مـحـٮ الامـام ڡـاطـمـه|20. أبريل 2022|24. نوفمبر 2023
هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار
حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي
[ 1 ]
الاجتهاد و التقليد (هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار) نام پدیدآورنده: الكركي، الشيخ الحسين بن شهاب الدين نام کامل کتاب: نام کامل پدیدآورنده: مترجم: محقق/گردآورنده/…: موضوع: اصول فقه موضوعات فرعی: تاریخ حدیث، درایة ناشر: بی نا محل نشر: بی نا نوبت چاپ: اول تاریخ انتشار: 1396ق تعداد صفحات: 320 تعداد مجلدات: 1
[ 180 ]
ـ(الباب الخامس) بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* فى أصل حدوث الاجتهاد و التقليد و ما يتعلق بذلك من المباحث: و بيان الحق و الباطل منهما و دفع شبهة المخالفين، و فيه سبعة فصول؛ (الفصل الاول) في أصل حدوث الاجتهاد، و القول به عند العامة، و إنما قدمنا الكلام فيه عندهم لأنهم أول من اسس قواعده، و بنوا عليه عدم الاثم و اللوم على الحروب و الفتن التي وقعت بين الصحابة، و ما رضوا بذلك وحده حتى جعلوا للمخطئ منهم أجرا. اعلم: أن عمل الأمة كان فى زمن رسول اللّه (ص) بالنص لا غير فلما قبضه اللّه و تولى الأمر غير أهله كان الخليفة منهم يقضي بما اقتضاه الحال من الكتاب و السنة و ربما سأل من بحضرته من الصحابة، فان لم يجد نصا حكم بما يراه من المصلحة، كما هو شأن الملوك و الأمراء يراعون ما ينتظم به أمر الدولة و تصلح به الرعية سواء وافق الشرع أو خالفه، و كانوا يسمون ما لم يستند إلى النص «اجتهادا» و العامل به «مجتهدا». قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: كان عمر مجتهدا يعمل «بالقياس و الاستحسان» و المصالح المرسلة و يرمي تخصيص عموم النص [1]ـ
ـ[1]- في (ه) و يرى تخصيص خصوص النص
[ 181 ]
بالرأي و الاستنباط من اصول تقضي خلاف ما يقتضيه عموم النص و يأمر أمراءه بالكيد و الحيلة و يؤدب قوما و يعفو عن آخرين استحقوا العقوبة بحسب ما يراه من المصلحة. انتهى ملخصا. و دام الامر على ذلك، إلى ان تخلف أمير المؤمنين (ع) فغيّر بعض بدعهم و بقي الباقي لعدم تمكنه من ذلك لكثرة المخالفين. فلما استولى بنو أمية كثرت البدع و ظهر الباطل، إلى أن تولى بنو العباس و كثر الفقهاء من العامة في أيامهم؛ فقربوهم و أمروا الناس باتباعهم، و كان أقرب الفقهاء إليهم من خالف آل محمد (ع)؛ كمالك أبي حنيفة و الشافعي و أحمد بن حنبل فكان في زمانهم من هو اعلم منهم لكن اشتهر هؤلاء لاظهار [1] الزهد و الهرب من مخالطة الملوك لأنهم طلبوا الرئاسة بترك الدنيا، فمالت إليهم العوام و ظهر لهم تلاميذ روّجوا [2] اقوالهم بعد موتهم و ستروا بعض ما [ابتدعوه] فى الدين باصلاح أو تأويل، لأن الميت يقل حاسده و تخفى عيوبه و يقبل قوله أكثر من الحي، فأغروا الناس باتباعهم و وضعوا لهم الكرامات و نسبوا إليهم خوارق العادات، و استأكلوا [3] الناس بهم كما هو شأن أحوال الشيوخ و المريدين في كل زمان. فمالت إليهم الحكام و ولوهم المناصب و الحكومات من القضاء و التدريس فكثرت عليهم المسائل، (و أرادوا إظهار الفضيلة بذكر المسائل) [4]ـ
ـ[1]- في (ه) باظهار. [2]- في (ه) و رجحوا. [3]- استأكل الضعفاء: أى أخذ أموالهم «القاموس». [4]- ما بين القوسين لا يوجد في (ه)ـ
[ 182 ]
الغريبة، و لم يكن عندهم من السنة ما يفي بذلك لعدم رجوعهم الى الأيمة (ع) فنظروا فيما يمكن أن يستدل به فرأوا انحصار النقل فى «الكتاب و السنة» و رأوا قدماءهم من أيمة الضلال عملوا «بالاجماع و القياس و الرأي و الاستحسان» و غير ذلك. فجمعوا تلك الطرق و أضافوا إليها ما يكمل به التصرف فيها؛ من مسائل الكلام و المنطق و العربية، و رتبوا ذلك على الأبواب و الفصول و سموه «علم أصول الفقه» و جعلوا محل «الاجتهاد» من مسائل الفقه ما ليس عليه دليل قطعي بل ظني، و قالوا: القطعيات ليست فقها، بل الفقه هو الظنيات لا غير. «و المجتهد» هو: العالم بتلك الاصول القادر على استنباط الأحكام منها و ردّ كل فرع إليها، فان أصاب حكمه الظني حكم اللّه في الواقع فله أجران، و إن اخطأه فله أجر. و نقلوا فى ذلك حديثا رواه عمرو بن العاص و قالوا: إن الصحابة كانوا كلهم «مجتهدين» و كانوا يعرفون هذه الأصول بالسليقة. و قالوا: إن الرعية قسمان: مجتهد؛ و مقلد يجب عليه تقليد المجتهد. و لما تمادى الزمان و كثر المجتهدون و أدى ذلك الى الاختلاف، ارادوا حسم مادة الفتنة، فأجمعوا على حصر العمل بالمذاهب الأربعة المشهورة، و على أن [1] من خالفهم و أحدث مذهبا خامسا كان مبتدعا؛ و حل ماله و دمه إلا ان يتوب. هذا محصل عملهم في الفروع. و أما عملهم فى «اصول الدين» فكان القدماء منهم بين جبرية و قدرية و مرجئة و مجسمة و حشوية، و كانت الدولة للمعتزلة، لميل اوائل بني العباس
ـ[1]- فى (ه) على أن
[ 183 ]
كالرشيد و المأمون و المعتصم و المتوكل إلى الاعتزال. و دام ذلك الى ان ظهر ابو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري، و كان أول أمره معتزليا من تلامذة ابي علي الجبائي فأراد الانفراد طلبا للرئاسة فخالف شيخه و كفّره. و اتبعه على ذلك قوم من العامة فى زمانه و جماعة من العلماء المشهورين بعد موته؛ كأبي بكر الباقلاني و امام الحرمين و الغزالي و الفخر الرازي فاشتهر مذهبه لذلك في المشرق و المغرب، و مال [1] صلاح الدين يوسف ابن أيوب سلطان مصر، و امر بقتل من خالفه حتى شاع فى بلاد الاسلام، فلم يولّ القضاء و التدريس إلا من كان اشعريا فى الأصول مقلدا لاحد المذاهب الاربعة في الفروع. و دام الامر الى يومنا هذا، نسأل اللّه كشف هذه الغمة بظهور صاحب الامر (ع). فهذا اصل حدوث الاجتهاد عند العامة. و اما بيان كيفيته على طريقهم فقال العضدي في «شرح مختصر ابن الحاجب»: (الاجتهاد في– الاصطلاح– استفراغ الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي). و قال في موضع آخر منه: (الاحكام قد تؤخذ لا من الشرع، كالتماثل و الاختلاف، و قد تؤخذ منه و تلك إما اعتقادية لا تتعلق بكيفية عمل و تسمى «اصلية»، أو عملية تتعلق [2] بها و تسمى «فرعية» و هذه لا تكاد تتناهى، فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة للكل. فانبسطت بأدلة كلية من عمومات و علل تفصيلية؛ أي كل مسألة مسألة
ـ[1]- في (ه) و مال إليه. [2]- في (ه) و تسمى «اصلية و عملية» و علمية تتعلق بها …ـ
[ 184 ]
بدليل دليل يستنبط منها لكل واحد عند الحاجة [1] اذ ليس في وسع الكل أيضا ان ينهض له لتوقفه على ادوات يستغرق تحصيلها العمر، و كان يفضي إلى تعطيل غيره من المقاصد الدينية و الدنيوية، فخص قوم بالانتهاض له و هم «المجتهدون» و الباقي يقلدونهم فيه فدونوا ذلك و سمي العلم الحاصل لهم منه «فقها» و أنهم احتاجوا في الاستنباط إلى مقدمات كلية كل مقدمة يبنى عليها كثير من الاحكام. و ربما التبست، و وقع فيها الخلاف فتشعبوا فيها شعبا و تحزبوا احزابا و رتبوا فيها مسائل– تحريرا و احتجاجا و جوابا–، فلم يروا اهمالها [2] نصحا لمن بعدهم و اعانة لهم على درك الحق منها بسهولة فدونوها و سموا العلم بها «اصول الفقه») انتهى كلامه. و اعلم: ان «الاصوليين» من العامة؛ كالغزالي و العضدي و الآمدي و غيرهم، اجمعوا على انه يشترط في المجتهد ان يكون عارفا بمدارك الاحكام– اعني الادلة الخمسة– و هي: الكتاب و السنة النبوية و الاجماع و دليل العقل و القياس. اما الكتاب فبأن يعرف معانية لغة و شرعا، اما اللغة: فبأن يعرف معاني (مفرداته و مركباته و خواصها في الافادة بحسب وضع اللغة. و اما شرعا: فبأن يعرف معاني) [3] الالفاظ المنقولة عن عرف اللغة إلى عرف الشرع. و ان يضبط اقسام ذلك كله من الخاص و العام و المشترك و المجمل و المفصل و الناسخ و المنسوخ و المتواطي و المترادف و المتباين و النص و الظاهر و المقيد
ـ[1]- فى (ه) بدليل يدل ليستنبط منها كل واحد عند الحاجة. [2]- فى (ه) فلم يردوهما لها. [3]- ما بين القوسين لا يوجد فى (ه)ـ
[ 185 ]
و المطلق و المنطوق و المفهوم و الاقتضاء و الاشارة و التنبيه و الايماء و غير ذلك مما هو مذكور في الأصول. و أن يعرف جاري عادات العرب في المخاطبات، و يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة و التضمن و الالتزام و المفرد منها و المركب و الكلي و الجزئي و الحقيقة و المجاز و غير ذلك. و اما السنة: فبأن يعرف من الحديث بمعانيه لغة و شرعا كما في الكتاب، و أن يعرف احوال السند من الصحة و الضعف و غير ذلك. و أما الاجماع فلئلا يفتي بخلافه. و أما دليل العقل من البراءة الاصلية [1] و الاستصحاب و الاستحسان و المصالح المرسلة، و كذلك القياس و معرفة شرائطه و المقبول منه و المردود، فليتم له ما يريد من ترجيح [2] الادلة و استنباط حكم ما لا نص فيه بخصوصه، و لا يتم له ذلك إلا بمعرفة «علم الكلام و اللغة و النحو و التصريف و المعاني و البيان و أحوال الرجال و طرق الجرح و التعديل»، و يكفيه من هذا كله ما تتوقف عليه معرفة الأحكام لا غير. و من التفسير ما يتعلق بآيات الأحكام، و هذه كلها إنما هي في حق المجتهد المطلق الذي يفتي فى جميع الأحكام. و أما المتجزي فى البعض فيكفيه منها ما يتعلق بذلك البعض فقط، و اتفق الكل على أنه اذا وقعت منازعة بين مجتهدين في قضية اختلف اجتهادهما فيها؛ انه يجب عليهما أن يرجعا إلى ثالث يحكم بينهما، و يجب اتباع حكمه للموافق و المخالف، و كذلك اتفقوا على أن الأثر الحاصل
ـ[1]- في (ه) البراءة العقلية. [2]- في (ه) فليتم ما يرد من ترجيح الأدلة
[ 186 ]
بالاجتهاد ظن بالحكم يحتمل الخطأ، و أن الاجتهاد لا يجري فيما علم من الدين بطلانه ضرورة؛ كقدم العالم. أو ثبوته؛ كحدوثه. فهذا هو الاجتهاد عند العامة، فما كان فيه من الحق فهو مما وصل إليهم من كلام الأيمة (ع) و ما كان فيه من الباطل فهو من بدعهم المحدثة. (الفصل الثاني) في ابتداء اطلاق لفظ «الاجتهاد» على طريق الامامية في معرفة الأحكام الشرعية و تسمية العالم منهم «مجتهدا» و بيان طريق المتأخرين في ذلك. اعلم: أن أصحاب الأيمة (ع) كما قلناه مرارا لم يكونوا يعولون في أصول الدين و لا فى فروعه؛ إلا على كلام أيمة الهدى– ع–، و كان فيهم جماعة من العلماء المدققين؛ كهشام بن الحكم و مؤمن الطاق و محمد الطيار و غيرهم. فكانوا يأخذون مسائل اصول الدين عن الأيمة (ع) و يؤيدونها بالبراهين القاطعة العقلية، و يأخذون مسائل الفروع و يعملون بها من باب التسليم من غير بحث عن عللها و اسبابها، و كانوا في اغلب الأحوال يمكنهم لقاء الامام (ع) لعدم انتشارهم في البلاد؛ لانحصار الشيعة في زمان امير المؤمنين (ع) في بلاد الحجاز و عراق العرب إلا ما شذّ. و دام الأمر كذلك إلى قرب زمان الصادق (ع) فأدركت العناية الأزلية قوما من العجم فاهتدوا إلى الحق و كان أكثرهم فى «قم» فكانت خواص الشيعة منحصرة في هذه الاماكن، و كان منهم جماعة فى بلاد الشام، و لكن كانوا مستورين خوفا من بني امية؛ و لذلك كان اكثر اصحاب
[ 187 ]
الأيمة (ع) من اهل العراق و بلاد العجم فأخذوا عن الأيمة (ع) كلما يحتاجون إليه من امور الدين. إلى ان وقعت الغيبة الصغرى و تعذر النقل و ملاقاة الامام (ع) لكل واحد، فخرجت التوقيعات على يد السفراء إلى الشيعة بالرجوع إلى رواة احاديثهم (ع) و كان قد اجتمع لهم كتب كثيرة في الحديث تشتمل على المسائل الجزئية و القواعد الكلية و على قواعد الجمع بين الأخبار المختلفة. فكانوا يسمون المحصل لتلك الكتب الراوي بها العارف بما فيها «فقيها و عالما و محدثا و راوية» و لم يكن للمجتهد بينهم ذكر بل كانوا يذمون الاجتهاد، و الف ابو اسحاق بن نوبخت مقالة فى إبطال الاجتهاد و هو من اكابر الامامية. و دام الأمر على ذلك إلى ان وقعت الغيبة الكبرى و ارتفع معظم التقية لاعراض الخلفاء من بني العباس عن الشيعة، حيث لم يكن الامام (ع) ظاهرا يخافونه على ملكهم، و انضم إلى ذلك ظهور قوم من الشيعة لهم دولة و شوكة؛ كالسلاطين من آل بويه و الأمراء من بني حمدان و غيرهم، و ظهر أمر الشيعة، و نشأ فيهم علماء فضلاء فى المعقول؛ كالشيخ المفيد و السيد المرتضى (و الشيخ الطوسي) [1] و غيرهم، فنظروا في كتب العامة و بحثوا معهم في الأصول و الفروع. و لما كان مدار العامة في الفقه على الاعتبارات العقلية من اجتهاد الرأي و القياس و الظواهر الظنية الدلالة، و غير ذلك مما احدثوه في الدين. و كانوا يسمون الملكة التي يقتدر بها استنباط الفروع من تلك الأصول الموضوعة «اجتهادا» و صاحبها «مجتهدا» و كان مدار الشيعة ذلك الزمان على البحث معهم في الأصول و الفروع و مقابلتهم فى كلما يبدعونه مما خالف
ـ[1]- لا يوجد في (ه)ـ
[ 188 ]
الحق بما يبطله من أدلة العقل و النقل حتى [1] لا يمكنهم انكارها و لا ردها. فسموا طريقهم في مقابلتهم «اجتهادا» و العارف بمذهب آل محمد (ع) «مجتهدا» و لم يخرجوا عن العمل بكلام الأيمة (ع)، فان استدلوا على فرع بغير النص فليس لأنه مدرك شرعي عندهم بل لالزام الخصم؛ و بيان أن ما نقل عن الأيمة (ع) مما تعاضد فيه العقل و النقل، فمدرك الحكم عندهم النص لا غير و العقل مؤيد له. هذا كان طريقهم من عصر الأيمة (ع) إلى أواخر الخمسمائة من الهجرة، و قد صرح بهذا أبو المكارم بن زهرة في «أصول كتاب الغنية» حيث نقل أن بعض العامة اعترض فقال: أنتم معاشر الشيعة لا تعلمون [2] بالأصول؛ بل [بأحاديث] أئمتكم لا غير، فكلامكم في [الأصول] عبث. و أجاب عنه: بأنا معاشر الشيعة لا نعمل إلا بالحديث و كلامنا في «الأصول» لأمرين: «احدهما» لنفهم ما في كلام الأيمة (ع) من معنى الأمر و النهي و غير ذلك مما يتعلق باللغة. «و الثاني» أن الأحكام الشرعية ثابتة عندنا من طريق النقل؛ و نريد ان نؤيدها بأدلة العقل ليتعاضد العقل [و] النقل على ذلك، فلا يكون كلامنا في الأصول عبثا، هذا خلاصة ما ذكره، و هو بعينه ما قلناه من طريق القدماء. فهذا أصل إطلاق لفظ «المجتهد» على العالم من الامامية، و مع ذلك لم يكونوا يذكرون في وصف العالم و مدحه لفظ المجتهد؛ بل يمدحونه بالعدالة و العلم و كثرة الرواية و نحو ذلك، كما في «فهرست»ـ
ـ[1]- في (ه) و النقل التي لا يمكنهم. [2]- في (ه) لا تعلمون
[ 189 ]
الشيخ «و كتابي» الكشي و النجاشي و غيرها، و إنما مدح الرجل بكونه مجتهدا، عرف حادث لا يوجد إلا في كتب العلامة (و من تبعه) [1]. و نحن نذكر هنا طريق المتأخرين في الاجتهاد حتى إذا ذكرنا طريق القدماء يعلم الفرق بينهما و بين ما يوافقهما و ما يوافق طريق العامة من ذلك و ما يخالفه، فنقول: قال أفضل المتأخرين العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر (ره) فى كتاب «المبادي»: (الاجتهاد: استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية على وجه لا زيادة فيه، و لا يصح في حتى النبي– ص–، لأن الاجتهاد قد يخطئ و قد يصيب فلا يجوز تعبده– ص– به، و كذلك لا يجوز لأحد من الأيمة– ع– الاجتهاد عندنا؛ لأنهم معصومون و إنما أخذوا الأحكام بتعليم الرسول– ص– أو بالالهام من اللّه تعالى. و أما العلماء فيجوز لهم الاجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات من القرآن و السنة، و ترجيح الأدلة المتعارضة، اما بأخذ الحكم عن القياس و الاستحسان فلا). و قال فيه أيضا: (الحق إن المصيب واحد و أن للّه تعالى في كل واقعة حكما معينا و أن عليه دليلا ظاهرا لا قطعيا و المخطئ بعد الاجتهاد غير مأثوم) انتهى. و قال في كتاب «تهذيب الأصول»: (المجتهد فيه: حكم شرعي ليس عليه دليل قطعي، فخرج بالشرعي الأحكام العقلية، و بنفسي الدليل القاطع ما علم كونه من الشرع ضرورة؛ كوجوب الصلاة و الزكاة)ـ
ـ[1]- لا توجد في (ه)ـ
[ 190 ]
و قال أيضا: (الضابط فيه تمكن المكلف من إقامة الدليل على المسائل الفرعية، و إنما يتم له ذلك بأمور: «أحدها» معرفة اللغة و معاني الألفاظ الشرعية لا بالجميع بل بما يحتاج إليه في الاستدلال، و لو راجع اصلا صحيحا عنده فى معاني الألفاظ جاز، و يدخل فيه معرفة النحو و التصريف لأن الشرع عربي، و لا يتم إلا بمعرفتها، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. «ثانيها» أن يكون عارفا بمراد اللّه تعالى من اللفظ، و انما يتم ذلك لو عرف انه لا يخاطب بما لا يفهم معناه و لا بما يريد به خلاف ظاهر من غير بيان، و انما ذلك لو عرف انه تعالى حكيم و هو يتوقف على علمه تعالى بالقبيح؛ و استغنائه عنه و العلم بصدق الرسول– ص– و اصول قواعد الكلام. «ثالثها» ان يكون عارفا بالأحاديث الدالة على الأحكام اما بالحفظ او بالرجوع الى اصل صحيح؛ و احوال الرجال ليعرف صحيح الأخبار من معتلها؛ و يعرف أيضا من الكتاب ما يستفاد منه الأحكام و هو خمسمائة آية و لا يشترط حفظها بل معرفة دلالتها و مواضعها بحيث يجدها عند طلبها. «و رابعها» ان يكون عارفا بالاجماع و مواقعه بحيث لا يفتي بما يخالفه. «و خامسها» ان يعرف دلالة العقل؛ كالبراءة الأصلية و الاستصحاب و غيرهما. «و سادسها» ان يعرف شرائط البرهان. «و سابعها» ان يعرف الناسخ و المنسوخ و العام و الخاص و المطلق و المقيد و غيرهما من طرق الأحكام. «و ثامنها» ان يكون له قوة استنباط الأحكام الفرعية من المسائل
[ 191 ]
الأصولية) و قال فيه أيضا: (الحادثة إن نزلت بالمجتهد في نفسه عمل على ما أداه اجتهاده إليه، فان تساوت الأمارات تخير أو عاد الى الاجتهاد، و إن تعلقت بغيره و كان مما يجري فيه الصلح– كالمال– اصطلحا أو ترافعا الى حاكم يفصل بينهما، و لا يجوز الرجوع بعد الحكم. و إن لم يجر فيه الصلح– كالطلاق– بصيغة يعتقدها أحدهما دون الآخر؛ رجعا إلى حاكم غيرهما سواء كان صاحب الواقعة مجتهدا أو حاكما أولا، إذ ليس للحاكم أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من قبله من يقضي بينهما. و إن نزلت بالمقلد رجع إلى المفتي). و قال في «بحث تعارض الأمارتين»: (إن عرض التساوي للمجتهد تخير، و إن كان للمفتي خير المستفتي، و إن كان للحاكم عين ما شاء و له الحكم بأحدها فى وقت [1] و الأخرى في آخر الشخصين) انتهى كلامه. و قال في «نهاية الأصول»: (التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة يلزمه، مأخوذ من تقليده– بالقلادة– و تعليقها في عنقه، و ذلك كالأخذ بقول العامي، و أخذ المجتهد [2] بقول من هو مثله، و حينئذ فالرجوع إلى قول النبي ص [و] إلى ما أجمع عليه أهل العصر من المجتهدين و رجوع العامي إلى قول المفتي، و عمل القاضي بقول الشاهدين؛ ليس بتقليد لاشتماله على الحجة الملزمة لوجوب قبول قول النبي– ص– و وجوب الرجوع إلى حكم الاجماع بقول الرسول ص و الآيات الدالة عليه و قبول قول المفتي و الشاهدين للاجماع [3]، و قيام الأدلة كالنصوص
ـ[1]- في (ه) بأحدهما في وقت الأخرى فى أحد الشخصين. [2]- فى (ه) و ذلك كأخذ العامي و أخذ المجتهد بقول من هو مثله. [3]- فى (ه) و وجوب قبول قول المفتى و الشاهدين للاجماع عليه
[ 192 ]
و قد يسمى ذلك تقليدا بعرف الاستعمال و النزاع لفظي) انتهى كلامه. و لنتكلم على بعض ما فيه، فنقول: قوله «العلماء يجوز لهم الاجتهاد» ممنوع؛ بل لا يجوز العمل إلا بالنص الصريح، فان وافق حكم اللّه في الواقع فذاك و إن خالفه أوردوه مورد التقية فهو رخصة، بخلاف الخلاف الناشئ عن الاستنباطات الظنية فانه لا رخصة فيه، و السند ما تقدم من النهي عن ذلك، و إجماع أصحاب الأيمة (ع) على بطلان الاجتهاد بهذا الطريق المتعارف بين المتأخرين لأنه طريق العامة بعينه إلا في مسائل يسيرة. فأن قلت: مع إمكان ظهور الامام و إمكان الرد إليه نمنع الاجتهاد، أما مع تعذر ذلك فيجوز للضرورة. قلت: لا ضرورة فان الاحتياط– إذا لم يتعين الحكم– طريق مأمور به فما لك تترك اليقين إلى الشبهة. (و أما قوله «إن للّه في كل واقعة حكما معينا و عليه دليل ظاهر لا قطعي، و المجتهد غير مأثوم» فممنوع؛ بل الدليل قطعي يجب طلبه من كلام الأيمة– ع– و المجتهد المخطئ يأثم و يضمن، و السند ما تقدم من الأخبار في الباب الثاني) [1]. و أما قوله «أن يكون عارفا بمراد اللّه تعالى» هذا لا يتم لنا إلا بالنقل عن الأيمة (ع) لأنهم هم المخاطبون بالقرآن لا نحن، و انما نفهم نحن من القرآن ما لا يعذر العامة بجهله من– أصول التوحيد، و الشرائع و معاني الفاظه– بحسب اللغة، و ما سوى ذلك فخاص بأهله و نحن مأمورون بطلبه منهم. و أما قوله «ان يكون له قوة استنباط الأحكام» هذه القوة غير
ـ[1]- ما بين القوسين الكبيرين لا يوجد فى (ه)ـ
[ 193 ]
مضبوطة فلا يصح ان يكون مناطا لمعرفة احكامه. تعالى لما يترتب على ذلك من المفاسد، كما هو ظاهر مشاهد، بل الضروري– بعد حصول العقل و التكليف– هو السعي فى تحصيل ما يجب، سؤال العلماء من آل محمد (عليهم السلام) و من سلك طريقهم. و اما قوله «نصب المجتهد من قبله من يقضي بينهما» ذلك المنصوب ان كان جامعا لشرائط الفتوى فهو منصوب من قبل الامام (ع)، و إلا فنصب المجتهد و عدمه [1] سواء. و الحاصل أنك إذا تأملت ما ذكره رأيته هو طريق العامة في الاجتهاد إلا ما استثناء من «القياس و الاستحسان» مع أنك لو راجعت كتب الفقه المبسوطة؛ رأيتها مشحونة بهما، قد عمل بذلك مؤلفوها و هم لا يشعرون. و يزعمون تارة أنه من باب الالحاق للاشتراك في علة الحكم و تارة أنه تمثل شيء بشيء لاتحاد طريق المسألتين، و هل القياس إلا هذا عند من عرف معنى القياس و شرائطه، لأن العلة ان كانت منصوصة فلا الحاق؛ و الا فهي مستنبطة داخلة في القياس المذموم، و كل ما ذكروه من الالحاقات فهو من هذا القبيل و نحن نذكر طريق القدماء و عملهم و بيان الاجتهاد الحق فما وافقه من طريق المتأخرين يعمل به و ما خالفه يترك لأهله؛ و اللّه الهادي و الموفق. (الفصل الثالث) في العمل بطريق القدماء، و إن سميته اجتهادا فلا مشاحة، بل هو أحق باسم الاجتهاد الحق فنقول
ـ[1]- في (ه) و عزله
[ 194 ]
إن طريقهم هو السعي في تحصيل الحكم الشرعي من كلام اللّه سبحانه و كلام رسوله و أهل بيته (ع) على الوجه المأمور به. و التقليد: هو رجوع العامي إلى العالم بذلك فيما يحتاج إليه من امور دينه، و ذلك لأنه ليس شيء من الأحكام الشرعية بديهيا؛ بمعنى أنه لا يحتاج إلى دليل؛ بل كلها تحتاج إلى السماع من الشارع، و تسميتها بعضها [1] ضروريا مجازا لشهرته و وضوح دليله، و وضوح الدليل لا يستلزم بداهة المدعى. و أما الأصول الدينية فيها بديهي يكفي فيه أدنى منبه، و الأكثر نظري يصيب الناظر فيه و يخطئ فلذلك لا ينبغي الاعتماد على حكم العقل وحده فيما يحتاج إلى دليل من أمور الدين؛ بل يجب الرجوع في كل ذلك إلى كلام الأيمة (ع) فيؤخذ منه ما يصدق العقل [2] من مسائل الأصول، و يجعل أصل مادة الفكر، و يؤيد بالبراهين القاطعة، و يدفع عنه شبهة المخالفين و يؤخذ منه مسائل الفروع، و يعمل بها من غير نظر و لا تعليل؛ بل من باب التسليم المحض؛ لأن العقل وحده لا يكفي فى إثبات ما لا بدّ منه من أصول الدين و لا فروعه و إلا لزم تجويز خلو الأرض من معصوم، و هو باطل عقلا و نقلا، بل حال العقل مع النقل كحال السراج مع الدهن يستمد منه و يضيء، فاذا قل عنه مدد الدهن أظلم، و إن انقطع انطفى نوره، فبالعقل يتميز حق النقل و باطله، و بالنقل يشرق نور العقل و يضيء و يقدر على إثبات ما لا يستقل باثباته و تندفع عنه الشبهة المانعة من الاذعان للحق. و روى الكليني من جملة حديث أن ابن السكيت قال لأبي الحسن (ع)ـ
ـ[1]- في (ه) و تسميته بعضها. [2]- فى الأصل: ما يصدقه (ر)ـ
[ 195 ]
ما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (ع): «العقل؛ يعرف به الصادق على اللّه فيصدقه، و الكاذب على اللّه فيكذبه». و اعلم أن مادة الأفكار العقلية قسمان: منقولة؛ كالواردة في القرآن العظيم من أصول أدلة التوحيد، و المنقولة في كتب الحديث عن الأيمة (ع)؛ كأصول الكافي و توحيد الصدوق و نهج البلاغة و غيرها، و هذا القسم مقبول عند اللّه مأمور بالنظر فيه. و القسم الآخر مقدمات عقلية مشهورة تحتمل الوجوه المختلفة باختلاف العقول و الأفهام، و أكثرها دعاوى محضة لكن لشهرتها و ألف الأذهان بها صارت مسلمة مقبولة عند أهل الجدل، و هذا مردود لكونه ربما أدى إلى الزندقة، إذا عرفت هذا: فاعلم انه يجب العمل بكل حديث لا معارض له فى هذه الكتب الموجودة؛ سواء تكرر فيها أو انفرد به احدها، و ما اختلف منها بجمع بين مختلفاته على وفق القواعد عنهم (ع) فيرد المتشابه إلى المحكم و المجمل إلى المفصل و العام الى الخاص و المطلق الى المقيد، و يرجح ما وافق الكتاب و السنة النبوية على غيره، و ما خالف العامة على ما وافقهم و ما عمل به القدماء– كالصدوقين و الشيخين و السيد المرتضى– كلهم أو أكثر [هم] على ما عمل به المتأخرون، الا أن يظهر– لما عمل به المتأخرون– وجه رجحان؛ فيعمل بالراجح، و يقدم ما فى «الكتب الأربعة» على غيره عند التعارض، و ما في «الكافي، و من لا يحضره الفقيه» على غيرهما، الا أن يظهر رجحان ذلك الغير فيعمل به و ما لم يجر فيه شيء من وجوه الترجيح و بقي على اختلافه يعمل فيه بالاحتياط ان أمكن، و الا فهو مخير في العمل بأيهما شاء من باب التسليم
[ 196 ]
و ان لم يوجد في المسألة نص، فان كانت مما يتكلفه المتكلفون من التدقيقات في أحكام ما تعم به البلوى من الأعمال و العبادات المتكررة و القضايا الكثيرة الوقوع، فهي ساقطة عنا، و لا يجوز تكلف اثبات الأحكام لها بالظنون و الخيالات؛ بل و لا يجب الاحتياط فيها أيضا لأن الاحتياط لا يجب الا اذا علم أو غلب على الظن اشتغال الذمة بشيء و لم يتعين حكمه عندنا. و أما مجرد التوهم فلا حكم له؛ بل هو من الهوس المذموم و الوسواس للنهي عنه للعلم الحاصل بعدمه؛ من جريان العادة به للجزم يورع اصحاب الأيمة (ع) و حرصهم على السؤال عما يضطرون إليه من أمور الدين؛ مع كثرة العلماء منهم و تطاول زمان وجود الأيمة (ع) بينهم فى مدة تزيد على ثلاثمائة سنة. فلو كان فى أمثاله نص لو صل إلينا لتوفر الدواعي على السؤال عنه و نقله لو كان، فاذا لم نجده بعد الامعان في طلبه من مظانه فى كتب الحديث و فتاوى القدماء التي نقلها المتأخرون عنهم فنحكم بعدمه. و أكثر ما يقع هذا للمتأخرين في العبادات التي يمكن وقوعها على وجوه مختلفة، و ورود الأمر بها مطلقا غير مقيد بوجه خاص؛ نحو الارتماس في الغسل يمكن إيقاعه بأن يتحرك و هو في الماء حتى يغمره دفعة كيف اتفق؛ و أن يخرج من الماء أو يكون [1] خارجا و يلقي نفسه فيه بحيث يغمره، فاطلاق النص يقتضي الصحة كيف كان، و تقييده بصفة دون أخرى تشريع. و كذلك الخروج من الصلاة بالتسليم، فاطلاق النص يقتضي وقوعه بالتلفظ
ـ[1]- فى (ه) و يكون
[ 197 ]
بالصيغة المنقولة في محلها– أعني آخر الصلاة– و التقييد بأنه لا بدّ مع ذلك من نية الخروج بها و مقارنة تلك النية للفظ التسليم تشريع، و أمثال هذه التكلفات الساقطة عنا كثيرة الدوران على ألسنة المتفقهة. و في «نهج البلاغة» ما يدل على المنع من ذلك، قال (ع): «إن اللّه فرض لكم فرائض فلا تضيعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها» انتهى كلامه (عليه السلام). فان قلت: هذا هو العمل بالبراءة الأصلية، و أنتم لا تجوزونه. قلت: نحن لم نعمل بها؛ و إنما عملنا بالدليل القطعي الموافق لها، كما نعمل بالأخبار الدالة على الاباحة، فهذا حكم ما تعم به البلوى. و أما غيره، فان كانت المسألة مما لم يتكرر و لم يقع إلا نادرا، أو من الفروض التي يجوزها العقل و تحتملها العادة نحو؛ كثير من الفروع التي ذكرها المتأخرون، فالاشتغال به فضول لا فضل، و إن فرض وقوعه و لم يوجد فيه نص، إما لعدم النص من الأصل لعدم السؤال عنه، أو لأنه خرج فيه نص و لم ينقل لقلة الحاجة إليه، فهذا يجب التوقف عن الحكم فيه بكونه محظورا أو مباحا أو غير ذلك و العمل فيه بالاحتياط إن اضطر إليه كما أمرونا به (ع) لأنه لا يجوز لنا اثبات حكم شيء و لا نفيه إلا بالنص الصريح و الدليل القطعي. و اعلم: أن نصوص الكتاب فيما لا يعذر أحد بجهله من أمور الدين؛ كالآيات الدالة على التوحيد و التنزيه و العدل و وجوب تصديق الرسل و اتباعهم و أصول العبادات و نظائر ذلك كلها محكمة لا اشتباه فيها. و أما السنة النبوية فانما وصلت إلينا من طريق أهل البيت (ع)، و ما
[ 198 ]
رويناه منها عن غيرهم فنادر جدا و كلما صح عندنا منه فموجود في احاديثهم فينبغي الأخذ [1] بمحكمات الكتاب ورد المتشابه (إليهم «ع») [2] و أخذ تفسيره و تأويله من كلامهم لأنهم المخاطبون بالقرآن لا نحن. و أما أحاديثهم (ع) فكلما يتعلق منها بما لا بدّ منه للمكلف من العقائد و الأعمال و الأحكام الضرورية فلا اشكال فيه أيضا، لأن كل ما هو مجمل في حديث فهو مفصل فى غيره، و كل متشابه ففي محكم يحكم عليه، فيجب رد بعضها الى بعض، و الجمع بينها بالطرق الواردة عنهم (ع) بتمييز ما ورد للتقية عن غيره ليعمل بكل في محله و لا يرجح شيئا بظن ضعيف او خيال لا أصل له؛ كما يفعله العامة و بعض من غفل عن طريق القدماء من الخاصة. و من نظر فيما ورد في هذا المعنى من «خطب نهج البلاغة، و أحاديث أصول الكافي» و غيرها، اتضح لديه أن استنباط الأحكام من ظواهر الكتاب و عموماته و اطلاقاته المحتملة للوجوه المختلفة و العلل المستنبطة الظنية و طرح الأخبار التي نص القدماء على صحتها لأجل ذلك طريق محدث نشأ من مخالطة العامة و اشتبه الأمر فيه على جماعة من الخاصة فعملوا به. و مثل هذا لا يليق أن يجعله الحكيم مناطا لأحكامه لما يترتب عليه من المفاسد الناشئة عن الاختلاف الصادر عن تفاوت الأفهام و العقول فيه، كما تراه في زمننا هذا من الفتن و العداوات بين أهله ممن ينسب الى العلم، و تخطئة كل واحد لصاحبه. و ربما تجاوز الحد فنسبه الى الالحاد و الزندقة و لو لا خوف انكار العوام
ـ[1]- فى (ه) الحكم. [2]- لا توجد في (ه)ـ
[ 199 ]
وصولة الحكام لسعى كل واحد منهم في قتل من خالفه أو نازعه خصوصا اذا كانوا في بلد واحد لاعتقاد كل واحد منهم انه واجب الطاعة، و ان خلافه خروج عن الدين، و لو اتبعوا النص و عملوا به كما امروا؛ لم يقع شيء من ذلك الا لمن غلب عليه حب الرئاسة و التفرد بها بحق أو باطل، و ذلك أمر دنيوي خارج عن الدين. فان قلت: اذا لم تجوز استقلال العقل بالنظر، و لا العمل بمقتضاه، فكيف يمكن للنبي (ص) ثبوت دعوته قبل ورود الشريعة؟ قلت: يمكن ذلك بأمرين؛ اما بأن تظهر المعجزة على يده فيحصل لمن شاهدها التصديق بديهة؛ أو يكون ظهورها مادة للفكر فيتوصل به العاقل الى تصديقه ان لم يغلب عليه العناد، مع أن هذا غير وارد علينا لأنا لا نمنع استقلال العقل مطلقا، بل نمنع الاعتماد عليه وحده بعد ورود الشريعة فى اثبات ما قرره الأنبياء من العقائد و الشرائع، لتجويز الخطأ عليه دونهم، بل ينبغي فهم كلامهم، و تمييز حقهم عن باطل غيرهم بمعونته. و أمّا قبل ورود الشريعة، فيعتمد عليه فيما يحسّنه و يقبحه، و يجب العمل بمقتضاه وجوبا عقليا، و لا شك أن بعثة الأنبياء، و وجوب اتباعهم مما تقضي العقول بحسنه لما فيه من اللطف. فان قلت: الاختلاف الموجب للفساد حاصل سواء عمل بالحديث أو بغيره. قلت: ليس الأمر كذلك لأن قواعد العمل بالحديث لا تختلف عند من أحسن النظر و اذا لم يمكن الجمع بين الحديثين و لا الاحتياط [1] تخير العامل أيهما شاء من
ـ[1]- فى (ه) و الاحتياط
[ 200 ]
باب التسليم، و ليس لمن عمل بالعمل الآخر أن يخطئه، فان خطأه كان مخطئا، لأن هذا الاختلاف بأمر الامام (ع). فان قلت: لم جاز الاختلاف باختلاف الحديث، دون اختلاف الاجتهاد، مع أن الكل يرجع إلى الظن بان ما عمل به هو حكم اللّه في حقه و التناقض حاصل فيهما. قلت هذه شبهة باطلة لأن المجتهدين نص كل منهما، أنّ ما عمل به هو حكم اللّه في الواقع و ان غيره خطأ سواء كان دليله النص أو غيره، فالتناقض حاصل، و لا دليل على الرخصة فيه عقلا و لا نقلا بخلاف الأخباريّين فان كلا منهما يعتقد أنّ ما عمل به هو حكم اللّه فى حقه، سواء وافق الواقع أم لا، لأنه يقول قد صح عندي أن هذا الحديث قول المعصوم و فتواه، و لا أعلم انه ورد للتقية؛ فيجوز لي العمل به من باب الرخصة، و إن لم يظهر لي أنه حكم اللّه في الواقع، و كذلك الأخباري الآخر الذي يعمل بخبر يخالفه، يقول ذلك؛ و كلاهما على حق و إن اختلفا، لأن اختلافهما [بقول] الامام (ع) و فتواه. فان قلت: هذا رأي المصوبة بعينه. قلت: ليس كذلك؛ لأن المصوبة يقولون ليس للّه تعالى فى الواقعة حكم معين، بل هو منوط برأي المجتهد، و نحن نقول حكمه تعالى واحد لا يختلف، و عملنا بالأخبار المختلفة رخصة و لو لا التقية لم يقع اختلاف. فان قلت: لا نسلّم أن المتأخرين خالفوا القدماء، لأنّ قواعدهم تخالف الحديث. قلت: مخالفة المتأخرين للقدماء، و مخالفة كثير من قواعدهم للأحاديث قد ظهرت بحيث لا يمكن إنكارها و كيف يمكن ذلك، و هم يصرحون فى
[ 201 ]
كثير من الأحاديث التي حكموا بصحتها، أنها تخالف قواعدهم، و إنما عملوا بها مع مخالفتها للأصول لصحتها و لو لا ذلك لردوها، و ربما ظهر منهم التوقف في بعضها عن الجزم بالفتوى لذلك. و في «شرح الشرائع» من هذا كثير، و من نازع في ذلك فليراجعه. و من الغريب رده للأخبار الحسنة و الموثّقة إذا خالفت تلك «القواعد» مع أنه يعمل بالظن و الظن الحاصل من الأخبار الحسنة و الموثقة التي رواها الكليني و الصدوق– ره– و صرحا بصحتها كما ذكرناه سابقا، أقوى من الظن المستفاد من تلك «القواعد» و ليت شعري [أيّة] حجة لمن يطرح رواية ابراهيم بن هاشم لزعمه أنها حسنة لا تصلح لرفع حكم الاصل المظنون مع أن ردها يوجب الطعن في ولده علي بن ابراهيم الثقة الجليل، لانه لم يرو عن غير أبيه إلا نادرا؛ مع كثرة الثقات في زمانه. فلو دخل الريب في رواية أبيه [1] لزم تسامله في الرواية عنه، و ذلك يوجب الطعن فيه و في تلميذه ثقة الاسلام، لان أكثر ما في «الكافي» يرويه عنه عن ابيه، و هذا مما لا يرضى به أحد، فينبغي التنبه لذلك ليعرف الحق فيتبع، فليس المعصوم إلا من عصمه اللّه. و نحن لا تنكر على المتأخرين اختلافهم لاختلاف الاخبار، بل ننكر عليهم طرحها في مقابلة– الاصول و القواعد المظنونة–؛ و غفلتهم عن طريق القدماء؛ حتى اضطربت أقوالهم فى كثير من المسائل الضرورية لعدم رعاية النص و العمل بمقتضاه من باب الغفلة لامور اوجبت لهم دخول الشبهة عليهم. فمن ذلك انهم حاولوا الاطلاع على ما هو حكم اللّه فى الواقع و لم
ـ[1]- فى (ه) فى روايته…ـ
[ 202 ]
يكتفوا بما يكفيهم فى صحة العمل من ذلك ألفة اذهانهم بالقواعد التي توهموها ادلة شرعية حتى تحيروا في الجمع بينها و بين الاخبار؛ فخلطوا ما يحتمل الخطأ و الصواب من ادلة العقل بالمنقول الذي لم يظهر [1] لهم في الاغلب وجه الحكمة فيه فأوجب ذلك لهم الحيرة. و من ذلك ميلهم إلى الدقة و معرفة علل الاشياء بحكم العقل و عدولهم فى الغالب عن تلقي الاحكام من باب التسليم حتى انه ربما توقفوا عن الحكم بمضمون بعض الاحاديث الصحيحة عندهم و تحيروا فى ذلك اذا خالفت قواعدهم. و من ذلك جمود طبع بعضهم و اعوجاج فهمه، مع اعتقاده في نفسه الفهم و الذكاء، و اصل ذلك كله حصرهم صحة الحديث في عدالة الراوي و غفلتهم عن انه القرينة [2] من جملة القرائن التي كانت عند القدماء و ليست الصحة منحصرة فيها عندهم. فان قلت: يلزم مما ذكرته الحكم بمخالفة المتأخرين للقدماء و نسبة الخطأ إليهم و كونهم مؤاخذين مع صلاحهم و تقواهم. قلت: اما المخالفة فلا سبيل الى انكارها، و اما التقوى فانما نمنع [3] عن تعمد الخطأ لا عن السهو و الغفلة، و قد بينا لك الطريقين، فميز بعقلك الصواب من الخطأ. و المتأخرون غير مؤاخذين و لا اثم عليهم اذ لم [4] يتعمدوا ذلك، و اما من اطلع على اختلاف الطريقين فلا عذر له في الاعراض عن طلب
ـ[1]- في (ه) الذي يظهر. [2]- في (ه) عن أنها قرينة. [3]- في (ه) تمنع. [4]- في (ه) اذا لم
[ 203 ]
الحق لغلبة الداعية أو الجمود على التقليد، فقد رأيت من يظهر الصلاح؛ إذا ذكر له ما يخالف رأيه لا يطيق سماعه و إن كان حقا يرتعد كأنما أخذته الحمى النافض، فمثل هذا يترك بحاله فيكفيه ما هو فيه، مع أن المتأخرين الذين يشار إليهم أربعة لا خامس لهم و هم، العلامة و الشهيدان و الشيخ علي بن عبد العال، و الثلاثة كانوا من أتباع العلامة و تلاميذ كتبه فموافقتهم له في مخالفة القدماء بشبهة أو غفلة تقليد محض نشأ عن حسن الظن به و عدم اطلاعهم على طريق القدماء. و أما من جاء بعد هؤلاء و اطلع على الطريقين كالسيد محمد و الشيخ حسن و الشيخ بهاء الدين فهم متحيرون في كثير مما خالف المتأخرون فيه القدماء، كما يظهر لمن راجع كتبهم، و تأمل اعتذاراتهم أحيانا عن المتأخرين، و لكن لم يجسروا على إظهار المخالفة، و كيف كان فنسبة الغلفة و السهو إلى جماعة قليلين؛ اولى من نسبة الجهل و عدم الضبط أو الخطأ إلى القدماء مع كثرتهم و وفور علمهم و قربهم من زمان الأيمة (ع) و اطلاعهم من أمور الدين على ما لم يطلع عليه غيرهم و اللّه الموفق. (الفصل الرابع) في أن الاجتهاد في طلب الدين على النهج الذي قرره القدماء واجب على كل مسلم. اعلم: أن كل من سعى في تحصيل مسألة مما كلف به و فهمها كما يجب؛ و ضبطها، فقد اجتهد في تحصيلها، و السعي فى تحصيل ما لا يعذر المكلف بجهله من العبادات الواجبة و الحقوق اللازمة فرض عين لا يعذر أحد في تركه و ليس له حد يقف عنده بل كلما احتاج إلى حكم يجب
[ 204 ]
عليه السؤال عنه، و هذا معنى قول أصحابنا الحلبيين: إن الاجتهاد واجب عيني، و بهذا فسر مذهبهم شيخنا البهائي (ره) و ذلك أنهم لم يكونوا يعملون إلا بالحديث، كما صرح به ابن زهرة في «الغنية»، فالعامي عندهم إذا سأل العالم عن مسألة شرعية فأجابه عنها بلفظ الحديث أو بمعناه و فهمه العامي كما يجب، فقد تساويا فى علم تلك المسألة؛ لأن المسئول ناقل لفتوى أهل البيت (ع) و السائل يرويها عنه، فلا فتوى في الحقيقة إلا للمعصوم و لا تقليد إلّا له (ع)، و السائل و المسئول من جملة الرواة؛ و هذا مذهب كل القدماء، لا علماء حلب [1] خاصة كما هو المشهور. و اعلم أن ما يحتاج إليه المكلف في خاصة نفسه من مسائل الفروض الواجبة عليه بالفعل لا يأباه طبع أحد، و إنما تختلف الناس فيه بسرعة الفهم و بطئه. و أما الاحاطة بأكثر أبواب الفقه و الحديث فليس في وسع كل أحد، بل يحتاج ذلك إلى طبع ذكي و حفظ قوي، و هذا النوع من الاجتهاد يجب كفاية على من له اهلية ذلك لحفظ الشريعة المطهرة فينبغي له أن ينتهز الفرصة و يجتهد في الطلب؛ لينال سعادة الدارين، و لا علم الا علم الدين و ما سواه فضول؛ نعم لا بدّ لمن أراد القدرة على فهم المعاني و التصرف في فنون الكلام من تحصيل العلوم العربية و الأدبية و تتبع كلام الأوائل؛ ليعرف طرق القدماء في المحاورات و يقتدر على فهم الحديث كما ينبغي؛ لأن اللغة في زماننا قد فسدت و تغيرت حتى لا يعرفها العرب فضلا عن العجم، و ليكن اعتقاده لما ورد فى الشريعة من أصول العقائد و تصديقه
ـ[1]- في (ه) الا علماء حلب
[ 205 ]
به بحيث لا يزول بتشكيك المشكك، لا كما يفعله قوم نظروا في الفلسفة فخرجوا عن الحق و تأولوا كلام النبوة على وفق ما سوّل لهم الشيطان، حتى اعتقدوا قدم العالم و نفي المعاد الجسماني، و إنكار المعراج بالجسم و غير ذلك من أصول الزندقة فولاهم اللّه ما تولوا و عاشوا جهالا و ماتوا ضلالا. روي في «الكافي و التهذيب» عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «بادروا أحداثكم بالحديث [1] قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة» انتهى. و في «الكافي» في باب الاضطرار إلى الحجة، عن يونس بن يعقوب من جملة حديث الشامي الذي جاء لمناظرة أصحاب الصادق (ع) أن الصادق (ع) قال: «يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، قال يونس: فيا لها من حسرة، فقلت: جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام و تقول ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد و هذا لا ينقاد، و هذا ينساق و هذا لا ينساق، و هذا نعقله و هذا لا نعقله، فقال أبو عبد اللّه– ع-: إنما قلت، فويل لهم؛ إن تركوا ما أقول و ذهبوا إلى ما يريدون» انتهى. و يجب على المدرس أن ينبه التلميذ على ما وافق الحق و ما خالفه، و إن رأى منه الميل إلى الباطل حرم عليه تدريسه، و بعض الطباع لا تناسب بعض العلوم، فان عرف عجز الطالب عن علم نبهه على ذلك و نقله إلى غيره، فان لم يقبل فهو ممن يطلب العلم للهوس فليعرض عنه. و اعلم: أن الضروري من الحديث و الفقه المأخوذ منه لا يتوقف معرفته على شيء من العلوم، بل كل من يعرف اللغة العربية يحصل منه ما يحتاج إليه بسهولة، و إنما يحتاج إلى التفنن في العلوم من يريد التصرف في الكلام و القدرة على البحث و الجدل و إلزام الخصوم و دفع الشبهة و غير
ـ[1]- «بالحديث» لا توجد في (ه)ـ
[ 206 ]
ذلك مما يعد صاحبه من أكابر العلماء، و قد كان في اصحاب الأيمة (ع) علماء محققون كالهشامين و مؤمن الطاق و محمد الطيار و بنى نوبخت و غيرهم، و كانت مادة أفكارهم مأخوذة من الأيمة (ع) فلذلك و فقهم اللّه تعالى و هدى بهم خلقا كثيرا. و ما ينقل عن هشام بن الحكم من قوله بالجسم و الصورة، فذلك قبل اتصاله بالصادق (ع) لأنه كان أولا على مذهب جهم بن صفوان ثم هداه اللّه إلى الحق، و من أراد فى زماننا هذا حفظ فروع الفقه بسهولة؛ فليأخذها من كتب الفروع للمتأخرين و يعمل منها بما يوافق الحديث و يطرح ما خالفه، و الأحاديث الدالة على ما ذكرناه في هذا الفصل كثيرة. فمن ذلك: ما رواه العامة و الخاصة من قول النبي (ص) «طلب العلم فريضة على كل مسلم». و في «الكافي» عن أبي اسحاق السبيعي عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول «أيها الناس اعلموا أن كمال الدين، طلب العلم و العمل به، ألا و إن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ان المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم و ضمنه و سيفي لكم، و العلم مخزون عند أهله و قد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه». و عن أمير المؤمنين (ع) من جملة خطبة له (ع): «و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، و لن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، و لن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، و لن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى، و لن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى، فاذا عرفتم ذلك عرفتم البدع و التكلف، و رأيتم الفرية على اللّه و على رسوله ص
[ 207 ]
و التحريف لكتابه، رأيتم كيف هدى اللّه من هدى فلا يجهلنكم الذين لا يعلمون» و عن أبي عبد اللّه (ع) من جملة حديث «ان الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا، و انما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه». و عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «لوددت أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى يتفقهوا». و عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: «عليكم بالتفقه في دين اللّه و لا تكونوا أعرابا، فانه من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة، و لم يزك له عملا». و عن أبي حمزة عن أبي جعفر (ع) قال: «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد». و عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «قال رسول اللّه– ص– أف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه، فيتعاهده و يسأل عن دينه». و عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد اللّه (ع): «أعربوا حديثنا فانا قوم فصحاء». و عن أبي الحسن موسى (ع) قال: (دخل رسول اللّه– ص– المسجد فاذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل علامة، فقال: و ما العلامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها، و أيام الجاهلية و الأشعار و العربية. قال: فقال النبي– ص-: ذاك علم لا يضر من جهله و لا ينفع من علمه. ثم قال النبي– ص-: انما العلم ثلاثة؛ آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة، و ما خلاهن فهو فضل) انتهى
[ 208 ]
ما نقلته من «الكافي» و فى «محاسن البرقي» قال: سئل أبو الحسن موسى بن جعفر (ع) هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ قال: لا. و عن أبي جعفر (ع) قال: «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعته ضربا». و عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: «ليت السياط على رءوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال و الحرام». و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: «تفقهوا في الحلال و الحرام، و إلا فأنتم أعراب». و سئل أمير المؤمنين (ع) من أعلم الناس؟ قال: «من جمع علم الناس إلى علمه» انتهى. و روى الكشي عن محمد الطيار قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع) بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؛ و كرهت الخصومة، فقال: «أما كلام مثلك للناس فلا نكرهه، من إذا طار أحسن أن يقع، و إذا وقع أحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه» انتهى. و الأخبار في ذلك كثير و ما ذكرناه كاف. (الفصل الخامس) (فيمن يجب رجوع الناس إليه فى زمان الغيبة) اعلم: أنه قد ثبت بالنصوص القاطعة المؤيدة بالبراهين العقلية، أن اللّه جل ثناؤه لم يخلق الخلق عبثا و لم يدعهم بعد الخلق هملا، بل أعطاهم العقول ليفرقوا بها بين الحق و الباطل، و جبلهم على التوحيد، و فطرهم
[ 209 ]
على الاقرار له بالربوبية، و أرسل إليهم الأنبياء (ع) لينبهوهم على ما فطرهم عليه من توحيده، إذا غفلوا عنه، و يعرفوهم ما يصلح به أمر معاشهم و معادهم، و لم [يخل] الأرض من حجة حافظ لدينه هاد إلى صراطه، و أوجب عليهم طاعته و الرجوع إليه فى أمر الدين. و لما كانت أكثر الطباع إلى الباطل أميل لما جبلت [عليه] من حب الرئاسة و اتباع الشهوات، فاذا أمن الحجة منهم ظهر، و إذا خاف استتر و كان لأمة محمد (ص) أسوة بالأمم السابقة، فلم تزل أوصياؤه الذين هم حجج اللّه على عباده؛ خائفين لغلبة أهل الجور منذ قبضه اللّه إليه إلى يومنا هذا، و لكن كانوا ظاهرين على الشيعة بحيث يمكن أخذ أمور الدين عنهم بالمشافهة و المكاتبة إلى بعد الثلاثمائة من الهجرة بقليل. ثم استتر الحجة (ع) لشدة الخوف، و وقعت الغيبة الكبرى التي أخبر بها جده (ص) و آباؤه (ع) و انقطعت السفارة بينه و بين الشيعة بعد أن أخذوا عنه و عن آبائه (ع) ما يحتاجون إليه من أمور الدين، و ألفوا فيها الكتب، و خرج الأمر إليهم منه (ع) بالرجوع إلى رواة أحاديثهم في زمن الغيبة، و كان من لطف اللّه سبحانه بعباده أنه كما لا تخلو الأرض من حجة؛ كذلك لا تخلو من عالم حافظ لحديث آل محمد (ع) في حال الغيبة. و لما كان المدعون للعلم كثير و العلماء قليل و المخلصون أقل؛ نص الأيمة (ع) على من يجب الرجوع إليه حال الغيبة، و وصفوه بما لا يشتبه على من طلب الحق ليتنبه الغافل، و يهتدي الجاهل و لا يكون لأحد على اللّه حجة بعد الرسل و لا على الأوصياء حجة بعد البيان. و حاصل القول فيه، أن العارف بطريق أهل البيت (ع): الراوي
[ 210 ]
لحديثهم الضابط له العامل به؛ كما أمر الثقة المؤثر لدينه على دنياه و الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بحسب مقدوره، و أكثر ما يوجد هذا الوصف في أهل الخمول و من لا يلتفت إليه؛ امتحانا من اللّه عز و جل ليتميز [1] من يطلب الحق من مظانه و من يطلبه تقليدا لأمر جرت عليه العادة، و ألفته الطباع من الانقياد للمشهور المطاع؛ سواء اتصف بصفة المأمور باتباعه أم لا. هذا مع كون العلم قد صار صناعة يتوصل بها إلى تحصيل الرئاسة، أو مرمة المعاش [2]، و طالب الحق للحق، أعز من الكبريت الأحمر. و يعرف حال العالم المذكور بالمعاشرة أو القرائن [3] الموجبة للعلم بحاله؛ كالشهرة بين العلماء (بالعلم) [4] أو بين العارفين، بشرائط التقوى و الصلاح، و لا عبرة بالشهرة بين العوام و لا بالقرب من الحكام. فاذا وجد مثل هذا فهو المخصوص بالنفحة القدسية، المؤيد بالعناية الالهية، القائم مقام الامام بأمره (ع). فان لم يوجد مثل هذا فيكفي الرجوع إلى العالم الثقة في الرواية، و الأدلة على ما قلنا كثيرة. فمن ذلك: ما رواه في «الكافي» عن أبي إسحاق السبيعي عمن حدثه ممن يوثق به قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول: «إن الناس آلوا بعد رسول اللّه– ص– إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم على هدى من اللّه
ـ[1]- في (ه) امتحانا من اللّه عز و جل لعباده ليميز من يطلب. [2]- في (ه) أو مرتبة المعاش. [3]- في (ه) و القرائن. [4]- لا توجد في (ه)ـ
[ 211 ]
قد أغناه اللّه بما علم عن علم غيره، و جاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده و قد فتنته الدنيا و فتن غيره، و متعلم من عالم على سبيل هدى من اللّه و نجاة، ثم هلك من ادعى و خٰابَ مَنِ افْتَرىٰ» انتهى. قد حصر (عليه السلام) الناس فى ثلاثة: المعصوم (ع)، و من يأخذ علمه منه، و من ليس ذا و لا ذاك، فانظروا من يطرح الأحاديث التي نص أيمة الحديث على صحتها و يعمل باجتهاده الذي يخطئ و يصيب بخلاف مضمونها تعويلا على البراءة أو غير ذلك من الظنيات، مع أن الظن الحاصل من تلك الأحاديث، لا يقصر عن الظن الذي اعتبره من أي الثلاثة هو، إذ لا رابع لهم. و عن محمد بن هارون الجلاب قال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: «إذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتى يعرف ذلك منه». و عن أبي جعفر (ع) قال: «من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار ان الرئاسة لا تصلح الا لأهلها». و عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه (ع): اياك و الرئاسة و إيّاك أن تطأ أعقاب الرجال، قال قلت: جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها؛ و أما أن أطأ أعقاب الرجال فما نلت ما فى يدي الا ما وطئت أعقاب الرجال، فقال لي: ليس حيث تذهب، اياك ان تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال. و عن علي بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: «اعرفوا منازل الناس منا على قدر رواياتهم عنا»ـ
[ 212 ]
و عن أبي عبد اللّه (ع) قال: كان أمير المؤمنين– ع– «يقول: يا طالب العلم إن للعالم ثلاث علامات؛ العلم و الحلم و الصمت. و للمتكلف ثلاث علامات؛ ينازع من فوقه بالمعصية و يظلم من دونه بالغلبة و يظاهر الظلمة». و عن ابي عبد اللّه (ع) قال رسول اللّه– ص-: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا فى الدنيا، قيل: يا رسول و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم» انتهى ما نقلته من «الكافي». و روى أيمة الحديث الثلاثة (قدس اللّه أرواحهم)، عن ابي عبد اللّه (ع): فى رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما فى حكم وقع فيه خلاف فرضيا بالعدلين؛ و اختلف العدلان بينهما عن قول ايهما يمضي الحكم؟ قال: «ينظر الى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و اورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت الى الآخر»، و عن ابي خديجة قال: بعثني ابو عبد اللّه (ع) الى اصحابنا فقال: قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة او تدارى بينكم في شيء من الأخذ و العطاء، ان تحاكموا إلى احد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا منكم ممن عرف حلالنا و حرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضيا، و إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر». و عن ابي خديجة قال: قال لي ابو عبد اللّه (ع)؛ إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى اهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حاكما فاني قد جعلته عليكم حاكما فتحاكموا إليه» انتهى. اقول: من غفلات المتأخرين انهم حملوا الرجل المذكور في هذه
[ 213 ]
الأحاديث على «المجتهد» باصطلاحهم، و كيف يصح ما يزعمونه و الخطاب فيها أصالة لأصحاب الأيمة (ع)، و هم كانوا ينكرون هذا الاجتهاد حتى أنهم ألفوا في إبطاله الكتب، و ممن ألف في إبطاله أبو اسحاق بن نوبخت [1]، بل الحق أن المراد به؛ من روى أحاديثهم و عمل بها؛ كما أمروا به (ع) و يدل على ذلك ما رواه الصدوق في كتاب «إكمال الدين و إتمام النعمة» قال؛ حدثنا محمد بن محمد بن عصام (ره) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني– ره– عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (ره) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد في التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (ع): أما ما سألت عنه أرشدك اللّه؛ ثم ساق الحديث إلى قوله– ع-: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه عليهم». و في «محاسن البرقي» قال الشيخ (ع) [2]: خذوا الحق من أهل الباطل و لا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقّاد الكلام فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب اللّه، كما زخرف الدرهم من نقاش بالفضة [3] المموهة، النظر الى ذلك سراء و البصر به ضراء». و فيه أيضا قال رسول اللّه (ص): «إذا ظهرت البدعة في امتي فليظهر العالم علمه فان لم يفعل فعليه لعنة اللّه». و في «نهج البلاغة» من جملة العهد الذي كتبه (ع) للأشتر (ره) لما ولاه مصر قال (ع): «ثم اختر الحكم بين الناس افضل رعيتك في
ـ[1]- فى (ه) أبو اسحاق نوبخت. [2]- هو الكاظم (ع)- ر-. [3]- في (ه) من نقاش الفضة
[ 214 ]
نفسك ممن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادى في الزلة و لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه و لا تشرف نفسه على طمع و لا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاء، و اوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج و اقلهم تبرما بمراجعة الخصم و اصبرهم على تكشف الأمور، و اصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه اطراء، و لا يستميله إغراء، و اولئك قليل» انتهى. و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و ما ذكرناه كاف. و اعلم: ان من صرف عمره على تحصيل غير العلوم الشرعية؛ ندم حيث لا ينفعه الندم، و مما عذب اللّه اهل الجدل و المماراة و التفاخر بالعلوم الفلسفية، ان احدهم اذا مهر فيها غلب عليه حب الرئاسة و نخوة الداعية؛ فسلط اللّه عليه من لا يصلح ان يكون من اتباعه ممن يظهر الصلاح و التقوى فعارضه و ناقضه و اقبل على العبادة و ملازمة المساجد و التدريس و الوعظ و اظهار الزهد فمالت إليه القلوب و انقادت له العوام و عظمته الملوك و الحكام، فلا يزال ذلك الفيلسوف يتجرع الغصة طول عمره و ان ساعدته الدنيا ففي آخر العمر حيث لا يلتذ بها بل يكون عليه وبالا و حسرة، إذ نالها حين لا يقدر على قضاء أوطاره و لذاته. و مما انعم اللّه به على طالب علم الدين العامل به؛ ان يكون معظما مكرما فان كان علمه للّه سبحانه، فانه بسعادة الدارين، و ان كان للدنيا نال مراده منها ببركة علم الدين، و ربما ادركته العناية الالهية فأخلص للّه و نال سعادة الآخرة أيضا. و هذا امر مشاهد لا ينكر و لا يجحد، فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ
[ 215 ]
ـ(الفصل السادس) في ذم كل طريق يؤدي إلى اختلاف الفتاوى لغير ضرورة التقية، و ذم من يعتمد على رأيه و ظنه في نفس أحكامه تعالى، و يحمل متشابهات الكتاب و ظواهره على ما يقتضيه رأيه، و يطرح الأحاديث لذلك. فمن ذلك ما في «نهج البلاغة» من كلام له (عليه السلام) فى ذم اختلاف العلماء في الفتيا: (ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه؛ ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، و إلههم واحد و نبيهم واحد و كتابهم واحد، أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؛ أم نهاهم عنه فعصوه؛ أم انزل اللّه سبحانه دينا تاما فقصر الرسول (ص) عن تبليغه و أدائه و اللّه سبحانه يقول: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْءٍ [1]» فيه تبيان لكل شيء و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا و أنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلٰافاً كَثِيراً» [2]. و في «نهج البلاغة» أيضا من جملة كلام له (ع) يذم فيه من يعمل برأيه و يحمل الكتاب على أهوائه و يعرض عما ورد عنهم (ع) يقول فيه (و آخر قد تسمى عالما و ليس به، فاقتبس جهائل من جهال، و أضاليل من ضلال و نصب للناس اشراكا من حبائل غرور، و قول زور، قد حمل الكتاب
ـ[1]- سورة الانعام آية/ 38. [2]- سورة النساء آية/ 82
[ 216 ]
على آرائه، و عطف الحق على اهوائه، يؤمن الناس من العظائم و يهوّن كبير الجرائم يقول: اقف عند الشبهات؛ و فيها وقع، و يقول: اعتزل البدع و بينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان و القلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، و لا باب العمى فيصد عنه، و ذلك ميت الأحياء، فأين تذهبون و انى تؤفكون و الأعلام قائمة و الآيات واضحة، و المنار منصوبة، فأين يتاه بكم، و كيف تعمهون، و بينكم عترة نبيكم؛ و هم ازمة الحق، و اعلام الدين و السنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود إليهم العطاش. ايها الناس خذوها عن خاتم النبيين– ص– «إنه يموت من مات منا؛ و ليس بميت و يبلى من بلي منا؛ و ليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون، فان اكثر الحق فيما تنكرون». و من كلام له (ع) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة، و ليس لذلك بأهل: (إن أبغض الخلائق إلى اللّه تعالى رجلان؛ رجل وكله اللّه الى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة؛ فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. و رجل قمش جهلا موضع في جهال الأمة عاد في أغباش الفتنة عم بما فى عقد الهدنة، قد سماه اشباه الناس عالما و ليس به، بكر فاستكثر من جمع، ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماء آجن و اكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا، لتخليص ما التبس على غيره. فان نزلت به احدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري اصاب أم
[ 217 ]
أخطأ فان أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع يذري الروايات اذراء الريح الهشيم لا ملئ– و اللّه– باصدار ما ورد عليه و لا هو أهل لما فوض إليه لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهبا لغيره؛ و إن أظلم عليه أمر أكتم به لما يعلم به من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء و تعج منه المواريث. إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهالا و يموتون ضلالا، ليس فيهم سلعة ابور من الكتاب اذا تلي حق تلاوته، و لا سلعة انفق بيعا و لا اغلى ثمنا من الكتاب اذا حرف عن مواضعه و لا عندهم انكر من المعروف و لا اعرف من المنكر). و من خطبة له (ع): (و ما كل ذي قلب بلبيب، و لا كل ذي سمع بسميع، و لا كل ذي ناظر ببصير، فيا عجبا؛ و ما لي لا اعجب من خطأ هذه الفرقة على اختلاف حججها في دينها، و لا يقصون اثر نبي و لا يقتدون بعمل وصي، و لا يؤمنون بغيب، و لا يعضون عن عيب. يعملون في الشبهات، و يسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما انكروا، مفزعهم فى المعضلات إلى انفسهم و تعويلهم فى المبهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه؛ قد اخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و اسباب محكمات). و من جملة عهده (ع) للأشتر (ره): «دع القول فيما لا تعرف، و الخطاب فيما لا تكلف و امسك عن طريق اذا خفت ضلالة، فان الكف عند الحيرة و الضلالة؛ خير من ركوب الأهوال». «و في الكافي»- في البدع و الرأي و المقاييس– عن امير المؤمنين (ع)ـ
[ 218 ]
قال: (إن من ابغض الخلق إلى اللّه عز و جل لرجلين: رجل وكله اللّه الى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم و الصلاة فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد موته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. و رجل قمش جهلا في جهال الناس عان بأغباش الفتنة قد سماه اشباه الناس عالما، و لم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، و اكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا، لتخليص ما التبس على غيره، و ان خالف قاضيا سبقه، لم يأمن ان ينقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله و ان نزلت به احدى المبهمات المعضلات؛ هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات فى مثل غزل العنكبوت، لا يدري اصاب أم اخطأ، لا يحسب العلم فى شيء مما انكره، و لا يرى ان وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره، و ان اظلم عليه امر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له لا يعلم، ثم جسر فقضى فهو مفتاح عشوات ركاب شبهات خباط جهالات لا يعتذر [مما] لا يعلم فيسلم و لا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث و تصرخ منه الدماء يستحل بقضائه الفرج الحرام، و يحرم بقضائه الفرج الحلال لا ملئ باصدار ما عليه ورد، و لا هو اهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق) انتهى. و الأخبار الواردة في هذا المعنى كثيرة و هي صريحة في بطلان كل اجتهاد يسند الى العقل دون النص في المنع [1] من كل طريق يؤدي الى
ـ[1]- فى (ه) كما يلي: (كل اجتهاد استند الى العقل دون النص و في المنع من كل …)ـ
[ 219 ]
الاختلاف في الفتاوى، و من العمل بظواهر الكتاب المظنونة الدلالة و حملها على الآراء و الأهواء [1]، و في انه لا يجوز العمل بشيء من امور الدين الا بما ورد عن أئمة الهدى (ع) و اللّه الهادي. (الفصل السابع) في سبب دخول الشبهة على المتأخرين، حتى غفلوا فعملوا ببعض اصول العامة و اعتقدوها ادلة شرعية. اعلم: انه تمادى الزمان و لم يأت بعد الشيخين و السيد المرتضى و من يقاربهم الفضل و العلم الى اواخر الستمائة من الهجرة، و لم يكن للامامية في اكثر تلك المدة دولة لانقراض دولة آل بويه و آل حمدان و غيرهم من الشيعة. الى ان تخلف الناصر العباسي؛ و كان يميل الى التشيع، فظهر فى ذلك الزمان جماعة من الامامية (يقاربون القدماء فى الفضل و العلم، و كانت بغداد مجمع الفضلاء و الدولة للعامة) [2] و المدارس لهم، و المدرسون منهم، و الكتب المتداولة فى العلوم من تصانيفهم. فلم يكن بد لاصحابنا من مخالطتهم و مداراتهم و قراءة كتبهم و تدريسها خصوصا «كتب الكلام و اصول الفقه»؛ فمالت طباعهم الى ما فيها من الدقة، و رأوا من تقدم من الامامية؛ كالشيخين و السيد المرتضى سلكوا فى الاستدلال على بعض المسائل الشرعية مسلك العامة بحسب الظاهر، للمماشاة معهم و الالزام لهم بما يعتقدون صحته لا لكونه صحيحا عندهم، و لكن من باب
ـ[1]- «و الاهواء» لا توجد في (ه). [2]- ما بين القوسين عن (ه) فقط. و به يستقيم الكلام ر
[ 220 ]
الجدل و دفع الباطل بالباطل للضرورة، فغفلوا عن مقاصد القدماء و اعجبهم هذا الطريق لما رأوا فيه من الدقة و الوجوه الغريبة، فتوهموا صحته و عملوا به لا عن عمد بل لغفلة و شبهة دخلت عليهم بسبب الألفة بكتب العامة و مدارستها كما تراه فى زماننا من اكباب أكثر الطلبة على دراسة «شرح العضدي» لدقة مباحثه، و إعراضهم عما سواه من كتب الأصول حتى لا يعدون من لا يقرأه أصوليا و اشتغالهم «بالحاشية القديمة، و الشفاء و الاشارات» حتى لا يعدون من لا يحصّل ذلك عالما؛ مع ما تشتمل عليه هذه الكتب من مخالفة «الشرائع» في كثير من المسائل، و كون أكثر ما فيها دعاوى محضة و شبه، أوجب رسوخها في قلوب أهلها عدم التأمل لكلام الأنبياء و الأيمة (ع) حتى أولوا كثيرا من النقل على ما يوافق قواعدهم لغير ضرورة تدعو إليه. و لمّا وصلت النوبة إلى شيخنا العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهر الحلي (ره) و انتهت إليه رئاسة الشيعة في زمانه؛ و كان واسع العلم ذكي الطبع كثير البحث مع العامة، ملازما للنظر في كتبهم و الرد عليهم فى «الأصول و الفروع» محبا للتصانيف راغبا في التفنن فيها. و راى كتب من تقدمه من الامامية مشتملة على الأدلة العقلية و القواعد الأصولية في فروع الشريعة، اما لا لزام الخصم كما فعله الشيخان و المرتضى، أو من باب الغفلة كما فعله غيرهم، فأحسن الظن بهم و مال إلى ذلك الطريق لا عن عمد بل عن غفلة اوجبها كثرة ممارسة كتب العامة و البحث معهم. و ميل الطباع إلى ما يدرك بالعقل، اكثر مما يؤخذ من باب التسليم، فأكثر من تأليف الكتب على ذلك النمط، و بسط الكلام في ذكر المسائل
[ 221 ]
النادرة الغربية، و العلل المستنبطة، و الأنظار العقلية. و حيث كانت كثيرة الاختلاف؛ كثرت لذلك الترددات و الاشكالات في مؤلفاته و خاصة في «القواعد» التي هي أدق كتب الفقه، و المشهور أنه لخصها من كتاب «العزيز» للرافعي من علماء الشافعية، و كل من جاء بعد العلامة فهم أتباع له فى هذا الطريق، حيث لم يطلعوا على طريق القدماء كما بيناه سابقا. إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ حسن بن الشهيد الثاني– ره– فاطلع على رسالة المحقق في الأصول و عرف مذهب الشيخ و المتقدمين في الأخبار منها و صوّبه؛ و قال: إنه هو الطريق الذي كان ينبغي حفظه و رعايته، كما نقلناه عنه [1] و تكلم مع والده و غيره من الفقهاء في كثير من المسائل التي ضيقوا الأمر فيها، و مال إلى ترجيح أخبار «من لا يحضره الفقيه» و العمل بها في كثير من المواضع، و إن لم تصل إلى حد الصحة عند المتأخرين، اعتمادا على ما ذكره الصدوق في أوله، و لم يخرج عن الحديث إلا نادرا، و لكن لم يجسر على إظهار المخالفة. و كذلك السيد محمد بن أبي الحسن صرح في أول «المدارك» بأن الاجماع الذي يدعيه المتأخرون فى كثير من المسائل ليس حجة لأنه مجرد دعوى و قد نقلنا كلامه فيما تقدم. و كذلك الشيخ بهاء الدين العاملي الذي هو أفضل المتأخرين و أعرفهم بالحديث؛ رد اعتراضات الشهيد الثاني على الشيخ و من تأخر عنه في العمل بأخبار الضعفاء و قد تقدم ذلك كله. ثم جاء بعد هؤلاء جماعة من الفضلاء نحو؛ مولانا محمد أمين الأسترآبادي
ـ[1]- في (ه) كما نقله عنه
[ 222 ]
نزيل مكة المعظمة، و الشيخ زين الدين حفيد الشهيد الثاني، و مولانا خليل القزويني، و إمام أهل العربية في زمانه الشيخ محمد الحرفوشي العاملي، و الشيخ حسين بن الظهير العاملي، و الشيخ محمد بن جابر النجفي و غيرهم، فصرحوا بما لوح إليه غيرهم، و لم تأخذهم فى اللّه لومة لائم؛ لأنهم عرفوا الحق فلم يسعهم إلا القبول و التسليم (وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا [1]، لكن بعض هؤلاء بالغ في الانكار على المتأخرين، و منع إطلاق لفظ «الاجتهاد» على طريق القدماء و لو باصطلاح حادث، و لو جادل بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، و دفع الشبهة بما لا يوجب عناد الخصم؛ لكان ادعى لقبول الحق منه، مع أنه اعترف بأن ما صدر عن المتأخرين من مخالفة القدماء كان عن غفلة، و الغافل لا يلام إلا إذا نبه فلم يقبل الحق بعد ظهوره له. على أن الموجب للاختلاف بين الفريقين أمور لا تأبى الطباع السليمة قبول ما وافق الحق منها. و العلامة (ره) و أتباعه ليسوا مؤاخذين بهذه الغفلة؛ بل لهم أجر السعي في حفظ تصانيف القدماء و أقوالهم، و كتب الحديث و آثار الأيمة (ع) حتى وصلت إلينا، و كل ما عرفناه من الحق؛ فمن بركات الأيمة (ع)، و الأمانة التي حفظها المتأخرون و من تقدمهم، و تناقلوها حتى أدوها إلينا فجزاهم اللّه عنا خير الجزاء و حشرنا و إياهم في زمرة الأيمة الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين)ـ
ـ[1]- سورة العنكبوت. آية/ 69
[ 223 ]
ـ(الباب السادس) (فى الاحتياط) و هو العمل بما يتقين معه براءة الذمة عند عدم وضوح الحكم الشرعي، و اختلف في وجوبه و عدمه. فقال قوم: يجب مطلقا. و قال قوم: لا يجب مطلقا. و فصّل آخرون فقالوا: إذا علم اشتغال الذمة بشيء و لم يعلم بعينه وجب؛ و إلا فلا، و يعلم من المحقق الميل إليه. و اعلم: أن الحيرة إن كانت في نفس حكم من أحكامه تعالى إثباتا أو نفيا لعدم النص الواضح فيه بخصوصه. أو لوجوده مع اختلافه و عدم الرجحان، فيجب التوقف عن القطع بتعيين الحكم، إذ ليس لأحد أن يحلل و لا يحرم غير اللّه سبحانه و رسوله (ص) بأمره و وحيه؛ كما إذا تحيرنا فى وجوب فعل شرعي [1] و عدم وجوبه؛ كوجوب التسليم و استحبابه– مثلا– و لم يتعين حكمه عندنا بخصوصه، فنفعله احتياطا لأن براءة الذمة لا تحصل يقينا إلا بذلك و لا يقطع بأحدهما لعدم العلم به. و إن كانت الحيرة في حال حكم من أحكامه تعالى مما يتعلق بأفعالنا فيجب فيه الاجتهاد في تحصيل ما تبرأ به الذمة، فان أمكن تحصيل القطع به وجب؛ و إلا كفى الظن، و ذلك نحو؛ إضرار الصوم بالمريض، و كون القبلة في جهة معينة، و قيم المتلفات، و أروش الجنايات، و غير ذلك مما
ـ[1]- في (ه) حكم شرعي
[ 224 ]
يتعلق بأفعالنا من أحوال الأحكام و صفاتها فان حصل علم أو ظن عمل به، و إلا احتاط، فيصوم المريض– مثلا– إذا لم يشعر بضرر الصوم، و لم يجبره به الطبيب الحاذق، و يصلي المتحير إلى أربع جهات إذا لم يغلب على ظنه ترجيح أحدها، إذا تقرر هذا؛ فاعلم: أن وجوب الاحتياط يطابق عليه العقل و النقل. أما العقل فلدفع الضرر المتوقع من تركه. و أما النقل فما أجمع عليه العامة و الخاصة على نقله من قوله (ص) «دع ما يريبك». و قوله (ص) «إنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، و أمر بيّن غيه فيجتنب، و شبهات بين ذلك، و الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، و من ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم». و في كتاب الحج من «الكافي» عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن (ع) عن رجلين أصابا صيدا و هما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال: لا؛ بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه. قال: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط، حتى تسألوا عنه فتعملوا انتهى. و هذه الرواية صحيحة عند المتأخرين أيضا فتكون حجة في هذا الباب إجماعا. و روى الشيخ في «التهذيب» عن خراش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه (ع) قال: قلت جعلت فداك، إن هؤلاء المخالفين علينا؛ يقولون إذا أطبقت السماء أو أظلمت فلم تعرف السماء؛ كنا و أنتم سواء في
[ 225 ]
الاجتهاد فقال: «ليس كما تقولون إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه» [1]. قال بعض المتأخرين: هذه الرواية متروكة من حيث تضمنها سقوط الاجتهاد بالكلية. أقول: الحق أنها تدل على سقوط الاجتهاد في استنباط أحكامه تعالى و اخذها من غير النص، و تدل على تعليم الاحتياط للجاهل بحكمه سبحانه فى مسألة [2]، بأنه لا يحتاج أن يجتهد بل يعمل بما تبرأ به ذمته بيقين؛ و هو الصلاة إلى الأربع جهات، و كذلك في كل ما لم يكن حال الحكم الشرعي فيه بيّنا واضحا. و في «التهذيب» أيضا عن عبد اللّه بن ضاح [3] قال: كتبت إلى العبد الصالح (ع) [4] يتوارى القرص و يقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا و يستتر عنا الشمس و يرتفع فوق الجبل حمرة، و يؤذن عندنا المؤذن، فأصلي حينئذ و أفطر– إن كنت صائما– أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، و تأخذ بالحائطة لدينك». و هذه الرواية تدل على أن الظان و المتردد فيما يمكن فيه تحصيل العلم ينبغي لهما التوقف احتياطا حتى يحصل. و يدل عليه أيضا حصر الأمور فى الحديث الشريف في ثلاثة: أمر بيّن رشده، و أمر بيّن غيه
ـ[1]- فى (ه) كما بلي: (و روى الشيخ فى «التهذيب» عن خراش عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه– ع– قال: قلت جعلت فداك، ان هؤلاء المخالفين يقولون: اذا أطبقت و أظلمت فلم تعرف السماء؛ كنا و أنتم سواء في الاجتهاد، فقال: ليس كما يقولون اذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه). [2]- فى (ه) في مسألة الاطباق. [3]- فى (ه) عبد اللّه بن وضاح. [4]- هو الكاظم (ع) (ر)ـ
[ 226 ]
و شبهات بين ذلك؛ يجب الوقوف عندها، و لا شك أن المظنون و المشكوك فيه غير بيّن. و يستفاد من كلامهم (ع) أن الجاهل يطلق على الظان و المتردد، و على الغافل و الذاهل عن الحكم و الاحتياط يجب على الاول دون الثاني. و مما يدل على ذلك ما في «الكافي» عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (ع) قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أ هي ممن لا تحل أبدا؟ فقال: لا؛ اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تقضي عدتها، و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت: بأي الجهالتين أعذر؛ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه، أم بجهالته أنها في عدة؟ قال: إحدى الجهالتين أهون من الاخرى، الجهالة بأن اللّه تعالى حرم عليه ذلك، و ذلك لانه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت: فهو فى الاخرى معذور؟ قال: نعم؛ إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها. فقلت: و إن كان أحدهما متعمدا و الآخر بجهالة؟ فقال: الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبدا. انتهى. و إنما قلنا أن المراد بالجاهل– في هذه الرواية الشريفة– الغافل، لا الظان [و المتردد]؛ لأنهما يقدران على الاحتياط دون الغافل. و اعلم: أن الاحتياط في أحكامه تعالى بما تحصل به براءة الذمة بيقين يكون بحسب البضاعة في علم الفقه و الحديث و معرفة العادات [1]. فيجب على المتحير الرجوع إلى من هو أعلم منه إن أمكن، لان الاحتياط يكون بحسب الامكان، و مع العجز عن المراجعة و الغفلة عن ذلك، فهو موكول إلى ما يخطر بباله دفعا للحرج، و رحمة من اللّه سبحانه لعباده
ـ[1]- فى (ه) العبادات
[ 227 ]
و في الحديث إشارة إلى ذلك مثل؛ ظن ضرر الصوم بالمريض الموجب لجواز الافطار، فانه تارة يكفي فيه ظن صاحب المرض لما يجده من نفسه فهو موكول في ذلك إلى نفسه، و تارة يرجع إلى ظن الطبيب إذا لم يدرك المريض ذلك. و من هذا القبيل حفظ الامانات، فانه يختلف باختلاف الاحوال و الامكنة، و العادات و التجارات، فيجب الرجوع فيه إلى أهل الخبرة مع الامكان، و الا فهو موكول إلى ما يخطر بباله من وجوه الحفظ بحسب مقدوره، و كثير ما يجب ضمان الامانة التالفة مع عدم الاثم لعدم معرفة الامين بوجوه الحفظ و الاحتياط فيه. و كلما يجب علينا اجتنابه احتياطا لا يجب علينا النهي عنه و لا الانكار على فاعله؛ لان العالم إنما يجب عليه تبليغ ما علمه، لا ما تردد فيه، و انكار المنكر انما يجب مع العلم بكونه منكرا لا مع الشك فيه، و ربما كان فاعله غافلا عن كونه بشبهة، أو عالما بجوازه دوننا. نعم يجب علينا سؤاله إذا ظننا أن عنده منه علما يزيل عنا الشبهة؛ كأن يكون الفاعل من أهل العلم و التقوى و لنذكر أمثلة يظهر منها طريق الاحتياط و العمل به؛ و ذلك فى اثنتي عشرة مسألة تبركا بهذا العدد فنقول: (المسألة الأولى): ما قولكم في حيوان لم نعلم حكم اللّه تعالى فيه، و لم يظهر عليه دلائل الحل و لا الحرمة؟ «الجواب» التوقف عن الحكم بحله و حرمته، و اجتناب أكله احتياطا و عدم وجوب الانكار على آكله. (المسألة الثانية) ما قولكم فيمن شك في حرمة عبادة و وجوبها عليه؛ كفاقد الطهورين في وقت الفريضة مثلا؟ـ
[ 228 ]
ـ«الجواب» ترك فعلها و الاتيان بها قضاء إذا زال العذر مع خروج وقتها. (المسألة الثالثة) ما قولكم فيمن خرج منه رطوبة لا يدري مني أم بول مع علمه بأنها أحدهما و لم يجد فقيها يسأله عن ذلك؟ «الجواب» تجب عليه الطهارتان احتياطا. (المسألة الرابعة) ما قولكم في فاقد الماء إذا وجده و قد بقي من الوقت ما يسع التيمم و ركعة، و كان إذا توضأ فاته وقت الركعة فما يصنع؟. «الجواب» يقطع بأن وجود الماء في هذه الصورة كعدمه؛ لفوات وقت الصلاة بالوضوء، فيوجب عليه التيمم و الصلاة ثم الوضوء و القضاء. (المسألة الخامسة) ما قولكم في الأماكن التي يعلم حكم اللّه تعالى فيها بوجوب الفعل، و يجهل الكيفية؛ كالصلاة– مثلا– إذا لم يتعين القصر فيها و الاتمام للشك في بلوغ المسافة و عدمه و تعذر الاعتبار؟. «الجواب» التوقف عن الحكم بأحد الأمرين مع وجوب الجمع بينهما. (المسألة السادسة) ما قولكم في الصلاة في الحرير المنسوج بالفضة، هل تجوز أم لا؟. «الجواب» المفهوم من النص حرمة الصلاة في الحرير المحض، و جوازها فيه إذا خالطه؛ نحو القطن و الصوف و الكتان، و أما غيره كالخيوط المصنوعة من الفضة، أو خيوط الحرير الملبّسة بها، فلا نص فيها بخصوصه و ليس داخلا تحت قاعدة كليّة وردت عنهم– ع– فالأحوط التوقف و مصادقة الترك
[ 229 ]
ـ(المسألة السابعة) ما قولكم فيمن احتلم فى أحد المسجدين و أمكنه الغسل من دون إزالة النجاسة في المسجد، و عدم زيادة زمانه على زمان التيمم؛ كأن ينتبه من النوم فيجد نفسه في وسط السبيل– مثلا–، هل يتعين عليه الغسل لامكانه و ارتفاع الحدث به و كون الأمر بالتيمم إنما ورد بناء على ما هو الظاهر من تعذر الغسل أم لا بدّ من التيمم وقوفا مع ظاهر النص؟. «الجواب» الجمع بين الغسل و التيمم احتياطا و إعادة الغسل بعد خروجه من المسجد إذ لا تحصل براءة الذمة يقينا إلا بذلك. (المسألة الثامنة) ما قولكم فيمن توضأ و غسل رجليه للتقية و صلى ثم زالت التقية و حضر وقت صلاة أخرى هل يكتفي بتلك الطهارة أو يستأنف الوضوء؟. «الجواب» الأحوط استيناف الوضوء. (المسألة التاسعة) ما قولكم لو ولغ الكلب فى الاناء، و لم يوجد التراب لتعفيره هل يكفي ما يقوم مقامه؛ كالأشنان و غيره؟ «الجواب» الأحوط اجتنابه حتى يحصل التراب فيعفر و يطهر. (المسألة العاشرة) ما قولكم في كتابه [1] القرآن للمحدث فان المشهور بين الفقهاء تحريم مسه، و لم يذكروا حكم الكتابة فى هذه الكتب المتداولة؟. «الجواب» يجب الاحتراز عن كتابته لغير المتطهر من باب الأولى مع أنه ورد حديث في النهي عن كتابته لغير المتطهر، و لو لم يرد لكان الاحتياط يقتضي ذلك
ـ[1]- فى (ه) ما قولكم فى مس كتابة القرآن
[ 230 ]
ـ(المسألة الحادية عشرة): ما قولكم في العقود المحتملة للصحة و البطلان و العمل بها، إذا وقعت و لا ترجيح لاحدهما؟. «الجواب» التوقف؛ فان كان الواقع عقد نكاح– مثلا– فتوجب على الزوج احتياطا ترك الاستمتاع بها و ترك التزوج بخامسة، و على الزوجة عدم التمكين و عدم التزوج بغيره و تلزم الزوج [1] بالطلاق أو تجديد العقد أو الانفاق عليها دائما إن رضيت به فقط، و لو امتنع الزوج من قبول أحد هذه الأمور مع طلب الزوجة لذلك؛ أجبر عليه و حبس من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ حتى يفعله، فان هرب جاز للحاكم طلاقها من باب الحسبة، عملا بقوله (عليه السلام): «لا ضرر و لا إضرار»، و بالحديث المتضمن لجواز أن يطلق الحاكم زوجة المفقود خبره؛ بعد الاستخبار عنه لأن حكمه هنا جار بطريق أولى عملا بمفهوم الموافقة، و هو حجة لأنه قطعي الدلالة. و إن كان الواقع بيع بستان– مثلا–، و وقع الشك فى صحة البيع و بطلانه، فيمنع البائع و المشتري من التصرف فيه، و يقوم بضبطه و اصلاحه غيره من باب الحسبة حتى يظهر الأمر، و لو طلب أحدهما الاقالة أو تجديد الصيغة وجب على الآخر القبول، فان أبى أجبر، فان هرب فعل الحاكم ذلك. (المسألة الثانية عشرة) ما قولكم في ماء وردت عليه نجاسة و شك فى بلوغه الكر، و تعذر الاعتبار و انحصر الماء فيه؟. «الجواب» يجب اجتنابه و التيمم، فان قلت: هذا ينافي الحديث المشهور «إن كل شيء طاهر حتى تستيقن أنه قذر»ـ
ـ[1]- فى (ه) و يلزم الزوج
[ 231 ]
قلت: لا منافاة؛ و ذلك لأن المفهوم من الأحاديث الواردة في الكر؛ تعليق الحكم بنجاسة الماء بملاقاة النجس على العلم بعدم بلوغه كرا؛ و تعليق الحكم بعدم انفعاله على العلم ببلوغه كرا و مقتضى التعليقين و الروايات الواردة في وجوب التوقف في كل ما لم يعلم حكمه بعينه؛ و وجوب التوقف عن الحكم بالطهارة و النجاسة، و يلزم ذلك الاجتناب عنه و الاكتفاء بالتيمم لعدم وجود الماء المتيقن الطهارة، و التمسك بالحديث المشهور؛ إنما يصح إذا لم تعلم طرو تلك الحالة. و ذلك أن هنا أقساما ثلاثة: معلوم الطهارة، و معلوم النجاسة، و مشكوك فيه. و حكم الملاقي لكل واحد حكمه، و لما كان حكم هذا الماء و الاشتباه للشك [1] في طهارته؛ وجب الاحتياط بالاحتراز عنه و التيمم و اللّه أعلم
ـ[1]- فى (ه) و لما كان هذا الماء لاشتباه الشك فى طهارته
[ 232 ]
ـ(الباب السابع) (فى الكلام على علم الأصول) قد عرفت مما تقدم أن أصحاب الأيمة (ع) و من تبعهم لم يكونوا يأخذون أصول دينهم و فروعه إلا عنهم (عليهم السلام)، (و كانوا يتلقون الأصول– ع-) [1] بطريق يوجب لهم القطع بها إما من اقترانها بالمنبهات على ضرورياتها، و الأدلة القاطعة على نظرياتها أو من اشراق الأنوار الالهية على قلوبهم بسبب إخلاصهم فى طلب الحق بحيث تندفع عنهم ظلم الشكوك و الشبهات و نظير النظريات ضرورية لهم ببركة الايمة (ع) و التسليم لهم. و من تتبع كلامهم (ع) خصوصا «نهج البلاغة» و «أصول الكافى» و «كتاب التوحيد– للصدوق»، و أخلص النية في التوسل بهم؛ لادراك الهداية و طلب الحق للحق كما هو الحق؛ أدرك من ذلك ما يظهر له صدق ما قلناه، و انطبع في مرأة عقله، و انتقش في لوح بصيرته من المعارف الالهية ما لا يكدره الخواطر الوهمية و لا تمحوه الشبهة الخالية (وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ) [2]. و أما الفروع فكانوا يأخذونها عنهم (ع) على طريق التسليم، و ربما سألوهم عن وجه الحكمة فيها فبينوه لمن له اهلية ذلك، و منعوا من عرفوا منه التعنت أو الشك أو عدم الفهم لانهم خاطبوا كلا بما يليق بحاله
ـ[1]- ما بين القوسين لا يوجد فى (ه). [2]- سورة النور. آية/ 40
[ 233 ]
و يحتمله عقله، و كانوا ينهون أصحابهم عامة عن العمل «بالرأي و القياس و الاجتهاد» فيما ليس فيه نص، و يأمرونهم بالوقوف عند ما لا يعلمون حكمه و الرد إليهم و سؤالهم عنه. إلى أن وقعت «الغيبة الصغرى» فأمرهم صاحب الأمر (عليه السلام) بالرجوع إلى رواة أحاديثهم، و أخذ الأحكام عنهم كما نطق به «التوقيع الأشرف» الذي تقدم ذكره، و لم يكن للشيعة في «أصول الفقه» تأليف لعدم احتياجهم إليه؛ لوجود كل ما لا بدّ لهم منه من ضروريات الدين و نظرياته في «الأصول» المنقولة عن أيمة الهدى (ع). إلى أن جاء ابن الجنيد فنظر فى «أصول العامة و فروعهم» و ألّف الكتب على ذلك المنوال حتى أنه عمل «بالقياس» فلذلك أعرض القدماء عن كتبه. و لما وصلت النوبة إلى الشيخ المفيد و السيد المرتضى و الشيخ، و أكثروا البحث مع العامة و استدلوا على إثبات بعض «أصول المذهب و فروعه» بالأدلة العقلية الجدليّة الموافقة لطريق العامة؛ لان مرادهم إبطال الباطل و إحقاق الحق بما يعترف به الخصم و إن كان في نفسه باطلا فمهما ظننت فلا تظن بقدمائنا أنهم خرجوا عن طريق أصحاب الأيمة، أو تركوا الحديث و عملوا بغيره. فان قلت: إن كثيرا من فتاوى الشيخين و المرتضى لا يوافق الحديث فلا بد أن يكون عملهم فيها «بالاجتهاد». قلت: الأحاديث التي كانت عندهم لم تصل إلينا كلها، فربما اطلعوا على ما لم يطلع عليه فعملوا به مع أن ما ليس له مأخذ من أحاديثنا الموجودة في فتاوى المفيد و المرتضى؛ لا يكاد يوجد، و أما الشيخ فقد نص في أواخر
[ 234 ]
ـ«الاستبصار» على أن كل ما في «النهاية» مأخوذ من الحديث، و أما «المبسوط» فحيث أنه لخصه من كتب العامة و رجّح ما اختاره من فتاواهم، فربما أرجع بعض الفروع الغريبة فيه إلى الكتاب و السنة على وجه بعيد فيظن أنه عمل فيه «بالاجتهاد» لا بالنص؛ و ليس كذلك فانه لم يخرج عن طريق القدماء؛ لكن لكثرة ارتكابه للوجوه البعيدة المتكلفة؛ ظن المتأخرون أنه منهم و ليس كذلك؛ بل كان قصده دفع تشنيع المخالفين بكل ما يمكنه، و المعصوم من عصمه اللّه، إذا عرفت هذا: فاعلم أن «علم الاصول» ملفق من علوم عدة، و مسائل متفرقة بعضها حق و بعضها باطل وضعه العامة لقلة السنن الدالة على الاحكام عندهم، و بنوا عليه استنباط المسائل الشرعية النظرية، و لم يقع في علم من العلوم ما وقع فيه من الخبط و الخلاف، الذي أكثره أشبه شيء بالهذيان، يعلم ذلك من تتبع أقوال قدماء «الاصوليين» و نحن نذكر مقاصده و ما فيها من الاختلاف، مجردا عن الادلة إلا نادرا ليظهر لك أن اختلاف هؤلاء مع قوة أفهامهم يقتضي عدم الاعتماد في أمور الدين إلا على ما ورد عن الايمة الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، و قد رتبت هذا الباب على سبعة فصول: (الفصل الأول) فيما يحتاج إلى تقديمه، قبل الشروع فى المقاصد و فيه ثلاثة مباحث: (المبحث الاول) (فى حده) قالوا: الاصول– جمع أصل-: و هو في اللغة ما يبنى عليه الشيء
[ 235 ]
و الفقه: في اللغة الفهم، فى الاصطلاح: العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية فعلا أو قوة قريبة منه. هذا تفسيره من حيث مفرداته. و أما حده من حيث كونه علما فهو: العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية الفرعية، إذا عرفت هذا: فاعلم أن الاصل يطلق في– الاصطلاح– على أربعة معان: (أولها): الدليل، و منه قولهم الاصل في المسألة الكتاب. (و ثانيها) الراجح، و مرادهم– بالرجحان هنا-: الحالة التي إذا خلي الشيء و نفسه، كان عليها، و منه قولهم «الاصل فى الكلام الحقيقة» لانه إذا خلي اللفظ و نفسه بأن لم تكن هناك قرينة صارفة، فان المخاطب يحمله على المعنى الحقيقي، لانه الراجح في هذه الصورة. (و ثالثها) الاستصحاب بمعنى المستصحب– اسم مفعول-: و هو الحالة السابقة؛ و أما معناه المصدري فهو: التمسك بظن بقاء حكم الحالة السابقة في موضع طرأت فيه حالة لم نعلم شموله لها، و منه قولهم «تعارض الاصل و الظاهر» (و رابعها) القاعدة، و منه قولهم «لنا أصل» و هو أن [1] الاصل مقدم على الظاهر، و قولهم «الاصل في البيع اللزوم»، و قولهم «الأصل في تصرفات المسلمين الصحة» أي– القاعدة– التي وضع عليها البيع بالذات اللزوم، و حكم المسلم بالذات صحة تصرفه؛ لان وضع البيع شرعا لنقل مال كل المتبايعين إلى الآخر، و بناء فعل المسلم من حيث هو مسلم على الصحة، إذا عرفت هذا
ـ[1]- في (ه) و منه أن «الاصل مقدم على الظاهر»ـ
[ 236 ]
فنقول، إن الأصل في قولهم «الأصل براءة الذمة» بمعنى الراجح، و كذا في قولهم «الأصل في الماء الطهارة» و يمكن أن يراد به في الحالتين المستصحب، بمعنى الحالة السابقة. و قولهم «الأصل في الممكن العدم» يصح حمله على الحالة الراجحة و على الحالة السابقة. و مثل تعارض الاصل و الظاهر؛ ثوب القصاب و أرض الحمام فان الأصل– أي الحالة السابقة– عدم عروض النجاسة لهما. و الظاهر أي المظنون عروضها، و يمكن حمل الاصل هنا على الحالة الراجحة، و هذه القاعدة موافقة للنص، لكنها إنما تجزي في الوقائع الجزئية؛ لا في نفس أحكامه تعالى لتواتر الاخبار بأن لكل واقعة حكما معينا، يجب طلبه من عند آل محمد (عليهم السلام)، و يتوقف الجاهل به و يحتاط حتى يطلع عليه. و أما قولهم «الاصل في البيع اللزوم» فلا يصح كون– الاصل– فيه بمعنى الحالة الراجحة، إذا خلي و نفسه لثبوت– خيار المجلس– فلذلك حمل على القاعدة. و كثيرا ما يتمسك بها الفقهاء في إثبات صحة بيع مشتمل على شرط اختلف في صحته؛ و هو خطأ لان الاحاديث الشريفة صريحة في بطلانها، حيث أن العقود المشتملة على الشروط و القيود، بعضها صحيح و بعضها فاسد و التمييز بينها منوط بالسماع عنهم (ع) لانهم هم العارفون بما يوافق كتاب اللّه تعالى و ما يخالفه. و أما قولهم «الاصل فى تصرفات المسلم الصحة» فهي قاعدة موافقة لاحاديثهم (ع) في أبواب متفرقة فيجب العمل بها، لكن يفرق بين أخبار المسلم و أفعاله فيتوقف في الاخبار حتى يعلم صدقها بخلاف الافعال و أما قولهم «الاصل فى الاشياء الطهارة» فيصح حمله على الحالة
[ 237 ]
الراجحة شرعا إذا خلي الشيء و نفسه، و يصح كونه بمعنى القاعدة لموافقته [1] لقولهم (ع) «كل شيء طاهر حتى تستيقن أنه قذر». (المبحث الثاني) «الدليل» لغة: المرشد؛ و اصطلاحا: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري، و قيد الامكان ليدخل المغفول عنه؛ فانه دليل و إن لم يخطر بالبال، و الخبري لاخراج الحد و ما يتوصل بالنظر فيه إلى الظن بالمطلوب يسمى– أمارة– و هي في اللغة العلامة. «و النظر»: هو تأمل المعقول لكسب المجهول. «و العلم» يطلق على حصول صورة الشيء عند المدرك، أو نفس الصورة الحاصلة عنده، و يقابله «الجهل» و على الاعتقاد الجازم سواء جوّز العقل نقضيه أم لا، و تخصيصه بما لا يحتمل النقيض– اصطلاحا– و يقابله «الظن»: و هو اعتقاد راجح لا جزم معه. «و الشك»: تساوي الطرفين «و الوهم»: اعتقاد مرجوح، هذا مقتضى اللغة. و للمتأخرين من «الاصوليين» هنا– تبعا لاهل المعقول– اصطلاحات و تدقيقات لا حاجة إليها. (المبحث الثالث) كثيرا ما نراهم يقولون «الشيء الفلاني موجود فى نفس الامر» و لم يفسروا معنى هذه العبارة، و المراد: أنه موجود في حد ذاته؛ لا بفرض فارض أو اعتبار معتبر؛ لان «الامر»: هو الشيء، فيكون الشيء في
ـ[1]- في (ه) بمعنى القاعدة الموافقة لقولهم (ع)ـ
[ 238 ]
نفس الامر يرجع إلى معنى سبي فلذلك كان نفس الامر ظرفا لنسب القضايا الصادقة سواء كانت إيجابية أو سلبية، و وجود الشيء في نفسه؛ إن ترتب عليه آثاره المعتد بها، فهو المسمى «بالوجود الاصيل و العيني و الخارجي» و ما ليس كذلك يسمى «الوجود الظني و الذهني و الادراكي». و وجود الشيء لغيره، ان كان عروضه لذلك الغير في وجوده الخارجي، فيسمى «بالعروض الخارجي» و إن عرض له في وجوده الذهني سمي «بالعروض الذهني». «و الصفة» إن كان لها وجود في نفسها و هو عين وجودها لموصوفها فتسمى «الصفة الحقيقية و الانضمامية و الخارجية». و إن لم يكن لها وجود في نفسها بل معنى الانصاف بها في نفس الامر هو صلاحية موصوفها لانتزاعها منه فتسمى «الصفة الانتزاعية، و الصفة الاعتبارية» و معنى اعتبار الذهن: فرضه؛ و هو ظرف للنسبة الجزئية الكاذبة، (و قد يكون وجود شيء فى الخارج لا وجود وجوده، و عروض شيء في الخارج لا وجود عروضه، و قد يكون نفس الامر ظرفا لوجود نسبته فى الذهن، لا لنفس تلك النسبة مثاله: النسبة الكاذبة) [1] الموجودة فى الذهن، «و الواسطة فى الثبوت»: هي علة وجود الشيء، «و الواسطة فى الاثبات» هي الدليل لاثبات المدعى «و الواسطة فى العروض»: هي المعروض الاول للعارض [2]. و الحيثية فى كلام القوم على وجوه ثلاثة: (أولها) حيثية هي بيان للاطلاق؛ كقولنا «الوجود، من حيث
ـ[1]- ما بين القوسين لا يوجد فى (ه). [2]- في (ه) «و الواسطة فى العروض» هي العروض الأول و المعارض
[ 239 ]
هو موجود، و الحيوان من حيث هو حيوان، أو من حيث هو هو» [1] قالوا: كم من قيد بحسب اللفظ هو بيان للاطلاق بحسب المعنى. (و ثانيها) حيثية هي للتقييد كقولنا «الحيوان من حيث أنه ناطق نوع». (و ثالثها) حيثية هي للتعليل؛ كقولنا «العالم من حيث أنه عالم يستحق التعظيم» «و القيد» قسمان: قيد يخصص ما قيد به. و قيد يعينه فافهم هذه الفوائد فانها تنفعك إن شاء اللّه تعالى. (الفصل الثاني) في مبادي اللغة و فيه تسعة مطالب: (المطلب الاول) في أحوال تتعلق بالألفاظ اللغوية و فيه أربع مسائل: (الأولى) اللغة لفظ وضع لمعنى و طريقها تواتر و آحاد؛ «فالمتواتر»: هي المشهورة على الألسنة، «و الآحاد»: هي الغريبة. (الثانية) هل تثبت اللغة قياسا؟ . القاضي أبو بكر الباقلاني و ابن شريح و فخر الدين الرازي و ابن جني و المازني و أبو علي الفارسي: نعم. و إمام الحرمين و الغزالي و الآمدي و ابن الحاجب و شيخنا البهائي: لا. و اعلم: أنه لا نزاع فى أن الأعلام و الصفات المطردة– كاسم الفاعل
ـ[1]- في (ه) كما يلي: (أولها: حيثية هي بيان للاطلاق الموجود من حيث هو موجود و الحيوان من حيث هو حيوان، و من حيث هو هو)ـ
[ 240 ]
و اسم المفعول و ما ثبت بالاستقراء؛ ارادته للمعنى [1] الكلي نحو– الفاعل مرفوع– لا تثبت قياسا لأن الاعلام لا يعقل معناها، و القياس فرع المعنى فهي كحكم تعبدي لا يعقل معناه. و الصفات المطردة– كاسم الفاعل– إنما عرف اطرادها فى محالها من الوضع، لانهم وضعوا القائم– مثلا– لكل من قام؛ لا من القياس لانه يحتاج إلى أصل و فرع. و جعل بعضها أصلا و الآخر فرعا ليس أولى من العكس، و كذلك اطراد رفع الفاعل– مثلا– انما ثبت بالاستقراء، بل محل الخلاف: اسم اشتمل مسماه على وصف، بظن أن وجود ذلك الوصف فيه هو علة التسمية بذلك الاسم، فيطلق على كل ما شاركه فيه و يعطى حكمه كما إذا رأينا «ماء العنب يسمى خمرا» إذا حصل فيه وصف الاسكار المخمّر للعقل، و قبل حصول ذلك الوصف يسمى– عصيرا– فان زال عنه سمي– خلا– فتظن أن اتصافه بالاسكار علة التسمية فهل يسمى كل مسكر خمرا، و نعطيه حكمه من التحريم و غيره أم لا؟. أقول: يفهم من أحاديث الخاصة و العامة ثبوت اللغة قياسا بهذا المعنى. (الثالثة) هل بين اللفظ و المعنى الموضوع له مناسبة ذاتية تقتضي اختصاص اللفظ بالمعنى؟. عباد الصيمري و بعض المعتزلة و الصوفية و علماء الحروف: نعم، و أنكره الاكثر. (الرابعة) اختلف في الواضع، على خمسة أقوال: «أولها» أنه اللّه تعالى و يسمى مذهب التوقف و اختاره ابن
ـ[1]- فى (ه) أي ارادته للمعنى
[ 241 ]
فورك. «و ثانيها» أنه الناس و يسمى مذهب– الاصطلاح– و اختاره أبو هاشم. «و ثالثها» القدر الضروري– توقيفي–، و الباقي– اصطلاحي–، و يسمى مذهب– التوزيع– و اختاره الاكثر و هو الظاهر. «و رابعها» عكسه، و قائله مجهول. «و خامسها» الوقف لتعارض الادلة، و اختاره الغزالي و العضدي (و العلامة) [1]. (المطلب الثاني) دلالة اللفظ على كمال معناه: مطابقة. و على جزئه التضمني– إن كان له جزء– تضمن، و على الخارج اللازم و لو عرفا: التزام. و لا يشترط عند أهل العربية و الاصول؛ امتناع انفكاك اللازم في التزامه عن الموضوع له عقلا– كالزوجية عن الاثنين–، بل يجوز الانفكاك كدلالة– حاتم على الجود–، ثم إن قصد بجزء اللفظ جزء معناه: فمركب؛ و إلا فمفرد. و إن استقل بالمفهومية و لم يدل بهيئته على زمان: فاسم، أو دل: ففعل، و إلا: فحرف. ثم اللفظ و المعنى إما أن يتحدا أو يتكثرا أو يتحد اللفظ و يتكثر المعنى أو العكس؛ فالاقسام أربعة: (أحدها) أن يتحدا معا، فان كان تصور معناه مانعا من وقوع الشركة فيه فهو: الجزئي؛ كالعلم، و الا: فالكلي؛ كالانسان، و هذا إن
ـ[1]- لا توجد في (ه)ـ
[ 242 ]
تساوت أفراده فيه. فالمتواطئ؛ أي المتوافق، سمي به لتوافق أفراده فيه. أو تفاوته بالأشدية؛ كالبياض بالنسبة الى الثلج أو العاج، أو الاولوية؛ كالوجود بالنسبة إلى الجوهر أو العرض أو الأولية؛ كالوجود بالنسبة إلى العلة و المعلول فيسمى «المشكك» لمشابهته «المتواطي» باتحاد معناه؛ و المشترك باختلاف أفراده فيه، فكأن الناظر يشك فيه هل هو متواطئ أو مشترك!!. (و ثانيها) أن يتعدد اللفظ و المعنى و هي الألفاظ المتباينة، فان تباينت مسميا بها الذات؛ كالسواد و البياض، فتسمى «المتفاصلة» أو صدق أحدهما على الآخر؛ كالذات و الصفة، نحو السيف و الصارم «فالمتواصلة». (و ثالثها) أن يتعدد اللفظ و يتحد المعنى فيسمى «المترادفة» كالأسد و الليث. (و رابعها) أن يتحد اللفظ و يتعدد المعنى؛ فان كان اللفظ وضع لكل واحد من معانيه وضعا مستقلا، سواء اتحد زمان الوضع أم لا، و اتحد الواضع أم تعدد فهو: المشترك، و إن كان وضع أولا لمعنى ثم نقل إلى غيره من دون مناسبة فهو: المرتجل، أو لمناسبة فان كانت دلالته على المنقول إليه بعد النقل أشهر: فالمنقول؛ و ينسب إلى ناقله فان كان أهل اللغة: فالمنقول اللغوي، أو أهل الشرع: فالشرعي، أو العرف العام أو الخاص: فالعرفي، و إن لم تكن دلالته بعد النقل أشهر فيسمى «الأول حقيقة-» و «الثاني– مجازا-» (إن لم تكن الجهة المصححة للنقل هي: المشابهة و إلا: فاستعارة) [1]ـ
ـ[1]- ما بين القوسين لا يوجد فى (ه)ـ
[ 243 ]
ـ(المطلب الثالث) اللفظ: إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة «فالنص»، و الا «فالراجح» ظاهر، «و المرجوح» مؤوّل «و المساوي» جمل و المشترك بين الأولين «محكم»، و بين الأخيرين «متشابه»، هذا ما قالوه. و المفهوم من الأحاديث أن المحكم ما لا يحتمل غير ما يفهم منه مع بقاء حكمه على حاله، و المتشابه ما عداه. فالعام المحتمل للتخصيص؛ و المطلق المحتمل للتقييد؛ و المنسوخ و المجمل و غير ذلك كلها من «المتشابه»، يرجع فى بيانها إلى أيمة الهدى (ع). ثم اللفظ إن دل على الطلب و صدر من مستعل فهو: الأمر، أو من مساو: فالالتماس، أو من مسائلة: فالسؤال و الدعاء. (المطلب الرابع) المشترك: هو اللفظ الموضوع لمعنيين ابتداء، و هو واقع في اللغة و اختاره العلامة؛ و قال قوم: هو ممكن الوقوع لكن لم يقع في اللغة؛ و قال آخرون: إنه لم يقع فى القرآن، و قال الفخر الرازي: لا يجوز كون اللفظ مشترك بين وجود الشيء و عدمه. و القائلون بالوقوع اختلفوا في استعماله في أكثر من معنى، و إذا كان [1] الجمع بين تلك المعاني ممكنا فجوزه قوم مطلقا و اختاره– الشافعي و الباقلاني و عبد الجبار و الجبائي و السيد المرتضى– فقالوا: يجب حمله على معانيه كلها إذا لم تقم قرينة على إرادة البعض. و منعه– أبو الحسين البصري
ـ[1]- (ه) اذا كان
[ 244 ]
و الكرخي و الغزالي و الفخر الرازي– مطلقا. و فصل آخرون فمنعوه في «المفرد» و أجازوه في «التثنية و الجمع» و نفاه قوم فى «الاثبات» و أثبتوه في «النفي». و اختلف المجوزون؛ فقال قوم: إنه بطريق «الحقيقة»، و قال آخرون إنه «مجاز»، و قال الشيخ حسن فى «المعالم» هو في المفرد– مجاز–، و في غيره حقيقة– فانظر إلى هذا الاختلاف من هؤلاء العقلاء في هذا المطلب السهل و ما فيه من الخبط فما ظنك بغيره. (المطلب الخامس) المترادف واقع فى اللغة، و قال قوم بعدم وقوعه و فرعوا على وقوعه [1] جواز وقوع كل من المترادفين مكان الآخر، و هو يقتضي تجويز نقل الحديث بالمعنى فأجازه الأكثرون و منعه قوم، و فصل آخرون فقالوا: إن كان من لغة واحدة؛ كالعربية– مثلا– جاز و إلا فلا. أقول: لا حاجة بنا إلى هذا كله فقد روى في «الكافي» ما يدل على جوازه و قد تقدم. (المطلب السادس) الحقيقة: لفظ يستعمل فيما وضع له أولا، و المجاز فى غيره– لعلاقة– و لا شيء منهما قبل الاستعمال. و حصرت العلاقة في خمس و عشرين و لا يحتاج إلى نقل، بل يكفي ظهور العلاقة بين المعنى الحقيقي و المجازي، و اختاره ابن الحاجب و العلامة
ـ[1]- في (ه) على قوله
[ 245 ]
في «التهذيب» و جماعة. و قال الرازي: لا بدّ فى صحة إطلاق اللفظ على معناه المجازي في كل صورة إلى النقل عن أهل اللغة. و الحقيقة إما لغوية أو عرفية و ثبوتهما معلوم أو شرعية و ثبوتها للمتشرعة معلوم، و للشارع محل خلاف فمنع ثبوتها له الباقلاني و قال: الصلاة و نحوها فى كلامه بمعناها لغة، و أثبتها غيره فقال: هي مجازات لغوية نقلها الشارع إلى معانيها الشرعية بوضع ثان. و توقف شيخنا البهائي، و لا فائدة مهمة للبحث عن ذلك، إذ كل لفظ في كلام الشارع من هذه، فعليه قرينة تعين المراد منه، و الاستقراء شاهد عدل. و أما المجاز فلا شك فى وقوعه في اللغة، و أنكر وقوعه [1] أبو على الفارسي و أبو اسحاق الأسفراني و جماعة، و هو واقع فى الكتاب و السنة أيضا خلافا للظاهرية [2]. (المطلب السابع) (فى تعارض احوال الالفاظ) اعلم: أن الاختلاف في فهم معنى اللفظ إنما يكون لأمور خمسة الاشتراك و النقل شرعيا كان أو عرفيا، و المجاز، و الاضمار، و التخصيص و غير ذلك، لأن مع انتفاء الاشتراك و النقل يكون اللفظ موضوعا لمعنى واحد، و مع انتفاء المجاز و الاضمار يكون المراد ما وضع له و مع انتفاء التخصيص يكون المراد به جميع ما وضع له، فلا اشتباه
ـ[1]- في (ه) كما يلي: (و أما المجاز فلا شك فى وقوعه، و عليه ابو على الفارسى …). [2]- في (ه) للطاطرية
[ 246 ]
و أنواع التعارض عشرة لحصول أربعة من المشترك، و الأربعة الباقية و ثلاثة من المنقول و الثلاثة، و اثنين من المجاز و الباقيين، و واحده من الباقيين [1]. و إذا تعارض الاشتراك و النقل فالحمل على الاشتراك أولى، خلافا للرازي. و كل من المجاز و الاضمار و التخصيص أولى من الاشتراك. و كذلك كل من هذه الثلاثة أولى من النقل. و أما المجاز و الاضمار فهما سواء. و التخصيص أولى من المجاز و من الاضمار، و أدلة ذلك مذكورة في كتب الأصول المبسوطة. (المطلب الثامن) (فى تفسير حروف يبحث عنها الفقهاء) فمن ذلك «الواو» لمطلق الجمع من غير ترتيب، نقل الفارسي عليه الاجماع، و ذهب الفراء [2] إلى الترتيب فيما يستحيل فيه الجمع نحو– اركع و اسجد– و ذهب الكسائي و قطرب و ابن درستويه و الربعي: إلى أنها للترتيب. و قال ابن عصفور: الخلاف في أنها للترتيب محله إذا أمكن صدور الفعل من واحد فأما نحو– اختصم زيد و عمرو– فلا خلاف في أنها لا تقتضي الترتيب. و من ذلك «الفاء» للترتيب و التعقيب و هو فى كل شيء بحسبه نحو
ـ[1]- في (ه) كما يلي: (و أنواع التعارض– عشرة– لحصول أربعة من المشترك و الأربعة الباقية، و ثلاثة من المنقول، و اثنين من المجاز، و الباقيين، و واحده من الباقي). و الذي يستقيم به الكلام: (عشرة– لحصول أربعة من المشترك و ثلاثة من المنقول، و اثنين من المجاز، و واحد من الباقي) و اللّه اعلم (ر). [2]- في (ه) و ذهب الغزالي
[ 247 ]
تزوجت فولدت و قال الفراء: لا تفيد الترتيب. و قال السيد المرتضى لا تفيد التعقيب. و من ذلك «الباء» و ترد للاستعانة نحو– كتبت بالقلم– و للتبعيض؛ ذهب إليه الأصمعي و الفارسي و ابن مالك، و أنكره سيبويه، و إنكاره معارض باصرار الاصمعي الذي هو أعرف منه بكلام العرب، و رواية زرارة عن الباقر– ع– صريحة في أن الباء في قوله تعالى (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» [1] للتبعيض. و ميل العلامة إلى قول سيبويه في «التهذيب» من باب الغفلة؛ لأنه أورد الحديث في «المختلف» و حكم بصحته، و احتج به على أن المسح ببعض الرأس. و من ذلك «إلى» و هي لانتهاء الغاية و لا إجمال فيها كما توهم من دخول الغاية تارة و خروجها أخرى لأنها موضوعة للانتهاء و الغاية [2] فلا تنفصل حسا– كالليل– فيجب خروجها، و قد لا يتميز– كالمرفق– فيجب دخولها من باب المقدمة. (المطلب التاسع) «المشتق» في– الاصطلاح– فرع وافق الاصل بأصول حروفه؛ و أنواعه خمسة عشر و هو عند وجود معنى المشتق منه– كضارب– لمباشر الضرب حقيقة اتفاقا، و قبل وجوده لمن يريد الضرب مجازا اتفاقا، و بعد وجوده منه و انقضائه– كالضارب أمس– قد اختلف فيه على أربعة أقوال
ـ[1]- سورة المائدة. آية/ 6. [2]- فى (ه) و الغاية قد تنفصل
[ 248 ]
ـ(أحدها) لا يشترط بقاء المعنى فى كون المشتق حقيقة؛ و هو قول متكلمي الامامية و المعتزلة و اختاره ابن سيناء و النبقارابي [1]. (و ثانيها) يشترط؛ و اختاره الرازي و البيضاوي [2] و أكثر الأشاعرة. (و ثالثها) إن كان مما يمكن بقاؤه اشترط؛ و إلا فلا. (و رابعها) الوقف؛ و هو ظاهر ابن الحاجب. و هل يصح إطلاق المشتق على الذات و إن لم يتصف بمبدإ الاشتقاق؟ منعه الأشاعرة، و أجازه الامامية و المعتزلة و الرازي في «المحصول». و الحق أن الأغلب الاتصاف و لا قطع في شيء من أدلة الجواز و لا المنع، فالوقف متوجه؛ كما ذهب إليه شيخنا البهائي (رحمه اللّه). (الفصل الثالث) في مبادي الأحكام و فيه خمسة مقاصد: (المقصد الاول) (فى تعريف الحكم و ما يتعلق به و اقسامه) الحكم الشرعي: هو خطاب اللّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين؛ بالاقتضاء أو التجبر أو الوضع. و الخطاب: هو توجيه الكلام نحو الغير للافهام، و هذا [3] التعريف يشتمل الأحكام الخمسة؛ لأن خطاب الشارع إذا تعلق بشيء؛ فأما أن يدل على طلب فعله أو طلب تركه أو يتساوى الأمران
ـ[1]- في (ه) و التفتازاني. [2]- وجد فى الاصل: (خ– و التفتزاني). [3]- في (ه) و هل التعريف
[ 249 ]
و طلب الفعل إن كان جازما فالمطلوب به هو «الواجب» و إلا «فالمندوب»، و طلب الترك إن كان جازما فالمطلوب تركه هو «الحرام» و إلا «فالمكروه»، و التخيير تساوي الأمرين فى نظر الشارع و هو «الاباحة» و لا يشترط في خطاب الوضع– العلم و لا القدرة و لا التكليف– لأن معناه قول الشارع «اعلموا أنه متى وجد كذا وجب كذا أو ندب كذا أو أبيح– مثلا-». و يكون بجعل الشيء سببا لتعلق الحكم– كجعل زوال الشمس موجبا لصلاة الظهر–، او شرطا– كجعل الطهارة شرطا لصحة الصلاة–، أو مانعا– كجعل النجاسة مانعة من صحتها–، و كل ذلك مستفاد من كلام الشارع، و لا طلب فيه و لا تخيير إذ ليس من أفعالنا حتى يطلب منا أو نخير فيه. فظهر من هذا أن خطاب الشارع منه ما يتعلق أولا بالذات بالمكلف نفسه و ثانيا بالعرض بفعله، و هذا هو الخطاب الاقتضائي و التخييري، و قد يتعلق بفعل المكلف تبعا لفعل غيره– كضمان صاحب البهيمة إذا جنت أحيانا على شيء، و كأمر الولي يدفع ما أتلفه الصبي من مال الغير من ماله إن كان له مال–، و ربما تعلق بغير الفعل– كجعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر–، و هذا هو الخطاب الوضعي. و إذا تعلق خطاب الوضع بفعل صبي أو مجنون أو بهيمة، فقد يكون مقتضاه تعلق خطاب اقتضائي– بعاقلة الصبي و المجنون و صاحب البهيمة أو بمن يكون بيت مال المسلمين في يده–، و قد يكون مقتضاه تعلق خطاب اقتضائي بالصبي و المجنون إذا كملا– كغسل الجنابة– مثلا، و تعيين تلك المقتضيات منوط بالسماع من أيمة الهدى (ع) لا بالخيالات
[ 250 ]
الظنية التي تخطئ و تصيب مما أحدثه العامة. و اختلفوا فى الخطاب الندبي، هل يتعلق بفعل الصبي المميز أم لا؟ المشهور أنه لا يتعلق به و المستفاد من كلام الايمة (ع) أنه يتعلق، إذا عرفت هذا: فاعلم أن «الواجب»: هو ما يذم تاركه لا الى يدل و يرادفه الفرض و المحتوم و اللازم. «و الحرام»: هو ما يذم تاركه [1] لا إلى بدل و يرادفه المحظور و المزجور عنه و المعصية و الذنب و القبيح. «و المندوب»: هو الراجح فعله مع جواز تركه و يرادفه النافلة و المستحب و التطوع و السنة. «و المكروه»: هو الراجح تركه مع جواز فعله و قد يطلق المكروه في الحديث على الحرام، و مكروه العبادات بمعنى الأقل ثوابا. «و المباح»: هو ما تساوى فعله و تركه و قد يطلق عليه الحلال و الجائز و المطلق. (المقصد الثاني) في حسن الأفعال و قبحها، هما عقليان أم لا؟. اعلم: أن حسن بعض الأفعال– كالعدل– بمعنى استحقاق فاعله المدح و الثواب في نظر العقلاء. و قبح بعضها– كالظلم– بمعنى استحقاق فاعله الذم و العقاب، [فكذلك] مما تشهد به العقول عند من لا يعرف الشرائع، و لا يقر بالصانع مع قطع النظر عن كون تلك الافعال صفات كمال أو
ـ[1]- في (ه) تاركه الى يدل
[ 251 ]
نقص، و مشتملة على مصلحة أو مفسدة، و لم يخالف في ذلك غير الأشاعرة فقالوا: لا حسن و لا قبح، بهذا المعنى عقلا بل هما تابعان لأمر الشارع، فلو أمر بالظلم كان حسنا و لو نهى عن العدل صار قبيحا. ثم القائلون بالحسن و القبح العقليين؛ اختلفوا على أربعة مذاهب. (أولها) أن حسن الأفعال و قبحها لذواتها لا لصفات فيها تقتضي ذلك و هو قول قدماء المعتزلة. (ثانيها): إن ذلك لصفة ذاتية حقيقة توجب ذلك، و اختاره المحقق و الطوسي [1]. (ثالثها) إن الفعل يتصف بالقبح لصفة توجب ذلك، و اتصافه بالحسن لا يحتاج إلى صفة تحسنه بل يكفيه انتفاء صفة القبح عنه، و أختاره أبو الحسين البصري [2]. (رابعها) إن ذلك ليس لذوات الأفعال و لا لصفات حقيقية [3] يقتضيها ذواتها، بل لوجوه و اعتبارات خارجة عن مقتضى ذواتها؛ كلطم اليتيم تأديبا أو ظلما، و اختاره أبو هاشم و شيخنا البهائي. و الحق ما اختاره المحقق و الطوسي [4]، و أن القبيح لا يخرج عن قبحه– عقلا– و لكن يجوز ارتكاب أقل القبيحين لمصلحة توجبه؛ كقتل القاتل و الكذب لخلاص النبي (ص). و اعلم: أنه كما أن الحسن و القبح عقليان، كذلك الحلّ و الحرمة
ـ[1]- في (ه) و اختاره المحقق الطوسى. [2]- فى (ه) ابو الحسن البصري. [3]- في (ه) و لا الصفات حقيقة. [4]- فى (ه) المحقق الطوسى
[ 252 ]
و لكنهما ليسا ذاتين [1] بشيء بل لوجوه و اعتبارات؛ و لذلك جاز تبدلهما فيكون الشيء حلالا في شريعة، حراما في أخرى، و الشرع كاشف عمالا يستقل العقل بادراك حله و حرمته، و لو كانا ذاتيين لجرى ذلك فى أفعاله تعالى؛ و هو باطل اتفاقا، و الشبهة الواردة على الحسن و القبح الذاتيين أصلها اشتباه الأمر لأنها إنما ترد على من زعم أن الحلّ و الحرمة ذاتيان، و أن القبح العقلي ملزوم للحرمة. و اعلم: أن من نفى الحسن و القبح عقلا لا يمكنه الجزم بشيء من أمور الدين، لتجويزه إجراء المعجزة على يد الكاذب و خلف الوعد منه تعالى، و يلزم منه عدم الوثوق بصدق الأنبياء و غير ذلك من المفاسد. (المقصد الثالث) اختلف في الأشياء التي لا يظهر للعقل حسنها و لا قبحها و لا مضرة فيها؛ كشم الورد– مثلا– ما حكمها قبل ورود الشرع؟. فذهب بعض المعتزلة إلى إباحتها، و اختاره السيد المرتضى و العلامة و أتباعه، و ذهب بعض المعتزلة و بعض الشافعية و بعض الامامية؛ على ما نقله الشيخ في «العدة» إلى حظرها. و ذهب الأشعري و الصيرفي و جماعة إلى [التوقف] [2] إلى أن يرد الشرع بحكمها، و اختاره الشيخ الطوسي و أكثروا الكلام فى ذلك و طولوا فيه بلا طائل، و ذلك لأن المفهوم من الأحاديث الشريفة؛ أن الأشياء كلها الا ما يدرك العقل قبحه كانت قبل الشرع على الاباحة، و لكن لا فائدة لذلك عندنا الآن لورود النص بأنه لا شيء إلا و فيه حكم معين يجب طلبه
ـ[1]- في (ه) و لكونهما ليسا ذاتيين، بل لوجوه و اعتبارات. [2]- في الأصل «الأوقف». (ر)ـ
[ 253 ]
من عند الأيمة (ع)، و إن تعذر ذلك توقف عن تعيين الحكم فيه باباحة أو حظر، و عمل بالاحتياط فيما لم يتعين فيه الحكم حتى يظهر. (المقصد الرابع) في أحكام تتعلق بالواجب و المندوب و فيه ثمان مسائل: (الاولى) الواجب إن فعل في وقته المقدر : فأداء، أو ثانيا لتدارك نقص: فاعادة، أو بعده بأمر جديد: فقضاء. أو قبله باذن: فتقديم. و كذا المستحب. (الثانية) الفعل الموسع «ما فضل وقته عنه» و المضيق «ما ساواه؛ كالصوم» [1]، أو «نقص عنه؛ كمقدار صلاة ركعة بعد غسل الحيض»- مثلا-. و اختلف في الموسع؛ فالسيد المرتضى و الشيخ و ابن السراج [2] و ابن زهرة: على التخيير بين الفعل و العزم عليه؛ لأنه مكلف به، فأما أن يبادر إلى فعله أو ينوي ذلك، فاذا ضاق تعين. و المحقق و العلامة و ابن الحاجب و جماعة قالوا: جميع الوقت وقت الوجوب فان لم يفعله فى أوله قام ما بعده مقامه و هكذا إلى الآخر، فأجزاء الوقت عند هؤلاء؛ كخصال الكفارة. و ظاهر كلام الشيخ في «العدة» أن مذهب المفيد أن الفعل يجب أول الوقت، فان أخل به المكلف أثم، فان تلافاه في باقيه كان– أداء– و سقط عقابه
ـ[1]- (ه) «ما سواه– كالصوم». [2]- في (ه) فالسيد المرتضى و ابن البراج و ابن زهرة
[ 254 ]
و قال بعض العامة: إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت و أن تقديمه في الأول نقل يسقط به الغرض، و منشأ الاختلاف في هذه المسألة؛ اختلاف الأحاديث مع ملاحظة الاعتبارات الفعلية و خلط أحكامها بالنقليات، و إلا فمن تأمل مجموع الأحاديث الواردة في هذه المسألة؛ قطع بأن الوقت مشترك في صحة الأداء فيه، لكن الاتيان بالفرض فى أوله هو الذي ينبغي، فان أخره لعذر ديني أو دنيوي مشروع جاز و لا إثم عليه و لا نقص من ثوابه و إن أخره لا لعذر أثم لا لتأخيره عن وقت الواجب [1]؛ لأن الكل وقت؛ بل لتساهله بالعبادة، و نقص من ثوابه بحسب تأخيره. (الثالثة) ظان الموت فى جزء من الموسع؛ يعسي بتأخير الفعل إليه و إن لم يمت فيه، لكن إن عاش و أتى بالفعل فيه أو بعده في الوقت؛ فهو أداء، و قال الباقلاني: قضاء. (الرابعة) الواجب العيني: ما يلزم كل مكلف، و الكفائي: ما يسقط عن الكل بفعل البعض، فان تركه الكل أثموا، و قال بعض الشافعية: يجب على بعض غير معين، و هذا لا يعقل؛ لأنهم يوافقون على تأثيم الكل بتركه، و الواجب المخير فيه: ما عين له الشارع بدلا من غير نوعه– اختيارا– فالمرتضى و الشيخ و أكثر العامة يوجبون الجميع لكن يسقط بفعل البعض. و قال قوم: الواجب واحد معين عند اللّه تعالى لا عندنا و هذا يسمى «قول التراجم» بالجيم المضمومة؛ لأن كلا من الأشاعرة و المعتزلة ينسبه إلى الآخر مع اتفاق الفريقين على فساده؛ لأنه ينفي التخيير. و قال قوم: الواجب واحد منها معين و غيره نقل [2] يسقط الفرض
ـ[1]- في (ه) عن وقته الواجب. [2]- فى (ه) نقل
[ 255 ]
بفعله. و قال آخرون: الواجب واحد مبهم من أمور معينة فأيها اختاره المكلف برئت ذمته. (الخامسة) المندوب غير مأمور به عند أكثر القائلين بأن الامر للوجوب؛ كالعلامة و الرازي. و عند ابن الحاجب مأمور به؛ لانه طاعة. (السادسة) المباح ليس جنسا لما عداه عند ابن الحاجب، و قيل: هو جنس لما عدا الحرام، و يرجع الخلاف إلى تفسير المباح؛ فان فسر بما لا حرج في فعله تناول ما عدا الحرام و إن فسر بما تساوى فعله و تركه لم يتناوله. (السابعة) المباح موجود إجماعا، و شبهة– الكعبي– الدالة على دخوله في الواجب، لان ترك الحرام لا يتم إلا به؛ باطلة، لعدم كون المباح مقدمة لترك الحرام و لا فردا منه؛ بل ترك الحرام هو: الكف عنه، و المباح و أخوته الثلاثة مقارنات. (الثامنة) عرف المتكلمون صحيح العبادات بما وافق الشرع و عرفه الفقهاء بماء أسقط القضاء. و عرفوا صحيح العقود و الايقاعات بما ترتب عليه أثره الشرعي و لو عرف مطلق الصحيح من العبادات و غيرها بهذا جاز. و الباطل: ما قابل الصحيح و يرادفه الفاسد خلافا للحنفية، و قد فرع أصحابنا على هذه الاصول فروعا غريبة لو سكتوا عنها و عملوا بما ورد فيه نص منها– بالنص–، و ما لم يرد فيه نص– بالاحتياط–، لكان خيرا لهم و أسلم من تكلف تعيين حكم اللّه سبحانه برجم الظنون و اللّه الهادي
[ 256 ]
ـ(المقصد الخامس) (فى مقدمة الواجب) اختلف الناس فيما يتوقف الواجب عليه إذا كان مقدورا؛ هل هو واجب بنفس الخطاب الدال على ذلك الواجب، من غير إيجاب على حدة أم لا؟ و لا بدّ من تحرير محل النزاع. فنقول: الواجب على قسمين: (أحدهما) ما يكون وجوبه مشروطا بأمر زائد على الشروط المعتبرة في التكليف «كالزكاة» المتوقف وجوبها على حصول النصاب، «و الحج» المتوقف وجوبه على الاستطاعة، و يسمى– الواجب المقيد–، و هذا لا نزاع في عدم وجوب تحصيل شرط وجوبه. (و ثانيهما) ما ليس كذلك «كالصلاة الواجبة» في حالتي الطهارة و الحدث؛ إلا أن [1] فعلها على الوجه المأمور به مشروطا بالطهارة شرعا، «و الحج الواجب» على المستطيع إلا أن التمكن من إيقاعه مشروط بقطع المسافة للنائي عقلا، و هذا يسمى– الواجب المطلق–، و هو محل النزاع فى وجوب ما يتوقف عليه و عدمه، و هذه المسألة من أمهات مسائل الاصول و المذاهب فيها أربعة: «أحدها» وجوب المقدمة سواء كانت سببا– كالصعود للكون على السطح–، أو شرطا عقليا– كنصب السلم للصعود–، أو شرعيا
ـ[1]- في (ه) على أن
[ 257 ]
كالوضوء للصلاة، أو عاديا كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه، و هو مذهب الأكثر و اختاره العلامة و المحقق الطوسي و الجلال الدوالي [1]. «و ثانيها» عدم وجوبها مطلقا، و قائله مجهول. «و ثانيها» وجوب السبب فقط، و اختاره السيد المرتضى و السيد الشريف و الشيخ حسن. «و رابعها» وجوب الشرط الشرعي فقط، و اختاره إمام الحرمين. و فسر السيد المرتضى السبب بالعلة التامة و الشرط بما يلزم من عدمه عدم للشروط و لا يلزم من وجوده و لا عدمه [2]. قال في «الشافي، و الذريعة» ما حاصله: إن الامر بالشيء يدل على وجوب نفسه و لا يدل على وجوب شرطه و لا عدم وجوبه إلا بدليل من خارج، لان أمر الشارع تارة يقتضي إيجاب الفعل بعد حصول مقدماته من دون أن يكون أوجب تحصيلها بل إن حصلت وجب و إلا فلا؛ كالزكاة و الحج، و تارة يوجب مقدمات الافعال بدليل على حدة كما يوجب الفعل نفسه؛ كالطهارة للصلاة انتهى. و اعلم: أنه ليس المراد «بوجوب المقدمة» لزوم فعلها و أنها مما لا بدّ منه إذ لا نزاع لأحد في ذلك؛ بل المراد أنه هل يرتب على فعلها ثواب على حدة غير ثواب «ذي المقدمة» و على تركها عقاب غير عقاب تركه أم لا؟. و لو تأملت لوجدت الأدلة على ذلك كلها مدخولة إلا ما دل على وجوب السبب، نعم العمل بمقتضاها يوافق الاحتياط فيما لا نص فيه مما يتفرع عليها
ـ[1]- في (ه) و الجلال الدواني. [2]- في (ه) و من وجوده وجوده و لا عدمه
[ 258 ]
ـ(الفصل الرابع) (فى الادلة) و هي عندنا «الكتاب و السنة» لا غير، و عند المتأخرين، هما مع الاجماع و دليل العقل. أما الكتاب و السنة فقد تقدم الكلام على كيفية العمل بهما، و أما غيرهما فالكلام عليه يستدعي خمسة مباحث: (المبحث الاول) (فى الاجماع) و عرفه ابن الحاجب: بأنه اجتماع المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر. و قال شيخنا البهائي: الأنسب بمذهبنا من عدم قول المعصوم عن الاجتهاد بتبديل المجتهدين برؤساء الدين، و نفس الاجماع ليس حجة عندنا، بل هو كاشف عن قول المعصوم الذي هو الحجة. قال المحقق في «المعتبر»: (أما الاجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة و لو حصل فى اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما؛ بل باعتبار قوله فلا تغتر إذن بمن يتحكم فيدعي الاجماع باتفاق الخمسة أو العشرة من الأصحاب، مع جهالة الباقين لا مع العلم القطعي بدخول الامام في الجملة، و لنفرض صورا ثلاثا: «أحدها» أن يفتي جماعة، ثم لا نعلم من الباقين مخالفا فالوجه أنه ليس حجة؛ لأنا كما لا نعلم مخالفا؛ لا نعلم أن لا مخالف، و مع الجواز
[ 259 ]
لا يتحقق دخول المعصوم في المفتين. «الثانية» أن يختلف الأصحاب على قولين ففي إحداث قول ثالث تردد، أصحه أنه لا يجوز بشرط أن يعلم أن لا قائل منهم إلا بأحدهما. «الثالثة» أن يفترقوا فرقتين و يعلم أن الامام ليس في أحدهما، فتعين الحق مع المجهولة. و هذه الفروض تعقل [1] لكن قلّ أن تتفق) انتهى كلامه. و اعلم: أن إجماع الامامية إن تحقق ثبوته فهو حجة للقطع بدخول قول المعصوم في جملة أقوالهم، لكن قل أن يتحقق في غير ضروريات الدين أو ضروريات المذهب. و أما غيرها فالخلاف فيه أشهر من أن يذكر و لذلك لا يعتد بأكثر [هذه] الاجماعات التي يدعيها المتأخرون لعدم القطع بدخول قول المعصوم فيها و قد تنبه لذلك السيد محمد بن أبي الحسن فى «المدارك» حيث قال في أوله (الاجماع انما يكون حجة مع– العلم القطعي– بدخول قول المعصوم فى جملة أقوال المجمعين، و لو أريد بالاجماع المعنى المشهور لم يكن حجة) انتهى كلامه. و قال في «أوائل كتاب الطهارة»: (الاجماع إنما يكون حجة مع– العلم القطعي– بدخول قول المعصوم فى جملة أقوال المجمعين، و هذا مما يقطع بتعذره في زمن ابن إدريس و ما شاكله بل بعد انتشار الاسلام مطلقا). و قال الشيخ حسن في «المعالم»: (الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الاجماع في زماننا هذا و ما ضاهاه من غير جهة النقل إذ لا سبيل
ـ[1]- في (ه) تقبل
[ 260 ]
إلى العلم بقول الامام) انتهى. ثم ذكر أن: (كل اجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا و ليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر، أو مع القرائن المفيدة للعلم، فلا بد من أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة). ثم ذكر بعد ذلك: (أنه يمكن الاطلاع على الاجماع في الزمان المقارب لعصر ظهور الأيمة– ع– و إمكان العلم بأقوالهم فيمكن فيه حصول الاجماع و العلم به بطريق التتبع) انتهى كلامه. أقول: يمكن أن يحصل لنا ما هو في حكم الاجماع و ذلك في ثلاث صور: «أحدها» أن يرد حديث و يتكرر في الكتب المشهورة الآن و لا معارض له؛ فيجب العمل به لأنه مجمع على قبوله: «و الثانية» أن يرد حديثان و نرى القدماء كلهم أو أكثرهم عملوا بأحدهما دون الآخر؛ فيجب العمل به لان عملهم كاشف عن كونه ورد من باب بيان ما هو الحق في الواقع، و الآخر ورد للتقية و هذا مصرح به في رواية عمر بن حنظلة. «و الثالثة» أن نرى فتوى الصدوقين و المفيد و المرتضى و الشيخ في حكم، فهذا أيضا حجة و إن لم نجد به نصا لما بيناه من طريقهم، فاتفاقهم لا يكون إلا عن نص قاطع. و قد تحير المتأخرون في الاجماعات الواقعة في كلام بعض القدماء؛ كالمرتضى و الشيخ لأنهم ربما نقلوا الاجماع على الشيء و على ضده في مكان آخر. و اعتذر الشهيد الاول عن ذلك بأن مرادهم بالاجماع الشهرة في ذلك
[ 261 ]
الوقت، أو عدم اطلاعهم فيه على مخالف صوتا لكلامهم عن التهافت. و قال الشهيد الثاني بعد أن نقل المسائل التي ادعى الشيخ الاجماع عليها ثم ناقض نفسه في مكان آخر فادعاه على خلافها: (قد أفردنا هذه المسائل للتنبيه على أن لا يغتر [1] الفقيه بدعوى الاجماع، فقد وقع فيه الخطأ و المجازفة كثيرا من كل واحد من الفقهاء سيما من الشيخ و المرتضى) انتهى. أقول: ما تكلفه الشهيد الاول (ره) من العذر لا يحتاج إليه، و كيف كان فقد أحسن الادب معهم. و أما الشهيد الثاني فما زاد على أن خطأ السيد و الشيخ و غيرهما و نسبهم إلى المجازفة، لظنه أن طريق القدماء و المتأخرين واحدة و أن من خالفه مخطئ، و عدم اطلاعه على أن عمل القدماء بالاصول التي أحدثها العامة ظاهر للالزام لهم بما لم ينكروه، لا أن ذلك دليل عندهم كما يزعمه المتأخرون، و خصوصا الاجماع فانه أشهر أدلة العامة، بل هو أساس ضلالهم، و مع ذلك فقد ناقض الشهيد الثاني نفسه فى أماكن عديدة. منها ما نقله السيد محمد في «المدارك» فى مسألة وجوب، غسل القطعة إذا كان فيها عظم، قال ما هذا لفظه: (هذا الحكم ذكره الشيخان و أتباعهما، و احتج عليه في «الخلاف» باجماع الفرقة و اعترف جمع من الاصحاب بعدم الوقوف في ذلك على نص؛ لكن قال جدي: ان نقل الاجماع من الشيخ كاف في ثبوت الحكم؛ بل ربما كان أقوى من النص، و هو مناف لما صرح به– ره– في عدة مواضع من التشنيع على مثل هذا الاجماع و المبالغة في انكاره) انتهى كلامه
ـ[1]- في (د) على أن لا يغتي
[ 262 ]
و الحق أن دعوى الاجماع من القدماء على الشيء و ضده انما يكون في قولين للطائفة يستندان [1] الى خبرين مختلفين؛ حكموا بصحتهما و جواز العمل بهما من باب التسليم و الرخصة؛ كما هو طريقهم في التخيير في العمل بالخبرين اذا لم يترجح أحدهما على الآخر فصحّ ادعاء الاجماع على كل من القولين المستندين إليهما، و ليس هذا من التضاد في شيء كما تقدم تحقيقه، و يدل على ما قلناه أنك لا تراهم ادعوا الاجماع على شيء و ضده الا و هناك خبران مختلفان دالان على القولين. و أما الاجماعات المنقولة في كتب المتأخرين فان دلت القرائن على ثبوتها بأن كانت على حكم ضروري الثبوت، أو وافقت إحدى الصور الثلاث التي ذكرناها فهي حق، و ان كانت نقلا عن القدماء؛ و لم يكن هناك مخالف فحجة أيضا، و مع وجود المخالف ننظر فيها، و كثيرا ما نرى من المتأخرين يخطئ بعضهم بعضا فى نقل الاجماع و ينقلون خلافه. و من غفلات المتأخرين أنهم يطرحون الخبر إذا عارض اجماعهم الذي يدعونه مع أن نسبة الاجماع الى قول المعصوم اجمالية و الخبر ينسب إليه تفصيلا فبينهما بون. فان قلت: نسبة الخبر إليه في ضمن الاجماع قطعي؛ و لا في ضمنه ظني. قلت: هذا انما يصح لو قطع باشتمال الاجماع على قول المعصوم، و قد بينا أن اجماعاتهم هذه دعاوى لا تثبت مع وجود المخالف و ظهور النص بخلافها و لو استندت الى نص لظهر لتوفر الدعاوى على نقله، و لو صحت لزم تفسيق المخالف لها و هم لا يقولون به
ـ[1]- في (ه) يستند
[ 263 ]
و بالجملة تحقق أكثر إجماعات المتأخرين غير ثابت على الوجه المعتبر في الاجماع عند الامامية؛ فينبغي الاعراض عما لم يثبت منها و العمل بالنص الثابت. و مما يدل على أن أصل الاجماع من مخترعات العامة، ما رواه في «الكافي» من جملة رسالة كتبها الصادق (ع) إلى أصحابه يقول فيها: (و قد عهد رسول اللّه– ص– قبل موته، فقالوا: نحن بعد ما قبض اللّه عز و جل رسوله يسعنا أن نأخذ بما أجمع عليه رأي الناس. ثم قال– ع– فما أحد [أجرأ] على اللّه و لا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك) انتهى. (المبحث الثاني) (فى الاستصحاب) و هو يطلق على ثلاثة معان: «أحدها» استصحاب نفي الحكم الشرعي إلى أن يرد ما يدل عليه؛ و هو المعبر عنه بالبراءة الأصلية، و يأتي الكلام عليه. «و ثانيها» استصحاب حكم العموم إلى أن يرد المخصص أو الناسخ. «و ثالثها» استصحاب الحكم الشرعي وجوديا كان أو عدميا فى الزمن الثاني تعويلا على ثبوته في الأول من غير نظر إلى شيء آخر. و توضيحه: أن يثبت حكم بدليل شرعي في حالة، ثم تطرأ حالة أخرى لا نعلم تناول الحكم لها إذ لو تناولها لتساوتا فيه، و لم يكن استصحاب و كذلك لا نعلم ما يدل على انتفائه أيضا فيها، فهل يحكم ببقاء ذلك الحكم؟ و هو المراد بالاستصحاب هنا أم لا بدّ للحكم ببقائه في الوقت
[ 264 ]
الثاني من دليل؟ فذهب إلى الأول جماعة من العامة؛ كالمزني و الغزالي و الصيرفي. و من الخاصة؛ كالعلامة في أحد قوليه، و جماعة من أتباعه، و أنكره السيد المرتضى و المحقق في «المعتبر» و أكثر المتكلمين و مثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم رأى الماء فى أثنائها سواء كان قبل الركوع (أو بعده) [1] فهل يمضي فيها أم يستأنفها بالوضوء؟ فمن قال بالاستصحاب؛ قال يمضي للاجماع على وجوب المضي فيها قبل رؤية الماء و عدم الدليل المخالف له، و من أنكره؛ قال يستأنف. و الحق أنه ليس بدليل كما قال المرتضى– ره– لورود النصوص موافقة له تارة؛ كما في المثال المذكور، و مخالفة له أخرى، كما في حديث الجارية التي اشتبه عليها دم العذرة بدم الحيض و غير ذلك من الاحاديث الموافقة و المخالفة. و لو كان قاعدة يرجع إليها في إثبات الاحكام لم ترد الاحاديث بخلافه، نعم هو حجة في صورتين أمر بهما الايمة (ع): «أحدهما» أن يصل إلينا حديث في حكم شرعي فنستصحب العمل به حتى يظهر لنا ما هو أرجح منه. «و ثانيهما» أن نستصحب كل أمر من الامور التى دل الشرع على ثبوتها لوجود سببها إلى أن يقوم دليل نصبه الشارع على رفع حكمه و كل، هذه ترجع إلى قضايا جزئية تتعلق بأحوال الاحكام المتعلقة بأفعالنا و تتفرع عن قواعد كلية و أصول قررها الايمة– ع– لنا فنعمل بها و لا نتعداها. فمن ذلك حكمنا بكون رجل مالك أرض، أو زوج امرأة أو مالك
ـ[1]- لا توجد فى (ه)ـ
[ 265 ]
عبدا عدلا أو فاسقا [1] و كون هذا الثوب طاهرا أو نجسا أو غير ذلك فنستصحب ذلك الحكم حتى نعلم وجود أمر جعله الشارع سببا لرفعه من الامور المحسوسة المعلومة لنا لا المتوهمة و المظنونة، و ذلك نحو شهادة العدلين أو الاقرار بالبيع و الطلاق و العتق أو ظهور الفسق أو التوبة أو إخبار المسلم بتطهير الثوب سواء كان مالكا له أو قصّارا لان الصانع أمين مصدق في عمله. فان قلت: العدالة ليست أمرا حسيا؛ لانها ملكة راسخة فى النفس تبعث على ملازمة التقوى و المروءة. قلت: العدالة التي عرفوها بهذا هي العدالة الحقيقية الموجبة للنجاة في الآخرة و هي من الامور الباطنة التى لا يحيط بها إلا علام الغيوب، و لو اعتبرت في الشهادات أو نحوها؛ لم تقبل شهادة أحد، و لم تقم للناس جمعة و لا جماعة، و اعتبار المتأخرين لها في الشاهد و غيره و هم و غفلة عن صريح النصوص، بل استحسان يوجب الجرح و تعطيل الاحكام، و انما العدالة التي قررها الشارع في الشاهد و إمام الجماعة هي كونه متظاهرا بالصلاح مستور الحال غير ظاهر الفسق إذا سئل عنه خلطاؤه قالوا: لا نعلم منه الا خيرا، و هذه العدالة مركبة من امر وجودي محسوس؛ و هو ملازمة الطاعة، و أمر عدمي محسوس؛ و هو اجتناب المعاصي ظاهرا، و أما البواطن فأمرها الى اللّه سبحانه، و كلا الامرين مما يدرك بالحس. و في «الكافي؛ و من لا يحضره الفقيه» و غيرهما من الاحاديث الدالة على ما قلنا من أمر العدالة ما يبلغ حد التواتر، فليراجع ذلك
ـ[1]- في (ه) أو مالك عبد، أو عدلا أو فاسقا
[ 266 ]
ـ(المبحث الثالث) (فى البراءة الأصلية) و هي عبارة عن كون المكلف إذا خلي و نفسه و لم يبلغه خطاب لم يتعلق به شيء من الأحكام الشرعية، و قد تمسك بها العامة في نفي الاحكام الشرعية، سواء ظهرت شبهة مخرجة عنها؛ كحديث ضعيف أو لم تظهر، قالوا: الاصل خلو الذمة من التكاليف، لان الاصل فى كل ممكن العدم فلا نحكم بورود حكم إلا بدليل يخرجه عن حكم الاصل، فاذا لم نجد الدليل حصل لنا الظن بعدم وروده؛ فنحكم بعدمه، و وافقهم على ذلك كل المتأخرين من الامامية و ذلك لا يوافق أصول مذهب الشيعة؛ لانه إنما يصح قبل اكمال الدين، و تجويز خلو بعض الوقائع عن حكم معين ورد منه تعالى. و أما بعد إكمال الدين كما هو نص القرآن العظيم، و بعد التصريح من الايمة (ع) بأن للّه سبحانه في كل واقعة حكما معينا و هو عندهم، و يجب علينا طلبه منهم أو من رواة أحاديثهم، و ما لم يتعين لنا حكمه بالنص عنهم (ع) يجب علينا التوقف فيه عن الفتوى؛ و نعمل [1] فيه بالاحتياط، فحينئذ لا يبقى للبراءة الاصلية حكم. و قد تنبه لهذا صاحب «جمع الجوامع» من الشافعية حيث قال فيه: (إذا خطر لك أمر فزنه بالشرع، فان كان مأمورا فبادر؛ فانه من الرحمن و ان كان منهيا فإياك فانه من الشيطان، و إن شككت أ مأمور أم منهي
ـ[1]- في (ه) أو نعمل
[ 267 ]
فأمسك) انتهى. فانظر كيف أنطق اللّه هؤلاء بالحق؛ مع أن عمدة أصولهم العمل بالقياس و البراءة الأصلية. و اعلم: أن حكم البراءة بعد ثبوت صحة أحاديثنا قليل الجدوى، لأن كل ما تعم به البلوى موجود فيها، و ترجيح العمل بالبراءة على ما لم يرده [1] الثقة الامامي منها؛ غفلة منشؤها عدم التأمل لاجماع «الأصوليين» على أن أصل البراءة إنما يفيد الظن لا غير و هذه الأخبار التي يطرحونها إذا عارضتها لا تقصر عن إفادة الظن بمجردها، فكيف إذا شهد لها مثل الكليني و الصدوق بالصحة، مع معرفتهما بحال رواتها في جرحهم و تعديلهم، فلو لم يجزموا بصدقهم فيها لما حكموا بصحتها. فانظر بعقلك أي الظنين أحق بالاتباع، ظن يستند إلى قول المعصوم، أو ظن يستند إلى قول فلان و فلان؟!!. و لقد ضيق على نفسه و على غيره من يطرح (أعني كالشهيد الثاني– ره-) [2] الاحاديث الحسان و الموثقات إذا خالفت الاصل، فان الحسن لوقوع مثل ابراهيم بن هاشم فى طريقه، و الموثق لوقوع مثل الحسن بن فضال في طريقة، لا يقصر عن إفادة الظن الذي يعتبره و يعمل به عند من عرف أحوال الرجال؛ بل الطعن فى رواية ابراهيم بن هاشم؛ يوجب الطعن في ولده، على أنه لم يرد عن غير أبيه إلا نادرا [3]، و روايته
ـ[1]- في (ه) ما لم يروه. [2]- ما بين القوسين عن (ه) فقط. [3]- فى (ه) كما يلي: (يوجب الطعن في ولده على؛ لأنه لم يرو عن غير أبيه الا نادرا)ـ
[ 268 ]
عن أبيه دائما مع كونه غير معتمد يوجب تساهله في الرواية و عدم الاعتماد عليه، بل يوجب الطعن في الكليني أيضا لان أكثر رواياته عنه، و ما أظن أحدا من مقلدة الامامية– فضلا عن علمائهم– يرضى بذلك أو يجوزه. فان قلت: إن الشهيد الاول صرح فى «الذكرى» بأن الاصل يفيد اليقين [1] فلا تعارضه أخبار المجروحين. قلت: لو صح هذا لبطل التكليف؛ لان خبر العدل الامامي غاية ما يفيد الظن الغالب عندكم، و هو لا يعارض اليقين فيجب طرحه عند المعارضة أيضا، و أنتم لا تقولون بذلك، فعد هذا القول غفلة من الشهيد؛ أولى من جعله مذهبا له. فان قلت: روى الصدوق عن الصادق (ع) أنه قال: «كل شيء مطلقا [2] حتى يرد فيه نهي» و هذا هو معنى البراءة الاصلية. قلت: ظاهر الحديث و عمومه معارض بالأحاديث الكثيرة الدالة على وجوب التوقف و الاحتياط في ما لم يظهر لنا حكمه. و النهي قسمان: عام و خاص، و العام قد بلغنا: و هو النهي عن القول بغير علم، و إيجاب التوقف و الاحتياط و السؤال من العلماء، و إنما معنى هذا الحديث الشريف أنه لا يتعلق بأحد حكم التكاليف الشرعية، و لا يؤاخذ بفعلها و لا تركها إلا بعد بلوغ الخطاب من الشارع، و هو يدل على الرخصة، و العفو عن فعل وجودي ليس فيه مفسدة توجب المنع منه و لم يصل إلينا فيه بخصوصه نهي، فاذا فعلنا لم نكن مؤاخذين
ـ[1]- في (ه) يفيد القطع. [2]- فى (ه) مطلق
[ 269 ]
و قد ورد في هذا المعنى أحاديث أخر نحو قول الصادق (ع): «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» و قول النبي (ص): «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه و ما لا يطيقون و ما لا يعلمون … الحديث». و كل ذلك يدل على العفو عن الغافل و الجاهل و عدم المؤاخذة، لا على ظن نفي الحكم الذي هو معنى البراءة الأصلية. و يدل على أن معنى هذه الاحاديث ذلك، ما ذكره الشيخ المفيد في مسألة أملاها في تفسير الحديث المشهور: «من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، قال: (الممتحن بحادث يجب عليه أن يرجع فى ذلك إلى العلماء من شيعة الامام ليعلم ذلك من جهتهم … ثم قال– ره-: إن كان الحادث مما لا يعلم بالسمع إباحته من حظره فانه على الاباحة إلى أن يقوم دليل سمعي على حظره، و هذا الذي وصفناه، إنما جاز للمكلف الاعتماد عليه و الرجوع إليه عند الضرورة لفقد الامام المرشد، و لو كان الامام ظاهرا ما وسعه غير الرد إليه و العمل على قوله) انتهى كلامه. و هو يدل على أن عادم العلم بالحكم الشرعي بعد التفحص عنه غير مؤاخذ في تركه و لا مكلف به من باب الرخصة، حيث أنه بذل جهده فهو معذور عند اللّه تعالى، و لا يدل على نفي نفس الحكم بل و لا على حصول الظن بنفيه في الواقع كما هو معنى البراءة عند من يقول بها، و هذا هو المفهوم من الاحاديث الشريفة، و اللّه الموفق، إذا عرفت هذا: فاعلم أن الحيرة قد تكون فى وجوب فعل وجودي و عدم وجوبه، أو فى حرمة فعل وجودي و جوازه– مثلا– و قد تمسك العامة و المتأخرون من الخاصة فى المقامين بالبراءة الاصلية و بعد أن نطق الكتاب با كمال الدين و صرحت
[ 270 ]
الاحاديث بأنه لا واقعة إلا و فيها حكم معين يجب طلبه من عند أهله، و ما لم يعلم من جهتهم يجب التوقف عن تعيينه، فلا يبقى للبراءة الأصلية حكم في نفي شيء من الاحكام فمن شاء أطاع الحق و من شاء أبى. (المبحث الرابع) في التمسك بأن عدم ظهور مدرك شرعي لحكم عند المجتهد بعد تفتيشه، مدرك شرعي لعدم ذلك الحكم في الواقع. أقول: هذا إنما يتجه على مذهب العامة المجوزين لخلو بعض الوقائع عن حكم نقلي؛ لأن النبي (ص) أظهر جميع ما أوحي إليه و لم يخص أحدا بشيء من العلم، فان وجد المجتهد الحكم في الأدلة النقلية، و إلا استنبطه برأيه. و أما على أصول الإمامية من أن على كل مسألة دليلا معينا يجب الرجوع فيه إلى الأيمة (ع) فلا يتجه. و خالف المحقق (ره) فيه المتأخرين الا في صورة واحدة أشار إليها في «المعتبر» حيث قال عند ذكر الأدلة ما هذا لفظه: (الثاني: أن يقال عدم الدليل على كذا؛ فيجب انتفاؤه، و هذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل يظفر به، أما لا مع ذلك فانه يجب التوقف، و لا يكون ذلك الاستدلال حجة، و منه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب أو الحظر) انتهى. و قال في «أصوله»: (اعلم: أن الأصل خلو الذمة من الشواغل الشرعية، فاذا ادعى مدع حكما شرعيا جاز لخصمه أن يتمسك فى انتفائه بالبراءة الاصلية، فيقول [1]: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان
ـ[1]- في (ه) فنقول
[ 271 ]
عليه دلالة شرعية لكن ليس كذلك فيجب نفيه، و لا يتم هذا الدليل إلا ببيان مقدمتين. «أحدهما» أنه لا دلالة شرعا بأن يضبط طرق الاستدلال من الشرعية و يبين عدم دلالتها عليه. «و الثانية» أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدل عليه واحد من تلك الدلائل؛ لأنه لو لم يكن عليه دلالة، لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به؛ و هو تكليف بما لا يطاق، و لو كان عليه دلالة غير تلك الأدلة لما كانت أدلة الشرع منحصرة فيها لكن بينا انحصار الأحكام فى تلك الطرق و عند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم و اللّه أعلم) انتهى كلامه. و تحقيق الحق فيه أن المحدث الماهر إذا تتبع جميع الأحاديث المروية عنهم– ع– في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل؛ لنقل و اشتهر بكون تلك المسألة مما يتكرر [1] و تعم به البلوى، و يكثر السؤال عنه، فلم يظفر به فينبغي أن يقطع بعدمه عادة، و بأن حكمها موافق للأصل؛ لأن العادة جرت بأن مثل هذه المسألة لو أورد فيها حكم يخالف الأصل لنقل لتوفر الدواعي على نقله، و حرص أصحاب الأيمة (ع) و القدماء على تحقيق ما لا بدّ منه من أمور الدين، و انحصار علمهم في النقل لا غير ففي مثل هذه الصورة يجوز التمسك؛ بأن عدم ظهور الدليل على حكم مخالف للاصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع، و ذلك نحو؛ نجاسة الغسالة و غير ذلك مما لم يرد فيه نص بخصوصه، مع عموم [2] البلوى (به
ـ[1]- في (ه) و اشتهر لكون تلك المسألة مما يذكر و تعم به البلوى. [2]- فى (ه) مع عدم عموم
[ 272 ]
و شدة الحاجة إليه و أما غير ذلك مما لا يتكرر و لا تعم به البلوى) [1] فيجب التوقف فيه عن نفي الحكم و إثباته إلا بالنص. (المبحث الخامس) (فى القياس و الاستحسان) أما القياس فبطلانه من ضروريات مذهب الامامية، فلا حاجة إلى الكلام عليه، لكن قد استثنوا منه صورتين و عملوا بهما: (أحدهما) منصوص العلة؛ كأن يقول الشارع: «حرمت الخمر لاسكارها» فانه يدل على تحريم كل مسكر بوجود علة تحريم الخمر فيه. (و الثانية) دلالة المفهوم الموافق بأن يكون الحكم أو الحال في السكوت عنه [2] موافقا له في محل النطق إثباتا أو نفيا؛ نحو قوله تعالى: «فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ» [3] فالتأفف محل النطق؛ و علم منه حال الضرب و هو غير محل النطق مع الاتفاق فى الحكم، و هو إثبات الحرمة و يسمى «فحوى الخطاب» أي معناه لأنه يفهم منه غير المذكور على سبيل القطع، و يسمى أيضا «لحن الخطاب» أي مفهومه و معناه، و يسمى «القياس الجلي» عند من جعله من القياس، «و القياس بطريق الاولى» لانه أولى من المنطوق و لا خلاف فى كونه حجة. و أما الاول ففيه خلاف بين المتأخرين و الحق أنهما ليسا من القياس في شيء بل الاول قاعدة كلية متلقاة من الشارع فهي من جملة الاصول
ـ[1]- ما بين القوسين لا يوجد فى (ه). [2]- في (ه) المسكوت عنه. [3]- سورة الأسراء. آية/ 23
[ 273 ]
الحقة. و الثاني يفهم من فحوى اللفظ. و أما الاستحسان فقالوا: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته، و قد ذهب إليه الحنفية و الحنابلة، و أنكره غيرهم، و يظهر من العلامة اعتباره لانه قال في «التهذيب»: (إن حصل للمجتهد شك فيه لم يجز العمل به إجماعا و إلا وجب العمل به اتفاقا) انتهى. و الحق منع العمل به لعدم الاذن فيه شرعا لأنه من جملة الرأي المذموم و نحن مأمورون بالرجوع إلى أيمة الهدى (ع) عند الحيرة، و اللّه الهادي. (الفصل الخامس) في مشتركات الكتاب و السنة، و فيه مباحث: (المبحث الاول) في الأمر، و فيه سبع مسائل: (الأولى) الأمر: و هو طلب الفعل بالقول [1] على جهة الاستعلاء، و الصيغة الدالة عليه «افعل» أو ما فى معناها. (الثانية) اختلف «الأصوليون» فى مدلول هذه الصيغة على خمسة عشر قولا، و الأكثر على أنها– حقيقة– فى الايجاب،– مجاز– في غيره، و اختاره الفخر الرازي و العلامة في «التهذيب» و المحقق و ابن الحاجب و قال أبو هاشم و بعض المعتزلة و العامة: إنها حقيقة في الندب [2]. و قال قوم: إنها حقيقة فى الايجاب و الندب [مشتركة] بينهما اشتراكا لفظيا بحسب اللغة، و اختاره المرتضى لكن قال: إنها إذا وردت في كلام الشارع
ـ[1]- في (ه) بالنور. [2]- في (ه) انها حقيقة حقيقة
[ 274 ]
يجب حملها على الوجوب لأن عرف الشارع خصها بذلك حتى لا يتبادر إلى الفهم غيره، و لا تدل فى الكتاب و السنة على الندب إلا مع القرينة. و قال قوم: هي حقيقة في الايجاب و الندب، مشتركة بينهما اشتراكا معنويا بمعنى أنها موضوعة للقدر المشترك بينهما. و قال الأشعري و الباقلاني و الآمدي: بالوقف؛ بمعنى أنها موضوعة إما للوجوب أو للندب، أولهما بالاشتراك اللفظي، و لكن لا نعلم الواقع بعينه. و قال قوم: بالوقف؛ بمعنى أنها حقيقة إما في الوجوب فقط أو في الندب فقط، أو مشتركة بينهما اشتراكا لفظيا أو معنويا، و لكن لا نعلم الواقع ما هو من الأقسام الأربعة، و هذا الوجه و ما قبله منقولان عن الغزالي. و قال أبو بكر الابهري من المالكية: إنها إذا وردت في القرآن فهي للوجوب، و أما فى كلام الرسول (ص) فان كان عن وحي فهي للوجوب و الا فللندب. و قال قوم: هي مشتركة بين الاحكام الخمسة؛ الوجوب و الحرمة و الندب و الكراهة و الاباحة. و قال القاضي عبد الجبار: هي حقيقة فى إرادة الامتثال فقط، و الوجوب و غيره يعلم من القرآن. و قال إمام الحرمين و السبكي و جماعة: إنها حقيقة فى الطلب الجازم من جهة اللغة و كون هذا الطلب متواعدا [1] عليه شيء آخر ثابت في أمر الشرع بدليل من خارج، و حينئذ فالوجوب مستفاد بهذا التركيب
ـ[1]- في (ه) متوعدا عليه
[ 275 ]
من الشرع و اللغة فقد وافق القائلين بالوجوب، و لكن خالفوهم في هذا التركيب. أقول: أنظر إلى هذه الكلمة المتداولة على الالسن و إختلاف هؤلاء العقلاء في حقيقة مدلولها حيث اعتمدوا على ما تدركه عقولهم فكيف يصح الاعتماد في استنباط الاحكام المنوطة بالحكم حقيقة على غير المعصوم. و لو راجع ذو الطبع السليم وجدانه لوجد الامر المجرد عن القرائن يدل لغة على الطلب الجازم، و يلزم منه توجه اللوم على المخالفة، و هو في كل شيء بحسبه، و لا معنى لتوجه اللوم شرعا، إلا استحقاق العقاب، و هو علامة الوجوب؛ كما قال امام الحرمين، و أما الندب و غيره فلا يفهم الا مع القرينة، هذا حكم السليقة. و من أراد اثبات ذلك بالجدل و البحث تعذر عليه. (الثالثة): اختلف في الامر الوارد بعد الحظر، فقال قوم: انه للاباحة؛ لان كل ما ورد منه في القرآن أ موافق لذلك؟ و كذلك في العرف؛ كما اذا نهى السيد عبده عن أمر ثم قال له بعد ذلك: افعله. و قال العلامة و البيضاوي و الرازي: انه للوجوب؛ و لا يدل على غيره الا بقرينة. و قال قوم: انه للندب. و قال امام الحرمين: بالوقف. و قال السيد المرتضى: انه من حيث هو لا يفيد وجوبا و لا ندبا، بل ان كان الحظر بعد أمر سابق يدل على الوجوب؛ فهو للوجوب، أو على الندب؛ فللندب، أو مترددا بين الوجوب و الندب فكذلك، أو إباحة فكذلك و اختاره العضدي. (الرابعة) لا اشعار في صيغة الامر بحسب الوضع بوحدة و لا تكرار
[ 276 ]
و انما يفهم ذلك من القرينة؛ لانها موضوعة لطلب الماهية من حيث هي، و فهم المرة منها لا لانها موضوعة لها؛ بل لأن ادخال الماهية فى الوجود لا يتأتى بأقل منها، فلا بد من المرة، و اختاره المرتضى و العلامة و الرازي و ابن الحاجب و الشيخ حسن و شيخنا البهائي. و قال أبو الحسن البصري [1]: بالوحدة فقط. و قال الأسفراني: بالتكرار؛ بحيث يستوعب مدة العمر إن أمكن. و قال امام الحرمين: بالوحدة مع التوقف في الزائد بحيث لا يقتضي فيه بنفي و لا اثبات، و اختاره ابن زهرة. (الخامسة) الامر لطلب نفس الفعل من غير دلالة على فور أو تراخ لعدم دلالته على تعين أحدهما الا بالقرينة، و الفورية المستفادة في بعض الاوامر؛ كالمبادرة الى إخراج الزكاة و الحج عند وجوبهما، فمن دليل خارج؛ و اختاره المحقق و العلامة و الشافعي و الرازي و البيضاوي و ابن الحاجب. و قال الشيخ الطوسي و الحنفية و المالكية و الحنابلة: بالفورية. و قال الجبائيان و أبو الحسين البصري و جماعة: بالتراخي؛ بمعنى جواز تأخيره عن أول أوقات الامكان. و قال قوم: بالوقف؛ بمعنى أنه يحتمل الفور و التراخي، و متى لم تدل قرينة على جواز التراخي نقطع بالفورية، و اختاره السيد المرتضى، و هو مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. (السادسة) الامر بالشيء في وقت معين إذا لم يفعل فيه؛ هل يحتاج إيقاعه في غيره إلى أمر آخر أم لا؟ الشيخ الطوسي و أكثر المحققين على أنه لا بدّ في وجوب القضاء من أمر
ـ[1]- في (ه) أبو الحسين البصري
[ 277 ]
جديد. و قال قوم: الاول كاف في وجوب القضاء. (السابعة) الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ السيد المرتضى و الغزالي و أكثر المعتزلة: أنه لا يقتضي ذلك أصلا، لا عن ضده العام و لا عن الخاص. و قال المحقق: إنه ليس نهيا عن ضده من حيث اللفظ؛ بل من حيث المعنى، فان الامر بالوجوب يدل على إرادته و كراهة ضده. و قال الباقلاني: إن الامر بالشيء نهي عن ضده، لا بمعنى أنه عينه؛ بل الامر به و النهي عن ضده حصلا بجعل واحد، كما أن الامر بالشيء أمر بمقدمته و المراد أنه يستلزمه. و قال جماعة من العامة: إنه عين النهي عن ضده. و قال العلامة و الشيخ حسن و الشيخ البهائي: إنه يقتضي النهي عن ضده العام؛ بمعنى تركه، لان الضد له معنيان؛ خاص: و هو جزئي معين من الجزئيات التي لا تجامع المأمور به، كالقعود بالنسبة إلى القيام، و عام: و هو قسمان؛ أحدهما: تركه، و الآخر: أحد أضداده الوجودية لا بعينه، و هذا أيضا يرجع الى الضد الخاص. و توقف شيخنا البهائي في استلزام الامر بالشيء؛ النهي عن ضده الخاص، لتعارض الادلة و ضعفها، إلا ما دل على الترك. و هذه المسألة من أمهات مسائل «الاصول» و ترى اختلاف العقلاء فيها، فكيف يوثق بها و بامثالها بان تجعل مدركا لاحكامه تعالى، بل لا مخلص من الحيرة الا التمسك بأئمة الهدى (عليهم السلام)ـ
[ 278 ]
ـ(المبحث الثاني) في النهي، و فيه أربع مسائل: (الاولى) النهي: طلب ترك الفعل بالقول استعلاء . (الثانية) كون النهي حقيقة في التحريم أو الكراهة أو فيهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الوقف [1]؛ كالأمر، فلا حاجة الى الاعادة. (الثالثة) النهي المطلق؛ للدوام عند الاكثر؛ بمعنى أنه يقتضي ترك المنهي عنه دائما، و يلزم ذلك كونه للفور، و اختاره الشيخ البهائي. و قال قوم انه يدل على إرادة ترك المنهي عنه جزما، و التكرار و الفور و غير ذلك يستفاد من القرائن، و اختاره المرتضى و الرازي و البيضاوي. و قال الشيخ الطوسي: الذي يقوى في نفسي أن ظاهره يقتضي الامتناع مرة واحدة، و ما زاد على ذلك أ يحتاج الى دليل [2]؟. (الرابعة) النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟. و أعلم أن الفساد في العبادات عبارة عن عدم الاجزاء، و في المعاملات عبارة عن كونها مقيدة مفسدة [3] لاحكامها، و ثمرتها المقصودة منها. و هذه المسألة من المعاضل العظمى و فيها أقوال ستة: «أولها» يدل على الفساد شرعا لا لغة، و اختاره السيد المرتضى
ـ[1]- فى (ه) و الوقف. [2]- في (ه) يحتاج الى دليل. [3]- «مفسدة» لا توجد في (ه)ـ
[ 279 ]
و ابن الحاجب و جماعة. «ثانيها» يدل عليه لغة، قال به جماعة من العامة. «ثالثها» يدل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ؛ لأن النهي يدل على قبح المنهي عنه و حظره، و هو يضاد المشروعية، قال به جماعة من الحنفية. «رابعها» لا يدل مطلقا، قاله القفال و أبو حنيفة و الباقلاني و الغزالي و جماعة، و أختلف هؤلاء فى دلالته على الصحة؛ فقال أبو حنيفة: يدل عليها بنفسه، و قال الآخرون. يدل عليها لا بنفسه بل بدليل من خارج. «خامسها» التفصيل و هو أنه يدل عليه في العبادات دون المعاملات، و اختاره أبو الحسين البصري و الفخر الرازي و المحقق و العلامة و أتباعه. «سادسها» أنه يدل عليه مطلقا، و اختاره الشيخ الطوسي بجريان الأدلة التي ذكرها «الاصوليون» فى العبادات و غيرها. و اعلم أن النهي فى العبادة إما لعينها؛ كما إذا قيل– لا تصم– مثلا، فانه منهي عنه من حيث هو، و يقال له: المنهي عنه لعينه، و إما لجزئها كما إذا قيل– لا تمسح رجليك فى الوضوء حال التقية–، و المأمور به هو الغسل بدله، فهذا الوضوء منهي عنه لجزئه، و إما لشرطها؛ و المراد بالشرط الخارج اللازم– كالصلاة في الثوب المغضوب أو النجس–، فان تلك الصلاة منهي عنها، و النهي متوجه إلى شرطها فتفسد، لان الساتر من جملة شروطها اللازمة، و يقال له المنهي عنه لوصفه. و أما الخارج المفارق فليس شرطا، كما لو حمل في الصلاة مغصوبا غير ساتر، و يقال له: المنهي عنه لغيره. و مقتضى هذا الاصل عدم فساد الصلاة به، و اختاره المحقق، و قال بعض المتأخرين: تفسد؛ لانه نهي واقع في العبادة، و ضعفه ظاهر
[ 280 ]
و الحق أنه لا مخلص من الحيرة في هذه الامور الا بالرجوع الى قول «من لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ». (المبحث الثالث) في العام، و فيه أربع مسائل: (الاولى) العام: هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه، نحو «الرجال» أو جزئياته نحو «الرجل». (الثانية) اختلف فى صيغ العموم المشهورة، كأسماء الشرط و الاستفهام و الموصولات و اسم الجنس المعرف بلامه أو المضاف و الجمع كذلك و النكرة المنفية، هل هي حقائق فيه أم لا؟. قال الشافعي و بعض المعتزلة و الفقهاء: إنها حقائق في العموم فقط، و استعمالها في الخصوص مجاز، و اختاره الشيخ في «العدة» [1]. و قال قوم: كل صيغة يدعى أنها للعموم فهي حقيقة فى الخصوص، و استعمالها في العموم مجاز. و قال المرجئة: العموم لا صيغة له في لغة العرب، بل كلما يدعى في عمومه فهو مشترك بينه و بين الخصوص، و اختاره السيد المرتضى و قال: ان تلك الصيغ نقلت في عرف الشرع الى العموم. و قال الاشعري: تارة بالاشتراك كالمرجئة، و تارة بالوقف. و قال قوم: بالوقف في الاخبار دون الامر و النهي. و قال قوم: بالعكس. و قال قوم: بالوقف في الوعيد لحسن الخلف فيه دون غيره. و قال قوم: بالتفصيل في صيغ العموم فحكموا بعموم بعضها دون بعض. و قال
ـ[1]- «فى العدة» لا توجد فى (ه)ـ
[ 281 ]
القاضي أبو بكر: بالوقف؛ بمعنى أنّا لا ندري أوضعت للعموم وحده فتكون له، أو وضعت له و للخصوص فتكون مشتركة؟. (الثالثة) أقل مراتب صيغ الجمع ما هو؟ فيه أربعة أقوال: «أولها» ثلاثة– حقيقة– و تطلق على الاثنين– مجازا– نقل ذلك عن ابن عباس، و اختاره المعتزلة و أبو حنيفة و الشافعي و الفخر الرازي و ابن الحاجب و العلامة. «و ثانيها» أنها للثلاثة– حقيقة– و تطلق على الاثنين و على الواحد– مجازا–، و اختاره إمام الحرمين. «و ثالثها» أنها للاثنين حقيقة. «و رابعها» أنها للثلاثة– حقيقة–، و لا تطلق على الاثنين حقيقة و لا مجازا. (الرابعة) اسم الجنس ما دل على ذات صالحة. لأن تصدق على كثيرين، و هو على قسمين: جمعي و أفرادي، «فالأول» ما خص في الاستعمال بالصدق على ثلاثة فما فوقها و هو على ثلاثة أقسام: أولها: ما يفرق بينه و بين واحده بالتاء و هي في واحده؛ كتمر و تمرة. و ثانيها: ما تكون التاء فيه دون الواحد نحو؛ كمأ و كمأة. و ثالثها: ما يفرق بينه و بين واحده بياء النسب و هي في واحده؛ كروم و رومي. «و الثاني» على قسمين: أولهما: ما يكون صادقا على الكل و البعض؛ أي بعض كان؛ كالماء. و ثانيها: ما لا يكون كذلك، كالانسان و رجل، فان الانسان– مثلا– إنما يصدق على أفراده؛ و أفراد النوع أشخاص، فلو صدق على مجموع
[ 282 ]
الأفراد أو على جملة منها لكان المصدوق عليه فردا من أفراده و جزئيا من جزئياته، و هو باطل لما قدمنا، إذا عرفت هذا: فأعلم أن القول بأن– اسم الجنس– يصدق على القليل و الكثير، من باب خلط أحد قسمي– اسم الجنس الافرادي– بالآخر. (المبحث الرابع) (فى الخاص) (التخصيص): هو قصر العام على بعض مسمياته؛ كعشرة، و هو أعم من الأول لصدقة عليه [1]. و هو إما «متصل»: و هو ما لا يستقل بنفسه؛ و أقسامه خمسة: الشرط و الصفة و الغاية و بدل البعض و الاستثناء المتصل. و إما «منفصل»: و هو ما يستقل بنفسه في التخصيص من غير انضمام إلى ضميمة، و هو ما سوى الأقسام الخمسة، و هو ثلاثة: العقل و الحس و السمع، و منع بعض المتكلمين من تخصيص العلم بالعقل، و أختلف القوم فى منتهى التخصيص إلى كم هو؟ فذهب السيد المرتضى و الشيخ إلى جوازه حتى يبقى واحد. و قال قوم: حتى يبقى ثلاثة. و قيل: حتى يبقى أثنان. و قال المحقق و جماعة: حتى يبقى جمع يقرب مدلوله من مدلول العام، إلا أن يستعمل فى حق الواحد على سبيل التعظيم، و اختاره الشيخ حسن و هاهنا مسائل
ـ[1]- فى (ه) كما يلي: (التخصيص: هو قصر العام على بعض مسمياته، و قد يطلق على قصر غير العام و هو قصر اللفظ على بعض مسمياته؛ كعشرة، و هو أعم من الاول لصدقه عليه)ـ
[ 283 ]
اثنتا عشرة: «الأولى» العام المخصص بمبين نحو؛ أكرم العلماء إلا زيدا، حجة في الباقي؛ بمعنى أنه يجوز أن يستدل به في بعض أفراده، و هو مذهب الرازي و الآمدي و ابن الحاجب و البيضاوي و العلامة و أكثر الامامية، أما المخصص بغير مبين فلا نحو؛ صل فى هذه الأثواب إلا واحدا، فيجب الاجتناب عن الكل، و من هذا القبيل اشتباه المحلّلة بالمحرمات، و هو يعطي عدم الفرق بين المحصور و غيره و القليل و الكثير [1]. و الفقهاء يفرقون فلا يوجبون الاجتناب في غير المحصور إلا لواحد مستدلين بلزوم الجرح، و عرفوا المحصور: بأنه ما يمكن عده في بادئ النظر و أحالوا القليل على العرف، و قال البلخي: إن خص العام بمتصل فحجة، و إلا فلا. و قال أبو الحسين و أبو عبد اللّه البصري: إن كان لتعلق الحكم بالعام شرط لا ينبئ؟؟؟ العام عنه لم يكن حجة؛ كما في آية السرقة، فانه لا يفهم من لفظ– السارق–، اشتراط النصاب و كونه مخرجا من حرز، و إن كان ليس كذلك كان حجة في الباقي نحو «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» [2]. و قال عبد الجبار: إن كان قبل التخصيص لا يحتاج إلى بيان نحو «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» 3 فانه بيّن في المراد قبل اخراج الذمي، فهو حجة، و إلا فلا نحو– أقيموا الصلاة–، فانه يفتقر إلى البيان قبل إخراج– الحائض–، و لذلك بينه (عليه السلام) بقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»ـ
ـ[1]- في (ه) و القليل بالكثير. [2]- 3- سورة التوبة. آية/ 5
[ 284 ]
و قال أبو ثور و عيسى بن أبان و جماعة من أصحاب الرأي: إنه ليس حجة مطلقا. و قال آخرون: إنه حجة في أقل الجمع. «الثانية» خصوص السبب– أعني السؤال– لا يوجب تخصيص الجواب إذا كان عاما مثاله– ماء بثر بضاعة– بضم الباء و كسرها، و هو بثر في المدينة المشرفة، كان قريبا من المزابل سئل النبي (ص) عنه، فقال: «خلق الماء [1] طهورا لا ينجسه شيء، إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» فان الماء عام غير مختص بماء بئر بضاعة فلا يخصصه السؤال بل يحكم بطهورية كل ماء، و هذا قول أكثر الأصوليين و أحد قولي الشافعي، و اختاره العلامة. و قال المزني و ابن ثور [2] و الشافعي في قوله، الآخر: يخصصه. «الثالثة» تخصيص السنة بالاجماع مطلقا، و المتواتر بالمتواتر، و الآحاد بالآحاد و بالمتواتر و في المتواتر بالآحاد خلاف، مبناه اختلاف طريقي القدماء و المتأخرين. «الرابعة» يخصص الكتاب به و بالسنة المتواترة و بالاجماع، لا بخبر الواحد عند القدماء، و أجازه المتأخرون و أكثر العامة. و قال عيسى بن أبان: إن خص قبل خبر الواحد بقاطع متصل جاز، و إلا فلا. و قال الباقلاني: بالوقف فيما عارض الخاص من أفراد العام، و بالعمل فيما سواء و قال الكرخي: إن خص قبله بدليل منفصل سواء كان قطعيا أو ظنيا جاز، و إلا فلا. «الخامسة» إذا تنافى العام و الخاص بأن يشتمل أحدهما على حكم
ـ[1]- (ه) خلق اللّه الماء. [2]- في (ه) المازني و ابو ثور
[ 285 ]
إيجابي، و الآخر على حكم سلبي و تقارناه بأن صدرا معا، و يتصور ذلك في فعل خاص بالنبي (ص) مع قول عام كان ينهي (ص) عن صوم الوصال و هو يتلبس به فيبنى العام على الخاص و يخص به (عليه السلام). و قال قوم: يعمل بالعام في غير مورد الخاص و إن تقدم العام، فان ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، فالعام مخصص به، و قيل منسوخ في ما تناوله، و قيل في الكل. و قال السيد المرتضى: إن غير رفع البعض حكم الباقي، بحيث لو فعل لم يكن له حكم فى الشريعة، و لم يجر مجرى فعله قبل الرفع؛ كنقص الركعتين من أربع، فانه غير حكم الركعتين الأوليين لورود التسليم بعدهما [1]، فالكل منسوخ، و إلا فالبعض فقط؛ كاسقاط عشرة من الثمانين في حد القذف– مثلا–، و المراد بحضور وقت العمل بالعام انتفاء ما يمنع منه، و لا ينظر إلى وجود الأفراد كلا أو بعضا، و إن ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام فهو: مخصص. و قيل ناسخ، و إن تأخر العام فيبنى عليه؛ كالمقارن، و اختاره المحقق و العلامة و الشافعي و أبو الحسين البصري و الفخر الرازي. و قال المرتضى و الشيخ و ابن زهرة: هو ناسخ. و قال أبو حنيفة و القاضي عبد الجبار: بالوقف إذا جهل التأريخ. و قال غيرهم: يبنى العام على الخاص. «السادسة» العام المخصص مجاز فى الباقي، و اختاره المحقق و ابن الحاجب و العلامة فى أحد قوليه، و في «التهذيب»: إن خص بما لا يستقل فحقيقة في الباقي، و ان خص بمستقل فمجاز. و قالت الحنابلة
ـ[1]- في (ه) فانه يغير حكم الركعتين لورود التسليم بهما
[ 286 ]
بل هو حقيقة مطلقا. «السابعة» لا يبادر إلى العمل بالعام قبل البحث عن المخصص حتى يحصل الظن بعدمه، و هو قول الاكثر. و قال الصيرفى: يجوز التمسك به ابتداء و اختاره العلامة في «التهذيب». و قال الباقلاني: يجب البحث عن المخصص حتى يحصل القطع بعدمه. و قال الغزالي: يكتفى بسكون النفس و الجزم بانتفائه. «الثامنة» الاستثناء حقيقة في المتصل؛ مجاز في المنقطع، و هو قول الاكثر و يشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه عرفا، فلا يضر بالسؤال [1] و طول الكلام الذي لا يعد به منفصلا عرفا، و جوز بعض المالكية تأخير المستثنى لفظا مع إضماره متصلا بالمستثنى منه، و حملوا على ذلك ما روي عن ابن عباس من جواز تأخير الاستثناء إلى شهر. «التاسعة» الاستثناء المستغرق لغو اتفاقا، و الأكثر على جواز المساوي و الأكثر. و قال قوم: بالمنع فيهما في العدد خاصة، فلا يجوز له عشرة إلا خمسة، و قال آخرون: بالمنع مطلقا. «العاشرة» الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة يرجع إلى الكل، قاله الشيخ الطوسي و الشافعي. و قال أبو حنيفة: يرجع الى الأخيرة. و قال السيد المرتضى: بالاشتراك بين الكل و الأخيرة، فيتوقف فيه إلى ظهور القرينة. و قال الغزالي و الباقلاني و ابن الحاجب: بالوقف؛ بمعنى أنا لا ندري كونه مشتركا بينهما أو مختصا باحدهما. «الحادية عشرة» قال جمهور أهل العربية و الأصول إن الاستثناء من
ـ[1]- في (ه) فلا يضر السعال
[ 287 ]
الاثبات نفي و بالعكس. و قال أبو حنيفة: المستثنى مسكوت عن نفيه و إثباته. «الثانية عشرة» إذا يعقب العام ضمير يعود إلى بعض ما يتناوله ذلك العام؛ نحو قوله تعالى: (وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) [1] بعد قوله تعالى: (وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ) 2 فان المطلقات فى الآية الشريفة شامل للبائنات و الرجعيات؛ لأنه جمع معرّف باللام، و قد أوجب عليهن العدة بطريق العموم،– و ضمير بعولتهن– للرجعيات فقط، فلو حمل العام على عمومه لزم مخالفة الضمير لمرجعه، فهل يخصص به، بأن يخصّ المطلقات بالرجعيات لذلك أم لا؟. قال الشافعي: يخص، و اختاره العلامة في «النهاية» و منعه الشيخ الطوسي و ابن الحاجب و الغزالي و الآمدي و البيضاوي. و قال المرتضى و المحقق و العلامة في «التهذيب» و إمام الحرمين و أبو الحسين البصري: بالوقف. و لهذه الآية الشريفة فى القرآن نظائر، و لا يدفع الحيرة فى ذلك و غيره إلا الرجوع إلى كلام أيمة الهدى (عليهم السلام). (المبحث الخامس) (فى المطلق و المقيد) المطلق: ما دل على فرد شائع فى جنسه سواء كانت دلالته عليها بأصل الوضع؛ كالأعلام و نحوها، أو بضم ضميمة؛ نحو «رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ». و أعلم: أن جميع ما يجري في تخصيص العام من متفق عليه و مختلف
ـ[1]-، 2- سورة البقرة. آية/ 228
[ 288 ]
فيه، يجري في تقييد المطلق، و ينقسمان بالنظر إلى الحكم؛ أي المسند، و الموجب؛ أي سبب الحكم، و الكيف؛ أي نفي الحكم و إثباته، إلى أربعة أقسام: (أحدها) أن يختلف الحكم نحو؛ جالس عالما، أكرم عالما صالحا فلا يحمل المطلق على المقيد، اتفاقا في اتحاد السبب و الكيف أم لا؟. و فى «النهاية»: أنه إجماعي، لكن في «قواعد الشهيد»: أن أكثر الشافعية يوجب الحمل اذا اتحد السبب، فحملوا اليد في– آية التيمم– على ما آخرها المرفق؛ لتقييدها به في– آية الوضوء– لاتحاد موجبهما و هو الحدث. نعم أن يتوقف العمل بالمطلق على المقيد؛ كأن يقول في الظّهار– أعتق رقبة–، ثم يقول– لا تملك رقبة كافرة–، فانه يجب تقييد الرقبة بالمؤمنة، و إن كان الحكمان– أي العتق و الملك– مختلفين؛ لتوقف الاعتاق على الملك. (و ثانيها) أن يتفق الحكمان فان اتحد موجبهما و كانا مثبتين؛ كما لو قال فى الظهار– أعتق رقبة مؤمنة– حمل المطلق على المقيد إجماعا و كان المقيد بيانا للمطلق سواء تقدم عليه أو تأخر عنه. و قال قوم: إن تأخر المقيد كان نسخا. (و ثالثها) أن يتفقا في الكيف و يتحد الموجب؛ كما لو قال في الظّهار– لا تعتق المكاتب، لا تعتق المكاتب الكافر– فيعمل بهما إجماعا و لا يجزي إعتاق المكاتب فيها أصلا، و كذا ذكره شيخنا البهائي، و كلام الفخر الرازي في «المحصول» و غيره يقتضي حمل المقيد على المطلق في هذه الصورة و يكون المنفي هو إعتاق المكاتب الكافر
[ 289 ]
ـ(و رابعها) أن يتحد الحكم و يختلف الموجب؛ كاطلاق الرقبة، فى كفارة الظّهار و تقييدها بالمؤمنة فى كفارة القتل، فالحكم فيهما– و هو الاعتاق– واحد، و السبب مختلف ففيه أقوال ثلاثة: «أحدها» أن تقييد أحدهما يدل على تقييد الآخر. «و ثانيها» عدم تقييده، و هو قول الأصوليين من الامامية و الحنفية و بعض الشافعية. «و ثالثها» إن حصل قياس صحيح يقتضي تقييده قيّد؛ كاشتراك الظّهار و القتل فى خلاص الرقبة المؤمنة عن قيد الرّق، فيسوق الشارع إليه و إلا فلا، و هو قول الشافعي و الآمدي و الفخر الرازي و البيضاوي و أبو الحسين البصري. (المبحث السادس) (فى المجمل و المبين) المجمل: ما دلالته غير واضحة، و هو إما فعل لم يقترن به ما يدل على وجه وقوعه، إذ لو اقترن به لم يكن مجملا؛ كالصلاة بأذان و إقامة، فان ذلك قرينة الوجوب. أو قول مفرد؛ كالمشترك. أو مقيد [1] كقوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ) [2] لتردده بين الزوج و الولي، و اختلف فى قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [3]، فأكثر الأشاعرة و المعتزلة و الامامية: لا إجمال فيها، و أبو عبد اللّه البصري و الكرخي
ـ[1]- فى (ه) «أو مركب»، عوض «أو مقيد» هنا. [2]- سورة البقرة. آية/ 237. [3]- سورة المائدة. آية/ 3
[ 290 ]
و بعض [1] القدرية: [أنها] [2] مجملة، و قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا) [3] السيد المرتضى، مجملة في اليد؛ لاطلاقها على العضو و بعضه، و فى القطع أيضا؛ لاطلاقه على الجرح و الابانة. و العلامة و الرازي (و الآمدي) [4] و ابن الحاجب: لا إجمال فيها، و اختلفوا في لفظ له مفهومان– لغة و شرعا–؛ إذا تكلم به الشارع على أربعة أقوال: «أولها» إنه غير مجمل مطلقا، بل يحمل على– الشرعي– و اختاره العلامة، و منه قوله (عليه السلام) «الاثنان فما فوقهما جماعة» يحتمل أن يكون المراد أنه يسمى جماعة حقيقة شرعا، و إن لم يطلق عليه ذلك لغة، و أن يكون انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها به فيكون المراد– اللغوي-. «و ثانيها» إنه مجمل مطلقا. «و ثالثها» إنه غير مجمل في الاثبات لحمله على– الشرعي–، و مجمل في النهي. «و رابعها» إنه غير مجمل لظهوره إذا وقع مثبتا فى– الشرعي–، و منهيا عنه في– اللغوي-. و أما المبين فهو: ما دلالته واضحة، إما ابتداء من غير سبق إجمال: نحو قوله تعالى: (وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)* [5]، أو بعد سبق الاجمال؛ كآية البقرة فانها كانت مجملة ثم صارت مبينة
ـ[1]- «بعض» لا توجد في (ه). [2]- فى الاصل: (أنهما مجملة) (ر). [3]- سورة المادة./ 38. [4]- لا توجد فى (ه). [5]- سورة التغابن. آية/ 19، و توجد أيضا في سور آخر
[ 291 ]
و عرّفوا البيان بأنه: اخراج الشيء من الاشكال إلى الوضوح، و يكون بالقول– إجماعا–، و بالفعل عند الأكثر، و أنكره قوم. و هل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة؟ فيه ستة أقوال: «أولها»: الجواز، و اختاره العلامة و الرازي و ابن الحاجب. «و ثانيها»: امتناء، و اختاره الغزالي و الصيرفي و أبو اسحاق المروزي [1]. «و ثالثها»: يمتنع تأخير بيان ما يراد به غير ظاهره؛ كالعام، و أما تأخير بيان المجمل (كالفرق) [2] فجائز، و اختاره السيد المرتضى و الكرخي. «و رابعها»: (يمتنع تأخير البيان الاجمالي نحو؛ هذا العام مخصوص، و هذا المطلق مقيد، و لا) [3] يمتنع تأخير البيان التفصيلي، و اختاره أبو الحسين البصري لكن خصه بماله ظاهر. «و خامسها»: جواز تأخير بيان العام لما فيه من أصل الفائدة، و لا يجوز تأخير بيان المجمل؛ لأن وروده لا فائدة فيه. «و سادسها»: يمتنع في غير النسخ و يجوز فيه، و اختاره الجبائيان و عبد الجبار. و أما تأخير البيان عن وقت الحاجة فأجمع «الأصوليون» على عدم جوازه؛ و هو حق، لكن لا يصح على إطلاقه عندنا، إن أريد
ـ[1]- فى (ه) أبو اسحاق المروزي. [2]- لا توجد فى (ه). [3]- ما بين القوسين لا يوجد فى (ه)ـ
[ 292 ]
بيان ما هو حكم اللّه في الواقع لاحتمال التقية. فان قلت: البيان من باب التقية نوع من البيان. قلت: نعم، لكنه بيان للحكم الضروري لا الواقعي. و لو تأملت أماكن العمل بهذا الأصل في «كتب المتأخرين» لظهر لك أنهم يريدون به بيان الحكم الواقع [1] و نفس الأمر. فلهذا لا يعتمد عليه عندنا، لجواز أن يكون تأخير البيان للتقية، و علم الامام (ع) لعدم حاجة السائل ذلك الوقت إلى البيان. (المبحث السابع) (فى الظاهر و المؤول) الظاهر: ما دلالته مظنونة لرجحانها. و المؤوّل: اللفظ المحمول على المعنى المحتمل الرجوع لأمر أوجب ذلك و التأويل إما قريب لا يأباه الطبع و لا اللغة؛ كتأويل اليد بالقدرة. أو بعيد؛ كتأويل مسح الأرجل في آية الوضوء بالغسل الخفيف. أو أبعد كتأويله بالمسح على الخفين. و لا يجوز العدول إلى البعيد مع احتمال القريب؛ كما يفعل كثير من جهال العامة و غيرهم. و إذا تأملت الأحاديث المنقولة عن أيمة الهدى (ع) لم تجد حديثا– مما يحتاج إليه– متشابها إلا و هناك حديث يفسره على أحسن وجه. فلا حاجة في ذلك إلى العقول الناقصة و التأويلات المتكلفة، و أما ما لا يحتاج إليه فان ورد شيء يفسره أو أمكن تأويله بدون تكلف فذاك؛ و إلا فالسكوت أسلم، و الهداية من اللّه سبحانه
ـ[1]- في (ه) بيان الحكم في الواقع
[ 293 ]
ـ(المبحث الثامن) (فى المنطوق و المفهوم) اعلم: أن المعنى إذا أعتبر بالنظر إلى دلالة اللفظ عليه فهو قسمان: «منطوق و مفهوم». و المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، و الصريح منه– مطابقي و تضمني–، و غيره– التزامي–، فان قصد غير الصريح و توقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه فتسمى دلالة اللفظ عليه– دلالة الاقتضاء–، و هي ما كان المدلول فيها مضمرا؛ إما لضرورة صدق المتكلم كقوله (عليه السلام) «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان»، و قوله (عليه السلام) «لا صلاة إلا بطهور» و قوله (عليه السلام) «لا عمل إلا بنية» فانه لا بدّ من اضمار حكم يرد النفي عليه؛ كالمؤاخذة في الأول، و الصحة في الثاني؛ و الفائدة في الثالث. و إما لصحة الكلام عقلا نحو– اسأل القرية– فانه لا بدّ من إضمار «الأهل» لأن سؤال القرية غير معقول. أو شرعا نحو– أعتق عني– [1]، فانه يستدعي إضمار «التمليك» [لتوقف] [2] صحة العتق عليه شرعا. و إن قصد اللازم و لم يتوقف صحة الكلام عليه و لا صدقه عليه لكنه يكون مفهوما في محل يتناوله اللفظ [نطقا] [3] فتسمى دلالة اللفظ عليه– دلالة التنبيه و الايماء–؛ لأن فيه تنبيها و إيماء إلى علة الحكم، كقوله عليه
ـ[1]- فى (ه) اعتق عبدك عني. [2]- في الاصل: (و الا لتوقف) (ر). [3]- فى الأصل «نقطا». (ر)ـ
[ 294 ]
السلام «من أحيا أرضا ميتة فهي له». و إن يكن غير الصريح مقصودا للمتكلم بحسب الظاهر و لكنه لازم نحو قوله تعالى: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلٰاثُونَ شَهْراً) [1] مع قوله: (وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ) [2] فانه يلزم من ذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، و إن لم يكن يقصد من اللفظ؛ لأنه مسوق لبيان حق الوالدة و ما تقاسيه في الحمل و الفصال، فهذه الدلالة تسمى– دلالة الاشارة-. و أما المفهوم: فهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق فان كان مفهوم الموافقة بأن يكون الحكم أو الحال [3]، فى المسكوت عنه موافقا لما في محل النطق إثباتا أو نفيا، و أولى منه نحو قوله تعالى: (فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ) [4] فالتأفيف محل النطق و يعلم منه حال الضرب و هو غير محل النطق مع الانفاق في الحكم و هو حرمة أذى الأبوين. و الحكم هنا في محل السكوت الذي هو الضرب أولى منه في محل النطق الذي هو التأفيف فتسمى– فحوى الخطاب و لحن الخطاب– أي معناه و مفهومه لأنه يفهم منه غير المذكور قطعا لكونه أولى بالحكم من المنطوق و لذلك يسمى– القياس الجلي، و القياس بطريق أولى–، و هو حجة إجماعا لأنه قطعي الدلالة. و إن كان مفهوم المخالفة و هو أن يكون حكم غير المذكور مخالفا للمذكور اثباتا أو نفيا، فيسمى– دليل الخطاب– أي مدلوله، أو الدال الذي هو من
ـ[1]- سورة الاحقاف. آية/ 15. [2]- سورة لقمان. آية/ 14. [3]- فى (ه) و الحال. [4]- سورة الاسراء. آية/ 23
[ 295 ]
جنس الخطاب فالاضافة بيانية، و أقسامه عشرة: (الأول) مفهوم الشرط، نحو قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [1] و هو حجة عند المحقق و العلامة و الرازي و أبي الحسين البصري و الكرخي. و أنكر حجيته المرتضى و ابن السراج [2] و ابن زهرة. فالحق أنه حجة لأنه من اللوازم البينة فلا يعدل عنه إلا بدليل من خارج، و في كتاب الصوم من «التهذيب» حديث يدل على أنه حجة. (الثاني) مفهوم الصفة: و هو تعليق الحكم على احد وصفي الحقيقة نحو «فى الغنم السائمة زكاة» فهل ينتفي بانتفاء ذلك الوصف؛ فيدل على انه ليس في المعلوفة زكاة أم لا؟. قال بالأول: الشيخ الطوسي و الشهيد في «الذكرى» و الشافعي و أحمد و ابو عبيدة. و أنكره المرتضى و المحقق و العلامة و أبو حنيفة و ابن سريح [3] و الباقلاني و الغزالي و الأخفش و الآمدي و الفخر الرازي. (الثالث) مفهوم الغاية، و هو عبارة عن دلالة الحكم إلى غاية بصيغة «إلى او حتى» على نفي الحكم عما بعدها نحو قوله تعالى: (فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [4]، و هو حجة عند الباقلاني و الغزالي و عبد الجبار و أبي الحسين و العلامة
ـ[1]- سورة البقرة. آية/ 185. [2]- فى (ه) و ابن البراج. [3]- فى (ه) و ابن شريح. [4]- سورة البقرة. آية/ 230
[ 296 ]
و انكره السيد المرتضى و الحنفية و الآمدي. و قال آخرون: ان انفصلت الغاية عن ذي الغاية حسا ك (أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَى اللَّيْلِ) [1] كان حكم ما بعدها بخلاف ما قبلها لانفصال احدهما عن الآخر– حسا–، و ان لم تكن كذلك مثل المرافق– حيث ان المرافق غير منفصلة عن اليد بمفصل محسوس، لم تجب المخالفة و جاز ان يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها. (الرابع) مفهوم اللقب: و هو تعليق الحكم على اسم جامد؛ كاسم الجنس و العلم، فالمراد به ما يعم– الاسم و اللقب و الكنية–، نحو «في الغنم زكاة» فمفهومه نفي الزكاة عن غير الغنم و الأكثر على انه ليس حجة؛ و انما ذكر للاخبار عنه لا لنفيه عن غيره، و ذهب المالكية و الحنابلة و الدقاق و الصيرفي: إلى انه حجة. (الخامس) مفهوم الحصر نحو؛ العالم زيد، هذا إذا فسر بطريق تقديم الوصف على الموصوف، و قد يفسر بما يدل على حكمين؛ احدهما: منطوق، و الآخر: مفهوم، و يراد به حينئذ مطلق التخصيص، و هذا هو الشائع فيشمل، نحو لا إله إلا اللّه، و لا صلاة إلا بطهور، و إنما الاعمال بالنيات و قد يفسر بما يكون الحصر فيه مستفادا من التقديم فيتناول جميع صور تقديم ما حقه التأخير، و هذا اعم من الأول، و اخص من الثاني. (السادس) تعليق الحكم بعدد خاص نحو؛ ثمانين جلدة. (السابع) مفهوم «إنما» و هو اثبات الحكم لما ذكر بعدها اجزاء في الكلام المصدر بها و نفيه عما عداه. و ذهب إليه ابو اسحاق الشيرازي و الغزالي و الرازي قالوا: انها تفيد اثبات الحكم للمذكور و نفيه عن غيره بحسب المفهوم و قال جماعة: انها تفيد الحصر
ـ[1]- سورة البقرة. آية/ 187
[ 297 ]
بمنطوقها فلا فرق بينها و بين «ما، و إلا». و قال الآمدي و أبو حيان: إنها لا يقيد الحصر اختلاف، إنما يقيد تأكيد الاثبات [1]. قال أبو حيان: إن فهم الحصر منها، فانما يفهم من سياق الكلام. (الثامن) التخصيص بالوصف الذي يطرأ و يزول نحو– في السائمة زكاة–، و هذا قريب من مفهوم الصفة. (التاسع) مفهوم المشتق الدال على الجنس نحو: لا تبيعوا الطعام بالطعام [2] و هو قريب من مفهوم اللقب. (العاشر) مفهوم الاستثناء نحو: لا عالم إلا زيد. (المبحث التاسع) (فى النسخ) و هو رفع الحكم بدليل شرعي متراخ عنه، [و] وقوعه إجماعي لم ينكره إلا اليهود لعنهم اللّه، و أبو مسلم الاصبهاني، و هل يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقته المقدر له شرعا؟. منعه السيد المرتضى و الشيخ الطوسي و العلامة، و جوزه المفيد و ابن الحاجب و أكثر الأشاعرة، و توقف شيخنا البهائي فى ذلك. و جواز نسخ الكتاب بمثله؛ و وقوعه إجماعي، و أما نسخه بالسنة المتواترة، فالامامية و اكثر الأشاعرة و المعتزلة و الحنفية و مالك على جوازه و وقوعه، و منعه الشافعي و ابن حنبل
ـ[1]- فى (ه) انها لا يفيد الحصر اصلا، و انما يفيد تأكيد الاثبات. [2]- فى (ه) لا تبيعوا الطعام
[ 298 ]
و يجوز نسخ السنة بالكتاب، و لا يجوز نسخ الكتاب و لا السنة المتواترة بخير الآحاد عند القدماء، و اجازه المتأخرون. و يجوز نسخ الثلاثة لا الحكم و عكسه و نسخهما معا و نسخ الأخف بالأشق و عكسه، و هل يجوز نسخ الفعل مع قيد التأييد، كأن يقول– صوموا ابدأ– ثم ينسخه، اجازه قوم و منعه آخرون. (الفصل السادس) (فى الاجتهاد و التقليد) قد تقدم ما فيه الكفاية، و لنذكر هنا مسائل خمسا لا تخلو من فوائد: «الأولى» احكام النبي (ص) ليست عن اجتهاد باجماع الامامية و وافقهم على ذلك ابو علي الجبائي و ابنه أبو هاشم، و جوزه جمهور العامة لكن منهم من قال بوقوعه، و هم الأكثر، و اختاره الآمدي و ابن الحاجب، و منهم من توقف في وقوعه، و اختاره الغزالي و الفخر الرازي. و خص بعض العامة محل النزاع بما يتعلق بأمر الحروف و نحو ذلك، دون الأحكام الشرعية، و نقل بعضهم الاجماع على جوازه و وقوعه مطلقا، و جوز السيد المرتضى عليه الاجتهاد عقلا و منع من وقوعه سمعا. (الثانية) اتفق العلماء على ان المصيب فى العقليات التي وقع التكليف باعتقادها؛ كحدوث العالم و وجود الصانع و ارسال الرسل و نصب الايمة– ع– واحد و غيره مخطئ آثم. فان اخطأ فيما يرجع الى الايمان باللّه و رسوله (ص) و ما علم ثبوته من الدين ضرورة كمسألة حدوث العالم و القول بالمعاد الجسماني و نحو ذلك، فهو كافر إجماعا لم يخالف فيه الا الجاحظ و العنبري: فانهما قالا
[ 299 ]
كل مجتهد في العقليات مصيب، و ليس مرادهما من الاصابة مطابقة الاعتقادات المختلفة للواقع، لأن استحالة ذلك معلوم بديهة بل مرادهما نفي الاثم عن المخطئ فيها بعد بذل جهده. (الثالثة) كل ما علم ثبوته من الدين ضرورة من فروع الشريعة؛ كوجوب الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم، و تحريم الزنا و السرقة و شرب الخمر، فالحق فيه واحد و من انكر شيئا منها سواء كان عن عناد او اجتهاد فهو كافر اجماعا. (الرابعة) ما لا يعلم حكمه من الدين ضرورة من فروع الشريعة، اختلف فيه الأصوليون؛ فقال القاضي عبد الجبار و ابو علي الجبائي و الباقلاني و الأشعري و العلاف. كل مجتهد فيه مصيب و معنى الاصابة عندهم إدراك مراد اللّه تعالى و حكمه، لأنهم زعموا انه ليس للّه تعالى في المسألة الاجتهادية حكم معين حتى يتصور فيه الخطأ، بل حكمه تابع لظن المجتهد فما ظنه، فهو حكم اللّه في حقه هو و حق مقلديه. و قال ابو يوسف و محمد بن الحسين و ابن سريح [1] إن كل مجتهد مصيب؛ بمعنى انه و إن لم يكن في الواقعة حكم معين، إلا انه لو وجد ما لو حكم اللّه به فيها لم يحكم إلا به، و كل هؤلاء يسمون «المصوبة». و ذهب جماعة كثيرة إلى ان للّه في كل مسألة حكما معينا، و المصيب واحد و غيره مخطئ و هؤلاء يسمّون «المخطّئة»، و اختلفوا فقال بعضهم: إن الحكم معين لكن ليس عليه دليل و لا أمارة و المجتهد قد يقف عليه اتفاقا– كدفين يعثر عليه من غير قصد– فلمن ظفر به «اجران» و لمن
ـ[1]- في في (ه) و ابن شريح
[ 300 ]
أخطأه «أجر واحد» لما تحمله من الكد. و قال آخرون: بل عليه دليل ظني، و المخطئ غير آثم لأنه لم يكلّف إصابته حتما لغموضه، بل له أجر الكد و إن أخطأه، و اختار هذا أكثر العامة، و كل المتأخرين من الخاصة. و قال قوم: إن المجتهد مكلف بطلبه و إصابته، فان أخطأه و غلب على ظنه شيء آخر تغير التكليف و صار مأمورا بالعمل بظنه، و لم يكن له أجر و سقط عنه الاثم تخفيفا. و قال بشر المريسي و الأصم: دليله قطعي و المخطئ آثم، و اختاره المفيد و المرتضى و الشيخ الطوسي بل كل قدماء الامامية؛ كما نقلناه في اوّل الكتاب؛ و نقل عن أئمة العامة الأربعة «التصويب و التخطئة». (الخامسة) التقليد عند المتأخرين من الامامية: هو عمل العامي بقول المجتهد فيما يرجحه ظنه من فروع الشريعة، و عند قدمائهم: هو رجوع العامي إلى قول المعصوم في امور دينه و لو بواسطة يوثق بنقله، فمن نفى التقليد من القدماء اراد الأول، و من قال به اراد الثاني. قال الحلبيون من اصحابنا كابن حمزة و ابن زهرة و ابي الصلاح و غيرهم لا يجوز التقليد في اصول الدين و لا في فروعه، بل يجب الاجتهاد في ذلك على كل مكلف، و مرادهم بهذا انه لا يجوز العمل إلا بما ورد عن المعصوم– ع– دون غيره مما يستند إلى رأي او اجتهاد، و يجب على كل مكلف الاجتهاد و السعي في تحصيل ذلك، فلا تقليد في الواقع إلا له، و المجتهد ناقل لفتواه [1]ـ