الحق المبين – الفيض الكاشاني

الحق المبين

الفيض الكاشاني


[ 1 ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة على رسول الله وأهل بيت رسول الله. أما بعد فيقول خادم علوم الدين محمد بن مرتضى المدعو بمحسن جعله الله من الموقنين -: إن هذا لهو الحق المبين في تحقيق كيفية التفقه في الدين به ينجو من أشرف على الغرق في بحر الضلال، وبه يسمو من اعتصم بحبل والال، ويشتمل على مقدمة ومقصد وخاتمة. المقدمة قال الله عز وجل [1]: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا


ـ[1] قال المصنف (ره) في أوائل كتابه المسمى بالحقائق ما نصه: ” فصل اعلم أن كلا من العلوم الثلاثة الأخروية (أي العلم المقصود لذاته والعلم المقصود للعمل الذي ينقسم إلى علمي الأخلاق والشرائع وهما وسيلتان إلى العلم المقصود لذاته) يسمى بعلم الدين وعلم الفقه، وتعلمه يسمى بالتفقه في الدين، قال الله عز وجل: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، فساق الكلام إلى آخر ما في المقصد قريبا مما في المتن فإن شئت أن تراجعه فراجع (ص 11 – 7 من النسخة المطبوعة من الحقائق بإيران سنة 1299)ـ


[ 2 ]

قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. وقال الصادق عليه السلام [1] لأصحابه: عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة و لم يزك عملا [وقال عليه السلام [2]: تفقهوا في الدين، فإن من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله عز وجل يقول في كتابه: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون] وقال عليه السلام [3]: لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا وفي رواية [4]: ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال الحرام. وقال عليه السلام [5]: لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته. وقال عليه السلام [6]: إن آية الكذاب أن يخبرك بخبر السماء والأرض والمشرق والمغرب فإذا سألته عن حرام الله تعالى وحلاله لم يكن عنده شئ، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى: والتفقه في الدين عبارة عن تحصيل البصيرة في المسائل الدينية علمية كانت أو عملية، باطنية أو ظاهرية، متعلقة بالعبادات أو المعاملات، فرضا معرفتها أو العمل بها أو سنة أو أدبا. [والغرض من وضع هذه الرسالة بيان كيفية هذا التحصيل على نهج يهدي إلى سواء السبيل فإن الناس اختلفوا فيه حتى أوقعوا الجماهير في التيه، ونحن بتأييد الله عز وجل نكشف عن وجه الحق فيه النقاب بحيث لا يبقى معه شك ولا ارتياب وقد كنا ألفنا فيه قبل ذلك رسالة أوردنا فيها ما قال فيه بعض أصحابنا معترضا على آخر ثم تكلمنا عليه بمحاكمة بينهما يرتضيها من أبصر وأما ههنا فلا نورد إلا ما هو الحق فيه من دون تعرص لما قالوا بل ما يطابق الوحي والتنزيل ويوافق العقل الغير العليل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل


ـ[1] إن شئت أن تراجع مآخذ الأحاديث ص 147 و 148 من الأصول الأصيلة المطبوعة وهما أول الفصل التاسع، وما بين الحاصرتين ليس في نسخة المجلس. [2] تقدم آنفا تحت رقم 1. [3] تقدم آنفا تحت رقم 1. [4] تقدم آنفا تحت رقم 1. [5] تقدم آنفا تحت رقم 1


[ 3 ]

المقصد اعلم أن الناس افترقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فرقتين [1]:] فرقة قالوا بالاجماع في تعيين الإمام وباتباع المتشابهات في العقائد والأحكام مضافا إلى المحكمات ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل واختيار المدلول قبل اختيار [2] الدليل، وهم أصحاب أبي بكر بن أبي قحافة التيمي وعمر بن الخطاب العدوي ومن يحذو حذوهم من الذين قالوا بالاجتهاد والرأي في كل شيء فتتبدل آراؤهم وتختلف علماؤهم، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وإن هم إلا يخرصون. وهؤلاء صنفان مجتهد ومقلد، إما مجتهدهم فكيفية التفقه عنده استفراغ الوسع في تحصيل الظن فيما يحتاج إليه الناس من العلوم الدينية أصولية كانت أو فروعية، من القوانين التي وضعوها والقواعد التي اخترعوها للاستعانة بها على الاستنباط من المتشابهات. وإما مقلدهم فكيفية التفقه عنده أن يأخذ من مجتهده ما استنبطه بنظره ولو بواسطة أو وسائط. وفرقة قالوا بالنص من الله عز وجل في تعيين الإمام والاقتصار على اتباع المحكمات في العقائد والأحكام وقوفا على ما جاء به الوحي والتنزيل واتقاء عما كاد [3] يفضي إلى الضلال والتضليل وهم أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين عليهم السلام ومن يقتدي بهداهم من الذين لا يعولون إلا على النصوص


ـ[1] في الحقائق بدل ما بين الحاصرتين أعني من قوله: ” والغرض من وضع هذه الرسالة إلى هنا أعني قوله: فرقتين كذا: ” وغرضنا الآن بيان كيفية هذا التحصيل فإن الناس اختلفوا فيه حتى أوقعوا الجماهير في التيه ونحن بتأييد الله عز وجل نكشف عن وجه الحق فيه النقاب بحيث لا يبقى معه شك ولا ارتياب فنقول: إن الناس كانوا في زمن رسول الله (ص) يأخذون عنه العلم بما يوحى إليه وأما بعده فصاروا فرقتين “. [2] في نسخة المجلس وفي الحقائق: ” اختلاق وفي نسختي الاختيار فالتصحيح نظري. [3] في نسخة المجلس: ” يكاد ـ


[ 4 ]

بالخصوص في كل شيء مسلمين لإمامهم الأخذ علمه من الله ومن رسوله في كل ما أنهاه إليهم في شيء شيء مطيعين لما أمرهم الله تعالى حيث قال: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وحيث قال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. وأما ما ترى من اجتهاد بعض [1] متأخري أصحابنا وتدوينهم الأصول وخوضهم في الفضول فإنما ذلك لشبهة جرت فيهم من مخالفيهم كما بينا وجهه في مسفوراتنا مع احتمال أن يكون سبب حدوثه فيهم أولا مصلحة رأوها ومماشاة مع مخالفيهم راعوها لئلا يزعموا أن دقائق العلم ليست فينا ثم صار ذلك شبهة لمن تأخر عنهم جرت فيهم ثم سرت في ذويهم وعلى التقديرين فليس ذلك قادحا في منزلتهم العليا ولا سببا لالحاقهم بالفرقة الأولى، حاشاهم عن ذلك، فإن لهم حقوقا جمة على هذه الفرقة الناجية الجليلة لترويجهم [2] المذهب الحق بمساعيهم الجميلة ورفعهم جل التقية عن كثير من العباد والبلاد، فجزاهم الله عنا خير الجزاء وحشرهم مع أئمتهم يوم التناد. وهؤلاء الفرقة الثانية يرجعون إلى إمامهم في التفقه حين تيسر لهم ذلك وإلا فهم أيضا صنفان، بصير ومستبصر وبعبارة أخرى فقيه ومتفقه وبعبارة ثالثة خاصي وعامي وإن شئت فسمهما المجتهد والمقلد فلا مشاحة في الألفاظ. أما بصيرهم وهو الذي له فهم وذكاء وقوة قدسية وزهد في الدنيا وورع في الدين فكيفية التفقه عنده أن يتبع محكمات الكتاب والسنة ومحكمات أحاديث أهل البيت عليهم السلام مما صح عنهم فيستفهم منها ما يجب اعتقاده وما يجب أن يعمل به ويشيده بشواهد عقله القويم وفهمه المستقيم ويؤيده بواردات ترد على ذهنه المصفى بأعماله الصالحة المرضية وقلبه المنور بنور أخلاقه المهذبة الزكية فإن شرف العقل لا يخفى ولولاه لما عرف الشرع وكأنه شرع من داخل كما أن الشرع عقل من خارج وهما يتعاضدان ويتظاهران إلى أن يصيرا كأنهما متحدان وفي الحديث: ما أدى العبد


ـ[1] في الحقائق: ” لبعض “. [2] في الحقائق وفي النسختين: ” بترويجهم ـ


[ 5 ]

فرائض الله حتى عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب. ولا تظنن أن خواص المؤمنين إنما آمنوا بالله واليوم الآخر بمجادلات المتكلمين وأدلة المجادلين هيهات! هيهات! وإنما عرفوا الله بمثل ما قلناه من تعاضد العقل والشرع واجتماع النور الداخل مع اجتماع النور الخارج كاجتماع نور العين مع نور الشمس في الرؤية وإلى مثل هذا العقل أشير بقوله عز وجل: يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يعني نور العقل ونور الشرع. وفي الحديث: ليس التعلم بكثرة التعلم وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه. فهذا البصير إن تبين له الحكم بحيث لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه أخذ به وشكر الله، وإن اشتبه عليه الأمر وكل علمه إلى الله وإلى إمامه المنصوص عليه من الله وعمل فيه بالأحوط ولا يفتي في مثله بالحتم والبت، قال الصادق عليه السلام -: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا. وقال عليه السلام: كل علم لم يخرج من هذا البيت فهو باطل، وأشار بيده إلى بيته، فلا يخترع من تلقاء نفسه قاعدة كلية غير منقحة ولا مسموعة حتى يقع [1] الاختلاف فيه كقاعدة حجية خبر الواحد وعدم حجيته على الاطلاق التي لم يتحرر محل التنازع فيه قط ولن يتحرر، إلى غير ذلك من القوانين المسماة عند أهلها بأصول الفقه بل يطلب في كل مسألة أهمته رواية خاصة يجوز التعويل عليها ودراية ناصة تطمئن النفس إليها. ولا يحكم بالمتشابه إلا بالتشابه لأنه المحكم فيه وكيف يجوز أن يجعل المتشابه محكما وقد جعله الله متشابها فلا يبتغي تأويله ولا رده إلى أحد الطرفين كما يفعله الذي في قلبه زيغ وذلك لأن الله سبحانه جعل الأمور ثلاثة، بين رشده فيتبع، وبين غيه فيجتنب، ومتشابهات بين ذلك يرد حكمها إلى الله وإلى الراسخين في العلم العالمين بتأويله فكيف يحكم بالتثني فيما حكم الله فيه بالتثليث! مع أن في المتشابه حكما ومصالح يمتحن الله


ـ[1] في الحقائق: ” ليقع ـ


[ 6 ]

بها أصناف عباده. ولا يجمع أيضا بين الأخبار المتعارضة إلا بما أشار إليه المروي عنهم عليهم السلام من التفصيل الذي ينتهي إلى التخيير وبذلك ينجو البصير من الخلاف والاختلاف والقول بالرأي والجزاف فلا اجتهاد عنده ولا رأي ولا اجماع، ليس معوله إلا على الرواية والدراية والسماع. ومعنى الاجماع عنده ليس إلا اتفاق قدماء الأصحاب على العمل بالنص المشهور. بحيث صار من الضروريات حتى عند الجمهور كمسح الرجلين ونزع الخفين عند الوضوء فالاجماع عنده تابع للنص مؤيد له النص مستنبط من الاجماع كما اشتهر بين طائفة من أهل الخلاف والنزاع وإليه أشير في كلام الصادق عليه السلام في خبر تعارض الأخبار: خذ بالمجمع عليه عند [1] أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وأما عوام هذه الفرقة فكيفية تفقههم أن يأخذوا مسائلهم عن خواصهم ولو بواسطة أو وسائط إلا أن اليوم اشتبه عليهم الأمر غاية الاشتباه الالتباس من ليس من الخواص بالخواص وادخالهم أنفسهم في جملتهم فصارت العوام حائرين بائرين لا يهتدون إلى شيء ولا يدرون أيا من أي فالحزم لهم أن يرجعوا في ذلك إلى قوم متدينين عارفين بأهل البصيرة ليعرفوهم [2] إياهم، فإن لم يتيسر فليستفت العامي من غلب ظنه أنه منهم وأنه ممن لا يبيع دينه بدنياه فإن أفتاه بحكم فليسأله: هل هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسول الله أو حديث أحد من الأئمة المعصومين عليهم جميعا سلام الله؟ فإن قال: نعم، فليعمل به، وإن قال: إنه ليس في شيء منها بخصوصه وإنما يستفاد منها بالاستنباط، أو هو مما أجمعوا عليه من غير نص بلغني فيه أو نحو ذلك، سأل غيره حتى يصادف من أجابه من القرآن والحديث بخصوص ونصوص أو أشار له إلى الاحتياط أو التخيير، فإن فعل العامي ذلك فهو المتفقه في تلك المسألة. هذا هو الحق المبين ومذهب قدمائنا الإماميين وعليه المعول في الدين، وليس


ـ[1] في نسخة المجلس والحقائق: ” بين “. [2] في النسختين: ” ليعرفهم ـ


[ 7 ]

لمن انتسب إلى أهل البيت عليهم السلام وتسمى بالشيعي [1] والإمامي والاثني عشري إلا الأخذ بذلك فإن خرج عن هذا الطريق إلى شيء من طرق المخالفين من غير عذر فقد خرج عن صدق هذا الانتساب وهذه التسمية على وجهه وإن لم يشعر بذلك. [إن قيل [2]: فهل للخبر الذي يجوز العمل به ضابطة يمكن التعويل عليها؟ أم هل لقوة الاعتقاد الذي يحصل من الأخبار حد لا يكتفي بأقل منه؟ قلنا: لا، ليس لذا ضابطة ولا لهذا حد وإنما وضع الضوابط والحدود [3] أوقع الاختلاف بين الأصوليين ولو أنهم نظروا في كل مسألة مسألة لما اختلفوا فيما اختلفوا فيه والسر فيه أن الحكم في مثل هذه الأمور يختلف بحسب [4] اختلاف خصوصيات محاله الجزئية ولذا تراهم يمهدون أصولا كلية ثم لا يستعملونها في جميع جزئياتها بل في في بعض دون بعض وكذا الكلام فيما يبتنى عليها من الأحكام الشرعية فإنها أمور جزئية مختلفة لا يجمعها أمر واحد عقلي والأمور الجزئية المختلفة لا يحكم عليها بالأحكام الكلية المضبوطة بل لا سبيل إلى العلم بها إلا بالنظر إلى فرد فرد وهو موقوف هنا إلى السماع إذ لا سبيل للعقل إلى الشرائع بل إنما سبيله إلى فهمها إذا كان مستقيما وقد وقع التنبيه على ذلك في كثير من الأخبار. فإن قيل: قد جاءت روايتان إحداهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا. والثانية عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: علينا القاء الأصول وعليكم التفريع. وهذا إذن منهم عليهم السلام في تفريع الجزئيات على أصل واحد؟ قلنا أولا: – إنهم عليهم السلام قالوا: علينا أن نلقي إليكم الأصول ولم يقولوا


ـ[1] في النسختين وفي الحقائق: ” بالشيعة “. [2] من هنا أي إن قيل إلى ما قبل الحاصرة الأخرى أعني قوله: ” من الأصول الكلية التي تتفرع عليها الجزئيات ليس في كتاب الحقائق. [3] في نسختي: ” الأصول “. [4] في النسختين وفي الحقائق: ” بسبب فالتصحيح نظري


[ 8 ]

عليكم أن تضعوا [1] أصولا بل فيه تنبيه على النهي عن ذلك كما يشعر به تقديم الظرف فلا يجوز لنا التفريع إلا على أصولهم. وثانيا: – أن المراد بالحديثين أن نعمد إلى ما ألقوا إلينا من الأحكام الكلية التي تكون مواردها متحدة فنستخرج منها أحكاما جزئية بالبرهان اليقيني الموافق لأحد الأشكال الأربعة المنطقية لا التي اختلفت مواردها ويحتاج إلى استنباط أحكامها بالظن والتخمين وشتان ما بين الأمرين وذلك مثل قولهم عليهم السلام: لا تنقض اليقين أبدا بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر، فإنا نفهم من هذا الأصل يقينا أن المتيقن للطهارة الشاك في الحدث لا يجب عليه الطهارة، والمتيقن لطهارة ثوبه الشاك في وصول نجاسة إليه لا يجب عليه غسله، والمتيقن لشعبان الشاك في دخول شهر رمضان لا يجب عليه الصيام إلى غير ذلك من الفروع الجزئية. ومثل قولهم: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وقولهم: كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه، وقولهم: كل ما غلب الله عليه من أمر فالله أعذر لعبده وقولهم: إذا خرجت من شيء ثم شككت فيه فشككت ليس بشئ، إلى غير ذلك من الأصول الكلية التي تتفرع عليها الجزئيات [2]]. ثم لا تظنن أن العلم [بصدق مضمون أخبار المعصومين عليهم السلام [3]] لا بد أن يكون كالعلم بوجودهم في الوضوح والإنارة والقوة أو تواترها كتواتره وإلا فهي أخبار آحاد لا تفيد إلا ظنا، كلا كيف ولو زعمت ذلك فما أراك تستيقن بإمامتهم، لأن قوة علمك بإمامتهم ليست كقوة علمك بوجودهم ولا تواترها كتواتره قطعا بل أراك لم تعرف بعد أن اليقين كالظن له مراتب في القوة والضعف، وأنه تزداد بازدياد نوري العقل والشرع واعتضاد كل منهما بالآخر، وأن في الأحكام الشرعية يكتفي بأقل مراتبه


ـ[1] في نسختي: ” تصنعوا “. [2] هنا تمت العبارة التي لم تكن في الحقائق كما أشرنا إليه في الصفحة السابقة. [3] في الحقائق: ” بصدق نسبة مضمون أخبار المعصومين إليهم ـ


[ 9 ]

مع أن أكثر الأخبار الأحكامية ليست في القوة بأقل من أخبار الإمامة متنا وسندا فكل ما اطمأنت إليه النفس من الأخبار تعمل به، وكل ما لم تسكن إليه النفس فذره في سنبله، روى في الكافي باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام [1] أنه سئل عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا فالذي جاءكم به أولى به. وفيه باسناده عنه عليه السلام [2] قال: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. وفي عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام في حديث طويل [3] قال في آخره بعد ذكر العرض على الكتاب ثم السنة ثم التخيير والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله -: وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا. وقد ورد في الحث على العمل بأخبارهم عليهم السلام أخبار بلغت قريبا من مبلغ التواتر، منها ما يدل على جواز العمل بها وإن صدرت عن تقية ومنها ما يدل على جواز العمل بها وإن لم تصدر عنهم عليهم السلام في الواقع وهو قول الصادق عليه السلام [4]: من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه، وذلك لأنه تسليم وطاعة وانقياد لا رأي فيه ولا اجتهاد. وقال عليه السلام [5]: احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها. وقال (ع) للمفضل بن عمر [6]: اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم. وقال صاحب زماننا صلوات الله عليه [7] -: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة


ـ[1] إن شئت مأخذه فراجع الأصول الأصيلة المطبوعة (ص 96). [2] إن أردت موضعهما فراجع الأصول الأصيلة المطبوعة (ص 98 – 96). [3] إن أردت موضعهما فراجع الأصول الأصيلة المطبوعة (ص 98 – 96). [4] إن أردت مأخذه والتحقيق فيه فراجع الأصول الأصيلة (ص 65). [5] إن أردت مآخذها فراجع الأصول الأصيلة المطبوعة (ص 53 و 50). [6] إن أردت مآخذها فراجع الأصول الأصيلة المطبوعة (ص 53 و 50). [7] إن أردت مآخذها فراجع الأصول الأصيلة المطبوعة (ص 53 و 50)ـ


[ 10 ]

حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم. وبالجملة قد أذنوا في الأخذ بالأخبار والكتب بالتسليم والانقياد ولم يأذنوا في الأخذ بالآراء والاجتهاد بل نهوا عنه فليس لنا إلا الاتباع والاقتصار على السماع من دون ابتغاء الدليل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل [1]. الخاتمة إذا ثبت ما حققناه وأبان عن الحق ما قررناه فليتتبع متتبع حتى يظهر له عدم الاحتياج إلى العمل بكثير من أخبار الآحاد فضلا عن القوانين المخترعة الشائعة في البلاد والعباد وذلك لأن ما اضطر إليه الناس في عباداتهم ومعاملاتهم من الأحكام الشرعية يجري مجرى الضروري الذي لا اشتباه فيه وإنما الخلاف والاختلاف في أشياء ليست بضرورية أو هي تكاليف مخترعة وأحكام مبتدعة وذلك مثل ما يتعلق بالنية من التكاليف التي أخذتها طائفة من متأخري أصحابنا من كتب المخالفين وشددوا بها الأمر على المسلمين وأوقعوهم في الحرج وأدخلوهم فيما ليس لهم عنه مخرج، ومثل ما يتعلق بصلاة الجمعة من بعض الشرائط المخترعة لانعقادها كاشتراط إذن الإمام لرجل خاص يصليها، ومثل ما كلفوا الناس بالعلم بوجوب كل ما يجب من العبادات واستحباب كل ما يستحب منها جميعا وقصد أحد الأمرين في نيتها لتنعقد، إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة التي ليس عليها دليل ولا إليها سبيل، لا شرع أتى به ولا عقل هدى إليه، بل هو من قبيل ما ورد فيه، أبهموا ما أبهم الله، واسكتوا عما سكت الله، قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقضوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تكلفوها، رحمة من الله لكم فاقبلوها. ثم قال: حلال بين وحرام بين، وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله


ـ[1] هذا آخر العبارة التي أشرنا إليها في أوائل الرسالة (ص 1) بأنها مذكورة في كتاب الحقائق للمصنف (ره) أيضا


[ 11 ]

فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها. قوله عليه السلام: ” وسكت عن أشياء إلى قوله: ” فاقبلوها معناه أن كل ما لم يصل إليكم من التكاليف ولم يثبت في الشرع فليس عليكم شيء فلا تكلفوه على أنفسكم فإنه رحمة من الله لكم. ثم إن فرضنا احتياجنا إلى مسألة ضرورية ليس عليها دليل واضح أو مستند معتبر فإن وجدناها في المتشابهات أخذنا بالأحوط وإن وجدناها في المتعارضات أخذنا بالتخيير بعد استيفاء مراتب الترجيح المنقولة عنهم عليهم السلام وإن كان الأحسن فيها أيضا الأخذ بالاحتياط مهما أمكن، وإن لم نجدها في شيء من هذين نرجع إلى ما أرشدونا إليه من التوقف وانتظار الفرج كما دل عليه الحديث الذي نقلناه من عيون الأخبار. إن قيل: ما الفرق بين ما هو من قبيل الاحتياط والورع وبين ما هو من المخترعات والبدع؟ قلنا: الفرق بحمد الله واضح فإن الأول إما جمع بين الأمرين المحتملين أو أخذ بأشملهما وما يؤدي تأديتهما لتحصيل اليقين على سبيل التحري للاهتداء. والثاني تعمد لادخال ما ليس من الدين في الدين على سبيل الاجتراء والافتراء وشتان ما بينهما وإنما اشتبه ذلك على طائفة من أهل عصرنا لاعوجاج ما في سريرتهم وعمه ما في بصيرتهم، أعاذنا الله وإخواننا من مثله. وقد ورد في الأمر بالاحتياط عند الاشتباه في الحكم أخبار كثيرة وكذا في التخيير عند التعارض، والتخيير باب واسع فتحه الله لعباده رحمة منه سبحانه يؤيده العقل السليم ويعاضده الفهم المستقيم والحمد لله الذي لم يجعل علينا في الدين من حرج وهدانا في كل مضيق للمخرج، وجعلنا من أهل الملة الحنيفية السهلة السمحاء [1] وإن لم يعرف قدرها المتكلفون منا الجهلاء حيث شددوا على أنفسهم وعلى من بهم أيتم، هداهم الله للتي هي أقوم


ـ[1] كذا، وأظن أن السمحاء لم تستعمل في العربية، فتفطن وراجع


[ 12 ]

وقد اهتدى لبعض ما اهتديت له بعض أصحابنا من أهل استراباد كان يسكن مكة شرفها الله وقد أدركت صحبته بها، فإنه كان يقول بوجوب العمل بالأخبار واطراح طريقة الاجتهاد والقول بالآراء المبتدعة وترك استعمال الأصول الفقهية المخترعة ولعمري أنه قد أصاب في ذلك وهو الفاتح لنا هذا الباب وهادينا فيه إلى سبيل الصواب إلا أنه ذهب عنه أصلان أصيلان وصدر عنه أمران أمران. أما الأصلان الأصيلان فأحدهما اثبات المتشابه في الأحكام وتثليث الأمر. والثاني اسقاط التكاليف المبتدعة وتقليل الحكم. وأما الأمران الأمران فأحدهما افراطه في القول بالأخبار وغلوه فيه حيث ادعى أن جميع ما في الكتب الأربعة المشهورة مما يفيد القطع بصدورها عن أهل البيت عليهم السلام. والثاني طعنه في طائفة من أجلة فقهائنا ونسبته إياهم إلى الفساد والافساد وغلوه في مؤاخذتهم بما خاضوا فيه من الاجتهاد، والباعث له على الأمر الأول ذهوله عن ذينك الأصلين في هذا الباب، وعلى الثاني غفلته عن غفلتهم وخطائهم [1] فيما أصاب وأنهم لم يكونوا فيه متعمدين أو فعلوه لمصلحة في الدين ثم لم يغلوا فيه غلو المخالفين فعسى الله أن يعفو عنهم والله غفور رحيم. ولأجل ارتكابه لهذين الأمرين اشمأزت قلوب متقلدة الفقهاء عن سماع كلامه ولم يقبلوا عليه ليدركوا كنه مرامه، فأنكروه بشراشر هممهم من دون أن يتأملوا فيما قال وشرعوا في تزييف قوله قبل أن يعرفوا كيفية الحال، فذهب حقه بباطله وحاله بعاطله. وأما نحن فلا نغلوا في ديننا ولا نقول على الله إلا الحق والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله


ـ[1] في نسخة المجلس: ” وخطؤه عن خطائهم ـ


[ 13 ]

هذا آخر ما أردنا ايراده في هذه الرسالة ومن أراد بسط الكلام فيه بتبيان مجملاته وتحقيق مدعياته فليرجع إلى كتبنا المبسوطة في ذلك كالموسوم بسفينة النجاة والمعروف بالأصول الأصيلة والمسمى بتسهيل السبيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله أولا وآخرا. صورة ما في آخر النسختين: فما في آخر نسختي فهو: ” تم بعون الله تعالى في 1117 “. وما في آخر نسخة مكتبة المجلس فهو: ” تم في يوم الأربعاء ثاني عشر رمضان الثانية والعشرين بعد المائة والألف. وقد أنشد مؤلفها [أ] طاب الله ثراه وجعل الجنة مثواه في تأريخها: قال في تأريخه الروح الأمين * إن هذا لهو الحق المبين الفظن ما لا يلفظ منه به * وائت من تعريفه بالمستبين يعني به ألفي التعريف من قوله الحق المبين “. أقول: فالمراد بقوله الفظن أي احذف وأسقط من الحساب فإذا حذفت الألفين من مجموع الحساب صار الحاصل ثمانية وستين وألفا وهو تأريخ تأليف الكتاب كما صرح به مؤلفه في فهرس كتبه بل غيره أيضا في غيره، والسلام على من اتبع الهدى. نجز تصحيح طبع الكتاب بعون الله الملك الوهاب في اليوم السابع عشر من ربيع الأول سنة 1390 من الهجرة النبوية

اترك تعليقاً