شهادة الاقرباء من غير هؤلاء كالاخ لاخيه فإنها تجوز. وما ورد في بعض الاحاديث من عدم صحة شهادة القريب لقريبه فقد قال الترمذي: لايعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه ولا يصح عندنا إسناده وكذلك تجوز شهادة الصديق لصديقه. وقال مالك: لاتقبل شهادة الاخ المنقطع إلى أخيه والصديق الملاطف. شهادة مجهول الحال: والظاهر أن شهادة مجهول الحال غير مقبولة. فقد شهد عند عمر رضي الله عنه رجل فقال له عمر: – لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك.


[ 437 ]

فقال رجل من القوم: أنا أعرفه. قال: بأي شئ تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل. قال: هو جارك الادنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرافقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الاخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك. قال ابن كثير. رواه البغوي بإسناد حسن. شهادة البدوي: ذهب أحمد وجماعة من أصحابه وأبو عبيد وفي رواية عن مالك إلى عدم قبول شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:


[ 438 ]

” لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية “. روه أبو داود وابن ماجه. ورجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه. والبدوي هو ساكن البادية الذي يرتحل من مكان إلى مكان. والقروي الحضري الذي يسكن القرية وهي المصر الجامع. والمنع من شهادته من أجل جفائه وجهله وقلة شهوده ما يقع في المصر فلا تكون شهادته موضع الثقة. والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا وهو من رجالنا وأهل ديننا، والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي. وكونه بدويا ككونه من بلد آخر. وإلى هذا ذهب الشافعي وجمهور الفقهاء. وأما الحديث المتقدم فيحمل على الجاهل ولا يشمل كل بدوي بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل شهادة البدوي في ثبوت الهلال. شهادة الاعمى: شهادة الاعمى جائزة عند مالك وأحمد فيما طريقه


[ 439 ]

السماع إذا عرف الصوت، فتجوز شهادته في النكاح والطلاق والبيع والاجارة والنسب والوقف والملك المطلق والاقرار ونحو ذلك، سواء كان تحمله وهو أعمى أو كان بصيرا أثناء التحمل ثم عمي. قال ابن القاسم: قلت لمالك: ” فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط – ولا يراه – يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت. قال مالك: شهادته جائزة. وقالت الشافعية: لا تقبل شهادة الاعمى إلا في خمسة مواضع: النسب، والموت، والملك المطلق والترجمة وعلى المضبوط وما تحمله قبل العمى. وقال أبو حنيفة: لاتقبل شهادته أصلا. نصاب الشهادة: الشهادة إما أن تكون في الحقوق المالية أو البدنية أو الحدود والقصاص، ولكل حالة من هذه الحالات عدد من الشهداء لابد منه حتى تثبت الدعوى، وفيما يلي بيان ذلك كله:


[ 440 ]

شهادة الاربعة: نصاب الشهادة في حد الزنا أربعة (1) رجال، لقول الله تعالى: – ” واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ” (2). وقوله تعالى: ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ” (3). وقوله تعالى: ” لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ” (4). شهادة الثلاثة: قالت الحنابلة: إن من عرف غناه إذا ادعى أنه فقير ليأخذ من الزكاة لا يقبل منه إلا ثلاثة شهود من الرجال على ادعائه، واستدل على كلامه هذا بحديث قبيصة بن مخارق: عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله (هامش) (1) جوز الظاهرية شهادة امرأتين مكان كل رجل فإذا شهد ثمان نسوة وحدهن قيلت شهادتهن (وجوز عطاء شهادة ثلاثة رجال وامرأتين). (2) سورة النساء الآية رقم 15. (3) سورة النور الآية رقم 4. (4) سورة النور الآية رقم 13. (.)


[ 441 ]

عنه قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقالت: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت، ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا. رواه مسلم وأبو داود والنسائي. شهادة الرجلين دون النساء: تقبل شهادة الرجلين دون النساء في جميع الحقوق وفي الحدود ما عدا الزنا الذي يشترط فيه أربعة شهود. فإن شهادة النساء في الحدود غير جائزة عند عامة الفقهاء خلافا للظاهرية. يقول الله تعالى في الطلاق والرجعة: ” وأشهدوا ذوي عدل منكم ” (1). وروى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه (هامش) (1) سورة الطلاق الآية رقم 2. (.)


[ 442 ]

وسلم قال للاشعث بن قيس: ” شاهداك أو يمينه “. شهادة الرجلين أو الرجل وامرأتين: قال الله تعالى: ” واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل (1) إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ” (2). أي اطلبوا الشهادة من رجلين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وهذا في قضايا الاموال كالبيع والقروض والديون كلها والاجارة والرهن والاقرار والغصب. وقالت الاحناف: شهادة النساء مع الرجال جائزة في الاموال والنكاح والرجعة والطلاق وكل شئ إلا في الحدود والقصاص، ورجح هذا ابن القيم وقال: إذا جوز الشارع استشهاد النساء في وثائق الديون التي تكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبا في مجامع الرجال فلأن يسوغ ذلك فيما تشهده النساء كثيرا كالوصية والرجعة أولى. (هامش) (1) ان تضل إحداهما: أي تنسى جزءا من الشهادة فتذكر وتنبه أختها إذا غفلت ونسيت. (2) سورة البقرة الآية رقم 282. (.)


[ 443 ]

وعند مالك والشافعية وكثير من الفقهاء تجوز في الاموال وتوابعها خاصة ولا تقبل في أحكام الابدان، مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة، واختلفوا في قبولها في حقوق الابدان المتعلقة بالمال فقط، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقيل: يقبل فيه شاهد وامرأتان، وقيل: لا يقبل إلا رجلان. وعلل القرطبي قبول الشهادة في الاموال دون غيرها فقال: ” لان الاموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوي بها وتكررها. فجعل فيها التوثق تارة بالكنبة وتارة بالاشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان وأدخل في جميع ذلك النساء مع الرجال. شهادة الرجل الواحد: تقبل شهادة الرجل الواحد العدل في العبادات كالاذان والصلاة والصوم. قال ابن عمر: ” أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بصيامه ” أي صيام رمضان. وأجاز الاحناف شهادة الرجل الواحد في بعض الحالات الاستثنائية مثل: شهادته على الولادة وشهادة المعلم


[ 444 ]

وحده في قضايا الصبيان، وشهادة الخبير في تقويم المثلثات. وشهادة الواحد في تزكية الشهود وجرحهم وفي إخبار عزل الوكيل وفي إخبار عيب المبيع. وقد اختلف الفقهاء في ترجمة المترجم الواحد العدل. فذهب مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى قبول ترجمته. وقال بقية الائمة ومحمد بن الحسن: الترجمة كالشهادة لا يقبل فيها المترجم الواحد. ومن الفقهاء من قبل شهادة الرجل الواحد. الصادق مثل ابن القيم قال: والصواب ان كل ما بين الحق فهو بينة ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلا، بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان، وجب تنفيذه ونصره وحرم تعطيله وإبطاله ” ا. ه‍. وقال: ” يجوز للحاكم الحكم بشهادة الرجل الواحد، إذا عرف صدقة، في غير الحدود. ولم يوجب الله على الحكام أن لا يحكموا إلا بشاهدين أصلا، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين أو بشاهد وامرأتين، وهذا لا يدل على أن الحاكم لا يحكم بأقل من


[ 445 ]

ذلك، بان قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين وبالشاهد فقط “. فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها: أجاز الرسول في شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، وأجاز شهادة الشاهد في قضية سلب، وقبل شهادة المرأة الواحدة إذا كانت ثقة فيما لا يطلع عليه إلا النساء. وجعل شهادة خزيمة كشهادة رجلين وقال: ” من شهد له خزيمة فحسبه “. وليس هذا مخصوصا بخزيمة دون من هو خير منه أو مثله من الصحابة، فلو شهد أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو أبي بن كعب لكان أولى بالحكم بشهادته وحده. قال أبو داود: باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به ” ا. ه‍ الشهادة على الرضاع: ذهب ابن عباس وأحمد إلى أن شهادة المرضعة وحدها تقبل لما أخرجه البخاري أن عقبة بن الحارث تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأة فقالت: قد أرضعتكما. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:


[ 446 ]

كيف؟ وقد قيل؟ ففارقها عقبة فنكحت زوجا غيره. وقالت الاحناف: الرضاع كغيره لابد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا تكفي شهادة المرضعة لانها تقرر فعلها. وقال مالك: لابد من شهادة امرأتين. وقال الشافعي: تقبل شهادة المرضعة مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تعرض بطلب أجرة. وأجابوا عن حديث عقبة بأنه محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه. الشهادة على الاستهلال (1): أجاز ابن عباس شهاده القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي عن الشعبي والنخعي وروي عن علي وشريح أنهما قضيا بهذا. وذهب مالك إلى أنه لابد من شهادة امرأتين مثل الرضاع. وجرى الشافعي على قبول شهادة النساء في الاستهلال ولكنه اشترط شهادة أربع منهن. وقال أبو حنيفة: يثبت الاستهلال بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لانه ثبوت إرث. فأما في حق الصلاة عليه (هامش) (1) الاستهلال: صراخ الطفل عند الولادة. (.)


[ 447 ]

والغسل فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة. وعند الحنابلة: أن مالا يطلع عليه الرجال غالبا يقبل فيه شهادة امرأة عدل كما روي عن حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها. ذكره الفقهاء في كتبهم. والذي لا يطلع عليه الرجال غالبا مثل عيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والاستهلال والرضاع والرقق والقرن والصقل وكذلك جراحه وغيرها من حمام وعرس ونحوها مما لا يحضره الرجال. قالوا: والرجل في هذا كالمرأة وأولى لكماله.


[ 448 ]

اليمين اليمين عند العجز عن الشهادة: إذا عجز المدعي بحق على آخر عن تقديم البينة وأنكر المدعى عليه هذا الحق فليس له إلا يمين المدعى عليه، وهذا خاص بالاموال والعروض ولايجوز في دعاوى العقوبات والحدود وفي الحديث الذي رواه البيهقي والطبراني بإسناد صحيح: ” البينة على المدعي واليمين على من أنكر “. ولما رواه البخاري ومسلم عن الاشعث بن قيس قال: ” كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” شاهداك أو يمينه “. فقلت: إنه يحلف ولايبالي، فقال: ” من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان “، وأخرج مسلم من حديث وائل بن


[ 449 ]

حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف، وليس يتورع من شئ. فقال: ليس لك منه إلا ذلك “. واليمين لا تكون إلا بالله أو باسم من أسمائه، وفي الحديث ” من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت “. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لرجل حلفه: احلف بالله الذي لاإله إلا هو ما له عندك شئ ” رواه أبو داود والنسائي. هل تقبل البينة بعد اليمين؟: ومتى حلف المدعى عليه اليمين ردت دعوى المدعي بلا خلاف. فإذا عاد المدعي بعد يمين المدعى عليه وعرض البينة فهل تقبل دعواه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: لاتقبل. ومنهم من قال: تقبل. ومنهم من فصل. فالذين رأوا أنها لا تقبل هم الظاهرية وابن أبي فقه السنة – 29


[ 450 ]

ليلى وأبو عبيد، ورجح الشوكاني هذا الرأي فقال: ” وأما كونها لاتقبل البينة بعد اليمين فلما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم ” شاهداك أو يمينه “. فاليمين إذا كانت تطلب من المدعى عليه فهي مستند للحكم الصحيح، ولا يقبل المستند المتخالف لها بعد فعلها، لانه لا يحصل لكل واحد منهما إلا مجرد ظن. ولا ينقض الظن بالظن. والذين رأوا أنها تقبل هم الحنفية والشافعية والحنابلة وطاوس وابراهيم النخعي وشريح فقد قالوا: ” البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ” وهو رأي عمر ابن الخطاب، وحجتهم أن اليمين حجة ضعيفة لا تقطع النزاع فتقبل البينة بعدها، لانها هي الاصل واليمين هي الخلف ومتى جاء الاصل انتهى حكم الخلف. وأما مالك والغزالي من الشافعية فقد قالوا: بجواز تقديم المدعي البينة على صدق دعواه بعد يمين المدعى عليه متى كان جاهلا وجود البينة قبل عرض اليمين. أما إذا فقد هذا الشرط بأن كان عالما بأن له بينة واختار تحليف المدعى عليه اليمين، ثم رأى بعد حلفها تقديم بينته، فلا يقبل منه ذلك، لان حكم بينته قد


[ 451 ]

سقط بالتحليف. النكول عن اليمين: إذا عرضت اليمين على المدعى عليه لعدم وجود بينة المدعي فنكل ولم يحلفها اعتبر نكوله هذا مثل إقراره بالدعوى، لانه لو كان صادقا في إنكاره لما امتنع عن الحلف. والنكول يكون صراحة أو دلالة بالسكوت. وفي هذه الحال لاترد اليمين على المدعي فلا يحلف على صدق الدعوى التي يدعيها، لان اليمين تكون على النفي دائما، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ” البينة على المدعي واليمين على من أنكر “. وهذا مذهب الاحناف واحدى الروايتين عن أحمد. وعند مالك والشافعي والرواية الثانية عن أحمد: أن النكول وحده لا يكفي للحكم على المدعى عليه، لانه حجة ضعيفة يجب تقويتها بيمين المدعي على أنه صادق في دعواه وإن لم يطلب المدعى عليه ذلك، فإذا حلف حكم له بالدعوى والا ردت. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق. ولكن في اسناد هذا الحديث مسروق وهو غير معروف. وفي


[ 452 ]

اسناده اسحاق بن الفرات وفيه مقال. وقد قصر مالك هذا الحكم على دعوى المال خاصة. وقال الشافعي: هو عام في جميع الدعاوى. وذهب أهل الظاهر وابن أبي ليلى إلى عدم الاعتداد بالنكول وأنه لا يقضى به في شئ قط، وأن اليمين لاترد على المدعي وأن المدعى عليه إما أن يقر بحق المدعي وإما أن ينكر ويحلف على براءة ذمته. ورجح هذا الشوكاني فقال: ” وأما النكول فلا يجوز الحكم به، لان غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها، وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق، بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله. ولكن اليمين على المدعى عليه فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الاقرار بما ادعاه المدعي، وأيهما وقع كان صالحا للحكم به ” ا. ه‍. اليمين على نية المستحلف: اذا حلف أحد المتقاضين كانت اليمين على نية القاضي وعلى نية المستحلف الذي تعلق حقه فيها لا على نية الحالف لما تقدم في باب الايمان قول الرسول


[ 453 ]

صلى الله عليه وسلم: ” اليمين على نية المستحلف “. فإذا ورى الحالف بأن أضمر تأويلا يختلف عن اللفظ الظاهر كان ذلك غير جائز. وقيل: تجوز التورية إذا اضطر إليها بأن كان مظلوما. الحكم بالشاهد مع اليمين: إذا لم تكن للمدعي بينة سوى شاهد واحد فإنه يحكم في الدعوى بشهادة هذا الشاهد ويمين المدعي لما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الحق بشاهدين فإن جاء بشاهدين أخذ حقه. وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده، وإنما يحكم بالشاهد مع اليمين في جميع القضايا إلا الحدود والقصاص. وقصر بعض العلماء الحكم بالشاهد واليمين في الاموال وما يتعلق بها، وأحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نيف وعشرون شخصا. قال الشافعي: القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لانه لايمنع أن يجوز أقل مما نص عليه.


[ 454 ]

وبهذا قضى أبو بكر وعلي وعمر بن عبد العزيز وجمهور السلف والخلف ومنهم مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وأسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود. وهو الذي لا يجوز خلافه. ومنع من ذلك الاحناف والاوزاعي وزيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة وقالوا: لا يحكم بشاهد ويمين أبدا. والاحاديث التي وردت في هذا حجة عليهم. القرينة القاطعة: القرينة هي الامارة التي بلغت حد اليقين، ومثالها فيما إذا خرج أحد من دار خالية خائفا مدهوشا وفي يده سكين ملوثة بالدم، فدخل في الدار ورؤي فيها شخص مذبوح في ذلك الوقت، فلا يشتبه في كونه قاتل هذا الشخص، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الوهمية الصرفة كأن يكون الشخص المذكور قتل نفسه. ويؤخذ بها متى اقتنع القاضي بأنها الواقع اليقين. قال ابن القيم: ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه


[ 455 ]

عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو إثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة، ويضيع حقا يعلم كل أحد ظهوره وحجته. وذكر الاحناف من أمثلتها أيضا: إذا اختلف رجلان في سفينة فيها دقيق، وكان أحدهما تاجرا والاخر سفانا، وليس لاحدهما بينة، فالدقيق يكون للاول والسفينة للثاني وكذلك يعد منها ثبوت نسب الولد من الزوج عملا بالحديث الشريف ” الولد للفراش “. اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت: وعند الحنابلة انه إذا اختلف شخصان ووجد ظاهر لاحدهما عمل به، فلو تنازع الزوجان في قماش البيت فما يصلح للرجل فهو له وما يصلح للمرأة فهو لها وما يصلح لهما يقسم بينهما مناصفة، وإن كان بايديهما تحالفا وتناصفا فإن قويت يد أحدهما مثل حيوان يسوقه


[ 456 ]

شخص ويركبه شخص آخر فهو للراكب لقوة يده. البينة الخطية والوثائق الموثوق بها: لما اعتاد الناس التعامل بالصكوك واعتمدوا عليها أفتى بعض العلماء من المتأخرين بقبول الخط والعمل به، وأخذت بذلك مجلة الاحكام العدلية وقبلت الاثبات بصكوك الدين وقيود التجار وغيرها، إذا كانت سالمة من شبهة التزوير والتصنيع، واعتبرت الاقرار بالكناية كالاقرار باللسان. وكذلك يعمل بالاوراق الرسمية إذا كانت خالية من التزوير والفساد.


[ 457 ]

التناقض التناقض قسمان: (1) تناقض الشهود. (2) تناقض المدعي. تناقض الشهود أو رجوعهم عن الشهادة: إذا أدى الشهود الشهادة ثم رجعوا عنها في حضور القاضي قبل إصدار الحكم تكون شهادتهم كأن لم تكن ويعزرون. وهذا رأي جمهور الفقهاء، أما إذا رجع الشهود عن الشهادة بعد الحكم في حضور القاضي فلا ينقض الحكم الذي حكم به ويضمن الشهود المحكوم به. وقد روي أن رجلين شهدا عند الامام علي – كرم الله وجهه – على آخر بالسرقة فقطع يده ثم عادا بعد ذلك برجل غيره قائلين: إنما السارق هذا. فقال علي: ” لا أصدقكما على هذا الاخر وأضمنكما دية يد الاول ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما “. وعلل شهاب الدين القرافي رأي الجمهور هذا بقوله: ” إن الحكم ثبت بقول عدول وسبب شرعي


[ 458 ]

ودعوى الشهود بعد ذلك الكذب اعتراف منهم أنهم فسقة، والفاسق لا ينقض الحكم بقوله فيبقى الحكم على ماكان عليه “. وذهب ابن المسيب والاوزاعي وأهل الظاهر إلى نقض الحكم عند الرجوع عن الشهادة في كل الاحوال لان الحكم ثبت بالشهادة فإذا رجع الشهود زال ما يثبت به الحكم، وكذلك سائر الحدود والقصاص عند بعض الفقهاء لا ينفذ الحكم إذا رجع الشهود قبل التنفيذ لان الحدود تدرأ بالشبهات. تناقض المدعي: إذا سبق كلام من المدعي مناقض لدعواه بطلت الدعوى، فإذا أقر بمال لغيره ثم ادعى أنه له، فهذا الادعاء المناقض لاقراره مبطل لدعواه ومانع من قبولها. وإذا أبرأ أحد آخر من جميع الدعاوى فلا يصح له أن يدعي عليه بعد ذلك مالا لنفسه. نقض بينة المدعي: يجوز للمدعى عليه أن يقدم البينة التي يدفع بها دعوى المدعي ليثبت براءة ذمته إذا كانت لديه هذه البينة. فإذا لم تكن له مثل هذه البينة جاز له أن يقدم


[ 459 ]

بينة تشهد بالطعن في عدالة الشهود وتجريح بينة المدعي. تعارض البينتين: وإذا تعارضت البينتان ولم يوجد ما يرجح إحداهما قسم المدعى بين المدعي والمدعى عليه: فعن أبي موسى أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين ” رواه أبو داود والحاكم والبيهقي. وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي من حديث أبي موسى: ” أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين “. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، فإن كان المدعى في يد أحدهما فعلى خصمه البينة، فإن لم يأت بها فالقول لصاحب اليد مع يمينه، وكذلك لو أقام كل واحد منهما البينة كانت اليد مرجحة للشهادة. فعن جابر، أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي، وأقام بينة. فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هي في يده. أخرجه البيهقي ولم يضعف اسناده،


[ 460 ]

وأخرج الشافعي نحوه. تحليف الشاهد اليمين: إن عدالة الشهود في هذا الزمن قد أصبحت غير معلومة فوجب تقويتها باليمين. وقد جاء في مجلة الاحكام العدلية: ” إذا ألح المشهود عليه على الحاكم قبل الحكم بتحليف الشهود: أنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين وكان هناك لزوم لتقوية الشهادة باليمين، كان للحاكم أن يحلف الشهود وأن يقول لهم: إن حلفتم قبلت شهادتكم وإلا فلا “. وقد ذهب إلى هذا ابن أبي ليلى وابن القيم ومحمد بن بشير قاضي قرطبة، ورجحه ابن نجيم الحنفي، وعند الاحناف: أن الشاهد لا يمين عليه لان لفظ الشهادة يتضمن معنى اليمين. وعند الحنابلة: لا يستحلف شاهد أنكر تحمل الشهادة ولا حاكم أنكر الحكم ولا وصي على نفي دين على موص. ولا يستحلف منكر النكاح والطلاق والرجعة والايلاء والنسب والقود والقذف لانها ليست مالا ولا يقصد به


[ 461 ]

المال ولا يقضى فيها بالنكول. شهادة الزور (1): شهادة الزور هي من أكبر الكبائر وأعظم الجرائر لانها مناصرة للظالم وهضم لحق المظلوم وتضليل للقضاء وإيغار للصدور وتأريث للشحناء بين الناس. يقول الله سبحانه: ” فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور ” (2) وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار ” رواه ابن ماجه بسند صحيح. وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور. أو قال: شهادة الزور. وروي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هامش) (1) قال الثعلبي: الزور تحسين الشئ ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. (2) سورة الحج الاية رقم 30 (.)


[ 462 ]

” ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الاشراك بالله، وعقوق الوالدين – وكان متكئا قجلس وقال: الا وقول الزور وشهادة الزور… فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (1) ” عقوبة شاهد الزور: رأي الامام مالك والشافعي وأحمد أن شاهد الزور يعزر ويعرف بأنه شاهد زور. وزاد الامام مالك فقال: يشهر به في الجوامع والاسواق ومجتمعات الناس العامة عقوبة له وزجرا لغيره. (هامش) (1) شهادة الزور أكبر من جريمة الزنا أو السرقة. ولهذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير منها لكونها أسهل على اللسان والتهاون بها أكثر والدوافع لها وفيرة من الحقد والعداوة وغير ذلك، فاحتاجت الى الاهتمام بشأنها (.)


[ 463 ]

السجن السجن قديم وقد جاء في القرآن الكريم أن يوسف عليه السلام قال: ” قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ” (1). وذكر أنه دخل السجن ولبث فيه بضع سنين. وقد كان السجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا. قال ابن القيم: ” الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق. وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل الخصم أو وكيله عليه وملازمته له. ولهذا سماه النبي أسيرا كما روى أبو داود وابن ماجه عنا لهرماس بن حبيب عن (هامش) (1) سورة يوسف الاية رقم 33 (.)


[ 464 ]

أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي: الزمه. ثم قال: يا أخا بني تميم، ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ وفي رواية ابن ماجه: ثم مربي في آخر النهار فقال: ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟ ثم قال ابن القيم: وكان هذا هو الحبس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. ولم يكن محبس معد لحبس الخصوم. ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا يحبس فيها، ولهذا تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم: هل يتخذ الامام حبسا، على قولين: فمن قال: لا يتخذ حبسا، قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفة بعده حبس، ولكن يقومه (أي الخصم) بمكان من الامكنة أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمى الترسيم. أو يأمر خصمه بملازمته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال: له ” أي للامام ” أن يتخذ حبسا قال: قد اشترى عمربن الخطاب من صفوان بن أمية دارا بأيعه آلاف وجعلها حبسا ” ا. ه‍


[ 465 ]

في السجن الامن والمصلحة: قال الشوكاني: إن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الان في جميع الاعصار والامصار من دون إنكار، وفيه من المصالح مالا يخفى لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الاضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولا قصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم العباد والبلاد، فهؤلاء إن تركوا وخلي بينهم وبين المسلمين بلغوا من الاضرار بهم إلى كل غاية. وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها، فلم يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة، أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره. وقد أمرنا الله تعالى بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما في حق من كان كذلك لا يمكن بدن الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس، كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا الجنس ” ا. ه‍.


[ 466 ]

أنواع الحبس: قال الخطابي: الحبس على ضربين: حبس عقوبة، وحبس استظهار فالعقوبة لا تكون إلا في واجب. وأما ما كان في تهمة: فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به عما وراءه. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله. وهذا الحديث رواه بهزبن حكيم عن أبيه عن جده. ضرب المتهم: ولا يحل حبس أحد بدون حق. ومتى حبس بحق يجب المسارعة بالنظر في أمره. فإن كان مذنبا أخذ بذنبه. وإن كان بريئا أطلق سراحه. ويحرم ضرب المتهم لما فيه من إذلاله وإهدار كرامته. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب المصلين: أي المسلمين. وهل يضرب إذا اتهم بالسرقة؟ فيه رأيان: فالرأي المختار عند الاحناف وعند الغزالي من


[ 467 ]

الشافعية أن المتهم بالسرقة لا يضرب لاحتمال كونه بريئا. فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ. وفي الحديث: ” لان يخطئ الامام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة “. وأجاز الامام مالك سجن المتهم بالسرقة. وأجاز أصحابه أيضا ضربه، لاظهار المال المسروق من جهته، وجعل السارق عبرة لغيره من جهة أخري. ومتى أقر في هذه الحال فإنه لاقيمة لاقراره لانه يشترط في الاقرار الاختيار. وهنا إنما أقر تحت ضغط التعذيب. ما ينبغي أن يكون عليه الحبس: وينبغي أن يكون الحبس واسعا. وأن ينفق على من في السجن من بيت المال وأن يعطى كل واحد كفايته من الطعام واللباس. ومنع المساجين مما يحتاجون إليه من الغذاء والكساء والمسكن الصحي جور يعاقب الله عليه. فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:


[ 468 ]

” عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لاهي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولاهي تركتها تأكل من خشاش الارض ” (1). (هامش) (1) رواه البخاري ومسلم (.)


[ 469 ]

الاكراه تعريفه: الاكراه في اللغة: حمل الانسان على أمر لا يريده طبعا أو شرعا، والاسم منه الكره. وفي الشرع: حمل الغير على ما يكره بالوعيد بالقتل أو التهديد بالضرب أو السجن أو إتلاف المال أو الاذي الشديد أو الايلام القوي. ويشترط فيه أن يغلب على ظن المكره انفاذ ما توعد به المكره. ولافرق بين إكراه الحاكم أو اللصوص أو غيرهم. قال عمر: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به. وقال ابن حزم: ولا يعرف له من الصحابة مخالف.


[ 470 ]

اقسام الاكراه: الاكراه ينقسم إلى قسمين: 1 – إكراه على كلام. 2 – إكراه على فعل. الاكراه على الكلام: والاكراه على الكلام لا يجب به شئ لان المكره غير مكلف. فإذا نطق بكلمة الكفر فإنه لا يؤاخذ. وإذا قذف غيره فلا يقام عليه الحد. وإذا أقر فلا يؤخذ بإقراره. وإذا عقد عقد زواج أو هبة أو بيع فإن عقده لا ينعقد. وإذا حلف أو نذر فإنه لا يلزم بشئ. وإذا طلق زوجته أو راجعها فإن طلاقه لا يقع ورجعته لا تصح والاصل في هذا قول الله سبحانه: ” من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح (1) بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ” (2). (هامش) (1) أي طاب به نفسا واعتقده إيثار اللدنيا الفانية على الاخرة الباقية. (2) سورة النحل الاية رقم 106 (.)


[ 471 ]

سبب نزول الاية: والسبب في نزول هذه الاية ما ذكره ابن كثير في التفسير عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم (1) في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالايمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن عادوا فعد “. ورواه البيهقي بأبسط من ذلك وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله: ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالايمان. فقال: ” إن عادوا فعد “. وفي ذلك أنزل الله تعالى ” إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان “. شمول الاية الكفر وغيره: والاية وإن كانت خاصة بالتلفظ بكلمة الكفر إلا انها تعم غيره. (هامش) (1) أي اقترب من موافقتهم (.)


[ 472 ]

قال القرطبي: لما سمع الله عزوجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الاكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها. فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الاثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه “. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق العلماء. قاله القاضي أبو بكر بن العربي وذكر أبو محمد عبد الحق ان اسناده صحيح قال: وقد ذكره أبو بكر الاصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الاقناع ا. ه‍. العزيمة عند الاكراه على الكفر أفضل: وإذا كان النطق بكلمة الكفر عند الاكراه رخصة فإن الافضل الاخذ بالعزيمة والصبر على التعذيب ولو أدى ذلك إلى القتل إعزازا للدين كما فعل ياسر وسمية. وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرح به العلماء. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق


[ 473 ]

في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لاحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ فقال: أنت أيضا، فخلاه. وقال للاخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ فقال: أنا أصم. فأعاد عليه ثلاثا. فأعاد ذلك في جوابه فقتله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقال: أما الاول فقد أخذ برخصة الله تعالى. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له “. الاكراه على الفعل: والقسم الثاني الاكراه على الفعل وهو ينقسم إلى قسمين: 1 – ما تبيحه الضرورة. 2 – ما لا تبيحه الضرورة. فالاول: مثل الاكراه على شرب الخمر أو أكل الميتة أو أكل لحم الخنزير أو أكل مال الغير أو ما حرم الله: فإنه في هذه الحال يباح تناول هذه الاشياء. بل من العلماء من يرى وجوب التناول حيث لم يكن له خلاص إلا به. ولا ضرر فيه لاحد. ولا تفريط فيه في حق من حقوق الله والله تعالى يقول ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة “.


[ 474 ]

وكذلك من أكره على إفطار رمضان أو الصلاة لغير القبلة أو السجود لصنم أو صليب فيحل له أن يفطر ويصلي إلى أي جهة ويسجد ناويا السجود لله جل شأنه. والثاني: مثل الاكراه على القتل والجراح والضرب والزنا وإفساد المال. قال القرطبي: ” أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الاقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والاخرة “. لاحد على مكره: ولو قدر أن رجلا استكره على الزنا فزنى فإنه لا يقام عليه الحد. وكذلك المرأة إذا أكرهت على الزنا فانه لاحد عليها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله تجاوز عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه “. ويرى مالك والشافعي وأحمد واسحاق وأبو ثور وعطاء والزهري: أنه يجب لها صداق مثلها.


[ 475 ]

اللباس اللباس من النعم التي أنعم الله بها على عباده. يقول الله تعالى: – ” يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ” (1). وينبغي أن تكون حسنة جميلة نظيفة والله تعالى يقول: – ” يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين “. ” قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة (هامش) (1) سورة الاعراف الاية رقم 26 (.)


[ 476 ]

يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون ” (1). وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثويه حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس ” (أي انكار الحق واحتقار الناس) (2). روى الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الله الطيب يحب الطيب، نظيف يحب النطافة، كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا افنيتكم ولا تشبهوا باليهود. حكمه: واللباس منه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب ومنه ما هو حرام. اللباس الواجب: فالواجب من اللباس ما يستر العورة وما يقي الحر والبرد وما يستدفع به الضرر. فعن حكيم بن حزام عن أبيه قال: قلت: يا (هامش) (1) سورة الاعراف الاية رقم 31، رقم 32. (2) رواه مسلم والترمذي (.)


[ 477 ]

رسول الله، عوراتنا: ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قلت: يارسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. فقلت: فإن كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه ” (1). اللباس المندوب: والمندوب من اللباس ما فيه جمال وزينة. فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ” (2) وعن أبي الاحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الابل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته ” (3). (هامش) (1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه. (2) رواه أبو داود. (3) رواه أبو داود (.)


[ 478 ]

ويتأكد ذلك عند العبادة وفي الجمعة والعيدين وفي المجتمعات العامة. فعن محمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ما على أحدكم إن وجد (1) أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوي ثوبي مهنته ” (2). اللباس الحرام: أما اللباس الحرام فهو لباس الحرير والذهب للرجال، ولبس الرجل ما يختص بالنساء من ملابس. ولبس النساء ما يختص بالرجال من ملابس. ولبس ثياب الشهرة والاختيال وكل ما فيه إسراف. لبس الحرير والجلوس عليه: جاءت الاحاديث مصرحة بتحريم لبس الحرير والجلوس عليه بالنسبة للرجال، نذكرها فيما يلي: 1 – فعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ” (3). (هامش) (1) أي: إذا وسعه. (2) رواه أبو داود. (3) رواه البخاري ومسلم. (.)


[ 479 ]

2 – وعن عبد الله بن عمر: أن عمر رأى حلة من إستبرق تباع. فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ابتع هذه، فتجمل بها للعيد وللوفود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذه لباس من لا خلاق له. ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه بجبة ديباج. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قلت: إنما هذه لباس من لاخلاق له. ثم أرسلت إلي بهذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أرسلها إليك لتلبسها ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك ” (1). 3 – وعن حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها. وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: ” هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ” (2). بمقتضى هذه الاحاديث ذهب الجمهور من العلماء إلى تحريم لبس الحرير وافتراشه (3) بل ذكر المهدي (هامش) (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. (2) رواه البخاري. (3) يرى أبو حنيفة وابن الماجشون من المالكية وبعض الشافعية جواز افتراش الحرير والجلوس عليه لان النهي عن اللبس فقط. وهذا مخالف للاحاديث الصحيحة. (.)


[ 480 ]

في البحر أنه مجمع عليه. وحكى القاضي عياض عن جماعة أباحته منهم ابن عليه. واستدلوا على قولهم هذا بالاحاديث الآتية: – 1 – عن عقبة قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير (1) فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين ” (2). 2 – وعن المسور بن مخرمة أنه قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية فذهب هو وأبوه للنبي صلى الله عليه وسلم لشئ منها. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء من ديباج مزردة، فقال: يا مخرمة خبأنا لك هذا وجعل يريه محاسنه وقال: أرضي مخرمة؟ (3) 3 – وعن أنس أنه صلى الله عليه وسلم لبس مستقة (4) من سندس (5) أهداها له ملك الروم ثم بعث (هامش) (1) قباء مفتوح من الخلف. (2) رواه البخاري ومسلم. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) فرو طويل الكمين. (5) رفيع الحرير. (.)


[ 481 ]

بها إلى جعفر فلبسها ثم جاءه فقال: إني لم أعطكها لتلبسها. قال: فما أصنع؟ قال: أرسل بها إلى أخيك النجاشي ” (1). 4 – ولبس الحرير أكثر من عشرين صحابيا منهم أنس والبراء من عازب ” (2). وأجاب الجمهور عن أدلة القائلين بالجواز بالادلة الدالة على التحريم التي ذكرناها أولا وقالوا: إن حديث عقبة فيه: ” أنه لا ينبغي هذا للمتقين “. فإذا كان لبسه لا يلائم المتقين فهو بالتحريم أجدر. وقالوا: في حديث المسورو حديث أنس إنهما من قبيل الافعال فلا تقاوم الاقوال الدالة على التحريم. على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الامرين كما يشعر بذلك حديث جابر: قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء له من ديباج أهدي إليه ثم أوشك (هامش) (1) رواه أبو داود. (2) رواه أبو داود. (.) فقه السنة – 31


[ 482 ]

أن نزعه وأرسل به إلى عمر بن الخطاب. فقيل: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله! قال: نهاني عنه جبريل عليه السلام. فجاءه عمر يبكي فقال: يارسول الله، كرهت أمرا وأعطيتنيه، فمالي؟ قال: ما أعطيتك لتلبسه وانما أعطيتك تبيعه. فباعه بألفي درهم ” (1). وقالوا أيضا: حديث أنس في سنده علي بن زيد بن جدعان لا يحتج بحديثه. وقالوا: إن ما لبسه الصحابة كان خزا، وهو ما نسج من صوف وابريسم. وقال الخطابي: يشبه أن تكون المستقة مكففة بالسندس. رأي الشوكاني: وقال الشوكاني: ” إن أحاديث النهي تدل على الكراهية جمعا بينها وبين أدلة الجواز قال في نيل الاوطار: ويمكن أن يقال إن لبسه صلى الله عليه وسلم لقباء الديباج وتقسيمه للاقبية بين أصحابه وليس فيه ما يدل على أنه متقدم على أحاديث النهي، كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ويكون ذلك جمعا بين الادلة. (هامش) (1) رواه أحمد وروى مسلم نحوه. (.)


[ 483 ]

ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة، ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه، فقد كان ينكر بعضهم على بعض ما هو أخف من هذا “. اباحة الحرير للنساء وعند الاعذار واليسير عنه: هذا الحكم بالنسبة للرجال. أما النساء فإنه يحل لهن لبس الحرير وافتراشه. كما يحل للرجال عند وجود عذر. وقد جاء في ذلك من النصوص ما يلي: – 1 – فعن علي قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء (1) فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشقها خمرا بين النساء ” (2). 2 – وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة (هامش) (1) التي فيها خطوط كالسيور وهي برود من الحرير أو الغالب فيها الحرير. وفسرت بغير ذلك. (2) رواه البخاري ومسلم. (.)


[ 484 ]

كانت بهما ” (1). قال في الحجة البالغة: لانه لم يقصد به حينئذ الارفاه وإنما قصد به الاستشفاء. 3 – وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين أو ثلاثة أو أربعة (2) ” قال في الحجة البالغة: لانه ليس من باب اللباس وربما تقع الحاجة إلى ذلك. الحرير المخلوط بغيره: كل ما تقدم خاص بالحرير الخالص. أما الحرير المخلوط بغيره فعند الشافعية أن الثوب إذا كان أكثره من الحرير فهو حرام وإن كان نصفه فما دونه من الحرير فليس بحرام. فهم يرون أن للاكثر حكم الكل. قال النووي: أما المختلط من حرير وغيره فلا يحرم إلا أن يكون الحرير أكثر وزنا. جواز لبس الصبيان للحرير: وأما الصبيان (3) من الذكور فيحرم عليهم أيضا (هامش) (1) رواه البخاري ومسلم. (2) رواه مسلم وأصحاب السنن. (3) الحرمة على الاولياء لاعلى الصبيان لانهم غير مكلفين. (.)


[ 485 ]

عند أكثر الفقهاء لعموم النهي عن الليس. وأجازه الشافعية. قال النووي: وأما الصبيان فقال أصحابنا يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لانه لا تكليف عليهم. وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه أصحها جوازه والثاني تحريمه والثالث يحرم بعد سن التمييز.


[ 486 ]

التختم بالذهب والفضة ذهب الجمهور من العلماء إلى حرمة التختم بالذهب (1) للرجال دون النساء. واستدلوا بالاحاديث الآتية: 1 – عن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع. أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وابرار القسم أو المقسم، ورد السلام. وفي رواية: وإفشاء السلام، وتشميت العاطس. ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير (هامش) (1) أما اتخاذ الخاتم من غير الذهب فيجوز للرجال والنساء ولو كان أعلى قيمة من الذهب. (.)


[ 487 ]

والديباج (1) والقسي (2) والاستبرق (3) والمثيرة الحمراء (4). 2 – وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب أو فضة وجعل فصه مما يلي كفه ونقش فيه ” محمد رسول الله ” فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: لا ألبسه أبدا، ثم اتخذ خاتما من فضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان حتى وقع من عثمان في بئر أريس (5). 3 – ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده. فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لاوالله، لا آخذ (هامش) (1) الديباج: الثوب الذي سداه ولحمته من حرير. (2) القسي: ثياب من كتاب مخلوط بحرير. (3) الاستبرق: غليظ الديباج. (4) المثيرة الحمراء: غطاء للسرج من الحرير. (5) أريس: بئر مجاورة لمسجد قباء بالمدينة. (.)


[ 488 ]

وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ” (1). 4 – وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” أحل الذهب والحرير للاناث من أمتي وحرم على ذكورها ” (2). وقال المحدثون: إن هذا الحديث معلول لان في سنده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى، وسعيد لم يلق أبا موسى ولم يسمع منه. 5 – وأخرج مسلم وغيره من حديث علي قال: ” نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر ” (3). هذه أدلة الجمهور لتحريم خاتم الذهب. قال النووي: وكذا لو ان بعضه ذهبا وبعضه فضة. وذهب جماعة من العلماء إلى كراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه. (هامش) (1) رواه مسلم. (2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. (3) المعصفر: يصبغ الثوب صبغا أحمر على هيئة مخصوصة وقد ذهب جماهير الصحابة والتابعين والفقهاء الى جواز لبس المعصفر إلا الامام أحمد فانه قال: بكراهة لبسه تنزيها. (.)


[ 489 ]

ولقد لبسه جماعة من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله، وصهيب، وحذيفة، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، ولعلهم حسبوا أن النهي للتنزيه. آنية الذهب والفضة يحرم الاكل والشرب في أواني الذهب والفضة لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء (1). وانما يحل للنساء التحلي بهما تزينا وتجملاكما تقدم. وليس الاكل والشرب من هذه الاواني مما أحله الله لهن. ودليل ذلك الاحاديث الآتية: 1 – عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها (2) (هامش) (1) وكذا يحرم الاكل والشرب في الاواني المطلية بالذهب والفضة إن كان يمكن فصل الذهب أو الفضة عن الاناء فإن لم يمكن الفصل بينهما كأن كان مجرد طلاء فقط فإنه لا يحرم. (2) واحدتها صحفة وهي إناء يسع ما يشبع الخمسة. (.)


[ 490 ]

فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ” (1). 2 – وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر (2) في بطنه نار جهنم (3) “. وفي رواية لمسلم: ” إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب أو الفضة… “. ويرى بعض الفقهاء الكراهة دون التحريم وقالوا: إن الاحاديث التي وردت في هذا لمجرد التزهيد. ورد ذلك بالوعيد عليه في حديث أم سلمة المذكور. وألحق جماعة من الفقهاء أنواع الاستعمال الاخرى كالتطيب والتكحل من أواني الذهب والفضة بالاكل والشرب. ولم يسلم بذلك المحققون. وفي حديث أحمد وأبي داود: ” عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبا ” ما يؤكد ما ذهب إليه المحققون، وفي فتح العلام: الحق عدم تحريم غير (هامش) (1) رواه البخاري ومسلم. (2) يصب. (3) رواه البخاري ومسلم. (.)


[ 491 ]

الاكل والشرب، ودعوى الاجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره، لانه ورد بتحريم الاكل والشرب فعدلوا عنه إلى الاستعمال وهجروا العبارة النبوية وجاؤوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم – انتهى. وجمهور الفقهاء على منع اتخاذ الاواني منهما بدون استعمال. ورخصت فيه طائفة. الآنية من غير الذهب والفضة: أما اتخاذ الاواني من الجواهر النفيسة وإن كانت أعلى قيمة من الذهب والفضة فيجوز، لان الاصل في الاشياء الحل. ولم يرد دليل يدل على التحريم. جواز اتخاذ السن والانف من الذهب: يجوز للشخص أن يتخذ سنا من الذهب وأنفا منه إذا احتاج إلى شئ من ذلك. روى الترمذي عن عرفجة ابن أسعد قال: ” أصيب أنفي يوم الكلاب فاتخذت أنفا من ورق فأنتن علي فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ أنفا من ذهب “. قال الترمذي: روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب. وروى النسائي قال معاوية


[ 492 ]

وحوله ناس من المهاجرين والانصار: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قالوا: اللهم نعم. قال: ونهى عن لبس الذهب إلا مقطعا (1)؟ قالوا: اللهم نعم. تشبه النساء بالرجال: أراد الاسلام أن تكون طبيعة المرأة متميزة، وأن يكون مظهرها صورة صادقة لهذه الطبيعة. كما أراد ذلك للرجل. فنهى كلا منهما أن يتشبه بالآخر، وحرم عليه ذلك. وسواء أكان التشبه في اللباس أم الكلام أم الحركة أم غير ذلك. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين (2) من الرجال والمترجلات (3) من النساء ” (4). وفي رواية: ” لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ” (5). (هامش) (1) أي قطعا صغيرة كالسن. (2) المخنث: من فيه انخناث وهو التكسر والتثني كما تفعل النساء. (3) المترجلة: هي التي تتشبه بالرجل في الهيئة والقول والفعل والاحوال. (4) رواه البخاري. (5) رواه البخاري. (.)


[ 493 ]

وعن أبي هريرة قال: ” لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة. والمرأة تلبس لبسة الرجل ” (1). لباس الشهرة: وهو الثوب الذي يشهر لابسه بين الناس، ويلحق بالثوب غيره من اللبوس مما يشتهر به اللابس له وهو حرام. 1 – لحديث ابن عمر، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ” (2). 2 – وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ” (3). 3 – وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (هامش) (1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. (2) أخرجه أحمدو أبو داود والنسائي وابن ماجه ورجال اسناده ثقات. (3) رواه البخاري ومسلم: الخيلاء: الكبر والبطر. (.)


[ 494 ]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” كل واشرب والبس وتصدق في غير سوف ولا مخيلة ” (1) النهي عن أن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها: 1 – عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عروسا وقد تمزق شعرها من حصبة أفأصله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لعن الله الواصلة (2) والمستوصلة والواشمة والمستوشمة “. 2 – وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ” لعن الله الواشمات (3) والمستوشمات والنامصات (4) والمتنمصات (5)، والمتفلجات (6) للحسن المغيرات خلق (هامش) (1) أخرجه أبو داودو أحمد وذكره البخاري تعليقا. (2) الوصل: وصل الشعر بشعر آخر. (3) الوشم: غرز ابرة ونحوها في الجلد حتى يسيل الدم ويذر عليه كحل ونحوه حتى يخضر. (4) النامصة: التي تنتف شعرها بالنماص ” الملقاط ” من وجهها. (5) المتنمصة: الطالبة لذلك. (6) المتفلجات: اللائي يفرقن ما بين الثنايا والرباعيات أو ترقيق الاسنان بالمبرد رغبة في الجمال. (.)


[ 495 ]

فبلغ ذلك امرأة من بني أسيد تقرأ القرآن اسمها أم يعقوب فأتته فكلمته فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوفي كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت مابين لوحي المصحف فما وجدته. قال: لو قرأته لوجدته: قال الله تعالى: ” وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ” (1). 3 – وعنه قال: ” سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من داء “. وفي نيل الاوطار قال: والوصل حرام لان اللعن لا يكون على أمر غير محرم. قال النووي: وهذا هو الظاهر المختار. قال: وقد فصله أصحابنا فقالوا: إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف. وسواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف لعموم الادلة. ولانه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته. بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه. وان وصلته بشعر آدمي: فإن كان شعرا (هامش) (1) رواه الخمسة إلا الترمذي. (.)


[ 496 ]

بخسا وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث. ولانه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمدا. وسواء في هذين النوعين المزوجة وغيرها من النساء والرجال، وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي فإن لم يكن لها زوج ولاسيد فهو حرام أيضا. وان كان فثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز لظاهر الاحاديث. والثاني: يجوز. وأصحها عندهم ان فعلته باذن الزوج أو السيد جاز والا فهو حرام ” انتهى. أما وصل الشعر بغير شعر آدمي كالحرير والصوف والكتاب أو نحوها فقد أجازه سعيد بن جبير وأحمد والليث. قال القاضي عياض: فأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لانه ليس بوصل ولاهو في معنى مقصود الوصل، وانما هو للتجمل والتحسين. وكما يحرم وصل الشعر على النحو المتقدم ذكره فإنه يحرم إزالة الشعر أي شعر المرأة ونتفه من الوجه إلاأذا نبتت لها لحية أو شوارب فإنه لا يحرم إزالته بل يستحب. كما ذكره النووي وغيره.


[ 497 ]

والتفلج ويقال له الوشر: قال النووي: وهذا الفعل حرام على الفاعل والمفعول بها. قال في نيل الاوطار: ظاهره أن التحريم المذكور انما هو فيما إذا كان لقصد التحسين لا لداء وعلة فإنه ليس بمحرم. وظاهر قوله ” المغيرات خلق الله ” أنه لا يجوز تغيير شئ من الخلقة عن الصفة التي هي عليها. قال أبو جعفر الطبري: في هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز تغيير شئ مما خلق الله المرأة عليه بزيادة أو نقص التماسا للتحسين لزوج أو غيره، كما لو كان لها سن زائدة أو عضو زائد فلا يجوز لها قطعه ولانزعه لانه من تغيير خلق الله. وهكذا لو كان لها أسنان طوال فأرادت تقطيع أطرافها. وهكذا قال القاضي عياض وزاد: إلا أن تكون هذه الزوائد مؤلمة وتتضرر بها فلا بأس بنزعها ” ا. ه‍ فقه السنة – 32


[ 498 ]

التصوير حرمة التصوير وصناعة التماثيل: جاءت الاحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عن صناعة التماثيل وعن تصوير ما فيه روح سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم طيرا. أماما لاروح فيه كالاشجار والازهار ونحوها فإنه يجوز تصويره. 1 – فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ” (1). 2 – وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين (هامش) (1) أخرجه البخاري. (.)


[ 499 ]

يصورون هذه الصور “. 3 – وروي مسلم أن رجلا جاء ابن عباس فقال: إني أصور هذه الصور فأفتن فيها. فقال له: ادن مني. فدنا منه. ثم أعادها، فدنا منه. فوضع يده على رأسه فقال: أنبئك بما سمعت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم “. وقال: إن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له. 4 – وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا قبرا إلا سواه ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يارسول الله. قال: فهاب أهل المدينة وانطلق الرجل ثم رجع فقال: يارسول الله، لم ادع بها وثنا إلا كسرته ولا قبرا إلا سويته ولا صورة إلا لطختها. ثم قال الرسول: من عاد إلى صنعة شئ من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد بإسناد حسن.


[ 500 ]

إباحة صور لعب الاطفال: ويستثنى من هذا لعب الاطفال كالعرائس ونحوها فإنه يجوز صنعها وبيعها للاحاديث الآتية: – 1 – عن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات (1) فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي الجواري (2) فإذا دخل خرجن وإذا خرج دخلن ” (3). 2 – وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليها من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها (4) ستر. فهبت الريح فكشفته عن بنات لعائشة لعب. فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟. قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة. قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ” (5). (هامش) (1) البنات: صور للبنات كانت تلعب بها. (2) الجواري: جمع جارية وهي الشابة الصغيرة. (3) رواه البخاري وأبو داود. (4) الرف. (5) رواه أبو داود والنسائي. (.)


[ 501 ]

النهي عن وضع الصور في البيت: وكما يحرم صنع التماثيل والصور يحرم اقتناءها ووضعها في البيت، ومن الواجب كسرها حتى لا تبقى على صورة التمثال. 1 – روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب (1) إلا نفضه “. 2 – وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل ” (2). الصور التي لاظل لها: كل ما سبق ذكره خاص بالصور المجسدة التي لها ظل. أما الصور التي لا ظل لها، كالنقوش في الحوائط وعلى الورق والصور التي توجد في الملابس والستور والصور الفوتر غرافية فهذه كلها جائزة. وكانت ممنوعة في أول الامر ثم رخص فيها بعد. والذي يدل على المنع ما ذكرته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (هامش) (1) صور الصليب. (2) رواه البخاري ومسلم. (.)


[ 502 ]

دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة (1) لي بقرام (2) فيه تماثيل. فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: يا عائشة: أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت عائشة فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. والذي يدل على الترخيص ما رواه يسربن سعيد: عن زيد بن خالد عن 1 – أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور. قال يسر: ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صور، فقلت لعبيد الله، ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الاول؟ فقال عبيدالله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب ” (3) 2 – وعن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هامش) (1) الطاق يوضع فيه الشئ. (2) الستر الرقيق. (3) رواه الخمسة. (.)


[ 503 ]

” حولي هذا، فإني كلما دخلت قرأيته ذكرت الدنيا ” (1). فهذا الحديث دليل على أنه ليس بحرام لانه لو كان حراما في آخر الامر لامر بهتكه ولما اكتفى بمجرد تحويل وجهه. ثم ذكر أن علة تحويل وجهه هو تذكيره بالدنيا، وأيد هذا الطحاوي من أئمة الاحناف فقال: ” إنما نهى الشارع أولا عن الصور كلها، وإن كانت رقما، لانهم كانوا حديثي عهد بعبادة الصور فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ما كان رقما في ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب وأباح ما يمتهن، لانه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن. وبقي النهي فيما لا يمتهن. ا. ه‍ وقال ابن حزم: وجائز للصبايا خاصة اللعب بالصور ولا يحل لغيرهن. والصور محرمة إلا هذا وإلا ما كان رقما في ثوب. ثم ذكر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الانصاري. (هامش) (1) رواه مسلم.. (.)


[ 504 ]

المسابقة المسابقة مشروعة وهي من الرياضة المحمودة وقد تكون مستحبة أو مباحة حسب النية والقصد. وتكون بالعدو (1) بين الاشخاص كما تكون بالسهام والاسلحة وبالخيل والبغال والحمير. ففي المسابقة بالعدو بين الاشخاص ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت: ” سابقت النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته فلما حملت اللحم سابقته فسبقني: قلت: هذه بتلك ” (2). والمسابقة بالسهام والرماح وكل سلاح يمكن أن يرمى به يقول الله تعالى: – ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل… الخ ” (3). (هامش) (1) العدو: الجري. (2) رواه البخاري. (3) سورة الانفال الاية رقم 60 (.)


[ 505 ]

1 – وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقرأ: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي ” (1). 2 – ويقول عليه الصلاة والسلام: ” عليكم بالرمي فإنه من خير لهوكم ” (2). 3 – وبقول صلى الله عليه وسلم: ” كل لعب حرام إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، ورميه عن قوسه، وتأديبه فرسه “. ويحرم أثناء الرمي أن يتخذ ما فيه الروح غرضا، فقد رأى عبد الله بن عمر جماعة اتخذوا دجاجة هدفا لهم فقال: ” إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا ” (3). والمسابقة بين الحيوانات ثبتت في الاحاديث. 1 – فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا سبق الا في خف (4) أو نصل (5) أو (هامش) (1) رواه مسلم. (2) رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) الخف: الابل. (5) النصل: السهم. (.)


[ 506 ]

حافر (1) ” (2). 2 – وعن ابن عمر قال: ” سابق النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل التي قد ضمرت (3) من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وكان ابن عمر فيمن سابق ” متفق عليه. زاد البخاري، قال سفيان: من الحفياء (4) إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ومن الثنية إلى مسجد بني زريق ميل. جواز المراهنة: المسابقة دون رهان جائزة بإجماع العلماء كما سبق، أما المسابقة برهان فإنها تجوز في الصور الاتية: 1 – يجوز أخذ المال في المسابقة إذا كان من الحاكم أو من غيره، كأن يقول للمتسابقين: من سبق منكم فله هذا القدر من المال. 2 – أو يخرج أحد المتسابقين مالا فيقول لصاحبه: (هامش) (1) الحافر: الخيل. (2) رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان. (3) تضمير الخيل: اعطاؤها العلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتها لتخف ويكون ذلك في مدة أربعين يوما. (4) الحفياء: مكان خارج المدينة المنورة. (.)


[ 507 ]

إن سبقتني فهو لك. وإن سبقتك فلا شئ لك علي ولا شئ لي عليك. 3 – إن كان المال من الاثنين المتسابقين أو من الجماعة المتسابقين ومعهم محلل بأخذ هذا المال إن سبق. ولا يغرم إن سبق. قيل لانس: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس فهش لذلك وأعجبه ” (1). الصور التي يحرم فيها الرهان: ولا يجوز الرهان في حالة ما إذا كان من كل واحد على أنه إن سبق فله الرهان وإن سبق فيغرم لصاحبه مثله، لان هذا من باب القمار المحرم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخيل ثلاثة: فرس للرحمن وفرس للانسان وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله، (هامش) (1) رواه أحمد. (.)


[ 508 ]

فعلفه وروثه وبوله، (وذكر…) ما شاء الله (1). وأما فرس الشيطان: فالذي يقامر أو يراهن عليه. وأما فرس الانسان: فالذي يرتبطه الانسان يلتمس بطنها (2) فهي ستر من الفقر. لا جلب ولا جنب في الرهان: روى أصحاب السنن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا جلب ولا جنب في الرهان ” الجلب: هو أن يتبع فرسه بمن يحثه على سرعة الجري. والجنب: هو أن يجنب فرسا إلى فرسه إذا فترت تحول إلى المجنوب. قال ابن أويس: الجلب: أن يجلب حول الفرس من خلفه في الميدان ليحرز السبق. والجنب: أن يكون الفرس به اعتراض جنوب فيعترض له الرجل بفرسه يقومه فيحوز الغاية. وقال أبو عبيد: الجنب: أن يجنب الرجل فرسه الذي سابق عليه فرسا عريا ليس عليه أحد، فإذا بلغ (هامش) (1) يعني أن كل ذلك له حسنات. (2) أي للنتاج. (.)


[ 509 ]

قريبا من الغاية ركب فرسه العري فسبق عليه، لانه أقل عياء أو كلالا من الذي عليه الراكب. حرمة إيذاء الحيوان: ويحرم إيذاء الحيوان وتحميله فوق طاقته. فإن حمله إنسان ما يعجز عنه كان للحاكم أن يمنعه من حمل ما لا يطيق. وإذا كان الحيوان حلوبا وله ولد فلا يجوز الاخذ من اللبن إلا بالقدر الذي لا يضر ولده، لانه لا ضرر ولا ضرار في الاسلام لا لحيوان ولا لانسان. وسم (1) البهائم وخصاؤها: يجوز وسم البهائم في أي جزء من بدنها ما عدا الوجه. فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا قد وسم في وجهه فقال: ” أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها ” (2). وعن جابر رضي الله عنه قال: (هامش) (1) الوسم: الكي. (2) رواه أبو داود. (.)


[ 510 ]

” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم فيه ” (1). وقد استنبط العلماء من هذا النهي حرمة ضرب الوجه ووسمه من غير تفرقة بين إنسان وحيوان. لان الوجه أكرمه الله. وهو مجمع المحاسن. وأما وسم غير الوجه من الحيوان فهو جائز بل يستحب لانه قد يحتاج إليه في التمييز بين الحيوانات. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسم بالميسم (2) إبل الصدقة. كما رواه مسلم. وقال أبو حنيفة بكراهته لانه تعذيب ومثلة، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما، ويرد على كلام أبي حنيفة: أن هذا عام مخصوص. وأن التخصيص ثابت بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. أي أن التعذيب والمثلة حرام في كل حال إلا في حالة وسم الحيوان فإنه يجوز. أما خصاء البهائم: فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصد به المنفعة إما لسمن أو لغيره. (هامش) (1) رواه مسلم والترمذي. (2) الميسم: آلة الكي. (.)


[ 511 ]

وخصى عروة بن الزبير بغلا له. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم. خصاء الادمي: وهذا بخلاف الادمي فإنه لا يجوز لانه مثلة وتغيير لخلق الله وقطع للنسل وربما أفضى إلى الهلاك. التحريش بين البهائم: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم وإغراء بعضها ببعض لتتصارع، فعن ابن عباس قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم ” (1). كما نهى عن اتخاذ شئ منها غرضا. 1 – ودخل أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها فقال لهم: ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر (2) البهائم ” (3). (هامش) (1) رواه أبو داود والترمذي. (3) صبر البهائم: حبسها وهي حية ثم ترمى حتى تقتل. (3) رواه مسلم. (.)


[ 512 ]

2 – وعن جابر قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شئ من الدواب صبرا ” (1). 3 – وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا “. وانما نهى عن ذلك لانه تعذيب للحيوان واتلاف لنفسه وتضييع لماليته وتفويت لذكاته إن كان مذكى ولمنفعته إن لم يكن مذكى. اللعب بالنرد: ذهب جمهور العلماء إلى حرمة اللعب بالنرد (2) واستدلوا على الحرمة بما يأتي: 1 – روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ” (3). 2 – وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هامش) (1) رواه مسلم. (2) النرد: ” الطاولة “. (3) رواه مسلم وأحمد وأبو داود. (.)


[ 513 ]

” من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ” (1). وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم. قال الشوكاني: روي أنه رخص في النرد ابن غفل وابن المسيب على غير قمار. ويبدو أنهما حملا الحديث على من لعب بقمار. اللعب بالشطرنج: ورد في الاحاديث تحريم لعب الشطرنج. ولكن هذه الاحاديث لم يثبت منها شئ. قال الحافظ بن حجر العسقلاني: ” لم يثبت في تحريمه حديث صحيح ولا حسن “. ولهذا اختلف الفقهاء في حكمه. فمنهم من حرمه. ومنهم من أباحه. فمن حرمه: أبو حنيفة ومالك وأحمد. وقال الشافعي وبعض التابعين بكره ولا يحرم: فقد لعبه جماعة من الصحابة ومن لا يحصى من التابعين. (هامش) (1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ومالك. (.) فقه السنة – 33


[ 514 ]

قال ابن قدامة في ” المغني “: ” فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم. إلا أن النرد آكد منه في التحريم لورود النص في تحريمه لكن هذا في معناه فيثبت فيه حكمه قياسا عليه “. وروي عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير اباحته. واحتجوا بأن الاصل الاباحة. ولم يرد بتحريمها نص ولا هي في معنى المنصوص عليه فتبقى على الاباحة. اه‍. والذين أباحوه اشترطوا لاباحته الشروط الاتية: (1) أن لا يشغل عن واجب من واجبات الدين. (2) أن لا يخالطه قمار (3) أن لا يصدر أثناء اللعب ما يخالف شرع الله.


[ 515 ]

الوقف تعريفه: الوقف في اللغة: الحبس. يقال: وقف يقف وقفا أي حبس يحبس حبسا (1). وفي الشرع: حبس الاصل وتسبيل الثمرة. أي حبس المال وصرف منافعه في سبيل الله. أنواعه: والوقف أحيانا يكون الوقف على الاحفاد أو الاقارب ومن بعدهم إلى الفقراء، ويسمى هذا بالوقف الاهلي أو الذري. وأحيانا يكون الوقف على أبواب الخير ابتداء ويسمى بالوقف الخيري. مشروعيته: وقد شرع الله الوقف وندب إليه وجعله قربة (2) (هامش) (1) وأما أوقفت فهي لغة شاذة. (2) القربة: هي ما جعل الشارع له ثوابا. (.)


[ 516 ]

من القرب التي يتقرب بها إليه، ولم يكن أهل الجاهلية يعرفون الوقف وانما استنبطه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليه وحبب فيه برا بالفقراء وعطفا على المحتاجين. فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ” (1). والمقصود بالصدقة الجارية ” الوقف “. ومعنى الحديث: أن عمل الميت ينقطع تجدد الثواب له إلا في هذا الاشياء الثلاثة لانها من كسبه: فولده، وما يتركه من علم، وكذا الصدقة الجارية، كلها من سعيه. وأخرج ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما نشره أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه (هامش) (1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. (.)


[ 517 ]

أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته “. ووردت خصال أخرى بالاضافة إلى هذا فيكون مجموعها عشرا. نظمها السيوطي فقال: إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشر علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناء محل ذكر وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف أصحابه المساجد والارض والابار والحدائق والخيل. ولا يزال الناس يقفون من أموالهم إلى يومنا هذا. وهذا بعض أمثلة للاوقاف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: 1 – عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله


[ 518 ]

صلى الله عليه وسلم المدينة المدينة وأمر ببناء المسجد قال: يا بني النجار: تأمنوني (1) بحائطكم (2) هذا؟ فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. أي فأخذه فبناه مسجدا ” (3). 2 – وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من حفر بئر رومة فله الجنة. قال: فحفرتها ” (4). وفي رواية للبغوي: ” أنها كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان. فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين. (هامش) (1) أي طلب منهم أن يدفع ثمنه. (2) الحائط: البستان. (3) رواه الثلاثة. (4) رواه البخاري والترمذي والنسائي. (.)


[ 519 ]

3 – وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدفة أفضل (1)؟ قال: الماء. فحفر بئرا وقال: هذه لام سعد 4 – وعن أنس رضي الله عنه قال: ” كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (2). وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت هذه الاية الكريمة ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ” (3) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ” وإن أحب أموالي إلي بيرحاء. وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ (4) ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الاقربين، فقسمها أبو (هامش) (1) أي أكثر ثوابا. (2) بستان من نخل بجوار المسجد النبوي. (3) سورة آل عمران الاية رقم 92. (4) كلمة يقصد بها الاعجاب والتفخيم لعمله. (.)


[ 520 ]

طلحة في أقاربه (1) وبني عمه ” (2). 5 – وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ” أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره (3) فيها فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن شئت حبست أصلها (4) وتصدقت بها “. فتصدق بها عمر: أنها لاتباع ولا توهب ولا تورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول ” (5) قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب (هامش) (1) أي جعلها وقفا على أقاربه… وهذا هو أصل الوقف الاهلي. (2) رواه البخاري ومسلم والترمذي. قال الشوكاني: يجوز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث المال لانه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه ” والثلث كثير “. (3) يستشيره ويطلب أمره. (4) وقفت الاصل وتصدقت بالريع. (5) أي غير متخذ منها ملكا لنفسه. (.)


[ 521 ]

النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا. وكان هذا أول وقف في الاسلام. 6 – وروى أحمد والبخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات “. 7 – وفي حديث خالد بن الوليد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده (1) في سبيل الله “. انعقاد الوقف: ويصح الوقف وينعقد بأحد أمرين: 1 – الفعل (2) الدال عليه: كأن يبني مسجدا ويؤذن للصلاة فيه ولا يحتاج إلى حكم حاكم. 2 – القول: وهو ينقسم إلى صريح وكناية. فالصريح: مثل قول الواقف: وقفت وحبست (هامش) (1) ما أعده الانسان من السلاح والدواب وآلة الحرب. (2) ويرى الشافعي أن الفعل لا يكفي بل لا يصير وقفا إلا بالقول. (.)


[ 522 ]

وسبلت وأبدت. والكناية: كأن يقول: تصدقت ناويا به الوقف. أما الوقف المعلق بالموت مثل أن يقول: ” داري أو فرسي وقف بعد موتي “، فإنه جائز ذلك في ظاهر مذهب أحمد، كما ذكره الخرقي وغيره، لان هذا كله من الوصايا، فحينئذ يكون التعليق بعد الموت جائزا لانه وصية. لزومه: ومتى فعل الواقف ما يدل على الوقف أو نطق بالصيغة لزم الوقف بشرط أن يكون الواقف ممن يصح تصرفه، بأن يكون كامل الاهلية من العقل والبلوغ والحرية والاختيار، ولا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه. وإذا لزم الوقف فإنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا التصرف فيه بأي شئ يزيل وقفيته. وإذا مات الواقف لا يورث عنه لان هذا هو مقتضى الوقف. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث ابن عمر: ” لا يباع ولا يوهب ولا يورث “. ويرى أبو حنيفة أنه يجوز بيع الوقف.


[ 523 ]

قال أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث لقال به. والراجح من مذهب الشافعية أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله عز وجل فلا يكون ملكا للواقف ولا ملكا للموقوف عليه. وقال مالك وأحمد: ينتقل الملك إلى الموقوف عليه. (1) ما يصح وقفه وما لا يصح: يصح وقف العقار والمنقول من الاثاث والمصاحف والكتب والسلاح والحيوان (2)، وكذلك يصح وقف كل ما يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به مع بقاء عينه. وقد تقدم ما يفيد ذلك ولا يصح وقف ما يتلف بالانتفاع به مثل النقود والشمع والمأكول والمشروب، ولا ما يسرع إليه الفساد من المشمومات والرياحين لانها تتلف سريعا، ولا ما لا يجوز بيعه كالمرهون. والكلب والخنزير وسائر سباع البهائم التي لا تصلح للصيد وجوارح الطير التي لا يصاد بها. لا يصح الوقف إلا على معين أو جهة بر: ولا يصح الوقف إلا على من يعرف كولده وأقاربه (هامش) (1) ويترتب على الحكم بانتقال الملك لزوم مراعاته والخصومة فيه. (2) هذا مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ورواية عن مالك: لا يصح وقف الحيوان. والحديث حجة عليهم. (.)


[ 524 ]

ورجل معين، أو على بر كبناء المساجد والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن. فإذا وقف على غير معين كرجل وامرأة. أو على معصية مثل الوقف على الكنائس والبيع فإنه لا يصح. الوقف على الولد يدخل فيه أولاد الولد: من وقف على أولاده دخل في ذلك أولاد الاولاد ما تناسلوا. وكذلك أولاد البنات. فعن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ابن أخت القوم منهم ” (1). الوقف على أهل الذمة: ويصح الوقف على أهل الذمة مثل المسيحيين كما يجوز التصدق عليهم. ووقفت صفية بنت حيي النبي صلى الله عليه وسلم على أخ لها يهودي. الوقف المشاع: يجوز وقف المشاع لان عمر رضي الله عنه وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة وحكاه في ” البحر ” عن (هامش) (1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي. (.)


[ 525 ]

الهادي والقاسم والناصر والشافعي وأبي يوسف ومالك. وبعض العلماء يري عدم صحة وقف المشاع لان من شرطه التعيين. وبهذا قال محمد بن الحسن. الوقف على النفس: من العلماء من رأى صحة الوقف على النفس استدلالا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: عندي دينار. فقال له: ” تصدق به على نفسك ” (1). ولان المقصود من الوقف التقرب إلى الله، والصرف على النفس فيه قربة إليه سبحانه، وهذا قول أبي حنيفة وابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد، في الارجح عنه، وابن شعبان من المالكية وابن سريج من الشافعية وابن شبرمة وابن الصباع والعترة بل إن بعضهم جوز وقف المحجور عليه للسفه إذا وقف على نفسه تم على أولاده، لان الحجر إنما هو للمحافظة على أمواله ووقفه بهذه الطريقة يحقق هذه المحافظة. ومنهم من منع ذلك لان الوقف على النفس تمليك ولا يصح أن يتملكه من نفسه لنفسه كالبيع والهبة. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (هامش) (1) رواه أبو داود والنسائي. (.)


[ 526 ]

” سبل الثمرة ” وتسبيلها تمليكها للغير. وإلى هذا ذهب الشافعي وجمهور المالكية والحنابلة ومحمد والناصر. الوقف المطلق: إذا وقف الواقف وقفا مطلقا فلم يعين مصرفا للوقف بأن قال: هذه الدار وقف. فإن ذلك يصح عند مالك. والراجح عند الشافعية أنه لا يصح مع عدم بيان المصرف. الوقف في مرض الموت: إذا وقف المريض مرض الموت لاجنبي فإنه يعتبر من الثلث مثل الوصية ولا يتوقف على رضا الورثة إلا إذا زاد على الثلث فإنه لا يصح وقف هذا الزائد إلا بإجازتهم. الوقف في المرض على بعض الورثة: أما الوقف لبعض الورثة في مرض الموت: فقد ذهب الشافعي وأحمد في احدى الروايتين عنه إلى أنه لا يجوز الوقف على بعض الورثة أثناء المرض. وذهب غير الشافعي وأحمد في الرواية الاخرى إلى


[ 527 ]

جواز وقف الثلث على الورثة في المرض مثل الاجانب. ولما قيل للامام أحمد: أليس تذهب إلى أنه لا وصية لوارث؟ فقال: نعم. والوقف غير الوصية لانه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة ينتفعون بغلته. الوقف على الاغنياء: الوقف قربة يتقرب به إلى الله عز وجل. فإذا شرط الواقف ما ليس بقربة. كما لو شرط أن لا يعطى إلا الاغنياء. فقد اختلف العلماء في هذه الصورة. فمنهم من أجازها لانها ليست بمعصية. ومنهم من منعها لان هذا شرط باطل ولانه صرف له فيما لا ينفع الواقف لا في دينه ولا في دنياه. ورجح ابن تيمية هذا فقال: ” وهذا من السرف والتبذير الذي يمنع منه، ولان الله سبحانه وتعالى كره أن يكون المال دولة بين الاغنياء لقوله: ” كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم ” (1). (هامش) (1) سورة الحشر من الاية رقم 7. (.)


[ 528 ]

فمن شرط في وقفه أو وصيته أن يكون دولة بين الاغنياء فقد شرط شرطا يخالف كتاب الله. ومن شرط شرطا يخالف كتاب الله فهو باطل. وان شرط مائة شرط: ” كتاب الله أحق وشرط الله أوثق “. ومن هذا الباب: إذا اشترط الواقف أو الموصي أعمالا ليست في الشريعة لا واجبة ولا مستحبة فهذه شروط باطلة مخالفة لكتاب الله لان إلزام الانسان للناس ما ليس بواجب ولا مستحب من غير منفعة له بذلك سفه وتبذير يمنع منه ” ا. ه‍ جواز أكل العامل من مال الوقف: يجوز للمتولي أمر الوقف أن يأكل منه لحديث ابن عمر ” السابق ” وفيه: ” لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف “. والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة. قال القرطبي: ” جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل لاستقبح ذلك منه. “


[ 529 ]

فاضل ريع الوقف يصرف في مثله: قال ابن تيمية: ” وما فضل من ريع الوقف واستغني عنه فإنه يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضلت غلة وقفه عن مصالحه صرف في مسجد آخر، لان الواقف غرضه في الجنس. والجنس واحد. فلو قدر أن المسجد الاول خرب، ولم ينتفع به أحد. صرف ريعه في مسجد آخر. وكذلك إذا فضل عن مصلحته شئ، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه. ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولى. وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف “. إبدال المنذور والموقوف بخير منه: وقال ابن تيمية أيضا: وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه. كما في إبدال الهدي. فهذا نوعان: أحدهما: أن يكون الابدال للحاجة، مثل أن يتعطل فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، كالفرس الحبيس للغزو، إذا لم يمكن الانتفاع به في الغزو فقه السنة – 34


[ 530 ]

فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا تخرب ما حوله، فينقل إلى مكان آخر، أو يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، وإذا لم يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف، فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، وإذا خرب ولم يمكن عمارته فتباع العرصة، ويشترى بثمنها ما يقوم مقامها، فهذا كله جائز، فإن الاصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه. والثاني: الابدال لمصلحة راجحة، مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لاهل البلد منه، وبيع الاول، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الاول سوقا للتمارين (1)، فهذا إبدال لعرصة المسجد وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان (هامش) (1) يشير الى ما كتبه عمر الى سعد رضي الله عنهما. لما بلغه أنه نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل. (.)


[ 531 ]

رضي الله عنهما. بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غير بنائه الاول وزادا فيه، وكذلك المسجد الحرام وقد ثبت في ” الصحيحين ” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ” لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولالصقتها بالارض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرج منه الناس، فلو لا المعارض الراجح، لكان النبي صلى الله عليه وسلم غير بناء الكعبة، فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة، لاجل المصلحة الراجحة، أما إبدال العرصة بعرصة أخرى، فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه، اتباعا لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، واشتهرت القضية ولم تنكر. وأما ما وقف للغلة، إذا أبدل بخير منه، مثل أن يقف دارا أو حانوتا أو بستانا أو قرية مغلها قليل، فيبدل بها ما هو أنفع للوقف. فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء، مثل أبي عبيد بن حربويه قاضي مصرو حكم بذلك، وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى


[ 532 ]

عرصة للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة، بحيث يصير المسجد سوقا، فلان يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر، أولى وأحرى، وهو قياس قوله في إبدال الهدي بخير منه، وقد نص على أن المسجد اللاصق بالارض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية، واختار ذلك الجيران فعل ذلك. لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد، والهدي، والارض الموقوفة، وهو قول الشافعي وغيره (1)، لكن النصوص والآثار، والقياس تقتضي جواز الابدال للمصلحة، والله أعلم. حرمة الاضرار بالورثة: يحرم أن يقف الشخص وقفا يضار به الورثة لحديث الرسول (ص) (لاضرر ولاضرار في الاسلام) فإن وقف بطل وقفه. قال في الروضة الندية: ” والحاصل أن الاوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عزوجل فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال، وذلك كمن يقف على (هامش) (1) وهو قول مالك أيضا. وقد استدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” لا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث “. (.)


[ 533 ]

ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك، فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لاحكام الله عزوجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني، فليكن هذا منك على ذكر، فما أكثر وقوعه في هذه الازمنة. وهكذا وقف من لا يحمله على الوقوف إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته، فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عزوجل، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء، وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف بل هو إلى الله عزوجل. وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا بحسب اختلاف الاشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الاسباب المقتضية لذلك. ومن هذا النادر أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم، فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا والقربة متحققة والاعمال بالنيات، ولكن تفويض الامر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم أولى وأحق ” ا. ه‍


[ 534 ]

الهبة تعريفها: جاء في القرآن الكريم قول الله عزوجل: ” قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ” (1). وهي مأخوذة من هبوب الريح أي مرورها. وتطلق الهبة ويراد بها التبرع والتفضل على الغير سواء أكان بمال أم بغيره. والهبة في الشرع: عقد موضوعه تمليك الانسان ماله لغيره في الحياة بلا عوض، فإذا أباح الانسان ماله لغيره لينتفع به ولم يملكه إياه كان إعارة. وكذلك إذا أهدى ما ليس بمال كخمرأ وميتة فإنه لا يكون مهديا ولايكون هذا العطاء هدية، وإذا لم يكن التمليك في الحياة بل كان مضافا إلى ما بعد الوفاة (هامش) (1) سورة آل عمران الآية رقم 38. (.)


[ 535 ]

كان ذلك وصية. وإذا كانت بعوض (1) كانت بيعا ويجري فيها حكم البيع، أي أنها تملك بمجرد تمام العقد ولا تنفذ فيها تصرفات الواهب إلا بإجازة الموهوب له. ويثبت فيها الخيار والشفعة. ويشترط أن يكون العوض معلوما فإذا لم يكن العوض معلوما بطلت الهبة. والهبة المطلقة لا تقتضي عوضا سواء أكانت لمثله أو دونه أو أعلى منه. هذا هو معنى الهبة بالمعنى الاخص. أما معناها بالمعنى الاعم فيشمل ما يأتي: – 1 – الابراء: وهو هبة الدين ممن هو عليه. 2 – الصدقة: وهي هبة ما يراد به ثواب الآخرة. 3 – الهدية: وهي ما يلزم الموهوب له أن يعوضه. مشروعيتها: وقد شرع الله الهبة لما فيها من تأليف القلوب وتوثيق عرى المحبة بين الناس. وعن أبي هريرة، رضي (هامش) (1) يرى أبو حنيفة أن الهبة بشرط العوض هبة ابتداء بيع انتهاء. وعلى هذا فهي قبل تسليم العوض لا تملك إلا بالقبض ولا ينفذ فيها تصرفات الموهوب له قبل القبض. ويجوز للواهب التصرف فيها. (.)


[ 536 ]

الله عنه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” تهادوا تحابوا ” (1). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها. وكان يدعو إلى قبولها ويرغب فيها، فعند أحمد من حديث خالد بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف (2) ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه “. وقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على قبول الهدية ولو كانت شيئا حقيرا، ومن ثم رأى العلماء كراهية ردها حيث لا يوجد مانع شرعي. فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لو أهدي إلى كراع (3) لقبلت. ولو دعيت عليه لاجبت ” (4). وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ” إلى أقربهما منك بابا “. (هامش) (1) أخرجه البخاري في الادب المفرد. والبيهقي. قال الحافظ: سناده حسن. (2) تطلع. (3) وهو ما دون الكعب من الدابة. (4) رواه أحمد والترمذي وصححه. (.)


[ 537 ]

وعن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” تهادوا فإن الهدية تذهب وحر (1) الصدر ولا تحقرن جارة لجارتها ولو شق فرسن (2) شاه “. وقد قبل رسول الله صلى الله‌عليه وسلم هدية الكفار. فقبل هدية كسري. وهدية قيصر. وهدية المقوقس. كما أهدى هوالكفار الهدايا والهبات. أما ما رواه أحمد و أبو داود والترمذي أن عياضا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت؟ قال: لا. قال: ” اني نهيت عن زبد (3) المشركين “. فقد قال فيه الخطابي: ” يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا لانه صلى الله عليه وسلم قد قبل هدية غير واحد من المشركين “. قال الشوكاني: ” وقد أورد البخاري في صحيحه حديثا استنبط منه جواز قبول هدية الوثني، ذكره في باب قبول الهدية من (هامش) (1) الحقد. (2) الحافر. (3) رفد وعطاء. (.)


[ 538 ]

المشركين من كتاب الهبة والهدية. قال الحافظ في الفتح: ” وفيه فساد من حمل رد الهدية على الوثني دون الكتابي وذلك لان الواهب المذكور في ذلك الحديث وثني ” ا. ه‍ أركانها: وتصح الهبة بالايجاب والقبول بأي صيغة تفيد تمليك المال بلا عوض بأن يقول الواهب: وهبتك أو أهديتك أو أعطيتك ونحو ذلك. ويقول الآخر: قبلت. ويرى مالك والشافعي اعتبار القبول في الهبة. وذهب بعض الاحناف إلى أن الايجاب كاف وهو أصح. وقالت الحنابلة: تصح بالمعاطاة التي تدل عليها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدى إليه، وكذلك كان أصحابه يفعلون. ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يشترطون إيجابا وقبولا ونحو ذلك. شروطها: الهبة تقتضي واهبا وموهوبا له وموهوبا. ولكل شروط نذكرها فيما يلي:


[ 539 ]

شروط الواهب: يشترط في الواهب الشروط الآتية: 1 – أن يكون مالكا للموهوب. 2 – أن لا يكون محجورا عليه لسبب من أسباب الحجر. 3 – أن يكون بالغا. لان الصغير ناقص الاهلية. 4 – أن يكون مختارا. لان الهبة عقد يشترط في صحته الرضا. شروط الموهوب له: ويشترط في الموهوب له: 1 – وأن يكون موجودا حقيقة وقت الهبة فإن لم يكن موجودا أصلا أو كان موجودا تقديرا بأن كان جنينا فإن الهبة لا تصح. ومتى كان الموهوب له موجودا أثناء الهبة وكان صغيرا أو مجنونا فإن وليه أو وصيه أو من يقوم بتربيته ولو كان أجنبيا يقبضها له. شروط الموهوب: ويشترط في الموهوب: 1 – أن يكون موجودا حقيقة.


[ 540 ]

2 – أن يكون مالا متقوما (1). 3 – أن يكون مملوكا في نفسه أي يكون المرهوب مما ترد عليه الملكية ويقبل التداول وانتقال ملكيته من يد إلى يد فلا تصح هبة الماء في النهر ولا السمك في البحر ولا الطير في الهواء ولا المساجد والزوايا. 4 – أن لا يكون متصلا بملك الواهب اتصال قرار كالزرع والشجر والبناء دون الارض بل يجب فصله وتسليمه حتى يملك للموهوب له. 5 – أن يكون مفرزا أي غير مشاع لان القبض فيه لا يصح إلامفرزا كالرهن، ويرى مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور عدم اشتراط هذا الشرط وقالوا: ان هبة المشاع غير المقسوم تصح. وعند المالكية يجوز هبة ما لا يصح بيعه مثل البعير الشارد والثمرة قبل بدو صلاحها والمغصوب. هبة المريض مرض الموت: (2) إذا كان شخص مريض مرض الموت ووهب غيره هبة فحكم هبته كحكم الوصية، فإذا وهب هبة لاحد (هامش) (1) يرى الحنابلة صحة هبة الكلب الذي يقتنى. والنجاسة التي يباح نفعها. (2) مرض الموت: هو الذي يعجز المريض عن ممارسة العمل وينتهي به إلى الموت. (.)


[ 541 ]

ورثته ثم مات، وادعى باقي الورثة أنه وهبه في مرض موته وادعى الموهوب له أنه وهبه في حال صحته، فإن على الموهوب له أن يثبت قوله، وإن لم يفعل اعتبرت الهبة أنها حصلت في مرض الموت وجرى حكمها على مقتضى ذلك أي أنها لا تصح إلا إذا أجازها الورثة. وإذا وهب وهو مريض مرض الموت ثم صح من مرضه فالهبة صحيحة. قبض الهبة: من العلماء من يرى أن الهبة تستحق للموهوب له بمجرد العقد ولا يشترط قبضها أصلا لان الاصل في العقود أنها تصح بدون اشتراط القبض مثل البيع كما سبقت الاشارة إليه، وإلى هذا ذهب أحمد ومالك وأبو ثور وأهل الظاهر. وبناء على هذا إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل التسليم فإن الهبة لا تبطل لانها بمجرد العقد أصبحت ملكا للموهوب له. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري إن القبض شرط من شروط صحتها، وما لم يتم القبض لم يلزم الواهب. فإذا مات الموهوب له أو الواهب قبل التسليم بطلت الهبة.


[ 542 ]

التبرع بكل المال: مذهب الجمهور من العلماء أن للانسان أن يهب جميع ما يملكه لغيره. وقال محمد بن الحسن وبعض محققي المذهب الحنفي: لا يصح التبرع بكل المال ولو في وجوه الخير، وعدوا من يفعل ذلك سفيها يجب الحجر عليه. وحقق هذه القضية صاحب الروضة الندية فقال: ” من كان له صبر على الفاقة وقلة ذات اليد فلا بأس بالتصدق بأكثر ماله أو بكله، ومن كان يتكفف الناس إذا احتاج لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره. وهذا هو وجه الجمع بين الاحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة وبين الادلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة على الثلث ” ا. ه‍ الثواب على الهدية: ويستحب المكافأة على الهدية وإن كانت من أعلى لادنى. لما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل


[ 543 ]

الهدية ويثيب عليها ” (1). ولفظ ابن أبي شيبة: ” ويثيب ما هو خير منها “. وانما كان يفعل ذلك ليقابل الجميل بمثله وحتى لا يكون لاحدعليه منة. قال الخطابي: ” من العلماء من جعل أمر الناس في الهادية على ثلاث طبقات: 1 – هبة الرجل من دونه كالخادم ونحوه اكرام له وإلطاف. وذلك غير مقتض ثوابا. 2 – هبة الصغير للكبير: طلب رفد ومنفعة. والثواب فيها واجب. 3 – هبة النظير لنظيره: الغالب فيها معنى التودد والتقرب. وقد قيل إن فيها ثوابا. فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم ” ا. ه‍ (هامش) (1) أي يعطي المهدي. بدلها وأقله ما يساوي قيمة الهدية. (.)


[ 544 ]

حرمة تفضيل بعض الابناء في العطاء والبر: لا يحل لاي شخص أن يفضل بعض أبنائه على بعض في العطاء لما في ذلك من زرع العداوة وقطع الصلات التي أمر الله بها أن توصل. وقد ذهب إلى هذا الامام أحمد (1) واسحاق والثوري وطاوس وبعض المالكية وقالوا: ” إن التفضيل بين الاولاد باطل وجور ويجب على فاعله إبطاله، وقد صرح البخاري بهذا، واستدلوا على هذا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” سووا بين أولادكم في العطية. ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء ” (2). عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: أنحلني (هامش) (1) مذهب الامام أحمد حرمة التفضيل بين الاولاد ما لم يكن هناك داع، فإذا كان هناك داع أو مقتض للتفضيل فإنه لا مانع منه. قال في المغني: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقوف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه على سبيل الاثرة والعطية في معناه ” 1. ه‍ (2) أخرجه الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور وقد حسن الحافظ بن حجر اسناده في الفتح. (.)


[ 545 ]

أبي نحلا (1) – قال اسماعيل بن سالم من بين القوم: نحله غلاما له. قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة – إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال: إني نحلت ابني النعمان نحلا، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك. قال: فقال: ألك ولد سواه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ قال: لا. قال: فقال بعض هؤلاء المحدثين: هذا جور وقال بعضهم: هذا تلجئة. فأشهد على هذا غيري. قال مغيرة في حديثه: أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم. قال: فأشهد على هذا غيري – وذكر مجاهد في حديثه: إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم. كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك “. قال ابن القيم: هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله (هامش) (1) النحل: بضم النون وسكون الحاء المهملة. مصدر نحلته، من العطية، أنحله بضم الحاء واللام. نحلا. والنحلى: العطية. على فعلى. قاله الجوهري. وقال غيره: النحل والنحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. (.) فقه السنة – 35


[ 546 ]

به في كتابه وقامت به السموات والارض وأثبتت عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الارض، وهو محكم الدلالة غاية الاحكام، فرد بالمتشابه من قوله: ” كل أحد أحق بماله من ولده والناس أجمعين “. فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء ويقاس متشابهه على إعطاء الاجانب. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا الحكم المبين غاية البيان ” ا. ه‍ وذهب الاحناف والشافعي ومالك والجمهور من العلماء إلى أن التسوية بين الابناء مستحبة والتفضيل مكروه وان فعل ذلك نفذ. وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة عشرة، كما ذكر الحافظ في الفتح، كلها مردودة، وقد أوردها الشوكاني في نيل الاوطار، نوردها مختصرة مع زيادات مفيدة قال: أحدها: أن الموهوب النعمان كان جميع مال والده، حكاه ابن عبد البر، وتعقب بأن كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضية كما في حديث الباب ان الموهوب


[ 547 ]

كان غلاما وكما في لفظ مسلم المذكور قال: ” تصدق علي أبي ببعض ماله “. الجواب الثاني: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأشار عليه بأن لا يفعل فترك. حكاه الطبري. ويجاب عنه بأن أمره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالتنجيز. وكذلك قول عمرة ” لا أرضى حتى تشهد… الخ “. الجواب الثالث: أن النعمان كان كبيراولم يكن قبض الموهوب فجاز لابيه الرجوع. ذكره الطحاوي قال الحافظ: وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله ” أرجعه ” فإنه يدل على تقدم وقوع القبض. والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره. فأمره برد العطية المذكورة بعدما كانت في حك المقبوض. الجواب الرابع: إن قوله ” أرجعه ” دليل الصحة، ولو لم تصح


[ 548 ]

الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لان للوالد أن يرجع فيما وهب لولده، وإن كان الافضل خلاف ذلك. لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به. قال في الفتح: وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله: ” أرجعه ” أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. الجواب الخامس: إن قوله ” أشهد على هذا غيري ” إذن بالاشهاد على ذلك، وانما امتنع من ذلك لكونه الامام وكأنه قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد. وإنما من شأنه أن يحكم. حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار. وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولامن أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث. قال الحافظ: وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله ” أشهد ” صيغة أمر والمراد به نفي الجواز، وهي كقوله لعائشة ” اشترطي لهم الولاء ” ا. ه‍


[ 549 ]

ويؤيد هذا تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا، كما في الرواية المذكورة في الباب. الجواب السادس: التمسك بقوله ” ألا سويت بينهم؟ على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهي التنزيه. قال الحافظ: وهذا جيد لولا ورود تلك الالفاظ الزائدة على هذه اللفظة. ولاسيما رواية ” سو بينهم “. الجواب السابع: قالوا: المحفوظ في حديث النعمان ” قاربوا بين أولادكم ” لاسووا، وتعقب بأنكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية. الجواب الثامن: في التشبيه الواقع بينهم في التسوية بينهم بالتسوية منهم في البر قرينة تدل على أن الامر للندب. ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهي عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفها. وان صلحت لصرف الامر. الجواب التاسع: ما تقدم عن أبي بكر من نحلته لعائشة وقوله لها


[ 550 ]

” فلو كنت احترثته ” وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه تحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين. قال في الفتح “: وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين. ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم ” ا. ه‍ على أنه لاحجة في فعلهما لاسيما إذا عارض المرفوع. الجواب العاشر: إن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده. فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض أولاده بالتمليك لبعضهم. ذكره ابن عبد البر. قال الحافظ: ولا يخفى ضعفه لانه قياس مع وجود النص. ا. ه فالحق أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم. واختلف الموجبون في كيفية التسوية. فقال محمد ابن الحسن واحمد واسحاق وبعض الشافعية والمالكية: العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث. واحتجوا بأن ذلك حظه من المال لو مات عند الواهب


[ 551 ]

وقال غيرهم: لافرق بين الذكر والانثى. وظاهر الامر بالتسوية ” ا. ه‍ الرجوع في الهبة: ذهب جمهور العلماء إلى حرمة الرجوع في الهبة ولو كانت بين الاخوة أو الزوجين، إلا إذا كانت هبة الوالد لولده (1) فإن له الرجوع فيها لما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها الا الوالد (2) فيما يعطي ولده (3). ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه ” رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح، وهذا أبلغ في الدلالة على التحريم. (هامش) (1) وقال مالك: له الرجوع فيما وهب له إلا أن يكون الشئ قد تغير عن حاله فإن تغير لم يكن له أن يرتجعه. وقال أبو حنيفة: ليس له الرجوع فيما وهب لابنه ولكل ذي رحم من ذوي أرحامه وله الرجوع فيما وهب للاجانب. وهذا المذهب غير قوي لمخالفته الاحاديث. (2) حكم الام مثل الاب عند أكثر العلماء. (3) سواء أكان الولد كبيرا أم صغيرا. (.)


[ 552 ]

وفي احدى الروايات عن ابن عباس: ” ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه “. وكذلك يجوز الرجوع في الهبة في حالة ما إذا وهب ليتعوض من هبته ويثاب عليها فلم يفعل الموهوب له: لما رواه سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها ” أي يعوض عنها وهذا هو ما رجحه ابن القيم في ” اعلام الموقعين ” قال: ” ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع هو من وهب تبرعا محضا لا لاجل العوض، والواهب الذي له الرجوع هومن وهب ليتعوض من هبته ويثاب منها فلم يفعل الموهوب له، وتستعمل سنة رسول الله كلها ولا يضرب بعضها ببعض “. ما لايرد من الهدايا والهبات: 1 – عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


[ 553 ]

” ثلاث لاترد: الوسائد والدهن (1) واللبن (2) “. 2 – وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من عرض عليه ريحان فلا يرده لانه خفيف المحمل طيب الريح ” (3). 3 – وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كان لايرد الطيب. الثناء على المهدي والدعاء له: 1 – عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من لم يشكر الناس لم يشكر الله ” (4). 2 – وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من أعطي عطاء فوجد (5) فليجزيه، ومن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ” (6). (هامش) (1) الدهن: الطيب. (2) رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب. (3) رواه مسلم. (4) رواه أحمدو الترمذي بإسناد صحيح. (5) فوجد: أي سعة من المال. (6) رواه أبو داود والترمذي. (.)


[ 554 ]

3 – وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله اخيرا فقد أبلغ في الثناء ” (1). 4 – وعن أنس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله ما رأينا قوما أبذل من كثير (2). ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤونة، وأشر كونا في المهنأ (3) حتى خفنا أن يذهبوا بالاجر كله؟ فقال: لا. ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم ” (4). (هامش) (1) رواه الترمذي بإسناد جيد. (2) أبذل من كثير: أي من مال. (3) المهنأ: ما يقوم بالكفاية وإصلاح المعيشة. (4) رواه الترمذي بإسناد صحيح. (.)


[ 555 ]

العمرى تعريفها: العمرى: هي نوع من الهبة: وهي أن يهب إنسان آخر شيئا مدى عمره. أي على أنه إذا مات الموهوب له عاد الشئ للواهب. ويكون ذلك بلفظ: أعمرتك هذا الشئ أو هذه الدار، أي جعلتها لك مدة عمرك، ونحو هذا من العبارات. ويسمى القائل معمرا. والمقول له معمرا. وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فكرة الاسترداد بعد وفاة المعمر له باطلة فأثبت في العمرى ملك اليمين الدائم للمعمر له مادام حيا ثم من بعده لورثته الذين يرثون أملاكه، إن كان له ورثة. فإن لم يكن له ورثة كانت لبيت المال، ولا يعود إلى المعمر شئ منها قط. فعن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 1 – ” من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من


[ 556 ]

يرثه من عقبه من بعده. 2 – ” وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” العمرى جائزة ” أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. 3 – وعن أبي سلمة عن جابر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ” العمرى لمن وهبت له “. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. 4 – وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع للذي أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث “. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 5 – وروى أبو داود عن طارق المكي أن جابر بن عبد الله قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة من الانصار أعطاها ابنها حديقة من نخل فماتت. فقال ابنها: انما أعطيتها حياتها. وله إخوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


[ 557 ]

” هي لها حياتها وموتها “. قال: كنت تصدقت بها عليها. قال: ” ذاك أبعد لك “. وإلى هذا ذهبت الاحناف والشافعي وأحمد. وقال مالك: العمرى: تمليك المنفعة دون الرقبة. فإن جعلها عمرى له فهي له مدة عمره لا تورث. فإن جعلها له ولعقبه بعده كانت ميراثا لاهله والحديث حجة عليه.


[ 558 ]

الرقبى تعريفها: هي أن يقول أحد الاشخاص لصاحبه: – أرقبتك داري وجعلتها لك في حياتك فإن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك. فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه فتكون الدار التي جعلها رقبى لآخر من بقي منهما. قال مجاهد: العمرى: أن يقول الرجل للرجل: هو لك ما عشت فإذا قال ذلك فهو له ولورثته. والرقبى: أن يقول الانسان هو للآخر مني ومنك. مشروعيتها: وهي مشروعة. فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:


[ 559 ]

” العمرى جائزة لاهلها. والرقبى جائزة لاهلها “. أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي حسن. حكمها: حكمها حكم العمرى عند الشافعي وأحمد وهو حكم ظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة: العمرى موروثة. والرقبى عارية.


[ 560 ]

النفقة سبق أن ذكرنا وجوب نفقة الزوجة على زوجها، وبقي أن نذكر نفقة الوالدين على ابنهما ونفقة الابن على أبيه ونفقة الاقارب ونفقة الحيوان. نفقة الوالدين وأخذهما من مال ابنهما: نفقة الوالدين المعسرين واجبة على الولد متى كان واجدا لها. فعن عمارة بن عمير عن عمته أنها سألت عائشة قالت: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه ” (1). وأما أخذ الوالدين من مال ابنهما فإنه يجوز لهما (هامش) (1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن. (.)


[ 561 ]

أن يأخذا منه سواء أذن الولد أم لم يأذن. ويجوز لهما أن يتصرفا فيه ما لم يكن ذلك على وجه السرف والسفه، للحديث المتقدم ولحديث جابر أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي مالا وولده وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: ” أنت ومالك لابيك ” (1). وذهب الائمة الثلاثة إلى أنه لا يأخذ من مال ابنه إلا بقدر الحاجة. وقال أحمد: له أن يأخذ من مال ولده ما شاء عند الحاجة وغيرها. وجوب النفقة على الوالد الموسر لولده المعسر: وكما تجب النفقة على الولد الموسر لوالده المعسر فإنها تجب للولد المعسر على والده الموسر، لقوله صلى الله عليه وسلم لهند ” خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف “. قال أحمد: إذا بلغ الولد معسرا أو لا حرفة له لا تسقط نفقته عن أبيه إذا لم يكن له كسب ولا مال. (هامش) (1) رواه ابن ماجه.. واللام للاباحة لاللتمليك فإن مال الولد له وزكاته عليه وهو موروث عنه. (.) فقه السنة – 36


[ 562 ]

النفقة للاقرباء: أما النفقة للاقرباء المعسرين على أقربائهم الموسرين فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا كبيرا. فمنهم من قال بعدم وجوبها إلا من باب البر وصلة الرحم. قال الشوكاني: ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم. قال: وأما كونها لا تجب نفقة سائر القرابة إلا من باب صلة الرحم فلعدم ورود دليل يخص ذلك، بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة، والرحم المحتاج إلى النفقة أحق الارحام بالصلة وقد قال تعالى: ” لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاه سيجعل الله بعد عسر يسرا ” (1). ” على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ” (2). وقالت الشافعية: تجب النفقة على الموسر سواء أكان (هامش) (1) سورة الطلاق الاية رقم 7. (2) سورة البقرة الاية رقم 236. (.)


[ 563 ]

مسلما أم غير مسلم للاصول من الاباء والاجداد وإن علوا. وللفروع من الابناء وأبناء الابناء وأن نزلوا ولا تجب لغير هؤلاء. وقالت المالكية: لا تجب النفقة إلا للاب والام والابن والبنت ولا تجب للاجداد ولا للاحفاد ولا لغيرهما من الاقارب ولا يمنع اختلاف الدين من وجوبها. والحنابلة: يوجبون النفقة على القريب الموسر الذي يرث القريب المحتاج إذا مات وترك مالا فهي تسير مع الميراث سيرا مطردا لان الغرم بالغنم والحقوق متبادلة. وهم يوجبونها للوالدين وإن علوا والولد وان نزل، وعندهم لا تجب النفقة لذوي الارحام وهم من ليسوا بذوي فروض وليسوا بعصبات فلا نفقة لهم ولا علهيم إن لم يكونوا من جهة الاصول والفروع وذلك لضعف قرابتهم وعدم النص في شأنهم من قران وسنة، وقد توسع ابن حزم فقال: إنه يجبر القادر على النفقة على المحتاج من أبويه وأجداده وإن علوا، وعلى البنين والبنات وبنيهم وإن سفلوا. وعلى الاخوة والاخوات والزوجات. كل هؤلاء يسوي بينهم في إيجاب النفقة ولا يقدم منهم


[ 564 ]

أحد على أحد. فإن فضل هؤلاء عن هؤلاء بعد كسوتهم ونفقتهم شئ أجبر على النفقة على ذوي رحمه المحرمة ومورثيه (1) إن كان من ذكرنا لا شئ لهم ولا عمل بأيديهم تقوم مؤونتهم منه. وهم الاعمام والعمات وإن علوا والاخوال والخالات وان علوا وبنو الاخوة وان سفلوا ومن قدر من كل هؤلاء على معاش وتكسب وان كان خسيسا فلا نفقة له إلا الابوين والاجداد والجدات والزوجات فانه يكلف أن يصونهم عن خسيس الكسب وإن قدر على ذلك. ويباع عليه في كل ما ذكرنا ما به عنه غنى من عقاره وعروضه وحيوانه. نفقة الحيوان: يجب على الشخص أن ينفق على بهائمه وحيوانه ويقدم لها ما يقيم حياتها من طعام وشراب. فإن لم يفعل أجبره الحاكم على النفقة عليها أو على بيعها أو على ذبحها. فإن لم يفعل تصرف الحاكم بما هو أصلح. 1 – عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هامش) (1) أي من يرثهم لو ماتوا عن مال يورث عنهم. (.)


[ 565 ]

” عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الارض “. 2 – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملا خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له “. قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: ” في كل كبد رطبة أجر “.


[ 566 ]

الحجر تعريفه: الحجر في اللغة: التضييق والمنع ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن قال: ” اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا: ” لقد حجرت واسعا يا أعرابي “. ومعناه في الشرع: منع الانسان من التصرف في ماله. أقسامه: والحجر ينقسم قسمين: الاول: الحجر لحق الغير مثل: الحجر على المفلس فإنه يمنع من التصرف في ماله محافظة على حقوق الغرماء. فقد حجر الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ وباع ماله في دينه – رواه سعيد بن منصور. والثاني: الحجر لحفظ النفس مثل: الحجر على الصغير والسفيه والمجنون فإن في الحجر على هؤلاء مصلحة تعود عليهم بخلاف المفلس.


[ 567 ]

الحجر على المقاس المفلس هو الذي لا يملك مالا ولا يملك ما يدفع به حاجته وبلغ به الفقر إلى الحالة التي يقال عنه فيها ليس معه فلس. وسمي مفلسا وإن كان ذا مال لان ماله مستحق للغرماء، فكأنه معدوم لا وجود له ويعرف الفقهاء: بأنه الشخص الذي كثر دينه ولم يجد وفاء له فحكم الحاكم بإفلاسه. مما طلة القادر على الوفاء: القادر على الوفاء إن ماطل ولم يف بالدين الذي حل أجله يعتبر ظالما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” مطل الغني ظلم ” وبهذا الحديث استدل جمهور العلماء على ان المطل مع الغنى كبيرة، ويجب على الحاكم أن يأمره بالوفاء، فإن أبى حبسه متى طلب الدائن ذلك: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” لي الواجد يحل عرضه (1) وعقوبته (2) “. قال ابن المنذر: (هامش) (1) عرضه: شكواه. (2) عقوبته: حبسه. (.)


[ 568 ]

” أكثر من نحفظ عنه من علماء الامصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين. وكان عمر بن عبد العزيز يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس. وبه قال الليث: فإن أصر على عدم قضاء الدين ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضى رب المال دفعا للضرر عنه. الحجر على المفلس وبيع ماله: ومن له مال ولكنه لا يفي بديونه فإنه يجب على الحاكم أن يحجر عليه متى طلب الغرماء أو بعضهم ذلك منه حتى لا يضر بهم. وله أن يبيع ماله إذا امتنع عن بيعه ويقع بيعه صحيحا لانه يقوم مقامه. وأصل هذا ما رواه سعيد بن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك، مرسلا، قال: ” كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا. فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه. فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله


[ 569 ]

حتى قام معاذ بغير شئ “. وفي نيل الاوطار: ” استدل بالحجر على معاذ على أنه يجوز الحجر على كل مدين. وعلى أنه يجوز للحاكم بيع مال المدين لقضاء دينه من غير فرق بين من كان ماله مستغرقا بالدين ومن لم يكن ماله كذلك ” ا. ه‍ ومتى تم الحجر عليه فإن تصرفه لا ينفذ في أعيان ماله لان هذا هو مقتضى الحجر، وهو قول مالك وأظهر قولي الشافعي. ويقسم المال بالحصص على الغرماء الحاضرين الطالبين الذين حلت آجال حقوقهم فقط لا يدخل فيهم حاضر لا يطلب ولا غائب لم يوكل. ولا حاضر أو غائب لم يحل أجل حقه طلب أو لم يطلب. وهذا ما ذهب إليه أحمد وهو أصح قولي الشافعي. وعند مالك يحل الدين بالحجر إذا كان مؤجلا. أما الميت المفلس فإنه يقضي لكل من حضر أو غاب، طلب أو لم يطلب، ولكل ذي دين سواء أكان الدين حالا أم مؤجلا. ويقدم حق الله كالزكاة والكفارات على حق العباد


[ 570 ]

لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” فإن دين الله أحق بالقضاء “. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الحجر على المدين ولا بيع ماله بل يحبسه الحاكم حتى يقضي. والرأي الاول أرجح لموافقته للحديث. الرجل يجد ماله عند المفلس: إذا وجد الرجل ماله عند المفلس فله عدة صور نذكرها فيما يلي: 1 – من وجد ماله بعينه عند المفلس فانه أحق به من سائر الغرماء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” من أدرك ماله بعينه (1) عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره ” رواه البخاري ومسلم. 2 – إذا تغير المال بالزيادة أو النقص فإنه ليس صاحبه أولى به بل يكون أسوة الغرماء (أي مثل الغرماء). 3 – إذا باع المال وقبض بعض الثمن فإنه يكون أسوة الغرماء وليس له حق في استرجاع المبيع عند الجمهور. والراجح من قولي الشافعي أن البائع أولى به. 4 – إذا مات المشتري ولم يكن البائع قبض الثمن ثم (هامش) (1) لم يتغير بزيادة أو نقصان. (.)


[ 571 ]

وجد البائع ما باعه فهو أولى به للحديث المتقدم. ولانه لا فرق بين الموت والافلاس. هذا عند الشافعي. وقال أبو هريرة ” لاقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به ” وهذا الحديث صححه الحاكم. لا حجر على معسر: وإنما يكون الحجر على المفلس في حالة ما إذا لم يتبين إعساره. فإن تبين إعساره لا يحبس ولا يحجر عليه ولا يلازمه الغرماء بل ينظر إلى ميسرة لقول الله سبحانه: ” وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ” (1). وروى مسلم أن رجلا مدينا أصيب في ثمار ابتاعها فتصدقوا عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للغرماء: خذوا ما وجدتم وليس لكم لا ذلك “. وإنظار المعسر ثوابه مضاعف، فعن بريدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة “. (هامش) (1) سورة البقرة الاية رقم 280. (.)


[ 572 ]

ترك ما يقوم به معاشه: وإذا باع الحاكم مال المفلس من أجل الغرماء فيجب أن يترك له ما يقوم به معاشه من مسكن فلا تباع داره (1) التي لا غنى له عنها. ويترك له من المال ما يستأجر به خادما يصلح لخدمة مثله. وإن كان تاجرا يترك له ما يتجر به. وإن كان محترفا يترك له آلة الحرفة. ويجب له ولمن تلزمه نفقتهم أدنى نفقة مثلهم من الطعام والكسوة. قال الشوكاني: يجوز لاهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه إلا ما كان لا يستغنى عنه وهو المنزل وستر العورة وما يقيه البرد وسد رمقه ومن يعول. وفي شرحه لهذا الكلام ذكر حديث معاذ ثم قال: لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه أو أخرجوه من منزله أو تركه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه، ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك. 1. ه‍ الحجر على السفيه ويحجر على السفيه البالغ لسفهه وسوء تصرفه. قال الله تعالى: (هامش) (1) هذا مذهب أبى حنيفة وأحمد. وذهب الشافعي ومالك إلى أن داره تباع في هذه الحالة. (.)


[ 573 ]

” ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ” (1). دلت الاية على جواز الحجر على السفيه. قال ابن المنذر: ” أكثر علماء الامصار يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أم كبيرا ” (2). وفي نيل الاوطار: قال في البحر: ” والسفه المقتضي للحجر عند من أثبته هو صرف المال في الفسق أو فيما لا مصلحة فيه ولا غرض ديني ولا دنيوي كشراء ما يساوي درهما، بمائة لا صرفه في أكل؟ يب ولبس نفيس وفاخر المشموم لقول الله تعالى: ” قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون ” (3). (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 5. (2) قال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لما له: فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة. فإذا بلغها سلم المال إليه بكل حال، سواء أكان مفسدا أم غير مفسد. وقال مالك: إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول الحجر عنه وإن شاخ. (3) سورة الاعراف الاية رقم 32. (.)


[ 574 ]

وكذا لو أنفقه في القرب ” ا. ه‍ تصرفات السفيه: أفعال السفيه قيل الحجر عليه جائزة حتى يصدر الحكم عليه بالحجر. فإذا صدر الحكم عليه بالحجر فإن تصرفه لا يصح لان هذا هو مقتضى الحجر. فلا ينعقد له بيع ولا شراء ولا وقف، ولا يصح له إقرار. إقرار السفيه على نفسه: قال ابن المنذر: ” أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان بزنى أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل. وأن الحدود تقام عليه وإن طلق نفذ في قول الاكثر. وإن أقر بمال صح إلا أنه لا يؤخذ به إلا بعد فك الحجر عنه. إظهار الحجر على السفيه والمفلس: من المستحب إظهار الحجر على السفيه والمفلس ليعلمهما الناس فلا يخدعوا بهما ويتعاملوا معهما على بصيرة.


[ 575 ]

الحجر على الصغير وكما يحجر على السفيه لسفهه فإنه يحجر على الصغير ويمنع من تصرفه في ماله صيانة له من الضياع، ولا يمكن منه إلا بشرطين: الاول: أن يبلغ الحلم. الثاني: أن يؤنس منه الرشد. يقول الله سبحانه وتعالى: – وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم… ” (1). نزلت هذه الاية في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه إالاية. علامات البلوغ: والبلوغ يثبت بظهور علامة من العلامات الاتية: 1 – الامناء سواء أكان ذلك يقظة أم مناما، لقول الله سبحانه: (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 6. (.)


[ 576 ]

” وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ” (1) روى أبو داود عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم. وعن النائم حتى يستيقظ. وعن المجنون حتى يفيق “. وروى الامام علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يتم بعد احتلام ” رواه أبو داود. رواه البخاري. 2 – إتمام خمس عشرة سنة لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ” عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني “. فلما سمع عمر بن عبد العزيز ذلك كتب إلى عماله أن لا يتعرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يحكم لمن لا يحتلم بالبلوغ حتى يبلغ سبع عشرة سنة وفي رواية عند أبي حنيفة وهي الاشهر: (هامش) (1) سورة النور الاية رقم 59. (.)


[ 577 ]

تسع عشرة سنة. وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة. وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة. 3 – نبات الشعر حول القبل. والمقصود بالشعر الشعر الاسود المتجعد لا مطلق شعر فإنه موجود في الاطفال. ففي غزوة بني قريظة كان يعرف المرء بأنه من المقاتلة بإنبات الشعر حول قبله. وقال أبو حنيفة: لا يثبت بالانبات حكم وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه. 4 – الحيض والحمل: ويثبت البلوغ بهذه الاشياء المتقدمة. بالنسبة للذكر والانثى وتزيد الانثى بالحيض والحمل لما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار “، وأما الرشد فهو القدرة على إصلاح المال وحفظه من الضياع فلا يغبن غبنا فاحشا غاليا ولا يصرفه في حرام. وإذا بلغ الشخص غير رشيد استمرت الولاية المالية عليه حتى يؤنس منه الرشد دون تحديد سن فقه السنة – 37


[ 578 ]

معينة للانتظار وفقا لظاهر النص القرآني خلافا لابي حنيفة ويعاد الحجر عليه إذا ظهر منه سفه بعد الرشد لان ضرر السفيه كما قال الجصاص يسري إلى الكافة. فإنه إذا أفنى ماله بالتبذير كان وبالا وعيالا على الناس وبيت المال. هذا من جهة الولاية على المال. أما الولاية على النفس فإنها تنقطع عن الشخص بمجرد بلوغه عاقلا وصيرورته مكلفا. قال ابن عباس وقد سئل: متى ينقضي يتم اليتيم؟ قال: لعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الاخذ لنفسه ضعيف العطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم. وروى سعيد بن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: – ” فإن آنستم منهم رشدا ” (1). قال: العقل لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط (2) حتى يؤنس منه رشد. رفع الامر إلى الحاكم عند رفع المال إلى المحجور عليه: من العلماء من رأى شرط رفع الامر إلى الحاكم واثبات (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 6. (2) شمط: أي كبر سنه. (.)


[ 579 ]

رشده عنده ثم يدفع إليه ماله. ومنهم من رأى أن ذلك متروك إلى اجتهاد الوصي. والرأي الاول أولى في زماننا هذا. الولاية على الصغير والسفيه والمجنون. لمن تكون الولاية؟: والولاية على الصغير والسفيه والمجنون تكون للاب. فإن لم يكن الاب موجودا انتقلت الولاية إلى الوصي لانه نائبه. فإن لم يكن وصي انتقلت إلى الحاكم والجد والام وسائر العصبات لا ولاية لهم إلا بالوصية. الوصي وشروطه: الوصي هو الذي وكل إليه أمر المحجور عليه سواء أكان التوكيل من الاقارب أو من الحاكم، ويجب أن يكون مشهورا بالدين والعدالة والرشد سواء أكان رجلا أم امرأة، فقد أوصى عمر إلى حفصة رضي الله عنهما. والواجب على الوصي: أن يعمل في مال اليتيم والمحجور عليه ما ينميه ويزيد فيه. ويجوز عند الامام مالك للوصي وللاب أن يشتريا من مال اليتيم لانفسهما وأن يبيعا مال أنفسهما بمال اليتيم إذا لم يحابيا أنفسهما.


[ 580 ]

التنزه عن الولاية عند الضعف: عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا ذر، إنى أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم. الولي يأكل من مال اليتيم: يقول الله سبحانه: ” ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ” (1). أفادت هذه الاية أن الولي الغني لا حق له في مال اليتيم وأن أجر ولايته مثوبة له من الله. فإن فرض له الحاكم شيئا حل له أكله. أما إذا كان فقيرا فله أن يأخذ من ماله بالمعروف، أي المعروف في أجرة مثله لمثل العمل الذي يقوم به. قالت السيدة عائشة – رضي الله عنها – في هذه الاية: نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله إن كان فقيرا أكل بالمعروف. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شئ ولي يتيم، فقال: (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 6. (.)


[ 581 ]

كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر (1) ولا متأثل (2) “. والمراد النهي عن أخذ أكثر من أجرة مثله. النفقة على الصغير: قال الله تعالى: ” ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ” (3) قال القرطبي: ” الوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله. فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الامام (هامش) (1) أي مبادر كبر الايتام وبلوغهم الحلم. (2) أي جامع للمال. (3) سورة النساء الآية رقم 5. (.)


[ 582 ]

القيام به من بيت المال. فإن لم يفعل الامام وجب ذلك على المسلمين الاخص به فالاخص. وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به ولا ترجع عليه ولا على أحد ” ا. ه‍ هل للوصي والزوجة والخازن أن يتصدقوا بدون إذن: وليس للوصي ولا للزوجة ولا للخازن أن يتصدقوا من المال إلا بإذن صاحب المال إلا أن يكون شيئا لا يضر المال. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجر ما كسب. وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا “


[ 583 ]

الوصية تعريفها: الوصية مأخوذة من وصيت الشئ أوصيه إذا أوصلته. فالموصي وصل ما كان في حياته بعد موته. وهي في الشرع: هبة الانسان غيره عينا أو دينا أو منفعة على أن يملك الموصى له الهبة بعد موت الموصي. وعرفها بعضهم: بأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، ومن هذا التعريف يتبين الفرق بين الهبة والوصية. فالتمليك المستفاد من الهبة يثبت في الحال. أما التمليك المستفاد من الوصية فلا يكون إلا بعد الموت. هذا من جهة ومن جهة اخرى، فالهبة لا تكون إلا بالعين. والوصية تكون بالعين وبالدين وبالمنفعة. مشروعيتها: وهي مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع.


[ 584 ]

ففي الكتاب يقول الله سبحانه: ” كتب (1) عليكم إذا حضر (2) أحدكم الموت إن ترك خيرا (3) الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف (4) حقا على المتقين ” (5). ويقول جل شأنه: “… من بعد وصية يوصي بها أو دين… ” (6). ويقول عز وجل: ” يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم… ” (7) وجاء في السنة الاحاديث الاتية: 1 – روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ” ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه، يبيت ليلتين (8) (هامش) (1) أي فرض. (2) أي وجدت أسبابه. (3) المال. (4) المعروف: الذي لا ظلم فيه للورثة. (5) سورة البقرة الاية رقم 180. (6) سورة النساء الاية رقم 11. (7) سورة المائدة الاية رقم 106. (8) للتقريب لا للتحديد. (.)


[ 585 ]

إلا ووصيته مكتوبة عنده “. قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. ومعنى الحديث أن الحزم هو هذا فقد يفاجئه الموت. قال الشافعي: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، إذا كان له شئ يريد أن يوصي فيه لانه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك. 2 – وروى أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما الثار ثم قرأ أبو هريرة. ” من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضاروصية من الله والله عليه حليم ” (1). 3 – وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هامش) (1) سورة النساء الاية رقم 12. (.)


[ 586 ]

” من مات على وصية مات على سبيل وسنة ومات على تقى وشهادة ومات مغفورا له “. وقد أجمعت الامة على مشروعية الوصية. وصية الصحابة. لقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الاعلى ولم يوص لانه لم يترك مالا يوصى به. روى البخاري عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص. قال العلماء في تعليل ذلك: لانه لم يترك بعده مالا. وأما الارض فقد كان سبلها، وأما السلاح والبغلة فقد أخبر أنها لا تورث. ذكره النووي. أما الصحابة فقد كانوا يوصون ببعض أموالهم تقربا إلى الله. وكانت لهم وصية مكتوبة لمن بعدهم من الورثة. أخرج عبد الرازق بسند صحيح أن أنسا رضي الله عنه قال: كانوا (1) يكتبون في صدور وصاياهم: (هامش) (1) أي الصحابة. (.)


[ 587 ]

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به ابرهيم بنيه ويعقوب: ” إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون “. حكمتها: جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم فضعوها حيث شئتم أو حيث أحببتم “. والحديث ضعيف. أفاد هذا الحديث أن الوصية قربة يتقرب بها الانسان إلى الله عز وجل في آخر حياته كي تزداد حسناته أو يتدارك بها ما فاته، ولما فيها من البر بالناس والمواساة لهم. حكمها: أما حكمها أي وصفها الشرعي من حيث كونها


[ 588 ]

مطلوبة الفعل أو الترك (1) فقد اختلف العلماء فيه إلى عدة آراء نجملها فيما يلي: الرأي الاول: يرى أن الوصية واجبة على كل من ترك مالا سواء أكان المال قليلا أم كثيرا، قاله الزهري وأبو مجلز. وهذا رأي ابن حزم وروى الوجوب عن ابن عمر وطلحة والزبير وعبد لله بن أبي أوفى وطلحة بن مطرف وطاوس والشعبي قال: وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا. واستدلوا بقول الله تعالى: ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ” (2). الرأي الثاني: يرى أنها تجب للوالدين والاقربين الذين لا يرثون الميت. وهذا مذهب مسروق وإياس وقتادة وابن جرير والزهري. (هامش) (1) أما حكمها من حيث أثرها المترتب عليها فهو الملك للموصى له للموصى به متى مات الموصي. (2) سورة البقرة الاية رقم 180. (.)


[ 589 ]

الرأي الثالث: وهو قول الائمة الاربعة والزيدية أنها ليست فرضا على كل من ترك مالا كما في الرأي الاول. ولا فرضا للوالدين والاقربين غير الوارثين كما هو الرأي الثاني وإنما يختلف حكمها باختلاف الاحوال. فقد تكون واجبة أو مندوبة أو محرمة أو مكروهة أو مباحة. وجوبها: فتجب في حالة ما إذا كان على الانسان حق شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به: كوديعة ودين لله أو لادمي، مثل أن يكون عليه زكاة لم يؤدها أو حج لم يقم به أو تكون عنده أمانة تجب عليه أن يخرج منها أو يكون عليه دين لا يعلمه غيره أو يكون عنده وديعة بغير إشهاد. استحبابها: وتندب في القربات وللاقرباء الفقراء وللصالحين من الناس. حرمتها: وتحرم إذا كان فيها اضرار بالورثة. روى عبد الرازق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا


[ 590 ]

أوصى جاف (1) في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة. قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم: ” تلك حدود الله فلا تعتدوها ” (2). روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح قال ابن عباس: ” الاضرار في الوصية من الكبائر “. ورواه النسائي مرفوعا ورجاله ثقات. [ ومثل هذه الوصية التي يقصد بها الاضرار باطلة ولو كانت دون الثلث ]. وتحرم كذلك إذا أوصى بخمر أو ببناء كنيسة أو دار للهو. كراهتها: وتكره إذا كان الموصي قليل المال وله وارث أو ورثة يحتاجون إليه، كما تكره لاهل الفسق متى علم أو غلب على ظنه أنهم سيستعينون بها على الفسق والفجور. فإذا علم الموصي أو غلب على ظنه أن الموصى له سيستعين بها على الطاعة فإنها تكون مندوبة. (هامش) (1) جاف: جار. (2) سورة البقرة الاية رقم 229. (.)


[ 591 ]

إباحتها: وتباح إذا كانت لغني سواء أكان الموصى له قريبا أم بعيدا. ركنها: وركنها الايجاب من الموصي. والايجاب يكون بكل لفظ يصدر منه متى كان هذا اللفظ دالا على التمليك المضاف إلى ما بعد الموت بغير عوض مثل: أوصيت لفلان بكذا بعد موتي أو وهبت له ذلك أو ملكته بعدي. وكما تنعقد الوصية بالعبارة تنعقد كذلك بالاشارة المفهمة متى كان الموصي عاجزا عن النطق كما يصح عقدها بالكتابة. ومتى كانت الوصية غير معينة بأن كانت للمساجد أو الملاجئ أو المدارس أو المستشفيات فإنها لا تحتاج إلى قبول بل تتم بالايجاب وحده لانها في هذه الحال تكون صدقة، أما إذا كانت الوصية لمعين بالشخص فإنها تفتقر إلى قبول الموصى له بعد الموت أو قبول وليه إن كان الموصى له غير رشيد. فإن قبلها تمت وإن ردها بعد الموت بطلت الوصية وبقيت على ملك ورثة الموصي. والوصية من العقود الجائزة التي يصح فيها للموصي أن يغيرها أو يرجع عما شاء منها أو يرجع عما أوصى به.


[ 592 ]

والرجوع يكون صراحة بالقول كأن يقول: رجعت عن الوصية. ويكون دلالة بالفعل مثل تصرفه في الموصى به تصرفا يخرجه عن ملكه مثل أن يبيعه. متى تستحق الوصية: ولا تستحق الوصية للموصى له إلا بعد موت الموصي وبعد سداد الديون. فإذا استغرقت الديون التركة كلها فليس للموصى له شئ لقول الله تعالى: ” من بعد وصية يوصى بها أو دين “. الوصية المضافة أو المعلقة بالشرط: وتصح الوصية المضافة أو المعلقة بالشرط أو المقترنة به متى كان الشرط صحيحا. والشرط الصحيح: هو ما كان فيه مصلحة للموصي أو الموصى له أو لغيرهما ولم يكن منهيا عنه ولا منافيا لمقاصد الشريعة. ومتى كان الشرط صحيحا وجبت مراعاته ما دامت المصلحة منه قائمة. فإن زالت المصلحة المقصودة منه أو كان غير صحيح لم تجب مراعاته.


[ 593 ]

شروطها: الوصية تقتضي موصيا وموصى له وموصى به، ولكل شروط نذكرها فيما يلي: شروطالموصي: يشترط في الموصي أن يكون أهلا للتبرع بأن يكون كامل الاهلية. وكمال الاهلية بالعقل والبلوغ والحرية والاختيار وعدم الحجر لسفه أو غفلة، فإن كان الموصي ناقص الاهلية بأن كان صغيرا أو مجنونا أو عبدا أو مكرها أو محجورا عليه فإن وصيته لا تصح. ويستثنى من ذلك أمران: 1 – وصية الصغير المميز الخاصة بأمر تجهيزه ودفنه مادامت في حدود المصلحة. 2 – وصية المحجور عليه للسفه في وجه من وجوه الخير مثل تعليم القرآن وبناء المساجد وإقامة المستشفيات. ثم إن كان له وارث وأجازها الورثة نفذت من كل ماله. وكذا إذا لم يكن له وارث أصلا. وأما إن كان له ورثة ولم يجيزوا هذه الوصية فإنها


[ 594 ]

تنفذ من ثلث ماله فقط، وهذا مذهب الاحناف. وخالف في ذلك الامام مالك فأجاز وصية ضعيف العقل والصغير الذي يعقل معنى التقرب إلى الله تعالى قال: ” الامر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائة ماضية “. وقد أجاز القانون في مصر وصية السفيه وذوي الغفلة إذا أذنت بها الجهة القضائية المختصة. يشروط الموصى له: يشترط في الموصى له الشروط الاتية: 1 – ان لا يكون وارثا للموصي. روى أصحاب المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: ” لا وصية لوارث “. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. وهذا الحديث وان كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول وأجمعت العامة على القول به.


[ 595 ]

وفي رواية: ” إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث. وأما آية ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين “. فقد قال الجمهور من العلماء بنسخها. وقال الشافعي: إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث فاحتمل أن تكون آية الوصية باقية مع الميراث. واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصايا. وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى عنه أصحاب المغازي أنه قال عام الفتح: ” لا وصية لوارث ” ا. ه‍ واتفقوا على اعتبار كون الموصى له وارثا يوم الموت حتى لو أوصى لاخيه الوارث حيث لا يكون للموصي ابن ثم ولد له ابن قبل موته صحت الوصية للاخ المذكور ولو أوصى لاخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث.


[ 596 ]

– ومذهب الاحناف أن الموصى له إذا كان معينا يشترط لصحة الوصية له أن يكون موجودا وقت الوصية تحقيقا أو تقديرا. أي يكون موجودا بالفعل وقت الوصية أو يكون مقدرا وجوده أثناءها. كما إذا أوصى لحمل فلانة. وكان الحمل موجودا وقت ايجاب الوصية. أما إذا لم يكن الموصى له معينا بالشخص فيشترط أن يكون موجودا وقت موت الموصي تحقيقا أو تقديرا. فإذا قال الموصي: أوصيت بداري لاولاد فلان ولم يعين هؤلاء الاولاد، ثم مات ولم يرجع عن الوصية. فإن الدار تكون مملوكة للاولاد الموجودين وقت موت الموصي سواء منهم الموجود حقيقة أو تقديرا كالحمل، ولو لم يكونوا موجودين وقت إيجاب الوصية. ويتحقق من وجود الحمل وقت الوصية أو وقت موت الموصي متى ولد لاقل من ستة أشهر من وقت الوصية أو من وقت موت الموصي. وقال الجمهور من العلماء: إن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي انها تصح وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه


[ 597 ]

وارثا للميت “. وخالف في ذلك أبو ثور، أفاده الشوكاني في نيل الاوطار. 3 – ويشترط أن لا يقتل الموصى له الموصي قتلا محرما مباشرا. فإذا قتل الموصى له الموصي قتلا محرما مباشرا بطلت الوصية له لان من تعجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه. وهذا مذهب أبي يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد لا تبطل الوصية وتتوقف على إجازة الورثة. شروط الموصى به: يشترط في الموصى به أن يكون بعد موت الموصي قابلا للتمليك بأي سبب من أسباب الملك، فتصح الوصية بكل مال متقوم من الاعيان ومن المنافع. وتصح الوصية بما يثمره شجره وبما في بطن بقرته لانه يملك بالارث فما دام وجوده محققا وقت موت الموصي استحقه الموصى له. وهذا بخلاف ما إذا أوصى بمعدوم. وتصح الوصية بالدين وبالمنافع كالسكن وبالوصية بالحلو. ولا تصح بما ليس بمال كالميتة. وما ليس متقوما في


[ 598 ]

حق العاقدين كالخمر للمسلمين. مقدار المال الذي تستحب الوصية فيه: قال ابن عبد البر: ” اختلف السلف في مقدار المال الذي يستحب فيه الوصية أو يجب عند من أوجبها. فروي عن علي أنه قال: ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية وروي عنه ألف درهم مال فيه وصية. وقال ابن عباس: لا وصية في ثمانمائة درهم وقالت عائشة: في امرأة لها أربعة من الولد ولها ثلاثة آلاف درهم لا وصية في مالها. وقال ابراهيم النخعي: ألف درهم إلى خمسمائة درهم. وقال قتادة في قوله ” إن ترك خيرا ” ألفا فما فوقها وعن علي: من ترك مالا يسيرا فليدعه لورثته فهو أفضل وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة درهم لم يترك خيرا فلا يوصي ” ا. ه‍ الوصية بالثلث: وتجوز الوصية بالثلث ولا تجوز الزيادة عليه، والاولى أن ينقص عنه، وقد استقر الاجماع على ذلك.


[ 599 ]

روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا بمكة – وهو يكره أن يموت بالارض التي هاجر منها – قال: يرحم الله ابن عفراء – قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر (1)؟ قال: لا. قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير، إنك إن تدع (2) ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة (3) يتكففون (4) الناس في ايديهم، وانك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في (5) في امرتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك أناس ويضر بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة ” (6) الثلث يحسب من جميع المال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الثلث يحسب من جميع (هامش) (1) الشطر: النصف. (2) تدع: تترك. (3) عالة: فقراء. (4) يتكففون الناس: يبسطون للسؤال أكفهم. (5) في: الفم. (6) كان هذا قبل أن يولد له الذكور. وقد ولد له بعد ذلك أربعة بنين – ذكره الواقدي، وقيل: أكثر من عشرة ومن البنات ثنتا عشرة بنتا. (.)


[ 600 ]

المال الذي تركه الموصي وقال مالك: يحسب الثلث مما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدد له ولم يعلم به. وهل المعتبر الثلث حال الوصية أو عند الموت؟ ذهب مالك والنخعي وعمر بن عبد العزيز أو المعتبر ثلث التركة عند الوصية. وذهب أبو حنيفة وأحمد والاصح من قولي الشافعية إلى اعتبار الثلث حال الموت. وهو قول علي وبعض التابعين. الوصية بأكثر من الثلث: الموصي إما أن يكون له وارث أو لا. فإن كان له وارث فإنه لا يجوز له الوصية بأكثر من الثلث كما تقدم، فإن أوصى بالزيادة على الثلث فإن وصيته لا تنفذ إلا بإذن الورثة، ويشترط لنفاذها شرطان: 1 – ان تكون بعد موت الموصي لانه قبل موته لم يثبت للمجيز حق فلا تعتبر إجازته، وإذا أجازها أثناء الحياة كان له الرجوع عنها متى شاء. وإن أجازها بعد الحياة نفذت الوصية. وقال الزهري وربيعة: ليس له الرجوع مطلقا. 2 – أن يكون المجيز وقت الاجازة كامل الاهلية غير محجور عليه لسفه أو غفلة.


[ 601 ]

وإن لم يكن له وارث فليس له أن يزيد على الثلث أيضا. وهذا عند جمهور العلماء. وذهب الاحناف واسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، إلى جواز الزيادة على الثلث. لان الموصي لا يترك في هذه الحال من يخشى عليه الفقر، ولان الوصية جاءت في الاية مطلقة. وقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على إطلاقه. وبطلان الوصية: وتبطل الوصية بفقد شرط من الشروط المتقدمة كما تبطل بما يأتي: 1 – إذا جن الموصي جنونا مطبقا واتصل الجنون بالموت (1). 2 – إذا مات الموصى له قبل موت الموصي. 3 – إذا كان الموصى به معينا وهلك قبل قبول الموصى له. (هامش) (1) الجنون المطبق هو الجنون الذي يستمر سنة عنه محمد، وقال أبو يوسف: هو الذي يستمر شهرا وعليه الفتوى. (.)


[ 602 ]

الفرائض تعريفها: الفرائض جمع فريضة، والفريضة مأخوذة من الفرض بمعنى التقرير، يقول الله سبحانه: ” فنصف ما فرضتم ” أي قدرتم. والفرض في الشرع هو النصيب المقدر للوارث ويسمى العلم بها علم الميراث وعلم الفرائض. مشروعيتها: كان العرب في الجاهلية قبل الاسلام يورثون الرجال دون النساء. والكبار دون الصغار وكان هناك توارث بالحلف. فأبطل الله ذلك كله وأنزل: ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس من بعد وصية


[ 603 ]

يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضا من الله إن الله كان عليما حكيما ” سورة النساء، الاية رقم 11. سبب نزول الاية: وسبب نزول هذه الاية ما جاء عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا. وان عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا بمال. فقال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية المواريث. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: اعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ” رواه الخمسة إلا النسائي. فضل العلم بالفرائض: 1 – عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1 – ” تعلموا القرآن وعلموه الناس. وتعلموا الفرائض وعلموها فإني امرئ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك ان يختلف اسمان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدا يخبرهما “


[ 604 ]

ذكره أحمد. 2 – وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ” رواه أبو داود وابن ماجه. 3 – وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول شئ ينزع من امتي ” رواه ابن ماجه والدارقطني. التركة تعريفها: التركة هي ما يتركه الميت من الاموال مطلقا (1) – ويقرر هذا ابن حزم فيقول: ” إن الله أوجب الميراث فيما يخلفه الانسان بعد موته من مال لا فيما ليس بمال، وأما الحقوق فلا يورث منها إلا ما كان تابعا للمال أو في معنى المال، مثل حقوق لارتفاق والتعلي وحق البقاء في الارض المحتكرة للبناء الغرس وهي عند المالكية والشافعية والحنابلة تشمل جميع يتركه الميت من أموال وحقوق سواء أكانت الحقوق (هامش) (1) هذا تعريف الاحناف. (.)


[ 605 ]

مالية أم غير مالية. الحقوق المتعلقة بالتركة: الحقوق المتعلقة بالتركة أربعة: وهي كلها ليست بمنزلة واحدة بل بعضها أقوى من بعض فيقدم على غيره في الاخراج من التركة على الترتيب الاتي: 1 – الحق الاول: يبدأ من تركة الميت بتكفينه وتجهيزه على النحو الذي سبق ذكره في باب الجنائز. 2 – الحق الثاني: قضاء ديونه. فابن حزم والشافعي يقدمون ديون الله كالزكاة والكفارات على ديون العباد. والحنفية يسقطون ديون الله بالموت فلا يلزم الورثة اداؤها إلا إذا تبرعوا بها أو أوصى الميت بأدائها. وفي حالة الايصاء بها تصير كالوصية لاجنبي يخرجها الوارث أو الوصي من ثلث الفاضل بعد التجهيز وبعد دين العباد. هذا إذا كان له وارث فإذا لم يكن له وارث فتخرج من الكل. والحنابلة يسوون بينها، كما نجد أنهم جميعا اتفقوا على أن ديون العباد العينية (1) مقدمة على ديونهم المطلقة. 3 – الحق الثالث: – تنفيذ وصيته من ثلث الباقي (هامش) (1) الدين العيني هو الذي تعلق بعين المال. (.)


[ 606 ]

بعد قضاء الدين. 4 – الحق الرابع: – تقسيم ما بقي من ماله بين الورثة. أركان الميراث الميراث يقتضي وجود ثلاثة أشياء: 1 – الوارث: وهو الذي ينتمي إلى الميت بسبب من أسباب الميراث. 2 – المورث: وهو الميت حقيقة أو حكما مثل المفقود الذي حكم بموته. 3 – الموروث: ويسمى تركة وميراثا. وهو المال أو الحق المنقول من المورث إلى الوارث. أسباب الارث: يستحق الارث بأسباب ثلاثة: 1 – النسب الحقيقي (1): – لقول الله سبحانه ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ” سورة الانفال. 2 – النسب الحكمي (2): – لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (هامش) (1) القرابة الحقيقية. (2) هو الولاء وهو القرابة الحاصلة بسبب العتق ويسمى ولاء العتاق أو القرابة الحاصلة بسبب الموالاة. ويسمى ولاء المولاة. وهو عقد بين شخصين أحدهما ليس له وارث نسبي فيقول للاخر: أنت مولاي أو أنت وليي ترثني إذا مت وتعقل عني إذا جنيت أي تدفع عني الدية الشرعية إذا وقع مني جناية خطأ من قتل فما دونه، فهذا العقد يثبت الولاء بين المتعاقدين وولاء المولاة يعتبر سببا في الارث عند أبي حنيفة ولا يعتبر سببا عند جمهور العلماء وإلى رأي الجمهور جنح القانون. (.)


[ 607 ]

” الولاء لحمة كلحمة النسب ” رواه ابن حبان والحاكم وصححه. 3 – الزواج الصحيح: – لقول الله سبحانه: ” ولكم نصف ما ترك أزواجكم “. شروط الميراث: – يشترط للارث شروط ثلاثة: 1 – موت المورث حقيقة أموته حكما كأن يحكم القاضي بموت المفقود فهذا الحكم يجعله كمن مات حقيقة، أو موته تقديرا، كأن يعتدي شخص على امرأة حامل بالضرب فتسقط جنينا ميتا فتقدر حياة هذا السقط وان لم تتحقق بعد. 2 – حياة الوارث بعد موت المورث ولو حكما، كالحمل، فإنه حي في الحكم ليس إلا لجواز أن يكون الروح لم ينفخ فيه بعد. فإذا لم تعلم حياة الوارث بعد موت المورث كالغرقى والحرقى والهدمي فإنه لا توارث بينهم إذا كانوا ممن يرث بعضهم بعضا ويقسم مال كل منهم على ورثته الاحياء. 3 – ألا يوجد مانع من موانع الارث الاتية: موانع الارث: – الممنوع من الارث هو الشخص الذي توفر له سبب الارث ولكنه اتصف بصفة سلبت عنه


[ 608 ]

أهلية الارث. ويسمى هذا الشخص محروما. والموانع أربعة: 1 – الرق: سواء أكان تاما أم ناقصا. 2 – القتل العمد المحرم: فإذا قتل الوارث مورثه ظلما فإنه لا يرثه اتفاقا لما رواه النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” ليس للقاتل شئ “. وما عدا القتل العمد العدوان فقد اختلف العلماء فيه، فقال الشافعي: كل قتل يمنع من الميراث ولو من صغير أو مجنون ولو كان بحق كحد أو قصاص. وقالت المالكية: إن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد العدوان سواء أكان مباشرة أم سببا وأخذ القانون بهذا المذهب في المادة الخامسة منه ونصها: ” من موانع الارث قتل المورث عمدا سواء أكان القاتل فاعلا أصليا أم شريكا أم كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالقتل وتنفيذه إذا كان القتل بلا حق ولاعذر، وكان القاتل عاقلا بالغا من العمر خمس عشرة سنة ويعد من الاعذار تجاوز حق الدفاع الشرعي. 3 – اختلاف الدين: فلا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم لما رواه الاربعة عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” لا يرث المسلم الكافر ولا يرث


[ 609 ]

الكافر المسلم “. وحكي عن معاذ ومعاوية وابن المسيب ومسروق والنخعي: أن المسلم يرث الكافر ولاعكس، كما يتزوج المسلم الكافرة ولا يتزوج الكافر المسلمة. أما غير المسلمين فإن بعضهم يرث بعضا. لانهم يعتبرون أهل ملة واحدة. 4 – اختلاف الدارين: (أي الوطن) المراد باختلاف الدارين اختلاف الجنسية واختلاف الدارين لا يكون مانعا من التوارث بين المسلمين فالمسلم يرث المسلم مهما نأت الديار وتعددت الاقطار، وأما اختلاف الدارين بين غير المسلمين فقد اختلف فيه: هل هو مانع من التوارث بينهم أم لا؟ فالجمهور من العلماء على أنه لايمنع من التوارث بين غير المسلمين، كما لايمنع التوارث بين المسلمين. قال في المغني: وقياس المذهب عندي أن الملة الواحدة يتوارثون وان اختلفت ديارهم لان العمومات من النصوص تقتضي توريثهم ولم يرد بتخصيصهم نص ولا اجماع، ولا يصح قياس فيجب العمل بعمومها. وقد أخذ القانون بهذ الافي صورة واحدة أخذ فيها برأي أبي حنيفة وهي ما إذا كانت شريعة الدولة الاجنبية تمنع توريث غير رعاياها فمنع


[ 610 ]

القانون توريث رعايا هذه الدولة الاجنبية المانعة، فعامله بالمثل في التوريث، ففي المادة السادسة من القانون النص الاتي: (واختلاف الدارين لايمنع من الارث بين المسلمين ولا يمنع بين غير المسلمين إلا إذا كانت شريعة الدار الاجنبية تمنع من توريث الاجنبي عنها “.


[ 611 ]

المستحقون للتركة المستحقون للتركة يرتبون على النحو التالي في المذهب الحنفي: 1 – أصحاب الفروض 2 – العصبة النسبية 3 – العصبة السببية 4 – الرد على ذوي الفروض 5 – ذوو الارحام 6 – مولى الموالاة 7 – المقر له بالنسب على الغير 8 – الموصى له باكثر من الثلث 9 – بيت المال أما ترتيب المستحق للتركة في قانون المواريث المعمول به في مصر فعلى النحو التالي: – 1 – أصحاب الفروض


[ 612 ]

2 – العصبة النسبية 3 – الرد على ذوي الفروض 4 – ذوو الارحام 5 – الرد على أحد الزوجين 6 – العصبة السببية 7 – المقر له بالنسب على الغير 8 – الموصى له بجميع المال 9 – بيت المال 1 – اصحاب الفروض أصحاب الفروض هم الذين لهم فرض – أي نصيب – من الفروض الستة المعينة لهم وهي 2 / 1، 4 / 1، 8 / 1، 3 / 2، 3 / 1، 6 / 1. وأصحاب الفروض اثنا عشر: أربعة من الذكور وهم الاب والجد الصحيح وإن علا والاخ لام والزوج. وثمان من الاناث وهن الزوجة والبنت والاخت الشقيقة والاخت والاخت لام الابن والام والجدة الصحيحة وإن علت. وفيما يلي بيان نصيب كل منهم مفصلا: أحوال الاب يقول الله سبحانه وتعالى ” ولابويه لكل واحد منهما


[ 613 ]

السدسد مما ترك إن كان له ولد (1) فإن لم يكن ولد وورثه أبواه فلامه الثلث “. للاب ثلاثة أحوال: حالة يرث فيها بطريق الفرض وحالة يرث فيها بالتعصيب. وحالة يرث فيها بالفرض والتعصيب معا. الحالة الاولى: يرث فيها بطريق الفرض إذا كان معه فرع وارث مذكر منفردا أو مع غيره، وفي هذه الحالة فرضه السدس. الحالة الثانية: يرث فيها بطريق التعصيب إذا لم يكن مع الميت فرع وارث مذكرا كان أم مؤنثا فيأخذ كل التركة إذا انفرد أو الباقي من أصحاب الفروض إن كان معه أحد منهم. الحالة الثالثة: يرث فيها بطريق الفرض والتعصيب معا، وذلك إذا كان معه فرع وارث مؤنث. وفي هذه الحال يأخذ السدس فرضا ثم يأخذ الباقي من أصحاب الفروض تعصيبا. أحوال الجد الصحيح الجد منه صحيح ومنه جد فاسد. (هامش) (1) المراد بالولد الفرع الوارث مذكرا كان أم مؤنثا، ويفهم من النص على نصيب الام والسكوت عن الاب عند عدم الفرع الوارث أن للاب الباقي (.)


[ 614 ]

فالجد الصحيح هو الذي يمكن نسبته إلى الميت بدون دخول انثى مثل أب الاب. والجد الفاسد هو الذي لا ينسب إلى الميت الا بدخول الانثى كأب الام. والجد الصحيح ارثه ثابت بالاجماع، فعن عمران ابن حصين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس. فلما أدبر دعاه فقال: لك السدس فلما أدبر دعاه فقال: لك سدس آخر. فلما أدبر دعاه فقال: إن السدس الاخر طعمة ” رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. ويسقط إرث الجد الصحيح بالاب عند وجوده، ويقوم مقامه عند فقده إلا في أربعة مسائل: 1 – أم الاب لا ترث مع وجود الاب لانها تدلي به وترث مع وجود الجد: 2 – إذا ترك الميت أبوين وأحد الزوجين فللام ثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين، أما إذا وجد مكان الاب جد فللام ثلث الجميع، وهذه تسمى بالمسألة العمرية لقضاء عمر فيها، وتسمى أيضا بالغرائية لشهرتها كالكوكب الاغر. وخالف في ذلك ابن عباس فقال: إن الام تأخذ


[ 615 ]

ثلث الكل لقوله تعالى ” فلامه الثلث “. 3 – إذا وجد الاب حجب الاخوة والاخوات الاشقاء والاخوة والاخوات لاب، أما الجد فإنهم لا يحجبون به. وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومالك، وقال أبو حنيفة: يحجبون بالجد كما يحجبون بالاب لا فرق بينهما. وقد أخذ قانون المواريث بالرأي الاول ففي مادة (22) النص الاتي: ” إذا اجتمع الجد مع الاخوة والاخوات لابوين أو لاب كانت له حالتان: الاولى: أن يقاسمهم كأخ ان كانوا ذكورا فقط، أو ذكورا وإناثا أو إناثا عصبن مع الفرع الوارث من الاناث. الثانية: أن يأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض بطريق التعصيب إذا كان مع أخوات لم يعصبن بالذكور أو مع الفرع من الاناث. على أنه إذا كانت المقاسمة أو الارث التعصيب على الوجه المتقدم تحرم الجد من الارث أو تنقصه إعتبر صاحب فرض بالسدس ولا يعتبر في المقاسمة من كان محجوبا من الاخوة أو الاخوات لاب. حالات الاخ لام قال تعالى ” وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله


[ 616 ]

أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ” (1). فالكلالة من لا والد له ولا ولد ذكرا أو أنثى والمقصود بالاخ أو الاخت هنا الاخوة لام ويتبين من الاية أن لهم أحوالا ثلاثة: 1 – أن السدس للشخص الواحد سواء أكان ذكرا أم أنثى. 2 – أن الثلث للاثنين فأكثر يستوي فيه الذكور والاناث. 3 – لا يرثون شيئا مع الفرع الوارث كالولد وولد الابن ولا مع الاصل الوارث المذكر كالاب والجد فلا يحجبون بالام أو الجدة. حالات الزوج قال الله سبحانه: ” ولكم نصف ما ترك أزواجكم ان لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن “. ذكرت هذه الاية أن للزوج حالتين: الحالة الاولى: يرث فيها النصف وذلك عند عدم وجود الفرع الوارث، وهو الابن وان نزل. والبنت. وبنت (هامش) (1) سورة النساء. آية 12 (.)


[ 617 ]

الابن وإن نزل أبوها، سواء أكان منه أم من غيره. الحالة الثانية: يرث فيها الربع عند وجود الفرع الوارث (1). أحوال الزوجة قال الله تعالى: ” ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم وله فلهن الثمن مما تركتم “. بينت الاية أن للزوجة حالتين: الحالة الاولى: استحقاق الربع عند عدم وجود الفرع الوارث سواء أكان منها أم من غيرها. الحالة الثانية: استحقاق الثمن عند وجود الفرع الوارث وإذا تعددت الزوجات اقتسمن الربع أو الثمن بينهن بالسوية. الزوجة المطلقة: – الزوجة المطلقة طلاقا رجعيا ترث من زوجها إذا مات قبل انتهاء عدتها، ويرى الحنابلة توريث المطلقة قبل الدخول والخلوة من مطلقها في مرض الموت إذا مات في مرضه ما لم تتزوج، وكذلك بعد الخلوة ما لم تتزوج وعليها عدة الوفاة. والقانون الجديد يعتبر المطلقة بائنا في مرض الموت (هامش) (1) أما الفرع غير الوارث كبنت البنت فإنها لا تنقض الزوج ولا الزوجة (.)


[ 618 ]

في حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق ومات المطلق في ذلك المرض وهي في عدته. أحوال البنت الصلبية يقول الله سبحانه: ” يوصيكم الله في أولادكم (1) للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف “. أفادت الاية أن للبنت الصلبية ثلاثة أحوال: الحالة الاولى: أن لها النصف إذا كانت واحدة. الحالة الثانية: أن الثلثين للاثنتين فأكثر إذا لم يكن معهن ابن أو أكثر. قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على ان فرض البنتين الثلثان إلا رواية شاذة عن ابن عباس. وقال ابن رشد: وقد قيل: إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور. الحالة الثالثة: أن ترث بالتعصيب إذا كان معها ابن أو أكثر فيكون الارث بالتعصيب ويكون للذكر مثل حظ الانثيين. وكذلك الحال عند تعددها أو تعدده. حالات الاخت الشقيقة يقول الله سبحانه: ” يستفتونك قل الله يفتيكم في (هامش) (1) الولد يتناول الذكر والانثى لانه مشتق من التولد (.)


[ 619 ]

الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الاثنيين ” سورة النساء – آخر آية. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” اجعلوا الاخوات مع البنات عصبة ” (1). اللاخت الشقيقة (2) خمسة أحوال: 1 – النصف للواحدة المنفردة إذا لم يكن معها ولد ولاولد ابن ولا أب ولا جد ولا أخ شقيق. 2 – الثلثان للاثنتين فصاعدا عند عدم من ذكر. 3 – إذا وجد معهن أخ شقيق مع عدم من تقدم ذكره فإنه يعصبهن ويكون للذكر مثل حظ الانثيين. 4 – يصرن عصبة مع البنات أو بنات الابن فيأخذن الباقي بعد نصيب البنات أو بنات الابن. 5 – يسقطن بالفرع الوارث المذكر كالابن وابنه (هامش) (1) الاخوة والاخوات الاشقاء يسمون بني الاعيان أي من أعيان هذا الصنف والاخوة والاخوات لام يسمون بني العلات، لانهم من نسوة ضرائر، كل منهن علة، أي ضرة للاخرى، والاخوة والاخوات لام يسمون بني الاخياف لانهم من أصلين مختلفين. (2) الاخت الشقيقة كل أخت شاركت المتوفي في الاب والام (.)


[ 620 ]

وبالاصل الوارث المذكر كالاب اتفاقا وبالجد عند أبي حنيفة خلافا لابي يوسف ومحمد وقد تقدم بيان الخلاف في ذلك. أحوال الاخوات لاب الاخوات لاب لهن أجوال ستة: – 1 – النصف للواحدة المنفردة عن مثلها وعن الاخ لاب وعن الاخت الشقيقة. 2 – الثلثان لاثنتين فصاعدا. 3 – السدس مع الاخت الشقيقة المنفردة تكملة للثلثين. 4 – ان يرثن بالتعصيب بالغير إذا كان مع الواحدة أو الاكثر أخ لاب فيكون للذكر مثل حظ الاثنيين. 5 – يرثن بالتعصيب مع الغير إذا كان مع الواحدة أو الاكثر بنت أو بنت ابن ويكون لهن الباقي بعد فرض البنت أو بنت الابن. 6 – سقوطهن بمن يأتي: – 1 – بالاصل أو الفرع الوارث المذكر. 2 – بالاخ الشقيق. 3 – بالاخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع البنت أو بنت الابن لانها في هذه الحال تقوم مقام الاخ الشقيق،


[ 621 ]

ولهذا تقدم على الاخ لاب والاخت لاب عندما تصير عصبة بالغير. 4 – بالاختين الشقيقتين: إلا إذا كان معهن في درجتهن أخ لاب فيعصبهن فيكون الباقي للذكر مثل حظ الانثيين. فإذا ترك المييت اختين شقيقتين وأخوات لاب وأخ لاب فللشقيقتين الثلثان والباقي يقسم بين الاخوات لاب والاخ لاب للذكر مثل حظ الانثيين. أحوال بنات الابن بنات الابن لهن خمسة أحوال: 1 – النصف للواحدة عند عدم ولد الصلب. 2 – الثلثان للاثنتين فصاعدا عند عدم ولد الصلب. 3 – السدس للواحدة فأكثر مع الواحدة الصلبية تكملة للثلثين إلا إذا كان معهن ابن في درجتهن فيعصبهن ويكون الباقي بعد نصيب البنت للذكر مثل حظ الانثيين. 4 – لايرثن مع وجود الابن. 5 – لا يرثن مع وجود البنتين الصلبيتين فأكثر إلا


[ 622 ]

إذا وجد معهن ابن ابن (1) بحذائهن أو أسفل منهن في الدرجة فيعصبهن. أحوال الام يقول الله سبحانه ” ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس “. سورة النساء – الاية 10. للام ثلاثة أحوال: 1 – تأخذ السدس إذا كان معها ولد أو ولد ابن أو اثنان من الاخوة أو الاخوات مطلقا سواء كانوا من جهة الاب والام أو من جهة الاب فقط أو من جهة الام فقط. 2 – تأخذ ثلث جميع المال إذا لم يوجد أحد ممن تقدم ذكرهم. 3 – تأخذ ثلث الباقي عند عدم من ذكر بعد فرض أحد الزوجين وذلك في مسألتين تسميان بالغرائية. الاولى: في حالة ما إذا تركت زوجا وأبوين. والثانية: ما إذا ترك زوجة وأبوين. (هامش) (1) ابن الابن يعصب من في درجته سواء كانت أخته أو بنت عمه، ويعصب من فوقه إلا إذا كانت صاحبه فرض. ويسقط من تكون أسفل منه (.)


[ 623 ]

الجدات (1) عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شئ. وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس. فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الانصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة. فأنفذه لها أبو بكر. قال: ثم جاءت الجدة الاخرى إلى عمر. فسألته ميراثها. فقال: مالك في كتاب الله شئ. ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وايتكما خلت به فهو لها ” رواه الخمسة إلا النسائي. وصححه الترمذي. للجدات الصحيحات (1) ثلاث حالات: 1 – لهن السدس تستقل به الواحدة ويشترك فيه الاكثر بشرط التساوي في الدرجة كأم الام وأم الاب. (هامش) (1) الجدة الصحيحة هي التي لا يتخلل في نسبتها إلى الميت جد فاسد والجد الفاسد هو من تخلل في نسبته إلى الشخص أنثى كأب الام (.)


[ 624 ]

2 – القريبة من الجدات من أي جهة تحجب البعيدة كأم الام تحجب أم أم الام وتحجب أيضا أم أبي الاب. 3 – الجدات من أي جهة كانت يسقطن بالام وتسقط من كانت من جهة الاب بالاب أيضا ولا تسقط به من كانت من جهة الام ويحجب الجد أمه أيضا لانها تدلي به (.)


[ 625 ]

2، 3 – العصبة تعريفها: العصبة جمع عاصب كطالب وطلبة، وهم بنو الرجل وقرابته لابيه، وسموا بذلك لشد بعضهم أزر بعض. وهذا اللفظ مأخوذ من قولهم: عصب القوم بفلان إذا أحاطوا به، فالابن طرف والاب طرف آخر والاخ جانب والعلم جانب آخر والمقصود بهم هنا الذين يصرف لهم الباقي بعد أن يأخذ أصحاب الفروض أنصباءهم المقدرة لهم، فإذا لم يفضل شئ منهم لم يأخذوا شيئا إلا إذا كان العاصب ابنا فإنه لا يحرم بحال. والعصبة كذلك هم الذين يستحقون التركة كلها إذا لم يوجد من أصحاب الفروض أحد، لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:


[ 626 ]

” ألحقوا الفرائض بأهلها (1) فما بقي فلاولي رجل ذكر (2) “. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والاخرة. اقرأوا ان شئتم: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا (3) فليأتني فأنا مولاه “. أقسامها: – تنقسم العصبة إلى قسمين: 1 – عصبة نسبية. 2 – عصبة سببية. العصبة النسبية: العصبة النسبية أصناف ثلاثة: 1 – عصبة بنفسه. 2 – عصبة بغيره. 3 – عصبة مع غيره. العصبة بنفسه: هي كل ذكر لايدخل في نسبته إلى (هامش) (1) أي اعطوا السهام المقدرة لاهلها المستحقين لها بالنص وما بقي فلاقرب ذكر من العصبة إلى الميت. (2) يرى ابن عباس أن الميت إذا ترك بنتا وأختا وأخا يكون للبنت النصف والباقي للاخ ولاشئ للاخت. (3) من يخلفه الميت ولا شئ له (.)


[ 627 ]

الميت انثى وتنحصر في أصناف أربعة: 1 – البنوة وتسمى جزء الميت. 2 – الابوة وتسمى بأصل الميت. 3 – الاخوة وتسمى جزء أبيه. 4 – العمومة وتسمى جزء الجد العصبة بغيره: والعصبة بغيره هي الانثى التي يكون فرضها النصف في حالة الانفراد والثلثين إذا كانت معها اخت لها فأكثر، فإذا كان معها أو معهن أخ صار الجميع حينئذ عصبة به وهن أربع: 1 – البنت أو البنات. 2 – بنت أو بنات الابن. 3 – الاخت أو الاخوات الشقيقات. 4 – الاخت أو الاخوات لاب. فكل صنف من هذه الاصناف الاربعة يكون عصبة بغيره وهو الاخ ويكون الارث بينهم للذكر مثل حظ الانثيين (1). (هامش) (1) من لافرض له من النساء عند عدم أخيها العاصب لا تصير عصبة به عند وجوده فلو مات شخص عن عم أو عمة فالمال كله للعم دون العمة ولا تصير العمة عصبة بأخيها لانها عند فقده لافرض لها. ومثل هذا ابن الاخ مع بنت الاخت (.)


[ 628 ]

العصبة مع الغير: – العصبة مع الغير هي كل انثى تحتاج في كونها عاصبة، إلى انثى اخرى وتنحصر العصبة مع الغير في اثنتين فقط من الاناث وهي: – 1 – الاخت الشقيقة أو الاخوات الشقيقات مع البنت أو بنت الابن. 2 – الاخت لاب أو الاخوات لاب مع البنت أو بنت الابن، ويكون لهن الباقي من التركة بعد الفروض. كيفية توريث العصبة بالنفس: تقدم في الفصل السابق كيفية توريث العصبة بالغير وتوريث العصبة مع الغير. أما كيفية توريث العصبة بالنفس فنذكرها فيما يلي: العصبة بالنفس أصناف أربعة وترث حسب الترتيب الاتي: 1 – البنوة وتشمل الابناء وأبناء الابن وإن نزل. 2 – فإن لم توجد جهة البنوة انتقلت التركة أو ما يتبقى منها إلى جهة الابوة وتشمل الاب والجد الصحيح وان علا. 3 – فإن لم يكن أحد من جهة الابوة حيا استحق التركة أو ما بقي منها الاخوة وتشمل الاخوة لابوين والاخوة لاب وأبناء الاخ لابوين وأبناء الاخ لاب وان نزل كل منهما.


[ 629 ]

4 – فإذا لم يكن أحد من هذه الجهة حيا انتقلت التركة أو الباقي منها إلى جهة العمومة من غير فرق بين عمومة الميت نفسه أو عمومة أبيه أو جده، إلا أن عمومة الميت نفسه تقدم على عمومة أبيه وعمومة أبيه تقدم على عمومة جده وهكذا. فإن وجد أشخاص متعددون من مرتبة واحدة كان أحقهم بالارث أقربهم إلى الميت. وان وجد أشخاص متعددون تساوت نسبتهم إلى الميت من حيث الجهة والدرجة كان أحقهم بالارث أقواهم قرابة. فإذا ترك الميت أشخاصا متساوين في نسبتهم إليه من حيث الجهة والدرجة والقوة استحقوا على السواء بحسب رؤوسهم. وهذا هو معنى ما يقول الفقهاء: إن التقديم في العصبات بالنفس يكون بالجهة فإن اتحدت فبالدرجة فإن تساوت فبالقوة فإن اتحدت في الدرجة والجهة والقوة استحقوا على السواء ووزعت التركة بينهم على عددهم. العصبة السببية: العاصب السببي هو المولى المعتق ذكرا كان أم أنثى. فإذا لم يوجد المعتق فالميراث لعصبته الذكور.


[ 630 ]

الحجب والحرمان معنى الحجب: الحجب لغة المنع والمقصود به منع شخص معين من ميراثه كله أو بعضه لوجود شخص آخر. الحرمان: أما الحرمان فالمقصود به منع شخص معين من ميراثه بسبب تحقق مانع من موانع الارث كالقتل ونحوه من الموانع. أقسام الحجب: الحجب نوعان: 1 – حجب نقصان. 2 – حجب حرمان. فحجب النقصان هو نقص ميراث أحد الورثة لوجود غيره ويكون لخمسة أشخاص: 1 – الزوج يحجب من النصف إلى الربع عند وجود الولد. 2 – الزوجة تحجب من الربع إلى الثمن عند وجود


[ 631 ]

الولد. الام تحجب من الثلث إلى السدس عند وجود الفراع الوارث 4 – بنت الابن. 5 – الاخت لاب. وأما حجب الحرمان: فهو منع جميع الميراث عن شخص لوجود غيره كمنع ميراث الاخ عنه عند وجود الابن، وهذا النوع لا يدخل في ميراث ستة من الوارثين، وإن جاز أن يحجبوا حجب نقصان، وهم: 1، 2 – الابوان – الاب والام. 3، 4 – الولدان – الابن والبنت. 5، 6 – الزوجان. ويدخل حجب الحرمان فيما عدا هؤلا ء من الورثة. وحجب الحرمان قائم على أساسين: 1 – أن كل من ينتمي إلى الميت بشخص لا يرث مع وجود ذلك الشخص كابن الابن فإنه لا يرث مع وجود الابن سوى أولاد الام فإنهم يرثون معها مع أنهم ينتمون إلى الميت بها. 2 – يقدم الاقرب على الابعد فالابن يحجب ابن أخيه


[ 632 ]

فإن تساووا في الدرجة يرجح بقوة القرابة كالاخ الشقيق يحجب الاخ الاب. الفرق بين المحروم والمحجوب: يظهر الفرق بين المحروم والمحجوب الامرين الآتيين: 1 – المحروم ليس أهلا للارث أصلا كالقاتل، بخلاف المحجوب فإنه أهل للارث ولكن حجب لوجود شخص آخر أولى منه بالميراث. 2 – المحروم من الميراث لا يؤثر في غيره فلا يحجبه أصلا بل يجعل كالمعدوم، فإذا مات شخص عن ابن كافر وأخ مسلم، فالميراث كله للاخ ولاشئ للابن. أما المحجوب فإنه قد يؤثر في غيره فيحجبه سواء أكان حجب حرمان أم حجب نقصان، فالاثنان فأكثر من الاخوة مع وجود الاب والام لا يرثان لوجود الاب ولكنهما يحجبان الام من الثلث إلى السدس.


[ 633 ]

العول تعريفه: – العول لغة الارتفاع. يقال: عال الميزان إذا ارتفع، ويأتي أيضا بمعنى الميل إلى الجور ومنه قول الله سبحانه: ” وذلك أدنى ألا تعولوا ” (1). وعند الفقهاء زيادة في سهام ذوي الفروض ونقصان من مقادير أنصبتهم في الارث. وروي أن أول فريضة عالت في الاسلام عرضت على عمر رضي الله عنه فحكم بالعول في زوج وأختين فقال لمن معه من الصحابة: إن بدأت بالزوج أو بالاختين لم يبق للآخر حقه فأشيروا علي، فأشار عليه العباس بن عبد المطلب بالعول وقيل: علي، وقيل: زيد بن ثابت. (هامش) (1) ان تميلوا إلى الجور. (.)


[ 634 ]

من مسائل العول: 1 – توفيت امرأة عن زوج وأختين شقيقتين وأختين لام وأم. تسمى هذه بالمسألة الشريحية لان الزوج شنع على شريح القاضي المشهور حيث أعطاه بدل النصف ثلاثة من عشرة فأخذ يدور في القبائل قائلا: لم يعطني شريح النصف ولا الثلث فلما علم بذلك شريح جاء به وعزره وقال له: أسأت القول وكتمت العول. 2 – توفي رجل عن زوجة وبنتين وأب وام. تسمى هذه المسألة المنبرية لان سيدنا عليا رضي الله عنه كان على منبر الكوفة يقول في خطبته ” الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعا. ويجزي كل نفس بما تسعى. وإليه المآب والرجعى. فسئل عنها فأجاب على قافية الخطبة – والمرأة صار ثمنها تسعا – ثم مضى في خطبته. والمسائل التي قد يدخلها العول هي المسائل التي يكون أصلها: 6 – 12 – 24. فالستة قد تعول إلى سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة والاثنا عشر قد تعول إلا ثلاثة عشر أو خمسة عشر أو سبعة عشر. والاربعة والعشرون لا تعول إلا إلى سبعة وعشرين.


[ 635 ]

والمسائل التي لا يدخلها العول أصلا هي المسائل التي تكون أصولها 2 – 3 – 4 – 8. وأخذ بالعول قانون المواريث في المادة (15) ونصها ” إذا زادت انصباء أصحاب الفروض على التركة قسمت بينهم بنسبة أنصبائهم في الارث “. طريقة حل مسائل العول: – هي أن تعرف أصل المسألة، أي مخرجها وتعرف سهام كل ذي فرض وتهمل الاصل ثم تجمع فروضهم وتجعل المجموع أصلا فتقسم التركة عليه وبذلك يدخل النقص عل كل واحد بنسبة سهامه. فلا ظلم ولا حيف وذلك نحو زوج وشقيقتين، فأصل المسألة من ستة للزوج النصف وهو ثلاثة وللاختين الثلثان وهو أربعة فالمجموع سبعة وهو الذي تقسم عليه التركة.


[ 636 ]

4 – الرد تعريفه: يأتي الرد بمعنى الاعادة. يقال: رد عليه حقه أي أعاده إليه، ويأتى بمعنى الصرف، يقال: رد عنه كيد عدوه أي صرفه عنه. والمقصود به عند الفقهاء: دفع ما فضل من فروض ذوي الفروض النسبية إليهم بنسبة فروضهم عند عدم استحقاق الغير. أركانه: الرد لا يتحقق إلا بوجود أركانه الثلاثة: 1 – وجود صاحب فرض. 2 – بقاء فائض من التركة. 3 – عدم العاصب. رأي العلماء في الرد: لم يرد في الرد نص يرجع إليه ولهذا اختلف العلماء فيه. فمنهم من رأى عدم الرد على أحد من أصحاب


[ 637 ]

الفروض، ويكون الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم لبيت المال حيث لا يوجد عاصب (1). ومنه من قال بالرد على أصحاب الفروض حتى الزوجين بنسبة فروضهم (2). ومنه من قال بالرد على جميع أصحاب الفروض ما عدا الزوجين والاب والجد، فيكون الرد على الثمانية الاصناف الآتية: 1 – البنت 2 – بنت الابن 3 – الاخت الشقيقة 4 – الاخت لاب 5 – الام 6 – الجدة 7 – الاخ لام 8 – الاخت لام. وهذا هو الرأي المختار وهو مذهب عمر وعلي وجمهور الصحابة والتابعين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والمعتمد عند الشافعية وبعض أصحاب مالك عند فساد بيت المال. قالوا: وإنما لا يرد على الزوجين لان الرد إنما يستحق بالرحم ولا رحم لهما من حيث الزوجية، ولا يرد على الاب والجد لان الرد لا يكون إلا عند عدم وجود عاصب وكل من الاب والجد عاصب فيأخذ الباقي بالتعصيب لا بالرد. (هامش) (1) ممن ذهب إلى هذا زيد بن ثابت وتابعه عروة والزهري ومالك والشافعي. (2) هذ مذهب عثمان.


[ 638 ]

وقد أخذ القانون بهذا الرأي إلا في مسألة واحدة أخذ فيها بمذهب عثمان، فحكم بالرد على أحد الزوجين وهي ما إذا مات أحد الزوجين ولم يترك وارثا سواه، فإن الزوج الحي يأخذ التركة كلها بطريق الفرض والرد، فالرد على احد الزوجين في القانون مؤخر عن ذوي الارحام فجاء نص المادة 30 من القانون هكذا: ” إذا لم تستغرق الفروض التركة ولم توجد عصبة من النسب رد الباقي على غير الزوجين من أصحاب الفروض بنسبة فروضهم، ويرد باقي التركة إلى أحد الزوجين إذا لم يوجد عصبة من النسب أو أحد الفروض النسبية أو أحد ذوي الارحام “. طريقة حل مسائل الرد: هي أنه إذا وجد مع أصحاب الفروض من لا يرد عليه من أحد الزوجين فإنه يأخذ فرضه منسوبا إلى أصل التركة والباقي بعد فرض يكون لاصحاب الفروض بحسب رؤوسهم إن كانوا صنفا واحدا سواء أكان الموجود منهم واحدا كبنت أو متعددا كثلاث بنات. وإن كانوا أكثر من صنف واحد كأم وبنت فإن الباقي يقسم عليهم بنسبة فروضهم ويرد عليهم بنسبتها أيضا.


[ 639 ]

وأما إذا لم يكن مع أصحاب الفروض أحد الزوجين فإن الباقي بعد فروضهم يرد عليهم بحسب رؤوسهم إن كانوا صنفا واحدا، سواء أكان الموجود منهم واحدا أو متعددا. وإن كانوا أكثر من صنف واحد فإن الباقي يرد عليهم بنسبة فروضهم، وبذلك يكون نصيب كلى صاحب فرض قد زاد بنسبة فرضه واستحق جملته فرضا وردا.


[ 640 ]

5 – ذوو الارحام ذوو الارحام هم كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة. وقد اختلف الفقهاء في توريثهم. فقال مالك والشافعي بعدم توريثهم، ويكون المال لبيت المال: وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وزيد والزهري والاوزاعي وداود، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى توريثهم. وحكي ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود، وذلك عند عدم وجود أصحاب الفروض والعصبات وعن سعيد بن المسيب: أن الخال يرث مع البنت. وقد أخذ القانون بهذا الرأي فجاء في المواد من 31 إلى 38 كيفية توريثهم كما هو مبين فيما يلي: المادة 31 – إذا لم يوجد أحد من العصبة بالنسب ولا أحد من ذوي الفروض النسبية كانت التركة أو الباقي منها لذوي الارحام.


[ 641 ]

وذوو الارحام أربعة أصناف مقدم بعضها على بعض في الارث على الترتيب الآتي: الصنف الاول: أولاد البنات وإن نزلوا، وأولاد بنات الابن وإن نزل. الصنف الثاني: الجد غير الصحيح وإن علا، والجدة غير الصحيحة وإن علت. الصنف الثالث: أبناء الاخوة لام وأولادهم وإن نزلوا، وأولاد الاخوات لابوين أو لاحدهما وإن نزلوا، وبنات الاخوة لابوين، أو لاحدهما وأولادهن وإن نزلوا، وبنات أبناء الاخوة لابوين أو لاب وإن نزلوا، وأولادهن وإن نزلوا. الصنف الرابع: يشمل ست طوائف مقدم بعضها على بعض في الارث على الترتيب الآتي: 1 – أعمام الميت لام وعماته وأخواله وخالاته لابوين أو لاحدهما. 2 – أولاد من ذكروا في الفقرة السابقة وإن نزلوا، وبنات أعمام الميت لابوين أو لاب، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. 3 – أعمام أبي الميت لام وعماته وأخواله وخالاته فقه السنة – 41


[ 642 ]

لابوين أو لاحدهما، وأعمام أم الميت وعماتها وأخوالها وخالاتها لابوين أو لاحدهما. 4 – أولاد من ذكروا في الفقرة السابقة وان نزلوا. وبنات أعمام أب الميت لابوين أو لاب وبنات أبنائهم وان نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. 5 – أعمام أب أب الميت لام، وأعمام أب أم الميت وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما لابوين أو لاحدهما. وأعمام أم أم الميت وأم أبيه وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما لابوين أو لاحدهما. 6 – أولاد من ذكروا في الفقرة السابقة وإن نزلوا. وبنات أعمام أب أب الميت لابوين أو لاب وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. وهكذا. المادة 32 – الصنف الاول من ذوي الارحام أولاهم بالميراث أقربهم إل الميت درجة. فإن استووا في الدرجة فولد صاحب الفرض أولى من ولد ذوي الرحم. فإن استووا في الدرجة ولم يكن فيهم ولد صاحب قرض. أو كانوا كلهم يدلون بصاحب فرض اشتركوا في الارث. لمادة 33 – الصنف الثاني من ذوي الارحام أولاهم بالميراث أقربهم إلى الميت درجة. فإن استووا في الدرجة قدم من


[ 643 ]

كان يدلي بصاحب فرض، وإن استووا في الدرجة وليس فيهم من يدلي بصاحب فرض أو كانوا كلهم يدلون بصاحب فرض: فإن اتحدوا في حيز القرابة اشتركوا في الارث، وان اختلفوا في الحيز فالثلثان لقرابة الاب. والثلث لقرابة الام. المادة 34 – الصنف الثالث من ذوي الارحام أولاهم بالميراث أقربهم إلى الميت درجة. فإن استووا في الدرجة وكان فيهم ولد عاصب فهو أولى من ولد ذوي الرحم. وإلا قدم أقواهم قرابة للميت، فمن كان أصله لابوين فهو أولى بمن كان أصله لاب، ومن كان أصله لاب فهو أولى ممن كان أصله لام. فإن اتحدوا في الدرجة وقوة القرابة اشتركوا في الارث. المادة 35 – في الطائفة الاولى من طوائف الصنف الرابع المبينة بالمادة (31) إذا انفرد فريق الاب وهم أعمام الميت لام وعماته أو فريق الام وهم أخواله وخالاته، قدم أقواهم قرابة: فمن كان لابوين فهو أولى ممن كان لاب. ومن كان لاب فهو أولى ممن كان لام، وإن تساووا في القرابة اشتركوا في الارث، وعند اجتما الفريقين يكون الثلثان لقرابة الاب والثلث لقرابة الام. ويقسم نصيب


[ 644 ]

كل فريق على النحو المتقدم وتطبق أحكام الفقرتين السابقتين على الطائفتين الثالثة والخامسة. المادة 36 – في الطائفة الثانية يقدم الاقرب منهم درجة على الابعد ولو من غير حيزه، وعند الاستواء واتحاد الحيز يقدم الاقوى في القرابة إن كانوا أولاد عاصب أو أولاد ذوي رحم، فإن كانوا مختلفين قدم ولد العاصب على ولد ذوي الرحم، وعند اختلاف الحيز يكون الثلثان لقرابة الاب، والثلث لقرابة الام، وما أصاب كل فريق يقسم عليه بالطريقة المتقدمة وتطبق أحكام الفقرتين السابقتين على الطائفتين الرابعة والسادسة. المادة 37 – لا اعتبار لتعدد جهات القرابة في وارث من ذوي الارحام إلا عند اختلاف الحيز. المادة 38 – في إرث ذوي الارحام يكون للذكر مثل حظ الانثيين.


[ 645 ]

الحمل الحمل هو ما يحمل في البطن من الولد. ونحن نتكلم عنه هنا من حيث الميراث ومن حيث مدة الحمل. حكمه في الميراث: الحمل إما ينفصل عن أمه وإما أن يبقى في بطنها، وهو في كل من الامرين له أحكام نذكرها فيما يلي: الحمل إذا انفصل عن أمه: إذا انفصل الحمل عن أمه، فإما أن ينفصل حيا أو ينفصل ميتا، وإن انفصل ميتا، فإما أن يكون انفصاله بغير جناية ولا اعتداء على أمه أو بسبب الجناية عليها، فإن انفصل كله حيا ورث من غيره وورثه غيره لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا استهل المولود ورث “.


[ 646 ]

الاستهلال رفع الصوت، والمراد إذا ظهرت حياة المولود ورث. وعلامة الحياة صوت أو تنفس أو عطاس ونحو ذلك. وهذا رأي الثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وإن انفصل ميتا بغير جناية على أمه فإنه لا يرث ولا يورث اتفاقا. وإن انفصل ميتا بسب الجناية على أمه فإنه في هذه الحال يرث ويورث عند الاحناف. وقالت الشافعية والحنابلة ومالك: لا يرث شيئا ويملك الغرة فقط ضرورة ولا يورث عنه سواها ويرثها كل من يتصور إرثه منه. وذهب الليث بن سعد وربيعة بن عبد الرحمن إلى أن الجنين إذا انفصل ميتا بجناية على أمه لا يرث ولا يورث. وإنما تملك أمه الغرة وتختص بها لان الجناية على جزء منها وهو الجنين، ومتى كانت الجناية عليها وحدها كان الجزاء لها وحدها. وقد أخذ القانون بهذا. الحمل في بطن أمه: 1 – الحمل الذي يبقى في بطن أمه لا يوقف له شئ


[ 647 ]

من التركة متى كان غير وارث أو كان محجوبا بغيره على جميع الاعتبارات. فإذا مات شخص وترك زوجة وأبا وأما حاملا من غير أبيه. فإن الحمل في هذه الصورة لا ميراث له لانه لا يخرج عن كونه أخا أو أختا لام. والاخوة لام لا يرثون مع الاصل الوارث وهو هنا الاب. 2 – وتوقف التركة كلها إلى أن يولد الحمد إذا كان وارثا ولم يكن مع وارث أصلا أو كان معه وارث محجوب به باتفاق الفقهاء وتوقف كذلك إذا وجد معه ورثة غير محجوبين به ورضوا جميعا صراحة أو ضمنا بعدم قسمتها بأن سكتوا أو لم يطالبوا بها. 3 – كل وارث لا يتغير فرضه بتغير الحمل يعطى له نصيبه كاملا ويوقف الباقي. كما إذا ترك الميت جدة وامرأة حاملا فإنه يعطى للجدة السدس لانه فرضها لا يتغير سواء ولد الحمل ذكرا أم أنثى. 4 – الوارث الذي يسقط في احدى حالتي الحمل ولا يسقط في الاخرى لا يعطى شيئا للشك في استحقاقه، فمن مات


[ 648 ]

وترك زوجة حاملا وأخا فلا شئ للاخ لجواز كون الحم ذكرا. وهذا مذهب الجمهور. 5 – من يختلف نصيبه من أصحاب الفروض باختلاف ذكورة الحمل وأنوثته يعطى أقل النصيبين ويوثف للحمل أوفر النصيبين. فإن ولد الحمل حيا وكان يستحق النصيب الاوفر أخذه، وإن لم يكن يستحقه بل يستحق النصيب الاقل أخذه ورد الباقي إلى الورثة، وإن نزل ميتا لم يستحق شيئا ووزعت التركة كلها على الورثة دون اعتبار للحمل. أقل مدة الحمل وأكثرها: وأقل مدة يتكون فيها الجنين ويولد حيا ستة أشهر لقول الله سبحانه: ” وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ” (1). مع قوله ” وفصاله في عامين ” (2). فإذا كان الفصال عامين لم يبق إلا ستة أشهر للحمل. وإلى هذا ذهب الجمهور من الفقهاء. وقال الكمال بن الهمام من أئمة الاحناف: إن العادة المستمرة كون الحمل أكثر من ستة أشهر وربما يمضي (هامش) (1) صورة الاحناف الآية رقم 15. (2) سورة لقمان الآية رقم 14. (.)


[ 649 ]

دهور ولم يسمع فيها بولادة لستة أشهر. وفي قول لبعض الحنابلة: أقل مدة الحمل تسعة أشهر. وقد خالف القانون قول جماهير العلماء وأخذ بقول بعض الحنابلة وبما قال به الاطباء الشرعيون: وهو أن أقل مدة الحمل تسعة أشهر هلالية (أي 270 يوما) لان هذا يتفق والكثير الغالب. وكما اختلفوا في أقل مدة الحمل فقد اختلفوا في أكثرها، فمنهم من قال: إنها سنتان (1). ومنهم من قال تسعة أشهر ومنهم من قال: سنة هلالية ” 354 يوما “. وأخذ القانون بما ارتآه الطب الشرعي. فذكر أن أكثر مدة الحمل سنة شمسية (2) ” 365 يوما ” واعتبر ذلك في ثبوت النسب والارث والوقف والوصية. أما القانون فقد أخذ برأي أبي يوسف الذي عليه الفتوى في المذهب الحنفي في أن الحمل يوقت له أوفر النصين وأخذ برأي الائمة الثلاثة في اشتراط ولادته كله حيا في استحقاقه الميراث. (هامش) (1) وهذا رأي الاحناف. (2) وهذا رأي محمد بن الحكم أحد فقهاء المذهب المالكي. (.)


[ 650 ]

وأخذ برأي محمد بن الحكم في أنه لا يرث إلا إذا ولد لسنة من تاريخ الوفاة أو الفرقة بين أبيه وأمه. فجاء في المواد – 42 – 43 – 44 – ما يلي: – المادة – 42 – يوقف للحمل من تركة المتوفى أوفر النصيبين على تقدير أنه ذكر أو أنثى. المادة 43 – إذا توفي الرجل عن زوجته أو عن معتدته فلا يرثه حملها إلا إذا ولد حيا لخمسة وستين وثلثمائة يوم على الاكثر من تاريخ الوفاة أو الفرقة، ولا يرث الحمل غير أبيه إلا في الحالتين الآيتين: 1 – أن يولد حيا لخمسة وستين وثلثمائة يوم على الاكثر من تاريخ الموت أو الفرقة إن كانت أمه معتدة موت أو فرقة، ومات المورث أثناء العدة. 2 – أن يولد حيا لسبعين ومائتي يوم على الاكثر من تاريخ وفاة المورث إن كان من زوجية قائمة وقت الوفاة. المادة 44 – إذا نقص الموقوف للحمل عما يستحقه يرجع بالباقي على من دخلت الزيادة في نصيبه من الورثة، وإذا زاد الموقوف للحمل عما يستحقه رد الزائد على من يستحقه من الورثة.


[ 651 ]

المفقود المفقود: إذا غاب الشخص وانقطع خبره ولم يدر مكانه ولم يعرف أحي هو أم ميت؟ وحكم القضاء بموته قيل إنه مفقود. وحكم القاضي: إما أن يكون مبينا على الدليل، كشهادة العدول، أو يكون مبينا على أمارات لا تصلح أن تكون دليلا وذلك بمضي المدة. ففي الحالة الاولى يكون موته محققا ثابتا من الوقت الذي قام فيه الدليل على الموت، وفي الحالة الثانية التي يحكم فيها القاضي بموت المفقود بمقتضى مضي الدة يكون موته حكميا لاحتمال أن يكون حيا. المدة التي يحكم بعدها بموت المفقود: اختلف الفقهاء في المدة التي يحكم بعدها بموت المفقود، فروي عن مالك أنه قال: أربع سنين، لان عمر


[ 652 ]

رضي الله عنه قال ” أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو؟ فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا ثم تحل ” أخرجه البخاري والشافعي. والمشهور عن أبي حنيفة والشافعي ومالك عدم تقدير المدة بل ذلك مفوض إلى اجتهاد القاضي في كل عصر. قال صاحب المغني في احدى الروايتين في المفقود الذي لا يغلب هلاكه ” لا يقسم ماله ولا تتزوج امرأته حتى يتيقن موته، أو يمضي عليه مدة لا يعيش في مثلها. وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم. وهذا قول الشافعي رضي الله عنه ومحمد بن الحسن وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف، لان الاصل حياته والتقدير لا يصار ل يه إلا بتوقيف، ولا توقيف هنا. فوجب التوقف “. وير الامام أحمد أنه إن كان في غيبة يغلب فيها الهلاك (1) فإنه بعد التحري الدقيق عنه يحكم بموته بمضي أربع سنين لان الغالب هلاكه، فأشبه ما لو مضت مدة لا يعيش في مثلها، وإن كان في غيبة يغلب معها السلامة (2) يفوض أمره إلى القاضي يحكم بموته بعد أي (هامش) (1) كمن يفقد في ميدان الحرب أو بعد الغارات أو يفقد بين أهله كمن خرج إلى صلاة العشاء ولم يعد أو لحاجة قريبة ولم يرجع ولا يعلم خبره. (2) مثل المسافر إلى الحج أو لطلب العلم أو التجارة. (.)


[ 653 ]

مدة يراها وبعد التحري عنه بكل الوسائل الممكنة التي توصل إلى بيان حقيقة كونه حيا أم ميتا. وأخذ القانون برأي الامام أحمد فيما إذا كان المفقود في حالة يغلب معها الهلاك فقدر المدة بأربع سنين وأخذ برأيه ورأي غيره في تفويض الامر إلى القاضي في الحالات الاخرى. ففي المادة ” 21 ” من القانون رقم 15 سنة 1929 النص الاتي: يحكم بموت المفقود الذي يغلب عليه الهلاك بعد أربع سنين من تاريخ فقده. وأما في جميع الاحوال الاخرى فيفوض أمر المدة التي يحكم بموت المفقود بعد ما إلى القاضي. وذلك كله بعد التحري عنه بجميع الطرق الممكنة الموصلة إلى معرفة إن كان المفقود حيا أو ميتا. ميراثه: ميراث المفقود يتعلق به أمران: لانه إما أن يكون مورثا أو وارثا، ففي حالة ما إذا كان مورثا فإن ماله يبقى على مكله ولا يقسم بين ورثته إلى أن يتحقق موته أو يحكم القاضي بالموت. فإن ظهر حيا أخذ ماله وإن تحقق موته أو حكم القاضي بموته ورثه من كان وارثا له وقت الموت أو وقت الحكم بالموت، ولا يرثه من مات


[ 654 ]

قبل ذلك، أو حدث إرثه بعد ذلك بزوال مانع عنه كإسلام وارث له. هذا إذا لم يسند الحكم بالموت إلى وقت سابق على صدور وإلا ورثه من كان وارثا في الوقت الذي أسند الحكم الموت إليه. أما الحالة الثانية وهي إذا ما كان وارثا لغيره فإنه يوقف له نصيبه من تكرة المورث وبعد الحكم بموته يرد ذلك الموقوف إلى وارث مورثه، وبهذا أخذ القانون، فقد جاء في مادة ” 45 ” النص الاتي: يوقف نصيب المفقود من تركة المورث حتى يتبين أمره، فإن ظهر حيا أخذه وإن حكم بموته رد نصيبه إلى من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه، فإن ظهر حيا بعد الحكم بموته أخذ ما بقي من نصيبه بأيدي الورثة (1). (هامش) (1) هذا الحكم بالنسبة للميراث أما الحكم بالنسبة للزوجة فقد جاء في مادة (22) من القانون رقم 25 سنة 1929: – (بعد الحكم بموت المفقود بالصفة المبينة في المادة السابقة تعتد زوجته عدة الوفاة وتقسم تركته بين ورثته الموجودين وقت الحكم) – مادة (7) من القانون رقم 25 لسنة 1920 (إذا جاء المفقود أو لم يجئ وتبين أنه حي فزوجته له ما لم يتمتع بها الثاني غير عالم بحياة الاول فإن تمتع بها الثاني غير عالم بحاية الاول كانت للثاني ما لم يكن عقده في عدة وفاة الاول). (.)


[ 655 ]

الخنثى (1) تعريفه: الخنثى شخص اشتبه في أمره ولم يدر أذكر هو أم أنثى؟ إما لان له ذكره وفرجا معا أو لانه ليس له شئ منهما أصلا. كيف يرث: إن تبينأنه ذكر ورث ميراث الذكر وإن تبين أنه أنثى ورث ميراثها. وتتبين الذكورة والانوثة بظهور علامات كل منهما. وهي قبل البلوغ تعرف بالبول فإن بال بالعضو المخصوص بالذكر فهو ذكر وان بال بالعضو المخصوص بالانثى فهو أنثى، وإن بال منهما كان الحكم للاسبق. وبعد البلوغ إن نبتت له لحية أو أتى النساء أو احتلم كما يحتلم الرجال فهو ذكر، وإن ظهر له ثدي كثدي المرأة أو در له لبن أو حاض أو حبل فهو أنثى، وهو في هاتين الحالتين يقال له خنثى غير مشكل. (هامش) (1) الخنثى مأخوذ من الخنث وهو اللين والتكسر. (.)


[ 656 ]

فإن لم يعرف أذكر هو أم أنثى؟ بأن لم تظهر علامة من العلامات أو ظهرت وتعاضت فهو الخنثى المشكل. وقد اختلف الفقهاء في حكمه من حيث الميراث فقال أبو حنيفة إنه يفرض أنه ذكر ثم يفرض أنه أنثى ويعامل بعد ذلك بأسموإ الحالين، حتى لو كان يرث على اعتبار ولا يرث على اعتبار آخر لم يعط شيئا. وإن ورث على كل الفرضين، واختلف نصيبه أعطي أقل النصيبين. وقال مالك وأبو يوسف والشيعة الامامية: يأخذ المتوسط بين نصيبي الذكر والانثى. وقال الشافعي: يعامل كل من الورثة والخنثى بأقل النصيبين لانه المتبقي إلى كل منهما، وقال أحمد: إن كان يرجى ظهور حاله يعامل كل منه ومن الورثة بالاقل ويوقف الباقي، وإن لم يرج ظهور الامر يأخذ المتوسط بين نصيبي الذكر والانثى وهذا الرأي الاخير هو الارجح ولكن القانون أخذ برأي أبي حنيفة، ففي المادة ” 46 ” منه ” للخنثى المشكل وهو الذي لا يعرف أذكر هو أم أنثى أقل النصيبين وما بقي من التركة يعطى لباقي الورثة “.


[ 657 ]

ميراث المرتد المرتد لا يرث من غيره ولا يرثه غيره وإنما ميراثه يكون لبيت مال المسلمين، وهذا رأي الشافعي ومالك والمشهور عن أحمد. وقالت الاحناف: ما اكتسبه قبل الردة ورثه أقاربه المسلمون وما اكتسبه بعدها فهو لبيت المال، وقد سبق الكلام عليه مفصلا في باب الحدود. ابن الزنا وابن الملاعنة ابن الزنا هو المولود من غير زواج شرعي وابن الملاعنة هو الذي نفى الزوج الشرعي نسبه منه. وابن الزنا وابن الملاعنة لا توارث بينهما وبين أبويهما باجماع المسلمين لانتفاء النسب الشرعي. وإنما التوارث بينهما وبين أميهما. فعن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق النبي بينهما وألحق الولد بالمرأة. رواه البخاري وأبو داود. ولفظه ” جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لامه ولورثتها من بعدها ” ونص مادة ” 47 ” من قانون الميراث ” يرث ولد الزنا وولد اللعان من الام وقرابتها وترثهما الام وقرابتها. “


[ 658 ]

التخارج تعريفه: التخارج هو أن يتصالح الورثة على إخراج بعضهم عن نصيبه في الميراث نظير شئ معين من التركة أو من غيرها. وقد يكون التخارج بين اثنين من الورثة على أن يحل أحدهم محل الاخر في نصيبيه في مقابل مبلغ من المال يقدمه له. حكمه: والتخارج جائز متى كان عن تراض. وقد طلق عبر الرحمن بن عوف زوجته تماضر بنت الاصبغ الكلبية في مرض موته، ثم مات وهى في العدة فورثها عثمان مع ثلاث نسوة أخر فصالحوها عن ربع ثمنها على ثلاثة وثمانين ألفا – قيل هي دنانير وقيل هي دارهم. جاء في القانون مادة ” 48 “: التخارج هو أن يتصالح الورثة على اخراج بعضهم من الميراث على شئ معلوم، فإذا تخارج أحد الورثة مع


[ 659 ]

آخر منهم استحق نصيبه وحل محله في التركة، وإذا تخارج أحد الورثة مع باقيهم، فإن كان المدفوع له من التركة قسم نصيبه بينهم بنسبة أنصبائهم فيها. وإن كان المدفوع من مالهم ولم ينص في عقد التخارج على طريقة قسمة نصيب الخارج قسم عليهم بالسوية بينهم. 6، 7، 8 – الاستحقاق بغير الارث جاء في قانون المواريث في المادة 4: إذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الاتي: أولا: استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره. ثانيا: ما أوصى به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية. فإذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة أو ما بقي منها إلى الخزانة العامة. ومعنى هذا أن الميت إذا مات ولم يكن له ورثة استحق التركة ثلاثة: 1 – المقر له بالنسب على الغير. 2 – الوصية بما زاد على الثلث. 3 – بيت المال – الخزانة العامة. وسنتكلم على كل من هذه الثلاثة فيما يلي:


[ 660 ]

المقر له بالنسب القانون الذي جرى عليه العمل في مصر أنه: إذا أقر الميت بالنسب على غيره استحق المقر له التركة إذا كان مجهول النسب ولم يثبت نسبه من الغير ولم يرجع المقر عن إقراره ويشترط في هذه الحال أن يكون المقر له حيا وقت موت المقر أو وقت الحكم باعتباره ميتا، وأن لا يقوم به مانع من موانع الارث. وجاء في المذكرة الايضاحية ما يأتي: والمقر له بالنسب غير وارث، لان الارث يعتمد على ثبوت النسب وهو غير ثابت بالاقرار وحده، غير أن الفقهاء أجروا عليه حكم الوارث في بعض الاحوال كتقديمه على الموصى له بما زاد على الثلث بالنسبة للزائد، وكاعتباره خلفا عن المورث في الملك فله أن يرد بالعيب وكمنعه من الارث بأي مانع من موانعه فرئي من المصلحة اعتباره مستحقا للتركة بغير الارث إيثارا للحقيقة والواقع. الموصى له بما زاد على الثلث إذا مات الميت ولم يكن له وارث ولا مقر له بنسب على غيره جازت الوصية للاجنبي بالتركة كلها أو بأي جزء منها، لان التقييد بالثلث من أجل الورثة وليس منهم أحد


[ 661 ]

9 – بيت المال إذا مات الميت ولم يترك ورثة ولم يوجد مقر له بالنسب على الغير ولا موصى له بأكثر من الثلث فإن المال يوضع في بيت مال المسلمين ليصرف في مصالح الامة العامة.


[ 662 ]

الوصية الواجبة صدر قانون الوصية الواجبة رقم 71 لسنة 1365 هجرية وسنة 1946 م وقد تضمن الاحكام الاتية: 1 – إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه ولو حكما بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثا في تركته لو كان حيا عند موته، وجبت للفرع وصية في التركة بقدر هذا النصيب في حدود الثلث، بشرط أن يكون غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض من طريق تصرف آخر قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه ما أقل منه وجبت له وصية بقدر ما يكمله. وتكون هذه الوصية لاهل الطبقة الاولى من أولاد البنات، ولاولاد الابناء من أولاد الظهور (1) وإن نزلوا، (هامش) (1) وهم من لا ينتسبون إلى الميت بأنثى. (.)


[ 663 ]

على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره، وأن يقسم نصيب كل أصل على فرعه وإن نزل قسمة الميراث كما لو كان أصله أو أصوله الذين يدلي بهم إلى الميت ماتوا بعده وكان موتهم مرتبا كترتيب الطبقات. 2 – إذا أوصى الميت لمن وجبت له الوصية بأكثر من نصيبه كانت الزيادة وصية اختيارية، وإن أوصى له بأقل من نصيبه وجب له ما يكمله، وإن أوصى لبعض من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له ويوفى نصيب من أوصى له بأقل مما وجب من باقي الثلث، فإن ضاق عن ذلك فمنه ومما هو مشغول بالوصية الاختيارية. 3 – الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا، فإذا لم يوص الميت لمن وجبت لهم الوصية وأوصى لغيرهم استحور كل من وجبت له الوصية قدر نصيبه من باقي ثلث التركة إن وفى وإلا فمنه ومما أوصى به لغيرهم. طريقة حل المسائل التي تشتمل على الوصية الواجبة: 1) يفرض الولد الذي مات في حياة أحد أبويه حيالبعض من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له ويوفى نصيب من أوصى له بأقل مما وجب من باقي الثلث، فإن ضاق عن ذلك فمنه ومما هو مشغول بالوصية الاختيارية. 3 – الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا، فإذا لم يوص الميت لمن وجبت لهم الوصية وأوصى لغيرهم استحور كل من وجبت له الوصية قدر نصيبه من باقي ثلث التركة إن وفى وإلا فمنه ومما أوصى به لغيرهم. طريقة حل المسائل التي تشتمل على الوصية الواجبة: 1) يفرض الولد الذي مات في حياة أحد أبويه حيا وارثا ويقدر نصيبه كما لو كان موجودا. 2) يخرج من التركة نصيب المتوفى ويعطى لفرعه


[ 664 ]

المستحق للوصية الواجبة إن كان يساوي الثلث فأقل، فإن زاد على الثلث رد إلى الثلث ثم يقسم على الاولاد للذكر مثل حظ الانثيين. 3) يقسم باقي التركة بين الورثة الحقيقيين على حسب فرائضهم الشرعية. انتهى كتاب ” فقه السنة ” والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات رمضان 1391 ه‍ الشيخ سيد سابق نوفمبر 1971 م

اترك تعليقاً