مـحـٮ الامـام ڡـاطـمـه|2. فبراير 2022|24. نوفمبر 2023
دروس في أصول فقه الإمامية
الشيخ عبد الهادي الفضلي
[ 1 ]
دروس في أصول فقه الإمامية
[ 2 ]
مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر دروس في أصول فقه الإمامية الجزء الأول تأليف: الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي الطبعة الأولى – 3 رجب / 1420 ه حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤسسة
[ 3 ]
دروس في أصول فقه الإمامية تأليف العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي الجزء الأول مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر
[ 4 ]
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلى على محمد وآل محمد
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والسلام على عباده الذين اصطفى مواد البحث الأصولي: البحث في أصول الفقه – شأنه شأن سائر العلوم المماثلة له – يتناول المواد التالية: 1 – مادة العلم: وتتألف من مجموعة التعريفات والمصطلحات والقواعد والفوائد والأفكار والآراء، وما إلى ذلك. 2 – منهج البحث: ويتضمن أصول البحث التي ترسم للباحث طريقة معالجة مسائله ودراسة قضاياه. 3 – تاريخ العلم: ويتناول بالعرض نشأة علم أصول الفقه ومراحله التطورية ببيان الطابع العلمي لكل مرحلة والجو الثقافي العام المهيمن عليها، والترجمة لأبرز أعلامها
[ 6 ]
والتعريف بأهم ما كتبوه في هذا العلم وشؤونه من كتب ورسائل ومقالات وبحوث. 4 – التطور الفكري للعلم: وهو دراسة تطورات الفكر لهذ العلم طلوعا وهبوطا من خلال ما حصل فيه من تغيرات تتمثل في الإنطلاق والجمود والتوسع والتضيق وما جد فيه من نظريات وما إندرس وانتهى.. الخ. ويشمل هذا دراسة تطور المنهج والمصطلح والمادة والأسلوب والتبويب. 5 – مصطلحات العلم: وتتمثل هذه المادة في تأليف معجم يضم مصطلحات العلم وضبطها من حيث النطق بالتشكيل أو التبيين، وتعريفها العلمي. 6 – أعلام العلم: يترجم في هذه المادة لعلماء العلم: سيرة العالم وشخصيته العلمية، وإسهاماته في العلم من التدريس والتأليف والإضافات العلمية كالنظريات والآراء.. الخ. 7 – الدراسات المقارنة: بين العلم والعلوم والمماثلة، أو المذهب العلمي والمذاهب الاخرى بتبيان نقاط الالتقاء ونقاط الإفتراق والموازنة بينها في هدي المعايير العلمية العامة. 8 – المدارس العلمية: ويراد بها المذاهب العلمية، وتتكون من المنهج الخاص بها والعلماء والباحثين الذين ينتهجونه في التعامل مع قضايا ومسائل العلم. 9 – فهرست النتاج العلمي: بأعداد قوائم بما كتب فيه من كتب ورسائل مستقلة، أو بحوث نشرت في
[ 7 ]
الدوريات أكاديمية وغيرها. التأليف الأصولي: كتب في علم أصول الفقه الإمامي الشئ الوفير الذي أعطى لعلماء وأساتذة الاصول الإماميين قصب السبق في هذا المضمار، وكشف عن عمق أصيل في الفكر الأصولي عندهم، وعن أصالة عمق في حرية الرأي واستقلالية الإستدلال. ويرجع هذا إلى قوة وسعة تعاملهم مع الفكر الكلامي ومعطيات علم الكلام العقلية وآثاره العلمية. ف ” الشيعة – كما يبدو من الأرقام التاريخية – قد سبقوا الفرق الإسلامية الأخرى في هذا المضمار (علم الكلام)، وأعطوه الجهد الكبير من تفكيرهم، ودفعوه إلى الأمام في أشواط بعيدة، وألبسوه حلة فلسفية بارزة تمتاز بقوة منطقها، وبعد غايتها، ما دفع بعض الباحثين، ومنهم البارون كرادفو، إلى القول بأن الشيعة هم أصحاب الفكر الحر ” (1). ” وكما سبق الشيعة إلى دراسة المواضيع الكلامية وعكفوا على شرحها وتفسيرها، متكئين في ذلك على نصوص القرآن وتدبره وعلى تأمل آياته وإستخراج مكنوناته. ومن هنا نجد متكلمي الشيعة وخصوصا من وجد منهم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري قد تفاعلوا بالمد الفكري اليوناني وسواه من التيارات الغريبة عن العرب، واعتمدوا على روافد كثيرة من فلسفات الامم التي احتضنها الإسلام والتي إلتقت جميعها في المجتمع الإسلامي تتفاعل بإطراد.
(1) – فلاسفة الشيعة 39. (*)
[ 8 ]
وكان يمدهم إلى ذلك تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) المعشبة بالحياة والفكر والتي تناولت الجوانب الكثيرة من مشاكل طبيعية ومشاكل ما وراء الطبيعة. ومن ثم كانت الشخصية الفلسفية هي البارزة على مفكري الشيعة ومتكلميهم ” (1). ما جعل أن ينعكس مدى هذا أو أثره – بوضوح – على دراساتهم الأصولية. ونظرة واحدة تلقى على محتوى (كفاية الأصول) للآخوند الخراساني، وشرحه الموسوم (نهاية الدراية) لتلميذه الفيلسوف الاصفهاني تكفي للإيمان بذلك. يمكننا أن نصنف المؤلفات الأصولية عند الإمامية إلى التالي: 1 – المقررات الدراسية. 2 – شروح المقررات الدراسية. 3 – تقريرات الأساتذة. 4 – مؤلفات مستقلة. 5 – الأراجيز والمنظومات. 6 – الخلاصات والمختصرات. 7 – المحاكمات. 8 – المقارنات. 9 – البحوث الدورية. المقررات الدراسية: إن أقدم مؤلف أصولي إمامي وصل إلينا هو: 1 – أصول الفقه، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي
(1) – م. س 42. (*)
[ 9 ]
المعروف بابن المعلم والملقب بالمفيد المتوفى سنة 413 ه. تلقيناه عن طريق تلميذه أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي (ت 439 ه)، نقله في كتابه (كنز الفوائد) معنونا إياه ب (مختصر التذكرة باصول الفقه)، وقال بعد ذكره للعنوان المذكور مباشرة: ” استخرجته لبعض الأخوان من كتاب شيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (رضي الله عنه) “. ويظهر من عبارته هذه أن الشيخ المفيد ألف كتابا في أصول الفقه بعنوان (التذكرة في أصول الفقه)، وهذا الموجود في كنز الكراجكي خلاصته واختصار له. وقد طبع كتاب (كنز الفوائد) على الحجر بإيران سنة 1322 ه وعلى الحروف بلبنان، وضمنه مختصر المفيد. وطبع مختصر المفيد مستقلا عنه بعنوان (أصول الفقه) في لبنان سنة 1408 ه – 1988 م من قبل مركز الدراسات والبحوث العلمية العالمية، ثم بعنوان (التذكرة بأصول الفقه) بتحقيق الشيخ مهدي نجف، ضمن (سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) التي اصدرت بمناسبة المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد المنعقد في طهران سنة 1413 ه، نشرته دار المفيد سنة 1414 ه – 1993 م. 2 – الذريعة إلى أصول الشريعة، لعلم الهدى أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى والسيد المرتضى المتوفى سنة 436 ه. نشرته جامعة طهران بمجلدين، بتقديم رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور أبي القاسم كرجي. 3 – عدة الاصول، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 ه المعروف بالشيخ. طبع في بمبي – الهند سنة 1312 ه، وفي إيران مع الحواشي الخليلية عليه سنة
[ 10 ]
1314 ه، واعيد طبع الجزء الأول منه مع الحواشي المذكورة في إيران سنة 1403 ه بتحقيق الشيخ محمد مهدي نجف. وترجمه إلى الفارسية الدكتور أبو القاسم كرجي. 4 – معارج الاصول، نجم الدين جعفر بن الحسين الهذلي الحلي الملقب بالمحقق المتوفى سنة 676 ه. 5 – مبادئ الوصول إلى علم الاصول، أبو محمد الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي الملقب بالعلامة المتوفى سنة 726 ه. 6 – تهذيب الوصول إلى علم الاصول، له أيضا. 7 – نهاية الوصول إلى علم الاصول، له أيضا. 8 – معالم الدين = معالم الاصول، الشيخ حسن بن زين الدين العاملي المتوفى سنة 1011 ه. 9 – زبدة الاصول، بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الشهير بالبهائي المتوفى سنة 1031 ه. 10 – القوانين المحكمة = قوانين الاصول، الميرزا أبو القاسم الجيلاني القمي المتوفى سنة 1231 ه. 11 – الفصول الغروية في الاصول الفقهية = الفصول، الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم (محمد رحيم) الاصفهاني المتوفى سنة 1250 ه. 12 – فرائد الاصول = الرسائل، الشيخ مرتضى الأنصاري المتوفى سنة 1281 ه. سمي بالرسائل لاشتماله على خمس رسائل في (القطع) و (الظن) و (البراءة) و (الاستصحاب) و (التعادل والترجيح). ” وقد طبع في حياة المؤلف، وكان التدريس والبحث والنظر فيه من عصر
[ 11 ]
المؤلف ” (1). 13 – كفاية الاصول، الملا الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني المتوفى سنة 1329 ه. 14 – أصول الفقه، الشيخ محمد رضا المظفر المتوفى سنة 1383 ه. 15 – دروس في علم الاصول، ويعرف بالحلقات، لأنه ثلاث حلقات، كل حلقة لمرحلة من مراحل الدراسة: الأولية فالمتوسطة ثم العالية، للشهيد السيد محمد باقر الصدر المتوفى سنة 1400 ه. 16 – الاصول العامة للفقه المقارن، وهو من المقررات الدراسية على طلبة الشرف بكلية الفقه في النجف الأشرف وطلبة قسم الدراسات الإسلامية العليا بجامعة بغداد. والمتداول منها – الآن – في الحوزات العلمية الإمامية كمقررات دراسية الكتب التالية: – في بعض الحوزات: المعالم، القوانين، الكفاية، الرسائل. – وفي اخرى: المعالم، أصول المظفر، الكفاية، الرسائل. – وفي ثالثة: حلقات الصدر: الكفاية، الرسائل. (شروح المقررات الدراسية): ونظرا لما أشرت إليه من عمق الفكر الاصولي الإمامي بسبب تأثره بعلم الكلام
(1) – الذريعة للطهراني 6 / 152. (*)
[ 12 ]
والفلسفة الإلهية. ولانغلاق العبارة في الكثير من المذكور في المقررات الدراسية. ولاستعمال الأسلوب العلمي المحض، وبخاصة في القديم منها أمثال: المعالم والقوانين والفصول والرسائل والكفاية. إلى هذه ونظائرها افتقر إلى وضع الشروح التي تساعد الاستاذ وكذلك الطالب على فهم محتويات هذه الكتب. وقد كثرت هذه الشروح كثرة وافرة جدا، فبلغت في بعضها العشرات، وفي بعضها المئات. وعنونت ب (الشرح) و (التعليقة) و (الحاشية)، واختلفت من حيث الإطناب والإيجاز والبين بين. وسأذكر – هنا – شيئا من شروح المقررات الحالية، مقتصرا على ذكر اسم المؤلف. شروح المعالم: 1 – الشيخ محمد علي بن محمد البلاغي النجفي (ت 1000 ه). 2 – السيد ماجد بن هاشم البحراني (ت 1028 ه). 3 – ابن المؤلف الشيخ محمد بن حسن العاملي (ت 1030 ه). 4 – الشيخ عبد اللطيف بن علي آل أبي جامع الحارثي العاملي (ت 1050 ه). 5 – السيد خليفة سلطان المرعشي (ت 1064 ه). 6 – السيد نور الدين علي الموسوي العاملي (ت 1068 ه). 7 – الشيخ عبد الله بن محمد الفاضل التوني صاحب الوافية (ت 1071 ه). 8 – المولى محمد صالح المازندراني (ت حدود 1081 ه)، طبع بإيران مع شرح
[ 13 ]
خليفة سلطان سنة 1274 ه. 9 – الميرزا محمد بن الحسن الشيرواني (ت 1098 ه) له حاشيتان إحداهما بالعربية والاخرى بالفارسية. 10 – السيد الأمير محمد حسين بن الأمير محمد صالح الخاتون آبادي (ت 1151 ه). 11 – الآقا محمد باقر الوحيد البهبهاني (ت 1206 ه). 12 – السيد الأمير علي الطباطبائي الحائري صاحب الرياض (ت 1231 ه). 13 – الآقا عبد الحسين بن الوحيد البهبهاني (ت 1222 ه). 14 – السيد محمد المجاهد بن السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض (ت 1242 ه). 15 – الشيخ محمد علي بن محمد باقر الهزار جريبي (ت 1245 ه). 16 – الشيخ شمس الدين بن جمال الدين البهبهاني (ت 1247 ه). 17 – الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الطهراني الاصفهاني (ت 1248 ه) سماه (هداية المسترشدين في شرح معالم الدين)، وهو أشهر وأوسع شروح المعالم. 18 – السيد محمد بن معصوم الخراساني المعروف بالسيد القصير (ت 1255 ه). 19 – السيد محمد إبراهيم بن الحسين الحسيني (ت 1255 ه). 20 – المولى محمد تقي بن محمد البرغاني القزويني الشهيد الثالث (ت 1264 ه). 21 – السيد محمد بن أبي القاسم الحسيني الزنجاني (ت 1269 ه). 22 – الشيخ علي العاصي العاملي (ت حدود 1297 ه).
[ 14 ]
23 – السيد معز الدين محمد مهدي القزويني الحلي (ت 1300 ه). 24 – السيد محمد بن أحمد بن حيدر الحسيني الكاظمي (ت 1318 ه). 25 السيد محمد هاشم بن زين العابدين الخونساري (ت 1318 ه). 26 – الشيخ محمد طه نجف (ت 1323 ه)، طبع في سنة 1315 ه مع حاشيته على الرسائل. 27 – الشيخ علي بن عبد الله العلياري (ت 1327 ه). 28 – الشيخ محمد حسن كبه البغدادي (ت 1336 ه). 29 – الشيخ أبو القاسم الدامغاني (ت 1336 ه). 30 – الشيخ راضي بن محمد حسين الخالصي الكاظمي (ت 1347 ه). 31 – الشيخ موسى بن سالم الفرطوسي (ت 1363 ه). 32 – الشيخ حسن بن علي الخاقاني (ت 1381 ه). 33 – الشيخ محمد كاظم بن محمد صادق الملكي (ت 1390 ه)، أسماه (الاصول الحديثة). 34 – السيد عبد الرسول بن عبد الحسين علي خان (ت 1404 ه). 35 – الشيخ محمد بن محمد طه الكرمي، أسماه (أسنى المغانم في شرح المعالم). – وغير هؤلاء: شروح القوانين: 1 – المؤلف نفسه، قال شيخنا الطهراني في (الذريعة) (1): ” الحاشية عليه لمؤلف أصلها المحقق الميرزا أبي القاسم القمي، طبع كثير منها على هامش
(1) – الذريعة: 6 / 174. (*)
[ 15 ]
(القوانين) رمزها (منه (رحمه الله))، ودونها مستقلة في مجلد الحاج المولى باقر بن غلام علي التستري المتوفى (1327 ه) وفرغ من التدوين في (1277 ه) رأيته بخطه الجيد عند أحفاده “. 2 – الميرزا محمد علي بن محمد الطباطبائي المدرسي اليزدي (ت 1240 ه). 3 – الآقا محمد علي بن محمد باقر الهزار جريبي (ت 1245 ه). 4 – الشيخ شمس الدين بن جمال الدين محمد البهبهاني (1248 ه). 5 – السيد هاشم بن محمد حسين الحسيني الخاتون آبادي (ت 1262 ه). 6 – السيد محمد تقي بن باقر القاضي التبريزي (ت 1276 ه). 7 – الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب الرسائل (ت 1281 ه)، قال شيخنا الطهراني في (الذريعة) (1) -: ” قال سيدنا الحسن صدر الدين في (التكملة): رأيت خطه، وهي من أول حجية الخبر إلى مقام الأدلة العقلية، وكأن الرسائل منتزعة منها “. 8 – الشيخ نصر الله بن عبد الغفار المدرسي الخراساني الشيرازي (ت 1291 ه). 9 – الشيخ مهدي المازندراني (ت 1292 ه). 10 – السيد محمد حسين بن علي أصغر القاضي التبريزي (ت 1293 ه). 11 – السيد جعفر بن أبي الحسن الموسوي آل شرف الدين (ت 1297 ه). 12 – السيد علي بن إسماعيل الموسوي القزويني (ت 1298 ه)، طبع شرحه سنة 1299 ه. 13 – الشيخ عبد الرحيم بن ميرزا نجف المستوفي النهاوندي (ت 1304 ه).
(1) – الذريعة: 6 / 179. (*)
[ 16 ]
14 – الميرزا موسى التبريزي (ت 1305 ه). 15 – الشيخ محمد حسين الكاظمي (ت 1308 ه). 16 – السيد محمد بن علي أصغر الطباطبائي التبريزي (ت 1310 ه) أسماه حقائق القوانين. 17 – الشيخ محمد علي بن أحمد القراجه داغي التبريزي (1310 ه) أسماه حديقة البساتين في شرح القوانين. 18 – الشيخ أحمد بن علي أكبر الفاضل المراغي (ت 1310 ه). 19 – السيد محمد باقر بن زين العابدين الخونساري (ت 1313 ه). 20 – الشيخ علي بن محمد علي حيدر (ت 1314 ه). 21 – السيد محمد هاشم بن زين العابدين الخونساري (ت 1318 ه). 22 – السيد إسماعيل بن نجف الحسيني المرندي التبريزي (ت 1318 ه) أسماه الموازين في شرح القوانين. 23 – الشيخ جوادي بن محرم علي الطارمي الزنجاني (ت 1325 ه)، طبع شرحه بإيران سنة 1306 ه. 24 – الشيخ علي بن عبد الله العلياري (ت 1327 ه). 25 – الشيخ عبد الهادي بن جواد البغدادي المعروف بشليلة (ت 1333 ه). 26 – الشيخ باقر بن علي حيدر (ت 1333 ه). 27 – السيد محمود شمس الدين بن شرف الدين علي الحسيني المرعشي (ت 1338 ه). 28 – السيد عدنان الغريفي (ت 1340 ه).
[ 17 ]
29 – الشيخ راضي الخالصي الكاظمي (ت 1347 ه). 30 – الشيخ طاهر بن عبد علي بن طاهر الحجامي (ت 1357 ه). 31 – الشيخ محمد جواد بن موسى آل محفوظ الكاظمي (ت 1357 ه). 32 – السيد عقيل بن عبد الرزاق الخلخالي (ت 1370 ه). 33 – الشيخ محمد مجتبى بن محمد حسين النوكاني (ت 1376 ه). 34 – الشيخ أبو الحسن بن أسد الله راغب زاده الفالي الشيرازي (ت 1384 ه). 35 – الشيخ محمد باقر بن أحمد الاشتياني الطهراني (ت 404 ه). – وغيرهم. شروح الرسائل: 1 – الشيخ محمد رضا بن محمد جواد الدزفولي التستري (ت 1274 ه). 2 – الشيخ محمد جواد بن محمد الاصفهاني الزنجاني من تلامذة المؤلف، وعنوان شرحه: توضيح الفوائد. 3 – الشيخ نصر الله بن عبد الغفار المدرس الخراساني الشيرازي (ت 1291 ه). 4 – الشيخ محمد أمين العاملي، فرغ من تأليفه عام 1291 ه. 5 – الشيخ مهدي المازندراني (ت 1292 ه)، وهي حاشية كبيرة، طبعت بإيران. 6 – الشيخ عبد الحسين بن نعمة الطريحي النجفي (ت 1295 ه) من تلامذة المؤلف. 7 – السيد محمد باقر بن مرتضى الطباطبائي التبريزي (ت 1298 ه) واسم شرحه: وسيلة الوسائل في شرح الرسائل. 8 – الشيخ حسين بن علي العصامي النجفي (ت بعد 1300 ه).
[ 18 ]
9 – السيد موسى بن فضل الله الحسيني الكلانتري الهمداني (ت 1304 ه). 10 – الميرزا موسى التبريزي (ت 1305 ه)، واسمه (أوثق الوسائل في شرح الرسائل)، طبع بإيران، وهو من الشروح المعروفة والتي يرجع إليها في الدراسات الحوزوية. 11 – الملا نظر علي الطالقاني (ت 1306 ه). 12 – المولى أحمد النجفي الكبير الشبستري (ت 1306 ه). 13 – الشيخ محمد بن محمد باقر الفاضل الايرواني (ت 1306 ه). 14 – الشيخ عبد الظاهر بن محمد علي الأردبيلي (ت 1306 ه). 15 – الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي (ت 1308 ه). 16 – الشيخ محمد حسين الكاظمي (ت 1308 ه). 17 – الشيخ أحمد بن علي أكبر الفاضل المراغي (ت 1310 ه) من تلامذة المؤلف. 18 – الشيخ جواد بن عبد الحسين مبارك النجفي (ت 1311 ه). 19 – السيد فتاح السرابي (ت 1311 ه). 20 – السيد مهدي بن صالح الطباطبائي الحكيم (ت حدود 1312 ه). 21 – الشيخ محمد حسين بن محمد مهدي السلطان آبادي (ت 1314 ه)، وعنوان كتابه: أشرف الوسائل إلى فهم الرسائل. 22 – الشيخ أحمد السلطان آبادي (ت 1315 ه)، واسمه: مرشد الدلائل في حاشية الرسائل. 23 – الشيخ علي بن عبد الله المظفر (ت 1316 ه).
[ 19 ]
24 – الشيخ أبو الفضل النوري الطهراني (ت 1316 ه). 25 – الميرزا محمد حسن الاشتياني (ت 1319 ه) من تلاميذ المؤلف، وعنوان كتابه (بحر الفوائد في شرح الفرائد)، طبع في طهران على الحجر سنة 1315 ه، وهو أشهر الشروح وأكثرها تداولا بين الأساتذة والطلبة الحوزويين. 26 – السيد محمد بن محمد تقي الحسيني التنكابني من تلامذة الميرزا الاشتياني، واسم شرحه (إيضاح الفرائد)، طبع بطهران سنة 1358 ه. 27 – السيد علي بن حسين الحسيني الجصاني، فرغ من تأليف كتابه سنة 1305 ه، وتوفي قبل سنة 1321 ه. 28 – الشيخ إبراهيم بن علي رضا اليزدي (ت 1321 ه). 29 – السيد رضا بن محمد الموسوي اللنكراني (ت 1322 ه). 30 – السيد محمد شريف بن محمد طاهر الحسيني التويكاري (ت 1322 ه). 31 – السيد علي بن السيد صافي النجفي (ت 1322 ه). 32 – الآقا رضا الهمداني صاحب مصباح الفقيه (ت 1322 ه). واسم كتابه (العوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية)، فرغ من تأليفه سنة 1308 ه وطبع على الحجر في طهران سنة 1318 ه. 33 – الشيخ محمد الفاضل الشربياني (ت 1322 ه). 34 – الشيخ محمد طه نجف (ت 1323 ه)، واسمه (الفوائد السنية والدرر النجفية) طبع مع حاشيته على المعالم سنة 1315 ه. 35 – الشيخ محمود ذهب الظالمي النجفي (ت 1324 ه). 36 – الشيخ إبراهيم بن الحسين الدنبلي الخوئي (ت 1325 ه). 37 – الشيخ جواد بن محرم علي الطارمي الزنجاني (ت 1325 ه).
[ 20 ]
38 – السيد حسين بن محمد مهدي القزويني الحلي (ت 1325 ه). 39 – السيد أبو القاسم بن معصوم الحسيني الاشكوري (ت 1325 ه). 40 – السيد أحمد بن محمد الخسروشاهي (ت حدود سنة 1326 ه). 41 – الشيخ محمد تقي بن حسن أسد الله الكاظمي (ت 1327 ه). 42 – الشيخ فخر الدين قربان علي الزنجاني (ت 1328 ه). 43 – الملا الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية (ت 1329 ه)، وعنوانه: (درر الفوائد) طبع بطهران مرارا. 44 – الشيخ قاسم بن محمود القسام النجفي (ت 1331 ه). 45 – الشيخ غلام رضا بن رجب علي (ت 1332 ه)، وطبع بطهران. 46 – السيد محمد علي بن محمد حسن الخونساري (ت 1323 ه). 47 – السيد آغا بن مير رضا القزويني (ت 1333 ه). 48 – الشيخ عبد الهادي شليلة (ت 1333 ه). 49 – الشيخ حسن علي بن عبد الله البدر القطيفي (ت 1334 ه). 50 – الشيخ محمد علي بن الميرزا محمد نصير الدين الجهاردهي (ت 1334 ه). 51 – الشيخ عبد الرحيم بن محمد رضا الكلباسي (ت 1335 ه). 52 – الشيخ إبراهيم بن محمد بن علي المحلاتي (ت 1336 ه). 53 – الشيخ محمد حسن كبه البغدادي (ت 1336 ه). 54 – السيد مهدي آل السيد حيدر الكاظمي (ت 1336 ه). 55 – السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى (ت 1337 ه). 56 – الشيخ محمود بن عبد الحسين سماكة الحلي (ت 1337 ه).
[ 21 ]
57 – الشيخ فتح علي الزنجاني (ت 1338 ه)، سماه (تنقيح المسائل في التعليق على الرسائل). 58 – الشيخ محمد باقر بن المقدس الزنجاني (ت 1342 ه). 59 – السيد عبد الحسين بن عبد الله الموسوي الآري (ت 1342 ه). 60 – الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء (ت 1344 ه). 61 – الشيخ جعفر بن باقر السوداني (ت 1345 ه)، اسمه (الوجيزة). 62 – الشيخ حسن الصغير بن محمد حسن الجواهري (ت 1345 ه). 63 – الشيخ محمد حسن بن صفر علي البارفروشي (ت 1345 ه). 64 – السيد أبو تراب الخونساري (ت 1346 ه). 65 – الشيخ راضي الخالصي الكاظمي (ت 1347 ه). 66 – السيد حسين بن عباس الحسيني الرودبادي (ت 1349 ه). 67 – الشيخ محمد رضا بن محمد جواد الدزفولي (ت 1352 ه). 68 – السيد حسين بن حسن العلوي العريضي (ت 1352 ه). 69 – الشيخ موسى بن عبد الله بو خمسين الأحسائي (ت 1353 ه). 70 – السيد عبد الباقي بن محمد باقر الموسوي الشيرازي (ت 1354 ه). 71 – السيد حسن الصدر الكاظمي (ت 1354)، سماه: وسائل الرسائل. 72 – الشيخ أسد الله بن علي أكبر الزنجاني (ت 1354 ه). 73 – الشيخ أحمد بن محمد طاهر سبط الشيخ الدزفولي (ت 1355 ه). 74 – السيد محمد هاشم بن جلال الدين الخونساري (ت حدود 1356 ه). 75 – السيد أبو الحسن بن محمد الحسيني التبريزي (ت 1357 ه).
[ 22 ]
76 – الشيخ عبد المحمد بن حسن زاير دهام (ت 1357 ه). ” كتبها من تقرير بحث استاذه الخراساني صاحب الكفاية ” (1). 77 – السيد محمد هاشم بن عبد الله الموسوي الطسوجي التبريزي (ت 1358 ه). 78 – الشيخ هادي بن غدير الطرفي (ت 1358 ه). 79 – الشيخ محمد تقي بن يوسف الرشتي (ت 1359 ه). 80 – السيد محمد بن عبد الكريم الموسوي السرابي (ت 1363 ه)، أسماه: مصباح الوسائل في شرح الرسائل. 81 – السيد محمد باقر بن محمد علي القاضي التبريزي (ت 1366 ه)، وأسماه: مخزن الفوائد في حاشية الفرائد. 82 – الشيخ محمد كاظم الشيرازي (ت 1367 ه). 83 – السيد هادي بن علي الخراساني الحائري (ت 1368 ه). 84 – الشيخ فتاح التبريزي (ت 1372 ه). 85 – الشيخ جعفر محبوبة النجفي (ت 1378 ه). 86 – السيد محمد الرضي بن زين العابدين النقوي الخونساري (ت 1374 ه). 87 – الشيخ عبد الكريم آل الشيخ أحمد الجزائري النجفي (ت 1382 ه). 88 – الشيخ علي بن محمود سماكة الحلي (ت 1390 ه). 89 – الشيخ محمد بن حسين بن محمد جعفر التبريزي (ت 1392 ه). 90 – الشيخ أحمد بن ملا حسين العلومي اليزدي (ت 1393 ه).
(1) – الذريعة: 6 / 158. (*)
[ 23 ]
91 – الشيخ محمد باقر بن محمد مهدي سعدي الزنجاني (ت 1394 ه). 92 – الميرزا أحمد بن محمد حسن الاشتياني (ت 1395 ه). 93 – الشيخ محمد أمين بن محمد بني الأفغاني (ت 1398 ه). 94 – السيد مسلم بن حمود الحسيني الحلي (ت 1404 ه). 95 – السيد عبد الله الطاهري الشيرازي (ت 1405 ه)، وأسماه: عمدة الوسائل في الحاشية على الرسائل. 96 – السيد محمد علي بن أحمد الطباطبائي الحكيم. 97 – السيد محمد باقر بن عبد الله الطاهري الشيرازي. 98 – السيد محمد هادي بن محمد رضا الخرسان النجفي. 99 – السيد محمد صادق بن محمد رضا الخرسان النجفي. – وغيرهم. شروح الكفاية: 1 – الشيخ محمد بن عبد الله الزنجاني (ت 1325 ه). 2 – الشيخ علي بن نعمة الموسوي الدزفولي (ت 1330 ه). 3 – الشيخ علي الجنابذي (ت 1332 ه). 4 – الشيخ علي بن زين العابدين الروشناوندي الكون آبادي (ت 1332 ه). 5 – الشيخ علي القوجاني (ت 1333 ه). تلميذ المؤلف ومقرر درسه، طبع شرحه في طهران بهامش الكفاية سنة 1341 ه. 6 – الشيخ حسن علي البدر القطيفي (ت 1334 ه). 7 – الشيخ عبد الحسين آل أسد الله التستري الكاظمي (ت 1336 ه)، وعنوانه
[ 24 ]
(الهداية في شرح الكفاية)، طبع الجزء الأول منه ببغداد سنة 1330 ه. 8 – الشيخ أبو تراب بن موسى الكلباسي (ت 1337 ه). 9 – السيد محمود شمس الدين بن شرف الدين علي الحسيني المرعشي (ت 1338 ه). 10 – الشيخ مهدي الخالصي الكاظمي (ت 1343 ه)، طبعت حاشيته مع الكفاية ببغداد سنة 1328 ه، وهي أول حاشية للكفاية برزت في عالم الطبع. 11 – الشيخ حسين بن عبد الكريم الكاظمي (ت 1348 ه). 12 – الشيخ محمد الشهير بسلطان العراقي من تلامذة الميرزا محمد تقي الشيرازي المتوفى سنة 1338 ه، وحاشيته من الشروح المطبوعة. 13 – الميرزا حسن بن عزيز الله الرضوي القمي (ت 1352 ه)، وعنوانه: نهاية المأمول في شرح كفاية الاصول. 14 – الشيخ محمد تقي الكلبايكاني البصير (ت 1352 ه). 15 – الشيخ محمد علي بن محمد جعفر القمي (ت 1354 ه)، طبعت حاشيته سنة 1344 ه. 16 – الميرزا علي الايرواني (ت 1354 ه)، واسمه: نهاية النهاية في شرح الكفاية. 17 – الشيخ أحمد بن محمد طاهر سبط الشيخ الدزفولي (ت 1355 ه). 18 – السيد أبو الحسن آل السيد دلدار علي النقوي (ت 1355 ه). وعنوانه: الوقاية في شرك الكفاية. 19 – السيد حيدر بن إسماعيل الصدر الكاظمي (ت 1356 ه). 20 – الشيخ محمد بن محمد حسين الاشكوري (ت 1356 ه)، واسمه: مصباح الاصول في شرح كفاية الاصول.
[ 25 ]
21 – الشيخ أبو الهدى بن أبي المعالي الكلباسي (ت 1356 ه). 22 – الشيخ محمد بن محمد كاظم الخراساني (المؤلف)، (ت 1357 ه). 23 – الميرزا أبو الحسن المشكيني (ت 1358 ه)، طبع شرحه بإيران على الحجر بهامش الكفاية سنة 1364 ه. 24 – السيد محمد بن محمد حسين الحسيني النجف آبادي (ت 1358 ه). 25 – السيد حسن بن أحمد الاشكذري اليزدي (ت 1359 ه). 26 – الشيخ محمد حسين الكمپاني الاصفهاني (ت 1361 ه). واسم كتابه (نهاية الدراية في شرح الكفاية)، فرغ من تأليفه سنة 1332 ه، وطبع الجزء الأول منه بطهران سنة 1341 ه والثاني والثالث سنة 1344 ه، ثم اعيد طبعه، وهو من الشروح المهمة والكتب الاصولية المعتمدة. 27 – السيد محمد تقي بن مرتضى مفتي الشيعة الأردبيلي (ت 1361 ه). 28 – السيد مير علي بن حسن الحسيني التنكابي (ت 1362 ه). 29 – الشيخ محمد إسماعيل بن محمد حسن بالبشمي (ت 1363 ه). 30 – الشيخ محمد آقا نجفي (ت 1363 ه). 31 – الشيخ عبد الحسين بن محمد الجواد البغدادي (ت 1365 ه). 32 – الشيخ حسن بن محسن الدجيلي (ت 1366 ه). 33 – الشيخ محمد رضا بن هادي آل كاشف الغطاء (ت 1366 ه). 34 – السيد هادي الخراساني الحائري (ت 1368 ه)، واسمه: هداية الفحول في شرح كفاية الاصول. 35 – الشيخ محمد علي بن محمد جواد الشاه آبادي الأصفهاني (ت 1369 ه). 36 – الميرزا رضي بن محمد حسن الزنوزي (ت 1369 ه).
[ 26 ]
37 – الشيخ محمد بن أحمد الزنجاني (ت 1369 ه). 38 – الشيخ محمد حسن بن محمد هادي الهندي (ت 1369 ه). 39 – السيد أبو القاسم بن إبراهيم الموسوي الصفوي (ت 1370 ه). 40 – السيد صدر الدين بن حسن الحسيني الكوبائي الهاطلي (ت 1372 ه)، واسمه: شرح مطالب كفاية الاصول. 41 – الميرزا مهدي بن جعفر الطهراني (ت 1372 ه). 42 – الشيخ فتاح بن محمد علي التبريزي (ت 1372 ه). 43 – السيد محمد الحجة الكوه كمري (ت 1372 ه). 44 – الشيخ عبد الحسين الرشتي (ت 1373 ه)، طبع شرحه في النجف الأشرف بجزئين. 45 – السيد محمد الرضي بن زين العابدين الخونساري (ت 1374 ه). 46 – الشيخ محمد جواد بن طاهر الحجامي (ت 1376 ه). 47 – الشيخ جعفر محبوبة صاحب ماضي النجف وحاضره (ت 1378). 48 – السيد حسين الحمامي النجفي (ت 1379 ه). 49 – السيد آغا حسين البروجردي (ت 1380 ه). 50 – الشيخ محمد بن علي الأراكي المعروف بسلطان العلماء (1380 ه). 51 – الشيخ خضر الدجيلي (ت 1383 ه). 52 – الشيخ محمد طاهر بن عبد الظاهر المدرسي الأردبيلي (ت 1384 ه). 53 – الشيخ علي محمد الآصفي البروجردي (ت 1389 ه)، وهو باللغة الفارسية، وعنوانه: بهترين شرح كفاية.
[ 27 ]
54 – السيد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390 ه)، وعنوان كتابه: (حقائق الاصول) طبع في النجف الأشرف بجزئين، واعيد طبعه. 55 – الشيخ علي بن محمود سماكة الحلي (ت 1390 ه). 56 – الميرزا عبد الله بن الميرزا مسيح الثاني الطهراني الجهل ستوني (ت 1391 ه). 57 – السيد محسن بن علي الجلالي (ت 1391 ه). 58 – الشيخ أحمد الكفائي – ابن المؤلف – (ت 1391 ه)، وتلقبه بالكفائي نسبة إلى كتاب أبيه (الكفاية). 59 – السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان. 60 – السيد محمد مهدي الاصفهاني الكاظمي (ت 1391 ه)، وعنوانه: صرف العناية في حل معضلات الكفاية. 61 – الشيخ هادي بن زين العابدين (ت 1391 ه). 62 – الشيخ محمد كاظم بن شمشاد الهندي (ت 1392 ه). 63 – الشيخ محمد حسين بن محمد جعفر التبريزي الخياباني (ت 1392 ه). 64 – الشيخ أحمد بن ملا حسين العلومي اليزدي (ت 1393 ه). 65 – الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي (ت 1394 ه)، وعنوان كتابه: بداية الوصول في شرح كفاية الاصول. 66 – الشيخ محمد باقر سعدي الزنجاني (ت 1394 ه). 67 – السيد صادق بن ياسين الحسيني السعبري (ت 1395 ه). 68 – الشيخ محمد علي التوحيدي التبريزي (ت 1395 ه). 69 – الشيخ محمد حسين بن محمد باقر الآيتي القائيني البيرجندي (ت 1395 ه). 70 – الشيخ محمد إبراهيم بن علي الكرباسي (ت 1397 ه).
[ 28 ]
71 – الشيخ علي بن محمد حسين النائيني (ت 1397 ه). 72 – السيد محمد علي بن محمد باقر القاضي التبريزي (ت 1399 ه). 73 – الاستاذ يحيى بن مير أحمد الجواهري (ت 1400 ه). 74 – السيد محمد حسين بن محمد القاضي التبريزي (ت 1402 ه). 75 – الشيخ محمد باقر بن أحمد الاشتياني الطهراني (ت 1404 ه). 76 – السيد مسلم بن حمود الحسيني الحلي (ت 1404 ه). 77 – السيد جمال الدين بن أبي القاسم الخوئي (ت 1404 ه). 78 – الشيخ عبد المنعم بن حسين الفرطوسي (ت 1404 ه). 79 – السيد عبد الصاحب بن محسن الحكيم (ت 1405 ه). 80 – الشيخ محمد الفاضل القائييني (ت 1405 ه). 81 – الشيخ خليل ياسين العاملي (ت 1405 ه). 82 – السيد جعفر بن محمد المرعشي (ت 1407 ه). 83 – الإمام السيد روح الله الخميني (ت 1409 ه)، وعنوان كتابه: (أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية)، طبع بإيران سنة 1413 ه. 84 – السيد عبد الكريم علي خان النجفي (ت 1410 ه)، واسم شرحه (معالم الوصول إلى كفاية الاصول)، طبع الجزء الأول منه بلبنان سنة 1401 ه. 85 – السيد مرتضى الفيروز آبادي (ت 1410 ه)، واسمه (عناية الاصول في شرح كفاية الاصول)، طبع بستة مجلدات. 86 – الشيخ عبد الحسين بن شعبان الكيلاني الفقيهي (ت 1410 ه). 87 – السيد شهاب الدين المرعشي (ت 1411 ه) واسم كتابه (مصباح الهداية في شوارع الكفاية). 88 – السيد أحمد بن علي أصغر المرعشي (ت 1412 ه). 89 – الشيخ محمد تقي الفقيه العاملي، وعنوان كتابه: وسيلة الوصول إلى كفاية الاصول.
[ 29 ]
90 – الشيخ محمد الكرمي، وله حاشيتان: – طريق الوصول إلى كفاية الاصول، طبع بأربعة مجلدات. – الهداية في توضيح الكفاية، بخمسة مجلدات. 91 – السيد محمد جعفر الجزائري الشوشتري (المروج)، وعنوانه (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) طبع في النجف الأشرف سنة 1388 ه. 92 – السيد محمد علي الحمامي. 93 – السيد محمد المهدي الشيرازي، وعنوانه: الوصول إلى كفاية الاصول. 94 – السيد عبد الكريم بن محمد علي الكشميري. 95 – السيد محمد كلانتر. 96 – الشيخ محمد آصف الآصفي المحسني الأفغاني. 97 – السيد محمد صادق الروحاني القمي. 98 – الميرزا علي الغروي التبريزي. 99 – السيد محمد علي بن أحمد الطباطبائي الحكيم. 100 – السيد محمد سعيد بن محمد علي الطباطبائي الحكيم. 101 – السيد محمد رضا بن حسن الخرسان. 102 – السيد محمد صادق بن محمد رضا الخرسان. 103 – السيد محمد هادي بن محمد رضا الخرسان. 104 – الشيخ عبدالعالي بن محمد حسن المظفر. 105 – الشيخ عبد الباقي بن أبي القاسم البهبهاني، له حاشيتان، أحدهما باللغة العربية والاخرى باللغة الفارسية. – وغيرهم كثير. شروح أصول الفقه: – السيد محمد هادي بن محمد رضا الخرسان، وعنوانه: شرح أصول الفقه.
[ 30 ]
(شروح الحلقات): – الشيخ باقر الايرواني، بعنوان: (الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني) طبع في إيران بأربعة مجلدات سنة 1415 ه. تقريرات الأساتذة: قال شيخنا الطهراني في (الذريعة) (1): ” التقريرات عنوان عام لبعض الكتب المؤلفة في أواخر القرن الثاني عشر وبعده حتى اليوم، وهو نظير (الأمالي) في كتب الحديث للقدماء. والفرق أن الأمالي كانت تكتب في مجلس إملاء الشيخ الحديث عن كتابه أو عن ظهر قلبه، وكان السامع يصدر الكتاب باسم الشيخ، ويعد من تصانيف الشيخ، بخلاف (التقريرات) فانها مباحث علمية يلقيها الاستاذ على تلاميذه عن ظهر القلب ويعيها التلاميذ في حفظهم، ثم ينقلونها إلى الكتابة في مجلس آخر، ويعد من تصانيفهم. والذي لابد من ذكره هو أن كتب التقريرات أكثر من أن يستقصيها أحد، ولاسيما التقريرات الاصولية التي كتبها تلاميذ شريف العلماء، وصاحبي (الضوابط) و (الفصول) في كربلاء، وتلاميذ العلامة الأنصاري، ومن بعده في النجف الأشرف وسامراء، ومشهد الرضا وقم وغيرها، فقد أنهيت المشاهير الأفاضل من تلاميذ آية الله سيدنا المجدد الشيرازي في كتابي (هدية الرازي) إلى نيف وخمسمائة، وقد سمعت من أحصى تلاميذ شيخنا الاستاذ الأعظم المولى محمد كاظم الخراساني في الدورة الأخيرة في بعض الليالي بعد الفراغ من الدرس أنه زادت عدتهم على الألف والمائتين، وكان كثير منهم يكتب تقريراته، وجمع
(1) – الذريعة: 4 / 366 – 367. (*)
[ 31 ]
منهم كانوا أصدقائي ورأيت تقريراتهم الكثيرة في الكراريس والمجلدات، وتوجد تقريرات كثيرة لم يشخص مقررها أبدا “. وسأقتصر – هنا – على ذكر أسماء بعض اولئك الذين كتبوا تقريرات أساتذتهم، مبتدء بالاستاذ الأعظم الشيخ الأنصاري ومنتهيا باستاذنا المحقق السيد الخوئي. (الاستاذ الشيخ مرتضى الأنصاري 1281 ه): 1 – السيد أبو القاسم كلانتر 1292 ه، وعنوان تقريراته: مطارح الأنظار. 2 – السيد حسين الكوه كمري 1299 ه. 3 – الشيخ حسين قلي بن رمضان الشوندي الدرجزيني 1311 ه. 4 – السيد محمد تقي بن كاظم الحسيني الفوشتكي السبزواري 1312 ه. 5 – السيد محمد طاهر بن إسماعيل الموسوي الدزفولي 1318 ه. (الاستاذ السيد محمد حسن الشيرازي 1312 ه): 1 – السيد محمد بن هاشم الموسوي الشرموطي 1308 ه. 2 – الشيخ مهدي بن ناصر القرشي 1312 ه. 3 – الآقا رضا الهمداني 1322 ه. 4 – الشيخ إبراهيم بن علي المحلاتي الشيرازي 1336 ه. 5 – السيد حسن الصدر الكاظمي 1324 ه. كتب تقريرات أستاذيه الأنصاري والشيرازي وتلامذتهما الأعلام وعنونه ب (اللوامع). (الاستاذ الميرزا حبيب الله الرشتي 1312 ه): 1 – الشيخ عبد الحسين الألموتي 1306 ه. 2 – الشيخ عباس الرشتي بعد 1310 ه. 3 – الشيخ إبراهيم الرشتي حدود 1320 ه. 4 – الشيخ عبد الحسين بن جعفر المهرجردي 1345 ه.
[ 32 ]
(الاستاذ الشيخ محمد كاظم الخراساني 1329 ه): 1 – الشيخ علي الكون آبادي 1332 ه. 2 – الشيخ علي القوجاني 1333 ه. 3 – السيد محمد صادق بن محمد باقر الحجة الطباطبائي الحائري 1337 ه. 4 – السيد رضا الكاهاني 1358 ه. (الاستاذ الميرزا محمد حسين النائيني 1355 ه): 1 – الشيخ محمد علي الكاظمي 1365 ه طبع تقريره بعنوان: فوائد الاصول. 2 – السيد علي مدد 1384 ه. 3 – الشيخ علي بن الميرزا النائيني 1397 ه. 4 – السيد أبو القاسم الخوئي 1413 ه، طبع تقريره بعنوان: أجود التقريرات. (الاستاذ الآغا ضياء الدين العراقي 1361 ه): 1 – السيد محسن الطباطبائي الحكيم 1390 ه. 2 – الشيخ محمد تقي البروجردي 1391 ه، طبع بعنوان: نهاية الأفكار. 3 – الشيخ إبراهيم الكرباسي 1396 ه طبع بعنوان: منهاج الاصول. 4 – الشيخ هاشم الآملي 1413 ه نشر باسم: بدائع الأفكار. (الاستاذ السيد محمد باقر الصدر 1400 ه): 1 – السيد كاظم الحائري، وعنوانه: مباحث الاصول. 2 – السيد محمود الهاشمي، وعنوانه: بحوث في علوم الاصول. (الاستاذ السيد روح الله الخميني 1409 ه): 1 – الشيخ جعفر السبحاني، باسم: تهذيب الاصول. (الاستاذ السيد أبو القاسم الخوئي 1413 ه): 1 – السيد علي الشاهرودي 1376 ه، بعنوان: دراسات في أصول الفقه. 2 – استاذنا الشيخ محمد تقي الايرواني – حفظه الله -.
[ 33 ]
3 – الشيخ محمد تقي الجواهري. 4 – الميرزا علي الغروي التبريزي. 5 – السيد علي الحسيني السيستاني. 6 – الشيخ محمد إسحاق الفياض، واسمه: محاضرات في أصول الفقه. 7 – السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهبودي، وعنوانه: مصباح الاصول. 8 – السيد أبو القاسم الكوكبي الباغميشة، عنوانه: مباني الاستنباط. 9 – السيد علاء الدين بحر العلوم، باسم: مصابيح الاصول. 10 – الشيخ فخر الدين الزنجاني، بعنوان: جواهر الاصول. (المؤلفات المستقلة): 1 – الشيخ المفيد: محمد بن محمد النعمان الحارثي البغدادي 413 ه، التذكرة باصول الفقه. 2 – الشريف المرتضى: علي بن الحسين الموسوي 436 ه: – الذريعة إلى أصول الشريعة. – الخلاف في أصول الفقه. 3 – أبو يعلى: سلار بن عبد العزيز الديلمي 448 ه، التقريب في أصول الفقه. 4 – شيخ الطائفة: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي 460 ه، عدة الاصول. 5 – ابن زهرة: السيد أبو المكارم حمزة بن علي الحلبي 585 ه، غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع (القسم الأول). 6 – سديد الدين: الشيخ محمود بن علي الحمصي شيخ منتجب الدين علي بن بابويه القمي المتوفى بعد سنة 585 ه، المصادر. 7 – المحقق الحلي: أبو القاسم جعفر بن الحسن الهذلي 676 ه: – معارج الاصول.
[ 34 ]
– نهج الوصول إلى معرفة الاصول. 8 – الشيخ أبو زكريا يحيى بن سعيد الهذلي الحلي 690 ه، المدخل في أصول الفقه. 9 – العلامة الحلي: جمال الدين الحسن بن يوسف الأسدي 726 ه: – مبادئ الوصول إلى علم الاصول. – تهذيب طريق الوصول إلى علم الاصول. – نهاية الوصول إلى علم الاصول. – نهج الوصول إلى علم الاصول. – منتهى الوصول إلى علم الكلام والاصول. 10 – الشهيد الأول: محمد بن مكي العاملي 786 ه، جامع البين في قواعد الشرحين، جمع فيه بين شرحي تهذيب طريق الوصول إلى علم الاصول للسيدين الأعرجي: عميد الدين وضياء الدين. 11 – الشهيد الثاني: زين الدين بن علي العاملي 966 ه، تمهيد القواعد الاصولية والعربية لتفريع الأحكام الشرعية. 12 – الشيخ حسن العاملي 1011 ه، معالم الدين (القسم الأول). 13 – الشيخ البهائي: محمد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي 1031 ه، زبدة الاصول. 14 – الملا عبد الله التوني 1071 ه، الوافية في الاصول. 15 – المحدث الاسترآبادي: الميرزا محمد أمين 1033 ه، الفوائد المدنية. 16 – المحدث الكركي: الشيخ حسين بن شهاب الدين العاملي 1076 ه، هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار. 17 – الشيخ فخر الدين الطريحي 1085 ه، الاثنا عشرية، تشتمل على إثني عشر مبحثا من مباحث أصول الفقه. 18 – الفيض الكاشاني: محمد بن مرتضى 1091 ه:
[ 35 ]
– الاصول الأصلية. – نقد الاصول الفقهية. 19 – الوحيد البهبهاني: محمد باقر بن محمد أكمل 1208 ه، الفوائد الحائرية. 20 – المولى النراقي (الأب): محمد مهدي بن أبي ذر 1029 ه: – تجريد الاصول. – جامعة الأصول. 21 – السيد بحر العلوم: محمد مهدي بن مرتضى 1212 ه، الفوائد الاصولية. 22 – السيد أحمد بن محمد العطار البغدادي 1215 ه، أصول الفقه. 23 – الشيخ جعفر الكبير: جعفر بن خضر المالكي صاحب كشف الغطاء 1227 ه، غاية المأمول في علم الاصول. 24 – السيد الأعرجي: محسن بن حسن الحسيني الكاظمي 1228 ه، المحصول في الاصول. 25 – آل حيدر: الشيخ محمد علي بن حيدر، بعد سنة 1229 ه، وافية الاصول، فرغ منه عام 1229 ه. 26 – الميرزا القمي: أبو القاسم الجيلاني 1231 ه، القوانين المحكمة. 27 – السيد دلدار علي بن محمد معين النقوي 1235 ه: – أساس الاصول. – منتهى الأفكار. 28 – الشيخ محمد شفيع الاسترابادي بعد سنة 1238 ه، أحسن الاصول، ألفه سنة 1238 ه. 29 – الشيخ نصار بن حمد العبسي النجفي 1240 ه، معتمد الأنوار. 30 – المولى النراقي (الأبن): أحمد بن محمد مهدي 1245 ه: – مناهج الوصول إلى علم الاصول.
[ 36 ]
– عين الاصول. – أساس الإحكام في تنقيح عمد مسائل الاصول بالأحكام. 31 – آل أسد الله: الشيخ إسماعيل بن أسد الله التستري الكاظمي 1247 ه، المنهاج في الاصول. 32 – السيد عبد الفتاح المراغي 1250 ه، عناوين الاصول. 33 – السيد القصير: محمد بن معصوم الخراساني 1255 ه، أصول الفقه. 34 – السيد محمد تقي بن عبد الحي الحسيني الكاشاني 1258 ه، تنقيح الاصول. 35 – الحاج محمد إبراهيم بن محمد الكلباسي 1262 ه، إشارات الاصول. 36 – السيد إبراهيم بن محمد باقر القزويني 1262 ه: – ضوابط الاصول. – نتائج الأفكار. 37 – الشهيد الثالث: الشيخ محمد تقي البرغاني 1263 ه، عيون الاصول. 38 – الحاج محمد جعفر الاسترابادي الشريعتمدار 1263 ه، مصابيح الاصول. 39 – الشيخ الأعظم: الشيخ مرتضى الأنصاري 1271 ه، فرائد الاصول (الرسائل). 40 – الشيخ أحمد بن محمد باقر التبريزي 1271 ه، أصول الفقه. 41 – الآقا محمد مهدي بن محمد إبراهيم الكلباسي 1278 ه، مصابيح الاصول. 42 – الشيخ طاهر بن عبد علي بن عبد الرسول الحجامي 1279 ه، مسلم الوصول إلى علم الاصول. 43 – الشيخ محمد مهدي بن محمد جعفر الساروي المازندراني، بعد سنة 1282 ه، جامع قواعد الفقه والاصول. 44 – آغا بن عابدين الشيرواني الدربندي 1285 ه، خزائن الاصول. 45 – السيد محمد باقر القزويني 1286 ه: – مفاتيح الاصول.
[ 37 ]
– نخبة الاصول. 46 – الحاج عبد الرحيم النجف آبادي الاصفهاني من تلاميذ شريف العلماء المازندراني المتوفى سنة 1245 ه، حقائق الاصول، طبع في حياة المؤلف سنة 1286 ه. 47 – السيد محمد تقي بن محمد رضا بحر العلوم 1289 ه، قواعد الاصول. 48 – السيد حسين بن رضا الموسوي الجزائري 1291 ه، أصول الفواكه. 49 – الشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي حدود سنة 1292 ه، ذخائر الاصول. 50 – الخليلي: الميرزا إسماعيل بن الميرزا خليل الطهراني 1297 ه، غصون الأيكة الغروية في الاصول الفقهية. 51 – السيد حسن بن محمد الكوه كمري 1299 ه، بشرى الوصول إلى علم الاصول. 52 – السيد حسن بن محمد القائيني قبل سنة 1300 ه، الأبصار. 53 – السيد محمد مهدي القزويني الحلي 1300 ه، آيات الوصول إلى علم الاصول. 54 – الشيخ محمد باقر بن محمد تقي الطهراني 1301 ه، لب الاصول. 55 – الفاضل الايرواني: الشيخ محمد بن محمد باقر 1306 ه، أصول الفقه. 56 – السيد علي بن عبد الكريم الطباطبائي البروجردي 1306 ه، مباحث أصول الفقه. 57 – الشيخ محمد بن جعفر شرع الإسلام 1306 ه، الفذلكات في الاصول. 58 – الشيخ أحمد النجفي الكبير الشبستري 1306 ه، منتهى الاصول. 59 – الشيخ أحمد بن مصطفى الخوئيني 1307 ه، معراج الوصول في علم الاصول. 60 – آغا حسين بن علي البارفروشي 1308 ه، أصول الفقه. 61 – السيد أحمد بن حسين التفريشي، حدود سنة 1309 ه، ينابيع الاصول.
[ 38 ]
62 – السيد هاشم بن أحمد آل السيد سلمان الأحسائي 1309 ه، أنموذج الحق المبين. 63 – السيد عبد الكريم بن حسين الموسوي الجزائري 1310 ه، حقائق الاصول. 64 – الشيخ محمد علي بن أحمد القراجه داغي التبريزي حدود سنة 1310 ه، التنقيحات الاصولية. 65 – الشيخ محمود بن جعفر الميثمي 1310 ه: – جامع الشتات. – قوامع الفضول. 66 – السيد فتاح السرابي التبريزي 1311 ه، أصول الفقه. 67 – المولى عبد الله بن نجم الدين الفاضل القندهاري 1311 ه، تحرير الاصول. 68 – الميرزا حبيب الله الرشتي 1312 ه، بدائع الاصول. 69 – الشيخ عبد الرحيم بن محمد علي المجلسي التستري 1313 ه، أصول الفقه. 70 – السيد ضياء الدين محمد حسين الشهرستاني 1315 ه، غاية السؤول في علم الاصول. 71 – السيد محمد هاشم بن زين العابدين الخونساري 1318 ه، أصول آل الرسول. 72 – الشيخ علي نقي بن محمد حسين الغروي 1321 ه: – جامع الاصول. – عين الاصول. 73 – الشيخ غلام حسين بن علي أصغر الدربندي 1322 ه، حدائق الاصول. 74 – السيد عبد الرحمن بن أبي القاسم الطباطبائي 1322 ه، مصابيح المناهج. 75 – الشيخ محمد الفاضل الشربياني 1322 ه، أصول الفقه. 76 – الشيخ محمد باقر المازندراني 1322 ه، مجمع الاصول.
[ 39 ]
77 – السيد محمد بن هاشم الهندي 1323 ه، حقائق الاصول. 78 – الشيخ هاشم بن زين العابدين التبريزي 1323 ه، أصول الفقه. 79 – الشيخ محمد حسن بن عبد الله المامقاني 1323 ه، بشرى الوصول إلى أسرار علم الاصول. 80 – الشيخ محمد طه نجف 1323 ه، الفوائد الاصولية. 81 – الشيخ محمد شريف بن محمد يوسف التنكابني 1326 ه، عواطف الاصول. 82 – الشيخ عبد الله بن أحمد الكاوندي الزنجاني 1327 ه: – الإشارات. – تسهيل الوصول إلى علم الاصول. 83 – الشيخ علي بن عبد الله العلياري 1327 ه: – مشكاة الوصول إلى علم الاصول. – مناهج الأحكام في أصول الفقه. 84 – الشيخ أبو طالب فخر الدين بن أبي القاسم الزنجاني 1329 ه، المقابيس. 85 – الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني 1329 ه: – كفاية الاصول. – فوائد الاصول. 86 – الشيخ محمد علي بن محمد حسن الأماني الخونساري 1332 ه، أصول الفقه. 87 – الشيخ عبد الهادي شليلة البغدادي 1333 ه، غاية المأمول في علمي الفقه والاصول. 88 – الشيخ محمد علي بن محمد نصير الدين الجهاردهي 1334 ه، أصول الفقه. 89 – الميرزا حسن بن محمد باقر القره داغي التبريزي 1338 ه، تشريح الاصول. 90 – الشيخ علي بن حسين الأعسم 1339 ه، مناهل الاصول.
[ 40 ]
91 – السيد محمد بن فضل الله الموسوي الساروي الطبرساني 1342 ه، أنوار الاصول. 92 – السيد حسن بن أحمد الحسيني الكاشاني 1342 ه، مفتاح مقفلات الاصول. 93 – الشيخ إسماعيل بن محمد علي المحلاتي 1343 ه: – لباب الاصول بإسقاط القشور والفضول. – نفائس الفوائد في مهمات أصول الفقه. 94 – الشيخ مهدي الخالصي الكاظمي 1343 ه، العناوين. 95 – الشيخ مهدي بن محمد علي الاصفهاني، الأرائك طبع بإيران سنة 1344 ه. 96 – الشيخ أبو القاسم بن حسن المامقاني 1351 ه، غاية المأمول في علم الاصول. 97 – السيد محمد شريف بن محمد حسن الموسوي الشيرازي 1352 ه، مرآة الاصول. 98 – السيد حسن الصدر 1354 ه، حدائق الاصول. 99 – الشيخ عبد الكريم بن محمود مغنية العاملي 1354 ه، أصول الفقه. 100 – الشيخ عبد الكريم اليزدي 1355 ه، درر الفوائد. 101 – الشيخ محمد علي بن جعفر الحائري 1358 ه، مختارات الاصول. 102 – السيد محمد هاشم بن عبد الله الموسوي الطسوجي التبريزي 1358 ه، مجالس الاصول. 103 – السيد مهدي بن مصطفى الحسيني المعروف (بدايع نكار) 1360 ه، بدايع الوصول إلى علم الاصول. 104 – الآقا ضياء الدين العراقي 1361 ه، مقالات الاصول. 105 – الشيخ محمد إسماعيل بن علي نقي التبريزي 1362 ه أو 1367 ه، تبصرة الاصول. 106 – الشيخ جعفر بن محمد النوجه دهي حدود سنة 1364 ه، روائع الاصول.
[ 41 ]
107 – الشيخ عبد الحسين بن جواد مبارك النجفي 1364 ه، نتائج الاصول. 108 – الشيخ محمد حرز الدين صاحب معارف الرجال 1365 ه، مصادر الاصول. 109 – الشيخ مهدي بن محمد علي ثقة الإسلام الاصفهاني 1367 ه، الأرائك. 110 – الشيخ محمد بن علي أكبر الفيض القمي 1370 ه، مطلع الشموس. 111 – السيد عقيل بن عبد الرزاق الخلخالي 1370 ه، جواهر الاصول. 112 – الشيخ عبد الحسين الرشتي 1373 ه، ثمرات الاصول. 113 – السيد محمد الرضي بن زين العابدين الخونساري 1374 ه، رفرف الاصول. 114 – السيد محمد باقر بن إسماعيل الرضوي الكاشاني 1381 ه، حل معاقد الاصول. 115 – الشيخ حسن بن علي الخاقاني النجفي 1381 ه، التحقيقات الحقيقية. 116 – استاذنا الشيخ محمد رضا المظفر 1383 ه، أصول الفقه. 117 – السيد محمد جواد بن محمد تقي الطباطبائي التبريزي 1387 ه، أصول الفقه. 118 – السيد ميرزا حسن البجنوردي 1395 ه، منتهى الاصول. 119 – السيد محمود الشاهرودي 1396 ه، علم أصول الفقه. 120 – السيد حسين مكي العاملي 1397 ه، قواعد استنباط الأحكام. 121 – الشيخ محمد جواد مغنية العاملي، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد. 122 – الشيخ فرج العمران القطيفي، مرشد العقول في علم الاصول. 123 – استاذنا الشهيد السيد محمد باقر الصدر 1400 ه. – غاية الفكر. – المعالم الجديدة. – دروس في علم الاصول. 124 – السيد هاشم معروف 1404 ه، أصول الفقه الجعفري.
[ 42 ]
125 – السيد عبد الأعلى السبزواري 1414 ه، تهذيب الأصول. 126 – السيد علي نقي الحيدري، أصول الاستنباط. 127 – السيد محمد حسين بن علي الكشميري، معارج الاصول. 128 – السيد جمال الدين بن ضياء الدين الحسيني الطهراني، المحصول في فن الاصول. 129 – الشيخ أحمد بن الحاج كاظم البهادلي، محاضرات في أصول الفقه. 130 – الشيخ نور الدين بن محمد صالح الجزائري النجفي، النمط الأوسط. 131 – الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، النفحات العلمية في أصول فقه الإمامية. 132 – السيد محمد سعيد بن محمد علي الطباطبائي الحكيم، المحكم في أصول الفقه. 133 – الشيخ محمد هادي بن محمد أمين الطهراني، الإتقان. 134 – السيد محمد بن آغا حسين الموسوي الشاهرودي، تحرير الاصول. 135 – السيد أبو القاسم بن محمد رضا الشيرازي، دقائق الاصول. 136 – السيد محمد بن سلطان الكلانتر، دراسات في أصول الفقه. 137 – السيد محمد كاظم بن علي السرابي، الدروس الجامعة في أصول الفقه. 138 – السيد محمد باقر بن علي أصغر الحسني السلطاني، الفوائد الفاطمية. 139 – السيد محمد جعفر المروج، نتائج الأفكار. 140 – كفاية الاصول، مشترك بين: – الشيخ محمد الأشرفي. – السيد صالح المدرس. – وغيرها. وهناك مؤلفات مستقلة ذات لون آخر، وهي غير قليلة أيضا، أمثال: 1 – طريق استنباط الأحكام، للمحقق الكركي الشيخ علي بن الحسين العاملي
[ 43 ]
940 ه. 2 – رسالة في كيفية استنباط الأحكام في زمن الغيبة، للشيخ حيدر بن محمد الشيرواني، بعد سنة 1129 ه. 3 – الاستعداد لتحصيل ملكة الاجتهاد، للسيد محمد مهدي القزويني الحلي 1300 ه. 4 – تعريف علم الاصول، للشيخ عبد الحسين بن علي اليزدي الطالقاني 1323 ه. 5 – دلالة الألفاظ العربية بين علماء اللغة والاصوليين حتى نهاية القرن السادس الهجري، للدكتور حسن بن محمد تقي الحكيم 1415 ه. 6 – مآخذ على الشيخ مرتضى الأنصاري، للشيخ محمد بن مهدي اللاكاني الرشتي. 7 – ما أخذ الآخوند الخراساني من غيره، للشيخ اللاكاني أيضا. 8 – المدخل إلى أصول الفقه الجعفري، للشيخ يوسف عمرو العاملي. 9 – مصادر الاستنباط بين الاصوليين والإخباريين، للشيخ محمد بن عبد الحسن الغراوي. 10 – الاسس العقلية: دراسة في المنطلقات العقلية للبحث في علم أصول الفقه، للسيد عمار أبو رغيف. (الأراجيز والمنظومات): ظاهرة نظم المتون العلمية أو الفكر العلمي بعامة من الظواهر المعروفة، في الأوساط العلمية الإسلامية. وعلم أصول الفقه لا يختلف عن سائر العلوم الإسلامية في أخذ نصيبه من هذه الظاهرة. وسأذكر – هنا – أمثلة من هذا مبتدئا بذكر إسم الناظم، ثم عنوان الارجوزة أو المنظومة إن كان له ذكر في كتب الفهارس والتراجم: 1 – الشيخ علي بن حسين آل محيي الدين 1135 ه. 2 – السيد محمد مهدي بحر العلوم 1212 ه، وعنوان منظومته: الدرة البهية في نظم رؤوس المسائل الاصولية.
[ 44 ]
3 – الشيخ أسد الله بن إسماعيل الدزفولي الكاظمي 1237 ه وارجوزته هي نظم لزبدة الاصول للشيخ البهائي. 4 – الشيخ سليمان بن أحمد آل عبد الجبار القطيفي 1266 ه. 5 – الشيخ حسن بن أحمد المحسني الفلاحي 1272 ه. 6 – الشيخ عبد الله بن الحسن آل عبد الجبار القطيفي 1292 ه، وعنوان ارجوزته: زهرة أرض الغري. 7 – الشيخ محمد صالح المازندراني الحائري المولود سنة 1297 ه، واسم ارجوزته: سبيكة الذهب. 8 – السيد معز الدين محمد المهدي بن الحسن القزويني الحلي 1300 ه، وسمى ارجوزته: السبائك المذهبة، بدأها بقوله: يقول راجي عفو رب محسن * محمد المهدي نجل الحسن وقال في تسميتها: وسميتها لما بدت مهذبة * كالشمس بالسبائك المذهبة وقد شرحها الشيخ عبد الرحيم بن عبد الرحمان الكرمانشاهي الكركوتي المتوفى سنة 1305 ه. 9 – السيد علي بن محمد الغريفي البحراني 1302 ه. 10 – الشيخ موسى شرارة العاملي 1304 ه، أسماها الدرة المنظمة، مستهلا إياها بقوله: بسم الله خير مفتتح * والحمد لله على ما قد منح وقال في تسميتها: سميتها بالدرة المنظمة * حوت قوانين الاصول المحكمة وعليها شرح لابنه الشيخ عبد الكريم بن موسى شرارة 1332 ه. 11 – الواعظ الشيخ علي اليزدي 1311 ه.
[ 45 ]
12 – الشيخ محمد إبراهيم بن عبد الوهاب السبزواري، نظمها سنة 1313 ه. 13 – السيد محمد باقر بن زين العابدين الخونساري 1313 ه. 14 – الشيخ علي بن محمد علي آل حيدر 1314 ه. 15 – الشيخ أحمد بن صالح آل طعان الستري البحراني 1315 ه، وهي نظم لزبدة البهائي، وعنوانها: العمدة في نظم الزبدة. 16 – الشيخ علي بن عبد الله المظفر 1316 ه. 17 – الميرزا محمد هاشم بن زين العابدين الخونساري 1318 ه، واسمها: مباني الاصول، نشرت ضمن مجموعة رسائله سنة 1317 ه. 18 – الشيخ عبد الهادي شليلة البغدادي 1333 ه، عنوانها: الدرة المنتظمة. 19 – الشيخ حسن علي البدر القطيفي 1334 ه. 20 – الشيخ محمد حسن بن أحمد الجواهري 1335 ه. 21 – السيد مهدي بن محسن آل بحر العلوم، وله شرح عليها. 22 – السيد محمد صادق بن محمد باقر الحجة الطباطبائي 1337 ه، اسمها: الروض المطلول. 23 – الشيخ محمد بن عبد العظيم الطهراني 1350 ه، عنوانها: الدرر الغروية. 24 – السيد صدر الدين بن محمد أمين آل فضل الله العاملي 1360 ه. 25 – الشيخ مهدي الأزري البغدادي 1361 ه. 26 – الشيخ محمد السماوي 1370 ه، اسمها: مناهج الاصول. 27 – الشيخ علي الجشي القطيفي 1376 ه، وهي نظم كفاية الاصول للآخوند الخراساني. (الخلاصات والمختصرات): وهي:
[ 46 ]
– إما متون الفت للطلبة المبتدئين. – وإما خلاصات لكتب كبيرة. تسهيلا لحفظ الفكرة، وتمهيدا لدراسة أعلى. 1 – الشيخ نجم الدين خضر بن شمس الدين محمد الحبل وردي، بعد سنة 836 ه، حقائق الفرقان في خلاصة الاصول والميزان. 2 – الشيخ جعفر بن حسين التستري 1303 ه، مبادئ الاصول. 3 – الشيخ عبد الله بن محمد علي الرايتي الكرماني 1327 ه، خلاصة الاصول. 4 – الشيخ مهدي الخالصي الكاظمي 1343 ه، تلخيص الرسائل. 5 – السيد محمد علي بن محمد حسين الشهرستاني الحائري 1346 ه، منتخب الاصول. 6 – الشيخ يعقوب علي السرخه ديزجي الزنجاني 1365 ه، خلاصة الاصول. 7 – السيد صدر الدين الصدر 1373 ه، ملخص كتاب الفصول في علم الاصول. 8 – محمد مجتبى بن محمد حسين النوكاني 1376 ه، الوجيز في الاصول. 9 – الشيخ محمد الفاضل القائييني 1405 ه، الوجيزة في الاصول. 10 – الشيخ عز الدين الجزائري النجفي، الخلاصة في أصول الفقه. 11 – الميرزا علي المشكيني الأردبيلي، تحرير المعالم. 12 – الشيخ علي أصغر بن رجب الروحاني النجف آبادي، قبسات العقول في مختصر علم الاصول. 13 – الشيخ حسين مرعي والشيخ إسماعيل حريري، خلاصة الاصول. 14 – الشيخ حسن الشيمساوي، مبادئ أصول الفقه. 15 – عبد الهادي الفضلي (مؤلف هذا الكتاب)، مبادئ أصول الفقه. (المحاكمات): وهو لون من البحث العلمي النقدي، يقوم على أساس من محاكمة الآراء من
[ 47 ]
خلال الموازنة بين أدلتها ومناقشتها. 1 – المحاكمات بين أصحاب القوانين والهداية والفصول، الشيخ حسين التربتي حدود سنة 1300 ه. صاحب القوانين: الميرزا القمي. وصاحب الهداية (هداية المسترشدين في شرح معالم الدين): الشيخ محمد تقي الاصفهاني. وصاحب الفصول: الشيخ محمد حسين الاصفهاني أخو صاحب الهداية. 2 – محاكمات الاصول بين القوانين والفصول، الشيخ أحمد بن الحسين التفريشي 1308 ه، طبع بإيران بعنوان (مقابيس الاصول). 3 – المحاكمات بين صاحبي القوانين والفصول، السيد عبد الصمد بن أحمد الموسوي الجزائري التستري 1337 ه. 4 – المحاكمات بين صاحبي القوانين والفصول، الآقا منير بن الآقا جمال البروجردي 1341 ه. 5 – المحاكمات بين الكفاية والأعلام الثلاثة، محاضرات اصولية ألقاها الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني (ت 1406 ه) ودونها نجله الشيخ محمد محمد طاهر الخاقاني. والأعلام الثلاثة هم: – الميرزا محمد حسين النائيني. – الآقا ضياء الدين العراقي. – الشيخ محمد حسين الاصفهاني. (الدراسات المقارنة): وهي تلكم المؤلفات التي تضم مادتها المقارنة بين أصول الفقه الإمامي وأصول الفقه عند المذاهب الإسلامية الاخرى. وأول من راد هذا الموضوع هو استاذنا السيد محمد تقي الحكيم في مؤلفه
[ 48 ]
(الاصول العامة للفقه المقارن) الذي ألفه لطلبة الشرف في كلية الفقه بالنجف الأشرف. (البحوث): وأعني بها تلكم الدراسات التي لم تستقل بشكل كتاب أو رسالة، وإنما نشرت في مجلات علمية، وهي أمثال: 1 – دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الاصول، لزميلنا العزيز الشيخ محمد مهدي الآصفي، المنشور في مجلة (الفكر الإسلامي)، إصدار مجمع الفكر الإسلامي بقم، أعداد السنة الاولى 1414 ه. 2 – مع كتاب (دروس في علم الاصول) للشيخ حامد الظاهري، في العددين الخامس والسادس من السنة الثانية 1415 ه من مجلة الفكر الإسلامي. 3 – الشيخ الأنصاري رائد المدرسة الاصولية المعاصرة، للشيخ الآصفي، في العدد السابع من السنة الثانية 1415 ه، من مجلة الفكر الإسلامي الخاص بالشيخ الأنصاري. 4 – قراءة في منهج البحث العلمي للاصول عند الشيخ الأنصاري، للدكتور عبد الزهرة البندر، العدد الخاص بالشيخ الأنصاري من مجلة الفكر الإسلامي. 5 – لمحات من معالم مدرسة الشيخ الأنصاري، السيد هاشم الهاشمي، العدد الخاص بالشيخ الأنصاري من مجلة الفكر الإسلامي. 6 – مبتكرات الشيخ الأنصاري في الفقه والاصول، السيد نور الدين الجزائري، العدد الخاص بالشيخ الأنصاري من مجلة الفكر الإسلامي. 7 – دليل العقل في التشريع الإسلامي والتشريع الغربي، أبو الفضل عزتي، العدد التاسع من السنة الثالثة 1416 ه من مجلة الفكر الإسلامي. 8 – جانب من حداثة المدرسة الاصولية للشهيد الصدر، الشيخ حامد الظاهري، العدد العاشر من السنة الثالثة 1416 ه من مجلة الفكر الإسلامي. 9 – نظرية حق الطاعة، السيد علي أكبر الحائري، العدد الثاني عشر من السنة الثالثة
[ 49 ]
1416 ه، من مجلة الفكر الإسلامي. 10 – الحركة الأخبارية وحقيقة الصراع الاصولي، السيد جودت القزويني. العدد الأول – السنة الاولى 1412 ه من مجلة (الفكر الجديد)، إصدار دار الإسلام بلندن. منهج البحث الاصولي: وفي المادة الثانية (مادة منهج البحث الاصولي) احتذى علماء أصول الفقه فيها سيرة الأقدمين من علماء العلوم الاخرى باتخاذ معطيات علم المنطق منهجا للبحث. وهو منهج بحث عام يشمل جميع حقول المعرفة، أي انه لم يكن آنذاك لكل حقل معرفي منهج بحث خاص به، كما هو الشأن في عصرنا هذا. ومنذ أن ثار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (ت 561 م) ثورته المعروفة على الفلسفة القديمة بوضع كتابيه المعروفين (المقال في المنهج) و (قواعد لهداية العقل) اتخذ المفكرون والباحثون في معظم الأكاديميات ومراكز الثقافة بمختلف أنحاء العالم من آرائه في المنهج، وبخاصة القواعد الأربع منه، والتي لخصها بالتالي: القاعدة الاولى: ” هي ألا أقبل أي شئ على أنه حقيقي إلا إذا تبينت انه كذلك باليقين “. القاعدة الثانية: ” هي أن أقوم بتقسيم كل واحد من الصعوبات التي أفحصها إلى الأجزاء التي يمكن أن تقسم إليها والتي تحتاج إليها من أجل حلها على أحسن وجه “. القاعدة الثالثة: ” وهي أن أسوق أفكاري وفقا لترتيب ذلك بالابتداء بالامور الأكثر بساطة وسهولة في المعرفة لاصاعد منها شيئا فشيئا ودرجة فدرجة حتى
[ 50 ]
أبلغ معرفة الامور الأكثر تركيبا مفترضا وجود ترتيب حتى بين تلك التي لا يسبق بعضها بعضا بالطبع “. القاعدة الرابعة: ” أن أقوم بإحصاءات ثابتة ومراجعات عامة على نحو أتأكد معه أنني لم أغفل شيئا ” (1). أقول: اتخذ ذلكم المعظم الذي تأثر بالثورة العلمية المشار إليها من هذه القواعد الخطوط العامة، والخطوات الأساسية في وضع المناهج الخاصة، فكان لكل حقل معرفي منهج خاص به. وعلى هذا – وبسببه – تغير الوضع في برامج الدراسات الجامعية، بينما بقي الوضع على ما هو عليه في برامج الدراسات الحوزوية، وذلك لأنها بقيت مرتبطة بالفلسفة القديمة والمنطق القديم، أي أنها لم تتأثر بالثورة الثقافية الأوربية. ولكن لي – هنا – ملاحظة لم يقدر لها أن اثيرت من قبل الآخرين، وتتلخص في أن الإضافة التي أضافها الفيلسوف ديكارت تنحصر في القواعد الثلاث الأخيرة، وذلك أن القاعدة الاولى التي تقول: ” لا يتوصل إلى اليقين إلا باليقين “. ويوضح الدكتور عبد الرحمن بدوي في (موسوعة الفلسفة) (2) معناها بقوله: ومعنى القاعدة الاولى: أن على الإنسان من أجل بلوغ الحقيقة أن يتحرر أولا من كل المعتقدات السابقة، وألا يقبل بعد ذلك على أنه حقيقة إلا ما هو بين العقل. والأمر يكون بينا للعقل إذا اتصف بصفتين: الوضوح والتمييز. ويوضح ديكارت معنى هاتين الصفتين في كتابه الآخر (قواعد لهداية العقل)
(1) – انظر: موسوعة الفلسفة للدكتور بدوي، مادة ديكارت. (2) – موسوعة الفلسفة: 1 / 294. (*)
[ 51 ]
فيقول: إن الأشياء تكون واضحة ومتميزة ” إذا كانت من البساطة بحيث لايستطيع العقل أن يقسمها إلى أشياء أقل بساطة، مثل: الشكل والإمتداد والحركة والخ. ” ونحن نتصور سائر الأشياء كأنها مركبات من هذه “. هذه الأشياء البسيطة ندركها بالعيان noitiutnI أي ندركها لا بالإحساس الخداع ولا بالخيال المزور، بل بالعقل الواعي المتنبه الذي لا يبقى لديه شك فيما يدركه نظرا لوضوحه وتميزه عن غيره. فمعيار الحقيقة – إذن – هو الوضوح والتميز. ” وبهذا تتأمن وحدة العلم (أو المعرفة)، أعني في وضوح مبادئه وتميزها “. إن هذه القاعدة – كما هو واضح ؟ – مرتبطة بالاحتجاج والإستدلال، ولذلك فهي تعني ما كان يعنيه القدماء من قولهم في مجال الإستدلال: ” إن النظرية التي لا ترجع إلى البديهية لا ترقي إلى مستوى الاحتجاج بها والإعتماد في الإستدلال عليها “. والرجوع إلى البداهة لا يراد به إلا أن يكون الأمر بينا للعقل، أي واضحا ومتميزا. وعليه فالمنهج العام القديم والمنهج العام الحديث يلتقيان عند هذه النقطة، وهي أهم نقطة في المنهج. فلا اختلاف – إذن – بينهما في هذه الخطوة الاولى من المنهج. وإذا كان ثمة اختلاف ففي المنطلق العقلي إلى هذه البداهة والوضوح، حيث اشير إليه عند الأقدمين، ولم يتعرض له المحدثون. والسبب يرجع – فيما أرى – إلى أن موضوع البحث في العلم الحديث يختلف
[ 52 ]
عنه في الفلسفة القديمة، ذلك أن الفلسفة تبحث في العلل الاولى للأشياء، أو قل في علاقة الشئ بمؤثره، وهي العلل الفواعل، بينما يبحث العلم في علاقات عناصر ذلك الشئ أي علتيه المادية والصورية. والمنطلقات العقلية إلى البداهة أو الوضوح هي – كما يلخصها استاذنا السيد محمد تقي الحكيم في كتابه (الاصول العامة للفقه المقارن) (1) بعد أن يمهد لها بما يوضحها فيقول: ” ومن أصول الاحتجاج وأولياته أن يتعرف المقارن أو غيره ممن يريد الموازنة والحكم في أية قضية كانت على القضايا الأولية، والقضايا المسلمة لدى كل من يريد الاحتجاج عليهم، ليكون في الإنتهاء إلى هذه الأوليات أو المسلمات فصلا في القول وإلزاما في الحجة. ومع عدم التعرف عليها لا يمكن الفصل في أية مسألة لإصرار كل من الفريقين على وجهة نظره الخاصة. وكل قضية لا تنتهي إلى هذه الأوليات أو المسلمات تبقى معلقة ويتحول الحديث فيها من عالم الموازنة والتقييم إلى عالم تأريخ المباني والتعرف على وجهات النظر فحسب كما هو الشأن في عالم الإستظهارات ودعاوى الإنصراف والتبادر المختلف فيها. وقد يكون من نافلة القول أن نؤكد على أن فقهاء المسلمين وفلاسفتهم على الإطلاق يعتبرون هذه القضايا الأساسية لكل احتجاج من البديهيات أو المسلمات، وهي القضايا التي يتمثل بها: 1 – مبدأ العلية والمعلولية بما فيها من إمتناع تقدم المعلول على العلة، وتأخرها عنه، أو مساواتها له في الرتبة، ثم امتناع تخلفه عنها، فحيثما توجد
العلة التامة يوجد المعلول حتما. 2 – مبدأ استحالة التناقض إجتماعا وإرتفاعا مع توفر شرائط الاتحاد والاختلاف فيها (1). 3 – مبدأ إستحالة اجتماع الملكة وعدمها وارتفاعهما مع توفر قابلية المحل. 4 – مبدأ امتناع اجتماع الضدين. 5 – مبدأ استحالة الدور. 6 – مبدأ استحالة الخلف. 7 – مبدأ استحالة التسلسل في العلل والمعلولات. لذلك لا نرى أية ضرورة للدخول في تفصيل القول في هذه القضايا وما يشبهها ما دمنا نعتقد أن الجميع يؤمنون بها وربما شاركهم فيها فلاسفة العالم على الإطلاق، وان ظهر من بعضهم خلاف ذلك نتيجة عدم تحديد المصطلحات وتوحيد نقطة النزاع فيها، وإلا فلست أظن أن عاقلا من العقلاء يؤمن بإمكان اجتماع النقيضين مع توفر شرائط التناقض في الاتحاد والإختلاف، وهؤلاء الذين يدعون الإيمان بإمكان اجتماعهما لا يصورون الاجتماع إلا مع فقد بعض هذه الوحدات كالقائلين بنسبية الأشياء حيث يفقدون في أمثلتهم إما شرط الزمان أو المكان أو الإضافة، وفي بعض أمثلتهم خلط بين جمع النقيض إلى النقيض
(1) – يشترط الفلاسفة في اجتماع أو ارتفاع النقيضين اجتماع وحدات عشر، هي: الموضوع، المحمول، الزمان، المكان، الرتبة، الشرط، الإضافة، الجزء والكل، القوة والفعل، الحمل. كما اشترطوا ضرورة الاختلاف في ثلاثة، هي: الكم والكيف والجهة. ومع تخلف إحدى هذه الوحدات، أو عدم توفر الاختلاف في واحد من هذه الثلاث لا يمنع العقل من إمكان الاجتماع أو الارتفاع. (*)
[ 54 ]
واجتماع النقيضين حيث لم يحسنوا التفرقة بينهما (1) كما لم يحسنوا التفرقة بين الضد والنقيض “. والمنطق القديم – باعتباره منهج بحث – أفرز أمام الباحثين الاصوليين: الطريقتين المعروفتين في مجال الإستدلال، وهما: 1 – طريقة الاستقراء: وهي تعتمد الملاحظة والتجربة، والانتقال من الجزئي إلى الكلي. 2 – طريقة الاستنتاج: وهي تعتمد التفكير الذهني في معلومات كلية معينة ينتقل منها إلى المطلوب. وعند تعامل الاصوليين مع هاتين الطريقتين وتطبيقهما على قضايا ومسائل علم أصول الفقه برز أمامهم مصدران لهاتين الطريقتين وهما: 1 – النقل، وطريقته الاستقراء. 2 – العقل، وطريقته الاستنتاج. وعبر بعضهم عن النقل بالشرع، وقد جر هذا التعبير إلى ما يشبه الخصومة بين أنصار كل طريقة تجاه أنصار الاخرى. ودخل عنصر التقديس فشدد كل طرف على طريقته بما أدى إلى شئ من الاضطراب. ولنذكر لهذا بعض الأمثلة:
(1) – إقرأ ما كتبه الماركسيون حول صراع المتناقضات، وما كتبه النسبيون حول إمكان اجتماع النقيضين على أساس من نظريتهم النسبية مع ان صدق النظرية لا يبطل استحالة اجتماع النقيضين لفقد شرط الإضافة فيها كما هو واضح. (*)
[ 55 ]
1 – رفض النقليون ما يعرف بمفهوم الموافقة أو الأولوية، لأنه لم يرد نقل عن المشرع الإسلامي بلزوم الأخذ بذلك، فقوله تعالى: * (لا تقل لهما اف) * يدل على حرمة التأفيف فقط، ولا يتعدى منه إلى حرمة ما هو أولى منه بالحرمة كالسب والضرب. مع أن هذه القضية هي من البديهيات التي لا تحتاج حتى إلى أدنى قليل من التفكير للإيمان بها، لكن التقديس للنقل الذي فرض إلغاء تحكيم العقل حتى في أوضح البديهيات أدى إلى هذا الإنكار. 2 – وأسرف العقليون في الإلتزام بقواعد علم المنطق كما في التزامهم بتعريفه لموضوع العلم بأنه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، حتى آل بهم الأمر إلى إنكار أن يكون لعلم أصول الفقه موضوع خاص، فقالوا: إن الذي يبحث فيه هذا العلم لا يصدق عليه عنوان موضوع، وإنما هو مجموعة مسائل التقت حتى مظلة هدف معين وحد بينها، وكان هو القدر الجامع بينها والقاسم المشترك لها. وجاء هذا بسبب تقديسهم لمعطيات علم المنطق دونما إخضاعها للنقد العلمي ومحاولة الوقوف على مواطن الضعف فيها والقوة، والخطأ والصواب. مع أن التعليمات العلمية المنهجية تقول: ” إن مفاهيم القدماء ليست ملزمة لنا، وليست شيئا مقدسا لا يجوز الخروج عنه، وتجاوزه. إننا نحترم هذه المفاهيم وندرسها ونستأنس بها ونوظفها في دراساتنا حتى ثبتت جدواها وقيمتها ” (1).
(1) – د. سعدون السويج في مقدمته لكتاب (الألسنة الحديثة واللغة العربية) للدكتور محيي الدين حميدي. (*)
[ 56 ]
وعند مراجعة كتب أصول الفقه لمختلف مدارسه النقلية والعقلية والاخرى التي هي بين بين، في مجال دراسة الظواهر الاصولية من خلال ربط النتيجة بالدليل، نستخلص أن لديهم ثلاثة مناهج، سارت – من ناحية تاريخية – بين مد وجزر، وهي: 1 – المنهج النقلي: الذي يعتبر النقول الشرعية (نصوص الكتاب والسنة) هي المصدر الأساسي والوحيد لاصول الفقه، حتى في مثل ما أوضحنا من بديهيات عقلية كمفهوم الأولوية. 2 – المنهج العقلي: الذي اعتبر العقل المتمثل في (العقل الفطري) و (سيرة العقلاء)، هو المصدر المعتمد لاصول الفقه، والمنقول أو النصوص الشرعية جاءت تأييدا له وتأكيدا عليه، وربما أسرفت في الاعتماد عليه حتى في مثل ما أشرت إليه من الأخذ بالنظرية المنطقية التي تقول: (إن موضوع كل علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية)، وهي – في حقيقتها – ليست من مدركات العقل الفطري ولا مما تبناه العقلاء، إنما هي نتيجة تفكير شخصي أخطأ فيما قصد الإصابة فيه. 3 – المنهج التكاملي: وهو ذلك المنهج الوسط الذي حاول أن يكون بين بين، فيأخذ من العقل في حدود ما يسمح بالرجوع إليه، ويأخذ من النقل داخل إطار ما يراه مجالا له. المدارس الاصولية: ولكي نتبين تاريخ وتطور ما أشرت إليه من مناهج اصولية، علينا أن نوطئ لها بتعريف المدارس الفقهية الاولى عند أهل السنة وذلك لأن مدارسنا الاصولية
[ 57 ]
تأخرت في ولادتها عن المدارس الاصولية لأهل السنة، فربما دفعها هذا التأخر إلى التأثر بها في بدء نشوئها ولو بالجوانب الفنية منها. ولدت مدارس أهل السنة في الأوساط العلمية السنية بسبب الاختلافات الفقهية التي قامت بين مجتهدي الصحابة والتابعين والتي تمخضت عما عرف عندهم ب (مدرسة الحديث) و (مدرسة الرأي). ” نشأت مدرسة الحديث في المدينة، وسبب نشوئها في المدينة توافر السنة فيها بشكل كبير، مما دفع علماء المدينة للاعتماد الكلي على ما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مما كان محفوظا لديهم من سنة قولية، وشائعا بينهم من سنة فعلية “. ” وتمثل مدرسة الرأي الاتجاه الفقهي الثاني الذي بدأت معالمه تتضح في العراق تحت تأثير عوامل مختلفة دفعت إليه. وتؤكد الروايات التاريخية أن الصحابة الذين اشتهروا بالرأي قد تأثروا بالمنهج المتميز الذي كان عمر بن الخطاب يعتمد عليه في اجتهاداته وآرائه. ويعتبر عمر بن الخطاب من أكثر الصحابة تأثرا بالرأي وأشجعهم عليه وأقدرهم على استجلاء العلل وقياس الفروع على الاصول “. ” وكان لكل مدرسة شيوخها وعلماؤها ومناهجها وأدلتها، وبالرغم من ظهور فجوة واسعة بينهما في بداية الأمر، فان تلك الفجوة ما لبثت أن ضاقت وتلاقت المدرستان في اتجاه فقهي متكامل ظهر فيما بعد على يد العلماء الذين استطاعوا أن يجمعوا بين الحديث والرأي في منهجهم الفقهي ” (1).
(1) – المدخل للتشريع الإسلامي، د. محمد فاروق نبهان، ط 1 سنة 1977 م. ص 150 و 152. (*)
[ 58 ]
وقد تبلورت هاتان المدرستان – وبشكل واضح – في اخريات القرن الأول الهجري عند إنقراض آخر جيل من أجيال علماء الصحابة الذين كان أخرهم الصحابي الفقيه جابر بن عبد الله الأنصاري المتوفى سنة 78 ه، وتوجه التابعين إلى تدوين السنة وكتابة الفقه، ومحاولة استخلاص اصوله منه. وظهر في الأوساط الفقهية الإمامية ما يماثل هذا الذي حدث عند أهل السنة، ولكن في المنتصف الأول من القرن الرابع الهجري، أي في فترة الغيبة الصغرى، حيث توفى آخر وكيل ديني للإمام المهدي (عليه السلام) وهو علي بن محمد السمري المتوفى سنة 329 ه، فكانت أيضا مدرستان تشبهان إلى حد مدرستي الحديث والرأي عند أهل السنة، وهي: 1 – مدرسة الصدوقين: علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (ت 323 ه) وإبنه محمد بن علي بن بابويه القمي الشهير بالصدوق (ت 381 ه). اعتدمت هذه المدرسة الحديث مصدرها الأساسي في الدرس الفقهي. ويرجع هذا إلى أنها انبثقت في مدينة (قم) عش آل محمد، وملتقى الوفرة الوافرة من رواة حديثهم، فقد ذكر المجلسي الأول في كتابه الموسوم ب (اللوامع): ” أنه كان في زمان علي بن الحسين بن موسى بن بابويه في (قم) من المحدثين مائتا ألف رجل ” (1). وكان فيها – أيضا الوفرة الوافرة من نصوص الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) ما يغطي كل احتياجات الفقهاء في مجال الفتوى، ولا أدل على هذا من
(1) – أنظر: تاريخ التشريع الإسلامي، للمؤلف ص 250. (*)
[ 59 ]
كتاب علي بن بابويه الفقهي المعروف ب (الرسالة) الذي يقول في فاتحته: ” إن ما فيه مأخوذ عن أئمة الهدى، فكل ما فيه خبر مرسل عنهم “، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) لإبنه الصدوق الذي ضمنه فتاواه الفقهية وكلها نصوص أحاديث. وقد ابتعد أقطاب هذه المدرسة عن الرجوع إلى العقل حتى في المعتقدات. ونرى هذا واضحا في الكتاب الآخر الذي ألفه الشيخ الصدوق في (التوحيد)، فقد اعتمد فيه اعتمادا أساسيا على المنقولات الشرعية، فلم يتجاوزها إلا في شرحها حيث استخدم في بعض ذلك المعطيات العقلية. وفي ذهاب الشيخ الصدوق إلى القول بسهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة مستندا على بعض الروايات في ذلك، لدليل واضح على اعتماده على الحديث في مقابل العقل الذي يستدل به الإمامية على نفي السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1). ولنطلق على هذه المدرسة اسم (المدرسة النقلية). 2 – مدرسة القديمين: الحسن بن علي بن أبي عقيل الحذاء العماني (معاصر علي بن بابويه)، ومحمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي البغدادي المتوفى سنة 381 ه (معاصر الشيخ الصدوق). فقد كان لوجودهما في بغداد أثر قوي في إنطلاقهما نحو التأكيد على الاجتهاد عن طريق تطبيق القواعد الاصولية، كذلك ميل ابن الجنيد إلى اجتهاد الرأي، وإعطاء الاعتبار للقياس الشرعي المصدرين المعروفين لدى أهل السنة، وبخاصة
(1) – يراجع لمعرفة التفصيل في المسألة كتاب (بحار الأنوار) المجلد 17، الباب 16 (سهوه ونومه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة). (*)
[ 60 ]
فقهاء مدرسة الرأي منهم، فقد كانت بغداد المركز الثاني بعد الكوفة لفقهاء مدرسة الرأي السنية. يقول النجاشي (1) في ابن الجنيد: ” سمعت شيوخنا الثقات يقولون عنه: إنه كان يقول بالقياس “. وفي (الكنى والألقاب) (2) عن السيد بحر العلوم أنه قال في ابن الجنيد: ” وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة والرئاسة وعظم محله قد حكي عنه القول بالقياس، واختلفوا في كتبه، فمنهم من أسقطها، ومنهم من اعتبرها “. ومن كتبه المشار إليها: – كتاب كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس. – كتاب إظهار ما ستره أهل العناد في الرواية على أئمة العترة في أمر الاجتهاد. والذي يظهر من موقف الشيخ المفيد الذي سأشير إليه أن ثمة مقابلة سافرة كانت بين أنصار الاتجاهين بالمستوى الذي انتهى بهما إلى أن يكونا مدرستين متقابلتين، تماما كالذي حدث عند أهل السنة. ويسلمنا هذا إلى أن فقه الإمامية في القرن الرابع الهجري كان يتحرك في إطار هاتين المدرستين، وأن اصوله (أصول الفقه) كانت تستمد من الحديث في مدرسة الصدوقين، ومن العقل في مدرسة القديمين. ولنطلق على هذه المدرسة (مدرسة القديمين) المدرسة العقلية.
ويسلمنا أيضا إلى أن حركة الفقه الإمامي بعد غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) الصغرى لصعوبة الوصول إليه أخذت نفس المسار الذي أخذته حركة الفقه السني، حيث سارت باتجاهين: – خط الحديث. – خط الشرع. وسمي هذان الخطان في لغة غير واحد من فقهاء الإمامية ب: – خط الاجتهاد. – وخط العقل. بما أدى إلى أن يكون وضع المقابلة بينهما مقابلة بين الشرع والعقل. وجاء هذا نتيجة حدة الصراع وشدة التعصب. 3 – مدرسة المفيد: وكان مجئ الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي (ت 314 ه) عامل توازن بين المدرستين عن طريق الجمع بينهما، وسلوك الخط الوسط أو طريقة البين بين. ” بسبب ما كان يتمتع به الشيخ المفيد من شخصية علمية عالية ومنزلة قيادية مرموقة، واهتمام كبير بأمر التشيع، وعناية فائقة بحركة الفكر التشريعي الإسلامي، في إطار مذهب أهل البيت، والعمل باحتياط واع، على تهيئة الجو العلمي النظيف الذي يوفر له أصالته وجديته، ويفتح الطريق أمامه لعطاء مثمر مفيد.
[ 62 ]
وبسبب ما رآه من بوادر لانشقاق الصف الشيعي العلمي إلى هذين الإتجاهين بما يحمل أولهما من جمود قد يعوق مسيرة التطور الفكري التشريعي، وما يحمل ثانيهما من إنطلاق تجاوز حدود الدائرة المذهبية. لهذا وذاك رأى أن يسلك طريق البين بين، ؟ فلا جمود ولا إنطلاق ولكن أمر بين أمرين، يحفظ للتشريع أصالته، ويعطيه المجال للتطور داخل إطار تلكم الأصالة. فجمع أمره وحشد كل ما يملك من طاقات فكرية وقيادية للقيام بالمهمة. وتجسد عمله بالتالي: 1 – ألف رسالته الفتوائية المعروفة ب (المقنعة) في أصول الدين وفروعه، ولم يلتزم في كتابتها وعرضها متون الأحاديث. وأقام فتواه فيها على ما ذكره من مصادر للتشريع في كتابه (أصول الفقه)، وهي: – الكتاب. – السنة. – أقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام). فيكون بهذا قد رفض القياس، ولم يجمد على حرفية التعبير بمتون الأحاديث. 2 – ألف رسالته (التذكرة في أصول الفقه) التي اختصرها تلميذه الشيخ أبو الفتح الكراجكي وأدرج المختصر ضمن كتابه (كنز الفوائد).
[ 63 ]
وحصر فيها مصادر التشريع بما ذكرته أعلاه، قال (1): ” إعلم أن أصول أحكام الشريعة ثلاثة أشياء: – كتاب الله سبحانه. – وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). – وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده “. ويعني بأقوال الأئمة فتاواهم في أجوبة الأسئلة التي كانت ترفع إليهم، ويحسون عنها بمضمون حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بمتنه ولفظه، ذلك أن أجوبتهم، وما أعطوه من أحكام كانت على نوعين: أ – ما التزموا فيها متن حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظه. ب – ما ضمنوها معنى الحديث وعبروا عن الحكم بلفظهم لا بلفظ الحديث. كما أشار فيه إلى (دليل العقل) باعتباره الطريق الموصل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار، قال في الصفحة نفسها: ” والطرق الموصلة إلى علم الشرع في هذه الاصول الثلاثة (يعني الكتاب والسنة وأقوال الأئمة). أحدها: العقل، وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار. الثاني: اللسان، وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام. وثالثها: الأخبار، وهي السبيل إلى إثبات أعيان الاصول من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة ” (2). فهو بهذا حصر مصادر التشريع بالكتاب والسنة، ووضع العقل
(1) – كنز الفوائد ص 81 من ط لبنان. (2) – أنظر: تاريخ التشريع الإسلامي للمؤلف ص 263 – 263. (*)
[ 64 ]
في موضعه، وهو اعتباره دليلا على حجية الظاهرة الاصولية. فمدرسته تستمد القاعدة الاصولية من العقل، وتستمد الحكم الفقهي من الكتاب والسنة. وألف مختصره الاصولي نموذجا يسير عليه الخط الاصولي الإمامي الجديد، وخطة للتأليف فيه يحتذيها طلابه الذين أعدهم لذلك ووجههم إليه. ولنطلق على هذه المدرسة عنوان المدرسة التكاملية. ونخلص من هذا إلى أنه كانت عندنا حتى القرن الخامس الهجري ثلاث مدارس بثلاثة مناهج، وهي: 1 – المدرسة الاصولية النقلية، ومرجعها النقل. 2 – المدرسة الاصولية العقلية، ومرجعها العقل. 3 – المدرسة الاصولية التكاملية، التي جمعت بين الرجوع إلى العقل دليلا على حجية القاعدة الاصولية، والرجوع إلى النقل (الكتاب والسنة) مصدرا للحكم الفقهي ودليلا عليه. وكما تقدم، يرسم الشيخ المفيد – رأس هذه المدرسة – الخطوط العامة للمنهج الاصولي التكاملي في مختصره الاصولي بقوله: ” اعلم أن أصول أحكام الشريعة ثلاثة أشياء: – كتاب الله سبحانه. – وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). – وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم).
[ 65 ]
والطرق الموصلة إلى علم الشرع في هذه الاصول الثلاثة: أحدها: العقل، وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار. والثاني: اللسان، وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام. وثالثها: الأخبار، وهي السبيل إلى إثبات أعيان الاصول من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة… “. فهو بهذه الوثيقة العلمية يقرر: 1 – أن الطريقة لإثبات حجية أدلة الفقه من الكتاب والسنة هو العقل. والذي يحتاج إلى الإثبات بالنسبة للقرآن الكريم ليس هو السند إذ لا خلاف في أنه من الله تعالى، ولا في دلالته النصية لأن المعنى متعين بذاته، وإنما هو دلالة الظهور لأنها ظنية، والطريق لإثبات حجية الظهور هو العقل. وتشترك السنة مع الكتاب في الدلالة، وتختلف عنه في السند فما كان متواترا أو مقرونا بما يفيد القطع، فالعقل يحكم بحجيته أيضا، لأن اليقين لا يستفاد من الدليل إلا إذا كان في أعلى مراتب حجيته.. وإن كان خبر ثقة فهو مظنون، والطريق إلى إثبات حجيته هو العقل. فالخط العام هو: أن الطريق لإثبات الحجية هو العقل. والخط العام الآخر لاستخلاص الحكم الشرعي من النص الشرعي (آية أو رواية) – بعد ثبوت حجيته – هو تطبيق قواعد اللغة العربية في الصرف والنحو والبلاغة والدلالة والمعجم. وفي ضوئه: نقول:
[ 66 ]
– عندنا كليات وهي القواعد الاصولية، والطريق لإثبات حجيتها هو العقل. – وعندنا جزئيات وهي النصوص الشرعية (الآيات والروايات)، والطريق لمعرفة معناها هو تطبيق قواعد اللغة العربية. وسنتبين – في موضعه – أن المراد بالعقل – هنا – هو سيرة العقلاء (سلوك أبناء المجتمع البشري) أي الظواهر الاجتماعية العامة. والمنهج الذي ينبغي أن يتبع لدراسة الظاهرة الاجتماعية هو المنهج الاجتماعي، ويأتي له زيادة إيضاح. ويلاحظ – هنا – أن الشريف المرتضى عندما أراد وضع كتابه الاصولي (الذريعة) لم يجد أمامه ما يرجع إليه في دراسة المادة الاصولية إلا كتاب شيخه المفيد، وهو مختصر جدا، وإلى جانبه. الكتب الاصولية السنية، وهي كثيرة وكاملة في مادتها ومتكاملة فيما بينها. وهذا الواقع – بطبيعته – يفرض عليه الرجوع إلى الكتب السنية من ناحية فنية على الأقل. وعليه أن يقارن ويوازن حتى تنتهي المسيرة الاصولية الإمامية بعد حين من الزمن إلى الاصول الإمامي المستقل. وفي الوقت نفسه نعى على المؤلفات السنية المتوافرة آنذاك إغراقها وإسرافها في التعامل مع معطيات علم الكلام بما يصعب معه التمييز بين علم الكلام وعلم الاصول من حيث المنهج، قال: ” أما بعد، فإني رأيت أن أملي كتابا متوسطا في أصول الفقه، لا ينتهي بتطويل إلى الإملال، ولا باختصار إلى الإخلال، بل يكون للحاجة سدادا، وللتبصرة زيادا، وأخص مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء، فان مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها إلى ذلك.
[ 67 ]
فقد وجدت بعض من أفرد لاصول الفقه كتابا، وان كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومبانيه قد شرد عن قانون أصول الفقه واسلوبها، وتعداها كثيرا وتخطاها، فتكلم على حد العلم والظن، وكيف يولد النظر العلم، والفرق بين وجوب المسبب عن السبب، وبين حصول الشئ عند غيره على مقتضى العادة، وما تختلف فيه العادة وتتفق، والشروط التي يعلم بها كون خطابه. تعالى دالا على الأحكام وخطاب الرسول (صلى الله عليه وآله)، والفرق بين خطابيهما بحيث يجتمعان أو يفترقان، إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص للكلام في أصول الدين دون أصول الفقه ” (1). ويرمي بهذا إلى نقد احتواء علم الكلام لعلم الاصول، وليس استخدام العقل مصدرا اصوليا. وبإلقاء نظرة على مراجع كتابه (الذريعة) نجده قد رجع إلى الأعلام التالية أسماؤهم: 1 – أبو علي: محمد بن عبد الوهاب الجبائي المعتزلي (ت 303 ه)، ومن المظنون قويا أنه أخذ آراءه الاصولية والكلامية من كتابه (تفسير القرآن)، ومما نقل عنه في الكتب الاصولية والكلامية التي وقف عليها. 2 – أبو هاشم: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي (ت 321 ه)، له كتاب (العدة في أصول الفقه)، وأخال قويا أنه رجع إليه، وإلى ما نقل عن أبي هاشم من آراء كلامية واصولية في الكتب التي هي تحت متناوله. 3 – أبو الحسن الكرخي: عبيدالله بن الحسن البغدادي الحنفي (ت 340 ه)، له رسالته في أصول الفقه التي عليها مدار فروع فقه الأحناف، ربما رجع إليها، وإلى ما نقل عنه في غيرها من رسائل وكتب.
(1) – تاريخ التشريع الإسلامي للمؤلف ص 311. (*)
[ 68 ]
4 – أبو بكر الفارسي: أحمد بن الحسن بن سهل الشافعي (ت حدود 350 ه) له: الذخيرة في أصول الفقه. 5 – القفال: أبو بكر محمد بن علي الشاشي الشافعي (ت 365 ه)، له: كتاب أصول الفقه. 6 – أبو عبد الله: الحسين بن علي البصري المعتزلي (ت 367 ه)، له: كتاب التفضيل في الإمامة. كما رجع (أعني المرتضى) إلى كتابيه (الذخيرة) وهو في علم الكلام، و (الشافي) وهو في الإمامة. وأمر طبيعي أن تكون نسبة المراجع السنية فيه أكثر من المراجع الإمامية، لعدم وجود مؤلفات في أصول الفقه الإمامي غير مختصر استاذه الشيخ المفيد، فلا غنى له – حينئذ – عن أن يستفيد في التبويب لمواد أصول الفقه، ومسالك البحث فيها فنيا من تجارب سابقيه. وأيضا لا غرابة أن نجده يتأثر بالجو الفكري المهيمن آنذاك على المؤلفات الاصولية حيث طبعت بطابع احتواء علم الكلام لعلم الاصول، وبخاصة أنه من أعلام المتكلمين والمؤلفين فيه. ومع هذا كان له فضل السبق في محاولة التخفيف من غلواء هيمنة علم الكلام على علم الاصول بالإكثار من استعراض آراء الفقهاء إلى جانب آراء المتكلمين ليمهد لمن يأتي بعده الطريق إلى إستقلال علم الاصول بمنهجه الخاص به عن منهج علم الكلام واستقلال أصول الفقه الإمامي في خطوطه وطبيعة مراجعه عن أصول الفقه السني. وقد شمل هذا التأثر بكتب الاصول السنية من حيث المنهج في سيرها وفق
[ 69 ]
المنهج الكلامي، وفي المادة من حيث احتواء علم الكلام لعلم الاصول ما كتب في القرنين السابع والثامن الهجريين كمؤلفات الفاضلين (المحقق والعلامة) الاصولية: وأوضح مثال لذلك كتاب (معارج الاصول) للمحقق الحلي (ت 676 ه)، فان مراجعه الاصولية التي رجع إليها هي: 1 – الشيخ المفيد في مختصره الاصولي المعروف، فقد نقل عنه بعض عبائره كما في ص 187. 2 – الشريف المرتضى. 3 – الشيخ الطوسي. هؤلاء هم مراجعه من الإمامية، ومن المظنون قويا استقاؤه آراء المرتضى من (الذريعة)، والطوسي من (العدة)، وان لم يذكر الكتابين في كتابه لا تصريحا ولا بالإشارة إليهما. وكذلك صنع هذا الصنيع مع المراجع الاصولية السنية، فقد كان يذكر اسم العالم السني، ولا يذكر الكتاب الذي أخذ رأيه منه، فمن المحتمل أن يكون قد أخذه من (الذريعة) أو (العدة) ومن المحتمل أيضا أن يكون قد أخذه من كتاب العالم السني مباشرة. ويرجح الاحتمال الثاني لأن الكتب السنية الاصولية المشار إليها كانت موجودة في عصره، وفي متناول المؤلفين. وها هي أسماء العلماء المذكورة في كتابه: 1 – الإمام الشافعي (ت 204 ه)، له: الرسالة. 2 – أبو علي الجبائي.
[ 70 ]
3 – أبو هاشم الجبائي. 4 – أبو الحسن الكرخي. 5 – القفال الشاشي. 6 – أبو عبد الله البصري. 7 – القاضي: عبد الجبار بن أحمد الهمداني المعتزلي (ت 415 ه). 8 – أبو الحسين: محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (436 ه)، له: المعتمد في أصول الفقه. ورجع إلى آخرين عن طرق غير مباشرة، أي نقلا عن المصادر التي بين يديه، وهم: – ابن قبة: أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن الرازي من أصحابنا الإمامية ومن متقدميهم في علم الكلام، له: كتاب (الأنصاف) في الإمامة، نقل منه الشيخ المفيد في كتابه (العيون والمحاسن). نقل المحقق رأيه المعروف في استحالة التعبد بخبر الواحد، قال (1): ” المسألة الثانية: يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا، خلافا لابن قبة من أصحابنا، وجماعة من علماء الكلام “. كما أشار إلى هذا قبله السيد المرتضى في (الذريعة)، فربما قد نقله عنه. – أبو الهذيل العلاف المعتزلي (2). – ابن سريج البغدادي الشافعي (3).
– النظام ص 41. – الأشعرية ص 36. – أصحاب الشافعي ص 7. – بعض الحنفية ص 99. – بعض العراقيين ص 801. – الحشوية ص 991. – المعتزلة ص 41. – أهل الظاهر ص 31. والملحوظ – كما هو واضح – أن نسبة المصادر السنية تزيد على نسبة المصادر الإمامية بالضعف ونصف الضعف. وأن أكثر المصادر السنية هم معتزلة وعلماء كلام. ويبدو لي أن المحقق أفاد كثيرا من ذريعة السيد وعدة الشيخ. ربما كانتا هما الطريقين إلى آراء علماء أهل السنة، لأن كتابه (المعارج) يكاد يكون صدى مختصرا لذريعة المرتضى، لولا ما أضاف من مصادر اخرى لم يذكرها المرتضى لأنها ما كانت على عهده. أما ظاهرة احتواء علم الكلام لعلم الاصول فتتمثل بالمبدأ الكلامي العام الذي ارسيت عليه جميع نظرياته ومعطياته الاخرى، وهو مبدأ التحسين والتقبيح، الذي يراد به تقسيم أفعال الإنسان إلى حسنة يمدح فاعلها ويثاب عليها، وقبيحة يذم فاعلها ويعاقب عليها. وهو بالنسبة لعلم الكلام مبدأ سليم لأن علم الكلام يبحث في المبدأ والمعاد، فالله تعالى لا يأمر إلا بالفعل الحسن ولا ينهى إلا عن الفعل القبيح، هذا من حيث
[ 72 ]
المبدأ. وهو في المعاد يجازي على الحسن بالثواب وعلى القبيح بالعقاب. أما بالنسبة لاصول الفقه فلا مجال لأن يكون هذا المبدأ الكلامي هو المعيار، ذلك أن أصول الفقه هي أصول تشريع، والتشريع يتعلق بفعل الإنسان بما فيه من مصلحة أمرا، وبما فيه من مفسدة نهيا. وبتعبير آخر: أن التشريع هو مجموعة أوامر ونواهي، اصدرت لتنظيم علاقة الإنسان بالآخر، على أساس من جلب المصلحة له ودفع المفسدة عنه، والثواب والعقاب ليسا على الفعل، وإنما على الطاعة وعدمها المتمثلين بالامتثال من العبد وعدمه. فان لا ينظر إلى هذا المبدأ العام للتشريع عند البحث عن قواعده واصوله، وينظر إلى المبدأ العام الآخر، وهو المبدأ الكلامي لهو دليل واضح على احتواء علم الكلام لعلم الاصول. وإليك بعض الشواهد على هذا من كتاب (المعارج): (1) ” يقسم الفعل إلى حسن وقبيح “. ” ويعرف الواجب: ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم “. (2) ” يعرف المكروه: ما الأولى تركه، وليس لفعله تأثير في إستحقاق الذم “.
(1) – المعارج ص 74. (2) – ص 84. (*)
[ 73 ]
(1) ” الأول: أن الأمر يقتضي كونه حسنا، والنهي يقتضي كونه قبيحا، فيلزم كونه حسنا قبيحا معا “. ” والثاني: أن الفعل الواحد إما أن يكون حسنا وإما أن يكون قبيحا، فبتقدير أن يكون حسنا يلزم قبح النهي عنه، وبتقدير أن يكون قبيحا يقبح الأمر به “. (2) ” والجواب عن الرابع: أن الأمر والنهي يتبعان متعلقهما فان كان حسنا كانا كذلك وإلا قبحا. على انه لو كان الأمر كذلك، لم يكن متعلق الأمر مرادا، فلا يكون مأمورا به، فلا يكون النسخ متناولا له “. وقد مهد صنيع الحليين الفاضلين ومن سواهما بما ألفوا من كتب ورسائل في أصول الفقه إلى استقلال علم الاصول في مراجعه عن الاصول السني، وتم ذلك في اخريات القرن العاشر وأوليات القرن الحادي عشر الهجريين. وتجلى هذا واضحا في كتاب (معالم الدين) للشيخ حسن العاملي (ت 1011 ه) فقد رجع إلى: – الشريف المرتضى في (الذريعة) و (الشافي) و (المسائل التبانيات). – الشيخ الطوسي في (العدة). – القاضي ابن البراج. – السيد ابن زهرة في (الغنية).
(1) – ص 168. (2) – ص 169 – 171. (*)
[ 74 ]
– الشيخ ابن إدريس في (السرائر). – السيد ابن طاووس في (البهجة لثمرة المهجة). – المحقق الحلي في (المعارج) و (المعتبر). – العلامة الحلي في (التهذيب) و (النهاية). – فخر المحققين عن طريق الشهيد الثاني. – الشهيد الأول في (الذكرى) و (الدروس). – الشهيد الثاني في (فوائد الخلاصة). – الشيخ المفيد، رجع إليه عن طريق الفاضلين المحقق والعلامة. – الشيخ سديد الدين الحمصي عن طريق السيد ابن طاووس. – وذكر آخرين قليلين من علماء أهل السنة، رجع إليهم عن طريق علماء الإمامية. وهو (أعني صاحب المعالم) بصنيعه هذا استقل باصول الفقه من حيث المرجعية. وبقي أصول الفقه الإمامي حتى عصره يبحث في موضوعات لا علاقة له بها مثل موضوع القياس. العودة إلى المدرسة النقلية: وكان هذا بالثورة النقدية التي أحدثها الميرزا محمد أمين الاسترابادي الأخباري (ت 1033 ه) على الاصوليين القائلين بالاجتهاد من خلال تطبيق أصول الفقه المستمدة من العقل.
[ 75 ]
فقد حاول أن يلغي دور العقل كمصدر للقاعدة الاصولية، بإلغائه حجية ظواهر الكتاب وظواهر السنة لأن الدليل على هذه الحجية هو سيرة العقلاء، أو قل هو (دليل العقل) كما عبر عنه غير واحد من علماء الاصول، وبهذا التعبير تكمن المفارقة – التي اشير إليها – والتي أدت إلى أمثال موقف الميرزا الاسترابادي. جاء في كتابه (الفوائد المدنية) (1) -: ” لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام)، بل يجب التوقف والاحتياط “. وقد حاول بعض أتباع طريقته أن يؤكدوا على أن أصول الفقه لا تؤخذ إلا من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، كما لا تؤخذ الأحكام الشرعية إلا عنهم (عليهم السلام)، فكانت المؤلفات التالية: – هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار، للشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي 1076 ه. – الاصول الأصلية. – نقد الاصول الفقهية. وكلاهما للفيض الكاشاني 1091 ه. – الفصول المهمة في أصول الأئمة، للحر العاملي 1104 ه. – الحدائق الناضرة (المقدمات) ومبحث (الإجماع) عند بيان حكم صلاة الجمعة في زمن الغيبة. – الدرة النجفية. وكلاهما للشيخ يوسف البحراني 1186 ه.
(1) – ص 47. (*)
[ 76 ]
– الاصول الأصلية والقواعد المستنبطة من الآيات والأخبار المروية، للسيد عبد الله شبر 1242 ه. وكلها تؤكد على ما ذكرت وتنقد طريقة مدرسة القديمين العقلية في منهجها الاصولي، ومدرسة المفيد في الجانب العقلي من منهجها التكاملي. ومن هذا ما جاء في كتاب (الحدائق الناضرة) (1) – عند كلام المؤلف على بطلان الاستدلال بالإجماع: ” المقام الثاني في الإجماع، وقد تقدم في مقدمات الكتاب نزر من القول في بيان بطلان القول به والاعتماد عليه في الاحكام الشرعية وعدم كونه مدركا لها، وان اشتهر في كلامهم عده من المدارك القطعية كالكتاب العزيز والسنة النبوية. ونزيده – هنا – بمزيد من التحقيق الرشيق والتدقيق الأنيق فنقول: قد عرفت – ما قدمنا في المقام الأول – دلالة خبر الثقلين على أن ما يعمل به أو عليه من حكم فرعي أو مدرك أصلي يجب أن يكون متمسكا فيه بكتاب الله تعالى وأخبار العترة – على ما مر من البيان – لتحقق الأمن من الضلال والنجاة من أهوال المبدأ والمال، والزاعم لكون ذلك مدركا شرعيا زائدا على ما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) يحتاج إلى إقامة البرهان والدليل، وليس له إلى ذلك سبيل إلا مجرد القال والقيل. ومن الظاهر عند التأمل بعين الإنصاف وتجنب العصبية للمشهورات الموجبة للاعتسافات أن عد أصحابنا – (رضوان الله عليهم) الإجماع مدركا إنما اقتفوا فيه العامة العمياء لاقتفائهم لهم في هذا العلم المسمى بعلم أصول الفقه، وما اشتمل عليه من المسائل والأحكام والأبحاث، وهذه المسألة من امهات مسائله ولو أن لهذا العلم من أصله أصلا أصيلا لخرج عنهم (عليهم السلام) ما يؤذن بذلك، إذ لا يخفى على
(1) – الحدائق الناضرة 9 / 361 – 362. (*)
[ 77 ]
من لاحظ الأخبار انه لم يبق أمر من الامور التي يجري عليها الإنسان في ورود أو صدور من أكل وشرب ونوم ونكاح وتزويج وخلاء وسفر وحضر ولبس ثياب ونحو ذلك إلا وقد خرجت الأخبار ببيان السنن فيه، وكذا في الأحكام الشرعية نقيرها وقطميرها، فكيف غفلوا (عليهم السلام) عن هذا العلم، مع أنه – كما زعموه – مشتمل على أصول الأحكام الشرعية، فهو كالأساس لها لابتنائها عليه ورجوعها إليه هذا، وعلماء العامة كالشافعي وغيره في زمانهم (عليهم السلام) كانوا عاكفين على هذه العلوم تصنيفا وتأليفا واستنباطا للأحكام الشرعية بها، وجميع ذلك معلوم للشيعة في تلك الأيام، فكيف غفلوا عن السؤال منهم عن شئ من مسائله ؟ ومع غفلة الشيعة كيف رضيت الأئمة (عليهم السلام) بذلك لهم ولم يهدوهم إليه ولم يوقفوهم عليه ؟، مع كون مسائله اصولا للأحكام، كما زعمه اولئك الأعلام “. ويبدو أن هذه الثورة بلغت ذروتها في عصر المحدث البحراني فاتخذت من كربلاء مركزا علميا لها. وكان القرنان الحادي عشر والثاني عشر ظرفا مهيئا لاكتمال متطلبات نموها واستقرارها. وقد أطلق على المدرسة النقلية منذ حركة الميرزا الاسترابادي اسم الأخبارية نسبة إلى الأخبار، وعلى مقابلتهم اسم الاصولية نسبة إلى علم الاصول. كما اطلق على الإخباريين عنوان المحدثين نسبة إلى الحديث وعلى الاصوليين عنوان المجتهدين نسبة إلى الاجتهاد. ومن الآن سوف نستعمل المصطلحين المذكورين فنطلق على المدرسة النقلية اسم (المدرسة الإخبارية) وعلى المدرسة التكاملية اسم (المدرسة الاصولية).
[ 78 ]
استمرارية المدرسة الاصولية: وفي مقابلة الحركة الإخبارية وانتشارها في العراق وتمركزها في كربلاء، وصدور أكثر من مؤلف لها في أصول الفقه المستمدة من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانت في إيران حركة اصولية تمد المدرسة الاصولية بقوة الاستمرار وحيوية الإنتاج، والتأكيد على الجانب الكلامي والفلسفي فيها. تمثلت هذه الحركة بالأعلام الثلاثة المتعاصرين، وهم: 1 – الفاضل التوني: الملا عبد الله بن محمد البشروئي الخراساني (ت 1071 ه)، له: الوافية في الاصول، وحاشية على المعالم. 2 – الميرزا محمد بن الحسن الشيرواني (ت 1098 ه)، له: حاشيتان على المعالم، إحداهما بالعربية والاخرى بالفارسية. 3 – المحقق الخونساري: السيد حسين بن جمال الدين محمد الاصفهاني (ت 1098 ه)، له في الاصول: حاشية المعالم، وفي الفقه: مشارق الشموس في شرح الدروس (دروس الشهيد الأول)، واخرى في الكلام والفلسفة ذكرها الشيخ آل نعمة في (فلاسفة الشيعة) (1). ولأن المحقق الخونساري كان من أعلام الفلسفة وعلم الكلام انعكس هذا على بحوثه ونتائجها في الاصول، بما جعل المقابلة طويلة الذيل طافحة الكيل بين أتباع المدرسة الإخبارية وأتباع المدرسة الاصولية المتعاصرين. وكان هذا التأكيد على الاستفادة من معطيات علم الكلام والفلسفة الإسلامية من قبل هؤلاء الأعلام الثلاثة ومعاصريهم قد أوجد ثقلا علميا ذا ضغط شديد في التوازن بين المدرسة الاصولية من جانب هؤلاء، والمدرسة الإخبارية من جانب
(1) – فلاسفة الشيعة ص 286 – 287. (*)
[ 79 ]
الميرزا الاسترابادي ومن بعده من الإخباريين. إن هذا التوازن بين الحركتين وبما تملك كل منهما من ثقل علمي أدى إلى تفجير الصراع الفكري وفي مدينة كربلاء المقدسة مركز الثقل العلمي الإخباري بين المدرسة الاصولية برئاسة الوحيد البهبهاني، والمدرسة الإخبارية برئاسة المحدث البحراني. الصراع بين المدرستين: نشب هذا الصراع بين المدرستين في مدينة كربلاء المقدسة حيث تتمركز الحركة الإخبارية العلمية وتحت إشراف رئيسها المحدث البحراني، وحيث شن الوحيد البهبهاني (المولى محمد باقر بن محمد أكمل 1208 ه) رأس المدرسة الاصولية آنذاك، هجوما علميا على ما وجهه الإخباريون من إتهامات وطعون للاصوليين، وبكل ما اوتي من قوة فكرية، وما يمتلك من ثقل ديني وإجتماعي. ومن المفيد أن المع – وباختصار – إلى العوامل التي أدت إلى ثورة الإخباريين ضد علم أصول الفقه، فكانت السبب في ثورة الوحيد البهبهاني، وكان علم الاصول ومعطياته محور الصراع ومدار النقد العلمي. إن هذه العوامل تتلخص بالتالي: 1 – إن الاصوليين، ومنذ عهد الشريف المرتضى ألمحوا إلى أن أدلة الأحكام الشرعية أربعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. ثم صرح بهذا الشيخ ابن إدريس الحلي في مقدمة كتابه (السرائر) وأكد عليه. ولم يوضحوا مفهوم العقل والمعنى المقصود منه كدليل على الحكم الشرعي، وكان أهل السنة من قبلهم ربعوا أدلة الأحكام فقالوا: هي الكتاب والسنة والإجماع
[ 80 ]
والقياس.. ثم قالوا بعد ذلك: هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ليدخلوا الأدلة العقلية الاخرى التي تساوق القياس كالاستحسان والمصالح المرسلة وفتح الذرائع وسدها.. ثم عادوا فقالوا: هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، بما يفهم منه أن العقل والقياس مترادفان، بما أوحى للإخباريين بأن الاصوليين يريدون من العقل القياس (وليس من مذهبنا القياس). وربما أكد هذا لديهم ما نسب إلى ابن الجنيد من أخذه بالقياس. وهو من غير شك توهم من الإخباريين لأن الشريف المرتضى الذي لمح بالتربيع، والشيخ ابن إدريس الذي صرح به وسائر الاصوليين حتى يومنا هذا ينفون – وبكل صراحة – اعتبار القياس دليلا شرعيا، ويؤكدون على حرمة الأخذ به. إن هذا التوهم أو قل الاتهام عامل من العوامل التي مهدت لإنبثاق ثورة الوحيد البهبهاني ضد المدرسة الإخبارية. 2 – عدم التفرقة بين النظرية والتطبيق في واقع توظيف العقل كدليل شرعي، فالإخباريون قالوا: إننا نختلف عن أهل السنة الذين أعوزتهم النصوص فالتجأوا إلى العقل واتخذوا منه دليلا شرعيا، وذلك لأننا نملك من النصوص من آيات وروايات الكمية الكافية لتغطية ما يحتاجه الفقيه الإمامي في مجال إستنباط الأحكام فلا تصل النوبة إلى اللجوء إلى العقل. وبهذا يقول الاصوليون أيضا لأنهم لم يستخدموا العقل دليلا على حكم شرعي البتة، فذكرهم له وبحثهم فيه كان نظريا، وقد أوضح ذلك الشريف المرتضى في (جوابات المسائل الموصليات الثالثة)، قال في جواب سؤال ورد إليه من الموصل عن حكم ما لا دليل عليه من الكتاب والسنة: ” فان قيل: فما
[ 81 ]
تقولون في مسألة شرعية اختلف فيها قول الإمامية، ولم يكن عليها دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها، كيف الطريق إلى الحق فيها ؟ قلنا: هذا الذي فرضتموه قد أمنا وقوعه، لأنا قد علمنا أن الله تعالى لا يخلي المكلف من حجة وطريق إلى العلم بما كلف. وهذه الحادثة التي ذكرتموها، وإن كان لله تعالى فيها حكم شرعي، واختلف الإمامية في وقتنا هذا فيها، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي نتيقن بأن الحجة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم، فلابد من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع من كتاب أو سنة مقطوع بها، حتى لا يفوت المكلف طريق العلم الذي يصل به إلى تكليفه. اللهم إلا أن يقال: أن نفرض وجود حادثة ليس للإمامية فيها قول على سبيل اتفاق أو اختلاف، فقد يجوز عندنا في مثل ذلك ان اتفق أن لا يكون لله تعالى فيها حكم شرعي، فإذا لم نجد في الأدلة الموجبة للعلم طريقا إلى علم حكم هذه الحادثة، كنا فيها على ما يوجب العقل وحكمه “. إن هذا البحث للمسألة نظريا أوهم الإخباريين بأن الاصوليين يدعون إلى التطبيق في مقابل وجدان النصوص الشرعية الكافية التي تغني بوفرتها حاجة الفقيه في مجال الاستنباط. وأوهم أن الاصوليين يؤيدون الأخذ بالقياس لأن العقل هنا معناه القياس كما توهموا. وتحول هذا الوهم إلى اتهام أيضا. 3 – الخلط بين العقل دليلا على الحكم الشرعي، وبينه دليلا على القاعدة
[ 82 ]
الاصولية، وهو ما احتدم فيه الصراع بين الطرفين في تحديد الموقف من الشبهة الحكمية التحريمية، هل هو البراءة التي استمدها الاصوليون من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، أو الاحتياط، أو التوقف الذي استمده الإخباريون من الروايات المروية عن أهل البيت (عليهم السلام). ذلك أن التطبيق – هنا ليس تطبيقا على حكم فقهي، وإنما هو على قاعدة اصولية، والفرق بينهما واضح. 4 – غموض مفهوم العقل آنذاك حتى عند الاصوليين – كما ألمحت – فما هو المراد به ؟ – العقل الفطري (المدركات الوجدانية) ؟ – العقل النظري (المدركات البرهانية) ؟ – سيرة العقلاء (سلوك أبناء المجتمع البشري) ؟ 5 – الخلط بين مفهوم الاجتهاد كعملية استنباط، ومفهومه كدليل على الحكم الشرعي، وهو ما عرف في الأصول السني باجتهاد الرأي. وقد رأينا علوق هذه المفارقة واضحا في ذهن الفيض الكاشاني قال في مقدمة (الوافي): ” وأول من أحدث الجدال في الدين واستنباط الأحكام بالرأي والتخمين في هذه الامة أئمة الضلال – خذلهم الله تعالى – ثم تبعهم في ذلك علماء العامة، ثم جرى على منوالهم فريق من متأخري الفرقة الناجية بخطأ وجهالة “. والأمر بعكس ما ذكره تماما فالاصوليون – إذا استثنينا ما نسب إلى ابن الجنيد من ميله إلى اجتهاد الرأي – ينفون ذلك وينكرون على العمل به أشد
[ 83 ]
الإنكار. فالمسألة مجرد وهم وشبهة اتهام. هذه الاتهامات من قبل الإخباريين للاصوليين مضافا إليها اسلوب النقد الإخباري فقد كان عنيفا على ألسنة بعض الإخباريين تجاوز حدود أصول النقد العلمي، يقول المحدث البحراني في (لؤلؤة البحرين) (1) وهو يؤرخ لسيرة المولى الاسترابادي -: ” وهو أول من فتح باب الطعن على المجتهدين وتقسيم الفرقة الناجية إلى أخباري ومجتهد، وأكثر في كتابه (الفوائد المدنية) من التشنيع على المجتهدين، بل ربما نسبهم إلى تخريب الدين. وما أحسن وما أجاد، ولا وافق الصواب والسداد، لما قد ترتب على ذلك من عظيم الفساد “. هذا الاسلوب وتلك الاتهامات كانت العامل القوي في دفع الوحيد البهبهاني لمقابلة الثورة بالثورة. وانتهى أمر الصراع الفكري بينهما لصالح المدرسة الاصولية، فكانت نتيجته أن ثبت المنهج التكاملي ركائز وجوده أكثر من ذي قبل، وأرسى قواعد بنائه بأقوى مما كان عليه. التطور في عهد الأنصاري: إن أهم عمل قام به الشيخ الأنصاري (ت 1271 ه) في مجال التطوير الاصولي هو أن عمق الفكر الاصولي – الاصولي، فأعطاه السمة الفارقة بينه وبين الفكر
(1) – لؤلؤة البحرين ص 117 – 118. (*)
[ 84 ]
الاصولي – الأخباري، ذلك بميله إلى إثراء الجانب العقلي في المنهج التكاملي، مع محاولة الشمولية في دراسة الجانب النقلي ليوازن بين الكفتين وليبقي على المنهج تكامليا يجمع بين النقلية والعقلية، إلا أن ميله إلى الجانب العقلي جعله يبقي على طغيان المبادئ والمفاهيم الكلامية والفلسفية التي مني بها علم الاصول ثانية منذ عهد الأعلام الثلاثة المتعاصرين التوني والخونساري والشيرواني. وقد أدى هذا الميل إلى الجانب العقلي من قبل المدرسة الاصولية وبسبب غياب المدرسة الأخبارية عن ميدان الصراع – أن توسعت المدرسة الاصولية افقيا بما خرج بها عن حدود المطلوب في علم الاصول، وعن مسافات حريمه في البحث والدراسة. ومن شواهده: ذلكم التوسع في دراسة القطع حتى جعلته دليلا على الحكم الشرعي، مع أنه حالة نفسية تحصل للإنسان بسبب أو آخر وبتعبير آخر: أن الدليل الشرعي قد يفيدنا القطع بالحكم بمعنى انه تحصل لنا حالة القطع بأن هذا الحكم المستفاد من دليله هو حكم الله في حقنا، فالقطع ليس دليلا على الحكم، وإنما هو حالة نفسية ومستوى من مستويات دلالة الدليل. وعلى أساس من هذا لو حصلت هذه الحالة النفسية (القطع) للإنسان عن غير دليل شرعي لا يعتبر الحكم المقطوع به حكما شرعيا. وجاء هذا نتيجة الخلط بين مستوى دلالة الدليل الشرعي ومستوى الدليل الشرعي نفسه. فقد تكون الآية أو الرواية نصا في المعنى المدلول عليه، وقد تكون ظاهرة فيه. وهذا ما نعنيه بمستوى الدليل الشرعي، ففي الأول مستواه النصية، وفي الثاني مستواه الظهور.
[ 85 ]
وفي الأول تكون الدلالة مقطوعا بها من حيث الحالة النفسية، فنقول: دلالة نصية ونريد به مستوى الدليل، ونقول: دلالة قطعية ونريد به مستوى الدلالة من زاوية نفسية. وفي الثاني تكون الدلالة مظنونا بها من حيث الحالة النفسية، فنقول: دلالة ظهورية، ونريد به مستوى الدليل، ونقول: دلالة ظنية، ونريد به مستوى الدلالة من ناحية نفسية. فالتعبير عن المستويين بالدلالة هو الذي أوهم بأن القطع دليل من أدلة الحكم الشرعي، ولأن حجية القطع دليلها العقل يكون العقل دليل الحكم الشرعي. والأمر ليس هكذا، وإنما هو كما ذكرت. نعم، يمكن أن يكون القطع دليلا على الموضوع فيلزم المكلف باتباعه حتى في حالة الخطأ لئلا يكون متجريا ومتحديا. إلى أشياء اخرى سوف نقف عليها في غضون الكتاب. وازداد الميل إلى الجانب العقلي (الكلامي والفلسفي) من قبل الملا الآخوند (ت 1329 ه) فقد أغرق في ذلك وأدخل مسائل كلامية واخرى فلسفية في علم الاصول، وذلك في كتابه المعروف (الكفاية) لم تكن موجودة في المقررات الدراسية قبله كالقوانين والفصول والرسائل. ولكنه – في الوقت نفسه – استبعد من الدرس الاصولي موضوعات تخص الاصول السني، ولا علاقة لها بالاصول الإمامي. وبهذا اختص علم الاصول الإمامي بالموضوعات التي لها علاقة بالاجتهاد الفقهي الإمامي.
[ 86 ]
وبعد صاحب الكفاية برز في عالمي التدريس والتأليف الاصوليين تلميذه المبرز الشيخ محمد حسين الاصفهاني (ت 1361 ه)، ولأنه كان من أكابر الفلاسفة الإماميين عمق ما عمقه استاذه صاحب الكفاية من حيث التأثر الواضح بالفلسفة، وتجلى هذا في حاشيته على الكفاية الموسومة (نهاية الدراية). كما برز – معاصرا له – تلميذ صاحب الكفاية الآخر وهو الميرزا محمد حسين النائيني (ت 1355 ه)، وأيضا كان – هو الآخر – متأثرا إلى حد بعيد بالفكر الفلسفي والكلامي، وانعكس هذا وبوضوح على محاضراته الاصولية التي قررها تلامذته أمثال: السيد الخوئي والشيخ الكاظمي. ومعاصرا لهذين العلمين النائيني والاصفهاني ومزاملا لهما في التلمذة على صاحب الكفاية كان الشيخ آقا ضياء الدين العراقي. تعاضد هؤلاء الثلاثة على تثبيت المنهج العقلي الذي عاد إلى عالم التأليف وعالم التدريس، وتجذر فيهما منذ عهد الشيخ الأعظم الأنصاري. محاولات التطوير في المنهج: وكرد فعل لهذه العودة إلى الإغراق في استخدام المنهج الكلامي والفلسفي في البحث الاصولي تدريسا وتأليفا قامت محاولات للتطوير في المنهج تمثلت – في حدود إطلاعي – في المؤلفات التالية: – أصول الفقه، للشيخ المظفر. – الاصول العامة للفقه المقارن، للسيد الحكيم. – دروس في علم الاصول (الحلقات)، للسيد الصدر. – تهذيب الاصول، للسيد السبزواري.
[ 87 ]
حيث قامت بمحاولة تخليص المادة الاصولية مما لا علاقة له بالاستنباط، ومحاولة الاستفادة من المنهج العلمي الحديث في معالجة المادة الاصولية. ولأني كنت قد تناولت بالبحث (منهج دراسة النص عند الاصوليين ودور السيد محمد تقي الحكيم في تطويره)، وأشرت فيه إلى شئ من تجديد شيخنا المظفر، وتناولت أيضا (علاقة علم الاصول بالعلوم الاخرى ودور السيد الصدر في تطويرها)، لا أراني بحاجة إلى الإفاضة في الموضوع لإمكان الرجوع إليهما والإطلاع عليهما. أما ما قام به السيد السبزواري فانه استبعد الفضول من علم الاصول، واقتصر على ما يدخل منه في عملية الاستنباط. المنهج المقترح: أن الذي يقرر طبيعة المنهج الخاص لأي علم من العلوم شيئان، هما: 1 – طبيعة مادة العلم. 2 – الهدف من وضع العلم ودراسته. والهدف من وضع علم الاصول ودراسته هو الوصول إلى معرفة قواعد استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المتمثلة بالكتاب والسنة. وهذا الهدف يتطلب أن تنطوي مادة علم أصول الفقه على: 1 – إثبات حجية خبر الثقة. 2 – إثبات حجية ظهور الألفاظ. 3 – تشخيص مراد المتكلم.
[ 88 ]
4 – تعيين لوازم امتثال الحكم المطلوب. 5 – تحديد وظيفة المكلف عند فقدان النص الشرعي أو إجماله أو سقوطه بسبب التعارض المستحكم. والدليل الذي يتكفل بالإثبات في المسألتين هو (سيرة العقلاء). أو قل: ارتفاع درجة التعامل مع خبر الثقة وظواهر الألفاظ من قبل الناس إلى مستوى الظاهرة الاجتماعية العامة. ولأن تشخيص وتعيين مراد المتكلم من كلامه يتوقف على تحليل نص كلامه، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق تطبيق قواعد اللغة المتكلفة بذلك تكون قواعد اللغة هي الدليل. وفي المسألة الرابعة التي تتمثل في أمثال وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، وحرمة الضد المانع من الإتيان بالمطلوب، فان الطريق إلى هذا هو العقل الفطري لأنها من الامور البديهية التي لا تحتاج حتى إلى الإشارة إليها. أما في المسألة الخامسة والأخيرة فهي الاخرى ظواهر إجتماعية عامة. وبعد هذا فنحن في الدرس الاصولي أمام ظواهر اجتماعية عامة، تتنوع إلى: – ظواهر لغوية – اجتماعية. – وظواهر اجتماعية – اجتماعية. وهذا يتطلب منا في مجال دراستها أن نلتزم: – المنهج اللغوي – الاجتماعي. والمنهج الاجتماعي – الاجتماعي. وكلا المنهجين يقوم على اعتماد طريقة الاستقراء.
[ 89 ]
وسوف نعرف هذا بوضوح من مضامين هذا الكتاب. ونحن بهذا نعود إلى المنهج الذي وضعه الشيخ المفيد، والذي اقصي عن ميدان البحث الاصولي عن غير قصد، وإنما بتأثير قوة هيمنة علم الكلام على منطلقات البحث الاصولي. التاريخ الاصولي: وفي المادة الثالثة، وهي تاريخ علم أصول الفقه، فقد تناوله بالكتابة كل من: – استاذنا الشهيد الصدر في مقدمة كتابه الاصولي (المعالم الجديدة)، وهو مع اختصاره فيه عمق وتركيز علميان، سجلا لاستاذنا العظيم ريادة مثمرة وموفقة. – الاستاذ الدكتور أبي القاسم الكرجي في رسالة باللغة الفارسية بعنوان (نكاهي به تحول علم أصول)، ترجمها إلى اللغة العربية الشيخ محمد علي آذرشب بعنوان (نظرة في تطور علم الاصول). وهي على اختصارها فيها شمولية وافية. وكلا هذين البحثين يساعدان من يريد التوسع في الكتابة في هذا الموضوع مساعدة فاعلة ومغنية. ووقفت في كتب الفهارس التي اطلعت عليها على العنوانين التاليين: – مقالة في تاريخ علم الاصول، للشيخ مرتضى الكيلاني. – علم الاصول: تاريخه وتطوره، للشيخ علي بن محمد الفاضل القائيني.
[ 90 ]
التطور الفكري الاصولي: وفي المادة الرابعة (التطور الفكري لعلم أصول الفقه) لم أر – في حدود مراجعاتي وقراءاتي – من كتب في هذا الموضوع نظير ما رأيته وقرأته في كتابات الأساتذة الجامعيين، باستثناء ما جادت به يراعة استاذنا المجدد الشهيد الصدر في مقدمة الحلقة الاولى من كتابه (دروس في علم الاصول)، إلا إنها مختصرة وغير شاملة، لأنه أراد بها أن يلفت نظر الباحث والدارس الاصوليين إلى شئ من تطور الفكر الاصولي بما يفرض علينا إعادة النظر في الكتب المقررة لدرس علم الاصول في الحوزات العلمية الإمامية لتكون بمستوى المطلوب والمتوخى في دراسة هذا العلم، وليكون هذا التمثيل منه بيانا للداعي له لتأليف الحلقات الثلاث بشكلها المختلف عما اعتاده الطالب الديني في مقررات الدرس الاصولي. ولكنه – أيضا كان الرائد المخلص والموفق في وضع اللبنات الأساس للكتابة في هذا الحقل المهم قدر أهمية علم أصول الفقه. وأني لآمل أن يؤلف فيه، ويضاف الكتاب المؤلف إلى برامج الحوزات العلمية مقررا دراسيا، لأهمية هذه المادة في إثراء الرصيد الفكري الاصولي عند الطالب وتنمية مواهبه وقدراته العلمية من ناحية تربوية بسبب ما يتحرك في فلكه من مقارنات وموازنات للفكر، وتعريفات لأعلامه وتنويهات بعطائهم وإسهاماتهم في خدمة هذا العلم. المصطلحات الاصولية: مما وقفت عليه من تأليف في هذه المادة (معجم المصطلحات الاصولية) للسيد محمد الحسيني، وهو على صغره يسد فراغا كان ينبغي أن يملأ قبل هذا. ولا أستبعد أن يكون قد ألف فيه قبل مؤلف السيد الحسيني، لأن مثل هذا التأليف كان معروفا ومألوفا منذ زمن غير قريب، إلا إننا لم نوفق للإطلاع عليه.
[ 91 ]
أعلام الاصول: مما كتب في أعلام الاصوليين كتاب (الفتح المبين في طبقات الاصوليين)، للشيخ عبد الله مصطفى المراغي، إلا انه اقتصر فيه على الترجمة لأعلام أصول الفقه السني. ومن هنا فالحاجة تدعو إلى تأليف كتاب في طبقات الاصوليين من الإماميين لتتكامل به السلسلة مع كتاب الشيخ المراغي. الدراسات الاصولية المقارنة: فيما أعلم أن أول كتاب ألف في الدراسات الاصولية المقارنة هو كتاب استاذنا الجليل السيد محمد تقي الحكيم الموسوم ب (الاصول العامة للفقه المقارن)، وبه سجل الريادة له في هذا الحقل الاصولي المهم، وهي ريادة ناجحة أوفى فيها ووفى. تاريخ المدارس الاصولية: لم يقدر لي أن أقف على مؤلف يؤرخ أو يدرس المدارس الاصولية الإمامية. وآمل أن ينبري من المهتمين بشؤون هذا العلم الشريف من يسد هذا الفراغ. وبعد: فليست هذه المقدمة المختصرة والمستعجلة إلا تمهيدا لمعرفة المنهج الذي التزمه الاصوليون الإماميون منذ أن ألف الشيخ المفيد في القرن الرابع الهجري مختصره المعروف، وهو أقدم كتاب اصولي وصل إلينا، وحتى عصرنا هذا – ونحن نعيش أواسط سنة 1418 ه – أي خلال مدة تجاوزت ألف سنة. وقد رأينا أنه تناوب بين العقلية والنقلية والجمع بينهما دونما محاولة إعادة
[ 92 ]
النظر فيه والإفادة من الجديد المعاصر في ظل القديم الأصيل. إني لأسمح لنفسي – هنا – أن أطرح السؤال التالي: ألا يفرض علينا هذا أن نعيد النظر في المنهج واسلوب العرض. ويحفزنا إلى هذا – إضافة إلى طول المدة – التطور الفكري الذي واصله هذا العلم في عمق ما يعطي ونضج ما يثمر وسمو نتائجه على شاشة مرآة صافية نقية عكست ضخامة التفكير الإمامي، وهو ينطلق ويتحرك على صعيد دراسته قواعد وأصول التشريع الإسلامي الذي هو نظام حياة المسلمين وقوام دينهم ودنياهم في ظل كرامة عزيزة وعزة كريمة. إن هذا يتطلب منا أن نضع هذه الثروة الثرية في موقعها المناسب حيث الأصالة من خلال متطلبات المعاصرة. وهذا – في اعتقادي – لا يتم إلا بأن نخفف من غلواء المنهج الكلامي التي طغت عليه على أيدي الاصوليين من المعتزلة بل عموم أهل السنة، الذين نعى عليهم الشريف المرتضى في (الذريعة) إسرافهم في استخدام المنهج الكلامي، وحاول قدر جهده التخفف منه. ولكن شاءت الأقدار أن تكون كربلاء في عهد زعيمي الاصولية والأخبارية الوحيد البهبهاني والمحدث البحراني معتركا لصراع فكري حول هذا العلم إيجابا من الاصولية وسلبا من الأخبارية، فيعود الوحيد البهبهاني ليركز على أهمية هذا العلم كاصول وقواعد للتشريع الإسلامي إلى أن يستخدم كل الأسلحة في المعركة فعاد الاصول على يديه كما كان على عهد الحليين يتردد بين المنهج الكلامي والمنهج اللغوي الاجتماعي مع ميل إلى الطريقة الاستنتاجية أكثر منه إلى الطريقة الاستقرائية، حتى خلص على يدي الشيخ الأنصاري كلامي المنهج، ولا يزال.
[ 93 ]
ولعل في المحاولات الجديدة والجادة ما يحقق الذي يفيد في مجال التطوير البناء، وبتوفيق وتسديد من الله تعالى، إنه سبحانه ولي التوفيق وهو الغاية. عبد الهادي الفضلي دارة الغريين – الدمام 8 / 8 / 1418 ه
[ 95 ]
المقدمة علم أصول الفقه * (1) * تعريفه موضوعه فائدته حكم تعلمه علاقته بالعلوم الاخرى
[ 96 ]
المقدمة / تعريف علم اصول الفقه…… -… المقدمة علم أصول الفقه * (1) * تعريفه: إذا قمنا باستعراض شامل للعلوم الاخرى المماثلة لعلم أصول الفقه أمثال: العلوم اللغوية كالنحو والصرف والبلاغة، والمعارف العقلية كالمنطق والفلسفة وعلم الكلام، والعلوم الشرعية كالفقه والحديث والرجال، وخلافها، سوف نرى أن تعريفاتها مستمدة من واقع موضوعاتها التي تبحث فيها. فعلى سبيل المثال: علم المنطق يدرس موضوعين، هما: التعريف والاستدلال، فنستطيع أن نقول في تعريفه: هو العلم الذي يبحث في قواعد التعريف وقواعد الاستدلال. وعلم النحو يدرس الجملة من حيث تركيبها ووظيفة كل كلمة في التركيب، فبإمكاننا أن نعرفه بقولنا: هو العلم الذي يبحث في قواعد تركيب الجملة ووظائف عناصرها.. وهكذا.
[ 97 ]
في ضوء هذا: أننا إذا أردنا أن نعرف علم أصول الفقه لابد لنا من أن ننطلق إلى هذا من معرفة موضوعه. ولأن موضوعه غير واضح الملامح في مدوناته المعروفة بسبب اختلاف النظرة إلى واقعه التي تتلخص في فروقها بالإجابة على التساؤلات التالية: – هل هذا العلم يبحث في الأدلة مطلقا ؟ – أو هو يبحث في خصوص أدلة الفقه، وبشكل عام، أي بما يشمل الامارات والاصول أيضا ؟ – أو أنه يختص ببحث الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل ؟ – أو أنه لا موضوع خاصا له، وإنما يبحث في مسائل شتى، تلتقي تحت سقف غرض واحد، هو القاسم المشترك لها، والقدر الجامع بينها، وذلك الغرض هو الوصول إلى الحكم الشرعي أو ما يقوم مقامه من وظائف عقلية ؟ بسبب هذا جاءت تعريفاته – هي الاخرى – مختلفة أيضا، وكأمثلة لهذا: قال السيد المرتضى المتوفى سنة 436 ه في (الذريعة): ” إن الكلام في أصول الفقه إنما هو في الحقيقة كلام في أدلة الفقه “. وعرفه الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 ه في (العدة) بقوله: ” أصول الفقه هي أدلة الفقه “. ويعني الطوسي بالأدلة – كما يظهر من شرحه للتعريف -: الكتاب والسنة. ومن بعده عرفه الفخر الرازي المتوفى سنة 606 ه في (المحصول) بأنه ” عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الإستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها “.
[ 98 ]
وفسر الرازي (طرق الفقه) بما يتناول الأدلة والأمارات. ومن بعده حدد القاضي علاء الدين المقدسي المتوفى سنة 885 ه في (الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير) موضوعه ب ” الأدلة الموصلة إلى الفقه “. وبعد تطور الدرس الاصولي في المذهب السني يحده الاستاذ المعاصر الشيخ عبد الوهاب خلاف المتوفى سنة 1376 ه في كتابه (علم أصول الفقه) ب ” الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية “. وهي – كما ترى – تعريفات استمدت مادتها من تحديد موضوعه بالدليل الفقهي. ويبدو أن تعريفا آخر وازى التعريف المذكور وسايره جنبا إلى جنب منذ عهد ابن الحاجب المالكي المتوفى سنة 646 ه حيث عرفه في كتابه (منتهى الوصول والأمل) ب ” العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية “. ونلمس صدى هذا التعريف عند الميرزا القمي المتوفى سنة 1231 ه في كتابه (القوانين) حيث عرفه ب ” العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية “. ولما لاحظه عليه الشيخ الخراساني المتوفى سنة 1329 ه في كتابه (الكفاية) من عدم شموليته للاصول العملية التي تعين الوظيفة للمكلف عند عدم وصوله إلى الحكم الواقعي عرفه بقوله: ” صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهي إلى في مقام العمل “، ويريد بهذه الأخيرة الاصول العملية. وما في هذه التعريفات من عدم تبيان هوية القواعد آت من عدم الإيمان بوحدة موضوع هذا العلم كما هو واضح.
[ 99 ]
ولعل تعريف الميرزا البوجنوردي في كتابه (المنتهى) يشير إلى هذا بوضوح حيث يقول: ” علم الاصول عبارة عن جملة من القضايا التي تصلح لأن تقع كل واحدة منها كبرى قياس تكون نتيجته الحكم الكلي الشرعي الفرعي، أو البناء العملي العقلي كالبراءة والتخيير العقليين “. ويختصره استاذنا الشهيد الصدر في (الحلقة الثالثة) بما هو أكثر دقة وأبعد عن المآخذ التي سجلت على تعريف صاحب القوانين بقوله: ” علم الاصول: هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي “، ذلك أن (العناصر المشتركة) تشمل كل ما له دخل مباشر في عملية الاستنباط الفقهي، من الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة، والمدركات العقلية الاجتماعية العامة. وعلى هدي منه حدد موضوع علم الاصول ب ” الأدلة المشتركة في الإستدلال الفقهي خاصة “. ومن قبل ذلك عرفه السيد البروجردي ب ” القانون الذي يعد حجة في الفقه “. وأخيرا نقف عند تعريف الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (أصول الفقه) القائل: ” أصول الفقه: هو العلم بالقواعد التي ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية “. ومن المفيد أن أستطرد – هنا – فاشير إلى أن الاصوليين إنما اختاروا كلمة (استنباط)، ولم يستخدموا كلمة (استخراج) أو (استفادة)، لما تحمل هذه الكلمة من معنى يلتقي وطبيعة الاجتهاد الذي هو بذل الجهد الفكري في الوصول إلى المطلوب، ذلك أن كلمة (استنباط) تعني في لغتنا العربية: الاستخراج ولكن ببذل جهد ومعاناة فكر، فهي – باختصار – تعني الاجتهاد. وقد نلمس هذا الفرق بينها وبين الاستخراج في الاستعمالات، اللغوية
[ 100 ]
الإنجليزية، فإنها إذا كانت بمعنى الاستخراج هي: Extracting وإذا كانت بمعنى الاكتشاف الذي لا يحصل – غالبا – إلا بالاجتهاد، هي. Discovery وكما رأينا: تطور موضوع هذا العلم: 1 – من أدلة الفقه: وهي كل ما يصلح لأن يكون مستندا للفتوى من دليل أو إمارة أو أصل. 2 – إلى القواعد: وهي القضايا الكلية التي تقع كبرى في قياس الاستنباط الفقهي. 3 – إلى القانون: والقانون هو القاعدة. 4 – إلى العناصر المشتركة: وهي أعم من القواعد بما يشمل كل عنصر مشترك له دخل مباشر في عملية الاستنباط الفقهي. ومع هذا لا يزال الغموض يظلل منطلقات البحث في الموضوع، ومن ثم الموضوع نفسه، حيث لم تقيد القواعد بإضافتها إلى ما يوضح حقيقتها كما في تعريفات العلوم الاخرى، وكذلك العناصر المشتركة، والقانون، فبقيت غير واضحة الهوية، يحوطها شئ من التضبيب، ويلفها شئ من التغييم. وما ذهب إليه الرواد الأوائل من أن موضوع أصول الفقه هو أدلة الفقه، أقرب إلى طبيعة المسألة، إلا أن نظرتهم انصبت على جانب التطبيق دون النظرية. ويرجع هذا – فيما أرى – إلى شئ من التلابس الذي وقع بين النظرية والتطبيق
[ 101 ]
أثناء البحث. ذلك أن هذا العلم من حيث النظرية يبحث في الدلالة مطلقا: الدلالة الألسنية بأيه لغة كانت، والدلالة العقلية في كل المجتمعات البشرية. ولكن لإضافة الاصول (التي هي الأدلة أو القواعد أو القانون أو العناصر) إلى الفقه، والمراد به الفقه الإسلامي التمست الأمثلة وأخذت من النصوص الشرعية فتلابست وألبست النظرية بالتطبيق. وبعد هذا العرض المقتضب نستطيع أن نقول: إن موضوع علم أصول الفقه هو الأدلة مطلقا. ولكن لأنا من خلاله نحاول معرفة الدلالة الفقهية، شرعية كانت أو عقلية، لاستفادة الجعل الشرعي حكما كان أو وظيفة، يكون موضوعه – بشكل خاص – الدلالة الفقهية. وعلى هدي منه يمكننا أن نعرفه بأنه: ” العلم الذي يبحث في الدلالة بعامة والدلالة الفقهية بخاصة “. أو قل، باختصار علم الاصول: ” هو دراسة أصول الاستنباط “. موضوعه: تبينا من خلال بحثنا في تعريف علم أصول الفقه موضوعه أيضا، وهو الدلالة عامة والدلالة الفقهية خاصة. ولنأخذ لذلك مثالا توضيحيا: (الظهور في اللفظ) – كلمة كان اللفظ أو جملة أو سياقا – هل يعتبر دليلا يستدل به، وحجة يحتج بها ؟ المقدمة / موضوع علم اصول الفقه…… -… إن النتيجة التي يتوصل إليها البحث الاصولي، سلبا أو إيجابا، لا يقتصر بها
[ 102 ]
على لغة من اللغات البشرية، كما لا يقتصر بها على مجتمع من المجتمعات البشرية، وإنما تؤخذ على نحو الشمولية لكل اللغات ولكل المجتمعات، لأن الظهور اللفظي من الظواهر اللغوية الاجتماعية المشتركة بين كل اللغات، وفي جميع المجتمعات. فدراسة ظاهرة الظهور – هنا – عامة، ونتيجتها التي تتوصل إليها الدراسة – أيضا – عامة. ولكن لأنا نهدف من دراستنا لقاعدة الظهور المشار إليها، محاولة استفادة الحكم من ظواهر الألفاظ الشرعية، يأتي الأمر هنا تطبيقا للنظرية العامة على اللغة العربية بشكل خاص، وفي مجال الألفاظ الشرعية بشكل أخص، فكأنا بحثنا في دلالة الألفاظ الشرعية بصورة خاصة. ولنأخذ مثالا آخر: (لزوم الأمر بالشئ النهي عن ضده)، إن هذه القضية تبحث في علم أصول الفقه كظاهرة اجتماعية عامة لكل مجتمعات البشر، فما يدركه العقل – هنا – أو ما عليه سيرة العقلاء في هذه القضية مما يتوصل إليه البحث الاصولي من نتيجة سلبا أو إيجابا تعد ظاهرة عامة لكل المجتمعات البشرية. ولكن لأنا طبقنا هذه القاعدة (قاعدة لزوم الأمر بالشئ النهي عن ضده) على الأوامر الشرعية في المجتمع الإسلامي نكون كأننا بحثنا هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي خاصة، وفي الامتثالات الشرعية بشكل أخص.. وهكذا. ونخلص من هذا كله إلى أن علم أصول الفقه يدرس الموضوعين التاليين: 1 – الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة، أي المشتركة بين جميع لغات البشر. 2 – المدركات العقلية العامة، أي المشتركة بين جميع مجتمعات البشر. ويتحرك في بحثه داخل دائرة التشريعات، شرعية وعرفية وقانونية.
[ 103 ]
وكاصول للفقه الإسلامي يقتصر في دراساته على قضايا التشريع الإسلامي. فائدته: من الواضح أن فائدة هذا العلم مهمة جدا لأنه المدخل المباشر لمعرفة الأحكام الشرعية. وكل امة لابد أن يكون لها تشريعها الذي هو نظام حياتها، ولابد أن يكون لتشريعها علماؤه المتخصصون به. والامة الإسلامية تشريعها هو الفقه الإسلامي، والمتخصصون به هم الفقهاء، والفقيه لا يكون فقيها إلا بعد تخصصه بعلم أصول الفقه، لأنه منهج الفقه والمدخل إليه. ولأنه العلم الذي بواسطته يثبت العلماء حجية أدلة الفقه بغية ترتيب الأمرين التاليين: 1 – صحة الاستناد في مقام العمل إلى ذلك الدليل الذي تثبت حجيته. 2 – صحة إسناد مؤدى الحجية للشارع المقدس. حكم تعلمه: وحكم تعلمه يترشح من حكم تعلم الفقه، ولأن تعلم الفقه من الواجبات الكفائية، وهو متوقف على علم الاصول، وعلم الاصول هو المقدمة المباشرة للاجتهاد فيه، يصبح تعلمه – هو الآخر – واجبا كفائيا من باب وجوب ما لا يتم الواجب إلا به. علاقته بالعلوم الاخرى: المقدمة / علاقة علم اصول الفقه بالعلوم الاخرى…… -… لعلم الاصول علاقة وثيقة بالعلوم التالية:
[ 104 ]
1 – علوم اللغة العربية: الأصوات والتصريف والنحو والبلاغة، وذلك ليعرف الدارس الاصولي دلالات الحرف والكلمة والجملة. ليمكنه الإنطلاق في دراسة النص العربي وبخاصة الشرعي منه. 2 – علم اللغة العام:. Linguistics ذلك أن علم اللغة العام يعنى بدراسة الظواهر اللغوية المشتركة بين كل اللغات، يقول الدكتور السعران في كتابه (علم اللغة: مقدمة للقارئ العربي): ” واللغة التي يدرسها علم اللغة ليست الفرنسية أو الإنجليزية أو العربية، ليست لغة معينة من اللغات، إنما هي (اللغة) التي تظهر وتتحقق في أشكال لغات كثيرة ولهجات متعددة وصور مختلفة من صور الكلام الإنساني، فمع أن اللغة العربية تختلف عن الإنجليزية، وهذه الأخيرة تفترق عن الفرنسية، إلا أن ثمة اصولا وخصائص جوهرية تجمع ما بين هذه اللغات، وتجمع ما بينها وما بين سائر اللغات وصور الكلام الإنساني، وهو أن كلا منها لغة، أن كلا منها نظام اجتماعي معين تتكلمه جماعة معينة، بعد أن تتلقاه عن المجتمع، وتحقق به وظائف خاصة، ويتلقاه الجيل الجديد عن الجيل السابق، ويمر هذا النظام بأطوار معينة، متأثرا بسائر النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية وبسوى ذلك… الخ، وهكذا فعلم اللغة يستقي مادته من النظر في اللغات على اختلافها، وهو يحاول أن يصل إلى فهم الحقائق والخصائص التي تسلك اللغات جميعا في عقد واحد “. وهذا الذي يدرسه علم اللغة كان يدرس ضمن الفلسفة ثم انسرب منها إلى مباحث الألفاظ في أصول الفقه، واستقل أخيرا عن عالم الفلسفة بما يعرف حديثا ب (علم اللغة العام).
[ 105 ]
وأضاف إليه علم اللغة ما يرتبط باللغة من معطيات الدراسات الإنسانية في علم الاجتماع وعلم النفس ومؤديات البحوث الطبيعية في علم الفيزياء وعلم الوراثة وعلم الأحياء وعلم وظائف الأعضاء وعلم التشريح، وكذلك استعان بالجغرافية والتاريخ. ففي علم اللغة موضوعات مشتركة بينه وبين علم أصول الفقه، أمثال: نشأة اللغة، وعلاقة اللفظ بالمعنى، والكلمة في مادتها وهيئتها والجمل في دلالاتها منطوقا ومفهوما والخ. 3 – علم الدلالة: Semantics ذلك أن علم الدلالة يدرس وسائل نقل المعاني من ذهن الملقي إلى ذهن المتلقي. ولأن علم الاصول – كما ذكرنا – يدرس الدلالة تكون العلاقة بينهما جد وثيقة وجد حميمة. ولأن أهم وسيلة لنقل المعاني هي (الألفاظ) تكون علاقة علم أصول الفقه بدلالة الألفاظ ألصق آصرة وأشد وثاقة. وموضوعات علم الدلالة – هي الاخرى – كانت تدرس ضمن البحوث المنطقية والدراسات الفلسفية، ومنها انداحت إلى علم الاصول، ثم استقلت حديثا بما يعرف ب (علم الدلالة) وبما يعرف ب (دلالة الألفاظ). 4 – علم الاجتماع اللغوي: Socioling uistics لأنه يضع أمام الباحث الاصولي حقائق وسمات الظاهرة اللغوية الاجتماعية، ويساعده على بحثها والطريق إلى تعرف شموليتها.
[ 106 ]
5 – علم النفس اللغوي: Psycholing uistics لما له من إرتباط في معرفة آثار الظواهر النفسية على الظواهر اللغوية. 6 – علم الاسلوب: وهو من العلوم الحديثة التي تقوم بدور علم البلاغة بتعرف الاسلوب في خصائصه ومميزاته، مما يلقي الضوء على معرفة أساليب النصوص الشرعية التي يتعامل معها الباحث الاصولي، وكذلك معرفة مستوى ونمط دلالاتها كقرائن تساعد على كشف شرعيتها وصدورها من المعصوم. 7 – علم المنطق: Logic لما ألمحت من أن المنطق يدرس موضوعي التعريف والإستدلال، وفي علم الاصول مصطلحات ومفاهيم لابد أن تعرف، ولأن فيه قضايا لابد أن يستدل على صحتها أو حجيتها، كانت له العلاقة به لمعرفة طرق وقواعد التعريف وطرق وقواعد الإستدلال. يضاف إليه أن الدلالة التي هي موضوع علم الاصول هي من مباحث علم المنطق، ومنه امتدت إلى علم الاصول كما أشرت إلى ذلك. 8 – علم الرجال: ذلك أن أصول الفقه، وفي المجال التطبيقي منه والإستدلالي لقضاياه التي ترتبط بالجانب الإسلامي قد يستدل برواية فتحتاج لمعرفة قيمة سندها من حيث القبول والرفض، وأحوال الرجال هو الكفيل بذلك. 9 – علم الحديث: وذلك لمعرفة مستوى الحديث الذي قد يستدل به هنا في قيمته من حيث
[ 107 ]
الاعتبار واللااعتبار فيصح الإستدلال به أو لا يصح. 10 – علم الكلام: Theology وبخاصة في موضوع التحسين والتقبيح العقليين حيث يثبت هذا الموضوع وجود قيم عقلية لظواهر اجتماعية تطابقت آراء العقلاء عليها كحسن العدل وقبح الظلم ولزوم الإتيان بما لا يتم الواجب إلا به، واستلزام الأمر بالشئ النهي عن ضده. وكذلك لإثبات شرعية ومشروعية الكتاب والسنة كمصدرين للفقه الإسلامي. 11 – الفلسفة القديمة: حيث كانت التربة الخصبة التي نبتت فيها النظريات اللغوية الاجتماعية التي يتناولها علم الاصول بالدرس والنظر فيها. وكذلك منها استمد البحث الاصولي المبادئ العقلية العامة، أمثال: مبدأ العلية، ومبدأ استحالة التناقض وامتناع الدور والتسلسل. 12 – علم الفقه: ذلك أن نتائج الفقه تمر في مراحلها من النص ودلالته، والرواية ورواتها، ومعطيات العقل وسيرة العقلاء لتصبح نتائج فقهية عبر أصول الفقه بدوره يهئ كبرياته لجزءياتها بغية الكشف عن حجيتها ومدى قدرتها على النهوض بالدلالة الفقهية. 13 – علم أصول القانون: لما بينهما من وشيجة قربى لأن كلا منهما قواعد تشريع، ليفيد من بعض مصطلحاته ومفاهيمه مما يلتقي وخطه التشريعي الإسلامي ويمس واقع حياة الإنسان.
[ 109 ]
التمهيد علم أصول الفقه * (2) * مصدره وظيفته تصنيف مباحثه التمهيد / مصدر علم أصول الفقه…… -…
[ 110 ]
التمهيد علم أصول الفقه * (2) * مصدره: لا أعني بالمصدر – هنا – الكتاب أو البحث الذي يرجع إليه الباحث يستقي منه مادة بحثه – كما يعرفه علماء المكتبات. وإنما أعني به المجال الذي يرجع إليه عند وضع وتدوين العلم – أي علم – بغية استقاء مادة العلم منه. والكلمة (أعني لفظ مصدر) بعد لما تدخل المعاجم اللغوية العربية بهذا المعنى المذكور كمصطلح علمي. ومن المظنون قويا أنها مأخوذة من المصدر بمعنى (المنهل = المورد) الذي يستقي منه الماء، حيث يرده الناس خلوا من الماء ويصدرون عنه (أي ينصرفون) مزودين بالماء. وذلك للتشابه بين مصدر المعلومات ومصدر الماء في التزويد بالمادة المطلوبة. فالمصدر – كمصطلح علمي – هو ما يرجع إليه الباحث لاستفادة المعلومة
[ 111 ]
المرتبطة ببحثه منه (1). وعليه: فكل مجال يرجع إليه واضع أو واضعو علم ما لاستقاء مادة العلم منه، هو مصدر معلومات ذلك العلم. ومن أمثلة ذلك: – علم النحو: مصدره: 1 – السماع: ما يسمع من كلام العرب الفصحاء. 2 – القياس: ما يقاس على المسموع من كلام العرب الفصحاء. – التاريخ: مصدره: 1 – الوقائع: مشاهدة الواقعة عيانا. 2 – الرواية: حكاية الواقعة ممن شاهدها أو ممن روى عنه. 3 – الوثائق: المدونات. 4 – الآثار: الأطلال والحفريات والنقوش وما شابهها. – علم الفقه: مصدره: 1 – القرآن الكريم (آيات الأحكام). 2 – السنة الشريفة (أحاديث الأحكام). 3 – الإجماع (اتفاق الفقهاء الكاشف عن رأي المعصوم). 4 – العقل (الإدراك العقلي الكاشف عن رأي المعصوم). وفي ضوئه: ما هو المصدر الذي ورده واضعو علم أصول الفقه وصدروا عنه بالمادة العلمية الاصولية التي دونوها في كتبهم ؟
(1) – أنظر: تحقيق التراث – المصادر المراجع. (*)
[ 112 ]
لم يذكر الأصوليون هذا العنوان في كتبهم الاصولية، ولم يتناولوه بالبحث. وكان من الطبيعي – منهجيا – أن يبحث بشكل مستقل، ويوضع في موضعه الطبيعي من تصنيف موضوعات هذا العلم، فتنشأ به المقدمة العلمية لهذا العلم. وقد يرجع عدم تعرضهم لمصدر الاصول بالبحث لاضطراب كلمتهم في تحديد موضوعه – كما أوضحت هذا في ما سلف. ولأنا قد تبينا موضوع هذا العلم، وحصرناه في العنوانين التاليين: 1 – الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة (أي المشتركة بين جميع لغات البشر). 2 – المدركات العقلية العامة (أي المشتركة بين جميع مجتمعات البشر). وبينا – هناك – أن علم الاصول يتحرك في تعامله مع هذين المصدرين داخل دائرة التشريعات، شرعية وعرفية وقانونية. وكاصول للفقه الإسلامي فانه يقتصر في دراسته على قضايا التشريع الإسلامي. لابد لنا من التعرض للموضوع (أعني مصدر الاصول). إننا نستطيع أن نستخلص ذلك من طوايا وثنايا البحوث الاصولية، منطلقين إلى هذا من التعرف على أدلة موضوعاته بعناوينها الرئيسية التي هي: – الاصول اللفظية. – الملازمات العقلية. – الاصول العملية. ففي الاصول اللفظية يتفق علماء أصول الفقه على أن الهدف من دراستها هو تشخيص صغريات لكبري ظاهرة الظهور.
[ 113 ]
وعليه: فالأساس في دراسة الاصول اللفظية هو ظاهرة الظهور. والظهور – كما هو معلوم – يراد به ظهور اللفظ في دلالته على المعنى، وهو أحد أنواع دلالة اللفظ المبين، التي منها: – دلالة النص: وهي أن يكون اللفظ نصا في معناه فلا تحتمل دلالته على معنى آخر غيره. – دلالة الظهور: وهي أن يكون اللفظ ظاهرا في معنى مع احتمال دلالته على معنى آخر غيره. والدلالة الأولى – في طبيعتها – دلالة يقينية، بينما الدلالة الثانية دلالة ظنية لوجود طرف الاحتمال. ويستدل الاصوليون – هنا – على حجية الدلالة الأولى بأن اليقين حجيته ذاتية، أي انه هو – بذاته – حجة، فلا يحتاج إلى دليل يثبت له الحجية، لأن إليه تنتهي حجية كل حجة، وأية حجية لا تنتهي إليه لا تعتبر حجة، وذلك لأن اليقين كشف عن الواقع، بل هو الواقع. وهذا مما يدرك ببديهة العقل. واستدلوا على حجية الظهور ببناء العقلاء أو سيرة العقلاء أي أن الأخذ بظواهر الكلام من الظواهر الاجتماعية العامة لجميع اللغات وفي جميع المجتمعات. أما الملازمات العقلية فاستدلوا على اعتبارها بالدليل العقلي وقصدوا منه – كما يوضح استاذنا المظفر – ” حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعا أو عقلا، وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في مسألة الأجزاء، ومقدمة الواجب، ونحوهما، وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان اللازم منه حكم الشرع
[ 114 ]
بالبراءة، وحكمه بتقديم الأهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الأهم عند الله، وكحكمه بوجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة. فان هذه الملازمات وأمثالها امور حقيقية واقعية يدركها العقل النظري بالبداهة أو بالكسب، لكونها من الأوليات والفطريات التي قياساتها معها، أو لكونها تنتهي إليها فيعلم بها العقل على سبيل الجزم. وإذا قطع العقل بالملازمة – والمفروض أنه قاطع بثبوت الملزوم – فانه لابد أن يقطع بثبوت اللازم وهو – أي اللازم – حكم الشرع. ومع حصول القطع، فإن القطع حجة يستحيل النهي عنه، بل به حجية كل حجة ” (1). وبالنسبة إلى الاصول العملية فأنها – كما يوضح السيد السبزواري – ” من الارتكازيات العقلائية يكفي في اعتبارها شرعا عدم وصول الردع، ولا نحتاج إلى إقامة الدليل على اعتبارها من الكتاب والسنة والإجماع، وتطويل الكلام في ذلك، فإن العقلاء بفطرتهم بعد الفحص عن الحجة واليأس منها، لا يرون أنفسهم ملزمين بشئ فعلا أو تركا، وهو البراءة المصطلحة، وأنهم بفطرتهم يرون العلم الإجمالي منجزا في الجملة، ويعبر عن ذلك في الإصطلاح بالإشتغال والإحتياط، وعند الدوران بين المحذورين لا يرون أنفسهم ملزمين بشئ منهما بالخصوص، ويعبر عنه بالتخيير، ومع اليقين السابق والشك لاحقا تحكم فطرتهم باتباع اليقين
(1) – أصول الفقه ط 2 مج 2 ص 112. (*)
[ 115 ]
السابق ويعبر عنه بالاستصحاب ” (1). ومن مجموع ما تقدم ندرك أن مصدر أصول الفقه هو (العقل)، وندرك أن المراد بالعقل (سيرة العقلاء)، والتي تسمى عند المتأخرين – أيضا – (بناء العقلاء). ولأن سيرة العقلاء – أو بناء العقلاء – هي ظاهرة اجتماعية عامة، يأتي من المفيد أن نمهد للحديث عنه بتعريف الظاهرة الاجتماعية. الظاهرة الاجتماعية: وبدء نقوم بتعريف الظاهرة والواقعة علميا، ثم نعرف الواقعة الإجتماعية والظاهرة الاجتماعية كمصطلحين من مصطلحات علم الاجتماع. – الظاهرة: Phenomenon هي كل شئ يدرك الإنسان وجوده، ويستطيع وصفه أو الحديث عنه (2). – الواقعة: Fact هي ما يحدث فعلا، أو هي أمر يحدث. وهي ” في العادة موضوعية (أي لها واقع في الخارج)، وقد تكون ذاتية (أي لا واقع لها في الخارج) كاعتقاد شخص ما بوجود (الرخ) أو (عرائس البحر).. ” (3). ويقول الدكتور بدوي في (معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية): ” ويميز بعضهم بين الواقعية Fact والظاهرة Phenomenon على أساس أن الواقعة موضوعية (أي خارجية) والظاهرة تجريدية (يعني ذهنية) أي تدل على النظر
للوقائع الاجتماعية من الخارج، أو من ناحية الملاحظة “. – الواقعة الاجتماعية: Social Fact هي طريقة السلوك الاجتماعي في أمر من الامور الاجتماعية. – الظاهرة الاجتماعية: Social Phenomenon ” عبارة عن نماذج من العمل والتفكير والإحساس التي تسود مجتمعنا من المجتمعات، والتي يجد الأفراد أنفسهم مجبرين على إتباعها في عملهم وتفكيرهم “. ونستخلص من هذه التعريفات أن من سمات الظاهرة الإجتماعية التالي: 1 – التلقائية. 2 – الشمولية. 3 – الإلزام. ولأننا ندرس هنا بناء العقلاء أو سيرة العقلاء كمصدر اصولي، لابد من أن نضيف سمة اخرى لسمات الظاهرة الاجتماعية لترقى إلى مستوى تباني العقلاء – في الرأي الاصولي -، وهي اشتراط صدور السلوك من الناس بصفتهم عقلاء، ولنسم هذه السمة: 4 – العقلانية: أي صدور السلوك عن الإنسان بصفته عاقلا يضع الأشياء في مواضعها من حيث النفع والضرر والمصلحة والمفسدة. وبعد هذا التمهيد ننتقل إلى بيان ما يراد ببناء العقلاء في الرأي الأصولي:
[ 117 ]
بناء العقلاء: (تعريفه): عرف بناء العقلاء بأنه صدور العقلاء عن سلوك معين، تجاه واقعة ما، صدورا تلقائيا، شريطة أن يتساووا في صدورهم عن هذا السلوك، على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، وتفاوت ثقافاتهم ومعارفهم وتعدد نحلهم وأديانهم. وذلك مثل أخذهم بظواهر الكلام (1). وهذا التعريف يلتقي وتعريف الظاهرة الاجتماعية بسماتها المذكورة في أعلاه. (حجيته): إن مجال دراسة بناء العقلاء أو سيرة العقلاء دليلا يستدل به على المسألة أو القضية الاصولية يعتد به من الناحية التطبيقية، أي أن ذلك يجري داخل إطار التشريعات الإسلامية. وكان هذا لأن أصول الفقه هو قواعد استنباط الأحكام الشرعية، ولأن النظرية الاصولية لا تعد نظرية اصولية وان استقيت من تباني العقلاء إلا إذا كان ذلك داخل إطار الهدف أو الغاية من وضع أصول الفقه ودراسته وهو كونه قواعد استنباط الأحكام الشرعية. ومن هنا اشترط لحجيته على المستوى المذكور اعتبار الشارع المقدس لهذا السلوك المعين بموافقته عليه. يقول استاذنا الشيخ المظفر: ” أن بناء العقلاء لا يكون دليلا إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع وامضاؤه لطريقة العقلاء، لأن اليقين تنتهي
(1) – انظر: معجم المصطلحات الاصولية، الحسيني. (*)
[ 118 ]
إليه حجية كل حجة “. ” وان موافقة الشارع لا تستكشف على نحو اليقين إلا بأحد شروط ثلاثة “. هي: 1 – أن لا يصرح الشارع المقدس بإلغاء السيرة المعينة (السلوك المعين). أي ” ألا يكون مانع من كون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في البناء والسيرة، فانه في هذا الفرض لابد أن يستكشف أنه متحد المسلك معهم بمجرد عدم ثبوت ردعه، لأنه من العقلاء بل رئيسهم. ولو كان له مسلك ثان لبينه، ولعرفناه، وليس هذا مما يخفى. ومن هذا الباب: الظواهر وخبر الواحد، فان الأخذ بالظواهر والاعتماد عليها في التفهيم، مما جرت عليها سيرة العقلاء، والشارع لابد أن يكون متحد المسلك معهم، لأنه لا مانع من ذلك بالنسبة إليه، وهو منهم بما هم عقلاء، ولم يثبت منه ردع. وكذلك يقال في خبر الواحد الثقة فانه لا مانع من أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في الاعتماد عليه في تبليغ الأحكام، ولم يثبت منه الردع “. 2 – أن يقر (أو يمضي) الشارع المقدس السيرة المعينة (السلوك المعين). لأنه ” إذا كان هناك مانع من أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء فلابد أن يثبت لدينا جريان السيرة العملية حتى في الامور الشرعية بمرأى ومسمع من الشارع. فإذا لم يثبت حينئذ الردع منه يكون سكوته من قبيل التقرير لمسلك العقلاء. وهذا مثل الاستصحاب فإنه لما كان مورده الشك في الحالة السابقة، فلا معنى
[ 119 ]
لفرض اتحاد الشارع في المسلك مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة، إذ لا معنى لفرض شكه في بقاء حكمه، ولكن لما كان الاستصحاب قد جرت السيرة فيه حتى في الامور الشرعية، ولم يثبت ردع الشارع عنه فانه يستكشف منه إمضاؤه لطريقتهم “. 3 – أن يكون هناك دليل يقيني يدل على رضا الشارع وإمضائه للسيرة المعينة (السلوك المعين)، وذلك عند فقدان الشرطين السابقين. وهذا في ” مثل الرجوع إلى أهل الخبرة عند النزاع في تقويم قيم الأشياء ومقاديرها، نظير القيميات المضمونة بالتلف ونحوه، وتقدير قدر الكفاية في نفقة الأقارب، ونحو ذلك “. والخلاصة: أن مصدر أصول الفقه هو سيرة العقلاء، وإليها ترجع كل المدركات العقلية التي يذكرها الاصوليون في أبواب الاصول. وان ما ورد في نصوص شرعية (آيات أو روايات) في قضايا الاصول هي إقرار وإمضاء للسيرة العقلائية. أو هي – في الحقيقة – تطبيق لما جرى عليه الناس من ظواهر اجتماعية عامة في واقع حياتهم وشؤونها. وعلى أساس ما تقدم من شروط لاعتبار السيرة حجة نضيف شرطا خامسا لشروط الظاهرة الاجتماعية لتكتسب صفة الشرعية، ويصح الرجوع إليه، وهو: 5 – أن تستكشف موافقة الشارع على ذلك السلوك المعين. ولنسم هذا الشرط بالشرعية.
[ 120 ]
وعليه تكون الشروط كالتالي: 1 – التلقائية. 2 – الشمولية. 3 – الإلزام. 4 – العقلائية. التمهيد / وظيفة علم أصول الفقه…… -… 5 – الشرعية. وظيفته: بإيجاز: وظيفة علم الاصول هي البحث في الحجة الشرعية. أو قل: هي إثبات الحجية للدليل الفقهي. وبغية أن يتوصل إلى هذا لابد له من السير إلى ذلك بخطوتين متكاملتين. وتفصيله بالتالي: ذكرنا في موضوع هذا العلم أنه يبحث في شيئين، هما: – الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة (أي المشتركة بين جميع لغات البشر). – المدركات العقلية العامة (أي المشتركة بين جميع مجتمعات البشر). هذا من حيث النظرية. أما من حيث التطبيق فانه يطبق نتائج بحثه النظري على الظواهر الشرعية التي هي من مصاديق الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة أو المدركات العقلية العامة. وذكرنا في مبحث مصادر هذا العلم أنها منحصرة في الدليل العقلي الذي هو:
[ 121 ]
– بناء العقلاء (أي متبنيات الناس جميعا). – العقل الفطري (أي المدركات البديهية). فالخطوة الأولى: هي أن يثبت العالم الأصولي أو الباحث الأصولي أن هذه الظاهرة اللغوية التي هي موضوع بحثه – كظاهرة الظهور مثلا – هي ظاهرة إجتماعية عامة، أي إنها مشتركة بين جميع لغات البشر. وسبيله إلى ذلك هو بناء العقلاء، أي يرجع إلى متبنيات الناس جميعا، ليرى إن كانت هذه الظاهرة التي هي من موضوع بحثه هي من متبنيات الناس جميعا. ويتم هذا له بإثبات أن ظاهرته التي هي موضوع بحثه متوافرة على شروط الظاهرة العامة التي سبق أن ذكرناها في مبحث (مصادر الاصول)، وهي: التلقائية والشمولية والإلزام والعقلانية. فإن أثبت ذلك عن طريق الاستقراء وهو الطريق العلمي أو عن طريق الاستنتاج وهو الطريق الفلسفي ينتقل إلى الخطوة الثانية. أو يثبت أن هذا الذي أدركه بعقله الفطري هو من المدركات العقلية العامة، أي المشتركة بين جميع مجتمعات البشر. وسبيله إلى ذلك هو أن يثبت أن ما هو موضوع بحثه أما من القضايا البديهية، وأما أنها من القضايا التي تنتهي إليها. ومتى أثبت ذلك انتقل إلى الخطوة الثانية. والخطوة الثانية: هي أن يلتمس الدليل الشرعي على اعتبار هذه الظاهرة الاجتماعية أو ذلك
[ 122 ]
المدرك العقلي، أي يثبت أن الشارع المقدس قد أعطى هذه أو ذلك الحجية واعتبرهما حجة شرعا. والسبيل إلى ذلك هو: – استقراء النصوص الشرعية من آيات وروايات واستنطاقها وفق الضوابط والقواعد المقررة. – أو استقراء أفعال وإقرارات المعصوم من خلال ما يذكر في النقول والوثائق التاريخية المعتبرة. وبهذه الخطوة الثانية يضيف للظاهرة موضوع بحثه الشرط الخامس من شروطها وهو الشرعية. ولنوضح هذا بالأمثلة: 1 – لدراسة النص الشرعي يتناول علم الأصول الظواهر التالية: – الظهور اللفظي. – خبر الثقة. – مراد المتكلم. ويخطو الخطوات التالية لدراسة الظهور: أ – تعريف الظهور. ويسلك إلى هذا عن طريق الاستعمال اللغوي العرفي. ب – إثبات أن الظهور ظاهرة لغوية اجتماعية عامة. ويصل إلى هذا عن طريق بناء العقلاء. ج – التماس الدليل لإثبات شرعية هذه الظاهرة عن طريق الكتاب والسنة.
[ 123 ]
د – تطبيق ما توصل إليه من الحجية على ظواهر الألفاظ الشرعية. ه – تأصيل الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في دلالة اللفظ. ولدراسة خبر الثقة يخطو الخطوات التالية: أ – تعريف خبر الثقة. وذلك عن طريق الاستعمال اللغوي العرفي والنصوص الشرعية. ب – إثبات أن هذه الظاهرة اجتماعية عامة. وذلك عن طريق بناء العقلاء. ج – التماس الدليل لإثبات شرعية الظاهرة. وذلك عن طريق الكتاب والسنة. د – يطبق ما توصل إليه على الروايات التي يرويها الثقات. وفي دراسة تعيين مراد المتكلم يسير الخطوات التالية: أ – إثبات أن هذه الظاهرة هي ظاهرة اجتماعية عامة. ويتم هذا عن طريق بناء العقلاء. ب – بيان طرق تعيين مراد المتكلم من كلامه. وذلك عن طريق الوسائل التي يستخدمها الناس كافة. ج – تطبيق النتيجة على مرادات الشارع المقدس (النصوص الشرعية). د – تأصيل الأصل الذي يرجع إليه في تعيين مراد المتكلم من كلامه. وفي ضوء هذا لابد من التنبيه إلى أن وظيفة علم الأصول في مبحث دلالة الألفاظ، وما يسميه الاصوليون (مباحث الألفاظ) هو دراسة حجية الظهور، وما عداها من مفردات أمثال الحقيقة والمجاز والمشترك والمشتق أو مركبات أمثال الأوامر والنواهي والمفاهيم والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ما هي
[ 124 ]
إلا أساليب لتشخيص صغريات كبرى الظهور. فهي – بهذا – تعد من المباحث الثانوية في هذا العلم، وليس من أساسياته. 2 – لدراسة مقدمة الواجب (ما لا يتم الواجب إلا به) يسير الأصولي الخطوات التالية: أ – تعريف المقدمة. عن طريق الاستعمال اللغوي العرفي. التمهيد / تصنيف مباحث علم أصول الفقه…… -… ب – إثبات حكم المقدمة. عن طريق الإدراك العقلي. ج – إثبات الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. د – تطبيق الملازمة على حكم المقدمة. 3 – ولدراسة ظاهرة الاستصحاب يقوم الاصولي بالعمل التالي: أ – تعريف الاستصحاب. عن طريق الاستعمال اللغوي العرفي. ب – إثبات أنه ظاهرة اجتماعية عامة. عن طريق بناء العقلاء. ج – التماس الدليل الشرعي لاثبات حجية الاستصحاب.
[ 125 ]
وذلك عن طريق النصوص الشرعية، وهكذا. تصنيف مباحثه: تبينا في المقدمة العلمية لهذا العلم أن علم أصول الفقه يبحث في موضوعين هما: 1 – الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة. 2 – المدركات العقلية العامة. وهنا نحاول أن نتبين تصنيف موضوعات هذا العلم بعناوينها الرئيسة، ومن خلال الغاية التي يهدف إليها الأصول من البحث، وهي تهيئة الأصول والقواعد التي تساعد الفقيه في استنباط الحكم الشرعي من مصدره. ومصادر الفقه الإسلامي (الكتاب والسنة والإجماع والعقل) تتنوع إلى صنفين، هما: – أدلة مؤسسة. – أدلة كاشفة. وأعني بالأدلة المؤسسة تلك التي تشرع الحكم وهي الكتاب والسنة. وبالأدلة الكاشفة تلك التي لا تشرع الحكم وإنما تكشف عنه وهي الإجماع والعقل. في ضوء هذا التصنيف لأدلة الفقه لابد من تصنيف موضوعات الاصول تصنيفا رئيسا إلى:
[ 126 ]
1 – مباحث دلالة الألفاظ. ويحاول الأصولي من خلالها أن يهئ القواعد اللفظية الأصولية التي تساعد الفقيه على دراسة نصوص التشريع في الكتاب والسنة لمعرفة دلالاتها ثم استفادة الحكم منها. 2 – مباحث الملازمات العقلية. ويحاول الأصولي من خلالها أن يهئ القواعد العقلية الأصولية التي تساعد الفقيه على معرفة حكم تلكم الملازمات التي لم ينص الشارع على حكمها بآية أو رواية، إنما ترك أمر ذلك إلى بداهة العقول، لأن العقل بفطرته يدرك ذلك فيكشف عن حكم الشرع فيه. 3 – مباحث الأصول العملية. ويحاول الأصولي من خلالها أن يهئ القواعد العلمية الأصولية التي تساعد المكلف على معرفة الوظيفة العملية عند الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي لرفع حيرته والتوسعة عليه منة له ورحمة به أو عند فقدان النص الشرعي، أو عقمه عن إعطاء الحكم الشرعي لاجماله، أو لتعارضه مع نص شرعي آخر تعارضا محكما لا يستطاع رفعه. وفي هديه: الموضوعات العامة لأصول الفقه، هي: – دلالة الألفاظ. – الملازمات العقلية.
[ 127 ]
– الاصول العملية. – علاقات الأدلة. وهي أيضا العناوين العامة لمباحث هذا الكتاب.
[ 128 ]
الباب الأول / مباحث الدليل والحكم / الدليل…… -…
[ 129 ]
الباب الاول مباحث الدليل والحكم الدليل الاستدلال الحكم
[ 130 ]
مباحث الدليل والحكم * (ا لد ليل) * تبينا أن علم أصول الفقه يبحث في الأدلة مطلقا، أي بشكل عام، وفي أدلة الفقه الإسلامي بصورة خاصة. وهو بهذا يقوم بدور تزويد الفقه بالقواعد العامة ليقوم الفقيه بدور تطبيق هذه القواعد الأصولية على ما بين يديه من جزئيات تحمل في طياتها الأحكام الشرعية كالآيات والروايات ليستنبط الحكم منها، أو بدور تطبيقها في الموارد، التي لا نص خاصا فيها ليستكشف موقف المشرع الإسلامي منها إيجابا أو سلبا. إن هذا بدوره يسلمنا – هنا – إلى ضرورة تعرف الأدلة بعامة ثم الأدلة الشرعية بخاصة: لكلمة (دليل) في لغتنا العربية معنيان، هما: 1 – المرشد:. Guide ويجمع على (أدلة) و (أدلاء). ومن مصاديقه: الإنسان يدل على شئ، والإشارة، والعلامة، والرمز، وما إليه. 2 – البرهان. Proof ويجمع على (أدلة) فقط. وهو البينة التي يقيمها الفلاسفة والعلماء وغيرهم لإثبات فكرة أو نفيها.
[ 131 ]
وإذا أخذنا بمقولة اللغويين المحدثين الذين يقولون بأن اللغات تنتقل من الحسي إلى الذهني أو قل من المادي إلى المعنوي، يسهل علينا أن نؤمن بأن كلمة (دليل) استعملت في لغتنا أولا للمرشد من إنسان وغيره ثم استعملت في البرهان لوجه الشبه القائم بينهما وهو الدلالة على الشئ، فكرة وغيرها ثم بقيت تستعمل فيهما. فالمرشد يوصل إلى شئ مادي. والبرهان يوصل إلى شئ معنوي. ومن هنا عرف الدليل فلسفيا ب ” ما يقود الذهن إلى التسليم بحقيقة قضية كانت موضع شك من قبل. وقد يكون مجرد أمارة أو ظاهرة معينة أو شهادة شاهد، أو ضربا من الإستدلال المنطقي “. والدليل في عرف الاصوليين: ” هو ما يمكن التوصل به بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري “. ويريدون ب (صحيح النظر) التفكير القائم على اسس منهجية سليمة، وب (مطلوب خبري) النتيجة التي يوصل إليها الدليل، وهي جملة خبرية لأنها تحتمل الصدق والكذب لذاتها، وهذا مثل قولنا: صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب + وكل ظاهر حجة = فصيغة الأمر حجة. إن المطلوب الخبري في هذا الدليل – الذي هو القياس المنطقي – هو جملة (صيغة الأمر حجة)، وهي جملة خبرية أنتجها الدليل الذي أعمل الاصولي فكره فيه لكي يوصله إلى مطلوبه هذا. والدليل في علم المنطق هو القياس والاستقراء والتمثيل والعكس المستوي وعكس النقيض والتناقض.
[ 132 ]
وقد يطلق على البرهان الذي يستدل به اسم (البينة) واسم (الحجة) والفرق هو أن ” ما ثبت به الدعوى من حيث إفادته للبيان يسمى بينة، ومن حيث الغلبة على الخصم يسمى حجة ” (1). فسمي بينة لأن الدليل بيان يوضح ويكشف عن المطلوب، وسمي حجة لأن الخصم في مجال المناظرة لكي يغلب خصمه يحتج بالدليل الذي يساعده على التغلب على خصمه. فالحجة هي الدليل، سمي بذلك لأنه يضفي صفة الاحتجاج على الشئ الذي يراد الإستدلال به والبرهنة على الإثبات أو النفي. وقد دأب الأصوليون – متأثرين بالمصطلح المنطقي – على التعبير عن الدليل – غالبا – بالحجة. ويعبرون عن إعطاء الدليلية لشئ ما بالحجية، فعندما يقولون (حجية خبر الثقة) يعنون بذلك اعتبار خبر الثقة حجة، أي دليلا يستدل به، وعندما يقولون (إثبات حجية الاستصحاب) يعنون إثبات دليلية الاستصحاب، أي اعتبار الاستصحاب دليلا. وتطلق كلمة (حجة) عند أهل البيت (عليهم السلام) في لغة الحديث، وعندنا اتباعهم الإمامية في لغة العلوم الشرعية: على الأنبياء والأوصياء المبلغين عن الله تعالى، وبشكل خاص على الأئمة الإثنى عشر (عليهم السلام). وفي موسوعة (الكافي) للشيخ الكليني فصل بعنوان (كتاب الحجة) وردت فيه الكلمة مستعملة في لغة الحديث في أكثر من حديث.
(1) – الكليات: مادة حجة. (*)
[ 133 ]
ومن إطلاقها على الأنبياء ما عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل ؟ قال: ” إنا لما أثبتنا ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت ان له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس – على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب – في شئ من أحوالهم مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته “. ومن إطلاقها على الأئمة (عليهم السلام) ما عن منصور بن حازم: قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله. قال: صدقت. قلت: إن من عرف ان له ربا، ينبغي له أن يعرف ان لذلك الرب رضا، وسخطا، وانه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف انهم الحجة وأن لهم الطاعة المفترضة. وقلت للناس: تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الحجة من الله على خلقه. قالوا: بلى.
[ 134 ]
قلت: فحين مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان الحجة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن. فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة ألا بقيم، فما قال فيه من شئ كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن ؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم. قلت: كله ؟ (1). قالوا: لا. فلم أجد أحدا يقال إنه يعرف ذلك كله إلا عليا (عليه السلام). وإذا كان الشئ بين القوم قال هذا لا أدري، وقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري، وقال هذا أنا أدري، فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن ما قال في القرآن فهو حق. فقال (عليه السلام): ” رحمك الله “. ومن استعمالها في لغة العلوم الشرعية فأمثال ما جاء في رسائل الشيخ الأنصاري في مبحث الظنون المعتبرة من قوله: ” إعلم أن إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المروية عن الحجج (عليهم السلام)… ” يعني أئمتنا (عليهم السلام). الخلاصة:
(1) – يعني كل القرآن. (*)
[ 135 ]
الدليل: هو الفكرة المعلومة التي توصل المستدل بها إلى فكرة اخرى كانت غير معلومة لديه. أو قل: هو المعلومة التي نتوصل عن طريقها إلى النتيجة المطلوبة. أدلة الفقه: هي الأدلة التي يرجع إليها الفقهاء المسلمون لاستفادة التكليف الشرعي منها حكما كان أو وظيفة. وتسمى أيضا (مصادر التشريع الإسلامي) لأن التشريع الإسلامي الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم يؤخذ منها. وهي عند جمهور المسلمين: الكتاب والسنة الإجماع والعقل. إلا ما عرف من إنكار بعض أهل السنة للسنة، وإنكار بعض الشيعة للإجماع والعقل.. وسأشير إلى هذا في موضعه. واستقر – مؤخرا – في الفكر الاصولي السني عنوان (القياس) في موضع (العقل)، فعرفت الأدلة عند جمهور أهل السنة بأنها الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وبقيت عند جمهور الشيعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل. وسنتحدث عن كل واحد من هذه الأربعة في حدود ما يرتبط بها باعتبارها أدلة الفقه.
[ 136 ]
القرآن الكريم: القرآن الكريم هو الدليل الأول من أدلة الفقه، وأهمها على الإطلاق. تسميته: يغلب عليه في لغة الفقهاء والاصوليين والمحدثين اسم (الكتاب)، بينما يغلب عليه عند المسلمين بعامة اسم (القرآن)، وأقل منهما استعمالا تسميته عند عموم المسلمين أيضا باسم (المصحف). وكلمة (كتاب) تستعمل في اللغة العربية مصدرا للفعل كتب يكتب كتابا بمعنى كتابة، واسم مفعول بمعنى مكتوب، واستعمال الكلمة مصدرا واسم مفعول هي من ظواهر التصريفات في اللغة العربية، يقولون (لفظ) ويريدون به مصدر لفظ يلفظ، ويطلقونه ويريدون به اسم المفعول، أي (ملفوظ)، وكذلك كلمة (خلق) والخ. وكلمة (كتاب) – مصدرا كانت أو اسم مفعول – مأخوذة من مادة (ك ت ب) التي تعني الخط والتدوين. وسمي القرآن كتابا – أي مكتوبا – لأنه مخطوط، والخط الكتابة في لغتنا العربية. والكتاب – أيضا – هو الصحف المجموعة، والقرآن الكريم صحف مجموعة. والقرآن نفسه ذكر هذا بما يشير إلى علة تسميته بكتاب، وذلك بقوله: * (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) *. وجاء استعمال هذا الإسم في أكثر من موضع من القرآن نفسه، منها قوله تعالى: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *، وقوله: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) *.
[ 137 ]
واسم (الكتاب) يطلق أيضا على (التوراة) و (الإنجيل)، قال تعالى: * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) *، وقال: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب) *. وتسمية اليهود والنصارى بأهل الكتاب في القرآن الكريم والحديث الشريف دليلة بينة على ذلك. ومن شواهد استعمال كلمة (الكتاب) علما للقرآن الكريم قوله تعالى: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) *، وقوله: * (تلك آيات الكتاب الحكيم) * و * (تلك آيات الكتاب المبين) * و * (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) *. وكذلك كلمة (قرآن) – هي الاخرى – تستعمل في لغتنا العربية مصدرا فيقولون: قرأ يقرأ قراءة وقرآنا. ومن شواهده في الاستعمال القرآني قوله تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * أي قراءته. وتستعمل اسم مفعول بمعنى مقروء. ومن شواهده قوله تعالى: * (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) *، وقوله: * (إنا أنزلنا قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *، وقوله: * (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) *. ومن شواهد استعمالها علما لكتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى: * (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس) *. وقوله: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) *. وقوله: * (أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) *. وأما المصحف – لغة – فهو المجلد الذي يضم مجموعة من الصحف. والصحف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه من ورق ونحوه، وتطلق أيضا على المكتوب في الورق أو غيره.
[ 138 ]
فالمصحف اسم مفعول مأخوذ من (أصحف الكتاب) إذا جمعه صحفا. وكان يطلق على كل كتاب جمعت صحفه في مجلد ثم كثر استعماله في القرآن الكريم فصار علما بالغلبة. تعريفه: لأن القرآن الكريم معلوم ومعروف عند جميع المسلمين، ولا يختلف إثنان منهم في أنه هذا المتداول بين أيديهم لا نحتاج إلى تعريفه، ولكن الاصوليين اهتموا ببيان مفهومه، وذلك ليميزوا بينه وبين ما سواه مما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما قد يتوهم أنه من القرآن. وحرصوا على أن يكون التعريف – وعن طريق القيود الاحترازية التي يذكرونها فيه – مخرجا لما أشرت إليه عن دائرة مفهوم القرآن الكريم، وهي المواد التالية: 1 – الكتب الإلهية الاخرى كالتوراة والإنجيل والزبور وما سواها. 2 – الحديث القدسي. 3 – السنة الشريفة. 4 – القراءات غير المتواترة. 5 – تفسير القرآن. 6 – ترجمة القرآن. ومما عرف به القرآن: – هو كلام الله المنزل على خاتم الأنبياء باللفظ العربي المتعبد بتلاوته المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلا متواترا (1).
(1) – أصول الفقه الإسلامي 72. (*)
[ 139 ]
– هو الكلام المنزل على الرسول، المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلا متواترا (1). وأسد التعريفات تعريف استاذنا السيد الحكيم في كتابه (الاصول العامة للفقه المقارن) القائل: ” والمراد بالكتاب – هنا – هو كتاب الله – عزوجل – الذي أنزله على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ألفاظا ومعاني واسلوبا، واعتبره قرآنا دون أن يكون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل في انتقاء ألفاظه أو صياغته “. وأهم سمات القرآن الكريم هو: 1 – انه وحي من الله تعالى أنزله على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. * (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *. * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) *. * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) *. 2 – انه تحدى بلغاء العرب باسلوبه البياني فعجزوا عن مجاراته: * (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) *. * (أم يقولون إفتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من
(1) – أصول الفقه الإسلامي 72. (*)
[ 140 ]
دون الله إن كنتم صادقين) *. * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *. * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين) *. 3 – انه محفوظ من قبل الله تعالى من أن يتطرق إليه الزيغ: أي انه لا تناله يد التحريف والتغيير في لفظه ونظمه. * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *. * (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) *. وقد أثبت الواقع فشل كل محاولات النيل من واقع القرآن سواء في لفظه أو نظمه. 4 – هدايته للناس: * (أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) *. (إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما: كتاب الله، وأهل بيتي عترتي، إني سألت ربي ذلك لهما، فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم) (1). 5 – صدق إخباره بالمغيبات: كالذي جاء في إخباره بما يصيب الوليد بن المغيرة عندما قال عن القرآن
(1) – المشرع الروي ص 12. (*)
[ 141 ]
الكريم * (انه أساطير الأولين) * حيث اصيب بالسيف في أنفه يوم بدر، وذلك في قوله تعالى: * (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم) *. 6 – كشفه عن الحقائق العلمية: * (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه) *. * (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) *. حجيته: يستمد القرآن الكريم حجيته باعتباره مصدر تشريع من أنه منزل من الله تعالى، وبه يكتسب مشروعية وشرعية الإستدلال به. وقد ثبتت صحة نسبته إلى الله تعالى بالإعجاز حيث تحدى العرب أن يجاروه في اسلوبه البياني ولو بالإتيان بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك. وفرق بلغاؤهم بين اسلوب القرآن في نظمه وبيانه وكلام النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يتطرق إليه الريب في أن القرآن ليس من قول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). والإعجاز البياني للقرآن الذي يثبت صحة صدوره عن الله تعالى مصاحب وملازم للقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والمسلمون على تكاثر أجيالهم وامتداد تاريخهم يؤمنون بهذا ويدركون واقعه إدراكا واعيا وحيا. ولا دليل أقوى وأقوم من هذا في الإثبات حيث يفوق مستوى التواتر في الرواية. فالقرآن – إذن – من حيث السند والإسناد هو قطعي الصدور عن المعصوم وهو
[ 142 ]
الله تعالى، فلا إشكال ولا ريب في حجيته من هذه الناحية. أما من حيث الدلالة فالقرآن فيه المحكم والمتشابه لقوله تعالى: * (منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات) *. والمحكم: هو الذي يفهم معناه، إما لأنه نص فيه، وإما لظهوره فيه، واما عن طريق تأويله. والمتشابه: هو الذي لا يفهم معناه إلا برده إلى المحكم عن طريق ما يؤثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تفسير أو تأويل صح اعتبارهما. وينقسم المتشابه إلى: أ – المؤول: وهو الإحتمال المرجوح. ب – المجمل: وهو الذي لا يبين معناه المقصود منه. والمحكم لأنه بين الدلالة ينقسم كأي قول آخر مبين إلى: 1 – النص: وهو قطعي الدلالة. وحجيته قائمة بذاته لأنه يقين، وليس وراء اليقين حجة، وإليه ترجع جميع الحجج تستمد حجيتها منه، لبداهة حجيته. 2 – الظاهر: وينقسم إلى: أ – مقترن بما يفيد القطع. وشأنه من حيث الحجية شأن النص.
[ 143 ]
ب – غير مقترن: وهو ظني الدلالة. الخلاصة: اللفظ القرآني = المحكم = النص، الظاهر = مقترن، غيرمقترن اللفظ القرآني = المتشابه = المؤول، المجلمل ويقول صاحب كنز العرفان في تعريفها: ” اللفظ المفيد وضعا: – إن لم يحتمل غير ما فهم منه بالنظر إليه فهو النص. – وإن احتمل: – فإن ترجح أحد الاحتمالين بالنظر إليه فهو الظاهر. – والمرجوح المؤول. – وإن تساوى الاحتمالان فهو المجمل. – والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم. – والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه. وقد يتركب بعض هذه مع بعض. مثال النص: قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * إذ لا يحتمل غير الوحدانية. مثال الظاهر: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) *. مثال المؤول: * (يد الله فوق أيديهم) * في إرادة القدرة.
[ 144 ]
مثال المجمل: * (والليل إذا عسعس) * في احتمال: أقبل وأدبر ” (1). حجية ظواهره: ويستمد الظاهر غير المقترن حجيته من الدليل المتكفل لإثبات حجية الظهور ومشروعية العمل بالظواهر. وسيرة العقلاء دليلة حجية الظهور بعامة. ومضافا إلى إن سيرة المسلمين في التعامل مع ظواهر القرآن بالأخذ بها والإعتماد على مؤدياتها دليلة حجية ظهورات القرآن بخاصة. هذا هو رأي جمهور المسلمين بما يكاد يرقي إلى مستوى الضرورة ومنهم أصحابنا الاصولية من الإمامية. وفي مقابل هذا الرأي ذهب أكثر الأخبارية من الإمامية إلى عدم جواز الأخذ بظواهر القرآن إلا عن طريق ما فسر به من أحاديث رويت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام). وقد ذكر هذه المسألة المحدث البحراني في المقدمة الثالثة من كتابه (الحدائق الناضرة)، وذكرها أيضا وبشئ من التفصيل في كتابه (الدرر النجفية ص 171 وما بعدها). قال في الدرر النجفية: ” لا خلاف بين أصحابنا الأصوليين في العمل بالقرآن في الأحكام الشرعية، والإعتماد عليه، حتى صنف جملة منهم كتابا في الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية، وهي خمسمائة آية عندهم. وأما الإخباريون منهم – وهو المحدث الأمين الاسترآبادي (قدس سره)، ومن تأخر عنه،
(1 كنز العرفان 1 / 3 – 4. (*)
[ 145 ]
فانه لم يفتح هذا الباب أحد قبله – فهم في هذه المسألة ما بين الإفراط والتفريط. فمنهم من منع فهم شئ منه مطلقا، حتى مثل قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * إلا بتفسير من أصحاب العصمة (عليهم السلام)، قال المحدث الفاضل السيد نعمة الله الجزائري (رحمه الله) في بعض رسائله: إني كنت حاضرا في المسجد الجامع من شيراز، وكان الاستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني والشيخ المحدث صاحب جوامع الكلم (يعني السيد محمد بن علي الشهير بالسيد ميرزا الجزائري استاذ السيد نعمة الله الجزائري) يتناظران في هذه المسألة فانجر الكلام بينهما حتى قال له الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى: * (قل هو الله أحد) * فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث ؟ ! فقال: نعم، لا نعرف معنى الأحدية، ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك إلا بذلك… انتهى. ومنهم من جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل العصمة في تأويل مشكلاته، وحل مبهماته، وبيان مجملاته، كما يعطيه كلام المحدث المحسن الكاشاني في مقدمات تفسيره (الصافي) جريا على قواعد الصوفية الذين يدعون مزاحمة الأئمة (عليهم السلام) في تلك المقامات العلية، كما لا يخفى على من تتبع كلامه في تفسيره المشار إليه. والتحقيق في المقام أن يقال: إن الأخبار متعارضة من الجانبين، ومتصادمة من الطرفين، إلا أن أخبار المنع أكثر عددا، وأصرح دلالة “. ثم ذكر أخبار جمع القرآن منتهيا بذكر حديث الثقلين (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، ومعلقا عليه ب ” أن الظاهر من عدم افتراقهما إنما هو باعتبار الرجوع في معاني القرآن إلى العترة – صلوات الله عليهم -، ولو تم فهمه كلا أو بعضا بالنسبة إلى الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية بدونهم (عليهم السلام) لصدق الإفتراق ولو في الجملة، فهو خلاف ما دل
[ 146 ]
عليه الخبر، فإن معناه: أنهم (عليهم السلام) لا يفارقون القرآن، بمعنى أن أفعالهم وأعمالهم وأقوالهم كلها جارية على نحو ما في الكتاب العزيز، والقرآن لا يفارقهم بمعنى أن أحكامه ومعانيه لا تؤخذ إلا عنهم “. وواضح من كلامه (قدس سره) أن ذهابهم هذا المذهب جاء نتيجة ما وقفوا عليه من أحاديث تمنع من تفسير القرآن بغير ما يروى عن أهل البيت، وذلك لأن أهل البيت هم الذين خوطبوا به، ولا يفهمه إلا من خوطب به، وهي أمثال: – مرسلة شبيب بن أنس عن بعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: ” إن أبا عبد الله (عليه السلام) قال لأبي حنيفة: أنت فقيه أهل العراق ؟ قال: نعم. قال: فبم تفتيهم ؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته ؟ وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال: نعم. قال: يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علما – ويلك – ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ورثك الله من كتابه حرفا ” (1). – رواية زيد الشحام: ” قال: دخل قتادة على أبي جعفر (عليه السلام)، فقال له: أنت فقيه أهل البصرة ؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال: بلغني أنك تفسر القرآن.
(1) – الوسائل: كتاب القضاء – أبواب صفات القاضي: الباب السادس: الحديث السابع والعشرون. (*)
[ 147 ]
قال: نعم. إلى أن قال: يا قتادة، إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة، إنما يعرف القرآن من خوطب به ” (1). وهي الأحاديث التي أشار إليها الطبرسي في مقدمة تفسيره (مجمع البيان) بقوله: ” واعلم أن الخبر قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة القائمين مقامه (عليهم السلام) أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح “. لا سيما أن رواية زيد الشحام هي من مرويات (الكافي)، وهم – أعني الإخباريين – يذهبون إلى صحة صدور جميع مروياته عن المعصومين (عليهم السلام). يضاف إليه اعتقادهم بتواتر الروايات المشار إليها، كما صرح بهذا الحر العاملي في (الوسائل) – هامش الباب السادس من أبواب صفات القاضي – قال: ” قد ورد أحاديث متواترة تزيد على مائتين وعشرين حديثا – قد جمعتها في محل آخر – دالة على عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيره من كلام الأئمة (عليهم السلام)، والتفحص عن أحوالها وأنها محكمة أو متشابهة، ناسخة أو منسوخة، عامة أو خاصة، إلى غير ذلك، أو ورد ما يوافقها من أحاديثهم الثابتة، وأنه يجب العمل بالكتاب والسنة. وقد تقدم ذلك في حديث عبيدة السلماني. لكن إذا كان ظاهر آية لا يوافقها حديث، ولا يعلم أنها ناسخة أو منسوخة، محكمة أو متشابهة، لم يجز الجزم بظاهرها، ولا الجزم بمخالفتها بغير نص، بل يجب الاحتياط – لما يأتي إن شاء الله تعالى -.
(1) – رسائل الشيخ الأنصاري عن الكافي 8 / 311 الحديث 485. (*)
[ 148 ]
ولا يخفى ندور الفرض لكثرة النصوص في آيات الأحكام، والإستدلال بها منهم (عليهم السلام) وورد ما يوافقها أو يخصصها “. وحديث عبيدة السلماني الذي أشار إليه هو: ” عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: يا أيها الناس اتقوا الله، ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال قولا آل منه إلى غيره، وقد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه، فقام عبيدة وعلقمة والأوسد واناس معهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف ؟ فقال: يسأل عن ذلك علماء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ” (1). والذي يبدو من الظروف والأجواء التي قيلت فيها هذه الأحاديث وأمثالها، وهي أجواء الحملة العلمية الإعلامية التي قام بها أهل البيت (عليهم السلام) ضد اجتهاد الرأي عند أهل السنة، لئلا يتسرب هذا اللون من الاجتهادات إلى القرآن الكريم فيخضع حتى ظواهره للتفسير بحجة الاجتهاد، وفي هذا من الخطورة ما فيه. الحملة التي كانت تتطلب أن تكون مكثفة ومتواصلة لصد، ورد أفاعيل هذا الاجتهاد الخطير والخطر لأنه يعتمد التقديرات الشخصية التي قد تتدخل فيها الأهواء. لهذا ركزت الروايات على لا بدية الرجوع إلى أهل البيت لأنهم الامناء على الوحي والحماة لحمى التنزيل. وخير من عالج هذه المسألة أو المشكلة المنهجية الشيخ الأنصاري في (الرسائل)، ومن هنا رأيت أن أنقل كلامه بطوله لما فيه من أضواء كاشفة سلطها (قدس سره) على الجوانب التاريخية في المشكلة والاخرى العلمية، وخرج منها بنتائج مهمة
(1) – الوسائل: كتاب القضاء – أبواب صفات القاضي: الباب الرابع – الحديث التاسع عشر. (*)
[ 149 ]
جدا، لا سيما في المنهج، قال: إنها (يعني الروايات) لا تدل على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار، إذ من المعلوم أن هذا لا يسمى تفسيرا، فان أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه انه أمره بشئ بلسانه المتعارف في مخاطبته له، عربيا أو فارسيا أو غيرهما، فعمل به وامتثله، لم يعد هذا تفسيرا، إذ التفسير كشف القناع. ثم لو سلم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا، لكن الظاهر ان المراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الإستحسان، فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفية. وحينئذ فالمراد بالتفسير بالرأي: إما حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر. ويرشد إليه المروي عن مولانا الصادق (عليه السلام)، قال: في حديث طويل: ” وإنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته. فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء (عليهم السلام)، فيعرفونهم “. وإما الحمل على ما يظهر له في بادي الرأي من المعاني العرفية واللغوية، ومن دون تأمل في الأدلة العقلية ومن دون تتبع في القرآن النقلية، مثل الآيات الاخر الدالة على خلاف هذا المعنى والأخبار الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها من منسوخها. ومما يقرب هذا المعنى الثاني، وإن كان الأول أقرب عرفا، أن المنهي، في تلك الأخبار، المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله عن أهل البيت (عليهم السلام)، بل يخطئونهم به.
[ 150 ]
ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نص الإمام (عليه السلام) على ظاهر القرآن، كما ان المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس. ويرشدك إلى هذا ما تقدم في رد الإمام (عليه السلام)، على أبي حنيفة حيث انه يعمل بكتاب الله. ومن المعلوم أنه إنما كان يعمل بظواهره، لا أنه كان يؤوله بالرأي، إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنة. ويرشد إلى هذا قول أبي عبد الله (عليه السلام) في ذم المخالفين: ” إنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهم يظنون أنه العام، واحتجوا بالآية وتركوا السنة في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا “. وبالجملة فالإنصاف: يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع في سائر الأدلة، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، كيف، ولو دلت على المنع من العمل على هذا الوجه دلت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت (عليهم السلام). ففي رواية سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ” إن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل القرآن، منه ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام، يكون له وجهان، كلام عام وكلام خاص، مثل القرآن “. وفي رواية أسلم بن مسلم: ” إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن “. هذا كله مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها، مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن: مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين، وغيرهما، مما دل على الأمر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه، وعرض الأخبار المعارضة بل ومطلق
[ 151 ]
الأخبار عليه، ورد الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود والأخبار الدالة قولا وفعلا وتقريرا على جواز التمسك بالكتاب. مثل قوله (عليه السلام)، لما قال زرارة: ” من أين علمت ان المسح ببعض الرأس ؟ فقال (عليه السلام): لمكان الباء “. فعرفه مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب. وقول الصادق (عليه السلام)، في مقام نهي الدوانقي عن قبول خبر النمام: ” إنه فاسق، وقال الله: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) *، الآية “. وقوله (عليه السلام): لابنه إسماعيل: ” إن الله عزوجل يقول: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم “. وقوله (عليه السلام)، لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء، اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله: ” أما سمعت قوله الله عزوجل: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا) * “. وقوله (عليه السلام)، في تحليل العبد للمطلقة ثلاثا: ” إنه زوج، قال الله عزوجل: * (حتى تنكح زوجا غيره) * وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع: إنه تعالى قال: * (فإن طلقها فلا جناح عليهما) * “. وتقريره (عليه السلام)، التمسك بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب) *، وأنه نسخ بقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) *. وقوله (عليه السلام): في رواية عبد الأعلى، في حكم من عثر، فوقع ظفره، فجعل على إصبعه مرارة: ” إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) *. ثم قال: امسح عليه ” فأحال (عليه السلام)، معرفة حكم المسح على إصبعه المغطى بالمرارة إلى الكتاب، موميا إلى أن هذا لا يحتاج إلى السؤال، لوجوده في ظاهر القرآن. ولا يخفى أن استفادة الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة مما لا يظهر إلا
[ 152 ]
للمتأمل المدقق، نظرا إلى أن الآية الشريفة إنما تدل على نفي وجوب الحرج، أعني المسح على نفس الإصبع، فيدور الأمر في بادي النظر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح، فهو بظاهره لا يدل على ما حكم به الإمام (عليه السلام)، لكن يعلم عند التأمل ان الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح فهو الساقط دون أصل المسح، فيصير نفي الحرج دليلا على سقوط اعتبار المباشرة في المسح، فيمسح على الإصبع المغطى. فإذا أحال الإمام (عليه السلام) استفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب، فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء، عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهر الآية المذكورة، أو غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كل عارف باللسان من ظاهر القرآن، إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت (عليهم السلام). ومن ذلك ما ورد من: ” أن المصلي أربعا في السفر إن قرئت عليه آية القصر وجب عليه الإعادة، وإلا فلا “. وفي بعض الروايات ” إن قرئت عليه وفسرت له “. والظاهر ولو بحكم أصالة الإطلاق في باقي الروايات أن المراد من تفسيرها له بيان أن المراد من قوله تعالى: * (لا جناح عليكم أن تقصروا) *، بيان الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيا على التخفيف، فلا ينافي تعين القصر على المسافر وعدم صحة الإتمام منه، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج إلى التفسير بلا شبهة. وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للإمام (عليه السلام): ” إن الله تعالى قال: * (لا جناح) *، ولم يقل: افعلوا، فأجاب (عليه السلام)، بأنه من قبيل قوله تعالى: * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *.
[ 153 ]
وهذا أيضا يدل على تقرير الإمام (عليه السلام) لهما في التعرض لاستفادة الأحكام من الكتاب والدخل والتصرف في ظواهره. ومن ذلك استشهاد الإمام (عليه السلام) بآيات كثيرة، مثل الاستشهاد لحلية بعض النسوان بقوله تعالى: * (واحل لكم ما وراء ذلكم) *، وفي عدم جواز طلاق العبد بقوله: * (عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) *. ومن ذلك الاستشهاد لحلية بعض الحيوانات بقوله تعالى: * (قل لا أجد فيما اوحي إلي محرما) *، الآية “، إلى غير ذلك مما لا يحصى “. رتبته: ذكرنا أن أدلة الفقه هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل. وهنا قد يثار التساؤل: هل هذه الأدلة على مستوى واحد من حيث الرجوع إليها والإستدلال بها أو أنها مترتبة في الأخذ بها ؟. يتفق العلماء المسلمون في أن القرآن الكريم له الرتبة الاولى، أي يرجع إليه أولا ثم السنة ثم الإجماع فالعقل. يقول استاذنا الشيخ المظفر: ” ان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والموجود بأيدي الناس بين الدفتين هو الكتاب المنزل إلى الرسول بالحق، * (لا ريب فيه هدى ورحمة) *، * (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) *. فهو – إذن – الحجة القاطعة بيننا وبينه تعالى التي لا شك ولا ريب فيها، وهو المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية بما تضمنته آياته من بيان ما شرعه الله للبشر. وأما ما سواه من سنة أو إجماع أو عقل فإليه ينتهي ومن منبعه يستقي “.
[ 154 ]
السنة وهي الدليل الثاني من أدلة الفقه، وتأتي أهميتها بعد أهمية القرآن ورتبتها بعد رتبته، وتشترك معه في أنها نصوص لفظية يصدق عليها من حيث الدلالة ما يصدق عليه من قواعد وضوابط وملابساتهما. تعريفها: ذكر المعجميون العرب للفظ السنة أكثر من معنى، وما يلتقي منها وموضوعنا هو: العادة والطريقة والسيرة. وقالوا: – سنة الله: حكمه في خليقته. – وسن الله سنة: بين طريقا قويما. – وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ينسب إليه من قول أو فعل أو تقرير. وهو التعريف العلمي الشرعي للسنة، والمتفق عليه بين علماء الشريعة الإسلامية. وبسبب المنهجين العلميين اللذين ولدا في بداية الدرس الإسلامي، عند المسلمين، وتحولا فيما بعد إلى مدرستين علميتين في دراسة التشريع الإسلامي، وهما: مدرسة الصحابة ومدرسة أهل البيت (1) توسع في مفهوم السنة، فأصحاب مدرسة الصحابة بحثوا ما يروى عن الصحابة من أقوال في مجال التشريع، هل هو سنة كسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصحاب مدرسة أهل البيت بحثوا ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، هل هو رواية عن النبي أو سنة كسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(1) – أنظر: كتابي (تاريخ التشريع الإسلامي) و (دروس في فقه الإمامية). (
[ 155 ]
وهذا ما نأتي على إيضاحه تحت عنوان (سنة الصحابة) وعنوان (سنة أهل البيت (عليهم السلام)) للوقوف على حدود مفهوم السنة الشريفة، بعد أن نستوضح ماذا يراد بالقول والفعل والتقرير، وبعد بيان حجية السنة. مصدرها: ونحدد المقصود بهذا العنوان من خلال الإجابة عن التساؤل التالي: هل السنة كلها وحي من الله تعالى ؟ أو بعضها وحي من الله وبعضها الآخر اجتهاد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقره الله عليه ؟ ذهب إلى القول بأنها كلها وحي من الله تعالى أصحابنا الإمامية لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم معصوم في جميع سلوكه تبليغا وغيره فلا يعرض له الخطأ ولا يتعرض لما يحتمل فيه الخطأ.. والاجتهاد بطبيعته – كاجتهاد – معرض للإصابة والخطأ. وذهب إلى القول بأنها وحي من الله في بعضها، واجتهاد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعضها الآخر، علماء أهل السنة، يقول الشيخ علي الخفيف في كتابه (أحكام المعاملات الشرعية) (1): ” وكذلك كان يفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يعرض له من الحوادث والوقائع، يقضي فيها بما نزل عليه، فإن لم ينزل عليه فيها شئ اجتهد ونظر فيما نزل حتى يصل إلى حكم الله المطلوب فيقضي به ويقره الله عليه. وحكمه في هذه الحال هو النوع الثاني من السنة. فالسنة إما أن تصدر عن وحي، وإما تصدر عن اجتهاد أقره الله عليه. وكلا النوعين واجب أن يتبع. وهي في الحالين لا تخرج عن قول أو فعل أو إقرار أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) “.
(1) – أحكام المعاملات الشرعية ص 8 / ط 1 سنة 1417 ه – 1996 م. (*)
[ 156 ]
ويأتي نظير هذا في الحديث عن سنة أهل البيت، وهناك نتبين التشابه من جانب والفرق من آخر بما يلقي الضوء على المسألة بشكل أجلى وأوضح. تقسيمها: تقسم السنة الشريفة على أساس الاسلوب الذي استخدمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا للحكم الشرعي إلى: 1 – السنة القولية: نسبة إلى القول وهو الكلام الصادر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتضمن للحكم الشرعي. 2 – السنة الفعلية: نسبة إلى الفعل وهو السلوك العملي الذي يقوم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). 3 – السنة التقريرية: نسبة إلى التقرير الذي هو إقرار وإمضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقول أو الفعل الذي يصدر من الآخرين بمرأى ومسمع منه (صلى الله عليه وآله وسلم). حجيتها: استدل لحجية السنة بالأدلة الفقهية الأربعة: القرآن والسنة والإجماع والعقل. (القرآن): استدل بمجموعة من الآيات الكريمات، أكثرها منصب على إثبات حجية السنة القولية، وهي أمثال: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *. * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *. * (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) *.
[ 157 ]
ومنها ما شمل السنة بأنماطها الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية، وهو قوله تعالى: * (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) *. ومنها ما هو ظاهر في أن السنة – هي الاخرى – وهي من الله تعالى إلا أنها ليست بقرآن للفوارق التي ذكرناها في تعريف القرآن، وهو قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. (السنة): استدل بالسنة على حجية السنة غير واحد من علماء أهل السنة، وأهم ما استدلوا به: – ما جاء في خطبة حجة الوداع من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبدا: كتاب الله وسنة نبيه) – على رواية. – إقراره (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل لما قال: (أقضي بكتاب الله فان لم أجد فبسنة رسوله). وعلق عليه استاذنا السيد الحكيم في (الاصول العامة للفقه المقارن) بعد أن ذكر إستدلال بعض علماء السنة على حجية السنة بالسنة بقوله: ” وهذا النوع من الإستدلال لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه لأن حجية هذه الأدلة موقوفة على كونها سنة، وكون السنة حجة، فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزوم الدور “. إلا أن هذا الإشكال لا يرد على من يستبعد المنهج الفلسفي من دراسته لاصول الفقه، وذلك لأن أمثال هذين الحديثين اللذين استدل بهما إنما جاءا بعد ثبوت حجية السنة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، وهي تشير إلى ذلك وتخبر عنه، فالإستدلال بهما لأنهما يشيران إلى هذا ويخبران عنه لا بما هما سنة، وكل ما نحتاجه
[ 158 ]
للإستدلال بهما هو إثبات صدورهما من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ومتى تمت صحة صدورهما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترتب على هذا ثبوت حجية السنة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو دليل متين وبمستوى قوة الدليل القرآني. (الإجماع): واختلفوا في دائرة شموله سعة وضيقا بين قصره على اتفاق الصحابة، والتوسع به إلى اتفاق المسلمين. يقول الشيخ خلاف في كتابه (علم أصول الفقه): ” أجمع المسلمون على ان ما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والإقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين، ومصدرا تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، أي أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانونا واجب الاتباع “. ويقول الاستاذ محمد مصطفى شلبي في كتابه (أصول الفقه الإسلامي): ” والدليل على حجية السنة: القرآن الكريم وإجماع الصحابة والمعقول… وأما إجماع الصحابة فقد اتفقت كلمتهم على العمل بالسنة “. ووقف أصحابنا الإمامية من الإستدلال بالإجماع على حجية السنة موقفهم من الإستدلال بالسنة على حجية السنة لأن الإجماع عندنا لا يرتفع إلى مستوى الاعتبار إلا إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم، فهو على هذا من السنة، والإستدلال بالسنة على السنة يلزم منه الدور كما مر. ومن التزم المنهج العلمي – كما قلت آنفا – لا يرد عليه هذا الإشكال لأن الإجماع هنا يراد به الإجماع العملي لا القولي، وهو ان المتشرعة كانوا يرجعون إلى السنة باعتبارها مصدرا تشريعيا، ويعتمدونها في معرفة الأحكام، ولا يزالون
[ 159 ]
كذلك، ومنهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) والصحابة (رض)، وهذا واف في تحقيق المراد. وأما اولئكم الذين أنكروا حجية الإجماع من أساسه استغنوا عنه بالكتاب والسنة، ومر بيان الإستدلال بهما على حجية السنة. (العقل): استدل الاصوليون بالعقل لإثبات حجية السنة من منطلقين، كلاهما ناهض بالإثبات. أولهما: كالذي ذكر في كتاب (أصول الفقه الإسلامي): ” وأما المعقول فان القرآن أخبر أن الله أنزل الكتاب على رسول الله ليبين للناس ما نزل إليهم. وان هذا البيان بوحي منه فتجب طاعته “. ويمكننا أن نوضح هذا أكثر فنقول: هناك أربع مقدمات مسلمة توصلنا إلى إدراك وجوب الأخذ بالسنة، وهي: 1 – أن القرآن الكريم أخبرنا بأن وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه القرآن هي البلاغ والبيان. * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *. * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *. 2 – أن القرآن الكريم أخبرنا أن بيان الرسول هو وحي من الله تعالى. * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. 3 – ان الله تعالى أمر بطاعة الرسول. * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *. 4 – إننا نعلم وجدانا أن الكثير من الأحكام الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم لا
[ 160 ]
يفهم إلا بالرجوع إلى بيانات الرسول وتوضيحاته لها. أن هذه المقدمات تنهينا إلى أن العقل يحكم بالتالي: بما أن فهم القرآن الكريم لأخذ الحكم منه واجب علينا، ولا يتم هذا الواجب إلا بالرجوع إلى السنة يجب الرجوع إليها، وهو معنى إثبات الحجية إذ لا يرجع إلا إلى الحجة. وثانيهما: كالذي جاء في كتاب (الاصول العامة): ” ويراد من دليل العقل – هنا – خصوص ما دل على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتناع صدور الذنب والغفلة والخطأ والسهو منه، ليمكن القطع بكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات هي من قبيل التشريع، إذ مع العصمة لابد أن تكون جملة تصرفاته القولية والفعلية وما يتصل بها من إقرار موافقة للشريعة وهو معنى حجيتها “. ويمكننا أن نصوغ هذا وفق قواعد الأقيسة المنطقية فنقول: إن النبي معصوم + وكل ما يصدر عن المعصوم فهو من الشريعة = ان كل ما يصدر من النبي فهو من الشريعة. إنكار حجية السنة: ذهبت طائفة من أهل السنة إلى إنكار حجية السنة. يقول الاستاذ شلبي – بعد إستدلاله لإثبات حجية السنة -: ” ومع هذا البيان الناصع لحجية السنة، فقد شذت طائفة ممن ينتمون إلى الإسلام، وهي التي تنبأ رسول الله بقرب وجودها فأنكرت حجية السنة، وقالت: (حسبنا كتاب الله فما كان فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه). ثم أيدوا دعواهم هذه بأن الكتاب فيه بيان لكل شئ كما أخبر القرآن نفسه في قوله تعالى: ” * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * وقوله: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا
[ 161 ]
لكل شئ) *، والقول بأن السنة دليل مستقل يناقض إخبار الله بأن الكتاب بين كل شئ فيلزم الخلف في كلام الله وهو مستحيل على الله ” (1). ويشير بقوله: (وهي التي تنبأ رسول الله بقرب وجودها) إلى ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحاديث تنكر على المنكرين حجية السنة أمثال: (يوشك بأحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه). (يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وان ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله). (لا ألفين أحدكم على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه). وعلق عليها الشاطبي في (الموافقات (2) بعد روايته لها، ردا على المنكرين، بقوله: ” وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب “. وحول الآيتين اللتين استدل بهما المنكرون، رد القرطبي تمسكهم بهما لإثبات مدعاهم في تفسير قوله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * بقوله: ” أي في اللوح المحفوظ فانه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن، أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، واما مجملة يتلقى بيانها من الرسول – عليه الصلاة والسلام -، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال
(1) – أصول الفقه الإسلامي 121. (2) – الموافقات 4 / 15 – 16. (*)
[ 162 ]
الله تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) *، وقال: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *، وقال: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *، فأجمل في هذه الآية وآية النحل (1) ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شئ إلا ذكره اما تفصيلا واما تأصيلا، وقال: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *. وقال في تفسير الآية الثانية * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) *: ” نظيره * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * وقد تقدم فلينظر هناك “. ولا اخالنا بحاجة إلى إطالة الوقوف عند هذه الشبهات الواهية، بل لسنا بحاجة إلى الإستدلال على حجية الكتاب والسنة، وقد ثبت العمل بهما من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجيله ثم أجيال المسلمين جيلا بعد جيل بما يتجاوز مستوى التواتر إلى رتبة الضرورة الدينية، وليس وراء البداهة حجة لأنها مرجع كل حجة. سنة الصحابة: يدور الحديث في موضوعنا هذا (سنة الصحابة) حول المحاور التالية: – تحرير محل الخلاف في المسألة. – الأقوال في المسألة. – أدلة المسألة. في تحرير محل الخلاف في المسألة أو قل محور البحث، يقول الاستاذ شلبي: ” من الثابت أن بعض أصحاب رسول الله ممن لازموه في حياته وعرفوا منه أسرار التشريع وبلغوا درجة الاجتهاد، اجتهدوا برأيهم فيما ليس فيه نص صريح من كتاب الله أو سنة رسوله، فكانت لهم أقوال يتفقون فيها تارة ويختلفون فيها
(1) – يعني قوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *. (*)
[ 163 ]
تارة اخرى، فتجمع من ذلك مجموعة من الفتاوى عرفت بفقه الصحابة نقلها الرواة عنهم حيث لم تدون في حينها، ثم تناقلتها كتب الحديث والفقه المقارن، عمل بها فريق من الفقهاء المجتهدين الذين جاءوا من بعدهم بينما لم يعمل بها فريق آخر “. ” فأبو حنيفة – فيما نقل عنه – يقول: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه، من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم “. ” والشافعي حينما سئل عن أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها يقول: نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس “. ” ومثلهما في ذلك الإمام مالك الذي كان يأخذ بعمل أهل المدينة المتفق عليه، والمختلف فيه، الذي أساسه في الغالب فتاوى الصحابة وعملهم “. ” وكذلك أحمد بن حنبل كان يعمل بالراجح ولا يخرج عنها “. ثم قال – أعني الاستاذ شلبي -: ” لا خلاف في أن رأي الصحابي لا يكون حجة على صحابي آخر من المجتهدين، وإنما الخلاف في حجيته بالنسبة للتابعين ومن جاؤا بعدهم. وقول الصحابي في ذلك أنواع: النوع الأول: ما اتفقوا عليه صراحة وهذا متفق على حجيته لأنه إجماع صريح. النوع الثاني: قوله فيما لا يدرك بالرأي والعقل كالامور التعبدية والمقدرات. وهذا لا خلاف في انه حجة يجب العمل به لأن مصدره السماع. النوع الثالث: قول الواحد منهم فيما يدرك بالرأي ولم يعلم له مخالف فيه. النوع الرابع: ما صدر عنهم اجتهادا ولم يتفقوا عليه بل تعددت أقوالهم فيه،
[ 164 ]
وهذا والذي قبله وقع فيه الاختلاف. – والآراء المحكمة في ذلك ثلاثة: – الأول: أنه ليس بحجة مطلقا، لأن ذلك صدر عن اجتهاد منهم وهو محتمل للصواب والخطأ، لأنهم ليسوا بمعصومين فتكون أقوالهم كأقوال غيرهم من المجتهدين في أنها ليست حجة، ولأنه ثبت تخطئة بعضهم لبعض ورجوع بعضهم عن رأيه: كما ثبت مخالفة بعض فقهاء التابعين لبعضهم وقد علموا بهذه المخالفة ولم ينكروا عليهم، ولو كان رأيهم حجة ملزمة لمن جاء بعدهم لأنكروا عليهم تلك المخالفة، وإذا ثبت ذلك في حق التابعين كان غيرهم مثلهم، وامتياز الصحابة بكونهم أفضل وأعلم وأتقى من غيرهم لا يوجب على مجتهد آخر ممن جاء بعدهم تقليدهم لأن الأدلة الدالة على منع التقليد عامة تشمل الصحابي وغيره. الثاني: أنه حجة فيما خالف القياس ” القواعد ” لأن مخالفة القواعد لا تكون بمجرد الرأي بل لابد لها من دليل في الغالب سمعيا. الثالث: انه حجة مطلقا لأن قول الصحابي أقرب إلى الصواب من قول غيره من المجتهدين لاحتمال أن يكون سمعه من رسول الله أو سمعه من صحابي سمعه منه عليه الصلاة والسلام، أو يكون فهمه من آية في كتاب الله فهما خفي على غيرهم لامتيازهم بمعرفة اللغة بالسليقة وحدة الذهن ووقوفهم على أسباب النزول وطول صحبتهم لرسول الله ومشاهدتهم لأفعاله وفتاويه. وهذ يجعل فهمهم في مرتبة لا يصل إليها فهم غيرهم، ولو كان اجتهادهم عن قياس فهو أولى من قياس غيرهم لكونهم أخبر من غيرهم بمعرفة علل التشريع وأسراره ” (1). وإلى هذا الرأي الأخير ذهب الشاطبي في (الموافقات (2) في المسألة التاسعة
(1) – يراجع: أصول الفقه الإسلامي: المبحث السابع في أقوال الصحابي. (2) – الموافقات 4 / 74. (*)
[ 165 ]
من مبحث السنة)، قال: ” سنة الصحابة – رضي الله عنهم – سنة يعمل عليها ويرجع إليها “. وخلاصة ما استدل به الشاطبي هو: 1 – ثناء الله عليهم بمثل قوله تعالى: * (كنتم خير امة اخرجت للناس) *. * (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *. 2 – ” ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كقوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). وقوله: (تفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هم يارسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي). وعنه انه قال: (أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به). وعنه أيضا: (إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير). ويروى في بعض الأخبار: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). 3 – ” أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل:
[ 166 ]
فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا. وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا. وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا. ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة “. وعلق محرر الكتاب الشيخ عبد الله دراز على قوله: ” ولكل من هذه الأقوال متعلق من السنة ” بقوله: ” كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه. وهو نفسه دليل من قال بأن إجماعهما إجماع. وكما في الأحاديث السابقة في سنة الخلفاء الراشدين أو الصحابة على الإطلاق “. 4 – ” ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم “. هذه خلاصة أدلة الشاطبي، فلنكن معها استنطاقا ونقدا بغية الوقوف على مدى دلالتها. – ان دلالة آية * (كنتم خير امة اخرجت للناس) * على التفضيل واضحة ولكن: من هي الامة ؟ وما وجه التفضيل بينها وبين الامم الاخرى ؟ ففي تحديد المراد من الامة هناك أقوال، هي: 1 – الامة الإسلامية: وهو الرأي المشهور والمفهوم من ظاهر الآية الكريمة.
[ 167 ]
2 – المهاجرون الذين شهدوا بدرا والحديبية: نسبه القرطبي في تفسيره لابن عباس. 3 – الدين: قال القرطبي في تفسيره: ” وقال الأخفش: يريد أهل امة، أي خير أهل دين، وأنشد: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع وهو – في الحقيقة – يرجع إلى القول الأول. 4 – الصحابة: على قاعدة ” ان الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولا وهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتكون الإشارة بقوله (امة) إلى امة معينة، وهي امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالصحابة هم خيرها “. ذكره الغرناطي في تفسيره (البحر المحيط) قولا من جملة الأقوال التي ذكرها في بيان المراد من الامة هنا. وقال الشاطبي: ” ولا يقال: أن هذا عام في الامة، فلا يختص بالصحابة دون غيرهم، لأنا نقول: أولا: ليس كذلك، بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس أو بدليل آخر. وثانيا: على تسليم التعميم إنهم أول داخل في شمول الخطاب، فانهم أول من تلقى ذلك من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم المباشرون للوحي. وثالثا: انهم أولى بالدخول من غيرهم، إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم، فمطابقة الوصف للاتصاف، شاهد على انهم أحق من
[ 168 ]
غيرهم بالمدح “. وفي تحديد وجه التفضيل لم أقف – في ما لدي من تفاسير – على من تعرض له، وقد يرجع هذا إلى أن التفاسير انصبت على المقطع الأول من الآية وهو قوله تعالى: * (كنتم خير امة اخرجت للناس) * دونما ربطه بسياقه المتمثل ببقية الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: * (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) *. مع ان هذا السياق هو الذي يبين لنا وجه التفضيل أخذا بالظاهر دونما حاجة إلى مفسرات خارجية. فجملة (تأمرون.. الخ) تعرف – نحويا – بواحد من اعرابين، هما: 1 – انها نعت لكلمة (امة) بتقدير (كنتم خير امة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر اخرجت للناس). 2 – انها حال من نائب الفاعل في جملة (اخرجت) – وهو ضمير الامة – بتقدير (كنتم خير امة اخرجت آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر). فعلى الإعراب الأول يكون (الإخراج) الذي يعني التربية هو وجه التفضيل. وعلى الثاني يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وجه التفضيل. وعلى كلا الاعرابين فان هذا يعني أن الامة مدحت لأفضليتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعليه: لا دلالة للآية الكريمة على المدعى وهو اعتبار أقوال الصحابة سنة ومصدر تشريع. يضاف إليه: أن الدليل الذي استدل به في أن الخطاب لمن خوطبوا به لا يؤخذ على إطلاقه، وذلك لاستثناء التشريعات منه، شرعية كانت أو قانونية.
[ 169 ]
ويرجع هذا أن التشريعات توضع لكل من تنطبق عليه أوصاف التكليف، أي على نحو القضية الحقيقية – كما يقول المناطقة – موجودا كان حال صدور التشريع أو غير موجود، وإنما سيوجد. وعليه: فالآية ان كانت كذلك لا تختص بالصحابة، وان كانت ليس كذلك – أي انها ليست في صدد التشريع – فلا علاقة لها بموضوعنا فلا يتم الإستدلال بها. على أن الثناء والمدح بالعدالة لا يلزم منه اعتبار القول سنة. وعلق الشيخ دراز محرر الموافقات على ما ذكرته أعلاه من إستدلال الشاطبي بالآية بقوله: ” كما هو المذهب المنصور ان الخطاب الشفاهي كيا أيها الذين آمنوا ليس خطابا لمن بعدهم، وإنما يثبت لمن بعدهم بدليل خارج من نص أو إجماع أو قياس، خلافا للحنابلة، فقوله (وبدليل آخر) عطف على (قياس) عطف عام على خاص. وهذا الجواب ضعيف لأنه لا يلزم في تعديته لمن بعدهم وجود الدليل المذكور في كل جزئية، بل الدليل الكلي كاف، وهو موجود. والثاني لا يفيد. والثالث يحتاج إلى بينة تثبت ان التابعين – مثلا – لم يتصفوا على الكمال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان الصحابة “. وعلى أية حال: لم يقصد بالامة الصحابة خاصة، وإنما المراد المسلمون عامة، كما أنها ليست في معرض التشريع، وإنما هي في صدد بيان أفضلية الامة الإسلامية على سائر الامم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. وما قيل في الآية الاولى * (كنتم خير امة) * يقال في الآية الثانية * (وكذلك جعلناكم امة وسطا) * من الرد على تفسير الامة بالصحابة، ومن أن الآية ليست في معرض
[ 170 ]
التشريع، ومن أنه لا تلازم بين المدح بالعدالة واعتبار القول سنة. أما الأحاديث التي استدل بها الشاطبي فلابد من استبعاد أكثرها إما لضعف سنده أو لقصور دلالته، وهي: – (أصحابي كالنجوم): نقل هذا الحديث بأكثر من صيغة، استعرضها الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السئ في الامة) (1) وهي بأرقامها المرقمة بها في الكتاب المذكور: 58 – (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). 59 – (مهما اوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحدكم في تركه، فان لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فان لم يكن سنة مني ماضية، فما قال أصحابي، ان أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة). 60 – (سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوء من بعض، فمن أخذ بشئ مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى). 61 – (إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم). ونص – أعني الألباني – على أنها من الموضوعات، وأوضح ذلك بما لا يقبل الريب أو التردد. كما صرح بوضع هذا الحديث محرر الموافقات الشيخ دراز في تعليقته
(1) – المجلد الأول – الطبعة الخامسة ص 78 – 84. (*)
[ 171 ]
عليها (1). – (تفترق امتي). ان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) – على تقدير صحة الحديث – لا دلالة فيه على أن أقوال الصحابة سنة إذ لا تلازم بين أن يكون الصحابي من أهل الجنة وأن قوله سنة. ويبدو – والله العالم – أن ذيل الحديث – على تقدير صحته – موضوع، وذلك لأن اسلوبه غير مستقيم فهو غير فصيح، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضاد، إذ السياق يقول: (قالوا: ومن هم يارسول الله ؟)، فجوابه من ناحية فنية وبلاغية ينبغي أن يكون (أنا وأصحابي) وليس (ما أمره عليه وأصحابي) لأن (ما) هنا تفسر ب (السنة) والسنة ليست فرقة. فمن غير ريب أن الواضع لم يتنبه لذلك لأنه كان يركز على السنة. والاسلوب الفصيح والصحيح لمثل هذا هو ما نقله صدر الأئمة موفق بن أحمد بن أبي بكر بن مردويه بسنده إلى علي (عليه السلام) قال: (تفترق هذه الامة ثلاثا وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا فرقة فإنها في الجنة، وهم الذين قال الله – عزوجل – في حقهم: * (وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون) * وهم أنا وشيعتي) (2). – (أصحابي مثل الملح). ان لسان هذا الحديث يفيد المدح، ولا دلالة فيه من قريب أو بعيد على أن قول الصحابي سنة.
(1) – هامش رقم 5 من ص 76 / ج 4. (2) – المراجعات للسيد شرف الدين ط 3 تحقيق الراضي ص 153 هامش 1. (*)
[ 172 ]
– (ان أختار أصحابي). إن هذا الحديث كسابقيه، ذلك أن الاختيار لا يعني ان قول المختار سنة، وإنما هو لون من ألوان المدح. – (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). لعل هذا الحديث أقرب دلالة على الموضوع وأليق بطبيعة الإستدلال عليه، لولا ما أخذ عليه من مآخذ، وهي: – من حيث السند: فقد رواه كل من ابن داود والترمذي وابن ماجه بإسناد ينتهي إلى العرباض بن سارية. وناقش فيه بنقد رجال إسناد كل واحد منهم في (خلاصة عبقات الأنوار: حديث الثقلين) (1)، وانتهى إلى أنه ضعيف لا يحتج به. وفي الموسوعة الفقهية الكويتية – مادة إجماع: ” وذهب قوم إلى ان العبرة باتفاق الخلفاء الراشدين فقط، لما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ). وهذا خبر آحاد لا يفيد اليقين. وعلى فرض التسليم فانه يفيد رجحان الاقتداء بهم لا إيجابه “. – ومن حيث الدلالة: 1 – لم يعلم المقصود بالخلفاء الراشدين، لأن تسمية الخلفاء الأربعة بالخلفاء
(1) – خلاصة عبقات الأنوار 2 / 341. (*)
[ 173 ]
الراشدين جاءت متأخرة عن صدور الحديث، فربما اخذت من الحديث لتصحيح تطبيق الحديث عليها. 2 – ان التزام الإمامية بأن الخلفاء هم الأئمة الإثنا عشر يجمل دلالة الحديث، فهل المقصود به الأئمة الإثنا عشر أو الخلفاء الأربعة، ورفع الإجمال لا يتم إلا بالقرينة المعينة، والإمامية يملكون القرينة، وهي حديث الثقلين (الكتاب والعترة) معتضدا بحديث الإثني عشر نقيبا، والأحاديث الاخرى التي نصت عليهم بأسمائهم. فتفسير الخلفاء الراشدين بالأئمة الإثنى عشر له نصيب من الصحة، وعليه دليل من الشريعة. ومع هذا قد يرفضه الإمامية لأن سيرة الأئمة الإثنى عشر لا تخالف سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم، وإنما هي نفس سنة النبي، إلا ان يقرب الحديث بأن يقال: إن ذكر سنة الخلفاء الراشدين (وهم الأئمة الإثنا عشر) إنما هو في مقابل سنة غيرهم، لكي يأتي الاتباع لسنة الأئمة الإثني عشر اتباعا لسنة النبي لأنها نفس سنة النبي. إلا ان هذا التقريب لا يتم لما سأذكره في الملاحظة الآتية. 3 – الحديث صريح في أن سنة الخلفاء الراشدين غير سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ويؤيد هذا الاستنتاج مواقف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يوم الشورى عندما رفض أن يسير بسيرة الشيخين، ويوم بيعة الناس له بعد مقتل عثمان عندما عرض عليه الزبير وطلحة أن يسير بسيرة عمر في توزيع الأموال. كما تنص مواقف علي (عليه السلام) على انه الوحيد – من بين الأربعة – الذي التزم سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فالإشكال – إذن – يتركز في ما خالف سنة رسول الله، أبسنته يؤخذ أم بسنة
[ 174 ]
سواه ؟ ! وموقف ابن عباس وابن عمر من تحريم نكاح المتعة يلقي الضوء على هذا. جاء في (مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية (1): وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة، فقال له: قال أبو بكر وعمر. فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر “. ” وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها، فعارضوا بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه، فألحوا عليه، فقال لهم: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق أن يتبع أم أمر عمر ؟ ! “. ومن المتفق عليه عندنا أن أي اجتهاد من أبي بكر كان أو من عمر أو من سواهما لا يعارض – بأية حال من الأحوال – سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يجوز الأخذ به وترك سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 4 – ان أهل البيت (عليهم السلام) نصوا في أحاديث تواترت عنهم ان الكتاب والسنة (سنة الرسول) استوعبت كل الأحاديث الشرعية التي يحتاج إليها الناس، فلا تصل النوبة إلى اجتهاد الرأي الذي سلكه العديد من الصحابة. وإذا كان الأمر هكذا فلا يحتمل في حق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحيل إلى سنة غير سنته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لا حاجة إلى ذلك. وأخال ان هذه الأحاديث وأمثالها كانت من نتائج المنع من تدوين السنة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده حتى انقراض علماء الصحابة بموت آخرهم وهو
(1) – مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 20 / 215 و 251. (*)
[ 175 ]
جابر بن عبد الله الأنصاري. وذلك لأن التدوين يكشف عن ان ما لم يدون ليس من السنة لا سيما إذا كان التدوين قد استوعب كل الحديث الصادر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فبمثل هذه الحالة – أعني عدم التدوين، يتهيأ المجال لمن يريد الوضع. وذكر الأسماء يؤيد هذا الاستنتاج، إذ لو اختير للأمر غير هؤلاء لتغيرت الأسماء تبعا لذلك. ويقول استاذنا السيد الحكيم في كتابه (الاصول العامة للفقه المقارن) ردا على إستدلال الشاطبي بالأحاديث المذكورة في أعلاه: ” والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها – بعد التغافل عن أسانيدها وحساب ما جاء في بعضها من الطعون أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث أصحابي كالنجوم من أنه حديث موضوع مكذوب باطل، وقال أحمد: حديث لا يصح، وقال البزار: لا يصح هذا الكلام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ” – ان هذه الروايات لا يمكن الأخذ بظاهر بعضها، ولا دلالة للبعض الآخر على المدعى. وأول ما يرد على الرواية الاولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة صدور مضمونها من المعصوم لاستحالة أن يعبدنا الشارع بالمتناقضين، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الامور لمن قرأ تأريخهم واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث. وحسبك ان سيرة الشيخين مما عرضت على الإمام علي (عليه السلام) يوم الشورى، فأبى التقيد بها ولم يقبل الخلافة لذلك، وقبلها عثمان وخرج عليها بإجماع المؤرخين، وفي أيام خلافة الإمام، نقض كل ما أبرمه الخليفة عثمان، وخرج على سيرته سواء في توزيع الأموال أم المناصب أم اسلوب الحكم، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة، وأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وعمر فاوت
[ 176 ]
بينها وأبو بكر كان يرى طلاق الثلاث واحدا، وعمر شرعه ثلاثا، وعمر منع عن المتعتين، ولم يمنع الخليفة الأول ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. وعلى هذا، فأية هذه السير هي السنة ؟ وهل يمكن أن تكون كلها سنة حاكية عن الواقع، وهل يتقبل الواقع الواحد حكمين متناقضين ؟ ! وما أحسن ما ناقش الغزالي أمثال هذه الروايات بقوله: ” فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ، وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف، وكيف يختلف المعصومان، كيف، وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة “. وأخيرا: ان تعميم الحكم – وهو اعتبار قول الصحابي سنة كسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) – إلى جميع أفراد الصحابة مما لا يجوز نسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يصح القول به، وذلك أن الواقع الذي أبان عنه القرآن الكريم ينفي صحة نسبة العدالة لجميع أفراد الصحابة. فمن الفئات غير العادلة من الصحابة التي أعرب عنها القرآن الكريم ما يلي: 1 – المنافقون: * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * – سورة المنافقون 1 -. – * (ومن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم
[ 177 ]
نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) * – سورة التوبة 101 -. – * (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) * – سورة الأحزاب 12 -. 2 – ذوو التشكيك وإثارة الفتنة والسماعون لهم: * (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين) * – سورة التوبة 45، 46، 47 -. 3 – الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا: * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ان الله غفور رحيم) * – سورة التوبة 102 -. 4 – المؤلفة قلوبهم: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) * – سورة التوبة 60 -. جاء في تفسير القرطبي: ” وفي صحيح مسلم من حديث أنس، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) – أعني للأنصار -: (فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم) – الحديث. قال ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى إبنه مائة بعير… وأعطى عباس بن مرداس السلمي أباعر قليلة فسخطها، فقال في ذلك: كانت نهابا تلافيتها * بكري على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع
[ 178 ]
فأصبح نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع وقد كنت في الحرب ذا تدرء * فلم أعط شيئا ولم امنع إلى أفائل أعطيتها * عديد قوائمه الأربع وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اذهبوا فاقطعوا عني لسانه) فأعطوه حتى رضى فكان ذلك قطع لسانه “. 5 – المؤذون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): * (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) * – سورة. وغيرهم ممن أشار إليهم القرآن الكريم. وبعد هذا كله: ما هو موقفنا – نحن الإمامية – من مرويات أقوال الصحابة التي هي نتائج اجتهاد ورأي ؟ ان الموقف يتمثل في عدم جواز الأخذ بها، للسببين التاليين: 1 – وفرة الأحاديث المروية عن طريق أهل البيت التي تغطي كل مسائل الفقه. وحيث تتوفر النصوص الشرعية لا يلتجأ إلى اجتهاد الرأي حتى في رأي أهل السنة، ذلك ان اجتهاد الرأي إنما لجأ إليه أهل السنة لعدم وفرة النصوص الشرعية لديهم، كما بينوا هذا صراحة.
[ 179 ]
2 – منع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من الأخذ باجتهاد الرأي وشجبه بكل قوة (1). سنة أهل البيت: أهم المحاور التي سيدور حولها البحث في سنة أهل البيت هي: – أهل البيت. – سنة أهل البيت. – مشروعية سنة أهل البيت. (أهل البيت): المراد بأهل البيت عند الإمامية، وفي خصوص ما يتعلق بموضوع السنة التي هي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي: الأئمة الإثنا عشر، وهم: 1 – علي بن أبي طالب (ت 40 ه). 2 – الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 50 ه). 3 – الحسين بن علي بن أبي طالب (ت 61 ه). 4 – علي بن الحسين زين العابدين (ت 94 ه). 5 – محمد بن علي الباقر (ت 114 ه). 6 – جعفر بن محمد الصادق (ت 148 ه). 7 – موسى بن جعفر الكاظم (ت 183 ه). 8 – علي بن موسى الرضا (ت 203 ه). 9 – محمد بن علي الجواد (ت 220 ه).
10 – علي بن محمد الهادي (ت 254 ه). 11 – الحسن بن علي العسكري (ت 260 ه). 12 – محمد بن الحسن المهدي (ولد سنة 255 ه ولا يزال حيا). وقد ثبت هذا – أعني كون أهل البيت هم الأئمة الإثني عشر عندنا نحن الإمامية – بالضرورة من المذهب لقيام الأدلة النقلية المتواترة والأدلة العقلية المتظافرة على ذلك. وقد استعرضتها كتب علم الكلام بعامة ومدونات الإمامة بشكل خاص. ويغنينا – هنا – أن نستدل على ذلك بحديث الإثني عشر المتفق عليه بين المسلمين، والذي روي بعدة طرق وبألفاظ مختلفة، كلها تلتقي عند بيان أن الخلفاء إثنا عشر. ومنها: – ما جاء في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) برقم 375: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس إثنان). وبرقم 376: (لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى إثني عشر خليفة كلهم من قريش). وفي لفظ: (لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا ينصرون على من ناوأهم عليه إلى إثني عشر خليفة كلهم من قريش). وفي لفظ آخر: (لا يزال هذا الأمر ماضيا حتى يقوم إثنا عشر أميرا كلهم من قريش). وعن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كم تملك هذه الامة من خليفة ؟.
[ 181 ]
فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: (إثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل). – وفي كتاب (نهج الحق وكشف الصدق): (لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش). (لا يزال أمر الناس عزيزا إلى إثني عشر خليفة كلهم من قريش). (لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون عليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش). (هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش). – وفي كتاب (دلائل الصدق): عن جابر (بن سمرة) قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (يكون إثنا عشر أميرا)، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي انه قال: (كلهم من قريش). – وفي كتاب (كنز العمال): (يكون بعدي إثنا عشر خليفة). – وفي (نهج الحق) أيضا: ” وقد ذكر السدي في تفسيره – وهو من علماء الجمهور وثقاتهم – قال: لما كرهت سارة مكان هاجر أوحى الله إلى إبراهيم، فقال: إنطلق بإسماعيل وامه حتى تنزله بيت النبي التهامي، يعني مكة، فإني ناشر ذريتك وجاعلهم ثقلا على من كفر بي، وجاعل منهم نبيا عظيما، ومظهره على الأديان، وجاعل من ذريته إثنى عشر عظيما، وجاعل ذريته عدد نجوم السماء “. ” واشير إلى مضمون هذا الحديث في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي من الكتاب المقدس: الإصحاح الثاني عشر بقوله: (وظهرت آية عظيمة في السماء، امرأة
[ 182 ]
متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها اكليل من إثني عشر كوكبا.. ولدت إبنا ذكرا عتيدا أن يرعى جميع الامم بعصا من حديد “. وعلق عليه الاستاذ سعيد أيوب في كتابه (المسيح الدجال: قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى) (1)) علق عليه بالتالي: في ص 77: ” قالوا في التفسير: (إنها امرأة فاضلة.. وقور.. ويأتي النسل من هذه المرأة) (2). ومكانة أولاد فاطمة رضي الله عنها من قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معروفة (3). وأهل الكتاب عندما وضعوا الصفات التي ترمز إلى الإسم، كون هذا الوضع مشكلة، هي أن صفحاتهم لم تفسح صدرها للأسماء العربية، لكنها امتلأت بالأسماء التي كانت تحتويها البيئات التي عاش فيها اليهود، وشاءت حكمة الله أن تضع أقلامهم صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تعتبر بحق علما عليه “. وفي ص 90: ” ثم يقول الرائي عن القيادات التي ستخرج من هذه العاصمة: (يحرسها إثنا عشر ملاكا، ويقوم سور المدينة على إثني عشر دعامة كتبت عليها أسماء رسل الحمل الإثنى عشر).
(1) – المسيح الدجال.. ط 1 نشر دار الاعتصام بمصر 1406 ه – 1989 م. (2) – يوم الدين / ستيفنس ص 87، 109 تفسير الرؤيا / حنا ص 272، جين واكسون، آخر ساعة، العدد الصادر في 26 / 9 / 1984 م. (3) – روى ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا) رواه البخاري والترمذي (التاج الجامع 356 / 1). والجدير بالذكر أن أبناء الحسن والحسين – رضي الله عنهم – اشتغلوا بالعلم. وذكرت تفاسير أهل الكتاب أن نسل المرأة الوقور سيواجه المخاطر، وحدث هذا فعلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (*)
[ 183 ]
قلت: هذه القيادات جاء ذكرها في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يزال هذا الدين عزيزا ينصرون على من ناوءهم عليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، وفي حديث: (إثنى عشر، عدة نقباء بني إسرائيل) كما قال سفر الرؤيا، فانه ربط عدد نقباء المدينة الجديدة بعدد نقباء بني إسرائيل، ومن هؤلاء سيكون المهدي المنتظر كما ذكر ابن كثير في تفسير سورة النور، وقال: ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: إن في الحديث دلالة على انه لابد من وجود إثني عشر خليفة ” (1). ويستفاد من هذه الأحاديث: 1 – ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالها في أكثر من مكان، وفي أكثر من مناسبة، وبغير لفظ واحد، ليعطي الموضوع أهميته، وليرسخه في ذهنيات الصحابة، وقد وعوا ذلك، ونقلوا هذه الأحاديث، ورواها عنهم الرواة بعدة طرق. 2 – ان هذه الأحاديث باختلاف ألفاظها وتعدد طرقها وكثرة رواتها ترقى إلى مستوى التواتر. وبتعبير آخر، تفيد القطع بصدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). 3 – انها صريحة في ان خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إثنا عشر خليفة فقط. 4 – انها صريحة في أن هؤلاء الخلفاء كلهم من قريش. 5 – انها صريحة في أن هؤلاء الخلفاء باقون ما بقي هذا الدين. وهو مفاد حديث الثقلين – الآتي – حيث يستمر ارتباط العترة بالقرآن إلى أن يردا على رسول الله الحوض. 6 – ان منعة الدين وعزة المؤمنين بتولي هؤلاء الخلفاء أمر الإسلام والمسلمين.
(1) – أنظر مقالتنا (قراءة في كتاب التوحيد) مجلة تراثنا. أنظر: بحار الأنوار 2 / 172 – 173. (*)
[ 184 ]
أما الإستدلال بهذا الحديث الشريف على أن المراد بالإثنى عشر، هم الأئمة الإثنا عشر: – فقد قال العلامة الحلي في (نهج الحق): ” وقد دلت هذه الأخبار على إمامة إثني عشر إماما من ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا قائل بالحصر إلا الإمامية في المعصومين. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى “. – وقال الشيخ المظفر في (دلائل الصدق): ” ولا ريب أن المراد به أئمتنا لامور: (الأول): أنه لولا إرادتهم لكان الخبر كاذبا إن أراد جميع امراء قريش، وغير مفيد بظاهره إن أراد البعض. (الثاني): أن بعض أحاديث المقام يفيد بظاهره وجود الإثني عشر في تمام الأوقات بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قيام الساعة، وهو لا يتم إلا على إرادة أئمتنا كخبر مسلم في أول كتاب الأمارة عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش. ومثله في مسند أحمد. وكخبر مسلم أيضا عن جابر: أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة. (الثالث): ما رواه مسلم – في المقام المذكور – عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس إثنان. ورواه البخاري في أول كتاب الأحكام في باب الامراء من قريش. ورواه أحمد عن ابن عمر. فان المراد به حصر الإمامة الشرعية في قريش ما دام الناس، لا السلطة
[ 185 ]
الظاهرية، ضرورة حصولها لغير قريش في أكثر الأوقات، فيكون قرينة على أن المراد من الحديث الأول حصر الخلفاء الشرعيين في إثني عشر، وهو لا يتم إلا على مذهبنا. (الرابع): ما رواه أحمد عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم يملك هذه الامة من خليفة ؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: إثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل. وروى نحوه أيضا بعد قليل. وذكره ابن حجر وحسنه في (الصواعق). فانه دال على إنحصار الخلافة في إثني عشر، وإنهم خلفاء بالنص لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كعدة نقباء بني إسرائيل، فان نقباءهم خلفاء بالنص لقوله تعالى: * (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا فيهم إثني عشر نقيبا) *. مع أن سؤال الصحابة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو عن خلفائه بالنص، لا بتأمير الناس أو بالتغلب، إذ لا يهم الصحابة السؤال عن ذلك، لأن تأمير الناس وتغلب السلاطين لا يبتني عادة على الدين حتى يهم الصحابة السؤال عنه، ولأن السلاطين بلا نص لا يحتاج إلى السؤال عنهم وعن عددهم لأن العادة جرت على وجود مثلهم، وانهم لا ينحصرون بعدد، فظهر أن السؤال إنما هو عن الخلفاء بالنص وعنهم أجاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا قائل بأن الخلفاء إثنا عشر بالنص غير أئمتنا (عليهم السلام)، فيكونون هم المراد بالإثني عشر في هذا الحديث فكذا في الحديث السابق. (الخامس): ان المنصرف من الخليفة من استخلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خصوصا قبل حدوث دعوى حصول الخلافة بلا نص.
[ 186 ]
بل لا يتصور الصحابة وكل العقلاء أن يتركهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا إمام منصوب منهم حتى يسألوا عن غيره أو الأعم منه أو يفهموا من إخباره إرادة الغير أو الأعم، فلابد أن يراد بالإثني عشر في الحديثين أئمتنا، فهم أئمة الامة بالفعل، ولهم الزعامة العظمى الإلهية عليها. ولا يضر في إمامتهم الفعلية عدم نفوذ كلمتهم لأن معنى إمامتهم وولايتهم انهم يملكون التصرف، وان منعهم الناس، كالأنبياء المقهورين فانهم ولاة الأمر وان تغلب عليهم الظالمون. وكما أنه لا يصح أن يقال لا فائدة في نبوة النبي الممنوع عن التصرف، لا يصح أن يقال لا فائدة في إمامة الإمام الممنوع عنه، فان الفائدة لا تنحصر بالتصرف لكفاية أن يكون بهم إيضاح الحجة وإنارة المحجة ونشر العلم، بل لو لم يتمكنوا حتى من هذا لحبس أو نحوه. ففائدتهم أن وجودهم حجة لله على عباده ودافع لعذرهم، كما قال سبحانه في شأن الرسل: * (لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل) * فكما أن النبي حجة لم تبطل نبوته بحبسه أو غيبته كما غاب نبينا في الغار، وغاب موسى عن قومه، فكذا الإمام، ولا أثر لطول الغيبة أو قصرها في الفرق “. – وقال استاذنا السيد الحكيم في (الاصول العامة): ” والذي يستفاد من هذه الروايات: 1 – أن عدد الامراء أو الخلفاء لا يتجاوز الإثني عشر، وكلهم من قريش. 2 – وأن هؤلاء الامراء معينون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: * (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم إثني عشر نقيبا) *. 3 – ان هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي، أو حتى
[ 187 ]
تقوم الساعة، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة، وأصرح من ذلك روايته الاخرى في نفس الباب: (ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس إثنان). وإذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي منسجمة جدا مع حديث الثقلين وبقائهما حتى يردا عليه الحوض. وصحة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة – بالاستحقاق – لا السلطة الظاهرية. لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله، وهي في حدود السلطنة التشريعية لا التكوينية، لأن هذا النوع من السلطنة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم. على أن الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة ان السلطنة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف هذا العدد، فضلا عن إنقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم – امويين وعباسيين – باتفاق المسلمين. ومن الجدير بالذكر ان هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة، فلا يحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور على أن جميع رواتها من أهل السنة ومن الموثوقين لديهم “. وننتهي من هذا كله إلى أن المراد بأهل البيت – هنا – هم أئمتنا الأئمة الإثنا عشر. وقد تم تعيينهم بنص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي بن أبي طالب بالخلافة والإمامة في أحاديث جاوزت حد التواتر، من أشهرها وأظهرها (حديث الغدير).
[ 188 ]
ثم بنص الإمام السابق على الإمام اللاحق. ومن نصوصنا الشرعية التي تحدد – وبوضوح – المراد بالإثني عشر في الحديث المذكور: – ما أخرجه الصدوق في (الاكمال) بسنده إلى الإمام الصادق عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الأئمة بعدي إثنا عشر، أولهم علي وآخرهم القائم، هم خلفائي وأوصيائي. – ما أخرجه أيضا وفي المصدر نفسه عن علي (عليه السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الأئمة بعدي إثنا عشر، أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله – عزوجل – على يديه مشارق الأرض ومغاربها. (سنة أهل البيت): بعد أن عرفنا من هم أهل البيت، ننتقل إلى محاولة معرفة المراد من سنتهم ؟ روى رواتنا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حوالي ستين ألف حديث أو أكثر من هذا العدد، في بيان أحكام التشريع الإسلامي. والتساؤل الذي يثار هنا لتعيين نقطة البحث: هل هذه الأقوال التي رويت عنهم هي رواية منهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون التعبير عنها بكلمة (سنة) تعبيرا مجازيا. أو أنهم في ما روي عنهم كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما روي عنه، فكما أن المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة ومصدر تشريع، كذلك المروي عنهم سنة ومصدر تشريع. ويكون التعبير عن ما روي عنهم بالسنة تعبير حقيقي تماما، كما هو التعبير عن المروي عن سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). في المسألة ثلاثة أقوال هي:
[ 189 ]
1 – ان أقوالهم (عليهم السلام) هي رواية لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 2 – انهم (عليهم السلام) يدركون الحكم الواقعي بواقعه عن طريق الإلهام أو التحديث، تماما كما يدرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك لكن عن طريق الوحي. 3 – انهم (عليهم السلام) مفوضون من قبل الله تعالى بالتشريع كما فوض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك. واستدل للقول الأول بتصريح الأئمة أنفسهم بأنهم ليسوا مجتهدين وإنما هم رواة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). – عن جابر: قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إذا حدثتني بحديث فاسنده لي ؟ فقال: حدثني أبي عن جده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل عن الله عزوجل. وكل ما أحدثك بهذا الإسناد. – وعن جابر أيضا عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أيضا، قال: يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم. – وفي رواية اخرى: يا جابر، لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا، لكنا من الهالكين، ولكنا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصول علم عندنا، نتوارثها كابرا عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم. – وفي رواية محمد بن شريح عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): والله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلا ما قال ربنا. – وفي رواية عنه (عليه السلام) أيضا: مهما أجبتك فيه بشئ فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسنا نقول برأينا من شئ. – وفي رواية الفضل عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: لو أنا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل
[ 190 ]
من كان قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فبينها (نبيه) لنا. وممن ذهب هذا المذهب الشيخ الطوسي، قال في كتابه (تلخيص الشافي) – ط النجف ج 1 ص 253 -: ” الإمام لا يكون عالما بشئ من الأحكام إلا من جهة الرسول وأخذ ذلك من جهته “. ويعضد هذا: أن لدى الأئمة (عليهم السلام) ما يعرف ب (كتاب علي)، وكانوا ينقلون عنه ويطلعون الآخرين عليه. ” وهو من إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكتابته (عليه السلام) بخطه الشريف “. ووصف بأنه كتاب كبير مدرج، أي مطوي وملفوف. واشير إليه في أحاديث كثيرة من حديث الأئمة من أبناء أمير المؤمنين (عليه السلام)، نصوا فيها على أنه من إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام)، منها: – ما في كتاب (الاحتجاج) 2 / 287 -: ” ومن كلام للحسن (عليه السلام) لمعاوية: نحن نقول أهل البيت: إن الأئمة منا وإن الخلافة لا تصلح إلا فينا، وان الله جعلنا لها في كتابه وسنة نبيه. وان العلم فينا، ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، وانه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب باملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبخط علي (عليه السلام) بيده “. – وما رواه النجاشي في كتابه (الرجال) في ترجمة محمد بن عذافر بن عيسى الصيرفي (المدايني) باسناده إلى عذافر بن عيسى الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبة (من فقهاء أهل السنة) عند أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فجعل يسأله الحكم، وكان أبو جعفر له مكرما، فاختلفا في شئ، فقال أبو جعفر: يا بني، قم فأخرج كتاب علي (عليه السلام)، فأخرج كتابا مدرجا عظيما ففتحه، وجعل ينظر فيه حتى أخرج المسألة.
[ 191 ]
فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا خط علي وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد إذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل. – نقلت قطعة منه بكاملها في كتاب (الأمالي) للشيخ الصدوق في المجلس السادس والستين، وهي مشتملة على كثير من الآداب والسنن وأحكام الحلال والحرام، تقرب من ثلاثمائة بيت، رواها باسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) بروايته عن آبائه الكرام. وقال الصادق (عليه السلام) في آخرها: إنه جمعها من الكتاب الذي هو إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1). واستدل للقول الثاني بأن وظيفة الإمام هي وظيفة النبي التي هي تبليغ الأحكام الشرعية، ولا اختلاف بينهما في أصل الوظيفة، وإنما في الواسطة الموصلة إلى حكم الله الواقعي، وهو في واقعه، فواسطة النبي هي الوحي * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *، وواسطة الإمام هي الإلهام. واستدلوا على أن الأئمة ملهمون بما جاء في كتاب (الكافي) تحت عنوان (باب ان الأئمة (عليهم السلام) محدثون مفهمون)، منها: – عن عبيد بن زرارة، قال: أرسل أبو جعفر (عليه السلام) إلى زرارة أن يعلم الحكم بن عتيبة: أن أوصياء محمد (عليهم السلام) محدثون. – عن محمد بن إسماعيل، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الأئمة علماء صادقون مفهمون محدثون.
فكما ان النبي يدرك الحكم الواقعي عن طريق الوحي، فكذلك الإمام يدرك الحكم الواقعي ولكن عن طريق الإلهام. وممن ذهب هذا المذهب استاذنا الشيخ المظفر في كتابه (أصول الفقه). قال: ” السنة في إصطلاح الفقهاء: (قول النبي أو فعله أو تقريره). ومنشأ هذا الإصطلاح أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع سنته، فغلبت كلمة (السنة) حينما تطلق مجردة عن نسبتها إلى أحد على خصوص ما يتضمن بيان حكم من الأحكام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير. أما فقهاء الإمامية بالخصوص فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد، واجب الاتباع، فقد توسعوا في إصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم: (قول المعصوم أو فعله أو تقريره). والسر في ذلك ان الأئمة من آل البيت (عليهم السلام)، ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعية فلايحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب. وعليه: فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنة، لا حكاية للسنة. واما ما يجئ على لسانهم أحيانا من روايات وأحاديث عن نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
[ 193 ]
فهي إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع كلمه، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير، وإما لغير ذلك من الدواعي. وأما إثبات إمامتهم وأن قولهم يجري مجرى قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو بحث يتكفل به علم الكلام “. واستدل للقول الثالث بما روي عنهم (عليهم السلام) بأن الله تعالى فوض لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتشريع. وقد عقد الشيخ الكليني في كتابه (الكافي) – الباب 108 – من اصوله، تحت عنوان (التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى الأئمة (عليهم السلام) في أمر الدين). ومما رواه فيه: – عن فضيل بن يسار، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: (إن الله – عزوجل – أدب نبيه فأحسن تأديبه، فلما أكمل له الأدب قال: * (إنك لعلى خلق عظيم) *، ثم فوض إليه أمر الدين والامة ليسوس عباده، فقال عزوجل: * (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. وان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مسددا، موفقا مؤيدا بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شئ مما يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله. ثم ان الله – عزوجل – فرض الصلاة ركعتين، ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهن إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله – عزوجل – له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة. ثم سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عزوجل له ذلك. والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد
[ 194 ]
بركعة مكان الوتر. وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عزوجل له ذلك. وحرم الله – عزوجل – الخمر بعينها، وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسكر من كل شراب، فأجاز الله له ذلك كله. وعاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام، إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يرخص لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما نهاهم عنه نهي حرام، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم. فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد، ولم يرخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عزوجل، بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا، لم يرخص لأحد في شئ من ذلك إلا للمسافر، وليس لأحد أن يرخص شيئا ما لم يرخصه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوافق أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الله عزوجل، ونهيه نهي الله عزوجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى). – عن أحمد بن الحسن الميثمي، قال: سئل الرضا (عليه السلام)، وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الشئ الواحد، فقال (عليه السلام): (إن الله عزوجل حرم حراما، وأحل حلالا، وفرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو رفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك مما لا يسع الأخذ به، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ليحرم ما أحل الله، ولا ليحلل ما حرم الله، ولا ليغير فرائض الله وأحكامه، بل كان في ذلك متبعا مسلما مؤديا عن الله، وذلك قول الله
[ 195 ]
عزوجل * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) *، فكان (عليه السلام) متبعا ومؤديا عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة). قلت: فان يرد عنكم الحديث في الشئ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما ليس في الكتاب وهو في السنة، ثم يرد خلافه ؟ فقال: (وكذلك قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أشياء نهى حرام فوافق في ذلك نهيه نهي الله تعالى، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجبا لازما يعدل فرائض الله تعالى، ووافق في ذلك أمره وأمر الله تعالى. فما جاء في النهي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهي حرام، ثم جاء خلافه لم يسغ استعمال ذلك. وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا لعلة خوف أو ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نحرم ما استحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون ذلك أبدا، لأنا تابعون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مسلمون له، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تابعا لأمر ربه عزوجل مسلما له، وقال عزوجل: * (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس أمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين). وعلق السيد السيستاني في محاضراته في (اختلاف الحديث) بقلم تلميذه السيد هاشم الهاشمي على الرواية بقوله: ” فهذه الرواية صريحة في تقسيم وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): – فتارة تكون التبليغ فحسب، وذلك بالنسبة للأحكام التي جعلها الله تعالى. – وتارة تكون التفويض، كما في بعض الأحكام التي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه مشرعا للحرام أو للواجب فيها “.
[ 196 ]
ومن شواهد هذا: – ما جاء في صحيحة فضيل بن يسار المذكورة في أعلاه كقوله (عليه السلام): (وحرم الله الخمر بعينها، وحرم رسول الله المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك كله). وأيضا علق السيد السيستاني في المصدر المذكور بعد عرضه لجملة من الروايات التي تشير إلى تشريعات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ” والحاصل، أن هذه الروايات الشريفة.. تدل على وجود حق التشريع بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مضافا إلى الروايات العامة التي أشرنا إليها أولا، وأن هذا الحق قد أعمل خارجا، بحيث أصبحت الأحكام التي بين أيدينا على قسمين: – قسم من الأحكام قد فرضها الله تعالى. – وقسم منها قد سنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء كانت من الأحكام التكليفية أو الأحكام الوضعية. وقد التزم بمثل هذا الرأي كثير من العلماء أمثال الشيخ الكليني، والمحقق النائيني “. ثم قال: ” هناك بعض الروايات التي تدل على أنه كل ما فرض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فرض للأئمة (عليهم السلام) ما عدا النبوة. ومن جملة ما فوض له (صلى الله عليه وآله وسلم) حق التشريع الدائم، إذن فحق التشريع الدائم ثابت للأئمة (عليهم السلام) “. وهو يشير بهذا إلى مثل ما رواه الكليني في (الكافي) عن موسى بن أشيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (وفوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: * (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *، فما فوض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوضه إلينا). وللمقارنة بين الآراء في هذه المسألة، ومن خلال فهم معنى التشريع، ومعنى
[ 197 ]
مصدر التشريع نقول: 1 – تطلق كلمة (تشريع) كمصطلح فقهي على (جعل الحكم من قبل الله تعالى). 2 – وتطلق ويراد بها (الحكم المجعول من قبل الله تعالى). وهذان التعريفات يقومان على أساس أن الأحكام الشرعية مجعولة من قبل الله تعالى، لأن التشريع حق الله وحده. والتشريع المقصود هنا هو الحكم المجعول. والله سبحانه أوصل إلينا هذه الأحكام المجعولة عن طريق الوسائل التي أسميناها مصادر التشريع. وهي – أعني مصادر التشريع – ليست مصادر كالذي هو مصطلح عليه في أصول القانون، وإنما هي وسائل توصلنا إلى التشريع الذي هو (الحكم المجعول من قبل الله تعالى). وفي هديه: فالنبي ليس مشرعا، وإنما هو لأنه مكلف بتبليغ الأحكام أعطاه الله القدرة على إدراك الأحكام الواقعية – وهي بواقعها – عن طريق الوحي. وكذلك الإمام ليس مشرعا، ولكن بما أنه – هو الآخر – مكلف بتبليغ الأحكام منحه الله القدرة على إدراك الأحكام الواقعية – وهي في واقعها – عن طريق الإلهام. فالتشريع – بمعنى جعل الحكم – هو حق الله وحده. والنبي والأئمة مصادر تشريع فقط، بمعنى انهم وسائل لإدراك الأحكام الواقعية، وباقدار الله لهم، عن طريق الوحي للأنبياء، وعن طريق الإلهام للأوصياء.
[ 198 ]
ويمكن الجميع بين الآراء المذكورة بالتالي: إن للإمام قدرة إدراك الأحكام الواقعية كما هي للنبي، فإن كان هناك شئ من الأحكام لم يبلغ لأن وقته بعد لم يحن يأتي تبليغه عن طريق الإمام. وهذا هو أحد العوامل التي أوجبت بقاء الأئمة ملازما لبقاء القرآن حتى يوم الدين. أما الأحكام التي بلغها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودونها الإمام علي (عليه السلام) بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه المعروف بكتاب علي، فالأئمة حينما يبلغونها إنما يبلغونها عن طريق الرواية، كما صرحوا بذلك في أحاديثهم المتقدمة. وأما ما ذكر في بعض الروايات من تفويض الله للنبي بالتشريع، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شرع بعض الأحكام ثم أجازها الله تعالى، فقد تناول غير واحد المسألة بالتوضيح والتعليق. ومنه ما ذكره الشيخ المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) تحت عنوان (نفي الغلو في النبي والأئمة) فبعد أن ذكر الروايات وانتقل إلى بيان أنواع التفويض قال: ” الثاني – من أنواع التفويض -: التفويض في أمر الدين، وهذا – أيضا – يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الله تعالى فوض إلى النبي والأئمة عموما أن يحلوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا من غير وحي وإلهام، أو يغيروا ما اوحي إليهم بآرائهم، (ان) هذا باطل لا يقول به عاقل، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر الوحي أياما كثيرة لجواب سائل، ولا يجيبه من عنده، وقد قال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. وثانيهما: أنه تعالى لما أكمل نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث لم يكن يختار من الامور شيئا إلا ما يوافق الحق والصواب، ولا يحل بباله ما يخالف مشيئته تعالى في كل باب
[ 199 ]
فوض إليه تعيين بعض الامور كالزيادة في الصلاة، وتعيين النوافل في الصلاة والصوم وطعمة الجد وغير ذلك، إظهارا لشرفه وكرامته عنده، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي، ولم يكن الاختيار إلا بإلهام، ثم كان يؤكد ما اختاره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالوحي، (انه) لا فساد في ذلك عقلا، وقد دلت النصوص المستفيضة عليه مما تقدم في هذا الباب، وفي أبواب فضائل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم). ولعل الصدوق (رحمه الله) أيضا إنما نفى المعنى الأول حيث قال في (الفقيه): وقد فوض الله – عزوجل – إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر دينه، ولم يفوض إليه تعدي حدوده “. والأمر في بيان واقع المسألة: اننا لا نحتاج إلى شئ من هذه التعليقات على الروايات أو التأويل لها، وذلك لأن اعتبار سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدر تشريع قائم على أساس من: – عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم). – وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.. فجميع ما يأتي به هو من الوحي. وإذا كان الأمر هكذا لا معنى للتفويض الذي يعني جعل الحكم من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن هنا لابد من حمل الروايات التي تنسب التشريع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ان المراد منها هو بيان أن الحكم جاء عن طريق السنة لا عن طريق الكتاب. وما ذكر في بعضها من ان الله يجيز الحكم بعد جعله من قبل النبي يتنافى وظاهر قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * حيث إن ظاهره أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقول حكما شرعيا إلا عن وحي سابق لا إمضاء لاحق. يضاف إليه: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يبلغ حكما، فالتقدير أن يكون قد توصل إليه عن أحد
[ 200 ]
الطريقين التاليين: 1 – الاجتهاد: وهو غير محتمل في حقه لأنه معصوم لا يخطأ، والمجتهد قد يصيب الواقع وقد يخطئه. 2 – الإدراك: أعني إدراك الحكم الواقعي المجعول من قبل الله تعالى وهو في واقعه. وهذا يرجع ما ذكر من تشريعات نسبت إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القول الثاني. وقد مرت بنا كيفية الجمع بين القول الثاني والقول الأول. وعليه: تعود الأقوال في مسألة أقوال الأئمة إلى قولين، هما: 1 – الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 2 – أو إدراك الحكم الواقعي بواقعه عن طريق الإلهام أو التحديث. وأخال قويا أن فكرة التفويض هذه قد تسربت من عقائد الغلاة الذين ” يذهبون إلى أن مطلق التشريع بيد الإمام، فالإمام برأيهم يتمكن من أن يعمل أي عمل أراده، وأن حرم جميع الواجبات أو حلل جميع المحرمات ” (1). ونخلص مما تقدم إلى أن الأقوال في أقوال الأئمة ثلاثة هي: 1 – الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 2 – الإدراك للحكم الواقعي بواقعه عن طريق الإلهام أو التحديث.
(1) – السيد السيستاني في (اختلاف الحديث). (*)
[ 201 ]
3 – التفويض من الله لهم بالتشريع. ولا تنافي بينها إذا حملنا معنى التشريع على أن المراد به ما شرع بالسنة لا بالقرآن. وعلى هذا تكون سنة أهل البيت سنة، إما لأنها نفس سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نقلوها لنا عن طريق الرواية، وإما لأنها إدراك منهم للحكم الواقعي فتكون كسنة النبي. (مشروعية سنة أهل البيت): ترتبط حجية سنة أهل البيت بإثبات إمامتهم وإثبات لزوم التمسك بهم واتباعهم وأخذ الأحكام الشرعية عنهم. وقد استدل الإماميون لهذا بأدلة كثيرة جدا جاوزت حدود التواتر من الكتاب والسنة، وباخرى مثلها من العقل. وعندما تثبت الإمامة تثبت معها العصمة، فكما أن النبي لأنه مبلغ هو معصوم، فكذلك الإمام لأنه – هو الآخر – مبلغ فهو معصوم أيضا. ولنكتف – هنا بالإستدلال على مشروعية سنة أهل البيت (عليهم السلام) بحديث الثقلين، فإن فيه غنى عن كل دليل لتواتره سندا، ووضوحه دلالة. ألفاظ الحديث: كرر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مضمون الحديث في أمكنة متعددة وأزمنة مختلفة ومناسبات كثيرة. فقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره في عدة مواطن منها: – بعد إنصرافه من الطائف. – وفي مسجد الخيف بمنى.
[ 202 ]
(مستوى الحديث): وبعد فإن هذه الكثرة في الرواية التي جاوزت حدود التواتر، وهذا الإهتمام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحديث الشريف حيث ذكره في موارد عدة زمانا ومكانا، ليبلغ به مستوى ضرورة القطع بصدوره عنه. (دلالة الحديث): ويستفاد من الحديث الشريف بألفاظه المختلفة، المعاني التالية: 1 – ان القرآن الكريم والعترة الطاهرة متلازمان مدة حياة الناس هذه، فلن يفترقا ولن يتفرقا إلى أن يردا على رسول الله الحوض (فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). ويعود هذا إلى أن العترة الطاهرة تمثل السنة، والكتاب والسنة هما مصدر تشريع الأحكام الإسلامية، فلابد من بقائهما مع الحياة، لأن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، والناس في هذه الحياة لابد من تدينهم وتعبدهم بهذا الدين حتى يوم الدين. 2 – وجوب التمسك بالكتاب والعترة لأنهما المؤمن والمنقذ من الضلال (يا أيها الناس إني تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي). (إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي). 3 – لا يجوز التقدم عليهما ولا التأخر عنهما، لأن في ذلك هلاك الامة (فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا). ولازم هذا عدم جواز الرجوع إلى غيرهما. 4 – ان الكتاب والعترة هما خليفتا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي اللذان خلفهما أمانة في
[ 203 ]
هذه الامة وأمانا لهذه الامة. (إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). 5 – أعلمية أهل البيت (عليهم السلام): وليس هناك ما هو أحوط للدين وأعذر في الموقف يوم الحساب من إتباع الأعلم، (ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم). (نتيجة البحث): ونخلص من كل هذا إلى أن حديث الثقلين يعين ويحصر السنة التي هي مصدر تشريع، ويلزم المسلمين الأخذ بها، عدلا للقرآن الكريم، في (أهل البيت (عليهم السلام)). ولهذا نقول: السنة: هي قول المعصوم وفعله وتقريره.
[ 204 ]
الإجماع تعريفه وحجيته: الإجماع – في لغتنا – مصدر الفعل (أجمع) المزيد بالهمزة من أوله. يقال: جمع زيد أشتات أمره جمعا. ويقال: أجمع القوم على الرحيل إجماعا. ويأتي الفعل المزيد (أجمع) لأربعة معاني هي: – العزم: قال الكسائي: يقال: أجمعت الأمر، وعلى الأمر: إذا عزمت عليه. ومنه الحديث المروي: (من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له) أي من لم يعزم الصيام – أي ينويه – من الليل فلا صيام له. – الضم: في (معجم ألفاظ القرآن الكريم): ” جمع المتفرق يجمعه جمعا: لم الأشياء المتفرقة بعضها إلى بعض. ومثله أجمع “. ثم فرق بينهما في الاستعمال بأن ” أكثر ما يستعمل (جمع) في الأعيان، وأكثر ما يستعمل (أجمع) في الآراء “. وجاء في (مفردات الراغب): ” وأجمعت كذا، أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو * (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) *، قال الشاعر:
[ 205 ]
هل أغزون يوما وأمري مجمع “. – الإحكام: في (المعجم الوسيط): أجمع الأمر: أحكمه * (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) *. – الاتفاق: كما في قوله تعالى: * (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) *. ويقال: أجمع القوم على كذا، أي اتفقوا. وقيل: الاجماع مشترك لفظي بين العزم والاتفاق. هكذا كله في اللغة. وفي الإصطلاح الاصولي: استعار الاصوليون لكلمة (الإجماع) كمصطلح علمي خاص معنى الاتفاق. وقيدوه بأنه اتفاق خاص، أي أنه اتفاق صادر من فئة معينة من الناس. واختلف الرأي الاصولي في من يصدر منه هذا الاتفاق، ليكون الاتفاق الصادر إجماعا، على أقوال، منها: 1 – انه اتفاق جميع المسلمين. 2 – اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين. 3 – اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة). 4 – اتفاق أهل المدينة. 5 – اتفاق أهل المصرين (البصرة والكوفة). 6 – اتفاق الصحابة. 7 – اتفاق الخلفاء الراشدين.
[ 206 ]
8 – اتفاق الشيخين (أبي بكر وعمر). 9 – اتفاق الفقهاء المجتهدين في عصر من الأعصار. 10 – الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم. واختلف تعريفهم للاجماع تبعا لاختلافهم في مصدر الاتفاق. ففي (التعريفات) للجرجاني: ” الإجماع في اللغة: العزم والاتفاق، وفي الإصطلاح: اتفاق المجتهدين من امة محمد في عصر على أمر ديني “. وفيها أيضا: ” الإجماع: العزم التام على أمر من جماعة أهل الحل والعقد “. والذي يستخلص من مجموعة التعريفات المختلفة التي ذكرت للإجماع هو أنها ” ترمي إلى معنى جامع بينها، وهو: إتفاق جماعة لاتفاقهم شأن في إثبات الحكم الشرعي ” – كما يقول شيخنا المظفر. والقول الأخير للإجماع – أعني الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم – هو تعريف أصحابنا الإمامية، وهو موضع اتفاق بينهم. ويستفاد من هذا: أن الإجماع – بما هو إجماع – لا عبرة به ولا مشروعية له في الرأي الإمامي، إذ الحجة ليست قائمة فيه، وإنما هي في رأي المعصوم الذي كشف عنه الإجماع. يقول المحقق الحلي في (المعتبر) – كما حكي عنه ذلك الشيخ العاملي في (المعالم) -: ” واما الإجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله (عليه السلام) لما كان حجة، ولو حصل في إثنين لكان قولهما حجة لا باعتبار اتفاقهما، بل باعتبار قوله (عليه السلام). فلا تغتر – إذن بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة أو العشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين، إلا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة “.
[ 207 ]
ويقول السيد الطباطبائي في (المفاتيح) – كما حكي عنه الاستاذ شلبي في (أصول الفقه الإسلامي) -: ” فمع وجود الإمام، الإجماع حجة، للأمن على قوله من الخطأ، والقطع على دخوله في جملة المجمعين. فعلى هذا: الإجماع كاشف عن قول الإمام، لا ان الإجماع حجة في نفسه من حيث هو إجماع. صرح بذلك كثير من علمائنا. وبالجملة: من قال من أصحابنا بأن الإجماع حجة فإنما قاله باعتبار كونه كاشفا عن قول المعصوم لا لكونه إجماعا “. وهذا الموقف الإمامي من الإجماع يثير أمامنا أكثر من تساؤل، أمثال: 1 – هل الإجماع دليل مستقل، أو أنه طريق من طرق السنة ؟ 2 – في حالة ثبوت عدم استقلاليته: كيف أدرج في عداد الأدلة الاخرى: الكتاب والسنة. 3 – ثم ما هو مستنده ؟ وللإجابة عن السؤال الأول، فان الذي يذهب إليه من يقول باعتبار الإجماع من أصحابنا الإمامية، هو ان الإجماع ليس دليلا مستقلا، وإنما هو طريق من طرق السنة، وذلك لكشفه عن قول الإمام – كما تقدم في تعريفه -، فالدليل هو قول الإمام، وليس الإجماع الكاشف عنه، أو قل هو المكشوف لا الكاشف. ولابد – هنا – من التنبيه إلى ان قول الإمام الذي يكشف عنه الإجماع لا يعد رواية، وإلا كان حسابه حساب الرواية في التعامل معه من حيث الإستدلال. ولإيضاح هذا أكثر علينا أن نوضح إنقسام الإجماع إلى قسمين: المدركي وغير المدركي، وذلك لأن القسم الثاني (وهو غير المدركي) هو الذي ينبثق منه اعتبار
[ 208 ]
الإجماع. 1 – الإجماع المدركي: وهو الإجماع الذي له مدرك – كما يعبر الإماميون – استند إليه المجمعون من آية أو رواية أو سواهما، أو قل مستند – كما يعبر عنه في لغة اصوليي السنة ممن يرى منهم وجوب اعتماد المجمعين على مستند (دليل شرعي). فقد يكشف ان المجمعين عندما يجمعون على مسألة معينة أن اتفاقهم ناشئ من استنادهم جميعا إلى مدرك حكمها. إن مثل الإجماع المعلوم المدرك والمعروف المستند لا اعتبار له عندنا – معاشر الإمامية – في مجال الإستدلال، وإنما الاعتبار للمدرك أو المستند، ويعامل في الإستدلال به معاملة أمثاله من المدارك والمستندات، سواء كانت آيات أو روايات أو غيرهما. 2 – الإجماع غير المدركي (الإجماع الكاشف): ومن تعريفنا للإجماع المدركي عرفنا الإجماع غير المدركي بانه الذي لم يكتشف الباحث منه مدرك أو مستند المجمعين. وهذا الإجماع هو المقصود هنا، والمعتبر عند من يرى اعتبار الإجماع. ويمكننا أن نصطلح عليه ب (الإجماع الكاشف). والخلاصة: ان القائلين من الإمامية باعتبار الإجماع يذهبون إلى ان الإجماع ليس بدليل مستقل، وإنما هو وسيلة كاشفة عن قول المعصوم عندما لم يعلم للإجماع مدرك أو مستند.
[ 209 ]
وهنا يأتي السؤال الآخر: إذا كان الأمر هكذا عند الإمامية فكيف أدرجوه في عداد الأدلة الفقهية (مصادر التشريع الإسلامي) بما يوهم انه دليل مستقل. فكان يمكن أن يقال: الأدلة إثنان هما: الكتاب والسنة، وللسنة طريقان هما: الرواية والإجماع. أو يقال: الأدلة ثلاثة: الكتاب والسنة والعقل، وفي مبحث السنة يشار إلى ان لها طريقين هما: الرواية والإجماع. ولكشف هذا الذي قد يعد مفارقة منهجية لابد من استعراض تاريخ نشوء الإجماع في الوسط العلمي الإسلامي، ومن ثم تطوره في مجال الدرس الاصولي، ذلك ان معرفة تاريخه في النشأة والتطور مما يلقي الضوء المساعد على كشف المفارقة: لعل أقدم نص إسلامي يعرب عن زمان ومناسبة إنبثاق الإجماع عند المسلمين واتخاذه دليلا شرعيا هو ما جاء في رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى الشيعة المروية في (روضة الكافي)، فقد ورد فيها – في شأن السقيفة والخلافة -: (وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل موته، فقالوا: نحن بعد ما قبض الله تعالى رسوله يسعنا أن نأخذ بما أجمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله عزوجل رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به، مخالفة الله ولرسوله. فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك، وزعم ان ذلك يسعه). والإمام الصادق (عليه السلام) يشير بهذا إلى الإجماع الذي ادعي لتصحيح خلافة أبي بكر، ذلك انه بعد أن بويع أبو بكر بالخلافة، ولا سند عند الصحابة الذين دعوا إلى بيعته يدعم هذه البيعة من ناحية شرعية حيث لا نص في القرآن الكريم ولا نص في السنة الشريفة يثبت صحة هذه البيعة، اضطروا بغية إضفاء الشرعية عليها
[ 210 ]
إلى ادعاء الإجماع عليها. ولترسيخ الإجماع دليلا وحجة لكي تبقى البيعة المشار إليها قائمة على سند شرعي، أدخلوه حيز الدراسات الاصولية والتمسوا الأدلة لإثبات حجيته، وربعوا به مصادر التشريع، فقالوا: هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل (بما يشمل اجتهاد الرأي والقياس والخ). وفي إبتداء الغيبة الكبرى حيث قام الشيخ المفيد وتلامذته (من أعلام الإمامية) باستكمال كل متطلبات الاجتهاد الشرعي، وذلك بعد إنقطاع اتصال الشيعة بالإمام المهدي (عليه السلام)، وفي مقدمة تلكم المتطلبات وضع العلوم المطلوبة، ومنها علم اصول الفقه، قام الشيخ المفيد – في البداية – بوضع مذكرة صغيرة في علم اصول الفقه، وحصر في هذه المذكرة ادلة الاحكام الشرعية في ثلاثة هي: الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، قال: ” إعلم أن اصول أحكام الشريعة ثلاثة أشياء: 1 – كتاب الله سبحانه. 2 – وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). 3 – وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده “. ويستند (قدس سره) في إضافة أقوال الأئمة (عليهم السلام) إلى الكتاب والسنة، على أنهم – كما ذكرت سابقا – محدثون، قد أقدرهم الله على الوصول إلى الحكم الواقعي عن طريق الإلهام، ولأن عندهم كتاب علي، فيه كل أحاديث رسول الله، لا سيما ما يختص منها بالأحكام الشرعية. ومن بعده سلك تلميذاه السيد المرتضى والشيخ الطوسي منهج أهل السنة في تدوين علم اصول الفقه، فسلكوا الإجماع في قائمة الأدلة، بعد أن وجهاه بما يلتقي ومذهب الإمامية في أخذ الحكم من الثقلين الكتاب والعترة بأن اشترطا
[ 211 ]
كشفه عن قول المعصوم. قال السيد المرتضى في (الذريعة): ” والصحيح الذي نذهب إليه ان قولنا (إجماع) إما أن يكون واقعا على جميع الامة، أو على المؤمنين منهم، أو على العلماء فيما يراعي فيه إجماعهم. وعلى كل الأقسام لابد من أن يكون قول الإمام المعصوم داخلا فيه، لأنه من الامة، ومن أجل المؤمنين، وأفضل العلماء، فالإسم مشتمل عليه، وما يقول به المعصوم لا يكون إلا حجة وحقا. فصار قولنا موافقا لقول من ذهب إلى ان الإجماع حجة في الفتوى “. وقال في (جوابات المسائل التبانيات): ” وهاهنا طريق آخر يجري في وقوع العلم مجرى التواتر والمشافهة، وهو ان يعلم عند عدم تمييز عين الإمام وإنفراد شخصه، إجماع جماعة – على بعض الأقوال – يوثق بأن قوله داخل في جملة أقوالهم. فان قيل: هذا القسم أيضا لا يخرج عن المشافهة أو التواتر، لأن إمام العصر إذا كان موجودا، فاما أن يعرف مذهبه وأقواله مشافهة وسماعا، أو بالمتواتر عنه. قلنا: الأمر على ما تضمنه السؤال، غير ان الرسول والإمام إذا كان متميزا متعينا، علمت مذاهبه وأقواله بالمشافهة أو بالتواتر عنه.. وإذا كان مستترا غير متميز العين – وان كان مقطوعا على وجوده واختلاطه بنا – علمت أقواله بإجماع الطائفة التي نقطع على ان قوله في جملة أقوالهم، وان كان العلم بذلك من أحواله لا يعدو اما المشافهة أو التواتر، وإنما يختلف الحالان بالتمييز والتعيين في حال وفقدهما في اخرى “. وقال أيضا: ” وبعد فالإجماع الموثوق به في الفرقة المحقة هو إجماع الخاصة
[ 212 ]
دون العامة، والعلماء دون الجهال “. وقال: ” وليس رجوعنا إلى عمل الطائفة وإجماعها في ترجيح أحد الخبرين الراويين على صاحبه أمرا يختص هذا الموضوع، حتى يظن ظان ان الرجوع إلى إجماع الطائفة إنما هو في هذا الضرب من الترجيح. بل نرجع إلى إجماعهم في كل حكم لم نستفده بظاهر الكتاب، ولا بالنقل المتواتر الموجب للعلم عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام)، سواء ورد بذلك خبر معين أو لم يرد، وسواء تقابلت فيه الروايات أو لم تتقابل، لأن العمل بخبر الواحد المجرد ليس بحجة عندهم على وجه من الوجوه، إنفرد من معارض، أو قابله غيره على سبيل التعارض “. وكما ترى، اضيف الإجماع دليلا فقهيا مع التأكيد على الفارق بينه وبين الإجماع عند علماء أهل السنة، وهو اشتراط كشفه عن رأي الإمام المهدي (عليه السلام). وبهذا يكون طريقا آخر – بالإضافة إلى الحديث – من الطرق الموصلة إلى السنة الشريفة. فالإجماع – في حقيقته – ليس دليلا لذاته، وإنما لأنه كاشف عن السنة، فتبقى – على هذا – مصادر التشريع من حيث الواقع محصورة في الكتاب والسنة. ولعل التنصيص على الإجماع دليلا فقهيا كان في مقابلة موقف الفقهاء المحدثين السلبي منه، وليس لاعتباره دليلا مستقلا قسيما للكتاب والسنة (1). ويقول أستاذنا المظفر في كتابه الاصولي: ” وعلى كل حال فان هذا (الإجماع) – بما له من هذا المعنى – قد جعله الاصوليون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة أو الثلاثة على الحكم الشرعي في مقابل الكتاب والسنة. أما الإمامية فقد جعلوه أيضا أحد الأدلة على الحكم الشرعي، ولكن من ناحية
شكلية واسمية فقط، مجاراة للنهج الدراسي في اصول الفقه عند السنيين، أي انهم لا يعتبرونه دليلا مستقلا في مقابل الكتاب والسنة، بل إنما يعتبرونه إذا كان كاشفا عن السنة، أي عن قول المعصوم، فالحجية والعصمة ليستا للإجماع، بل الحجة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهلية هذا الكشف. ولذا توسع الإمامية في إطلاق كلمة الإجماع على اتفاق جماعة قليلة لا يسمى اتفاقهم في الإصطلاح إجماعا، بل باعتبار ان اتفاقهم يكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم فيكون له حكم الإجماع، بينما لا يعتبرون الإجماع الذي لا يكشف عن قول المعصوم، وان سمي إجماعا بالإصطلاح “. وبقي لدينا أن نجيب عن السؤال الثالث ببيان طرق الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم التي ذكرها الاصوليون والتي يعنون بها العلة أو السبب الذي يدعو الإمام لأن يكون أحد المجمعين، وأهمها: 1 – نظرية الحس وهي أن يحصل للحاكي للإجماع العلم بدخول الإمام ضمن المجمعين، يسمع قولهم بالحكم، أو يرى تقريرهم لفعل من أفعال الآخرين. وقد أطلق على هذا النوع مصطلح (الإجماع الدخولي) لعلم الحاكي للإجماع بدخول الإمام ضمن المجمعين. وهو مذهب الشريف المرتضى، قال في كتابه الاصولي (الذريعة): ” قد بينا في كتاب (الشافي): انه غير ممتنع أن يلتبس في بعض الأحوال قوم إمام الزمان، اما لغيبة أو لغيرها، فلا نعرف قوله على التعيين فنفزع في هذا الموضع إلى إجماع الامة أو إجماع علمائنا لنعلم دخول الإمام المعصوم فيه، وان كنا لا نعرف شخصه وعينه، ففي مثل هذا الموضع نفتقر إلى معرفة الإجماع على القول، لنعلم دخول
[ 214 ]
الحجة فيه إذا كان قول الإمام (الذي) هو الحجة ملتبسا أو متشابها، وهذا يجري مجرى قول المحصلين من مخالفينا: ان الإجماع الذي هو الحجة هو إجماع المؤمنين من الامة دون غيرهم، لأن قول المؤمنين لما لم يكن متميزا وجب اعتبار إجماع الكل ليدخل ذلك فيه “. وعلق الشيخ الأنصاري في (الرسائل) على هذا المذهب بقوله: ” وهذا في غاية القلة، بل نعلم جزما انه لم يتفق لأحد من هؤلاء الحاكين للإجماع، كالشيخين والسيدين وغيرهما “، ولذا صرح الشيخ في (العدة) – في مقام الرد على السيد، حيث أنكر الإجماع من باب وجوب اللطف – فقد ذكر الشيخ في العدة بان السيد ذهب إلى ” انه يجوز أن يكون الحق عند الإمام (عليه السلام) والأقوال الاخرى كلها باطلة، ولا يجب عليه الظهور، لأنا إذا كنا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من قبل أنفسنا، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به، وأدى إلينا الحق الذي كان عنده “. وقال الشيخ في رد السيد: ” ان هذه الطريقة – يعني طريقة السيد المتقدمة – غير مرضية عندي، لأنها تؤدي إلى أن لا يستدل بإجماع الطائفة أصلا لجواز أن يكون قول الإمام (عليه السلام) مخالفا لها، ومع ذلك لا يجب عليه إظهار ما عنده ” (1). 1 – نظرية اللطف: وهي المذهب المعروف عن الشيخ الطوسي، والذي مرت الإشارة إليه في سابقه. وخلاصة هذه النظرية هي: ان الله تعالى بلطفه ورحمته لا يترك هذه الامة المرحومة امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو فقهائها إذا حصل اجتماع منها أو منهم على خطأ،
(1) – نقلت من (الرسائل) بتصرف. (*)
[ 215 ]
وإنما يقوم بإبطال هذا الخطأ بمثل إلقاء الخلاف بينهم من قبل الإمام (عليه السلام) لطفا بعباده تعالى ورحمة منه بهم. ولازم هذا اننا لو رأينا الامة أو الفقهاء قد أجمعوا على مسألة نستكشف – في هدي هذه النظرية – ان اجماعهم كان على حق، إذ لو كان على خطأ لأوقع الله تعالى – من باب اللطف – الخلاف بينهم بإثارته من قبل الإمام (عليه السلام). ويبدو من الشيخ الأنصاري في (الرسائل) ان هناك من تابع الشيخ الطوسي في نظريته هذه، قال: ” ثم ان الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كل من اشترط في تحقق الاجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر كفخر الدين والشهيد والمحقق الثاني “. ويقرر استاذنا السيد الخوئي هذه النظرية – في محاضراته الاصولية بقلم تلميذه السيد الواعظ المعنونة (مصباح الاصول 2 / 138) – ثم يناقشها فيقول: ” بقي الكلام في مدرك حجية الإجماع المحصل الذي هو أحد الأدلة الأربعة. فقد يقال: ان مدرك حجية الإجماع هو اللازمة العقلية بين الإجماع وقول المعصوم (عليه السلام)، وتقريبها بوجهين: (الوجه الأول): ما استند إليه الشيخ الطوسي (رحمه الله) من قاعدة اللطف، وهي انه يجب على المولى سبحانه وتعالى اللطف بعباده، بإرشادهم إلى ما يقربهم إليه تعالى من مناهج السعادة والإصلاح، وتحذيرهم عما يبعدهم عنه تعالى من مساقط الهلكة والفساد وهذا هو الوجه في إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام (عليه السلام). وهذه القاعدة تقتضي عند اتفاق الامة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام، أن يلقي الإمام المنصوب من قبل الله تعالى الخلاف بينهم، فمن عدم الخلاف يستكشف موافقتهم لرأي الإمام (عليه السلام).
[ 216 ]
وفيه: (أولا): عدم تمامية القاعدة في نفسها، إذ لا يجب اللطف عليه تعالى بحيث يكون تركه قبيحا يستحيل صدوره منه سبحانه، بل كل ما يصدر منه تعالى مجرد فضل ورحمة على عباده. (ثانيا): أن قاعدة اللطف على تقدير تسليمها لا تقتضي إلا تبليغ الأحكام على النحو المتعارف، وقد بلغها وبينها الأئمة (عليهم السلام) للرواة المعاصرين لهم، فلو لم تصل إلى الطبقة اللاحقة لمانع من قبل المكلفين أنفسهم ليس على الإمام (عليه السلام) إيصالها إليهم بطريق غير عادي إذ قاعدة اللطف لا تقتضي ذلك، وإلا كان قول فقيه واحد كاشفا عن قول المعصوم (عليه السلام) إذا فرض إنحصار العالم به في زمان، وهذا واضح الفساد. (ثالثا): انه إن كان المراد إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام (عليه السلام) مع إظهار انه الإمام بأن يعرفهم بإمامته، فهو مقطوع العدم، وان كان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء كونه إماما فلا فائدة فيه، إذ لا يترتب الأثر المطلوب من اللطف، وهو الإرشاد على خلاف شخص مجهول، كما هو ظاهر “. 3 – نظرية الحدس: وفحوى هذه النظرية – كما يقررها في (مصباح الاصول) وجها ثانيا للملازمة العقلية بين الإجماع وقول المعصوم، ويناقشها شأن ما فعل في سابقتها – هي: ” ان اتفاق جميع الفقهاء يستلزم القطع بقول الإمام (عليه السلام) عادة، إذ من قول فقيه واحد يحصل الظن ولو بأقل مراتبه بالواقع، ومن فتوى الفقيه الثاني يتقوى ذلك الظن ويتأكد، ومن فتوى الفقيه الثالث يحصل الاطمئنان، ويضعف إحتمال مخالفة الواقع، وهكذا إلى أن يحصل القطع بالواقع، كما هو الحال في الخبر المتواتر، فانه يحصل الظن باخبار شخص واحد، ويتقوى ذلك الظن بإخبار شخص ثان
[ 217 ]
وثالث، وهكذا إلى أن يحصل القطع بالمخبر به. وفيه: أن ذلك في الأخبار عن حس كما في الخبر المتواتر، لأن احتمال مخالفة الواقع في الخبر الحسي إنما ينشأ من احتمال الخطأ في الحس أو احتمال تعمد الكذب، وكلا الاحتمالين يضعف بكثرة المخبرين إلى أن يحصل القطع بالخبر به وينعدم الاحتمالان. وهذا بخلاف الإخبار الحدسي المبني على البرهان – كما في المقام – فان نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد، إذ احتمال كون البرهان غير مطابق للواقع لا يفرق فيه بين أن يكون الإستناد إليه من شخص واحد أو أكثر، ألا ترى أن اتفاق الفلاسفة على أمر برهاني كامتناع إعادة المعدوم – مثلا – لا يوجب القطع به ؟ “. هذه أهم النظريات التي قيلت في المسألة، وهي – كما تراها – لا تعدو أن تكون من باب التعليل بعد الورود، ذلك أن اصوليي الإمامية بعد أن أدرجوا الإجماع – وكان ذلك بعد الشيخ المفيد – دليلا في قائمة أدلة الفقه، ووجهوه بالتوجيه الذي ذكروه لتصحيحه، وهو الكشف عن رأي المعصوم راحوا يلتمسون الدليل على دخول المعصوم واحدا من المجمعين ليصح ويتم الاحتجاج بالإجماع، وهذا – كما تراه – أشبه ما يكون من باب التعليل بعد الورود. والطريق المنهجي السليم أن نلتمس الدليل على الإجماع نفسه، فان وجد فهو المطلوب، وعند عدم وجوده لسنا بحاجة إلى التبريرات المذكورة، وكل ما نحتاج إليه أن نتحدث عن الإجماعات المنقولة في كتب الفقه: – ماذا يراد بها. – ما موقفنا منها. – وهل فيها مسائل لا دليل عليها إلا الإجماع الكاشف.
[ 218 ]
– والخ. ومثل هذا البحث يتطلب منا تتبع وملاحظة جميع الإجماعات المذكورة، ودراستها في حدود مباني أصحابها، وحدود تطبيقاتهم لها، ولعل في الاخوة الباحثين من يتصدى لهذا. ويبدو لي – والله العالم – ان الاجماعات المدعاة كاجماعات السيد المرتضى في مسائل الخلاف وإجماعات الشيخ الطوسي في كتابه الموسوم ب (الخلاف) تقوم على أساس من إيمان من يدعي الإجماع ببطلان دليل القول الآخر وسقوط قوله لأنه مبني على دليل باطل فيبقى قول مدعي الإجماع هو القول الصحيح الوحيد وينبع هذا من عمق ثقة العالم بنفسه وعمق إيمانه بصحة إنتاجه وعطائه أو سلامة خطه المذهبي. أما الدليل على حجية الإجماع بذاته فقد ذكر في كتب اصول الفقه السني جملة من الأدلة، بعضها من الكتاب، وبعضها من السنة، وبعضها عقلي. وأهمها وأقواها هو الحديث القائل (لا تجتمع أمتي..)، ومن هنا رأيت قصر الوقوف عليه، ومحاولة معرفة وجوه الإستدلال به، وهل هي تامة أو غير تامة. روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، ومنها: (ان الله لا يجمع امتي على الضلالة). (سألت الله لا تجتمع امتي على الضلالة فأعطانيها). (لم يكن الله ليجمع امتي على الخطأ). (ان امتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم). (ان الله أجاركم من ثلاث خصال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا.. وأن لا تجتمعوا على ضلالة).
[ 219 ]
وقد ادعي تواتر هذا الحديث تواترا معنويا إذ تلتقي كل مروياته على أن امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تجتمع على ضلالة. ولكن نفى الطوفي في رسالته تواتر هذا الحديث بقوله: ” ان هذا الخبر وان تعددت ألفاظه ورواياته لا نسلم أنه بلغ رتبة التواتر المعنوي لأنه إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا وسخاء حاتم وشجاعة علي ونحوهما من المتواترات المعنوية، وجدناها قاطعة بثبوت الرأي الثاني، غير قاطعة بالأول، فهو – إذن – في القوة دون سخاء حاتم وشجاعة علي وهما متواتران، وما دون المتواتر ليس بمتواتر. فهذا الخبر ليس بمتواتر، لكنه في غاية الاستفاضة. فان قيل: تلقته الامه بالقبول، فدل على ثبوته. فجوابه: من وجوه: أحدها: لا نسلم تلقيها له بالقبول، إذ منكرو الإجماع كالنظام والشيعة والخوارج والظاهرية – فيما عدا إجماع الصحابة – لو تلقوه بالقبول لما خالفوه. الثاني: ان الاحتجاج بتلقي الامة له بالقبول احتجاج بالإجماع، وهو إثبات الشئ بنفسه ” (1). ونوقش في دلالة الحديث بالتالي: 1 – ان ” ورود لفظ الامة (فيه)، والأخذ بظاهره، لا يفيد إلا من قال بأن إجماع الامة حجة، اما بقية الأقوال كإجماع المجتهدين أو أهل الحرمين أو الصحابة أو أهل طائفة ما، فان هذا الدليل لا يصلح لإثباتها. والقول بأن الامة ليست هي إلا مجتهديها وأهل الحل والعقد فيها، فلاعبرة بغيرهم، قول لا يعتمد سوى الخطابة والاستحسان، وهما لا يصلحان في مقام
(1) – الأصول العامة 262 – 263 ط 2. (*)
[ 220 ]
التمسك بالأدلة على الحجج الشرعية، فالخروج على النص فيه لا مبرر لها ” (1). 2 – وفي (مصباح الاصول (2)): ” لو تم ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله (لا تجتمع امتي على خطأ)، وقلنا بأن المراد من الامة هو خصوص الإمامية ثبتت الملازمة بين إجماع علماء الإمامية وقول المعصوم (عليه السلام)، ولكنه غير تام سندا ودلالة. أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف. وأما من حيث الدلالة فلعدم اختصاص الامة بالإمامية، كما هو ظاهر في نفسه، ويظهر من قوله (ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرق)… “. ومع هذا يمكننا أن نقول: إن الإجماع المقصود من إرادة جميع أفراد الامة يكون كالإجماع الذي تقول به الإمامية لأنه يكشف كشفا يقينيا عن ان المعصوم أحد المجمعين لشمول الإجماع لجميع أفراد الامة ومنهم المعصوم، فتكون الحجية لقول المعصوم لا للإجماع ذاته، والعصمة التي ادعيت للامة يكون المراد بها عصمة الإمام المعصوم. ولكن المطلوب هو الدليل على حجية الإجماع بما هو إجماع لا بما هو كاشف، وهذا لم يثبت. تقسيمه: يقسم الإجماع – كما تقدم – إلى إجماع مدركي وإجماع كاشف، وقد سبق تعريفهما. ويقسم الإجماع الكاشف إلى: منقول ومحصل. 1 – الإجماع المحصل.
وهو اتفاق الفقهاء في عصر من العصور، يحصله فقيه ما بنفسه عن طريق جمع جميع فتاواهم في المسألة. ولهذا سمي بالمحصل – بصيغة إسم المفعول -. 2 – الإجماع المنقول: هو الإتفاق الذي يصل إلينا عن طريق نقله وذكره في الكتب الفقهية، أو بواسطة نقل فقيه عن فقيه. ويقسم الإجماع الكاشف إلى: بسيط ومركب. أ – الإجماع البسيط: ” هو الإتفاق على قول واحد بالمطابقة كالإجماع على نجاسة فضلة ما لا يؤكل لحمه، فالمدلول المطابقي له هو نجاسة الفضلة مما لا يؤكل لحمه. وأكثر الإجماعات من هذا القبيل ” (1). ب – الإجماع المركب: ” وهو الإستناد إلى رأي مجموع العلماء المختلفين على قولين أو أكثر في نفي قول آخر لم يقل به أحد منهم ” (2). ويعلق الشيخ العاملي في (المعالم) على الإجماع المحصل بقوله: ” الحق إمتناع الإطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام (عليه السلام) كيف ؟، وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله مستورا بين أقوالهم، وهذا مما يقطع بانتفائه.
(1) – الموسوعة الفقهية الميسرة: مادة إجماع. (2) – م. ن. (*)
[ 222 ]
فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا، وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم، فلابد أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة. واما الزمان على ما ذكرناه المقارب لعصر ظهور الأئمة (عليهم السلام) وإمكان العمل بأقوالهم، فيمكن حصول الإجماع والعلم به بطريق التتبع. وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف حيث قال: الإنصاف انه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمان الصحابة حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل “. وأخيرا: ننتهي من كل ما تقدم إلى النتائج التالية: 1 – ان فقهاء الإمامية من زمن الشيخ المفيد فما قبله لم يدرجوا الإجماع في قائمة أدلة الفقه. 2 – لا دليل لدينا – نحن الإمامية – على اعتبار الإجماع – بما هو إجماع – حجة شرعية قائمة بذاتها. 3 – ان إدراج الإجماع في قائمة أدلة الفقه كان أخذا بالمنهج السني في تدوين علم اصول الفقه. 4 – ان علماء الاصول الإماميين قاموا بتوجيه الإجماع بما يرتفع به إلى مستوى الدليل باشتراط دخول الإمام المعصوم في مجموعة المجمعين. 5 – ان تحصيل الإجماع الكاشف ان لم يكن ممتنعا فهو شبه ممتنع. 6 – ان الإجماعات المنقولة ترتبط بواقع مباني قائليها وإرادتهم منها.
[ 223 ]
العقل تعريفه: (في اللغة العربية): جاء في (معجم مقاييس اللغة): ” العين والقاف واللام أصل واحد منقاس مطرد، يدل عظمه على حبسة في الشئ أو ما يقارب الحبسة. ومن ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل. قال الخليل: العقل نقيض الجهل، يقال: عقل يعقل عقلا، إذا عرف ما كان يجهله قبل، أو انزجر عما كان يفعله. وجمعه: عقول “. وقد انتقل أجدادنا العرب بهذا اللفظ – شأنه شأن كثير من الألفاظ – من الحسي إلى الذهني، فالعقل في الأصل – كما قال ابن فارس – الحبسة بمعنى الإمساك، يقال: عقل الدواء البطن إذا أمسكه بعد إستطلاق. ومنه قيل للحصن: معقل، ولتلك القوة المعروفة في الإنسان: عقل، يريدون بها موطن التفكير. ثم توسعوا باستعمال الكلمة فأطلقوها على وظيفة العقل، فقالوا: العقل: الإدراك. يقال: عقل الإنسان الشئ: إذا أدركه. وعبروا عن العاقل بالمدرك. ومن شواهده في القرآن الكريم قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) *.. وقوله
[ 224 ]
تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) *. وهو كثير في التنزيل العزيز. وللعقل في لغتنا – قديما وحديثا – أكثر من لفظ، منها: 1 – عقل: وتقدم الحديث فيه وعنه. 2 – حجر: – بتقديم المهملة مكسورة على المعجمة الساكنة -، سمي به لأنه يحجر صاحبه بمعنى يمنعه من الذميم والرذيل، وفي القرآن الكريم: * (هل في ذلك قسم لذي حجر) * أي صاحب عقل. 3 – نهية: – بضم النون – تجمع على (نهى) – بضم نونه مختوما بألف مقصورة – أطلق عليه هذا الإسم لأنه ينهي صاحبه عن الوقوع في ما لا ينبغي الوقوع فيه، قال تعالى: * (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولي النهى) * أي أصحاب العقول. 4 – وعي: قال ابن منظور في (لسان العرب): ” الوعي: حفظ القلب الشئ وعى الشئ والحديث يعيه وعيا، وأوعاه: حفظه وفهمه وقبله فهو واع، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم. وفي الحديث: (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، فرب مبلغ أوعى من سامع). وفي حديث أبي امامة: (لا يعذب الله قلبا وعى القرآن)، قال ابن الأثير: أي عقله إيمانا به وعملا، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فانه غير واع له “. وفي الفلسفة: الوعي: الشعور.
[ 225 ]
وفي علم النفس: الوعي: إدراك المرء لذاته وأحواله وأفعاله إدراكا مباشرا. ووعي الذات: ما نكشف به عن وجودنا الحقيقي. 5 – فكر: وتطلق هذه الكلمة – أيضا – على الإنتاج العقلي. 6 – تفكير: وأيضا تطلق هذه اللفظة على أحد عمليات أو وظائف العقل. 7 – ذكاء: – بفتح الذال المعجمة -، مصطلح سايكولوجي يطلقه علماء النفس على العقل، ويطلق عند الآخرين على مستويات القدرة العقلية. ومع هذه المترادفات أو المرادفات تبقى كلمة (عقل) هي الأكثر شيوعا في لغة الفلسفة – قديمة وحديثة – ولغة العلوم القديمة شرعية وغير شرعية. كما ان كلمة (ذكاء) هي الأكثر استعمالا في علم النفس، وكلمة (فكر) وكذلك (تفكير) هما الأكثر تداولا في مجالات المعرفة الحديثة وبخاصة في علم التربية. و (علميا): قالوا: العقل: هو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه جاءت المقولة المعروفة: (الإنسان حيوان عاقل) أو (الإنسان حيوان ناطق) أي عاقل. وعرفوه – أعني العقل – بتلك القوة التي تمكن الإنسان من التفكير. وبما يكن به التفكير والإستدلال وتركيب التصورات والتصديقات. وبما به يميز الحسن من القبيح والخير من الشر والحق من الباطل. وقسموه قسمة الفلاسفة نفسها إلى: نظري وعملي. وعرفوا العقل النظري بالقوة التي تمكن الإنسان من التجريد والتعميم
[ 226 ]
واستنباط المعارف والعلوم. والعقل العملي بما يمكن الإنسان من استنباط الصنائع والفنون. و (فلسفيا): ففي الفلسفات القديمة يفرقون بين العقل حيث يعتبرونه من المجردات، وبين الجسم حيث يعدونه من الماديات. وتذهب الفلسفات الإلهية منها إلى ان العقل موهبة خاصة من الله تعالى للإنسان وحده، إفترق به عن سائر المخلوقات المرئية على هذه الأرض. واعتبرته الشرائع السماوية أساس التكليف الإلهي لما فيه من القدرة على تمييز الخير من الشر، والنافع من الضار، والحق من الباطل. واعتمدته القوانين الوضعية شرط تحمل المواطن لمسؤولياته التي تقررها التشريعات القانونية. وعلى أساس من الرأي الفلسفي المذكور نظروا للعقل بأنه مؤلف من قوى أو ملكات، منها قوة الإدراك، وقوة التفكير، وقوة التذكر، وقوة الانتباه والخ. ولكن تمحورت تعريفاتهم له حول نقطتين تمثلان وظيفة العقل كقوة من قوى الإنسان، أو ملكة من ملكاته الباطنة، هما: الإدراك والتفكير. فعرفوه بأنه (ملكة إدراك ما هو كلي وضروري سواء أكان ماهية أو قيمة). ويتمثل إدراكه المذكور بأنه: (يدرك أولا: ماهيات الماديات، أي كنهها لا ظاهرها. ويدرك ثانيا: معاني عامة كالوجود والجوهر والعرض والعلية والمعلولية والغاية والوسيلة والخير والشر). ولتبيان انه ملكة أو قوة تفكير قالوا: (يطلق العقل على أسمى صور العمليات
[ 227 ]
الذهنية بعامة، وعلى البرهنة والإستدلال بخاصة). ومن نتائج الإدراك: المعرفة. أو قل: الإدراك هو وسيلة الوصول إلى المعرفة. ومن مظاهر التفكير: – الإستدلال. – الإستنباط. – التجريد. – التعميم. – التأصيل والتفريع. – الربط بين الأفكار. – التمييز بين الصواب واللاصواب. – التفسير والشرح. – التحليل والتركيب. – الإختبار والتقدير. – التعليل. – التصنيف. – التنظيم. – الرؤية. – إلخ. وأيضا دارت تعريفاتهم حول نقطة ثالثة أطلقوا عليها إسم العقل، وهي: قوانين التفكير.
[ 228 ]
ويعنون بها: تلكم المبادئ اليقينية التي يتخذ منها الفكر منطلقاته ومعاييره أثناء عملية التفكير. فعرفوا العقل – على هذا الأساس – ب (قوانين الفكر الضرورية الكلية). وقالوا: (يراد به (أي العقل) أيضا: المبادئ اليقينية التي يلتقي عندها العقلاء جميعا، وهي: – مبدأ الهوية. – ومبدأ عدم التناقض. – ومبدأ العلية). وقد اختلف الفلاسفة – قدامى ومحدثون – في مصدر هذه القوانين، هل هي مكتسبة أو ولد الإنسان مفطورا عليها، مغروزة في طبيعة عقله ؟ فذهب افلاطون وديكارت وكنت وهيجل إلى انها مغروزة في طبيعة العقل. وذهب التجريبيون أمثال لوك هيوم إلى انها مستمدة من التجربة. كما اختلفوا أيضا في الايمان بوجود عقل كلي واحد في مقابل العقول الفردية المتمثلة في ان لكل فرد من أبناء الإنسان عقلا، تلتقي هذه العقول الفردية عند ذلك العقل الكلي. ذهب هيجل إلى الإيمان بوجود ذلكم العقل الكلي الواحد، وإلى ” أن التاريخ ليس إلا معرض تجلي هذا العقل الواحد “. ويقول الدكتور بدوي في موسوعته الفلسفية: ” والعقل – بوصفه ملكة – يقسم عند المشائية بعامة إلى: عقل نظري وعقل عملي “. وقد عرفهما الفارابي بدقة فقال: ” العقل النظري: هو قوة يحصل لنا بها بالطبع – لا ببحث ولا بقياس – العلم
[ 229 ]
اليقين بالمقدمات الكلية الضرورية التي هي مبادئ العلوم، وذلك مثل علمنا أن الكل أعظم من جزئه، وان المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية، وأشباه هذه المقدمات. وهذه هي التي منها نبتدئ فنصير إلى علم سائر الموجودات النظرية التي شأنها أن تكون موجودة، لا بصنع الإنسان. وهذا العقل قد يكون بالقوة عندما لا تكون هذه الأوائل حاصلة له، فإذا حصلت له صار عقلا بالفعل، وقوي استعداده لاستنباط ما بقي. وهذه القوة لا يمكن أن يقع لها خطأ في ما يحصل لها، بل جميع ما يقع لها من العلوم صادق يقيني لا يمكن غيره ” (1). والعقل النظري بهذا المعنى هو إدراك الامور البديهية فقط. أما ” العقل العملي فهو قوة بها يحصل للإنسان عن كثرة تجارب الامور، وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة، مقدمات يمكن بها الوقوف على ما ينبغي أن يؤثر أو يجتنب شئ من الامور التي فعلها إلينا. وهذه المقدمات بعضها تصير كلية ينطوي تحت كل واحدة منها أمر، ما ينبغي أن يؤثر أو يجتنب، وبعضها مفردات وجزئية تستعمل مثالات لما يريد الإنسان أن يقف عليه من الامور التي لم يشاهدها. وهذا العقل إنما يكون عقلا بالقوة ما دامت التجربة لم تحصل، فإذا حصلت التجارب وحفظت، صار عقلا بالفعل. ويتزيد هذا العقل الذي بالفعل بازدياد وجود التجارب في كل سن من أسنان
(1) – الفارابي: نصوص متنزعة من 50 – 51، بيروت سنة 1971. (*)
[ 230 ]
الإنسان في عمره ” (1) وهذان المعنيان يستبدل بهما الآن: – العيان العقلي. – والعيان التجريبي. وجاء في (المعجم الفلسفي – مجمع اللغة العربية): ” قسم العقل من قديم إلى: – نظري: ينصب على الإدراك والمعرفة. – وعملي: ينصب على الأخلاق والسلوك “. وعزز كانط هذه التفرقة بكتابية (نقد العقل النظري) و (نقد العقل العملي). ويقول الدكتور بدوي في موسوعته: ” ويشير الفارابي إلى استعمال للفظ (العقل) عند الجدليين، ويقصد بهم المتكلمين من رجال الدين والفقهاء، وذلك حين يقولون: ان هذا يوجبه العقل، أو ينفيه العقل، فانهم يعنون به المشهور في بادئ الرأي عند الجميع، فان بادئ الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يسمونه (العقل) – نصوص منتزعة للفارابي – “. وهذا التقسيم للعقل إلى نظري وعملي، وكذلك التعريف للعقل الذي أشار إليه الفارابي مما سيماشينا في تعرفنا لمفهوم العقل عند الاصوليين. وان كان هذا التقسيم المذكور هو – في واقعه – ليس تقسيما للعقل، وإنما هو تنويع للغاية التي يهدف إليها العقل حال الإدراك أو التفكير، فان كانت هي العلم أو المعرفة فهو نظري لأنه إنطلق ليدرك النظر الذي هو الفكر معرفة أو علما، وان كانت هي العمل سمي بالعملي. فالأمر – هنا – كما يقول القديس توما: ” ان العقل النظري والعقل العملي ليسا ملكتين متمايزتين، وإنما يتميزان بالغاية التي يهدفان إليها ” (2).
(1) – الكتاب نفسه ص 54 – 55. (2) – موسوعة الفلسفة لبدوي 2 / 73 مادة العقل. (*)
[ 231 ]
وقد استمر هذا المفهوم الفلسفي القديم للعقل سائدا وسيدا في الفكر الفلسفي الشرقي والغربي منذ عهود الإغريق حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حيث حل محله في الفكر الغربي ما أسموه ب (العقل الذاتي) في مقابل المفهوم الفلسفي القديم الذي أطلقوا عليه اسم (العقل الموضوعي). وينصب اهتمام العقل الذاتي على المنفعة الذاتية، ويتحرك في تفكيره داخل إطار تعرف الوسائل أو الأدوات التي تساعد على تحقيق المنفعة الفردية. ومن هنا ربما أطلق عليه اسم (العقل الأداتي) و (العقل النفعي). ” وهذا العقل الأداتي أو الذاتي هو الذي ساد في هذا القرن العشرين، هو الذي قاد اوروبا وامريكا إلى ما حققتاه من تقدم تكنولوجي، وأيضا إلى ما مارستاه من هيمنة واستعمار وسيطرة، مع الإعلاء من شأن الفرد والفردية ” (1). (في اصول الفقه): ان الذي رأيته – في حدود قراءاتي – ان أقدم كتاب سني، تناول تعداد أدلة الفقه هو كتاب (الام) للإمام الشافعي (ت 204 ه)، فقد جاء فيه: ” العلم طبقات شتى: الاولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت. ثم الثانية: الإجماع فيما ليس في كتاب ولا سنة. والثالثة: أن يقول بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قولا ولا نعلم له مخالفا منهم. والرابعة: اختلاف أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك.
(1) – محمد عابد الجابري (مفاهيم في الفكر المعاصر: العقل الموضوعي والعقل الذاتي) – جريدة الشرق الأوسط – لندن العدد 6628 في 20 / 1 / 1990 م ص 10. (*)
[ 232 ]
والخامسة: القياس. ولا يصار إلى شئ غير الكتاب والسنة وهما موجودان ” (1). ثم ربعها أبو علي الشاشي (ت 244 ه) في اصوله (2) حيث قال: ” ان اصول الفقه أربعة: – كتاب الله تعالى. – وسنة رسوله. – وإجماع الامة. – والقياس ” (3). واشتهر هذا التربيع الاصولي عند جمهور فقهاء أهل السنة متقدمين ومتأخرين، باستثناء بعض علمائهم الذين وضعوا (العقل) موضع (القياس)، وهم: – أبو حامد الغزالي الشافعي (ت 505 ه). – أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي (ت 510 ه). – ابن قدامة المقدسي الحنبلي (ت 620 ه). – الشريف التلمساني المالكي (ت 771 ه). جاء في (المستصفى) للغزالي – 1 / 100 ط 1، بولاق 1322 ه -:
(1) – الدكتور عبد العظيم الديب (العقل عند الاصوليين) – حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة قطر، العدد الخامس 1407 ه – 1987 م. نقلا عن كتاب (الام 7 / 246) – دار الشعب بالقاهرة 1388 ه – 1968 م. (2) – أصول الشاشي ص 13 نشر دار الكتاب العربي – بيروت 1402 ه – 1982 م. (3) – م. ن. (*)
[ 233 ]
” القطب الثاني في أدلة الأحكام، وهي أربعة: – الكتاب. – والسنة. – والإجماع. – ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي “. وأقدم كتاب شيعي تناول الأدلة بالتعداد هو كتاب (اصول الفقه) للشيخ المفيد (ت 413 ه) برواية الشيخ أبي الفتح الكراجكي (ت 439 ه) – ص 18 ط مركز الدراسات والبحوث العلمية العالمية 1408 ه – 1988 م – فقد جاء فيه: ” إعلم أن اصول أحكام الشريعة ثلاثة أشياء: – كتاب الله سبحانه. – وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). – وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده “. ” والطرق الموصلة إلى علم المشروع في هذه الاصول ثلاثة: أحدها: العقل: وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار. والثاني: اللسان: وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام. وثالثها: الأخبار: وهي السبيل إلى إثبات أعيان الاصول من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة “. وكتاب الشيخ المفيد في اصول الفقه هو أقدم كتاب اصولي شيعي، في حدود إطلاعي.
[ 234 ]
ومن بعده كان كتابا (الذريعة) للسيد المرتضى (436 ه). و (العدة) للشيخ الطوسي (ت 460 ه). وهما ككتاب المفيد لم يذكرا أو يتعرضا لدليل العقل كمصدر تشريع ودليل فقه. وأقدم من ربع الأدلة من هؤلاء العلماء الرواد هو السيد المرتضى، ولكن ليس في كتابه الاصولي (الذريعة)، وإنما في (جوابات المسائل الموصليات الثالثة) – المنشورة ضمن (رسائل الشريف المرتضى) (1) فقد جاء فيها: ” فان قيل: ما تقولون في مسألة شرعية اختلف فيها قول الإمامية، ولم يكن عليها دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها، كيف الطريق إلى الحق فيها ؟. قلنا: هذا الذي فرضتموه قد أمنا وقوعه، لأنا قد علمنا ان الله تعالى لا يخلي المكلف من حجة وطريق إلى العلم بما كلف. وهذه الحادثة التي ذكرتموها، وان كان لله تعالى فيها حكم شرعي، واختلفت الإمامية في وقتنا هذا فيها، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي نتيقن بأن الحجة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم، فلابد من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع من كتاب الله أو سنة مقطوع بها. حتى لا يفوت المكلف طريق العلم الذي يصل به إلى تكليفه. اللهم، إلا أن يقال: انا نفرض وجود حادثة ليس للإمامية فيها قول على سبيل اتفاق أو اختلاف، فقد يجوز عندنا في مثل ذلك ان اتفق أن لا يكون لله تعالى فيها حكم شرعي، فإذا لم نجد في الأدلة الموجبة للعلم طريقا إلى علم حكم هذه الحادثة، كنا فيها على ما يوجب العقل وحكمه “.
(1) – رسائل الشريف المرتضى 1 / 210. (*)
[ 235 ]
ومن بعده نقف على تصريح الشيخ ابن إدريس الحلي (ت 598 ه) في مقدمة كتابه الفقهي الموسوم ب (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي) (1) الذي تمثل في قوله: ” فان الحق لا يعدو أربع طرق: – إما كتاب الله سبحانه. – أو سنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) المتواترة المتفق عليها. – أو الإجماع. – أو دليل العقل. فإذا فقدت الثلاثة (يعني الكتاب والسنة والإجماع) فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسك بدليل العقل فيها، فانها مبقاة عليه وموكولة إليه. فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه. فيجب الإعتماد عليها والتمسك بها، فمن تنكب عنها عسف، وخبط خبط عشواء، وفارق قوله من المذهب. والله تعالى يمدكم وإيانا بالتوفيق والتسديد، ويحسن معونتنا على طلب الحق وإثارته، ورفض الباطل وإبادته “. ثم نقرأ صدى التربيع المذكور في رسالة (طريق استنباط الأحكام) للمحقق الكركي (ت 940 ه) واضحا حيث يقول: ” الطرق الموصلة إلى الأحكام – عندنا – أربعة: – الكتاب.
(1) – السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 1 / 46. (*)
[ 236 ]
– والسنة متواترة وآحادا. – والإجماع. – وأدلة العقل “. ثم شاع هذا التربيع واشتهر بين اصوليي الإمامية، وبخاصة متأخري المتأخرين منهم. محور البحث: والمهم في المسألة الوقوف على التالي: – ما هو المراد بالعقل عند الاصوليين ؟ – وما هو مجال ومدى الرجوع إليه في الأحكام الشرعية الفرعية ؟ يقول استاذنا المظفر في (اصول الفقه): ” إن علماءنا الاصوليين من المتقدمين حصروا الأدلة على الأحكام الشرعية في الأربعة المعروفة التي رابعها الدليل العقلي “. و ” لم يظهر لي بالضبط ما كان يقصد المتقدمون من علمائنا بالدليل العقلي، حتى ان الكثير منهم لم يذكره من الأدلة، أو لم يفسره، أو فسره بما لا يصلح أن يكون دليلا في قبال الكتاب والسنة “. ” وأول من وجدته من الاصوليين يصرح بالدليل العقلي الشيخ ابن إدريس المتوفى 598، فقال في السرائر – ص 2 -: ” فإذا فقدت الثلاثة – يعني الكتاب والسنة والإجماع – فالمعتمد عند المحققين التمسك بدليل العقل فيها “، ولكنه لم يذكر المراد منه. ثم يأتي المحقق الحلي المتوفى 676، فيشرح المراد منه، فيقول في كتابه
[ 237 ]
(المعتبر) (1) بما ملخصه: ” وأما الدليل العقلي فقسمان: أحدهما: ما يتوقف فيه على الخطاب، وهو ثلاثة: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب. وثانيهما: ما ينفرد العقل بالدلالة عليه ويحصره في وجوه الحسن والقبح، بما لا يخلو من المناقشة في أمثلته. ويزيد عليه الشهيد الأول المتوفى 786 في مقدمة كتابه (الذكرى) فيجعل القسم الأول ما يشمل الأنواع الثلاثة التي ذكرها المحقق، وثلاثة اخرى، وهي: ” مقدمة الواجب، ومسألة الضد، وأصل الإباحة في المنافع، والحرمة في المضار ” ويجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقق وأربعة اخرى، وهي: ” البراءة الأصلية، وما لا دليل عليه، والأخذ بالأقل عند الترديد بينه وبين الأكثر، والاستصحاب “. ومن بعد الشهيد الأول نقرأ في رسالة (طرق استنباط الأحكام) للمحقق الكركي قوله: ” وأما أدلة العقل فأقول: اما أدلة المنطوق، ثم تتبعها دلالة مفهوم الموافقة، وبعدها مفهوم المخالفة، على القول بالعمل بدليل الخطاب. ومنها: البراءة الأصلية، يعتمد عليها ما لم يجد ما ينقل عنها من الأدلة السمعية. ومنها: الاستصحاب – على القول بحجيته والتمسك بالبراءة – فانه يستصحب الحال الأول ما لم يجد من الأدلة ما تحيل عنه. ومنها: اتحاد طريق المسألتين، وهو فرع من فروع الاستصحاب، يخالفه في بعض الأحكام (كما هو) مقرر في الاصول.
(1) – المعتبر ص 6. (*)
[ 238 ]
ومنها: تعدية الحكم من المنطوق إلى المسكوت الذي هو (القياس)، وقد وقع فيه الخلاف “. ومن المنقولات المذكورة في أعلاه عن المحققين الحلي والكركي والشهيد الأول ” يظهر أنه لم تتجل فكرة الدليل العقلي في تلك العصور، فوسعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظية مثل لحن الخطاب، وهو أن تدل قرينة عقلية على حذف لفظ، وفحوى الخطاب، ويعنون به مفهوم الموافقة، ودليل الخطاب ويعنون به مفهوم المخالفة. وهذه كلها تدخل في حجية الظهور، ولا علاقة لها بدليل العقل المقابل للكتاب والسنة. وكذلك الاستصحاب، فانه أصل عملي قائم برأسه، كما بحثه المتقدمون في مقابل دليل العقل ” (1). ثم يقول شيخنا المظفر: ” وكيفما كان، فالذي يصلح أن يكون مرادا من الدليل العقلي المقابل للكتاب والسنة هو: – كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي. وبعبارة ثانية هو: – كل قضية عقلية يتوصل بها إلى العلم القطعي بالحكم الشرعي. وقد صرح بهذا المعنى جماعة من المحققين المتأخرين ” (2). وقالوا إن إيضاح التعريف المذكور يتطلب الرجوع إلى ما ذكر في تعريف العقل علميا وفلسفيا من تقسيمه إلى نظري وعملي لمعرفة أن المراد بالعقل – هنا – العقل النظري.
(1) – اصول المظفر 2 / 109. (2) – م. س 2 / 11. (*)
[ 239 ]
غير أن الواقع أننا لا نحتاج – هنا – لننص على أن المراد بالعقل العقل النظري لأن التقسيم – كما قدمنا – ليس للعقل – وإنما هو للغاية التي يهدف إليها العقل أثناء عملية الإدراك أو التفكير، ومن الواضح أن الغاية هنا هي المعرفة، فالمجال مجال النظر. والمسلمون جميعا متفقون على أن الحكم لله تعالى، وأنه وحده الذي له حق التشريع – كما تقدم. وعليه: فالعقل – هنا – ليس له القدرة على جعل الحكم. كما أن ليس له القدرة على الاستقلال بنفسه لإدراك الأحكام الشرعية ” لأن أحكام الله توقيفية فلا يمكن العلم بها إلا من طريق السماع من مبلغ الأحكام المنصوب من قبله تعالى لتبليغها، ضرورة أن أحكام الله ليست من القضايا الأولية، وليست مما تنالها المشاهدة بالبصر ونحوه من الحواس الظاهرة بل الباطنة، وليست أيضا مما تنالها التجربة والحدس، وإذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من غير طريق السماع من مبلغها، وشأنها في ذلك شأن سائر المجعولات التي يضعها البشر كاللغات والخطوط والرموز ونحوها. وكذلك ملاكات الأحكام كنفس الأحكام، لا يمكن العلم بها إلا من طريق السماع من مبلغ الأحكام، لأنه ليس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف بها أسرار أحكام الله وملاكاتها التي انيطت بها الأحكام عنده، والظن لا يغني عن الحق شيئا ” (1). ونخلص من هذا كله إلى أن المقصود من دليل العقل هنا ما يلي: 1 – قدرة العقل على كشف الملازمة بين الحكم العقلي أو الحكم الشرعي
(1) – م. س 111 – 112. (*)
[ 240 ]
وحكم شرعي آخر. ويجري هذا في الموضوعات الاصولية التالية: – الإجزاء. – مقدمة الواجب. – مسألة الضد. – إجتماع الأمر والنهي. – دلالة النهي على الفساد. وهي التي تعنون بالملازمات العقلية غير المستقلة. ويتم كشف العقل للملازمة بأحد طريقين: أ – إما بالبداهة: وذلك لأن القضايا التي يكشف عنها العقل في الملازمات المذكورة هي من نوع الأوليات والفطريات التي قياساتها معها. ب – وأما عن طريق الاكتساب. لقضايا تنتهي إلى الأوليات والفطريات. والأوليات أو القضايا الأولية: هي التي ” يصدق العقل بها من غير توقف على أمر خارج عن تعقل مفرداتها، كالعلم بأن الواحد أقل من الإثنين ونحوه ” (1). والفطريات أو القضايا الفطرية: هي ” عبارة عما أوجب التصديق بها قياس حده الأوسط معلوم بالبديهة، كالتصديق بزوجية الأربعة لعلمنا بكونها منقسمة بمتساويين، وأن كل منقسم بمتساويين زوج ” (2). وكلا النوعين من هذه القضايا (الأوليات والفطريات) هما من البديهيات التي لا
(1) – المبين للآمدي 91. (2) – م. ن. (*)
[ 241 ]
تحتاج في إثباتها إلى قضايا أبسط منها، ذلك أن مثل هذه المعارف البديهية يجدها الإنسان في نفسه من غير إعمال للفكر ولا علم بسببها، فهي من الامور المسلم بها. 2 – قدرة العقل على الكشف عن لزوم تقديم الأهم على المهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه حكم الأهم عند الله. 4 – قدرة العقل على الكشف عن وجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة (1).. والآراء المحمودة – كما يعرفها الآمدي في (المبين) – هي القضايا المشهورات التي يوجب التصديق بها اتفاق الكافة عليها كحسن الشكر وقبح الكفر. (يعني الكفران). أو هي – كما يعرفها شيخنا المظفر – القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء كافة بما هم عقلاء. وفي النهاية: أن جميع الموضوعات أو المسائل التي ذكرت هي مسائل اصولية، احفظ هذا وانتظر ما يأتي. حجية العقل: ترجع حجية العقل إلى أن النتائج التي ينتهي إليها العقل في كشوفاته المذكورة في أعلاه هي بديهية أو ترجع إلى البديهية، وهذا يعني انها يقينية، أو قل هي قطعية – كما يعبر الاصوليون – وليس وراء اليقين أو القطع حجة، لأن حجيته نابعة من ذاته، وإليه ترجع جميع الحجج.
(1) – انظر: اصول الفقه للمظفر 2 / 11 – 112. (*)
[ 242 ]
التطبيق: يتمثل مجال تطبيق النتائج العقلية – سواء كانت من الملازمات العقلية غير المستقلة أو الاصول العملية أو التزاحم يتمثل في القواعد الكلية المستفادة منها، وتطبيقها على مواردها العملية في سلوكات المكلفين. ومن هذه القواعد – على سبيل التمثيل – قاعدة: (كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). فاننا نستفيد من هذه القاعدة في تطبيقها على مقدمات الواجب التي يتوقف أداء الواجب على تحصيلها، ولم يرد في وجوبها نص شرعي أو إجماع كاشف. فبتطبيق هذه القاعدة على المورد نكتشف من حكم العقل بالملازمة هنا حكم الشارع بوجوب مثل هذه المقدمة.. وهكذا. هذا ما يرمي إليه الاصوليون. التعليق: ولكن لنا أن نعلق على هذا بالتالي: إن ما أسماه الاصوليون بالملازمات العقلية مستقلة وغير مستقلة هي مما يدركه العقل بالبداهة. والشارع المقدس عندما لم ينص على حكمها بنص لفظي، كان هذا منه اعتمادا على أنها من البديهيات العقلية وإحالة إلى العقل في فهم حكمها. وفي ما يعرف بالاصول العملية، عندما نستصحب – مثلا – الحالة السابقة عند الشك في بقائها وعدمه، فانها من الظواهر الاجتماعية العامة التي اصطلح عليها بسيرة العقلاء، وهي مما يعرفه الإنسان بأدنى تفاعل مع ما حوله من قضايا حياتية. وعليه: لا ضرورة لاعتبار العقل دليلا فقهيا.. وأيضا لأن العقل – هنا – هو دليل
[ 243 ]
على القاعدة الاصولية التي تسهم كمقدمة كبرى في قياس استنباط الحكم، وليس هو دليلا على الحكم بشكل مباشر، فلا يساوق في طريقة دلالته على الحكم الشرعي طريقة الكتاب والسنة حيث يعطيانا الحكم مباشرة. وكذلك هو دليل على الأصل العملي الذي ينتج الحكم الظاهري أو الوظيفة العملية التي تقوم مقام الحكم الواقعي عند الجهل به، لرفع حيرة المكلف رحمة به ولطفا من المولى تعالى، فهو ليس دليلا على الحكم الظاهري أو الوظيفة العملية بشكل مباشر. وفي ضوئه: نعود فنقول: كما ان الإجماع المدركي لا دليل على اعتباره أصلا فقهيا ومصدر تشريع سوى اتباع المنهج السني في التأليف الاصولي والإجماع الكاشف إن وجد فهو داخل في عنوان السنة لأنه طريق إليها، كذلك العقل لا دليل على اعتباره دليلا فقهيا سوى السبب المذكور في اعتبار الإجماع. لهذا: تنحصر أدلة الفقه – عندنا – في الكتاب والسنة. وفيهما – أعني الكتاب والسنة – وفاء واف لتغطية كل احتياجات الفقيه في مجال الاستنباط. ودل على هذا: الروايات وتجارب الفقهاء. اما الروايات فمنها: – عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما من شئ إلا وفيه كتاب وسنة). – عن الإمام الكاظم (عليه السلام): انه قيل له: أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه ؟ قال: (بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه). – في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يصف فيه (الجامعة) التي تضم أحكام
[ 244 ]
الشريعة، يقول: (فيها كل حلال وحرام وكل شئ يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش). – عن سماعة عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: سألته فقلت: إن اناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك، وسمعوا منهما الحديث، فربما كان الشئ يبتلي به بعض أصحابنا، وليس عندهم في ذلك شئ يفتيه، وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس ؟ فقال: لا، إنما هلك من كان قبلكم بالقياس. فقلت له: لم تقول ذلك ؟ فقال: (إنه ليس شئ إلا وقد جاء في الكتاب والسنة). ومن نتائج تجارب الفقهاء: – ما جاء في كتاب (مسائل وردود) – طبقا لفتاوي استاذنا السيد الخوئي (ت 1413 ه) (1) تحت عنوان (مسائل في التقليد). ” مسألة (4): هل اعتمدتم في فتوى من فتاواكم أو مسألة من مسائلكم على دليل العقل فحسب ؟ بسمه تعالى: لا ريب في أن الأحكام الشرعية مجعولة طبق المصالح والمفاسد الواقعية، وليست مجعولة جزافا، إلا أن عقولنا القاصرة لما لم يسعها أن تدرك تلك المقتضيات، ودين الله لا يصاب بالعقول، فلأجله يتعين علينا أن نتعبد بالأدلة الشرعية السمعية من الكتاب والسنة. نعم، قد يدرك العقل البشري امورا ضرورية واضحة لا يعتريها أي شك أو
(1) – من إعداد محمد جواد رضي الشهابي ط 2. (*)
[ 245 ]
شبهة كحسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان، لكن الظاهر ان كل ما هو من هذا القبيل قد ورد فيه شاهد ومعاضد من الأدلة السمعية. وهناك أحكام عقلية اخر يستفاد منها في بعض المباني الاصولية والقواعد العامة الاستنباطية في بعض أبواب علم الاصول كباب اجتماع الأمر والنهي وغيره، لكنها – أيضا – تنتهي إلى قضايا عقلية ضرورية كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدين وأمثالهما والله العالم. مسألة (5): هل للإجماع حجية أم لا ؟ وهل هو من الكتاب والسنة أم لا ؟ بسمه تعالى: لا حجية في قول غير المعصوم واحدا أو جماعة، إلا أن يكون الاتفاق كاشفا قطعيا عن دخول المعصوم في جملتهم أو بموافقة قوله قولهم قطعيا، فحينئذ يدخل في السنة، والله العالم “. ويقول استاذنا الشهيد الصدر (ت 1400 ه) في مقدمة رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) (1): ” واما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في انه هل يسوغ العمل به أو لا ؟ فنحن وإن كنا نؤمن بانه يسوغ العمل به، لكنا لم نجد حكما واحدا يتوقف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت – في نفس الوقت – بكتاب أو سنة. وأما ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنة، ولا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات للسنة في بعض الحالات.
(1) – الفتاوى الواضحة ص 15. (*)
[ 246 ]
وهكذا كان المصدران الوحيدان هما: كتاب الله والسنة “.
[ 247 ]
تقسيمات أدلة الفقه يقسم الدليل الفقهي بأكثر من تقسيم ولاعتبارات مختلفة، وأهم هذه التقسيمات هي: (التقسيم الأول): يقسم الدليل الفقهي باعتبار نوعيته إلى: نقلي وعقلي. 1 – الدليل النقلي: هو ما كان نصا لفظيا – أي كلاما – وطريقنا إليه السماع أو النقل. ويسمى الدليل اللفظي لأنه نصوص لفظية، والدليل السمعي لأنه يتلقى عن طريق السماع والدليل النقلي لأنه يصل إلينا عن طريق النقل. ويشمل هذا الدليل الكتاب والسنة. 2 – الدليل العقلي: وهو كل دليل فقهي غير لفظي. ويشمل هذا: الإجماع ودليل العقل بنوعيه: الفطري وسيرة العقلاء. ويسمى – أيضا – بالدليل اللبي، نسبة إلى اللب الذي هو العقل. (التقسيم الثاني): ويقسم الدليل الفقهي باعتبار مدى قدرته على إفادة الحكم إلى: مؤسس وكاشف.
[ 248 ]
1 – الدليل المؤسس: ويسمونه الدليل التأسيسي، وهو الذي يفيد الحكم بنفسه. ويختص هذا بالكتاب والسنة. 2 – الدليل الكاشف: وهو الدليل الذي لا يفيد الحكم بنفسه، وإنما يقوم بوظيفة الكشف عنه. ويختص بالإجماع ودليل العقل. (التقسيم الثالث): ويقسم الدليل الفقهي باعتبار النتيجة التي يعطيها: أو قل: باعتبار مستوى إيمان المستدل بالنتيجة التي يوصله الدليل إليها، إلى قسمين: هما: القطعي والظني. 1 – الدليل القطعي: هو الذي يفيدنا نتيجة يقينية مقطوعا بها. وسمي بذلك نسبة إلى القطع بمعنى اليقين، وهو الإيمان أو الاعتقاد القاطع، أي النافي لكمل احتمال مقابل له. 2 – الدليل الظني: هو الذي يفيدنا نتيجة راجحة الاحتمال، أي مظنونة. وقد انصبت دراسة الاصوليين لهذين النوعين من الدليل على الدليل اللفظي: الكتاب والسنة. وبحثوا فيه من ناحية الدلالة، أكثر من دراستهم للسند وبخاصة سند الحديث لأن ذلك من شؤون ووظائف علم الدراية. والنتائج في دراسة السند هي:
[ 249 ]
أ – ان سند القرآن الكريم يقيني، لأن المسلمين يؤمنون وعلى نحو اليقين، وبالضرورة لتواتر دليل الإعجاز القرآني ولقيامه بذات القرآن متحديا البلغاء باسلوبه البياني، يؤمنون بان القرآن صادر من الله تعالى. ب – أما بالنسبة للسنة الشريفة فقد قسموا الحديث المروي إلى: – قطعي الصدور من المعصوم، ونوعوه إلى نوعين: هما: الحديث المتواتر. وخبر الآحاد المقترن بما يفيد القطع بصدوره عن المعصوم. – ظني الصدور من المعصوم: وهو خبر الواحد الذي لم يقترن بما يفيد القطع بصدوره عن المعصوم. وهنا تساءل الاصوليون عن حجية القطع وحجية الظن ليثبتوا عن طريق الإجابة عن هذا التساؤل شرعية العمل بهما والاعتماد عليهما في مجالي الاستنباط والتطبيق. وعالجوا هذين الموضوعين تحت عنواني (القطع) و (الظن). وسنكون معهما أيضا:
[ 250 ]
القطع تعريفه: القطع من المصطلحات الاصولية الخاصة بعلم اصول الفقه وكلمة القطع في لغتنا العربية لا تفيد المعنى الذي يقصده الاصوليون منها، إلا إذا أخذت الكلمة بمعنى (الجزم)، الذي هو نتيجة العلم بالشئ. والجزم هو الحالة النفسية التي تحصل للإنسان بعد العلم بالشئ، وهي تعني الإعتقاد القاطع لكل احتمالات الخلاف. ولتوضيح هذا ببيان أجلى نقول: عندنا – هنا – ثلاثة مفاهيم مترتبة فيما بينها، هي: العلم + المعلومة + الجزم. ونقصد: بالعلم: الإدراك. وبالمعلومة: الفكرة التي تحصل في الذهن بعد الإدراك. وبالجزم: الحالة النفسية التي تعبر عن مستوى الإعتقاد بتلك المعلومة. وللتوضيح بالمثال نقول: إذا كان الدليل الذي يتعامل معه الفقيه في مجال استنباط الحكم منه – آية كان أو رواية – نصا في معناه، نقول عنه انه قطعي الدلالة، وذلك لأن الفقيه يستنبط منه حكما يفيده الجزم به.
[ 251 ]
فعملية الاستنباط هي العلم (الإدراك). والحكم الذي استفاده الفقيه من النص هو المعلومة. والحالة النفسية التي حصلت للفقيه بعد حصول المعلومة لديه هي الجزم. ومثله الاعتقادات القاطعة التي تحصل للمكلفين في مجال التطبيق. ومنها: ما لو رأى المكلف ماء، واعتقد – لسبب أو آخر – انه بول. فرؤية الماء هي العلم (الإدراك). والصورة المرتسمة في ذهنه للماء بعد رؤيته له هي المعلومة. واعتقاده القاطع بانه بول هو الجزم. فأي هذه الثلاثة (العلم، المعلومة، الجزم) هو القطع في إصطلاح الاصوليين ؟ الذي يظهر من عبائر القوم: أن القطع هو الجزم، وبما يعم اليقين والجهل المركب. وسموه بالقطع لأنه يقطع كل احتمالات الخلاف، أي ينفيها. ومع الجزم أو القطع يعتقد الإنسان الجازم أو القاطع بأن معلومته التي أفادها من عملية الإدراك الذي هو العلم هي مطابقة للواقع، سواء هي في الحقيقة مطابقة للواقع أم في اعتقاده هي كذلك. ولكنهم قد يعبرون عن هذا الجزم بالقطع، وهو الأكثر. وقد يطلقون عليه اسم العلم، وهو كثير. وقد يقولون اليقين أو الجزم وهو قليل. فان كانت المعلومة – حقيقة – مطابقة للواقع، فهو ما يسمى باليقين. وان كانت غير مطابقة للواقع، وإنما ذلك في اعتقاد الإنسان الجازم أو القاطع فقط فهو ما يعرف بالجهل المركب. وكلاهما – أعني اليقين والجهل المركب – يطلق عليه اسم الجزم.
[ 252 ]
يقول استاذنا المظفر في هامش كتابه الاصولي تعليقا على عبارة الشيخ الأنصاري في أول مبحث القطع من (الرسائل) وهي قوله: ” لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ” يقول: ” مما يجب التنبيه عليه: أن المراد من العلم – هنا – هو (القطع) أي الجزم الذي لا يحتمل الخلاف. ولا يعتبر فيه أن يكون مطابقا للواقع في نفسه، وان كان في نظر القاطع لا يراه إلا مطابقا للواقع. فالقطع الذي هو حجة تجب متابعته أعم من اليقين والجهل المركب يعني أن المبحوث عنه هنا هو العلم من جهة انه جزم لا يحتمل الخلاف عند القاطع “. مشروعيته: هنا وتحت عنوان (حجية القطع) تعاملوا مع القطع على أنه العلم وليس الجزم. ونتبين هذا من تعابيرهم في هذا البحث، فمثلا عبارة الشيخ الأنصاري المارة الذكر: ” لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا ” تفيد ان مراده من القطع الجزم. ثم عندما يكمل العبارة بالتعليل التالي: ” لأنه بنفسه (يعني القطع) طريق إلى الواقع ” – ونحن نعلم ان المراد ب (الواقع) – هنا – هو الحكم – يكون المقصود من القطع وكونه طريقا إليه هو العلم. وكذلك في عبارة (مصباح الاصول) للسيد الواعظ، وهي: ” وبالجملة: القطع بالحكم ليس إلا إنكشاف الحكم بنفسه) فان المفهوم منها إرادة العلم لأنه هو الذي ينطبق عليه انه إنكشاف، أما الجزم فلأنه حالة نفسية (اعتقاد) لا يصدق عليه انه انكشاف. وكذلك عبارة استاذنا المظفر: ” ان القطع حقيقته إنكشاف الواقع، لأنه حقيقة
[ 253 ]
نورية محضة لا غطش فيها، ولا احتمال للخطأ يرافقها. فالعلم نور لذاته، نور لغيره، فذاته نفس الإنكشاف، لا انه شئ له الإنكشاف “. فانها – أعني العبارة – واضحة في إرادة العلم من القطع لا الجزم. والعلم هو الذي يورث اليقين نفسيا، ذلك أن الجزم إذا كان جهلا مركبا لا نستطيع أن نقول فيه: لا غطش فيه، ولا احتمال للخطأ يرافقه. وهذا يعني أننا – هنا – في محاولة تعرفنا لمشروعية القطع نتعامل معه على انه العلم الذي يفيد اليقين لا الجزم الذي هو أعم منه. وهي – كما ترى – مفارقة منهجية. ومع هذا قالوا: لأن العلم إنكشاف الواقع، وإنكشاف الواقع يعني الوقوف على حقيقة الشئ، وليس وراء إكتشاف الحقيقة شئ آخر نطالب بالبحث عنه. ولأن مثل هذا الإكتشاف يورثنا اليقين نفسيا، وليس وراء اليقين شئ آخر نطالب بالبحث عنه لأن اليقين أعلى مراتب الاعتقاد. تكون حجية العلم قائمة بذاته ونابعة منها، فلا يفتقر إلى جعل مشروعيته واعتبار شرعيته بالتماسها من الشرع، لأن التماس الشرعية إنما يكون لما هو ليس حجة بذاته كالظن. ولكن هذا – في الواقع – لا يرفع المفارقة المنهجية التي أشرت إليها، لأن مفهوم القطع – من ناحية منهجية – يتطلب منا أن نتعامل معه على انه علم، حقيقته إنكشاف الواقع، وأثره النفسي هو اليقين، أو نتعامل معه على انه جزم فان تعلق بمعلومة أصابت الواقع فهو يقين نابع من علم، وان تعلق بمعلومة أخطأت الواقع فهو جزم نابع من جهل.
[ 254 ]
وعليه: فان أخذنا بمفهوم أن القطع هو العلم الذي لابد فيه من إصابة الواقع لأنه إنكشاف له، ولابد فيه من أن تكون الحالة النفسية التي يورثها هي اليقين، فان علينا – دائما – أن نعرف القطع بأنه العلم اليقيني. وان أخذنا بمفهوم ان القطع هو الجزم لا نستطيع أن نعطيه صفة الكشف عن الواقع دائما لأنه قد يكون جهلامركبا. ولم يقتصر هذا الاضطراب في مفهوم القطع على هذين الموضعين: التعريف والحجية، بل سار في سائر مواضعه الاخرى. وفرق أكثرهم بين حجية القطع وباقي الحجج التي هي مجعولة من قبل الشارع المقدس، فقالوا: إن إطلاق الحجة على القطع إنما هو بمعناها اللغوي، اما في سائر الحجج كحجية الأمارة فطبقوا عليها مفهوم الحجة الاصولية التي هي عبارة عن الحد الأوسط في القياس المنطقي الذي يقوم بدور ربط الحد الأكبر بالحد الأصغر فيصير واسطة للعلم بثبوته له، ويحتج به على ثبوته له. وتوضيحا بالمثال: فاننا في مجال العلم نكتفي بتطبيق الحكم على موضوعه بشكل مباشر، أي بدون توسط الأوسط، فنقول – مثلا – في وجوب مقدمة واجب ما بعد علمنا بأنه واجب شرعا !. هذا واجب = وكل واجب تجب مقدمته. ولكننا في مجال الظن الذي لابد فيه من اعتبار الشرع بجعل الحجية له، كالظهورات – مثلا – فانه لا غنى لنا في تطبيق الحكم على موضوعه عن توسط الأوسط، فنقول: صيغة افعل ظاهرة في الوجوب + وكل ظاهر في الوجوب حجة = فصيغة افعل حجة.
[ 255 ]
وأخيرا: الحق ان مشروعية العلم وحجيته لا تحتاج إلى دليل، إذ ليس بعد إدراك الواقع إدراكا يرقى إلى مستوى الإيمان اليقيني به، مجال للمطالبة بالدليل أو البحث عنه، ذلك ان اليقين هو أعلى وآخر مرتبة في مستويات الإيمان بنتائج الدلالات والأدلة. وسوف نتناول في مبحث آت مستويات الإيمان بالدلالة، ومنه نتبين ما ذكرناه بشكل أجلى وأبين. منشؤه: اختلف في اعتبار القطع دليلا يصح الركون إليه، ويلزم بالعمل على وفقه، باختلاف أسباب حصوله لدى القاطع وكالتالي: – فان كان القطع مسببا عن مقدمات شرعية، فصحة الركون إليه ولزوم العمل على وفقه، موضع وفاق الجميع. – وان كان مسببا عن مقدمات عقلية غير بديهية فصحة الركون إليه ولزوم العمل على وفقه هي نقطة الخلاف بينهم. قال الشيخ الأنصاري في (الرسائل): ” ينسب إلى غير واحد من أصحابنا الإخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية الغير الضرورية، لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها، فلا يمكن الركون إلى شئ منها “. ومثار المسألة – كما يبدو من عبارة الشيخ – هو فيما إذا كان القطع مخالفا للواقع. والتساؤل الذي هو محور البحث: هل يكون القطع المخالف للواقع عاذرا للمكلف – سواء كان مجتهدا في مجال الاستنباط أو عاملا في مجال التطبيق – فلا يؤاخذ بالعقوبة على مخالفته، أو أنه غير عاذر ؟ إننا من ملاحظة أمرين متكاملين، هما:
[ 256 ]
1 – ان النصوص الشرعية وافية في اعطائنا الأحكام الشرعية. 2 – وان الأحكام الشرعية – عبادات كانت أو معاملات – هي توقيفية لا مصدر لها إلا الشرع. لا نقوى على إقرار الإعذار. وبالنسبة إلى الروايات التي استدل بها على لزوم الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) أمثال: – (من دان لله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا). – (ان المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن آتاه من ربه فأخذ به). فانها غير ناظرة إلى ما نحن فيه، وإنما هي – كما أبان الشيخ الأنصاري – لردع الأخذ باجتهاد الرأي والقياس وأمثالهما، ولايضاح ان مصدر السنة الشريفة هم النبي وآله لا سواهم. والحق في المسألة هو ما جاء في مصباح الواعظ: ان ” الخوض في المطالب العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية مرغوب عنه. وعليه: فلا يكون (القاطع) معذورا لو حصل له القطع بالأحكام الشرعية من المقدمات العقلية على تقدير كون قطعه مخالفا للواقع لتقصيره في المقدمات “. تقسيمه: يقسم القطع إلى قسمين: الطريقي والموضوعي. يقول الشيخ الأنصاري في (الرسائل: مبحث القطع): ” وبالجملة فالقطع قد يكون طريقا للحكم، وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم “. والفرق بينهما هو في:
[ 257 ]
ان القطع الموضوعي: هو الذي يؤخذ شرطا في الموضوع لتطبيق الحكم عليه. مثل القطع بغصبية الثوب الذي يراد الصلاة به، فان حرمة الصلاة بالثوب المغصوب مشروطة بالعلم بالغصبية، أو قل مشروطة بالعلم بأن الثوب مغصوب بحيث يصح أن يقال فيه: هذا الثوب معلوم الغصبية أو مقطوع بغصبيته. فهنا أخذ العلم في الموضوع الذي هو الثوب المغصوب شرطا شرعا في تطبيق حكم حرمة الصلاة فيه. أما القطع الطريقي فهو الذي يكون طريقا للحكم أو للموضوع. كما لو قطع الإنسان بأن هذا السائل الذي أمامه بول، فانه هنا يطبق عليه حكم النجاسة و ” لا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه، لأن المفروض انه بمجرد القطع يحصل له صغرى وكبرى، أعني قوله: هذا بول + وكل بول يجب الاجتناب عنه = فهذا يجب الاجتناب عنه ” وذلك ” لأن حكم الشارع بأنه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له ” (1). مجالاته: ومما تقدم نتبين ان ترتيب الآثار العلمية والشرعية على (القطع) كحالة نفسية تحصل للإنسان عند تعامله العلمي أو الشرعي يكون في المجالين التاليين: 1 – مجال الاستنباط: كما لو كانت الآية أو الرواية التي يحاول الفقيه استنباط الحكم منها نصا في معناها فانها تفيد العلم بإرادة مدلولها من قبل المشرع بحيث يجزم الفقيه بذلك، أي انه يقطع به.
(1) – الرسائل: مبحث القطع. (*)
[ 258 ]
أو انه عندما يتعامل مع الآية أو الرواية وهي من نوع الظاهر لا النص، لكنه عن طريق ما يملك من خلفيات ثقافية أو عن طريق ربط الفكرة بالواقع أو لسبب آخر حصل له القطع. وكما في أمثال دعاء كميل فان سنده غير ناهض بإثبات صحة صدوره عن المعصوم، لكن الفقيه من خلال مقارنته اسلوب هذا الدعاء بما يعرفه من خصائص مميزة لأساليب أدعية أهل البيت يحصل له القطع بانه صادر عنهم (عليهم السلام). والأثر العلمي المترتب – هنا – هو افتاء الفقيه على وفق قطعه. 2 – مجال التطبيق: كما رأينا في مثال الثوب المعلوم الغصبية، والسائل المقطوع به بانه بول. فان المكلف – هنا – يرتب الأثر الشرعي وفق قطعه. يقول الشيخ الأنصاري في (الرسائل): ” انه قد عرفت ان القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلة المثبتة لأحكام مقطوعة، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها فيقطع بالنتيجة، فإذا قطع بكون شئ خمرا وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة فيقطع بحرمة ذلك الشئ “. وفي ضوئه: نفهم ان مرادهم من الدليل القطعي الدليل الذي يفيدنا العلم بواقع الشئ بما يحصل لنا اليقين به، فنرتب الأثر العلمي أو الأثر الشرعي وفقا للقطع الذي حصل لنا منه.
[ 259 ]
الظن تعريفه: يقال: ظن الشئ ظنا: علمه بغير يقين. والظن – علميا – هو إدراك الذهن الشئ مع ترجيحه. وعرف في الفلسفة بالاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض. وكذلك عرف – فلسفيا – بأنه أحد طرفي الشك بصفة الرجحان. مشروعيته: للفرق بين القطع والظن لابد من أن يثار السؤال التالي: – هل يجوز الرجوع إلى الأدلة التي تفيدنا الظن باصابتها للواقع ؟ ! وسبب إثارته هو علمنا بحرمة التعبد بالظن من خلال نصوص الكتاب والسنة. فقد جاء في القرآن الكريم: * (ان الظن لا يغني من الحق شيئا) *. * (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) *. * (لا تقف ما ليس لك به علم) *. * (إن يتبعون إلا الظن وان هم إلا يخرصون) *. وجاء في السنة الشريفة: (ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم).
[ 260 ]
(من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه). ومنه علمنا ان الظن يختلف عن القطع في أن حجيته – أعني الظن – ليست بذاتية. ولكونها كذلك فانها تحتاج إلى جعل واعتبار من الشارع، فهل اعتبر الشارع الظن دليلا ؟ وإلى أي مدى توسع في اعتباره ؟ وكذلك استفيد من النصوص الشرعية المذكورة وأمثالها أن الأصل الذي يرجع إليه في حالة الشك في جواز العمل وفق ظن ما وعدمه، هو: حرمة التعبد بالظن الذي لم يدل دليل على جواز التعبد به. ولهذا ذهبوا يلتمسون الأدلة الدالة على جواز التعبد بالظن، ولو ببعض الظنون، ذلك لأن الأصل على أي ظن يشك في أمر التعبد به كاف في إثبات حرمة التعبد به. وقبل البحث عن ذلك لابد من التعرض لتقسيم الظن حسب المصطلح الاصولي لنحدد من خلاله محور البحث في المسألة: تقسيمه: قسم متأخرو الأصوليين الظن إلى: ظن خاص وظن مطلق. – وعرف الظن المطلق بأنه: ” كل ظن قام دليل الإنسداد الكبير على حجيته واعتباره ” (1). أو قل: هو ” الأمارة التي هي حجة في خصوص حالة إنسداد باب العلم
(1) – اصول المظفر 2 / 26. (*)
[ 261 ]
والعلمي، أي إنسداد باب نفس العلم بالأحكام وباب الطرق العلمية المؤدية إليه ” (1). – وعرف الظن الخاص: بأنه ” كل ظن قام دليل قطعي على حجيته واعتباره بخصوصه غير دليل الإنسداد الكبير ” (2). أو قل: هو ” لأمارة التي هي حجة مطلقا حتى مع انفتاح باب العلم ” – م. ن -. ” ويسمى أيضا (الطريق العلمي) نسبة إلى العلم باعتبار قيام العلم على حجيته ” (3). ولابد – هنا – بغية أن يتضح التعريفان جيدا من بيان مرادهم من إنسداد باب العلم بالأحكام الذي هو دليل جواز التعبد بالظن المطلق، أي بكل ظن. مما تقدم عرفنا أن الإنسداد ينقسم إلى كبير وصغير. ومرادهم من الإنسداد الصغير ” إنسداد باب العلم في خصوص الأخبار التي بأيدينا التي نعلم على الإجمال بأن بعضها موصل إلى الواقع ومحصل له، ولا يتميز الموصل إلى الواقع من غيره، مع إنحصار السنة في هذه الأخبار التي بأيدينا. وحينئذ نلتجئ إلى الاكتفاء بما يفيد الظن والاطمئنان من هذه الأخبار، وهذا مانعنيه بخبر الواحد ” (4). ومنه نتعرف أن ” الفرق بين دليل الإنسداد الكبير والصغير: أن الكبير هو إنسداد باب العلم في جميع الأحكام من جهة السنة وغيرها. والصغير هو إنسداد باب العلم بالسنة مع إنفتاح باب العلم في الطرق
(1) – م. ن. (2) – م. ن. (3) – م. ن. (4) – م. س 25 -. (*)
[ 262 ]
الاخرى ” (1). ولكي يكون دليل الإنسداد مثبتا لجواز التعبد بكل ظن لابد له من توافر مقدماته المصطلح عليها عند الاصوليين ب (مقدمات دليل الإنسداد)، فانها متى توافرت حكم العقل بوجوب العمل بما قام عليه الظن في الأحكام. وهذه المقدمات – كما يحررها استاذنا المظفر في كتابه الاصولي (2) هي: المقدمة الاولى: دعوى إنسداد باب العلم والعلمي في معظم أبواب الفقه في عصورنا المتأخرة عن عصر أئمتنا (عليهم السلام). المقدمة الثانية: انه لا يجوز إهمال إمتثال الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا، ولا يجوز طرحها في مقام العمل. المقدمة الثالثة: انه بعد فرض وجوب التعرض للأحكام المعلومة إجمالا فان الأمر لتحصيل فراغ الذمة منها يدور بين حالات أربع: أ – تقليد من يرى إنفتاح باب العلم. ب – الأخذ بالاحتياط في كل مسألة. ج – الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كل مسألة من نحو البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، حسبما يقتضيه حال المسألة. د – الرجوع إلى الظن في كل مسألة فيها ظن بالحكم، وفيما عداها يرجع إلى الاصول العملية. ولا يصح الأخذ بالحالات الثلاث الاولى، فتتعين الرابعة. أما الاولى: وهي تقليد الغير في انفتاح باب العلم فلا يجوز، لأن المفروض ان
(1) – م. ن. (2) – 2 / 27 – 28. (*)
[ 263 ]
المكلف يعتقد بالإنسداد فكيف يصح له الرجوع إلى من يعتقد بخطئه وانه على جهل. وأما الثانية: وهي الأخذ بالاحتياط، فانه يلزم منه العسر والحرج الشديدان، بل يلزم اختلال النظام لو كلف جميع المكلفين بذلك. وأما الثالثة: وهي الأخذ بالأصل الجاري فلا يصح أيضا لوجود العلم الإجمالي بالتكليف، ولا يمكن ملاحظة كل مسألة على حدة غير منضمة إلى غيرها من المسائل الاخرى المجهولة الحكم. والحاصل ان وجود العلم الإجمالي بوجود المحرمات والواجبات في جميع المسائل المشكوكة الحكم يمنع من اجراء أصل البراءة والاستصحاب، ولو في بعضها. المقدمة الرابعة: أنه بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث ينحصر الأمر في الرجوع إلى الحالة الرابعة في المسائل التي يقوم فيها الظن. وفيها يدور الأمر بين الرجوع إلى الطرف الراجح في الظن وبين الرجوع إلى الطرف المرجوح أي الموهوم. ولا شك في أن الأخذ بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا. وعليه: فيتعين الأخذ بالظن ما لم يقطع بعدم جواز الأخذ به كالقياس.. وهو المطلوب. هذا هو ما لخصه شيخنا المظفر من كلام طويل قيل في المسألة. وهو مما أفاده الشيخ الأنصاري في (الرسائل) من أن دليل الإنسداد يتألف من الامور التالية – كما يلخصها (مصباح الاصول):
[ 264 ]
1 – قيام العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية. 2 – عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الشبهات، إما لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج وعدم جواز الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة ولا إلى القرعة ونحوها ولا إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم والعلمي. 4 – استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح. وممن ذهب إلى القول بالإنسداد الشيخ صاحب المعالم، قال – وهو في معرض تقرير أدلة مشروعية خبر الواحد -: ” الرابع: ان باب العلم القطعي بالأحكام الشرعية التي لم تعلم بالضرورة من الدين أو من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في نحو زماننا منسد قطعا، إذ الموجود من أدلتها لا يفيد غير الظن لفقد السنة المتواترة، وإنقطاع طريق الإطلاع على الإجماع غالبا من غير جهة النقل بخبر الواحد، ووضوح كون أصالة البراءة لا تفيد غير الظن، وكون الكتاب ظني الدلالة. وإذا تحقق إنسداد باب العلم في حكم شرعي كان التكليف فيه بالظن قطعا. والعقل قاض بأن الظن إذا كان له جهات متعددة تتفاوت بالقوة والضعف، فالعدول عن القوي منها إلى الضعيف قبيح. ولا ريب أن كثيرا من أخبار الآحاد يحصل بها من الظن ما لا يحصل بشئ من سائر الأدلة فيجب تقديم العمل بها “. وهذه المقدمات – كما تراها – تدور في فلك التقديرات، وكأن أمر الاستنباط والعمل لا وجود له في عالم المسلمين. وهذا – في واقعه – يعني المفارقة في المنهج المتبع في البحث، إذ المطلوب – منهجيا – الإنطلاق في بحث المسألة من الواقع التاريخي للمسألة.
[ 265 ]
والواقع التاريخي المشار إليه يثبت لنا انه لم تصل الحال فيه إلى مشكلة إنسداد باب العلم بالأحكام، ذلك ان الفقهاء منذ عصر ابتداء الغيبة الكبرى كانوا يقومون بالاستنباط على أساس أن باب العلم بالأحكام مفتوح. وهذه اجتهاداتهم ونتائجها من فتاوى وآراء مدونة في كتبهم أمثال (من لا يحضره الفقيه) و (التهذيب) و (الاستبصار) و (المبسوط) ومن بعدها (السرائر)، و (المعتبر) و (المختلف) و (التذكرة) و (المنتهى) و (جامع المقاصد) و (مجمع الفائدة والبرهان) وما بعدها قائمة على أساس من إيمانهم بانفتاح باب العلم. ومن هنا لا نحتاج إلى الإطالة في مناقشة فكرة الإنسداد بالنقد القائم على الاستنتاج الذي يبعد بنا قليلا أو كثيرا عن الواقع القائم للمسألة. وما عليه متأخرو المتأخرين والمعاصرون – وهو امتداد للتاريخ المشار إليه – دليل ذلك. وفي ضوئه: لا نحتاج لأكثر من إثبات صحة العمل بالظنون التي تدخل موادها العلمية في خط الاستنباط بشكل مباشر، وهي ما عرفت – اصوليا – بالظنون المعتبرة المتمثلة في: – خبر الثقة. – ظواهر الألفاظ. – مراد المتكلم. وسنتحدث عنها في حدود ما يرتبط بموضوعنا وهو بيان الدليل الظني.
[ 266 ]
خبر الثقة استخدم غير واحد من الاصوليين هذا العنوان إسما لما يعرف بخبر الواحد. وبغية أن نتبين مقصودهم من هذا المصطلح نتعرف تعريف الخبر لغويا وعلميا، ثم تقسيمه. اما اختياري لهذا العنوان فلأنه يشمل الرأيين المعروفين في المسألة وهما: – لزوم اتصاف الراوي بالعدالة. – الاكتفاء باتصافه بالوثاقة. ذلك أن وصف الثقة – كما سيأتي – يطلق على الراوي الثقة بخاصة وعلى ما يشمله والراوية العادل. وقبل التعريف نحاول إلقاء الضوء على أهمية البحث في موضوع خبر الواحد. أهمية البحث: ترتبط أهمية البحث في خبر الواحد بأهمية الخبر كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي تتمثل فيه السنة الشريفة بأكثر وأوفر مفرداتها، ذلك أن المطلوب من المكلف معرفة الأحكام الشرعية الواقعية التي تحقق له الإمتثال وتؤمنه من العقاب. وباختصار: المطلوب منه العلم بالمؤمن من العقاب. وهذا العلم – من خلال واقعه، ومن خلال التعامل مع أحكام الشريعة لم يتحقق إلا مجالين هما: – العلم الضروري (البديهي): وتحققه في مجال الأحكام الكلية الاجمالية أمثال: وجوب الصلاة ووجوب
[ 267 ]
الصوم. – العلم غير الضروري: وهو متحقق في بعض الأحكام الشرعية التفصيلية، وهي المستفادة من الخبر المقطوع بصدوره، إما لتواتره، وإما لاقترانه بما يفيد القطع بصدوره. والأول إجمالي يفتقر في مجال الامتثال إلى التفصيل. والثاني قليل جدا. فمن هنا تأتي أهمية البحث في خبر الواحد، إذ أن التفصيل ببيان أجزاء وشرائط المأمور به والمنهي عنه لا طريق إليه إلا خبر الواحد. وبإثبات مشروعية خبر الثقة ينسد باب الإنسداد وينفتح ما اصطلح عليه الاصوليون بباب العلمي بالأحكام الشرعية، وهو الظن الذي أجاز الشارع المقدس العمل به، فنزله – بهذا – منزلة العلم. ومن أهم مواده خبر الثقة. تعريف الخبر: – معجميا: في (المصباح المنير): الخبر: اسم ما ينقل ويتحدث به. وفي (لسان العرب): الخبر: ما أتاك من نبأ عمن تستخبر. وعن ابن سيده: الخبر: النبأ. وفي (المعجم الوسيط): الخبر: ما ينقل ويتحدث به قولا أو كتابة. والذي يستخلص هو: ان كلمة (خبر) في التعريفات المذكورة اسم مفعول من (أخبر) المزيد بالهمزة، أو من (خبر) الثلاثي المضعف، يقال: (أخبره بما
[ 268 ]
سمع) و (خبره بما قيل له)، فالكلام المسموع أو المقول مخبر به، وخبر. – وعلميا: فان أقدم تعريفات الخبر، هو التعريف المنطقي، ونصه: الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب لذاته. ويريدون بقيد (لذاته) ” ما يحتملهما – أي الصدق والكذب – بالنظر (له) بنفسه، مع قطع النظر عن قائله، احترازا عن كلام الله والأنبياء ونحوهم، مما لاشك في (صدق) اخباره، فانه لا يحتمل الصدق والكذب، ولكن باعتبار قائله “. ومن علم المنطق امتد هذا التعريف – وربما بشئ قليل جدا من التغيير عند البعض – إلى علم الكلام وعلم اصول الفقه وعلوم البلاغة. وكلهم يريدون به: الكلام التام الغير الإنشائي. ذكرت هذا لأن هذا التعريف المنطقي قد ترك أصداءه تتردد في الدرس الاصولي حتى الآن. فلنستعرض شيئا من التعريفات الاصولية، وشيئا من الملاحظات الموجهة إلى التعريف المنطقي. عرفه – أعني الخبر – السيد المرتضى في (الذريعة) والشيخ الطوسي في (العدة) بأنه: ” ما صح فيه الصدق أو الكذب “. ثم ناقشا التعريف المشتهر في زمنهما، الذي يقول: (الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب)، وهو التعريف المنطقي خلوا من قيد (لذاته)، ناقشاه في استخدامه لواو العطف، بينما الصواب – في رأيهما – هو أن تستخدم (أو) العاطفة، قال السيد: ” الواجب أن يحد الخبر بانه (ما صح فيه الصدق أو الكذب)،
[ 269 ]
لأنه لو حد بما يمضي في الكتب بأنه (ما صح فيه الصدق والكذب) ينتقض بالأخبار التي لا تكون إلا صدقا كقولنا: (إنه تعالى محدث العالم) و (إنه – عالم لنفسه)، و (إن الجهل والكذب قبيحان).. وينتقض أيضا بما لا يكون إلا كذبا كنحو قولنا: (صانع العالم محدث) و (الكذب حسن). وقد حده قوم: (بما احتمل التصديق والتكذيب) فرارا من أن يقول في صادق وكاذب أنهما صدقا أو كذبا “. ونفيد من مناقشة السيد أن التعريف المذكور في الكتب التي أشار إليها لم يقيد بالقيد الاحترازي المتقدم وهو (لذاته). ومعنى ذلك ان هذا القيد جاء متأخرا احترازا عن مثل الإشكال الذي ذكره السيد. وعرفه المحقق الحلي في (المعارج) بقوله: ” الخبر: كلام يفيد بنفسه نسبة أمر إلى أمر نفيا أو إثباتا “. وهو التعريف النحوي لاسلوب الخبر المقابل لاسلوب الإنشاء، ولعل عدوله عن التعريف المنطقي جاء تخلصا من أمثال إشكال السيد المرتضى عليه. وأيا كانت صياغة التعريف فمقصودهم هو بيان أن الخبر هو ما يفيد وقوع شئ أو لا وقوعه. وإلى هذا رمى الذين عرفوا الصدق بأنه الإخبار عن الشئ على ما هو به.. والكذب بأنه الإخبار عن الشئ لا على ما هو به – كما في (المعارج). وبخلافه الإنشاء فانه يفيد طلب الإيقاع أو عدمه. شرطه: واشترط في الكلام ليكون خبرا ان يقصد الإخبار به من قبل المخبر. يقول السيد المرتضى: ” والخبر إنما يصير خبرا بقصد المخبر، لأن الكلام،
[ 270 ]
وان تقدمت المواضعة فيه، فإنما يتعلق بما يفيده بالقصد “. ويقول المحقق: ” ولابد من كون المخبر مريدا حتى تكون الصيغة مستقلة في فائدتها، لأن الصيغة قد توجد غير خبر “. وهذا يرجع إلى ان الجملة الخبرية في اللغة العربية قد تستعمل للإخبار، وقد تستعمل للأنشاء، وقد تستعمل لا إلى هذا، ولا إلى ذاك. والذي يحدد مراد المتكلم هو القصد والإرادة. هذا كله في تعريف مطلق الخبر. تعريف خبر الواحد: اما تعريف خبر الواحد بخصوصه، فقد جاء في (مبادئ الوصول) للعلامة الحلي: ” خبر الواحد: هو ما يفيد الظن، وان تعدد المخبر “. وهو – كما تراه – تعريف بالأثر، وبما هو أعم. وجاء في (المعالم) للعاملي: ” خبر الواحد: هو ما لم يبلغ حد التواتر، سواء كثرت رواته أم قلت “. وفي (التعريفات) للجرجاني: ” خبر الواحد: وهو الحديث الذي يراد به الواحد أو الإثنان فصاعدا ما لم يبلغ الشهرة والتواتر “. وكما هو واضح استعارا – أعني العلامة والجرجاني – هذا التعريف من علم الدراية. ونتبين مقصودهم بشكل أجلى – كما قدمت – من تقسيم الخبر الشرعي، وكالتالي. تقسيم الخبر: ينقسم الخبر الشرعي – على أساس من وفرة رواته وعدمها – إلى قسمين: متواتر وغير متواتر.
[ 271 ]
1 – الخبر المتواتر: هو الذي يرويه جماعة إثر جماعة من المعصوم إلى المنقول إليه، لا يحتمل في حقهم التواطئ على الكذب. أو قل: يؤمن تواطؤهم على الكذب. وتسميته بالمتواتر تدل على ذلك، يقال: (تواترت الأشياء) إذا جاء بعضها في أثر بعض وترا وترا من غير إنقطاع. إلا ان العلماء في مصطلح الحديث استبدلوا وترا وترا التي تعني فردا فردا، فقالوا جماعة جماعة أو جمعا جمعا. والكل متفقون على ان الخبر المتواتر يفيد القطع بصدوره عن المعصوم. 2 – غير المتواتر: وهو الذي يرويه فرد أو جماعة لم يبلغوا به مستوى التواتر المفيد للقطع. وقسموا غير المتواتر – على أساس من اقترانه بما يفيد القطع وعدمه – إلى قسمين: الخبر المقترن والخبر المجرد (غير المقترن). أ – الخبر المقترن: وهو الذي تصحبه قرينة تدل على القطع بصدوره عن المعصوم. ولا خلاف بينهم في القطع بصدوره لدلالة القرينة على ذلك. ب – الخبر غير المقترن: وهو المجرد عن القرينة المفيدة للقطع بالصدور. ان هذا الخبر المجرد لا يتعدى في مستوى دلالته حدود الظن. هذا الخبر المجرد أو غير المقترن هو المقصود هنا، سواء عبروا عنه بخبر الواحد أو خبر الآحاد أو خبر الثقة أو خبر العدل أو الخبر المجرد أو الخبر غير المقترن.
[ 272 ]
دلالة خبر الواحد: ونعني بهذا العنوان ان خبر الواحد هل يفيد القطع أو يفيد الظن. ويلخص الشيخ الطوسي الأقوال في المسألة بقوله: ” اختلف الناس في خبر الواحد: – فحكي عن النظام انه كان يقول: إنه (أي خبر الواحد) يوجب العلم الضروري إذا قارنه سبب. وكان يجوز في الطائفة الكثيرة أن لا يحصل العلم بخبرها. – وحكي عن قوم من أهل الظاهر: انه (أي خبر الواحد) يوجب العلم مطلقا (أي اقترن أو لم يقترن). وربما سموا ذلك علما ظاهرا. وذهب الباقون من العلماء من المتكلمين والفقهاء إلى أنه لا يوجب العلم “. وفيما يبدو أن قول النظام بإفادة خبر الواحد العلم (القطع) إذا اقترن بسبب يفيد ذلك، يعني به الخبر المقترن، وأوضحنا في تقسيم الخبر إلى أن الخبر المقترن خارج عن حريم البحث. يضاف إليه: ان إفادة القطع آتية من القرينة لا من الخبر نفسه. وعليه: لا يعد قول النظام رأيا في مسألتنا لأننا نتحدث عن الخبر المجرد. وبالنسبة إلى رأي بعض أهل الظاهر فقد فسر الشريف المرتضى في (الذريعة) العلم الظاهر بالظن، قال: ” وقال بعضهم إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر، يعني به الظن “. وعليه: يدخل هذا ضمن القول الأخير. وقال في (الذريعة) أيضا: ” وكان النظام يذهب إلى أن العلم يجوز أن يحصل عنده وإن لم يجب، لأنه (يعني العلم) يتبع القرائن والأسباب، ويجعل (أي
[ 273 ]
النظام) العمل تابعا للعلم، فمهما لم يحصل علم فلا عمل “. وهو ما أوضحناه من ان النظام يعني الخبر المقترن. وقد يفهم من قوله (ويجعل العمل تابعا للعلم) أن الخبر المجرد لا يفيد العلم، ومن هنا لا يجوز العمل به. وهذا يدخل – من ناحية منهجية – في موضوع جواز التعبد به وعدمه، لا في موضوع إفادته العلم أو الظن. وقال السيد المرتضى – أيضا -: ” ومن الناس من يقول: إن كل خبر وجب العمل به فلابد من إيجابه العلم، ويجعل العلم تابعا للعمل “. وهذا أيضا ممن قد يستفاد من قوله انه يذهب إلى ان الخبر المجرد لا يفيد إلا الظن. كما قد يستفاد منه ان الخبر المجرد إذا صح التعبد به فلازمه انه يفيد العلم. والذي عليه الرأي الاصولي الإمامي – من خلال ما وصل إلينا من الكتب الاصولية من (الذريعة) و (العدة) وما بعدهما من كتب – ان خبر الواحد متى توافرت فيه شروط قبوله من كون راويه عادلا أو ثقة والخ، يفيد الظن. قال السيد المرتضى: ” اعلم أن الصحيح ان خبر الواحد لا يوجب علما، وإنما يقتضي غلبة الظن لصدقه (أي صدق الراوي) إذا كان عادلا “. وقال الشيخ الطوسي: ” والذي أذهب إليه: أن خبر الواحد لا يوجب العلم، وان كان يجوز أن ترد العبادة (يعني التعبد) بالعمل به عقلا، وقد ورد جواز العمل به في الشرع إلا ان ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة، ويختص بروايته، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها “. وكما ترى، فان استفادة الظن بصدور الخبر عن المعصوم ليس من نفس
[ 274 ]
الخبر، وإنما لأن راويه صادق اما لعدالته واما لوثاقته. فما يدور حوله البحث من إفادة الظن أو القطع، ومن جواز التعبد وعدمه هو (خبر الثقة) أو (خبر العدل) على الخلاف الذي يذكر في علم الدراية. ومن المفيد – هنا – أن نتعرف المراد بالعدل، والمراد بالثقة، لدخول هذين المفهومين عنصرا أساسيا في تحديد خبر الواحد، وتقرير حجيته. (العدل): كلمة (عدل) في الأصل مصدر للفعل (عدل)، يقال: عدل يعدل عدلا وعدالة ومعدلة، ثم استعمل بمعنى اسم الفاعل (عادل) فهو نحو قولنا (زيد علم) أي عالم مبالغ في علمه، إلا ان كلمة (عدل) – هنا – لا تفيد المبالغة، وانما تدل على الاتصاف بالعدالة فقط. والعدالة – لغة تعني الاستقامة في السلوك، وهي كذلك في الشريعة حيث تعني الاستقامة في تطبيق أحكام الشريعة على السلوك. فالعدل: هو الذي يأتمر بأوامر الدين وينتهي بنواهيه. ولا يطلق في الإصطلاح الاصولي الإمامي إلا على الإمامي المتشرع في سلوكه. (الثقة): يراد به في لغة المتشرعة الإنسان الذي يؤتمن على الشئ. وهو كذلك في اللغة الاجتماعية، فقد جاء في (المعجم الوسيط): (وثق بفلان ثقة: إئتمنه)، وفي (المفردات): (وثقت به أثق ثقة: سكنت إليه، واعتمدت عليه.. وقالوا: رجل ثقة، قوم ثقة، ويستعار للموثوق به)، يعني انه من المصادر التي تستعمل أيضا بمعنى اسم المفعول أمثال (خلق) بمعنى (مخلوق)، و (لفظ) بمعنى (ملفوظ)، ففي (المعجم الوسيط): ” الثقة: مصدر، وقد يوصف به،
[ 275 ]
يستوى فيه المفرد والمثنى والجمع بنوعيهما (المذكر والمؤنث)، فيقال: هو وهي وهما وهم وهن ثقة، وقد يجمع في الذكور والإناث على ثقات “. والخلاصة: الثقة هو الصادق. وقد يطلق ويراد به العادل، ولكن الاستعمال الأكثر هو إطلاقه على الصادق القول. أو قل: هو الإنسان الموثوق به. حتى ان اريد بالوثاقة العدالة فهو العدل، وان اريد بها الأمانة فهو الأمين. وهنا فرق أساسي بين العدل والثقة لابد من الإشارة إليه، وهو: ان العدل لابد فيه من أن يكون إماميا. وبخلافه الثقة فقد يكون إماميا وقد يكون غير إمامي. وفي رواتنا من هم إماميون، وهم الأكثر، وفيهم من هم غير إماميين. فمن اشترط العدالة حصر الرواية الشرعية بالإمامية، ومن اكتفى بالوثاقة عمم الرواية الشرعية إلى ما يشمل غير الإمامية ممن هم ثقات. وقوع خبر الواحد: يراد بذلك: هل يوجد في ما تلقاه رواتنا عن أئمتنا، ونقله عنهم من جاء بعدهم ودون في كتب الحديث من مفردات وموسوعات، ما يصطلح عليه بخبر الواحد، وهو الذي لا يفيد إلا الظن بصدوره عن المعصوم ؟ قال صاحب المعالم: ” وهل هو (يعني خبر الواحد) واقع أو لا ؟ خلاف بين الأصحاب: – فذهب جمع من المتقدمين كالسيد المرتضى وأبي المكارم ابن زهرة وابن
[ 276 ]
البراج وابن إدريس إلى الثاني (يعني عدم الوقوع). – وصار جمهور المتأخرين إلى الأول (يعني الوقوع)، وهو الأقرب “. هكذا، ولكن الذي يظهر من الشريف المرتضى ليس نفي وقوع ووجود خبر الواحد في أحاديثنا المروية والمدونة، وإنما نفى ومنع من العمل به والإعتماد عليه في الأحكام الشرعية، قال في (الذريعة): ” اعلم أنا كنا قد دللنا على ان خبر الواحد غير مقبول في الأحكام الشرعية “. وقال في (جوابات المسائل التبانيات): ” فإذا رأينا بعض هؤلاء المصنفين وقد أودع كتابه أشياء من أخبار الآحاد في أحكام الشريعة فلا ينبغي أن نتسرع إلى الحكم بانه أودعها محتجا بها ومستدلا بإيرادها لأنا متى فعلنا ذلك قضينا بالمحتمل الملتبس على ما لا يحتمل ولا يلتبس، وذلك إن إيداع أخبار الآحاد في الكتب المصنفة يمكن أن يكون لوجوه كثيرة ومعان مختلفة، وليس هو خالصا لوجه واحد، فقد صار – كما ترى – محتملا مترددا “. ومن المفيد أن نشير – هنا – إلى أن أجوبة المسائل التبانيات هي من الرسائل العلمية المهمة، وبخاصة في مجال معرفة رأي الشريف المرتضى في مصادر التشريع الإسلامي، وحجية خبر الواحد. وتشتمل هذه الرسالة على عشرة فصول، دار الحوار فيها بين الشريف المرتضى والشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الملك التبان المتوفى سنة 419 ه، وهو من العلماء الفضلاء – كما يبدو من حواره -. ودلل المرتضى في (الذريعة) على رأيه بقوله: ” العمل بالخبر لابد من أن يكون تابعا للعلم بصدق الخبر، أو العلم بوجوب العمل به مع تجويز الكذب. وقد علمنا ان خبر الواحد لا يحصل عنده علم بصدقه لا محالة، فلم يبق إلا أن يكون العمل به تابعا للعلم بالعبادة (التعبد) لوجوب العمل به.
[ 277 ]
وإذا لم نجد دليلا على وجوب العمل به نفيناه “. وقال في (جوابات المسائل الموصليات الثالثة): ” وإنما منعنا من العمل بالقياس في الشريعة وأخبار الآحاد – مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول – لأن الله تعالى ما تعبد بهما، ولا نصب دليلا عليهما. فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما ونفينا كونهما طريقين إلى التحريم والتحليل “. وأبان في نفس الجوابات المذكورة عن مبدئه في تحديد مصادر الشريعة ثم ذكرها تفصيلا فقال: ” وإذا صح ما ذكرناه فلابد لنا فيما نثبته من الأحكام فيما نذهب إليه من ضروب العبادات من طريق توجب العلم وتقتضي اليقين. وطرق العلم في الشرعيات هي: الأقوال التي قد قطع الدليل على صحتها، وأمن العقل من وقوعها على شئ من جهات القبح كلها. كقوله تعالى وكقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الذين يجرون مجراه (عليه السلام). ولابد لنا من طريق إلى إضافة الخطاب إلى الله تعالى إذا كان خطابا له، وكذلك في إضافته إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة (عليهم السلام). وقد سلك قوم في إضافة خطابه إليه طرقا غير مرضية، فأصحها وأبعدها من الشبهة أن يشهد الرسول المؤيد بالمعجزات في بعض الكلام انه كلام الله تعالى فيعلم بشهادته انه كلامه كما فعل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن، فعلمنا بإضافته إلى ربه انه كلامه، فصار جميع القرآن دالا على الأحكام وطريقا إلى العلم. فأما الطريق إلى معرفة كون الخطاب – مضافا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) فهو المشافهة والمشاهدة لمن حاضرهم وعاصرهم. فأما من نأى عنهم أو وجد بعدهم فالخبر المتواتر المفضي إلى العلم المزيل
[ 278 ]
للشك والريب “. وفي نفس الجوابات المذكورة نسب المنع من العمل بخبر الواحد إلى أصحابنا كلهم، قال: – بعد قوله (وإنما منعنا من العمل بالقياس وأخبار الآحاد.. الخ) المذكور في أعلاه – ” وإنما أردنا بهذا الإشارة (إلى) ان أصحابنا كلهم سلفهم وخلفهم ومتقدمهم ومتأخرهم، يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن القياس في الشريعة، ويعيبون أشد عيب الذاهب إليهما، والمتعلق في الشريعة بهما، حتى صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوما ضرورة منهم، وغير مشكوك فيه من المذاهب ” – يعني المذاهب الإسلامية الاخرى -. وقال في (جوابات المسائل التبانيات): ” لأنا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شك ان علماءنا الشيعة الإمامية يذهبون إلى ان أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها، وانها ليست بحجة ولا دلالة. وقد ملأوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك، والنقض على مخالفيهم، ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنه مستحيل من طريق العقول أن يتعبد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد “. يشير به إلى ابن قبة من متكلمي الإمامية في القرن الرابع الهجري، فقد اشتهر عنه القول باستحالة التعبد بخبر الواحد من ناحية عقلية. والسيد المرتضى لجلالة قدره علما ومنزلة لا يصدر في نسبة القول إلى الشيعة الإمامية من فراغ. فربما كان هذا منه إشارة إلى من كانوا في عهود الأئمة وابتداء عصر الغيبة الكبرى لاطلاعهم على قرائن كانت تحيط بالأخبار الشرعية تساعد على القطع بصدورها عن المعصوم. أو لأن المنهج الذي اعتمده الفقهاء في بداية الغيبة الكبرى كالقديمين
[ 279 ]
والصدوقين والشيخ المفيد ومن عاصرهم كان يقوم على اختيار الرواية المفيدة للقطع بالصدور إلا انهم لم يدونوا هذا المنهج في كتبهم لعدم حاجتهم في حينه للتأليف في اصول الفقه، أو لاشتهاره بينهم شهرة أغنت عن التأكيد عليه بتدوينه. ويظهر من تاريخ المسألة أن أول من أعلن المنع من العمل بخبر الواحد في الشرعيات في كتبه هو الشريف المرتضى. كما يظهر – أيضا – ان رأيه هذا ونسبته إياه إلى الطائفة أحدث هزة قوية في الوسط العلمي الإمامي، فقد أورد عليه بما ذكره هو (قدس سره) في جوابات المسائل التبانيات من إشكالات الشيخ التبان بما نصه: ” قال (يعني السائل): فان قيل: المعلوم من حال الطائفة وفقهائها الذين سيدنا – أدام الله علوه – منهم، بل أجلهم، ومعلوم ان من عدا العلماء والفقهاء تبع لهم، وآخذ عنهم، ومتعلم منهم يعملون بأخبار الآحاد، يحتجون بها، ويعولون في أكثر العبادات والأحكام عليها، يشهد بذلك من حالهم كتبهم المصنفة في الفقه المتداولة في أيدي الناس، التي لا يوجد في أكثر رواتها، وما تشتمل عليه زيادة على روايات الآحاد، ولا يمكن الإشارة إلى كتاب من كتبهم مقصور على ظواهر القرآن والمتواتر من الأخبار. وهذه (هي) المحنة بيننا وبين من ادعى خلاف ما ذكرنا “. ثم يقول السائل: ” وجعفر بن مبشر (1)، كتابه في الفقه موجود متداول، ويصرح فيه بالعمل بخبر الآحاد، ويعول عليها بحسب ما فعله سائر الفقهاء. ولو صحت الرواية عن الجعفرين والاسكافي (2)، كان إجماعهم قد سبقهم
(1) – جعفر بن مبشر الثقفي البغدادي المتوفى سنة 234 ه – من متكلمي الإمامية في القرن الثالث. (2) – الاسكافي هو أبو جعفر محمد بن عبد الله المتوفى سنة 240 ه. اما الجعفران فهما جعفر بن حرب المعتزلي وجعفر بن مبشر الثقفي المذكور في أعلاه والشريف = (*)
[ 280 ]
وحكم بفساد قولهم. على ان المعول عليه في الاحتجاج بالإجماع إذا لم يتعين لنا قول المعصوم الرجوع إلى جميع الامة لأنه من جملتها أو إلى الطائفة المحقة بمثل ذلك فأما من علمنا انه غير المعصوم، ومن قطعنا على انه ليس منهم فلا وجه للرجوع إلى قوله. ومن حكي عنه الامتناع من العمل بأخبار الآحاد هذه سبيلهم في أنا عالمون بأن المعصوم ليس فيهم، لتعين معرفتنا بأنبائهم، فلا معنى لذكرهم ولذكر من يجري مجراهم في الاعتراض على المعلوم من اتفاق طوائف الأمة أو الطائقة المحقة. فالعمل – إذن – بروايات الآحاد على هذا القول ثابت على لسان الامة، فما الذي نعترضه ان كان فاسدا ؟ “. ولعل آخر من عرف بالمنع من العمل بأخبار الآحاد هو الشيخ ابن إدريس الحلي المتوفى سنة (598 ه) فقد جاء في مقدمة كتابه (السرائر) ما نصه: ” فاعتقادي فيه (يعني كتابه السرائر) أنه أجود ما صنف في فنه، وأسبقه لأبناء سنه، وأذهبه في طريق البحث والدليل والنظر، لا الرواية الضعيفة والخبر (يعني خبر الواحد)، فإني تحريت فيه التحقيق، وتنكبت لذلك كل طريق، فان الحق لا يعدو أربع طرق: – إما كتاب الله سبحانه. – أو سنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) المتواترة المتفق عليها. – أو الإجماع.
= المرتضى نفسه أوضح في جوابه للتبان أنهما ممن أنكر العمل بأخبار الآحاد وعمل به، قال: ” إن الجعفرين ومن جرى مجراهما ممن أنكر العمل بأخبار الآحاد قد عمل بها وعول عليها.. الخ “. (*)
[ 281 ]
– أو دليل العقل. فإذا فقدت الثلاثة (الاولى) فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مآخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها فانها مبقاة عليه وموكولة إليه. فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها والتمسك بها، فمن تنكب عنها عسف، وخبط خبط عشواء، وفارق قوله من المذهب، والله تعالى يمدكم وإيانا بالتوفيق والتسديد ويحسن معونتنا على طلب الحق وإثارته، ورفض الباطل وإبادته “. ثم نقل ما ذكره السيد المرتضى في جوابات المسائل الموصليات الثانية بما يرتبط بالمسألة، وعقبه بقوله: ” قال محمد بن إدريس: فعلى الأدلة المتقدمة اعمل، وبها آخذ وأفتي وادين الله تعالى، ولا ألتفت إلى سواد مسطور، وقول بعيد عن الحق مهجور، ولا اقلد إلا الدليل الواضح، والبرهان اللائح، ولا أعرج إلى أخبار الآحاد، فهل هدم الإسلام إلا هي “. وأخاله يشير بالجملة الأخيرة من كلامه إلى ما يرتبط بمسألة الإمامة. وإلى جانب رأي السيد المرتضى الذي بدأ به – فيما يظهر – وانتهى بالشيخ ابن إدريس، كان رأي الشيخ الطوسي في جواز العمل بخبر الواحد الذي صرح به في كتابه الاصولي (العدة)، ومرت الإشارة إليه نقلا عن الكتاب المذكور. إلا ان تجويزه العمل بخبر الواحد لم يكن على نحو الإطلاق، وإنما قيده بما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ودون في كتب أصحابنا – كما هو واضح من عبارته المتقدمة، وكما أفاده المحقق الحلي في (المعارج) قال: ” وذهب شيخنا أبو جعفر (الطوسي) إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه وان كان مطلقا،
[ 282 ]
فعند التحقيق تبين انه لا يعمل بالخبر مطلقا، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة (عليهم السلام)، ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه الإمامي يجب العمل به، هذا الذي تبين لي من كلامه. ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار، حتى لو رواها غير الإمامي، وكان الخبر سليما عن المعارض، واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به “. والذي يظهر من معقد الإجماع الذي أشار إليه المحقق أن الشيخ يريد بالعدل – هنا – مطلق الثقة، أي بما يشمل من اتصف بالوثاقة أو بالعدالة المنطوية عليها. وقد استمر الرأيان – رأي المرتضى ورأي الطوسي – حتى عصر المحقق حيث أصبحت الهيمنة لرأي الطوسي. ويبدو من هذا أن العمل بالأخبار – منهجيا – حتى عهد السيد والشيخ كان يتمثل في خطين، هما: 1 – خط الإيمان بأن ما في الكتب المعتبرة من أخبار هي مقطوعة الصدور، إما لتواترها في النقل، واما لاقترانها بما يفيد ذلك. وهو ما تبناه المرتضى ودافع عنه. 2 – خط الإيمان بأن ما في كتب الحديث الإمامية مشتمل على ما هو مقطوع الصدور، وهي الأخبار المتواترة والآحاد المقترنة، وعلى ما هو مظنون الصدور، وهي أخبار الآحاد المجردة. ويبدو أيضا ان الخط الأول هو السائد والمهيمن على الجو العلمي في حينه. وبعد ان فجر الشيخ المفيد الوضع العلمي بإيجاده الخط الوسط بين مدرسة الفقيهين القديمين ابن أبي عقيل وابن الجنيد ومدرسة الفقيهين المحدثين الصدوق وأبيه علي بن بابويه بقي الخطان يتصارعان، ولكن بتحفظ، ونلمس هذا
[ 283 ]
التحفظ في اشتراط الشيخ الطوسي أن يكون خبر الواحد مما اشتمل عليه كتب الأصحاب المعتبرة لما يظن انه قد كان يثار من اعتراضات، وأهمها الطعن بالتأثر بالمنهج الاصولي السني. ومنذ عهد المحقق الحلي حيث ضعف الخط الأول أصبح الخط الثاني هو المهيمن على الوسط العلمي، فكان التصريح بجواز العمل بخبر الثقة مطلقا، أي سواء كان مدونا في الكتب الأربعة أو في غيرها. وكما استعرضنا دليل المرتضى على المنع نستعرض هنا دليل الطوسي على التجويز، ومن خلال ما جاء في كتابه الاصولي (العدة). استدل الشيخ بدليلين استقرائيين أفادهما من واقع تعامل الأصحاب مع خبر الواحد، وهما: الإجماع العملي، والاختلاف في الفتوى. قال: ” فأما ما اخترته من المذهب فهو ان خبر الواحد: – إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة. – وكان ذلك مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن واحد من الأئمة (عليهم السلام). – وكان (الراوي) ممن لا يطعن في روايته، ويكون سديدا في نقله. – ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجبا للعلم. والذي يدل على ذلك (يعني جواز العمل بخبر الواحد الغير المقترن) إجماع الفرقة المحقة، فاني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى ان واحدا منهم إذا أفتى بشئ لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا ؟، فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر
[ 284 ]
في ذلك، وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن بعده من الأئمة:، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا ان العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك، ولأنكروه، لأن اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو. والذي يكشف عن ذلك أنه لما كان العمل بالقياس محظورا في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا، وإذا شذ منهم واحد عمل به في بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه، وان لم يعلم اعتقاده، تركوا قوله أو أنكروا عليه وتبرأوا من قوله، حتى انهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس، فلو كان العمل بخبر الواحد يجري ذلك المجرى، لوجب أيضا فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه “. ثم قال: ” ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرقة المحقة من الإختلاف الصادر عن العمل بها، فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارات إلى باب الديات، ومن العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم، واختلافهم في ان التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا ؟، ومثل اختلافهم في باب الطهارة، في مقدار الماء الذي لا ينجسه شئ، ونحو اختلافهم في حد الكر، ونحو اختلافهم في استيناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين، واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس، واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة، وغير ذلك في سائر أبواب الفقه، حتى ان بابا منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتوى. وقد ذكرت ما ورد عنهم (عليهم السلام) من الأحاديث المختلفة التي تختص بالفقه في
[ 285 ]
كتابي المعروف ب (الاستبصار) وفي كتاب (تهذيب الأحكام) ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى انك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام، وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه، ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفه، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما جاز ذلك، وكان يكون من عمل بخبر، عنده انه صحيح يكون مخالفه مخطئا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك، وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الأخبار “. مشروعيته: لأننا عرفنا من خلال عرضنا لرأي السيد المرتضى ورأي الشيخ الطوسي ودليل كل منهما، الخلاف في حجية خبر الواحد ومشروعية العمل به سوف نحاول – هنا – الاقتصار على ما ذكره المتأخرون والمعاصرون في شرعية العمل بخبر الواحد بالرجوع إليه كمصدر تشريعي. يقول استاذنا السيد الخوئي: ” وقع الخلاف بين الأعلام في حجية خبر الواحد: – فذهب جماعة من قدماء الأصحاب إلى عدم حجيته، بل ألحقه بعضهم بالقياس في ان عدم حجيته من ضروري المذهب “. وقد عرفنا هذا مفصلا في بحثنا عن وقوعه. – ” وذهب المشهور إلى كونه حجة “. وعرفنا أيضا ان المسألة اكتسبت هذه الشهرة من عهد المحقق الحلي. والآن لنكن مع أدلة الطرفين المنكرين للحجية والمثبتين لها، مما عرضه المتأخرون ومتأخروهم والمعاصرون.
[ 286 ]
(أدلة المنكرين): استدل القائلون بعدم جواز العمل بخبر الواحد بما يلي: 1 – الإجماع: ويريدون به اتفاق فقهاء الإمامية على ذلك.. وهو ما ادعاه الشريف المرتضى – كما تقدم. ونوقش: بأن الإجماع المدعى غير تام، لوقوع الخلاف في المسألة – كما تقدم – يقول الشيخ الأنصاري في (الرسائل): ” لم يتحقق لنا هذا الإجماع والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد، مع معارضته لدعوى الشيخ المعتضدة بدعوى اخرى الإجماع على حجية خبر الواحد في الجملة وتحقق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخرين “. 2 – الكتاب: وذلك بالآيات الناهية عن العمل بغير علم، أمثال قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وقوله: * (إن الظن لا يغني عن الحق شيئا) *. ويناقش الإستدلال بهما بما حاصله: في هاتين الآيتين وأمثالهما دعوة إلى التثبت وعدم الإيمان بالشئ حكما أو موضوعا، سلبا أو إيجابا، إلا بعد العلم به، أي معرفته على حقيقته وبواقعه، وهو المبدأ العام الذي يعتمد عليه نظام حياة الإنسان. والتمسك بخبر الثقة والعمل على وفقه هو من نوع الأخذ بالعلم، وذلك لثبوت مشروعيته بالدليل القطعي، فالأخذ به – في الحقيقة – أخذ بدليله، وهو من
[ 287 ]
نوع العلم، فلا يكون من غير العلم الذي نهى القرآن عنه. ونوقش ببيان آخر اعتمد فيه المناقش تطبيق القواعد الاصولية فقال: ” أولا: ان مفاد الآيات الشريفة إرشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالمؤمن من العقاب وعدم جواز الاكتفاء بالظن به، بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل إن كان اخرويا، فلا دلالة لها على عدم حجية الخبر أصلا. وثانيا: على تقدير تسليم أن مفادها الحكم المولوي، وهو حرمة العمل بالظن، فان أدلة حجية الخبر حاكمة على تلك الآيات، فان مفادها جعل الخبر طريقا بتتميم الكشف، فيكون خبر الثقة علما بالتعبد الشرعي، ويكون خارجا عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعا. هذا بناء على ان المجعول في باب الطرق والأمارات هي الطريقية، كما هو الصحيح. وأما بناء على أن المجعول هو الحكم الظاهري مطابقا لمؤدى الأمارة، وان الشارع لم يعتبر الأمارة علما، تكون أدلة حجية خبر الثقة مخصصة للآيات الناهية عن العمل بغير العلم، فان النسبة بينها وبين الآيات هي العموم المطلق، إذ مفاد الآيات عدم حجية غير العلم من خبر الثقة وغيره في اصول الدين وفروعه، فتكون أدلة حجية خبر الثقة أخص منها. وبالجملة، أدلة حجية خبر الثقة متقدمة على الآيات الشريفة أما بالحكومة أو بالتخصيص ” (1). 3 – السنة:
(1) – مصباح الاصول 2 / 1151 – 152. (*)
[ 288 ]
وذلك بنوعين من الروايات: أ – الروايات الناهية عن العمل بالخبر الذي لم يعلم صدوره عن المعصوم إلا إذا اقترن بقرينة معتبرة من القرآن أو السنة القطعية. ” مثل ما رواه في (البحار) عن (بصائر الدرجات) عن محمد بن عيسى قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وجوابه (عليه السلام) بخطه، فكتب: نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك – صلوات الله عليهم أجمعين – قد اختلفوا علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه ؟ فكتب (عليه السلام) بخطه: ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا “. ب – الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر الذي لا يوجد عليه شاهد أو شاهدان من القرآن أو السنة القطعية. أو قل: الذي لا يوافق الكتاب والسنة القطعية. مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما جاءكم عني مما لا يوافق القرآن فلم أقله). وقول أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): (لا يصدق علينا إلا ما يوافق كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)). وقوله (عليه السلام): (إذا جاءكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى نبين لكم). وهذه الروايات – كما يقول استاذنا الخوئي – كثيرة ومتواترة إجمالا. ووجه دلالتها – أيضا – واضح، إذ من المعلوم ان أغلب الروايات التي بأيدينا ليس عليها شاهد من كتاب الله ولا من السنة القطعية، وإلا لما احتجنا إلى التمسك بالخبر.
[ 289 ]
ورد (قدس سره) الإستدلال بها بقوله: ” ان الروايات الواردة في الباب طائفتان: – (الطائفة الاولى): هي الأخبار الدالة على ان الخبر المخالف للكتاب باطل أو زخرف، أو اضربوه على الجدار، أو لم نقله، إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة القطعية. والمراد من المخالفة في هذه الأخبار هي المخالفة بنحو لا يكون بين الخبر والكتاب جمع عرفي، كما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بنحو التباين أو العموم من وجه. وهذا النحو من الخبر، أي المخالف للكتاب أو السنة القطعية بنحو التباين أو العموم من وجه، خارج عن محل الكلام، لأنه غير حجة بلا إشكال ولا خلاف. واما الأخبار المخالفة للكتاب والسنة بنحو التخصيص أو التقييد فليست مشمولة لهذه الطائفة، للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب، والمقيد لإطلاقاته، عنهم (عليهم السلام) كثيرا، إذ لم يذكر في الكتاب إلا أساس الأحكام بنحو الإجمال، كقوله تعالى: * (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) *، وأما تفصيل الأحكام وبيان موضوعاتها فهو مذكور في الأخبار المروية عنهم (عليهم السلام). – (الطائفة الثانية): هي الأخبار الدالة على المنع عن العمل بالخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذه الطائفة وان كانت وافية الدلالة على المدعى، إلا انه لا يمكن الأخذ بظاهرها للعلم بصدور الأخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنة. بل هي مخصصة لعموماتهما ومقيدة لإطلاقاتهما – على ما تقدمت الإشارة إليه. فلابد من حمل هذه الطائفة على صورة التعارض، كما هو صريح بعضها، ولذا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح ان موافقة عمومات الكتاب أو إطلاقاته من
[ 290 ]
المرجحات في باب التعارض. أو (حملها) على الأخبار المنسوبة إليهم (عليهم السلام) في اصول الدين، وما يتعلق بالتكوينيات مما لا يوافق مذهب الإمامية. وقد روي هذا النوع من الأخبار عنهم (عليهم السلام) كثيرا، بحيث ان الكتب المعتمدة المعتبرة عندنا كالكتب الأربعة ونظائرها، مع كونها مهذبة من هذا النوع من الأخبار، يوجد فيها منه قليل. ومن هذا القليل ما في (الكافي) الدال على انه لو علم الناس كيفية خلقهم لما لام أحد أحدا. فان هذه الرواية صريحة في مذهب الجبر، ومخالفة لنص القرآن لأن الله تعالى يلوم عباده بارتكاب القبائح والمعاصي. هذا مضافا إلى ان هذه الطائفة معارضة بما دل على حجية خبر الثقة، لأن مفاد هذه الطائفة عدم حجية الخبر الذي لا شاهد له من الكتاب والسنة، سواء كان المخبر به ثقة أو غير ثقة، ودليل حجية خبر الثقة أخص منها، فيقيد به إطلاقاتها، وتكون النتيجة بعد الجمع عدم حجية الأخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنة إلا خبر الثقة “. والحق، ان الذي يفهم من هذه الروايات هو وضع ضابطة، أو مبدأ عام من قبل المعصوم لقبول الرواية أو رفضها من حيث الدلالة لا من حيث السند. وهذه الضابطة هي: ان كل ما وافق الكتاب والسنة القطعية فهو من الشريعة الإسلامية، وكل ما خالفهما ليس من الشريعة. ذلك أن في القرآن والحديث المقطوع بصدوره ما يفهم منه الإطار العام للتشريع الإسلامي، وهو المقصود بالموافقة حيث يدخل الخبر المروي داخل هذا الإطار العام، ومن جهة الدلالة أيضا. فهي – في واقعها – غير ناظرة إلى تقييم السند، فلا علاقة لها بمسألتنا لا منعا
[ 291 ]
للعمل بخبر الثقة، ولا تجويزا له. (أدلة المثبتين): استدل المثبتون لحجية خبر الثقة وصحة التعبد به وجواز العمل على وفقه بالعقل والنقل. ومنهجيا علينا أن نبدأ باستعراض الدليل العقلي لأنه الأساس الذي بني عليه البحث، فالنصوص الشرعية التي استدلوا بها هنا ما هي إلا إمضاء وتطبيق للسيرة الاجتماعية العقلائية. وعليه نقول: استدلوا على الجواز بسيرة العقلاء ببيان ان المجتمعات البشرية من يوم أن كانت وحتى يوم الناس هذا، وعلى اختلاف أنماطها السلوكية، تعتمد في معظم شؤون حياتها على خبر الثقة. وهكذا ظاهرة بهذه الشمولية، وبهذا الوضوح لا يمكن التعلق بذيل إنكارها. وما كان عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عصور الأئمة (عليهم السلام) من بعده، سائرة على غير هذا. وشاهده الوفود التي كانت تفد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخبار مجتمعاتها، والبعوث التي يبعثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتبلغ الأحكام، أمثال: معاذ بن جبل إلى اليمن، ومصعب بن عمير إلى المدينة، وقيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ومالك بن نويرة إلى عشائرهم، وأبان بن سعيد بن العاص إلى البحرين. وللدعوة إلى الإسلام فقد بعث (صلى الله عليه وآله وسلم) إثني عشر رسولا لإثني عشر ملكا. وفي (الرسالة) للإمام الشافعي: ” أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: ان رجلا قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك فدخلت على ام سلمة ام المؤمنين فأخبرتها فقالت ام سلمة:
[ 292 ]
ان رسول الله يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا، وقال: لسنا مثل رسول الله يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى ام سلمة فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله: ما بال هذه المرأة ؟ فأخبرته ام سلمة، فقال: ألا أخبرتها أني أفعل ذلك، فقالت ام سلمة قد خبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا، وقال: لسنا مثل رسول الله يحل الله لرسوله ما شاءه، فغضب رسول الله، ثم قال: والله إني لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده). قال الشافعي: في ذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبرتها أني أفعل ذلك) دلالة على ان خبر ام سلمة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يجوز قبوله لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لمن أخبرته.. وهكذا خبر امرأته ان كانت من أهل الصدق عنده ” (1). ومن شواهده أيضا ما كان يدور في مجتمع المدينة المنورة بمرأى ومسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده، ورواة الحديث الذين كانوا ينتشرون بين المسلمين في مختلف أماكنهم ينقلون إليهم الأحاديث ويتلقاها المسلمون ويعملون بمفادها. فهي – كما يقول استاذنا الخوئي -: ” ان العمل بالحجج العقلائية القائمة على العمل بها سيرة العقلاء لا يكون عملا بغير العلم في نظر العرف والعقلاء. ولذا لم يتوقف أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم في العمل بالظواهر (ظواهر الألفاظ)، مع ان الآيات الناهية عن العمل بغير العلم بمرأى منهم ومسمع، وهم من أهل اللسان، وليس ذلك إلا لأجل أنهم لا يرون العمل بالظواهر عملا بغير العلم بمقتضى قيام سيرة العقلاء على العمل بها.
(1) – ص 406 ط 2. (*)
[ 293 ]
وحال خبر الثقة هي حال الظواهر من حيث قيام السيرة على العمل به “. ويقول استاذنا المظفر: ” انه من المعلوم – قطعا الذي لا يعتريه الريب – استقرار بناء العقلاء طرا، واتفاق سيرتهم العملية على اختلاف مشاربهم وأذواقهم، على الأخذ بخبر من يثقون بقوله، ويطمأنون إلى صدقه، ويأمنون كذبه، وعلى اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. والمسلمون بالخصوص كسائر الناس جرت سيرتهم العملية على مثل ذلك في استفادة الأحكام الشرعية من القديم إلى يوم الناس هذا، لأنهم متحدوا المسلك والطريقة مع سائر البشر، كما جرت سيرتهم بما هم عقلاء على ذلك في غير الأحكام الشرعية. وإذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ بخبر الواحد الثقة، فان الشارع المقدس متحد المسلك معهم، لأنه منهم، بل هو رئيسهم، فلابد أن تعلم بأنه متخذ لهذه الطريقة العقلائية كسائر الناس ما دام انه لم يثبت لنا أن له في تبليغ الأحكام طريقا خاصا مخترعا منه، غير طريق العقلاء لأذاعه وبينه للناس، ولظهر واشتهر، ولما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي البشر. وهذا الدليل قطعي لا يداخله الشك، لأنه مركب من مقدمتين قطعيتين: 1 – ثبوت بناء العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة والأخذ به. 2 – كشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم واشتراكه معهم، لأنه متحد المسلك معهم. قال شيخنا النائيني (قدس سره) – كما في تقريرات تلميذه الكاظمي (قدس سره) (1): ” واما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض انه كان سبيل إلى المناقشة في بقية
(1) – 3 / 69. (*)
[ 294 ]
الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم ” (1). واستدلوا من النقل بالكتاب والسنة. فمن الكتاب استدلوا بأكثر من آية، ولكن أهمها آية النفر وآية النبأ: آية النفر: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * – سورة التوبة 122 -. وردت هذه الآية الكريمة في سياق آيات الجهاد التالية: * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولايطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) * – الآية 120 -. * (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) * – الآية 121 -. * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * – الآية 122 -. * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) * – الآية 123 -. ولأجل هذا السياق. ولما نسب إلى ابن عباس من انه يذهب إلى ان الآية نزلت في البعوث
(1) – انظر: اصول الحديث: خبر الواحد غير المقرون. (*)
[ 295 ]
والسرايا (1). ولاشتمالها على عبارة (لينفروا) وعبارة (نفر) المأخوذتين من النفر الذي يعني في أشهر استعمالاته الإسراع في الخروج لقتال العدو. لأجل هذه ذهب غير واحد من المفسرين إلى انها من آيات الجهاد. منهم: السيد الطباطبائي في (الميزان) قال: ” السياق يدل على ان المراد بقوله (لينفروا كافة) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعا “. ويفسر (قدس سره) الآية بانها ” تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافة، بل يحضضهم أن ينفر طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتفقه في الدين وينفر إلى الجهاد غيرهم “. وفي تفسير (البحر المحيط): ” وقال ابن عباس: الآية في البعوث والسرايا. والآية المتقدمة (يعني: وما كان لأهل المدينة الخ) ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو. وهذه (يعني: آية النفر) ثابتة الحكم إذا لم يخرج (الرسول) أي يجب إذا لم يخرج (الرسول) أن لا ينفر الناس كافة، فيبقى هو مفردا، وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم “. وقد نلمح فهم البعض في ان النفر لا يكون إلا للجهاد من توجيه السيد شبر في تفسيره (الجوهر الثمين) حيث يقول: ” وسمي الخروج إلى طلب العلم نفرا لما فيه من مجاهدة أعداء الدين، بل هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل “. والنفر – في اللغة – هجر الوطن والضرب في الأرض، لجهاد كان أو لغيره.
(1) – البعوث والسرايا: هي الجيوش التي يرسلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) للفتح والدعوة ولا يخرج (صلى الله عليه وآله) معها. (*)
[ 296 ]
كما ان النفير لا يرادف النفر، أي انه ليس مصدرا – كما يظهر من عبارات بعض الاصوليين والمفسرين – وإنما هو اسم للقوم ينفرون للقتال. وفي مقابل ما تقدم ذهب غير واحد من المفسرين والاصوليين أن الآية تحمل حكما مستقلا، أي انها ليست من آيات الجهاد، وان وردت في سياقها. والسياق القرآني – كما يظهر للمتتبع – لا يقوم قرينة على المراد على وجه الدوام، بل ولا الغالب. ومن هؤلاء الفخر الرازي، قال في تفسيره: ” ان هذه الآية حكم مستقل، وتقريره ان الله تعالى لما بين في هذه السورة (سورة التوبة) أمر الهجرة ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان في السفر، بين أيضا عبادة التفقه من جهة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وله تعلق بالسفر، فقال: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * إلى حضرة الرسول * (ليتفقهوا في الدين) *، بل ذلك غير واجب وغير جائز، وليس حاله كحال الجهاد معه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له. ثم قال: * (فلولا نفر من كل فرقة) * منهم يعني من الفرق الساكنين في البلاد (طائفة) إلى حضرة الرسول (ليتفقهوا في الدين) وليعرفوا الحلال والحرام، ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم “. واستظهره أبو حيان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط) قال: ” والذي يظهر ان هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله، ولأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولا، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة، أي فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير، وقام كل بمصلحة، هذه بحفظ بلادهم وقتال أعدائهم، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين
[ 297 ]
إذا رجعوا إليهم “. ثم قال: ” ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه، هذا بالعلم وهذا بالقتال “. ومنهم: أحمد بن محمد بن المنير الاسكندري المالكي في كتاب (الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال) قال: ” وهذا راجع إلى تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه. وهذا لو أمكن الجميع فعله لكان جائزا أو واجبا، وان لم يمكن وجب على بعضهم القيام عن باقيهم على طريق وجوب الكفاية “. ومنهم السيد عبد الله شبر، قال في تفسيره (الجوهر الثمين): ” أي هلا نفر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كل ناحية طائفة لتتعلم منه امور الدين ثم ترجع إلى قومها فتبين لهم ذلك وتنذرهم “. ومنهم استاذنا التقي الحكيم، قال في كتابه (الاصول العامة للفقه المقارن): ” والذي يبدو لي من صدر الآية ان شبهة عرضت لبعض من هم خارج المدينة من المسلمين في ان لزوم التفقه المباشر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو من قبيل الواجبات العينية التي لا يسقطها قيام البعض بها عنهم، ففكروا بالنفر جميعا إلى المدينة ليأخذوا الأحكام عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة، فنزلت هذه الآية لتفهمهم ان هذا النوع من النفر الجماعي لا ضرورة له، وليس هو مما ينبغي أن يكون لما ينطوي عليه من شل لحركتهم الاجتماعية، وتعطيل لأعمالهم، فاكتفى الشارع بمجئ طائفة من كل فرقة منهم للتفقه في الدين والقيام بمهمة تعليمهم إذا رجعوا إليهم “. وعلى كلا التفسيرين المذكورين هي دالة على حجية خبر الواحد. واما وجه الاستدلال به على ذلك فقرره الفخر الرازي في كتابه الاصولي (المحصول) بقوله: ” وجه الاستدلال: ان الله تعالى أوجب الحذر بأخبار الطائفة،
[ 298 ]
والطائفة – هاهنا – عدد لا يفيد قولهم العلم، ومتى وجب الحذر بأخبار عدد لا يفيد قولهم العلم فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته “، أي من حيث الصدور. وفي تفسير (التبيان) للشيخ الطوسي: ” واستدل جماعة بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد بأن قالوا: حث الله تعالى الطائفة على النفور والتفقه حتى إذا رجعوا إلى غيرهم لينذروهم ليحذروا، فلولا انه يجب عليهم القبول منهم لما وجب عليهم الإنذار والتخويف. والطائفة تقع على جماعة لا يقع بخبرهم العلم بل تقع على واحد لأن المفسرين قالوا في قوله: * (ويشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * انه يكفي أن يحضر واحد “. وقبل أن نعيد بيان وجه الإستدلال بالآية الكريمة على حجية خبر الثقة، لابد من توضيح معاني مفردات وعبائر الآية الكريمة: 1 – ان جملة * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * هي نهي بصيغة الخبر، نحو قولك (ما كان لك أن تشرب الخمر) أي ليس لك أن تشرب الخمر، فالمعنى ليس للمؤمنين أن ينفروا بأجمعهم. 2 – (لولا) أداة تحضيض، والتحضيض – نحويا – هو التحريض على عمل شئ باستعمال حرف من حروف التحضيض وهي: هلا وإلا ولولا ولوما. قال ابن ام قاسم المرادي في (الجني الداني): ” القسم الثاني من قسمي (لولا) أن تكون حرف تحضيض فتختص بالأفعال، ويليها المضارع نحو (فلولا تشكرون) والماضي نحو * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) *.. “. والتقدير في الآية الكريمة * (لينفر من كل فرقة منهم طائفة) *. 3 – (لعل).
[ 299 ]
لهذه الأداة أكثر من معنى، وأشهر معانيها بين الناس وأكثرها استعمالا هو الترجي نحو (لعل الله يرحمنا). ومن معانيها الإشفاق نحو (لعل العدو يقدم). والفرق بين الترجي والإشفاق أن الأول يكون في المحبوب والثاني في المكروه. ومن معانيها (التعليل)، قال فيه المرادي: ” هذا معنى أثبته الكسائي والأخفش، وحملا على ذلك ما في القرآن من نحو * (لعلكم تشكرون) *، * (لعلكم تهتدون) * أي لتشكروا ولتهتدوا “. وهو المعنى المناسب لكلمة (لعل) في الآية الكريمة، والتقدير (لكي يحذروا) أو (لأجل أن يحذروا) مثلها في آية الصوم * (كتب عليكم الصيام.. لعلكم تتقون) * أي (لكي تتقوا). فالإنذار في آية النفر علة لوقوع الحذر. وفي ضوئه: الغاية من النفر التفقه في الدين. والغاية من التفقه الإنذار. والغاية من الإنذار الحذر. 4 – الضمير في جملة (إذا رجعوا) على أحد التفسيرين يعود على الطائفة بتقدير إرادة الجمع أي باعتبار معناها، وعلى التفسير الآخر يعود على القوم. 5 – النفر – كما تقدم – هو هجر الإنسان وطنه إلى آخر، أو للضرب في الأرض، فقد يأتي خروجا للجهاد، وقد يأتي سفرا لطلب العلم، وقد يأتي لغيرهما. وبعد هذا:
[ 300 ]
ان الذي يستفاد من الآية الكريمة هو: ان التفقه في الدين، أو قل طلب العلم الشرعي من فروض الكفاية. وهو وسيلة وغايته التبليغ. أما دلالتها على حجية خبر الواحد فببيان ان كل فرد من أفراد المجموعة (الطائفة) الذين تعلموا أحكام الدين خارج بلادهم يقوم عند عودته ورجوعه إلى بلده بإنذار قومه، فما يبلغهم به من أحكام اعتمد فيها على النقل والرواية – أي ليست هي من اجتهاده – هي أخبار آحاد، فلو لم يكن خبر الواحد حجة لما صح إناطة وظيفة التبليغ (الإنذار) بالمتفقه وجواز التعبد بنقوله. والآية الكريمة بهذا تفيدنا إمضاء القرآن الكريم لما قامت عليه سيرة الناس، وهي بذلك تعطي الحجية لخبر الثقة الذي قام عليه بناء العقلاء بجواز التعبد به والعمل على وفقه. آية النبأ: * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) *. وهي الآية السادسة من سورة الحجرات. سبب نزولها: المشهور وما عليه الجمهور، وبه قال أكثر المفسرين هو أن الآية الكريمة نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان بن عفان لامه وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى بني المصطلق (1) بعد الوقعة معهم، مصدقا أي يجبي منهم
(1) – بنو المصطلق: قوم من خزاعة كانوا يقطنون على ماء لهم يدعى المريسيع من ناحية قديد إلى ساحل البحر (الأحمر)، غزاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة خمس أو ست للهجرة فأسلموا وأحسنوا = (*)
[ 301 ]
زكاة أنعامهم، وكان بينه وبينهم عداوة أيام الجاهلية، فلما سمع به القوم استقبلوه تعظيما لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فظن أنهم خرجوا إليه يريدون قتله، فهابهم، وقبل أن يدخل ديارهم رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال له: ان القوم منعوه صدقاتهم وأرادوا قتله، فأكثر المسلمون الذين سمعوا الخبر، على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يغزوهم مرة اخرى، فبلغ ذلك بني المصطلق فأتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يارسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نستقبله ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله، فبدا له في الرجوع فخشينا ان الذي رجع به كتاب جاءه منك فغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه تعالى وغضب رسوله. فأنزل الله تعالى الآية في الوليد لكذبه في منع القوم زكاتهم، وفي المسلمين الذين أكثروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يغزو القوم ثانية لعدم تبينهم صحة قول ابن أبي معيط. مفرداتها: الفاسق. النبأ. التبين. الجهالة. (الفاسق): كلمة (فاسق) اسم فاعل من الفعل الثلاثي (فسق).. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في موضعين هما: – آية الحجرات المذكورة في أعلاه. – الآية الثامنة عشرة من سورة السجدة * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *. وورد بألفاظ اخرى من نفس المادة في موارد اخرى. وكلمة (فاسق) بالمعنى الديني الذي حمله إياها القرآن تعد من الألفاظ
= إسلامهم. (*)
[ 302 ]
الإسلامية، إذ لم يعهد استعمالها في الجاهلية بالمعنى الديني الذي استعملها فيه القرآن. جاء في (معجم ألفاظ القرآن الكريم): ” من الحسي (فسقت الرطبة من قشرها) إذا خرجت، و (فسق فلان ماله) إذا أهلكه وأنفقه، ومنه يمكن إخراج معنى المادة الذي أكسبه إياها الإسلام، فقد نقل انه لم يسمع قط في كلام الجاهلية، في شعر ولا كلام (فاسق)، وجاء الشرع بأن الفسق: الافحاش في الخروج عن طاعة الله تعالى، وعدت الكلمة من الألفاظ الإسلامية التي نقلت عن موضعها إلى موضع آخر بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، وهو مثل من التطور اللغوي لدلالة الكلمات. والفعل منه – كضرب ونصر وكرم – على خلاف في الأخيرة -، والمصدر الفسق والفسوق. وبهذا المعنى الإسلامي للفسق استعمل في القرآن مقابلا للإيمان، كفرا * (وما يكفر بها إلا الفاسقون) *، ونفاقا * (ان المنافقين هم الفاسقون) *، وضلالا * (فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) *، وعلى أنواع من العصيان، وبهذا كان الفسق أعم من الكفر “. ونستفيد من هذا: أن كلمة (فاسق) لم تستقر كلفظ إسلامي أو مصطلح شرعي على المعنى المحدد فقهيا، وهو المقابل لمعنى كلمة (عادل) إلا بعد صدور الروايات التي فهم منها تحديد معنى العادل بذلك المسلم الذي يظهر منه الإلتزام بتطبيق الأحكام الشرعية على سلوكه بحيث يأتمر بأوامر الله وينتهي بنواهيه. وتلك الروايات هي أمثال صحيحة عبد الله بن أبي يعفور: ” قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟
[ 303 ]
فقال (عليه السلام): أن تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار، من شرب الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه، حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه “. ومن هنا لا نقوى على حمل كلمة (فاسق) في الآية الكريمة إلا على القدر المتيقن وهو (الكاذب) بقرينة سبب النزول، فان ابن أبي معيط كذب في ادعائه امتناع القوم من دفع الزكاة. ولازم هذا أن نحمل معنى كلمة (عادل) التي ترددت على ألسنة الفقهاء في مقام تفسير الآية على (الصادق) أي الثقة. فالفاسق في الآية تعني الكاذب، وهو معنى يلتقي مع المعنى اللغوي في مبدأ الخروج عن الاستقامة. (النبأ): فسرت كلمة (النبأ) بالخبر ذي الشأن، والقصة ذات البال، وفسرت بمطلق الخبر، أي أن النبأ يرادف الخبر في معناه، وهو الأكثر استخداما في الاستعمالات اللغوية الاجتماعية. ومنه ما في (معاني القرآن وإعرابه) للزجاج فقد جاء فيه: “.. * (إن جاءكم فاسق بنبأ) * أي بخبر “. (التبين): تستعمل كلمة (تبين) في اللغة العربية بمعنى الإيضاح والإظهار، يقال: (تبين فلان الشئ) إذا أوضحه وأظهره.
[ 304 ]
وتستعمل بمعنى التريث والتثبت، أي تدبر الأمر والتأمل فيه حتى يتضح واقعه وتظهر حقيقته. وعليه حمل معنى (فتبينوا) في الآية الكريمة، ويؤيده قراءة (فتثبتوا). ففي (معاني القرآن) للفراء: ” * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا) * قراءة أصحاب عبد الله (يعني ابن مسعود)، ورأيتها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقراءة الناس (فتبينوا)، ومعناهما متقارب، لأن قوله (فتبينوا) أمهلوا حتى تعرفوا، وهذا معنى (تثبتوا).. “. وقال الطبرسي في (مجمع البيان) – تفسير الآية 94 من سورة النساء حيث وردت فيها عبارة (فتثبتوا): ” هنا (يعني في سورة النساء) في الموضعين بالثاء والتاء، وفي الحجرات (يعني في آية النبأ)، وقرأ الباقون (فتبينوا) بالتاء والنون في الجميع “. وقال في تفسير آية النبأ: ” وقد ذكرنا في سورة النساء اختلافهم في قوله (فتبينوا) والوجه في القراءتين. والمروي عن الباقر (عليه السلام): (فتثبتوا) بالتاء والثاء “. وقال ابن الجزري في (النشر) – في قراءات سورة النساء -: ” واختلفوا في (فتبينوا) في الموضعين هنا (يعني في سورة النساء) وفي الحجرات: فقرأ حمزة والكسائي وخلف في الثلاثة (فتثبتوا) من التثبت، وقرأ الباقون في الثلاثة (فتبينوا) من التبين “. (الجهالة): الجهالة مصدر الفعل (جهل)، يقال: جهل يجهل جهلا وجهالة. وجاء في
[ 305 ]
(لسان العرب): ” قال شمر (1): والمعروف في كلام العرب، جهلت الشئ إذا لم تعرفه “. وفي مجعم (ألفاظ القرآن الكريم): ” الجهل: أ – الخلو من المعرفة. ب – الطيش والسفه “. فمن الأول قوله تعالى: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) *. أي الخالي من المعرفة بهم. ومن الثاني قوله تعالى: * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) *، أي طائشون سفهاء. وفي المعجم المذكور أيضا: ” بجهالة: * ((إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * – 17 / النساء -، أي الطيش. وبمعناها ما في 54 / الأنعام و 119 / النحل. وأما في قوله تعالى: * (فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) * – 6 / الحجرات – فمعناها: بعدم معرفة “. فقراتها: 1 – أن تصيبوا: تعرب هذه الجملة مصدرا مؤولا تقديره (إصابة)، وبإضافته إلى ضمير المخاطبين يقدر ب (إصابتكم).
(1) هو شمر بن حمدويه الهروي (ت 255 ه)، له المعجم المعروف ب (كتاب الجيم)، وهو من اللغويين الثقات. (*)
[ 306 ]
اختلف في موقعه من حيث الاعراب: – فالمشهور اعرابه مفعولا له، بتقدير ” كراهة أن تصيبوا كما في (معاني القرآن واعرابه) للزجاج (ت 311 ه)، وكما في (الكشاف) للزمخشري (ت 538 ه)، قال: (أن تصيبوا) مفعول له، أي كراهة اصابتكم “. أو بتقدير: (حذر أن تصيبوا) كما في (الميزان) للطباطبائي، أو بتقدير: (لئلا تصيبوا) أو (خشية أن تصيبوا) أو (حذار أن تصيبوا) عند آخرين. – وأعربه استاذنا المظفر في كتابه الاصولي مفعولا به للفعل (تبينوا)، قال: – بعد أن نقد القول باعرابه مفعولا له -: ” والذي ارجحه أن مقتضى سياق الكلام، والاتساق مع اصول القواعد العربية أن يكون قوله (أن تصيبوا قوما) مفعولا لتبينوا، فيكون معناه: فتثبتوا واحذروا إصابة قوم بجهالة “. غير أن المعنى العام للآية الكريمة لا يساعد على اعرابه مفعولا به، ذلك أن الأمر بالتبين أو التثبت كان لغاية، وهي لئلا يصيب السامع للنبأ الآخرين بمجرد سماعه بما لا يجوز أو بما لا ينبغي. أو قل بلغة نحوية: ان المفعول لأجله هو ما كان سببا لوقوع الفعل، وعدم الإصابة – هنا – هو سبب وقوع التبين، أن السامع انما يتبين حذر الإصابة، أو قل لئلا يصيب الآخرين عن جهل منه بحقيقة الواقعة. وسوف نتبين هذا ونتثبت منه بأكثر وأجلى عند بياننا لمعنى الآية فيما يليه. 2 – بجهالة: أعربوا هذه الفقرة أو شبه الجملة حالا، كما في (الكشاف) وغيره، ففي (مجمع البيان): هو في موضع نصب على الحال، والعامل فيه الفعل (تصيبوا)، أي هو حال من فاعل الفعل (تصيبوا). والتقدير: لئلا تصيبوا القوم بما لا يستحقونه وأنتم جاهلون بواقع الواقعة
[ 307 ]
وحقيقتها. معناها: حاول الاصوليون فهم معنى الآية عن طريق تطبيق القواعد الاصولية عليها لإثبات دلالتها على حجية خبر الثقة. وسنأتي على وجه استدلالهم المتضمن لهذا كي نتبينه ونتبين دلالة الآية من خلاله. ولكن بعد محاولة أن نفهم معنى الآية من خلال ربط النص بقصته التي تلقي الضوء الكاشف له، وربط الفكرة بواقعها الذي يقرنها بما يساعد على فهم المقصود منها. وهذا النمط من الفهم يتوقف على فهم واقع حياة الناس عند نزول الآية الكريمة، وبخاصة انها في معرض التشريع، ولكن بنحو التهذيب. والتشريع كما يكون تأسيسا لسلوك جديد يكون – أيضا – تهذيبا لسلوك قائم بحاجة إلى أن يهذب. والآية الكريمة في تشريعها هي من النمط الثاني، أي انها جاءت لتهذب سلوكا قائما وجعله يتواءم مع مصلحة الإنسان في مجال تنظيم حياته في هذه الدنيا. فمن الأمر بالتبين أو التثبت الذي يعني التوقف عند سماع خبر الفاسق نفهم أن الناس كانوا عندما يسمعون الخبر لا ينظرون إلى حال المخبر، وإنما يقومون بتصديقه وترتيب الآثار عليه ثقة كان المخبر أو غير ثقة. وهذا ما لمسناه في قصة النزول حيث أكثر المسلمون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغزو القوم ثانية بمجرد سماعهم خبر منعهم الزكاة من ابن أبي معيط..
[ 308 ]
ولولا توقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتثبته في الأمر لوقعت الواقعة. وكانت الغزوة الثانية. فالآية الكريمة عندما نزلت كانت تهدف إلى تهذيب هذا السلوك المضر بالمصلحة، إلى سلوك نافع يحقق المصلحة، فنهت عن قبول خبر الفاسق بمجرد نقله الخبر وسماعه منه لأن احتمال الكذب في خبر الفاسق هو بمستوى يوجب عدم الأخذ به ذلك أن نسبة احتمال الصدق في خبره ضيئلة بالنسبة لاحتمال الكذب. ثم أمرت الآية بالتثبت حتى يتبين ويتضح واقع الواقعة فتحصل لدى السامع المعرفة التي يمكنه الاستناد إليها والاعتماد عليها. ذلك أنه إذا لم يصل إلى هذه المعرفة وقام بالفعل وهو جاهل بحقيقة الواقعة استنادا إلى خبر الفاسق فانه يندم على فعله عندما لا يصيب الواقع حيث لا ينفع الندم. وبهذا فسر استاذنا المظفر الآية الكريمة قال: ” انها (يعني الآية) تعطي أن النبأ من شأنه أن يصدق به عند الناس، ويؤخذ به من جهة أن ذلك من سيرتهم، وإلا فلماذا نهى عن الأخذ بخبر الفاسق من جهة أنه فاسق. فأراد تعالى أن يلفت أنظار المؤمنين إلى أنه لا ينبغي أن يعتمدوا كل خبر من أي مصدر كان، بل إذا جاء به فاسق ينبغي أن لا يؤخذ به بلا ترو، وإنما يجب فيه أن يتثبتوا أن يصيبوا قوما بجهالة، أي بفعل ما فيه سفه وعدم حكمة قد يضر بالقوم. والسر في ذلك أن المتوقع من الفاسق ألا يصدق في خبره، فلا ينبغي أن يصدق ويعمل بخبره. فتدل الآية بحسب المفهوم على أن خبر العادل يتوقع منه الصدق فلا يجب فيه الحذر والتثبت من إصابة قوم بجهالة، ولازم ذلك أنه حجة.
[ 309 ]
والذي نقوله ونستفيده وله دخل في إستفادة المطلوب من الآية: أن النبأ في مفروض الآية مما يعتمد عليه عند الناس، وتعارفوا الأخذ به بلا تثبت، وإلا لما كانت حاجة للأمر فيه بالتبين في خبر الفاسق، إذا كان النبأ من جهة ما هو نبأ لا يعمل به الناس. ولما علقت الآية وجوب التبين والتثبت على مجئ الفاسق يظهر منه بمقتضى مفهوم الشرط أن خبر العادل ليس له هذا الشأن، بل الناس لهم أن يبقوا على سجيتهم من الأخذ به وتصديقه من دون تثبت وتبين لمعرفة صدقه من كذبه من جهة خوف إصابة قوم بجهالة. وطبعا لا يكون ذلك إلا من جهة اعتبار خبر العادل وحجيته، لأن المترقب منه الصدق، فيكشف ذلك عن حجية قول العادل عند الشارع والغاء احتمال الخلاف فيه “. ولازم الغاء العمل بخبر الفاسق شرعا جواز العمل بخبر الثقة وصحة الركون إليه، إذ لا واسطة بينهما ولا خيار ثالثا في مقام العمل الاجتماعي. وجه الإستدلال: وكما ألمحت، ان الاصوليين اتبعوا في الإستدلال بالآية على حجية خبر الثقة تطبيق القواعد الاصولية، وعلى نحوين: – النحو الأول: تطبيق قاعدة مفهوم الوصف الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما. ومن هؤلاء الذين طبقوا هذه القاعدة المحقق الحلي، قال في كتابه (المعارج): ” ووجه الدلالة: أنه أمر بالتبين عند كونه فاسقا، فوجب ألا يحصل وجوب التبين عند عدمه، وإلا لما كان لتعليق التبين على الفسوق فائدة “.
[ 310 ]
– النحو الثاني: تطبيق قاعدة مفهوم الشرط. وهو ما رأيناه في بينا استاذنا المظفر لمعنى الآية. والخلاصة: ان الآية الكريمة تمنع من قبول خبر الفاسق بطريقة تهذيب واقع السلوك القائم عند الناس آنذاك. وتجوز قبول خبر الثقة بطريقة عدم الردع، وهو نوع من إمضاء السيرة، لأن لازم عدم الأخذ بخبر الفاسق الأخذ بخبر الثقة، حيث لا يوجد عمليا غير هذا. واستدلوا من السنة الشريفة بطوائف من الأخبار المتواترة والمستفيضة التي يطمئن إلى صدورها عن المعصومين. وهي بمجموعها تفيد أن العمل على وفق خبر الثقة مطلقا إماميا كان أو غير إمامي من القضايا المفروع من ثبوتها. وما هو إلا البناء على تباني العقلاء والأخذ بسيرتهم، فيكون شأنها – هنا – شأن آيتي النفر والنبأ من حيث الإمضاء من قبل المعصوم لما قامت عليه سيرة العقلاء، فهي – الاخرى – تعطي بهذا الحجية لخبر الثقة بجواز التعبد به والعمل على وفقه. وهي: 1 – الأخبار الواردة في بيان المرجحات عند تعارض الخبرين أمثال: – مقبولة عمر بن حنظلة: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث). – مروية عوالي اللئالي عن العلامة الحلي، المرفوعة إلى زرارة: (قال: يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما نأخذ ؟ قال: خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر.
[ 311 ]
قلت: فانهما معا مشهوران. قال: خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك). – رواية الحارث بن المغيرة عن الصادق (عليه السلام) قال: (إذا سمعت من أصحابك الحديث، وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم). قال الشيخ الأنصاري في (الرسائل): ” نعم، رواية ابن المغيرة تدل على اعتبار خبر كل ثقة. وبعد ملاحظة ذكر الأوثقية والأعدلية في المقبولة والمرفوعة يصير الحاصل من المجموع اعتبار خبر الثقة بل العادل. لكن الإنصاف، ان ظاهر مساق الرواية أن الغرض من العدالة حصول الوثاقة فتكون العبرة بها “. 2 – الأخبار الدالة على إرجاع الأئمة بعض أصحابهم إلى أشخاص معينين من رواة حديثهم أمثال: – (إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس – مشيرا إلى زرارة). – (وأما ما رواه زرارة عن أبي (عليه السلام) فلا يجوز رده). – قوله (عليه السلام) لابن أبي يعفور بعد أن سأله عمن يرجع إليه إذا احتاج إلى مسألة: (فما يمنعك عن الثقفي ؟ – يعني محمد بن مسلم – فانه سمع من أبي أحاديث، وكان عنده وجيها). – وقوله (عليه السلام) لسلمة بن أبي حبيبة: (ائت أبان بن تغلب، فانه قد سمع مني حديثا كثيرا، فما روى لك عني، فاروه عني). – وقوله (عليه السلام) لشعيب العقرقوفي بعد سؤاله عمن يرجع إليه:
[ 312 ]
(عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا). – وقوله (عليه السلام) لما قال له عبد العزيز بن المهتدي: (ربما أحتاج، ولست ألقاك في كل وقت، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني ؟ قال: نعم). يقول الشيخ الأنصاري: ” وظاهر هذه الرواية أن قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي، فسأل عن وثاقة يونس ليرتب عليه أخذ المعالم منه. ويؤيده في إناطة وجوب القبول بالوثاقة ما ورد في العمري وابنه اللذين هما من النواب والسفراء، ففي (الكافي) – في باب النهي عن التسمية -: (عن الحميري عن أحمد بن إسحاق قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) وقلت له: من أعامل ؟ وعمن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال (عليه السلام) له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له، وأطع، فانه الثقة المأمون “. (وأخبرنا أحمد بن إسحاق: أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وإبنه ثقتان، فما أديا إليك عني، فعني يؤديان، وما قالا لك عني، فعني يقولان، فاسمع لهما، وأطعهما، فانهما الثقتان المأمونان). وهذه الطائفة – أيضا – مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على اعتبار خبر الثقة المأمون (1). 3 – الأخبار التي تحمل الذم للكذب على المعصوم، وتحذر الكذابين من مغبة الكذب، ” مثل الحديث المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، مما يدل على المفروغية عن حجية خبر الآحاد، إذ لو كانوا
(1) – الرسائل: خبر الواحد. (*)
[ 313 ]
مقتصرين في مجال الحجية على خصوص الخبر المتواتر لما كان مجال للكذب عليهم، ولما كان أثر لاولئك الكذابين يخشى منه ” (1). 4 – الأخبار الدالة على وجوب الرجوع إلى الرواة الثقات والعلماء والفقهاء، مثل قول الحجة (عليه السلام) لاسحاق بن يعقوب على ما في كتاب الغيبة للشيخ وإكمال الدين للصدوق والاحتجاج للطبرسي: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم). يقول الشيخ الأنصاري: ” فانه لم سلم أن ظاهر الصدر (يعني صدر الرواية) الاختصاص بالرجوع في حكم الوقائع إلى الرواة أعني الاستفتاء منهم، إلا ان التعليل بانهم حجته (عليه السلام) يدل على وجوب قبول خبرهم “. ومثل الرواية المحكية عن (العدة) من قوله (عليه السلام): ” (إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا، فانظروا إلى ما رووه عن علي (عليه السلام)). دل على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامة (يعني أهل السنة) مع عدم وجود المعارض من رواية الخاصة (يعني الإمامية)… ” (2). 5 – الأخبار الدالة على جواز الرجوع إلى كتب الشلمغاني (3). وبني فضال (4)، وهي: مثل ما في كتاب (الغيبة) – للشيخ الطوسي، بسنده
(1 الاصول العامة السند. (2) – الرسائل خبر الواحد. (3) – هو محمد بن علي (ت 322 ه) نسبة إلى شلمغان قرية من نواحي مدينة واسط بالعراق، ويعرف بابن أبي العزاقر. كان مستقيم الطريقة، متقدما في أصحابنا، ثم انحرف عن المذهب، وله كتب ألفها حال استقامته، وإليها الإشارة في السؤال وجوابه المذكورين في أعلاه. (4) – بنو فضال: من أسر الشيعة في الكوفة، وهم من آل تيم الرباب. اشتهر منهم: = (*)
[ 314 ]
الصحيح إلى عبد الله الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح حيث سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني، فقال الشيخ: (أقول فيها ما قاله العسكري (عليه السلام) في كتب بني فضال حيث قالوا له: ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء ؟، قال: خذوا ما رووا، وذروا ما رأوا). فانه دل بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضال، وبعدم الفصل على كتب غيرهم من الثقات ورواياتهم (1). 6 – الأخبار الواردة في الترغيب في الرواية: حفظها وكتابتها وإبلاغ الناس بها، مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من حفظ على امتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة). وقوله (عليه السلام) لأحد الرواة: (اكتب وبث علمك في بني عمك فانه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم). ومثل ما ورد في شأن الكتب التي دفنها أصحابها تقية: (حدثوا بها فانها حق). والخلاصة: ان ما استدل به المثبتون لحجية خبر الثقة ناهض بالإثبات وواف بالدلالة على ذلك. وكما يقول الشيخ الخاقاني في (أنوار الوسائل (2)): ” قامت الأدلة من الأخبار
= – الحسن بن علي بن فضال. – وإبنه علي بن الحسن بن علي بن فضال. وعرفا بانتمائهما إلى المذهب الفطحي الذي كان فبان. (1) – الرسائل: خبر الواحد. (2) – أنوار الوسائل 1 / 5 – 6. (*)
[ 315 ]
المتواترة على حجية الخبر الموثوق بصدوره تعبدا أو امضاء للسيرة المتعارفة المألوفة بين الناس في اعتبار خبر الواحد الموثوق بصدوره في كل عصر وجيل “. تطور الرأي: رأينا أن البحث في خبر الواحد كان يدور حول وجوده في موسوعات الحديث، وفي حجيته بعد ثبوت وجوده. وكان محور البحث هو وثاقة الراوي المفيدة للظن بالصدور وكل هذا كان من حيث النظرية. أما من حيث التطبيق، أي عندما يتعامل الفقيه مع الرواية لاستنباط الحكم الشرعي منها، فان الوضع يختلف عنه في دراسة المسألة نظريا. ويرجع هذا إلى أن العديد من الأخبار لا يمكن الوصول إلى وثاقة رواته على وجه التحقيق. ومن هنا وضع العلماء قاعدة الجبر القائلة: ان الحديث الضعيف سندا ينجبر ضعفه بعمل الأصحاب على وفقه، وذلك لسد الفراغ الذي قد يحدث بسبب عدم وجود شئ يملؤه إلا الأخذ بالقاعدة المذكورة، ومن جراء هذا انبثق المبدأ القائم على أساس اكتفاء أو استغناء الفقيه بوثوقه شخصيا بصدور الخبر عن المعصوم بما يعثر عليه من قرائن وملابسات تساعده على ذلك. وعبروا عن هذا المبدأ ب (الوثوق بالصدور) في مقابل المبدأ المتقدم، وهو (وثاقة الراوي). وممن صرح بذلك الآغا رضا الهمداني، فقد نقل عنه استاذنا الخوئي في بحثه عن (الاجتهاد والتقليد) عند تعرضه لبيان حاجة المجتهد لعلم الرجال خلال قوله: ” ثانيهما: علم الرجال، وذلك لأن جملة من الأحكام الشرعية وان كانت تستفاد من الكتاب إلا أنه أقل قليل، وغالبها يستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل
[ 316 ]
البيت (عليهم السلام) “. وعلى ذلك: ان قلنا بأن الأخبار المدونة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور، أو انها مما نطمئن بصدورها، لأن الأصحاب عملوا على طبقها، ولم يناقشوا في إسنادها، وهذا يفيد الاطمئنان بالصدور، فقد استرحنا من علم الرجال لعدم مساس الحاجة إلى معرفة أحوال الرواة، كما سلك ذلك المحقق الهمداني (قدس سره) حيث قال: ” ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتصافها بالصحة المطلوبة، وإلا فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواته على سبيل التحقيق، لولا البناء على المسامحة في طريقه، والعمل بظنون غير ثابتة الحجية. بل المدار على وثاقة الراوي أو الوثوق بصدور الرواية، وان كان بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدونة في الكتب الأربعة، أو مأخوذة من الاصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها وعدم إعراضهم عنها “. إلى أن قال: (ولأجل ما تقدمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حالهم) انتهى. وإنما اللازم حينئذ مراجعة أن الرواية هل هي معمول بها عندهم لتكون حجة أو أنها معرض عنها لتسقط عن الاعتبار. ومعه لا تمس الحاجة إلى علم الرجال إلا في بعض الموارد، كما إذا لم يظهر لنا عمل الأصحاب على طبق الرواية أو إعراضهم عنها ” (1).
(1) – انظر: التنقيح: الاجتهاد والتقليد. (*)
[ 317 ]
مبنى الاستنباط: ونخلص مما تقدم إلى أنه أمام الفقيه أكثر من مبنى لابد له من أن يجتهد فيها. ويتبنى ما يسلمه إليه الدليل، ليبني عليه استنباطاته عند الرجوع إلى أخبار الآحاد، والتعامل معها فقهيا. وهذه المباني، هي: 1 – عدم جواز العمل بخبر الواحد. 2 – جواز العمل به: وينشعب هذا الأخير – على أساس توافر الخبر على عنصر الوثوق بصدوره عن المعصوم إلى مبنيين، هما: أ – اشتراط وثاقة الراوي. ب – الاستغناء بالوثوق عن طريق القرائن والملابسات، أو قل الاكتفاء بوثاقة الرواية. النتائج: 1 – انبثق في الوسط العلمي الفقهي لموضوع خبر الثقة رأيان، هما: أ – عدم جواز العمل به لأنه مظنون الصدور ولا دليل على جواز العمل به. ب – جواز العمل به، لقيام الدليل القطعي على صحة الأخذ به والعمل على طبقه. وقد سار هذان الرأيان جنبا إلى جنب حتى عصر الفقيهين المتعاصرين الشريف المرتضى والشيخ الطوسي، ثم كانت الغلبة للرأي الأول. وعرف الشريف بأخذه بالرأي الأول وعمله على تركيزه والدفاع عنه. وعرف معاصره الشيخ بأخذه بالرأي الثاني وعمله – أيضا – على تركيزه والدفاع عنه. وعندما دون الشيخ رأيه في كتابه الاصولي (العدة) بدأ يتغلب على الرأي
[ 318 ]
الأول. وذهب الرأيان يتصارعان علميا حتى عصر ابن إدريس وهو آخر من تبنى الرأي الأول من الاصوليين، حيث راح الرأي الأول يضعف أمام الرأي الثاني. 2 – وفي عصر المحقق الأول استقر المنهج على الأخذ بالرأي الثاني وحتى الآن. 3 – كما استقر المبنى مؤخرا على الاستناد اما إلى وثاقة الراوي، واما إلى وثاقة الرواية. ظواهر الألفاظ تعريف الظهور: لكي نعرف معنى الظهور اللفظي علينا أن ننطلق إلى هذا عن طريق بيان أنواع دلالة الدليل اللفظي على معناه ثم مستوى الإيمان بكل نوع. أما أنواع الدلالة فهي: – دلالة النص. – دلالة الظاهر. – دلالة المؤول. – دلالة المجمل. ويقوم هذا التنويع للدلالة على أساس من مستوى علاقة اللفظ بالمعنى من حيث إفادته له. 1 – فقد يكون للفظ معنى واحد، فدلالته عليه دلالة نص.
[ 319 ]
2 – وقد يكون للفظ أكثر من معنى، إلا أن له ظهورا وبروزا في دلالته على واحد منها دون البقية، ان دلالته على المعنى الذي له ظهور فيه هي دلالة الظاهر. 3 – وقد يقترن هذا اللفظ الذي له أكثر من معنى بما يصرفه عن الدلالة على المعنى الظاهر إلى الدلالة على المعنى الآخر المحتمل، فهي دلالة المؤول. 4 – وقد لا يتبين المتلقي المعنى من اللفظ لابهامه وغموضه، فهي المجمل. أما مستويات الإيمان بالدلالة التي تتمثل في درجة القناعة النفسية التي تحصل للمتلقي – سامعا كان أو قارئا – عند محاولة استفادته المعنى من اللفظ، فهي: – اليقين. – الاطمئنان. – الظن. – الاحتمال. – التوقف. وكل هذه المذكورات حالات نفسية تمثل مستوى أو درجة إيمان أو قناعة المتلقي بدلالة اللفظ على المعنى المقصود للمتكلم. وإذا حاولنا أن نتعرف هذه الدرجات في ضوء النسبة المئوية – على نحو التقريب – فاننا نقول: – اليقين يساوي نسبة 100 %. – الشك يساوي نسبة 50 % لتساوي محتملات الأطراف، ذلك أن الشك Doubt حال نفسية يتردد معها الذهن بين الإثبات والنفي، فلا يقوى الإنسان معها على ترجيح أي طرف من الطرفين أو الأطراف. – التوقف يساوي نسبة الصفر.
[ 320 ]
وما بين الشك واليقين هي منطقة نسبة الاطمئنان والظن. فما بين 95 % إلى 99 % هي نسبة الاطمئنان لضعف درجة الاحتمال المقابل له إلى مستوى لا يعتد به. وما فوق الخمسين حتى نسبة 94 % هي درجة الظن على اختلاف مستوياته قوة وضعفا. وما دون الخمسين هي نسبة الاحتمالات المقابلة للظنون، وهي أيضا تتفاوت قوة وضعفا. ففي الحالتين الأوليين: (اليقين والاطمئنان) تسمى الدلالة بالدلالة اليقينية أو الدلالة النصية أو دلالة النص، أو الدلالة الصريحة من تسمية اللفظ – هنا – بالنص أو الصريح. وفي الحالة الثالثة (الظن) تسمى الدلالة بالدلالة الظنية أو دلالة الظهور أو دلالة الظاهر من تسمية اللفظ – هنا – بالظاهر. وفي الحالة الرابعة (الاحتمال) تسمى بالدلالة الاحتمالية أو دلالة التأويل من تسمية اللفظ – هنا – بالمؤول. وفي الحالة الخامسة التي هي التوقف، تسمى الدلالة بالدلالة الإجمالية من تسمية اللفظ بالمجمل. ويطلق على الدلالات الأربع الاولى عنوان الدلالة البيانية أو دلالة البيان، في مقابل الدلالة الاجمالية، ويصطلح على اللفظ ب (المبين) في مقابل (المجمل). فالدلالة البيانية هي التي يبين فيها المعنى، أي يعرف من اللفظ سواء كان ذلك من حاق اللفظ أو بمعونة القرينة، أي بشكل مباشر أو غير مباشر. والدلالة الاجمالية هي التي لا يتبين فيها المتلقي المعنى من اللفظ.
[ 321 ]
دلالة النص: قد يطلق (النص) ويراد به مطلق اللفظ، وهو المعروف في عصرنا هذا، وبخاصة في لغة الثقافة: العلوم والآداب والفنون، فيقال (نص أدبي) و (نصوص أدبية) أمثال: القصيدة أو البيت من القصيدة أو البيت المفرد، والمقالة، والقصة أو المقطع من إحداهما، أو اللفظة المفردة. ويقال: (نص علمي) و (نصوص علمية) أو (نص فني) كنص المسرحية ونص الانشودة. وقد يطلق (النص) ويراد به اللفظ الذي هو نص في معناه، أي الذي يعين معناه بما لا يحتمل دلالته على غيره، لأن التنصيص معناه التعيين، واللفظ – هنا – ينص على معناه أي يعينه ويمنع احتمال إرادة سواه. والمعنى الثاني هو المقصود هنا لأنه المصطلح الاصولي في مقابلة (الظاهر) وأخواته من المصطلحات المذكورة في أعلاه. (تعريف النص): فالنص: هو اللفظ الذي يدل على معنى معين مع دفع احتمال إرادة غيره. ومستوى الدلالة – هنا – بدرجة اليقين الذي يعني إرادة المتكلم للمعنى المدلول عليه باللفظ إذا كانت (100 %)، أو بدرجة الاطمئنان الذي هو أقل من اليقين بقليل جدا، أي يقارب (100 %). واليقين أو الاطمئنان حالة نفسية تكون عند المتلقي حين سماعه أو قراءته اللفظ، تعرب وتكشف عن إيمانه بأن المعنى المدلول للفظ هو المقصود للمتكلم بمستوى يلغي معه احتمال إرادة غيره أو لا أقل من احتمال إرادة معنى آخر احتمالا ضعيفا جدا لا يعتد به، وذلك في حالة الاطمئنان. واليقين في اللغة العربية مأخوذ من (يقين الماء في الحوض) إذا استقر وثبت، فكأن اللفظ لتعيينه لمعناه يجعل هذا المعنى مستقرا في نفس المتلقي وثابتا،
[ 322 ]
فتكون نفسه كالحوض يستقر فيها المعنى كما يستقر فيه الماء. ويقال: (اطمأن القلب) إذا سكن بعد القلق، أي استقر وثبت. ويقسم اليقين على أساس من طريقة حصوله عند الإنسان إلى: ذاتي وموضوعي، أو وجداني وبرهاني: 1 – اليقين الذاتي أو الوجداني: هو اليقين الذي يحصل عند الإنسان من مجرد إدراكه لواقع ذلك الشئ أو قل: بوجدان ذلك الشئ عنده أو أمامه، أي بمجرد وجوده من غير افتقار إلى تفكير أو إقامة برهان. فيؤمن بذلك الشئ ويذعن له ويسلم به لذاته لا لشئ آخر خارج عنه دل عليه. فالإدراك في حالة اليقين أو الاطمئنان – هنا – وجداني، أي منبعث ونابع من الوجدان لا البرهان. والمعرفة – هنا – ذاتية نابعة من ذات المعلوم، لا من شئ آخر خارج عن الذات. وهكذا معرفة لا تقبل الشك. ومن هنا عرف اليقين والاطمئنان منطقيا ب (المعرفة التي لا تقبل الشك)، واصوليا ب (الجزم الذي لا يحتمل الخلاف) وسيكلولوجيا (نفسيا) ب (طمأنينة النفس لشئ تراه حقا لا ريب فيه)، وذلك لأن هكذا يقين – حيث ينكشف معه المعلوم إنكشافا لا يبقى معه ريب – لا يقارنه إمكان الغلط والوهم. 2 – اليقين الموضوعي أو البرهاني: هو اليقين الذي يحصل للإنسان بسبب إقامة البرهان، أي أنه غير متأت من
[ 323 ]
ذات الشئ بمجرد إدراك الإنسان لذلك الشئ، وإنما بسبب دلالة البرهان الفلسفي أو العلمي عليه بمستوى من القوة يفرض نفسه بسببها على عقل الإنسان فرضا، بحيث لا يستطيع العقل أمام البرهان إلا الإذعان بالقبول وعدم الرفض. وإذا قارنا بين هذا القسم وقسيمه اليقين الذاتي فاننا سنرى ان اليقين الذاتي لأنه ذاتي، أي لأنه نابع من مجرد إدراك ذات الشئ لا يتغير، لأن الواقع الثابت في الذات غير قابل لأن يتغير، فاليقين المتعلق به كذلك – هو الآخر – لا يتغير أيضا. وبعكسه اليقين الموضوعي لأنه غير آت من إدراك الشئ وإنما هو آت من البرهان الدال عليه، فمتى ما اهتز البرهان وسلبت منه القدرة على الإثبات اهتز اليقين معه وزال بزواله. ومنه قالوا: ” قد يذعن المرء لما هو في الواقع خطأ “. وقيد بعضهم التعريف القائل بأن ” القطع هو الجزم الذي لا يحتمل الخلاف ” بالقيد التالي: ” سواء طابق الواقع أو خالفه ” ليشمل القسمين المذكورين. وعلى أساس من هذه التفرقة تقيم حجية كل واحد منهما. والحجة – كما يعرفها استاذنا المظفر: ” كل شئ يكشف عن شئ آخر ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له “. وبتعبير آخر: هي إضفاء الاحتجاج على الشئ الذي يراد الاستدلال به والبرهنة على الإثبات أو النفي. فحجية اليقين الذاتي – أو قل: اعتباره حجة يصلح للاحتجاج به – أمر بديهي لايتطلب إقامة برهان لإثباته، وذلك لأن العلم بالشئ هنا جاء من إنكشاف واقع الشئ بذاته ووجدانا، وما يأتي عن طريق الوجدان لا يفتقر إلى البرهان. جاء في الارجوزة تعريفا للعلم ” حقيقة العلم انكشاف الواقع “.
[ 324 ]
ومتى انكشفت حقيقة الشئ أمام الإنسان لا يحتاج وراء هذا الإنكشاف إلى ما يثبتها لأن الوجدان أقوى من البرهان. ولهذا قال الاصوليون: حجية القطع ذاتية، وإليها ترجع حجية كل الحجج، لأنها بديهية ضرورية. والحجية النظرية إذا لم ترجع إلى البديهية لا تقوى على إثبات حجيتها. وقالوا أيضا: (القطع حجة بذاته) ويعنون به ما ذكرناه. أما في القسم الثاني – وهو الذي لا يتأتى إلا عن طريق البرهان – فحجيته قائمة بحجية البرهان، فان ثبت ثبتت، وان اهتز اهتزت. وإذا علمنا ان دلالة النص تتنوع إلى نوعين، هما: 1 – أن يدل اللفظ على معنى معين (واحد) بنفسه. أي أن اللفظ نص في معناه لا يحتمل غيره، نقول: ان اليقين هنا ذاتي وجداني، وحجيته مثله، وهي – أيضا – غير قابلة لأن تنفصل عنه. 2 – أن يدل اللفظ على معنى ظاهر، ولكنه يقترن بدليل علمي يعينه وينص عليه بأنه هو المقصود للمتكلم، فيحول الظن إلى يقين. ولأن مثل هذا اليقين مرتبط بالقرينة، فانها – أعني القرينة – متى اختلت، اختلت معها الدلالة اليقينية، ورجعت إلى دلالة ظنية. وكذلك حجيته مرتبطة بحجية الدليل، فإذا اهتز الدليل اهتزت معه. وتطبيقا نقول: لابد من أن نفرق أثناء الإستدلال بين دلالة النص وبين دلالة الظاهر بما يجعله نصا. ففي الأول لا مجال للخلاف والاختلاف، وفي الثاني الأمر مرتبط بالقرينة (الدليل).
[ 325 ]
وعلى هذا بناء العقلاء وسيرتهم في التعامل مع هكذا ألفاظ، أي ان هذا التعامل ظاهرة عامة من الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة. ومن الشواهد العربية لدلالة النص: – قوله تعالى: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) *. فان كلمة (أبدا) نص في التأبيد، بمعنى الاستمرار طول الأبد الذي هو الدهر. – ومثله قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *. ومن الأمثلة العربية لدلالة الظاهر المقترن قوله تعالى: * (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *. فان الجناح يعني الإثم، ونفيه في الألفاظ الشرعية يستعمل في الوجوب والندب والإباحة. فقوله تعالى: (فلا جناح) قبل قوله (أن يطوف) – وهو الطواف المراد به السعي – يفيد بأنه لا إثم في السعي، ويستفاد تعيين نوعية حكمه من الدليل الخارج عن النص. ومن هنا اختلف في نوعية حكمه الشرعي ” فقال جماعة من المفسرين والفقهاء هو سنة (مستحب) لظاهر العبارة، فان رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لأنه أعم منه، والعام لا يستلزم الخاص “. وذهب آخرون – كالإمامية – إلى أن حكمه الوجوب لأدلة خارج النص أفادت ذلك، وهي بيانات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام). والأدلة المشار إليها هي من القوة بالمستوى الذي يفيد اليقين.
[ 326 ]
دلالة الظاهر: عرف الظاهر – في لغتنا – بالمعنى الواضح الذي لا يحتاج في إدراكه من بين المعاني الاخرى التي يدل عليها اللفظ إلى تأمل أو تأويل. أو قل: هو المعنى الذي ينسبق إليه ذهن المتلقي عند تلقي اللفظ، ويتبادر هو إلى ذهنه بمجرد تلقي اللفظ. وبتعبير آخر: إذا كان للفظ أكثر من معنى، وكان أحد المعاني يتميز بأنه أبرز وضوحا من سواه فهو الظاهر، لأن الظهور يعني البروز. ويقابل المعنى الظاهر المعنى المحتمل المصطلح عليه ب (المؤول) – كما سيأتي. وحالة الإيمان به التي تحصل لدى المتلقي للفظ الظاهر هي الظن. ذلك أن الظن – Opinion كما يعرف فلسفيا -: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض. هذا لأن المتلقي عندما يؤمن بأن المعنى الظاهر هو المعنى المقصود للمتكلم فانه يحتمل في الوقت نفسه إرادة المعنى الآخر. فهو – هنا – يحتمل إرادة المعنى الظاهر ويحتمل إرادة المعنى الآخر. والفرق بين الاحتمالين أن الإيمان مع المعنى الظاهر احتمال راجح، ومع المعنى الآخر احتمال مرجوح. ومن هنا قالوا: ان المعنى الظاهر ” معرفة أدنى من اليقين تحتمل الشك ولاتصل إلى مستوى العلم “. ولأن الظن هو الاحتمال الراجح كان هو المعنى الظاهر والبارز بالنسبة إلى المعنى الآخر. والمراد بالظهور – في عرف الاصوليين – الظهور العرفي، وذلك ليرقى إلى
[ 327 ]
مستوى الظاهرة اللغوية الاجتماعية العامة. ولأننا تبينا وعرفنا معنى الظهور نكون بحاجة فقط لأن نتبين ونعرف معنى العرف الذي به يرقى الظهور إلى مستوى الظاهرة العامة. العرف هو ما تعارف عليه الناس، أو هو المعروف بينهم. والمعنى العرفي – على أساس من تعريف العرف المذكور – هو المعنى المعروف للفظ من بين معانيه الاخرى عند الناس في مجال استعمالاتهم للألفاظ في مختلف أنماط حياتهم الاجتماعية والذي يرتبون عليه الآثار الشرعية والقانونية والعرفية. ويتفرع على هذا، لكي نفهم موقع الفهم العرفي أن نقسم الاستعمالات اللغوية إلى المستويات التالية: 1 – المستوى المعجمي الاجتماعي: ويراد به الاستعمالات المعروفة بين أبناء المجتمع ودونت في المعجمات اللغوية. مثال ذلك: كلمة (المال) فان لها تعريفات معجمية مستمدة من واقع الاستعمالات العرفية العامة والخاصة، قال ابن الأثير ” المال: – في الأصل – ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الابل لأنها كانت أكثر أموالهم “. وفي (معجم ألفاظ القرآن الكريم): ” المال: ما يملك من الأعيان كالذهب والفضة والحيوان والدار والشجر. وأكثر ما كان يراد بالمال عند أهل البادية الإبل، يقول القائل منهم: (خرجت إلى مالي) يريد إبله، وكان الحضري يقول: (خرجت إلى مال لي بالطائف) يريد
[ 328 ]
ضيعته “. من الواضح ان التعريفين المذكورين للمال مستمدان من واقع الاستعمال العرفي للمال، وفي إطار التطور الاستعمالي للكلمة، وهو ما يعرف في علم اللغة بالتطور الدلالي، أي التاريخ لاستعمال الكلمة في مختلف المجتمعات زمانا ومكانا، ومن خلال تفاوتاتهم في الاستعمال. فالدلالة هذه اجتماعية – كما رأينا -، وفي الوقت نفسه هي دلالة معجمية لأنها ذكرت في المعاجم اللغوية. 2 – المستوى الاجتماعي: وقد تستعمل اللفظة في المجتمع ولكن لا تدون في المعجم اللغوي لسبب من الأسباب. وهذه مثل لفظة (جدة) – بكسر الجيم وفتح الدال المهملة من غير تشديد، بعدهما تاء مربوطة – فانها وردت في أكثر من رواية في موضوع الحج. وهي تعني اليسار والغني والمال، وكان هذا في العصر العباسي. ومن ذلك ما رواه الحر العاملي في كتابه (الوسائل) – في الباب الثاني من أبواب كتاب الحج المعنون (باب انه يجب الحج على الناس في كل عام وجوبا كفائيا): – عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: ” ان الله – عزوجل – فرض الحج على أهل الجدة… “. – وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): قال: (ان الله – عزوجل – فرض الحج على أهل الجدة…). فان كلمة (جدة) لم تذكر بهذا المعنى في المعاجم العربية المبكرة وكذلك المعاجم المتأخرة التي نقلت عنها، وانما الذي ذكر معجميا بهذا المعنى (الجد) بفتح الجيم وتشديد الدال وبغير تاء.
[ 329 ]
ومن شواهد استعماله اجتماعيا ما جاء في الدعاء (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). قال الجوهري: (أي لا ينفع ذا الغني عندك غناه)، وقال أبو عبيد: (في هذا الدعاء) الجد بفتح الجيم لا غير، وهو الغني والحظ). ووردت كلمة (جدة) مصطلحا فلسفيا كإحدى المقولات العشر المعروفة مرادا بها (الملك)، يقولون: (مقولة الجدة) ويعنون بها مقولة الملك. وأيضا كان هذا في العصر العباسي حيث ترجمت الفلسفة اليونانية إلى العربية. فربما زاد الاستعمال العرفي، التاء لكلمة ” الجد ” المعروفة لغويا، ولم يذكره اللغويون في مدوناتهم لأنه – في رأيهم – استعمال مولد. نعم، تجاوز هذا الزمخشري في مجمعه (أساس البلاغة) فقال: ” وقد وجد وجدا وجدة، وأوجده الله: أغناه “. وربما كان هو المصطلح الفلسفي تعامل معه الناس فكان عاما، والعكس وارد أيضا، وهو أن يكون المصطلح الفلسفي هو الذي استعير من الاستعمال الاجتماعي. 3 – المستوى المعجمي: وذلك أن تكون الكلمة قد استعملت في زمان ما ومكان ما في معنى من المعاني ثم انحسر ذلك المعنى عن الاستعمال، وبقي المعجم اللغوي يحتفظ به، لأنه قد استعمل، أو يشير به إلى تطور دلالة الكلمة. وذلك مثل كلمة (رأى) بمعنى (ضرب رئته) كما جاء في كتاب (الملاحن) لابن دريد، فانها – في الاستعمال المعروف لها بين الناس هي فعل ماض من الرؤية بمعنى البصر، أو الرأي بمعنى الفكر.. والمعنى الذي ذكره لها ابن دريد لا يستعمل إلا نادرا جدا وفي مقام التورية. ومثل هذا لا يتقوم به ظهور عرفي، لأنه يفتقد عنصرا مهما من عناصر الظاهرة
[ 330 ]
اللغوية الاجتماعية وهو الشيوع، وإنما يتقوم الظهور العرفي في المستويين السابقين لتوافرهما على شرط الشيوع. وبتعبير آخر: لابد من توافر شروط الظاهرة الاجتماعية التي تقدم ذكرها وتعريفها، وذلك لتتحقق في الدلالة سمة الظهور العرفي. وعلى أساس من هذا: – لا تعتبر اجتهادات اللغويين – كما سيأتي – من الظهورات العرفية. – كما لا تعتبر من الظهورات العرفية منقولات اللغويين للمعاني الميتة التي لم يرد لها ذكر في الألفاظ الشرعية. – وما لم يذكر من المعاني في المعجم، ولكن ورد له ذكر في الألفاظ الشرعية يحمل على إرادة المعنى العرفي لعرف أبناء مجتمع التشريع. ويعرف هذا عن طريق معرفة الحضارة اللغوية للعصر، فان مثل هذا مما يعد من ألفاظ الحضارة. والخلاصة: المرجع في تشخيص ظهورات الألفاظ – في ما قامت عليه سيرة العقلاء وسار عليه الشرع – هو العرف. ويراد بالعرف: الناس عموما أو أبناء المجتمع في عصر نزول الآية أو صدور الرواية. والأخذ بالظهور العرفي لازم، حتى ولو كان مخالفا لما هو مذكور في المعاجم اللغوية. حجية الظهور: ولأن دلالة الظهور لم تبلغ مستوى القطع الذاتي لتكون حجة بذاتها، وذلك أن أقصى ما تبلغه هو درجة الظن، والظن ليس فيه كشف عن الواقع، فقد يصيب
[ 331 ]
الواقع وقد يخطئه، أثار الاصوليون – من ناحية تطبيقية في مجال الاجتهاد الشرعي وتطبيقاته، للخروج من عهدة المسؤولية أمام الله تعالى بالاحتجاج بالظهور – السؤال التالي: هل يصلح الظهور – وهو ظني الدلالة – لأن يحتج به شرعا ؟ وللإجابة عن السؤال استدلوا ب: – سيرة العقلاء: ” وثبوت هذه السيرة عقلائيا مما لا شك فيه لأنه محسوس بالوجدان، ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين، إذ لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات. ومع عدم الردع (من المشرع المقدس) الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعا تكون هذه السيرة دليلا على حجية الظهور ” (1). – سيرة المتشرعة: من أئمة أهل البيت وأتباعهم وفقهاء الصحابة والتابعين حيث كانوا يتعاملون مع ظهورات الألفاظ في الشرعيات كما يتعامل معها سائر الناس في مختلف شؤونهم. وهو تطبيق لما مضت عليه سيرة العقلاء، وفي الوقت نفسه هو إقرار لها. والحق في هذه المسألة فكما قال السيد السبزواري في كتابه (تهذيب الأصول (2)): ” قد استقرت السيرة العقلائية على الاعتماد على الظواهر في المحاورات والمخاصمات والاحتجاجات ويستنكرون على من تخلف عن ذلك. وهذا من أهم الاصول النظامية المحاورية (نظام التفاهم) بحيث يستدل به لا
(1) – الحلقة الثالثة 1 / 265، الشهيد الصدر. (2) – تهذيب الأصول 2 / 66. (*)
[ 332 ]
عليه. وقد جرت عادة الشرائع الإلهية عليه أيضا فبها يكون تبليغ الأحكام، وعليها يدور نظام المعاش والمعاد، ولو اختل ذلك لأختل النظامات. فحق عنوان البحث أن يكون هكذا: يمتنع عادة عدم اعتبار الظواهر. فحجية الظواهر كحجية الخبر الموثوق به الذي هو من الاصول العقلائية أيضا “. تشخيص الظهور: بعد أن تبينا حجية ظهورات الألفاظ، والمرجع في تشخيصها ننتقل هنا إلى محاولة تعرف طرق تشخيص ظهورات الألفاظ ليهيئ الباحث منها في مجال التطبيقات العلمية صغريات في قياس الإستدلال لكبري أصالة الظهور. ويرتب هذا وفق الشكل الأول من القياس المنطقي كالتالي: هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى + وكل ظاهر لفظي هو حجة = إذن فهذا حجة. ولنأخذ مثالا صيغة فعل الأمر المصطلح عليها اصوليا ب (صيغة افعل)، فاننا إذا أثبتنا ظهورها في الوجوب أو ثبت لدينا بإحدى الوسائل والطرق المقررة أنها تدل على الوجوب، أي أنها ظاهرة في دلالتها على الوجوب نقول: صيغة افعل ظاهرة في الوجوب + وكل ظاهر حجة = إذن فصيغة افعل حجة. وفي عالم الشرعيات ننتقل لتطبيق هذا على المفردات الشرعية فنقول – مثلا -: (صل) فعل أمر + وكل فعل أمر ظاهر في الوجوب = إذن، فصل ظاهر في الوجوب. ثم نطبق عليه كلية الظهور لكي نصل إلى النتيجة المطلوبة فنقول: فصل ظاهر في الوجوب + وكل ظاهر حجة = إذن، فصل حجة.. وهكذا. وتشخيص الظهور يتحقق في مجالين، هما:
[ 333 ]
1 – معرفة المعنى الموضوع له اللفظ، أو قل: معرفة المعنى الحقيقي للفظ عندما يكون المتكلم يريد المعنى الحقيقي من استعماله اللفظ وعندما يكون للفظ معنى حقيقي واحد. 2 – معرفة القرينة: أ – القرينة الصارفة للفظ عن دلالته على المعنى الحقيقي إلى الدلالة على المعنى المجازي عندما يريد المتكلم المعنى المجازي. ب – أو القرينة المعينة للمعنى المراد للمتكلم إذا كان اللفظ يدل على أكثر من معنى كما في الألفاظ المشتركة. فإذا عرف الباحث أو الفقيه المعنى المقصود للمتكلم سواء كان ذلك عن طريق معرفته للوضع أو عن طريق معرفته للقرينة المعينة أو القرينة الصارفة يكون قد وصل في النتيجة إلى المطلوب. وإذا شك المتلقي في شئ من ذلك (في المعنى الموضوع له، أو في وجود القرينة) فهناك طرق ذكرها الاصوليون للوصول إلى ذلك أهمها: 1 – أن يقوم الباحث نفسه بتتبع استعمالات أهل اللغة، ويعمل فكره مجتهدا في معرفة ذلك إذا كان لديه الوسائل العلمية التي تساعده على ذلك بأن كان من أهل الخبرة باللغة. مثال ذلك من اللغة العربية: ذكر في لغتنا العربية ان كلمة (قرء) من الأضداد أي انها من المشترك اللفظي، وهي مشترك بين الحيض والطهر. وقد وردت الكلمة بصيغة الجمع في آية المطلقات * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *، ولم تنصب مع اللفظ القرآني قرينة معينة لأحد معنيي القرء.
[ 334 ]
وهنا لو أراد المتلقي أن يسلك طريق الاجتهاد اللغوي لمعرفة المراد من القروء في الآية الكريمة فأمامه قولان في المسألة، ومع كل قول دليله، وهما: 1 – قول أبي عبيد، وهو أن الاقراء مشترك لفظي بين الحيض والطهر، نقل عنه ابن منظور في (لسان العرب) أنه قال: ” الاقراء: الحيض، والاقراء: الاطهار، وقد أقرأت المرأة، في الأمرين جميعا، وأصله من دنو وقت الشئ “. وإليه ذهب الإمام الشافعي حيث نقل عنه في (لسان العرب) أنه قال: ” القرء: اسم للوقت، فلما كان الحيض يجيئ لوقت، والطهر يجيئ لوقت، جاز أن يكون الاقراء حيضا وأطهارا “. واستدل على أن المراد به في آية المطلقات الأطهار، بالسنة، قال: ” ودلت سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله عزوجل أراد بقوله: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * الأطهار، وذلك ان ابن عمر لما طلق امرأته، وهي حائض، فاستفتى عمر (رضي الله عنه) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما فعل، فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء “. 2 – قول أبي إسحاق، وهو أن القرء هو الطهر، نقله عنه ابن منظور في (اللسان)، قال: ” قال أبو اسحاق: الذي عندي في حقيقة هذا: أن القرء – في اللغة – الجمع، وأن قولهم (قريت الماء في الحوض) – وان كان قد ألزم الياء – فهو جمعت، و (قرأت القرآن) لفظت به مجموعا، و (القرء يقري) أي يجمع ما يأكل في فيه، فانما القرء: اجتماع الدم في الرحم، وذلك انما يكون في الطهر. وصح عن عائشة وابن عمر (رض) أنهما قالا: (الاقراء والقروء: الاطهار). وحقق هذا اللفظ من كلام العرب قول الأعشى: لما ضاع فيه من قروء نسائكا فالقروء – هنا – الاطهار لا الحيض لأن النساء إنما يؤتين في إطهارهن لا في
[ 335 ]
حيضهن، فإنما ضاع بغيبته عنهن إطهارهن “. ونقل ابن منظور عن الأزهري قوله: (وأهل العراق يقولون: القرء الحيض، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ” (دعي الصلاة أيام اقرائك) أي أيام حيضك “. والعمل الذي يقوم به الباحث هنا هو تجميع اجتهادات اللغويين في أقوالهم وأدلتها، والقاء نظرة اجتهادية متأنية وفاحصة، ينتهي إلى نتيجة يكشف من خلالها عن المعنى المقصود في الآية الكريمة. ومثال آخر: هو ما سلكه استاذنا الشيخ المظفر في كتابه (اصول الفقه) تحت عنوان (مادة الأمر) لبيان أن كلمة (أمر) لفظ مشترك بين الطلب والشئ مستدلا باختلاف الاشتقاق واختلاف الجمع، قال: ” والدليل على أن لفظ الأمر مشترك بين معنيين: الطلب والشئ، لا أنه موضوع للجامع بينهما. أ – أن الأمر بمعنى الطلب يصح الاشتقاق منه، ولا يصح الاشتقاق منه بمعنى الشئ، والاختلاف بالاشتقاق وعدمه دليل على تعدد الوضع. ب – ان الأمر بمعنى الطلب يجمع على (أوامر) وبمعنى الشئ على (امور)، واختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدد الوضع “. 1 – ان يرجع المتلقي الى علامات الحقيقة كالتبادر وصحة الحمل وعدم السلب، فما تثبته الحقيقة هو المعنى الحقيقي، أي الموضوع له. 2 – أن يرجع الباحث إلى أقوال علماء اللغة في معاجمهم وغيرها من كتبهم اللغوية والأدبية. وهنا أثار الاصوليون مسألة صحة الاحتجاج بقول اللغوي وعدمها تحت عنوان (حجية قول اللغوي). (حجية قول اللغوي): وتمهيدا للموضوع لابد من تناول النقاط التالية:
[ 336 ]
– تعريف اللغوي. – هل اللغوي خبير أو راو. – منهج اللغويين في البحث والتأليف. – حقيقة الوضع. تعريف اللغوي: اللغوي نسبة إلى اللغة، لتعامله معها في البحث والتأليف أو في التأليف فقط. هذا التنويع للتعامل: تعامل في البحث والتأليف، وتعامل في التأليف فقط، مستفاد من واقع عمل اللغويين باعتبارهم لغويين يتعاملون مع اللغة، وذلك ان من اللغويين من هو عالم باللغة يتعامل معها من خلال مفاهيمها وقواعدها وملابساتهما، وان من اللغويين من هو جماع فقط يتعامل مع اللغة في تأليف المعجم عن طريق تجميع مادة المعجم من أقوال وكتب الآخرين دونما اخضاعها للبحث أو النقد. فالأول – وهو عالم اللغة – يصنف – على رأي الاصوليين – في عداد ذوي الخبرة والاختصاص. ويبدو من استخدامات الاصوليين لكلمتي (خبير) و (خبرة) أنهم يريدون بالخبير: العالم بالعلوم الاخرى غير الشرعية، ويعممونه لصاحب المهنة والحرفة. وفي المعجم العربي يعرف الخبير بالعالم. ويقول المعجم أيضا: ذو الخبرة: الذي يخبر الشئ بعمله.. والخبير: هو العالم بالشئ بعد مزاولة وممارسة. وأصحاب الخبرة: هم الذين مارسوا الشئ بأنفسهم فعرفوه معرفة تامة. والخبرة: معرفة الشئ مباشرة.
[ 337 ]
يقول السيد عبد الكريم علي خان في كتابه (الخمس (1)): ” ان اعتبار قول اللغوي وحجيته إنما هو من حيث خبرويته بما يحيط به خبرا كما هو شأن كل خبير في ما هو خبير به “. وهذا – كما ترى – لا يشمل كل لغوي، وإنما يختص باللغوي العالم (الخبير)، ولا يعم اللغوي الجماع. ومن طرف آخر نص بعضهم على أن اللغوي جماع فقط، فقد جاء في (المنتقى): ” ان اللغوي شأنه ضبط موارد الاستعمال، وهي غير متوقفة على الحدس والنظر، بل تتوقف على الحس، لم يكن من أهل الخبرة. نعم تشخيص الموضوع له، يحتاج إلى أعمال نظر وحدس ولكنه ليس شأن اللغوي “. وهذا يعني أن الاصوليين لم يلحظوا الفرق بين اللغوي العالم والآخر الجماع. ومن هنا رأيت أنه لابد من بيان هذا الفرق بين اللغوي واللغوي الجماع، لما سيترتب على هذا من آثار علمية نظرية وتطبيقية. والثاني – وهو الجماع – يصنف في عداد النقلة والرواة. ومن الصنف الأول من مؤلفي المعاجم المطبوعة: – الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه) له: معجم (العين). – أبو زيد الأنصاري (ت 215 ه) له: كتاب (نوادر اللغة). – ابن السكيت (ت 244 ه) له: كتاب (إصلاح المنطق). – ابن دريد (ت 321 ه) له: معجم (جمهرة اللغة). – أبو علي القالي (ت 356 ه) له: معجم (البارع في اللغة).
(1) – الخمس 190. (*)
[ 338 ]
– أبو منصور الأزهري (ت 370 ه) له: معجم (تهذيب اللغة). – أبو نصر الجوهري (ت 393 ه) له: معجم (الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية). – ابن فارس (ت 395 ه) له: المعاجم التالية: (مجمل اللغة) و (مقاييس اللغة) و (متخير الألفاظ) وهو معجم معاني. – أبو هلال العسكري (ت 395 ه) له: معجم (التخليص في معرفة أسماء الأشياء) وهو معجم معاني. – أبو منصور الثعالبي (ت 429 ه) له: معجم (فقه اللغة وسر العربية) وهو معجم معاني. – ابن سيده (ت 458 ه)، له: معجم (المحكم والمحيط الأعظم في اللغة) وهو معجم ألفاظ و (المخصص) وهو معجم معاني. – عيسى بن إبراهيم الربعي (ت 480 ه) له: معجم (نظام الغريب) في غريب اللغة. – جار الله الزمخشري (ت 538 ه)، له: معجم (أساس البلاغة). – أبو منصور الجواليقي (ت 540 ه) له: (المعرب من الكلام الأعجمي). – محمود تيمور (ت 1393 ه) له: (معجم الحضارة). – عبد الله العلائلي (ت 1417 ه) له: معجم (المرجع) و (المعجم). – مجمع اللغة العربية بالقاهرة، له: (المعجم الوسيط) و (المعجم الكبير) طبع منه حتى الآن ثلاثة مجلدات. ومن الصنف الثاني من مؤلفي المعاجم المطبوعة: – ابن منظور (ت 711 ه) له: (لسان العرب)، ألفه بهدف استقصاء مفردات
[ 339 ]
اللغة العربية، فضمنه 80000 مادة جمعها من الكتب التالية: التهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، والحواشي لابن بري، والنهاية لابن الأثير. – مجد الدين الفيروز آبادي (ت 817 ه)، له (القاموس المحيط)، أيضا ألفه بهدف استقصاء مفردات اللغة العربية، فجمعها من: المحكم لابن سيده، والعباب للصغاني، وغيرهما، ولكن على نحو الاختصار بحذف الشواهد. وقال غير واحد من علماء المعجم ان فيه أغلاطا وأوهاما وقصورا وتناقضا وسوء ترتيب. ولهذا ألف عليه أكثر من كتاب منها: (الدر اللقيط في أغلاط القاموس المحيط) لمحمد بن مصطفى داود زاده، و (الجاسوس على القاموس) لأحمد فارس الشدياق (ت 1304 ه) طبع بالجوائب سنة 1299 ه، و (تصحيح القاموس) لأحمد تيمور باشا (ت 1348 ه) طبع بالسلفية في القاهرة سنة 1343 ه، و (ترتيب القاموس المحيط) لطاهر أحمد الزاوي، طبع بالاستقامة في القاهرة سنة 1959 م. – محمد مرتضى الزبيدي (ت 1205 ه) له: (تاج العروس). – لويس معلوف (ت 1365 ه) له (المنجد). والخ. وتتنوع المعاجم إلى ثلاثة أنواع: 1 – معاجم الألفاظ: وهي تلك التي تعني بذكر الألفاظ المفردة وقرين كل لفظ ما له من معنى. وهي قد تطيل بذكر المعاني والشواهد، وقد تختصر بذكر المهم أو المشهور فقط.. وما مر من معاجم هو منها.
[ 340 ]
2 – معاجم المعاني: وهي التي تعني بذكر المعاني المتعددة والمتفاوتة للشئ الواحد، مرتبة حسب أطواره وأحواله.. وأشير إلى شئ منها في ما تقدم. 3 – معاجم الدلالة: وهي التي تعني بتتبع التطور الدلالي للألفاظ. ومن أمثلة معاجم الدلالة: – معجم أكسفور Oxford Dictionary، وهو من أشهر المعاجم الانجليزية. ومن أقدم المعاجم الانجليزية: (معجم اللغة الانجليزية () Language Dictioary of the english للدكتور جونسون Dr. Johnson صدر عام 1755 م. – وفي اللغة الفرنسية Dictionaire De l ‘ Academie Francaise معجم الاكاديمية الفرنسية، وهو من أشهر المعجمات الفرنسية. وأقدم معجم موسوعي فرنسي هو (المجعم الجامع الكبير للقرن التاسع عشر). dictionaire uni versel du xixem siecie Grond من وضع بيير لاروس Larousse، نشر ما بين عامي 1866 – 1876 م، وهو من امهات المعاجم الفرنسية، ويعرف أيضا ب (معجم لاروس). – وفي اللغة الفارسية فأقدم معجم هو (لغت فرس) لأسدي طوسي (ت 465 ه). وأحدث وأوسع معجم هو (لغت نامه دهخدا) لعلي أكبر دهخدا (ت 1946 م)، توفي مؤلفه قبل أن يتمه فتبنت جامعة طهران اكماله وصدر منه أكثر من مئة جزء. ومن مهمات المعجمات الفارسية (فرهنك فارسي) للدكتور محمد معين،
[ 341 ]
ويعد هذا المعجم من المعاجم الدلالية. ومن المعاجم المزدوجة الحديثة كتاب (الألفاظ الفارسية المعربة) للمطران أدي شير الكلداني الآشوري (ت 1333 ه). (منهج اللغويين في البحث والتأليف): اعتمد اللغويون في البحث والتأليف طريقتين، هما: 1 – الاستقراء: وهو محاولة استقصاء مفردات اللغة من المسموع والمكتوب والمنقول، ولكن دونما دراسة وبحث. فقد يحفظ اللغوي الشئ الكثير الوفير من مواد اللغة عن ظهر قلب، وقد يدون لغوي آخر الكم الجم في معجمه من غير بحث في التحقيق والتدقيق. 2 – الاستنتاج: وهي أن يبحث اللغوي في المادة اللغوية محققا ومؤصلا ومفرعا. وبتعبير آخر: الاستنتاج – هنا – يعني الاجتهاد العلمي، وتقدم ذكر شئ من اجتهادات اللغويين ومن أوضح أمثلة الاجتهادات عند العلماء العرب ما ذكره ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) من دلالات المواد اللغوية على المعاني الجذرية المشتركة. وعرف المنهج اللغوي – في اصطلاح لغويي العرب – بطريقتين، هما: 1 – السماع عن فصحاء العرب. وذلك اما عن: أ – طريق المشافهة. ب – أو طريق الرواية.
[ 342 ]
2 – القياس على المسموع أو المروي من كلام العرب. فالأول – أعني السماع – تشمله طريقة الاستقراء، والثاني، أي القياس – تشمله طريقة الاستنتاج (الاجتهاد). وعني اللغويون العرب باللهجات العربية فجمعوا الشارد والوارد والشائع والشاذ، مما يصلح مادة خصبة لمعرفة التطور الدلالي للكلمة العربية لو أنهم أرخوا لهذه اللهجات. كما أنهم ابتعدوا عن ذكر ما أسموه بالمولد، فلم يعنوا به، وهو ذو دور مهم في عالم التطور الدلالي. ومع هذا انبرى بعض علمائهم إلى صنيع ما يرتبط بالتطور الدلالي، وينفع نفعا وافيا في الرجوع إليه في مجال الدرس الفقهي، وذلك أمثال: – كتاب (أساس البلاغة). للزمخشري. – كتاب (غراس الأساس) للعسقلاني. – كتاب (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. – كتاب (المعجم الكبير) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. وسنأتي على توضيحه فيما بعد. (حقيقة الوضع): ان دراسة نشوء الدلالة اللغوية (دلالة اللفظ على المعنى) هي في واقعها دراسة لنشأة اللغة، لأن نشأة اللغة تعني حدوث الألفاظ اللغوية المستخدمة بين الناس للدلالة على معانيها كوسيلة لتحقيق التفاهم وتبادل الأفكار. فكيف وجدت هذه الدلالة ؟ وقبل بيان هذا، لابد من التنبيه إلى أن البحث في موضوع نشأة الدلالة يرتبط –
[ 343 ]
في رأي الاصوليين – ارتباطا وظيفيا بتشخيص الظهور، وذلك لأن معرفة الوضع هي المنطلق لمعرفة الظهور، فإذا تهيأ للباحث أو المتلقي أن عرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، أي أن هذا اللفظ دال على هذا المعنى، أو قل الذي بين يديه ظاهر في هذا المعنى المعين الذي بين يديه، وهو المطلوب. ومن ثم له أن يرتب عليه آثار الظهور. أي ان معرفة الوضع تفيدنا في معرفة المعنى الحقيقي للفظ. ولكن ما هو الوضع ؟. ان الذي أثار دراسة الوضع عند الاصوليين هو تأثرهم فيه بما انحدر إليهم عن طريق الفلسفة اليونانية، وهو هل دلالة اللفظ على المعنى ذاتية أو مجعولة. ولأن أصحابنا الإمامية كأكثر علماء الاصول من المذاهب الإسلامية الاخرى ذهبوا إلى أن الدلالة مجعولة وليست ذاتية، اختلفوا في نمط الجعل (جعل اللفظ دالا على المعنى): هل هو على نحو التخصيص أو الاختصاص ؟ والفرق بين الجعلين (التخصيص والاختصاص) هو بتوفر عنصر إرادة الجاعل وقصده إلى الجعل في مجال التخصيص وتصريحه به وتنصيصه عليه. ففي التخصيص ينطلق الجاعل إلى وضع اللفظ المعين للمعنى المعين، وجعله له عن إرادة وقصد وتصريح منه بذلك. وفي ضوئه، تفهم دلالة اللفظ على المعنى من أول استعماله له فيه. وفي الاختصاص يستعمل الجاعل اللفظ المعين في المعنى المعين من غير تصريح بالوضع، معتمدا على القرائن المصاحبة لاستعماله الموضحة لارادته المعنى من اللفظ، وبعد شيوع الاستعمال بين الناس والفهم له وانسهم به يحصل
[ 344 ]
نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى، فيصبح اللفظ يدل على المعنى بمجرد إطلاقه مستغنيا عن القرينة. وقسموا الوضع – على أساس من هذا – إلى قسمين: 1 – الوضع التعييني: وهو الذي يتم عن طريق تخصيص اللفظ بالمعنى. 2 – الوضع التعيني: وهو الذي يتم عن طريق اختصاص اللفظ بالمعنى. ثم تساءلوا عن الواضع: من هو ذلك الواضع للغة ؟ ويجيب استاذنا المظفر فيقول: – ” قيل: ان الواضع لابد أن يكون شخصا واحدا يتبعه جماعة من البشر في التفاهم بتلك اللغة. – وقيل – وهو الأقرب إلى الصواب – ان الطبيعة البشرية حسب القوة المودعة من الله تعالى فيها تقتضي إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ، فيخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إرادة معنى مخصوص – كما هو المشاهد من الصبيان عند أول أمرهم – فيتفاهم مع الآخرين الذين يتصلون به، والآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم، وتتألف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من الألفاظ، حتى تكون لغة خاصة، لها قواعدها يتفاهم بها قوم من البشر. وهذه اللغة قد تتشعب بين أقوام متباعدة، وتتطور عند كل قوم بما يحدث فيها من التغيير والزيادة، حتى قد تنبثق منها لغات اخرى فيصبح لكل جماعة لغتهم الخاصة. وعليه: تكون حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بازاء المعنى وتخصيصه به ومما يدل على
[ 345 ]
اختيار القول الثاني في الواضع أنه لو كان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلك في تاريخ اللغات، ولعرف عند كل (أهل) لغة واضعها ” (1). فهو يأخذ بالنظرية الحديثة في نشأة اللغة القائلة بأن اللغة ظاهرة اجتماعية تخضع لمواصفات وشروط الظاهرة الاجتماعية التي منها (التلقائية)، ومن هنا قالوا: ان اللغة تنشأ نتيجة الحاجة إلى التفاهم. ولأن اللغة – كما رأينا – هي مجموعة الألفاظ المستعملة بين الناس للدلالة على معانيها كوسيلة تفاهم تكون من المواد الطبيعية وليست من الكليات التي لا موطن لها – بصفتها كليات – إلا الذهن. والمادة الطبيعية – من ناحية منهجية – يرجع فيها إلى الحس والطبع لا إلى الفلسفة والمنطق. ولعل المفارقة من هنا جاءت، حيث افترض الاصوليون في وظيفة اللغوي أن يفرق في موارد الاستعمالات اللغوية بين الحقائق والمجازات، لأنهم يقدرون أن هناك أوضاعا معينة قرنت بالتصريح بها، واخرى قرنت بالقرائن الاخرى، وعلى اللغوي أن يميز بين هذه. ولأنهم لم يقفوا على هذا في معاجم اللغة العربية، وبخاصة ما رجعوا إليه من معاجم الألفاظ مثل (القاموس المحيط) الذي أكثروا من الرجوع إليه والاعتماد عليه، قالوا: ان خبرة اللغوي منحصرة في تتبعه لموارد الاستعمال، وهذه لا تفيد في التمييز بين الحقيقة والمجاز، ولا في تعيين الموضوع له، يقول السيد علي خان: ” لكن خبروية (يعني خبرة) اللغوي إنما هي في موارد الاستعمال لا في تعيين الوضع وتحديد الموضوع له “.
(1) – اصول الفقه 1 / 9 – 10. (*)
[ 346 ]
مع أن الواقع في اللغات – بصفتها ظواهر اجتماعية – غير هذا الذي ذكروه للوضع. ذلك أن التخصيص والاختصاص موجودان في كل دلالة، أي مع كل لفظ له معنى، ذلك ان ابن اللغة عندما يفتقر إلى الرمز أو الإشارة إلى معنى من المعاني يأتي باللفظ قاصدا لاستعماله في المعنى، ثم يستعمله فيه، والاستعمال هو الذي يكشف عن التخصيص، ثم يأتي الاختصاص بعد تكرار الاستعمال وأنس الآخرين به. فلا يوجد وضع تعييني ولا آخر تعيني، وإنما هو وضع مقترن بالاستعمال، وإذا شئت قلت: استعمال مقترن بالوضع. في ضوء هذا: بوسع العالم اللغوي تتبع التطور الدلالي للكلمة من ناحية تاريخية. ومن خلاله يمكننا تمييز الحقائق من المجازات، والحقائق الاولى من التي جاءت بعدها. وقد قام بعض علماء اللغة العربية الذين هم في الوقت نفسه من علماء الدين الإسلامي أيضا بوضع المعجم الدلالي الذي يفرق فيه بين الحقيقة والمجاز، لعلمهم بالحاجة إليه في مجال دراسة الألفاظ الشرعية، ولمساعدة المتأدبين في استخدامات المجازات في التعبير الأدبي. وذلك كالذي صنعه جار الله الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة) حيث أفرد فيه المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح، قال في مقدمته: ” ومنها (أي خصائص كتابه) تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح، بافراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح ” وذلك بأن خصص القسم الأول من أي مادة للمعاني الحقيقية، والقسم الثاني للمعاني المجازية، مبتدئا له بقوله: (ومن المجاز).
[ 347 ]
ومثالا لذلك قوله في مادة (ظ، أ، ر): ” هي ظئره، وهو ظئره، وهم وهن أظاره، وبنو سعد أظآر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظاءرت المرأة مظاءرة: أخذت ولدا ترضعه، وانطلقت فلانة تظأر، وأظأرت ظئرا، وظئرت الناقة على غير ولدها أو على البو فهي ظئور، وهن أظآر وظؤار، وظأرها بالظأر وهو ما تظأر به من غمامة في أنفها لئلا تشم ريح المظئور عليه. ومن المجاز: ظأرته على أمر كان يأباه، وما ظأرني عليه غيرك، وظأرني فلان على ذلك وما كان من بالي، وفي مثل (الطعن يظأر): يعطف على الصلح، وظأر على عدوه: كر عليه، والأثافي ظؤار للرماد. ومن المجاز في الإسناد: ظأرت: أخذت ظئرا لولدي “. وكالذي صنعه ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) من تأليفه كتابه (غراس الأساس) الذي جمع فيه مجازات (أساس البلاغة) وأضاف إليها ما فات الزمخشري من مجازات وقف هو عليها في المعجمات الاخرى. وتوجد منه نسخة خطية في مكتبة طلعت المودعة بدار الكتب المصرية تحت رقم 363 لغة (1). ان الاطلاع على مثل هذا المعجم حيث نعرف المجاز منه نعرف ان ما سواه مما ذكر في المعاجم الاخرى هي معان حقيقية، وان لم ينصوا على أنه معنى حقيقي. ومما يفيد في الرجوع إليه لمعرفة المعاني الحقيقية (المعجم الكبير) من صنع مجمع اللغة العربية بالقاهرة. فقد اتبع في ترتيب ومعالجات هذا المعجم للمواد اللغوية الطريقة التالية: 1 – يذكر في صدر المادة نظائرها من الساميات الاخرى ان وجدت.
(1) – أنظر: مقدمة الشيخ أمين الخولي لأساس البلاغة. (*)
[ 348 ]
2 – يذكر المعاني الكلية متدرجة من الأصلي إلى الفرعي، ومن الحسي إلى المعنوي، ومن الحقيقي إلى المجازي. صدر منه حتى الآن ثلاثة مجلدات. ومثله صنوه (المعجم الوسيط) حيث تميز بتوسعه في ذكر المصطلحات العلمية الحديثة، وإقرار الكثير من الألفاظ المولدة والمعربة الحديثة وفيه ثلاثون ألف مادة، ومليون كلمة وستمائة صورة. بعد أن عرفنا من خلال التمهيد من هو اللغوي وما هو منهجه وما هو واقع وحقيقة الوضع اللغوي نستعرض – هنا – ما ذكره الاصوليون في حجية قول اللغوي سلبا وإيجابا. يقوم خلاف الاصوليين في حجية قول اللغوي على أساس من تقييمهم لواقعه باعتباره لغويا ولواقع عمله في تعامله مع اللغة. فذهب بعضهم – كما رأينا – إلى أنه من أهل الخبرة، وذهب آخرون إلى أنه جماع ينقل ويروي المسموع فقط. وعلى أساس أنه من أهل الخبرة يكون شأنه شأن أهل الخبرة في كل صناعة وعمل، فيصح الرجوع إليه في تشخيص الأوضاع اللغوية، كما يصح الرجوع لغيره من أهل الخبرة لسيرة العقلاء القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة لمعرفة ما يختص بعملهم. ” لأن العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلابد أن يحكم الشارع بذلك أيضا، إذ أن هذا الحكم العقلي من الآراء المحمودة التي تطابقت عليه آراء العقلاء والشارع منهم، بل رئيسهم. وبهذا الحكم العقلي أوجبنا رجوع العامي إلى المجتهد في التقليد، غاية الأمر أنا اشترطنا في المجتهد شروطا خاصة كالعدالة والذكورة لدليل خاص.
[ 349 ]
وهذا الدليل الخاص غير موجود في الرجوع إلى قول اللغوي، لأنه في الشؤون الفنية لم يحكم العقل إلا برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به من دون اعتبار عدالة أو نحوها كالرجوع إلى الأطباء والمهندسين. وليس هناك دليل خاص يشترط العدالة أو نحوها في اللغوي كما ورد في المجتهد ” (1). وعلى أساس أن اللغوي من النقلة والرواة للاستعمالات اللغوية قالوا: لا حجة في نقله لأن أقصى ما نفيده منه الظن بصحة نقله، ولا دليل بالخصوص على حجية هذا الظن إلا ما ذكر من اتفاق الفقهاء أو اجماعهم على الرجوع إلى قول اللغوي. وهذا الاتفاق أو الاجماع غير تام. اما باعتباره اجماعا فهو غير كاشف لأن المعصوم لا يرجع إلى أهل اللغة. وباعتباره اتفاقا فانا لا نعلم ان رجوع جميع الفقهاء كان لمعرفة الأوضاع اللغوية، إذ قد يكون للاستئناس به لإفادة الاطمئنان أو القطع، والعمل استنادا لأحدهما الحاصل من قول اللغوي لا إلى قول اللغوي. وذهب الفخر الرازي إلى صحة نقل اللغوي وسلامة الاحتجاج به إذا كان ثقة لأن سيرة العقلاء قائمة على قبول خبر الثقة، والاصوليون اعتبروا وصححوا مثل هذا في ما هو أهم من اللغة وهو الشرع حيث اعتبروا خبر الثقة ورتبوا الآثار العلمية والشرعية عليه، ففي اللغة أولى، وبخاصة أن اللغة هي الأصل للتمسك بخبر الثقة في الشرعيات، قال في (المحصول (2)) متعجبا: والعجب من الاصوليين أنهم أقاموا الدلالة على أن خبر الواحد حجة في الشرع، ولم يقيموا
(1) – أصول الفقه 2 / 126. (2) – المحصول 1 / 212. (*)
[ 350 ]
الدلالة على ذلك في اللغة، وكان هذا أولى لأن إثبات اللغة كالأصل للتمسك بخبر الواحد، وبتقدير أن يقيموا الدلالة على ذلك فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغات والنحو، وأن يتفحصوا عن أسباب جرحهم وتعديلهم كما فعلوه في رواة الأخبار، لكنهم تركوا ذلك بالكلية، مع شدة الحاجة إليه، فان اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للإستدلال بالنصوص “. ونتيجة هذا القول: 1 – إذا كان اللغوي من علماء اللغة فهو من أهل الخبرة، والرجوع إليه رجوع إلى أهل الخبرة، وهو – أعني الرجوع لأهل الخبرة – ظاهرة اجتماعية عامة مسلمة. 2 – وإذا كان من النقلة والرواة يرجع إليه – في ضوء ما حققه الفخر الرازي، وهو تحقيق ناهض بالمطلوب – من باب الرجوع إلى خبر الثقة، وبخاصة أن اللغة هي أساس الشرعيات التي ينقلها الرواة. ولكن لعلمنا بواقع محتويات كتب أهل اللغة لابد من إحراز توفر اللغوي على الوصفين التاليين: الوثاقة والضبط. دلالة المؤول: المؤول – بصيغة اسم المفعول – من الأول، بمعنى الرجوع.. هذا في اللغة، وفي الاصطلاح: المؤول: هو اللفظ الذي يحمل على المعنى المرجوح، الذي عبرنا عنه – في ما سلف – بالمحتمل في مقابل المظنون. وعرفه ابن حزم بقوله: ” التأويل: نقل اللفظ عن ما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر “. فالمؤول هو ما يقابل الظاهر في درجة الترجيح، فما كان في الطرف الراجح فهو المظنون، وما كان في الطرف المرجوح هو المؤول، ويراد به ما يحمل فيه اللفظ على غير الظاهر، وذلك لاقترانه بقرينة صارفة إذا كان المعنى مجازيا، أو
[ 351 ]
بقرينة معنية إذا كان المعنى مشتركا، كما في قوله تعالى: * (واسأل القرية) * حيث أولت الآية الكريمة بأن المراد (أهل القرية) بقرينة عدم إمكان توجيه السؤال إلى القرية – عقلا – لأنها جماد لا يعي السؤال ولا يرد الجواب. وهو من المجاز. ومثل قولهم (أرسل القوم عينهم) أي ربيئتهم – وهو الطليعة الذي يرقب العدو من مكان عال لئلا يدهم قومه – وذلك لأن العين الباصرة لا ترسل إرسالا يستلزم إنفصالها عن الجسد. وهو من المشترك. ومثل هذه الدلالة حجة لأن القرينة تعطي اللفظ ظهوره في المعنى الذي صرفته إليه أو عينته فيه، والظهور – كما تقدم – مما تبانى العقلاء على الأخذ به. دلالة المجمل: المجمل – بصيغة اسم المفعول – من الإجمال بمعنى الإبهام، الناشئ من الالتباس والغموض. وعرف ب ” ما كان معناه غير مؤكد ولا متميز، ولم يعبر عنه، أو يبين في وضوح “. وعرف أيضا ب ” ما لم تتضح دلالته “. وهذا التعريف يوضح بأن المجمل له دلالة إلا أنها غير واضحة. وفي توضيحه يقول استاذنا المظفر: ” والمقصود من المجمل: ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده إذا كان لفظا، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلا. ومرجع ذلك إلى أن المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له “. وهو يقابل المبين – كما تقدم – لأن المبين له ظاهر يدل عليه بنفسه أو بمساعدة
[ 352 ]
القرينة. وقد ذكر الاصوليون موارد لما اختلف في إجماله وبيانه، وهي – كما أحصاها وسلسلها الدكتور الحفناوي في كتابه (أثر الإجمال والبيان في الفقه الإسلامي) -: 1 – إضافة الأحكام الشرعية إلى الأعيان: ويعنون بهذا أن يرد لفظ شرعي اضيف فيه الحكم التكليفي إلى الأعيان. وتوضيح هذا: ان الأحكام التكليفية تتعلق بالأفعال، فإذا جاء نص شرعي علق فيه الحكم بالأعيان كقوله تعالى: * (حرمت عليكم امهاتكم) * و * (حرمت عليكم الميتة) * حيث علق التحريم المذكور في الآيتين الكريمتين بذات الام وبذات الميتة.. فهل يعتبر مثل هذا النص مجملا فنتوقف عن الأخذ به، أو أن هناك قرينة توضح المقصود منه يمكننا الاعتماد عليها والأخذ به. في مثل هذا اختلف العلماء على مذهبين يتلخصان في أن بعضهم نظر إلى النص مستقلا عن فهم العرف له فتساوت عنده الاحتمالات فتوقف، وان بعضهم نظر إلى النص مرتبطا بواقع فهم العرف الاجتماعي له فاعتبره قرينة رافعة للاجمال ومعينة للمراد. المذهب الثاني وهو مذهب الجمهور، قالوا: لا إجمال في مثل هذه النصوص محتجين بالتبادر، ذلك ” أن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل (هذا طعام حرام) هو تحريم أكله، ومن قول القائل هذه المرأة حرام) هو تحريم وطئها. وتبادر الفهم دليل الحقيقة، وعليه فالمفهوم من قوله تعالى: * (حرمت عليكم امهاتكم) * هو تحريم الوطئ، لأنه أعظم ما يقصد من النساء. وكذا قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * فان المفهوم منه هو تحريم أكلها، لأنه أعظم ما يقصد من الحيوان قبل موته. المذهب الأول: وهو مذهب جماعة منهم: أبو الحسن الكرخي الحنفي وأبي
[ 353 ]
عبد الله الحسين بن علي البصري الحنفي والقاضي أبي يعلى الحنبلي وبعض الشافعية، قالوا: بأن إضافة الحكم التكليفي تحليلا أو تحريما إلى الأعيان يوجب إجمال النص فيتوقف عن الأخذ به، محتجين بأنه ” لما استحال تعلق التحريم بالأعيان، وجب أن يقدر في الكلام ما يصح أن يتعلق به التحريم. وإذا تعين التقدير فاما أن نقدر جميع الأفعال المحتملة، وهو باطل، لأن التقدير على خلاف الأصل، فلا يقدر إلا بقدر ما تدعو إليه الضرورة، والضرورة لا تدعو إلا إلى ما لا يتم الكلام إلا به، ولا تدعو إلى الجميع، وعليه فلا يقدر الجميع، وإنما يقدر البعض. وهذا البعض المقدر: اما معين. أو غير معين. والمعين باطل، لأنه ترجيح بلا مرجح لاستواء جميع الأفعال. وإذا بطل أن يكون الفعل المقدر معينا، وجب أن يكون غير معين، وحينئذ يكون اللفظ مجملا، وهو المطلوب “. ورد من قبل الجمهور بأن جميع الأفعال المحتملة هي مجازات، والقرينة مرجح لأحدها على سواه. وقلنا: ان القرينة – هنا – هي الفهم العرفي، والعرف – هنا – يفهم أن متعلق التحريم في الآية الاولى هو الوطئ، وفي الثانية هو الأكل، وبه يرتفع الإجمال. 2 – الكلام الذي يتوقف صدقه على التقدير: مثاله قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (رفع عن امتي الخطأ والنسيان) فان ظاهر هذا الحديث الشريف يفيد رفع ذات الخطأ وذات النسيان، وهو خلاف الوجدان لأن الخطأ والنسيان واقعان في امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعا.
[ 354 ]
ومن هنا لا يصح حمل اللفظ على ظاهره لئلا يلزم منه كذب أخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مستحيل منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه الصادق المصدوق. فالأمر يدور بين موقفين: – اما اعتبار النص مجملا، والتوقف عن الأخذ به. – واما التقدير بما يناسب، حسب الفهم العرفي. فكان في المسألة – على هذا – مذهبان أيضا: مذهب الجمهور القائلين بعدم الإجمال، محتجين بأنه لما كان المعنى الظاهر للفظ غير مراد قطعا، يتعين حمل اللفظ على إرادة أحد مجازاته، وحيث لا يوجد له إلا مجازان هما: 1 – رفع أو الغاء الإثم أو المؤاخذة أو العقوبة على الخطأ. 2 – رفع حكم الخطأ. ” ولما كان إثم الخطأ أظهر عرفا لتبادره إلى الذهن، رجح على المجاز الآخر، فالسيد لو قال لعبده: (رفعت عنك الخطأ) لفهم أهل العرف من هذا القول رفع المؤاخذة والإثم عن العبد، بدليل أنه لو قال السيد ذلك ثم عاقب عبده، عد في نظر أهل العرف متناقضا “. ومثال أبي الحسين البصري وأبي عبد الله البصري وبعض الحنفية القائلين بالإجمال، احتجوا ب ” أن رفع نفس الخطأ ونفس النسيان لا يصح، لأنه واقع، والواقع لا يرتفع، وعليه فلابد من تقدير شئ، وهو متردد بين امور لا حاجة إلى جميعها، لأن التقدير خلاف الأصل، فلا يقدر إلا بقدر ما تدعو الحاجة أو الضرورة إليه، والضرورة لا تدعو إلا ما لا يتم الكلام إلا به، ولا تدعو إلى الجميع، فلا يقدر الجميع، وإنما يقدر البعض.
[ 355 ]
وهذا البعض المقدر: – اما معين. – واما غير معين. والأول باطل لأنه ترجيح بلا مرجح. وإذا بطل أن يكون الفعل المقدر معينا، وجب أن يكون غير المعين، وحينئذ يكون اللفظ مجملا “. واجيب عنه بما اجيب عن سابقه بأن الفهم العرفي قرينة مرجحة ومعينة فلا إجمال في البين. 3 – دخول النفي على الحقائق الشرعية: وهذا كالذي في الأحاديث التالية: – (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). – (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). – رواية (الدعائم) عن علي (عليه السلام) أنه قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد إلا أن يكون له عذر أو به علة، فقيل له: ومن جار المسجد يا أمير المؤمنين ؟ قال: من سمع النداء. وأيضا في هذه المسألة مذهبان: المذهب الأول، وهو مذهب الجمهور بنفي الإجمال، وبتقدير إرادة إحدى مجازي اللفظ هنا حسب ما يفهم من القرائن، والمجازان هما: أ – الصحة. ب – الكمال.
[ 356 ]
ففي الحديثين الأولين المراد نفي الصلاة الصحيحة ونفي الصيام الصحيح لثبوت وجوب قراءة الفاتحة، ووجوب تثبيت النية بالنصوص الشرعية الاخرى. وفي الحديث الثالث يحمل على إرادة نفي الكمال، أي لا صلاة كاملة من حيث الثواب والأجر إلا في المسجد لثبوت استحباب ذلك بالنصوص الشرعية الاخرى. والفرق بين التقديرين هو أن الفعل في التقدير الأول (نفي الصحة) يقع باطلا عند المخالفة. وفي التقدير الثاني (نفي الكمال) يقع صحيحا إلا أن ثوابه يكون أقل من ثوابه عند الموافقة. المذهب الثاني: هو مذهب أهل الرأي، وقال به أيضا القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار المعتزلي وأبو علي الجبائي وإبنه أبو هاشم وأبو عبد الله البصري. ” وقد اختلف هؤلاء في تقرير الاجمال على ثلاثة وجوه: الأول: أنه ظاهر في نفي الوجود، وهو لا يمكن، لأنه واقع قطعا، فاقتضى ذلك الاجمال. الثاني: أنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم، فصار مجملا. الثالث: أنه متردد بين نفي الجواز ونفي الوجوب، فصار مجملا “. وفي الموازنة نقول: انه ما دام هناك قرينة ترفع الاجمال وتعين المراد تتبع القرينة لأنها تكشف عن ظهور اللفظ في المعنى المقترن بها. 4 – تردد الحكم بين متعلقين: كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ” من استجمر فليوتر ” فان متعلق حكم الوتر (وهو الوجوب) متردد بين الجمار فيلزم الاستجمار ثلاثة وبثلاث أحجار، وبين فعل
[ 357 ]
الاستجمار (الاستنجاء) فيلزم فيه الاستجمار ثلاثة سواء. كان بوتر من الأحجار أو بشفع. ففي الأول يحتمل معنيين: الوتر في الاستجمار (فعل الاستنجاء) والوتر في الجمار (مادة الاستنجاء). وفي الثاني يحتمل معنى واحدا وهو الوتر في الاستجمار لا في الجمار. وكما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ” لا ينكح المحرم ولا ينكح “، فلأن النكاح مشترك بين العقد والوط ء يأتي حكم الحرمة مرددا بين تعلقه بالوط ء فيحرم على المحرم أن يطأ غيره كما يحرم عليه أن يمكن غيره من وطئه، وتعلقه بالعقد فيحرم على المحرم أن يعقد لنفسه وأن يعقد لغيره. وحرر الدكتور الحنفاوي محل الخلاف في المسألة كالتالي: ” اللفظ الوارد: – اما أن يظهر كونه حقيقة في ما قيل من المحملين مع اختلافهما. – أو كونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر. – أو لم يظهر أحد الأمرين. فان كان من القسم الأول أو الثاني فلا معنى للخلاف فيه: أما الأول فلتحقق إجماله. وأما الثاني فلتحقق الظهور في أحد المحملين. وأنهى النزاع (الخلاف) في القسم الثالث “. وهو (أعني الخلاف) على ثلاثة أقوال هي: 1 – لا إجمال في اللفظ، وذلك لظهوره في ما يفيد معنيين.
[ 358 ]
2 – انه مجمل، لتردده في التعلق. 3 – ان كان المعنى الواحد أحد المعنيين عمل به لأنه القدر المتيقن في البين، ويتوقف في العمل بالآخر للتردده فيه. وإذا لم يكن المعنى الواحد هو أحد المعنيين كان اللفظ مجملا. وكما قلنا سالفا ان النصوص الاخرى الواردة في الموضوع تقوم بدور القرينة الرافعة للاجمال والمعينة للمطلوب، كذلك الشأن هنا، لقاعدة (رفع التباس المتشابه بالمحكم ورفع غموض المجمل بالمبين). 5 – دوران اللفظ بين إفادته حكما شرعيا أو وضعا لغويا. وبتعبير آخر: تردد معرفة مقصود المتكلم بين إرادته الأخبار فيفيد الإشارة إلى الاستعمال اللغوي، أو إرادته الإنشاء فيفيد الجعل والتشريع، كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ” الطواف بالبيت صلاة ” فيحتمل أن يكون هذا إخبارا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الطواف بالبيت في اللغة العربية يسمى صلاة، لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء، ومن ثم سمي الطواف صلاة لما فيه من الدعاء. ويحتمل أن يكون إنشاء لحكم يفيد بأن الطواف كالصلاة شرعا أي انه مشروط بما شرطت به من النية والطهارة والساتر، والخ. وكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ” الإثنان فما فوقهما جماعة “. فانه يحتمل أن يكون هذا إخبارا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أقل الجمع إثنان. ويحتمل أن يكون إنشاء لحكم أن أقل عدد تحصل به الجماعة في الصلاة هو الإثنان. وفي المسألة قولان: – قول بالإجمال، للتردد المذكور.
[ 359 ]
– وآخر بالبيان، لأن ظاهر حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ما يصدر منه يحمل على أنه في مقام التبليغ، وبخاصة إذا دار الأمر بين الإخبار والإنشاء. فظاهر الحال – هنا – قرينة قائمة للحمل على الإنشاء وإرادة الحكم الشرعي. والقرينة بيان يرفع غموض الاجمال. وبعد: فأمثلة الإجمال كثر، وما تقدم إنما هو نماذج فقط والقاعدة هنا: إذا كان هناك بيان فان الموقف أن يرجع إليه في رفع غموض الإجمال. وإذا لم يوجد من البيان ما يصلح قرينة لذلك فالموقف التوقف. تعيين مراد المتكلم لا زلنا نتناول بالدرس الظنون المعتبرة، فأتينا منها على (خبر الثقة) من حيث السند، و (ظهور اللفظ) من حيث الدلالة. وهما الخطوتان الأوليان في دراسة النص الشرعي نظريا واعتماده تطبيقيا. والخطوة الثالثة هي تعيين مراد المتكلم، والمقصود به المعصوم في مجالي الدرس والتطبيق الفقهيين. فالخطوات لدراسة النص الشرعي هي: 1 – التأكد من قطعية أو ظنية السند. 2 – التأكد من قطعية أو ظنية الدلالة. 3 – تعيين مراد المعصوم من عبارة النص في مفرداته وتركيبه. وقد عبر الاصوليون عن هذا ب (تشخيص مراد المتكلم).
[ 360 ]
وتشخيص الشئ تعيينه وتمييزه من سواه، يقال: (شخص الشئ) إذا عينه وميزه من سواه. ويريدون بمراد المتكلم المعنى الذي يقصده المتكلم من كلامه. يقول الشيخ الأنصاري في (الرسائل): ” ان إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المروية عن الحجج (عليهم السلام) موقوف على مقدمات ثلاث: الاولى: كون الكلام صادرا عن الحجة. الثانية: كون صدوره لبيان حكم الله، لا على وجه آخر من تقية وغيرها. الثالثة: ثبوت دلالتها على الحكم المدعى “. ويتوقف تعيين مراد الإمام المعصوم من الرواية على ما يلي: الخطوة الاولى: إحراز أن الإمام المعصوم كان في مقام بيان الحكم الشرعي. يقول الشيخ الأنصاري – وهو في معرض الإستدلال على ما قدم من مقدمات ذكرت في أعلاه -: ” وأما المقدمة الثانية فهي أيضا ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغير داعي بيان الحكم الواقعي. وهي حجة، لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء من حمل كلام المتكلم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعي، لا لبيان خلاف مقصوده من تقية أو خوف، ولذا لا يسمع دعواه ممن يدعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته “. والأصل الذي أصل هنا – كما يختصره (مصباح الاصول) – هو ” الأصل في كل كلام أن يكون في مقام البيان لاستقرار بناء العقلاء على ذلك، ما لم تظهر قرينة على خلافه “.
[ 361 ]
والخطوة الثانية: تعيين وتشخيص المعنى المقصود للمعصوم من كلامه. وبتعبير آخر: فهم النص بمفرداته وتركيبه بحمله على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة تصرفه عنه. ويتم هذا على مراحل، هي: أ – إثبات أصل ظهور ألفاظ النص. ويتأتى هذا عن طريق معرفة المعنى الحقيقي للفظ بواسطة الوضع أو غيره. ب – إثبات بقاء دلالة اللفظ على هذا المعنى الظاهر، وعدم عدول الإمام المعصوم عنه في النص الذي بين يدي الباحث. ويكون هذا باجراء أصالة عدم القرينة التي تعني حمل اللفظ على معناه الحقيقي عند الشك. ج – إثبات أن مقصود الإمام المعصوم من كلامه هو المعنى الظاهر. ويحصل هذا باجراء أصالة الظهور. وقد وقع الخلاف بينهم في أن أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الاطلاق هل هي أنواع لأصالة الظهور، أو هي أنواع لأصالة عدم القرينة. وممن ذهب إلى الأول استاذنا السيد الحكيم في (حقائق الاصول). وممن ذهب إلى الثاني الشيخ الأنصاري كما يظهر من عبارته في (الرسائل). وسواء كانت هذه الأصالات نوعا للظهور أو نوعا لعدم القرينة توصل إلى النتيجة المطلوبة عند تطبيقها.
[ 362 ]
تتمة تقسيمات أدلة الفقه (التقسيم الرابع): هو تقسيم الدليل الفقهي باعتبار نوعية ما يوصل إليه من تكليف إلى: 1 – الدليل الاجتهادي: وهو الذي يوصل إلى الحكم الواقعي. ويختص هذا بالكتاب والسنة. 2 – الدليل الفقاهي: وهو الذي يوصل إلى الحكم الظاهري عند الجهل بالحكم الواقعي. وترجع نشأة هذا التقسيم إلى أمد غير بعيد، قد يحدد بعهد أواخر متأخري المتأخرين. وقد عدل عنه الاصوليون المعاصرون ومن قبلهم بقليل، إلى التغيير في تسمية المصطلح، والتشعيب في التفريع. والذي يبدو لي – وكما يظهر مما يأتي – أن التقسيم الجديد – الآتي – بعد لما يستقر استقرار تاما. ولهذا سأذكره بألوانه المتداولة في الدرس الاصولي الراهن: – التقسيم إلى: 1 – الدليل: ويريدون به الدليل القطعي، وهو الذي يكشف عن واقع الحكم كشفا تاما.
[ 363 ]
2 – الأمارة: ويعنون بها الدليل الذي أقر الشرع الحنيف اعتباره دليلا، مما يفيد الظن في نتائجه عند الرجوع إليه والإستدلال به، ولكن شريطة أن تكون فيه درجة من الكشف عن الواقع. ويطلق على الظن الذي تفيده الأمارة اسم الظن الخاص، وهو الذي أعطاه الشرع اعتباره في مقابل الظن المطلق الذي ألغى الشرع اعتباره (ان الظن لا يغني من الحق شيئا). فالظن الخاص – في واقعه – استثناء من حكم الظن المطلق. ويعبر عن الأمارة أيضا بالطريق العلمي – نسبة إلى العلم – لأن نتيجتها وهي الظن بالحكم تقوم مقام العلم بالحكم، وتستعمل استعمال الطريق المفيد للعلم بالحكم الواقعي. ولهذا جاز استعمال الأمارة والرجوع إليها في عرض الرجوع إلى الدليل الذي يفيد العلم. وذلك نحو الأخذ بخبر الثقة مع قدرة المكلف على الرجوع إلى المعصوم وأخذ الحكم منه مباشرة. نعم، إذا رجع المكلف إلى المعصوم وسمع الحكم منه لا مجال للرجوع إلى الأمارة. ويكتفي بالظن الذي تفيده الأمارة أن يكون ظنا نوعيا ” ومعنى الظن النوعي: ان الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظن عند غالب الناس ونوعهم، واعتبارها عند الشارع إنما يكون من هذه الجهة، فلا يضر في اعتبارها وحجيتها ألا يحصل منها ظن فعلي للشخص الذي قامت عنده الأمارة، بل تكون حجة عند هذا الشخص أيضا حيث ان دليل اعتبارها دل على ان الشارع إنما اعتبرها حجة ورضي
[ 364 ]
بها طريقا لأن من شأنها أن تفيد الظن وان لم يحصل الظن الفعلي منها لدى بعض الأشخاص ” (1). 3 – الأصل: ويقصدون به الأصل العملي الذي يعين الوظيفة العملية للمكلف عند عدم وقوف الفقيه على الدليل المقطعي أو الأمارة الظنية. وقسموه إلى قسمين: أ – الأصل الاحرازي أو المحرز: وهو الذي فيه درجة من الاراءة الكاشفة عن الواقع، ولكن أقل من مستوى الأمارة. ومثلوا له بالاستصحاب بناء على أنه أصل لا أمارة. وسمي بالاحرازي والمحرز لأنه يحرز الواقع في الجملة، أو قل بعض الأحراز. ب – الأصل غير المحرز: وهو الذي لا حكاية فيه عن الواقع، وإنما يقوم – فقط – بتعيين الوظيفة العملية. ويتمثل هذا في أصل البراءة وأصل الاحتياط وأصل التخيير. وهذا الذي ذكرته هو ما قد يستفاد من ظاهر كلام استاذنا الشيخ المظفر عن الحجة في تعريفها وتقسيمها. – التقسيم الذي ذكره استاذنا التقي الحكيم في (الاصول العامة). حيث قسم الحجة إلى:
(1) – أصول المظفر ط 2 / ج 2 / ص 14. (*)
[ 365 ]
أ – الذاتية: وهي التي تفيدنا القطع. سميت بذلك لأن حجية القطع قائمة بذاته، غير مفتقرة إلى جعل (اعتبار). ب – المجعولة: وهي التي تفيدنا الظن، والتي جعل الشارع لها الدليلية، أي اعتبرها دليلا. وتشمل: الأمارات أمثال: خبر الثقة والظهور اللفظي. الاصول الاحرازية كالاستصحاب بناء على أنه أصل لا أمارة. الاصول غير الاحرازية، وهي البراءة والتخيير والاحتياط. – التقسيم الذي قرره أستاذنا الشهيد الصدر في كتابه الاصولي (دروس في علم الاصول)، وخلاصته: الأدلة = محرزة = قطعية، ظنية = (الامارات) الأدلة = عملية، (الاصول العملية) ثم يقسم الأدلة المحرزة قطعية وظنية وفق الجدول التالي:
[ 366 ]
الأدلة المحرزة = شرعية = لفظية (فعل المعصوم)، شرعية = غير لفظية (فعل المعصوم وتقريره الأدلة المحرزة = عقلية (الملازمات العقلية) – ويعني بالأدلة المحرزة تلك الأدلة التي فيها اراءة للواقع وكشف عنه. – وبالأدلة العملية تلك الأدلة التي تعين الوظيفة العملية للشاك الذي لا يعلم بالحكم. – وبالأدلة القطعية الأدلة التي تؤدي إلى القطع بالحكم الشرعي. – وبالظنية التي تؤدي إلى كشف ناقص عن الحكم الشرعي، محتمل خطأه، وهي التي تسمى بالأمارات. وكما ترى، ان التقسيمات المذكورة اختلفت لاختلاف أساس القسمة الذي قامت عليه. – فبعضها جعل الأساس هو الكشف عن الواقع، فجاءت أقسامه على أربعة مستويات: 1 – مستوى الكشف التام، ويقوم به الدليل القطعي. 2 – مستوى الكشف غير التام إلا أنه في مدى قد يقرب من التام، وتقوم به
[ 367 ]
الأمارة. 3 – مستوى الكشف غير التام أيضا إلا أنه في مدى أقل من كشف الأمارة، ويقوم به الأصل الاحرازي. 4 – لا كشف فيه أصلا، وهو الأصل غير الإحرازي. وجاء اتخاذ هذا الأساس في القسمة لأن المطلوب في الدليل أولا أن يوصل الفقيه إلى الحكم الواقعي. وعندما لا يتهيأ هذا يؤخذ بالأقرب للإيصال إلى الواقع، فالأقل منه مدى وهكذا. – وبعضها اتخذ أساس القسمة نوعية حجية الدليل، فقد تكون ذاتية، وقد تكون مجعولة. والنتيجة في الجميع واحدة لأن الغاية المتوخاة هي طلب المؤمن من العقاب، وكلها تنهي إليه. ويقول استاذنا السيد الخوئي: ” ان الغرض من علم الاصول هو تحصيل المؤمن من تبعة التكاليف المتوجهة إلى العبد من قبل المولى. والمؤمن الأول: هو القطع. والمؤمن الثاني: الأمارة المعتبرة. والمؤمن الثالث: هو الرجوع إلى الاصول العملية الشرعية المجعولة عند الشك والعجز عن تحصيل الأولين، أو الاصول العملية العقلية عند العجز عن جميع ما تقدم ” (1).
(1) – مصباح الأصول 2 / 11. (*)
[ 368 ]
وقسم الميرزا النائيني الأصل إلى ثلاثة أقسام، هي: التنزيلي والمحرز والعملي. 1 – الأصل التنزيلي: وهو المأخوذ من الخطاب الشرعي (النص) الذي يفاد منه تنزيل الشارع المقدس، الشئ المشكوك منزلة الواقع عند قيام المكلف باداء وظيفته العملية وفقا للأصل. وهذا مثل (أصل الطهارة) المأخوذة من الحديث الشريف: (كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر). فلسان الحديث يقول: ان الشئ الذي يشك في طهارته هو بمنزلة الطاهر الواقعي. 2 – الأصل الإحرازي (المحرز): وهو المأخوذ من الخطاب الشرعي (النص) الذي يفاد منه تنزيل الشارع المقدس للاحتمال منزلة اليقين. كما في (أصل الاستصحاب) – بناء على أنه أصل لا أمارة – المأخوذ من الحديث الشريف: (ليس لك أن تنقض اليقين بالشك) فان لسانه يقول: ان احتمال استمرار بقاء الشئ عند الشك في عدم استمراريته ينزل منزلة اليقين. 3 – الأصل العملي: وهو المأخوذ من الخطاب الشرعي (النص) الذي لا يفيد لسانه تنزيل المشكوك منزلة الواقع ولا تنزيل الاحتمال منزلة اليقين. وهذا مثل (أصل البراءة) و (أصل الاحتياط). ويبدو من هذه التقسيمات التي ذكرناها للدليل الشرعي عند متأخري
[ 369 ]
المتأخرين والمعاصرين أنها بعد لما تستقر علميا ومنهجيا، ولا ضير في ذلك لأن المطلوب في البحث الاصولي إثبات حجية الدليل لا معرفة مستوى الدلالة، لأن معرفة المستوى مسألة علمية أكثرها منها مسألة عملية. لوازم الدليل الشرعي اللوازم جمع لازمة. واللازمة: الشئ لا ينفك عن الشئ الآخر. ففي معجم (لاروس) العربي: ” لازم ملازمة ولزاما: تعلق به ولم يفارقه. اللازم، والمؤنث لازمة، والجمع لوازم: ما يمتنع إنفكاكه عن الشئ “. ويراد بلازمة الدليل الشرعي ما اصطلح عليه في علم اصول الفقه ب (المنجزية) و (المعذرية) – على زنة إسم الفاعل – من (نجز) و (عذر) – بالتضعيف -. يقال: نجز الشئ: إذا حصل وتم، فهو ناجز. ويقال: نجز الشئ بمعنى حصله وأتمه فهو منجز، والشئ منجز، ويقال: عذره على ما صنع، وفي ما صنع عذرا ومعذرة، إذا رفع عنه الذنب واللوم فيه، فهما عاذر ومعذور. ويقال: عذره: إذا أوجب له العذر وقبل عذره، فهما معذر ومعذر – بالشد كسرا وفتحا -. والمنجزية تعني – في ضوء ما تقدم – حصول المكلف على التكليف المطلوب منه، ودخوله في عهدته جاهزا للامتثال. ومن هنا عرفوها – اصوليا – ب ” دخول التكليف في عهدة المكلف عن طريق القطع أو الظن أو الاحتمال بحيث يستحق المكلف العقاب في حالة تخلفه عن هذه التكاليف ” – كما حكاه في (معجم المصطلحات الاصولية) -.
[ 370 ]
وفي (الاصول العامة) عرفت ب ” اعتبار ما تقوم عليه الحجة من الامور الموصلة إلى واقع ما تقوم عليه بحيث يسوغ للمشرع أن يعاقب إذا قدر لها إصابة الواقع مع تخلف المكلف عنها “. وعرفت المعذرية بانها ” حكم العقل بلزوم قبول اعتذار الإنسان إذا عمل على وفق الحجة الملزمة وأخطأ الواقع، وليس للآمر معاقبته على ذلك ما دام قد اعتمد على ما أقامه له من الطرق، وألزمه بالسير على وفقها، أو كان ملزما بحكم العقل بالسير عليها كما هو الشأن في الحجج الذاتية “. وباختصار: التنجيز: هو جاهزية الامتثال ولزوم المكلف به. والتعذير: هو إعذار المشرع المكلف عند عدم إصابته للواقع المطلوب منه بعد تصديه له. والمنجزية والمعذرية هما من اللوازم العقلية للحجة لا تنفك عنها بحال من الأحوال. وهاتان اللازمتان هما المرمى الذي يهدف إليه الاصوليون من وراء بحثهم لأدلة الفقه وإثبات الحجية لها، ليكون المكلف على عتبة الإمتثال، ويأمن طائلة العقاب الاخروي. الباب الأول / مباحث الدليل والحكم / الاستدلال…… -…
[ 371 ]
* (الإستدلال) * الإستدلال: هو عملية إقامة الدليل. هذا هو المعروف من تعريفه، وسوف نرى أنه نقطة المركز التي تلتقي عندها التعريفات الاخرى التي ستذكر فيما يأتي. – ففي اللغة: صيغت كلمة (استدلال) على زنة (استفعال) التي تعني في الغالب الدلالة على الطلب. فالإستدلال على هذا طلب الدليل، وبه عرف في اللغة. – وفي علم المنطق: عرف الإستدلال ب ” إقامة الدليل لإثبات المطلوب “. ويقوم على المبادئ التالية: مبدأ التعاكس. مبدأ التناقض. مبدأ التقايس. مبدأ التماثل. مبدأ الاستقراء. – وفي الفلسفة: عرفه (المعجم الفلسفي – مجمع اللغة العربية) بما نصه: ” الاستدلال: Reasoning فعل الذهن الذي يلمح علاقة مبدأ ونتيجة بين قضية واخرى أو بين
[ 372 ]
عدة قضايا، وينتهي إلى الحكم بالصدق أو الكذب، أو إلى حكم بالضرورة أو الاحتمال “. ويقوم على المبادئ التالية: مبدأ العلية. مبدأ استحالة التناقض. مبدأ استحالة الدور. مبدأ استحالة التسلسل. – وفي الكلام: يقوم الإستدلال على المبدأين التاليين: مبدأ التلازم: الذي يعني إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم. مبدأ التمانع: الذي يعني إذا بطل الملزوم بطل اللازم. – وفي العلم الحديث: يعرف الإستدلال بأنه انتقال الذهن من أمر معلوم إلى أمر مجهول. ويقسم إلى نوعين أساسيين، هما: 1 – الاستنباط deduction وعرفوه ب ” انتقال الذهن من قضية أو عدة قضايا، هي المقدمات، إلى قضية اخرى، هي النتيجة – وفق قواعد المنطق ” -. وليس بلازم أن يكون انتقالا من العام إلى الخاص، أو من الكلي إلى الجزئي.
[ 373 ]
ومن أوضح صوره البرهنة الرياضية، ففيها انتقال من الشئ إلى مساو له، بل من الأخص إلى الأعم. والقياس الارسطي باب منه (الذي أساسه الانتقال من الكلي إلى الجزئي) – المعجم الفلسفي – مادة: استنباط -. وقسموا الاستنباط إلى قسمين، هما: أ – الحملي: وهو ما كانت مقدماته مسلما بصدقها بصفة نهائية. ب – الفرضي: وهو ما كانت مقدماته مسلما بصدقها بصفة مؤقتة. 2 – الاستقراء indction وعرفوه بأنه ” الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها. وهو الاستقراء الصوري الذي ذهب إليه ارسطو، وحده وسماه (الايباجوجيا). أو الحكم على الكلي بما يوجد في بعض أجزائه. وهو الاستقراء القائم على التعميم. وعلى الأخير اعتمد المنهج التجربي، فهو ينتقل من الواقعة إلى القانون ومما عرف في زمان أو مكان معين إلى ما هو صادق دائما وفي كل مكان ” (1). والخلاصة: الإستدلال: هو إقامة الدليل للوصول إلى المطلوب.
(1) – م. ن -. (*)
[ 374 ]
وهو ما نعنيه – هنا – في اصول الفقه الإمامي. أقول هذا لأنه اختلف عنه في اصول الفقه السني، فأطلق بشكل عام على ما ذكرناه، وأطلق على الدليل نفسه، وعلى أدلة معينة بذاتها، فعرفوه بأنه (الدليل الذي ليس بنص ولا إجماع ولا قياس). وعنوا بذلك الأدلة التالية: – الاستحسان. – المصالح المرسلة. – سد الذرائع وفتحها. – الاستصحاب. – مذهب الصحابي. – عمل أهل المدينة. – شرع من قبلنا. – العرف. ولمعرفة معاني هذه الأدلة وشؤونها الاخرى، يرجع إلى الكتابين التاليين: – الاصول العامة للفقه المقارن، السيد محمد تقي الحكيم. – الإستدلال عند الاصوليين، الدكتور علي بن عبد العزيز العميريني. خطوات الإستدلال الاصولي: أعني بخطوات الإستدلال في البحث الاصولي المنهج الذي يتبعه العالم أو الباحث الاصولي في دراسة قضايا ومسائل هذا العلم. ولأنه سبق لي أن عرضت له نظريا وتطبيقيا في كتابي (اصول البحث) تحت
[ 375 ]
عنوان (الهيكل العام لعلم اصول الفقه) أكتفي بنقله هنا عن إعادة البحث فيه ثانية لما فيه من وفاء بالمطلوب. الهيكل العام لعلم اصول الفقه والهيكل العام لعلم اصول الفقه المستخلص من واقع التجارب العلمية فيما كتب فيه، هو كالتالي: 1 – الهدف من البحث في اصول الفقه: هو استخلاص القواعد الاصولية من مصادرها النقلية أو العقلية بغية الإستفادة منها في مجال الإجتهاد الفقهي. 2 – مادة البحث الاصولي: وتتمثل في مصادر التشريع الإسلامي (أو أدلة الأحكام الفقهية). 3 – خطوات البحث الاصولي: وتتلخص في التالي: أ – تعيين المصدر (الدليل). ب – تعريف المصدر (الدليل). ج – إقامة البرهان على حجية المصدر (الدليل) لإثبات شرعيته. د – تحديد مدى حجية المصدر (الدليل). ه – استخلاص القاعدة الاصولية من المصدر (الدليل). و – بيان دلالة القاعدة. ز – بيان كيفية تطبيق القاعدة لاستفادة الحكم الفقهي.
[ 376 ]
4 – المنهج العام للبحث الاصولي: سنتبين من خلال التطبيق الآتي أن البحث الاصولي يسير وفق المناهج العامة التالية: أ – المنهج النقلي في جملة من مسائله. ب – المنهج العقلي في جملة اخرى من مسائله. ج – المنهج التكاملي (من النقلي والعقلي) في جملة ثالثة من مسائله. وساحاول – هنا – توضيح العناصر المذكورة من خلال التطبيق على بعض القواعد الاصولية. ولتكن القواعد التالية: – قاعدة الظهور. – قاعدة تعارض الخبرين. – قاعدة الاستصحاب. قاعدة الظهور سوف نتحدث عن قاعدة الظهور ضمن النقاط التالية: 1 – الهدف من دراسة ظاهرة الظهور. 2 – الموضوع الذي تبحث فيه هذه الظاهرة اصوليا. 3 – تعريف الظهور. 4 – مدى دلالة الظهور. 5 – الدليل على حجية الظهور. 6 – انموذج تطبيقي.
[ 377 ]
1 – يهدف الباحث الاصولي من دراسة ظاهرة الظهور إلى استخلاص قاعدة هامة تطبق على ظواهر الكتاب والسنة فقهيا لاستنباط الحكم الشرعي في ضوئها. وإذا أردنا أن نستخدم لغة هذا العلم نقول: إن الغاية من إثبات حجية الظهور، هي: تنقيح كبرى تصدق على صغرياتها من ظواهر الألفاظ، وسيتضح هذا أكثر في عرضنا للانموذج التطبيقي. وإليه يشير استاذنا الشهيد الصدر بقوله: ” معنى حجية الظهور اتخاذه أساسا لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه ” (1). وتسمى – كما رأينا – قاعدة الظهور، وحجية الظهور. وتعرف أيضا ب (أصالة الظهور)، ” لأنها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي ” (2). 2 – ومحلها من موضوعات علم اصول الفقه هو موضوع دلالة ظواهر الكتاب الكريم وموضوع دلالة ظواهر السنة الشريفة. يقول استاذنا المظفر: ” إن البحث عن حجية الظواهر من توابع البحث عن الكتاب والسنة، أعني ان الظواهر ليست دليلا قائما بنفسه في مقابل الكتاب والسنة، بل إنما نحتاج إلى إثبات حجيتها لغرض الأخذ بالكتاب والسنة، فهي من متممات حجيتهما، إذ من الواضح انه لا مجال للأخذ بهما من دون أن تكون ظواهرهما حجة ” (3). 3 – لكي نتعرف معنى الظهور لابد لنا من تعرف مدى دلالة اللفظ على معناه، وهذا يقتضينا أن نقسم الدلالة – هنا – إلى الأقسام الثلاثة التالية:
(1) – المعالم الجديدة 121. (2) – م. س 124. (3) – اصول الفقه 2 / 137. (*)
[ 378 ]
أ – الدلالة العلمية (القطعية). ب – الدلالة الظنية. ج – الدلالة الاحتمالية. ذلك ان اللفظ بحسب دلالته لغويا أو اجتماعيا على معناه ينقسم إلى قسمين: أ – ما يدل على معنى واحد فقط. واصطلح عليه الاصوليون بأن سموه ب (النص). وعرف (المعجم الوسيط) (1) النص ب ” ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، أو لا يحتمل التأويل “. ومن الطبيعي ان دلالة مثل هذا اللفظ هي دلالة علمية قطعية. ولأنها تفيد القطع، والقطع حجيته ذاتية – كما يعبر الاصوليون – لا نحتاج إلى إقامة الدليل على حجيتها. ب – ما يدل على أكثر من معنى. ويقسم باعتبار تنوع المعنى المدلول عليه إلى قسمين: 1 – فقد يكون المعنى المدلول عليه واضحا بينا لا يحتاج في حمل اللفظ عليه إلى تأويل. وسماه الاصوليون ب (الظاهر)، لأنه المعنى الواضح البين من إطلاق اللفظ. ولكن، لأن اللفظ كما يدل عليه يدل على معنى آخر محتمل إرادته من قبل المتكلم تكون دلالته ظنية، لأنها الراجحة بالنسبة إلى الدلالة على المعنى الآخر المحتمل. 2 – وقد يكون المعنى المدلول عليه غير واضح ولا بين، وإنما يحتاج في
(1) – مادة (نصص). (*)
[ 379 ]
صرف اللفظ إليه إلى مؤنة تأويل. وسمي في بعض الكتب الاصولية ب (المؤول) لافتقاره في فهمه من إطلاق اللفظ إلى التأويل. ولأن صرف اللفظ في الدلالة يفتقر إلى التأويل يكون مرجوحا بالنسبة إلى المعنى الظاهر الراجح، فتكون دلالته – على هذا – احتمالية. الخلاصة: اللفظ = يدل على معنى واحد (النص) اللفظ = يدل على اكثر من معنى = يدل على معنى راجح (الظاهر)، يدل على معنى مرجوح (المؤول) ونخلص من هذا إلى ان الظهور: يعني دلالة اللفظ على المعنى الراجح من المعاني المشمولة بدلالته. 4 – وعرفنا من تقسيمنا الدلالة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في أعلاه، ومن تعريفنا لمعنى الظهور ان دلالة ما يعرف ب (الظاهر) دلالة ظنية لأن معناه المعنى الراجح، والرجحان يعني الظن – كما هو معلوم -. 5 – اما الدليل لإثبات حجية الظهور واعتباره شرعا، فيتلخص بالتالي: أ – ان الأخذ بالظهور اللفظي من الظواهر الاجتماعية العامة التي دأبت جميع المجتمعات البشرية على الاعتماد عليها في ترتيب كافة الآثار الاجتماعية والقانونية وغيرها.
[ 380 ]
ب – لم يثبت أن الشرع الإسلامي حظر الأخذ بها والاعتماد عليها، بل الثابت انه سار على ما سارت عليه المجتمعات البشرية من الأخذ بها والاعتماد عليها. وقد علم هذا بالوجدان. وهذا يعني ان الظهور كما هو حجة عند الناس أقاموا عليه سيرتهم المعروفة ب (سيرة العقلاء)، هو حجة في الشرع الإسلامي أيضا. فالدليل على حجية الظهور – باختصار – هو سيرة العقلاء وبناؤهم، أو ما أطلقت عليه (العقل الاجتماعي). 6 – ولنأخذ المثال التالي كنموذج تطبيقي. أ – أن (أقيموا) في قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة) * (1) أمر مجرد من القرينة الصارفة له عن الدلالة على الوجوب، فهو ظاهر في الوجوب. ب – ولأن (أقيموا) ظاهر في الوجوب نطبق عليه قاعدة الظهور، لتأتي النتيجة هي وجوب الصلاة، أخذا بظاهر هذه الآية الكريمة واعتمادا عليه. ومتى أردنا أن نصوغ هذا صياغة علمية في هدي تعليمات الشكل الأول من القياس المنطقي الذي يعتمد تطبيق الكبرى على صغرياتها للوصول إلى النتيجة المطلوبة، نقول: الصغرى الكبرى النتيجة (أقيموا) ظاهر قرآني + وكل ظاهر قرآني حجة = فأقيموا حجة. 7 – والنتيجة التي ننتهي إليها من هذا البحث: ان ظاهرة الظهور الاجتماعية دليل شرعي يستند إليه في استفادة الحكم الفقهي من ظواهر القرآن الكريم والسنة
(1) – سورة البقرة: 43. (*)
[ 381 ]
الشريفة. قاعدة تعارض الخبرين سنختصر الحديث عن هذه القاعدة في النقطتين التاليتين: – بيان معنى التعارض. – حل التعارض شرعا. 1 – يعني الاصوليون بالتعارض – هنا – التكاذب بمعنى ان كلا من الخبرين إذا توفر على جميع شروط ومقومات الحجية يبطل الخبر الآخر، ويكذبه. 2 – واستدلوا لحل هذا التعارض بما ورد في (مقبولة عمر بن حنظلة) (1) من قوله: ” قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما، اختلفا في حديثكم ؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قلت: فانهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر ؟ قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي به حكما، المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند
(1) – المقبولة: هي الرواية التي يتلقاها العلماء بالقبول من حيث السند، ويعملون بمضمونها. وعمر بن حنظلة: هو عمر بن حنظلة العجلي البكري الكوفي، قال فيه الشهيد الثاني: ” لم ينص الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل، لكن أمره عندي سهل، لأني حققت توثيقه في محل آخر ” ص 44 من الدراية. وقال إبنه الشيخ حسن العاملي: ” قال – يعني الشهيد – في بعض فوائده: الأقوى عندي انه ثقة لقول الصادق (عليه السلام) في حديث الوقت: إذا لا يكذب علينا ” ص 103 من اتقان المقال – انظر: مبادئ اصول الفقه ص 69 ط 3. (*)
[ 382 ]
أصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الامور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيتجنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله ورسوله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم). قلت: فان كان الخبران عنكما (1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، بأي الخبرين يؤخذ ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. قلت: جعلت فداك، فان وافقهم الخبران جميعا ؟ قال: تنظر إلى ما هم إليه أميل – حكامهم وقضاتهم – فيترك، ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه (وفي بعض النسخ: فأرجئه) حتى تلقى إمامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ” (2). حيث استفيد من هذه المقبولة: ان حل التعارض يتم بالتالي: – إذا كان أحد الخبرين مشهور الرواية، والآخر شاذ الرواية، يؤخذ بالمشهور ويطرح الشاذ.
(1) – يقصد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام). (2) – مبادئ اصول الفقه 69 – 71 نقلا عن اصول الفقه للمظفر 3 / 250. (*)
[ 383 ]
– وإذا كان أحد الخبرين موافقا في حكمه لحكم الكتاب والسنة، والآخر مخالفا في حكمه لحكم الكتاب والسنة يؤخذ بالموافق ويطرح المخالف. – وان كان أحد الخبرين موافقا في حكمه لحكم قضاة وحكام العامة، والآخر مخالفا لحكم قضاة وحكام العامة، يؤخذ بالمخالف، ويطرح الموافق. والمراد بالعامة – في هذا السياق -: ” اولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكام ويبررون لهم جملة تصرفاتهم بما يضعون لهم من حيث انتشر الوضع على عهدهم انتشارا فظيعا “. وتسمى هذه المرجحات، وتختصر كالتالي: 1 – الشهرة في الرواية. 2 – موافقة الكتاب والسنة. 3 – مخالفة العامة (1). قاعدة الاستصحاب ويأتي الحديث عن هذه القاعدة في النقاط التالية: 1 – تعريف الاستصحاب. 2 – بيان أركان الاستصحاب. 3 – الاستدلال لحجية الاستصحاب. وسأقتصر – هنا – لأجل الاختصار على ما ذكرته في كتابي (مبادئ اصول الفقه) (2)، وهو: 1 – عرف الاستصحاب بانه ” حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من
حيث الجري العملي “. وسوف يتضح معنى هذا التعريف أكثر عند استعراض أركان الاستصحاب فيما يأتي. ولأجل توضيحه بالمثال تقريبا إلى الأذهان نقول: إذا كان المكلف على حالة معينة وكان متيقنا منها ثم شك في ارتفاعها، فان الشارع المقدس يحكم – هنا – بالغاء الشك وعدم ترتيب أي أثر عليه، وبالقيام بترتيب آثار اليقين السابق في مجال العمل والامتثال. كما إذا كان المكلف على وضوء وكان متيقنا من ذلك، ثم شك في انتقاض وضوئه هذا بنوم أو غيره، فإنه – هنا – يبني على وضوئه السابق، ويرتب عليه آثاره الشرعية من جواز الصلاة به، وغيره، ويلغي الشك الطارئ عليه، بمعنى انه لا يرتب عليه أي أثر. 2 – ويشترط في جريان الاستصحاب لينتهى إلى الحكم المطلوب أن يتوفر الموضوع الذي يجري فيه على الأركان التالية: أ – اليقين: وهو العلم – وجدانا أو تعبدا – بالحالة السابقة على الشك. ب – الشك: وهو كل ما لم يصل إلى مرحلة اليقين (العلم الوجداني أو التعبدي). ج – وحدة المتعلق في اليقين والشك. أي أن ما يتعلق به اليقين هو نفسه يقع متعلقا للشك. د – فعلية الشك واليقين فيه. ” فلا عبرة بالشك التقديري لعدم صدق النقض به، ولا اليقين كذلك لعدم
[ 385 ]
صدق نقضه بالشك “. ه – وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة في جميع الجهات. ” أي أن يتحد الموضوع والمحمول والنسبة والحمل والرتبة، وهكذا ويستثنى من ذلك الزمان فقط رفعا للتناقض “. و – إتصال زمان الشك بزمان اليقين. ” بمعنى أن لا يتخلل بينهما فاصل من يقين آخر “. ز – سبق اليقين على الشك. 3 – واستدل على حجية الاستصحاب بعدة أدلة أهمها ما يلي: أ – سيرة العقلاء: وقد استدل بها على حجية الاستصحاب على غرار الاستدلال بها على (حجية الظهور). وملخص الإستدلال: هو ” أن الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامة التي ولدت مع المجتمعات، ودرجت معها، وستبقى – ما دامت المجتمعات – ضمانة لحفظ نظامها واستقامتها، ولو قدر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال، فالشخص الذي يسافر – مثلا – ويترك بلده وأهله وكل ما يتصل به، لو ترك للشكوك سبيلها إليه – وما أكثرها لدى المسافرين – ولم يدفعها بالاستصحاب، لما أمكن له أن يسافر عن بلده، بل أن يترك عتبات بيته أصلا، ولشلت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم فيها “. وعصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان بدعا من العصور، ولا مجتمعه بدعا من المجتمعات، ليبتعد عن تمثل وشيوع هذه الظاهرة، فهي بمرأى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) – حتما -، ولو ردع عنها لكان ذلك موضوع حديث المحدثين، وهو ما لم يحدث
[ 386 ]
عنه التاريخ، فعدم ردع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها يدل على رضاه وإقراره لها، وبخاصة هو قادر على الردع عن مثلها، وليس هناك ما يمنعه عنه) (صلى الله عليه وآله). ب – السنة: وقد استدل على حجية الاستصحاب بأحاديث، منها: موثقة عمار عن أبي الحسن (عليه السلام): ” قال: إذا شككت فابن على اليقين. قلت: هذا أصل ؟ قال (عليه السلام): نعم “. والرواية من الوضوح في غنى عن الشرح. النتائج: 1 – وكما رأينا ان البحث في ظاهرة الظهور انتهج – من المناهج العامة – المنهج العقلي حيث ارتكز في ما توصل إليه من النتيجة على العقل الاجتماعي (سيرة العقلاء). 2 – وان البحث في ظاهرة تعارض الخبرين انتهج المنهج النقلي حيث اعتمد في الوصول إلى النتيجة المطلوبة على مقبولة عمر بن حنظلة المنقولة عن الإمام (عليه السلام). 3 – وفي ظاهرة الاستصحاب تكامل المنهج فكان في الإستدلال بسيرة العقلاء عقلانيا وفي الإستدلال بموثقة عمار نقليا. وهذه النتائج تعزز ما ذكرته آنفا من ان البحث الاصولي قد ينتهج المنهج العقلي، وقد يسلك المنهج النقلي، وقد يجمع بينهما فيكون منهجه تكامليا. وعلى أساس هذا: 1 – يسير المنهج الاصولي في هدي المنهج النقلي العام الخطوات التالية:
[ 387 ]
1 – تعيين موضوع البحث. 2 – تعريف الموضوع. 3 – جمع النصوص التي لها علاقة بالموضوع دلالة أو ملابسة، شريطة أن تكون مصادرها موثقة ومعتمدة. 4 – تقييم أسانيد النصوص في ضوء قواعد علمي الحديث والرجال. 5 – تقويم متن النص وفق قواعد تحقيق التراث. 6 – تعرف دلالة النص من خلال معطيات الوسائل والأساليب العلمية الخاصة بذلك من لغوية وغيرها. 7 – استخلاص القاعدة من النص، وصياغتها صياغة علمية تعتمد فيها اللغة العلمية لاصول الفقه. 8 – بيان كيفية تطبيق القاعدة. 9 – عرض بعض الأمثلة لتطبيق القاعدة. 2 – ويسير المنهج الاصولي في هدي المنهج العقلي العام الخطوات الآتية: 1 – تعيين موضوع البحث. 2 – تحديد الموضوع. 3 – التماس الدليل العقلي الدال عليه المعتمد شرعا وتوضيح دلالته عليه. 4 – استخلاص القاعدة وصياغتها صياغة علمية تعتمد فيها لغة اصول الفقه. 5 – بيان كيفية تطبيق القاعدة. 6 – عرض بعض الأمثلة لتطبيق القاعدة.
[ 388 ]
الحكم لأن الحكم – بمعناه العام – من المفاهيم العرفية المعروفة لم يوله اللغويون العرب كبير اهتمام، واستغنوا بذكر بعض معانيه دونما تفصيل أو مقارنة. وأهم ما ذكروه مستفيدين إياه من الاستعمالات الاجتماعية ان قالوا: الحكم: المنع، يقال: حكمت عليه بكذا، إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك – كما في (المصباح المنير) -. ومنه اخذت بقية معانيه التي هي: – القضاء والفصل بين الناس. إدارة شؤون البلاد وسياسة من فيها من العباد. – الحكمة: وضع الشئ في موضعه، والاتقان والإجادة في الصنع. – العلم والتفقه. هذا في اللغة العربية. وفي علم المنطق: عرفه الجرجاني في (التعريفات) ب ” إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا “. أي انه النسبة أو العلاقة القائمة بين المحكوم عليه والمحكوم به) أو قل: بين المسند إليه والمسند، أو الموضوع والمحمول. وعرفه المنطق الحديث: بأنه ” إقامة علاقة بين حدين أو أكثر “. والفرق بين التعريف المنطقي القديم والتعريف المنطقي الحديث هو أن الحكم في المنطق القديم نفس العلاقة التي اصطلح عليها بالنسبة، وفي المنطق
[ 389 ]
الحديث هو إقامة العلاقة. وأخال ان المقصود به العلاقة بالذات بقرينة ما يأتي من أن من أخص خصائصه احتماله الصدق والكذب، وهذا لا يتم إلا في الإسناد أو النسبة أو العلاقة – ما شئت فعبر -. إلا انه كان هناك تسامح في العبارة بذكر الإقامة، وحينئذ لا يوجد فرق بين المنطقين في تعريفه. وقالوا: ان من أخص خصائص الحكم المنطقي احتماله للصدق والكذب. وقسموه، منطقيا – إلى قسمين: 1 – الحكم التحليلي: وهو ما كان محموله متضمنا في موضوعه نحو (الإنسان الكامل عادل). ف (الإنسان الكامل) الذي هو موضوع الحكم متضمن للعدالة التي هي محمول الحكم لشمولية الكمال لها. 2 – الحكم التركيبي: وهو الذي لا يشتمل موضوعه على محموله، ولا يمكن الحكم على صدقه أو كذبه إلا بالتجربة. وقسموا الحكم – أيضا – بتقسيم آخر إلى قسمين آخرين، هما: 1 – الحكم الوصفي: وهو الذي يصف الأشياء والأفعال، ويقررها بما هي عليه، أي في واقعها القائم، ومن هنا سمي ب (الواقعي) أيضا. 2 – الحكم المعياري: وهو الذي يدل على تقدير وتقييم الأشياء والأفعال بالتحليل أو المقارنة
[ 390 ]
ونحوهما، ولهذا قد يسمى ب (القيمي) و (التقييمي) أيضا. – وفي القانون: عرف الحكم تعريفا شرعيا مقارنا بالتعريف القانوني للقاعدة القانونية التي تعني الحكم في اللغة القانونية. وفي ضوئه: ان كلمة (قاعدة) في التعريفات القانونية للحكم الشرعي تعني الحكم.. وقد جمع بينهما الدكتور سمير عالية في كتابه (علم القانون والفقه الإسلامي) – ص 16 – باستخدام الأداة (أو) التفسيرية، قال: (وأما الحكم الشرعي فهو خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية أو القاعدة التي نص عليها الشرع الإسلامي في مسألة من المسائل). و (الخطاب) في التعريف هو المصطلح الفقهي، و (القاعدة) هي المصطلح القانوني، وكلاهما يعني الحكم. ثم في ص 86، وتحت عنوان (تعريف القاعدة الشرعية) ذكر الدكتور عالية أكثر من تعريف قانوني للحكم الشرعي، منها: – انه ” القاعدة التي تستفاد من القرآن والسنة النبوية والمصادر الاخرى المعتبرة شرعا، والتي تنظم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع، بتبيان ما لهم من حقوق، وما عليهم من التزامات وحدود يجب عدم تجاوزها، وإلا تعرضوا للجزاء الشرعي الذي يستحقونه “. – انه ” كلمة من الله في صورة خطاب لتنظيم الأفعال الإنسانية والأقوال، وحتى الأفكار والنيات “. ” وهذا الخطاب يعبر عن إقرار الله لبعض الأفعال على أساس أصل الإباحة،
[ 391 ]
وأمره بإتيان بعض الأعمال، ونهيه عن مقارفة البعض الآخر، وتبيان الجزاء في حالة مخالفة هذا الأمر أو النهي “. – انه ” خطاب الله المتعلق بأفعال عباده وأقوالهم وسرائرهم “. ثم يعلق الدكتور عالية (1) بقوله: ” والتعريفان الأخيران جامعان للقواعد الاعتقادية والأخلاقية والعملية في الشرع الإسلامي. وهما مماثلان لتعريف الحكم الشرعي الشامل للقواعد الشرعية العملية، وسواها من القواعد التي تستفاد من الشرع مباشرة أو بالواسطة “. ثم يقول: ” والحقيقة ان مفهوم القاعدة الشرعية هو ذات مفهوم الحكم الشرعي “. ولا يوجد أي فرق بين القاعدة الشرعية والحكم الشرعي، سواء التزمنا بنظرة الاصوليين في اعتبار لفظ الحكم الشرعي علما (أي اسما) على ذات خطاب الشارع، أو جارينا نظرة الفقهاء لجهة كون الحكم دالا على أثر خطاب الله تعالى “، وهو رأي بعض الفقهاء أمثال ابن عابدين – كما سيأتي: وفي ص 89، استعرض خصائص القاعدة الشرعية (الحكم الشرعي)، وهي: 1 – أصلها سماوي وطابعها ديني. 2 – انها قاعدة سلوك. 3 – انها تحكم ظاهر السلوك وباطنه. 4 – انها خطاب يوجه إلى الاشخاص في مجتمع. 5 – انها عامة مجردة.
(1) – ص 87. (*)
[ 392 ]
6 – انها ملزمة لاقترانها بجزاء دنيوي واخروي. والخلاصة: الحكم: هو تشريع يوضع لتنظيم سلوك الإنسان. وقد يكون عرفيا، وقد يكون شرعيا، وقد يكون قانونيا. وإلى هنا وقد تبينا المعنى العام للحكم، ومقارنة الحكم الشرعي بالحكم القانوني في مجال التعريف، ننتقل إلى تبين معنى الحكم عند الاصوليين وتقسيماته التي ذكروها في مدوناتهم الاصولية.
[ 393 ]
* (الحكم الشرعي) * تعريفه: ارتبط تعريف الحكم الشرعي عند الاصوليين بما ذكروه من مراحل للحكم الشرعي حيث استمدوا منها معنى الحكم. ولكي نتفهم مفهوم الحكم الشرعي عندهم نمهد لذلك بذكر تلك المراحل، وهي: 1 – مرحلة إنشاء الحكم: وهي مرحلة تشريع الحكم من قبل الله تعالى، وعبروا عنها – مستعيرين المصطلح من الفلسفة – بمرحلة الجعل والاعتبار، وكان الأولى أن تسمى مرحلة التشريع لأنه ألصق بواقع هذه المرحلة وأدل عليها من سواه. 2 – مرحلة تبليغ الحكم: وهي مرحلة صدور الخطاب المتضمن للحكم المجعول من قبل الله تعالى، وتبليغه للناس من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). والخطاب – في الأصل – هو توجيه الكلام نحو المخاطب للإفهام، ولكن يراد به هنا النص الشرعي قرآنا وحديثا. ولهذا بامكاننا أن نطلق على هذه المرحلة اسم مرحلة النص. 3 – مرحلة فهم الخطاب: الباب الأول / مباحث الدليل والحكم / الحكم الشرعي…… -… وهي مرحلة تعامل الفقيه مع الخطاب (النص) لاستنباط الحكم الشرعي منه.
[ 394 ]
ولنسمها مرحلة الاستنباط. إنبثق اختلاف الاصوليين في تعريف الحكم من نظرتهم إلى إحدى المرحلتين الأوليين. بينما ركز الفقهاء في تعريفهم للحكم على المرحلة الأخيرة. فعرف بعض الفقهاء الحكم بأنه ” ما ثبت بالخطاب “. أي انه الأثر أو المعنى الذي يستفيده الفقيه من الخطاب، قال بهذا ابن عابدين من فقهاء الحنفية. أو قل: ” الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل كالوجوب والحرمة والإباحة “. اصول الفقه لخلاف (1). وعرفه ابن عثيمين في كتابه (الاصول من علم الاصول (2)) بقوله: ” ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع “. ولكنه لم ينص على انه التعريف الفقهي للحكم الشرعي بما قد يتوهم انه يريد به التعريف الاصولي. وعرفه جمهور الاصولية بأنه ” خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا “. وأشكل عليه بما يلي: 1 – اقتصاره على مرحلة الخطاب، أي انه لم يشمل جميع مراحل الحكم. 2 – ان الخطاب تبليغ للحكم، أو قل: الخطاب هو النص الذي يحمل في طياته الحكم الشرعي، فليس هو الحكم، لأن الحكم هو أثر الخطاب المستفاد منه، أي
(1) – ص 100. (2) – ط 4 / ص 12. (*)
[ 395 ]
المعنى المستنبط من نص الخطاب. 3 – ان التعريف بصياغته هذه هو تعريف للحكم التكليفي الذي هو أحد قسمي الحكم الشرعي، أي انه غير شامل للقسم الثاني للحكم الشرعي وهو الحكم الوضعي، وذلك لأن قيد الاقتضاء الذي هو الطلب يدخل الوجوب والندب والحرمة والكراهة، وقيد التخيير يدخل الإباحة، ويبقي الحكم الوضعي خارج حريم التعريف، مع انه داخل في مفهوم الحكم. ولهذا أضاف غير واحد ممن عرفوا الحكم من الاصوليين إلى التعريف المذكور قيد (الوضع)، فقالوا: الحكم هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. ومع هذا – فيما يبدو لي – يبقى التعريف قلقا من ناحية فنية، لأن الأحكام الوضعية لا تتعلق بفعل المكلف مباشرة وإنما عن طريق منشأ انتزاعها، أو بمتعلق متعلق فعل المكلف – كما سيأتي بيانه. ولهذا عدل بعضهم عن التقييد بالاقتضاء والتخيير والوضع إلى التقييد بالتعلق المباشر أو غير المباشر، كما في التعريف القائل: إن الحكم هو ” الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقا مباشرا أو غير مباشر “. ويعني بالمتعلق المباشر الحكم التكليفي وغير المباشر الحكم الوضعي. ولا يرد على هذا التعريف ما أشكل به على سابقيه من عدم الشمول لجميع مراحل الحكم لأنه يمتلك الشمولية لجميع المراحل بعدوله من (الخطاب) إلى (الاعتبار). لكن يشكل عليه بأن (الاعتبار) مصطلح فلسفي يراد به ما يقابل التكوين، ونحن هنا وان كنا في عالم التشريعات، وهي امور اعتبارية لكننا نتعامل مع الحكم لا بصفته اعتبارا وإنما بصفته نظام حياة ينظم سلوك الإنسان، فلا يتلائم مع هذا أن
[ 396 ]
نعبر عنه بالاعتبار، وإنما المناسب أن نعبر عنه بالتشريع كما صنع استاذنا الشهيد الصدر حيث عرفه بقوله: ” الحكم الشرعي: هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه ” (1). وهذا التعريف – كما تراه – فيه الشمولية التي في سابقه، وزيادة هي التعبير عن الحكم ب (التشريع)، وهو التعبير العلمي الذي يلتقي وطبيعة الفهم القانوني للدين بأنه تشريع إلهي، كما قرأنا هذا في التعريف القانوني للقاعدة الشرعية أو الحكم الشرعي، ويلتقي أيضا مع طبيعة الحكم الشرعي كنظام حياة يقوم بوظيفة تنظيم حياة الإنسان وتوجيهه إلى ما يحقق له الخير المنشود. وهو تطور أو تطوير منه (قدس سره) مميز وموفق. تقسيماته: للحكم تقسيمان رئيسان هما: (التقسيم الأول): ويقوم على أساس من تعلق الحكم بفعل الإنسان، ونوعية ذلك التعلق، فقد يكون تعلقا مباشرا وقد يكون غير مباشر. كما أنه قد يكون على نحو الاقتضاء أو على نحو التخيير أو على نحو الوضع واختلف العلماء في عدة الأقسام أهي إثنان أم ثلاثة ؟ – فذهب المشهور إلى أنهما إثنان: التكليفي والوضعي. 1 – التكليفي: وعرفوه – كما تقدم – ب (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا).
(1) – دروس في علم الاصول: الحلقة الثانية ط 1 ص 13. (*)
[ 397 ]
وأدرجوا تحته نوعين دل عليهما تقييده بالاقتضاء والتخيير، وهما: أ – ما قامت الأحكام فيه على أساس الاقتضاء أي الطلب، أو قل: ما كان فيه عنصر الإلزام مع الترخيص أو بدونه. ويشمل هذا النوع الأحكام التالية: الوجوب والندب والحرمة والكراهة. ب – ما قام الحكم فيه على أساس التخيير بين الفعل والترك، وهو الإباحة. 2 – الوضعي: وعرفوه ب (خطاب الشارع المتعلق بأفعال الإنسان وضعا). واختلفوا في عدد مفرداته بعد أن اتفقوا على ثلاثة منها، وهي: السبب والشرط والمانع. فأضاف بعضهم إليها: الصحة والفساد والرخصة والعزيمة. وزاد آخر على هذه السبعة: العلة والمعلول. وجعلها ثالث مفتوحة تستوعب ما ينطبق عليه التعريف كالزوجية والحرية والخ. والفرق بين القسمين المذكورين من حيث التعلق بفعل المكلف هو ان الحكم التكليفي يتعلق بفعل المكلف مباشرة، كما في وجوب الصلاة فان الصلاة فعل من أفعال المكلف والوجوب حكم تكليفي لأنه تعلق بها بشكل مباشر بينما يتعلق الوضعي بمتعلق فعل المكلف كما في غصبية الثوب الذي يراد به الصلاة فالغصبية تعلقت بالثوب المتعلق بالصلاة التي هي فعل المكلف. – وذهب آخرون إلى تقسيم الحكم الشرعي إلى ثلاثة أقسام على أساس من الدواعي المتقدمة: الاقتضاء والتخيير والوضع، وهي:
[ 398 ]
1 – الحكم الاقتضائي: وهو الوجوب والندب والحرمة والكراهة. 2 – الحكم التخييري. وهو الإباحة. 3 – الحكم الوضعي: وهو السبب والشرط والمانع، والخ. وهذا التقسيم الثلاثي أقرب إلى الاعتبار، يقول استاذنا التقي الحكيم في كتابه (الاصول العامة) – وهو في معرض نقد اعتبارهم الإباحة قسما من الحكم التكليفي -: ” اعتبار الإباحة (التخيير) قسما من الحكم التكليفي، وهو وان كان قد ورد على ألسنة أكثرهم إلا ان ذلك لا يعرف له وجه لمجافاته لطبيعة التعبير بالتكليف، لأن التكليف ما كان فيه كلفة على العباد، والإباحة لا كلفة فيها، فلا وجه لعدها من أقسامه. ولعل الأنسب في ذلك اتباع الآمدي فيما سلكه من تقسيم الحكم الشرعي إلى ثلاثة أنواع: – حكم اقتضائي، وهو الذي أرى أنه يرادف كلمة تكليفي، وينبغي قصر كلمة تكليفي عليه. – حكم تخييري، وهو الخاص بالمباح. – والثالث: الحكم الوضعي “. وعلى ضوء الاختلاف المتقدم في تعريف الحكم الشرعي بين الاعتبار أو الخطاب أو التشريع أو أثر الخطاب، لك أن تغير في تعريف كل من الأقسام المذكورة بوضع كلمة (الاعتبار) أو (التشريع) أو (أثر الخطاب) موضع كلمة
[ 399 ]
(الخطاب). (التقسيم الثاني): ويقوم على أساس من النظر إلى ظرف الحكم، فقد ينظر إلى الحكم وهو في ظرفه الطبيعي والاعتيادي، قد ينظر إليه وهو في ظرف طارئ عرض له. قسموه بهذا اللحاظ إلى قسمين: الواقعي والظاهري. 1 – الحكم الواقعي: هو الحكم المجعول للشئ وهو في ظرفه الطبيعي، أي في واقعه كما هو. ويستفاد هذا الحكم من الأدلة الاجتهادية. وقسموا الحكم الواقعي باعتبار الظرف أيضا إلى قسمين: أولي وثانوي. أ – الواقعي الأولي: وهو الحكم المجعول للشئ بواقعه الطبيعي وعنوانه الأولي، أي بلحاظ عدم طرو أي ظرف له يقتضي الانتقال منه إلى حكم آخر يناسب الظرف الطارئ وينتهي بانتهائه. ومثلوا له ب (شرب الماء) ففي الظرف الطبيعي للإنسان والعنوان الأولي لشرب الماء فان حكمه الإباحة. ب – الواقعي الثانوي: وهو الحكم المجعول للشئ بلحاظ ظرف خاص طرأ له فاقتضاه لمناسبته للظرف الطارئ كما في مثال (شرب الماء) فانه في ظرف توقف إنقاذ حياة إنسان عليه يجب، أي ينتقل حكمه من الإباحة إلى الوجوب وفق الظرف الطارئ. 2 – الظاهري:
[ 400 ]
وهو الحكم الذي يسير المكلف على وفقه في ظرف شكه وجهله بالحكم الواقعي. ويستفاد هذا الحكم من الأدلة الفقاهية ويقسم هذا الحكم إلى القسمين التاليين: أ – الحكم الظني: وهو المستفاد من الأمارة. ب – الوظيفة العملية: وهي الموقف العملي المستفاد من الأصل العملي. أقسام الأقسام: وتمهيدا لتعريف أقسام الأقسام وبيان المقصود منها في الاصطلاح الاصولي والفقهي نمر بتعريف الدواعي التي سبق ذكرها في التقسيم الأول، وهي: الاقتضاء، والتخيير والوضع. – (الإقتضاء): عرف – لغويا – بالطلب. والطلب المقصود هنا يتناول طلب الإتيان بالفعل وطلب الكف عن إتيانه، أو طلب تركه. وعلى نحو الإلزام، وبدونه. وهو بهذا يشمل الأحكام الأربعة: الوجوب والندب والحرمة الكراهة. جاء في تعريفات الجرجاني: ” الإقتضاء: وهو: – طلب الفعل مع المنع عن الترك، وهو الإيجاب (الوجوب). – أو بدونه (أي بدون المنع عن الترك)، وهو الندب.
[ 401 ]
– أو طلب الترك مع المنع عن الفعل، وهو التحريم. – أو بدونه (أي بدون المنع عن الفعل)، وهو الكراهة “. وقد عدل بعضهم عن التعبير بالإقتضاء إلى التعبير بالطلب كما في اصول الفقه لخلاف (1) فقد عرف الحكم الشرعي عند الاصوليين بقوله ” هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا “. – (التخيير): يراد به – هنا -: التسوية بين فعل الشئ وعدم فعله من غير ترجيح لأحدهما على الآخر. ويختص بالإباحة. ولذا عرفت الإباحة في المصطلح الفقهي بالتخيير بين الفعل والترك. – (الوضع): الذي يظهر من الاستعمالات العلمية لكلمة (وضع) أن المراد منها (الجعل)، ففي بعض تعريفات الوضع اللغوي بأنه (جعل اللفظ دليلا على المعنى). وهذا المعنى لم نقف عليه في اللغة المعجمية. وعليه فكلمة (وضع) بهذا المعنى هي من الألفاظ العلمية. وعلى أساس من هذا المعنى لكلمة (وضع) عرف الاصوليون الوضع ب ” جعل الشئ سببا لآخر، أو شرطا له، أو مانعا منه “. ويمكننا أن نصوغ التعريف على هيئة اخرى فنقول: الوضع: هو اعتبار الشارع الشئ سببا لآخر، أو شرطا له، أو مانعا منه، والخ. وأظن قويا أن كلمة (وضع) أخذت من كلمة (موضوع) لأن الحكم الوضعي
(1) – ص 100. (*)
[ 402 ]
– كما مر – لا يتعلق بفعل المكلف مباشرة، وإنما يتعلق بمتعلق فعل المكلف، أو قل بموضوع فعل المكلف، كالطهارة شرطا للصلاة التي هي (أعني الصلاة) موضوع فعل المكلف. مفردات الحكم التكليفي: هي – كما مر بنا أكثر من مرة -: الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة – على الرأي المشهور -. سمى الاصوليون هذه المفردات أقساما، والأقرب إلى طبيعتها أن تسمى مفردات، ولهذا عنونتها بالعنوان المذكور. (الوجوب): الوجوب – لغة – مصدر وجب بمعنى لزم وثبت. ومن هنا عرف اللغويون الوجوب باللزوم والثبوت. وعرف فقهيا: ب (الإلزام بالفعل). وب (ما يلزم به الشرع ويثاب المرء على فعله ويعاقب على تركه). وإذا أردنا أن نستخدم (الاقتضاء) الذي هو بمعنى (الطلب) مطلقا لنحتفظ بالقدر الجامع بين الوجوب والندب فاننا نعرفه ب (اقتضاء الفعل على نحو اللزوم). أو قل: (طلب الفعل على نحو اللزوم). (الندب): ويقال له (الاستحباب) و (السنة) و (المسنون) و (النفل). والندب – لغة – الدعاء إلى الشئ، يقال: ندبه إلى الفعل: دعاه ليفعله.
[ 403 ]
والاستحباب: طلب الشئ المحبوب والترغيب فيه، يقال: استحب الشئ: أحبه ورغب فيه. والسنة – هنا: العمل الشرعي غير الملزم به، الذي يحمد فاعله على فعله، ولا يذم على تركه. والنفل: هو ما شرع زيادة على الفريضة والواجب. فهو على هذا يعرف شرعا ب (اقتضاء الفعل من غير الزام). أو (طلب الفعل بغير إلزام). أو (طلب الفعل الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه). (الحرمة): الحرمة – لغة – الامتناع عن الفعل، ومن انتهاك ما لا يحل انتهاكه من ذمة أو حق أو صحبة أو نحو ذلك. ومنه قالوا: الحرام: الشئ الممنوع فعله. وفقهيا: هي طلب ترك الفعل على نحو اللزوم. أو قل: هي اقتضاء الكف عن اتيان الفعل الزاما. (الكراهة): لغة، يقال: كره الشئ كرها وكراهة وكراهية: خلاف أحبه، فهو كريه ومكروه. وفقهيا: طلب ترك الفعل من غير إلزام. أو قل: اقتضاء الكف عن إتيان الفعل بغير إلزام. (الإباحة):
[ 404 ]
في اللغة: أباح الشئ: أحله وأطلقه. وفي علم الاصول: التخيير بين الفعل والترك. تقسيمات الوجوب: للوجوب عند الاصوليين أكثر من تقسيم، أهمها: 1 – تقسيم الوجوب إلى: عيني وكفائي. ويقوم هذا التقسيم على أساس من تعلق الوجوب بجميع المكلفين بأعيانهم، أو ببعضهم ممن تحصل به الكفاية بالإمتثال وتحقيق المطلوب. – الوجوب العيني: نسبة إلى العين التي يراد بها هنا الذات إذ من معاني العين الذات، وذلك لأن الوجوب العيني هو ما يكلف به كل فرد بذاته ويتحمل مسؤوليته بنفسه، فلا يكتفي منه بامتثاله من الغير، وذلك مثل الصلاة والصوم. – الوجوب الكفائي: نسبة إلى الكفاية التي تعني الاكتفاء والاستغناء بامتثال البعض عن الكل، وهو من يكون فيه الكفاية بالقيام بأداء المطلوب، ويسقط معه الوجوب عن الغير. والفرق بين هذا الوجوب الكفائي وقسيمه الوجوب العيني أن كلا منهما يوجه لكل فرد استوفى شروط التكليف بهذا الوجوب، إلا أن الأول – أعني العيني – يطلب امتثاله من جميع المكلفين، أي من كل مكلف جمع شرائط تكليفه، بينما الثاني – أعني الكفائي – يكتفي في امتثاله أن يقوم به من به الكفاية في تحقيق المطلوب، وذلك مثل الصلاة على الميت، وتعلم العلوم والصناعات والأعمال
[ 405 ]
الاخرى التي يحتاج إليها الناس ويتقوم بها مجتمعهم. 2 – تقسيم الوجوب إلى: تعييني وتخييري. ويقوم هذا التقسيم على أساس من تعلق الوجوب بشئ مطلوب بعينه أو بشئ آخر يخير المكلف بينه وبين غيره. – الوجوب التعييني: نسبة إلى التعيين الذي يراد به طلب شئ بعينه ولا يرضى بالإتيان بسواه. وذلك مثل صلاة الجمعة لمن استكمل شروطها فانها تجب عليه على التعيين، ولا يرخص له بالانتقال إلى فريضة الظهر التي هي بديل لها. – الوجوب التخييري: وهو الوجوب الذي يتعلق بشيئين أو أكثر على نحو التخيير بينها، وذلك مثل كفارة الإفطار في شهر رمضان عمدا على شئ لا يستوجب الجمع بين خصال الكفارة، فان المكلف يخير بين خصال الكفارة التي هي: عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا – كما هو مبين في كتب الفقه -. 3 – تقسيم الوجوب إلى: تعبدي وتوصلي. ويبتني هذا التقسيم على أساس من اشتراط قصد القربة وعدم اشتراطه. – فما اشترط فيه قصد التقرب به إلى الله تعالى بحيث ” يتوقف تحقق ملاكه على الاتيان به بقصد القربة ” فهو الوجوب التعبدي. وسمي بالتعبدي نسبة إلى التعبد الذي هو العبادة إذ قوام العبادة بقصد القربة. ويدخل فيه كل العبادات أمثال الصلاة والصوم والحج. – وما لم يشترط فيه الإتيان به بقصد القربة، أي لا يتوقف تحقق ملاكه على
[ 406 ]
الإتيان به بقصد القربة، ويكتفي به أن يؤتي به مجردا من قصد القربة فهو التوصلي. وسمي بالتوصلي نسبة إلى التوصل، وهو الانتهاء إلى الشئ وبلوغه، ولعله لأن هذا الوجوب المقصود منه أن يتوصل به إلى المطلوب فقط، أي دون أن يقصد به التعبد. ومثلوا له بالصناعات والحرف التي يتوقف عليها النظام الاجتماعي وتطهير الأشياء التي يتعامل معها الإنسان من النجاسة العينية كالملابس والفرش والأواني وسواها. 4 – تقسيم الوجوب إلى: نفسي وغيري. ويتم على أساس من طلب الإتيان بالشئ لذاته، أو لأجل غيره. – الوجوب النفسي: وهو ما طلب فيه الإمتثال لذاته كالصلاة، فانها مطلوبة لذاتها لا لواجب آخر. وسمي نفسيا لأن الشئ يطلب لنفسه أي هو الغاية من الطلب. – الوجوب الغيري: هو ما طلب امتثاله لا لذاته وإنما لغيره أي ليس هو الغاية من الطلب، وإنما يطلب لأجل غيره كالوضوء بالنسبة للصلاة. هذه هي أهم الأقسام التي ذكرت للوجوب. وهناك أقسام اخرى لم تبلغ مستوى أهمية ما ذكرته، ولذا أعرضت عن استعراضها.
[ 407 ]
فائدة التقسيم: يقول السبزواري في (التهذيب (1)). ” فائدة تقسيم الواجب: استخلاص قاعدة كلية وهي استفادة الوجوب العيني التعييني النفسي عند إطلاق الأمر “. ” وهذا التمسك بالإطلاق يتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام البيان. وعند الشك يرجع إلى أصالة كون المتكلم في مقام البيان. وهي من الاصول المحاورية المعتبرة في المحاورات والاحتجاجات “. تقسيم الحرمة: من تقسيمات الحرمة التي ترددت في كتب الفقه تقسيمها إلى: ذاتية وتشريعية: – الحرمة الذاتية: وهي التي تتعلق بالشئ لذاته. مثل حرمة حلق المرأة شعرها في الأحوال الاختيارية للمأثورة القائلة (نهى رسول الله أن تحلق المرأة شعرها) التي فهم منها الإطلاق الشامل لجميع الأحوال الاختيارية. – الحرمة التشريعية: وهي التي تتعلق بالشئ لا لذاته، وإنما لأنها تتنافى ووظيفة المكلف الشرعية. مثل حرمة الحلق على المرأة في الحج عند من عللها بمنافاتها لوظيفتها الشرعية التي هي التقصير مستندا لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)، وعن الإمام (عليه السلام): (ليس على النساء حلق وعليهن
(1) – التهذيب 1 / 108. (*)
[ 408 ]
التقصير)، اللذان يفهم منهما أن الحلق ليس محرما على النساء في غير الحج. مفردات الحكم الوضعي: قال ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه (الأقطاب الفقهية): ” والوضع ينقسم إلى: سبب وشرط ومانع. فالسبب: هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل دليل على كونه معرفا لحكم شرعي، بحيث يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم. والشرط: ما يتوقف عليه التأثير بحيث يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. والمانع، ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود “. وذهب آخرون إلى تقسيمه إلى: سبب وشرط ومانع، وصحة وبطلان (فساد) ورخصة وعزيمة. فالصحة: هي وقوع الفعل مستوفيا لجميع متطلباته الشرعية. والبطلان: خلاف الصحة، أي وقوع الفعل غير جامع لجميع متطلباته الشرعية. والعزيمة: ” ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف ” (1). والرخصة: ” ما شرعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف “. وناقش استاذنا التقي الحكيم عد الصحة والفساد والرخصة والعزيمة على نحو
(1) – الاصول العامة 72. (*)
[ 409 ]
الإطلاق أقساما للحكم الوضعي. قال في (الاصول العامة) (1): ” أن اعتبار الصحة والفساد من الأحكام الوضعية غير صحيح على إطلاقه، لأن الصحة على قسمين: – صحة واقعية: ويراد بها مطابقة المأتي به للمأمور به واقعا، ويقابلها الفساد. ومثل هذه الصحة تابعة لواقعها، والجعل لا يتناول الامور الواقعية. وكذلك الفساد. أما القسم الثاني وهو الصحة الظاهرية كالحكم بصحة الصلاة بعد الفراغ منها عند الشك فيها استنادا إلى قاعدة الفراغ فهي التي تكون قابلة للجعل والاعتبار. وكذلك الحكم بالفساد ظاهرا عند الشك في الصلاة الثنائية مثلا. وما يقال عن الصحة والفساد الواقعيين من إنكار كونهما حكمين وضعيين يقال عن العزيمة والرخصة، ولكن لا من حيثية واقعيتهما، بل من حيث كونهما راجعين إلى الأحكام التكليفية، كما يتضح ذلك من معناهما المحدد لهما عند الاصوليين. فلقد عرف غير واحد العزيمة بما يرجع إلى (ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال، ولا بمكلف دون مكلف).. وفي مقابلها الرخصة وهي (ما شرعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف)، ورجوعهما بهذين التعريفين إلى الأحكام التكليفية من أوضح الامور، فليست العزيمة إلا الحكم المجعول للشئ بعنوانه الأولي، وليست الرخصة إلا جعل الإباحة للشئ بعنوانه الثانوي، وهما لا يخرجان عن
(1) – 71 – 73. (*)
[ 410 ]
تعريف الأحكام التكليفية بحال “. وأيضا يلاحظ على هذا التقسيم: أن ما ذكر له من ظواهر بعنوان الأقسام، ليست أقساما للحكم الوضعي، وإنما هي – فيما صدق عليه تعريف الحكم الوضعي منها، مفردات له. وهي غير محصورة بعدد، وإنما تشمل كل ما ينطبق عليه تعريف الحكم الوضعي. وبتوضيح أكثر: هي ما عدا الأحكام التكليفية التي حصرت بعدد معين، وهي الخمسة المعروفة بأقسامها. والذي ينطبق عليه مفهوم القسمة هو تقسيم الأحكام الوضعية إلى أحكام مجعولة واخرى منتزعة. أ – الأحكام الوضعية المجعولة. وهي التي جعلت موضوعا لحكم تكليفي كالزوجية التي هي موضوع لوجوب نفقة الزوجة على الزوج. وهو – أعني وجوب النفقة – حكم تكليفي. ب – الأحكام الوضعية المنتزعة: وهي تلك الأحكام التي انتزعت من الحكم التكليفي كالشرطية والجزئية، كما إذا قيل: يجب في الصلاة الركوع والسجود والطهارة والوقت.. فقد انتزع العلماء من هذا عنوان الجزء للركوع والسجود، وعنوان الشرط للطهارة والوقت. وهناك تقسيم آخر للحكم لم يفرده الاصوليون، وكذلك الفقهاء بعنوان خاص
[ 411 ]
به وإنما ذكروه عابرا وفي مناسباته المختلفة. وهو مما لابد من ذكره لما له من علاقة بموارد الاستنباط حيث لابد للفقيه من التمييز بين قسمي هذا الحكم، وعلاقة بموارد تعارض الخبرين – كما سيأتي. وهذا التقسيم هو تقسيم الحكم إلى: تشريعي وإداري. 1 – الحكم التشريعي: وهو الحكم الذي مر التعبير عنه بالخطاب وأثر الخطاب والاعتبار والتشريع. وهو المقصود بالمأثورة المعروفة: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة). وباختصار: هو الحكم الذي يوصله المعصوم إلى الناس بصفته مبلغا. 2 – الحكم الإداري: وهو ذلك الحكم الذي يصدره المعصوم أو رئيس الدولة بصفته حاكما ووليا لامور المسلمين. وباختصار: هو الحكم الذي تصدره الإدارة الحكومية للدولة الإسلامية. أمثال: الإلزام بالتجنيد الإجباري عسكريا، وفرض الضرائب إقتصاديا، ومنع التعامل مع شركات معينة سياسيا، والخ.
[ 413 ]
الباب الثاني مباحث دلالة الألفاظ الدلالة دلالة الألفاظ المفردات والتراكيب الأساليب الإنشائية
[ 414 ]
الدلالة تعريفها تقسيمها محور البحث
[ 415 ]
الباب الثاني الدلالة تعريفها: الدلالة – لغويا -: الإرشاد. يقال: دله على الطريق، وإلى الطريق، أرشده إليه. وهي بفتح دالها وكسره، وتعطي معناها – الإرشاد – عن قصد من الدال (المرشد)، ومن غير قصد كمن يشاهد حركة إنسان فيستدل منها على أنه حي. وكلمة (دلالة) كمعظم الكلم العربية وضعت في الأصل لمعنى مادي وهو العلامة أو السمة. وهذا يؤيد ما ذهب إليه الكوفيون من أن الاسم – وهو علامة المسمى – مأخوذ من السمة. ويؤكده أن الكلمة بلفظها Sema من كلم اللغة اليونانية، وأيضا هي في اليونانية تعني العلامة. ثم امتدت من المادي إلى المعنوي لوجه شبه بينهما. ففي البدء وضعت الدلالة اسما للنصبة التي تشير إلى شئ ما، مرشدة إليه، كاللوحات الإرشادية – في عصرنا هذا – مرسوما عليها السهم يشير إلى ذلك الشئ، ووضعت اسما للعقدة في خيط تعني العدد الحسابي المقصود.
[ 416 ]
ثم وبعد التطور الحضاري وانتشار العلوم في البلاد العربية ترجمة وتأليفا وقف الباحثون والعلماء عندها وعليها مصطلحا علميا. وأقدم حقل معرفي تناول الدلالة بالبحث بصفتها مصطلحا علميا هو علم المنطق الصوري، ومنه امتد تعريفها وتقسيمها إلى الحقول المعرفية الاخرى أمثال الفلسفة واصول الفقه وعلم اللغة وعلم الدلالة، والدراسات التي تناولت (الكلمة) بشكل خاص. وأشهر تعريف منطقي للدلالة هو ما جاء في كتاب (التعريفات) للجرجاني، ونصه: ” الدلالة: هي كون الشئ بحالة يلزم من العلم به العلم بشئ آخر. والشئ الأول هو الدال والثاني هو المدلول “. والجرجاني بتعريفه هذا يريد أن يقول: الدلالة هي العلاقة القائمة بين الدال والمدلول بحيث لو علمنا بالدال علمنا بالمدلول. وقد يشكل عليه بأن هذا إنما يتم في الصور الواقعية لا الاعتبارية. فمثلا: لو رأيت دخانا علمت بوجود نار، لأن الدخان طبيعيا يأتي من النار. ولكنك لو سمعت لفظا من ألفاظ اللغة الفرنسية – مثلا – وأنت لا تعرف شيئا من اللغة الفرنسية لا ينتقل ذهنك إلى معناه رغم وجود العلاقة والتلازم بين هذا اللفظ الفرنسي ومعناه. فإذن، التعريف المذكور، غير دقيق في شموله للدلالة التي نريدها هنا وهي الدلالة اللفظية الوضعية. ويرجع هذا – فيما أقدر – إلى أن معنى الدلالة من المفاهيم التي يتعامل معها الإنسان في كل لحظات حياته وبعددها، فهي كمفهوم الوجود ومفهوم الحياة،
[ 417 ]
وهكذا مفاهيم تكون من الجلوة والوضوح لدى الإنسان بشكل لا يجد من التعريفات ما يكون أجلى وأوضح منها ليستخدمه في تبيينها وتوضيحها، فتراه – مثلا – يقول: هذا الزي يدل على أن صاحبه عسكري وهذه الإشارة المرورية الخضراء تدل على الإنطلاق، وسرعة النبض تدل على إرتفاع درجة الحرارة، وحمرة الوجه تدل على الخجل، وهكذا. ولكن حينما تسأله ما هي الدلالة لا يستطيع أن يعرب لك عن معناها الموجود في ذهنه بسبب وضوحه وضوحا جليا. فالدلالة: هي العلاقة بين الشيئين اللذين يدل أحدهما على الآخر. سواء علمنا بهما معا أو بأحدهما أم لم نعلم بهما. وسواء انتقل ذهننا من الدال إلى المدلول أم لم ينتقل. وسواء كانت على نحو التلازم أم على نحو الاقتران. وفي علم الدلالة الحديث يعرفها بيار جيرو Pierre Guraud بقوله: ” الدلالة: هي القضية التي يتم خلالها ربط الشئ والكائن والمفهوم والحديث بعلامة قابلة لأن توحي بها “. ثم يوضح تعريفه بالأمثلة فيقول: ” فالغمامة علامة المطر، وتقطيب الحاجب علامة الارتباك والغضب، ونباح كلب علامة غضبه، وكلمة (حصان) علامة الانتماء إلى فصيلة الحيوان. العلامة – إذا – هي منبه، وقد دعاها علماء النفس ب (المثير) الذي يدفع بدوره الجسد إلى الإنفعال، مما يؤدي إلى بروز صورة ذاكرية لمثير آخر، فالغمامة توحي بصورة المطر، والكلمة توحي بصورة الشئ ذاته “.
[ 418 ]
تقسيمها: يقسم علم المنطق الدلالة إلى ثلاثة أقسام، هي: 1 – الدلالة العقلية: وهي العلاقة التي يدرك العقل وجودها بين الدال والمدلول اللذين بينهما ملازمة ذاتية في وجودهما الخارجي. كالعلاقة بين العلة والمعلول، فانه عندما يوجد المعلول يحكم العقل بوجود العلة، نحو دلالة رؤية الدخان على وجود النار، ونحو دلالة سماع كلام يأتي من خارج الدار على وجود متكلم خارج الدار. ويعبر عن هذه الدلالة في علم اللغة الحديث بالدلالة المنطقية بين الرمز وما يدل عليه (كأن تنظر في السماء فترى سحابة داكنة فتتوقع المطر، وإن كانت بيضاء صافية كان لها معنى آخر. والربط بين لون السحاب ومعناه – هنا – هو ربط منطقي علمي يخضع للاستقراء العقلي) (1). 2 – الدلالة الطبيعية: وهي تلك العلاقة التي تقوم بين الدال والمدلول بسبب اقتضاء طبعهما لها، نحو دلالة سرعة حركة النبض على وجود الحمى، إذ أن من طبيعة الإنسان إذا ارتفعت درجة حرارة بدنه اقتضت سرعة حركة نبضه، ونحو دلالة لفظ (آخ) على التألم، ذلك أن من طبيعة الإنسان أنه إذا تألم قد يطلق لفظ (آخ) أو ما يماثله معربا ومنفسا عن ألمه. والفرق بين الدلالتين العقلية والطبيعية هو لا بدية الدلالة في العلاقة العقلية،
(1) – د. حلمي خليل، الكلمة ص 114. (*)
[ 419 ]
وعدمها في العلاقة الطبيعية، ذلك أنه متى وجد الدال في العلاقة العقلية لابد من وجود المدلول، لتلازمهما في الوجود وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. والأمر في العلاقة الطبيعية ليس كذلك، فقد يطلق الإنسان كلمة (آخ) وهو ليس بمتألم، وقد يتألم ولا يقول (آخ) فيعبر عن ألمه بالسكوت، وقد يعبر عنه بالإضراب عن الأكل. ففي هذه العلاقة الطبيعية تختلف الدوال وتتخلف عن مداليلها باختلاف طباع الناس. 3 – الدلالة الوضعية: وهي تلك العلاقة القائمة بين الدال والمدلول بسبب تواضع العرف واصطلاحه. ومن هنا سميت في علم اللغة الحديث بالعلاقة العرفية والعلاقة الاصطلاحية. وهي نحو دلالة الإشارة على المشار إليه، ودلالة النصب لما نصبت له، ودلالة العقد على العدد، ودلالة الخط على المعنى. ونحو دلالة الألفاظ اللغوية المستعملة على معانيها التي وضعت لها أو استعملت فيها. محور البحث: وما يبحث فيه الاصولي من هذه الدلالات فتدخل نطاق دراساته العلمية هو الدلالة العقلية، والدلالة الوضعية اللغوية التي يصطلح عليها في علم اللغة الحديث وفي علم الدلالة ب (دلالة الألفاظ). وسنبدأ الحديث بها.
[ 420 ]
الباب الثاني / مباحث دلالة الألفاظ / دلالة اللفظ…… -…
[ 421 ]
دلالة اللفظ تعريف اللفظ تعريف دلالة اللفظ مراتب دلالة اللفظ تحديد المعنى علاقة اللفظ بالمعنى تقسيم دلالة اللفظ
[ 423 ]
دلالة اللفظ تعريف اللفظ: من المفيد جدا، ونحن ننطلق من دراستنا الاصولية هذه، إلى تعرف دلالات الألفاظ الشرعية، أن نبدأ بتحديد اللفظ بتبيان المقصود منه هنا، فنقول: قد نلمس باستقراء مختلف الاستعمالات في الدرس الفقهي أن اللفظ يرادف الكلمة. ومع هذا يبقى الأمر فيه شئ من الغموض أية كلمة هذه التي يرادفها اللفظ وترادفه ؟ أهي الكلمة في عرف علماء اللغة المحدثين، وأعني بها الكلمة ذات السمة الواحدة في جميع اللغات. أم هي الكلمة المعجمية، وهي الكلمة المفردة المستقلة عن الجملة. أم أنها الكلمة النحوية، وهي تلك الكلمة التي تشكل عنصرا في الجملة، له موقعه، وله وظيفته النحوية ومؤداه الدلالي. أم أنها كل هذه وأوسع منها بما يشمل الجملة والكلام ؟ ؟ ؟. وقبل أن يسلمنا البحث إلى النتيجة المطلوبة، لنستعرض شيئا من تعريف كل نمط من أنماط الكلم المذكورة، في حدود ما يوضح الفكرة ويضعنا في الصورة أمام هذا الاختلاف العلمي المثمر.
[ 424 ]
يعرف ستيفن أولمان Stephen Ullmann الكلمة في كتابه (دور الكلمة في اللغة) بأنها ” أصغر وحدة ذات معنى للكلام واللغة “. ثم يشير إلى صعوبة تعريف الكلمة تعريفا وحيدا، أو تعريفا جامعا مانعا، لأنها من الواضحات لدى الناس، وتوضيح الواضح تغميض له. ثم يذكر بعض تعريفات علماء اللغة الآخرين أمثال اللغوي الأمريكي (بلو مفيلد) الذي يعرفها ب ” أنها أصغر وحدة كلامية قادرة على القيام بدور نطق تام “. والذي أشكل عليه بأن مثل أل التعريف، إذا أخذت مستقلة عن مدخولها لا تقوم بدور نطق تام، مع أنها كلمة لأنها ذات معنى تضيفه إلى ما يرتبط بها من ألفاظ. ومعجميا يعرف الزمخشري في كتابه (المفصل) الكلمة بقوله: (هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع). وتعريف الزمخشري هذا يلتقي وتعريف أولمان في أن الكلمة لابد أن تكون ذات دلالة على معنى، ويفترق عنه بأنه (أعني الزمخشري) نظر إلى الكلمة مستقلة عن الجملة، بينما ربط أولمان معناها بأنه للكلام واللغة. وجاء هذا الفرق من أن كل واحد منهما إنطلق إلى تعريفها من زاوية تخصه، فأولمان لأنه عالم لغوي نظرها كظاهرة لغوية اجتماعية، أما الزمخشري فلأن نظرته انصبت عليها، وهي في إطار المعجم وكمفردة من مفرداته ينطبق عليها تعريفه وهدفه. وباعتبارها كلمة نحوية فيمكننا أن نعرفها باللفظة التي يمكن أن تدرج عنصرا في مركب الجملة، وتشغل موقعا إعرابيا فيه تعطي من خلاله وظيفتها النحوية من فاعلية ومفعولية والخ.
[ 425 ]
ولأن الفقيه يتعامل مع الألفاظ الشرعية في مختلف أحوالها، مفردة مستقلة، وعنصرا ضمن الجملة، ومختلف مجالاتها نصا مفردا وجملة وكلاما، يكون المراد منها – تطبيقا – كل هذه. فاللفظ – إذن – هو الكلمة والجملة والكلام. ولعل عدم تعريف الاصوليين له كان السبب الذي جعل علماء اللغة المحدثين ينحون في هذه الأيام منحى الإكتفاء بالإشارة إلى وضوح معنى الكلمة والكلام عن الوقوع في إشكاليات التعريف العلمي غير القادر على الجمع والمنع. تعريف دلالة اللفظ: في ضوء تعريف الدلالة – منطقيا – بالتلازم بين الدال والمدلول، يعرف ابن سيناء في (الشفاء) دلالة اللفظ بقوله: ” ومعنى دلالة اللفظ: أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه “. ولغويا يعرفها (المعجم الوسيط) بما نصه: ” الدلالة: ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه “. ويعرب الشاطبي في (الموافقات (1)) عن أن المقصود للاصولي هو (المعنى)، وما اللفظ إلا وسيلة لتحصيل المعنى، فيقول: ” واللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود “. مراتب دلالة اللفظ: وما ذكره ابن سينا في تعريفه المتقدم أثار البحث في محاولة معرفة مراتب الدلالة عند الفلاسفة الأقدمين، ولا يزال يثيره لدى علماء اللغة المحدثين.
(1) – 2 / 57. (*)
[ 426 ]
ولما له من أهمية في إلقاء الضوء على تعريف المعنى، والكشف عن حقيقته وهويته، تأتي إثارته – هنا – من الأهمية بموضع الضرورة، وعليه نقول: للفظ ارتباط مباشر بالمفهوم الذهني وارتباط غير مباشر بالواقع الخارجي، يتم بوساطة المفهوم الذهني. وتتحقق هذه الدورة بأن اللفظ عند إطلاقه يستدعي صورة المعنى في الذهن التي هي تعبير عن الواقع الخارجي. اللفظ – > الذهن – > الخارج. وتكتمل هذه العملية العقلية عن طريق التداعي بين اللفظ والمعنى، وساحاول إيضاح هذا وفق المنظور القديم والمنظور الحديث. وبدءا نلمس هذا في مربع الغزالي من كتابه (معيار العلم) الذي يقول فيه: ” اعلم أن المراتب (يعني مراتب الوجود) فيما نقصده أربع، واللفظ في المرتبة الثالثة، فإن للشئ وجودا في الأعيان، ثم في الأذهان، ثم في الألفاظ، ثم في الكتابة. فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان “. ومتى عرفنا أن اللفظ والكتابة في مربع الغزالي كلاهما حكاية عما في الذهن ورمز يشير إليه يتحول عند علماء الدلالة المحدثين إلى مثلث. وأشهر مثلثات الدلاليين المحدثين هو مثلث الاستاذين أوجدن وريتشاردز المعروف ب basie triangle الذي تناولاه بالدرس في كتابهما (معنى المعنى The “:) meaming of meaming يرى الاستاذان أن هناك ثلاثة عوامل تتضمنها أية علاقة رمزية:
[ 427 ]
– العامل الأول: الرمز نفسه the symbol، وهو في حالتنا هذه عبارة عن الكلمة المنطوقة المكونة من سلسلة من الأصوات المرتبة ترتيبا معينا، ككلمة (منضدة) مثلا. – والعامل الثاني: المحتوى العقلي الذي يحضر في ذهن السامع حينما يسمع كلمة (منضدة). وهذا المحتوى العقلي قد يكون صورة بصرية أو صورة مهزوزة، أو حتى مجرد عملية من عمليات الربط الذهني، طبقا للحالة المعينة. وهذا ما سماه هذان العالمان ب (الفكرة) thought أو (الربط الذهني.) refereuce – وهناك – أخيرا – الشئ نفسه الذي ارتبط ذهنيا بشئ آخر، وهذا الشئ قد سمياه (المرتبط ذهنيا.) 1 () refernt ثم يوضح الاستاذ أولمان العلاقة الحاصلة بين هذه المصطلحات الثلاثة بصورة مثلث، وهو: الفكرة أو الربط الذهني = الشئ، الرمز علاقة مفترضة ثم يعلق الاستاذ أولمان على هذا الرسم البياني بقوله: ” والنقطة الجوهرية في الرسم البياني – الذي قد بسطناه إلى حد ما – هي أنه ليست هناك علاقة مباشرة
(1) – دور الكلمة في اللغة 63 – 64. (*)
[ 428 ]
بين الكلمات والأشياء، ومن ثم وضعت النقط لتدل على علاقة مفترضة، إذ لا يوجد طريق مباشر قصير بين الكلمات وبين الأشياء التي تدل عليها هذه الكلمات، فالدورة يجب أن تبدأ عن طريق الفكرة أو الرمز الذهني، أي عن طريق المحتوى العقلي الذي تستدعيه الكلمة، والذي يرتبط بالشئ. ولقد كانت هذه الصورة معروفة بالفعل لدى فلاسفة العصور الوسطى. ولقد صاغها روبرت براونج Robert Browining صياغة شعرية: يستطيع الفن أن ينبئ عن الحقيقة. فلا شك أن الأفكار تتولد عن الأشياء بطريق غير مباشر. كما أن ليس محالا وجود الفكرة دون الاعتماد على الكلمة. ويرجع الفضل في ذلك – على كل حال – إلى أوجدن وريتشاردز اللذين جعلا هذه النقطة مدار بحثهما، واللذين عبرا عنها برسم بياني نال قدرا كبيرا من النجاح فيما جاء بعد ذلك من بحوث خاصة بهذا الموضوع ” (1). تحديد المعنى: وينسق على دراسة مراتب الدلالة محاولة تعرف معنى المعنى، وبتعبير أكثر دقة وأجلى وضوحا: هل المعنى في سياق هذه المراتب هو المفهوم الذهني (الصورة الذهنية، الفكرة)، أو هو أعيان الأشياء الموجودة في الواقع الخارجي ؟ ؟. الذي يبدو من استقراء مختلف الدراسات الحديثة أن المعنى هو الفكرة (المفهوم الذهني). وهذا المفهوم أو هذه الصورة قد تأتي إنعكاسا تاما للشئ العيني، وقد تأتي بالعكس، وقد تختلف عنه من جانب أو من أكثر من جانب.
(1) – م. ن. (*)
[ 429 ]
ومن هنا وقع الاختلاف في تعيين ظهورات الألفاظ وتحديد معانيها (1). ولنأخذ مثالا لذلك قولنا: (اتخذ من هذا الرغيف عشاء لك) فالذي يستظهر من هذه الجملة أو هذا الكلام هو أن للمخاطب أن يأكل الرغيف كله، وله أن يتناول منه كفايته، أي بعضه. وبلغة نحوية: أن (من) – حرف الجر – المذكور في الجملة قد يكون زائدا ويصبح المعنى (اتخذ هذا الرغيف عشاء لك)، وقد يكون تبعيضيا ويكون المعنى (اتخذ بعض الرغيف عشاء لك). ولكن الموقف يختلف في تعاملنا مع الآية الكريمة * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * فإن اريد من الصلاة التي تؤدي في مقام إبراهيم الدعاء فالمقام يتسع لأن يكون مقام دعاء، وإن اريد من الصلاة ذات القيام والركوع والسجود والجلوس فالمقام لا يتسع لها، فلا تأتي (من) – هنا – زائدة بحيث يكون المعنى * (واتخذوا مقام إبراهيم مصلى) *، ولا تبعيضية لعدم اتساع المقام بكامله للصلاة فكيف ببعضه. إذن، لابد من أن نلتمس لها معنى آخر، وهو العندية – كما يقول الفقهاء – أي صلوا عند مقام إبراهيم. ثم أن العندية، هل يقتصر فيها على الخلفية المباشرة للمقام، أو تمتد بامتداد المسجد.. وهكذا. كل هذه الاختلافات ترينا أن المعنى هو الفكرة (المفهوم الذهني)، الذي يتأثر – عند محاولة فهمه – بذكاء الشخص وانتباهه، وما يمتلك من خلفيات ثقافية، وبحدود نظرته لماجريات الحياة. يقول الدكتور السعران في كتابه (علم اللغة (2)):
(1) – م. ن. (2) – علم اللغة 269 – 270. (*)
[ 430 ]
” والأمثلة كثيرة على الخلافات الخطيرة التي تحدث في مجالات السياسة والفقه والقضاء والاجتماع والتاريخ بناء على فهم الكلمة الواحدة، أو العبارة، بأكثر من صورة: يصدر القانون بعد العناية الفائقة بصياغته صياغة دقيقة منعا للبس، وتصحبه ” مذكرة تفسيرية “، ولكن عند التطبيق تثور ” إشكالات ” وتختلف أحكام القضاة، فتصدر تفسيرية للتفسيرية، ولكنها قد تخلق إشكالات جديدة أو لا تفلح في حل القديمة. ودراسة الكتب المقدسة والآثار الفكرية الكبيرة خير شاهد على ذلك. القرآن الكريم فسر أكثر من تفسير على مناهج مختلفة، وكثير من آياته يسمح بأكثر من تفسير لهذه اللفظة أو تلك العبارة. ونحن نعلم كيف اختلف شراح أرسطو في فهم بعض نصوصه، الخ. وهذا يذكرنا بالترجمة. إن الترجمة من لغة إلى لغة تكشف لنا مشكلة المعنى بصورة جلية، وكل من مارس الترجمة الأمينة يدرك هذا لأنه عاناه. إن الكلمة في اللغة لها غير المعنى القاموسي العام، وغير المعنى الذي قد يفهم من السياق، إيحاءات وارتباطات نتجت عن الحياة المشتركة التي يحياها أصحاب اللغة، فعندما ننقل من لغة إلى اخرى فكيف نوفق في اصطياد كلمات تعطي إيحاءات الحياة الاخرى وارتباطاتها ؟ ويكفينا مثل واحد على هذا. كنا ننظر في تفسير محمد مرمدوك بكثال للقرآن الكريم ورأيناه ذهب مذهبا خاصا في نقل كلمة ” الله ” – عزوجل – إلى الإنجليزية: لفظ الجلالة يترجم عادة ب God ولكن (بكثال) لاحظ أن كلمة God لا تثير في ذهن القارئ الإنجليزي ما
[ 431 ]
تثيره كلمة ” الله ” في ذهن القارئ العربي: فكلمة God في الإنجليزية تؤنث ب Goddess، وتجمع على Gods، بينما الله، وهو واحد لا شريك له، كلمة ليس لها مثنى ولا جمع، ولا مؤنث، إن التصور الذي تشير إليه كلمة ” الله “، سبحانه وتعالى، تصور يقضي على الشرك، بينما كلمة God لا تقضي على هذا التصور، ولم يجد بكثال في الإنجليزية كلمة تقابل كلمة ” الله ” في العربية، فاحتفظ بكلمة ” الله ” في الإنجليزية كما هي، يترجم (بسم الله الرحمن الرحيم ” بقوله: ,. ” the Merciful IN the name af Allah the Beneficient ولعله لهذا ذهب الاستاذ فيرث إلى أن المعنى ” كل مركب من مجموعة من الوظائف اللغوية. وأهم عناصر هذا الكل هو الوظيفة الصوتية ثم المورفولوجية والنحوية والقاموسية والوظيفة الدلالية ل (سياق الحال) “. ثم يرى فيرث ” أن الوصول إلى معنى أي نص لغوي يستلزم: 1 – أن يحلل النص اللغوي على المستويات اللغوية المختلفة (الصوتية والفونولوجية والمورفولوجية والنظمية والمعجمية). 2 – أن يبين (سياق الحال = الماجريات): شخصية المتكلم، شخصية السامع، جميع الظروف المحيطة بالكلام.. الخ. 4 – وأخيرا: يذكر الأثر الذي يتركه الكلام (ضحك، تصديق، سخرية… الخ). من هنا لابد لمن يتعامل مع النص الشرعي من: 1 – دراسة وتعلم علوم اللغة العربية ذات الصلة المباشرة بدراسة النص وتفهم معناه. 2 – تملك التذوق أو القدرة الفنية التي تساعد على إدراك دقائق التعبير ونكات
[ 432 ]
التركيب. 3 – دراسة ومعرفة بيئة النص داخل إطار حضارتها زمانا ومكانا. وكل هذا لتأتي الصورة الذهنية (المعنى) مطابقة للواقع “. وكمثال، لنربط هذا بما نحاول فهمه من آية صلاة الطواف المتقدمة: إننا إذا رجعنا إلى ملابسات الآية وقرائن الحال التي كانت محيطة بها، وأبرزها وأقواها فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي أي موضع عند المقام صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصلى الذين كانوا معه في عمرته وحجته. أن معرفة هذه القرينة هي دراسة للنص في إطار ظروفه الزمانية والمكانية، وضمن حضارته الشاملة. علاقة اللفظ بالمعنى: من مهمات مسألة دلالة اللفظ محاولة معرفة نمط علاقة اللفظ بالمعنى. وهي من القضايا التي تناولها بالبحث الفلاسفة الأقدمون وعلماء اللغة المحدثون، وبين هؤلاء واولئك علماء اصول الفقه قديما وحديثا. وأقدم إطار ثقافي بحثت فيه هذه المسألة هو الفلسفة الإغريقية، فقد تناولها بالدرس الفيلسوف اليوناني سقراط، ومن بعده تلميذه أفلاطون ومن بعده تلميذه ارسطو. واختلف فيها رأيا سقراط وارسطو، وانتقل خلافهما مع الترجمات العالمية للفلسفة الإغريقية إلى الفلسفات الاخرى. فدخلا مجال الفلسفة الإسلامية، وكان أقدم من تعامل معهما من فلاسفة المسلمين متكلمة المعتزلة، وعلى رأسهم عباد بن سليمان الصيمري.
[ 433 ]
وعن طريق المعتزلة انتقلت المسألة – وبما تحمل في طياتها من الرأي اليوناني والآخر المعتزلي – إلى الدراسات اللغوية العربية، وكان أقدم من أثارها على صعيد البحث اللغوي عالم اللغة وخريت صناعتها أبو الفتح ابن جني في كتابه اللغوي القيم الموسوم ب (الخصائص). وكذلك عن طريق المعتزلة دخلت عالم البحوث الاصولية الإسلامية، واستقبلها الفقهاء المسلمون بالتحليل والنقد والإضافة والحذف. واستمرت يدار النظر فيها ويثار الجدل حولها بما تمخض عن أكثر من نظرية اصولية إسلامية في تعريفها اتسمت بالشمولية والعمق. فكان في اصول الفقه السني بحث في الرأيين اليونانيين، وأكثر من نقد لهما، ولعل أوفى من استوفى ذلك الفخر الرازي في (المحصول) ولكن وبعد استقرار المذاهب الفقهية السنية وتوقف حركة الاجتهاد في الدرس الفقهي السني توقف العطاء الفكري السني في المسألة، وتركز الدرس الاصولي السني في استرجاع وعرض الآراء القديمة في المسألة، بينما نجده في اصول الفقه الشيعي مستمرا، ومتطورا تطورا تجديديا، فقد نقد النظريات الاولى وبلورها، وجاء بنظريات اخرى وبخاصة في مجال التعريف، دلل فيها على مدى تعمق النظرة العلمية الجادة لديه. وفي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وعند إنبثاق ما يعرف بعلم الدلالة دلفت المسألة وبقوة إلى علم اللغة الحديث وقطعت فيه شوطا بعيدا في إفراز نظريات جديدة ذات قيمة علمية مهمة. وبعد أن تبينا كل هذا الذي يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بتاريخ المسألة ننتقل إلى محاولة معرفة نمط ونوعية العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى الذي هو موضوع المسألة، وذلك من خلال استعراض الأقوال في المسألة، وهي:
[ 434 ]
– (رأي سقراط): وهو أقدم رأي في المسألة مما وصل إلينا، نقله عنه تلميذه أفلاطون في محاوراته (1)، ومحصلته: أن العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة ذاتية، وصلة طبيعية، لا تختلف عن الصلات الطبيعية الاخرى، القائمة بين الأسباب ومسبباتها، والعلل ومعلولاتها، كالصلة بين النار والاحتراق والخصب والنماء. فاللفظ سبب وعلة وجود المعنى في الذهن، ووجود المعنى في الذهن معلول ومسبب لوجود اللفظ في الذهن، الذي تنتقل صورته إليه عن طريق الحس سماعا أو قراءة أو نطقا. وكما ترى أن هذه الصلة التي افترضها سقراط غير واضحة، وإلا لكان كل إنسان يستطيع أن يفهم كل لغات العالم بمجرد معرفته لألفاظها، ويبدو أن اليونانيين الذين تبنوا رأي سقراط ” لما تبين لهم غموض هذه الصلة بين ألفاظ لغتهم اليونانية ومدلولاتها، ولم يستطيعوا لها تعليلا مقبولا تستريح إليه النفس وتطمئن إليه العقول، أخذوا يفترضون أن تلك الصلة الطبيعية كانت واضحة سهلة التفسير في بدء نشأتها، ثم تطورت الألفاظ، ولم يعد من اليسير أن نتبين بوضوح تلك الصلة أو نجد لها تعليلا وتفسيرا ” (2). – (رأي أرسطو): ذهب ارسطو إلى أن الصلة بين اللفظ والمعنى صلة اعتبارية اصطلح عليها العرف أو الناس (أبناء مجتمع اللغة). ضمن رأيه هذا كتاباته في الشعر والخطابة.
(1) – إبراهيم أنيس في (دلالة الألفاظ ط 1980 ص 63) نقلا عن: R. A Wilson , the 162. Miraculous birth of language p (2) – م. ن. (*)
[ 435 ]
فالفرق بين رأي ارسطو ورأي سلفه سقراط هو فرق التباين بين الواقع والاعتبار، والتكوين والتشريع. ولعل ارسطو قال بهذا نتيجة ما رآه من النقد العلمي المتين الذي وجه لرأي سقراط. – (رأي ابن جني): إن من يرجع إلى كتاب (الخصائص) لابن جني، وبخاصة في فصل (الاشتقاق الأكبر) سوف يراه يحوم حول حمى سقراط، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وربما وقع فيه، فهو يؤكد على ضرورة وجود المناسبة بين طبيعة اللفظ كصوت وطبيعة المعنى كواقع، تلك المناسبة التي تمسك بها المعتزلة القائلون بمقالة سقراط ليحققوا وجود المرجح الكاشف عن أن العلاقة بين اللفظ والمعنى طبيعية لا عرفية، كما سيأتي. ولنعرض – هنا – شاهدا واحدا من كلام ابن جني في موضوع الاشتقاق الأكبر، قال: ” ومن ذلك (أي من الاشتقاق الأكبر): تقليب (ج ب ر) فهي – أين وقعت – للقوة والشدة، منها: جبرت العظم والفقير، إذا قويتهما وشددت منهما. والجبر: الملك لقوته وتقويته لغيره. ومنها: رجل مجرب، إذا جرسته الامور ونجذته، فقويت منته، واشتدت شكيمته. ومنه: الجراب لأنه يحفظ ما فيه، وإذا حفظ الشئ وروعي اشتد وقوي، وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذي. ومنها: الأبجر والبجرة، وهو القوي السرة. ومنه: قول علي – صلوات الله عليه -: (إلى الله أشكو عجري وبجري)،
[ 436 ]
تأويله: همومي وأحزاني. وطريقه أن العجرة كل عقدة في الجسد، فإذا كانت في البطن والسرة فهي البجرة، والبجرة، تأويله: أن السرة غلظت ونتأت فاشتد مسها وأمرها. وفسر أيضا قول: (عجري وبجري) أي ما أبدي واخفي من أحوالي. ومنه: البرج، لقوته في نفسه وقوة ما يليه به. وكذلك البرج، لنقاء بياض العين وصفاء سوادها، هو قوة أمرها، وانه ليس بلون مستضعف. ومنها: رجبت الرجل، إذا عظمته وقويت أمره. ومنه: رجب، لتعظيمهم إياه عن القتال فيه. وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة، وهو شئ تسند إليه لتقوى به. والراجبة: أحد فصوص الأصابع، وهي مقوية لها. ومنها: الرباجي، وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله، قال: وتلقاه رباجيا فخورا. تأويله: أنه يعظم نفسه ويقوي أمره ” (1). – (رأي الاصوليين السنة): لم يزد علماء اصول الفقه السنيون على الرأيين اليونانيين، إلا بما وجهوه من نقد لرأي سقراط. وقد تبنى عباد بن سليمان الصيمري، وأهل التكسير (علم الحروف)، وبعض المعتزلة رأي سقراط ” وزعموا أن بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتية مخصوصة
(1) – الخصائص 2 / 135 – 136 ط دار الكتب المصرية. (*)
[ 437 ]
منها نشأت دلالته عليه ” (1). وتبنى جمهورهم رأي ارسطو فقالوا: إن العلاقة بين اللفظ والمعنى نشأت بسبب الوضع. إلا أنهم اختلفوا في الواضع: هل هو الله تعالى، أو البشر، أو أن الألفاظ الموضوعة بعضها من الله وبعضها من الناس. قال الفخر الرازي في (المحصول (2)): ” كون اللفظ مفيدا للمعنى: إما أن يكون لذاته، أو بالوضع، سواء كان الوضع من الله تعالى، أو من الناس، أو بعضه من الله تعالى وبعضه من الناس، فهذه احتمالات أربعة: الأول: مذهب عباد بن سليمان الصيمري. والثاني: وهو القول بالتوقيف: مذهب الأشعري وابن فورك. والثالث: وهو القول بالاصطلاح: مذهب أبي هاشم وأتباعه. والرابع: هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي، وفيه قولان: منهم من قال: ابتداء اللغات يقع بالإصطلاح، والباقي لا يمتنع أن يحصل بالتوقيف. ومنهم من عكس الأمر، وقال: القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاح توقيفي، والباقي اصطلاحي، وهو قول الاستاذ أبي إسحاق (الاسفراييني). وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام، وتوقفوا عن الجزم “. وأشار الرازي في المصدر نفسه (3) إلى دليل الصيمري بقوله:
” واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما، لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح، وهو محال. وأن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب “. وأجاب عنه بقوله: ” والجواب: إن كان الواضع هو الله تعالى، كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين، كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده. وإن كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ – في ذلك الوقت – بالبال دون غيره، كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير أن يكون بينهما مناسبة “. واجيب عنه في بعض مناقشات اصول الفقه الإمامي لهذا الرأي بأن ” المحال هو الترجح بدون المرجح كوجود المعلول بدون العلة، لا الترجيح بدون المرجح، لإمكان تساوي الأغراض في تحصيل غرض واحد مطلوب كتساوي الرغيفين من الخبز في الإشباع فيؤتى بأحدهما تخييرا لحكم العقل بالتخيير حينئذ، وإلا لزم فوات هذا الغرض، إذ مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح فواته مع تساوي الدخيل فيه من جميع الجهات، بل عدم إمكان الإتيان بواحد مما له دخل فيه – كما هو مقتضى المحالية – مع أنه خلاف الوجدان والعقل لامكان الإتيان بأحدهما بداهة كما انه لا وجه لتفويت الغرض المطلوب ” (1). والملحوظ هنا أن اصول الفقه السني توقف عند تبني الرأيين اليونانيين دونما إضافة إلا في حدود ما أشرت إليه من نقد.
(1) – منتقى الاصول 1 / 52 / – 53 ط 1. (*)
[ 439 ]
وقد يرجع هذا – فيما أقدر – إلى تأكيدهم على دراسة الاصول العقلية كالقياس أكثر من تأكيدهم على الاصول النقلية (اللغوية). – (رأي الاصوليين الشيعة): وقد أطال علماء اصول الفقه الإماميون من الشيعة البحث في حقيقة الوضع. وأهم ما انتهوا إليه من آراء وأقوال هي: 1 – نظرية التعهد: وهي للملا علي النهاوندي صاحب (تشريح الاصول)، قال في تعريف الوضع ب ” إنه عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بإرادة المعنى من اللفظ في استعمالاته للفظ بلا قرينة ” (1)، ” وتبعه في ذلك أهل لغته ” (2). 2 – نظرية الاختصاص: وهي للملا محمد كاظم الخراساني، قال في كتابه (كفاية الاصول (3)): ” الوضع: هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيه اخرى “. 3 – نظرية الرمز: وتعني أن اللفظ علامة ترمز للمعنى. وهي للفيلسوف الشيخ محمد حسين الأصفهاني في كتابه (نهاية الدراية) قال في تعريف الوضع: هو ” جعل اللفظ علامة على إرادة المعنى “.
4 – نظرية الاعتبار: وتعني أن الوضع اعتبار له واقع. وهي للاصولي الشيخ ضياء الدين العراقي، وخلاصته: ” أن الوضع أمر اعتباري، إلا أنه يختلف عن الامور الاعتبارية الاخرى بأن ما يتعلق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرر له ثبوت واقعي كسائر الامور الواقعية، فهو يختلف عن الامور الواقعية من جهة انه عبارة عن جعل العلقة واعتبارها، ويختلف عن الامور الاعتبارية بأن ما يتعلق به الاعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الاعتبار، بل يثبت له واقع في الخارج “. 5 – نظرية التنزيل: ويقررها ويقرها السيد البجنوردي في كتابه (منتهى الاصول (1) بتعريفه الوضع بأنه ” عبارة عن الهوهوية والاتحاد بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار. ومثل هذه الهوهوية والاتحاد الاعتباري يمكن أن يوجد في عالم الاعتبار بالجعل والإنشاء تارة وبكثرة الاستعمال اخرى “. 6 – نظرية الجعل: وهي للشيخ أبي الحسن المشكيني في (حاشيته على كفاية الاصول (2)) قال: ” قد وقع الخلاف في ماهية الوضع المتحقق بين اللفظ والمعنى، وأنه هل هو تخصيصه به، أو اختصاص له به، أو تعهد من الواضع وتبعه في ذلك أهل لغته. وهو بالمعنى الأول والثالث من صفات الواضع بخلاف الوسط فإنه من صفات اللفظ. وحقيقته – بناء عليه – هو العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى بواسطة جعل
(1) – منتهى الاصول 1 / 15. (2) – 1 / 11. (*)
[ 441 ]
الواضع نظير الملكية الحاصلة بإنشاء من بيده الاختيار، وغيرها من الامور القابلة للجعل التشريعي الاستقلالي – على ما حققناه في الاستصحاب وغيره -، وهذا هو الأقوى لحصوله وجدانا بكثرة الاستعمال، وليس فيه تبان ولا تخصيص “. 7 – نظرية الاقتران الشرطي: وهي لاستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) جاء في (الدليل اللفظي (1)): ” وتحقيق الكلام في تشخيص حقيقة الوضع. أن يقال: بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل من الإحساس بالشئ سببا في انتقال الذهن إلى صورته فالانتقال الذهني إلى الشئ استجابة طبيعية للإحساس به وهذا قانون تكويني ويوجد قانونان تكوينيان ثانويان يوسعان من دائرة تلك الاستجابة الذهنية. أحدهما – قانون انتقال صورة الشئ إلى الذهن عن طريق إدراك مشابهه، كانتقال صورة الحيوان المفترس إلى الذهن بسبب رؤية رسم مشابه له على الورق. ثانيهما – قانون انتقال صورة الشئ إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن لما وجده مشروطا ومقترنا بذلك الشئ على نحو أكيد بليغ فيصبح هذا القرين في حكم قرينه من حيث إيجاد نفس الأثر والاستجابة الذهنية التي كان يحدثها على الذهن عند الإحساس به وهذا هو ما يسمى في المصطلح الحديث بالمنبه الشرطي والاستجابة الحاصلة منه بالاستجابة الشرطية. وهذا الاقتران والاشتراط الذي يوجب الاستجابة المذكورة لابد وأن يكون على وجه مخصوص، أي لا يكفي فيه مطلق الاقتران بل لابد وأن يكون اقترانا مركزا مترسخا في الذهن أما نتيجة كثرة تكرر الاقتران خارجا أمام إحساس
(1) – 77 – 79. (*)
[ 442 ]
الذهن، وهذا هو العامل الكمي لتركيز الاقتران، أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعة واحدة جعلته لا ينمحي عن الذهن، وهذا هو العامل الكيفي. والإنسان تحدث إستجاباته الذهنية وفق هذه القوانين الثلاثة، فإذا أطلق شخص مثلا صوتا مشابها لزئير الأسد انتقل إلى الذهن تصور ذلك الصوت نتيجة الإحساس السمعي به وهو تطبيق للقانون الأول، ثم ينتقل الذهن من ذلك إلى تصور الزئير نتيجة المشابهة بينهما وهذا تطبيق للقانون الثانوي الأول، ثم ينتقل من ذلك إلى صورة الأسد نفسه الملازم خارجا مع صوته وهذا تطبيق للقانون الثانوي الثاني. وقد حاول الإنسان أن يستفيد من القانونين التكوينيين الثانويين في مقام التعبير عن مقصوده ونقله إلى ذهن مخاطبه، فاعتمد على القانون الثانوي الأول في استخدام الإشارات التعبيرية والتصويرية التي تنقل المعاني إلى الذهن على أساس التشابه، ولما كان قد اعتاد أن ينتقل من الأصوات إلى أسبابها وأشكال مناشئها على أساس الاقتران الخارجي فقد اتجه إلى توسيع نطاق الاستفادة من الأصوات واستخدامها في مجال تفهيم الآخرين أيضا باستخدام القانون الثانوي الثاني عن طريق جعل لفظ أو صوت مخصوص مقترنا ومشروطا بمعنى مخصوص اقترانا أكيدا ناشئا من التكرار أو نتيجة عامل كيفي معين وبذلك نشأت العلقة الوضعية، أعني السببية والاستتباع بين ذلك الصوت المخصوص والمعنى المخصوص. وهكذا تولدت ظاهرة اللغة في حياة الإنسان وبدأت تتكامل وتتوسع من صيغ بدائية محدودة إلى صيغ متكاملة أكثر شمولا واستيعابا للألفاظ والمعاني. هذا هو حقيقة الوضع، فالواضع بحسب الحقيقة يمارس عملية الأقران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ، وهذا الاقتران البالغ إذا كان على أساس العامل الكمي – كثرة التكرار – سمي بالوضع التعيني وإذا كان على أساس العامل الكيفي
[ 443 ]
سمي بالوضع التعييني “. – (رأي اللغويين المحدثين): – وأول ما يطالعنا من آراء اللغويين المحدثين في المسألة رأي همبولت (ت 1835 م) Humboldt الذي ذهب في المسألة مذهب سقراط. عرض رأيه هذا – معتبرا إياه من أنصار المناسبة الطبيعية بين الألفاظ والدلالات – العالم اللغوي جسبرسن Otto Jespersen في كتابه (1). Language its natur , developmen and origin chapter xx – ثم نلتقي بعده برأي دي سوسير (ت 1913 م) De saussure الذي ذكره في كتابه Cours De Linguistique Generale و. 1949 , Guatrieme editon payot ومؤداه: أن الكلمة علامة للمعنى. ويتم هذا عن طريق العلاقة المتبادلة بين اللفظ (الصورة السمعية) والمعنى (الفكرة)، تلك العلاقة التي هي نمط من تداعي المعاني، حيث تدعو الفكرة الصورة السمعية، وتدعو الصورة السمعية الفكرة، أي أن الإنسان عندما يسمع الصوت (اللفظ) ينتقل ذهنه إلى المعنى، وعندنا يرى المعنى ينتقل ذهنه إلى اللفظ (2). وقد نلمح تقاربا بين رأي دي سوسير – المذكور في أعلاه – ورأي الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت 1942 م) – المقدم ذكره -. ولكن من المستبعد جدا أن يكون الشيخ الأصفهاني قد أطلع على رأي دي سوسير فتبناه لأنه لا يحسن اللغة الفرنسية، كما أنه لم يقدر له الإتصال بالأساتذة
(1) – انظر: دلالة الألفاظ 68. (2) – انظر: علم اللغة للدكتور السعران 303. (*)
[ 444 ]
العرب الجامعيين العائدين من فرنسا. فالأمر لا يعدو أن يكون ذلك منه نظرة إلى واقع اللغة وإفادة هذا الرأي منه، تماما كما فعل دي سوسير. وهي من النظريات الاجتماعية التي نظرت الى اللغة كظاهرة إجتماعية وتلمست نوعية العلاقة من خلال تعامل أبناء المجتمع مع الألفاظ في التفاهم وما إليه. وهي نظرة تقوم على أساس الاستقراء من خلال الملاحظة. وأخيرا نكون مع أحدث النظريات في المسألة وهي نظرية الاقتران التكراري التي استعرضتها الدكتورة نوال عطية في كتابها (علم النفس اللغوي (1)) قالت: ” ومصطلح المعنى، مصطلح عام كثيرا ما نتناوله في لغتنا اليومية العادية. إلا انه قد دارت مناقشات عدة حول هذا المصطلح، بطريقة غير موضوعية مدة من الزمن: فكان الجدل الفلسفي الذي لم يؤد إلى الفهم العلمي للعمليات المتضمنة في تكوين معنى اللفظ. كما لم يصف أهمية معنى اللفظ في السلوك اللفظي. وفي الواقع، أن الاسس التي قامت عليها عملية تعلم معنى اللفظ، قد ظهرت في الاشتراط الكلاسيكي من حيث الاقتران التكراري بين مثيرين، لصدور استجابة ما. وقد أوضح أوزجود) 3591 (Osgood حدوث مثل هذه العملية في التعلم اللغوي وهي: أن معنى اللفظ ينشأ من عملية اقتران بين اللفظ وبين المثير الشيئي الدال على هذا اللفظ. بمعنى أن المثيرات اللفظية (أصوات كلامية) تقترن مع مثيرات شيئية اقترانا
(1) – ص 53. (*)
[ 445 ]
منتظما متكررا. مثال ذلك: حينما تقول الام لطفلها كلمة ” كرة ” مرات عديدة في اللحظة التي يتطلع فيها إلى المثير الشيئي نفسه وهو الكرة. أو تقول كلمة ” قطة ” في حضور القطة أمام عيني الطفل. أو تقول: (لا) وتدفع الطفل بشدة بعيدا عن شئ ما، أو تنزع شيئا ما من يده. ففي كل من هذه الحالات، يوجد اقتران منتظم ومتكرر بين مثيرين أحدهما عبارة عن مثير لفظي، والآخر عبارة عن مثير شيئي “. والاقتران التكراري هو الاقتران الشرطي الذي عرض له السيد الصدر واختاره. وهو – كما قلت – يلتقي وطبيعة منهج البحث في اللغة حيث يقوم على الاستقراء من خلال الملاحظة. وأخيرا: إذا استثنينا رأي الشيخ الأصفهاني والسيد الصدر لأنهما – كما ألمحت – يتمشيان مع متطلبات منهج البحث في اللغة باعتمادهما الاستقراء من خلال الملاحظة، فانه يؤخذ على الفلاسفة اليونانيين انهم استخدموا – منهجيا – لدراسة ظاهرة علاقة اللفظ بالمعنى الطريقة العقلية الاستنتاجية. وهذا قد يتأتى لو أن الألفاظ اللغوية في جميع اللغات كانت قد وضعت بكاملها منذ الزمن الغائر في القدم حيث لا يستطاع إخضاع الحادثة للملاحظة الاستقرائية. أما وأن اللغة – وكما نشاهده في لغتنا العربية – تميت ألفاظا استغنت عنها، وتحيي ألفاظا افتقرت إليها، يكون استخدام طريقة الملاحظة الاستقرائية ميسرا. والذي نشاهده من خلال إيماننا بأن اللغة ظاهرة اجتماعية أن اللفظ يستعمل من قبل أبناء مجتمع اللغة في المعنى بسبب الحاجة إلى ذلك، وبشكل تلقائي، ثم يشتهر وتترسخ دلالته.
[ 446 ]
كما أننا نشاهد المؤسسات العلمية اللغوية أمثال مجامع اللغة العربية تضع الألفاظ للمعاني وتنص على ذلك. ومن ملاحظة هذا الواقع، وهو امتداد للواقع الاجتماعي القديم نستطيع أن نقول – نتيجة لما تقدم – أن اللفظ يرتبط بالمعنى بسبب استعمال أبناء مجتمع اللغة، أو بسبب ربطه به من قبل المؤسسات اللغوية والمعنيين بذلك، وتنصيصهم عليه. وقد ألمح إلى مثل هذا النقد الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه (دلالة الألفاظ (1)) بقوله: ” وظلت كلمتا (الطبيعة أو العرفية) محور الجدل والنقاش زمنا طويلا بين مفكري اليونان من لغويين وفلاسفة. وكان كل من الفريقين يؤسس رأيه على مجرد المغامرة الفكرية دون سند علمي من ملاحظة دقيقة أو استقراء للحقائق. ولكنهم جميعا كما يصفهم (ستيورات شاس) Stewart Chase في كتابه (طغيان الكلمات) Tyranny Of Words بقوله: إنهم مناطقة أقوياء يندر نظراؤهم في العالم، إلا إنهم لم يزالوا على مقربة من المقدمات البدائية، فلم تتخلص عقولهم من سحر الكلمة، وحسبوا أنها ذات قوى كامنة فيها كما قد يحسب الطفل أو معتقد الشعوذة، ولولا ذلك لما أقاموا كل شئ على (اللوغوس) وشغلوا العقول والنفوس بهذه الفكرة إلى اليوم “. هذا من حيث المنهج، أما من حيث الفكرة فلم يضف العلماء والمفكرون بعد سقراط وارسطو، إلا ما رأيناه من نقد لرأي سقراط، وتفريع على رأي ارسطو بالتعريفات المختلفة للوضع الذي يراد منه بيان نمط العلاقة بين اللفظ والمعنى، ووفق المنهج الفلسفي الذي يعتمد الاستنتاج لا الاستقراء.
(1) – دلالة الألفاظ 63 – 64. (*)
[ 447 ]
وفي النهاية: إن كل الذي تقدم من عرض ونقد يسلمنا إلى أن العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة اقتران، كما ذهب إليه استاذنا السيد الصدر، وكما هو المذهب النفسي اللغوي المشهور. تقسيم الدلالة اللفظية: (1) التقسيم المنطقي: تقدم أن العلاقة بين اللفظ والمعنى تنشأ من وضع اللفظ للمعنى واقترانه به واستعماله فيه، وأن هذه العلاقة هي الدلالة القائمة بين اللفظ كدال والمعنى كمدلول. وعلى أساس من ملاحظة هذا الوضع واستعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، أو غيره توسعا أو تجوزا وللمناسبة يقسم المناطقة الدلالة اللفظية (الوضعية) إلى ثلاثة أقسام، هي: أ – دلالة المطابقة: ويراد بها استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له وإراة ذلك المعنى الموضوع له. نحو إطلاق لفظ (حاتم) وإرادة الشخص المسمى بهذا الاسم كما لو قلت مناديا (ياحاتم)، فإنك – هنا – تنادي الشخص المسمى بهذا الاسم. ب – دلالة التضمن: ويراد بها استعمال اللفظ وإرادة جزء المعنى الموضوع له، لاتمام المعنى الموضوع له وهو المركب بكامله. نحو إطلاق لفظ (حاتم) وإرادة رقبة الشخص المسمى بهذا الاسم التي هي جزء منه، كما إذا قلنا: (سوف نقيم الحد الشرعي على حاتم بقطعه بالسيف)،
[ 448 ]
فإننا نقصد بهذا التعبير قطع رقبته التي هي جزء منه. ويشترط في هذه الدلالة أن يكون المعنى الموضوع له مركبا ليصح إرادة جزئه. ج – دلالة الالتزام: ويراد بها استعمال اللفظ وإرادة شئ خارج عن المعنى الموضوع له، ولكنه ملازم له. كما لو أطلقنا لفظ (حاتم) وأردنا صفة (الكرم) الملازمة لحاتم، نحو قولنا: (زيد حاتم) أي زيد كريم. ويشترط في هذه الدلالة وجود التلازم ذهنا بين المعنى الموضوع له واللازم المقصود من اللفظ. ووجه القزويني في (شرح الشمسية) تسميات هذه الدلالات الثلاث بأسمائها المذكورة، فقال: ” أما تسمية الدلالة الاولى بالمطابقة فلأن اللفظ مطابق، أي موافق لتمام ما وضع له، من قولهم (طابق النعل النعل) إذا توافقا. وأما تسمية الدلالة الثانية بالتضمن، فلأن جزء المعنى الموضوع له داخل في ضمنه، فهي دلالة على ما في ضمن المع