الفوائد المدنية – محمد أمين الإسترآبادي

الفوائد المدنية

محمد أمين الإسترآبادي


[ 27 ]

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمدا لله باعث النبيين وناصب الأوصياء المعصومين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى أصحاب سره وأبواب مدينة علمه الأئمة الطاهرين المطهرين الحافظين للدين. فأقول: اني بعد ما قرأت الأصولين على معظم أصحابهما واستفدت حقائقهما ودقائقهما من كمل أربابهما، وتحملت الأحاديث المنقولة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) من جل رواتها العارفين بحقائقها الواصلين إلى دقائقها وأخذت علم الفقه من أفواه جماعة من فقهاء أصحابناقدس الله أرواحهمعرضت على تلك الأحاديث قواعد الأصولين المسطورة في كتب أصول الخاصة وكتب العامة والمسائل


[ 28 ]

الاجتهادية الفقهية فوجدتهما في مواضع لا تعد ولا تحصى مخالفتين لمتواتراتها، فصرفت عمري دهرا طويلا في المدينة المنورةعلى مشرفيها ألف صلاة وسلام وتحيةفي تنقيح الأحاديث وتحقيقها، حتى فتح الله تعالى علي أبواب الحق فيما يتعلق بالأصولين وبالمسائل الفقهية وغيرهما ببركات مدينة العلم وأبوابها


[ 29 ]

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . ولما أراد جمع من الأفاضل في مكة المعظمة قراءة بعض الكتب الأصولية لدي جمعت فوائد مشتملة على جل ما استفدته من كلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) مما يتعلق بفن أصول الفقه وطرف مما يتعلق بغيره وسميتها ب‍ الفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد أي اتباع الظن في نفس الأحكام الإلهية، وهي مشتملة على مقدمة واثني عشر فصلا وخاتمة


[ 30 ]

المقدمة في ذكر ما أحدثه العلامة الحلي وموافقوه، خلافا لمعظم الإمامية أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وهو أمران: أحدهما: تقسيم أحاديث كتبنا المأخوذة عن الأصول التي ألفها أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بأمرهملتكون مرجعا للشيعة في عقائدهم وأعمالهم، لا سيما في زمن الغيبة الكبرى؛ لئلا يضيع من كان في أصلاب الرجال من شيعتهمإلى أقسام أربعة. وعلى زعمه معظم تلك الأحاديث الممهدة في تلك الأصول بأمرهم (عليهم السلام) غير صحيح، وزعمه هذا نشأ من حدة ذهنه واستعجاله في التصانيف، وهو بين أصحابنا نظير الفخر الرازي بين العامة


[ 31 ]

والثاني: اختيار أنه ليس لله تعالى في المسائل التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب دليل قطعي، وأنه تعالى لذلك لم يكلف عباده فيها إلا بالعمل بظنون المجتهدين أخطأوا أو أصابوا، وانجر كلامه هذا إلى التزامه كثيرا من القواعد الأصولية المسطورة في كتب العامة المخالفة لما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وهو كان في غفلة عن ذلك. ولما ألهمني ربي بذلك ووجب علي إظهاره، لم تأخذني في الله لومة لائم فأظهرته، والله يعصمني من الناس


[ 32 ]

الفصل الأول: في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله أو بحكم ورد عنهم (عليهم السلام). والثاني: في بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين من المسائل الشرعية، أصلية كانت أو فرعية في السماع عن الصادقين (عليهم السلام). والثالث: في إثبات تعذر المجتهد المطلق. والرابع: في إبطال حصر الرعية في المجتهد والمقلد في زمن الغيبة. والخامس: في بيان أن في كثير من المواضع يحصل الظن على مذهب العامة دون الخاصة. والسادس: في سدالأبواب التي فتحتها العامة للاستنباطات الظنية بوجوه تفصيلية. والسابع: في بيان من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والافتاء. والثامن: في جواب الأسئلة المتجهة على ما استفدناه من كلامهم (عليهم السلام) ومن كلام قدمائناقدس الله أرواحهم . والتاسع: في تصحيح أحاديث كتبنا بوجوه كثيرة، تفطنت بها بتوفيق الله تعالى، وفي جواز التمسك بها لكونها متواترة النسبة إلى مؤلفيها وفي بيان القاعدة التي وضعوها (عليهم السلام) للخلاص من الحيرة في باب الأحاديث المتخالفة


[ 33 ]

والعاشر: في بيان الاصطلاحات التي يعم بها البلوى. والحادي عشر، والثاني عشر: في التنبيه على طرف من الأغلاط والترددات التي وقعت من فحول العلماء الأعلام، ليتضح عند أولي الألباب أن عمدة الخطأ أو التحير التي وقعت من العلماء في أفكارهم إنما نشأت من الخطأ في مقدمة هي مادة المواد في بابها، أو من التردد فيها


[ 34 ]

وليعلم أن المنطق غير عاصم عن هذا النوع من الخطأ، وغير نافع في الخلاص عن هذا التحير والتردد، بل لابد فيهما من التمسك بأصحاب العصمة (عليهم السلام). والخاتمة: في نقل طرف من كلام قدمائناقدس الله أرواحهمليكون فذلكة لما فصلناه. وإن أحطت خبرا بما في كتابنا هذا تجد فيه حقائق ودقائق خلت عنها كتب


[ 35 ]

الأولين والآخرين من الحكماء والفقهاء والمتكلمين والأصوليين، وهي أنموذج مما أعطاني ربي جل وعز، وأسأل الله التوفيق لإتمام ما أنا مشتغل به من شرحي لأصول كتاب الكافي، وشرحي لتهذيب الحديث، وردي لما أحدثه الفاضلان المتخاصمان المشككان المستعجلان في حواشي الشرح الجديد للتجريد وفوائدي المتعلقة بدقائق الفنون الغريبة وحقائقها المخفية، والله الموفق للصواب وإليه


[ 36 ]

المرجع والمآب


[ 37 ]

فائدة قد اشتهر في كتب بعض المتأخرين من فضلائنا الأصوليين المتبحرينكالعلامة الحلي ومن وافقهأن في زمن الغيبة تنقسم الرعية إلى مجتهد ومقلد، وأ نه يجب على المقلد أن يرجع إلى ظن المجتهد في المسائل الشرعية التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب، وأن المجتهد المطلق هو الذي يتمكن من استنباط كل مسألة شرعية فرعية نظرية، وذكروا أن ذلك التمكن إنما يحصل بأن يعرف مدارك جميع الأحكام الشرعية، وأن تلك المعرفة تتحقق بمعرفة جميع المقدمات الست وهي: الكلام، والأصول، والنحو والتصريف ولغة العرب، وشرائط الأدلة، والأصول الأربعة، وهي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل. وذكر العالم الرباني الشهيد الثانيقدس الله سرهفي بعض كتبه الفقهية في مبحث القاضي: أن المعتبر من الكلام: ما يعرف به الله تعالى وما يلزمه من صفات الجلال والإكرام وعدله وحكمته، ونبوة نبينا (صلى الله عليه وآله) وعصمته، وإمامة الأئمة (عليهم السلام) كذلك، ليحصل الوثوق بخبرهم ويتحقق الحجة به، والتصديق بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من أحوال الدنيا والآخرة، كل ذلك بالدليل التفصيلي . ولا يشترط الزيادة على ذلك بالاطلاع على


[ 38 ]

ما حققه المتكلمون من أحكام الجواهر والأعراض، وما اشتملت عليه كتبه من الحكمة والمقدمات والاعتراضات وأجوبة الشبهات، وإن وجب معرفته كفاية من جهة أخرى. ومن ثم صرح جماعة من المحققين بأن الكلام ليس شرطا في التفقه، فإن ما يتوقف عليه منه مشترك بين سائر المكلفين. ومن الأصول: ما يعرف به أدلة الأحكام من الأمر والنهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والبيان وغيرها مما اشتملت عليه مقاصده. ومن النحو والتصريف: ما يختلف المعنى باختلافه ليحصل بسببه معرفة المراد من الخطاب. ولا يعتبر الاستقصاء فيه على الوجه التام بل يكفي الوسط منه فما دون. ومن اللغة: ما يحصل به فهم كلام الله تعالى ورسوله ونوابه (عليهم السلام) بالحفظ أو الرجوع إلى أصل مصحح يشتمل على معاني الألفاظ المتداولة في ذلك


[ 39 ]

ومن شرائط الأدلة: معرفة الأشكال الاقترانية والاستثنائية وما يتوقف عليه من المعاني المفردة وغيرها. ولا يشترط الاستقصاء في ذلك بل يقتصر على المجزئ منه، وما زاد عليه فهو مجرد تضييع للعمر وترجئة للوقت. والمعتبر من الكتاب الكريم: معرفة ما يتعلق بالأحكام وهو نحو من خمسمائة آية، إما بحفظها أو فهم مقتضاها ليرجع إليها متى شاء، ويتوقف على معرفة الناسخ منها من المنسوخ ولو بالرجوع إلى أصل يشتمل عليه. ومن السنة: جميع ما اشتمل منها على الأحكام ولو في أصل مصحح رواه عن عدل بسند متصل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ويعرف الصحيح منها والحسن والموثق والضعيف والموقوف والمرسل والمتواتر والآحاد، وغيرها من الاصطلاحات التي دونت في دراية الحديث، المفتقر إليها في استنباط الأحكام، وهي أمور اصطلاحية


[ 40 ]

توقيفية لا مباحث علمية. ويدخل في أصول الفقه معرفة أحوالها عند التعارض وكثير من أحكامها. ومن الإجماع والخلاف: أن يعرف أن ما يفتي به لا يخالف الإجماع، إما بوجود موافق من المتقدمين، أو بغلبة ظنه على أنه واقعة متجددة لم يبحث عنها السابقون بحيث حصل فيها أحد الأمرين لا معرفة كل مسألة أجمعوا عليها أو اختلفوا. ودلالة العقل من الاستصحاب والبراءة الأصلية وغيرهما داخلة في الأصول. وكذا معرفة ما يحتج به من القياس، بل يشتمل كثير من مختصرات أصول الفقهكالتهذيب ومختصر الأصول لابن الحاجبعلى ما يحتاج إليه من شرائط الدليل المدون في علم الميزان، وكثير من كتب النحو على ما يحتاج إليه من التصريف. نعم، يشترط مع ذلك كله أن يكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطها منها. وهذه هي العمدة في هذا الباب، وإلا فتحصيل تلك المقدمات قد صارت في زماننا سهلة، لكثرة ما حققه العلماء والفقهاء فيها وفي بيان استعمالها، وإنما تلك القوة بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين﴾ وإذا تحقق المفتي بهذا الوصف وجب على الناس الترافع إليه وقبول قوله والتزام حكمه، لأنه منصوب من الإمام (عليه السلام)ـ


[ 41 ]

على العموم بقوله: ” انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا وعرف أحكامنا فاجعلوه قاضيا فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه وفي بعض الأخبار : ” فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله عزوجل انتهى كلامهأعلى الله مقامه . أقول: المراد من الآية الشريفة ونظائرها سلوك طريق مهده الله تعالى وأوجب سلوكها، وهو الإقرار والاعتراف بما جاء به صاحب المعجزة، ثم أخذ كل ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية منه بواسطة أو بدونها. وأقول: زعم جمع من متأخري أصحابنا دلالة هذين الخبرين وأشباههما على وجوب اتباع ظن صاحب الملكة المخصوصة، سواء استند ظنه إلى استصحاب حكم سابق على طرق الحالة الجديدة، أو إلى البراءة الأصلية، أو إلى عموم آية أو إطلاقها أو إلى ملازمة عقلية قطعية بزعمهم، أو إلى جمع بين حديثين متعارضين بتأويل بعيد، أو إلى غير ذلك من أسباب الظن. والمنصف اللبيب يقطع بعدم دلالتها على ما زعموه وبدلالتها على الرجوع إلى رواة أحاديثهم (عليهم السلام) كما صرح به إمام الزمان ناموس العصر والأوانصلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائهوسيجئ توضيحه في كتابنا هذا. وذكر [بحرالعلوم المؤيد من الحي القيوم] علامة المشارق والمغارب العلامة الحلي (رحمه الله) في كتابه المسمى ب‍ مبادئ الوصول إلى علم الأصول في باب الاجتهاد: الحق أن المصيب واحد وأن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا، وأن عليه دليلا ظاهرا لا قطعيا، والمخطئ بعد الاجتهاد غير مأثوم انتهى كلامه (رحمه الله)ـ


[ 42 ]

وذكر في كتاب تهذيب الأصول: الحادثة إن نزلت بالمجتهد في نفسه عمل على ما أداه اجتهاده إليه، فإن تساوت الأمارات تخير أو عاد إلى الاجتهاد. وإن تعلقت بغيره وكان مما يجري فيه الصلح كالمال اصطلحا أو ترافعا إلى حاكم يفصل بينهما، ولا يجوز الرجوع بعد الحكم. وإن لم يجر فيه الصلح كالطلاق بصيغة يعتقدها أحدهما دون الآخر رجعا إلى حاكم غيرهما، سواء كان صاحب الواقعة مجتهدا أو حاكما أو لا، إذ ليس للحاكم أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من قبله من يقضي بينهما. وإن نزلت بالمقلد رجع إلى المفتي، فإن تعدد رجع إلى ما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا عمل بالأعلم الأزهد، فإن تساويا تخير. وإن حكم بوقوع الخلع ثلاثا فسخا


[ 43 ]

فنكح ثم اعتقد مساواته للطلاق فالأقرب بقاء النكاح، لأن حكم الحاكم لما اتصل بالنكاح تأكد فلا يفسد بتغير الاجتهاد، أما لو اعتقد قبل النكاح فإنه يحرم عليه إمساكها. ولو كان الزوج عاميا فأمسك بقول المفتي، ثم تغير اجتهاد المفتي فالأقرب أ نه يرجع عن النكاح، لأن الحكم أقوى من الإفتاء، فإن الحكم لا ينقض إلا أن يخالف دليلا قطعيا، لا ظاهرا. وذكر فيه: المجتهد إن ذكر دليل فتياه أولا لم يجب تكرير الاجتهاد، وإلا اجتهد، فإن خالف أفتى بالثاني وعرف المستفتي رجوعه، ولو لم يجتهد فهل له البناء على الأول والإفتاء بذلك الاجتهاد؟ الأقرب ذلك. وذكر فيه: العامي يجب عليه التقليد في الفروع إذا لم يتمكن من الاجتهاد، وإن تمكن من فعل الاجتهاد تخير بينه وبين الاستفتاء، وكذا إن كان عالما لم يبلغ رتبة الاجتهاد. أما لو كان عالما بلغ رتبة الاجتهاد واجتهد لم يجزله العدول إلى قول المفتي . وذكر في مبادئ الوصول إلى علم الأصول: الاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية على وجه لا زيادة فيه، ولا يصح في حق النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب فلا يجوز تعبده (صلى الله عليه وآله) به. وكذلك لا يجوز لأحد من الأئمة (عليهم السلام) الاجتهاد عندنا، لأنهم معصومون، وإنما أخذوا الأحكام بتعليم الرسول (صلى الله عليه وآله) أو بإلهام من الله عز وجل. وأما العلماء فيجوز لهم الاجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات في القرآن والسنة وترجيح الأدلة المتعارضة، أما بأخذ الحكم عن القياس والاستحسان فلا


[ 44 ]

ثم ذكر فيه: البحث الثاني في شرائط المجتهد: وينظمها شيء واحد، وهو أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام، وهذه المكنة إنما تحصل بأن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه، وبحكمة الله تعالى وعصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) ليحصل له الوثوق بإرادة ما يقتضيه ظاهر اللفظ إن تجرد، وغير ظاهره مع القرينة وعالما بتجرد اللفظ أو عدم تجرده من التخصيص والنسخ، وبشرائط المتواتر والآحاد، وبجهات الترجيح عند تعارض الأدلة، وهذا إنما يحصل بمعرفة الكتاب لا بجميعه، بل بما يتعلق بالأحكام منه وهو خمسمائة آية، ومعرفة الأحاديث المتعلقة بالأحكام لا بمعنى أن يكون حافظا لتلك، بل يكون عالما بمواقع الآيات حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها، وعنده أصل محقق يشتمل على الأحاديث المتعلقة بالأحكام، وأن يكون عالما بالإجماع لئلا يفتي بما يخالفه، وأن يكون عارفا بالبراءة الأصلية، ولابد أن يكون عالما بشرائط الحد والبرهان واللغة والنحو والتصريف، ويعلم الناسخ والمنسوخ وأحوال الرجال. إذا عرفت هذا، فالحق أنه يجوز أن يحصل الاجتهاد لشخص في علم دون آخر بل في مسألة دون أخرى، وإنما يقع الاجتهاد في الأحكام الشرعية إذا خلت عن دليل قطعي . وذكر في تهذيب الأصول: المجتهد فيه: حكم شرعي ليس عليه دليل قطعي، فخرج بالشرعي الأحكام العقلية، وبنفي الدليل القاطع ما علم كونه من الشرع ضرورة كوجوب الصلاة والزكاة . وذكر الضابط فيه: بحيث تمكن المكلف من إقامة الدليل على المسائل الفرعية، وإنما يتم ذلك له بأمور: أحدها: معرفة اللغة ومعاني الألفاظ الشرعية لا بالجميع، بل بما يحتاج إليه في


[ 45 ]

الاستدلال، ولو راجع أصلا صحيحا عنده في معاني الألفاظ جاز، وتدخل فيه معرفة النحو والتصريف، لأن الشرع عربي لا يتم إلا بمعرفتهما، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وثانيها: أن يكون عارفا بمراد الله تعالى من اللفظ، وإنما يتم ذلك لو عرف أنه لا يخاطب بما لا يفهم معناه ولا بما يريد به خلاف ظاهره من غير بيان، وإنما يتم ذلك لو عرف أنه تعالى حكيم، وهو يتوقف على علمه تعالى بالقبيح وباستغنائه عنه والعلم بصدق الرسول (عليه السلام) وأصول قواعد الكلام. وثالثها: أن يكون عارفا بالأحاديث الدالة على الأحكام إما بالحفظ أو بالرجوع إلى أصل صحيح، وأحوال الرجال ليعرف صحيح الأخبار من معتلها، ويعرف أيضا من الكتاب ما تستفاد منه الأحكام وهو خمسمائة آية، ولا يشترط حفظها بل معرفة دلالتها ومواضعها بحيث يجدها عند طلبها. ورابعها: أن يكون عارفا بالإجماع ومواقعه بحيث لا يفتي بما يخالفه. وخامسها: أن يعرف أدلة العقل كالبراءة الأصلية والاستصحاب وغيرهما. وسادسها: أن يعرف شرائط البرهان. وسابعها: أن يعرف الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد وغيرها من طرق الأحكام. وثامنها: أن تكون له قوة استنباط الأحكام الفرعية من المسائل الأصولية وذكر: الأمارتان إن تعادلتا في حكم واحد وتنافى الفعلان جاز، كتوجه المصلي إلى جهتين غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة، فالحكم وهو الوجوب واحد فيتخير المجتهد. وإن اتحد الفعل وتنافى الحكم كالأمارة الدالة على قبح الفعل والأمارة الدالة على وجوبه أو جوازه، فمنع قوم منه شرعا وإن جاز عقلا. أما الجواز فلإمكان إخبار عدلين بحكمين متنافيين وأما عدم الوقوع فلأن العمل بهما يقتضي وجوب الفعل وتحريمه على مكلف واحد، وتركهما يقتضي


[ 46 ]

العبث بوضعهما، إذ وضع أمارة لا يمكن العمل بها عبث، والعمل بإحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح. وجوزه قوم وهو الأقرب، والحكم هنا التخيير أيضا. ولا يلزم من التخيير بين أمارة الوجوب والإباحة الإباحة، لأن المجتهد إن أخذ بأمارة الإباحة ثبت في حقه [وإن أخذ بأمارة الوجوب ثبت في حقه] كالمسافر إذا حصل في مكان يتخير فيه بين الإتمام والقصر، فإن صلى بنية القصر سقط عنه وجوب الركعتين، وإن صلى تاما كان واجبا. وكمن عليه درهمان إذا قال له المالك: إن دفعت إلي الدرهمين فلي الأخذ، وإن دفعت إلي أحدهما أسقطت الآخر عنك انتهى كلامه. أقول: تحرير محل النزاع أن تعادل الأمارتين إما في حال من أحوال متعلقات حكم الله تعالى، مثلا حكم الله تعالى وجوب التوجه إلى الكعبة وتعادل الأمارتين في أن الكعبة في الجنوب أو في الشمال. وإما في نفس حكم الله تعالى، مثلا: الوتر واجب أو غير واجب. فاتفق الأصوليون على جواز التعادل في الصورة الأولى، واختلفوا في جوازه في الصورة الثانية، فقال بعضهم: لا يجوز تبليغ الشريعة إلى العباد تبليغا ينتهي وصول أمارتين متعادلتين في حكم من أحكامه تعالى، لأنه يلزم أحد المحذورات المذكورة والحق هذا المذهب كما سيجيء بيانه في كتابنا هذا. وأما ما قد يتفق من تعادل الحديثين في بعض أبواب الفقه فهو من باب ضرورة التقية، ومحل النزاع أنه إذا لم يكن ضرورة كيف يكون الأمر؟ ثم ذكر: إذا عرفت هذا، فإن عرض التساوي للمجتهد تخير، وإن كان للمفتي خير المستفتي، وإن كان للحاكم عين ما شاء وله الحكم بإحداهما في وقت والأخرى في آخر لشخصين. وإن تعارض الدليلان فإما أن يكونا ظنيين فالحق الترجيح بينهما فيعمل بالراجح، وإلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو باطل، وإن أمكن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه تعين. وإما أن يكونا يقينيين فالتعارض بينهما محال، إلا أن يكون أحدهما قابلا للتأويل بالآخر بحيث يمكن


[ 47 ]

الجمع بينهما كالعام المقطوع نقله والخاص المظنون نقله . وذكر في كتاب المبادئ: لا يتعارض دليلان قطعيان، وهل يتعارض الظنيان؟ جوزه قوم لإمكان أن يخبرنا اثنان عدلان بحكمين متنافيين ولا يترجح أحدهما على الآخر. ومنع منه آخرون، لأنه لو تعارض دليلان على كون هذا الفعل مباحا ومحظورا فإن لم يعمل بهما أو عمل بهما لزم المحال، وإن عمل بأحدهما على التعيين لزم الترجيح من غير مرجح، أو لا على التعيين وهو باطل، لأ نا إذا خيرنا بين الفعل والترك فقد سوغنا له الترك فيكون ذلك ترجيحا لدليل الإباحة، وقد تقدم بطلانه. والأول عندي أقوى. والجواب عن الثاني: أن التخيير ليس إباحة، لأنه يجوز أن يقال له: إن أخذت بدليل الإباحة فقد أبحت لك، وإن أخذت بدليل الحظر فقد حرمت عليك، كمن عليه درهمان فقال له صاحبهما: قد تصدقت عليك بأحدهما إن قبلت، وإن لم تقبل وأتيت بالدرهمين قبلتهما عن الدين، فإن من عليه الدين مخير إن شاء أتى بدرهم، وإن شاء دفع درهمين عن الواجب. وكذا نقول في المسافر إذا حضر في أحد الأمكنة الأربعة التي يستحب فيها التمام، فإنه مكلف بركعتين إن شاء الترخص، وبأربع وجوبا إن لم يرده. إذا عرفت هذا، فالتعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان حكمه التخيير، وإن وقع للمفتي كان حكمه أن يخير المستفتي، وإن وقع للحاكم كان حكمه العمل بأحدهما ووجب عليه التعيين . وذكر في ترجيح الأخبار: الخبر الذي رواته أكثر أو أعلى سندا، أو كان رواته أعلم أو أزكى أو أزهد أو أذكر أو أشهر راجح، والفقيه أرجح من غيره، والأفقه أرجح، والعالم بالعربية أرجح، والأعلم بها أرجح من العالم، وصاحب الواقعة أرجح، والمجالس للعلماء أرجح، والمعلوم عدالته بالاختبار أرجح من المزكى، والمزكى


[ 48 ]

بالأعلم أولى، والأشد ضبطا أرجح، والجازم أرجح من الظان، والمشهور بالرئاسة أرجح من غيره، والمتحمل وقت البلوغ أرجح، وذاكر السبب أولى، وراوي اللفظ أرجح من راوي المعنى، والمعتضد بحديث غيره أرجح، والمدني أرجح من المكي، لقلة المكي بعد المدني، والوارد بعد ظهور النبي (صلى الله عليه وآله) أرجح، وذو السبب أولى، والفصيح أولى من الركيك، ولا يرجح الأفصح على الفصيح، والخاص متقدم، والدال بالوضع الشرعي أو العرفي أولى من اللغوي، والحقيقة أولى من المجاز، والدال بوجهين أولى من الدال بوجه واحد والمعلل أولى، والمؤكد أولى، وما فيه تهديد أولى، والناقل عن حكم الأصل راجح على المقرروقيل: بالعكسوالمشتمل على الحظر راجح عند الكرخي على المشتمل على الإباحة ومستويان عند أبي هاشم، والمثبت للطلاق والعتاق مقدم على النافي عند الكرخي، لموافقته الأصل، ومستويان عند آخرين، والنافي للحد راجح على المثبت، والذي عمل به بعض العلماء أرجح من الذي تركه إذا كان بحيث لا يخفى عليه . وذكر في تهذيب الأصول: الفقه عرفا العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة، فخرج العلم بالذوات وبالأحكام العقلية، وكون الإجماع وخبر الواحد ونظائرهما حجة، وعلم المقلد، والأصول الضرورية كالصلاة والزكاة. وظنية الطريق لا تنافي علمية الحكم، وليس المراد العلم بالجميع فعلا، بل قوة قريبة منه انتهى كلامه. وأقول: قد جرت عادة الحكماء والمتكلمين بجعل كل فن عبارة عن مسائل نظرية مخصوصة، وعن معرفات أطرافها وحجج إثباتها. ثم الفقهاء أرادوا سلوك تلك الطريقة فأخرجوا ضروريات الدين عن الفقه، ويلزمهم خروج ضروريات المذهب أيضا وإن لم يلتزموه، ويلزمهم خروج كثير من الأحكام الشرعية الفرعية عن الفقه. ومن المعلوم أنه غير مستحسن. والباعث للحكماء على ما فعلوا أن في باب التعليم والتعلم تدوين المسائل


[ 49 ]

البديهية ليس بمستحسن، فالفقهاء ظنوا أن ذلك الباعث جار هنا، وليس كذلك، لأنه ليس شيء من الأحكام الشرعية بديهيا بمعنى أنه لا يحتاج إلى دليل، والسبب في ذلك أن كلها محتاج إلى السماع من صاحب الشريعة. وبالجملة: وضوح الدليل لا يستلزم بداهة المدعى. وذكر السيد السند العلامة الأوحد السيد جمال الدين محمد الإسترابادي (قدس سره) في شرحه : هذا جواب سؤال مشهور وهو: أن العلم هو التصديق اليقيني والتصور، والفقه من باب الظنون فكيف يصح أخذ العلم في تعريفه؟ وملخص الجواب: أن الفقه من أقسام العلم وإن وقع في مقدماته الظن، وتحرير المقام: أن المجتهد بعد ما تعلق ظنه بحكم يرتب دليلا هكذا: هذا ما تعلق به ظن المجتهد، وكل ما تعلق به ظن المجتهد واجب العمل، ويأخذ نتيجته وهو قولنا: هذا واجب العمل، والمقدمتان قطعيتان. أما الأولى: فلأنها وجدانية كإدراكنا الجوع والعطش. وأما الثانية: فهي إجماعية، هكذا قالوا. وفيه بحث، لأن المقدمة الثانية قد أورد عليها أن الإجماع لا يفيد إلا الظن في هذه الصورة. وأجيب عنه بأن هذه المقدمة متواترة بالمعنى فهي يقينية؛ هكذا قال صاحب التلويح انتهى كلامه. أقول: توضيح المقام: أنه كان الشائع بين علماء العامة التمسك بآيات وروايات ظنية من جهة الدلالة أو من جهة المتن في جواز العمل بظن المجتهد المتعلق بنفس أحكامه تعالى، ولما وصلت النوبة إلى ابن الحاجب وتفطن بأن هذا التمسك يشتمل على دور بين واضح أحدث دليلا آخر قطعيا بزعمه، وهو أنا نعلم بالتواتر أن الصحابة الكبار عدلوا عن الظواهر القرآنية المانعة عن العمل بظن المجتهد المتعلق بنفس أحكامه تعالى، ولنا مقدمة عادية قطعية هي أن مثل هذا العدول لم يقع عن


[ 50 ]

مثل هؤلاء الأجلاء إلا بسبب نص صريح قطعي الدلالة سمعوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) . وأقول: فيه بحث، لأن العادة قاضية بأنه لو صدر مثل هذا النص لظهر واشتهر وصار من ضروريات الدين، لتوفر الدواعي على أخذه وضبطه ونشره، وعدم وقوع فتنة توجب إخفاءه، وقد اعترفوا بانتفاء التالي وسيجئ زيادة تحقيق لهذا المقام في كلامنا إن شاء الله تعالى. وأقول: تحقيق المقام أن حاصل المقدمة الثانية عند المصوبة من الأصوليين أن كل ما تعلق به ظن المجتهد فهو حكم الله الواقعي في حقه وحق مقلديه، وحاصلها عند المخطئة منهم: أن كل ما تعلق به ظن المجتهد فهو حكم الله الظاهري في حقه وحق مقلديه، وقد يكون حكم الله الواقعي وقد لا يكون. وذكر العلامة الحلي في كتاب تهذيب الأصول: الاجتهاد اصطلاحا: استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل ظن بحكم شرعي، والأقرب قبوله للتجزئة، لأن المقتضي لوجوب العمل مع الاجتهاد في كل الأحكام موجود مع الاجتهاد في بعضها، وتجويز تعلق المعلوم بالمجهول يدفعه الفرض انتهى كلامه (رحمه الله). وذكر الفاضل المدقق الشيخ حسن ابن العالم الرباني الشهيد الثانيرحمهما الله تعالىفي كتاب المعالم في مبحث اجتهاد التجزي : والتحقيق عندي في هذا المقام: أن فرض الاقتدار على استنباط بعض المسائل دون بعض على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق لها غير ممتنع ولكن التمسك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد المطلق قياس لا نقول به. نعم لو علم أن العلة في العمل بظن المجتهد المطلق هو قدرته على استنباط المسألة أمكن الإلحاق من باب منصوص العلة ولكن الشأن في العلم بالعلة، لفقد النص عليها ، ومن الجائز أن تكون هي قدرته على استنباط المسائل كلها، بل هذا


[ 51 ]

أقرب إلى الاعتبار من حيث إن عموم القدرة إنما هو لكمال القوة، ولا شك أن القوة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة، فكيف يستويان؟ سلمنا، ولكن التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق إنما هو على دليل قطعي وهو إجماع الأمة عليه وقضاء الضرورة به. وأقصى ما يتصور في موضع النزاع أن يحصل دليل ظني يدل على مساواة التجزي للاجتهاد المطلق، واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى الدور لأنه متجز في مسألة التجزي وتعلق بالظن في العمل بالظن. ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا لكنه خلاف المراد، إذ الفرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد المطلق وهذا إلحاق له بالمقلد بحسب الذات، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد، ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد. وإن شئت قلت: تركب التقليد والاجتهاد . انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأقول: يرد عليه أن إجماع الأمة غير مسلم، بل معلوم البطلان لما سيجيء نقله عن الأئمة (عليهم السلام) وعن قدمائنا وعن جمع من العامة، وقضاء الضرورة به باطل قطعا إن كان المقصود منه دعوى البداهة، وغير مسلم إن كان المقصود إلجاء الضرورة إليه، كما سيجيء بيان الكل إن شاء الله


[ 52 ]

ثم أقول: سيجيء في نقل كلامنا نقلا عن شرح جمع الجوامع من كتب الشافعية أن للمجتهد ثلاث مراتب: أعلى مراتبه المجتهد المطلق، ودونه في المرتبة مجتهد المذهب، ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا . والصورة التي فرضها الفاضل المدقق في مسألة التجزي ترجع إلى القسم الثاني من أقسام المجتهد، والأقسام الثلاثة مقبولة عند العامة بالإجماع. وأقول: من المعلوم أن العمل ببعض هذه الإجماعات دون بعض غير معقول، والله أعلم


[ 53 ]

وذكر الإمام المحقق قدوة المقدسين المحقق الحلي (قدس سره) في مختصره في الأصول: أما ما يفتقر إلى اجتهاد ونظر، فإنه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه فإن أخطأ لم يكن مأثوما. وذكر: يجب على من ليست له أهلية الاجتهاد أن يستفتي المجتهد فيما ينزل به من المسائل النظرية . وذكر في أوائل كتاب المعتبرشرح المختصرالفصل الثالث في مستند الأحكام، وهي عندنا خمسة الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل والاستصحاب. أما الكتاب: فأدلته قسمان: النص والظاهر. والنص: ما دل على المراد منه من غير احتمال، وفي مقابلته المجمل. وقد يتفق اللفظ الواحد أن يكون نصا مجملا باعتبارين، كقوله تعالى: ﴿يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ نص باعتبار الاعتداد، مجمل باعتبار ما تعتد به. وأما الظاهر: فهو اللفظ الدال على أحد محتملاته دلالة راجحة لا ينتفي معها الاحتمال، وفي مقابلته المؤول. والظاهر أنواع: أحدها: ما كان راجحا بحسب العرف كدلالة الغائط على الفضلة. وثانيها ما كان راجحا بحسب الشرع كدلالة لفظ الصوم على الإمساك عن


[ 54 ]

المفطرات. وهذان وإن كانا نصين باعتبار الشرع والعرف إلا أن احتمال إرادة الوضع لم ينتف انتفاء يقينيا. وثالثها: المطلق، وهو اللفظ الدال على الماهية، فهو في دلالته على تعلق الحكم بها لا بقيد منضم دلالة ظاهرة. ورابعها: العام، وهو الدال على اثنين فصاعدا من غير حصر، فإنه في دلالته على استيعاب الأشخاص ظاهر لا قاطع. أما المؤول: فهو اللفظ الذي يراد به المعنى المرجوح من محتملاته، كقوله تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك﴾ . وأما السنة: فثلاثة: قول، وفعل، وإقرار. أما القول ففيه الأقسام المتقدمة. وأما الأفعال: فإن وقع بيانا تبع المبين في وجوبه وندبه وإباحته، وإن فعله ابتداء فلا حجة فيه إلا أن يعلم الوجه الذي وقع عليه فتجب المتابعة. وما أقره النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه يدل على الجواز، لأنه (صلى الله عليه وآله) لا يقرر منكرا، سواء فعل بحضرته أو لا بحضرته مما يعلم أنه (صلى الله عليه وآله) علمه ولم ينكره. وأما ما يندر فلا حجة فيه، كما روي أن بعض الصحابة قال: ” كنا نجامع ونكسل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا نغتسل لجواز أن يخفى فعل ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) فلا يكون سكوته عنه دليلا على جوازه. لا يقال: قول الصحابي: ” كنا نفعل دليل على عمل الصحابة أو أكثرهم فلا يخفى على الرسول، لأ نا نمنع، إذ قد يخبر بذلك عن نفسه أو عن جماعة يمكن أن يخفى حالهم على النبي (صلى الله عليه وآله). ثم السنة: إما متواترة وهي ما حصل معها العلم القطعي باستحالة التواطؤ، أو خبر واحد وهو ما لم يبلغ ذلك، مسندا كان وهو ما اتصل المخبرون به إلى المخبر، أو مرسلا وهو ما لم يتصل سنده. فالمتواتر حجة لإفادته اليقين، وكذا ما أجمع على


[ 55 ]

العمل به. وأما ما أجمع الأصحاب على إطراحه فلا حجة فيه. مسألة: أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر، وما فطنوا ما تحته من التناقض، فإن من جملة الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله): ” ستكثر بعدي القالة علي وقول الصادق (عليه السلام): ” إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه ” . واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال: كل سليم السند يعمل به، وما علم أن الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب، إذ لا مصنف إلا وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل . وأفرط آخرون في طرف رد الخبر حتى أحال استعماله عقلا ونقلا. واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن في العمل به. وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه، لوجوه: أحدها: أنه مع خلوه عن المزية يكون جواز صدقه مساويا لجواز كذبه، ولا يثبت الشرع بما يحتمل الكذب


[ 56 ]

الثاني: إما أن يفيد الظن أو لا يفيد، وعلى التقديرين لا يعمل به أما بتقدير عدم الإفادة فمتفق عليه، وأما بتقدير إفادة الظن فمن وجوه ثلاثة: أحدها: قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الثاني: قوله تعالى: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ الثالث: قوله تعالى: ﴿وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ . الثالث: أنه إن خص دليلا عاما كان عدولا عن متيقن إلى مظنون، وإن نقل عن حكم الأصل كان عسرا وضررا وهو منفي بالدليل. ولو قيل: هو مفيد للظن فيعمل به تفصيا من الضرر المظنون، منعنا افادته الظن، لقوله (صلى الله عليه وآله): ” ستكثر بعدي القالة علي فإذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله العزيز فإن وافقه فاعملوا به وإلا فردوه وخبره صدق فلا خبر من هذا القبيل إلا يحتمل أن يكون من القبيل المكذوب. ولا يقال: هذا خبر واحد، لأ نا نقول: إن كان الخبر حجة فهذا أحد الأخبار، وإن لم يكن حجة فقد بطل الجميع. ولا يقال: الإمامية عاملة بالأخبار وعملها حجة، لأ نا نمنع ذلك، فإن أكثرهم يرد الخبر بأنه خبر واحد، وبأنه شاذ، فلولا استنادهم مع الأخبار إلى وجه يقتضي العمل بها لكان عملهم اقتراحا، وهذا لا يظن بالفرقة الناجية. وأما أنه مع عدم الظفر بالطاعن والمخالف لمضمونه يعمل به، فلأن مع عدم الوقوف على الطاعن والمخالف له يتيقن أنه حق، لاستحالة تمالي الأصحاب على القول بالباطل وخفاء الحق بينهم. وأما مع القرائن فلأنها حجة بانفرادها فتكون دالة على صدق مضمون الحديث ويراد بالاحتجاج به التأكيد. لا يقال: لو لم يكن خبر الواحد حجة لما نقل، لأ نا ننقض ذلك بنقل خبر من عرف فسقه وكفره ومن قذف بوضع الأخبار ورمي بالغلو، وبالأخبار التي استدلوا بها في البحوث العلمية كالتوحيد والعدل، والجواب في الكل واحد


[ 57 ]

وأما الإجماع: فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله [(عليه السلام)] لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله، فلا تغتر إذا بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالته بالباقين إلا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة ولنفرض صورا ثلاثا: الأولى: أن تفتي جماعة ثم لا نعلم من الباقين مخالفا، فالوجه أنه ليس حجة، لأنه كما لا نعلم مخالفا لا نعلم أن لا مخالف، ومع الجواز لا يتحقق دخول المعصوم في المفتين. الثانية: أن يختلف الأصحاب على قولين ففي جواز إحداث قول ثالث تردد، أصحه أنه لا يجوز بشرط أن يعلم أن لا قائل منهم إلا بأحدهما. الثالثة: أن يفترقوا فرقتين ويعلم أن الإمام ليس في إحداهما وتجهل الأخرى فتعين الحق مع المجهولة، وهذه الفروض تعقل لكن قل أن يتفق. وأما دليل العقل فقسمان: أحدهما: ما يتوقف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: الأول: لحن الخطاب كقوله تعالى: ﴿أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت﴾ أراد فضرب. الثاني: فحوى الخطاب وهو ما دل عليه بالتنبيه كقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) . الثالث: دليل الخطاب وهو تعليق الحكم على أحد وصفي الحقيقة كقوله: ” في سائمة الغنم الزكاة والشيخ يقول: هو حجة، وعلم الهدى ينكره. وهو الحق. أما تعليق الحكم على الشرط كقوله: ” إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء وكقوله: ﴿وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن﴾ فهو حجة تحقيقا لمعنى الشرط، ولا كذا لو علقه على الاسم كقوله: ” اضرب زيدا خلافا للدقاق. القسم الثاني: ما ينفرد العقل بالدلالة عليه، وهو إما وجوب كرد الوديعة، أو قبح


[ 58 ]

كالكذب والظلم، أو حسن كالإنصاف والصدق. ثم كل واحد من هذه كما يكون ضروريا قد يكون كسبيا كرد الوديعة مع الضرر وقبح الكذب مع النفع. وأما الاستصحاب فأقسامه ثلاثة: استصحاب حال العقل وهو التمسك بالبراءة الأصلية كما تقول ليس الوتر واجبا، لأن الأصل براءة العهدة. ومنه أن يختلف الفقهاء في حكم بالأقل والأكثر فيقتصر على الأقل، كما يقول بعض الأصحاب: في عين الدابة نصف قيمتها، ويقول الآخر: ربع قيمتها، فيقول المستدل: ثبت الربع إجماعا فينتفي الزائد نظرا إلى البراءة الأصلية. الثاني: أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه، وهذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف ولا يكون ذلك الاستدلال حجة. ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر. الثالث: استصحاب حال الشرع كالمتيمم يجد الماء في أثناء الصلاة، فيقول المستدل على الاستمرار: صلاة مشروعة قبل وجود الماء فيكون كذلك بعده. وليس هذا حجة لأن شرعيتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه. ثم مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله، لأ نك تقول: الذمة مشغولة قبل الإتمام فتكون مشغولة بعده. وأما القياس: فلا يعتمد عليه عندنا، لعدم اليقين بثمرته فيكون العمل به عملا بالظن المنهي عنه. ودعوى الإجماع من الصحابة على العمل به لم يثبت بل أنكره جماعة منهم، فما يمر بك من تمثيل شيء بشيء فليس بقياس، لأن أحدهما مقيس على الآخر، بل لاشتراكهما في الدلالة الشرعية لا القياسية انتهى كلامه (رحمه الله). وذكر سائر المتأخرين قريبا مما نقلناه عن جماعة منهم، واكتفينا بما رويناه روما للاختصار. وذكر أول مشايخي في علمي الحديث والرجالوتشرفت بالاستفادة وأخذ


[ 59 ]

الإجازة منه في عنفوان شبابي في المشهد المقدس الغروي في أوائل سنة سبع بعد الألفوهو السيد السند والعلامة الأوحد صاحب كتاب المدارك (شرح الشرائع) في أوائل ذلك الكتاب: الإجماع إنما يكون حجة مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم (عليه السلام) في جملة أقوال المجمعين، ولو أريد بالإجماع المعنى المشهور لم يكن حجة، لانحصار الأدلة الشرعية في الكتاب والسنة والبراءة الأصلية . انتهى كلامه (رحمه الله) . أقول: كلام شيخنا وسيدنا(رحمه الله)صريح في عدم حجية الإجماع واستصحاب الأحكام الشرعية، وفي أن الدليل عنده منحصر في ثلاثة، ومن المعلومكما سيجيء تحقيقهأن البراءة الأصلية إنما يثبت بها نفي الحكم الشرعي لا نفسه، فيلزم من ذلك انحصار الدليل على الحكم الشرعي في اثنين، ومن المعلوم أن حال الكتاب والحديث النبوي لا يعلم إلا من جهتهم (عليهم السلام)، فتعين الانحصار في أحاديثهم (عليهم السلام) كما سيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى. وأما آخر مشايخي في فن الفقه والحديث والرجال وهو مولانا العلامة المحقق والفيلسوف المدقق أفضل المحدثين وأعلم المتأخرين بأحوال الرجال وأورعهم الميرزا محمد الإسترابادي المجاور بحرم الله المدفون عند خديجة الكبرى، وقد استفدت منه في مكة المعظمة من أوائل سنة خمس عشرة بعد الألف إلى عشر سنين، وأجاز لي أن أروي عنه جميع ما يجوز له روايته (قدس سره) فقد عرضت عليه ما


[ 60 ]

سنذكره من اختيار طريقة القدماء ورد طريقة المتأخرين، فاستحسنه وأثنى علي


[ 61 ]

فائدة أقول: ذلك التقسيمأي تقسيم الرعية إلى مجتهد ومقلدوما يتعلق به من شرائطه وأحكامه وقع على منوال كلام الأصوليين من العامة، حيث قسموا الناس بعده (صلى الله عليه وآله) إلى قسمين مجتهد ومقلد، ثم ساقوا الكلام إلى آخر ما نقلناه عن متأخري أصحابنا بتفاوت قليل سيظهر عليكإن شاء الله تعالىمما سننقله من كتب العامة، والحق أن تلك المقدمات تتجه على مذهب من لا يقول بوجوب التمسك بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) ولا يجعلهم وسيلة إلى فهم كتاب الله وسنة نبيه، وقول غيره بها من باب الغفلة عن هذه الدقيقة، كما سيجيء بيان ذلك كله إن شاء الله تعالى. ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي من كتب الشافعية: من عناية الله تعالى بالعباد أن شرع الأحكام وبين الحلال والحرام سببا يصلحهم في المعاش وينجيهم في المعاد، ولما علم كونها متكثرة وأن قوتهم قاصرة عن ضبطها منتشرة، ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخايل، ورشح طائفة ممن اصطفاهم لاستنباطها ووفقهم لتدوينها بعد أخذها من مأخذها ومناطها، وكان لذلك قواعد كلية بها يتوصل، ومقدمات جامعة منها يتوسل، أفردوا لذلك علما سموه لذلك أصول الفقه فجاء علما عظيم الخطر، محمود الأثر، يجمع إلى المعقول مشروعا ويتضمن من علوم شتى أصولا وفروعا . وفي موضع آخر من الشرح المذكور: الأحكام قد تؤخذ لا من الشرع كالتماثل والاختلاف، وقد تؤخذ منه، وتلك إما اعتقادية لا تتعلق بكيفية عمل وتسمى أصلية أو عملية تتعلق بها وتسمى فرعية وهذه لا تكاد تتناهى، فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة للكل، فنيطت بأدلة كلية من عمومات وعلل تفصيلية أي كل


[ 62 ]

مسألة مسألة بدليل دليلليستنبط منها لكل واحد عند الحاجة، وإذ ليس في وسع الكل أيضا أن ينتهض له لتوقفها على أدوات يستغرق تحصيلها العمر وكان يفضي إلى تعطل غيره من المقاصد الدينية والدنيوية فخص قوم بالانتهاض له، وهم المجتهدون والباقون يقلدونهم فيه، فدونوا ذلك فسموا العلم الحاصل لهم منها فقها وأ نهم احتاجوا في الاستنباط إلى مقدمات كلية كل مقدمة منها يبنى عليها كثير من الأحكام، وربما التبست ووقع فيها الخلاف فتشعبوا فيها شعبا وتحزبوا أحزابا ورتبوا فيها مسائل تحريرا واحتجاجا وجوابا، فلم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم وإعانة لهم على درك الحق منها بسهولة فدونوها وسموا العلم بها أصول الفقه ” . وفي موضع آخر من الشرح المذكور: الفقه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال . وأورد على حد الفقه: أن المراد بالأحكام الشرعية إن كان هو البعض لم يطرد، لدخول المقلد فيه إذا عرف بعض الأحكام كذلك، لأ نا لا نريد به العامي بل من لم يبلغ درجة الاجتهاد وقد يكون عالما يمكنه كذلك مع أنه ليس بفقيه إجماعا. وإن كان هو الكل لم ينعكس، لخروج بعض الفقهاء عنه، لثبوت لا أدري عمن هو فقيه بالإجماع، نقل أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. والجواب: أنا نختار أن المراد البعض، قولكم: ” لا يطرد لدخول المقلد فيه ممنوع، إذ المراد بالأدلة الأمارات ولا يعلم شيئا من الأحكام كذلك إلا مجتهد يجزم بوجوب العمل بموجب ظنه. وأما المقلد فإنما يظن ظنا ولا نفضي إلى علم لعدم وجوب العمل بالظن عليه إجماعا. أو نختار أن المراد الكل، قولكم: ” لا ينعكس لثبوت لا أدري قلنا: ممنوع، ولا يضر ثبوت لا أدري، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ له وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه بأن يرجع عليه فيحكم، وعدم العلم في الحالة الراهنة لا ينافيه، لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمانا


[ 63 ]

وفي موضع آخر من الشرح المذكور: الاجتهاد في الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي، فقولنا: ” استفراغ الفقيه بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه. ” والفقيه قد تقدم، لأ نك علمت الفقه فيكون الموصوف به هو الفقيه. وقد علم بذلك ركنا الاجتهاد وهما المجتهد والمجتهد فيه، فالمجتهد من اتصف نفسه بالاجتهاد على التفسير المذكور، والمجتهد فيه حكم ظني شرعي عليه دليل . وذكر في موضع آخر: قالوا: لو لم يتنجز الاجتهاد لزم علم المجتهد بجميع المآخذ ويلزمه العلم بجميع الأحكام، واللازم منتف، لأن مالكا مجتهد بالإجماع وقد سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. الجواب ان العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام، لجواز عدم العلم ببعض، لتعارض الأدلة، أو للعجز في الحال عن المبالغة إما لمانع يشوش الفكر، أو لاستدعائه زمانا . وفي موضع آخر في مباحث بيان أحكام الاجتهاد: لا يجوز للمجتهد نقض الحكم في المسائل الاجتهادية، لا حكم نفسه إذا تغير اجتهاده، ولا حكم غيره إذا خالف اجتهاده اجتهاده بالاتفاق، لأنه يؤدي إلى نقض النقض من مجتهد آخر يخالفه ويتسلسل وتفوت مصلحة نصب الحاكم وهو فصل الخصومات، هذا ما لم يكن مخالفا لقاطع، وإذا خالف قاطعا نقضه اتفاقا انتهى. وفي موضع آخر في تزييف قول المصوبة: واستدل بأن تصويب الكل مستلزم للمحال فيكون محالا، بيانه في صورتين: إحداهما: إذا كان الزوج مجتهدا شافعيا والزوجة مجتهدة حنفية فقال لها: ” أنت بائن ثم قال: ” راجعتك والرجل يعتقد الحل والمرأة تعتقد الحرمة، فيلزم من صحة المذهبين حلها وحرمتها. وثانيتهما: أن ينكح مجتهد امرأة بغير ولي لأنه يرى صحته، وينكح مجتهد آخر تلك المرأة إذ يرى بطلان الأول، فيلزم من صحة المذهبين حلها لهما وأ نه محال


[ 64 ]

والجواب أنه مشترك الإلزام، إذ لا خلاف في أنه يلزمه اتباع ظنه. والجواب الحق هو الحل، وهو أنه يرجع إلى حاكم ليحكم بينهما فيتبعان حكمه، لوجوب اتباع الحكم للموافق والمخالف . وفي التلويح للعلامة التفتازاني (شرح التوضيح لصدر الشريعة من كتب الحنفية): لما كان بحث الأصول عن الأدلة من حيث أن يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد، ختم مباحث الأدلة بباب الاجتهاد، وهو في اللغة تحمل الجهد والمشقة. وفي الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي، وهذا هو المراد بقولهم: ” بذل المجهود لنيل المقصود ومعنى: ” استفراغ الوسع بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه، فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي، وبذل الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي قطعي، أو في الظن بحكم غير شرعي. وشرط الاجتهاد أن يجمع العلم بالأمور الثلاثة: الأول: الكتاب (أي القرآن) بأن يعرفه بمعانيه لغة وشريعة، أما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخواصها في الإفادة، فيفتقر إلى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان، اللهم إلا أن يعرف ذلك بحسب السليقة. وأما شريعة فبأن يعرف المعاني المؤثرة في الأحكام، مثلا يعرف في قوله تعالى: ﴿أو جاء أحد منكم من الغائط﴾ أن المراد بالغائط الحدث وان علة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي، وبأقسامه من العام والخاص والمشترك والمجمل والمفصل وغير ذلك مما سبق ذكره، بأن يعلم أن هذا خاص وذاك عام، وهذا ناسخ وذاك منسوخ، إلى غير ذلك. ولا خفاء في أن هذا مغاير لمعرفة المعاني. والمراد بالكتاب قدر ما يتعلق بمعرفة الأحكام، والمعتبر هو العلم بمواقعها بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند طلب الحكم، لا الحفظ عن ظهر القلب. الثاني: السنة قدر ما يتعلق بمعرفة الأحكام بأن يعرف بمتنها وهو نفس


[ 65 ]

الحديث، وسندها وهو طريق وصولها إلينا تواترا وشهرة أو آحادا، وفي ذلك معرفة حال الرواة في الجرح والتعديل، إلا أن البحث عن أحوال الرواة في زماننا هذا كالمتعذر، لطول المدة وكثرة الوسائط، فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الموثوق بهم في علم الحديث كالبخاري ومسلم والبغوي والصنعاني وغيرهم من أئمة الحديث. ولا يخفى أن المراد معرفة متن السنة بمعانيه لغة وشرعا، وبأقسامه من الخاص والعام وغيرهما. الثالث: وجوه القياس بشرائطها وأحكامها وأقسامها والمقبول منها والمردود، وكل ذلك ليتمكن من استنباط الصحيح. وكان الأولى ذكر الإجماع أيضا، إذ لابد من معرفته ومعرفة مواقعه لئلا يخالفه في اجتهاده. ولا يشترط علم الكلام لجواز الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا. ولا علم الفقه، لأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته فلا يتقدمه، إلا أن منصب الاجتهاد في زماننا إنما يحصل بممارسة الفروع فهي طريق إليه في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمن الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة. ثم هذه الشرائط إنما هي في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الأحكام. وأما المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما يتعلق بذلك الحكم كذا ذكره الغزالي. فإن قلت: لابد من معرفة جميع ما يتعلق بالأحكام لئلا يقع اجتهاده في تلك المسألة مخالفا لنص أو إجماع. قلت: بعد معرفة جميع ما يتعلق بذلك الحكم لا يتصور الذهول عما يقتضي خلافه، لأنه من جملة ما يتعلق به ذلك الحكم ولا حاجة إلى الباقي، مثلا الاجتهاد في حكم متعلق بالصلاة لا يتوقف [على معرفة جميع ما يتعلق بالصلاة، ولايتوقف] على معرفة جميع ما يتعلق بأحكام النكاح، وحكمه أي الأثر الثابت بالاجتهاد غلبة الظن بالحكم مع احتمال الخطأ، فلا يجري الاجتهاد في القطعيات، وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين، وهذا مبني


[ 66 ]

على أن المصيب عند اختلاف المجتهدين واحد. وقد اختلفوا في ذلك بناء على اختلافهم في أن لله تعالى في كل صورة من الحوادث حكما معينا أم الحكم ما أدى إليه اجتهاد المجتهد؟ فعلى الأول يكون المصيب واحدا، وعلى الثاني يكون كل مجتهد مصيبا. وتحقيق هذا المقام: أن المسألة الاجتهادية إما أن لا يكون لله تعالى فيها حكم معين قبل اجتهاد المجتهد أو يكون، وحينئذ إما أن لا يدل عليه أو يدل، وذلك الدليل إما قطعي أو ظني، فذهب إلى كل احتمال جماعة، فحصل أربعة مذاهب: الأول: أن لا حكم في المسألة قبل الاجتهاد بل الحكم ما أدى إليه رأي المجتهد وإليه ذهب عامة المعتزلة ثم اختلفوا، فذهب بعضهم إلى استواء الحكمين في الحقية، وبعضهم إلى كون أحدهما أحق، وقد ينسب ذلك إلى الأشعري، بمعنى أ نه لم يتعلق الحكم بالمسألة قبل الاجتهاد وإلا فالحكم قديم عنده. الثاني: أن الحكم معين ولا دليل عليه بل العثور عليه بمنزلة العثور على دفين، فلمن أصاب أجران ولمن أخطأ أجر الكد، وإليه ذهب طائفة من الفقهاء والمتكلمين. الثالث: أن الحكم معين وعليه دليل قطعي والمجتهد مأمور بطلبه، وإليه ذهب طائفة من المتكلمين، ثم اختلفوا في أن المخطئ هل يستحق العقاب؟ وفي أن حكم القاضي بالخطأ هل ينقض؟ الرابع: أن الحكم معين وعليه دليل ظني إن وجده أصاب وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلف بإصابتها، لغموضها وخفائها ولذا كان المخطئ معذورا بل مأجورا . انتهى كلامه. وفي إحكام الآمدي من كتب الشافعية: الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين مخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه، فقولنا: ” استفراغ الوسع كالجنس، وما وراه خواص مميزة، وقولنا: ” في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية، وقولنا


[ 67 ]

بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسوسات وغيرها، وقولنا: ” بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد إليه ليخرج منه اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه، فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهادا معتبرا. وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان: الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات، وأ نه واجب الوجود لذاته، حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف. وأن يكون مصدقا بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات، ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محقا. ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام متبحرا فيه كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفا بما يتوقف عليه الإيمان مما ذكرناه. ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول، بل أن يكون عالما بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. الشرط الثاني: أن يكون عالما بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها، قادرا على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها. وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم لا كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأن يكون عارفا بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكامية عالما باللغة والنحو. ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي، وفي النحو كسيبويه والخليل، بل أن يكون قد حصل من ذلك ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمن والالتزام، والمفرد والمركب، والكلي منها


[ 68 ]

والجزئي، والحقيقة والمجاز، والتواطؤ والاشتراك والترادف والتباين، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء، ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله. وذلك كله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لابد منه فيها، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية. كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر، ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. وأما ما فيه الاجتهاد، فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظنيا، فقولنا: ” من الأحكام الشرعية تمييزا له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها، وقولنا: ” دليله ظني تمييزا له عما كان دليله منها قطعيا كالعبادات الخمس ونحوها، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها، لأن المخطئ فيها يعد آثما، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده فيها آثما انتهى كلامه. فائدة في كتب الشافعية كشرح جمع الجوامع لبدر الدين الزركشي: إنما تشترط الأمور المتقدمة في المجتهد المطلق وقد فقد الآن، ودونه في الرتبة مجتهد المذهب وهو المقلد لإمام من الأئمة فلا يشترط فيه إلا معرفة قواعد إمامه، فإذا سئل عن حادثة لم يعرف لإمامه فيها نصا اجتهد فيها على مذهبه وخرجها على أصوله


[ 69 ]

وادعى ابن أبي الدم أن هذا النوع قد انقطع أيضا، وهو مردود. وقال ابن الصلاح: والذي رأيته من كلام الأئمة مشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقلد ، والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى. انتهى ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا، وهو المتبحر في مذهبه المتمكن من ترجيح قول على آخر، وهذا أدنى المراتب، وما بقي بعده إلا العامي ومن في معناه . انتهى. فائدة يظهر من كلام جمع من علماء العامة أن في زمن المتأخرين منهم انعقد إجماع على أنه لا يجوز العمل إلا باجتهاد أربعة من مجتهديهم إلى يوم القيامة، فلو قلد أحد في هذا الزمان وبعده مجتهدا خامسا من مجتهديهم المتقدمين أو اجتهد اجتهادا جديدا كان أهل البدعة والضلالة. نعم، يجوز الاجتهاد في مذهب أحد الأربعة كما في تلميذي أبي حنيفة فإنهما اجتهدا في مذهبه أي استخرجا فتاوى بناء على أصوله . ولننقل طرفا من كلام الشيخ العالم العلامة تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر الشهير والده بالمقريزي الشافعي من كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، وقد رأيته في المدينة المنورة، وهو من الكتب الموقوفة على تلك الحضرة الشريفة، فإن فيه تصريحا ببعض ما نسبناه إليهم، فقال في فصل عنوانه: ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد المذاهب الأربعة وما كان من الأحداث


[ 70 ]

اعلم أن الله تعالى لما أن بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) رسولا إلى كافة الناس جميعا عربهم وعجمهم، وهم كلهم أهل شرك وعبدة غير الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب وكان من أمره (صلى الله عليه وآله) مع قريش ما كان حتى هاجر من مكة إلى المدينة وكانت الصحابة حوله (صلى الله عليه وآله) يجتمعون إليه في كل وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلة القوت، فمنهم من كان يحترف في الأسواق، ومنهم من كان يقوم على نخله ويحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل وقت منهم طائفة عندما تجد أدنى فراغ مما هم بسبيله من طلب القوت، فإذا سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مسألة أو حكم أو أمر بشيء أو فعل شيئا وعاه من حضر عنده من الصحابة وفات من غاب عنه علم ذلك. ألا ترى أن عمر بن الخطاب قد خفى عليه ما علمه جبل بن مالك بن النابغةرجل من الأعراب من هذيلفي دية الجنين. وكان يفتي في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وسلمان الفارسيرضي الله عنهم . فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستخلف أبو بكر تفرقت الصحابة، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردة، ومنهم من خرج لجهاد أهل الشام، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر عدة، وكانت القضية إذا نزلت بأبي بكر قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن لم يكن عنده سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك، فإن وجد عندهم علما من ذلك رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم. فلما مات أبو بكر وولي أمر الأمة من بعده عمر بن الخطاب، فتحت الأمصار وزاد، تفرق الصحابة فيما افتتحوه من الأقطار، وكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين بها في ذلك أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن


[ 71 ]

النبي (صلى الله عليه وآله) موجود عند صاحب آخر في بلد آخر، وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي؛ كل هذا موجود في الآثار وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض الأوقات وحضور غيره فمضت الصحابة على ما ذكرنا. ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي تقدم ذكرها إنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاواهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم عن الصحابة، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى عبد الله بن مسعود، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عباس، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوى عبد الله ابن عمرو بن العاص. ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريح بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم. وذكر أبو عمرو الكندي: أن أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق أول من رحل من أرض مصر إلى العراق في طلب الحديث، توفي سنة أربعة وثمانين ومائة، وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدم ذكره، ثم كثر الترحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبوي وتقييده، فكان أول من دون العلم محمد بن شهاب الزهري، وكان ممن صنف وبوب سعيد بن أبي عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريح بمكة، ثم سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة


[ 72 ]

والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالري، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهيثم بن بشير بواسط، وتفرد بالكوفة أبو بكر ابن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف، فوصلت أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها، وجمعت الأحاديث وعرف الصحيح من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه وقيام الحجة عليه. وعلى هذا الطريق كانت الصحابة وكثير من التابعين، كانوا يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث وعرف سير الصحابة والتابعين. فلما قام هارون الرشيد في الخلافة ولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيمأحد أصحاب أبي حنيفةبعد سنة سبعين ومائة، فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلا من أشار به القاضي أبو يوسف واعتنى به. وكذلك لما قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه وتلقب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة اختص بيحيى بن كثير الأندلسي وكان قد حج وسمع الموطأ من مالك إلا أبوابا وحمل عن ابن وهب وعن أبي القاسم وغيره علما كثيرا، وعاد إلى الأندلس فنال من الرئاسة والحرمة ما لم ينله غيره وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامة إلى بابه، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلا بإشارته واعتنائه، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعي. ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتى قدم الشافعي محمد بن إدريس إلى مصر مع عبد الله بن عباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في سنة ثمان وتسعين ومائة، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها وكتبوا من الشافعي ما ألفه


[ 73 ]

وعملوا بما ذهب إليه ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر. وأما العقائد: فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر. فاستمر الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن وببلاد المغرب أيضا لإدخال محمد بن تومرت رأي الأشعري إليها حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد بحيث من خالفه ضربت عنقه، والأمر على ذلك إلى اليوم. ولم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد في آخرها. فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولي بالقاهرة ومصر أربع قضاة: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائة حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه الأربعة وعقيدة الأشعري، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام وعودي من يذهب بغيرها وأنكر عليه، ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن متقلدا أحد هذه المذاهب [وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب] وتحريم ما عداها والعمل على هذا إلى اليوم. وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر وقال بالفاعل المختار وترك القول بالتحسين والتقبيح العقلي واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الخطيب الباقلاني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الاسفرائني، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، والشيخ أبو حامد محمد


[ 74 ]

ابن محمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، والإمام فخر الدين الرازي، وغيرهم، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام. فلما ملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدرالدين عبد الملك بن ديارس الماراني على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق فلذلك حملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادى الحال على ذلك، وأبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري ولد سنة ست وستين ومائتين. وقيل: سنة سبعين وتوفي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة. وقيل: سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وتلمذ لزوج أمه أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي واقتدى برأيه في الاعتزال عدة سنين حتى صار من أئمة الاعتزال، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيا ونادى بأعلى صوته من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وإن الله تعالى لا يرى بالأبصار وإن أفعال الشر أنا فاعلها، وأنا تائب مقلع معتقد الرد على المعتزلة مبين لفضائحهم ومعايبهم. وأخذ من حينئذ في الرد عليهم وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القطان وبنى على قواعده وصنف خمسة وخمسين تصنيفا. والحق الذي لا ريب فيه: أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجهر لا ستر تحته وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله من الشريعة ولا كلمة ولا أطلع أخص الناس بهمن زوجة أو ابنة أو صاحب أو ابن عمعلى شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده (صلى الله عليه وآله) سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر ومن قال هذه فهو كافر بإجماع، وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف


[ 75 ]

عن اعتقاد الصدر الأول انتهى كلام الشيخ المقريزي الشافعي المصري. فائدة أقول: المستفاد من كلام أهل الذكر (عليهم السلام) أن لله تعالى في كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة حكما معينا وأن عليه دليلا قطعيا، والناس مأمورون بطلبه من عند حفظة الدين وهم أهل الذكر (عليهم السلام) وأن المخطئ في الحكم أو الفتوى آثم ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه وأن حكم القاضي بالخطأ ينقض، وأ نه لا اعتداد في غير الضروريات إلا بحكم المعصوم أو فتواه أو برواية حكمه أو فتواه. وأقول: فيه رد على علماء العامة، حيث زعموا أن الأحكام غير متناهية فلا يمكن أن يعلمها الله تعالى أحدا من العباد، فلذلك ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخائل. وحاصل الرد أن الله تعالى كان عالما بالأحكام التي تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة وتلك الأحكام متناهية وأزمنتها متناهية . فائدة أقول: ما ذكره الأصوليون من العامة من القواعد الأصولية إنما يتجه بعضه لإنكارهم أنه (صلى الله عليه وآله) خلف لكل زمان معصوما مسؤولا مرجعا للخلائق عالما بما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة بوحي لا برأي، وإنكارهم حجية الأحاديث المنقولة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام)ـ


[ 76 ]

ويتجه بعضه لزعمهم أن القرآن نزل على قدر عقول الناس وأ نهم مكلفون باستنباط الأحكام النظرية منه، ولإنكارهم أن علم القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمؤول وغيرها عندهم (عليهم السلام) خاصة. ويتجه بعضه، لأنه ليس عندهم حديث يكون وروده من باب التقية. ويتجه بعضه لزعمهم أنه لم يبق شيء مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) مخزونا عند أحد، لأنه (صلى الله عليه وآله) أظهر عند أصحابه كل ما جاء به وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة انتهت إلى إخفاء بعض ما جاء به (صلى الله عليه وآله) وزعمهم أن الله تعالى ناط الأحكام الشرعية بدلائل وربطها بأمارات ومخائل تخطر ببال أصحاب الملكة المخصوصة المعتبرة عندهم، وأ نه أوجب عليهم الاستنباطات الظنية والعمل بها وعلى غيرهم اتباع ظنونهم. ودليلهم على ذلك كله ادعاؤهم إجماع الصحابة على ذلك وادعاؤهم أن مثل ذلك الإجماع لا يقع إلا بسبب ظهور نص قطعي عندهم وإن لم ينقل عنهم. وذكروا أن ظاهر كتاب الله في مواضع حرمة العمل بالظن المتعلق بأحكامه تعالى لكن لأجل هذا الإجماع القطعي تركنا تلك الظواهر وأولناها. ثم جماعة من متأخري أصحابنا غفلوا عما ذكرناه من ابتناء تلك القواعد على تلك الأمور فدونوا أصولا على منوال أصولهم إلا في مواضع يسيرة اطلعوا على أنها مخالفة لما تواتر عن العترة الطاهرة (عليهم السلام)ـ


[ 77 ]

وسمعت من بعض المشائخ أنه لما عيرت جماعة من علماء العامة أصحابنا بأنه ليس لكم فن كلام مدون ولا أصول فقه كذلك ولا فقه مستنبط وليس عندكم إلا الروايات المنقولة عن أئمتكم، تصدى جماعة من متأخري أصحابنا لرفع ذلك، فصنفوا الفنون الثلاثة على الوجه المشاهد، وغفلوا عن نهيهم (عليهم السلام) أصحابهم عن تعلم فن الكلام المبني على الأفكار العقلية وأمرهم بتعلم فن الكلام المسموع منهم (عليهم السلام) وكذلك عن القواعد الأصولية الفقهية الغير المسموعة منهم (عليهم السلام). وكذلك عن المسائل الفقهية الاجتهادية، وصرحوا (عليهم السلام) بأنه علموا أولادكم أحاديثنا قبل ألفة أذهانهم بما في الكتب الغير المأخوذة عنا وصرحوا بأن ما في أيدي الناس من حق فقد خرج منا أهل البيت وما في أيديهم من باطل فمن أنفسهم . وأنا أقول: لاكتفاء هذه الجماعة بمجرد العقل في كثير من المواضع خالفوا الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) في كثير من المباحث الكلامية والأصولية. وتفرعت على المخالفة في الأصول المخالفة في المسائل الفقهية في مواضع كثيرة من حيث لا يدرون. ثم اكتفاؤهم بذلك وعدم رجوعهم إلى كلامهم (عليهم السلام) إما لشبهة دخلت عليهم وإما لغفلة، والله أعلم . ولو التزموا عند تدوين الفنون


[ 78 ]

الثلاثة تصدير الأبواب والفصول والمسائل مثلا بكلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) ثم توضيحها وتأييدها باعتبارات عقلية لكان خيرا لهم. والله المستعان. وأول من غفل عن طريقة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) واعتمد على فن الكلام وعلى أصول الفقه المبنيين على الأفكار العقلية المتداولين بين العامةفيما أعلممحمد ابن أحمد بن الجنيد العامل بالقياس، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، ولما أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بتصانيفهما بين يدي أصحابهومنهم السيد الأجل المرتضى، ورئيس الطائفةشاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا قرنا فقرنا. حتى وصلت النوبة إلى العلامة الحلي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الأصولية للعامة، ثم تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي رحمهم الله تعالى . وأول والهداية والإيمان ليست من كسب العبد ولا من فعله وما تقتضي بظاهره موافقة الجبرية في مذهبهم مما يجب تأويله بما يوافق المتفق عليه في دين الشيعة كما أول في القرآن الشريف والحكمة فيهما واحدة كما قدمناه


[ 79 ]

من زعم فيما أعلم أن أكثر أحاديث أصحابنا المأخوذة من الأصول التي ألفوها بأمر أصحاب العصمة (عليهم السلام) وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيما في زمن الغيبة الكبرىأخبار آحاد خالية عن القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) محمد بن إدريس الحليتجاوز الله عن تقصيراتي وتقصيراتهولأجل ذلك تكلم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة المأخوذة من تلك الأصول. وبالجملة، هو وافق رئيس الطائفة وعلم الهدى ومن تقدم عليهما من قدمائنا في أنه لا يجوز العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة الموجبة للقطع، وغفل أو تغافل عن أن أحاديث أصحابنا ليست من ذلك القبيل، مع أن علم الهدى في كثير من رسائله ورئيس الطائفة في كتاب العدة وغيره ومحمد بن يعقوب الكليني ومحمد بن بابويه في كتابيهما صرحوا بذلك، ثم تبعه العلامة الحلي في ذلك ومن جاء بعد العلامة تبع العلامة في المقامين، لأنه (رحمه الله) كان بحر العلوم. ومما يوضح ما ذكرناه ما ذكره صاحب الكرامات والمقامات والمنامات سيدنا الأجل علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن طاوس الحسني (رضي الله عنه) في بعض رسائله، حيث قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين، يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن طاوس: إنني ذاكر في هذه الأوراق بعض ما رويته أو رأيته من الأحاديث في تحقيق المضايقة في فوائت الصلوات وما أتقلد الحكم بأحد القولين بل يعين ذلك من كلف به من أهل النظر والأمانات. فمن ذلك ما أرويه بإسنادي إلى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميريرضوان الله عليهوكان له مكاتبة إلى المهدي صلوات الله وسلامه عليهوأجوبة تبرز بين السطور إليه، فذكر هذا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد، وكان تاريخ النسخة التي نقلت منها شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وأربعمائة


[ 80 ]

وذكر ناسخها أنه نقلها من نسخة عليها خط مؤلفها تاريخه في صفر سنة أربع وثلاثمائة بإسناده عن علي بن جعفر قال: وسألتهيعني الكاظم (عليه السلام)عن رجل نسي المغرب حتى دخل وقت العشاء الآخرة؟ قال: يصلي العشاء ثم المغرب. وسألته عن رجل نسي العشاء فذكر قبل طلوع الفجر كيف يصنع؟ قال: يصلي العشاء ثم الفجر. وسألته عن رجل نسي الفجر حتى حضرت الظهر؟ قال: يبدأ بالظهر ثم يصلي الفجر كذلك صلاة بعد صلاة. ومن ذلك ما رويته من كتاب الفاخر المختصر من كتاب تخيير الأحكام تأليف أبي الفضل محمد بن أحمد بن سليم رواية محمد بن عمر الذي ذكر في خطبته: أنه ما روى فيه إلا ما أجمع عليه وصح من قول الأئمة (عليهم السلام) عنده، فقال فيه ما هذا لفظه: والصلوات الفائتات يقضين ما لم يدخل عليه وقت صلاة، فإذا دخل عليه وقت صلاة بدأ بالتي دخل وقتها وقضى الفائتة متى أحب. ومن ذلك ما رويته عن عبيد الله بن علي الحلبي فيما ذكره في كتاب أصلهرضوان الله عليهوقال جدي أبو جعفر الطوسي في الثناء عليه: عبيد الله بن علي الحلبي، له كتاب مصنف معمول عليه . وقيل: إنه عرض على الصادق (عليه السلام) فاستحسنه وقال ليس لهؤلاءيعني المخالفينمثله . أقول أنا فقال فيه ما هذا لفظه: ومن نام أو نسي أن يصلي المغرب والعشاء الآخرة فإن استيقظ قبل الفجر بمقدار ما يصليهما جميعا فليصلهما وإن استيقظ بعد الفجر فليصل الفجر ثم يصلي المغرب ثم العشاء. وقالأيضاعبيد الله بن علي الحلبي في الكتاب المذكور ما هذا لفظه: وخمس صلوات يصلين على كل حال متى ذكر ومتى ما أحب: صلاة فريضة نسيها يقضيها مع غروب الشمس وطلوعها، وصلاة ركعتي الإحرام، وركعتي الطواف، والفريضة، وكسوف الشمس عند طلوعها وعند غروبها


[ 81 ]

ومن ذلك ما أرويه بإسنادي إلى محمد بن علي بن محبوبوهو حديث غريب من أصل بخط جدي أبي جعفر الطوسي رضوان الله عليهورأيت في بعض تصانيف أصحابنا في الثناء عليه ما هذا لفظه: محمد بن علي بن محبوب الأشعري القمي أبو جعفر شيخ القميين في زمانه ثقة عين فقيه صحيح المذهب، قال في كتابه نوادر المصنف: عن علي بن خالد، عن أحمد بن الحسن بن علي، عن عمرو بن سعيد المدائني، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل ينام عن الفجر حتى تطلع الشمس وهو في سفر كيف يصنع أيجوز له أن يقضي بالنهار؟ قال: لا يقضي صلاة نافلة ولا فريضة بالنهار ولا يجوز له ولا يثبت له، ولكن يؤخرها فيقضيها بالليل . ومن ذلك ما أرويه عن الحسين بن سعيد الأهوازيرضوان الله عليهمما رواه في كتاب الصلاة، وهذا الحسين بن سعيد ممن أثنى جدي أبو جعفر الطوسي عليه فقال في كتاب الصلاة ما هذا لفظه: محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن الحسن بن زياد الصيقل، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي الأولى حتى صلى ركعتين من العصر، قال: فليجعلها الأولى وليستأنف العصر. قلت: فإنه نسي المغرب حتى صلى ركعتين من العشاء ثم ذكر؟ قال: فليتم صلاته ثم ليقض بعد المغرب. قال: قلت له: جعلت فداك؟ متى نسي الظهر ثم ذكر وهو في العصر يجعلها الأولى ثم يستأنف وقلت: لهذا يقضي صلاته بعد المغرب؟ فقال: ليس هذا مثل هذا، إن العصر ليس بعدها صلاة والعشاء بعدها صلاة . ومن ذلك ما أرويه أيضا عن الحسين بن سعيد المشار إليهرضوان الله عليهفي كتاب الصلاة ما هذا لفظه: صفوان، عن عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي أو نام عن الصلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى؟ فقال: إن كانت صلاة الأولى فليبدأ بها وإن كانت صلاة العصر فليصل العشاء ثم يصلي العصر


[ 82 ]

ومن ذلك ما أرويه أيضا، عن الحسين بن سعيد من كتاب الصلاة ما هذا لفظه: حدثنا فضالة والنضر بن سويد، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن نام رجل أو نسي أن يصلي المغرب والعشاء الآخرة، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء وإن استيقظ بعد الفجر فليصل الصبح ثم المغرب ثم العشاء قبل طلوع الشمس . ومن ذلك ما أرويه عن الحسين بن سعيدمن كتاب الصلاةما هذا لفظه: حماد، عن شعيب، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن نام رجل ولم يصل صلاة المغرب والعشاء الآخرة أو نسي، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصل الفجر ثم المغرب ثم العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس، وإن خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصل المغرب ويدع العشاء الآخرة حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ثم ليصلها . ومن ذلك ما رأيته في كتاب النقض على من أظهر الخلاف لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) إملاء أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله بن علي المعروف بالواسطي، فقال ما هذا لفظه: مسألة، من ذكر صلاة وهو في أخرى قال أهل البيت (عليهم السلام): يتم التي هو فيها ويقضي ما فاته، وبه قال الشافعي. ثم ذكر خلاف الفقهاء المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام). ثم ذكر في أواخر مجلده مسألة أخرى، فقال ما هذا لفظه: مسألة أخرى، من ذكر صلاة وهو في أخرى، إن سأل سائل فقال أخبرونا عمن ذكر صلاة وهو في أخرى ما الذي يجب عليه؟ قيل له: يتم التي هو فيها ويقضي ما فاته، وبه قال الشافعي. ثم ذكر خلاف المخالفين، وقال: دليلنا على ذلك ما روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: من كان في صلاة ثم ذكر صلاة أخرى فاتته أتم التي هو فيها ثم يقضي ما فاته. يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس: هذا آخر ما أردنا ذكره


[ 83 ]

من الروايات أو ما رأينا مما لم يكن مشهورا بين أهل الدرايات، وصلى الله على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين وسلم. ووجدت في أمالي السيد أبي طالب علي بن الحسين الحسني في المواسعة ما هذا لفظه: حدثنا منصور بن رامس، حدثنا علي بن عمر الحافظ الدارقطني، حدثنا أحمد بن نصر بن طالب الحافظ، حدثنا أبو ذهل عبيد بن عبد الغفار العسقلاني، حدثنا أبو محمد سليمان الزاهد، حدثنا القاسم بن معن، حدثنا العلاء بن المسيب بن رافع، حدثنا عطاء بن أبي رياح عن جابر بن عبد الله قال: قال رجل: يا رسول الله وكيف أقضي؟ قال: صل مع كل صلاة مثلها، قال: يا رسول الله قبل أم بعد؟ قال: قبل. أقول: وهذا حديث صريح وهذه الأمالي عندنا الآن، في أواخر مجلده قال الطالبي : أولها الجزء الأول من المنتخب من كتاب زاد المسافر وصاية المسافر تأليف أبي العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمداني، وقد كتب في حياته وكان عظيم الشأن. فصل : ورأيت في كفارة قضاء الصلوات حديثا غريبا رواه حسين بن أبي الحسن بن خلف الكاشغري الملقب بالفضل في كتاب زاد العابدين، فقال ما هذا لفظه: في كفارة الصلوات، قال حدثنا منصور بن بهرام بغزنة، أخبرنا أبو سهل محمد بن محمد بن الأشعث الأنصاري، حدثنا أبو طلحة شريح بن عبد الكريم وغيره قالوا: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد صاحب كتاب العروس حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من ترك الصلاة في جهالته ثم ندم لا يدري كم ترك فليصل ليلة الاثنين خمسين ركعة بفاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد مرة فإذا فرغ من الصلاة استغفر مائة مرة جعل الله ذلك كفارة صلواته ولو ترك صلاة مائة سنة، لا يحاسب الله تعالى العبد الذي صلى هذه الصلاة ثم ان له عند الله بكل ركعة مدينة، وله بكل آية قرأها عبادة سنة، وله بكل حرف نور على الصراط. وأيم الله! إنه لا يقدر على


[ 84 ]

هذا إلا مؤمن من أهل الجنة، فمن فعل استغفرت له الملائكة وسمي في السماوات صديق الله في الأرض، وكان موته موت الشهداء، وكان في الجنة رفيق خضر (عليه السلام). ومن المنامات عن الصادقينالذين لا يتشبه بهم شيء من الشياطينفي المواسعة، وإن لم يكن ذلك مما يحتج به، لكنه مستطرف ما وجدته بخط الخازن أبي الحسنرضوان الله عليهوكان رجلا عدلا متفقا عليه، وبلغني أن جدي ورامارضوان الله عليهصلى خلفه مؤتما به، ما هذا لفظه: خط الخازن أبي الحسن المذكور، رأيت في منامي ليلة الأحد سادس عشر جمادي الآخرة أميرالمؤمنين والحجة (عليهما السلام) وكان على أمير المؤمنين (عليه السلام) ثوب خشن وعلى الحجة ثوب ألين منه، فقلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا مولاي ما تقول في المضايقة؟ فقال لي: سل صاحب الأمر (عليه السلام) ومضى أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقيت أنا والحجة، فجلسنا في موضع فقلت له: ما تقول في المضايقة؟ فقال: قولا مجملا: تصلي، فقلت له قولا هذا معناه وإن اختلفت ألفاظه: في الناس من يعمل نهاره ويتعب ولا يتهيأ له المضايقة؟ فقال: يصلي قبل آخر الوقت. فقلت له: ابن إدريس يمنع الناس من الصلاة قبل آخر الوقت، ثم التفت فإذا ابن إدريس ناحية عنا. فناداه الحجة (عليه السلام): يا ابن إدريس يا ابن إدريس! فجاء ولم يسلم عليه ولم يتقدم إليه، فقال له: لم تمنع الناس من الصلاة قبل آخر الوقت؟ أسمعت هذا من الشارع؟! فسكت ولم يعد جوابا، وانتبهت في إثر ذلك. وصلى الله على سيدنا محمد وآله. ورأيت أيضا بخط الخازن أبي الحسن ما هذا لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم رأيت الحجة (عليه السلام) ليلة السبت سادس شوال سنة تسعين وخمسمائة، كأنه في بعض دورنا بالمشهدعلى ساكنه السلامقاعدا على دكة والدكة لها هيئة حسنة لم أعهدها، وإلى جانبه صبي، وفي قدامه عرجون يابس فيه شماريخ يابسة، وتحته قسب ثم أنه التقط منه، فدخلت عليه فلما رآني قام وأخذ العرجون فصار فيه رطب مختلف اللون فاعتقدته معجزا له فقلت له أنت إمامي وأقبلت عليه وأقبل علي، وقعدت بين يديه وأكلت من الرطب وشكوت إليه صعوبة الوقت علينا


[ 85 ]

فأجابني بشيء غاب عني بعد الانتباه حقيقته، ثم قمنا من ذلك الموضع إلى غيره فقلت له: يا مولاي إن وراما وابن إدريس يمنعون الناس من الصلاة قبل آخر الوقت، فقال: يصلون قبل آخر الوقت، ثم قال: هم يفرطون في الصلاة فقلت له: يقولون لهم: لا تصلوا قبل آخر الوقت، فيقولون: ما نقدر على ذلك فأعاد القول: يصلون قبل آخر الوقت. ثم ذكر الفقهاء بكلام دل على أنه معتب عليهم، ثم أذن (عليه السلام) فمضيت ألتمس ما أتوضأ به وأصلي معه، فانتبهت في أثر ذلك. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. ورأيت بخط أبي الحسن الخازن ما هذا لفظه: وكنت أستعمل ماء الكر في الحمام مدة طويلة، فعن لي في بعض الأوقات أن أترك استعماله، فتركته أوقاتا، فرأيت الحجة (عليه السلام) في منامي وهو على موضع عال له شرفات وعلى رأسه شبه الإكليل والتاج، فجرى حديث في معنى الكرغاب عني بعد الانتباه حقيقتهفالتفت الي وقال: جبرائيل قال لك: إن الكر نجس! أو قال لك جبرائيل: لا تستعمله، ارجع إلى الكر فانتبهت في أثر ذلك. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. ومن المنامات عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في المواسعة من بعض الوجوه ما حدثني به صديقي الوزير محمد بن أحمد بن العلقميضاعف الله سعادته وشرف خاتمتهأيام كان أستاذ الدار فالتمست أن يكتبه بخطه، فكتب ما يأتي لفظه: رأيت في المنام كأن مولانا زين العابدين (عليه السلام) نائم وكأ نه ميت، ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليهجالس عند كريمته الشريف فعاش واستوى جالسا، فقلت له: يا مولاي إيش حديث صلاة المضايقة؟ فأومأ بوجهه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير أن يتكلم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير أن أسأله: ” إذا كان على الإنسانأو قال: الشخصصلاة قضاها في مدة ثم صلى تلك المدة في مدة والمدة في مدة تكون المدة الأخيرة مضايقة وانفهم من ذلك أنه إذا كان على الشخص سنتان ثم صلاها في سنة وصلى تلك السنة في شهر يكون قضاء ذلك الشهر مضايقة


[ 86 ]

يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن الطاوس هذا آخر لفظ صديقي الوزير محمد بن أحمد بن العلقمي ضاعف الله سعادته وشرف خاتمته. يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس الحسني: وتفضل الله ومولانا المهديصلوات الله عليهعلي وإلي بآيات باهرة له صلوات الله وسلامه عليه. أقول ومنها بسم الله الرحمن الرحيم وصلاته على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين، يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس: كنت قد توجهت أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد القاضي الآويضاعف الله سعادته وشرف خاتمتهمن الحلة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهفي يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وأربعين وستمائة، فاختار الله لنا المبيت في مسجد بالقرية التي تسمى دورة ابن سنجار وبات أصحابنا ودوابنا في القرية، وتوجهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور، فوصلنا إلى مشهد مولانا علي (عليه السلام) قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة المذكورة، فوجدت من نفسي إقبالا على الله وحضورا وخيرا كثيرا وشاهدت ما يدل على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة فحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآويضاعف الله سعادتهأنه رأى تلك الليلة في منامه كأن في يدي لقمة وأنا أقول له: هذه من فم مولانا المهدي صلوات الله عليهوقد أعطيته بعضها، فلما كان سحر تلك الليلة كنت على ما تفضل الله به من نافلة الليل، فلما أصبحنا نهار الخميس المذكور دخلت الحضرةحضرة مولانا علي (عليه السلام)على عادتي، فورد علي من فضل الله وإقباله والمكاشفة ما كدت أن أسقط إلى الأرض ورجفت أعضائي وأقدامي وارتعدت رعدة هائلة على عوائد فضله عندي وعنايته إلي وما أراني من بره لي ورفدي وأشرفت على الفناد ومفارقة دار العناد والانتقال إلى دار البقاء، حتى حضر الجمال محمد بن كتيلة وأنا في تلك الحال، فسلم علي فعجزت


[ 87 ]

عن مشاهدته وعن النظر إليه وإلى غيره وما تحققته بل سألت عنه بعد ذلك فعرفوني به تحقيقا، وتجددت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة وبشارات جميلة. وحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآويضاعف الله سعادتهبعدة بشارات رآها لي: منها: أنه رأى كأن شخصا يقص عليه في المنام مناما ويقول له: قد رأيت كأن فلاناعني [كذا] وكأنني كنت حاضرا لما كان المنام يقص عليهراكب فرسا، وأنت (يعني أخي الصالح الآوي) وفارسان آخران وقد صعدتم جميعا إلى السماء، قال: قلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم: لا أدري، فقلت: أنت، يعني ذلك مولانا المهديصلوات الله عليهوتوجهنا من هناك لزيارة أول رجب بالحلة، فوصلنا ليلة الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة، فعرفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أن شخصا فيه صلاح يقال له: عبد المحسن من أهل السواد قد حضر بالحلة، وذكر أنه قد لقيه مولانا المهديصلوات الله عليهظاهرا في اليقظة، وقد أرسله إلى عندي برسالة، فنفذت قاصدا وهو محفوظ بن قراء فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المقدم ذكرها، فخلوت بهذا الشيخ عبد المحسن فعرفته وهو رجل صالح لا تشك النفس في حديثه ومستغن عنا، وسألته فذكر أن أصله من حصن بشر وأ نه انتقل إلى الدولاب الذي بحذاء المحولة المعروفة بالمجاهدية، ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن، وأ نه مقيم هناك وليس له عمل بالدولاب ولا زرع ولكنه تاجر في شراء غلات وغيرها، وأ نه كان قد ابتاع غلة من ديوان أبي السرايا وجاء ليقبضها وبات عند المعيدية في الموضع المعروف بالمحر فلما كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية فخرج بقصد النهر والنهر في جهة المشرق فما أحس بنفسه إلا وهو عند تل السلام في طريق مشهد الحسين (عليه السلام) في جهة المغرب، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة من سنة احدى وأربعين وستمائةالتي تقدم


[ 88 ]

شرح بعض ما تفضل الله علي فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: فجلست أريق ماء وإذا فارس عندي ما سمعت له حسا ولا وجدت لفرسه حركة ولا صوتا وكان القمر طالعا ولكن كان الضباب كثيرا، فسألته عن الفارس وفرسه، فقال: كان لون فرسه صديا وعليه ثياب بيض وهو متحنك بعمامته ومتقلد بسيفه، فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن: كيف وقت الناس؟ قال عبد المحسن فظننت أنه يسأل عن ذلك الوقت، قال، فقلت: الدنيا عليها ضباب وغبرة فقال: ما سألتك عن هذا أنا سألتك عن حال الناس، قال، فقلت: الناس طيبون مرخصون آمنون في أوطانهم وعلى أموالهم، فقال: تمضي إلى ابن طاوس وتقول له كذا وكذا، وذكر لي ما قال لهصلوات الله وسلامه عليهثم قال عنه (عليه السلام): فالوقت قد دنا فالوقت قد دنا، قال عبد المحسن: فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنه مولانا صاحب الزمان، فوقعت على وجهي وبقيت كذلك مغشيا علي إلى أن طلع الصبح. قلت له: فمن أين عرفت أنه قصد ابن طاوس عني؟ فقال: ما أعرف من بني طاوس إلا أنت وما وقع في قلبي إلا أنه قصد بالرسالة إليك، قلت: فأي شيء فهمت بقوله صلوات الله عليه: ” فالوقت قد دنا هل قصد وفاتي قد دنت أم قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه؟ فقال: بل قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه، قال: فتوجهت ذلك اليوم إلى مشهد الحسين (عليه السلام) وعزمت أنني ألزم بيتي مدة حياتي أعبد الله تعالى، وندمت كيف ما سألته (عليه السلام) عن أشياء كنت أشتهي أن أسأله عنها. قلت له: هل عرفت بذلك أحدا؟ قال: نعم عرفت بعض من كان عرف بخروجي من عند المعيدية، وتوهموا أ ني قد ضللت وهلكت لتأخري عنهم واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولأنهم كانوا يروني طول ذلك النهاريوم الخميسفي أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه (عليه السلام) فوصيته أن لا يقول ذلك لأحد أبدا، وعرضت عليه شيئا، فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير، فقمت أنا وهو، فلما قام عني نفذت له غطاء وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلة، فقمت وكنت أنا وهو في


[ 89 ]

الروشن في خلوة، فنزلت لأنام، فسألت الله زيادة كشف في المنام تلك الليلة أراه أنا، فرأيت كأن مولانا الصادق (عليه السلام) قد جاءني بهدية عظيمة وهي عندي وكأنني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل في تلك الليلةوهي ليلة السبت ثامن عشر جمادى الآخرةفأصعد فتح الإبريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لأفرغ على كفي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عني ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة، فقلت: لعل الماء نجس فأراد الله أن يصونني عنه، فإن لله جل جلاله علي عوائد كثيرة، أحدها مثل هذا وأعرفها، فناديت: إلي فتح! وقلت له من أين ملأت الإبريق؟ قال: من المسيبة، فقلت: هذا لعله نجس فاقلبه واشطفه واملأه من الشط، فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الإبريق وشطفه وملأه من الشط فجاء به، فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عني ومنعني منه، فعدت صبرت ودعوت بدعوات وعاودت الإبريق فجرى مثل ذلك، فعرفت أن هذا منع لي من صلاة الليل في تلك الليلة وقلت في خاطري: لعل الله يريد أن يجري علي حكما وابتلاء غدا ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك، فنمت وأنا جالس وإذا برجل يقول لي: هذايعني عبد المحسن الذي جاء بالرسالةكان ينبغي أن تمشي بين يديه، فاستيقظت ووقع في خاطري أنني قد قصرت في احترامه وإكرامه، فتبت إلى الله جل جلاله واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أحد الإبريق وتركت على عادتي فتطهرت وصليت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل وفهمت أنني ما قمت بحق هذه الرسالة. فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن وتلقيته وأكرمته وأخذت له من خاصتي ست دنانير ومن غير خاصتي خمسة عشر دينارا مما كنت أحكم فيه كما لي وخلوت به في الروشن وعرضت ذلك عليه واعتذرت إليه، فامتنع قبول شيء أصلا وقال: إن معي نحو مائة دينار وما آخذ شيئا، أعطه لمن هو فقير، وامتنع غاية


[ 90 ]

الامتناع، فقلت له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي لأجل الإكرام لمن أرسله (صلى الله عليه وآله) لا لأجل فقره وغناه، فامتنع فقلت له: مبارك، أما الخمسة عشر دينارا فهي من غير خاصتي فلا أكرهك على قبولها، وأما هذه الستة دنانير فهي من خاصتي ولابد أن تقبلها مني، فكاد أن يؤيسني من قبولها، فألزمته فأخذها وعاد تركها فألزمته فأخذها وتغديت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما أمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان. والحمد لله، وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين. ومن عجيب زيادة بيان هذه الحال انني توجهت في ذلك الأسبوعيوم الاثنين الثلاثين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وستمائةإلى مشهد الحسين (عليه السلام) لزيارة أول رجب أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمدضاعف الله سعادتهفحضر عندي سحر ليلة الثلاثاء أول رجب المبارك سنة إحدى وأربعين وستمائة المقرئ محمد بن سويد في بغداد، وذكر ابتداء من نفسه أنه رأى ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرةالمتقدم ذكرهاكأنني في دار وقد جاء رسول إليك وقالوا هو من عند الصاحب، قال محمد بن سويد: فظن بعض الجماعة أنه من عند أستاد الدار قد جاء إليك برسالة، قال محمد بن سويد: وأنا عرفت أنه من عند صاحب الزمان (عليه السلام) قال: فغسل محمد بن سويد يديه وطهرهما وقام إلى رسول مولانا المهدي (عليه السلام) فوجده قد أحضر معه كتابا من مولانا المهديصلوات الله عليهإلى عندي، وعلى الكتاب المذكور ثلاثة ختوم. قال المقرئ محمد بن سويد: فتسلمت الكتاب من رسول مولانا المهدي (عليه السلام) بيديه المشطوفة، قال: وسلمه إليكيعني عنيقال: وكان أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآويضاعف الله سعادتهحاضرا فقال: ما هذا؟ فقلت: هو يقول لك. يقول علي بن موسى بن طاوس: فتعجبت من أن هذا محمد بن سويد قد رأى المنام في الليلة التي حضر عندي فيها الرسول المذكور وما كان عنده خبر من هذه الأمور. والحمد لله كما هو أهله


[ 91 ]

وسمعت ممن لا أسميه مواصلة بينه وبين مولانا (عليه السلام) لو تهيأ ذكرها كانت عدة كراريس دالة على وجوده وحياته ومعجزاته صلوات الله عليه. وصلى الله على سيدنا سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين. انتهى قراءة هذا الكتاب علي في ليلة الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وستمائة، والقارئ له ولدي محمد حفظه الله تعالى، وسمع القراءة ولدي وأخوه علي وأربع أخواته وبنت خالي . انتهى كلام سيدنا الأجل العلامة الأوحد صاحب الكرامات والمنامات (قدس سره). وإنما أطنبنا الكلام بذكر تلك الرسالة كلها لوجهين: أحدهما: التبرك بكلامه (قدس سره). وثانيهما: لتعلم أن إمام الزمان ناموس العصر والأوان ساخط على جمع من أصحابنا الذين اعتمدوا على غير نصوصهم في بعض فتاويهم عموما، وعلى المستعجل الجسور محمد بن إدريس الحلي خصوصا، ولكن أرجو من فضل ربي أن تكون شفاعة الأئمة (عليهم السلام) ورائي ووراءهم. فائدة عند قدماء أصحابنا الأخباريين قدس الله أرواحهمكالشيخين الأعلمين الصدوقين والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (كما صرح به في أوائل كتاب الكافي، وكما نطق به باب التقليد وباب الرأي والمقاييس وباب التمسك بما في الكتب من كتاب الكافي فإنها صريحة في حرمة الاجتهاد والتقليد وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة (عليهم السلام) المسطورة في تلك الكتب المؤلفة بأمرهم (عليهم السلام)) وشيخه


[ 92 ]

علي بن إبراهيم بن هاشم (كما صرح به في أول تفسيره لكتاب الله تعالى) ومن تقدمهم ممن أدرك صحبة بعض الأئمة (عليهم السلام) أو قرب عهده بهلا مدرك للأحكام الشرعية النظرية فرعية كانت أو أصلية إلا أحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) وتلك الروايات الشريفة متضمنة لقواعد قطعية تسد مسد الخيالات العقلية المذكورة في الكتب الأصولية والاعتبارات المذكورة في كتب فن دراية الحديث. والقواعد الظنية العربية المذكورة في فن المعاني والبيان أو غيرهما أيضا قليلة الجدوى عند الأخباريين من أصحابنا، وذلك لأنهم لم يعتمدوا في فتاويهم وأحكامهم إلا على دلالات واضحة صارت قطعية بمعونة القرائن الحالية أو المقالية، وتلك القرائن وافرة في كلام أهل البيت (عليهم السلام) لا في كتاب الله ولا في كلام رسوله (صلى الله عليه وآله) كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى. وأوجبوا التوقف والاحتياط عند ظهور خطاب يكون سنده أو دلالته غير قطعي، لأنه من باب الشبهات في نفس الأحكام ويجب التوقف والاحتياط عندها كما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وسنذكر إن شاء الله تعالى طرفا منها. وبحمد الله سبحانه وتعالى وفور أحاديثهم (عليهم السلام) في أمهات الأحكام وفيما تعم به البلوى من غيرها ومخاطبتهم الرعية على قدر ما وجدوا فيهم من الأفهام قد قضى الوطر عن معرفة الاعتبارات العقلية الأصولية، وعن الدلالات الظنية، وعما في


[ 93 ]

التمسك بهما من التعارضات وأنواع الإشكالات، وعن تجويز التخيير في أحكام الله تعالى عند تعادل الأمارات في نظر صاحب الملكة التي اعتبروهاونجانا الله من الوقوع في الهلكات وعن الحكم بغير ما أنزل الله تعالىوعن الحاجة إلى نصب رجل ثالث يقول: ” حكمت بأحد الاجتهادين على الآخر ليحصل فصل الخصومات بقوله: ” حكمت عند تعارض اجتهاد المجتهدين كما تقدم في الصورتين، وعن الحاجة إلى الفرق بين فتوى المجتهد على وجه كلي وحكم القاضي على وجه جزئي في واقعة مخصوصة بأن الأول تنقض باجتهاد حادث بعده، والثاني لا تنقض، لأنه نصبه الإمام الأعظم ليفصل الخصومات، فلو جاز نقضه بحكم حادث للزم التسلسل. ويؤيد ما ذكرناه ما سننقله عن كتاب المعالم حيث قال ذكر السيد المرتضى ان معظم الفقه يعلم بالضرورة من مذاهب أئمتنا (عليهم السلام) فيه بالأخبار المتواترة. وما سننقله عن رئيس الطائفة من انعقاد الإجماع على صحة الأحاديث التي عمل بها . وما سننقله عن كتاب الكافي وعن كتاب من لا يحضره الفقيه وعن المحقق الحلي وعن غيرهم، وقد وجدنا في مواضع من كلام رئيس الطائفة (قدس سره) ما يوافق ما نقلناه عن قدمائنا من عدم جواز الاعتماد في أحكام الله تعالى على طريق يؤدي إلى الاختلاف. منها: ما ذكره في أول كتاب تهذيب الحديث، حيث قال: ذاكرني بعض


[ 94 ]

الأصدقاءأيده الله تعالى بأحاديث أصحابناأيدهم الله تعالىوما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرقوا بذلك في إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم ولا أن يبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشد اختلافا من مخالفيكم وأكثر تباينا من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حل الشبهة. ومنها: ما ذكره في أواخر كتاب العدةوهو أحسن الكتب الأصولية التي


[ 95 ]

صنفها الخاصةحيث قال في مبحث الاجتهاد: واعلم أن كل أمر لا يجوز تغيره عما هو عليه من وجوب إلى حظر أو من حسن إلى قبح، فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين أن الاجتهاد في ذلك لا يختلف وأن الحق فيه في واحد، وأن من خالفه ضال فاسق وربما كان كافرا، وذلك نحو القول بأن العالم قديم أو محدث وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟ والكلام في صفات الصانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوة والإمامة وغير ذلك، وكذلك الكلام في أن الظلم والعبث والكذب قبيح على كل حال وأن شكر المنعم ورد الوديعة والإنصاف حسن على كل حال، وما يجري مجرى ذلك. وإنما قالوا ذلك، لأن هذه الأشياء لا يصح تغيرها في نفسها ولا خروجها عن صفتها التي هي عليها. وأما ما يصح تغيره في نفسه وخروجه من الحسن إلى القبح ومن الحظر إلى الإباحة، فلا خلاف بين أهل العلم أنه كان يجوز أن يختلف المصلحة في ذلك، فما يكون حسنا من زيد يكون قبيحا من عمرو وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن منه في حالة أخرى، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوالهم وبحسب اجتهادهم. وإنما قالوا ذلك، لأن هذه الأشياء تابعة للمصالح والألطاف، وما هذا حكمه فلا يمتنع أن يتغير الحال فيه؛ ولهذه العلة جاز النسخ ونقل المكلفين عما كانوا عليه إلى خلافه بحسب ما يقتضيه مصالحهم، إلا أن مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك بالشرع أم لا؟ فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم وأبي الحسن وأكثر المتكلمين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن عنهم، وقد حكى غيره من العلماء عن أبي حنيفة خلافه. وذهب الأصم وبشر المريسي إلى أن الحق في واحد من ذلك وهو ما يقولون به وأن ما عداه خطأ، حتى قال الأصم: إن حكم الحاكم ينقض به، ويقولون: إن المخطئ غير معذور في ذلك إلا أن يكون خطؤه صغيرا وأن سبيل ذلك سبيل الخطأ في أصول الديانات. وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره إلى أن الحق من ذلك في واحد


[ 96 ]

وأما الشافعي فإن كلامه يختلف في كتبه، فربما قال: إن الحق في واحد وعليه دليل قائم وأن ما عداه خطأ، وربما مر في كلامه أن كل مجتهد قد أدى ما كلف به، وربما يقول: إنه قد أخطأ خطأ موضوعا عنه. وقد اختلف أصحابه في حكاية مذهبه، فمنهم من يقول: إن الحق في واحد من ذلك وإن عليه دليلا وإن لم يقطع على الوصول إليه وإن ما عداه خطأ، لكن الدليل على الصواب من القولين لما غمض ولم يظهر كان المخطئ معذورا. ومنهم من يحكي: أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم وإن كان أحدهما يقال فيه قد أخطأ الأشبه عند الله. والذي أذهب إليهوهو مذهب جميع شيوخنا المتكلمين المتقدمين والمتأخرين وهو الذي اختاره سيدنا المرتضىقدس الله روحهوإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله (رحمه الله) : أن الحق في واحد وأن عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا. واعلم أن الأصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد، لأن ما طريقه التواتر وظواهر القرآن فلا خلاف بين أهل العلم أن الحق فيما هو معلوم من ذلك، وإنما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه، وقد دللنا على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته، وإذا ثبت ذلك دل على أن الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة. وأما على ما اخترته من القول في الأخبار المختلفة المروية من جهة الخاصة فلا ينقض ذلك، لأن غرضنا في هذا المكان أن نبين أن الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة دون الجهة التي خالفها، وإن كان حكم ما يختص به الطائفة والاختلاف الذي بينها الحكم الذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الأخبار، فلا تنافي بين القولين، وهذه الجملة كافية في هذا الباب انتهى كلامه (رحمه الله). وسيأتي في كلامنا ما ذكره (قدس سره) في باب الكلام في الأخبار إن شئت فارجع إليه، ومحصول كلامه هناك: أن اختلاف فتاوى أصحابنا المبني على اختلاف الفتاوى الواردة عنهم (عليهم السلام) لا يستلزم تناقضا بين تلك الفتاوى حتى يكون الحق في واحد، وذلك لأن كل واحد منهم يقول: هذه الفتوى ثبت ورودها عنهم (عليهم السلام) ولم يظهر


[ 97 ]

عندي إلى الآن أن ورودها من باب التقية، وكلما هو كذلك يجوز لنا العمل به إلى ظهور القائم (عليه السلام) وإن كان وروده في الواقع من باب التقية. وكل واحدة منهما حق، إحداهما عند الاختيار والأخرى عند ضرورة التقية. بخلاف اختلاف الفتاوى المبني على غير ذلك، فإنه يستلزم التناقض بينها، لأن كل واحد منهم يقول أولا: هذا حكم الله في الواقع حال الاختيار بحسب ظني، ثم يقول: كل ما هو كذلك يجوز لي ولمقلدي العمل به قطعا ويقينا . فائدة انقسام علماء الإمامية إلى الأخباريين والأصوليين مشهور في كتب العامة كآخر شرح المواقف، حيث قال: كانت الإمامية أولا على مذهب أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعبت متأخروهم إلى المعتزلة وإلى الأخبارية ، وأوائل كتاب الملل والنحل للشهرستاني حيث قال في باب: الإمامية كانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفوا في الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان اختار كل فرقة طريقة، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها أخبارية إما مشبهة وإما سلفية انتهى كلامه. وفي كتب الخاصة، كنهاية بحر العلوم العلامة الحلي (قدس سره) حيث قال في مبحث العمل بخبر الواحد المظنون العدالة الخالي عن القرائن لترويج ما ذهب إليه من جواز الاعتماد على خبر الواحد في الفروع: أما الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة (عليهم السلام) والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه انتهى كلامه أعلى الله مقامه وفيه بحثان آتيان في


[ 98 ]

كلامنا إن شاء الله تعالى. فائدة أقول: العامة لما أنكروا أن لله سبحانه وتعالى في كل زمان علما هاديا منصوبا من قبله تعالى، حاكما على الأمة مفترض الطاعة معصوما عن الخطأ دافع الشبهات حلال المشكلات، عالما بكل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، فاصلا بين الحق والباطل فيما تشاجرت فيه العقول أو تحيرت، ناطقا عن وحي إلهي لا رأي بشري، وسدوا باب التمسك بالعترة الطاهرة (عليهم السلام). مع أن الحديث الشريف المتواتر معنى بين الفريقين: إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا، كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت أنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين، والثقلان كتاب الله عزوجل وأهل بيتي فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) . وفي رواية أخرى: إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم


[ 99 ]

بهما، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين. (وجمع بين مسبحتيه) ولا أقول كهاتين (وجمع بين المسبحة والوسطى) فتسبق إحداهما الأخرى، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا، ولا تقدموهم فتضلوا . ناطق بوجوب التمسك بكلامهم (عليهم السلام) إذ معنى التمسك بالمجموع هو التمسك بكلامهم (عليهم السلام) إذ لا تفسير لكتاب الله إلا التفسير المسموع منهم ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): ” لن يفترقا وكذلك حديث: ” مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وحديث: ” ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية والباقي في النار وغيرها من الأحاديث المتواترة بين الفريقين. وقد تحير جمع من أفاضل الفريقين في وجه دلالة الحديث الأخير وحده على المطلوب، ووجهه: أن سياقه صريح في أن بين الفرقة الناجية وبين سائر الفرق تضادا كليا في العقائد والأعمال الشرعية. ومن المعلوم: أن هذا المعنى متحقق بين أصحابنا وغيرهم، لتفرد أصحابنا بأن أوجبوا السماع منهم (عليهم السلام) كل مسألة نظرية شرعية أصلية كانت أو فرعية، وسائر الطوائف خالفونا في ذلك، وهذا الاختلاف انتهى إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الشرعية. ولهذا المقام زيادة تحقيق سيجيء في كلامنا إن شاء الله تعالى. احتاجوا لحفظ ظاهر الشريعة إلى فتح بابي الاجتهاد والإجماع ففتحوهما


[ 100 ]

ثم علماؤهم دبروا تدابير عرفية واخترعوا قوانين سياسية: منها: أنهم قسموا الأحكام الشرعية إلى قسمين: قسم نصب الشارع دلالة قطعية عليه، وقسم نصب الشارع دلالة ظنية عليه. ومنها: أنهم جعلوا الأمة قسمين: القسم الأول: ” المجتهد واعتبروا فيه ملكة مخصوصة مخفية غير منضبطة، ولذلك يقع الاختلاف في كثير من الأفاضل بين أهل الخبرة هل هم مجتهدون أم لا، واعتبروا في العمل بظنه قدرا من بذل الوسع، هو كذلك أمر مخفي غير منضبط. والقسم الثاني: ” المقلد وأوجبوا عليه العمل بظن المجتهد في المسائل التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب، ولذلك سموه مقلدا فلو كان عنده حديث صحيح صريح في مسألة نظرية شرعية لم يطلع عليه المجتهد وجب عليه طرحه والأخذ بظن المجتهد المخالف له المبني على استصحاب أو براءة أصلية أو شبهها


[ 101 ]

ومنها: أنهم فرقوا بين القضاء والإفتاء، بأن الأول لا ينقض إلا بقطعي، لأنه وضع لفصل الخصومات دون الثاني، فلو حكم قاض في رؤية هلال عيد الفطر مثلا أو منازعة دنيوية بحكم مبني على اجتهاده يجب على كل المجتهدين موافقته في ذلك الحكم الشخصي. ومنها: أنهم ذكروا أن الإجماع بالمعنى الذي اعتبروه معصوم عن الخطأ دون اجتهاده (صلى الله عليه وآله) فهو أقوى منه من وجه كما صرحوا به. ثم احتاجوا في تحصيل تلك الملكة إلى فتح أبواب أخر ففتحوها وسموها أدلة شرعية. ثم احتاجوا إلى وضع باب الترجيحات، لكثرة وقوع التعارض بين الأمارات والخيالات التي اعتبروها، وإلى القول بالتخيير في أحكامه تعالى عند العجز عن الترجيحات التي اعتبروها لئلا يلزم تعطل الأحكام، وإلى نصب رجل ثالث ليحكم على أحد المجتهدين للآخر عند تعارض اجتهاديهما لئلا يلزم تعطل الأحكام. ثم سدوا باب القدح في جل ما اعتبروه بادعاء الإجماع عليه. فأول الأبواب التي منحوها ومعظمها الإجماع، إذ عليه يبتنى سائر قواعدهم، وفسروه بتفاسير مختلفة متقاربة المعنى، ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي: الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) في عصر على أمر وفي جمع الجوامع: الإجماع اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد (صلى الله عليه وآله) في عصر على أي أمر كان وقالوا: أي أمر كان يعم الإثبات والنفي والأحكام الشرعية واللغوية والعقلية والدنيوية فهو حجة فيها، كما جزموا به في الأولين ورجحوه في الآخرين وادعوا تحققه في مواضع لا تعد ولا تحصى من باب الخرص والتخمين. والتزموا أن لا يلتفتوا إلى قول أهل الذكر (عليهم السلام) في تحقق الإجماع ولا إلى قول من تمسك بهم


[ 102 ]

ومن تلك الأبواب القياس: ومنها: استنباط الأحكام النظرية من عمومات كتاب الله تعالى وإطلاقاته من غير تفحص عن حالهما هل هي منسوخة أو مخصصة أو مقيدة أو مؤولة أو لا؟ بسؤال أهل الذكر (عليهم السلام) عن ذلك، ويقولون عند الاستنباط من ظاهر آية شريفة: نحن فحصنا الأحاديث النبوية المروية بطرقنا ولم يظهر عندنا نسخ ولا تخصيص ولا قيد ولا تأويل لتلك الآية، فحصل لنا ظن متاخم لليقين أو غير متاخم بفقد تلك الأمور، وذلك لأنها لو كانت لظهرت بعد التفتيش، لأنه (صلى الله عليه وآله) كل ما جاء به أظهره بين يدي أصحابه، وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره، ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة انتهت إلى إخفاء بعضه. ومنها: استنباط الأحكام النظرية من السنة النبوية (صلى الله عليه وآله) من غير تفحص عن حالها، كما مر. ومنها: شرع من قبلنا. ومنها: التمسك بالملازمات المختلفة فيها، مثل أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن أضداده الخاصة الوجودية، ومثل أن تحقق مأخذ الاشتقاق في ذات في زمان كاف في إطلاق المشتق على تلك الذات بعد زواله. ومنها: التمسك باستصحاب حكم شرعي مع طرو حالة لم يعلم شمول الخطاب لها. ومنها: التمسك بالاستحسان. ومنها: التمسك بالمصالح المرسلة. ومنها: التمسك بالبراءة الأصلية في نفي حكم شرعي ظهرت شبهة مخرجة عن الأصل كرواية ضعيفة أو لم تظهر. ومنها: التمسك بخبر الواحد المظنون العدالة في نفس الأحكام الإلهية. ومن تدابيرهم القول بأن أمر الشهادة آكد من أمر الرواية ولذلك احتيط في الشهادة ما لم يحتط في الرواية، فزيد في شروطها فاعتبر في الشهادة الحرية


[ 103 ]

والذكورة والعدد وعدم القرابة للمشهود له وعدم العداوة للمشهود عليه، دون الرواية لأن الرواية أبعد عن التهمة. وأقول: من المعلوم أنه ينبغي أن يكون الأمر بالعكس، لأنه يثبت بالرواية حكم كلي يعم المكلفين إلى يوم القيامة وبالشهادة قضية جزئية، ومن ثم تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأنه يكفي في باب الشهادات وإمام الجماعات العدالة الظاهرية وبأنه لابد في راوي الحكم الإلهي العصمة أو من الثقة المأمون من الكذب والزلة ومنها: قولهم بأن الحكم فيما لا دليل فيه نفي الحكم، فنفي الدليل دليل على نفي الحكم، لما ورد الشرع بأن ما لا دليل فيه لا حكم فيه، فكان عدم الدليل لعدم الحكم مدركا شرعيا. وملخصه: أن عدم الدليل مدرك شرعي لعدم الحكم، للإجماع على أن ما لا دليل فيه فهو منفي، وذلك بعد ورود الشرع، لظهور أنه قبل ورود الشرع ليس من المدارك الشرعية، كذا في الشرح العضدي وفي شرح الشرح للعلامة التفتازاني. أقول: من ضروريات مذهب الإمامية أن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة وكل ما يختلف فيه اثنان ورد فيه خطاب وحكم من الله تعالى حتى أرش


[ 104 ]

الخدش، فخلو واقعة عن حكم إلهي غير متصور عند أصحابنا. فائدة اعلم أن علماء العامة مع كثرة المدارك الشرعية عندهم اختلفوا في تحقق مجتهد الكل، فذهب جماعة من محققيهم كالآمدي وصدر الشريعة إلى عدم تحققه، والعجب كل العجب! من جمع من متأخري أصحابنا حيث زعموا تحققه مع عدم اعتبار أكثر تلك المدارك عند أصحابنا. فائدة اعلم أن الأصوليين من الخاصة اتفقوا على بطلان بعض تلك المدارك التي اعتبرتها العامة وعلى صحة بعضها واختلفوا في الباقي، وسنشير إلى الأقسام الثلاثة ونحقق المقام إن شاء الله تعالى بتوفيق الملك العلام وهداية أهل الذكر (عليهم السلام). فائدة الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريين وطريقتهم، أما مذهبهم فهو أن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى أرش الخدش، وأن كثيرا مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من الأحكام ومما يتعلق بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة (عليهم السلام) وأن القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية، وكذلك كثير من السنن النبوية (صلى الله عليه وآله). وأ نه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية إلا السماع من الصادقين (عليهم السلام). وأ نه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقف والاحتياط فيهما، وأن المجتهد في نفس أحكامه تعالى إن أخطأ كذب على الله تعالى وافترى وإن أصاب لم يؤجر، وأ نه لا يجوز القضاء


[ 105 ]

ولا الافتاء إلا بقطع ويقين ومع فقده يجب التوقف، وأن اليقين المعتبر فيهما قسمان: يقين متعلق بأن هذا حكم الله في الواقع، ويقين متعلق بأن هذا ورد عن معصوم فإنهم (عليهم السلام) جوزوا لنا العمل به قبل ظهور القائم (عليه السلام) وإن كان في الواقع وروده من باب التقية ولم يحصل لنا منه ظن بما هو حكم الله تعالى في الواقع والمقدمة الثانية متواترة عنهم معنى. فائدة المعتبر من اليقين في البابين ما يشمل اليقين العادي فلا يتعين تحصيل ما هو


[ 106 ]

أقوى منه من أفراد اليقين، وباب اليقين العادي باب واسع يشهد بذلك اللبيب اليقظاني النفس، والأصوليون بنوا على هذا الباب كثيرا من قواعدهم كحجية الإجماع، وكذلك المتكلمون، وإن شئت أن تعلمه كما علمنا فانظر إلى الشرح العضدي للمختصر الحاجبي وإلى شرح المواقف والمقاصد وغيرها. فائدة كان المتعارف بين قدمائنا وفي كلام الأئمة (عليهم السلام) الوارد في وكلاء الصاحب (عليه السلام) وفي غيرهم جواز الاعتماد على خبر الثقة، ومن المعلوم: أن النسبة بين الثقة في الأخبار وبين ظن العدالة الذي اعتبره العلامة (رحمه الله) ومن وافقه من أصحابنا على وفق العامة عموم من وجه، صرح بذلك الشهيد الثاني في بعض تصانيفه في جواز الاعتماد على خبر البائع الثقة في استبراء الجارية ووقع هذا الإطلاق في صحيحة عمر بن يزيد في باب الشهادة وصرح رئيس الطائفة في كتاب الفهرست بأن كثيرا من أصحاب الأصول كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة وكانت كتبهم


[ 107 ]

معتمدة وصرح في كتاب العدة بأنه يجوز العمل بخبر الثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه وفي الكافي في باب تسمية من رآه (عليه السلام): محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو قد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من أعامل أو عمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون. وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال: فخر أبو عمرو ساجدا وبكى، ثم قال: سل، فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله! ورقبته مثل ذا، وأومأ بيده والحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجة. والتصريح بأنه لا يعتمد في باب الرواية إلا على رواية الثقة وقع في أحاديث كثيرة، سيجيء في كلامنا نقل طرف منها، فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. وأنا أقول: ما أفاده الشيخ (قدس سره) في غاية الجودة، لأن خبر الثقة في الرواية فرد من أفراد الخبر المحفوف بالقرينة الموجبة للعلم والقطع، وكأن هذه الدقيقة كانت منظورة لقدمائنا في العمل بخبر الواحد الثقة وغفل عنها العلامة الحلي فتحير في تحقيق طريقة قدمائنا ووقع في حيص وبيص حتى نسب إليهم أنهم كانوا يعتمدون في عقائدهم أيضا على مجرد خبر الواحد الظني العدالة هكذا ينبغي أن تحقق هذه المباحث. والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب، وذلك فضل الله يؤتيه من


[ 108 ]

يشاء والله ذو الفضل العظيم. وقد رأيت في سحر ليلة الجمعة في مكة المعظمة في المنام: أنه يخاطبني واحد من أخيار الأنام في مقام التسلية بقوله تعالى: ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾ وكان السبب فيه أني كنت حزينا على ما فات مني في بعض المساعي فأخذتني غفوة في تلك الليلة بعد أن صليت صلاة الليل وصلاة الوتر، فلما أصبحت وفتحت الكافي للنظر في مبحث كان في قصدي، فإذا أنا بقول الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية الشريفة: المراد بها أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فالحمد لله الذي أذهب عنا الحزن


[ 109 ]

وأما طريقتهم فهي أنهم لم يعتمدوا فيما ليس من ضروريات الدين من المسائل الكلامية والأصولية والفقهية وغيرها من الأمور الدينية إلا على الأخبار الصحيحة الصريحة المروية عن العترة الطاهرة (عليهم السلام). ومعنى الصحيح عندهم مغاير لما اصطلح عليه المتأخرون من أصحابنا على وفق اصطلاح العامة، وأولهم العلامة على ما سيجيء نقله عن بعض أصحابنا فإن معناه عندهم ما علم علما قطعيا وروده عن المعصوم ولو كان من باب التقية. وباصطلاح القدماء تكلم السيد الإمام العلامة والقدوة الهمام الفهامة سيد المتكلمين وسند الفقهاء والأصوليين السيد الأجل المرتضى (رضي الله عنه) في جواب المسائل التبانيات المتعلقة بأخبار الآحاد، حيث قال: إن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوعة على صحتها، إما بالتواتر من طريق الإشاعة والإذاعة أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص هذا الكلام نقله صاحب كتاب المنتقى في


[ 110 ]

أوائل كتابه عن السيد المرتضى


[ 111 ]

وكذلك عمدة علمائنا الأخباريين شيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه: أن كل ما ذكره فيه صحيح وأ نه حجة بينه وبين الله تعالى وكذلك الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب الكافي ما محصله: أنه صنفه لأن يزول به إشكال من تحير في الأحكام بسبب اختلاف الروايات وعدم تمكنه من التمييز بين الصحيح


[ 112 ]

منها وغير الصحيح منها، ولأن يكتفي به المتعلم والمسترشد ويأخذ منه معالم دينه بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) ومن المعلوم أنه (رحمه الله) لم يذكر في كتابه هذا قاعدة بها يميز بين الحديث الصحيح وغيره، فعلم أن كل ما فيه صحيح، فإنه لو كان ملفقا من صحيح وغير صحيح لزاد السائل الإشكال والحيرة ولما جاز اكتفاء المتعلم به وأخذ المسترشد منه. وأيضا من الأمور المعلومة عند من تتبع كتب الأخبار والرجال: أن الأصول الصحيحة والأحاديث المعتمدة عليها كانت في زمن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (قدس سره) ممتازة عن غيرها. ومن المعلوم أنه لم يقع من مثله أن يجمع بينهما في كتاب واحد في مقام الهداية والإرشاد من غير نصب علامة مائزة، ذلك ظن الذين لا يوقنون. وكذلك رئيس الطائفة (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب الاستبصار موافقا لما صرح به في كتاب العدة كما حققه المحقق الحلي واختاره في أصوله وفي أوائل المعتبر ما محصوله: أن أخبار كتب قدمائنا التي كانت متداولة بينهم وكانوا مجمعين على ورودها عن المعصومين (عليهم السلام) لا يخلو من أقسام ثلاثة: من جملتها ما يكون مضمون الخبر متواترا. ومن جملتها ما يكون احدى القرائن الموجبة للقطع بصحة مضمون الخبر موجودة. ومن جملتها ما لا يكون هذا ولا ذاك. وإن القسم الثالث ينقسم إلى أقسام: من جملتها خبر انعقد إجماعهم على نقله عنهم (عليهم السلام) بمعنى أنهم لم ينقلوا عنهم (عليهم السلام) في بابه إلا إياه أو ما يوافقه. ومن جملتها خبر ليس كذلك، ولكن انعقد إجماعهم على صحته بمعنى وروده عن المعصوم مع قيد عدم ظهور مانع شرعي عن العمل به، وأن كل خبر عمل به في كتابي الأخبار وغيرهما من الكتب لا يخلو عن الأقسام المذكورة


[ 113 ]

وكذلك المحقق الحلي (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء في العبارة التي تقدم نقلها عن كتاب المعتبر، حيث اختار في العمل بخبر الواحد ما اختاره رئيس الطائفة بعينه، حيث قال: والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه


[ 114 ]

فائدة للمتأخرين إيرادات كثيرة في باب العمل بخبر الواحد على رئيس الطائفة (قدس سره) فأوردوا بعضها على ما ذكره في أوائل كتاب الاستبصار، وبعضها على ما ذكره في كتاب التهذيب، وبعضها على ما ذكره في كتاب العدة. ومن جملة تلك الإيرادات التناقض والاضطراب. ومن الموردين الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح رسالته في دراية الحديث وبعد ما تحيط خبرا بما ذكره المحقق الحلي في تحقيق كلام رئيس الطائفة (قدس سرهما) وبما ذكرناه من زيادات وتوضيحات من قبلنا لا يبقى مجال لهذه الإيرادات. لا يقال: في مواضع من كتاب من لا يحضره الفقيه ما يدل على القدح في بعض أحاديث كتاب الكافي من جملتها أنه بعد ما ذكر توقيعا من التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في باب الرجل يوصي إلى رجلين قال: هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام). وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) رواية خلاف ذلك التوقيع عن الصادق (عليه السلام) ثم قال: لست أفتي بهذا الحديث مشيرا إلى ما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن الصادق (عليه السلام) بل أفتي بما عندي بخط


[ 115 ]

الحسن بن علي (عليهما السلام) ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير، كما أمر به الصادق (عليه السلام) وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس انتهى كلامه. ومن جملتها أنه بعد أن نقل حديثا في باب الوصي يمنع الوارث قال: ما وجدت هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب الكليني وما رويته إلا من طريقه، حدثني به غير واحد منهم محمد بن محمد بن عصام الكليني (رضي الله عنه) عن محمد ابن يعقوب انتهى كلامه أعلى الله مقامه. لأ نا نجيب عن الأول بأنه ليس قوله: ” ولو صح الخبران صريحا في عدم صحة الخبر الذي في الكافي، لاحتمال أن يكون قصده الإشارة إلى القاعدة الكلية المذكورة في كلامهم (عليهم السلام) في باب الخبرين المتعارضين، فإن تلك العبارة مذكورة هناك ولاحتمال أن يكون قصده نفي تساويهما في الصحة، فإن من المعلوم أن خط المعصوم أصح من النقل بوسائط، وبعد التنزل عن المقامين نقول: ربما يكون محمد ابن بابويه عند تكلمه بهذا الكلام غافلا عما ذكره محمد بن يعقوب في أوائل كتابه


[ 116 ]

ولأنا نجيب عن الثاني بأن عدم وجدانه لا يدل على عدم وجوده في الأصول المعتمدة


[ 117 ]

فائدة ذكر الفاضل المدقق الشيخ حسن ابن العالم الرباني الشهيد الثاني قدس الله سرهما في أوائل كتاب المنتقى ولقد كانت حالة الحديث مع السلف الأولين على طرف النقيض مما هو فيه مع الخلف الآخرين، فأكثروا لذلك فيه المصنفات وتوسعوا في طرق الروايات وأوردوا في كتبهم ما اقتضى رأيهم إيراده من غير التفات إلى التفرقة بين صحيح الطريق وضعيفه ولا تعرض للتمييز بين سليم الإسناد وسقيمه، اعتمادا منهم في الغالب على القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقه، وتعويلا على الامارات الملحقة لمنحط الرتبة بما فوقه، كما أشار إليه الشيخ (رحمه الله) في فهرسته، حيث قال: ” إن كثيرا من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة، وكتبهم معتمدة وغير خاف أنه لم يبق لنا سبيل إلى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظوا بالعين وأصبح حظنا الأثر وفازوا بالعيان وعوضنا عنه بالخبر، فلا جرم انسد عنا باب الاعتماد على ما كانت لهم أبوابه مشرعة، وضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة إلى أن قال اصطلح المتأخرون من أصحابنا على تقسيم الخبر باعتبار اختلاف أحوال رواته إلى الأقسام الأربعة المشهورة انتهى. وأقول: في بعض كلامه بحث، وهو: أن بعض تلك الأبواب انسد وبقيت لنا بحمد الله تعالى أبواب مفتوحة فيها الكفاية، وسيجئ زيادة تحقيق لهذا المقام في كلامنا إن شاء الله تعالى. ثم قال في موضع آخر من كتاب المنتقى: القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعا، لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف كما أشرنا إليه سالفا، فلم يكن للصحيح كثير مزية توجب له التمييز باصطلاح أو غيره، فلما اندرست تلك الآثار واستقلت الأسانيد بالأخبار اضطر المتأخرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشك، فاصطلحوا


[ 118 ]

على ما قدمنا بيانه، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلامة إلا من السيد جمال الدين ابن طاوس (رحمه الله) وإذا أطلقت الصحة في كلام من تقدم فمرادهم منها الثبوت أو الصدق انتهى كلامه (قدس سره). وأقول: من تأمل فيما ذكره المحقق الحلي في أوائل كتاب المعتبر وفي كتاب الأصول في مبحث العمل بخبر الواحد وفي فهرستي الشيخ والنجاشي وفيما ذكر رئيس الطائفة في مبحث العمل بخبر الواحد من كتاب العدة وما ذكره في آخر كتابي الأخبار وغيرها بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأن أحاديث الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المتداولة في زماننا مكتوبة من أصول قدمائنا التي كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم، ويقطع بأن الطرق المذكورة في تلك الكتب إنما ذكرت لمجرد التبرك باتصال السند وباتصال سلسلة المخاطبة اللسانية إلى مؤلفي تلك الأصول، ولدفع تعيير العامة أصحابنا بأن أحاديثهم مأخوذة من أصول قدمائهم وليست بمعنعنة. ويقطع بأن بعض تلك الطرق من مشائخ الإجازة المحضة، من


[ 119 ]

غير سماع من الشيخ أو قراءة عليه خصوصيات كل ما رواه، فلا يتوقف على تلك الطرق صحة أحاديثنا عند التحقيق والنظر الدقيق، بل اعتماد الأئمة الثلاثة وغيرهم قدس الله أرواحهم على تلك الأصول التي كانت متواترة النسبة إلى مؤلفيها في زمانهم كما أن الكتب الأربعة كذلك في زماننا. وأقول: حقيقة الإجازة إخبار إجمالي وهي تنقسم إلى قسمين عند التحقيق: أحدهما: إخبار إجمالي بأمور مضبوطة في كتب شخصية معلومة عند المخاطب في حال الإجازة. وثانيهما: إخبار إجمالى بأمور مضبوطة في الواقع، لا في علم المخاطب. وللفاضل صاحب المنتقى والمعالم (رحمه الله) هنا تحقيق متعلق بالكتب الأربعة لا بأس بنقله. قال في كتاب المعالم: الإجازة في العرف إخبار إجمالي بأمور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط والتصحيف ونحوهما، وما هذا شأنه لا وجه للتوقف في قبوله، والتعبير عنه بلفظ أخبرني وما في معناه مقيدا بقوله إجازة تجوز مع القرينة فلا مانع منه، ومثله آت في القراءة على الراوي، لأن الاعتراف إخبار إجمالي. إذا عرفت هذا، فاعلم أن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه، ككتب أخبارنا الأربعة، فإنها متواترة إجمالا، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا، وإنما فائدتها حينئذ بقاء اتصال سلسلة الإسناد بالنبي والأئمة عليه وعليهم الصلاة والسلام وذلك أمر مطلوب مرغوب للتيمن كما لا يخفى انتهى كلامه (رحمه الله)ـ


[ 120 ]

وأقول: قد علمت أن الإجازة قسمان، فاعلم أن أحد قسميها لا مدخل له في العمل أصلا، بل تنحصر فائدته في مجرد التبرك ونحوه. فائدة ذكر الشيخ العالم المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي في أوائل كتاب مشرق الشمسين: استقر اصطلاح المتأخرين من علمائنا رضي الله عنهم على تنويع الحديث المعتبر ولو في الجملة إلى الأنواع الثلاثة المشهورة، أعني الصحيح و الحسن و الموثق بأنه إن كان جميع سلسلة سنده إماميين ممدوحين بالتوثيق فصحيح، أو إماميين ممدوحين بدونه كلا أو بعضا مع توثيق الباقي فحسن، أو كانوا كلا أو بعضا غير إماميين مع توثيق الكل فموثق. وهذا الاصطلاح لم يكن معروفا بين قدمائنا قدس الله أرواحهم كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه، وذلك بأمور: منها: وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة التي نقلوها عن مشائخهم بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة سلام الله عليهم وكانت متداولة لديهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس رابعة النهار. ومنها: تكرره في أصل أو أصلين منها فصاعدا بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة. ومنها: وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار، أو على تصحيح ما يصح عنهم كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمد بن أبي نصر، أو على العمل بروايتهم كعمار الساباطي ونظرائه ممن عدهم شيخ الطائفة في كتاب العدة، كما نقله عنه المحقق في بحث التراوح من المعتبر. ومنها: اندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمة عليهم الصلاة


[ 121 ]

والسلام فأثنوا على مؤلفيها، ككتاب عبيد الله الحلبي الذي عرض على الصادق (عليه السلام) وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري (عليه السلام). ومنها: أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها، سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية الإمامية ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد وعلي بن مهزيار، أو من غير الإمامية ككتاب حفص بن غياث القاضي وكتب الحسين بن عبيد الله السعدي وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري. وقد جرى رئيس المحدثين ثقة الإسلام محمد بن بابويه (قدس سره) على متعارف المتقدمين من إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد عليه، فحكم بصحة جميع ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره الفقيه، وذكر أنه استخرجها من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع، وكثير من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخرين ومنخرط في سلك الحسان والموثقات، بل الضعاف. وقد سلك على ذلك المنوال جماعة من أعلام علماء الرجال، فحكموا بصحة حديث بعض الرواة غير الإمامية، كعلي بن محمد بن رباح وغيره، لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الذين انعقد الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم. تبيين والذي بعث المتأخرين نور الله مراقدهم على العدول عن متعارف القدماء ووضع ذلك الاصطلاح الجديد هو: أنه لما طالت الأزمنة بينهم وبين الصدر والسالف وآل الحال إلى اندراس بعض كتب الأصول المعتمدة لغلظ حكام الجور والضلال والخوف من إظهارها وانتساخها، وانضم إلى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من كتب الأصول في الأصول المشهورة في هذا الزمان، والتبست الأحاديث المأخوذة من الأصول المعتمدة بالمأخوذة من غير المعتمدة واشتبهت المتكررة في كتب الأصول بغير المتكررة. وخفي عليهم قدس الله أرواحهم كثير من تلك الأمور التي كانت سبب وثوق القدماء بكثير من الأحاديث ولم يمكنهم الجري على


[ 122 ]

إثرهم في تمييز ما يعتمد عليه مما لا يركن إليه، فاحتاجوا إلى قانون يتميز به الأحاديث المعتبرة عن غيرها والموثوق بها عما سواها، فقرروا لنا شكر الله سعيهم ذلك الاصطلاح الجديد وقربوا إلينا البعيد ووصفوا الأحاديث الموردة في كتبهم الاستدلالية بما اقتضاه ذلك الاصطلاح من الحسن والصحة والتوثيق. وأول من سلك هذا الطريق من علمائنا المتأخرين شيخنا العلامة جمال الحق والدين الحسن بن المطهر الحلي قدس الله روحه ثم إنهم أعلى الله مقامهم ربما يسلكون طريقة القدماء في بعض الأحيان، فيصفون مراسيل بعض المشاهير كابن أبي عمير وصفوان بن يحيى بالصحة، لما شاع من أنهم لا يرسلون إلا عن عدل يثقون بصدقه، بل يصفون بعض الأحاديث التي في سندها من يعتقدون أنه فطحي أو ناووسي بالصحة، نظرا إلى اندراجهم في من أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم. وعلى هذا جرى العلامة قدس الله سره في المختلف، حيث قال في مسألة ظهور فسق إمام الجماعة: إن حديث عبد الله بن بكير صحيح، وفي الخلاصة حيث قال: إن طريق الصدوق إلى أبي مريم الأنصاري صحيح وإن كان في طريقه أبان بن عثمان، مستندا في الكتابين إلى إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنهما. وقد جرى شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه على هذا المنوال أيضا كما وصف في بحث الردة من شرح الشرائع حديث الحسن بن محبوب عن غير واحد بالصحة وأمثال ذلك في كلامهم كثير فلا تغفل انتهى كلامه. وأنا أقول: إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام، وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق. فنقول أولا: إنما ينفع تقسيم الخبر الواحد الخالي عن القرائن، وهذه


[ 123 ]

الاصطلاحات إن ظهرت دلالة على جواز التمسك ببعض أفراد خبر الواحد الخالي عن القرائن ولم تظهر، بل وجدت دلالات على أن الحق في هذه المسألة ما اختاره علم الهدى ورئيس الطائفة والمحقق الحلي وابن إدريس قدس الله أرواحهم كما سيجيء بيانها إن شاء الله تعالى. وثانيا: أن هذا التقسيم وما يتعلق به من الأحكام كان مشهورا في كتب العامة قديمهم وحديثهم، والسبب فيه: أن معظم أحاديثهم من باب خبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع بورود الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) فاضطروا إلى التقسيم المذكور وما يتعلق به من الأحكام. وأما قدماء علمائنا قدس الله أرواحهم فلما تمكنوا من أخذ الأحكام بطريق القطع عن الأئمة (عليهم السلام) بواسطة أو بلا واسطة تفيد القطع، لثقة في الرواية أو لغيره من القرائن ولما ثبت عندهم بطريق المشافهة عن الصادقين (عليهم السلام) أو بواسطة تفيد اليقين والقطع أنه لا يجوز العمل والفتيا بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى لم يكن جائزا لهم سلوك طريق غير القطع واليقين، فلذلك لم يلتفتوا إلى تقسيم خبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع وإلى ما يتعلق به من الأحكام. ثم لما نشأ ابن الجنيد وابن أبي عقيل في أوائل الغيبة الكبرى طالعا كتب الكلام وأصول الفقه للمعتزلة ونسجا في الأكثر على منوالهم، ثم أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بهما عند تلامذته كالسيد الأجل المرتضى ورئيس الطائفة فشاعت القواعد الكلامية والقواعد الأصولية المبنية على الأفكار العقلية بين متأخري أصحابنا. حتى وصلت النوبة إلى العلامة ومن وافقه من متأخري أصحابنا الأصوليين، فطالعوا كتب العامة لإرادتهم التبحر في العلوم أو غيره من الأغراض الصحيحة وأعجبتهم كثير من قواعدهم الكلامية والأصولية الفقهية والتقسيمات والاصطلاحات المتعلقة بالأمور الشرعية، فأوردوها في كتبهم لا لضرورة دعت إليه كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى بل لغفلتهم عن أن تلك القواعد والتقسيمات والاصطلاحات لا تتجه على مذهبنا، ولغفلتهم عن استغناء علمائنا عن سلوك تلك الطرق بالأعلام المنصوبة


[ 124 ]

من الله تعالى والآثار المنتشرة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم وكيف لا وقد قال الله تعالى: ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون﴾ـ


[ 125 ]

وثالثا: أنه من الواضحات البينات في صدور الذين تتبعوا بعين الاعتبار والاختبار باب الأخذ بالكتب من كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، ومبحث الخبر الواحد من نهاية العلامة ومن أصول المحقق ومن كتاب العدة لرئيس الطائفة، وأول كتاب الاستبصار له، وآخر شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني، وآخر كتاب السرائر لمحمد بن إدريس الحلي، وأوائل كتاب المعتبر للمحقق الحلي، وأوائل كتاب من لا يحضره الفقيه، وما سننقله من كلام علم الهدى وغير ذلك من كتب الرجال وكتب الأخبار كفهرست رئيس الطائفة وفهرست النجاشي وكتاب الكشي لا سيما المواضع المشتملة على بيان الإجماعات الواقعة في حق جمع كثير من مصنفي الأصول أنه كان بين قدماء علمائنا الذين أدركوا صحبة الأئمة (عليهم السلام) أو زمنهم كتب متداولة معروفة مشهورة بالصحة، وكانت تلك الكتب


[ 126 ]

مرجعهم فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم، وأ نهم كانوا متمكنين من استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب وإخراج ما يحتمل أن يكون من باب الافتراء أو من باب السهو عنها بالعرض على الأئمة (عليهم السلام) بل وقع الاستعلام والعرض في كتب كثيرة فأجابوا (عليهم السلام) بأنها حق. ومن المعلوم عادة أن مثلهم لا يغفل عن تلك الدقيقة ولا يقصر فيها، فعلم أنهم كانوا قاطعين جازمين بصحة أحاديث تلك الكتب. وكيف يحتمل عند عاقل أن يكون ما في الكتب مرجعا لجم غفير من العلماء الصالحين من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في عقائدهم وأعمالهم في مر الدهور والأعوام من زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخر الغيبة الصغرى من غير قطعهم بصحة ما في تلك الكتب مع تمكن كلهم أو جلهم من استعلام حال تلك الكتب ومن أخذ الأحكام بطريق اليقين بمشافهة أو بغيرها؟ ذلك ظن الذين لا يوقنون! ورابعا: أن مقتضى الحكمة الربانية ومقتضى الأحاديث الواردة في باب الأخذ بالكتب والأحاديث الدالة على حرص الصادقين (عليهما السلام) في إملاء الشريعة المقدسة على جمع كثير من علماء الشيعة وأمرهم بكتابة ما يسمعونه منهما وبتأليف كتب مشتملة على ما يسمعونه منهما وبحفظ تلك الكتب وبثها في إخوانهم لتعمل بما فيها الشيعة في زمن الغيبة الكبرى ومقتضى إخبار الصادق (عليه السلام) بانحصار عمل الشيعة بما في تلك الكتب في زمن الغيبة الكبرى بقاء تلك الأحاديث في زمن الغيبة الكبرى وجواز عملنا بها؛ ومن المعلوم أنه لا مصداق لتلك الأمور إلا العمل بتلك الكتب المعروفة في زماننا. وخامسا: أنه ما سمعت أحدا يقول بأنه ضاعت تلك الأصول في زمن الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم أو اختلطت بغيرها من غير نصب علامة تميز بينهما إلا الفاضلين المذكورين فإنهما ذكرا ذلك في مقام توجيه ما أحدثه العلامة أو غيره من المتأخرين، بل كلام ابن بابويه وكلام محمد بن يعقوب الكليني وكلام


[ 127 ]

رئيس الطائفة والسيد المرتضى والمحقق الحلي وابن إدريس وغيرهم صريح في خلاف ما ذكراه، بل هما اعترفا بعدم الضياع وعدم الاختلاط في زمن الأئمة الثلاثة المؤلفين للكتب الأربعة وغيرها. ومن المعلوم أن هذا القدر يكفينا. وأيضا العادة قاضية بأنه لو وقع لاشتهر. وأيضا الحكمة الربانية وشفقة العترة الطاهرة (عليهم السلام) بالشيعة وأخبارهم بأن عملهم في زمن الغيبة الكبرى يكون بأحاديثنا المسطورة في كتبهم تكذب كلام الفاضلين وقد صرح الفاضل الشيخ حسن في كتاب المنتقى بأن أكثر أنواع الحديث


[ 128 ]

المذكورة في فن دراية الحديث من مستخرجات العامة بعد وقوع معانيها في حديثهم فذكروها بصورة ما وقع، واقتفى جماعة من أصحابنا في ذلك إثرهم واستخرجوا من أخبارنا في بعض الأنواع ما يناسب مصطلحهم وبقي منها كثير على حكم محض الفرض. ولا يخفى أن البحث عما ليس بواقع واتباعهم في إثبات الاصطلاح له قليل الجدوى وبعيد عن الاعتبار ومظنة للايهام انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأقول: الحق أن تقسيم الخبر الواحد الخالي عن القرائن إلى الأقسام الأربعة من هذا القبيل ومن باب الغفلة عن أن معاني تلك الاصطلاحات مفقودة في أحاديث كتبنا عند النظر الدقيق. وسادسا: من المعلوم أن عاقلا فاضلا صالحا إذا أراد تأليف كتاب لإرشاد الخلق وهدايتهم ولأخذ من يجيء بعده معالم دينه منه لا يرضى بأن يلفق بين أحاديث تلك الأصول المجمع على صحتها المقطوع بورودها عنهم (عليهم السلام) وبين ما ليس كذلك من غير نصب علامة تميز بينهما. بل من المعلوم أنه لا يجوز ذلك. بل أقول: أرباب التواريخ إذا أرادوا تأليف تاريخ مع تمكنهم من أخذ الأخبار من كتاب مقطوع بصحته لا يرضون بأخذ الأخبار من موضع ليس كذلك، ولو اتفق ذلك لصرحوا بحاله وميزوه عن غيره، فكيف يظن برؤساء العلماء والصلحاء مثل الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ومثل رئيس الطائفة! ما ظنوه فإن فيه تخريب الدين لا إرشاد المسترشدين، لا سيما إذا وقع التصريح منهم بما يدل على أ نهم أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول المعروفة المشهورة التي كانت مرجعا لقدماء أصحابنا في عقائدهم وأعمالهم. ومن المعلوم: أن هؤلاء الأجلاء لم يذكروا في كتبهم قاعدة بها تميز بين الحديث المأخوذ من الأصول المجمع على صحتها وبين غيره، فعلم أن كلها مأخوذة من تلك الأصول. وسابعا: أن رئيس الطائفة كثيرا ما في كتابي الأخبار يتمسك بأحاديث ضعيفة


[ 129 ]

بزعم المتأخرين، بل بروايات الكذابين المشهورين مع تمكنه من أحاديث أخرى صحيحة مذكورة في كتابه، بل كثيرا ما يعمل بالأحاديث الضعيفة عندالمتأخرين ويترك ما يضادها من الأحاديث الصحيحة عندهم، فعلم من ذلك أن تلك الأحاديث مأخوذة من الأصول المجمع على صحتها، كما صرح به في كتاب العدة وكتاب الاستبصار والفهرست وغيرها. وثامنا: أنه ذكر الشهيد الثاني (رحمه الله) في شرح رسالته في فن دراية الحديث كان قد استقر أمر المتقدمين على أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها الأصول وكان عليها اعتمادهم، ثم تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، وأحسن ما جمع منها كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، والتهذيب للشيخ أبي جعفر الطوسي، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، لأن الأول أجمع لفنون الأحاديث والثاني أجمع للأحاديث المختصة بالأحكام الشرعية. وأما الاستبصار: فإنه أخص من التهذيب غالبا فيمكن الغنى عنه به. وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن أيضا، إلا أنه لا يخرج عن الكتابين غالبا إنتهى كلامه أعلى الله مقامه. وذكر الفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي في رسالته الموسومة بالوجيزة المصنفة في فن رواية الحديث: جميع أحاديثنا إلا ما ندر ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر سلام الله عليهم وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فإن علومهم مقتبسة من تلك المشكاة. وما تضمنه كتب الخاصة رضوان الله عليهم من الأحاديث المروية عنهم (عليهم السلام) تزيد على ما في الصحاح الستة للعامة بكثير، كما يظهر لمن تتبع أحاديث الفريقين، وقد روى راو واحد وهو أبان بن تغلب عن إمام واحد أعني: الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث كما ذكره علماء الرجال وقد كان جمع قدماء محدثينا رضي الله عنهم ما وصل إليهم من أحاديث


[ 130 ]

أئمتنا سلام الله عليهم في أربعمائة كتاب تسمى الأصول ثم تصدى جماعة من المتأخرين شكر الله سعيهم لجمع تلك الكتب وترتيبها، تقليلا للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام) كالكافي، وكتاب من لا يحضره الفقيه، والتهذيب والاستبصار، ومدينة العلم والخصال والأمالي وعيون الأخبار وغيرها. أما الكافي: فهو تأليف ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي عطر الله مرقده ألفه في مدة عشرين سنة وتوفي ببغداد سنة ثمان أو تسع وعشرين وثلاثمائة، ولجلالة شأنه عده جماعة من علماء العامة كابن الأثير في كتاب جامع الأصول من المجددين لمذهب الإمامية على رأس المائة الثالثة، بعد ما ذكر أن سيدنا وإمامنا أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه الطاهرين أفضل الصلاة والسلام هو المجدد لذلك المذهب على رأس المائة الثانية. وأما كتاب من لا يحضره الفقيه: فهو تأليف رئيس المحدثين حجة الإسلام أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي قدس الله روحه وله طاب ثراه مؤلفات أخرى سواه تقارب ثلاثمائة كتاب، توفي بالري سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وأما التهذيب والاستبصار: فهما من تأليفات شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي نور الله ضريحه وله تأليفات أخرى سواهما في التفسير والأصول والفروع وغيرها، توفي طيب الله مضجعه سنة ستين وأربعمائة بالمشهد المقدس الغروي على ساكنه أفضل الصلاة والسلام. فهؤلاء المحدثون الثلاثة قدس الله أرواحهم هم أئمة أصحاب الحديث من متأخري علماء الفرقة الناجية الإمامية رضوان الله عليهم انتهى كلامه. وأنا أقول: ذكر المحقق الحلي في أوائل المعتبر: أنه كتب من أجوبة مسائل الصادق (عليه السلام) أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها أصولا وبالجملة، تلك الأربعمائة اخذت من إمام واحد منهم (عليهم السلام) وكانت لقدمائنا


[ 131 ]

أصول أخرى غير الأربعمائة، يشهد بذلك من تتبع فهرست الشيخ الطوسي وفهرست النجاشي وفهرست محمد بن شهر آشوب المازندراني. ثم أقول: بعد أن علمنا وفور أحاديث قدمائنا الصحيحة وكثرة الأصول المجمع على صحتها، وعلمنا تمكن قدمائنا الأفاضل الأعلام المصنفين من أخذ الأحكام بطريق القطع منهم (عليهم السلام) بمشافهة أو بغيرها في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة وتمكنهم من استعلام حال أحاديث تلك الأصول، وعلمنا عملهم بها في أزمنتهم (عليهم السلام) وعلمنا تقرير الأئمة (عليهم السلام) إياهم على ذلك، وعلمنا أن الأئمة الثلاثة أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول، وعلمنا عدم جواز التلفيق بين المأخوذ من الأصول المجمع عليها وبين ما لا يعتمد عليه من غير نصب علامة مميزة بينهما يلزم أحد الأمرين: إما نسبة تخريب المذهب إلى الأئمة الثلاثة أو القطع بأن أحاديث كتبهم كلها مأخوذة من تلك الأصول المجمع على صحتها. هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع والتكلان على التوفيق


[ 132 ]

فائدة ذكر الشيخ الفاضل الشيخ حسن بن العالم الرباني الشهيد الثاني (رحمه الله) في كتاب المعالم: قال العلامة في النهاية: أما الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة (عليهم السلام) والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم انتهى. ثم ذكر في المعالم وقد حكى المحقق (رحمه الله) عن الشيخ أن قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحة ما أفتى به المفتي منهم عول على المنقول في أصولهم المعتمدة وكتبهم المدونة فيسلم له خصمه منهم الدعوى في ذلك، وهذه سجيتهم من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) إلى زمن الأئمة (عليهم السلام) فلولا ان العمل بهذه الأخبار جائز لأنكروه وتبرأوا من العامل به


[ 133 ]

وذكر في موضع آخر من كتاب المعالم: ذكر السيد المرتضى (رضي الله عنه) في جواب المسائل التبانيات: أن أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد وأن ادعاء خلاف ذلك عليهم دفع للضرورة، قال: لأ نا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شك أن علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها وأ نها ليست بحجة ولا دلالة، وقد ملأوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم فيه، ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنه مستحيل من طريق العقول أن يتعبد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وحظره. وقال في المسألة التي أفردها في البحث عن العمل


[ 134 ]

بخبر الواحد: إ نه بين في جواب المسائل التبانيات أن العلم الضروري حاصل لكل مخالف للإمامية أو موافق بأنهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم، وأن ذلك قد صار شعارا لهم يعرفون به، كما أن نفي القياس في الشريعة من شعارهم الذي يعلمه منهم كل مخالط لهم. وتكلم في الذريعة على التعلق بعمل الصحابة والتابعين بأن الإمامية تدفع ذلك وتقول: إنما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة المتأمرون الذين يحتشم التصريح بخلافهم والخروج عن جملتهم، فإمساك النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه، لأن الشرط في دلالة الإمساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوى الرضا من تقية وخوف وما أشبه ذلك. وقد أورد السيد على نفسه في بعض كلامه سؤالا هذا لفظه: فإن قيل: إذا سددتم طريق العمل بالأخبار فعلى أي شيء تعولون في الفقه كله؟ وأجاب بما حاصله: ان معظم الفقه يعلم بالضرورة مذاهب أئمتنا (عليهم السلام) فيه بالأخبار المتواترة، وما لم يتحقق ذلك فيه ولعله الأقل يعول فيه على إجماع الإمامية، وذكر كلاما طويلا في بيان حكم ما يقع فيه الاختلاف بينهم. ومحصوله: أنه إذا أمكن تحصيل القطع بأحد الأقوال من طرق ذكرها تعين العمل عليه وإلا كنا مخيرين بين الأقوال المختلفة لفقد دليل التعيين


[ 135 ]

وذكر في موضع آخر من كتاب المعالم: السيد قد اعترف في جواب المسائل التبانيات بأن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها، إما بالتواتر أو بعلامة وأمارة دلت على صحتها وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد. وبقي الكلام في التدافع الواقع بين ما عزاه إلى الأصحاب وبين ما حكيناه عن العلامة في النهاية، فإنه عجيب! ويمكن أن يقال: إن اعتماد المرتضى فيما ذكره على ما عهده من كلام أوائل المتكلمين منهم والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقهم، وقد مرت حكاية المحقق عن ابن قبة وهو من أجلتهم القول بمنع التعبد به عقلا، وتعويل العلامة على ما ظهر له من حال الشيخ وأمثاله من علمائنا المعتنين بالفقه والحديث، حيث أوردوا الأخبار في كتبهم واستراحوا إليها في المسائل الفقهية، ولم يظهر منهم ما يدل على موافقة المرتضى. والإنصاف أ نه لم يتضح من حالهم المخالفة له أيضا، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين واستفادة الأحكام منهم، وكانت القرائن العاضدة لها متيسرة، كما أشار إليه السيد، ولم يعلم أنهم اعتمدوا على الخبر المجرد لتظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وقد تفطن المحقق من كلام الشيخ بما قلناه بعد أن ذكر عنه في حكاية الخلاف هنا أنه عمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من الطائفة المحقة، وأورد احتجاج القوم من الجانبين، فقال: وذهب شيخنا أبو جعفر (رحمه الله) إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبين أنه لا يعمل بالخبر مطلقا، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة (عليهم السلام) ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه إمامي يجب العمل به. هذا الذي تبين لي في كلامه، ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به. وما فهمه المحقق من كلام الشيخ هو الذي ينبغي


[ 136 ]

أن يعتمد عليه لا ما نسبه العلامة إليه. وأما اهتمام القدماء بالبحث عن أحوال الرجال فمن الجائز أن يكون طلبا لتكثير القرائن وتسهيلا لسبيل العلم بصدق الخبر وكذا اعتناؤهم بالرواية فإنه محتمل لأن يكون رجاء للتواتر وحرصا عليه. وعلى هذا تحمل روايتهم لأخبار أصول الدين، فإن التعويل على الآحاد فيها غير معقول انتهى ما أردنا نقله من كتاب المعالم. وأقول: قدماء أصحابنا الأخباريين بريئون عما نسبه الفاضل العلامة إليهم من أ نهم كانوا يعتمدون في أصول دينهم وفروعه على مجرد خبر الواحد المظنون العدالة وكأ نه وقع في هذا التوهم من عبارة الشيخ التي حكاها المحقق وكيف يظن بهؤلاء الأجلاء الذين أدركوا صحبة الأئمة (عليهم السلام) وتمكنوا من أخذ الأحكام منهم بطريق القطع واليقين ومن استعلام أحوال تلك الأحاديث التي عملوا بها واعتمدوا عليها في عقائدهم وأعمالهم مثل هذه المساهلة الشنيعة في دينهم؟ وكثيرا ما يقع عن هذا الفاضل وأتباعه ما لا ينبغي من الدعاوى من باب الغفلة والعجلة وقلة التأمل في أسرار المسألة، وليس قصدي من هذا الكلام القدح في فضله (رحمه الله) أو في تقواه، لكن قصدي تنبيه من لا تحقيق له من الأفاضل فإنهم يحسبون أن كل من زاد تبحره زاد تحقيقه، فيقلدون العلامة في الأصول والفروع. ولو لم يكن إظهار هذا المعنى واجبا علي لما أظهرته لكن قطعت بوجوبه، والله مطلع على سرائر عباده ومن تتبع أحاديث أصحابنا المتعلقة بأصول الدين وأصول الفقه وتتبع ما في كتب الرجال من سيرة قدماء أصحابنا بنظر الاختبار والاعتبار لقد قطع بأن الأخباريين من أصحابنا لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) البالغة حد التواتر المعنوي أو المحفوفة بقرائن توجب العلم بورودها عن المعصوم، وخبر الواحد الخالي عن القرائن يوجب الاحتياط عندهم ولا يوجب


[ 137 ]

الافتاء والقضاء، لأنه من باب الشبهات وسنذكر وجوه القرائن الموجودة في زماننا لتعلم أن زمانهم أولى بذلك، من جملتها خبر رجل يقطع بقرينة المعاشرة أو بدونها أنه ثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب، ولنتبارك بنقل طرف من الأحاديث الناطقة بجواز التمسك بالكتب


[ 138 ]

والناطقة بما تقدم في كلامنا: من أنه كانت عند قدمائنا كتب وكانت تلك الكتب بإملاء الأئمة (عليهم السلام) وخط أصحابهم وكانوا مأمورين بذلك لتأخذ منها الشيعة عقائدهم وأعمالهم، لا سيما في زمن الغيبة الكبرى. ففي كتاب الكافي في باب رواية الكتب وفضل الكتابة والتمسك بالكتب: محمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيسمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى، قال: فاقرأ عليهم من أوله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا عنه بإسناده عن أحمد بن عمر الحلال، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول أروه عني يجوز لي أن أرويه عنه؟ قال، فقال: إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القلب يتكل على الكتابة الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشا، عن عاصم ابن حميد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه عن أبي سعيد الخيبري، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في اخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر


[ 139 ]

عن جميل بن دراج قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): أعربوا حديثنا فانا قوم فصحاء علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك! إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا فقال: حدثوا بها فإنها حق وبنقل كلام جمع من علمائنا زائدا على ما نقلناه سابقا ليزيدك اطمئنانا بما نحن بصدد بيانه من بقاء أحاديث تلك الأصول التي كانت مرجعا للفضلاء المتقدمين من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في عقائدهم وأعمالهم، وانعقد إجماعهم على صحة ما فيها إلى زمن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني وزمن شيخنا الصدوق وزمن رئيس الطائفة بل زمن محمد بن إدريس الحلي وزمن المحقق الحلي، ومن أنهم


[ 140 ]

أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول من غير اختلاط بينها وبين ما ليس بصحيح فنقول: ذكر رئيس الطائفة (قدس سره) في أوائل كتاب الاستبصار مشيرا إلى الأخبار المسطورة في الأصول المعروفة بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) التي كانت مرجعا لهم في عقائدهم وأعمالهم، وانعقد إجماعهم على صحة كلها، بقرينة دلالة آخر كلامه على ذلك وتصريحه في كتاب العدة وتصريح المحقق الحلي في أصوله بذلك: اعلم أن الأخبار على ضربين: متواتر، وغير متواتر فالمتواتر منه ما أوجب العلم، فما هذا سبيله يجب العمل به من غير توقع شيء ينضاف إليه ولا أمر يقوى به ولا يرجح به على غيره. وما يجري هذا المجرى لا يقع فيه التعارض ولا التضاد


[ 141 ]

في أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام). وما ليس بمتواتر على ضربين: فضرب منه يوجب العلم أيضا وهو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم، وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به وهو لاحق بالقسم الأول. والقرائن أشياء كثيرة: منها: أن يكون مطابقة لأدلة العقل ومقتضاه


[ 142 ]

ومنها: أن تكون مطابقة لظاهر القرآن إما لظاهره أو عمومه أو دليل خطابه أو فحواه، فكل هذه القرائن توجب العلم وتخرج الخبر من حيز الآحاد وتدخله في باب المعلوم. ومنها: أن تكون مطابقة للسنة المقطوع بها إما صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما. ومنها: أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه. ومنها: أن تكون مطابقة لما أجمعت عليه الفرقة المحقة، فإن جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيز الآحاد وتدخله في باب المعلوم وتوجب العمل به. وأما القسم الآخر، فهو كل خبر لا يكون متواترا ويتعرى من واحدة من هذه القرائن فإن ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروط، فإذا كان خبرا لا يعارضه


[ 143 ]

خبر آخر فإن ذلك يجب العمل به، لأنه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل، إلا أن تعرف فتاويهم بخلافه فيترك لأجلها العمل به. وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين، وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نظر، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر، لأنه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا، وإذا كان الخبران يمكن العمل بكل واحد منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا أو لفظا أو دليلا وكان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكان متحاذيا كان العامل مخيرا في العمل بأيهما شاء، وإذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما وبعد التأويل بينهما كان العامل أيضا مخيرا في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم. ولا يكون العاملان بهما على هذا الوجه إذا اختلفا وعمل كل واحد منهما على خلاف ما عمل عليه الآخر مخطئا ولا متجاوزا حد الصواب، إذ روي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: إذا ورد عليكم حديثان ولا تجدون ما ترجحون به أحدهما على الآخر مما ذكرناه كنتم مخيرين في العمل بهما، ولأنه إذا ورد الخبران المتعارضان وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين ولا على ابطال الخبر الآخر فكأنه إجماع على صحة الخبرين، وإذا كان إجماعا على صحتهما كان العمل بهما جائزا سائغا. وأنت إذا فكرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الأقسام، ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام انتهى كلامه أعلى الله مقامه


[ 144 ]

وإن شئت تحقيق كلامه (قدس سره) ليندفع عنه جميع اعتراضات المتأخرين وليوافق ما ذكره في كتاب العدة ويوافق ما فهمه المحقق الحلي وصاحب كتابي المعالم والمنتقى من كلامه (قدس سره) فاستمع لما نتلوا عليك من الكلام، وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق. فأقول: ملخص كلامه: أن الأخبار المسطورة في كتبنا التي انعقد إجماع قدماء الطائفة المحقة على ورودها عن المعصومين (عليهم السلام) وكانت مرجعا لهم فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم كل ذلك بأمر بعض الأئمة وبتقرير بعض آخر منهم صلوات الله عليهم على ذلك تنحصر في أقسام ثلاثة: القسم الأول: أن تكون صحة مضمونه متواترة، فلذلك لا يجوز فيه التناقض. والثاني: أن توجد قرينة دالة على صحة مضمونه، ومن القرائن: أن يكون مضمونه مطابقا للدليل العقلي القطعي، كالخبر الدال على أن التكليف لا يتعلق بغافل عنه ما دام غافلا والخبر الدال على أن الفعل الواجب الذي حجب الله العلم بوجوبه عن العباد موضوع عنهم ما داموا كذلك لا للدليل العقلي الظني كالاستصحاب وكجعل عدم ظهور المدرك على حكم شرعي مدركا على عدم ورود ذلك الحكم في الواقع. ومن القرائن: أن يكون مضمونه مطابقا لما هو من ضروريات الدين من ظواهر القرآن. وعليه فقس الباقي، والقسمان يوجبان العلم والقطع بما هو حكم الله في الواقع. والقسم الثالث: ما لا يكون هذا ولا ذاك، ويجوز العمل به على شروط راجعة إلى شيء واحد وهو أن لا يوجد معارض أقوى منه. ووجه جواز العمل بهذا القسم أ نه لا يخلو من أمرين: لأنه إما من الباب الذي عليه الإجماع في النقل بمعنى أن قدماءنا لم ينقلوا إلا إياه أو ما يوافقه، أو من الباب الذي وقع الإجماع على صحته، ومعنى الصحة هاهنا ثبوت وروده عن المعصوم مع عدم ظهور مانع عن العمل به، وهذا التفسير لكلام رئيس الطائفة موافق لما ذكره في كتاب العدة ولما ذكره المحقق الحلي وصاحب المعالم في تحقيق كلامه


[ 145 ]

وهنا احتمال آخر في تفسير كلام الشيخ وهو أن يقال: مراده من الأخبار مطلق الأخبار، ومراده من العلم العلم بنفس الدليل لا بنفس المدلول ليعم ظني الدلالة، ومراده من الشروط الشروط المذكورة في كتب الأصول من إسلام الراوي وإيمانه وعدالته وضبطه. لكن حينئذ يرد عليه أبحاث كثيرة في كتب المتأخرين مسطورة ويخالف كلامه في كتاب العدة ويختل مقصوده بالكلية. ولنمهد هنا مقدمة ثم نشتغل بنقل كلام العدة وغيره فأقول: صريح كلام رئيس الطائفة (قدس سره) أنه لا يجوز العمل بخبر لا يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع أو حكم ورد عنهم (عليهم السلام) ويجوز العمل بخبر يوجب القطع بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) وإن لم يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع. وما صرح به رئيس الطائفة هو المستفاد من الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) وهو مراد علم الهدى عند التحقيق، فصارت المناقشة بين النحريرين العلمين المقدسين قدس الله سرهما لفظية لا معنوية كما توهمه العلامة ومن تبعه. والحمد لله والطول والمنة. وقد اختار المحقق الحلي وابن إدريس ما اختاره رئيس الطائفة بعينه. وأنا اخترت مختارهم، لتواتر الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بجواز العمل بخبر الثقة وبخبر يفيد العلم بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) وبالتوقف عند خبر لا يفيد القطع بورود الحكم عنهم (عليهم السلام)ـ


[ 146 ]

ثم أقول: الذي قطعت به قطعا عاديا من تتبع الأحاديث ومن تتبع كلام علمائنا أ نه كانت عند أصحاب الأئمة كتب وأصول كانوا يرجعون إليها فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم مع تمكنهم من أخذ الأحكام بطريق القطع واليقين ومن استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب والأصول عنهم (عليهم السلام) مع نهاية فضلهم واحتياطهم وورعهم وحرص الأئمة (عليهم السلام) لا سيما الصادقين (عليهما السلام) في إرشادهم وهدايتهم. ثم اعلم أن سبب اعتمادهم على تلك الكتب والأصول لا يخلو من أمور: منها: قطعهم بأن الراوي كان ثقة في الرواية. ومنها: استعلام حال كتابه من بعض أصحاب العصمة صلوات الله عليهم . ومنها: عرض كتابه على كتاب آخر مقطوع بصحته، وأن الأئمة الثلاثة رحمهم الله تعالى أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الكتب والأصول


[ 147 ]

وذكر الفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي في كتاب مشرق الشمسين: المعتبر حال الراوي وقت الأداء لا وقت التحمل، فلو تحمل الحديث طفلا أو غير إمامي أو فاسقا ثم أداه في وقت يظن أنه كان مستجمعا فيه لشرائط القبول قبل، ولو ثبت أنه كان في وقت غير إمامي أو فاسقا ثم تاب ولم يعلم أن الرواية عنه هل وقعت قبل التوبة أو بعدها لم تقبل حتى يظهر لنا وقوعها بعد التوبة. فإن قلت: إن كثيرا من الرواة كعلي بن أسباط والحسين بن يسار، وغيرهما كانوا أولا من غير الإمامية ثم تابوا ورجعوا إلى الحق والأصحاب يعتمدون على حديثهم ويثقون بهم من غير فرق بينهم وبين ثقات الإمامية الذين لم يزالوا على الحق، مع أن تاريخ الرواية عنهم غير مضبوط ليعلم أنه هل كان بعد الرجوع إلى الحق أو قبله، بل بعض الرواة ماتوا على مذاهبهم الفاسدة من الوقف وكانوا شديدي التصلب فيه ولم ينقل رجوعهم إلى الحق في وقت من الأوقات أصلا، والأصحاب يعتمدون عليهم ويقبلون أحاديثهم كما قبلوا حديث علي بن محمد بن رباح وقالوا: إنه صحيح الرواية ثبت معتمد على ما يرويه وكما قبل المحقق في المعتبر رواية علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليه السلام) معللا ذلك بأن تغيره إنما كان في زمن الكاظم (عليه السلام) فلا يقدح فيما قبله وكما حكم العلامة في المنتهى بصحة حديث إسحاق بن جرير وهؤلاء الثلاثة من رؤساء الواقفية. قلت (4): المستفاد من تصفح كتب علمائنا المؤلفة في السير والجرح والتعديل


[ 148 ]

أن أصحابنا الإمامية رضي الله عنهم كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحق أولا ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهم السلام) في أقصى المراتب، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشد من تظاهرهم بها للعامة، فإنهم كانوا يتاقون العامة ويجالسونهم وينقلون عنهم ويظهرون لهم أنهم منهم خوفا من شوكتهم، لأن حكام الضلال منهم. وأما هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإمامية ضرورة داعية إلى أن يسلكوا معهم على ذلك المنوال وسيما الواقفية، فإن الإمامية كانوا في غاية الاجتناب لهم والتباعد عنهم حتى أنهم كانوا يسمونهم ب‍ الممطورة أي: الكلاب التي أصابها المطر! وأئمتنا (عليهم السلام) لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم ومجالستهم ويأمرون بالدعاء عليهم في الصلاة ويقولون: إنهم كفار مشركون زنادقة وإنهم شر من النواصب، وأن من خالطهم وجالسهم فهو منهم، وكتب أصحابنا مملوة بذلك كما يظهر لمن تصفح كتاب الكشي وغيره، فإذا قبل علماؤنا سيما المتأخرون منهم رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحتها مع علمهم بحاله، فقبولهم لها وقولهم بصحتها لابد من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق به القدح إليهم ولا إلى ذلك الرجل، لثقة الراوي عمن هذا حاله، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق، وأن النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقف ولكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد، ككتب علي بن الحسن الطاطري فإنه وإن كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية، إلا أن الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم؛ إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة. والظاهر أن قبول المحقق طاب ثراه رواية علي بن أبي حمزة مع شدة تعصبه في مذهبه الفاسد مبني على ما هو الظاهر من كونها منقولة عن أصله، وتعليله مشعر بذلك، فإن الرجل من أصحاب الأصول. وكذلك قول العلامة بصحة رواية إسحاق بن جرير عن الصادق (عليه السلام)ـ


[ 149 ]

فإنه كان من أصحاب الأصول أيضا. وتأليف أمثال هؤلاء أصولهم كان قبل الوقف، لأنه وقع في زمان الصادق (عليه السلام) فقد بلغنا عن مشايخنا قدس الله أرواحهم أنه كان من دأب أصحاب الأصول انهم إذا سمعوا من أحد الأئمة (عليهم السلام) حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم كي لا يعرض لهم النسيان لبعضه أو كله بتمادي الأيام وتوالي الشهور والأعوام، والله أعلم بحقائق الأمور انتهى [كلامه ادام الله ايامه] وأنا أقول: هذا الفاضل يوم تكلم بما تقدم نقله عنه من قوله: ” والذي بعث المتأخرين على العدول عن متعارف القدماء ووضع ذلك الاصطلاح الجديدالخ كان غافلا عن لازم هذا الكلام الأخير، لأن قوله: ” كانوا يحترزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم وقوله: ” فقبولهم لها وقولهم بصحتها لابد من ابتنائه على وجه صحيح يستلزم أن يكون أحاديث الكافي كلها صحيحة، وكذلك كل حديث عمل به رئيس الطائفة (قدس سره) لأن الكليني صرح بصحة كل أحاديث الكافي ورئيس الطائفة صرح بأنه لم يعمل إلا بحديث مأخوذ من الأصول المجمع عليها ولنشتغل بذكر كلام العدة فنقول: ذكر رئيس الطائفة في كتاب العدة بعد نقل الأقوال المختلفة في العمل بخبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع بصحة مضمونه، أي بأن مضمونه حكم الله في الواقع : فأما ما اخترته من المذهب، فهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو عن واحد من الأئمة (عليهم السلام) وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه إن كان هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجبا للعلم ونحن نذكر القرائن فيما بعد جاز العمل به. والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم


[ 150 ]

ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله، هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمة ومن زمان الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه، لأن اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو. والذي يكشف عن ذلك: أنه لما كان العمل بالقياس محظورا في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا، وإذا شذ منهم واحد عمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه وإن لم يعلم اعتقاده تركوا قوله وأنكروا عليه وتبر أوا من قوله، حتى أنهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس، فلو كان العمل بخبر الواحد يجري ذلك المجرى لوجب أيضا فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه. فإن قيل: كيف تدعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد


[ 151 ]

والمعلوم من حالها أنها لا ترى العمل بخبر الواحد؟ كما أن المعلوم من حالها لا ترى العمل بالقياس، فإن جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الآخر. قيل لهم: المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصمون بطريقه، فأما ما يكون راويه منهم وطريقة أصحابهم فقد بينا أن المعلوم خلاف ذلك، وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضا، وأ نه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس، وقد علم خلاف ذلك. فإن قيل: أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أن خبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك، حتى أن منهم من يقول: لا يجوز ذلك عقلا، ومنهم من يقول: لا يجوز ذلك سمعا لأن السمع لم يرد به، وما رأينا أحدا منهم تكلم في جواز ذلك ولا صنف فيه كتابا ولا أملأ فيه مسألة، فكيف تدعون أنتم خلاف ذلك؟ قيل له: الذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون هم خلافها، وذلك صحيح على ما قدمناه ولم تجدهم اختلفوا فيما بينهم، وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه إلا مسائل دل الدليل الموجب للعلم على صحتها، فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلة الموجبة للعلم أو الأخبار المتواترة بخلافه. فأما من أحال ذلك عقلا فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله وبينا أن ذلك جائز، فمن أنكره كان محجوجا بذلك. على أن الذين أشير إليهم في السؤال أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة المحقة، وعلمنا أنهم لم يكونوا أئمة معصومين، وكل قول علم قائله وعرف نسبه وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة لم يعتد بذلك القول، لأن قول الطائفة إنما كان حجة من حيث كان فيها معصوم، فإذا كان القول صادرا من غير معصوم علم أن قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ووجب المصير إليه على ما نبينه في باب الإجماع. فإن قيل: إذا كان العقل يجوز العمل بخبر الواحد والشرع قد ورد به ما الذي


[ 152 ]

حملكم على الفرق بين ما ترويه الطائفة المحقة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهلا عملتم بالجميع أو منعتم من الكل؟ قيل: العمل بخبر الواحد إذا كان دليلا شرعيا فينبغي أن نستعمله بحيث قررته الشريعة، والشرع يرى العمل بما ترويه طائفة مخصوصة، فليس لنا أن نتعدى إلى غيرها، كما أنه ليس لنا أن نتعدى من رواية العدل إلى رواية الفاسق، وإن كان العقل مجوزا لذلك، أجمع على أن من شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلا بلا خلاف، وكل من أسند إليه ممن خالف الحق لم تثبت عدالته بل ثبت فسقه، فلأجل ذلك لم يجز العمل بخبره. فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى أن يكون الحق في جهتين مختلفتين إذا عملوا بخبرين مختلفين، والمعلوم من حال أئمتكم وشيوخكم خلاف ذلك. قيل له: المعلوم من ذلك أنه لا يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم في الاعتقاد، فأما أن يكون الحق في جهتين إذا كان ذلك صادرا من خبرين مختلفين. فقد بينا أن المعلوم خلافه. والذي يكشف عن ذلك أيضا: أن من منع من العمل بخبر الواحد يقول: إن هاهنا أخبارا كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض والإنسان فيها مخير، فلو أن اثنين اختار كل واحد منهما العمل بواحد من الخبرين أليس كانا يكونان مختلفين وقولهما حق على مذهب هذا القائل، فكيف يدعى أن المعلوم خلاف ذلك؟ ويبين ذلك أيضا أنه قد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغير ذلك، فقال (عليه السلام): ” أنا خالفت بينهم فترك الإنكار لاختلافهم ثم أضاف الاختلاف إلى أنه أمرهم، فلولا أن ذلك جائز لما جاز ذلك منه (عليه السلام). فإن قيل: اعتباركم الطريقة التي ذكرتموها في وجوب العمل بخبر الواحد يوجب عليكم قبولها فيما طريقه العلم، لأن الذين أشرتم إليهم إذا قالوا قولا طريقه العلم من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وغير ذلك، فسئلوا عن الدلالة على صحته أحالوا على هذه الأخبار بعينها، فإن كان هذا القدر حجة فينبغي أن يكون حجة في


[ 153 ]

وجوب قبولها فيما طريقه العلم، وقد أقررتم بخلاف ذلك. قيل له: نحن لا نسلم أن جميع الطائفة تحيل على أخبار الآحاد فيما طريقه العلم مما عددتموه، وكيف نسلم ذلك؟ وقد علمنا بالأدلة الواضحة العقلية أن طريق هذه الأمور العقل أو ما يوجب العلم من أدلة الشرع فيما يمكن ذلك فيه، وعلمنا أيضا ان الإمام المعصوم لابد أن يكون قائلا به، فنحن لا نجوز أن يكون قول المعصوم داخلا في قول القائلين في هذه المسائل بالأخبار، وإذا لم يكن قوله داخلا في جملة أقوالهم فلا اعتبار بها وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة. وليس كذلك القول في أخبار الآحاد، لأنه لم يدل دليل على أن قول الإمام داخل في جملة أقوال المنكرين لها، بل بينا أن قوله (عليه السلام) داخل في جملة أقوال العاملين بها، وعلى هذا سقط السؤال. على أن الذي ذكروه مجرد الدعوى من الذي أشير إليه ممن يرجع إلى الأخبار في هذه المسائل، فلا يمكن إسناد ذلك إلى قول علماء متميزين، وإن قال ذلك بعض غفلة أصحاب الحديث فذلك لا يلتفت إليه على ما بيناه. فإن قيل: كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أن رواتها أكثرهم كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتشبيه وغير ذلك من الغلو والتناسخ وغير ذلك من المناكير، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟ قيل لهم: ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه وغير ذلك مما ذكر في السؤال ولو صح أنه نقله لم يدل على أنه كان معتقدا لما تضمنه الخبر، ولا يمتنع أن يكون إنما رواه ليعلم أنه لم يشذ عنه شيء من الروايات، لا لأنه يعتقد ذلك ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم، فأما مجرد الرواية فلا حجة فيه على حال. فإن قيل: كيف تعولون على هذه الأخبار وأكثر رواتها المجبرة والمشبهة والمقلدة والغلاة والواقفية والفطحية وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به


[ 154 ]

وهذا مفقود في هؤلاء، وإن عولتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم وذلك يدل على جواز العمل بأخبار الكفار والفساق. قيل لهم: لسنا نقول بأن جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها، بل لها شرائط نحن نذكرها فيما بعد، ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه: فأما ما يرويه العلماء المعتقدون للحق فلا طعن على ذلك بهذا السؤال. وأما ما يرويه قوم من المقلدة فالصحيح الذي اعتقده أن المقلد للحق وإن كان مخطئا في الأصل معفو عنه ولا أحكم فيه بحكم الفساق، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه، على أن من أشاروا إليه لا نسلم أنهم كلهم مقلدة بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة كما تقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامة، وليس من حيث يتعذر عليهم إيراد الحجج في ذلك ينبغي أن يكونوا غير عالمين، لأن إيراد الحجج والمناظرة صناعة وليس يقف حصول المعرفة على حصولها كما قلنا في أصحاب الجمل، وليس لأحد أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أصحاب الجمل، لأنهم إذا سألوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الله تعالى أو صحة النبوة قالوا: كذا روينا، ويروون في ذلك كله الأخبار، وليس هذا طريقة أصحاب الجمل، وذلك أنه لا يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجمل وقد حصلت لهم المعارف بالله تعالى، غير أنهم لما تعذر عليهم إيراد الحجج في ذلك أحالوا على ما كان سهلا عليهم، وليس يلزمهم أن يعلموا أن ذلك لا يصح أن يكون دليلا إلا بعد أن يتقدم المعرفة بالله، وإنما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين وهم عالمون على الجملة كما قدرناه، فما يتفرع عليه الخطأ فيه لا يوجب التكفير ولا التضليل. وأما الفرق الذين أشاروا إليهم من الواقفية والفطحية وغير ذلك فعن ذلك جوابان: أحدهما: إن ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد إذا علم من اعتقادهم تمسكهم بالدين وتحرجهم من الكذب ووضع الأحاديث، وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمة (عليهم السلام) نحو عبد الله بن بكير وسماعة بن مهران، ونحو بني فضال من المتأخرين عنهم، وبني سماعة، ومن


[ 155 ]

شاكلهم، فإذا علمنا أن هؤلاء الذين أشرنا إليهم وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد من القول بالوقف وغير ذلك كانوا ثقات في النقل فما يكون طريقه هؤلاء جاز العمل به. والجواب الثاني: أن جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصوا بروايته لا يعمل به، وإنما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح فحينئذ يجوز العمل به، فأما إذا تفرد فلا يجوز ذلك فيه على حال، وعلى هذا سقط الاعتراض. فأما ما رواه الغلاة ومن هو مطعون عليه في روايته ومتهم في وضع الأحاديث، فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد، فإذا انضاف إلى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك ويكون ذلك لأجل رواية الثقة دون روايته. وأما المجبرة والمشبهة، فأول ما في ذلك أنا لا نعلم أنهم مجبرة ولا مشبهة، وأكثر ما معنا أنهم كانوا يروون ما يتضمن الجبر والتشبيه، وليس روايتهم لها على أ نهم كانوا معتقدين لصحتها، بل بينا الوجه في روايتهم لها و أنه غير الاعتقاد لمتضمنها. ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه كان الكلام على ما يروونه كالكلام على ما ترويه الفرق المتقدم ذكرها، وقد بينا ما عندنا في ذلك. وهذه جملة كافية في إبطال هذا السؤال. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجردها؟ بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها لأجلها عملوا، ولو تجردت لما عملوا بها، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها. قيل له: القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء كثيرة مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك، لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاويهم، لأنه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه، ولا في السنة المتواترة


[ 156 ]

لعدم ذلك في أكثر الأحكام، بل لوجودها في مسائل معدودة، ولا في الإجماع لوجود الاختلاف في ذلك، فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة، ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه، بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك: إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد أحد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه. ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرق المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها، فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم، واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل تقع واحدة أم لا؟ ومثل اختلافهم في باب الطهارة مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء، ونحو اختلافهم في حد الكر، ونحو اختلافهم في استئناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين، واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة وغير ذلك في سائر أبواب الفقه، حتى أن بابا منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى. وقد ذكرت ما ورد عنهم (عليهم السلام) من الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفى حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفه، فلولا أن العمل


[ 157 ]

بهذه الأخبار كان جائزا لما جاز ذلك، وكان يكون من عمل بخبر عنده أنه صحيح يكون مخالفه مخطئا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك، وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الأخبار. فإن تجاسر متجاسر إلى أن يقول: كل مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع ومن خالفه مخطئ فاسق يلزمه أن يفسق الطائفة بأجمعها ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم، فإنه لا يمكن أن يدعي على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع، ومن بلغ إلى هذا الحد لا يحسن مكالمته ويجب التغافل عنه بالسكوت، وإن امتنع من تفسيقهم وتضليلهم فلا يمكنه إلا لأن العمل بما عملوا به كان حسنا جائزا خاصة، وعلى أصولنا أن كل خطأ وقبيح كبير، فلا يمكن أن يقال: إن خطأهم كان صغيرا فانحبط على ما تذهب إليه المعتزلة فلأجل ذلك لم يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل. فإن قال قائل: أكثر ما في هذا الاعتبار أن يدل على أنهم غير مؤاخذين بالعمل بهذه الأخبار وأ نه قد عفي عنهم، وذلك لا يدل على صوابهم، لأنه لا يمتنع أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم واستحق العقاب إلا أنه عفي له عن خطئه وأسقط عنه ما استحقه [من العقاب] قيل له: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن غرضنا بما اخترناه من المذهب هو هذا وأن من عمل بهذه الأخبار لا يكون فاسقا مستحقا للعقاب، فإذا سلم لنا ذلك ثبت لنا ما هو الغرض المقصود. والثاني: أن ذلك لا يجوز، لأنه لو كان قد عفي لهم عن العمل بذلك مع أنه قبيح يستحق به العقاب وأسقط عقابهم لكانوا مغرين بالقبيح، وذلك لا يجوز، لأنهم إذا علموا أنهم إذا عملوا بهذه الأخبار لا يستحقون العقاب لم يصرفهم عن العمل بها صارف، فلو كان فيها ما هو قبيح العمل به لما جاز ذلك على حال. فإن قيل: لو كانت هذه الطريقة دالة على جواز العمل بما اختلف من الأخبار المتعلقة بالشرع من حيث لم ينكر بعضهم على بعض ولم يفسق بعضهم بعضا ينبغي


[ 158 ]

أن يكون دالة على صوابهم فيما طريقه العلم، فإنهم قد اختلفوا في الجبر والتشبيه والتجسيم والصورة وغير ذلك، واختلفوا في أعيان الأئمة (عليهم السلام) ولم نرهم قطعوا الموالاة ولا أنكروا على من خالفهم، وذلك يبطل ما اعتمدتموه. قيل: جميع ما عددتموه من الاختلاف الواقع بين الطائفة، فإن النكير واقع فيه من الطائفة والتفسيق حاصل فيه، وربما تجاوزوا ذلك أيضا إلى التكفير، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى أن كثيرا منهم جعل ذلك طعنا على رواية من خالفه في المذاهب التي ذكرت في السؤال وصنفوا في ذلك الكتب، وصدر عن الأئمة (عليهم السلام) أيضا النكير عليهم نحو إنكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه والصورة والغلو وغير ذلك. وكذلك من خالف في أعيان الأئمة (عليهم السلام) لأنهم جعلوا ما يختص الفطحية والواقفية والناووسية وغيرهم من الفرق المختلفة بروايته لا يقبلونه ولا يلتفتون إليه، فلو كان اختلافهم في العمل بأخبار الآحاد يجري مجرى اختلافهم في المذاهب التي أشرنا إليها لوجب أن يجروا فيها ذلك المجرى، ومن نظر في الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها وجد الأمر بخلاف ذلك، وهذه أيضا طريقة معتمدة في هذا الباب. ومما يدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه: أنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم، وقالوا: فلان متهم في حديثه وفلان كذاب وفلان مخلط وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد وفلان واقفي وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجل من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه براويه. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم. فلولا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائزا لما كان بينه وبين غيره فرق، وكان يكون خبره مطرحا مثل خبر غيره، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الأخبار بعضها على بعض، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترناه


[ 159 ]

فصل في ذكر القرائن التي تدل على صحة أخبار الآحاد أو على بطلانها وما يرجح به الأخبار بعضها على بعض، وحكم المراسيل. القرائن التي تدل على صحة متضمن الأخبار التي لا توجب العلم أشياء أربعة: منها: أن تكون موافقة لأدلة العقل وما اقتضاه، لأن الأشياء في العقل إذا كانت إما على الحظر أو الإباحة على مذهب قوم أو الوقف على ما نذهب إليه، فمتى ورد الخبر متضمنا للحظر أو الإباحة فلا يكون هناك ما يدل على العمل بخلافه وجب أن يكون ذلك دليلا على صحة متضمنه عند من اختار ذلك. وأما على مذهبنا الذي نختاره في الوقف، فمتى ورد الخبر موافقا لذلك وتضمن وجوب التوقف كان ذلك دليلا أيضا على صحة متضمنه إلا أن يدل دليل على العمل بأحدهما فيترك الخبر والأصل. ومتى كان الخبر متناولا للحظر ولم يكن هناك دليل يدل على الإباحة فينبغي أيضا المصير إليه ولا يجوز العمل بخلافه إلا أن يدل دليل يوجب العمل بخلافه، لأن هذا حكم مستفاد بالعقل، ولا ينبغي أن نقطع على حظر ما تضمنه ذلك الخبر، لأنه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به ولا هو موجب العمل فنعمل به. وإن كان الخبر متضمنا للإباحة ولا يكون هناك خبر آخر أو دليل شرعي على خلافه وجب الانتقال إليه والعمل به وترك ما اقتضاه الأصل، لأن هذا فائدة العمل بأخبار الآحاد، ولا ينبغي أن نقطع على متضمنه لما قدمناه من وروده موردا لا يوجب العلم. ومنها: أن يكون الخبر مطابقا لنص الكتاب إما خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه، فإن جميع ذلك دليل على صحة متضمنه، إلا أن يدل دليل يوجب العلم يقترن بذلك الخبر يدل على جواز تخصيص العموم به أو ترك دليل الخطاب، فيجب حينئذ المصير إليه. وإنما قلنا ذلك لما نبينه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الآحاد، إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يكون الخبر موافقا للسنة المقطوع بها من جهة التواتر، فإن ما يتضمنه الخبر الواحد إذا وافقه مقطوع على صحته أيضا وجاز العمل به وإن لم يكن


[ 160 ]

ذلك دليلا على صحة نفس الخبر، لجواز أن يكون الخبر كذبا وإن وافق السنة المقطوع بها. ومنها: أن يكون موافقا لما أجمعت الفرقة المحقة عليه، فإنه متى كان كذلك دل أيضا على صحة متضمنه. ولا يمكننا أيضا أن نجعل إجماعهم دليلا على صحة نفس الخبر، لأنهم يجوز أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناء بإجماعهم على العمل به، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر. فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن أخبار الآحاد، ولا يدل على صحتها أنفسها، لما بيناه من جواز أن تكون الأخبار مصنوعة وإن وافقت هذه الأدلة. فمتى تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن كان خبرا واحدا محضا، ثم ينظر فيه فإن كان ما تضمنه هذا الخبر هناك ما يدل على خلاف متضمنه من كتاب أو سنة أو إجماع وجب إطراحه والعمل بما دل الدليل عليه. وإن كان ما تضمنه ليس هناك ما يدل على العمل بخلافه ولا يعرف فتوى الطائفة فيه نظر، فإن كان هناك خبر آخر يعارضه مما يجري مجراه وجب ترجيح أحدهما على الآخر وسنبين من بعد ما يرجح به الأخبار بعضها على بعض وإن لم يكن هناك خبر آخر يخالفه وجب العمل به، لأن ذلك دليل إجماع منهم على نقله، وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا عليه. وكذلك إن وجد هناك فتاوى مختلفة من الطائفة وليس للقول المخالف له مستند إلى خبر آخر ولا إلى دليل يوجب العلم وجب اطراح القول الآخر والعمل بالقول الموافق لهذا الخبر، لأن ذلك القول لابد أن يكون عليه دليل، فإذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس حتى يسند ذلك القول إليه ولا هناك خبر آخر يضاف إليه، وجب أن يكون ذلك القول مطروحا ووجب العمل بهذا الخبر والأخذ بالقول الذي يوافقه. وأما القرائن التي تدل على العمل بخلاف ما يتضمنه الخبر الواحد فهو أن يكون هناك دليل مقطوع به من كتاب أو سنة مقطوع بها أو إجماع من الفرقة المحقة على


[ 161 ]

العمل بخلاف متضمنه، فإن جميع ذلك يوجب ترك العمل به. وإنما قلنا ذلك، لأن هذه الأدلة توجب العلم والخبر الواحد لا يوجب العلم وإنما يقتضي غالبا الظن والظن لا يقابل العلم. وأيضا فقد روي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: ” إذا جاءكم عنا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسنة رسوله فإن وافقهما فخذوا به وما لم يوافقهما فردوه إلينا فلأجل ذلك رددنا هذا الخبر. ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه، لأنه لا يمتنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحا وله وجه من التأويل لا نقف عليه، أو خرج على سبب خفي علينا الحال فيه، أو تناول شخصا بعينه، أو خرج مخرج التقية وغير ذلك من الوجوه، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه، وإنما يجب الامتناع من العمل به حسب ما قدمناه. فأما الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح، والترجيح يكون بأشياء: منها: أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنة المقطوع بها والآخر مخالفا لهما، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما؛ وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافق إجماعهم ويترك العمل بما يخالفه فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما، فما كان راويه عدلا وجب العمل به وترك العمل بما لم يروه العدل وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواة عمل به وترك العمل بقليل الرواة. فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامة ويترك العمل بما يوافقهم. وإن كان الخبران يوافقان العامة أو يخالفانها جميعا نظر في حالهما، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالخبر الآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر، لأن الخبرين جميعا منقولان


[ 162 ]

مجمع على نقلهما وليس هناك قرينة تدل على صحة أحدهما ولا ما يرجح أحدهما به على الآخر، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالآخر، وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادهما وتنافيهما وأمكن حمل كل واحد منهما على ما يوافق الخبر على وجه كان الإنسان مخيرا في العمل بأيهما شاء. وأما العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر: فهو أن يكون الراوي معتقدا للحق مستبصرا ثقة في دينه متحرجا من الكذب غير متهم فيما يرويه. فأما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة (عليهم السلام) نظر فيما يرويه، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب إطراح خبره، وإن لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به، وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ” إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي (عليه السلام) فاعملوا به ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامة عن أئمتنا (عليهم السلام) فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه. وأما إذا كان الراوي من فرق الشيعة مثل الفطحية والواقفية والناووسية، وغيرهم نظر فيما يرويه، فإن كان هناك قرينة تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم وجب العمل به، وإن كان هناك خبر يخالفه من طريق الموثوقين وجب إطراح ما اختصوا بروايته والعمل بما رواه الثقة، وإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه وجب أيضا العمل به إذا كان متحرجا في روايته موثوقا به في أمانته وإن كان مخطئا في أصل الاعتقاد، فلأجل ما قلناه: عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفية مثل


[ 163 ]

سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلافه. وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون والمضعفون وغير هؤلاء فيما تختص الغلاة بروايته، فإن كانوا ممن عرف لهم حال استقامة وحال غلو عمل بما رووه في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال خطائهم ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه، وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي العزاقر وغير هؤلاء. فأما ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال. وكذلك القول فيما ترويه المتهمون والمضعفون، إن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به، وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في أخبارهم، فلأجل ذلك توقف المشائخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها ولم يرووها واستثنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من التصنيفات. فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزا فيها، فإن ذلك لا يوجب رد خبره ويجوز العمل به، لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم. فأما ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إن أحدهما يقتضي الحظر والآخر الإباحة والأخذ بما يقتضيه الحظر أولى أو الإباحة، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه في الوقف، لأن الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع فلا ترجيح بذلك، وينبغي لنا التوقف فيهما جميعا أو يكون الإنسان فيهما مخيرا في العمل بأيهما شاء. وإذا كان أحد الراويين يروي الخبر بلفظه والآخر بمعناه، ينظر في حال الذي يرويه بالمعنى، فإن كان ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، لأنه


[ 164 ]

قد أبيح له الرواية بالمعنى واللفظ معا، فأيهما كان أسهل عليه رواه. وإن كان الذي يروي الخبر بالمعنى لا يكون ضابطا للمعنى أو يجوز أن يكون غالطا فيه ينبغي أن يؤخذ بخبر من رواه على اللفظ. وإذا كان أحد الراويين أعلم وأفقه وأضبط من الآخر فينبغي أن يقدم خبره على خبر الآخر ويرجح عليه، ولأجل ذلك قدمت الطائفة ما يرويه زرارة ومحمد بن مسلم وبريد وأبو بصير والفضيل بن يسار ونظراؤهم من الحفاظ الضابطين على رواية من ليس له تلك الحال. ومتى كان أحد الراويين متيقظا في روايته والآخر ممن يلحقه غفلة ونسيان في بعض الأوقات فينبغي أن يرجح خبر الضابط المتيقظ على خبر صاحبه، لأنه لا يؤمن أن يكون قد سها أو دخل عليه شبهة أو غلط في روايته وإن كان عدلا لم يتعمد ذلك، وذلك لا ينافي العدالة على حال. وإذا كان أحد الراويين يروي سماعا وقراءة والآخر يرويه إجازة فينبغي أن يقدم رواية السامع على رواية المستجيز. اللهم إلا أن يروي المستجيز بإجازته أصلا معروفا أو مصنفا مشهورا فيسقط حينئذ الترجيح. وإذا كان أحد الراويين يذكر جميع ما يرويه ويقول: إ نه سمعه وهو ذاكر لسماعه والآخر يرويه من كتابه نظر في حال الراوي من كتابه، فإن ذكر أن جميع ما في كتابه سماعه فلا ترجيح لرواية غيره على روايته، لأنه ذكر على الجملة أنه سمع جميع ما في دفتره وإن لم يذكر تفاصيله وإن لم يذكر أنه سمع جميع ما في دفتره وإن وجده بخطه أو وجد سماعه عليه في حواشيه بغير خطه فلا يجوز له أولا أن يرويه ويرجح خبر غيره عليه. وإذا كان أحد الراويين معروفا والآخر مجهولا قدم خبر المعروف على خبر المجهول، لأنه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره. وإذا كان أحد الراويين مصرحا والآخر مدلسا فليس ذلك مما يرجح به خبره، لأن التدليس هو أن يذكره باسم أو صفة غريبة أو ينسبه إلى قبيلة أو صناعة وهو


[ 165 ]

بغير ذلك معروف، فكل ذلك لا يوجب ترك خبره. وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا ممن يوثق به، وبين ما سنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم. وأما إذا لم يكن كذلك ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة فإنه يقدم خبر غيره عليه، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به، فأما إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الذي ذكرناه. ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل فبما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر وما أجاز أحدهما أجاز الآخر، فلا فرق بينهما على حال. وإذا كان إحدى الروايتين أزيد من الرواية الأخرى كان العمل بالرواية الزائدة أولى، لأن تلك الزيادة في حكم خبر آخر ينضاف إلى المزيد عليه، فإذا كان مع احدى الروايتين عمل الطائفة بأجمعها فذلك خارج عن الترجيح بل هو دليل قاطع على صحته وابطال الآخر، فإن كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة ينبغي أن يرجح على الخبر الآخر الذي عمل به قليل منهم. وإذا كان خبر أحد المرسلين متناولا للحظر والآخر متناولا للإباحة فعلى مذهبنا الذي اخترناه في الوقف يقتضي التوقف فيهما، لأن الحكمين جميعا مستفادان شرعا وليس أحدهما بالعمل العمل أولى من الآخر. وإن قلنا: إنه إذا لم يكن هناك ما يترجح به أحدهما على الآخر كنا مخيرين كان ذلك أيضا جائزا كما قلناه في الخبرين المسندين سواء. وهذه جملة كافية في هذا الباب انتهى كلام


[ 166 ]

رئيس الطائفة في كتاب العدة. وذكر المحقق الحلي في أصوله وما رأيت في أصول أصحابنا كتابا قريبا إلى الحق بعد كتاب العدة لرئيس الطائفة إلا إياه، وهو في الحقيقة اختصار كتاب العدة مع بعض زيادات وإيرادات من قبله، رجع عنها في أوائل كتاب المعتبر ووافق رئيس الطائفة بعد أن خالفه، ونعم الوفاق : ذهب شيخنا أبو جعفر (رحمه الله) إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبين أنه لا يعمل بالخبر مطلقا بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة (عليهم السلام) ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه إمامي يجب العمل به، هذا الذي تبين لي في كلامه ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به. واحتج لذلك بوجوه ثلاثة: الأول: دعوى الإجماع على ذلك، فإنه (رحمه الله) ذكر أن قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحة ما أفتى به المفتي منهم عول على المنقول في أصولهم المعتمدة وكتبهم المدونة، فيسلم له خصمه منهم الدعوى في ذلك، وهذه سجيتهم من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) إلى زمن الأئمة (عليهم السلام) فلولا أن العمل بهذه الأخبار جائز لأنكروه وتبرأوا من العامل به. الوجه الثاني: وجود الاختلاف من الأصحاب بحسب اختلاف الأحاديث يدل على أن مستندهم إليها، إذ لو كان العمل بغيرها مما طريقه القطع لوجب أن يحكم كل واحد بتضليل مخالفه وتفسيقه، فلما لم يحكموا بذلك دل على أن مستندهم الخبر، وعلى جواز العمل به. لا يقال: هذا دليل على أنهم غير معاقبين على العمل به وعدم العقاب لا يدل على كونه حقا. لأ نا نقول: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن الغرض في جواز العمل بهذه الأخبار إنما هو ارتفاع الفسق وارتفاع العقاب. والثاني: أنه لو كان العمل بها خطأ لما جاز الإعلام بالعفو عن فعله، لأن ذلك يكون اغراءا بالقبيح. الوجه الثالث: اعتناء الطائفة بالرجال وتمييز العدل من المجروح والثقة من


[ 167 ]

الضعيف والفرق بين من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد، وكونهم إذا اختلفوا في خبر نظروا في سنده، وذلك يدل على العمل بهذه الأخبار، لأنهم لو لم يعملوا بها لما كان لشروعهم في ذلك فائدة. وذكر: قد يقترن بخبر الواحد قرائن تدل على صدق مضمونه وإن كانت غير دالة على صدق الخبر نفسه لجواز اختلافه مطابقا لتلك القرينة، والقرائن أربع: إحداها: أن يكون موافقا لدلالة العقل، أو لنص الكتاب خصوصه أو عمومه أو فحواه، أو السنة المقطوع بها، أو لما حصل الإجماع عليه. وإذا تجرد عن القرائن الدالة على صدقه ولم يوجد ما يدل على خلاف متضمنه افتقر العمل به إلى اعتبار شروط نذكرها في مباحث متعلقة بالمخبر، وفيها مسائل: المسألة الأولى: الإيمان معتبر في الراوي، وأجاز الشيخ (رحمه الله) العمل بخبر الفطحية ومن ضارعهم بشرط أن لا يكون متهما بالكذب ومنع من رواية الغلاة، كأبي الخطاب وابن أبي العزاقر. لنا قوله تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ احتج الشيخ (رحمه الله) بأن الطائفة عملت بخبر عبد الله بن بكير وسماعة وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى وبما رواه بنو فضال والطاطريون. والجواب: أنا لا نعلم إلى الآن أن الطائفة عملت بأخبار هؤلاء. المسألة الثانية: عدالة الراوي شرط في العمل بخبره، وقال الشيخ: يكفي كونه ثقة متحرزا عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقا بجوارحه، وادعى عمل الطائفة على أخبار جماعة هذه صفتهم. ونحن نمنع هذه الدعوى ونطالب بدليلها، ولو سلمناها لاقتصرنا على المواضع التي عملت فيها الطائفة بأخبار خاصة ولم يجز التعدي في العمل إلى غيرها


[ 168 ]

ودعوى التحرز من الكذب مع ظهور الفسق مستبعد إذ الذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من تحرجه عن الكذب. وذكر: إذا أرسل الراوي الرواية، قال الشيخ (رحمه الله): إن كان ممن عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة قبلت مطلقا، وإن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة. واحتج لذلك بأن الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: قد فهمناك أن القرائن قسمان: قرينة تدل على أن مضمون الحديث حكم الله في الواقع وقرينة تدل على أن الراوي لم يفتر فيما رواه، ولا تدل على أن مضمونه حكم الله في الواقع، لاحتمال وروده من باب التقية، ومن المعلوم عند أولي الألباب أنا نقطع في حق كثير من الناس بقرائن حاصلة عند المعاشرة أو حاصلة بدونها بأنهم لم يرضوا بأن يفتروا في باب الرواية. وقد نقلنا عن الشيخ (قدس سره) أن المعتبر في باب الرواية قطعنا بكون الراوي ثقة في الرواية لا كونه مظنون العدالة. وبالجملة، كون الراوي ثقة نوع من القرائن المفيدة للقطع بأنه لم يفتر في الرواية وتلك القرينة نجدها موجودة في كثير من الرواة بقرائن ما بلغنا من أحوالهم. وأما احتمال وقوع السهو من الراوي في خصوصيات بعض ألفاظ الحديث فيندفع بوجوه آتية في كلامنا. وذكر المحقق الحلي (قدس سره) في أوائل المعتبر في حق جعفر بن محمد (عليهما السلام): روى عنه من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جم غفير كزرارة بن أعين وأخويه بكير وحمران وجميل بن دراج ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية والهشامين وأبي بصير وعبيد الله ومحمد وعمران الحلبيين وعبد الله بن سنان وأبي الصباح الكناني، وغيرهم من أعيان الفضلاء حتى كتبت من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف، سموها أصولا


[ 169 ]

وفي حق الجواد (عليه السلام) قد كان من تلامذته فضلاء كالحسين بن سعيد وأخيه الحسن وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وأحمد بن محمد بن خالد البرقي وشاذان بن الفضل القمي وأيوب بن نوح بن دراج وأحمد بن محمد بن عيسى، وغيرهم ممن يطول تعدادهم، وكتبهم الآن منقولة بين الأصحاب دالة على العلم الغزير. وذكر: لما كان فقهاؤنا رضوان الله عليهم في الكثرة إلى حد يعسر ضبط عددهم ويتعذر حصر أقوالهم، لاتساعها وانتشارها وكثرة ما صنفوه، وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من الفضلاء المتأخرين اجترأت بإيراد كلام من اشتهر فضله وعرف تقدمه في نقل الأخبار وصحة الاختيار وجودة الاعتبار، واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم وعليه اعتمادهم، فممن اخترت نقله: الحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي نصر


[ 170 ]

البزنطي والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخرين: أبو جعفر محمد بن بابويه القمي ومحمد بن يعقوب الكليني: ومن أصحاب كتب الفتاوى: علي بن بابويه وأبو علي بن الجنيد والحسن بن أبي عقيل العماني والمفيد محمد بن محمد بن النعمان وعلم الهدى والشيخ أبو جعفر محمد ابن الحسن الطوسي انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وقال الفاضل المدقق محمد بن إدريس الحلي في آخر كتاب السرائر باب الزيادات : فيما انتزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنفين والرواة المحصلين، وستقف على أسمائهم إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما رواه موسى بن بكر الواسطي في كتابه، ثم نقل أحاديث كثيرة، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب موسى بن بكر الواسطي. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب معاوية بن عمار. ومن ذلك ما استطرفناه من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي صاحب الرضا، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي. ومن ذلك ما أورده أبان بن تغلب صاحب الباقر والصادق (عليهما السلام) في كتابه، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب أبان بن تغلب، وكان جليل القدر عند الأئمة (عليهم السلام). ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب جميل بن دراج، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب جميل بن دراج. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب السياري واسمه عبد الله، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب السياري صاحب موسى والرضا (عليهما السلام). ومن ذلك ما استطرفناه من جامع البزنطي، صاحب الرضا (عليه السلام) ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من جامع البزنطي ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن


[ 171 ]

محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) والأجوبة عن ذلك، ثم قال: تمت الأخبار المنتزعة من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني وهو من أجلة المشيخة، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني، وكتاب حريز أصل معتمد معول عليه. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المشيخة تصنيف الحسن بن محبوب السراد صاحب الرضا (عليه السلام) وهو ثقة عند أصحابنا جليل القدر كثير الرواية أحد الأركان الأربعة في عصره، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب الحسن بن محبوب السراد الذي هو كتاب المشيخة، وهو كتاب معتمد. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب نوادر المصنف تصنيف محمد بن علي بن محبوب الأشعري الجوهري القمي، وهذا الكتاب كان بخط شيخنا أبي جعفر الطوسي نقلت هذه الأحاديث من خطه من الكتاب المشار إليه. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب من لا يحضره الفقيه تصنيف محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه. ومما استطرفناه من كتاب قرب الإسناد تصنيف محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب قرب الإسناد. ومما استطرفناه من كتاب جعفر بن محمد بن سنان الدهقان (رضي الله عنه). ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب تهذيب الأحكام. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين. ومن ذلك ما استطرفناه من رواية أبي القاسم بن قولويه. ومما استطرفناه من كتاب المعالم تصنيف الصفواني. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المحاسن تصنيف أحمد بن أبي عبد الله البرقي. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي


[ 172 ]

انتهى ما أردنا نقله عن آخر السرائر لمحمد بن إدريس الحلي. وأقول: من المعلوم أن فهرست الشيخ وفهرست النجاشي وفهرست محمد ابن شهرآشوب المازندراني المتأخر عنهما ونظائرها، وما ذكره الشيخ في آخر كتابي الأخبار عند ذكر أسانيده إلى الكتب والأصول التي أخذ الحديث منها وما ذكره في أوائل كتاب الاستبصار وما ذكره في كتاب العدة وما ذكره محمد بن علي بن بابويه في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه وما ذكره الإمام ثقة الإسلام في أوائل كتاب الكافي وما ذكره محمد ابن إدريس الحلي في آخر السرائر وما ذكرناه سابقا نقلا عن السيد المرتضى، صريحة في أن تلك الأصول والكتب المعتمدة كانت موجودة عندهم. ومن المعلوم: أن عاقلا صالحا متمكنا من أخذ الحديث من الأصول المعتمدة لا يعدل إلى غيرها. وأيضا من المعلوم: أنه لو نقل غيرها ينصب علامة تميزه عنها لأن قصدهم من تصانيفهم هداية الناس وإرشادهم. وفي خلط الأحاديث المأخوذة من الأصول المعتمدة مع غيرها من غير نصب علامة مميزة بينهما تخريب للدين، فلا يليق بمقام الهداية والإرشاد. ثم أقول: قد صرح المحقق الحلي فيما نقلناه بأن كتابي فضل بن شاذان ويونس ابن عبد الرحمن كانا مشتملين على أحاديث أصحابنا وكانا موجودين عنده مع غيرهما من الأصول المعتمدة وهو أخذ الحديث منهما ومن غيرهما فما ظن المتأخرين بمثل الإمام ثقة الإسلام ومثل ابن بابويه ومثل رئيس الطائفة؟ ووقع التصريح في مواضع من كتاب الكشي بأن كل واحد من كتابي فضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن كان جامعا لأصول أصحابنا وسيجئ زيادة بيان لهذا المقام في الفصل التاسع إن شاء الله تعالى، وإذا ترقيت في هذه المباحث إلى هذه الدرجة من الإيضاح حق لك أن تقول: أطف المصباح قد طلع الصباح؟ وبالجملة، أول من قسم أحاديث أصول أصحابنا التي كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم في زمن الأئمة (عليهم السلام) وكانوا مجمعين على صحة نقلها كلها


[ 173 ]

عنهم (عليهم السلام) إلى الأقسام الأربعة المشهورة بين المتأخرين العلامة الحلي أو رجل آخر قريب منه، ثم من جاء بعده وافقه كالشهيد الأول والفاضل الشيخ علي والشهيد الثاني وولده صاحب كتابي المعالم والمنتقى والفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي. والسبب في إحداث ذلك غفلة من أحدثه عن كلام قدمائنا، والسبب في غفلته ألفة ذهنه بما في كتب العامة، والسبب في الألفة أنه لما كانت أرباب الدول من أهل الضلالة وكانت المدرسون في المدارس مظهري طرق الضلال انحصرت طرق الإفادة والاستفادة في كتب العامة، فإذا أراد أحد تحصيل الفضيلة لم يكن له بد من قراءة كتب العامة على مدرسيها. والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب


[ 174 ]

فائدة قد علمت أنه من الواضحات البينات في صدور الذين تتبعوا كتب الرجال وكتب الأحاديث وفهرست أصول أصحابنا لا سيما، كتاب الكشي وفهرست الشيخ وفهرست النجاشي وفهرست محمد بن شهر آشوب المازندراني وأول الاستبصار وآخر كتابي الأخبار لرئيس الطائفة وكتاب العدة له وكلام علم الهدى وكلام المحقق الحلي في المعتبر وفي كتاب الأصول وكلام محمد بن إدريس الحلي في آخر السرائر وكلام ابن بابويه في أول كتاب من لا يحضره الفقيه وكلام الإمام ثقة الإسلام في أول كتاب الكافي وكلام الشهيد الثاني في شرح رسالته في دراية الحديث وكلام صاحب كتابي المعالم والمنتقى وكلام صاحب كتاب مشرق الشمسين فيه وفي رسالته الوجيزة في فن دراية الحديث بل كلام العلامة الحلي في كتاب


[ 175 ]

النهاية عند تقسيم علماء الإمامية إلى الأخباريين والأصوليين: أنه كان عند قدمائنا أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كتب وأصول كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم، وأ نهم كانوا متمكنين من استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب والأصول ومن أخذ الأحكام عنهم (عليهم السلام) بطريق القطع واليقين ومن التمييز بين الصحيح وغير الصحيح لو كان فيها غير صحيح. ومن المعلوم أن مثلهم لا يغفل عن هذه الدقيقة ولا يقصر في رعايتها، وأن عاقلا فاضلا صالحا إذا أراد تأليف كتاب ليكون مرجعا للشيعة في عقائدهم وأعمالهم أو في أحدهما لا يرضى بأن يلفق بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة من غير نصب علامة تميز بينهما. بل أقول: أرباب التواريخ لا يرضون بأخذ الأخبار من موضع لا يعتمد عليه مع تمكنهم من موضع يعتمد عليه، فكيف يظن بخيار العلماء والأتقياء والصلحاء خلاف ذلك؟ لا سيما الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ورئيس الطائفة ومحمد بن علي بن بابويه، وقد علمت وفور القرائن الموجبة للقطع بما هو حكم الله في الواقع أو بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) في زمن محمد بن يعقوب الكليني وزمن محمد بن علي بن بابويه وزمن علم الهدى وزمن رئيس الطائفة وزمن محمد بن إدريس الحلي وزمن المحقق الحلي


[ 176 ]

فنقول: بقيت في زماننا بمن الله تعالى وبركات أئمتنا (عليهم السلام) قرائن موجبة للقطع العادي بورود الحديث عنهم (عليهم السلام):ـ


[ 177 ]

منها: أنه كثيرا ما نقطع بالقرائن الحالية والمقالية بأن الراوي كان ثقة في الرواية لم يرض بالافتراء ولا برواية ما لم يكن بينا واضحا عنده وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا. ومنها: تعاضد بعضها ببعض ومنها: نقل العالم الثقة الورع في كتابه الذي ألفه لهداية الناس ولأن يكون مرجع الشيعة أصل رجل أو روايته مع تمكنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم (عليهم السلام)ـ


[ 178 ]

ومنها: تمسكه بأحاديث ذلك الأصل أو بتلك الرواية مع تمكنه من أن يتمسك بروايات أخرى صحيحة. ومنها: وجوده في أحد كتابي الشيخ وفي الكافي وفي من لا يحضره الفقيه، لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم أو على أنها مأخوذة من تلك الأصول المجمع على صحتها. ومنها: أن يكون راويه أحدا من الجماعة التي اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم. ومنها: أن يكون راويه من الجماعة التي ورد في شأنهم من بعض الأئمة (عليهم السلام) أ نهم ثقات مأمونون، أو خذوا عنهم معالم دينكم، أو هؤلاء أمناء الله في أرضه، ونحو ذلك. فائدة فإن قلت: بهذه القرائن اندفع احتمال الافتراء وبقي احتمال السهو في خصوصيات بعض الألفاظ. قلت: هذا الاحتمال يندفع تارة بتعاضد الأخبار بعضها ببعض، وتارة بملاحظة تطابق الجواب والسؤال، وتارة بتناسب أجزاء الحديث وتناسقها. فإن قلت: بقي احتمال آخر لم يندفع، وهو احتمال إرادة خلاف الظاهر. قلت: من المعلوم أن الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهره من غير وجود قرينة صارفة بينة، لا سيما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة. ولا يجري ذلك في أكثر كلام الله ولا في أكثر كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلينا، لقولهم (عليهم السلام): ” إنما يعرف القرآن من خوطب به وقولهم (عليهم السلام): ” كلام


[ 179 ]

النبي (صلى الله عليه وآله) مثل كلام الله في الأكثر يحتمل الناسخ والمنسوخ، وقد يكون عاما، وقد يكون خاصا، وقد يكون مؤولا ولا يعلم ذلك من جهتنا، لأ نا مخاطبون بها عارفون بما هو المراد منهما. وأيضا مقتضى تصريحات الأئمة (عليهم السلام) بالفرق بين كلامهم وبين كلام الله وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله) بأن لهما وجوها مختلفة وبأنهما يحتملان الناسخ والمنسوخ وبأنهما وردا في الأكثر على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية وورد بقدر عقول الأئمة (عليهم السلام) بخلاف كلام الأئمة (عليهم السلام) فإنه لا يحتمل أن يكون منسوخا، وأ نه ورد بقدر ادراك الرعية وهم مخاطبون به، فيكون كلامهم (عليهم السلام) خاليا عن ذلك الاحتمال. هكذا ينبغي أن تحقق هذه المواضع، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم


[ 180 ]

الفصل الأول في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى وفيه وجوه: أولها عدم ظهور دلالة قطعية على جواز الاعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى، والتمسك فيه بالظن يشتمل على دور ظاهر، مع أنه معارض بأقوى منه من الآيات الصريحة في النهي عن العمل بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى والروايات الصريحة في ذلك وقياسه على الظن المتعلق بالأمور العادية أو الأمور الوجدانية أو الأفعال الصادرة عنا أو غيرها من الأمور التي ليست من باب أحكامه تعالى كقيم المتلفات وأروش الجنايات وإضرار الصوم بالمريض وعدد الركعات


[ 181 ]

الصادرة عنا وتعيين جهة القبلة غير معقول مع ظهور الفارق، فإنه لولا اعتبار الظن في أمثال ما ذكرنا للزم الحرج البين، ولو اعتبر الظن في أحكامه تعالى لأدى إلى الحرب والفتن كما هو المشاهد. وتوضيح المقام أن يقال: كل من قال بجواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى من محققي العامة وجمع من متأخري الخاصة اعترف بانحصار دليل جوازه في الإجماع، واعترف بأنه لولا ذلك الإجماع لما جاز، للآيات والروايات المانعة عن ذلك. ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي في مبحث الإجماع: المتمسك بالظن إنما يثبت بالإجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن انتهى كلامه. ومثل هذه العبارة مذكورة في التلويح للعلامة التفتازاني وقد نقلنا عن صاحب المعالم من أصحابنا: أن التعويل في الاعتماد على ظن المجتهد المطلق إنما هو على دليل قطعي، وهو إجماع الأمة عليه وأنا أقول: من المعلوم أن ثبوت الإجماع في هذا الموضع مفيد للقطع محل المنع، وسند المنع ما ورد في كلام الصادقين (عليهم السلام): من أن حجية الإجماع من مخترعات العامة وسنده الآخر أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بانحصار الطريق في أخذ هذا العلم في السماع عنهم (عليهم السلام) بواسطة أو بدونها وسنده الآخر أنه تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنه لا يجوز تحصيل الحكم الشرعي


[ 182 ]

النظري بالكسب والنظر لأنه يؤدي إلى اختلاف الآراء في الأصول وفي الفروع الفقهية كالمناكح والمواريث والديات والقصاص والمعاملات كما هو المشاهد فتنتفي فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب، إذ فائدتهما كما هو المشهور بين علماء الإسلام دفع الاختلاف ليتم نظام المعاش. وأيضا كل ما يؤدي إلى الاختلاف


[ 183 ]

يؤدي إلى الخطأ لامتناع اجتماع النقيضين، والحكيم المطلق عز شأنه أبى من أن يبني شريعته على ما يؤدي إلى الخطأ. وقد تمسك الإمام ثقة الإسلام في أول كتاب الكافي بالسند الثالث في إبطال بناء العقائد والأعمال على المقدمات الجهلية الاستحسانية لا يقال: هم يزعمونها يقينية. لأ نا نقول: لو كانت يقينية لما أدت إلى اختلاف أقوالهم في فن الكلام وفي أصول الفقه وفي المسائل الفقهية


[ 184 ]

ولقد أفاد وأجاد المحقق الحلي (قدس سره) في أوائل كتاب المعتبر حيث قال: إنك مخبر في حال فتواك عن ربك وناطق بلسان شرعه فما أسعدك إن أخذت بالجزم وما أخيبك إن بنيت على الوهم، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى: ﴿وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ وانظر إلى قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾ وتفطن كيف قسم مستند الحكم إلى القسمين فما لم يتحقق الاذن فأنت مفتر ولقد أحسن وأجاد رئيس الطائفة محيي آثار العترة الطاهرة (عليهم السلام) حيث قال في موضع من كتاب العدة موافقا لما نقلناه سابقا من كتاب تهذيب الأحكام له ومن


[ 185 ]

كتاب العدة: وأما الظن فعندنا وإن لم يكن أصلا في الشريعة تستند الأحكام إليه، فإنه تقف أحكام كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين ونحو جهات القبلة وما يجري مجراه . وقال في موضع آخر من كتاب العدة: وأما القياس والاجتهاد فعندنا أ نهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما، ونحن نبين ذلك فيما بعد انتهى كلامه (رحمه الله). وأنا أقول: في بعض ما نقلنا عن رئيس الطائفة بحث، والحق عندي ما نقله صاحب المعالم عن علم الهدى (رضي الله عنه) حيث قال: وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انها توجب حصول الظن، بل من حيث إن الشارع قال جعله سببا لوجوب الحكم على القاضي، كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة . وإنما قلت: الحق فيه ما أفاده علم الهدى، لا ما ذكره رئيس الطائفة (رحمه الله) لأن كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية، مع وجوب الحكم على القاضي حينئذ، ومن المعلوم عند أولي الألباب: أن متعلق هذا الظن ليس من أحكامه تعالى كما أفاده رئيس الطائفة. الوجه الثاني قوله تعالى: ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق﴾ مع قوله عز وجل: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ وقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله تعالى: ﴿إن هم إلا يظنون﴾ و ﴿إن هم إلا يخرصون﴾ وقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ وغيرها من الآيات الشريفة. وتخصيص تلك الآيات بأصول الدين كما وقع من الأصوليين بناء على أن الضرورة ألجأت إلى التمسك في الفروع بالظن إما مطلقا [بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولمن بعد عنه في زمانه كما هو زعم العامة، أو في زمن الغيبة الكبرى كما هو


[ 186 ]

زعم جمع من متأخري أصحابنا ولمن بعد عن الإمام (عليه السلام) في زمن حضوره كما هو زعم الفاضل المدقق الشيخ علي ومن وافقه من تبعته خيال ضعيف سيجيء جوابه في كلامنا إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث إن خلاصة ما استدلت به الإمامية على وجوب عصمة الإمام (عليه السلام) وهو أنه لولا ذلك لزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ وذلك قبيح عقلا جارية في وجوب اتباع ظن المجتهد، فعلم أن ظنه ليس بواجب الاتباع، وإذا لم يكن واجبا لم يكن جائزا، إذ لا قائل بالفصل. وبعبارة أخرى: إذ الجواز هنا يستلزم الوجوب بإجماعهم، بل في كتاب المحاسن رسالة منقولة عن الصادق (عليه السلام) فيها استدل الصادق (عليه السلام) بهذا الدليل على امتناع العمل بظن المجتهدين وبخبر الواحد الخالي عن القرائن المفيدة للقطع وأشباههما وهذا نقض أورده الفخر الرازي على الإمامية وجوابه: أن هذا النقض لا يرد على الأخباريين، لأنهم لا يجوزون الاعتماد في أحكامه تعالى على الظن، ويرد على المتأخرين، وليس لهم بحمد الله عن ذلك مفر


[ 187 ]

الوجه الرابع إن المسلك الذي مداركه غير منضبطة وكثيرا ما يقع فيها التعارضات واضطراب


[ 188 ]

الأنفس ورجوع كثير من فحول العلماء عما به أفتى لا يصلح لأن يجعله تعالى مناط أحكامه


[ 189 ]

ومن المعلوم: أن اعتبار ظن المجتهد المتعلق بنفس أحكامه تعالى مستلزم لتلك المحذورات، ألا ترى أن في كثير من المسائل تخطر ببال جمع من أهل الاستنباط أنواع من الترجيحات دون جمع وفي وقت دون وقت. والعامة اعترفوا بذلك في كتب الأصول، ففي شرح العضدي للمختصر الحاجبي في مبحث القياس: من شروط العلة أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه حتى تكون ضابطا للحكمة لا حكمة مجردة، وذلك لخفائها كالرضا في التجارة فنيط


[ 190 ]

بصيغ العقود لكونها ظاهرة منضبطة، أو لعدم انضباطها كالمشقة، فإن لها مراتب لا تحصى وتختلف بالأحوال والأشخاص اختلافا عظيما. ثم ليس كل مرتبة مناطا ولا يمكن تعيين مرتبة منها، إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها، فنيطت بالسفر الوجه الخامس إن المسلك الذي يختلف باختلاف الأذهان والأحوال والأشخاص لا يصلح لأن يجعله تعالى مناط أحكام مشتركة بين الأمة إلى يوم القيامة. الوجه السادس إن الشريعة السهلة السمحة كيف تكون مبنية على استنباطات صعبة مضطربة؟ الوجه السابع إن مفاسد ابتناء أحكامه تعالى على الاستنباطات الظنية أكثر من أن تعد وتحصى، من جملتها: أنه يفضي إلى جواز الفتن والحروب بين المسلمين، وسد هذا الباب يؤدي إلى دفعها والتوقف والتثبت في الأمور الشرعية إلى ظهور الحق واليقين. ألا ترى أن علماء العامة وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ذكروا في مقام الاعتذار عن الحروب والفتن الواقعة بين الصحابة العدول الأخيار ان السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام الله تعالى؟ ومن جملتها: أنه إذا وقعت خصمة


[ 191 ]

دنيوية مبنية على اختلاف اجتهاد المتخاصمين في مال أو فرج أو دم لزم أن لا يجوز لأحدهما أن يأخذ قهرا على الآخر ما يستحقه في حكم الله تعالى. وما قاله علماء العامة: من أنه إذا كانت خصومة المتخاصمين في قضية شخصية مبنية على اختلاف اجتهادهما يجب عليهما الرجوع إلى قاض منصوب من جهة السلطان فإذا قال القاضي: ” حكمت بكذا يجب اتباعه عليهما، مما لا يرضى به الذهن المستقيم والطبع السليم، فكيف يرضى به الحكيم العليم؟ ومن جملتها أنه يفضي إلى تجهيل المفتي نفسه أو إبطال القاضي حكمه إذا ظهر له ظن أو قطع مخالف لظنه السابق. الوجه الثامن إن الظن المعتبر عندهم ظن صاحب الملكة المخصوصة التي اعتبروها في معنى الفقيه والمجتهد، وأيضا المعتبر عندهم من بذل الوسع في تحصيل الظن المعتبر عندهم قدر مخصوص منه، ولا يخفى على اللبيب أن الملكة المذكورة والقدر المشار إليه من بذل الوسع أمران مخفيان غير منضبطين، وقد مر أنهم اعترفوا


[ 192 ]

بأن مثل ذلك لا يصلح أن يكون مناط أحكامه تعالى الوجه التاسع إن الظن من باب الشبهات، ووجوب التوقف عند الشبهات المتعلقة بنفس أحكامه تعالى ثبت بالروايات: أما الأولى: فلما في نهج البلاغة: ومن خطبه (عليه السلام) ” وإنما سميت الشبهة شبهة، لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم الضلال ودليلهم العمى، فما ينجوا من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه ولغيره من الروايات الآتية. وأما الثانية: فلما سيأتي من الروايات الصريحة في وجوب التوقف عند الشبهات المتعلقة بنفس أحكامه تعالى. الوجه العاشر الخطب والوصايا المنقولة عن أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) الصريحة في أن كل طريق يؤدي إلى اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية مردود غير مقبول عند الله من حيث إنه يؤدي إلى الاختلاف. ومن المعلوم: أن هذا المعنى


[ 193 ]

كما يشمل القياس والاستحسان والاستصحاب وأشباهها يشمل الاستنباطات الظنية من كلام الله وكلام رسوله، مع أن الظن غير حاصل على مذهب الخاصة في كثير من تلك المواضع كما سنحققه، وإنما يحصل على مذهب العامة. والصريحة في أنه يجب التوقف عند الشبهات المتعلقة بنفس أحكامه تعالى. والصريحة في أن ما عدا القطع شبهة. والصريحة في أنه لا يجوز الإفتاء والقضاء إلا لرجل يعض في العلم بضرس قاطع. والروايات الصريحة في أن في كل واقعة حكم الله واحد وان من أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية وأثم. وفي أن المفتي المخطئ ضامن ولحقه وزر من عمل بفتياه


[ 194 ]

ففي نهج البلاغة: ومن كلام له (عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها على خلاف قوله، ثم تجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله تعالى دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه وتعالى دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن تبليغه


[ 195 ]

وأدائه؟ والله سبحانه يقول: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ وفيه تبيان لكل شيء وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأ نه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به . وأقول: المقدمتان القائلتان بأن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة نزل في القرآن، وبأنه لا اختلاف فيما نزل فيه، يستلزمان أن يكون كل من أفتى بحكمين مختلفين من غير ابتناء أحدهما على التقية مصداقا لقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ثم أقول: الكافر جاء بخمسة معان في كتاب الله تعالى، وتلك المعاني وما هو


[ 196 ]

المراد منها يستفادان من أحاديث كثيرة: منها: ما ذكره الإمام ثقة الإسلام في باب وجوه الكفر عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها: كفر الجحود وهو على وجهين: الكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة وكفر النعم، فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنف من الزنادقة يقال لهم: الدهرية، وهم الذين يقولون: وما يهلكنا إلا الدهر، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان [منهم] على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قال الله تعالى: ﴿إن هم إلا يظنون﴾ إن ذلك كما يقولون، وقال تعالى: ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ يعني بتوحيد الله فهذا أحد وجوه الكفر. وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أ نه حق قد استقر عنده، وقد قال الله تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا﴾ وقال الله عز وجل: ﴿وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين﴾ فهذا تفسير وجهي الجحود. والوجه الثالث من الكفر كفر النعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان ﴿هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم﴾ وقال سبحانه: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وقال: ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾ . والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به وهو قول الله عز وجل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم


[ 197 ]

تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم) فكفرهم بترك ما أمر الله به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده، فقال: ﴿فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون﴾ . والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، وذلك قول الله عز وجل يحكي قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده﴾ يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) وقال: ﴿إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا﴾ يعني تبرأ بعضكم من بعض ومن كلامه (عليه السلام) في بعض خطبه: عباد الله! إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد وهون الشديد، نظر فأبصر وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الحبال بأمتنها، وهو من اليقين على مثل ضوء الشمس قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات كشاف عشوات مفتاح مبهمات دفاع معضلات دليل فلوات، يقول فيفهم ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه به، فهو من معادن دينه وأوتاد


[ 198 ]

أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها ولا مظنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمى عالما فليس به، فاقتبس جهائل من جهال وأضاليل من ضلال ونصب للناس أشراكا من حبائل غرور وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظائم ويهون كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول: أعتزل البدع وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه ولا باب العمى فيصد عنه، فذلك ميت الأحياء فأين تذهبون! وأنى تؤفكون! والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم؟ وهم أزمة الحق وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ورودوهم ورود الهيم العطاش. أيها الناس! خذوها عن خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) أنه يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلي منا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون، واعذروا من لا حجة لكم عليه وأنا هو، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي وفرشت لكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي؟ فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل إليه الفكر ومن كلام له (عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل: إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله تعالى إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا موضع في جهال الأمة عاد في أغباش الفتنة عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالما وليس به، بكر فاستكثر، من جمع ما قل منه


[ 199 ]

خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماء آجن واكتثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشوات لم يعض على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لامليء والله بإصدار ما ورد عليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم به من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث. إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر


[ 200 ]

ومن خطبته (عليه السلام): وما كل ذي قلب بلبيب، وما كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي ناظر ببصير، فيا عجبا! ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم وتعويلهم في


[ 201 ]

المهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات ومن كلامه (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): دع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لا تكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال. واعلم يا بني إن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لا يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما كانوا علموا، فليكن طلب ذلك بتفهم وتعلم لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كل شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع وتم رأيك واجتمع وكان همك في ذلك هما واحدا فانظر فيما فسرت لك، وإن أنت لم تجمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك تخبط العشواء وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل، فتفهم يا بني وصيتي انتهى كلامه (عليه السلام). وفي الكافي في باب البدع والرأي والمقائيس محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه وعلي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام). وعلي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، رفعه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن من أبغض الخلائق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا في جهال الناس عان بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالما ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر من


[ 202 ]

جمع] ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا، ماضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضى، فهو مفتاح عشوات ركاب شبهات خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء، يستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الفرج الحلال لامليء بإصدار ما عليه ورد ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق وأنا أقول: من المعلوم أن هذه العبارات الشريفة صريحة في أن ما عدا اليقين شبهة، وجه الصراحة: أنها ناطقة بحصر الأمور في اليقين والشبهة، فلو لم يكن الظن شبهة لزم بطلان الحصر وفي أن كل طريق يؤدي إلى اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية مردود غير مقبول عند الله تعالى. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه قال الصادق (عليه السلام): الحكم حكمان: حكم الله عز وجل، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله عز وجل حكم بحكم الجاهلية، ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فقد كفر بالله تعالى وفي كتاب الكافي في باب طلب الرئاسة عن أبي حمزة الثمالي قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك والرئاسة! وإياك أن تطأ أعقاب الرجال! قال قلت: جعلت فداك! أما الرئاسة فقد عرفتها، وأما أن أطأ أعقاب الرجال، فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال، فقال لي: ليس حيث تذهب، إياك أن تنصب رجلا دون


[ 203 ]

الحجة فتصدقه في كل ما قال . وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أترى لا أعرف خياركم من شراركم، بلى والله! وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه، إ نه لابد من كذاب أو عاجز الرأي . أقول: الكذاب: المفتري في باب الروايات عنهم [(عليهم السلام)] وعاجز الرأي: المفتي بظنونه. وفي كتاب الكافي في باب أصناف القضاة أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية، وقد قال الله عز وجل: ﴿ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾ وأشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم وفي باب من حكم بغير ما أنزل الله عز وجل “: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أي قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن داود بن فرقد قال: حدثني رجل عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال: كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتى جئنا إلى المدينة، فبينا نحن في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ دخل جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقلت لابن أبي ليلى تقوم بنا إليه، فقال: وما تصنع عنده؟ فقلت: نسائله ونحدثه، فقال: قم، فقمنا إليه فسألني عن


[ 204 ]

نفسي وأهلي، ثم قال: من هذا معك؟ قلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين، فقال له: أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟ قال: نعم، قال: تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتقتل هذا وتفرق بين المرء وزوجه لا تخاف في ذلك أحدا؟ قال: نعم، قال: فبأي شيء تقضي؟ قال: بما بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه السلام) وعن أبي بكر وعمر، قال: فبلغك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال إن عليا أقضاكم؟ قال: نعم، قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضة وسماء من فضة ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال: رب إن هذا قضى بغير ما قضيت؟ قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ثم قال لي: التمس لنفسك زميلا، والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا وفي باب أن المفتي ضامن “: علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه، فلما سكت قال له الأعرابي أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد شيئا، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو في عنقه قال أو لم يقل، وكل مفت ضامن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه وفي الكافي في باب النهي عن القول بغير علم “: محمد بن يحيى عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن مفضل بن يزيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك عن أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن


[ 205 ]

عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياك وخصلتين! ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك وتدين بما لا تعلم . الحسين بن محمد عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا ما لا يعلمون . علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس، عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لا يعلمون، وقال عز وجل: ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ وقال ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾ وفي الكافي في باب من عمل بغير علم محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح وفي الكافي في باب النوادر محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه . محمد عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال عن ابن بكير، عن حمزة ابن الطيار: أ نه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال: كف واسكت، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق، قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم


[ 206 ]

لا تعلمون) . علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق الله على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه . أقول: من تدليسات العامة أنهم ذكروا في كتبهم الأصولية: أن العلم الشرعي هو التصديق المطلق المشترك بين القطع والظن. وفي الكافي في باب البدع والرأي والمقائيس محمد بن يحيى عن أحمد ابن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنة فننظر فيها؟ فقال: لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت فقد كذبت على الله عز وجل . علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: حدثني جعفر عن أبيه (عليه السلام) أن عليا قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس. قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم . وفي باب دعائم الكفر وشعبه علي بن إبراهيم عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن عمر بن أذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وبارز خالقه . أقول: الذكر هو القرآن والمراد نسيان قوله تعالى: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ وقوله تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ ونظائر ذلك من الآيات الشريفة. ثم أقول: من المعلوم عند أولي الألباب أن مقتضى تلك الأحاديث أن كل فتوى


[ 207 ]

لم تكن جامعة للصفتين: من المطابقة للواقع والجزم بها فهي غير مرضية، ومن المعلوم أن الفتوى المخالفة لما أنزل الله إذا وردت من باب التقية لا تجري فيها خلاصة ما يستفاد من تلك الأحاديث. وفي كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا لم يجحدوا ولم يكفروا


[ 208 ]

وفي كتاب المحاسن للبرقي في باب النهي عن القول والفتيا بغير علم عنه، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن عبد الله بن شبرمة قال: ما أذكر حديثا سمعته من جعفر بن محمد إلا كاد أن يتصدع قلبي، قال: قال أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (قال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما كذب أبوه


[ 209 ]

على جده ولا كذب جده على رسول الله) فقال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك وعنه، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر، عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إن الرجل لينتزع آية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض وفي باب المقائيس والرأي عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم ابن سليمان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): سمعت أبي يقول: ما ضرب الرجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر وفي باب التثبت عنه، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا لم يجحدوا ولم يكفروا وفي الكافي في باب النهي عن القول بغير علم عدة من أصحابنا عن أحمد ابن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم


[ 210 ]

إن الرجل لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى، عن يونس بن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن ابن شبرمة قال: ما ذكرته حديثا سمعته من جعفر بن محمد (عليهما السلام) إلا كاد أن يتصدع قلبي، قال حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك وفي كتاب المحاسن في باب التثبت أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن طيار: أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: كف، قال أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب، فأملى عليه: أنه لا ينفعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت فيه ورده إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد عنه عن أبيه عمن حدثه رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت فيه والرد إلى أئمة المسلمين، حتى يعرفوكم فيه الحق ويحملوكم فيه على القصد قال الله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وفي كتاب المحاسن في باب المقائيس والرأي عنه، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن قوما من أصحابنا قد تفقهوا وأصابوا علما ورووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم؟ فقال: لا، وهل هلك من مضى إلا بهذا وأشباهه؟ وفي كتاب بصائر الدرجات تأليف محمد بن الحسن الصفار في فصل فيه أمر الكتب أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير، عن محمد ابن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إنما هلك من كان قبلكم بالقياس وإن الله تبارك


[ 211 ]

تعالى لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له جميع دينه في حلاله وحرامه فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغنون به وبأهل بيته بعد موته وأ نه مخفي عند أهل بيته حتى أن فيه لأرش الخدش الكف وفي الكافي في باب الرد إلى الكتاب والسنة وأ نه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما تحتاج إليه الناس إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله تبارك تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وجعل لكل شيء حدا، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا وعن سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما خلق الله عز وجل حلالا ولا حراما إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة وفي باب البدع والرأي والمقائيس عن حريز، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام، فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره وعن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة . وعن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال . وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال، قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أو يقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) . وفي باب البدع والرأي والمقائيس عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال، قلت: أصلحك الله؟ أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يكتفون به في عهده؟


[ 212 ]

فقال: نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة. فقلت: فضاع من ذلك شيء؟ فقال: لا هو عند أهله وعن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة! إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده، إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما، فيها علم الحلال والحرام، إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا، إن دين الله لا يصاب بالقياس وفي كتاب من لا يحضره الفقيه في باب العتق وأحكامه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه والحديث مذكور في كتاب الكافي وفي تهذيب الحديث والظاهر أن المراد بيان الكل لوصيه (عليه السلام) وبيان البعض للرعية، ويمكن حمله على كل ما تحتاج إليه الأمة في عصره (عليه السلام). وفي الكافي في باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه علي بن محمد وغيره عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أيها الناس! اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه وفي الكافي في باب سؤال العالم وتذاكره علي بن محمد عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قال: إن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة


[ 213 ]

علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمران ابن أعين في شيء سأله: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون وفي كتاب المحاسن في باب المقائيس والرأي عنه عن أبيه، عن درست ابن أبي منصور، عن محمد بن حكيم قال أبو الحسن (عليه السلام): إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها أنا ووضع يده على فيه فقلت: ولم ذاك؟ قال: لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى الناس بما اكتفوا به على عهده وما يحتاجون إليه من بعده إلى يوم القيامة عنه عن علي بن إسماعيل الميثمي عن محمد بن حكيم عن أبي الحسن (عليه السلام) قال أتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يستغنون به في عهده وما يكتفون به من بعده كتاب الله وسنة نبيه وفي كتاب المجالس للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه (قدس سره): حدثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه الله) قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا أبو محمد القاسم بن العلاء، عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا (عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسم (عليه السلام) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن دينهم! إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، وبين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما تحتاج إليه الناس كملا، فقال عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب


[ 214 ]

من شيء) وأنزل في حجة الوداع وهي في آخر عمره (صلى الله عليه وآله): ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض (عليه السلام) حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيله وتركهم على قصد الحق، وأقام لهم عليا (عليه السلام) علما وإماما وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر. فهل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم، إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن تبلغه الناس بعقولهم أو أن ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكرها ان الإمام أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو إلى دين ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يؤخذ منه بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منزلة ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعدا، قاتلهم الله أنى يؤفكون لقد راموا صعبا وقالوا إفكا وضلوا ضلالا بعيدا ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون﴾ إن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب ولا يحير


[ 215 ]

فيه عن الصواب، وهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن الخطأ والزلل والعثار، خصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم والحديث الشريف بطوله مذكور في كتاب المجالس نقلنا طرفا منه


[ 216 ]

وفي كتاب المحاسن في باب إنزال الله في القرآن تبيانا لكل شيء عنه، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن حدثه، عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال أقول: من المعلوم عند أولي الألباب أن هذه الأحاديث الشريفة ناطقة بأن كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة ورد فيها خطاب قطعي عن الله تعالى، فلم يبق شيء على مجرد إباحته الأصلية، فالتمسك بالبراءة الأصلية لا يجوز في نفي أحكام الله تعالى. ثم أقول: صرحوا (عليهم السلام) بوجوب التوقف فيما لم يقطع بحكم الله فيه ولا بحكم ورد عنهم (عليهم السلام) فلو جاز التمسك في نفي أحكام الله تعالى بالبراءة الأصلية لما أوجبوا التوقف والحديث النبوي المتواتر بين الفريقين المتضمن لحصر الأمور في ثلاثة


[ 217 ]

أيضا ناطق بوجوب التوقف فيما لم يكن حكمه بينا واضحا، فلم يبق مجال للتمسك بالأصل ولا بالاستصحاب، إذ من شرط التمسك بهما عدم بلوغ خطاب مخرج عنهما، لا خطاب خاص ولا عام. وفي أوائل الكافي في تفسير (إنا أنزلناه في ليلة القدر) روايات كثيرة نافعة فيما نحن بصدده، من جملتها: عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل: والله كذلك لم يمت محمد إلا وله بعيث نذير، قال: فإن قلت لا فقد ضيع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من في أصلاب الرجال من أمته. قال السائل وما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى إن وجدوا له مفسرا قال


[ 218 ]

وما فسره رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: بلى قد فسره لرجل واحد، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال السائل: يا أبا جعفر كان هذا أمر خاص لا يحتمله العامة؟ قال: أبى الله أن يعبد إلا سرا حتى يأتي إبان أجله الذي يظهر فيه دينه . وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي في احتجاج النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الغدير على تفسير كتاب الله والداعي إليه ألا إن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيهما وأعرفهما، فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عز وجل في علي أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده. يا معاشر الناس! تدبروا القرآن وافهموا آياته وانظروا في محكماته ولا تتبعوا متشابهه، فوالله! لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده . ومن كلامه (عليه السلام) المنقول في نهج البلاغة: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال سبحانه لقوم أحب إرشادهم: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول﴾ فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة . وفي كتاب المحاسن في باب المقائيس والرأي عنه، عن أبيه، عن الحسن ابن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن محمد بن الطيار قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): تخاصم الناس؟ قلت: نعم، قال: ولا يسألونك عن شيء إلا قلت فيه شيئا؟ قلت: نعم، قال: فأين باب الرد إذا؟ . أقول: في هذه الرواية وأشباهها تصريح بتعذر المجتهد المطلق


[ 219 ]

وفي كتاب الكافي في كتاب الحجة في باب الاضطرار إلى الحجة محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قلت للناس: أليس تزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الحجة من الله تعالى على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم فما قال فيه من شيء كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال إنه يعرف ذلك كله إلا عليا (عليه السلام) وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال: أنا أدري، فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن ما قال في القرآن فهو حق، فقال: رحمك الله وفي أواسط كتاب الروضة من الكافي: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد ابن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن زيد الشحام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا قتادة إنك فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر (عليه السلام): بلغني أنك تفسر القرآن؟ قال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت، وإن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة! إنما يعرف القرآن من خوطب به والحديث الشريف طويل نقلنا منه موضع الحاجة


[ 220 ]

وفي كتاب المجالس لابن بابويه مسندا إلى ابن عباس قال: صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فخطب واجتمع الناس إليه فقال: يا معاشر المؤمنين! إن الله عز وجل أوحى إلي أني مقبوض وأن ابن عمي عليا مقتول، فقال: وإني أيها الناس أخبركم خبرا إن عملتم به سلمتم وإن تركتموه هلكتم، إن ابن عمي عليا هو أخي ووزيري وهو خليفتي وهو المبلغ عني وهو إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، إن استرشدتموه أرشدكم وإن اتبعتموه نجوتم وإن خالفتموه ظللتم وإن أطعتموه فالله أطعتم وإن عصيتموه فالله عصيتم، إن الله عز وجل أنزل علي القرآن، وهو الذي من خالفه ضل ومن ابتغى علمه عند غير علي فقد هلك، أيها الناس! اسمعوا قولي واعرفوا حق نصيحتي ولا تخلفوني في أهل بيتي إلا بالذي أمرتم به، من طلب الهدى في غيرهم فقد كذبني والحديث الشريف بطوله مذكور في المجالس نقلنا منه موضع الحاجة. ومن كلامه (عليه السلام) في بعض خطبه المنقولة في نهج البلاغة: ثم اختار الله سبحانه وتعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله) لقاءه ورضي له ما عنده فأكرمه عن دار الدنيا ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريما (صلى الله عليه وآله) وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح ولا علم قائم، كتاب ربكم مبينا حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه وعبره وأمثاله ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسرا جمله مبينا غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه وموسع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه معلوم في السنة نسخه وواجب في السنة أخذه مرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله ومبائن بين محارمه، من كثير أوعد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه وموسع في أقصاه وفي الكافي روايات مذكورة في باب تفسير قوله تعالى: (وما يعلم تأويله


[ 221 ]

إلا الله والراسخون في العلم) . منها: عن أبي عبد الله (عليه السلام) الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده (عليهم السلام) . وعن أحدهما (عليهما السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل الراسخين في العلم قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه . وروايات مذكورة في باب تفسير قوله تعالى: ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ وفي الكافي عن أبي الصباح قال: والله لقد قال لي جعفر بن محمد (عليه السلام): إن الله علم نبيه التنزيل والتأويل، فعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) قال: وعلمنا والله، ثم قال: ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة وفي كتاب المحاسن في أوائل كتاب العلل عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التفسير، فأجابني (عليه السلام)، ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت له: جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال: يا جابر، إن للقرآن بطنا وللبطن بطنا وله ظهر وللظهر ظهر، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل متصرف على وجوه . وفي كتاب بصائر الدرجات في باب أن الأئمة (عليهم السلام) أعطوا تفسير القرآن والتأويل الفضل عن موسى بن القاسم، عن ابن أبي عمير أو غيره، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تفسير القرآن على سبعة أوجه: منه ما كان، ومنه ما لم يكن بعد ذلك تعرفه الأئمة (عليهم السلام)ـ


[ 222 ]

وفي كتاب بصائر الدرجات في باب ان الأئمة (عليهم السلام) أوتوا العلم وأثبت في صدورهم أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن محمد بن يحيى، عن عبد الرحمن، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن هذا العلم انتهى إلي في القرآن ثم جمع أصابعه، ثم قال: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وفي الكافي في باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة (عليهم السلام) وانهم يعلمون علمه كله قلت لأبي جعفر (عليه السلام): (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) قال: إيانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا وفي الكافي في باب أن الأئمة (عليهم السلام) ورثوا علم النبي وجميع علم الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم نحن المخصوصون في كتاب الله، ونحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء وفي كتاب بصائر الدرجات في باب أن الأئمة (عليهم السلام) أعطوا تفسير القرآن محمد بن الحسين عن محمد بن مسلم، عن ابن أذينة، عن أبان، عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كنت إذا سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجابني وإن ذهبت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة إلا أقرأنيها وأملاها علي وكتبتها بيدي، وعلمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها وكيف نزلت وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة، ودعا الله أن يعطيني فهما وحفظا فما نسيت آية من كتاب الله ولا على من أنزلت أحمد بن الحسين عن أبيه عن بكر بن صالح، عن عبد الله بن إبراهيم بن عبد العزيز ابن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر الحميري قال حدثنا يعقوب بن جعفر قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) بمكة، فقال له رجل: إنك لتفسر من كتاب الله ما لم تسمع، فقال: علينا نزل قبل الناس ولنا فسر قبل أن يفسر في الناس، فنحن نعرف حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه وفي أية ليلة نزلت كم من آية وفيمن نزلت وفيما نزلت


[ 223 ]

فنحن حكماء الله في أرضه وشهداؤه على خلقه، وهو قول الله تبارك وتعالى: (ستكتب شهادتهم ويسألون) فالشهادة لنا والمسألة للمشهود عليه، فهذا علم قد أنهيته وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على المهاجرين والأنصار حكاية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أيها الناس! علي بن أبي طالب فيكم بمنزلتي ، فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم، فإن عنده جميع ما علمني الله عز وجل من علمه وحكمه، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه بعده وفي احتجاج الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) على الجماعة المنكرين فضله وفضل أبيه بحضرة معاوية، قال (عليه السلام): أتعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال في حجة الوداع أيها الناس! إني تركت فيكم ما لم تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ثم قال: والمعول علينا في تفسيره وفي الكافي في باب بعد باب الإسلام قبل الإيمان عن محمد بن سالم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أناسا تكلموا في هذا القرآن بغير علم، وذلك إن الله تبارك تعالى يقول: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلمالآية) فالمنسوخات من المتشابهات والمحكمات من الناسخات وفي أول كتاب الروضة من الكافي: محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثني علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن فضال، عن حفص المؤذن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمره بمدارستها النظر فيها وتعاهدها والعمل بها، وكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها. قال: وحدثني الحسن بن محمد عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي، عن


[ 224 ]

القاسم بن الربيع الصحاف، عن إسماعيل بن مخلد السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرجت هذه الرسالة عن أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه. وهذه الرسالة الشريفة طويلة بأجمعها مذكورة في الروضة نحن ننقل منها موضع الحاجة. قال (عليه السلام): أيتها العصابة المرحومة المفلحة! إن الله عز وجل أتم لكم ما أتاكم من الخير، واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء، وجعل للقرآن وتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم، وهم الذين من سألهم وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه وإلى جميع سبل الحق، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم، وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان، لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين، وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله في كثير من الأمر حلالا، فذلك أصل ثمرة أهوائهم، وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل موته، فقالوا: نحن بعد ما قبض الله عزوجل رسوله (صلى الله عليه وآله) يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله عزوجل رسوله (صلى الله عليه وآله) وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسعه! والله إن لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته، هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحدا ممن أسلم مع محمد (صلى الله عليه وآله) أخذ بقوله ورأيه ومقائيسه؟


[ 225 ]

فان قال: نعم فقد كذب على الله وضل ضلالا بعيدا، وان قال: لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه فقد أقر بالحجة على نفسه وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد قال الله عز وجل وقوله الحق: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين﴾ وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد قبض الله محمدا (صلى الله عليه وآله) وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمد (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافا لأمر محمد (صلى الله عليه وآله) فكذلك لم يكن لأحد من بعد محمد (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه انتهى ما أردنا نقله من الرسالة الشريفة. وأقول: يستفاد من هذه الرسالة الشريفة أربعة مطالب: أحدها: أن علم القرآن وانتزاع الأحكام النظرية منه من خواصهم (عليهم السلام). وثانيها: أن حجية الإجماع من تدابير العامة واختراعاتهم. وثالثها: أن بناء الفتاوى على الرأي أي الاجتهاد الظني غير جائز. ورابعها: أن من خالف في فتواه ما أنزل الله فقد ضل ضلالا بعيدا. فاعتبروا يا أولي الألباب


[ 226 ]

ومنها ما في أواخر كتاب الروضة من الكافي أحمد بن محمد، عن سعيد بن المنذر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن أبيه قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) ورواها غيره بغير هذا الإسناد، وذكر أنه خطب بذي قار والخطبة الشريفة بطولها مذكورة في الروضة ونحن ننقل منها موضع الحاجة: ثم إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ومعهم وليسوا معهم، لم يبق عندهم من الحق إلا اسمه ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه. واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا


[ 227 ]

بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على الله ورسوله والتحريف لكتابه ورأيتم كيف هدى الله من هدى فلا يجهلنكم الذين لا يعلمون. إن علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه فعلم بالعلم جهله وبصر به عماه وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات وحي به بعد إذ مات وأثبت عند الله عن ذكره الحسنات ومحى به السيئات وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة، فإنهم خاصة نور يستضاء بهم وأئمة يقتدى بهم، وهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون للدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق، فهم من شأنهم شهداء بالحق ومخبر صادق لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، قد خلت لهم من الله سابقة ومضى فيهم من الله عز وجل حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين، فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية ولا تعقلوه عقل رواية، فإن رواة الكتاب كثير ورعاته قليل، والله المستعان وفي كتاب المحاسن في باب أنزل الله في القرآن تبيانا لكل شيء عنه، عن أبيه، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رسالة: وأما ما سألت من القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة، لأن القرآن ليس على ما ذكرت وكل ما سمعت فمعناه غير ما ذهبت إليه، وإنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ولقوم يتلونه حق تلاوته وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه، فأما غيرهم فما أشد استشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم! ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ” إنه ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون إلا من شاء الله، وإنما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه، وأن يعبدوه وينتهوا في


[ 228 ]

قوله إلى طاعة القوام بكتابه والناطقين عن أمره، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم، ثم قال: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ فأما عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ولا يوجد، وقد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر، إذا لا يجدون من يأتمرون عليه ولا من يبلغونه أمر الله ونهيه، فجعل الله الولاة خواص ليقتدى بهم من لم يخصصهم بذلك، فافهم ذلك إن شاء الله تعالى. وإياك وتلاوة القرآن برأيك! فإن الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الأمور ولا قادرين عليه ولا على تأويله إلا من حده وبابه الذي جعله الله له، فافهم إن شاء الله تعالى واطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله تعالى وفي كتاب المحاسن في باب المقائيس والرأي عنه، عن أبيه، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رسالة إلى أصحاب الرأي والمقائيس: أما بعد، فإن من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقائيس لم ينصف ولم يصب حظه، لأن المدعو إلى ذلك لا يخلو أيضا من الإرتياء والمقائيس، ومتى ما لم يكن بالداعي قوة في دعائه على المدعو لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعو بعد قليل، لأ نا قد رأينا المتعلم الطالب ربما كان فائقا لمعلم ولو بعد حين، ورأينا المعلم الداعي ربما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو وفي ذلك تحير الجاهلون وشك المرتابون وظن الظانون، ولو كان ذلك عند الله جائزا لم يبعث الرسل بما فيه الفصل


[ 229 ]

ولم ينه عن الهزل ولم يعب الجهل، ولكن الناس لما سفهوا الحق وغمطوا النعمة واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله واكتفوا بذلك دون رسله والقوام بأمره وقالوا: لا شيء إلا ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا فولاهم الله ما تولوا وأهملهم وخذلهم حتى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون، ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلا لما بينهم ولا زاجرا عن وصفهم، وإنما استدللنا أن رضا الله غير ذلك ببعثه الرسل بالأمور القيمة الصحيحة والتحذير عن الأمور المشكلة المفسدة، ثم جعلهم أبوابه وصراطه والأدلاء عليه بأمور محجوبة عن الرأي والقياس. فمن طلب ما عند الله بقياس ورأي لم يزدد من الله إلا بعدا ولم يبعث رسولا قط وإن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتى يكون متبوعا مرة وتابعا أخرى، ولم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتى يكون ذلك واضحا عنده كالوحي من الله. وفي ذلك دليل لكل ذي لب وحجى أن أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون، وإنما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل. فاياك أيها المستمع أن تجمع عليك خصلتين: إحداهما القذف بما جاش به صدرك واتباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حد، والأخرى استغناؤك عما فيه حاجتك وتكذيبك لمن إليه مردك، واياك


[ 230 ]

وترك الحق سأمة وملالة وانتجاعك الباطل جهلا وضلالة، لأ نا لم نجد تابعا لهواه جائرا عما ذكرنا قط رشيدا، فانظر في ذلك أقول: غير خاف على اللبيب أن خلاصة ما ذكره (عليه السلام) جارية في مطلق الاستنباطات الظنية سواء كانت من باب القياس والاستحسان والاستصحاب أصالة البراءة من الأحكام الشرعية، أو من باب غيرها من المدارك التي اعتبرتها العامة وجماعة من الخاصة. ومن أعجب العجائب! أن شيخنا الشهيد (رحمه الله) ذكر في كتاب الذكرى: أن أصالة البراءة تفيد القطع واليقين مع أنها لا تفيد الظن على مذهب أهل الحق، وهو أنه لم تخل واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى. فاعتبروا يا أولي الأبصار! وفي الكافي في باب اختلاف الحديث عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم؟


[ 231 ]

قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهم الجواب: إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا فقال: ” أيها الناس! قد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار ثم كذب عليه من بعده. وإنما آتاكم الحديث من أربعة، ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورآه وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم، فقال عز وجل: ﴿وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم﴾ ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذبا، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه ويقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هوأ نهوهم لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ فلو علم أ نه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه. وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه وعلم الناسخ والمنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإن أمر


[ 232 ]

النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومحكم ومتشابه قد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله عز وجل في كتابه: ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (عليه السلام) وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يسمعوا. وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه ببعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني. وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، ودعا الله عز وجل أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه علي وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا، فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي! منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه، أفتتخوف علي النسيان والجهل فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل


[ 233 ]

ومن كلامه (عليه السلام) المذكور في نهج البلاغة وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر فقال (عليه السلام): إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا فقال: ” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس إلى آخر ما مر نقله من الكافي. وفي كتاب المجالس لابن بابويه حدثنا محمد بن المتوكل قال: حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه قال: حدثنا أبي عن الريان بن الصلت، عن علي بن موسى


[ 234 ]

الرضا (عليه السلام) عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي وما عرفني من شبهني بخلقي وما على ديني من استعمل القياس في ديني وفي كتاب المحاسن للبرقي في باب أنزل الله القرآن تبيانا لكل شيء عنه قال: حدثني مرسلا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن القرآن شاهد الحق ومحمد (صلى الله عليه وآله) لذلك مستقر، فاتقوا الله فإن الله قد أوضح لكم أعلام دينكم ومنار هداكم، فلا تأخذوا أمركم بالوهن ولا أديانكم هزوا فتدحض أعمالكم وتخطئوا سبيلكم، ولا تكونوا أطعتم الله ربكم أثبتوا على القرآن الثابت، وكونوا في حزب الله تهتدوا ولا تكونوا في حزب الشيطان فتضلوا، يهلك من هلك ويحيى من حي، وعلى الله البيان، بين لكم فاهتدوا، وبقول العلماء فانتفعوا، والسبيل في ذلك كله إلى الله، فمن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وفي كتاب الكافي في باب الاضطرار إلى الحجة علي بن إبراهيم عن أبيه، عمن ذكره، عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): كلامك من كلام رسول الله أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عندي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت إذا شريك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، قال: فسمعت الوحي عن الله عز وجل يخبرك؟ قال: لا، قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلي فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، قال يونس: فيالها من حسرة! فقلت: جعلت فداك! إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام! يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله، وهذا لا نعقله فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما قلت: فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون. ثم قال لي: اخرج إلى الباب فانظر من ترى


[ 235 ]

من المتكلمين فأدخله، قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين (عليهما السلام) فلما استقر بنا المجلس وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قبل الحج يستقر أياما في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة، قال: فأخرج أبو عبد الله (عليه السلام) رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب فقال: هشام ورب الكعبة! قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له، قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا، قال: فوسع له أبو عبد الله وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، ثم قال: يا حمران كلم الرجل، فكلمه فظهر عليه حمران، ثم قال: يا طاقي كلمه، فكلمه فظهر عليه الأحول، ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه فتعارفا، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) لقيس الماصر: كلمه فكلمه فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي، فقال للشامي: كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم فقال: نعم، فقال لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا، فغضب هشام حتى ارتعد! ثم قال للشامي: يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه، قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال: أقام لهم حجة ودليلا كيلا يتشتتوا أو يختلفوا يتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم، قال: فمن هو؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال هشام: فبعد رسول الله من؟ قال: الكتاب والسنة، قال هشام: فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم، قال: فلم اختلفت أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ قال: فسكت الشامي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للشامي: ما لك لا تتكلم؟ قال الشامي: إن قلت لم نختلف كذبت وإن قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذا الكتاب والسنة إلا أن لي هذه الحجة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): سله تجده مليا، فقال الشامي: يا هذا من أنظر لخلقه أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم فقال الشامي: فهل أقام


[ 236 ]

لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الساعة؟ قال الشامي: في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جد، فقال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عما بدا لك، قال الشامي: قطعت عذري فعلي السؤال. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا شامي، أخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت أسلمت لله الساعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بل آمنت بالله الساعة، إن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون، فقال الشامي: صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأ نك وصي الأوصياء. ثم التفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى حمران فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب، والتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثم التفت إلى الأحول فقال: قياس رواغ تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك أظهر، ثم التفت إلى قيس الماصر فقال: تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول قفازان حاذقان. قال يونس: فظننت والله أنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما. ثم قال يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذ هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلم الناس، فاتق الزلة والشفاعة من ورائها، إن شاء الله تعالى وفي كتاب اختيار الشيخ من رجال الكشي قدس الله سرهما حدثني محمد بن مسعود، قال: حدثني علي بن محمد بن بريد القمي، قال: حدثني محمد بن أحمد بن يحيى، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن هاشم، قال: حدثني محمد بن حماد عن الحسن بن إبراهيم، قال: حدثني يونس بن عبد الرحمن، عن يونس بن يعقوب، عن هشام بن سالم قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له فلما دخل سلم، فأمره أبو عبد الله (عليه السلام) بالجلوس


[ 237 ]

ثم قال له: حاجتك أيها الرجل؟ قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت إليك لأناظرك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بعد كلام طويل : يا أخا أهل الشام إن الله أخذ ضغثا من الحق وضغثا من الباطل فمغثهما ثم أخرجهما إلى الناس، ثم بعث أنبياء يفرقون بينهما ففرقهما الأنبياء والأوصياء، فبعث الله الأنبياء ليفرقوا ذلك، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضل الله ومن يختص، ولو كان الحق على حدة والباطل على حدة كل واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبي ولا وصي، ولكن الله خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة من عباده، فقال الشامي: قد أفلح من جالسك وفي الكافي في باب الضلال علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن هاشم صاحب البريد، قال أبو عبد الله (عليه السلام): أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا وفي باب القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى جميعا، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما وعلى كل واحد منهما جزاء؟ فقال: لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد، قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا. علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن بن الحجاج مثله ورواه رئيس الطائفة في التهذيب بسند آخر وفي باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى (عليهم السلام) ” مسندا عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله تعالى البتة إلى العناد، ومن ادعى سماعا من غير الباب الذي فتحه الله فهو مشرك، وذلك الباب


[ 238 ]

المأمون على سر الله المكنون أقول: قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن المشرك قسمان: أحدهما من قال بشريك له تعالى في العبادة والآخر من قال بشريك له تعالى في الطاعة بأن يقلده فيما يحل وفيما يحرم، والظاهر أن المراد في هذا المقام وفي نظائره الثاني. وفي كتاب المحاسن للبرقي في باب الأهواء عنه عن أبيه (رحمه الله) عن القاسم بن محمد الجوهري، عن حبيب الخثعمي والنضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن حبيب قال: قال لنا أبو عبد الله (عليه السلام): ما أحد أحب الي منكم، إن الناس سلكوا سبلا شتى: منهم من أخذ بهواه، ومنهم من أخذ برأيه، وإنكم أخذتم بأمر له أصل وفي حديث آخر لحبيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الناس أخذوا هكذا وهكذا، فطائفة أخذوا بأهوائهم، وطائفة قالوا بآرائهم، وطائفة قالوا بالرواية، وإن الله تعالى هداكم لحبه وحب من ينفعكم حبه عنده أقول: المراد من الهواء أن يفتي بشيء من غير أن يتمسك بدليل ظني عليه. والمراد من الرأي أن يفتي بشيء متمسكا بدليل ظني. وفي الكافي في باب أصناف الناس علي بن محمد، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي أسامة، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الناس آلوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم على [سبيل] هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره، وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة، ثم هلك من ادعى وخاب من افترى الحسين بن محمد الأشعري عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الناس


[ 239 ]

ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يغدوا الناس على ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء أقول: هذه الأحاديث صريحة في انحصار الناس في ثلاثة بعده (صلى الله عليه وآله) أصحاب العصمة (عليهم السلام) ومن التزم أن يأخذ كل مسألة يجوز الخطأ فيها عادة من العقائد والأعمال منهم (عليهم السلام) ومن لا يكون لا هذا ولا ذاك، وصريحة في أن القسم الثالث مردود، فانظر وتدبر في أن من يتمسك في الاعتقادات بالمقدمات العقلية القطعية بزعمه وفي الأعمال بالخيالات الظنية بزعمه كأصالة البراءة من الأحكام الشرعية، وكاستصحاب الحكم السابق على الحالة الطارئة، وكالعمومات والإطلاقات مع احتمال أن تكون مخصصة أو مقيدة في الواقع أو بغير ذلك من الأدلة المفيدة للظن بزعمه داخل في أي الأقسام الثلاثة؟ ولا تكن من المعاندين، والتكلان على التوفيق. وفي باب ثواب العالم والمتعلم محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم وله الفضل عليه، فتعلموا العلم من حملة العلم وعلموه إخوانكم كما علمكموه العلماء وفي باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين


[ 240 ]

علي بن محمد عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع ومستمع واع محمد بن الحسن وعلي بن محمد عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان، عن درست الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علامة، فقال وما العلامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل


[ 241 ]

وروى محمد بن يعقوب الكليني ورئيس الطائفة (قدس سرهما) بسندهما عن ضمرة بن أبي ضمرة، عن أبيه، عن جده قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمة الهدى . أقول: معنى هذا الحديث: أن اختلاف المتخاصمين عند القاضي إما ناش من الجهل بحكم الله، أو ناش من ذكر أحدهما قضية شخصية وإنكار الآخر إياها، فعلى الأول جواب القاضي أن يأتي بحديث عن أئمة الهدى، وعلى الثاني جوابه طلب الشاهد من المدعي أو طلب اليمين من المنكر. وفي كتاب الشيخ العالم الورع الصدوق أبي عمرو محمد بن عبد العزيز الكشي (رحمه الله) محمد بن مسعود قال حدثني جعفر بن أحمد بن أيوب، قال: حدثني العمركي، قال: حدثني أحمد بن شيبة، عن يحيى بن المثنى، عن علي بن الحسن وزياد، عن حريز قال: دخلت على أبي حنيفة وعنده كتب كادت تحول فيما بيننا وبينه، فقال لي: هذه الكتب كلها في الطلاق قال، قلت: نحن نجمع هذا كله في حرف، قال: ما هو؟ قال، قلت: قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة﴾ فقال لي: وأنت لا تعلم شيئا إلا برواية؟ قلت: أجل، قال لي: ما تقول في مكاتب كانت مكاتبته ألف درهم فأدى تسعمائة وتسعة وتسعين درهما ثم أحدث يعني الزنا فكيف نحده؟ فقلت: عندي بعينها حديث حدثني محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): أن عليا كان يضرب بالسوط وبثلثه وبنصفه وببعضه وبقدر أدائه. فقال لي: مالي لا أسألك عن مسألة لا يكون فيها شيء، فما تقول في جمل أخرج من البحر؟ فقلت: إن شاء [فليكن جملا وإن شاء] فليكن بقرة إن كانت عليه فلوس أكلناه، وإلا فلا واعلم أن انحصار طريق العلم بنظريات الدين في الرواية عنهم (عليهم السلام) وعدم جواز التمسك في العقائد التي يجوز الخطأ فيها عادة بالمقدمات العقلية وفي الأعمال


[ 242 ]

بالاستنباطات الظنية من كتاب الله أو من سنة رسوله أو من الاستصحاب أو من البراءة الأصلية عن الأحكام الشرعية أو من القياس أو من إجماع المجتهدين وأشباهها، كان من شعار متقدمي أصحابنا أصحاب الأئمة (عليهم السلام) حتى صنفوا في ذلك كتبا، ومن الكتب المصنفة في ذلك كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد ذكره النجاشي في ترجمة إسماعيل بن علي بن إسحاق ومن الموضحات لما ذكرناه ما رواه رئيس الطائفة بسنده عن خراش، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت: جعلت فداك! إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون: إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال: ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه قلت: جماعة من متأخري أصحابنا قالوا: هذه الرواية متروكة الظاهر من حيث تضمنها سقوط الاجتهاد بالكلية وأنا أقول: هي محمولة على ظاهرها، ومعناها سقوط الاجتهاد في نفس أحكام الله تعالى بالكلية فكأنه (عليه السلام) قال: إن الجاهل بحكم الله في مسألة الإطباق لا يحتاج إلى أن يجتهد فيها، بل له مندوحة عن ذلك وهي سلوك طريق التوقف والاحتياط كما تواترت به الأخبار عنهم (عليهم السلام) في كل مسألة لم يكن حكم الله فيها بينا واضحا. وفي الكافي في باب سؤال العالم وتذاكره علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقية أقول: هذا الحديث الشريف ونظائره صريحان في أنه يجوز للرعية أن تعتمد على قول إمامه في العقائد أيضا، كمسألة القضاء والقدر. محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز


[ 243 ]

عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمران بن أعين في شيء سأله: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون . وفي كتاب الكافي في باب نص الله عز وجل ورسوله على الأئمة (عليهم السلام) واحدا فواحدا أحاديث صريحة فيما نحن بصدد بيانه، من تلك الجملة قال النبي (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين، والثقلان: كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، فوقعت الحجة بقول النبي (صلى الله عليه وآله) وبالكتاب الذي يقرأه الناس. فلم يزل يلقي فضل أهل بيته بالكلام وبين لهم بالقرآن، قال جل ذكره: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ قال: الكتاب [هو] الذكر، وأهله آل محمد (عليهم السلام) أمر الله عز وجل بسؤالهم ولم يؤمروا بسؤال الجهال، وسمى الله عز وجل القرآن ذكرا، فقال تبارك وتعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ . وقال عز وجل ﴿وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون﴾ وقال عز وجل: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ وقال عز وجل: ﴿ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ فرد الأمر أمر الناس إلى أولي الأمر منهم الذين أمر بطاعتهم وبالرد إليهم . وفي الكافي في باب معرفة الإمام والرد إليه “: عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: أبى الله أن تجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سببا وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علما وجعل لكل علم بابا ناطقا عرفه من عرفه وجهله من جهله ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن . وفي الكافي في باب أن الأئمة (عليهم السلام) هم الهداة عدة من أصحابنا عن أحمد


[ 244 ]

ابن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد وفضالة بن أيوب، عن موسى ابن بكر، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ولكل قوم هاد) فقال كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم . وعن بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر، ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله، ثم الهداة من بعده علي ثم الأوصياء واحد بعد واحد . وفي الكافي روايات مذكورة في تفسير قوله عز وجل: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون﴾ . منها: رواية فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام): الذكر القرآن، ونحن قومه ونحن المسؤولون . ومنها: رواية الوشاء عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال علي بن الحسين (عليه السلام): على الأئمة من الفرض ما ليس على شيعتهم، وعلى شيعتنا ما ليس علينا، أمرهم الله عز وجل أن يسألوا قال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فأمرهم أن يسألونا، وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا . ومنها: رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) كتابا فكان في بعض ما كتبت قال الله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقال الله عزوجل: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ فقد فرضت عليهم المسألة ولم يفرض عليكم الجواب؟ قال، قال الله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه) . وأنا أقول: مضمون هذه الرواية الشريفة متواتر معنى. وما اشتهر في كتب العامة وكتب أصول الخاصة: من أنه لا يجوز تأخير البيان كما هو الواقع عن وقت


[ 245 ]

الحاجة إنما يتجه على مذهب العامة، حيث قالوا بعده (صلى الله عليه وآله) لم تقع فتنة انتهت إلى إخفاء بعض ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) فذكره في كتب أصول الخاصة من باب العجلة وقلة التأمل في أسرار المسألة. ومن المعلوم: أن هذه الرواية الشريفة المتواترة معنى وكل فتوى واردة منهم (عليهم السلام) في باب التقية ناطقة ببطلان تلك القاعدة الأصولية، وكم من قاعدة أصولية أبطلناها بأحاديث متواترة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام). والله ولي التوفيق لا يقال: البيان من باب التقية نوع من البيان، لأ نا نقول أولا: معنى القاعدة بيان


[ 246 ]

ما هو الواقع. وثانيا: أنه قد لم يرد عنهم (عليهم السلام) جواب أصلا. لا يقال: فيلزم الحرج حينئذ على شيعتهم. لأ نا نقول: طريق الاحتياط مسلك واسع والناس ملهمون برعايته عند حيرتهم في كل ما يهتمون به. وفي كتاب بصائر الدرجات لعمدة المحدثين محمد بن الحسن الصفار (قدس سره) روايات ناطقة بما نحن بصدده في باب أن الأئمة (عليهم السلام) عندهم أصول العلم ورثوه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يقولون برأيهم من تلك الجملة: يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير عن عمر بن أذينة، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لو حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه (صلى الله عليه وآله) فبينها لنا أقول: إذا كان الاعتماد على الرأي أي الظن مفضيا إلى الخطأ من أصحاب العصمة فيكون في غيرهم بالطريق الأولى مفضيا إلى الخطأ والضلالة. وفي كتاب المجالس لابن بابويه: حدثنا أبي (رحمه الله) قال حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا سلمة بن الخطاب، قال: حدثنا أبو طاهر محمد بن تسنيم الوراق، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم لأصحابه معاشر أصحابي! إن الله جل جلاله يأمركم بولاية علي بن أبي طالب والاقتداء به، فهو وليكم وإمامكم من بعدي، لا تخالفوه فتكفروا ولا تفارقوه فتضلوا، إن الله جل جلاله جعل عليا علما بين الإيمان والنفاق، فمن أحبه كان مؤمنا ومن أبغضه كان منافقا، إن الله جل جلاله جعل عليا وصيي ومنار الهدى بعدي، فهو موضع سري وعيبة علمي وخليفتي في أهلي، إلى الله أشكو ظالميه من أمتي وصلى الله على رسوله محمد وآله الطاهرين وسلم كثيرا. حدثنا أبي، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثنا علي بن أسباط، قال: حدثنا علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: يا أبا بصير نحن شجرة العلم ونحن أهل بيت


[ 247 ]

النبي وفي دارنا مهبط جبرئيل ونحن خزان علم الله ونحن معادن وحي الله، من تبعنا نجا ومن تخلف عنا هلك حقا على الله عز وجل ومن خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) المنقولة في كتاب نهج البلاغة: وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده ويعرف غوره، ونجده داع دعا وراع رعى، فاستجيبوا للداعي واتبعوا الراعي، قد خاضوا بحار الفتن وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرز المؤمنون ونطق الضالون المكذبون، نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير بابها سمي سارقا أقول: المراد من الداعي سيد المرسلين، ومن الراعي أمير المؤمنين صلى الله عليهما وعلى أولادهما الطاهرين. وأقول: من المعلوم أنه لم يرد منهم (عليهم السلام) إذن في التمسك في نفس أحكامه تعالى أو نفيها بالاستصحاب أو بالبراءة أو بظواهر كتاب الله أو بظواهر سنة نبيه (صلى الله عليه وآله) من غير معرفة ناسخهما من منسوخهما وعامهما من خاصهما ومقيدهما من مطلقهما ومأولهما من غير مأولهما من جهتهم (عليهم السلام) فمن تمسك بتلك الأمور كان سارقا. وهذا بعد التنزل عن الأحاديث الناطقة بأنهم منعوا عن ذلك. وفي الكافي في باب تذاكر الإخوان محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم وإن تركتموها ظللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم وفي الكافي في باب دعائم الإسلام علي بن إبراهيم، عن أبيه وعبد الله بن الصلت جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء، ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله عز وجل يقول: (من


[ 248 ]

يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان . والحديث الشريف طويل نقلنا منه موضع الحاجة. وفي كتاب المحاسن للبرقي في باب الشرائع عنه عن أبي طالب، عن عبد الله بن الصلت، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، والولاية أفضلهن، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. قال: ثم قال: ذروة الإسلام وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله تعالى يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثواب ولا كان من أهل الإيمان. ثم قال: أولئك المحسن منهم يدخله الله في الجنة بفضل رحمته . وفي الكافي في باب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) أحاديث ناطقة بما نحن بصدده: منها: قال أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرقا وغربا فلا تجدان علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت . ما قال الله للحكم: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ فليذهب الحكم يمينا وشمالا، فو الله لا يؤخذ العلم إلا من أهل البيت نزل عليهم جبرائيل (عليه السلام) وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على المهاجرين والأنصار حكاية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أيها الناس علي بن أبي طالب فيكم بمنزلتي


[ 249 ]

فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم، فإن عنده جميع ما علمني الله عزوجل من علمه وحكمه، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه بعده الوجه الحادي عشر أن نقول: ذهبت العامة إلى العمل بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بعدمها، وإلى دوام العمل بظنون أربعة من مجتهديهم دون غيرهم من المجتهدين الأقدمين. والعلامة ومن وافقه من أصحابنا وافقوا العامة في المقام الأول وخالفوهم في المقام الثاني، فقالوا قول الميت أي ظنه كالميت ويلزم الفريقين أحد الأمرين: إما القول بأن مظنونات المجتهدين ليست من شريعة نبينا (صلى الله عليه وآله) وإما القول بأن حلالها وحرامها لا يستمران إلى يوم القيامة، وقد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه (صلى الله عليه وآله) حرام إلى يوم القيامة بل هذا من أجلى ضروريات الدين الوجه الثاني عشر إنهم صرحوا بأن محل الاجتهاد مسألة لم تكن من ضروريات الدين ولا من


[ 250 ]

ضروريات المذهب ولم تكن لله دلالة قطعية عليها. ونحن قد أثبتنا أن لله عز وجل في كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة حكما معينا ودليلا قطعيا عليه، وأن كل الأحكام والدلالات القطعية عليها أي النصوص الصريحة فيها محفوظ عند معادن وحي الله تعالى وخزان علمه والناس مأمورون بطلبها من عندهم (عليهم السلام)ـ


[ 251 ]

فائدة الإمام ثقة الإسلام (قدس سره) في كتاب الكافي ذكر بابا يشتمل على أنهم (عليهم السلام) أمرونا بالتمسك بالأحاديث المسطورة عنهم في الكتب في زمن الغيبة الكبرى ثم ذكر بابين: في أحدهما أبطل التقليد وفي الباب الآخر أبطل الرأي أي الاجتهاد. والعلامة الحلي ومن وافقه غفلوا عن الأبواب الثلاثة وعن أشباهها


[ 252 ]

فائدة أقول: يتلخص من كلام أهل التحقيق من الأصوليين: أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى أقسام أربعة ضروريات الدين، وضروريات المذهب، ونظري نصب الله تعالى عليه دلالة قطعية، ونظري نصب الله تعالى عليه دلالة ظنية لا قطعية، وأن موضع الاجتهاد وكذلك موضع التقليد إنما هو القسم الرابع. وتحقيق المقام: أن ضروري الدين على ما سمعناه من محققي مشائخنا قدس الله سرهم هو الذي علماء ملتنا وعلماء غير ملتنا يعرفون أنه مما جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله) كالصلاة والزكاة والصوم والحج. وعلى قياس ذلك ضروري المذهب هو الذي علماء مذهبنا وعلماء غير مذهبنا يعرفون أنه مما قال به صاحب مذهبنا كبطلان العول والتعصيب. وقد ظهر عليك وانكشف لديك مما ذكرناه معنى نظيريهما، وقد مر أن طائفة من الأصوليين يقولون: إن موضع الاجتهاد مسألة ليس لله فيها حكم، وطائفة يقولون ليس لله فيها دلالة أصلا على حكمه. فائدة ضروريات الدين ليست ضرورية بالمعنى المصطلح عليه عند المنطقيين وذلك لوجهين: أحدهما: أنهم حصروا الضروريات في الست وليس علمنا بوجوب الصلاة مثلا داخلا في الست. وثانيهما: أن علمنا بها إنما يحصل بالنص، ومن هنا انكشف لديك أن ضروري الدين وضروري المذهب ونظيريهما من اصطلاحات الأصوليين. وبالجملة، معنى ضروري الدين ما يكون دليله واضحا عند علماء الإسلام بحيث لا يصلح لاختلافهم فيه بعد تصوره. ومعنى ضروري المذهب ما يكون دليله واضحا عند علماء المذهب بحيث لا يصلح الاختلاف فيه


[ 253 ]

فائدة شريفة في كثير من المواضع نافعة قد كان كثير من المسائل في الصدر الأول من ضروريات الدين ثم صار من نظرياته في الطبقات اللاحقة بسبب التلبيسات التي وقعت والتدليسات التي صدرت، ومن هذا الباب خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومما يوضح هذا المقام ما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من انقسام الناس بعده (صلى الله عليه وآله) في الصدر الأول إلى مؤمن ومرتد ومن انقسامهم في الصدر اللاحق إلى المؤمن والضال والناصبي من غير ارتداد، كما قال الله عزوجل: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)ـ


[ 254 ]

الفصل الثاني في بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين. من المسائل الشرعية أصلية كانت أو فرعية في السماع عن الصادقين (عليهم السلام) ولي فيه أدلة: الأول: عدم ظهور دلالة قطعية واذن في جواز التمسك في نظريات الدين بغير كلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) ولا ريب في جواز التمسك بكلامهم (عليهم السلام) فتعين ذلك. والأدلة المذكورة في كتب العامة وكتب متأخري الخاصة على جواز التمسك بغير كلامهم مدخولة أجوبتها واضحة مما مهدناه ونقلناه لا نطول الكلام بذكرها ودفعها. الدليل الثاني: الحديث المتواتر بين الفريقين: ” إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ومعنى الحديث كما يستفاد من الأخبار المتواترة أنه يجب التمسك بكلامهم، إذ حينئذ يتحقق التمسك بمجموع الأمرين. والسر فيه: أنه لا سبيل


[ 255 ]

إلى فهم مراد الله إلا من جهتهم (عليهم السلام) لأنهم عارفون بناسخه ومنسوخه والباقي منه على الإطلاق والمؤول وغير ذلك، دون غيرهم، خصهم الله والنبي (صلى الله عليه وآله) بذلك. والدليل الثالث: أن كل طريق غير التمسك بكلامهم (عليهم السلام) يفضي إلى اختلاف الفتاوى والكذب على الله تعالى، وكل ما هو كذلك مردود غير مقبول عند الله، لما تقدم من الروايات المتواترة معنى. والدليل الرابع: أن كل مسلك غير ذلك المسلك إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها. والدليل الخامس: أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن مراده تعالى من قوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ ومن نظائرها من الآيات الشريفة أنه يجب سؤالهم (عليهم السلام) في كل ما لم يعلم. والدليل السادس: أن العقل والنقل قاضيان بأن المصلحة في بعث الرسل وإنزال الكتب رفع الاختلاف والخصومات بين العباد ليتم نظام معاشهم ومعادهم، فإذا كان من القواعد الشرعية جواز العمل بالظن المتعلق بنفس أحكامه أو بنفيها لفاتت المصلحة، لحصول الاختلاف والخصومات كما هو المشاهد


[ 256 ]

والدليل السابع: التوقيع المنقول بطرق واضحة كما سيجيء بيانه المشتمل على قول إمام الزمان ناموس العصر والأوان سلام الله عليه وأما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم ونظائره من الروايات. والدليل الثامن: قولهم (عليهم السلام): هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة والدليل التاسع: مبني على دقيقة شريفة تفطنت لها بتوفيق الله تعالى، وهي أن العلوم النظرية قسمان: قسم ينتهي إلى مادة هي قريبة من الإحساس، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار. والسبب فيه: أن الخطأ في الفكر إما من جهة الصورة وإما من جهة المادة، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء، لأن معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة، ولأنهم عارفون بالقواعد المنطقية وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة. والخطأ من جهة المادة لا يتصور في هذه العلوم لقرب مادة المواد فيها إلى الاحساس. وقسم ينتهي إلى مادة هي بعيدة عن الإحساس، ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم أصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق، كقولهم: ” الماهية لا يتركب من أمرين متساويين وقولهم: ” نقيض المتساويين متساويان ومن ثم وقع الاختلاف والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية وبين علماء الإسلام في أصول الفقه والمسائل الفقهية وعلم الكلام وغير ذلك من غير فيصل. والسبب في ذلك ما ذكرناه: من أن القواعد


[ 257 ]

المنطقية إنما هي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادة، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب مواد الأقيسة تقسيم المواد على وجه كلي إلى أقسام، وليست في المنطق قاعدة بها نعلم أن كل مادة مخصوصة داخلة في أي قسم من تلك الأقسام، بل من المعلوم عند أولي الألباب امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك. ومما يوضح ما ذكرناه من جهة النقل الأحاديث المتواترة معنى الناطقة بأن الله تعالى أخذ ضغثا من الحق وضغثا من الباطل فمغثهما ثم أخرجهما إلى الناس، ثم بعث أنبياءه يفرقون بينهما ففرقتهما الأنبياء والأوصياء، فبعث الله الأنبياء ليفرقوا ذلك، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضل الله ومن يختص، ولو كان الحق على حدة والباطل على حدة كل واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبي ولا وصي، ولكن الله عزوجل خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة من عباده ومما يوضحه من جهة العقل ما في شرح العضدي للمختصر الحاجبي، حيث قال في مقام ذكر الضروريات القطعية: منها: المشاهدات الباطنية، وهي ما لا يفتقر إلى العقل كالجوع والألم. ومنها: الأوليات، وهي ما يحصل بمجرد العقل كعلمك بوجودك وأن النقيضين يصدق أحدهما. ومنها: المحسوسات، وهي ما يحصل بالحس. ومنها: التجربيات، وهي ما يحصل بالعادة كإسهال المسهل والإسكار. ومنها: المتواترات، وهي ما يحصل بالأخبار تواترا كبغداد ومكة. وحيث قال في مقام ذكر الضروريات الظنية: إنها أنواع: الحدسيات، كما نشاهد نور القمر يزداد وينقص بقربه وبعده من الشمس فنظن أ نه مستفاد منها. والمشهورات، كحسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم، وكالتجربيات الناقصة وكالمحسوسات الناقصة


[ 258 ]

والوهميات: ما يتخيل بمجرد الفطرة بدون نظر العقل أنه من الأوليات، مثل كل موجود متحيز. والمسلمات: ما يتسلمه الناظر من غيره وحيث قال في مقام ذكر أصناف الخطأ في مادة البرهان: الثالث جعل الاعتقاديات والحدسيات والتجربيات الناقصة والظنيات والوهميات مما ليس بقطعي كالقطعي وإجراؤها مجراه، وذلك كثير وحيث قال في مبحث الإجماع: والجواب أن إجماع الفلاسفة على قدم العالم عن نظر عقلي وتعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير، وأما في الشرعيات فالفرق بين القاطع والظني بين لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز انتهى كلامه. فإن قلت: لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في الأصولين وفي الفروع الفقهية. قلت: إنما نشاهد ذلك من ضم مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية الظنية أو القطعية. ومن الموضحات لما ذكرناه من أنه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادة الفكر: أن المشائيين ادعوا البداهة في أن تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين، وعلى هذه المقدمة بنوا إثبات الهيولي. والاشراقيين ادعوا البداهة في أنه ليس إعداما للشخص الأول وفي أن الشخص الأول باق، وإنما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال. ومن الموضحات لما ذكرناه: أنه لو كان المنطق عاصما عن الخطأ من جهة المادة لم يقع بين فحول العلماء العارفين بالمنطق اختلاف، ولم يقع غلط في الحكمة الإلهية وفي الحكمة الطبيعية وفي علم الكلام وعلم أصول الفقه [والفقه (5)] كما لم يقع في علم الحساب وفي علم الهندسة


[ 259 ]

إذا عرفت ما مهدنا من الدقيقة الشريفة، فنقول: إن تمسكنا بكلامهم فقد عصمنا عن الخطأ وإن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب شرعا وعقلا. ألا ترى أن الإمامية استدلت على وجوب عصمة الإمام بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ، وذلك محال لأنه قبيح عقلا. وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه: أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى أصلا سواء كان ظني الدلالة أو ظني المتن أو ظنيهما. والعجب كل العجب! أن جمعا من الأفاضل القائلين بصحة هذا الدليل رأيتهم قائلين بجواز العمل بالدليل الظني ونبهتهم على تنافي لازميها فلم يقبلوا، فقلت في نفسي: إذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر


[ 260 ]

فائدة شريفة نافعة فيها توضيح لما اخترناه من أنه لا عاصم عن الخطأ في النظريات التي مبادؤها بعيدة عن الإحساس إلا التمسك بأصحاب العصمة (عليهم السلام) وهي أن يقال: الاختلافات الواقعة بين الفلاسفة في علومهم والواقعة بين علماء الإسلام في العلوم الشرعية السبب فيها إما أن أحد الخصمين ادعى بداهة مقدمة هي مادة المواد في بابها وبنى عليها فكره، والخصم الآخر ادعى بداهة نقيضها واستدل على صحة نقيضها وبنى عليه فكره أو منع صحتها. وإما أن أحد الخصمين فهم من كلام خصمه غير مراده ولم يخطر بباله مراده فاعترض عليه، فلو خطر بباله احتمال مراده لرجع عن ذلك. وبالجملة سبب الاختلاف: إما إجراء الظن مجرى القطع، أو الذهول والغفلة عن بعض الاحتمالات، أو التردد والحيرة في بعض المقدمات. ولا عاصم عن الكل إلا التمسك بأصحاب العصمة (عليهم السلام) والمنطق بمعزل عن أن ينتفع به في هذه المواضع وإنما الانتفاع به في صورة الأفكار فقط


[ 261 ]

الفصل الثالث في إثبات تعذر المجتهد المطلق أقول: بعد ما أحطت خبرا بالآيات والروايات المتقدمة لم يبق مجال للمجتهد المطلق، ونزيدك بيانا. فنقول: في كثير من المواقع لا يجري التمسك بالبراءة الأصلية ولا بالاستصحاب، ولا تفي بها عمومات الكتاب ولا عمومات السنة، ولا إجماع هناك. ومن أمثلة ذلك: دية عين الدابة، كما مر من أن بعد العلم باشتغال الذمة والحيرة في القدر المبرء للذمة لا تجري البراءة الأصلية وغيرها. فإن قلت: كيف يزعم عاقل عدم تحقق المجتهد المطلق مع كون الكتب الفقهية للخاصة والعامة مشحونة بقول الفقهاء: ” فيه تردد وما أشبهه من العبارات؟ قلت: زعمهم ذلك مبني على مقدمات تقدمت، وهي: أن الله تعالى نصب دلالات ظنية على المسائل الاجتهادية لا القطعية، وأ نه ليس شيء من الدلالات المنصوبة من قبله تعالى مخفيا عند أحد بحيث يتعذر تحصيلها بالتتبع، وأن سبب تردد الفقيه في بعض المسائل تعارض الدلالات المنصوبة من قبله تعالى في نظره، وأن حكم الله في حقه وحق مقلديه ما دام كذلك التخيير والعجب كل العجب من


[ 262 ]

جمع من متأخري أصحابنا حيث قالوا بهذه المقدمات، مع أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ببطلانها، فإنها صريحة في أن له تعالى في كل واقعة خطابا صريحا قطعيا خاليا عن المعارض، وفي أن كثيرا منها مخفي عندهم (عليهم السلام) وفي أنه يجب التوقف في كل واقعة لم نعلم حكمها. وممن تفطن بتعذر المجتهد المطلق الآمدي من الشافعية، وصدر الشريعة من الحنفية مع كثرة طرق الاستنباطات الظنية عندهم فالعجب كل العجب! من إمامي يزعم عدم تعذره مع قلة طرق الاستنباطات الظنية عنده


[ 263 ]

الفصل الرابع في إبطال القسمة المذكورة وقد تقدمت الوجوه الدالة عليه، ونزيدك بيانا، فنقول: يجوز لفاقد الملكة المعتبرة في المجتهد أن يتمسك في مسألة مختلف فيها بنص صحيح صريح خال عن المعارض لم يبلغ صاحب الملكة أو بلغ ولم يطلع على صحته، ولا يجوز له أن يتركه ويعمل بظن صاحب الملكة المبني على البراءة الأصلية أو استصحاب أو عموم أو إطلاق


[ 264 ]

الفصل الخامس في بيان أن في كثير من المواضع يحصل الظن على مذهب العامة دون الخاصة أقول: الوجه في ذلك أنهم يدعون أن كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) أظهره عند أصحابه وما خص أحدا بتعليمه وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة انتهت إلى إخفاء بعضه، فعدم اطلاع صاحب الملكة المعتبرة في الاجتهاد وبعد التتبع على دليل مخرج عن البراءة الأصلية وعلى نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل لآية أو سنة يوجب ظنه بعدم وجودها في الواقع، ولذلك انعقد اجماعهم على أن عدم ظهور المدرك لحكم شرعي مدرك شرعي لعدمه، وهذه المقدمات باطلة على مذهبنا


[ 265 ]

الفصل السادس في سد الأبواب التي فتحتها العامة للاستنباطات الظنية الاستحسانية بوجوه تفصيلية فإن الوجوه الإجمالية قد تقدمت في الروايات المتقدمة وغيرها. فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: أما التمسك بالإجماع بالمعنى الذي اعتبرته العامة وهو اتفاق مجتهدي عصر على رأي في مسألة وهو باطل من وجوه: الأول: أنه لا إذن لنا في الشريعة بجواز التمسك به ولا دلالة عقلية قطعية على ذلك، والأدلة المذكورة في كتب العامة مدخولة، وذلك أنه اعترف علماء العامة بأن عمدة الأدلة على حجية الإجماع أنه وقع اتفاق الصحابة والتابعين اتفاقا قطعيا على ذلك وعلى تقدمه على القاطع، وبأن سائر الأدلة المذكورة في إثبات حجية الإجماع مبني على الظواهر وجواز العمل بالظواهر مبني على الإجماع، ففيه دور. والجواب عن عمدة أدلتهم واضح ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي (وهو أحسن كتبهم الأصولية وقد قرأته في أوائل سني في دار العلم شيراز صانها الله عن الإعواز على أعظم العلماء المحققين وحيد عصره وفريد دهره السيد السند والعلامة الأوحد سند العلماء المحققين وقدوة الأتقياء المقدسين الشاه تقي الدين محمد النسابة قدس الله سره في مدة أربع سنين قراءة بحث وتحقيق ونظر


[ 266 ]

وتدقيق): أنهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع فدل على أنه حجة، فان العادة تحكم بأن هذا العدد الكثير من العلماء المحققين لا يجمعون على القطع في شرعي بمجرد تواطؤ أو ظن بل لا يكون قطعهم إلا عن قاطع فوجب الحكم بوجود نص قاطع بلغهم في ذلك، فيكون مقتضاه وهو خطأ المخالف له حقا، وهو يقتضي حقية ما عليه الإجماع. وأورد عليه نقضا: إجماع الفلاسفة على قدم العالم، وإجماع اليهود على أن لا نبي بعد موسى، وإجماع النصارى على أن عيسى (عليه السلام) قد قتل. والجواب: أن إجماع الفلاسفة عن نظر عقل وتعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير، وأما في الشرعيات فالفرق بين القاطع والظني بين لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز، وإجماع اليهود والنصارى عن الاتباع لآحاد الأوائل لعدم تحقيقهم، والعادة لا تحيله بخلاف ما ذكرناه. وبالجملة، إنما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرناه من القيود وانتفاؤه ظاهر. لا يقال: على أصل الدليل انكم إذا قلتم: أجمعوا على تخطئة المخالف فيكون حجة، فقد أثبتم الإجماع بالإجماع، وإن قلتم: الإجماع دل على نص قاطع في تخطئة المخالف فقد أثبتم الإجماع بنص يتوقف على الإجماع، ولا يخفى ما فيه من المصادرة على المطلوب. لأ نا نقول: المدعى كون الإجماع حجة والذي ثبت به ذلك هو وجود نص قاطع دل عليه، ووجود صورة من الإجماع يمتنع عادة وجودها بدون ذلك سواء قلنا الإجماع حجة أم لا، وثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها العادية على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة، فما جعلنا وجوده دليلا على حجية الإجماع لا يتوقف على حجيته، لا وجوده ولا دلالته، فاندفع الدور. وأ نهم أجمعوا على أنه يقدم على القاطع، وأجمعوا على أن غير القاطع لا يقدم على القاطع بل القاطع، هو المقدم على غيره فلو كان غير قاطع لزم تعارض


[ 267 ]

الإجماعين، وإنه محال عادة انتهى كلامه. ثم بعد هذه المقالة تكلم على سائر الأدلة بقوله: التمسك بالظواهر إنما يثبت بالإجماع، ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن انتهى كلامه. أقول: بعد أن نطق كثير من الآيات الشريفة بالمنع عن العمل بالظن في نفس الأحكام الإلهية لو ظهر نص من النبي (صلى الله عليه وآله) مخصص لتلك الآيات بالأصول المتواتر إلينا بل إلى انقراض أهل الدنيا لتوفر الدواعي على أخذ مثل ذلك وعلى ضبطه ونشره، ولم يظهر باتفاق المتخاصمين، فعلم انتفاؤه في الواقع. أ نه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بعدم جواز التمسك به وبأنه من معظم تدابير العامة، وقد تقدم طرف من تلك الروايات. الوجه الثالث: أنه أمر مخفي غير منضبط، ومثله لا يصلح أن يكون مناط أحكامه تعالى، كما اعترفت به العامة في علة القياس. وأما الإجماع بمعنى اتفاق اثنين فصاعدا على حكم بشرط أن يعلم دخول المعصوم في جملتهم علما إجماليا فهو من اصطلاح جمع من متأخري أصحابنا، وقد اعترف المحقق الحلي وغيره من المحققين بأنه من الفروض الغير الثابتة وأنا أقول: على تقدير تسليم ثبوته يرجع إلى خبر ينسب إلى المعصوم إجمالا، فترجيحه على الأخبار المنسوبة إليه تفصيلا كما جرت به عادة المتأخرين من أصحابنا غير معقول، وكأ نهم زعموا أن انتساب الخبر إليه في ضمن الإجماع قطعي ولا في ضمنه ظني فلذلك رجحوه، وزعمهم هذا غير مسلم


[ 268 ]

واعلم أن جمعا من أصحابنا أطلقوا لفظ الإجماع على معنيين آخرين: الأول: اتفاق جمع من قدمائنا الأخباريين على الإفتاء برواية وترك الإفتاء برواية واردة بخلافها. والإجماع بهذا المعنى معتبر عندي، لأنه قرينة على ورود ما عملوا به من باب بيان الحق لا من باب التقية. وقد وقع التصريح بهذا المعنى وبكونه معتبرا في مقبولة عمر بن حنظلة الآتية المشتملة على فوائد كثيرة، لكن الاعتماد حينئذ على الخبر المحفوف بقبولهم لا على اتفاق ظنونهم كما في اصطلاح العامة. الثاني: افتاء جمع من الأخباريين كالصدوقين ومحمد بن يعقوب الكليني، بل الشيخ الطوسي أيضا فإنه منهم عند التحقيق وإن زعم العلامة أنه ليس منهم بحكم لم يظهر فيه نص عندنا ولا خلاف يعادله. وهذا أيضا معتبر عندي، لأن فيه دلالة قطعية عادية على وصول نص إليهم يقطع بذلك اللبيب المطلع على أحوالهم


[ 269 ]

وأما القياس فقد قال به ابن الجنيد من أصحابنا، ثم رجع عنه على ما قيل وأنا أقول: لا يجوز التمسك به، لأدلة: الأول: عدم ظهور دلالة قطعية على جواز التمسك به في أحكامه تعالى. الدليل الثاني: عدم انضباطه. الدليل الثالث: أنه قل ما يخلو عن أنواع كثيرة من الاعتراضات المذكورة في بحث القياس. الدليل الرابع: الوجوه المذكورة سابقا لإبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى ونفيها. الدليل الخامس: ان بطلانه صار من ضروريات مذهبنا، لتواتر الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بذلك. وأما استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله من غير سؤال أهل الذكر (عليهم السلام) عن حالها: من كونها منسوخة أم لا، مقيدة أم لا، مأولة أم لا. فقد جوزه جمع من متأخري أصحابنا وعملوا به في كتبهم الفقهية، مثل


[ 270 ]

التمسك بعموم قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾ في إثبات صحة العقود المختلف فيها. وهو أيضا غير جائز، وذلك لوجوه: من جملتها: عدم ظهور دلالة قطعية على ذلك. ومن جملتها: ترتب المفاسد على فتح هذا الباب، ألا ترى أن علماء العامة قالوا في قوله تعالى: ﴿وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ أن المراد السلاطين ومن جملتها: أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بعدم جوازه معللا بأنه إنما يعرف القرآن من خوطب به وبأن القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية وبأنه إنما نزل على قدر عقول أهل الذكر (عليهم السلام) وبأن العلم بناسخه ومنسوخه والباقي على ظاهره وغير الباقي على ظاهره ليس إلا عندنا أهل البيت (عليهم السلام) وقد تقدم طرف من تلك الأخبار فيه الكفاية إن شاء الله تعالى


[ 271 ]

ومن جملتها أن ظن بقائها على ظاهرها إنما يحصل للعامة دون الخاصة، وقد مر بيان ذلك في الفصل الخامس وبالجملة، عند المحققين من الأصوليين التفحص عن الناسخ والمنسوخ والتخصيص والتأويل واجب، وطريق التفحص عندنا منحصر في سؤالهم (عليهم السلام) عن حالها. وأما استنباط الأحكام النظرية من السنة النبوية من غير تفحص عن حالها هل هي منسوخة أم لا، مقيدة أم لا، مأولة أم لا؟ بسؤال أهل الذكر (عليهم السلام) عن ذلك. فقد جوزه جمع من متأخري أصحابنا وعملوا به، مثلا تمسكوا بعموم قوله (صلى الله عليه وآله): ” لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وبإطلاق قوله (صلى الله عليه وآله): ” على اليد ما أخذت حتى تؤدي وهو أيضا غير جائز بعين الوجوه المذكورة آنفا في التمسك بظواهر القرآن من غير سؤالهم (عليهم السلام) عن حالها. مع زيادة هنا، وهي: أنه كثر الافتراء عليه (صلى الله عليه وآله) بحيث امتنع التمييز بين ما هو من باب الافتراء وبين ما ليس كذلك، واختلطت السنة المنسوخة بالناسخة بحيث يتعذر التمييز بينهما إلا من جهة أهل الذكر (عليهم السلام)ـ


[ 272 ]

وأما شرع من قبلنا فأقول: لم يحط علمنا بالآيات والسنن الواردة في شرعنا، فكيف يحيط بالآيات والسنن المتعلقة بشرع من قبلنا. وأما التمسك بالملازمات المختلف فيها مثل أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن أضداده الخاصة الوجودية فقد جوزه جمع من متأخري أصحابنا. والأحاديث الناطقة بأن كل طريق يؤدي إلى اختلاف الفتاوى لا يجوز سلوكه جارية فيه. وأما التمسك بالترجيحات الاستحسانية الظنية المسطورة في كتب العامة وكتب جمع من متأخري الخاصة عند تعارض الأدلة الظنية. فقد قال به جمع من متأخري أصحابنا وهو أيضا باطل، لأدلة


[ 273 ]

الدليل الأول: أنه لا إذن بذلك من جهة الشارع ولم تظهر دلالة قطعية عقلية عليه. الدليل الثاني: أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأنه يجب سؤالهم عن كل ما لم يعلم، ووجه الخلاص من الحيرة عند تعارض الأدلة من جملة ما لم نعلم. الدليل الثالث: أنهم (عليهم السلام) عينوا لنا طريقة الخلاص من تلك الحيرة في ضمن قاعدة شريفة آتية، فلا يجوز العدول عنها إلى الوجوه الاستحسانية والأمور الظنية. الدليل الرابع: أنه قد تقرر في فن الآداب أن كل متكلم أعلم بمراده ويجب الرجوع إليه في تعيين قصده، فإذا كان التعارض في كلام الشارع يجب بمقتضى الآداب أيضا الرجوع إلى صاحب الشريعة. ومن العجائب! ما وقع من بعض المتأخرين من أصحابنا حيث زعم أن القاعدة الأصولية المذكورة في كتب العامة القائلة ب‍ أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن ولو بتأويل بعيد أولى من طرح أحدهما جارية في أحاديث أئمتنا (عليهم السلام) وغفل عن أن تلك القاعدة إنما تجري على مذهب العامة، لعدم حديث وارد من باب التقية عندهم، وعن أنها لا تتجه عندنا، لورود كثير من أحاديث أئمتنا (عليهم السلام) من باب التقية، وكم من غفلة وقعت عن متأخري أصحابنا الأصوليين! والسبب فيها ألفة أذهانهم من صغر سنهم بكتب العامة، وسبب الألفة أنه كان المتعارف في المدارس والمساجد وغيرهما تعليم كتبهم، لأن الملوك وأرباب الدول كانوا منهم والناس مع


[ 274 ]

الملوك وأرباب الدول. ولا نظن برئيس الطائفة قدس الله روحه أن التوجيهات التي ذكرها بقصد الجمع بين الأحاديث في كتابي الأخبار مبنية على غاية تلك القاعدة، بل قصده (قدس سره) رفع التناقض عن كلام الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم بطريق العامة مهما أمكن. والسبب في ذلك ما نقله (قدس سره) في أول كتاب تهذيب الأحكام: من أنه رجع بعض الناس عن الحق إلى مذهب العامة لما وجد الاختلاف بين أحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) وبهذا التحقيق اندفع اعتراضات المتأخرين عليه بأن كثيرا من توجيهاته بعيدة، والحمل على التقية أقرب منها


[ 275 ]

وأما تخيير المجتهد عند تعادل الأدلة في نظره فقد قال به جمع من متأخري أصحابنا، وهو باطل، لعدم ظهور دلالة قطعية نقلية أو عقلية عليه، ولصراحة الأخبار المتواترة المأخوذة عن العيون الصافية غير النافذة في وجوب الرجوع إليهم (عليهم السلام) في كل موضع لم نعلم حكمه، وما نحن فيه من هذا القبيل، وبعد أن رجعنا إلى أحاديثهم (عليهم السلام) وجدنا فيها قاعدة شريفة متواترة معنى متعلقة بباب الخبرين المتعارضين مشتملة على بيان وجوه مترتبة من الترجيحات. ومع فقدها تارة رخصوا لنا بقولهم (عليهم السلام): ” بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم


[ 276 ]

وتارة لم يرخصوا بل أوجبوا التوقف. وسيجئ في كلامنا إن شاء الله تعالى تحقيق المقام على أكمل وجه وأتم تفصيل وتحقيق موضع الرخصة وموضع التوقف. وأما التمسك بالبراءة الأصلية في نفي حكم شرعي لأن الأصل في الممكنات العدم سواء ظهرت شبهة مخرجة عنها أو لم تظهر. فقد قال به كل علماء العامة وكل المتأخرين من أصحابنا، حتى قال المحقق الحلي في أصوله: أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب إبقاء الحكم على ما تقتضيه البراءة الأصلية وقد قال أيضا: إذا اختلف الناس على أقوال وكان يدخل بعضها في بعض كما اختلف في حد الخمر، فقال قوم: ثمانون، وآخرون: أربعون أو في دية اليهودي فقيل: كدية المسلم، وقيل: ثمانون، وقيل: على النصف، وقيل: على الثلث هل يكون الأخذ بالأول حجة؟ حكم بذلك قوم وأنكره آخرون. أما القائلون بذلك فقالوا: قد حصل الإجماع على وجوب الأقل والإجماع حجة، واختلف في الزائد والبراءة الأصلية نافية له فيثبت الأقل وينتفي الزائد بالأصل، لأن التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية، وقد بينا أن مع عدمها يكون العمل بالبراءة الأصلية لازما. لا يقال: الذمة مشغولة بشيء، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمة، وفي الأقل خلاف وبالأكثر تبرأ الذمة يقينا، فيجب الأخذ به احتياطا لبراءة الذمة. لأ نا نقول: لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا، لأن الأصل دال على خلوها فلا تشتغل إلا مع قيام الدليل وقد ثبت اشتغالها بالأقل فلا يثبت اشتغالها بالأكثر


[ 277 ]

والاشتغال بالأكثر مغاير للاشتغال المجرد ومغاير للاشتغال بالأقل، فيكون الاشتغال بالأكثر والاشتغال المطلق منفيا بالأصل. لا يقال: فإن لم يثبت دلالة على الأكثر فإنه من الممكن أن يكون هناك دليل ولا يلزم من عدم الظفر به عدمه، فكان العمل بالأكثر أحوط. لأ نا نقول: ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الأصل لأ نا قد بينا أن مع تقدير عدم الدلالة الشرعية يجب العمل بالبراءة الأصلية وذلك يرفع ما أومأ إليه من الاحتمال انتهى كلامه أعلى الله مقامه في كتاب الأصول. وقد رجع المحقق عن جواز التمسك بالبراءة الأصلية في غير ما يعم به البلوى في أوائل كتاب المعتبر وأنا أقول: التمسك بالبراءة الأصلية من حيث هي هي إنما يجوز قبل إكمال الدين، وأما بعد أن كمل الدين وتواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة وكل واقعة تقع فيها الخصمة بين اثنين ورد فيها خطاب قطعي من قبل الله تعالى حتى أرش الكف فلا يجوز قطعا، وكيف يجوز؟ فقد تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بوجوب التوقف في كل واقعة لم نعلم حكمها معللين بأنه بعد أن كمل الدين لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى وبأن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى فأولئك هم الكافرون


[ 278 ]

ثم أقول: هذا المقام مما زلت فيه أقدام أقوام من فحول الأعلام، فحري بنا أن نحقق المقام، فنوضحه بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام). فنقول: التمسك بالبراءة الأصلية إنما يتم عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيين، وكذلك إنما يتم عند من يقول بهما ولا يقول بالوجوب والحرمة الذاتيين، وهو المستفاد من كلامهم (عليهم السلام) وهو الحق عندي. ثم على هذين المذهبين إنما يتم قبل إكمال الدين لا بعده، إلا على مذهب من جوز من العامة خلو واقعة عن حكم وارد من الله تعالى


[ 279 ]

لا يقال: بقي أصل آخر، وهو أن يكون الخطاب الذي ورد من الله تعالى موافقا للبراءة الأصلية. لأ نا نقول: هذا الكلام مما لا يرضى به لبيب، وذلك لأن خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة، قد يكون إيجابا، وقد يكون تحريما، وقد يكون تخييرا، وقد يكون غيرها لا يعلمها إلا هو جل جلاله. ونقول: هذا الكلام في قبحه نظير أن يقال: الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلو، ومن المعلوم بطلان هذا المقال. ثم أقول: الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور في ثلاثة: ” أمر بين رشده وأمر بين غيه وشبهات بين ذلك وحديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ونظائرهما أخرج كل واقعة لم يكن حكمها بينا عن البراءة الأصلية وأوجب التوقف فيها. ورأيت في آخر جمع الجوامع وشرحه من كتب أصول الشافعية حكاية حسنة في هذا المقام فاستمع لها، ففي جمع الجوامع: إذا خطر لك أمر فزنه بالشرع، فإن كان مأمورا فبادر فإنه من الرحمن، وإن كان منهيا فإياك فإنه من الشيطان، وإن شككت أمأمور أو منهي فأمسك وفي شرح الفاضل بدر الدين الزركشي له: القسم الثالث أن نشك في كونه مأمورا أو منهيا، فالواجب الامساك عنه لقوله (صلى الله عليه وآله): ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإنما اقتصر المصنف على هذه الأحوال الثلاثة، لأنها قطب العلم وعليها تدور رحى العمل. وقد بلغني عن بعض الأئمة: أنه رأى في ابتداء أمره في المنام أنه حضر الجامع فوجد فيه متصدرا فجلس ليقرأ عليه، فقال: كيف تقرأ علي وقد علمك الله المسائل الثلاث؟ فانتبه وأتى معبرا، فقال: اذهب فستصير أعلم أهل زمانك، فإن المسائل الثلاث التي أشار إليها أمهات العلم في قوله (صلى الله عليه وآله): الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهاتالحديث. انتهى كلامه


[ 280 ]

وأنا أقول: أيها الناظر اللبيب انظر كيف أنطقهم الله بالحق من حيث لا يدرون؟! ثم أقول: الاشتباه قد يكون في وجوب فعل وجودي وعدم وجوبه مثلا، وقد يكون في حرمة فعل وجودي وعدم حرمته مثلا، وقد جرت عادة العامة وعادة المتأخرين من علماء الخاصة بالتمسك بالبراءة الأصلية في المقامين. ولما أبطلنا جواز التمسك بها لعلمنا بأنه تعالى أكمل لنا ديننا، ولعلمنا بأن كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة أو تخاصم فيها اثنان ورد فيها خطاب قطعي من الله عز وجل خال عن معارض معادل، ولعلمنا بأن كل ما جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله) مخزون عند الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ولعلمنا بأنهم (عليهم السلام) لم يرخصونا في التمسك بالبراءة الأصلية فيما نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه، بل أوجبوا التوقف في كل ما لم نعلم حكمه بعينه، وأوجبوا الاحتياط أيضا في بعض صوره، فعلينا أن نبين ما يجب أن يعمل به في المقامين، وسنحققه بما لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى في الفصل الثامن بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. وقد رأيت في المنام واليقظة أبوابا مفتوحة للوصول إلى الحق في هذه المقامات في الحرمين الشريفين، وشاهدت بعين البصر والبصيرة مصداق قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ والحمد لله تعالى


[ 281 ]

وأما التمسك بأن عدم ظهور مدرك شرعي لحكم عند المجتهد بعد تفتيشه مدرك شرعي لعدم الحكم في الواقع إجماعا فإنما يتجه على مذهب العامة


[ 282 ]

وقال المحقق في أوائل المعتبر كما تقدم نقله : الثاني أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه، وهذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف ولا يكون ذلك الاستدلال حجة، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر انتهى كلامه (رحمه الله). وقال في كتاب الأصول: إعلم أن الأصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الأصلية، فيقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية، لكن ليس كذلك فيجب نفيه، ولا يتم هذا الدليل إلا ببيان مقدمتين: إحداهما: أنه لا دلالة عليه شرعا بأن يضبط طرق الاستدلالات الشرعية ويبين عدم دلالتها عليه. والثانية: أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه احدى تلك الدلائل، لأنه لو لم تكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به وهو تكليف بما لا يطاق، ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلة لما كانت أدلة الشرع منحصرة فيها، لكن بينا انحصار الأحكام في تلك الطرق، وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم، والله أعلم انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: لقد أحسن وأجاد المحقق الحلي فيما نقلناه عنه، وما رأيت فقيها يكون حكيما بعد السيد المرتضى ورئيس الطائفة قدس الله سرهما إلا إياه


[ 283 ]

يشهد بذلك من تتبع كلامه في كتاب الأصول وفي كتاب المعتبر وكلام غيره من المتأخرين. وتحقيق كلامه: أن المحدث الماهر إذا تتبع الأحاديث المروية عنهم (عليهم السلام) في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ولم يظفر بحديث يدل على ذلك الحكم، ينبغي أن يقطع قطعا عاديا بعدمه، لأن جما غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق (عليه السلام) كما مر نقله عن كتاب المعتبر كانوا ملازمين لأئمتنا (عليهم السلام) في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، وكان همهم وهم الأئمة (عليهم السلام) إظهار الدين عندهم وتأليفهم كل ما يسمعونه منهم في الأصول، لئلا تحتاج الشيعة إلى سلوك طرق العامة ولتعمل بما في تلك الأصول في زمن الغيبة الكبرى فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لم يضيعوا من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم كما تقدم في الروايات المتقدمة ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسك بأن نفي ظهور الدليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع، مثاله: نجاسة أرض الحمام، ونجاسة الغسالة، ووجوب قصد سورة معينة عند قراءة البسملة، ووجوب نية الخروج من الصلاة بالتسليم، وقد نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يدل على ما ذكرناه حيث قال لمحمد بن الحنفية ما مضمونه: لو سئلت عن دليل على وحدة الإله فقل: لو كان إله آخر لظهر منه أثر وأقول: تحقيق المقام أن الأصوليين والكلاميين والمنطقيين يسمون تلك المقدمة وأمثالها بالقطعيات العادية، يشهد بذلك من تتبع شرح العضدي للمختصر الحاجبي وشرحي المواقف والمقاصد. ولا يجوز التمسك به في غير تلك المسألة المفروضة إلا عند العامة القائلين بأنه (صلى الله عليه وآله) أظهر عند أصحابه كل ما جاء به وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره وما خص أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة اقتضت إخفاء بعض ما جاء به (صلى الله عليه وآله)ـ


[ 284 ]

وأما التمسك باستصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم الأول لها، مثاله: من دخل في الصلاة بتيمم لفقد الماء ثم وجد الماء في أثنائها قبل الركوع أو بعده، ومن عزم على إقامة عشرة ثم رجع قبل أن يصلي صلاة واحدة تامة أو بعدها. فقد قال به الشافعية وبعض أهل الاستنباط من أصحابنا كالعلامة الحلي قدس الله سره في أحد قوليه والشيخ المفيد وأنكره الحنفية وأكثر أهل الاستنباط من أصحابنا والحق عندي قول الأكثر، وذلك لوجوه: الأول: عدم ظهور دلالة على اعتباره شرعا، وما ذكرته علماء الشافعية ومن وافقهم في هذه القاعدة من حصول ظن البقاء ومن جواز العمل بذلك الظن شرعا مردود من وجهين: أولهما: أن وجود الظن فيه ممنوع، لأن موضوع المسألة الثانية مقيد بالحالة الطارئة وموضوع المسألة الأولى مقيد بنقيض تلك الحالة، فكيف يظن بقاء الحكم الأول


[ 285 ]

وثانيهما: ما حققناه ببراهين قاطعة من أن الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها غير معتبر شرعا. الوجه الثاني: أنه قد ورد من الشارع في بعض الصور حكم يوافق الاستصحاب الذي اعتبروه، وفي بعضها حكم يخالفه، فعلم أن الاستصحاب بالمعنى الذي اعتبروه ليس معتبرا شرعا. ومن تأمل في الأحاديث الواردة في حكم المتيمم الذي وجد الماء بعد دخوله


[ 286 ]

في الصلاة وفي حكم المسافر الذي عزم على إقامة عشرة ثم بدا له وفي رواية خلف بن حماد الكوفي قال: تزوج بعض أصحابنا جارية معصرا لم تطمث، فلما اقتضها سال الدم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيام، قال: فأروها القوابل ومن ظنوا أنه يبصر ذلك من النساء فاختلفن، فقال بعضهن: هذا من دم الحيض وقال بعضهن: هو من دم العذرة، فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا: هذا شيء قد أشكل، والصلاة فريضة واجبة فلتتوضأ ولتصل وليمسك عنها زوجها حتى ترى البياض، فإن كان دم الحيض لم تضرها الصلاة وإن كان دم العذرة كانت قد أدت الفريضة، ففعلت الجارية ذلك. وحججت في تلك السنة فلما صرنا بمنى بعثت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت: جعلت فداك! إن لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعا فإن رأيت أن تأذن لي فآتيك وأسألك عنها، فبعث إلي إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فأقبل إن شاء الله. قال خلف: فرعيت الليل حتى إذا رأيت قد قل اختلافهم بمنى توجهت إلى مضربه، فلما كنت قريبا إذا أنا بأسود قاعد على الطريق، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من الحاج، فقال: ما اسمك؟ قلت: خلف بن حماد، قال: ادخل بغير إذن فقد أمرني أن أقعد هاهنا فإذا أتيت أذنت لك، فدخلت وسلمت فرد السلام وهو جالس على فراشه وحده ما في الفسطاط غيره، فلما صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله فقلت له: إن رجلا من مواليك تزوج جارية معصرا لم تطمث فلما اقتضها سال الدم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيام وإن القوابل اختلفن في ذلك، فقال بعضهن: دم الحيض وقال بعضهن: دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال: فلتتق الله، فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها، وإن كان من العذرة فلتتق الله ولتتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها إن أحب ذلك، فقلت له: وكيف لهم أن يعلموا مما هو حتى يفعلوا ما ينبغي؟ قال: فالتفت يمينا وشمالا في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد، قال: ثم نهد إلي فقال: يا خلف سر الله سر الله! فلا تذيعوه ولا تعلموا


[ 287 ]

هذا الخلق أصول دين الله بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلال، قال: ثم عقد بيده اليسرى تسعين، ثم قال: تستدخل القطنة ثم تدعها مليا ثم تخرجها إخراجا رفيقا، فإن كان الدم مطوقا في القطنة فهو من العذرة وإن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض. قال خلف: فاستخفني الفرح فبكيت، فلما سكن بكائي قال: ما أبكاك؟ فقلت: جعلت فداك! من كان يحسن هذا غيرك؟ قال: فرفع يده إلى السماء فقال: والله إني ما أخبرك إلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام) عن الله عز وجل وفي رواية زياد بن سوقة، قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل اقتض امرأته أو أمته فرأت دما كثيرا لا ينقطع عنها يوما كيف تصنع بالصلاة؟ قال: تمسك الكرسف فإن خرجت القطنة مطوقة بالدم فإنه من العذرة تغتسل وتمسك معها قطنة وتصلي، فإن خرج الكرسف منغمسا بالدم فهو من الطمث تقعد عن الصلاة أيام الحيض وفي رواية أبان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فتاة منا بها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة، فقال: مرها فلتستلق على ظهرها وترفع رجليها وتستدخل إصبعها الوسطى فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض وإن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة وفيما روى بعدة طرق عن الصادقين (عليهما السلام): في رجل رأى بعد الغسل شيئا، إن


[ 288 ]

كان بال بعد جماعه قبل الغسل فليتوضأ، وإن لم يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل وفيما روي عنهم (عليهم السلام) بعدة طرق في رجل استبرأ بعد البول إن خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من الحبائل يقطع بعدم جواز التمسك بالاستصحاب الذي اعتبروه. الوجه الثالث: أن هذا الموضع من مواضع عدم العلم بحكمه تعالى، وقد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن بعد إكمال الشريعة يجب التوقف في تلك المواضع كلها، ويجب الاحتياط في العمل أيضا في بعضها. وقد تقدم طرف من تلك الأخبار وسيجئ طرف منها فيها الكفاية إن شاء الله تعالى. ثم أقول: ينبغي أن يسمى هذا المسلك بالسراية لا بالاستصحاب، لأنه من باب سراية حكم موضع إلى موضع آخر. ثم أقول: اعلم أن للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمة، بل أقول: اعتبارهما من ضروريات الدين: إحداهما: أن الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله) إلى أن يجيء (صلى الله عليه وآله) بنسخه. وثانيهما: أنا نستصحب كل أمر من الأمور الشرعية مثل كون رجل مالك أرض، وكونه زوج امرأة، وكونه عبد رجل آخر، وكونه على وضوء، وكون ثوبه طاهرا أو نجسا، وكون الليل باقيا وكون النهار باقيا، وكون ذمة الإنسان مشغولة بصلاة أو طواف، إلى أن نقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا لنقض تلك الأمور. ثم ذلك الشيء قد يكون شهادة العدلين، وقد يكون قول الحجام المسلم أو من في حكمه، وقد يكون قول القصار المسلم أو من في حكمه، وقد يكون بيع ما يحتاج إلى الذبح والغسل في سوق المسلمين، وأشباه ذلك من الأمور الحسية


[ 289 ]

لا يقال: العدالة ليست من الأمور الحسية. لأ نا نقول: العدالة المعتبرة في باب الشهادات وإمام الجماعات عند قدمائنا وعند الأئمة الهداة (عليهم السلام) مركبة من أمر وجودي محسوس ومن عدم أمر محسوس وكلاهما مما يدرك بالحس، وسيجئ تحقيقه بما لا مزيد عليه في كلامنا إن شاء الله تعالى. وينبغي أن نذكر أمثلة للصورة الثانية فإنها من معظم المسائل التي يعم بها البلوى، وسيجئ في كلامنا فانتظرها. وأما التمسك باستصحاب نفي حكم شرعي سواء ظهرت فيه شبهة مخرجة أم لا. فقد قال به المتأخرون من أصحابنا والشافعية والحنفية، فاعترضت الشافعية على الحنفية بأن قولكم بالاستصحاب في نفي الحكم الشرعي دون نفسه تحكم. وأنا أقول: عند النظر الدقيق لا تحكم، وذلك لوجهين: أحدهما: ما حققناه سابقا من طرو حالة تغير بسببها موضوع المسألة. وثانيهما: أن لاعتبار النفي الأزلي جهتين: إحداهما: استصحابه. والثانية: تساوي نسبته إلى جميع الأزمنة والأحوال، لأن كل ممكن إذا خلي ونفسه كان معدوما كما تقرر في موضعه، ومنظور الحنفية اعتبار الجهة الثانية. ثم أقول: قد رأيت في كلام أقوام من فحول الأعلام من الخاصة والعامة ما ينطق بعدم تفطنهم بالفرق بين استصحاب النفي الأزلي وبين أصالة النفي. وسيجئ زيادة توضيح للفرق بينهما في الفصل المعقود لبيان الاصطلاحات التي يعم بها البلوى، إن شاء الله تعالى. ثم أقول: كما لا يجوز التمسك بأصالة النفي كذلك لا يجوز التمسك باستصحاب النفي الأزلي بعين ما ذكرناه من الأدلة


[ 290 ]

وأما الأمثلة الموعودة للصورة الثانية من صورتي الاستصحاب المعتبرتين. فمنها: صحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) قال، قلت: له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر وموثقة عمار الساباطي بزعم العلامة ومن وافقه من أصحابنا، وأما على ما حققناه فهي كأخواتها كلها صحيحة بمعنى أقوى من المعنى الذي اصطلح عليه العلامة ومن وافقه من أصحابنا على وفق اصطلاحات العامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك وما روي عن الصادق (عليه السلام) بعدة طرق: الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر وصحيحة زرارة قال: قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟ قال: لأ نك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت: فاني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا ولكنك إنما تريد أن يذهب الشك الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض


[ 291 ]

الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأ نك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك وصحيحة علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل وأ نه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه ولم يره وأ نه مسحه بخرقة، ثم نسي أن يغسله وتمسح بدهن فمسح به كفيه ووجهه ورأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطه: أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشيء إلا ما تحققت، فإن تحققت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلاة التي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها، من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت، وإذا كان جنبا أو صلى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لأن الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء الله أقول: المراد أن حكم الحدث غير حكم النجاسة فلو كان بدنه نجسا يكون حكمه حكم نجاسة الثوب. ومنها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ما أبالي أبول أصابني أو ماء، إذا لم أعلم وقول الصادق (عليه السلام) في حسنة الحلبي بزعم العلامة ومن وافقه : إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه، فإن ظن أنه أصابه ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وصحيحة عبد الله بن سنان قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيرده علي فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فانك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه


[ 292 ]

وصحيحة معاوية بن عمار قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر، ونساؤهم على تلك الحال ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة وصحيحة عبد الله بن علي الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي، فقال: يرش بالماء وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (عليه السلام): الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس وصحيحة ضريس الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال: أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا تأكل، وأما ما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام وصحيحة حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل وأنا حاضر عن جدي رضع من خنزير حتى شب واشتد عظمه، ثم استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول في نسله؟ قال: أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه، وأما ما لا تعرفه فهو بمنزلة الجبن فكل ولا تسأل عنه وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قال أبو عبد الله: كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) بزعم العلامة والمتأخرين عنه، وإلا فالحق أنها صحيحة كأخواتها على ما حققناه سابقا قال: سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع


[ 293 ]

أو قهر، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك؛ والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة ورواية معاوية بن وهب قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في داره يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثم يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره ولا ندري ما حدث له من الولد، إلا أنا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد، ولا تقسم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان بن فلان، مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أفنشهد على هذا؟ قال: نعم. قلت: الرجل يكون له العبد والأمة فيقول: أبق غلامي وأبقت أمتي فيوجد في البلد فيكلفه القاضي البينة أن هذا الغلام لفلان لم يبعه ولم يهبه، أفنشهد على هذا إن كلفناه ونحن لم نعلم أحدث شيئا؟ قال فكلما غاب عن يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد عليه ورواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل: أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم. فقال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لعله لغيره فمن أين جاز لك، أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق وصحيحة فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم أنهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون، قال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه يعني إذا اشتريته من رجل ظاهره الإسلام، لأنه في سوق المسلمين. ويفهم من أحاديث هذا الباب إذا اجتمعت في الذهن أن من لم يقل بالتسمية


[ 294 ]

في الذبح يحرم الذبيحة المأخوذة من يده، وأ نه إذا وجدت مطروحة في أرض من لم يقل بالتسمية لا يحرم. ولا بعد في ذلك، لجواز أن يكون يد من لم يقل بالتسمية من أسباب الحرمة في حكم الشارع. ويؤيده أنه إذا أخذنا الدبس من يد من يقول بذهاب الثلثين نحكم بحليته، وإذا أخذناه من يد من لا يقول بذلك نحكم بحرمته، وقع التصريح بذلك في الأحاديث المسطورة في باب الأشربة ورواية قتيبة الأعشى قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبائح اليهود والنصارى، فقال: الذبيحة اسم ولا يؤمن على الاسم إلا المسلم ورواية سماعة قال: سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة ورواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين؟ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوم ما فيها ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل: يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتى يعلموا وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال: يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه فانه لا بأس به ورواية الحسن بن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رجلا أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إني أصبت مالا لا أعرف حلاله من حرامه، فقال له: أخرج الخمس من ذلك المال، فإن الله عز وجل قد رضي من المال بالخمس واجتنب ما كان صاحبه يعلم


[ 295 ]

ورواية سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال: يهريقهما ويتيمم ورواية محمد بن عيسى عن الرجل أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة؟ قال: إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها فتذبح فتحرق، وقد نجت سائرها وصحيحة زرارة قال والله ما رأيت مثل أبي جعفر (عليه السلام) قط، قال: سألته قلت: أصلحك الله! ما يؤكل من الطير؟ قال: كل ما دف ولا تأكل ما صف. قال، قلت: فالبيض في الآجام؟ فقال: ما استوى طرفاه فلا تأكل وما اختلف طرفاه فكل. قلت: فطير الماء؟ قال: ما كانت له قانصة فكل وما لم تكن له قانصة فلا تأكل ورواية عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أكون في الآجام فيختلف علي الطير فما آكل منه؟ قال: كل ما دف ولا تأكل ما صف. قلت: إني أؤتى به مذبوحا؟ قال: كل ما كانت له قانصة واعلم أن الأحاديث التي نقلناها في هذا الموضع كلها متواترة المعنى. ثم أقول: اعلم أنه وقعت من جمع من المتأخرين من أصحابنا لقلة حذقهم في الأحاديث أغلاط في هذه المباحث: من جملتها: أن الفاضل المدقق الشيخ علي (رحمه الله) أفتى في بعض كتبه بأن ظن غلبة النوم على الحاستين كاف في نقض الوضوء وقد علمت تواتر الأخبار بخلاف ما أفتى به. ومن جملتها: أن كثيرا منهم زعموا أن قولهم (عليهم السلام): ” لا تنقض يقينا بشك أبدا وإنما تنقض بيقين آخر جار في نفس أحكامه تعالى، وقد فهمناك أنه مخصوص بأفعال الإنسان وأحواله وأشباههما من الوقائع المخصوصة


[ 296 ]

ومن جملتها: أن بعضهم توهم أن قولهم (عليهم السلام): ” كل شيء طاهر حتى تستيقن أنه قذر يعم صورة الجهل بحكم الله تعالى، فإذا لم نعلم أن نطفة الغنم طاهرة أو نجسة نحكم بطهارتها. ومن المعلوم أن مرادهم (عليهم السلام): أن كل صنف فيه طاهر وفيه نجس كالدم والبول واللحم والماء واللبن والجبن مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة فهو طاهر حتى تعلم أنه نجس، وكذلك كل صنف فيه حلال وحرام مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه


[ 297 ]

ومن جملتها: أن كثيرا منهم لم يتفطنوا بالفرق بين ما إذا علمنا نجاسة شخص محصور بين شخصين معينين أو أشخاص معينة أو حرمته ولم نقدر على التميز بينهما أو بينها، وبين ما إذا لم نعلم نجاسة شخص أو حرمته، فأجروا حكم الصورة الثانية والأحاديث الواردة فيها في الصورة الأولى. ومن جملتها: أن جمعا من أرباب التدقيق منهم زعموا أنه إذا علمنا نجاسة ثوب مثلا لا نحكم بطهارته إلا إذا قطعنا بإزالتها أو شهد عندنا شاهدان عدلان لأن اليقين لا ينقض إلا بيقين أو بما جعله الشارع في حكم اليقين، وهو شهادة عدلين في الوقائع الجزئية. وأنا أقول: لنا على بطلان دقتهم دليلان: الأول: أن اللبيب الذي تتبع أحاديثنا بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنه يستفاد منها: أن كل ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه وإن شئت أن تعلم كما علمنا فانظر إلى الأحاديث الواردة في القصارين والجزارين وحديث تطهير الجارية ثوب سيدها والحديث الصريح في أن الحجام مؤتمن في تطهيره موضع الحجامة لكن لابد من قريحة قويمة وفطنة مستقيمة، وإلا تتعب نفسك وغيرك، فإن كلا ميسر لما خلق له. والدليل الثاني: أن هذه المسألة مما يعم به البلوى، فلو كان حكمها مضيقا كما زعموا لظهر عندنا منه أثر واضح بين، ولم يظهر منهم (عليهم السلام) إلا ما يدل على التوسعة. والله أعلم بحقائق أحكامه


[ 298 ]

وقد بلغني أن جمعا من فحول علمائهم الورعين يهبون الثياب النجسة للقصارين ثم يسترجعونها، ومن المعلوم عند الفقيه الحاذق ان هذه الحيلة غير نافعة. وقد نبهناك على طرف من أغلاط المتأخرين في فهم الأحاديث الواردة


[ 299 ]

في الفروع أيضا، لتعلم أنه يجب عليك سلوك طريق قدمائنا قدس الله أرواحهم بأن تعتمد في كل ما لم تعلم على معنى يكون الحديث صريحا فيه أو يكون لازما بينا قطعيا للمعنى الذي صرح به الحديث. وبالجملة، يجب عليك التوقف في كل موضع يمكن عادة أن يقع فيه غلط من الرعية، ولولا وجوب إظهار الحق علي ما أظهرته. والله مطلع على سرائر عباده. وأما المصالح المرسلة فالأدلة المتقدمة لإبطال التمسك بالظن جارية فيها. وأما التمسك بالاستحسان فكذلك. فائدة كل من جوز الاستنباط من ظواهر كتاب الله وظواهر السنة النبوية من غير أن يبلغه عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) ما يدل على عدم طرو نسخ عليهما وعلى بقائهما على ظاهرهما يلزمه القول بالاجتهاد الظني التزمه أولم يلتزمه. فائدة ما اشتهر بين المتأخرين: من أصحابنا من أن قول الميت كالميت لا يجوز العمل به بعد موته، المراد به ظنه المبني على استنباط ظني. وأما فتاوى الأخباريين من أصحابنا فهي مبنية على ما هو صريح الأحاديث أو لازمه البين فلا تموت بموت المفتي. نعم، بعضها الذي كان مبنيا على حديث ورد في الواقع من باب التقية ينقطع العمل به إذا ظهر المهدي صلوات الله وسلامه عليه وكذلك فتاوى المتأخرين المبنية على صريح الحديث أو على لازمه البين لا تموت بموت صاحبها. لكن التمييز بين القسمين صعب على مقلديهم


[ 300 ]

فائدة كما لا اجتهاد عند الأخباريين لا تقليد أيضا فانحصر العمل في غير ضروريات الدين في الرواية عنهم (عليهم السلام). فائدة إذا ظهر عليك وانكشف لديك ما حققناه ظهر عليك سر حصرهم (عليهم السلام) القاضي في ثلاثة: في نبي ووصي نبي وشقي، وذلك لأن القاضي من الرعية حينئذ يروي قضاءهم (عليهم السلام) وليس بقاض يستقل بالحكم كما تقول به العامة والعلامة ومن وافقه من أصحابنا


[ 301 ]

الفصل السابع في بيان من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والإفتاء ذكر الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه في كتاب كمال الدين وتمام النعمة: حدثنا محمد بن محمد بن عصام (رضي الله عنه) قال حدثنا محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد في التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أما ما سألت عنه أرشدك الله ووفقك إلى قوله (عليه السلام) وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم وهذا الحديث الشريف بهذا السند مذكور أيضا في كتاب الاحتجاج للطبرسي (رحمه الله) وفي كتاب الرجال لعمدة القدماء المحدثين الشيخ أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، وفي اختيار رئيس الطائفة من ذلك الكتاب: حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال اعرفوا منازل الرجال منا على قدر رواياتهم عنا. أبو علي محمد بن أحمد بن حماد المروزي المحمودي يرفعه قال: قال الصادق (عليه السلام): اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من روايتهم عنا، فإنا لا نعد الفقيه منهم فقيها حتى يكون محدثا، فقيل له: أو يكون المؤمن محدثا؟ قال يكون مفهما والمفهم المحدث. علي بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اعرفوا منازل الناس منا على قدر


[ 302 ]

رواياتهم عنا. أبو الحسن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال كتبت إليه يعني أبا الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عمن آخذ معالم ديني وكتب أخوه أيضا، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على مسن في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا، فانهم كافوكما إن شاء الله تعالى وهذه الأخبار مسندة في كتاب رجال الكشي وفي كتاب الاختيار للشيخ، تركنا الأسانيد روما للاختصار واعتمادا على تواتر القدر المشترك بين تلك الأخبار وعلى كونها مأخوذة من الأصول المجمع على صحتها. وفي الكافي عن علي بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اعرفوا منازل الناس منا على قدر روايتهم عنا وفي كتاب الاحتجاج لشيخنا العلامة الطبرسي قدس الله سره بسنده عن أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال الحسين بن علي (عليه السلام): من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عزوجل: يا أيها العبد الكريم المواسي! أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم وفي كتاب الكافي عن معاوية بن عمار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويسدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل؟ قال: الراوية لحديثنا يسدده في قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد وروى أئمة الحديث الثلاثة قدس الله أرواحهم بسندهم عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف، فرضيا بالعدلين واختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه، ولا


[ 303 ]

يلتفت إلى الآخر وعن أبي خديجة قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى بينكم في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا ممن عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا، وإياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر وفي مقبولة عمر بن حنظلة بزعم العلامة ومن وافقه، وإلا فهي صحيحة لما حققناه سابقا قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا تكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟ فقال (عليه السلام): من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا، لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله عزوجل أن يكفر بها قلت: كيف يصنعان؟ قال: انظروا إلى من كان منكم روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك وعن أبي خديجة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه وروى الإمام ثقة الإسلام بسنده عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك! فقهنا في الدين وأغنانا الله تعالى بكم عن الناس حتى أن الجماعة منا ليكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه إلا وتحضره المسألة ويحضره جوابها فيما من الله علينا بكمالحديث وبسنده عن سماعة بن مهران عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال قلت: أصلحك الله! إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا، فما يرد علينا شيء إلا وعندنا فيه مسطر، وذلك مما


[ 304 ]

أنعم الله به علينا بكم وبسنده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيسمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى، قال: فاقرأ عليهم من أوله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا وقال أبو جعفر (عليه السلام) لأبان بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك وقال الصادق (عليه السلام) لسليم بن أبي حبة: ائت أبان بن تغلب، فإنه قد سمع مني حديثا كثيرا، فما روى لك فاروه عني وقال الصادق (عليه السلام) لفيض بن المختار: إذا أردت بحديثنا فعليك بهذا الجالس وأومأ بيده إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين وقال الصادق (عليه السلام) رحم الله زرارة بن أعين! لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي (عليه السلام) وقال الصادق (عليه السلام): ما أحد أحيى ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي هؤلاء حفاظ دين الله وأمناء أبي (عليه السلام) على حلال الله وحرامه . وقال الصادق (عليه السلام): أقوام كان أبي (عليه السلام) يأتمنهم على حلال الله وحرامه وكانوا عيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي، هم مستودع سري أصحاب أبي (عليه السلام) حقا إذا أراد الله بأهل الأرض سوءا صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي أحياءا وأمواتا، يحيون ذكر أبي (عليه السلام) بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل الغالين، ثم بكى قال الراوي: فقلت: من هم؟ فقال: هم صلوات الله عليهم ورحمة الله أحياءا وأمواتا: بريد العجلي، وزرارة، وأبو بصير، ومحمد بن مسلم . وقال الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن أبي يعفور، حيث قال له (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة


[ 305 ]

ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني، قال: فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي؟ فإنه قد سمع من أبي وكان عنده وجيها وقال الصادق (عليه السلام): بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء لانقطعت آثار النبوة واندرست وقال الصادق (عليه السلام) لشعيب العقرقوفي، حيث قال له (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل الشيء فممن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي، يعني: أبا بصير وأقول: الأحاديث الناطقة بأمرهم (عليهم السلام) بالرجوع في الفتوى والقضاء إلى رواة أحاديثهم وأحكامهم متواترة معنى، وتلك الأحاديث صريحة في وجوب اتباع الرواة فيما يروونه عنهم (عليهم السلام) من الأحكام النظرية، وليست فيها دلالة أصلا على جواز اتباع ظنونهم الحاصلة من ظواهر كتاب الله أو أصل أو استصحاب أو غيرها، ولا دلالة فيها على اشتراط أن يكون الرواة المتبعون أصحاب الملكة المعتبرة في المجتهدين. ومن المعلوم: أن المقام مقام البيان والتفصيل، فيعلم بقرينة المقام علما عاديا قطعيا بأن تلك الظنون وكذلك تلك الملكة غير معتبرين عندهم (عليهم السلام). ومن جملة غفلات المتأخرين من أصحابنا كالعلامة الحلي، والمحقق الحلي في أصوله لا في معتبره، وكالشهيد الأول والثاني والفاضل الشيخ علي قدس الله أرواحهم أنهم زعموا أن المراد من تلك الأحاديث المجتهدون وإنما قلنا: إنه من جملة غفلاتهم، لأ نا نعلم علما قطعيا عاديا أنهم لو لم يذهلوا عما استفدنا من كلامهم (عليهم السلام) ومن كلام قدمائنا: من أنه لابد في باب القضاء والفتوى من أحد القطعين. ومن أنه كما لا يجوز التقصير في تبليغ الأحكام لا ينبغي في الحكمة الإلهية


[ 306 ]

أن لا يمهد لأهل زمان الغيبة الكبرى مرجعا يرجعون إليه في عقائدهم وأعمالهم ما سوى الأمور التي هي شغل الإمام مثل إجراء الحدود فعلم أن لنا كتبا ممهدة من جهة الأئمة (عليهم السلام) بأمر الملك العلام. ومن أن أسباب قطعنا بأحكامهم وأحاديثهم (عليهم السلام) كثيرة وافرة من جملتها


[ 307 ]

أنهم (عليهم السلام) في مدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة أظهروا دين جدهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم عند جمع كثير وجم غفير من الأفاضل الثقات المحققين يزيدون على خمسة آلاف رجل، وأمروهم بأن يكتبوا بين أيديهم ما يسمعونه منهم (عليهم السلام) لتعمل بها الشيعة لا سيما في زمن الغيبة الكبرى ولئلا تحتاج إلى سلوك ما سلكته العامة من الاستنباطات الظنية، فألفوا بأمرهم (عليهم السلام) أصولا كثيرة كانت بخط تلك الأفاضل الثقات وبإملائهم (عليهم السلام). ومن جملتها: تقريرهم (عليهم السلام) في تلك المدة الطويلة أصحابنا على الاعتماد على تلك الأصول في عقائدهم وأعمالهم بل تصريحهم (عليهم السلام) بذلك


[ 308 ]

ومن تصريح الأئمة الثلاثة وغيرهم قدس الله أرواحهم بأنهم أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول المجمع على صحتها أو بأن كلها صحيح. لما وقعوا في هذه الشبهات. والله أعلم بحقائق الأمور


[ 309 ]

……………………


[ 310 ]

……………………


[ 311 ]

……………………


[ 312 ]

الفصل الثامن في جواب الأسئلة المتجهة على ما استفدناه وقررناه من كلام أئمتنا (عليهم السلام) ومن كلام قدمائنا، كأحمد بن أبي عبد الله البرقي في كتاب المحاسن، ومحمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات، وعلي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره، ومحمد بن يعقوب الكليني في أول الكافي. السؤال الأول إن الفاضل المدقق محمد بن إدريس الحلي (رحمه الله) أخذ أحاديث من أصول قدمائنا التي كانت عنده وذكرها في باب هو آخر أبواب كتاب السرائر. ومن جملة ما أخذه من جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما علينا أن نلقي عليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع والحديثان ناطقان بجواز الاجتهاد في نفس أحكامه تعالى. وجوابه أن يقال: هذان الحديثان موافقان لما حققناه سابقا واستفدناه من كلامهم (عليهم السلام) لأن المراد


[ 313 ]

منهما أن استنباط الأحكام النظرية ليس شغل الرعية، بل علينا أن نلقي إليهم نفس أحكامه تعالى بقواعد كلية وعليهم استخراج الأمور الجزئية عن تلك القواعد الكلية، مثال ذلك قولهم (عليهم السلام): ” إذا اختلط الحلال بالحرام غلب الحرام وقولهم (عليهم السلام): ” كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه وقولهم (عليهم السلام): ” الشك بعد الانصراف لا يلتفت إليه وقولهم (عليهم السلام): ” ليس ينبغي لك أن تنقض يقينا بشك أبدا وإنما تنقضه بيقين آخر وهنا فائدة شريفة: هي أن الأنظار العقلية قسمان: قسم يكون تمهيده مادة الفكر فيه بل صورته أيضا من جانب أصحاب العصمة، وقسم لا يكون كذلك. فالقسم الأول: مقبول عند الله تعالى مرغوب إليه، لأنه معصوم عن الخطأ. والقسم الثاني: غير مقبول، لكثرة وقوع الخطأ فيه. وإثبات النبي (صلى الله عليه وآله) رسالته على الأمة إما من باب أنه من باب بعد الاطلاع على معجزته يحصل القطع بدعواه بطريق الحدس كما يفهم من الأحاديث، أو من القسم المقبول من النظر والفكر، واستخراج الرعية الفروع من القواعد الكلية المتلقاة منهم (عليهم السلام) من هذا القسم


[ 314 ]

المقبول. هكذا ينبغي أن تحقق هذه المباحث وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء السؤال الثاني إنه لا مفر للأخباريين عن العمل بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها، وذلك لأن الحديث ولو كان صحيحا باصطلاحهم وهو المقطوع بوروده عن أهل الذكر (عليهم السلام) قد يحتمل التقية، وقد يكون دلالته ظنية، وعلى التقديرين لا يحصل القطع. وجوابه أن يقال: أكثر أحاديثنا المدونة في كتبنا صارت دلالتها قطعية بمعونة القرائن الحالية أو المقالية وأنواع القرائن كثيرة: من جملتها: أن الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهره، لا سيما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة. وقد مر زيادة


[ 315 ]

توضيح لذلك في كلامنا ومن جملتها: تعاضد الأخبار بعضها بعضا. ومن جملتها: خصوصيات أجزاء بعض الأحاديث. ومن جملتها: قرينة السؤال والجواب والدلالة التي لم تصر قطعية بمعونة القرائن لا توجب الحكم عندهم وإنما توجب التوقف. وأما احتمال التقية فغير قادح فيما حققناه لما سبق: من أنه يكفي أحد القطعين ومن أن مناط العمل القطع بأن الحكم ورد عنهم (عليهم السلام) لا الظن بأنه حكم الله في الواقع. ومما يدل على الفرق بين الجهتين ما ذكره الفاضل الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني رحمهما الله تعالى في كتاب المعالم، حيث قال في مقام الرد على من تمسك في جواز العمل بخبر الواحد بأنه يفيد الظن فيكون معتبرا كما اعتبر الشارع شهادة العدلين لإفادتها الظن: ليس الحكم في الشهادة منوطا بالظن بل بشهادة العدلين فينتفي بانتفائها، فهي كما أشار إليه المرتضى (رضي الله عنه) في معنى الأسباب أو الشروط الشرعية كزوال الشمس وطلوع الفجر بالنسبة إلى الأحكام المتعلقة


[ 316 ]

بهما. بخلاف محل النزاع، فإن المفروض فيه كون التكليف منوطا بالظن انتهى كلامه أعلى الله مقامه ولنذكر مثالا، فنقول: عند من يعمل بالدلالات الظنية والاجتهادات الخرصية يجوز في الحديث الوارد في من احتلم في أحد المسجدين الإفتاء بإطلاق لفظه تارة وبتقييده أخرى بحسب القرائن الحالية بغالب الأحوال، وذلك بحسب اختلاف آراء المجتهدين، فكل يعتمد على مقتضى ظنه من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر. وعند الأخباريين المتمسكين بالتوقف أو اليقين يجوز الإفتاء بالقدر الذي دلالة لفظه عليه قطعية، ويجب التوقف عن الفتوى والعمل في القدر الزائد عليه. فعلى قول من رجح من أهل الاجتهاد جانب إطلاق اللفظ يجب التيمم ولو كان زمان الغسل أقل أو مساويا لزمان التيمم ولم يحتج غسله إلى إزالة النجاسة في المسجد، بأن يكون نائما في المسجد الحرام مثلا فيحتلم فيدخل السيل فيه فيقوم من النوم وهو واقع جوف السيل. وعلى قول من رجح جانب القرينة يجب الغسل في الصورة المفروضة ويحرم التيمم. وعلى قول من تساوى الاحتمالان في نظره يجب التوقف عند بعض والحكم التخيير عند بعض. وعلى طريقة الأخباريين يجب التوقف عن تعيين أحد الاحتمالين لو لم تكن دلالة من خارج تعين أحدهما ومصداق التوقف في بعض المواضع ترك الأفعال


[ 317 ]

الوجودية، وفي بعض المواضع الجمع بين الفعلين الوجوديين، وفي بعض المواضع الإتيان بفعل وجودي مع الإطلاق في نيته أو مع ترديد مآله ومآل الإطلاق واحد أو مع ذكر الاحتياط في نيته. ومآل الكل واحد، كما سيجيء تحقيقه في كلامنا إن شاء الله تعالى. وما نحن فيه من قبيل الثاني، لأ نا نعلم اشتغال الذمة بأحد الفعلين الوجوديين ولا نعلمه بعينه، ونعلم أن حرمة الجمع بينهما مخصوصة بما إذا علمنا الفعل الواجب بعينه. فإن قلت: كيف يكون نيتهما؟ قلت: قصد القربة المطلقة في العبادات كافية، ولو تنزلنا عن ذلك المقام فله قصد الوجوب المطلق في كل واحد منهما، ومرادي من المطلق ما يعم الواجب بالأصالة والواجب من باب المقدمة. ولقائل أن يقول: قد علمنا جواز الغسل بل وجوبه من جهة وجوب مقدمة الواجب، ومن المعلوم: أن الأمر بالشيء لا يستلزم النهي عن أضداده الوجودية، ومن المعلوم إجزاء الغسل عن التيمم فإذا اغتسل سقط عنه التيمم إذا خطر بباله تلك المقدمات ويرد عليه: أنه عسى أن لا يجزي الغسل ويتعين التيمم في حكم الله تعالى، فلابد من الجمع بينهما لتحصيل اليقين ببراءة الذمة. وإذا تحير الفقيه في وجوب صلاة الجمعة عليه في زمن الغيبة وجوبا عينيا وفي وجوب صلاة الظهر بدلها، يجب عليه التوقف عن تعيين أحد الاحتمالين كما هو مقتضى الأحاديث، ومصداق هذا التوقف بحسب ظاهر النظر أيضا الجمع بين الفعلين الوجوديين أعني صلاة


[ 318 ]

الجمعة وصلاة الظهر لأ نا نعلم اشتغال الذمة بإحداهما ولا نعلمها بعينها، ونعلم أن الاشتباه ليس مسقطا لوجوبها. وقد ظهر عليك من ذلك أن حرمة الجمع بينهما مخصوصة بما إذا علمنا ما هو الواجب بعينه. على أن القاعدة الشريفة المتقدمة المستفادة من قوله (عليه السلام): ” إذا أصبتم بمثل هذا ولا تدرون فعليكم الاحتياط حتى تسألوا وتعلموا ومن حديث إطباق السماء المتضمن لوجوب الاحتياط بأن تصلى أربع صلوات إلى أربع جهات ومن غيرهما، تقتضي وجوب الاحتياط بالجمع بين الفعلين الوجوديين في هذين الموضعين وأشباههما، ومصداقه عند النظر الدقيق الاكتفاء بصلاة الظهر بعد فوت وقت صلاة الجمعة، لقطعنا بأن صلاة الظهر حينئذ مبرئة للذمة، وبأنها غير بدعة. ويحتمل أن تكون صلاة الجمعة بدعة، لفقد بعض شرائطها. بخلاف ما إذا تحير الفقيه في تعيين قدر المسافة هل هو عند الشارع أربعة فراسخ أو ثمانية؟ فإن احتمال البدعة مشترك حينئذ بين القصر والإتمام، وكذلك احتمال الوجوب. وبخلاف ما إذا تخير بين وجوب التيمم وبين وجوب الغسل للخروج عن المسجد، فإن احتمال البدعة واحتمال الوجوب مشترك بين الطرفين. فافهم فإن هذه من معظمات الدقائق واحفظها تنتفع بها كثيرا. السؤال الثالث إنه قد ذكر المحقق الحلي في أصوله وهو في أكثر أبوابه اختصار كتاب العدة لرئيس الطائفة مع زيادات وإيرادات من قبله، رجع عنها في أواخر عمره في كتاب المعتبر في مقام الرد على ما نقلناه عن رئيس الطائفة (حيث قال: والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلمين المتقدمين والمتأخرين وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى قدس الله روحه، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله (رحمه الله) أن الحق في واحد وأن عليه دليلا، من خالفه كان مخطئا فاسقا انتهى): وأما ما يفتقر إلى


[ 319 ]

اجتهاد ونظر، فإنه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه، فإن أخطأ لم يكن مأثوما، ويدل على وضع الإثم عنه وجوه: أحدها: أنه مع استفراغ الوسع يتحقق العذر فلا يتحقق الإثم. الثاني: أنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الأحكام الشرعية اختلافا شديدا حتى يفتي الواحد منهم بالشيء ويرجع عنه إلى غيره، فلو لم يرتفع الإثم لعمهم الفسق وشملهم الإثم، لأن القائل منهم بالقول إما أن يكون استفرغ وسعه في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن، فإن لم يكن تحقق الإثم، وإن استفرغ وسعه في تحصيل ذلك الحكم ثم لم يظفر ولم يعذر تحقق الإثم أيضا. الثالث: الأحكام الشرعية تابعة للمصالح، فجاز أن يختلف بالنسبة إلى المجتهدين كاستقبال القبلة، فإنه يلزم كل من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أن يستقبل تلك الجهة إذا لم يكن له طريق إلى العلم، ثم تكون الصلاة مجزية لكل واحد منهم وإن اختلفت الجهات. فإن قيل: لا نسلم أن مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم، وذلك لأن الواقعة لابد فيها من حكم شرعي ولابد من نصب دلالة على ذلك الحكم، فلو لم يكن للمكلف طريق إلى العلم بها لكان نصبها عبثا، أو لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ الوسع، وذلك تكليف بما لا يطاق. والجواب: قوله: لابد من نصب دلالة. قلنا: مسلم، لكن ما المانع أن يكون فرض المكلف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها، ومع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لا ذلك الحكم، ومثاله: جهة القبلة، فإن مع العلم بها يجب التوجه ومع عدم العلم يكون فرضه التوجه إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلة، وكذلك العمل بالبينة عند ظهور العدالة وخفاء الفسق ولو ظهر فسقها لوجب إطراحها، فما المانع أن تكون الأدلة التي وقع فيها النزاع كذلك؟ ألا ترى! أن العموم يخصص مع وجود المخصص ويعمل بعمومه مع عدم المخصص


[ 320 ]

انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأقول: جوابه: إن الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها المحقق مبني على مقدمة ظنية وعلى قياس أحكام الله تعالى على غيرها وكلاهما مردودان، ومن المعلوم أن العمل بالظن في نفس أحكام الله تعالى ينتهي إلى تخريب الدين وإلى تصحيح ما وقع من الحروب من المنافقين وأعداء الدين كما تقدم في كلامنا وأن العمل بالظن في غير أحكامه تعالى كتعيين جهة القبلة وعدد الركعات وقيم المتلفات وأروش الجنايات لا ينتهي إلى ذلك والوجه الأول أيضا مردود، لأن خلاصته جارية فيمن كان في زمن الفترة واستفرغ وسعه وعمل بخلاف الشريعة، فإنه معذور كما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) مع أنه عمل بخلاف الشريعة. والحل أن يقال: كونهم معذورين أعم من كون فعلهم مشروعا، لجواز أن يكون سبب كونهم معذورين غفلتهم عن بعض القواعد الشرعية. وحاصل النقض والحل ان المعذورية قسمان: قسم حاصل من تخلية الله تعالى جمعا من عباده كما في أهل الفترة، فإنه يكلفهم يوم القيامة لا في الدنيا، كما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)ـ


[ 321 ]

وقسم حاصل من طلب الله تعالى والعمل بالظن، ومدعاك القسم الثاني ودليلك يدل على القدر المشترك، فلو تم دليلك يلزم تحقق القسم الثاني في أهل الفترة. والوجه الثاني أيضا مردود لما سنحققه، ومن تأمل في قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ وفي نظائره يقطع بأنه تعالى مهد طريقة كل من سلكها نجا من الغلط والخطأ، وتلك الطريقة التمسك بأصحاب العصمة في كل ما يحتاج إليه من العقائد والأعمال، والتوقف عند عدم الظفر بكلامهم (عليهم السلام) ومن المعلوم: أن من لم يسلك هذه الطريقة ما استفرغ وسعه. ثم أقول: إن شئت تحقيق المقام بما لا مزيد عليه فاستمع لما نتلو عليك من الكلام بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام). فنقول: الاختلاف في الفتاوى قسمان: أحدهما: أن يكون سببه اختلاف ما بلغهم من الروايات. ومن المعلوم أن هذا النوع من الاختلاف لا يؤدي إلى تناقض، لابتناء أحد القولين على ما ورد من باب التقية كما حققه رئيس الطائفة (قدس سره) وقد مر توضيحه والاختلافات الواقعة بين قدمائنا الأخباريين وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) من هذا القبيل، كما تقدم نقله عن رئيس الطائفة. وثانيهما: أن يكون سببه غير ذلك من الاستنباطات الظنية. ومن المعلوم: أنه لم يرد إذن من الله تعالى في ذلك، بل تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار بأن المفتي المخطئ ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه وقال الله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ومن المعلوم: أن كل حكم تحتاج إليه الأمة قد أنزله الله في كتابه لكن لا تبلغه عقول الرجال، وقد بينه النبي (صلى الله عليه وآله) لأمته وبينه أمير المؤمنين (عليه السلام) كذلك. ومن المعلوم: أنه لا اختلاف فيما أنزل الله تعالى كما مر بيانه سابقا، فكل من اختلف في الفتوى ولم يكن سببه ابتناء أحد قوليه على حديث وارد من باب التقية


[ 322 ]

يكون حاكما بغير ما أنزل الله


[ 323 ]

وأقول: يمكن أن يقال: الجماعة التي وقع منهم القسم الثاني من الاختلاف وهم جماعة قليلة نشؤوا في زمن الغيبة الكبرى، أولهم: الأقدمان ابن الجنيد وابن أبي عقيل فيما أظن، ثم بعدهما نسج على منوالهما الشيخ المفيد ثم ابن إدريس الحلي، ثم العلامة الحلي، ثم من وافقه من المتأخرين معذورون من جهة غفلتهم عن أن سلوك طريقة الاستنباطات الظنية مناقض لما هو من ضروريات مذهبنا من أ نه (صلى الله عليه وآله) بعدما جاء في كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة بحكم وخطاب قطعي وقد أودع كل ما جاء به عند الأئمة (عليهم السلام) أمر الناس بسؤالهم في كل ما لا يعلمون والرد إليهم والتمسك بكلامهم (عليهم السلام) وهم (عليهم السلام) مهدوا أصولا لرجوع الشيعة إليها، لا سيما في زمن الغيبة الكبرى


[ 324 ]

ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس الله سره إلى جواز التمسك بالاستصحاب في نفس أحكامه تعالى وفي نفيها، وقد مر توضيحه في مسألة من دخل في الصلاة بتيمم لفقد الماء ثم وجد الماء في أثنائها وذهابه إلى أنه من دخل في الصلاة بتيمم ثم سبقه الحدث فأصاب ماء يتوضأ ويبني، بخلاف من دخل الصلاة بوضوء وسبقه الحدث فإنه يتوضأ ويستأنف الصلاة مع أ نه تواترت الأخبار بأن الحدث في أثناء الصلاة ينقضها والباعث له على ذلك أ نه كان في بعض الأحاديث لفظ أحدث فسبق ذهنه إلى حمله على وقوع الحدث من المصلي وغفل عن احتمال أن يكون المراد مطر السماء، بل هذا الاحتمال أظهر لفظا ومعنى، كما حققناه في بعض كتبنا. والسبب الذي ذكره صاحب المعالم في صيرورة كثير من أحاديث أصحابنا مضمرا في تأليفات المتأخرين بعد كونه غير مضمر في أصول قدمائنا من أنه كانت عادة قدمائنا ذكر اسم الإمام المنقول عنه الحديث في أول الباب ثم ذكر الضمائر الراجعة إليه في سائر الأبواب، فلما نقل المتأخرون تلك الأحاديث إلى تأليفاتهم وغيروا ترتيب الأحاديث والتزموا أن لا يتصرفوا في عبارات القدماء أتوا بتلك


[ 325 ]

الضمائر من غير سبق مرجعها، فصارت تلك الأحاديث مضمرة، جار في هذا الحديث وأشباهه. هذا كله بعد التنزل عن حمله على التقية. والصواب حمله على التقية، لأن أبا حنيفة ذهب إلى ذلك لكن ما خصص الحكم بالمتيمم. وذهابه إلى أن ماء الأواني ولو كان كرا ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة. وذهاب ابن الجنيد إلى جواز العمل بالقياس ثم رجع عنه وذهاب ابن أبي عقيل إلى عدم انفعال الماء القليل بورود النجاسة عليه السؤال الرابع أن يقال: كيف عمل الأخباريين في فعل وجودي يحتمل أن يكون حراما في الشريعة ظهرت فيه شبهة الحرمة كحديث ضعيف أو لم تظهر؟ وجوابه: أن مقتضى قواعدهم وجوب التوقف، ومصداق التوقف ترك كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه، فيجب ترك ذلك الفعل وترك تفسيق فاعله وإنما قلنا: هذا مقتضى قواعدهم، لأنه يستفاد: من الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور في ثلاثة ومن الأحاديث المشتملة على وجوب التوقف والتثبت في كل واقعة لم نعلم حكمها . ومن الحديث الذي أخذه محمد بن إدريس الحلي عن أصل حسن بن محبوب وذكره في آخر السرائر، وذكره الإمام ثقة الإسلام في باب الكتمان، حيث قال محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: والله إن أحب أصحابي إلي


[ 326 ]

أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يعقله اشمأز منه وجحده وكفر من دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجا من ولايتنا ومن الحديث الذي ذكره الشيخ السعيد قطب الدين الراوندي (قدس سره) في الرسالة التي صنفها لإثبات صحة أحاديث أصحابنا، حيث قال: قال الصادق (عليه السلام): لا تكذبوا بحديث أتى به مرجئي ولا قدري ولا خارجي فنسبه إلينا، فإنكم لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبوا الله وأقول: قد جرت بيني وبين جمع من المنسوبين إلى العلم هذه الحكاية بعينها، فرأيتهم كلما رويت عندهم حديثا من أحاديث أئمتنا ولم يجدوه موافقا لما في كتب من يقول بالاجتهادات الظنية من متأخري أصحابنا غضبوا وقدحوا فيه وفيمن يرويه ومن يعمل به. وأسأل الله العفو والعافية. لا يقال: مقتضى ما ذكره محمد بن علي بن بابويه في مبحث القنوت من كتاب من لا يحضره الفقيه واستدل به على جواز القنوت بغير العربي، حيث ذكر قال


[ 327 ]

الصادق (عليه السلام): ” كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي إباحة كل شيء ما لم يبلغنا فيه نهي. ومن المعلوم: أن المراد نهي يكون اتباعه واجبا، والمفروض فيما نحن بصدده عدم بلوغ ذلك النهي. لأ نا نقول: النهي قسمان: نهي خاص ونهي عام، والنهي العام قد بلغنا، إذ علمنا من الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور في ثلاثة ومن نظائره وجوب التوقف علينا في كل واقعة لم يكن حكمها بينا عندنا، معللا بأن الشريعة قد كملت ولم تبق واقعة خالية من حكم وارد من الله تعالى، ومعللا بالحذر عن ارتكاب المحرمات والوقوع في الهلكات من غير علم. وبهذا الجواب يندفع ما يتجه أن يقال: ذكر شيخنا الصدوق في كتاب التوحيد في باب الاستطاعة: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة وذكر في باب التعريف والحجة والبيان: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى


[ 328 ]

العطار (رضي الله عنه) عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال حدثنا سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمد الإصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث النخعي القاضي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من عمل بما علم كفي ما لم يعلم ومقتضى هذه الأحاديث الشريفة أيضا أن لا يتعلق بنا تكليف ما لم يبلغنا الخطاب الدال عليه. وجه الاندفاع: أن الخطاب العام الدال على وجوب ترك كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه بلغنا، وهو الحديث المشتمل على حصر الأمور في اليقين وفي الشبهة، وعلى وجوب ترك ما ليس بيقيني جوازه، والأحاديث المشتملة على وجوب التوقف في كل واقعة لم نعلم حكمها بعينه لا يقال: يلزم من الحديث الذي ذكره ابن بابويه بطلان الحسن والقبح الذاتيين، كما ذهب إليه جمهور الأشاعرة حيث قالوا: لو عكس الله تعالى وجعل الكفر واجبا وخلافه حراما لما كان قبيحا ولا محالا ذاتيا. لأ نا نقول: هنا مسألتان: إحداهما: الحسن والقبح الذاتيان. والأخرى: الوجوب والحرمة الذاتيان. والذي يلزم من ذلك بطلان الثانية لا بطلان الأولى، وبين المسألتين بون بعيد. ألا ترى أن كثيرا من القبائح العقلية ليس بحرام في الشريعة، ونقيضه ليس


[ 329 ]

بواجب في الشريعة؟ ومعنى القبيح العقلي: ما ينفر الحكيم عنه وينسب فاعله إلى السفه، على ما ذكره المحقق الطوسي في بعض تصانيفه. وقد سنح لي شيئان يؤيدان معنى هذا الحديث الشريف: أحدهما: نقلي وهو قول الصادق (عليه السلام): إن من قولنا: إن الله يحتج على العباد بما اتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى وجه التأييد أن هذا الحديث الشريف يدل على أنه لم يتعلق بأحد تكليف إلا بعد بلوغ الخطاب إليه. وأما قوله (عليه السلام): ” بما أتاهم وعرفهم فيحتمل أن يكون إشارة إلى ما تواترت به الأخبار عنهم (عليهم السلام): من أنه أخذ الإقرار بالربوبية من الأرواح في


[ 330 ]

يوم ألست بربكم أو إلى ما يفهم من بعض الروايات: من أنه إذا أراد الله تعالى تعلق التكليف بأحد يلهمه بأنه موجود وبأنه واحد وبأنه له رضى وسخط وبدلالات واضحة على ذلك وبأن مقتضى حكمته عز وجل أن يعين أحدا لتعليم الناس ما يرضيه وما يسخطه، ثم يبلغه دعوى النبوة والمعجزة على وفقها وما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من الواجبات والمحرمات، وحينئذ يتعلق به التكليف لا قبله. ومن ثم وقع التصريح في مواضع من كتاب الكافي منها باب الشك ومنها باب من يعبد الله على حرف بأن بعض من بلغتهم الدعوة أقروا بالشهادتين باللسان وشكوا في نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) لا في التوحيد، فإنه دخلت معرفة التوحيد قلوبهم. وثانيهما: عقلي وهو أنه من المعلوم: أن هذه التكاليف الظاهرية الشرعية مشتركة بين من يقدر على الأفكار والأنظار التي ذكرتها المعتزلة للخلاص عن شبهة لزوم إفحام الأنبياء (عليهم السلام) وبين من لم يقدر، فعلم أن مناط تعلق التكاليف كلها السماع من الشارع، وعلم عدم استقلال العقل بتعلق تكليف، وعلم بطلان مذهب المعتزلة في هذه المسألة، فمعنى الحديث الذي ذكره ابن بابويه في مبحث القنوت: أ نه لم يتعلق تكليف بأحد إلا بعد بلوغ الخطاب


[ 331 ]

واعلم أن مذهب جمهور الأشاعرة جواز الانعكاس. وأما مذهب بعضهم كالفاضل المدقق بدرالدين الزركشي فهو أن الحسن والقبح ذاتيان والوجوب والحرمة شرعيان، وأ نه لا ملازمة بينهما، فقال في شرح جمع الجوامع: تنبيهات: الأول: المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للأحكام، إنما يقولون: إن العقل يدرك أن الله تعالى شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها، فهما عندهم مؤديان إلى العلم بالحكم الشرعي، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما، فما كان حسنا جوزه الشرع وما كان قبيحا منعه، فصار عند المعتزلة حكمان: أحدهما عقلي، والآخر شرعي تابع له. فبان أنهم لا يقولون: إنه بمعنى العقاب والثواب ليس بشرعي أصلا، خلافا لما توهمه عبارة المصنف وغيره. الثاني: ما اقتصر عليه المصنف من حكاية قولهم هو المشهور. وتوسط قوم


[ 332 ]

فقالوا: قبحها ثابت بالعقل والعقاب يتوقف على الشرع، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا وأبو الخطاب من الحنابلة وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصا، وهو المنصور، لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض. فهاهنا أمران: أحدهما: ادراك العقل حسن الأشياء وقبحها. والثاني: أن ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد شرع، ولا ملازمة بين الأمرين بدليل (وما كان ربك مهلك القرى بظلم) أي بقبح فعلهم (وأهلها غافلون) أي لم يأتهم الرسل والشرائع، ومثله (لولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) أي من القبائح فيقولوا (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) انتهى كلام الفاضل الزركشي. السؤال الخامس أن يقال: كيف عملكم معشر الأخباريين في حديث ضعيف يدل على وجوب فعل وجودي؟ وجوابه أن يقال: نوجب التوقف عن تعيين أحد المحتملات، ومصداقه في هذه المباحث أن لا يقع منه فعل أو قول أو ترك مبني على القطع بأحد المحتملات بعينه، ويجوز له أن يأتي بفعل أو قول أو ترك يجامع جميع المحتملات أو يجامع حال التردد والشك فيها، فإذا دار الفعل بين الوجوب والحرمة يجب عليه تركه ما دام كذلك، وإذا دار بين الوجوب والندب والكراهة فله فعله بنية مطلقة وله تركه، ويجب السؤال والتفتيش عن الحكم ونحن معذورون مادمنا ساعين


[ 333 ]

ومن الموضحات لذلك قولهم (عليهم السلام) ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم السؤال السادس كيف عملكم في حديث صحيح يحتمل الوجوب والحرمة كأمر يحتمل التهديد؟ وجوابه أن يقال: نوجب التوقف، ومصداقه هنا الترك كما مر. ومما يوضح هذا المقام ما رواه ثقة الإسلام في كتاب الكافي، عن كتاب صفوان، عن معاوية بن عمار قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة كانت مع قوم فطمثت فأرسلت إليهم فسألتهم؟ فقالوا: ما ندري أعليك إحرام أم لا وأنت حائض، فتركوها حتى دخلت الحرم؟ قال: إن كان عليها مهلة فلترجع إلى الوقت فلتحرم منه، وإن لم يكن عليها وقت فلترجع إلى ما قدرت عليه بعد ما تخرج من الحرم بقدر ما لا يفوتها وما رواه عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير


[ 334 ]

عن زرارة، عن أناس من أصحابنا حجوا بامرأة معهم فقدموا إلى الوقت وهي لا تصلي، فجهلوا أن مثلها ينبغي أن تحرم، فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكة وهي طامث حلال، فسألوا الناس، فقالوا: تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه وكانت إذا فعلت لم تدرك الحج، فسألوا أبا جعفر (عليه السلام) فقال: تحرم من مكانها قد علم الله نيتها وجه التوضيح: أنها تركت فعلا واجبا في الواقع لاحتمال حرمته عندها والإمام (عليه السلام) قررها على ذلك ولم ينكر عليها، بل استحسن نيتها بقوله (عليه السلام): قد علم الله نيتها. السؤال السابع أن يقال: كيف عملكم في حديث صحيح يحتمل الحرمة والكراهة؟ وجوابه: أ نا نوجب التوقف. وقد مر بيان مصداقه. السؤال الثامن أن يقال: كيف عملكم في حديث صحيح يحتمل الوجوب والندب؟ وجوابه أن يقال: نوجب التوقف عن تعيين أحد الاحتمالين، ثم نقول: إن كان ظاهره الوجوب يجب فعله بنية مطلقة احتياطا، وكذلك مع تساوي الاحتمالين، وإن كان ظاهره الندب وباطنه الوجوب فوجوبه موضوع عنا. وبعد ما أحطت خبرا: بالأحاديث الناطقة بوجوب التوقف والتثبت في كل واقعة لم يكن حكمها بينا واضحا. وبقوله (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر بين الفريقين: إنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وشبهات بين ذلك. والوقوف عند الشبهات خير من


[ 335 ]

الاقتحام في الهلكات، ومن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم وبقول الكاظم (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، حيث قال، فقلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا وبما روى الفريقان عنه (صلى الله عليه وآله): دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وبقول الكاظم (عليه السلام) في مكاتبة عبد الله بن صباح: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك وبقولهم (عليهم السلام): ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم سهل عليك الجواب عن هذه الأسئلة. وهنا فائدتان: الأولى: أنه (صلى الله عليه وآله) حصر الأمور في ثلاثة: إحداها بين رشدها، وثانيها بين غيها، وثالثها ما ليس هذا ولا ذاك وسماها شبهة، فعلم من ذلك أن كل ما ليس بيقيني حتى الظني شبهة. الفائدة الثانية: أنه في كلامهم (عليهم السلام) وقع إطلاق الجاهل على غير القاطع بالحكم سواء كان شاكا أو ظانا، والجاهل بهذا المعنى يجب عليه التوقف. ووقع إطلاقه على الغافل الذاهل ذهنه عن تصور المسألة. والجاهل بالمعنى الأخير لا يجب عليه الاحتياط، وإلا لزم تكليف الغافل. وقد وردت في هذا المعنى صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام)ـ


[ 336 ]

قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت: بأي الجهالتين أعذر بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن الله حرم عليه ذلك، وذلك لأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت: هو في الأخرى معذور؟ قال: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها. فقلت: وإن كان أحدهما متعمدا والآخر بجهالة؟ فقال: الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبدا . وإنما قلنا: إن المراد بالجاهل في هذه الصحيحة الغافل لا الظان والمتردد، لأنهما يقدران على الاحتياط، دون الغافل. السؤال التاسع أن يقال: كيف عملكم معاشر الأخباريين في الظواهر القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾ وقوله تعالى: ﴿أو لامستم النساء﴾ وقوله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾ وفي ظواهر السنن النبوية مثل قوله (صلى الله عليه وآله): لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (5)؟ وجوابه أن يقال: نحن نوجب الفحص عن أحوالهما بالرجوع إلى كلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) فإذا ظفرنا بالمقصود وعلمنا حقيقة الحال عملنا بهما، وإلا أوجبنا التوقف والتثبت، ولا نجوز التمسك بما تمسكت به العامة: من أنه (صلى الله عليه وآله) لم يخص أحدا بتعليم كل ما جاء به وبتعليم تفسير القرآن وما جاء به من نسخ أو قيد أو تأويل أو تخصيص بل أظهر كل ما جاء به عند أصحابه وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة أوجبت


[ 337 ]

إخفاء بعضه، ومن أنه لولا ذلك لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وللزم الاغراء بالجهل، وذلك لما علم من المذهب ضرورة: من أنه (صلى الله عليه وآله) أودع كل ما جاء به عند العترة الطاهرة (عليهم السلام) وأمر الناس بسؤالهم والرد أي الرجوع إليهم، وأي بيان أقوى من ذلك؟


[ 338 ]

ولنذكر أمثلة لوجوب التوقف والاحتياط: منها: إذا وقع النكاح لم نعلم صحته وفساده يجب على الزوج ترك الاستمتاع بها وترك التزوج بخامسة وبأختها، ويجب على الزوجة أن لا تمكنه من نفسها وأن لا تتزوج بغيره، ويجب على الزوج أحد الأمور الثلاثة: إما طلاقها، وإما العقد الجديد، وإما الإنفاق عليها إن رضيت بمجرد الإنفاق، وإن طلبت أحد الأمرين الطلاق أو العقد الجديد يجب عليه، ولو امتنع من ذلك لوجب حبسه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن باب الدفاع. ولو هرب فرارا من أحد الأمرين ولم يتمكن منه فلقائل أن يقول: يستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): ” لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ومن الحديث الشريف المتضمن لجواز أن يطلق الحاكم زوجة مفقود الخبر بعد الاستخبار عنه من باب مفهوم الموافقة المسمى بالقياس الجلي والقياس بطريق الأولى جواز أن يطلقها. ومنها: إذا وقع بيع بستان لا نعلم صحته يقوم أحد من باب الحسبة بعمارته، ولا يجوز للبائع ولا للمشتري التصرف في ثمرته ويجوز حفظها وبيعها من باب الحسبة إلى أن يظهر الحق، ولو كلف أحدهما الآخر باختيار أحد الأمرين من الإقالة وتجديد الصيغة الصحيحة يجب على الآخر ذلك. ولو أبى أو هرب فرارا فقد مضى حكمها. السؤال العاشر كيف عملكم معاشر الأخباريين فيما إذا علمنا اشتغال الذمة بعبادة وتحيرنا في


[ 339 ]

وجه الخلاص منها لجهلنا بكيفيتها؟ وجوابه: أ نا نوجب التوقف، ومصداقه هنا الاحتياط بالجمع بين الفعلين الوجوديين كما مر بيانه، مثاله: إذا عزم مسافر على إقامة عشرة ثم بدا له قبل أن يصلي صلاة تامة أو بعدها ولم يقطع بما هو حكم الله ولم يتمكن من سؤال عالم به، يجب عليه الاحتياط بأن يجمع بين القصر والإتمام، لدخوله تحت الأحاديث المتضمنة وجوب التوقف والتثبت، وتحت القاعدة الشريفة المستفادة من كلام الكاظم (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة ونظائرها، ويجب عليه الإمساك عن المفطرات بنية الاحتياط، كما مر في مسألة المتحير في وجوب صلاة الجمعة عليه أو صلاة الظهر مكانها. لا يقال: الجمع بين القصر والإتمام غير متلقى من الشارع، فيكون بدعة. لأ نا نقول: في الأحاديث المتضمنة لوجوب الاحتياط ولوجوب التوقف في كل واقعة لم نعلم حكمها بعينه إذن وتصريح بوجوب الجمع، ولا استبعاد في ذلك بل له نظائر في الشريعة: من جملتها: من فاتته صلاة لا يعلمها بعينها. ومن جملتها: من يريد الصلاة في الثوبين المشتبهين


[ 340 ]

ومن جملتها: المتحير في تعيين جهة القبلة. بخلاف ما إذا وجب على رجل وطء امرأته واشتبهت بأجنبية، فإنه وجب عليه الترك، لأن وط‍ ء الأجنبية محرم مطلقا. بخلاف الجمع بين القصر والإتمام فإنه محرم عند العلم بوجوب إحداهما بعينها، لا مطلقا. السؤال الحادي عشر كيف عملكم معاشر الأخباريين فيما إذا كانت الحيرة في غير أحكام الله تعالى؟


[ 341 ]

مثاله: قصد رجل مسافة ولم يعلم أنها بلغت الحد المعتبر شرعا. ومثاله الآخر: أن نشك في هلال شهر رمضان أو هلال عيد الفطر أو هلال عيد الأضحى، أو أن الصوم يضر بالمريض أم لا، أو أن الحصرم على الكرم بلغ قدر النصاب أم لا. جوابه: أن كل صورة يكون تحصيل القطع فيها متعذرا أو متعسرا اكتفى الشارع فيها بالظن أو بالقطع بالعلامات المفيدة للظن، مثل استقبال جهة الكعبة، ومثل إضرار الصوم بالمريض، فيجب الفحص. ومع العجز يحتاط المتحير في القبلة، ويتمسك بالأصل المتحير في الإضرار ويبني على عدم الإضرار وكل صورة يتمكن من


[ 342 ]

القطع فيها من غير مشقة لا يتحمل مثلها عادة كالهلال وكدخول وقت الصلاة وكبلوغ المسافة الحد المعتبر شرعا وكبلوغ الإبل قدر النصاب المعتبر شرعا اعتبر أمرا حسيا من رؤية أو شهادة أو غيرهما فيجب الفحص. ومع العجز عن الظفر بالمقصود بنى على العدم في هلال شهر رمضان وفي هلال عيد الفطر ويحتاط في هلال عيد الأضحى، لاشتغال ذمته بإيقاع أفعال الحج في وقت معين وقد اشتبه عليه بالغيم. هذا مقتضى الخيالات الأصولية التي قد تصيب وقد تخطئ كما هنا. والحق أن حكم الأهلة الثلاثة واحد، وكلها داخل تحت القاعدة الشريفة المتواترة وهي قولهم (عليهم السلام): ” لا ينقض يقينا بشك أبدا وإنما ينقضه بيقين آخر فيحكم ببقاء الشهر الأول إلى أن يحصل اليقين بما يوجب شرعا الحكم بدخول الشهر الثاني كشهادة عدلين أو إخبار صبي مفيد لليقين بقرينة مقامية. وأما أمرهم (عليهم السلام) بتكرير أعمال ليلة القدر إذا اشتبه الهلال بالغيم فهو كأمرهم (عليهم السلام) بصوم يوم الشك بنية شعبان ولا يدل على مشروعية الوقوف بعرفة مثلا يوم الثامن إذا اشتبه الهلال احتياطا لا بطريق الوجوب ولا بطريق الاستحباب، كما لا يدل على مشروعية صلاة العيد يوم التاسع مثلا احتياطا، إذ ليس وقوف مطلوب شرعا يوم الثامن ولا صلاة عيد يوم التاسع. بخلاف أعمال ليلة القدر، فإنها مشروعة في غير ليلة القدر. وبخلاف الصوم فإنه مشروع في سلخ شعبان أيضا. ويحتاط في مسألة المسافة بالجمع بين القصر والإتمام، كما يحتاط في مسألة بلوغ الماء قدر الكر بالاجتناب عنه والتيمم. ويتوقف في مسألة بلوغ الإبل البعيدة عنه قدر النصاب ليظهر حقيقة الحال. والحديث


[ 343 ]

الوارد في دخول وقت الصلاة المشتمل على قوله (عليه السلام): ” تأخذ بالحائط لدينك صريح في وجوب القطع في مسألة الوقت، كما أن الأحاديث الواردة في استقبال الكعبة صريحة في كفاية الظن في مسألة القبلة. ثم أقول: انظر أيها اللبيب! كيف فرق الشارع بين الحيرة في نفس أحكامه وبين الحيرة في غير أحكامه؟ فأوجب التوقف في الأولى دائما، وأوجب البناء على العدم تارة والبناء على الاحتياط تارة في الثانية، فلا مجال لما فعلته العامة وجمع من الخاصة في كثير من المسائل الأصولية من إجراء حكم مسألة التحير في غير أحكامه تعالى من البناء على العدم في مسألة التحير في نفس أحكامه تعالى. السؤال الثاني عشر هل يكون عندكم حكم هلال شهر رمضان وحكم بلوغ المال حد النصاب وحكم بلوغ المال قدر الاستطاعة للحج واحدا؟ يعني كما يجب في مسألة الهلال الفحص كذلك يجب هنا أم لا؟ جوابه: أ نه ليس حكم المسألتين واحدا، وذلك لأنه بلغنا وجوب صوم شهر معين من أشهر السنة فيجب رعاية ذلك فيجب الفحص، ولم يبلغنا أنه لابد من بلوغ مالنا قدر النصاب أو قدر الاستطاعة في شهر من شهور السنة حتى يجب علينا الفحص عن ذلك، وإذا حدث في قلبنا ظن بلوغ المال قدر النصاب فله صورتان: إحداهما: صورة يتعذر تحصيل القطع بالقدر الواجب فيها عادة كما في الحصرم. والأخرى: لا يتعذر كما في الإبل. وحكم الصورة الثانية حكم بلوغ المسافة الحد المعتبر شرعا وحكم بلوغ الماء قدر الكر. وفي الصورة الأولى يكفي الظن. والحديث الوارد في باب الزكاة المتضمن خرص الأثمار على أصولها ثم ضمان المالك حصة الفقراء إذا أراد أن يتصرف


[ 344 ]

فيها صريح في كفاية الظن في الصورة الأولى وتوضيح المقام: أنا لا نحكم بوجوب الزكاة في الحصرم وفي الإبل إلا بعد القطع ببلوغهما قدر النصاب، لدخول هذه الواقعة تحت قولهم (عليهم السلام): ” لا ينقض يقينا بشك أبدا فإن الحالة السابقة القطع بعدم [وجود النصاب عندنا وبعدم] وجوب الزكاة في مالنا. وبعدما قطعنا بذلك نفرق بين البابين في القدر الواجب بأن في أحدهما يكفي الظن كما في جهة الكعبة، دون الآخر كما في بلوغ الماء قدر الكر وكما في بلوغ المسافة قدر القصر. ومن ظن أنه احتلم فبلغ يستحب أن يتفحص، كمن ظن أنه أصابت ثوبه نقطة من بول عند من يقول: باب خطاب الشارع إذا كان من باب الكراهة أو الندب يعم الصبي المميز، وعند من يقول باختصاص خطاب الشارع كله بالبالغ العاقل لا يستحب


[ 345 ]

بقي الكلام فيمن ظن أنه كمل خمسة عشر سنة هل يجب عليه الفحص أم لا؟ وجوابه واضح، لأن تعلق التكليف إنما يكون بعد ثبوت البلوغ. السؤال الثالث عشر هل يكون حكم فعل بلغنا حديث ضعيف صريح في وجوبه وحكم فعل بلغنا حديث صحيح صريح في أنه مطلوب غير صريح في وجوبه وندبه واحدا من جهة جواز الترك؟ وجوابه: أن للفرض الثاني صورا: إحداها: أن يكون الظاهر الوجوب ولم يكن نصا فيه. ومن المعلوم: أن الترك حينئذ من باب الجرأة في الدين، وتعيين الاحتمال الظاهر كذلك جرأة في الدين، فيجب الاحتياط في الفتوى والعمل. وثانيها: تساوي الاحتمالين. وهنا يجب التوقف عن تعيين أحدهما ومصداقه الاحتياط. وثالثها: أن يكون الظاهر الندب. وقد مضى حكمه سابقا. لا يقال: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم (عليه السلام) في السؤال الثاني صريحة في وجوب الاحتياط في هذا الموضع أيضا. لأ نا نقول: تلك الصحيحة وردت فيمن علم اشتغال الذمة بشيء ولم يعلم كيفيته بعينها. ورواية عبد الله بن صباح عن الكاظم (عليه السلام) وردت فيمن علم أن الصلاة واجبة عليه في وقت معين ولم يقطع بدخول ذلك الوقت. فإن قلت: قوله (صلى الله عليه وآله): ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك شامل لما نحن فيه. قلت: لا يوجب القطع، لجواز أن يكون المراد به العدول عن فعل وجودي يحتمل الحرمة إلى ما لا يحتمل الحرمة أو يكون المراد به الاستحباب كما ذهب


[ 346 ]

إليه جمع من العامة والخاصة ولك أن تقول: الفرض الأول والصورة الثالثة مندرجان تحت قوله (عليه السلام): ” ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم وقوله (عليه السلام): ” رفع القلم عن تسعة أشياء… ” من جملتها ما لا يعلمون فنحن معذورون ما دمنا متفحصين وخرج عن تحتهما كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه بالحديث المشتمل على حصر الأمور في ثلاثة وبنظائره. ومن هنا ظهر عليك وانكشف لديك الفرق بين احتمال وجوب فعل وجودي وبين احتمال حرمته، بأنه لا يجب الاحتياط في المسألة الأولى ويجب الاحتياط في المسألة الثانية. ومن جملة الغرائب التي وقعت من جمع من متأخري الخاصة موافقا للعامة! أ نهم إذا رأوا خطابا يحتمل وجوب فعل واستحبابه كالأحاديث الواردة في غسل الجمعة يفتون بأن المظنون أنه مندوب في حكم الله ويتمسكون في ذلك بالبراءة الأصلية، وكذلك إذا رأوا خطابا يحتمل الحرمة والكراهة يفتون بأن المظنون أنه مكروه في حكم الله تعالى للبراءة الأصلية وعدم ظهور مخرج عنها، وهم في غفلة عن دقيقة هي: أنا علمنا ورود حكم من الله تعالى في هذه الواقعة ولم نعلمه بعينه هل هو وجوب أو ندب أو حرمة أو كراهة، ومن المعلوم: أن أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المظنونة له تعالى ولم يمكن أن يقال: مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية. وبالجملة، التمسك بالبراءة الأصلية [إنما يتجه عند من لم يقل بالواجبات الذاتية ومحرماتها، ثم على هذا المذهب] إنما يتجه قبل إكمال الدين أو بعده مع تجويز خلو بعض الوقائع عن حكم وارد من الله تعالى. نعم، يمكن أن يقال بناء على ما نقله في كتاب العدة رئيس الطائفة عن سيدنا الأجل المرتضى رضي الله عنهما من أنه ذهب إلى أن في زمن الفترة الأشياء على الإباحة، بمعنى أنه لم يتعلق بأهل زمن الفترة شيء من التكاليف المخفية عنهم


[ 347 ]

الواردة من الله تعالى، إذ تعلق التكليف يتوقف على بلوغ الخطاب عند الأشاعرة، ويتوقف على أحد الأمرين تفطن العقل بالحكم، أو بلوغ الخطاب عند المعتزلة ومن وافقهم، والمفروض انتفاء الأمرين في زمن الفترة فانتفى تعلق التكليف: إن من لم يتفطن بحكم الله في واقعة لم يتعلق به ذلك الحكم. لكن هذا خلاف قواعدهم، لأنهم لم يبنوا فتاويهم على أن زمانهم زمان الفترة، بل يقولون: هكذا نزلت الشريعة. وبين المقامين بون بعيد. وتوضيح المقام: أن أهل الفترة معذورون لغفلتهم عن ورود الشريعة، وكذلك من علم إجمالا ولم يعلم تفصيلها، وبعد العلم بالتفاصيل في أمهات الأحكام مثل ﴿آلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾ ومثل (لا تقف ما ليس لك به علم) ومثل ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ مع قوله تعالى: ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق﴾ وغير ذلك لا يتجه العذر. ثم اعلم أن التمسك بما اختاره السيد المرتضى الفترة في زمن إنما يجري في زمن الغيبة الكبرى في سقوط وجوب فعل وجودي وفي الفتوى بسقوطه عنا ما دمنا جاهلين متفحصين. ولا يجري في سقوط حرمته، لأ نا بلغنا القواعد الكلية الواردة عنهم (عليهم السلام) المشتملة على وجوب الاجتناب عن كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه عند الله. هكذا ينبغي أن تحقق هذه المباحث. والتكلان على توفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. السؤال الرابع عشر إذا اغتسل رجل غسل يوم الجمعة ولم يكن على وضوء ثم شك في كون


[ 348 ]

الوضوء بعد غسل الجمعة بدعة وفي وجوبه بعده للصلاة وعجز عن تحصيل العلم بما هو حكم الله تعالى، كيف يكون حكمه؟ جوابه: يجب عليه الوضوء، لأنه علم اشتغال ذمته بما يتوقف على الطهارة ولم يعلم تلك الطهارة بعينها، والوضوء بعد الغسل بدعة إذا علم أن الغسل مغن عنه، والمفروض أنه جاهل بحكم الله تعالى متردد فيه. وكذلك إذا شك أحد في أن الذي خرج منه بول أو مني مع علمه بأنه أحدهما، يجب عليه الطهارتان، لما مر. السؤال الخامس عشر كيف عملكم في ماء وردت عليه نجاسة ونشك في بلوغه كرا وتعذر الاعتبار والاختبار وانحصر الماء فيه، هل توجبون الجمع بين الطهارتين أو تكتفون بالتيمم أو بالوضوء بهذا الماء؟ جوابه: أن مقتضى الأحاديث الواردة في باب الكر تعليق الحكم بنجاسة ذلك الماء على العلم بعدم بلوغه كرا وتعليق الحكم بطهارته على العلم ببلوغه كرا، ومقتضى هذين التعليقين وأيضا مقتضى الروايات الدالة على وجوب التوقف في كل ما لم نعلم حكمه بعينه وجوب التوقف عن الحكمين. ومن المعلوم: أن التوقف ملزوم للاجتناب عنه، فتعين الاكتفاء بالتيمم. وهذه المسألة عندنا كسائر ما نختاره من القطعيات. لا يقال: الأصل عدم بلوغه كرا فيحكم بنجاسته. لأ نا نقول: يلزمك وجوب الاجتناب عمن باشره بزعم أنه علم كريته. وأيضا هذا خلاف ظاهر النصوص، لأن ظاهرها تعليق الحكمين على العلمين، وأيضا لا يصح استعمال لفظ الأصل هنا بشيء من معانيه، كما لا يخفى على اللبيب. ولا يقال: الأصل طهارة الماء، وأيضا تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن كل شيء


[ 349 ]

طاهر حتى يستيقن أنه قذر وبأنه كل ماء طاهر حتى يستيقن أنه قذر لأ نا نقول: التمسك بالأصل وبتلك الأخبار إنما يتجه إذا لم نعلم طرو تلك الحالة، وبعد علمنا بطروها لا يتجه على أنا نقول: الروايتان الواردتان في الإنائين المشتبهين والروايات الواردة في الثوبين المشتبهين والواردة في اختلاط لحم المذكى بغير المذكى والواردة في اختلاط الحلال بالحرام، موجبة للقطع بوجوب الاجتناب عن ذلك الماء وعن الإنائين المشتبهين. ثم اعلم أن هنا أقساما ثلاثة: المحكوم عليه بالطهارة، والمحكوم عليه بالنجاسة والمحكوم عليه بوجوب التوقف عن الحكمين وبوجوب الاجتناب عنه. ومن المعلوم: أن الملاقي لأحد الثلاثة حكمه حكم أحد الثلاثة. وللمتأخرين في هذه المسائل تدقيقات لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا والله الموفق للصواب. فائدة تختلف طريقة الاحتياط في أحكام الله تعالى بحسب قلة البضاعة في علم


[ 350 ]

الحديث وكثرتها، وهذا يقتضي وجوب رجوع المتحير الواجب عليه الاحتياط إلى من هو أعلم منه، لأن هذا نوع من الاحتياط الواجب بقدر الإمكان. ومع العجز عن ذلك أو الغفلة عنه فهو موكول إلى طريقة تخطر بباله دفعا للحرج البين الواضح. وأما ظن ضرر الصوم بالمريض فقد يكون من الظنون الوجدانية المختصة بصاحب المرض، وقد يكون من الظنون المشتركة بين أهل الحيرة، ففي الصورة الأولى موكول إلى نفسه، وقع التصريح به في الأحاديث معللا بقوله تعالى: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ وأما طريق حفظ أنواع الودائع فيختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة وبحسب تجاريب الناس، فيجب الرجوع فيه إلى ظن أهل الخبرة كما في خرص الأثمار، ومع الغفلة عن ذلك أو العجز عنه فهو موكول إلى ما يخطر بباله، ولا حاجة في جميع تلك الصور إلى قطع ويقين، لما مر من الفرق بين باب أحكام الله وبين باب غير أحكام الله تعالى. وهنا دقيقة أخرى، وهي: أنه كثيرا ما تجامع براءة الذمة من الإثم اشتغال الذمة بقيمة الشيء أو بالدية. ولتكن هذه الفوائد على ذكر منك تنتفع بها في مواضع لا تعد ولا تحصى إن شاء الله تعالى. السؤال السادس عشر كيف عملكم فيمن شك بين حرمة عبادة ووجوبها عليه، كمرأة حاضت عند الميقات وشكت بين وجوب الإحرام عليها وبين حرمته ولم تجد عالما بحكم الله تعالى تسأله، وكمرأة اشتبه عليها وعلى أهل الخبرة من النساء أن دمها دم الحيض أو العذرة أو القرحة فشكت في حرمة الصلاة وفي وجوبها، وكفاقد الطهورين يشك بين وجوب الصلاة حينئذ وبين حرمتها ولم يجد عالما بحكم الله ليسأله؟


[ 351 ]

وجوابه: ما تقدم من وجوب التوقف ومن أن مصداقه هنا ترك الفعل الوجودي لعدم القطع بجوازه. وقد مر أن تقريره (عليه السلام) المرأة التي تركت الإحرام عند الميقات لحيضها وجهلها بحكم الله فيها مؤيد لما ذكرناه من أن مصداق التوقف هنا ترك الفعل الوجودي. وأيضا قد تواتر عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام): إياك أن تفتي الناس برأيك وتدين الله بما لا تعلم والمتردد بين حرمة عبادة ووجوبها غير عالم بها، فليس له أن يدين الله بها. ولو كان الاستصحاب الذي اعتبرته الشافعية وجمع من متأخري الخاصة صحيحا جاريا في أحكام الله تعالى، لما نطقت الأحاديث بخلافه في هذه المواضع. فعلم أن معنى قولهم (عليهم السلام): ” لا تنقض يقينا بشك أبدا وإنما تنقضه بيقين آخر كما مر وينادي عليه موضع ورود ذلك الحديث وأشباهه أن الذي جعله الشارع ناقضا لشيء إنما جعل اليقين ناقضا، لا الظن به ولا الشك فيه. السؤال السابع عشر ما قولكم في حيوان خرج من البحر لم نعلم حكم الله فيه؟ وجوابه: التوقف ومصداق الاجتناب عن أكله وترك الإفتاء بحله وبحرمته، وترك الإنكار على من أكله إذا احتمل علمه بحليته. لا يقال: قولهم (عليهم السلام): ” ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم جار هنا. لأ نا نقول: من المعلوم أن المراد به أن ما حجب الله العلم بوجوبه عن العباد وجوبه موضوع عنهم، وقد مر تحقيقه. وكذلك ما حجب الله العلم بحرمته حرمته موضوعة عنهم، وما حجب الله العلم بوجوب التوقف فيه التوقف فيه موضوع عنهم، وهاهنا وجوب التوقف معلوم بالروايات، وقد مر تحقيقه


[ 352 ]

ثم أقول: ما اشتهر في كتب الشافعية وجمع من متأخري الخاصة كتمهيد القواعد للشهيد الثاني (رحمه الله): من الفرق بين الطهارة وبين حلية الأكل، لأن النجاسة محصورة وما ليس بنجس غير محصورة ومأكول اللحم محصور وغير مأكول اللحم غير محصور، فعلى هذه القاعدة يحكم بطهارته وبعدم حلية أكله كلام خطابي خيالي لا يجوز التمسك به في أحكام الله تعالى فائدة الشيء الذي يجب علينا الاجتناب عنه لشبهة إذا لم يجتنب عنه غيرنا لا يجوز نهيه، لأن النهي عن المنكر إنما يكون مع علم الناهي بحرمته. لا يقال: الوقوف عند الشبهة يجب عليه أيضا. لأ نا نقول: ربما يكون هو في غفلة عنها أو ربما يعلم حاله. والجواب الأول مبني على أنه يجب على العالم تبليغ علمه ولا يجب عليه تبليغ ما اشتبه عليه. السؤال الثامن عشر ذكر الفاضل المدقق مولانا أحمد الأردبيلي (قدس سره) في أول تفسيره لآيات الأحكام


[ 353 ]

اعلم أن هنا فائدة لابد قبل الشروع في المقصود من الإشارة إليها، وهي: أن المشهور بين الطلبة أنه لا يجوز تفسير القرآن بغير نص وأثر، حتى قال الشيخ أبو علي الطبرسي قدس الله سره في تفسيره الكبير: واعلم أنه قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمة (عليهم السلام): ” أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح وروى العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ” من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وغيرهم. والقول في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواما فقال: ” لعلمه الذين يستنبطونه منهم وذم أخرى على ترك تدبره والإضراب عن التفكر فيه فقال: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ وذكر أن القرآن منزل بلسان العرب فقال: ﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا﴾ إلى أن قال: هذا وأمثاله يدل على أن الخبر متروك الظاهر، فيكون معناه إن صح أن من حمل القرآن على رأيه ولم يعلم شواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه. وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامهم، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى، فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن وجمل دلائل التوحيد. وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم. وأما الذي تعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام. وأما الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة. تم كلامه


[ 354 ]

أقول تحرير الكلام إن الخبر محمول على ظاهره غير متروك الظاهر وأ نه صحيح مضمونه على ما اعترف به في أول كلامه، حيث قال صح عن النبي (صلى الله عليه وآله). بيانه: أن الشيخ أبا علي (رحمه الله) قال في أول تفسيره: التفسير معناه كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الآخر. وقيل: التفسير كشف المغطى، والتأويل انتهاء الشيء ومصيره وما يؤول إليه أمره. وهما قريبان من الأولين، فالمعنى: من فسر وبين وجزم وقطع بأن المراد من اللفظ المشكل مثل المجمل والمتشابه كذا، بأن يحمل المشترك اللفظي مثلا على أحد المعاني من غير مرجح وهو إما دليل نقلي كخبر منصوص أو آية أخرى كذلك أو ظاهر أو إجماع أو عقلي أو المعنوي المراد به أحد معانيه بخصوصه بدليل غير الدليل المذكور على فرد معين، فقد أخطأ وبالجملة، المراد من التفسير الممنوع برأيه وبغير نص هو القطع بالمراد من اللفظ الذي غير ظاهر فيه من غير دليل بل بمجرد رأيه وميله، واستحسان عقله من غير شاهد معتبر شرعا، كما يوجد في كلام المبدعين، وهو ظاهر لمن تتبع كلامهم. والمنع منه ظاهر عقلا، والنقل كاشف عنه، وهذا المعنى غير بعيد عن الأخبار المذكورة بل ظاهرها ذلك انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: أولا: كلام الفاضل الصالح نور الله مرقده ناطق بغفلته عن الأحاديث الواردة عن أهل الذكر (عليهم السلام) المتعلقة بأصول الفقه والمتعلقة بما يجب على الناس بعد موته (صلى الله عليه وآله) والمتعلقة بكتاب الله والمتعلقة بكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو عدم إمعانه النظر فيها أو دخول شبهة عليه أوجبت طرح تلك الأحاديث أو تأويلها بزعمه. وينبغي أن يحمل فعله على أحسن الوجوه التي ذكرناها، لأنه كان من عظماء المقدسين قدس الله أرواحهم وتلك الأحاديث الشريفة مع تواترها معنى صريحة في أن استنباط الأحكام النظرية من كتاب الله ومن السنة النبوية شغلهم


[ 355 ]

سلام الله عليهم لا شغل الرعية، معللا بأنه (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى خص أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) بتعليم ناسخ القرآن ومنسوخه وبتعليم ما هو المراد منه وبتعليم أن أية آية من القرآن باقية على ظاهرها وأية آية لم تبق منه على ظاهرها، وبأن كثيرا من ذلك مخفي عندهم (عليهم السلام) وبأن ما اشتهر بين العامة من أن كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من حكم وتفسير ونسخ وتقييد وغيرها أظهره بين يدي أصحابه وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة اقتضت إخفاء بعضها غير صحيح. وثانيا: أن أحاديثهم (عليهم السلام) صريحة في أن مراده تعالى من قوله (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ومن نظائره أهل الذكر (عليه السلام) خاصة لا صاحب الملكة من الرعية. وأما كلام ابن عباس: فمعناه واضح لا غبار عليه، وهو أن معاني القرآن بعضها من ضروريات الدين يعرفه المسلمون كوجوب الصلاة والزكاة والحج إما من القرآن أو من غيره، وبعضها من ضروريات اللغة يعرفها كل عارف بها، وبعضها من النظريات لا يعلمها إلا العلماء. وأقول: الظاهر أن مراده علماء آل محمد (عليهم السلام) لأنه من تلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام) والظاهر أنه تكلم موافقا لما سمعه منه (عليه السلام). وفي التهذيب في باب الزيادات في القضاء والأحكام سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن حماد عن عاصم قال: حدثني مولى لسلمان عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: يا أيها الناس اتقوا الله! ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال قولا آل منه إلى غيره، وقد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه، فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا: يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟ فقال: يسأل عن ذلك علماء آل محمد (عليهم السلام) وفي كتاب بصائر الدرجات في باب أن الأئمة (عليهم السلام) أعطوا تفسير القرآن


[ 356 ]

محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن عاصم قال: حدثني مولى سلمان عن عبيدة السلماني قال سمعته يقول: يا أيها الناس اتقوا الله! ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال قولا آل منه إلى غيره، من قال قولا وضع على غير موضعه كذب عليه، فقال عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم: يا أمير المؤمنين فما نصنع بما خبرنا في المصحف؟ فقال: سلوا عن ذلك علماء آل محمد (عليهم السلام) وأقول ثالثا: ذكر العلامة أبو علي الطبرسي في أوائل مجمع البيان: روي عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ” من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار وصح عنه (صلى الله عليه وآله) من رواية العام والخاص أنه قال: ” إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأ نهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وإنما أحذف أسانيد هذه الأحاديث ايثارا للتخفيف ولاشتهارها عند أصحاب الحديث ثم ذكر واعلم أن الخبر قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمة القائمين مقامه (عليهم السلام) أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح، وروت العامة أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أ نه قال: ” من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب وعبيدة السلماني ونافع وسالم ابن عبد الله وغيرهم. والقول في ذلك: إن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواما عليه فقال: ” لعلمه الذين يستنبطونه منهم وذم آخرين على ترك تدبره والإضراب عن التفكر فيه فقال: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) وذكر أن القرآن منزل بلسان العرب فقال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) وقال النبي (صلى الله عليه وآله): ” إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط فبين أن الكتاب حجة ومعروض عليه، وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى؟ فهذا وأمثاله يدل على أن


[ 357 ]

الخبر متروك الظاهر فيكون معناه إن صح: أن من حمل القرآن على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ” إن القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه وروي عن عبد الله بن عباس أ نه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام: تفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العرب بكلامها وتفسير تعرفه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن وجمل دلائل التوحيد، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام، وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة انتهى كلام العلامة أبي علي الطبرسي (قدس سره). وأقول: أول كلامه (قدس سره) صريح في أنه لا يجوز تعيين مراد الله من العمومات ومن غيرها مما يقبل أن يصرف عن ظاهره وتعيين ناسخه من منسوخه إلا بدلالة أهل الذكر (عليهم السلام). فعلم أن قوله: ” والقول في ذلكالخ داخل في حيز قالوا… ” وأيضا لو لم يكن داخلا فيه يلزم التهافت بين أول كلامه وبين قوله: ” إن صح وكيف يظن بالعلامة الطبرسي مثل هذا الأمر الشنيع؟! وأيضا قد علمت سابقا أن هذا المعنى مما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وأيضا يفهم من كتاب الاحتجاج للطبرسي (قدس سره) أن طريقته كانت طريقة قدمائنا، ولذلك فهو (قدس سره) في تفاسيره لم يعين مراد الله تعالى قط في موضع لم يكن فيه أثر عنهم (عليهم السلام) بل رواه عن رجل من مفسري العامة. السؤال التاسع عشر أن يقال: المتأخرون القائلون بجواز التمسك في أحكام الله تعالى النظرية بغير خطاب صحيح صريح قد تحيروا في كثير من المسائل التي تعم بها البلوى، كصلاة الجمعة في زمن الغيبة الكبرى، وكوجوب غسل الجنابة لنفسه أو لغيره، وكبعض


[ 358 ]

مسائل باب الميراث وباب الطلاق، وكثير من مسائل باب الرضاع، وكقيود نيات العبادات كنية غسل الجنابة في أوائل ليالي شهر رمضان، وكصرف الخمس في زمن الغيبة الكبرى مع سعة طرق الاستدلالات في الاستنباطات الظنية عندهم، فإذا انسدت تلك الأبواب وما بقي إلا باب واحد زادت الحيرة وكثر الإشكالات والترددات. جوابه أن يقال: إن روعيت الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) الموجودة في كتب الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم وكتاب غيرهم من الثقات، وروعيت القرائن الموجبة للقطع بورودها عنهم (عليهم السلام) كالقرينة العادية القاطعة بأن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) مع وجود كثير من الأفاضل الأعلام وأصحاب التدقيق والورع والتحقيق فيهم ومع شدة حرصهم في أخذ الأحكام عنهم (عليهم السلام) وفي ضبطها ونشرها وحفظها وتأليفها ونقدها وتصحيحها كانوا متمكنين من ذلك في مدة تزيد على مدة ثلاثمائة سنة، والقاطعة بأنهم لم يقصروا في ذلك بل ألفوا وصححوا وضبطوا ونشروا، وكالقرينة العادية القاطعة بأن الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم اقتفوا أثرهم في ذلك وأخذوا أحاديث كتبهم من أصولهم الصحيحة ولم يخلطوا بينها وبين ما ليس مأخوذا منها من غير نصب علامة مميزة بينهما، فإن فيه تخريب الدين وقصدهم إرشاد المرشدين، وكاجتماع أخبار الأئمة الثلاثة بأن أحاديث كتبهم صحيحة بمعنى ثبوت ورودها عنهم (عليهم السلام)، وكتعاضد ذلك بما نقلناه عن السيد المرتضى وبما نقلناه عن المحقق الحلي والفاضل صاحب كتابي المعالم والمنتقى قدس الله أرواحهم وبما نقلناه عن الفاضل محمد بن إدريس الحلي وبما نقلناه عن كتاب الكشي: من أنه اجتمعت العصابة في حق ثمانية عشر رجلا من مصنفي الأصول على تصحيح ما يصح عنهم ومن المعلوم: أن أصول جمع من متأخري هؤلاء كانت جامعة لجميع أحاديث جميع أبواب الفقه كما يفهم من كلام المحقق الحلي في المعتبر ويقطع به المتتبع


[ 359 ]

الماهر اللبيب حق رعايتها لكان موضع الحيرة في المسائل التي تعم بها البلوى من النوادر. وجل هذه الإشكالات إنما نشأ من عدم رعايتها كما ينبغي، وسبب عدم الرعاية أحد الأمور الآتية: منها: أن أهل الاستنباطات الظنية قصدوا الاطلاع على ما هو حكم الله في الواقع ولم يكتفوا بما يكفيهم في صحة العمل. ومنها: عدم رعايتهم القواعد الأصولية المذكورة في كلامهم (عليهم السلام). ومنها: ألفة أذهانهم باعتبارات عقلية أصولية ظنية حسبوها أدلة عقلية قطعية فيتحيرون في الجمع بينها وبين الأخبار الصحيحة الصريحة. ومنها: قلة تفكرهم في أطراف المباحث وعدم ظفرهم بالقرائن التي تحصل من تتبع الروايات ومن اجتماعها في الذهن، وهي توجب القطع العادي في كثير من المواضع. ومنها: جمودة ذهن بعضهم. ومنها: قلة بضاعة بعضهم. ومنها: عدم استقامة طبع بعضهم والله المستعان وللحروب رجال وللثريد رجال! وكل ميسر لما خلق له، والعلم نقطة كثره الجاهلون، والجاهل إما مفرط أو مفرط. وأما اختلاف قدمائنا الأخباريين في بعض الفتاوى: فبسبب اختلاف ما بلغهم من أحاديثهم (عليهم السلام) وهذا النوع من الاختلاف لا ينتهي إلى تناقض، لابتناء أحد طرفي الاختلاف على ما ورد من جهة ضرورة التقية، كما حققه رئيس الطائفة (قدس سره) السؤال العشرون أن يقال: إن رئيس الطائفة قد يطرح في كتابي الأخبار وغيرهما بعض الروايات التي يظهر من القرائن أنها من جملة الروايات المأخوذة من الأصول المعتمدة، معللا بأنه ضعيف


[ 360 ]

وجوابه: أ نه ليس المراد بالصحيح والضعيف في كلامهم وفي كلام من تقدمه المعنى المراد منهما عند العلامة الحلي ومن جاء بعده، بل للصحيح عندهم ثلاثة معان: أحدها: ما قطع بوروده عن المعصوم. وثانيها: ذلك مع قيد زائد وهو إن لم يظهر معارض له أقوى منه في باب العمل. وثالثها: ما قطع بصحة مضمونه في الواقع أي أنه حكم الله في الواقع ولو لم يقطع بوروده عن المعصوم. وكذلك للضعيف عندهم ثلاثة معان مقابلة لتلك المعاني الثلاثة، يشهد بذلك اللبيب المنصف


[ 361 ]

وتوضيح المقام: أن الشيخ الطوسي صرح في كتاب العدة بأن كل حديث عمل به في كتبه أخذه من تلك الأصول التي وقع إجماع الطائفة على ورود كل ما فيها من الروايات عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) ولم يعمل بغيره، وصرح بأنه قد طرح العمل ببعض الروايات لأن معارضه أقوى منه إما لأجل أنه موافق لروايات كثيرة أو لأجل أ نه جمع بين ذلك الإجماع وبين قوة سنده ومراده من الضعيف هذا المعنى، لا أ نه لم يثبت وروده عنهم (عليهم السلام). يؤيد ذلك أنه كثيرا ما يقول: هذا الحديث ضعيف لأنه شاذ، أي يخالف أحاديث أخر كثيرة. السؤال الحادي والعشرون أ نه يلزم من حقية تلك القواعد الأصولية المتقدمة المستفادة من كلام الأئمة (عليهم السلام) ومن كلام قدمائنا ومن الأدلة العقلية أن يكون العلامة الحلي ومن جاء بعده ووافقه في أصوله، كالشهيدين وكالفاضل الشيخ علي وكالمقداد والسيوري وكالشيخ صلاح والشيخ فلاح والشيخ مفلح والشيخ مصلح ونظرائهم رحمهم الله في غفلة عن كثير من القواعد التي عليها مدار الشريعة المقدسة، مع أن كلام هؤلاء المشائخ المعظمين المكرمين الصائمين القائمين المشهورين المقتدين لعامة أهل بلادهم مؤيد بأصول أهل السنة والجماعة المعروفين بالتحقيق والتدقيق، فإن مسائلهم الكلامية موافقة في الأكثر لما ذكرته فحول المعتزلة، وقواعدهم الأصولية وقواعد الدراية في الأكثر موافقة لما في كتب العامة فيجب ترك نصوص الأئمة (عليهم السلام) وترك نصوص


[ 362 ]

أصحابهم، لأن قول المجتهدين لا يرد والرواية ترد، ولئلا يلزم غفلة هؤلاء المعظمين المجتهدين المعروفين بالفضل والصلاح. وجوابه: أن الأمر دائر بين الشيئين، بين نسبة الغفلة والمعذورية إلى هؤلاء المعروفين المحصورين في جماعة قليلة، وبين نسبة الغلط والخطأ إلى الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، فإن اختار أحد من المتعصبة الثانية أو ملزومها بعد علمه بالملازمة فالله حاكم بيني وبينه يوم القيامة. وأقول: قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ. ولا يزال يخطر بالبال أن أظهر حقا كنت أخفيه خوفا من تعصب الفساق والجهال، ولكن توكلت على الله فأظهرته، فإن رده الجاهلون فسيقبلها الماهرون، وإن ذمه الجهلة فسوف يمدحه الكملة


[ 363 ]

فأقول: من أغلاط العلامة الحلي: أنه في مقام ترويج مذهبه والرد على السيد الأجل المرتضى والرد على محمد بن إدريس الحلي والرد على المحقق الحلي في مسألة العمل بخبر الواحد المظنون العدالة نسب إلى جميع أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أنهم كانوا يعملون في عقائدهم وأعمالهم بخبر الواحد المظنون العدالة الخالي عن القرائن المفيدة للقطع ، ومن المعلوم: أن في أصحاب الأئمة جمعا ذكر الصادق (عليه السلام) في شأنهم أن هؤلاء أمناء الله في أرضه، لولا هؤلاء لاندرست آثار النبوة وقال في حقهم (عليه السلام): لا يزال ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين ونسب إلى رئيس الطائفة ذلك أيضا وتفرع على ذلك تناقضات في كلام رئيس الطائفة ذكرها المتأخرون كالشهيد الثاني في شرح رسالته في فن دراية الحديث مع أن المحقق الحلي قبل العلامة الحلي والشيخ الفاضل الشيخ حسن بن الشهيد الثاني قدس الله أرواحهم بعد العلامة الحلي فسروا كلام رئيس الطائفة تفسيرا لا يرد عليه تناقض أصلا على مقتضى تفسيرهما ورأينا كلام رئيس الطائفة في العدة صريحا فيما فهمناه. ومن أغلاطه: أنه ذكر في أصوله: أنه إذا جرت مخاصمة بين مجتهدين مبنية


[ 364 ]

على اختلاف اجتهادهما يجب عليهم الرجوع إلى أحد من الرعية ليفصل بينهما بقوله حكمت فإنه نصب لفصل الخصومات ومن جملة أغلاطه: ما نقله عنه الشهيد الثاني في شرح الشرائع من قوله: أفتيت بهذا بمجرد رأي ولم أجد فيه نصا وأثرا ومن جملة أغلاط الفاضل الشيخ علي: أنه أمر أهل المشرق بأن يأخذوا الجدي خلف المنكب الأيمن وخرب المحاريب التي كانت في بلاد العجم من زمن أصحاب الأئمة من الأفاضل المحققين الماهرين في الفن الرياضي كفضل بن شاذان الذي صنف رسالة في قبلة البلدان سماها إزاحة العلة في معرفة القبلة. ومن المعلوم: أن هذا تبعيد عن الحق في أمر يدرك بالحس، فكيف يعتمد على


[ 365 ]

فتاويه في الأمور النظرية العقلية الصرفة؟ وهذان الفاضلان والشهيدان هم العمدة بعد الشيخين الأقدمين ابن الجنيد وابن أبي عقيل وبعد محمد بن إدريس الحلي في إجراء أكثر قواعد أصول العامة وقواعد فن دراية الحديث في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وفي أحكامهم. والجماعة الآخرون الذين وافقوا هذه الخمسة في طريقتهم بضاعتهم في العلوم قليلة وبينهم وبين تحقيق المباحث الغامضة الدينية الأصولية بون بعيد، هيهات هيهات أين الثريا من الثرى! وهؤلاء يمكن أن يكونوا معذورين لغفلتهم، وأما بعد ما نبهنا الناس على أنهم غفلوا عن كثير من القواعد الأصولية التي هي مدار الشريعة وذهبوا إلى نقائضها، فلو وافقوهم لعمهم الفسق وشملهم الإثم مع أ نهم اعترفوا بأن ظن الميت كالميت


[ 366 ]

ومن أغلاط جمع من أهل الاجتهاد والمعروفين بالفضل والصلاح: أنهم يقولون: سمعنا من مشائخنا متصلا إلى أصحاب العصمة (عليهم السلام) أن الولد لرشده أو لغيه بكسر اللام الأول وضم اللام الثاني مع أن كل من له أدنى معرفة باللغة يقطع ببطلان هذا ويقطع بأن هذا افتراء بلا امتراء على الأئمة (عليهم السلام) ومن المعلوم: أن مثل هذا صدر عنهم من باب الإسراع في الأمور وعدم التزامهم أن يكون كلامهم بعد التأمل والتفكر في أطراف الأمور. ثم بعد ما ظهر الحق ما رضيت نفوسم بالاعتراف به، خوفا من أن تنقص درجتهم عند جهال الناس، وجعل الرشد في مقابله وقع في كلام الله تعالى: (قد تبين الرشد من الغي) ووقع في أبواب أخر من الأحاديث كقوله (صلى الله عليه وآله): ” إنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وشبهات بين ذلك وكتب اللغة كنهاية ابن الأثير وغيرهما مصرحة بخلاف ما يحكيه عن الأئمة (عليهم السلام) هذا الحاكي] ومن أغلاط جمع منهم: أنهم يقولون في كثير من الأحاديث الواردة في كمية الكر: إنها خالية عن ذكر أحد الأبعاد الثلاثة، لكنه محذوف ليقاس المحذوف على المذكور، والحذف مع القرينة شائع ذائع. وفي هذا دلالة على إسراعهم في تفسير الأحاديث وفي تعيين ما هو المراد منها، والدلالة على ذلك كله: أن أصح أحاديث هذا الباب هكذا: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته. وجه الدلالة: أنه يفهم اعتبار أربعة أشبار في العمق وثلاثة في الآخرين، فلم تبق دلالة على أن حكم المحذوف حكم المذكور مع وجود هذا الاحتمال، وأ نه يفهم من هذا الحديث الشريف أن المراد من أحد المذكورين في الأحاديث العمق ومن الآخر السعة. ومن المعلوم عند كل لبيب غير غافل: أن معنى السعة مجموع الطول والعرض، فلا حاجة إلى القول بالحذف. ومن له أدنى معرفة بأساليب كلام العرب يعرف أنهم يقصدون بقولهم: ” ثلاثة في ثلاثة في الثوب وشبهه أن كل واحد من طوله وعرضه ثلاثة، ويقصدون به في الحياض والآبار وشبههما أن كل واحد من


[ 367 ]

سعته وعمقه ثلاثة وتوضيح المقام: أن الكر في الأصل مكيال لأهل العراق، وإنما جرت عادة الأئمة (عليهم السلام) بذكر لفظ الكر في معرض بيان المعيار بين مقدار الماء الذي ينجس بمجرد ورود النجاسة عليه وبين مقدار الماء الذي ليس كذلك، لأن مخاطبهم (عليهم السلام) كان من أهل العراق، ومن المعلوم: أن الكر مدور مثل البئر، ومن المعلوم: أن المناسب بمساحة المدور أن يذكر قطره وأن يذكر عمقه وغير مناسب أن يذكر طوله وعرضه وعمقه. ومن جملة أغلاط جمع منهم: أن بعضهم زعم أن محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني هو ابن بزيع، وزعم أن كل حديث في طريقه الكليني عن محمد بن إسماعيل مرسل، ويلزم من ذلك أن يكون الإمام ثقة الإسلام مدلسا في هذا الباب. وأن بعضهم زعم أن محمد بن إسماعيل هذا هو البرمكي صاحب الصومعة، مع أن في كتاب الكشي عبارات ناطقة بأنه النيسابوري


[ 368 ]

ومن جملة إسراعهم: أنهم لم يطالعوا كتاب العدة ولا أصول المحقق ولاما ذكره في أوائل المعتبر، ولم يطلعوا على ما هو المسطور فيها من أن أحاديث كتب أصحابنا مأخوذة من أصول أجمعت الطائفة المحقة على أنها معتمد عليها، وأجمعت على جواز العمل بها بتفصيل مذكور فيها. ولم يمعنوا النظر فيما ذكره الإمام ثقة الإسلام في أوائل كتاب الكافي: من أن أحاديث كتابه كلها صحيحة، ولا فيما ذكره رئيس الطائفة في أول الاستبصار. وبالجملة، وقع تخريب الدين مرتين مرة يوم توفي النبي (صلى الله عليه وآله) ومرة يوم أجريت القواعد الأصولية والاصطلاحات التي ذكرتها العامة في الكتب الأصولية وفي كتب


[ 369 ]

دراية الحديث في أحكامنا وأحاديثنا. وناهيك أيها اللبيب؟ أن هذه الجماعة يقولون بجواز الاختلاف في الفتاوى من غير ابتناء أحدها على ضرورة التقية، ويقولون: قول الميت كالميت، مع أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ولا اختلاف فيهما أبدا


[ 370 ]

ومما يوضح هذا المقام ما في كتاب التهذيب لرئيس الطائفة قدس الله سره في باب القضاء سعد بن عبد الله، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبان بن عثمان، عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): لو قضيت بين رجلين بقضية ثم عادا إلي من قابل لم أزدهما على القول الأول، لأن الحق لا يتغير وفي باب البدع والرأي والمقائيس من كتاب الكافي عن حريز، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام، فقال: حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره وقال: وقال علي (عليه السلام): ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة. وفي باب بعد ذلك الباب: عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا وفيه: عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة وعن المعلى بن خنيس قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) ولا أظن برجل يخاف الله أن يكون في ريب مما تلوناه، وكم من رجل حسبناه صالحا، فلما ذكرنا عنده هذه الأحاديث تحرك عليه عرق العصبية والحسد وعاند وكابر إما قبل التصور أو بعده. والله الموفق


[ 371 ]

الفصل التاسع في تصحيح أحاديث كتبنا بوجوه، تفطنت بها بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام) وبجواز التمسك بها لكونها متواترة بالنسبة إلى مؤلفيها، وفي بيان القاعدة الشريفة التي وضعوها (عليهم السلام) للخلاص عن الحيرة في باب الأحاديث المتعارضة البالغة حد التعادل أو غير البالغة، وفي نصيحة لطيفة، فنقول بالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: الوجه الأول من الوجوه الدالة على صحة أحاديث الكتب الأربعة مثلا باصطلاح قدمائنا: إنا نقطع قطعا عاديا بأن جمعا كثيرا من ثقات أصحاب أئمتنا ومنهم الجماعة الذين أجمعت العصابة على أنهم لم ينقلوا إلا الصحيح باصطلاح القدماء صرفوا أعمارهم في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة في أخذ الأحكام عنهم (عليهم السلام) وتأليف ما يسمعونه منهم (عليهم السلام) وعرض المؤلفات عليهم (عليهم السلام) ثم التابعون لهم تبعوهم في طريقتهم واستمر هذا المعنى إلى زمن الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم. الوجه الثاني إنا نعلم أنه كانت عند قدمائنا أصول من زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى زمن الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم كانوا يعتمدون عليها في عقائدهم وأعمالهم، ونعلم علما عاديا أنهم كانوا متمكنين من استعلام حالة تلك الأصول وأخذ الأحكام


[ 372 ]

منهم (عليهم السلام) بطريق القطع واليقين، ونعلم علما عاديا أنهم كانوا عالمين بأنه مع التمكن من القطع واليقين في أحكام الله تعالى لا يجوز الاعتماد على ما ليس كذلك وأ نهم لم يقصروا في ذلك، واستمر هذا المعنى إلى زمن الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم فعلم أن تلك الأحاديث كلها صحيحة باصطلاح القدماء. الوجه الثالث إن مقتضى الحكمة الربانية وشفقة سيد المرسلين والأئمة (عليهم السلام) بالشيعة أن لا يضيع من كان في أصلاب الرجال منهم ويمهد لهم أصولا معتمدة يعملون بما فيها في زمن الغيبة الكبرى


[ 373 ]

الوجه الرابع إنه تواترت الأخبار بأنهم (عليهم السلام) أمروا أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم وضبطه ونشره لتعمل به الشيعة في زمن الغيبة الكبرى وأخبروا بوقوعه. الوجه الخامس إن أكثر أحاديثنا موجودة في أصول الجماعة التي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، أي على أنهم لم ينقلوا إلا الصحيح، وللعلم بوجودها في تلك الأصول طرق، من جملتها: أن نقطع بقرينة المقام أن الطريق المذكور للحديث إنما هو طريق إلى الأصل المأخوذ منه الحديث، وتلك القرينة وافرة في كتابي الشيخ وكتاب من لا يحضره الفقيه بل في كتاب الكافي أيضا عند النظر الدقيق. وقد ذكرهم شيخنا الثقة الجليل الصدوق أبو عمرو الكشي قدس الله سره في كتابه فقال، قال الكشي: أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) وأصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد ابن مسلم الطائفي؛ قالوا: وأفقه الستة زرارة، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري. حدثنا الحسين بن حسن بن بندار القمي قال: حدثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي قال: حدثني محمد بن أبي عبد الله المسمع قال حدثني علي بن حديد وعلي بن أسباط عن جميل بن دراج قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أوتاد


[ 374 ]

الأرض وأعلام الدين أربعة محمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وليث بن البختري المرادي، وزرارة بن أعين. وبهذا الإسناد عن محمد بن عبد الله المسمعي، عن علي بن أسباط، عن محمد ابن سنان، عن داود بن سرحان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إني لأحدث الرجل بحديث وأنهاه عن القياس، فيخرج من عندي فيتأول حديثي على غير تأويله، إني أمرت قوما أن يتكلموا ونهيت قوما، فكل يتأول لنفسه يريد المعصية لله تعالى ولرسوله، فلو سمعوا وأطاعوا لأودعتهم ما أودع أبي (عليه السلام) أصحابه، إن أصحاب أبي كانوا زينا أحياء وأمواتا، أعني: زرارة، ومحمد بن مسلم، ومنهم ليث المرادي، وبريد العجلي، هؤلاء قوامون بالقسط، هؤلاء قوالون بالصدق، هؤلاء السابقون السابقون أولئك المقربون انتهى كلامه (قدس سره). ثم قال في موضع آخر بعد ذلك: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح من هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه من دون أولئك الستة الذين عددناهم وسميناهم ستة نفر: جميل بن دراج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان ابن عثمان؛ قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه يعني ثعلبة بن ميمون أن أفقه هؤلاء جميل بن دراج، وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) ثم قال في موضع آخر بعد ذلك: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا (عليهم السلام) أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر آخر دون الستة النفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) منهم: يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد ابن محمد بن أبي نصر؛ وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب: الحسن بن علي بن فضال وفضالة بن أيوب، وقال بعضهم مكان ابن فضال: عثمان بن عيسى وأفقه


[ 375 ]

هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى انتهى كلامه. وأقول: مستند الإجماع الذي نقله الكشي في حق هذه الجماعة الروايات الناطقة بأنهم معتمدون في كل ما يروون. وبهذا التحقيق ظهر عليك وانكشف لديك: أن ما ذكره رئيس الطائفة في كتاب العدة: من أنه أجمعت الطائفة على صحة مراسيل جمع من الرواة كما أجمعوا على صحة مسانيدهم مبني على ورود الروايات الناطقة بأنهم معتمدون في كل ما يروون. والمتأخرون كالشهيد الثاني في شرح رسالته في فن دراية الحديث تكلموا على الإجماع الثاني، وسببه قلة تتبعهم واستعجالهم في التأليفات واشتغالهم بها قبل أن يحققوا المباحث، وبناؤهم تصانيفهم على المقدمات المألوفة المشهورة التي يوجد مصداقها في أحاديث العامة وفي رواة أحاديثهم، كما صرح بذلك ولد الشهيد الثاني، وقد مر نقله عنه الوجه السادس توافق أخبار الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم في صحة أحاديث كتبهم ولا يقدح في ذلك اشتمال طرق كثير منها على من تغير حاله من الاستقامة إما بانتحال المذاهب الفاسدة أو بظهور الكذب منه وطرو الاختلال عليه بعد أن كان ثقة مستقيما. ويؤيدهم ما تقدم نقله عن السيد الأجل المرتضى (رضي الله عنه). الوجه السابع إنه لو لم يكن أحاديث كتبنا مأخوذة من الأصول المجمع عليها لزم أن يكون أكثر أحاديثنا غير صالحة للاعتماد عليها، والعادة قاضية ببطلانه. الوجه الثامن إن كثيرا ما يطرح رئيس الطائفة الأحاديث الصحيحة باصطلاح المتأخرين


[ 376 ]

ويعمل بنقائضها الضعيفة باصطلاح المتأخرين. فلولا ما ذكرناه لما وقع من مثل رئيس الطائفة ذلك عادة. الوجه التاسع إن كثيرا ما يعتمد رئيس الطائفة على طرق ضعيفة مع تمكنه من طرق أخرى صحيحة. فلولا ما ذكرناه لما وقع ذلك من مثله عادة. الوجه العاشر إن رئيس الطائفة صرح في كتاب العدة وفي أول الاستبصار بأن كل حديث عمل به مأخوذ من الأصول المجمع على صحة نقلها. ونحن نقطع عادة بأنه ما كذب. الوجه الحادي عشر إن شيخنا الصدوق (قدس سره) ذكر مثل ذلك بل أقوى منه في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه. ونحن نقطع عادة بأنه ما كذب. وكذلك نقول في حق الكافي للإمام ثقة الإسلام


[ 377 ]

الوجه الثاني عشر إنا قطعنا قطعا عاديا في حق أكثر رواة أحاديثنا بقرينة ما بلغنا من أحوالهم أ نهم لم يرضوا بالافتراء في رواية الحديث، والذي لم نقطع في حقه بذلك كثيرا ما نقطع بأنه طريق إلى أصل الثقة الذي أخذ الحديث منه. والفائدة في ذكره مجرد التبرك باتصال سلسلة المخاطبة اللسانية، ودفع طعن العامة بأن أحاديثكم ليست معنعنة بل مأخوذة من كتب قدمائكم ومن أصولهم ومن جملة القرائن على ما ذكرناه أن الإمام ثقة الإسلام صرح في أول الكافي بصحة جميع أحاديثه ومع ذلك كثيرا ما يذكر في أوائل الأسانيد من ليس بثقة. بقي احتمال السهو وهو يندفع تارة بتعاضد بعض الروايات ببعض، وتارة بقرينة تناسب أجزاء الحديث، وتارة بقرينة السؤال والجواب وتارة بقرائن أخرى


[ 378 ]

وبعد التنزل عن المقام السابق نقول على سبيل الاستظهار: نحن قطعنا قطعا عاديا بأن تلك المسائل المذكورة في كتب حديثنا عرضت على الأئمة (عليهم السلام) وسئلوا عنها وبأنهم (عليهم السلام) أجابوا عنها وبأن أجوبتهم (عليهم السلام) موجودة في تلك الأحاديث المتداولة بين أصحابنا، واللازم من ذلك أن يكون كل تلك الأحاديث جوابهم أو بعضها. فإن لم ينقل في مسألة إلا حديث واحد أو نقلت فيها أحاديث متوافقة لم يبق إشكال، وإن نقلت فيها أحاديث متخالفة فللتميز علامات يعرفها الماهر في أحاديثهم (عليهم السلام) وسندلك على باب واسع فيه إن شاء الله تعالى بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام). وأما كون الكتب الأربعة [ونظائرها] متواترة النسبة إلى مؤلفيها قدس الله أرواحهم وأن هذا التواتر يفيد القطع الإجمالي وأن القطع التفصيلي بخصوصيات الأحاديث يحصل بالقرائن المقامية كاتفاق النسخ كما في كتاب الله تعالى، فهو أظهر من أن يظهر من أن يرتاب فيه لبيب منصف. ومما يوضح ذلك ما ذكره صاحب المعالم حيث قال (قدس سره) في كتاب المعالم الإجازة في العرف إخبار إجمالي بأمور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط والتصحيف ونحوهما، وما هذا شأنه لا وجه للتوقف في قبوله، والتعبير عنه بلفظ أخبرني وما في معناه مقيدا بقوله: ” إجازة تجوز مع القرينة فلا مانع منه. ومثله آت في القراءة على الراوي، لأن الاعتراف إخبار إجمالي، ولم يلتفتوا إلى الخلاف في قبوله وإنما ذكر بعضهم أن قبوله موضع وفاق. إذا عرفت هذا، فاعلم أن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا الأربعة، فإنها متواترة إجمالا، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال، ولا مدخل للإجازة فيه غالبا، وإنما فائدتها حينئذ بقاء اتصال سلسلة الإسناد بالنبي والأئمة (عليهم السلام) وذلك أمر مطلوب مرغوب إليه للتيمن كما لا يخفى انتهى كلامه أعلى الله مقامه


[ 379 ]

وإنما ذكرنا ذلك لتحقيق المقام الذي زلت فيه أقدام أقوام من فحول الأعلام لا لحاجتنا إليه فإني قد قرأت أصول كتاب الكافي وكل تهذيب الحديث وغيرهما على أعلم المتأخرين بعلم الحديث والرجال وأورعهم وهو سيدنا الإمام العلامة والقدوة الهمام الفهامة قدوة المقدسين أعظم المحققين الميرزا محمد الإسترابادي وهو قد قرأ على شيخه وقرأ شيخه على شيخه متصلة إلى أصحاب العصمة (عليهم السلام) كما ذكره في آخر كتاب الرجال نور الله مرقده ولي طرق أخرى من مشايخ أخر قدس الله سرهم منهم السيد والسند والعلامة الأوحد صاحب كتاب المدارك (قدس سره). وأما القاعدة الشريفة التي وضعوها (عليهم السلام) للخلاص عن الحيرة في باب الأحاديث المتعارضة فقد نطقت بها أحاديث بالغة حد التواتر المعنوي، مع صحة كثير منها في ظاهر الأمر وزعم المتأخرون أيضا، وصحة كلها عند التحقيق وعند قدمائنا ولا يمكنني استقصاؤها. ولنذكر ما يحضرني الآن منها، فمن تلك الجملة ما في كتاب الاحتجاج للطبرسي في مبحث احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) روى الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم (عليه السلام) فترد إليه وروى عن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) قال، قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه؟ قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي صاحبك فتسأله عنه. قال، قلت: لابد أن يعمل بأحدهما؟ قال: خذ بما فيه خلاف العامة وروى عن الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام) قال، قلت للرضا (عليه السلام): تجيئني الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال: ما جاءك عنا فاعرضه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا، فإن كان ذلك يشبههما فهو منا وإن لم يكن يشبههما فليس منا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلم نعلم أيهما الحق؟ قال: إذا لم


[ 380 ]

تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت وفي كتاب الاحتجاج في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري (رحمه الله) إلى صاحب الزمان (عليه السلام): يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه تكبيرة ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد في الجواب عن ذلك حديثان أما أحدهما: ” فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير “. وأما الحديث الآخر: فإنه روى إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى وبأيهما أخذ من باب التسليم كان صوابا. ومن تلك الجملة: صحيحة علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم أن صلهما في المحمل وروى بعضهم أن لا تصلهما إلا على الأرض، فاعلمني كيف تصنع أنت؟ لأقتدي بك في ذلك. فوقع (عليه السلام) موسع عليك بأية عملت وفي الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه. وفي رواية أخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك وذكر محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللآلي الذي ألفه في سنة سبع وتسعين وثمانمائة روى العلامة مرفوعا إلى زرارة ابن أعين قال: سألت الباقر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان


[ 381 ]

المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال (عليه السلام): يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي أنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال (عليه السلام): خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال: انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم، فإن الحق فيما خالفهم. فقلت: ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت: إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال (عليه السلام): إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر. وفي رواية أنه (عليه السلام) قال: إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله انتهى كلامه (رحمه الله). وذكر الشيخ السعيد قطب الدين شيخ الإسلام أبو الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي (قدس سره) في الرسالة التي صنفها في بيان أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها: أخبرنا الشيخان محمد وعلي ابنا علي بن عبد الصمد، عن أبيهما، عن أبي البركات علي بن الحسين، عن أبي جعفر بن بابويه: أخبرنا أبي، أخبرنا سعد بن عبد الله، عن أيوب بن نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال الصادق (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله عزوجل، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه. وعن ابن بابويه أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا محمد بن الحسن الصفار، وأخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن رجل، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسين بن السري، قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم. وعن ابن بابويه: أخبرنا محمد بن موسى بن المتوكل، أخبرنا علي بن الحسين السعدآبادي، حدثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قلت للعبد الصالح (عليه السلام): هل يسعنا فيما يرد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال (عليه السلام):ـ


[ 382 ]

لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا. قلت: فيروى عن أبي عبد الله (عليه السلام) شيء ويروى عنه خلافه فبأيهما نأخذ؟ قال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه. وعن ابن بابويه: أخبرنا أبي، أخبرنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أنتم والله على شيء مما هم فيه ولا هم على شيء مما أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنفية على شيء. وعن ابن بابويه: أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن داود بن الحصين، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: والله، ما جعل الله لأحد خيرة في اتباع غيرنا، وأن من وافقنا خالف عدونا ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منهم. وعن ابن بابويه: أخبرنا محمد بن موسى بن المتوكل، أخبرنا علي بن الحسين السعدآبادي، أخبرنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن محمد بن عبيد الله قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فانظروا ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه. وعن ابن بابويه: أخبرنا أبي، أخبرنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه انتهى ما أردنا نقله عن رسالة قطب الدين الراوندي وفي آخر كتاب السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام): محمد بن علي بن عيسى قال سألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم قد اختلف علينا فكيف العمل به على اختلافه أو الرد إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب: ما علمتم أنه قولنا


[ 383 ]

فالزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا وفي كتاب المجالس للشيخ الأجل أبي علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله): بسنده عن عمرو بن شمر عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ونحن جماعة بعد ما قضينا نسكنا، فودعناه وقلنا له: أوصنا يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال (عليه السلام): ليعن قويكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا ولا تحملوا الناس على أعناقنا. وانظروا أمرنا، وما جاءكم عنا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به وإن لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا أقول: في هذا الحديث الشريف وأشباهه إشارة إلى أن مرادهم (عليهم السلام) من العرض


[ 384 ]

على كتاب الله عرض الحديث الذي جاء به غير الثقة على واضحات كتاب الله أي التي تكون من ضروريات الدين أو من ضروريات المذهب، بقرينة قوله (عليه السلام): ” وإن اشتبه الأمر عليكم وبقرينة ما تقدم من الأحاديث الدالة على وجوب التوقف عند كل مسألة لم يكن حكمها بينا واضحا. وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) لشيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنهما قالا: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثني محمد بن عبد الله المسمعي قال: حدثني أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الرضا (عليه السلام) يوما، وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشيء الواحد، فقال (عليه السلام): ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاتبعوا ما وافق نهي النبي (صلى الله عليه وآله) وأمره. وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكرهه ولم يحرمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا الينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم. وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا. قال مصنف هذا الكتاب (رحمه الله) كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) سيئ الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه ولم ينكره ورواه لي والحديث الشريف بطوله مذكور في كتاب عيون الأخبار نحن ذكرنا موضع الحاجة منه


[ 385 ]

وفي الكافي في باب اختلاف الحديث محمد بن يحيى، عن محمد ابن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفر به، قال الله عز وجل: ﴿يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به﴾ قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال، فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه؛ وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة قلت


[ 386 ]

جعلت فداك! أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك! فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات وروى رئيس الطائفة في التهذيب بسنده عن عبد الملك بن أعين قال: حج جماعة من أصحابنا فلما وافوا المدينة ودخلوا على أبي جعفر (عليه السلام) فقالوا: إن زرارة أمرنا بأن نهل بالحج إذا أحرمنا، فقال لهم: تمتعوا. فلما خرجوا من عنده دخلت عليه فقلت: جعلت فداك! والله لئن لم تخبرهم بما أخبرت به زرارة ليأتين الكوفة وليصبحن بها كذابا. قال: ردهم علي، قال: فدخلوا عليه فقال: صدق زرارة، ثم قال: أما والله! لا يسمع هذا بعد اليوم أحد مني وروى بسنده عن إسماعيل الجعفي قال: خرجت أنا وميسر وأناس من أصحابنا فقال لنا زرارة: لبوا بالحج، فدخلنا على أبي جعفر (عليه السلام) فقلنا: أصلحك الله! إنا نريد الحج ونحن قوم صرورة أو كلنا صرورة فكيف نصنع؟ فقال: لبوا بالعمرة. فلما خرجنا قدم عبد الملك بن أعين فقلت له: ألا تعجب من زرارة قال لنا: لبوا بالحج وإن أبا جعفر (عليه السلام) قال لنا لبوا بالعمرة؟ فدخل عليه عبد الملك بن أعين فقال له: إن أناسا من مواليك أمرهم زرارة أن يلبوا بالحج عنك وأ نهم دخلوا عليك فأمرتهم أن يلبوا بالعمرة، فقال أبو جعفر (عليه السلام): يريد كل إنسان منهم أن يسمع على حدة أعدهم علي فدخلنا فقال: لبوا بالحج، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبى بالحج وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): حدثنا علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن أبي عبد الله البرقي ومحمد بن موسى البرقي ومحمد بن علي ماجيلويه، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد السياري قال حدثنا علي بن أسباط


[ 387 ]

قال: قلت للرضا (عليه السلام): يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ قال، فقال: ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحق فيه وفي كتاب القضايا من تهذيب الحديث عن علي بن أسباط قال: قلت له: يحدث الأمر من أمري لا أجد بدا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه، فقال ائت فقيه البلد إذا كان ذلك فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحق فيه أقول: من جملة نعماء الله تعالى على الطائفة المحقة: أنه خلى بين الشيطان وبين علماء العامة ليضلهم عن الحق في كل مسألة نظرية، ليكون الأخذ بخلافهم لنا ضابطة كلية نظير ذلك ما ورد في حق النساء: شاوروهن وخالفوهن وفي الكافي في باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول وعنده أناس من أصحابه: عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمة ويصفون ان طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم! فينقصونا حقنا ويعيبون ذلك


[ 388 ]

على من أعطاه الله تعالى برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا . وفي باب الشرك: عن عميرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: أمر الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا، ثم قال: وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا كانوا بذلك مشركين . أقول: قد تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن المشرك قسمان: مشرك في العبادة ومشرك في الطاعة . ويمكن أن يكون المراد هنا الثاني. وفي باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): عن أبي إسحاق النحوي قال دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسمعته يقول: إن الله عز وجل أدب نبيه على محبته فقال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ ثم فوض إليه فقال عز وجل: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وقال عز وجل: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ ثم قال: وإن نبي الله فوض إلى علي والأئمة فسلمتم أنتم وجحد الناس، فو الله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل، ما جعل الله لأحد خيرا في خلاف أمرنا . وأقول: هنا فوائد: الفائدة الأولى من المعلوم عند أولي الألباب: أن هذه الأحاديث ناطقة بجواز العمل بخبر الثقة في الرواية، ومن المعلوم: أن حكم باب الفتاوى أضيق من باب الشهادة في قضية جزئية، إذ على الأول تبنى جزئيات كثيرة إلى يوم القيامة بخلاف الثاني، ولأنه يجب في باب الفتاوى العلم والقطع بأحد الأمرين كما حققناه سابقا بخلاف القضايا الجزئية، ومن المعلوم: أن في باب الشهادات لابد من العدلين، فعلم أن خبر الثقة في الرواية أقوى من شهادتهما


[ 389 ]

الفائدة الثانية إن أحاديث هذا الباب صريحة فيما اختاره رئيس الطائفة من جواز العمل بخبر الواحد الثقة في الرواية واستدل عليه باجماع الطائفة، ونحن نستدل عليه بهذه الروايات المتواترة وبالروايات الواردة في وكلاء الصاحب (عليه السلام) المشتملة على الأمر بالأخذ عنهم، لأنهم ثقات وأشباه ذلك. وإذا لاحظنا هذه الروايات مع ما أثبتناه من أنه لابد في باب الفتاوى من أحد القطعين ينتج أن خبر الثقة في الرواية يفيد القطع العادي، كما حققناه سابقا وجعلناه من أنواع القرائن المفيدة للقطع بصحة الخبر، لا بصحة مضمون الحديث


[ 390 ]

الفائدة الثالثة إنه يفهم من هذه الأحاديث الشريفة: أن من جملة نعماء الله تعالى على هذه الطائفة أنه جل جلاله جوز لهم العمل بكل ما ورد من أصحاب العصمة ولو كان وروده من باب التقية. الفائدة الرابعة إنه يفهم من بعض تلك الأحاديث أنه إذا لم نطلع على أحد الوجوه المرجحة المذكورة فيها يجب التوقف عن تعيين أحد الطرفين قولا وفعلا إلى لقاء صاحبنا (عليه السلام) ويفهم من بعضها أنه حينئذ نحن مخيرون في العمل بأيهما نريد من باب أن كل ما ورد منهم (عليهم السلام) يجب علينا تسليمه ولو كان وروده في الواقع من باب التقية والشفقة على الرعية، لا من باب أن حكم الله الواقعي التخيير، ولا من باب أنه إذا تعارضت الأمارات في نظر المجتهد فهو مخير في العمل بأيتهما أراد كما هو مذهب من يعمل بالظن في نفس أحكامه تعالى. وقد تحير الطبرسي في كتاب الاحتجاج وابن جمهور الإحسائي في كتاب غوالي اللآلي في الجمع بينهما. والذي فهمت أنا من كلامهم (عليهم السلام) أنه إن كان مورد الحديثين المختلفين العبادات المحضة كالصلاة فنحن مخيرون في العمل. وإن كان غيرها من حقوق الآدميين من دين أو ميراث أو وقف على جماعة مخصوصين أو فرج أو زكاة أو خمس فيجب التوقف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني قدس الله سره ذكر في كتاب الكافي ما يدل على العمل بالحديث الدال على التخيير وقصده (قدس سره) ذلك عند عدم ظهور شيء من المرجحات المذكورة في تلك الأحاديث. وينبغي أن يحمل كلامه على ما إذا كان مورد الروايتين العبادات المحضة، بقرينة أنه (قدس سره) ذكر بعد ذلك في باب اختلاف الحديث مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في المتخاصمين في دين أو ميراث، الناطقة بأنه مع عدم ظهور شيء من المرجحات المذكورة يجب الإرجاء إلى لقاء الإمام (عليه السلام)ـ


[ 391 ]

الفائدة الخامسة إن هذه الرواية الشريفة مشهورة بين متأخري أصحابنا بمقبولة عمر بن حنظلة بناء على أن علماء الرجال لم يوثقوه. لكن الشهيد الثاني (رحمه الله) وثقه في شرح رسالته في فن دراية الحديث واعترض عليه ولده الشيخ حسن قدس سرهما في كتاب المنتقى، حيث قال: من عجيب ما اتفق لوالدي (قدس سره) أنه قال في شرح بداية الدراية: إن عمر بن حنظلة لم ينص الأصحاب عليه بتعديل ولا جرح، ولكنه حقق توثيقه من محل آخر فوجدت بخطه (رحمه الله) في بعض مفردات فوائده ما صورته: عمر ابن حنظلة غير مذكور بجرح ولا تعديل، ولكن الأقوى عندي أنه ثقة، لقول الصادق (عليه السلام) في حديث الوقت: إذا لا يكذب علينا والحال أن الحديث الذي أشار إليه ضعيف الطريق فتعلقه به في هذا الحكم مع ما علم من انفراده به غريب! ولولا الوقوف على الكلام الأخير لم يختلج في الخاطر أن الاعتماد في ذلك على هذه الحجة انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: لنا مندوحة عن التمسك بما تمسك به العلامة ومن وافقه في إثبات صحة بعض الأحاديث من كون راويه إماميا عدلا ضابطا، وذلك لتصريح ابن بابويه في أول كتاب من لا يحضره الفقيه بأن كل ما فيه صحيح حجة بينه وبين الله تعالى، يعني أنه قاطع بوروده عن أصحاب العصمة صلوات الله عليهم بتواتر أو بقرينة إجماع أو بغيرهما ولو كان وروده في الواقع من باب التقية والشفقة على الرعية. وصرح الإمام ثقة الإسلام في أول الكافي بقريب من ذلك. وهذه الرواية الشريفة مذكورة فيهما وعمل بها رئيس الطائفة قدس الله سره مع تصريحه في مواضع من كتاب العدة في الأصول بأن كل حديث عمل به في كتاب من كتبه أخذه من الأصول المجمع على صحة نقلها وإنا قطعنا قطعا عاديا بأن أمثال هذه الدعاوى لم تصدر عن أمثال هؤلاء الأجلاء إلا في الأمور


[ 392 ]

الصحيحة البينة الواضحة التي لا تصلح لأن يرتاب فيها أحد. وبالجملة، كتاب من لا يحضره الفقيه كاف لنا في حصول القطع العادي بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) في جميع أبواب الفقه، فما ظنك إذا انضم إليه كتاب الكافي مع ما ذكره مصنفه في أوائله من صحة كل ما فيه، وإذا انضم إليه كتاب رئيس الطائفة مع ما ذكره مصنفهما من أنه لم يعمل إلا بالأحاديث المأخوذة من الأصول المجمع على صحتها وبعد التنزل عن هذا المقام، أقول: هذه الرواية متواترة المعنى. وأما النصيحة اللطيفة فأقول كأني أنظر إلى جماعة من الجهلة المنتسبين إلى


[ 393 ]

العلم من عربي وعجمي ينكرون ما استفدناه من كلام أصحاب العصمة صلوات الله وسلامه عليهم إما من اعوجاج الذهن، أو جموده والبلادة، أو من الحسد والشقاوة. فلنتبارك ببعض النصائح المذكورة في أوائل كتاب المعتبر حيث قال: إن في الناس: المستعبد نفسه لشهوته، المستغرق وقته في أهويته، مع إيثاره الاشتهار بآثار الأبرار، واختياره الاتسام بسمة الأخيار، إما لأن ذلك في جبلته أو لأنه وسيلة إلى حطام عاجلته فيثمر هذان الخلقان نفاقا غريزيا وحرصا على الرئاسة الدينية طبيعيا، فإذا ظهرت لغيره فضيلة عليه خشي غلبة المزاحم ومنافسة المقاوم، ثم يمنعه نفاقه عن المكافحة فيرسل القدح في زي المناصحة، ويقول: لو قال كذا لكان أقوم، أو لم يقل كذا لكان أسلم، موهما أنه أوضح كلاما أو أرجح مقاما. فإذا ظفرت بمثله فليشغلك الاستعاذة بالله من بليته عن الاشتغال بإجابته، فإنه شر الرجال وأضر على الأمة من الدجال! فكأني بكثير ممن ينتحل هذا الفن يقف على شيء من مقاصد هذا الكتاب فيستشكله ويحيل فكره فيه فلا يحصله


[ 394 ]

فينزله بذهنه الجامد على التأويل الفاسد ويدعو إلى متابعته، لظنه الإصابة، فهو كما قيل: ” أساء سمعا فأساء إجابة فعليك بإمعان النظر فيما يقال، مستفرغا وسعك في رد الاحتمال، فإذا تعين لك الوجه فهناك فقل وإلا فاعتصم بالتوقف، فإنه ساحل الهلكة، وإنك مخبر في حال فتواك عن ربك وناطق بلسان شرعه، فما أسعدك إن أخذت بالجزم! وما أخيبك إن بنيت على الوهم! فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى: ﴿وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ وانظر إلى قوله: ﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ء الله أذن لكم أم على الله تفترون﴾ وتفطن كيف قسم مستند الحكم إلى قسمين، فما لم يتحقق الإذن فأنت مفتر انتهى كلامه أعلى الله مقامه


[ 395 ]

الفصل العاشر في بيان الاصطلاحات التي تعم بها البلوى وفيه فوائد: الفائدة الأولى نفس الأمر: ظرف النسبة الخبرية الصادقة. والاعتبار الذهني: أي فرضه ظرف للنسبة الخبرية الكاذبة. ومعنى كون الشيء في نفس الأمر: أنه في حد ذاته، إذ الأمر هو الشيء، أي ليس هو منوطا بفرض فارض واعتبار معتبر فيكون الشيء في نفس الأمر يرجع إلى معنى سلبي ولأجل ذلك نفس الأمر ظرف لنسب القضايا السلبية المحضة الصادقة، كما أنها ظرف لنسب القضايا الصادقة الإيجابية. ووجود الشيء في نفسه قسمان: وجود يترتب عليه آثاره المعتد بها، فسموه بالوجود الأصيل والعيني والخارجي. ووجود ليس كذلك فسموه بالوجود الظني والذهني والوجود الإدراكي. ووجود الشيء لغيره قسمان، لأنه قد يكون عروضه لذلك الغير في وجوده الخارجي، وقد يكون في وجوده الذهني، فالأول مسمى بالعروض الخارجي والثاني بالعروض الذهني. وصفة الشيء قسمان: صفة لها وجود في نفسها هو عين وجودها لموصوفها، وهي مسماة بالصفة الحقيقية والصفة الانضمامية والخارجية. وصفة ليست كذلك، بل معنى الاتصاف بها في نفس الأمر صلاحية موصوفها لانتزاعها منه، وهي مسماة بالصفة الانتزاعية والصفة الاعتبارية. ويكون وجود شيء في الخارج، لا وجود وجوده. ويكون عروض شيء في


[ 396 ]

الخارج، لا وجود عروضه. وقد يكون نفس الأمر ظرفا لوجود نسبة في الذهن لا لنفس تلك النسبة، مثاله: النسب الكاذبة الموجودة في الذهن. والواسطة في الثبوت هي العلة لوجود الشيء، والواسطة في الإثبات هي الدليل لإثبات المدعى. والواسطة في العروض هي المعروض الأول للعارض. والحيثية في كلام القوم جاءت على وجوه ثلاثة: الحيثية التي هي بيان للإطلاق، كقولنا: الموجود من حيث هو موجود، والحيوان من حيث هو حيوان أو من حيث هو هو، فقالوا: كم من قيد بحسب اللفظ فهو بيان للإطلاق بحسب المعنى، وقالوا: لأن ملاحظة الإطلاق متقدمة على ملاحظة التقييد به وليست الأولى مستلزمة للثانية. والحيثية التي هي للتقييد، كقولنا: الحيوان من حيث إنه ناطق نوع. والحيثية التي هي للتعليل كقولنا: التقي من حيث إنه تقي يستحق على الله ثواب عمله. ثم اعلم أن القيد قسمان: قيد مخصص لما قيد به، وقيد مغير لما قيد به مثال الأول واضح. وأما مثال الثاني، كقولنا: الجسم الفرضي والجسم بالفرض، والمطابق للواقع زعما، ومعدوم النظير، وواسع الدار وأبيض الفرس، صرح بذلك السيد الشريف في حواشي المطول، وقد غفل عنه الفاضل الدواني ووقع في حيص وبيص. الفائدة الثانية قال الشهيد الثاني (رحمه الله) في تمهيد القواعد الأصولية والعربية: الحكم الشرعي خطاب الله أو مدلول خطابه المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. قلت: عند المعتزلة الأحكام الخمسة بل الوضعية أيضا من الصفات الذاتية للأفعال، فلا ينطبق هذا التعريف على مذهبهم. ولك أن تقول: إذا قيد الحكم بالشرعي لابد على مذهبهم أيضا من أن يؤخذ في تعريفه الخطاب أو مدلول الخطاب. ثم قال: وزاد بعضهم أو الوضع ليدخل جعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا، كجعل الله تعالى زوال الشمس موجبا لصلاة الظهر، وجعله الطهارة شرطا لصحة


[ 397 ]

الصلاة، والنجاسة مانعة من صحتها، لاستفادته من الشارع، ولا طلب فيه ولا تخيير، إذ ليس من أفعالنا حتى يطلب منا أو نخير فيه. وتكلف المقتصر على الأول بمنع كونها أحكاما، بل هي أعلام له، أو بعودها إليهما وهو تكلف بعيد. ومع ذلك فيتخلف كثيرا في أفعال غير المكلفين انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: لابد من تلك الزيادة، لأنه من المعلوم: أن الجعل المذكور معنى مغاير للأحكام الخمسة، وأن له آثارا مغايرة لآثارها وأ نه مستفاد من الشارع. لا يقال: قد تقرر في موضعه أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولكل أحد أن يصطلح على ما يشاء، فيجوز أن يكون تخصيص الحكم الشرعي بما عدا الوضعي من باب الاصطلاح لا من باب المنازعات المعنوية. لأ نا نقول: قد تقرر في موضعه أن اصطلاحات أهل كل فن ينبغي أن يكون على وجه يناسب غرض الفن. ومن المعلوم: أنه كلما تعلق الغرض بالأحكام الخمسة تعلق بالأحكام الوضعية. وبالجملة، إخراج هذا النوع من الخطاب عن الحكم الشرعي غير سديد. ثم قال: من فروع كون الحكم الشرعي لابد من تعلقه بأفعال المكلفين أن وط ء الشبهة القائمة بالغافل وهو ما إذا وطئ أجنبية ظانا أنها زوجته مثلا هل يوصف بالحل أو بالحرمة وإن انتفى عنه الإثم، أو لا يوصف بشيء منهما؟ فاللازم من القاعدة: الثالث، لأن الساهي ليس مكلفا. وربما أبدل بعضهم المكلفين بالعباد، ليدخل مثل ذلك، التفاتا إلى تعلق الحكم الشرعي بكثير من غير المكلفين كضمان الصبي ما يتلفه من الأموال ويجنيه على البهائم. والأشهر اعتبار القيد وجعل المكلف بذلك هو الولي. وعلى هذا يتفرع جواز وصف فعل الساهي للمحرم


[ 398 ]

على غيره بالحل، نظرا إلى عدم ترتب الإثم على فعله، ويجري ذلك في قتل الخطأ وأكل المضطر الميتة. والأولى وصف هذا بالإباحة وإن حرم اختيارا انتهى كلامه (قدس سره). وأنا أقول: كلامهم في هذا المقام غير سديد، وذلك لأن الذاهل عن حكم الله لا يتعلق بفعله خطاب اقتضائي ولا تخييري ما دام ذاهلا، وغير الذاهل لابد من أن يتعلق بفعله أحد الخطابين، ومن هذا القبيل من وطئ أجنبية يظن أنها زوجته، فيكون وطؤه موصوفا بالحل الشرعي قطعا، فاللازم من القاعدة: الأول. توضيح ذلك: أن الموصوف بالحل الشرعي هو الذي تعلق به خطاب التخيير أو أحد الثلاثة وهنا تعلق والمثال المطابق للمقام: من وطئ أجنبية عالما بأنها أجنبية ذاهلا عن حكم الله فيها، فإنه حين هو كذلك لا يتعلق بفعله خطاب اقتضائي ولا تخييري. ويرد على قوله ليدخل مثل ذلك… ” أنه لا يدخل بالإبدال، لما عرفت من أن الذاهل عن حكم الله لا يتعلق بفعله حكم من الأحكام الاقتضائية أو التخييرية. وقوله: ” إلتفاتا إلى تعلق الحكم الشرعي بكثير من غير المكلفين كضمان الصبي ما يتلفهالخ غير منقح. وتنقيح المقام: أن الخطاب الوضعي لا يتعلق أولا وبالذات بالفاعل، بل يتعلق أولا وبالذات بفعل الفاعل أو بغير فعل الفاعل، والخطاب الاقتضائي والتخييري يتعلقان بالفاعل أولا وبالذات ثم يتعلقان بفعله ثانيا وبالعرض، ومن ثم ليس التكليف شرطا في الوضعي وقوله: ” ويجري ذلك في قتل الخطأ وأكل المضطر الميتة كلام ظاهري


[ 399 ]

وتحقيق المقام: ما ذكرناه من أن الذاهل عن حكم الله تعالى حين هو كذلك لا يتعلق بفعله خطاب تخييري ولا اقتضائي، فلا يتصف بالحل الشرعي والإباحة الشرعية. نعم، يتصف بالإباحة الأصلية. وأما غير الذاهل عن حكم الله فيتصف فعله بذلك، سواء كان مضطرا في فعله كأكل الميتة، أو انتهى فعله إلى أمر لم يقصده كقتل الخطأ وسواء كان عالما بما هو حكم الله أو متحيرا فيه. ثم قال: ومنها: ما لو أتلف الصبي أو المجنون مالا، فعلى مغايرة الحكم الوضعي للشرعي لا إشكال فيتعلق بهما الضمان، لأن إتلاف مال الغير المحترم سبب في ضمانه والحكم الوضعي لا يعتبر في متعلقه التكليف، ولكن لا يجب عليهما أداؤه ماداما ناقصين، لأن الوجوب حكم شرعي. نعم، يجب على وليهما دفعه من مالهما، ولا فرق بين أن يكون لهما مال حال الاتلاف أو عدمه انتهى كلامه. وأقول: قصده أنه لا إشكال في أخذ المكلف في تعريف الحكم الشرعي، لأن الوضعي ليس من أفراد الحكم الشرعي، فلا يتجه أن يقال: تعريف الحكم الشرعي غير جامع. ثم قال: ومنها: لو أودعا ففرطا فإنه لا ضمان، لأن حفظ الوديعة غير واجب عليهما، لأنه من باب خطاب الشرع، ولو تعديا فيها فأتلفاها أو بعضها ضمنا لما ذكرناه، وفي هذين خلاف مشهور بين الأصحاب والموافق منه للقاعدة ما قررناه. ومنها: ما لو جامع الصبي أو المجنون، فإنه لا يجب عليهما حينئذ الغسل، لأنه من باب خطاب الشرع أيضا، ولكن الجماع من قبيل الأسباب التي يشترك فيها المكلف وغيره، فيجب عند التكليف عليهما الغسل بذلك السبب السابق إعمالا


[ 400 ]

للسببية، ولا يقدح فيه تخلف المسبب عنه لفقد الشرط، كما لا يقدح تخلفه عنه لوجود المانع فإذا وجد الشرط أو زال المانع عمل السبب عمله. ومثله القول في وجوب الوضوء بالحدث الأصغر الواقع قبل التكليف لو حضر وقت عبادة مشروطة به بعده انتهى كلامه (رحمه الله). وأنا أقول: تحقيق المقام أن الخطاب الوارد من الشارع بعض أقسامه يتعلق أولا وبالذات بالمكلف ما دام هو مكلفا، أي ما دام عاقلا بالغا غير غافل عن الخطاب وهو الخطاب الاقتضائي والتخييري. وبعض أقسامه يتعلق أولا وبالذات بفعله وبفعل البهائم كما إذا جنت بهيمة على زرع أو إنسان، وبفعل الصبي والمجنون كما إذا أتلفا مال الغير، وبغير الفعل كجعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر وهو الخطاب الوضعي. ثم اعلم أن بعض أصحاب الأصوليين زعم أن خطاب الشارع كله متعلق بأفعال الكاملين الغير الغافلين عنه ما داموا غير غافلين عنه والحق ما اخترناه من تعلق بعضه أولا وبالذات بنفس المكلف، وبعضه بفعله وبفعل غيره، وبعضه بأمر ثالث كزوال الشمس. ثم هنا مقام آخر، وهو أن الخطاب الاقتضائي الندبي هل يتعلق بالصبي المميز أيضا أم لا؟ والمشهور بين القوم الثاني والمستفاد من كلامهم (عليهم السلام) الأول. [ففي باب وصية الصبي والمحجور عليه: عن العبدي، عن الحسن بن راشد، عن العسكري (عليه السلام) قال: إذا بلغ الغلام سبع سنين فجائز أمره في ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود وإذا تم للجارية سبع سنين فكذلك وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إذا بلغ الغلام ثلاث عشر سنة كتبت


[ 401 ]

له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك انها تحيض لتسع سنين قلت: الوجوب جاء في كلامهم (عليهم السلام) بمعنى تأكد الاستحباب كثيرا في مواضع باب الأغسال. والشائع في كلامهم (عليهم السلام) إطلاق الفرض والفريضة بمعنى الوجوب المتعارف عند علماء الأصول، والجمع بين الأحاديث يقتضي حمل الوجوب على تأكد الاستحباب.] ثم أقول: الخطاب الوضعي إذا تعلق بفعل الصبي أو المجنون أو بفعل البهيمة، قد يكون مقتضاه تعلق خطاب اقتضائي بمالك البهيمة، وقد يكون مقتضاه تعلق خطاب اقتضائي بعاقلة الصبي أو المجنون أو وليهما أو بمن يكون بيت مال المسلمين تحت يده، وقد يكون مقتضاه تعلق خطاب اقتضائي بالصبي أو المجنون إذا كملا. وتعيين تلك المقتضيات منوط بالسماع عن الصادقين (عليهم السلام) لا بهذه الاعتبارات الظنية الخيالية إلا عند من زعم أن الله تعالى لعدم تناهي الأحكام الشرعية [وامتناع أن يودعها عند أحد لأجل ذلك] ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخائل. والشهيد الثاني (رحمه الله) سلك في كتاب تمهيد القواعد مسلك العامة في اصطلاحاتهم وقواعدهم وتعريفاتهم بأدنى تصرف فيها، ولما أراد تغيير عباراتهم عن نسقها بحذف أو بزيادة أو بتقديم أو تأخير قصرت عباراته في مواضع كثيرة عن إفادة المراد. والعبارة الواضحة الغير القاصرة في هذا المقام ما ذكره الفاضل المدقق بدرالدين الزركشي الشافعي في أوائل شرحه لجمع الجوامع حيث قال: قول الفقهاء: الصبي يثاب ويندب له، كله على سبيل التجوز عند الأصوليين، ولا يكون ندب ولا كراهة إلا في فعل المكلف، وهذا أمر مرفوع عنه عند الأصوليين، نبهوا عليه بقولهم: ” المتعلق بأفعال المكلفين كذا قال المصنف، وسبقه إليه الهندي فقال الدليل على أنه لا يتعلق بفعل الصبي حكم شرعي الإجماع، فإن الأمة أجمعت على أن شرط التكليف العقل والبلوغ وإذا انتفى التكليف عنهم لفقد شرطه انتفى الحكم الشرعي


[ 402 ]

عن أفعالهم، والمعني بتعلق الضمان بإتلاف الصبي أمر الولي بإخراجه من ماله. وقال الشيخ تقي الدين عبر بعضهم بأفعال العباد ليشمل الضمان المتعلق بفعل الصبي والمجنون، ومن اعتبر التكليف رد ذلك الحكم إلى الولي وتكليفه بأداء القدر الواجب. قلت: وكذا القول في اتلاف البهيمة ونحوه، فإنه حكم شرعي وليس متعلقا بفعل المكلف، والحاصل رده إلى التعلق بفعل المكلف، لأن التعلق تارة يكون بواسطة وتارة يكون بغير واسطة انتهى كلامه أعلى الله مقامه. الفائدة الثالثة قال الشهيد الثاني (قدس سره) في تمهيد القواعد الأصولية والعربية: الأصل لغة ما يبنى عليه الشيء، وفي الاصطلاح يطلق على الدليل والراجح والاستصحاب والقاعدة. ومن الأول قولهم الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. ومن الثاني: الأصل في الكلام الحقيقة. ومن الثالث: تعارض الأصل والظاهر. ومن الرابع قولهم: لنا أصل وهو أن الأصل يقدم على الظاهر، وقولهم: الأصل في البيع اللزوم، والأصل في تصرفات المسلم الصحة، أي القاعدة التي وضع عليها البيع بالذات، وحكم المسلم بالذات اللزوم وصحة تصرفه، لأن وضع البيع شرعا لنقل مال كل من المتبايعين إلى الآخر، وبناء فعل المسلم من حيث إنه مسلم على الصحة، وذلك لا ينافي رفعه بدليل خارجي، كوضع الخيار في البيع، وعروض مبطل لفعل المسلم، وتقديم الظاهر على الأصل في موارد. وأما قولهم: الأصل في الماء الطهارة، فيجوز كونه من هذا القسم وهو الأنسب، وأن يكون من قسم الاستصحاب انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: إن شئت تحقيق المقام بما لا مزيد عليه فاستمع لما نتلوا عليك من الكلام بتوفيق الملك العلام. فنقول: مرادهم من الراجح ما يترجح إذا خلي الشيء ونفسه، مثلا إذا خلي


[ 403 ]

الكلام ونفسه أي لم يكن قرينة صارفة يحمله المخاطب على المعنى الحقيقي، لأنه راجح حينئذ. والمراد من الأصل في قولهم: ” الأصل براءة الذمة هذا المعنى، وكذلك من قولهم: ” الأصل في الماء عدم تنجسه ويمكن أن يكون المراد من الأصل في هاتين الصورتين المستصحب أي الحالة السابقة. وأما قولهم: ” الأصل في كل ممكن عدمه فيمكن حمله على الحالة الراجحة، ويمكن حمله على الحالة السابقة، لكن الثاني إنما يصح عند من لم يقل بعدم بعض الممكنات، وجمهور الفلاسفة قالوا بذلك على التفصيل المشهور في كتب الحكمة والكلام. والأشاعرة قالوا بقدم الصفات السبع في حقه تعالى. واعلم أن المذكور في شرح المختصر مكان الاستصحاب ” ” المستصحب وهو بفتح الحاء، وهو من جملة معاني الأصل وإنما عدل الشهيد الثاني (رحمه الله) عنه، لأن من جملة الأدلة الشرعية الاستصحاب لا المستصحب، وإطلاق مأخذ الاشتقاق وإرادة المشتق شائع ذائع. مثال تعارض الأصل والظاهر: ثوب القصارين وأرض الحمامات، فإن الظاهر أي المظنون ورود النجاسة عليهما، والأصل أي الحالة السابقة عدم الورود. ويمكن حمل الأصل هنا على الحالة الراجحة كما لا يخفى على اللبيب. وأما قولهم: ” الأصل يقدم على الظاهر فيصح بمعنى المستصحب وبمعنى الحالة الراجحة. وهذه القاعدة موافقة لتصريحات كلامهم (عليهم السلام) لكنها عند التحقيق والنظر الدقيق جارية في الوقائع الجزئية لا في أحكام الله تعالى، لأنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن لكل واقعة حكما معينا قطعيا واردا من الله تعالى حتى أرش الخدش، والجاهل بعينه يجب عليه التوقف إلى أن يطلع عليه. وأما قولهم: ” الأصل في البيع اللزوم فمن المعلوم: أن الأصل فيه ليس بمعنى الحالة السابقة، ولا بمعنى الحالة الراجحة إذا خلي الشيء ونفسه، لثبوت خيار المجلس، فلذلك حمل على القاعدة. وكثيرا ما يتمسك بتلك القاعدة الفقهاء في


[ 404 ]

إثبات صحة بيع مشتمل على شرط اختلف في صحتة. وتلك القاعدة ليست موافقة لأحاديثهم (عليهم السلام) بل أحاديثهم (عليهم السلام) ناطقة ببطلانها، وبأن العقود المشتملة على القيود بعضها صحيح وبعضها فاسد، وبأن التمييز بينهما منوط بالسماع عنهم (عليهم السلام) لأنهم عارفون بما يوافق منها كتاب الله. وأما قولهم: الأصل في تصرفات المسلم الصحة، فهذه القاعدة موافقة للأحاديث الواردة في أبواب متفرقة، فنحن معاشر الأخباريين نقول بها ولا نغفل عن الفرق بين أخبار المسلم وبين أفعاله، فإن في الأول يجب التوقف. وأما قولهم: ” الأصل في الماء الطهارة فيمكن أن يحمل على الحالة الراجحة سواء فسرت الطهارة بمعنى عدمي، أو فسرت بمعنى وجودي، نظير ذلك قولهم: ” الأصل في الكلام الحقيقة وكما أن هناك الحقيقة فرع الوضع، هنا الطهارة فرع الشرع، والمراد التخلية عما عدا ما اعتبر فيهما من وضع أو شرع. ويمكن أن يحمل على الحالة السابقة. ويمكن أن يحمل على القاعدة، وهي موافقة لقولهم (عليهم السلام): كل شيء طاهر حتى يستيقن أنه قذر ولقولهم (عليهم السلام) كل ماء طاهر حتى يستيقن أنه قذر


[ 405 ]

الفصل الحادي عشر في بيان أغلاط المعتزلة والأشاعرة ومن وافقهم في تعيين أول الواجبات. وتوضيح المقام: أن كل من تكلم في مسألة أول الواجبات وفي مسألة أهل الفترة والأطفال وأشباههما بمقتضى عقله وهم المعتزلة والأشاعرة وجمع قليل من أفاضل أصحابنا زلت قدمه وخر أبعد ما بين السماء والأرض! ومن تمسك فيهما وفي غيرهما بأصحاب العصمة (عليهم السلام) العاصمين للأمة عن الخطأ في المسائل النظرية نجا، وهم الأخباريون من أصحابنا الملتزمون للتمسك بكلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) في كل مسألة ليست من ضروريات الدين، والباعث لالتزامهم ذلك أمران: عقلي، ونقلي: أما العقلي: فما حققناه سابقا من أن المنطق غير عاصم عن الخطأ في مواد الأفكار والعاصم عنه صاحب العصمة. وأما النقلي: فما مضى في كلامنا: من أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأنه يجب التمسك بكلامهم (عليهم السلام) في كل مسألة لم تكن من ضروريات الدين. ولننقل طرفا من كلام القوم، ثم نشتغل بذكر ما استفدناه من كلام أصحاب العصمة صلوات الله عليهم. ففي شرح المواقف: المقصد السادس: النظر في معرفة الله أي لأجل تحصيلها واجب إجماعا منا ومن المعتزلة. وأما معرفة الله تعالى فواجبة إجماعا من الأمة، واختلف في طريق ثبوته أي ثبوت وجوب النظر في المعرفة فهو يعني طريق الثبوت عند أصحابنا السمع، وعند المعتزلة العقل


[ 406 ]

وفيه أيضا: المقصد السابع: قد اختلف في أول واجب على المكلف أنه ماذا؟ فالأكثر ومنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري على أنه معرفة الله تعالى، إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية، وعليه يتفرع وجوب كل واجب من الواجبات الشرعية. وقيل: هو النظر فيها أي في معرفة الله سبحانه لأنه واجب اتفاقا كما مر، وهو قبلها. وهذا مذهب جمهور المعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الاسفرائني. وقيل: هو أول جزء من النظر، لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه، فأول جزء من النظر واجب ومقدم على النظر المتقدم على المعرفة. وقال القاضي واختاره ابن فورك وإمام الحرمين: أ نه القصد إلى النظر، لأن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المتقدم على أول أجزائه. والنزاع لفظي، إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول أي أريد أول الواجبات المقصودة أولا وبالذات فهو المعرفة اتفاقا، وإلا أي وإن لم يرد ذلك بل أريد أول الواجبات مطلقا فالقصد إلى النظر، لأنه مقدمة للنظر الواجب مطلقا، فيكون واجبا أيضا. وقد عرفت أن وجوب المقدمة إنما يتم في السبب المستلزم دون غيره انتهى ما أردنا نقله. وفي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي في مقام ذكر أدلة المعتزلة لإثبات الحسن والقبح العقليين وردها قالوا: لو كان شرعيا لزم افحام الرسل، فلا تفيد البعثة وبطلانه ظاهر. بيانه: إذا قال الرسول: ” أنظر في معجزتي كي تعلم صدقي فله أن يقول: ” لا أنظر فيه حتى يجب علي النظر وأ نه لا يجب حتى أنظر أو يقول: ” لا يجب علي حتى يثبت الشرع ولا يثبت الشرع حتى أنظر وأنا لا أنظر ويكون هذا القول حقا ولا سبيل للرسول إلى دفعه، وهو حجة عليه وهو معنى الإفحام. الجواب أما أولا: فإنه مشترك الإلزام، لأنه إن وجب عندهم بالعقل فليس ضروريا لتوقفه على إفادة النظر للعلم مطلقا وفي الإلهيات خاصة، وعلى أن المعرفة واجبة وأ نها لا تتم إلا بالنظر وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والكل مما لا يثبت إلا بالنظر الدقيق. وإذا كان وجوبه نظريا فللمكلف أن يقول ما تقدم بعينه، وهو أنه لا يجب ما لم أنظر ولا أنظر ما لم يجب أو لا يجب ما لم يحكم


[ 407 ]

العقل بوجوبه ولا يحكم ما لم يجب “. وأما ثانيا: فبالحل وهو أن قوله: ” لا أنظر حتى يجب غير صحيح، لأن النظر لا يتوقف على وجوب النظر وهو ظاهر. وقد يقال: فلا يمكن إلزامه النظر، وهو معنى الإفحام. ولو سلم أن النظر يتوقف على وجوبه فقوله: ” لا يجب حتى أنظر، أو حتى يثبت الشرع غير صحيح، فإن الوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم ينظر ثبت الشرع أو لم يثبت، لأن تحقق الوجوب لا يتوقف على العلم به، وإلا لزم الدور وليس ذلك من تكليف الغافل في شيء فإنه يفهم التكليف وإن لم يصدق به انتهى. وأنا أقول أولا: قد نقل عن الصوفية أن معرفته تعالى عندهم ضرورية لا كسبية، فكيف يصح قوله: فأما معرفته تعالى فواجبة إجماعا من الأمة؟ ثم أقول ثانيا: قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متصلة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بأن معرفة الله تعالى [ومعرفة توحيده] بعنوان أنه خالق العالم وأن له رضى وسخطا، وأ نه لابد من معلم من جهة الله تعالى ليعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه من الأمور الفطرية التي وقعت في القلوب بإلهام فطري إلهي، كما قال الحكماء: الطفل يتعلق بثدي أمه بإلهام فطري إلهي. وتوضيح ذلك: أنه تعالى ألهمهم بتلك القضايا، أي خلقها في قلوبهم وألهمهم بدلالات واضحة على تلك القضايا، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليه الكتاب، فأمر فيه ونهى. وبالجملة، أنه لم يتعلق بهم وجوب ولا غيره من التكليفات إلا بعد بلوغ خطاب الشارع، ومعرفة الله تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق الإلهام بمراتب وكل ما بلغته دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) يقع في قلبه من الله تعالى يقين على صدقه، فإنه تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنه: ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه، قبله أو تركه فأول الواجبات الإقرار اللساني بالشهادتين


[ 408 ]

وكذلك تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنه على الله التعريف والبيان وعلى الخلق أن يقبلوا ما عرفهم الله تعالى وطريق التعريف والبيان أنه تعالى أولا يلهمهم بتلك القضايا وكذلك يلهمهم بدلالات واضحة عليها صادعة قلبهم، ثم بعد ذلك تبلغهم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) والدلالة على صدقه، ثم بعد ذلك يجب عليهم الإقرار [أي: الاعتراف اللساني ثم الاعتراف القلبي] بالشهادتين وبباقي ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) إجمالا. وبأن من لم يحصل في حقه هذه الأمور سواء كان من أهل الفترة أو كان له مانع آخر لم يتعلق به تكليف في دار الدنيا ويتعلق به تكليف بدل ذلك يوم القيامة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. [ويفهم من كلامهم (عليهم السلام): أن الاعتراف والإقرار القلبي أمر مغاير للمعرفة التصديقية التي بها يرتفع الشك والتردد، وأن الأول فعل مطلوب من العبد، وأن الثاني من خلق الله في القلوب. وتوضيح ذلك: أن العبد الغير المنافق إذا قال لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، فقد حصل إقراران: اللساني والقلبي، فحديث النفس بذلك المعنى لأجل الانقياد اعتراف قلبي


[ 409 ]

ويفهم من كلامهم (عليهم السلام): أن تأليف معان مخصوصة بعضها مع بعض لأجل إيقاعها هو إرادة العبد، وتأليف معان أخر مخصوصة لأجل الانقياد بها هو الاعتراف القلبي، ومن ثم وقع التصريح في كلامهم (عليهم السلام) في مواضع كثيرة بأن فعل العبد ثلاثة: تفكر القلب، والنطق باللسان، وعمل الجوارح وحقيقة تفكر النفس تحريك بعض القوى الداركة ليترتب عليه حضور معان مخصوصة وحصول تأليف مخصوص بينهما، كما أن حقيقة الإحساس تحريك بعضها ليترتب عليه الحضور والإحساس] . وذكر ابن حجر المكي في شرح القصيدة الهمزية عند قول ناظمها: لم تزل في ضمائر الكون مختار لك الأمهات والآباء لك أن تأخذ من كلام الناظم الذي علمت من الأحاديث مصرحة به لفظا في أكثره ومعنى في كله: أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله) غير الأنبياء وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر، لأن الكافر لا يقال في حقه: إنه مختار ولا كريم ولا طاهر، بل نجس كما في آية ﴿إنما المشركون نجس﴾ وقد صرحت الأحاديث السابقة بأنهم يختارون وأن الآباء كرام والأمهات طاهرات. وأيضا فهم إلى إسماعيل (عليه السلام) كانوا من أهل الفترة، وهم في حكم المسلمين بنص الآية الآتية، وكذا من بين كل رسولين. وأيضا قال الله تعالى: ﴿وتقلبك في الساجدين﴾ على أحد التفاسير فيه: أن المراد تنقل نوره من ساجد إلى ساجد وحينئذ فهو صريح في أن أبوي النبي (صلى الله عليه وآله) آمنة وعبد الله


[ 410 ]

من أهل الجنة لأنهما من أقرب المختارين. وهذا هو الحق، بل في حديث صحيح غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه أن الله تعالى أحياهما له فآمنا به خصوصية لهما وكرامة له (صلى الله عليه وآله) فقول ابن دحية: ” برده القرآن والإجماع ليس في محله، لأن ذلك ممكن شرعا على جهة الكرامة والخصوصية، فلا يرده قرآن ولا إجماع. وكون الإيمان به لا ينفع بعد الموت محله في غير الخصوصية والكرامة، وقد صح أنه (صلى الله عليه وآله) ردت عليه الشمس بعد مضيها فعاد الوقت حتى صلى العصر أداء كرامة له (صلى الله عليه وآله) فكذا هنا. وطعن بعضهم في صحة هذا مما لا يجدي أيضا. وخبر إن الله تعالى لم يأذن لنبيه (صلى الله عليه وآله) في الاستغفار لأمه إما كان قبل إحيائها له وإيمانها به، أو أن المصلحة اقتضت تأخير الاستغفار لها عن ذلك الوقت فلم يؤذن له فيه حينئذ. فإن قلت: إذا قررتم أنهما من أهل الفترة وأ نهم لا يعذبون فما فائدة الإحياء. قلت: فائدته اتحافهما بكمال لم يحصل لأهل الفترة، لأن غاية أمرهم أنهم ألحقوا بالمسلمين في مجرد السلامة من العقاب، وأما مراتب الثواب العلية فهم بمعزل عنها، فألحقا بمرتبة الإيمان زيادة في شرف كمالهما بحصول تلك المراتب لهما. ولا يرد على الناظم آزر فإنه كافر مع أن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز أنه أبو إبراهيم (عليه السلام) وذلك، لأن أهل الكتابين أجمعوا على أنه لم يكن أباه حقيقة وإنما كان عمه والعرب تسمي العم أبا، بل في القرآن ذلك، قال تعالى: (وآبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) مع أنه عم يعقوب، بل لو لم يجمعوا على ذلك وجب تأويله بهذا جمعا بين الأحاديث. وأما من أخذ بظاهره كالبيضاوي وغيره فقد تساهل واستروح. وحديث مسلم قال رجل: يا رسول الله أين أبي؟ قال: ” في النار فلما قفا دعاه فقال: ” إن أبي وأباك في النار متعين تأويله، وأظهر تأويلاته: أنه أراد بأبيه عمه


[ 411 ]

أبا طالب، أو أنه إنما قصد بذلك أن يطيب خاطر ذلك الرجل خشية أن يرتد أو كان ذلك قبل أن ينزل عليه (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) كما وقع أنه سئل عن أطفال المشركين، فقال: ” هم من آبائهم ثم سئل عنهم فذكر أنهم في الجنة وأما قول النووي في حديث مسلم إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو في النار “: وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره عليه الصلاة والسلام فبعيد جدا، للاتفاق على أن إبراهيم ومن بعده لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته، إذ لم يعلم لغير نبينا (صلى الله عليه وآله) عموم بعثة بعد الموت. وقد يؤول كلامه بحمله على عباد الأوثان الذين ورد فيهم أنهم في النار. وبهذا يؤول كلام الفخر الرازي القريب من كلام النووي ثم رأيت الآبي شارح مسلم بالغ في الرد على النووي بأن كلامه متناف لحكمه بأنهم أهل فترة، وبأن الدعوة بلغتهم ومن بلغتهم الدعوة ليسوا أهل فترة، لأنهم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول ولا أدركوا الثاني. ثم قال (5): ولما دلت القواطع على أن لا تعذيب حتى تقوم الحجة علمنا أن أهل الفترة غير معذبين انتهى. وهو موافق لما ذكرته. وأما الذين صح تعذيبهم مع كونهم من أهل الفترة، فلا يردون نقضا على ما عليه الأشاعرة من أهل الكتاب والأصول والشافعية من الفقهاء من أن أهل الفترة لا يعذبون، وسبب ذلك أننا عهدنا في الغلام الذي قتله الخضر (عليه السلام) أنه حكم بكفره


[ 412 ]

مع صباه لأمر يعلمه الله ورسوله، فلا يرد هؤلاء نقضا على ما استفيد من الآية ومشى عليه أولئك الأئمة، لأن أهل الفترة لا يعذبون. هذا الذي ذكرته في الجواب أولى من الجواب بأن أحاديثهم أخبار آحاد ولا يعارض القطع بأن أهل الفترة لا يعذبون، أو بأن التعذيب المذكور في الأحاديث مقصور على من بدل وغير من أهل الفترة بما لم يعذر به، كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، وكان قائل هذا ممن يرى وجوب الإيمان بالعقل. والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنه لا يجب توحيد ولا غيره إلا بعد إرسال الرسول إليهم، ومن المقرر: أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل (عليه السلام) وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته، فلا فرق بين من غير وبدل وغيره، ما عدا من صح تعذيبه فيقصر ذلك عليه، لأنه لا قياس في ذلك. وقول أبي حيان: إن الرافضة قائلون بأن آباء النبي (صلى الله عليه وآله) غير معذبين مستدلين بقوله تعالى: ﴿وتقلبك في الساجدين﴾ لك رده بأن مثل أبي حيان إنما يرجع عليه في علم النحو وما يتعلق به وأما المسائل الأصولية فهو عنها بمعزل، كيف! والأشاعرة ومن ذكر معهم فيما مر آنفا قالوا بأنهم مؤمنون غير معذبين، فنسبة ذلك للرافضة وحدهم، مع أن هؤلاء الذين هم أئمة أهل السنة قائلون به قصور وأي قصور وتساهل وأي تساهل؟! انتهى ما أردنا نقله من كلام ابن حجر المكي. فلنذكر طرفا من تلك الأخبار: ففي كتاب العلل في باب علل الشرائع وأصول الإسلام: حدثني عبد الواحد بن محمد عبدوس النيسابوري العطار قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري: إن سأل سائل فقال: أخبرني عن تكليف الحكيم عبده فعلا من الأفاعيل لغير علة ولا معنى؟ قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه حكيم غير عابث ولا جاهل


[ 413 ]

فإن قال: فأخبرني لم كلف الخلق؟ قيل: لعلل: فإن قال: فأخبرني عن تلك العلل معروفة موجودة هي، أم غير معروفة ولا موجودة؟ قيل: بل هي معروفة موجودة عند أهلها. فإن قال: أتعرفونها أنتم أم لا تعرفونها؟ قيل: لهم منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه. فإن قال: فما أول الفرائض؟ قيل: الإقرار بالله وبما جاء به من عند الله. فإن قال: لم أمر الخلق بالإقرار بالله وبرسوله وحجته وبما جاء به من عند الله؟ قيل: العلل كثيرة، منها: أن من لم يقر بالله لم يتجنب معاصيه ولم ينته عن ارتكاب الكبائر ولم يراقب أحدا فيما يشتهي ويهواه من غير مراقبة لأحد، كان في ذلك فساد الخلق أجمعين ووثوب بعضهم على بعض، فغصبوا الفروج والأموال وأباحوا الدماء والسبي وقتل بعضهم بعضا من غير حق، ولا جرم فيكون في ذلك خراب الدنيا وهلاك الخلق وفساد الحرث والنسل. ومنها: أن الله عز وجل حكيم ولا يكون الحكيم ولا يوصف بالحكمة إلا الذي يحظر الفساد ويأمر بالصلاح ويزجر عن الظلم وينهى عن الفواحش، ولا يكون حظر الفساد والأمر بالصلاح والنهي من الفواحش إلا بعد الإقرار بالله ومعرفة الآمر والناهي، فلو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفة لم يثبت أمر بصلاح ولا نهي عن فساد، إذ لا أمر ولا نهي. ومنها: أنا قد وجدنا الخلق قد يفسدون بأمور باطنة مستورة عن الخلق، فلولا الإقرار بالله وخشيته بالغيب لم يكن أحد إذا خلا بشهوته وإرادته يراقب أحدا في ترك معصية وانتهاك حرمة وارتكاب كبيرة إذا كان فعل ذلك مستورا عن الخلق غير مراقب لأحد، فكان يكون في ذلك هلاك الخلق أجمعين، فلا يكون قوام الخلق


[ 414 ]

وصلاحهم إلا بإقرار منهم بعليم خبير يعلم السر وأخفى أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ولا يخفى عليه خافية، ليكون في ذلك انزجار لهم عما يخفون به من أنواع الفساد. فإن قال: فلم وجب عليكم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم. قيل: لأنه لما لم يكن في خلقهم وقوامهم بما يصيبون به لمباشرة الصانع عز وجل حتى يكلمهم ويشافههم، وكان الصانع عن أن يرى ويباشر، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بد لهم من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويقفهم على ما يكون به اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم إذا لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا صلاح، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء. فإن قال: ولم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة: منها: أن الخلق إنما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا تلك الحدود، لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيها أمينا يأخذهم بالوقت عندما يبيح لهم ويمنعهم من التعدي على ما حظر عليهم، لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته بفساد غيره، فجعل عليهم قيم يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام. ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لابد لهم في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به، فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم. ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص فيه الملحدون


[ 415 ]

وشبهوا ذلك على المسلمين، إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم فلو لم يجعل فيها قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بيناه، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان فيوقت واحد وأكثر من ذلك؟ قيل: لعلل: منها: أن الواحد لا يختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أنا لم نجد إلا اثنين مختلفي الهمم والإرادة، فإذا كان اثنين ثم اختلفت هممهما وإرادتهما وكانا كلاهما مفترض الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه فكان يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا وهو عاص للآخر فتعم المصيبة أهل الأرض، ثم لا يكون مع ذلك السبيل إلى الطاعة والإيمان، ويكونون إنما أتوا في ذلك من قبل الصانع والذي وضع لهم باب الاختلاف وسبب التشاجر إذا أمرهم باختلاف المختلفين. ومنها: أنه لو كان إمامين كان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير الذي يدعو إليه الآخر في الحكومة، ثم لا يكون أحدهما أولى بأن يتبع من صاحبه فتبطل الحقوق والأحكام والحدود. ومنها: أنه لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنظر والحكم والأمر والنهي من الآخر وإذا كان هذا كذلك وجب عليهما أن ينبذوا الكلام، وليس لأحدهما أن يسبق صاحبه بشيء إذا كانا في الأمة شرعا واحدا، فإن جاز لأحدهما السكوت جاز للآخر مثل ذلك، وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والأحكام وعطلت الحدود وصار الناس كأنهم لا إمام لهم. فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون الإمام من غير جنس الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ قيل: لعلل


[ 416 ]

منها: أنه لما كان الإمام مفترض الطاعة لم يكن بد من دلالة تدل عليه ويتميز بها من غيره، وهي القرابة المشهورة والوصية الظاهرة، ليعرف من غيره ويهتدي إليه بعينه. ومنها: أنه لو جاز في غير جنس الرسول لكان فضل من ليس برسول على الرسول، إذ جعل أولاد الرسول أتباعا لأولاد أعدائه كأبي جهل وابن أبي معيط لأنه قد يجوز بزعمه أنه ينتقل بذلك في أولادهم إذا كانوا مؤمنين فتصير أولاد الرسول تابعين وأولاد أعداء الله متبوعين، فكان الرسول أولى بهذه الفضيلة من غيره وأحق. ومنها: أن الخلق إذا أقروا للرسول بالرسالة وأذعنوا له بالطاعة لم يتكبر أحد منهم عن أن يتبع ولده ويطيع دولته ولم يتعاظم ذلك في أنفس الناس، وإذا كان في غير جنس الرسول كان كل واحد منهم في نفسه أولى به من غيره ودخل من ذلك الكبر ولم تسنح أنفسهم بالطاعة لمن هو عندهم دونهم، فكان يكون في ذلك داعية لهم إلى الفساد والنفاق والاختلاف. فإن قال: فلم وجب عليهم الإقرار والمعرفة بأن الله تعالى واحد أحد؟ قيل: لعلل: منها: أنه لو لم يجب ذلك عليهم لجاز لهم أن يتوهموا مدبرين أو أكثر من ذلك، وإذا جاز ذلك لم يهتدوا إلى الصانع لهم من غيره، لأن كل إنسان منهم لا يدري لعله إنما يعبد غير الذي خلقه ويطيع غير الذي أمره، فلا يكونوا على حقيقة من صانعهم وخالقهم ولا يثبت عندهم أمر آمر ولا نهي ناه، إذ لا يعرف الأمر بعينه ولا الناهي من غيره. ومنها: أنه لو جاز أن يكون اثنين لم يكن أحد الشريكين أولى بأن يعبد ويطاع من الآخر، وفي إجازة أن يطاع ذلك الشريك إجازة أن لا يطاع الله، وفي أن لا يطاع الله الكفر بالله ولجميع كتبه ورسله وإثبات كل باطل وترك كل حق وتحليل كل حرام وتحريم كل حلال والدخول في كل معصية والخروج من كل طاعة وإباحة كل فساد وإبطال كل حق


[ 417 ]

ومنها: أنه لو جاز أن يكون أكثر من واحد لجاز لإبليس أن يدعي أنه ذلك الآخر حتى يضاد الله في جميع حكمه ويصرف العباد إلى نفسه، فيكون في ذلك أعظم الكفر وأشد النفاق. فإن قال: فلم وجب عليه الاقرار بالله بأنه ليس كمثله شيء؟ قيل: لعلل: منها: لأن يكونوا قاصدين نحوه بالعبادة والطاعة دون غيره، غير مشتبه عليهم ربهم وصانعهم ورازقهم. ومنها: أنهم لو لم يعلموا أنه ليس كمثله شيء لم يدروا لعل ربهم وصانعهم هذه الأصنام التي نصبتها لهم آباؤهم والشمس والقمر والنيران إذا كان جائزا أن يكون مشبها، وكان يكون في ذلك الفساد وترك طاعاته كلها وارتكاب معاصيه كلها على قدر ما يتناهى إليهم من إخبار هذه الأرباب وأمرها ونهيها. ومنها: أنه لو لم يجب عليهم أن يعرفوا أن ليس كمثله شيء لجاز عندهم أن يجري عليه ما يجري على المخلوقين من العجز والجهل والتغيير والزوال والفساد والكذب والاعتداد، ومن جاز عليه هذه الأشياء لم يؤمن فناؤه ولم يوثق بعدله ولم يحقق قوله وأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، وفي ذلك فساد الخلق وإبطال الربوبية. فإن قال: لم أمر الله عز وجل العباد ونهاهم؟ قيل: لأنه لا يكون بقاؤهم وصلاحهم إلا بالأمر والنهي والمنع عن الفساد والتغاصب. فإن قال: لم تعبدهم؟ قيل: لئلا يكونوا ناسين لذكره ولا تاركين لأدبه ولا لاهين عن أمره ونهيه إذا كان فيه صلاحهم وفسادهم وقوامهم، فلو تركوا بغير تعبد لطال عليهم الأمد وقست قلوبهم. فإن قيل: فلم أمروا بالصلاة؟ قيل: لأن في الصلاة الإقرار بالربوبية، وهو صلاح عام، لأن فيه خلع الأنداد


[ 418 ]

والقيام بين يدي الجبار بالذل والاستكانة والخضوع والاعتراف والطلب في الإقالة من سالف الذنوب، ووضع الجبهة على الأرض كل يوم ليكون ذاكرا لله عز وجل غير ناس له، ويكون خاشعا وجلا متذللا طالبا راغبا مع الطلب للدين والدنيا بالزيادة، مع ما فيه من الانزجار عن الفساد جدا، وصار ذلك عليه في كل يوم وليلة لئلا ينسى العبد مدبره وخالقه فيبطر ويطغى، وليكون في ذكر خالقه والقيام بين يدي ربه زاجرا له عن المعاصي وحاجزا ومانعا عن أنواع الفساد. فإن قال: فلم أمر بالوضوء وبدأ به؟ قيل: لأنه يكون طاهرا إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه مطيعا له فيما أمره نقيا من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتذكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار. فإن قال: فلم وجب ذلك على الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين؟ قيل: لأن العبد إذا قام بين يدي الجبار فإنما ينكشف من جوارحه ويظهر ما وجب فيه من الوضوء، وذلك أنه بوجهه يسجد ويخضع، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتل، وبرأسه يستقبل في ركوعه وسجوده، وبرجليه يقوم ويقعد والحديث الشريف طويل نقلنا منه موضع الحاجة. حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار (رضي الله عنه) قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال: قلت للفضل بن شاذان لما نقلت منه هذه العلل: أخبرني عن هذه العلل التي ذكرتها عن الاستنباط والاستخراج وهي من نتائج العقل أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال لي: ما كنت أعلم مراد الله عز وجل بما فرض ولا مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما شرع وسن، ولا أعلل من ذات نفسي بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) مرة بعد مرة والشيء بعد الشيء فجمعتها فقلت فأحدث بها عنك عن الرضا (عليه السلام)؟ فقال: نعم وفي باب القرآن من كتاب التوحيد لابن بابويه: أخرج شيخنا محمد بن الحسن


[ 419 ]

ابن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) في جامعه، وحدثنا به عن محمد بن الحسن الصفار عن العباس بن معروف قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي نجران عن حماد بن عثمان عن عبد الرحيم القصير قال كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام) جعلت فداك! اختلف الناس في أشياء قد كتبت بها إليك، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تشرح لي جميع ما كتبت إليك، اختلف الناس جعلت فداك بالعراق في المعرفة والجحود، فأخبرني جعلت فداك أهما مخلوقان؟. واختلفوا في القرآن، فزعم قوم: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال آخرون: كلام الله مخلوق. وعن الاستطاعة أقبل الفعل أم مع الفعل؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه ورووا فيه. وعن الله تبارك وتعالى هل يوصف بالصورة أو بالتخطيط؟ فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد. وعن الحركات أهي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ وعن الإيمان ما هو؟ فكتب (عليه السلام) على يدي عبد الملك بن أعين: سألت عن المعرفة ما هي، فاعلم رحمك الله أن المعرفة من صنع الله عز وجل في القلب مخلوقة، والجحود صنع الله في القلب مخلوق، وليس للعباد فيهما من صنع، ولهم فيهما الاختيار من الاكتساب، فبشهوتهم للإيمان اختاروا المعرفة فكانوا بذلك مؤمنين عارفين، وبشهوتهم للكفر اختاروا الجحود فكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلالا وذلك بتوفيق الله لهم وخذلان من خذله الله، فبالاختيار والاكتساب عاقبهم الله وأثابهم. وسألت رحمك الله عن القرآن واختلاف الناس قبلكم، فإن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق غير أزلي مع الله تعالى ذكره وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، كان الله عز وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عز وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل جل وعز ربنا، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه جل وعز ربنا، والقرآن كلام الله غير مخلوق، فيه خبر من كان قبلكم


[ 420 ]

وخبر من يكون بعدكم، أنزل من عند الله على محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله). وسألت رحمك الله عن الاستطاعة للفعل، فإن الله عز وجل خلق العبد وجعل له الآلة والصحة، وهي القوة التي يكون العبد بها متحركا مستطيعا للفعل، ولا متحرك إلا وهو يريد الفعل وهي صفة مضافة إلى الشهوة التي هي خلق الله عز وجل مركبة في الإنسان، فإذا تحركت الشهوة في الإنسان اشتهى الشيء وأراده، فمن ثم قيل للإنسان: مريد، فإذا أراد الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة فمن ثم قيل للعبد: مستطيع متحرك، فإذا كان الإنسان ساكنا غير مريد للفعل وكان معه الآلة وهي القوة والصحة اللتان بهما تكون حركات الإنسان كان سكونه لعلة سكون الشهوة فقيل: ساكن، فوصف بالسكون. فإذا اشتهى الإنسان وتحركت شهوته التي ركبت فيه اشتهى الفعل وتحرك بالقوة المركبة فيه واستعمل الآلة التي بها يفعل الفعل، فيكون الفعل منه عند ما تحرك واكتسبه فقيل: فاعل ومتحرك ومكتسب ومستطيع، أو لا ترى أن جميع ذلك في صفات يوصف بها الإنسان. وسألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى الله عما يصف الواصفون المشبهون الله تبارك تعالى بخلقه المفترون على الله عز وجل، فاعلم رحمك الله: أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عز وجل، فانف عن الله عز وجل البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو الله الثابت الوجود، تعالى الله عما يصفه الواصفون، ولا تعد القرآن فتضل بعد البيان. وسألت رحمك الله عن الإيمان، فالإيمان هو الإقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالأركان، فالإيمان بعضه من بعض، وقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالإسلام قبل الايمان وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عز وجل عنها كان خارجا من الإيمان وساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام، فإذا تاب واستغفر الله عاد إلى الإيمان ولم يخرج إلى الكفر والجحود. وإذا


[ 421 ]

قال للحلال هذا حرام وللحرام: هذا حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإيمان والإسلام إلى الكفر، وكان بمنزلة رجل دخل إلى الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار. قال مصنف هذا الكتاب : كان المراد من هذا الحديث: ما كان فيه من ذكر القرآن ومعنى ما فيه أنه غير مخلوق، أي غير مكذوب، ولا يعني به أنه غير محدث، لأنه قد قال: ” محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى ذكره انتهى كلامه أعلى الله مقامه. أقول : هذا الحديث الشريف موافق لقولهم (عليهم السلام): ” ستة أشياء من صنع الله ليس للعباد فيها صنع: النوم واليقظة، والرضا والغضب، والعلم، والجهل وموافق لقول الحكماء وعلماء الإسلام: المفهومات الخبرية وغير الخبرية الضرورية الغير الاختيارية والكسبية الاختيارية كلها فائضة على النفوس من الله تعالى، لقوله تعالى: ﴿سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا﴾ ثم أقول: يستفاد من الأحاديث أن تأثيراته تعالى أنواع: منها: خلق شيء بأمر كن. ومنها: جعل أشياء أسبابا لوجود أشياء أخر، بأن يقال: كن سببا مستلزما لذلك. ومنها: أن يقال: لا تكن شيء من أفعال الخير وأفعال الشر إلا بعد سبق مشيئتي وإرادتي وقدري وقضائي وإذني وكتاب وأجل. ولولا النوع الأخير لكان العبد مستطيعا تاما من كل فعل أراده، ولزم التفويض. وقولهم (عليهم السلام): ” أبى الله أن بجري الأشياء إلا بأسبابها ناظر إلى ذلك. فعلم من ذلك أن السبب قسمان: سبب طبيعي كطلوع الشمس لوجود النهار، وسبب غير طبيعي كجعل الله تعالى إصابة العين والسحر سببا مستلزما لوجود


[ 422 ]

آثارهما، وكجعل الله تعالى تحريك النفس الناطقة بعض قواها سببا لحضور بعض المفهومات عندها، وكجعل حضور بعضها سببا لفيضان النتيجة عليها، فعلم أن الفكر يرجع إلى تحريك النفس الناطقة بعض قواها حركة أينية. وإلى هذا يؤول كلام القدماء حيث فسروا الفكر والنظر بمجموع الحركتين. ومن جملة تأثيراته تعالى: جعل بدن شخص مسخرا النفس شخصية دون غيرها، وتسليط الملك والشيطان على قلوبنا. ومن جملة تأثيراته تعالى: جعل أشياء سببا لوجود اليقين في نفوسنا، وجعل أشياء سببا لوجود الظنون في نفوسنا الصحيحة منها والفاسدة. ومن جملة تأثيراته تعالى: أنه نهانا عن اتباع الظن المتعلق بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من العقائد والأحكام الخمسة والأحكام الوضعية الشرعية، وأمرنا باتباع الظن في الجملة في غير ذلك، كخرص الأثمار على أصولها لضمان الزكاة، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وتعيين جهة الكعبة، وعدد الأشواط والركعات؛ كل ذلك لدفع الفتن ولنظام المعاش والمعاد. فإن قلت: كيف تأثير النفس الناطقة في البدن؟ قلت: يتحرك البدن بأمرها كما وقع التصريح به في الأحاديث فإن قلت: تحرك البدن بأمر النفس من قبيل ترتب المسببات على أسبابها الغير الطبيعية، فيكون حركة البدن الإرادية من صنع الله تعالى، أم من قبيل أن الله تعالى قال للنفس: كوني قادرة على خلق الحركة في البدن بأمر كن متحركا؟ قلت: المستفاد من الأحاديث الثاني. ويمكن تأويلها بأن أصل حركة البدن من صنع الله وتعيين جهاتها من صنع النفس. فإن قلت: أمر النفس البدن من أي مقولة؟ قلت: عسى أن يكون من قبيل إيجاد كيف في البدن، نظير جعل المفهومات ملاحظة ملتفتا إليها، فإن كونها ملاحظة من مقولة الكيف


[ 423 ]

ثم أقول: من جملة أدلتي على أن التصديق القلبي الضروري والكسبي الذي به يرتفع تردد النفس وشكها ليس من أفعال النفس الاختيارية بل من صنع الله تعالى، إنه لو كان من أفعال النفس لكان للنفس أن لا تصدق بصانع ولا بنبي ولا بأمر ولا بنهي، فيلزم إفحام الله تعالى عن إتمام الحجة عليها، ولما صح قوله تعالى: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ ولكان للنفس أن لا تعتقد بلوغ المال قدر النصاب لتفر من وجوب الزكاة، وغير ذلك. وبعد اللتيا والتي ظهر عليك وانكشف لديك معنى قوله (عليه السلام): ” الجحود والمعرفة من صنع الله تعالى ليس للعباد فيهما صنع وذلك لأن المراد به أن فيضان المفهومات الخبرية الصادقة الإيمانية على القلوب وأدلتها القوية من صنع الله تعالى؛ وكذلك فيضان المفهومات الخبرية الكاذبة الكفرية وشبهاتها الضعيفة. والسبب في الأول إلهام الملك وفي الثاني وسوسة الشيطان. وهما نظير كلام الواعظ والمضل من بني آدم. ويمكن أن يكون المراد به فيضان اليقين بالمفهومات الخبرية الإيمانية في آن تصورها وفيضان الظن بالمفهومات الخبرية الكفرية في آن آخر بعد ذلك الآن مع الأمر باتباع اليقين والنهي عن اتباع الظن. وإلى ذلك ناظر قوله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾ أي نجد الخير ونجد الشر. والله أعلم. وأما قوله تعالى: ﴿ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا﴾ فمعناه: أنه يفعل ذلك، فمن اختار الضلالة على الهدى بعد المعرفة يرفع الملك عن قلبه والتخلية بينه وبين الشيطان. أو أن القلب الخبيث الثابت شقاوته يوم الميثاق ويتبع وسوسة الشيطان فيضيق صدره بالظن الباطل الفائض من الله تعالى عقيب وسوسة الشيطان. والله أعلم بمراده. ومن الموضحات لما ذكرناه: قول الرضا (عليه السلام) في رسالته المأمونية: اعلم أن الأجسام الإنسانية جعلت على مثال الملك، فملك الجسد هو ما في القلب، والعمال العروق والأوصال والدماغ، وبيت الملك قلبه، وأرضه الجسد، والأعوان يداه


[ 424 ]

ورجلاه وعيناه وشفتاه ولسانه وأذناه، وخزانته معدته وبطنه، وحجابه صدره. فاليدان عونان يقربان ويبعدان ويعملان على ما يوحي اليهما الملك. والرجلان ينقلان الملك حيث يشاء. والعينان يدلان على ما يغيب عنه، لأن الملك من وراء حجاب لا يوصل إليه إلا بهما وهما سراجاه أيضا. وحصن الجسد وحرزه الأذنان لا يدخلان على الملك إلا ما يوافقه، لأنهما لا يقدران أن يدخلا شيئا حتى يوحي الملك إليهما، فإذا أوحى إليهما أطرق الملك منصتا لهما حتى يسمع منهما، ثم يجيب بما يريد، فيترجم عنه اللسان بأدوات كثيرة، منها ريح الفؤاد وبخار المعدة ومعونة الشفتين، وليس للشفتين قوة إلا بالأسنان وليس يستغنى بعضها عن بعض، والكلام لا يحسن إلا بترجيعه في الأنف، لأن الأنف يزين الكلام كما يزين النفخ المزمار. وكذلك المنخران هما ثقبتا الأنف يدخلان على الملك مما يحب من الرياح الطيبة فإذا جاءت ريح تسوء على الملك أوحى إلى اليدين فحجبا بين الملك وتلك الريح. وللملك مع هذا ثواب وعقاب. فعذابه أشد من عذاب الملوك الظاهرة القاهرة في الدنيا، وثوابه أفضل من ثوابهم. فأما عذابه فالحزن، وأما ثوابه فالفرح، وأصل الحزن في الطحال، وأصل الفرح في الثرب والكليتين. ومنهما عرقان موصلان إلى الوجه، فمن هناك يظهر الفرح والحزن، فترى علامتهما في الوجه. وهذه العروق كلها طرق من العمال إلى الملك ومن الملك إلى العمال، ومصداق ذلك أنه إذا تناولت الدواء أدته العروق إلى مواضع الداء بإعانتها انتهى ما أردنا نقله من الرسالة الشريفة. وقول أبي عبد الله (عليه السلام) المذكور في أصول كتاب الكافي في باب أن الإيمان مبثوث بجوارح البدن كلها: أبو عمرو الزبيري، قال، قلت له: إن الإيمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها، فمنها: قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره


[ 425 ]

حماد بن عمرو النصيبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم وفرقه عليها، فمنها: قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا تورد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره . والحديثان الشريفان طويلان نقلنا منهما موضع الحاجة . أقول: معنى خلق المعرفة والجحود في القلوب خلق أن هذا حق وخلافه باطل مع الأدلة على ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾ يعني نجد الخير ونجد الشر، وكما قال الله تعالى: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ وهم يعرفون كما وقع التصريح به في الأحاديث وسيجئ في الفصل الثاني عشر تفسير هذا الحديث الشريف. وقول الصادق (عليه السلام): ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه وذلك ان الله تعالى يقول في كتابه: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) . وقوله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلا غلب الحق الباطل، وذلك قوله: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) انتهى. [وقوله تعالى: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به﴾ ] . وفي الكافي للإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني قدس الله سره في


[ 426 ]

باب الاضطرار إلى الحجة عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق الله وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشرونه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم، مؤيدين عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان بما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته وعن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال: صدقت. قلت: إن من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف لذلك الرب رضا وسخطا، وأ نه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة وأن لهم الطاعة المفترضة. وقلت للناس: تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن، فنظرت القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئي والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، فما قال فيه من شيء كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: إنه يعرف ذلك كله إلا عليا صلوات الله عليه، وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال


[ 427 ]

هذا: أنا أدري، فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن ما قال في القرآن فهو حق. فقال: رحمك الله . وفي كتاب العقل من الكافي: عن أبي عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حجة الله على العباد النبي (صلى الله عليه وآله) والحجة فيما بين الله وبين العباد العقل . وفيه أيضا: يا هشام! إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأما الباطنة فالعقول . وقال ابن السكيت لأبي الحسن (عليه السلام): ما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه. قال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب . [أقول: إن الله تعالى يوقع في القلب نجد الخير ونجد الشر مع المنبهات على كل واحد منهما، وأن الشيطان يوقع فيه خلاف ذلك، فالعقل يميز بين الصواب والخطأ والظن واليقين ويختار الصواب واليقين. وهذا معنى كونه حجة كما يستفاد من الروايات، وأن العقل مستقل بتحصيل المقدمات كما ذهبت إليه المعتزلة. وفي كتاب الله تعالى: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ (5)] وفي كتاب التوحيد لشيخنا الصدوق: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار عن أبيه، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن موسى بن جعفر البغدادي، عن عبيد الله الدهقان، عن درست، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة . حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رضي الله عنه) قال حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن درست بن أبي منصور، عن بريد


[ 428 ]

بن معاوية العجلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا قبل أن يعرفهم، وللخلق على الله أن يعرفهم، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوه حدثنا علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جده أحمد بن أبي عبد الله، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قال لي: اكتب، فأملى علي: إن من قولنا: إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى، أمر فيه بالصلاة والصوم فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الصلاة، فقال: أنا أنيمك وأنا أوقظك فاذهب وصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون، ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك؛ وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا أصححك فإذا شفيتك فاقضه. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة وله فيه المشيئة، ولا أقول: إنهم ما شاؤوا صنعوا. ثم قال: إن الله يهدي ويضل. وقال: وما أمروا إلا بدون سعتهم، وفي كل شيء أمر الناس به فهم يسعون له، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم، ولكن أكثر الناس لا خير فيهم. ثم قال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) فوضع عنهم (ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم…) الآية فوضع عنهم لأنهم لا يجدون


[ 429 ]

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال حدثنا محمد بن الحسن الصفار عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حماد بن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أصلحك الله! هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال، فقال: لا. قلت: فهل كلفوا المعرفة؟ قال: لا، على الله البيان لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها. وسألته عن قول الله عز وجل: ﴿وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون﴾ قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه وبهذا الإسناد عن يونس بن عبد الرحمن، عن سعدان يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عزوجل لم ينعم على عبد بنعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله عز وجل، فمن من الله عليه فجعله قويا فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن


[ 430 ]

هو أضعف منه، ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه فحجته عليه ماله، يجب عليه تعاهد الفقراء بنوافله، ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته جميلا في صورته فحجته عليه أن يحمد الله على ذلك وأن لا يتطاول على غيره فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله . أبي (رحمه الله) قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله. ولا تخاصموا الناس لدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إن الله عز وجل قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ وقال: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس، وإنكم أخذتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني سمعت أبي يقول: إن الله عز وجل إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره وحدثنا أبي (رضي الله عنه) قال حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قال: إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله، ثم تلى هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (5)) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أحمد بن الفضل بن مغيرة قال: حدثنا منصور بن عبد الله بن إبراهيم الإصفهاني قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا أبو شعيب المحاملي، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن المعرفة أمكتسبة هي؟ فقال: لا، فقيل له: فمن صنع الله عزوجل وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس للعباد فيها صنع، ولهم اكتساب الأعمال


[ 431 ]

وقال (عليه السلام): أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين . حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار (رضي الله عنه) قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن حمدان، عن سليمان قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) أسأله عن أفعال العباد أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فكتب (عليه السلام): أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل قبل خلق العباد بألفي عام . حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد الإصفهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث النخعي القاضي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من عمل بما علم كفي ما لم يعلم . حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن الحكيم قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة صنع من هي؟ قال: من صنع الله عز وجل ليس للعباد فيها صنع . حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا الحسين بن الحسن ابن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل احتج على الناس بما آتاهم وما عرفهم . حدثنا محمد بن علي ماجيلويه عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ﴿وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون﴾ قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه، وقال: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ قال: يبين لها ما تأتي وما تترك، وقال: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾ قال: عرفناه إما آخذا وإما تاركا، وفي قوله عز وجل: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ وهم يعرفون


[ 432 ]

حدثنا أحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم (رحمه الله) عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن بكير، عن حمزة بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: ﴿وهديناه النجدين﴾ قال: نجد الخير ونجد الشر أبي (رحمه الله) قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمن لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال: لا حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار (رضي الله عنه) عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم وفي الكافي في باب بعد باب البيان والتعريف ولزوم الحجة محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسين بن زيد، عن درست بن أبي منصور، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة وفي الكافي في باب البيان والتعريف ولزوم الحجة محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟ قال: من صنع الله، ليس للعباد


[ 433 ]

فيها صنع وفي الكافي في باب حجج الله على خلقه محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن درست بن أبي منصور، عن بريد بن معاوية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا، وللخلق على الله أن يعرفهم، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا أقول: المراد من المعرفة اليقين الذي يقع في القلب من الله تعالى، وهو ليس من فعل القلب كما تواترت به الأخبار عنهم (عليهم السلام) والمراد من القبول الإقرار اللساني والجناني والأركاني، وهذا الإقرار المركب من أجزاء ثلاثة من أفعالنا الاختيارية وهو أحد معاني الإيمان، فإنه تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن الإيمان كله عمل وبأنه مركب من فعل اللسان وفعل القلب والجوارح محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: اكتب، فأملى علي: أن من قولنا: إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهىإلى آخر الحديث وقد تقدم نقله فاكتفينا بما تقدم. وفي الكافي: عن داود البرقي عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف . حسن بن علي الوشاء قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: إن أبا عبد الله (عليه السلام) قال: إن


[ 434 ]

الحجة لا تقوم لله عز وجل على خلقه إلا بإمام حتى يعرف . محمد بن عمارة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف . أبو بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال، قال: إن الله عز وجل لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل . وفي الكافي في باب إن السكينة هي الإيمان محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: ﴿أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ قال: هو الإيمان. قال: وسألته عن قول الله عز وجل: (وأيدهم بروح منه) قال: هو الإيمان [أقول: المراد من الإيمان هنا نفس المعرفة. ويستفاد من كلامهم (عليهم السلام) أن الكفر جاء في كتاب الله بخمسة معان، والإيمان جاء بمعان ثلاثة: أحدها: نفس المعرفة التي يتوقف عليها حجية الأدلة النقلية، وهي من صنع الله. والثاني: الإقرار القلبي واللساني على وفق تلك المعرفة، وهذا من صنع العبد. والثالث: طاعة الله تعالى قلبا ولسانا وجوارحا في كل ما أوجب وحرم، والأخير يزول بارتكاب صغيرة من الصغائر ثم يرجع بالتوبة كما وقع التصريح بهما في الأحاديث.] عنه، عن أحمد بن صفوان، عن أبان، عن الفضيل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) هل لهم فيما كتب في قلوبهم صنع؟ قال: لا


[ 435 ]

وفي كتاب المحاسن للثقة الجليل أحمد بن أبي عبد الله البرقي (قدس سره): عنه، عن أبيه، عن صفوان قال: قلت للعبد الصالح (عليه السلام): هل في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال: لا، إنما هو تطول من الله. قلت: أفلهم على المعرفة ثواب إذا كانوا ليس فيهم ما يتعاطونه بمنزلة الركوع والسجود الذي أمروا به ففعلوه؟ قال: لا، إنما هو تطول من الله عليهم وتطول بالثواب . عنه، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة وفضل الأسدي، عن عبد الأعلى مولى بني سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لم يكلف الله العباد المعرفة، ولم يجعل لهم إليها سبيلا . عنه، عن الحسن بن علي بن الوشاء، عن أبان الأحمر بن عثمان، عن فضل أبي العباس البقباق قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾ هل لهم في ذلك صنع؟ قال: لا . عنه، عن الوشاء، عن أبان الأحمر، عن الحسن بن زياد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان هل للعباد فيه صنع؟ قال: لا ولا كرامة، بل هو من الله وفضله . عنه، عن محمد بن خالد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب الحر، عن الحسن بن زياد قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم﴾ هل للعباد بما حبب صنع؟ قال: لا ولا كرامة . ألطاف الله تعالى. ولو حملنا الحديث على أن الإيمان أيضا ليس في قدرة العبد كما يظهر من كلام المصنف في استدلاله بظواهر هذه الأحاديث بطل فعل العبد وبطل استحقاقه الثواب والعقاب على الإسلام والإيمان. ونعوذ بالله وبرسوله من اعتقاد ذلك


[ 436 ]

عنه، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم﴾ قال: كان ذلك معاينة لله فأنساهم المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم، ولولا ذلك ما عرف أحد خالقه ولا رازقه وهو قول الله عز وجل: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) . عنه، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ولا من رازقهم . عنه، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه يوما، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه . وفي الكافي في كتاب الإيمان والكفر باب آخر منه، فيه زيادة وقوع


[ 437 ]

التكليف الأول: محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عزوجل خلق الخلق، فخلق من أحب مما أحب فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة من النار، ثم بعثهم في الظلال. فقلت: وأي شيء الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء، ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عزوجل، وهو قوله عزوجل: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله﴾ ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعضهم، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله: ﴿وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب ثم . وفي كتاب التوحيد لشيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه في باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد أبي (رحمه الله) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ قال التوحيد . أقول: المراد من التوحيد هنا حصر خالق العالم في شخص واحد معين. حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: التوحيد . حدثنا محمد بن موسى المتوكل (رضي الله عنه) قال: حدثنا علي بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، فقال: ﴿ألست بربكم﴾ وفيه المؤمن والكافر


[ 438 ]

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم ويعقوب بن يزيد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على التوحيد . أبي (رحمه الله) قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على التوحيد . أبي (رحمه الله) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم جميعا على التوحيد . حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن علي بن حسان الواسطي، عن الحسن بن يونس، عن عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر (عليه السلام) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: التوحيد ومحمد رسول الله وعلي أمير المؤمنين . أبي (رحمه الله) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله ابن المغيرة، عن ابن مسكان، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلحك الله، قول الله عزوجل في كتابه: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفة أنه ربهم. قلت: وخاطبهم؟ قال: فطأطأ رأسه ثم قال: لولا ذلك لم يعلموا من ربهم ولا من رازقهم . أبي (رحمه الله) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم ومحمد بن الحسين ابن أبي الخطاب ويعقوب بن يزيد جميعا، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: ﴿حنفاء لله غير مشركين به﴾ وعن الحنيفية، قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، قال


[ 439 ]

فطرهم على المعرفة. قال زرارة: وسألته عن قول الله عز وجل ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم﴾ الآية قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر، فعرفهم وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه. قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ” كل مولود ولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، فذلك قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) حدثنا أبو أحمد أبو القاسم بن محمد بن أحمد السراج الهمداني قال: حدثنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن إبراهيم السرنديبي قال حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن هارون الرشيد بحلب قال: حدثنا محمد بن آدم أبي أياس قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تضربوا أطفالكم على بكائهم، فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله)، وأربعة أشهر الدعاء لوالديه وفي كتاب الكافي في باب فطرة الله على الخلق على التوحيد أحاديث قريبة مما نقلناه عن كتاب التوحيد وفي كتاب المحاسن للبرقي (قدس سره): عن بعض أصحابنا، عن عباد بن صهيب، عن يعقوب، عن يحيى بن المساور، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال موسى بن عمران (عليه السلام): يا رب، أي الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حب الأطفال، فإني فطرتهم على توحيدي، فإن أمتهم أدخلتهم برحمتي جنتي وفي الكافي في باب الغيبة زرارة بن أعين قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام): لابد للغلام من غيبة. قلت: ولم؟ قال: يخاف وأومأ بيده إلى بطنه، وهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته، فمنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: مات أبوه ولم يخلف، ومنهم من يقول: ولد قبل موت أبيه بسنتين. قال زرارة، فقلت: وما تأمرني


[ 440 ]

لو أدركت ذلك الزمان؟ قال: أدع الله بهذا الدعاء: اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرفك، اللهم عرفني نبيك فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرفه قط، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني . وفي الكافي في باب دعائم الإسلام عن عيسى بن السري أبي اليسع قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني بدعائم الإسلام التي لا يسع أحد التقصير عن معرفة شيء، منها الذي من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ولم يقبل منه عمله، ومن عرفها وعمل بها صلح له دينه وقبل منه عمله ولم يضق مما هو فيه لجهل شيء من الأمور جهله، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإقرار بما جاء به من عند الله، وحق في الأموال الزكاة، والولاية التي أمر الله عز وجل بها ولاية آل محمد (صلى الله عليه وآله). قال: فقلت له هل في الولاية شيء دون شيء فضل يعرف به لمن أخذ به؟ قال: نعم، قال الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ” من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان عليا (عليه السلام). وقال الآخرون: كان معاوية ثم كان الحسن ثم كان الحسين. وقال الآخرون: يزيد بن معاوية وحسين بن علي ولا سواء قال: ثم سكت ثم قال: أزيدك؟ فقال له حكم الأعور: نعم جعلت فداك! قال: ثم كان علي بن الحسين ثم كان محمد بن علي أبا جعفر، وكانت الشيعة قبل أن


[ 441 ]

يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر (عليه السلام) ففتح لهم وبين لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس، وهكذا يكون الأمر. والأرض لا تكون إلا بإمام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية. وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه إذا بلغت نفسك هذه وأهوى بيده إلى حلقه وانقطعت عنك الدنيا، تقول: لقد كنت على أمر حسن


[ 442 ]

وفي كتاب الجنائز من الكافي في باب الأطفال علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته هل سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الأطفال؟ فقال: قد سئل فقال: ” الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم قال: يا زرارة هل تدري قوله: ” الله أعلم بما كانوا عاملين؟ قلت: لا، قال لله فيهم المشيئة، إنه إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الأطفال والذي مات من الناس في الفترة والشيخ الكبير الذي أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) وهو لا يعقل والأصم والأبكم الذي لا يعقل والمجنون والأبله الذي لا يعقل، فكل واحد منهم يحتج على الله عز وجل فيبعث الله إليهم ملكا من الملائكة فيؤجج لهم نارا ثم يبعث الله إليهم ملكا فيقول لهم: إن ربكم يأمركم أن تثبتوا فيها، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما وأدخل الجنة ومن تخلف عنها دخل النار عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن غير واحد رفعوه أنه سئل عن الأطفال: فقال: إذا كان يوم القيامة جمعهم الله وأجج لهم نارا وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها، فمن كان في علم الله تعالى أنه سعيد رمى بنفسه فيها وكانت عليه بردا وسلاما، ومن كان في علمه أنه شقي امتنع فيأمر الله بهم إلى النار، فيقولون: يا ربنا تأمر بنا إلى النار ولم تجر علينا القلم؟ فيقول الجبار: قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني


[ 443 ]

فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم. وفي حديث آخر: أما أطفال المؤمنين فيلحقون بآبائهم وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم، وهو قول الله تعالى: (الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الولدان، فقال: سئل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الولدان والأطفال، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة قال، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في الأطفال الذين ماتوا قبل أن يبلغوا؟ فقال: سئل عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ” الله أعلم بما كانوا عاملين ثم أقبل علي وقال: يا زرارة هل تدري ما عنى بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال، قلت: لا، فقال: إنما عنى كفوا عنهم ولا تقولوا فيهم شيئا وردوا علمهم إلى الله عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) قال، فقال: قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقر بذلك أعينهم علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عمن مات في الفترة وعمن لم يدرك الحنث والمعتوه، فقال: يحتج الله عليهم، يرفع لهم نارا، فيقول لهم: ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى قال: ها أنتم قد أمرتكم فعصيتموني . وبهذا الإسناد قال: ثلاثة يحتج عليهم: الأبكم والطفل ومن مات في الفترة فترفع لهم نار فيقال لهم: أدخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى قال تبارك وتعالى: هذا قد أمرتكم فعصيتموني


[ 444 ]

واعلم أن كثيرا من أحاديث باب الأطفال مذكور في كتاب التوحيد لابن بابويه وفي كتاب من لا يحضره الفقيه له، فإن شئت فارجع إليهما وفيما نقلناه عن الكافي كفاية إن شاء الله تعالى. وفي كتاب الإيمان والكفر من كتاب الكافي في الباب الثالث من أبواب طينة المؤمن والكافر زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: ” إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال إلى النار ولا أبالي، ثم قال: ﴿ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ ثم أخذ الميثاق على النبيين فقال: ألست بربكم وإن هذا محمد رسولي وإن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى، فثبتت لهم النبوة، وأخذ لها الميثاق على أولي العزم أني ربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي (عليهم السلام) وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعا وكرها، قالوا: أقررنا يا رب وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقر فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به، وهو قوله عز وجل: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾ قال: إنما هو فترك، ثم أمر نارا فأججت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها فهابوها، وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما، فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا، فقال: قد أقلتكم اذهبوا فادخلوها فهابوها، فثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية وأقول: أحاديث هذه الأبواب لكثرتها بلغت حد التواتر المعنوي. وفي باب آخر بعده: صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت بعدهم آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين


[ 445 ]

وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فكنت أنا أول نبي قال: بلى، بل فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل وأقول: هنا فوائد لابد من التنبيه عليها: الأولى: أنه يستفاد من هذه الأحاديث أغلاط المعتزلة والأشاعرة ومن وافق المعتزلة من متأخري أصحابنا في مسألة أول الواجبات. الثانية: أنه يستفاد منها أن قول المعتزلة ومن وافقهم من أصحابنا في تحقيق كيفية بدء تعلق التكليف بعيد عن الحق نهاية البعد. الثالثة: أنه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة: من أن مجرد تصور الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بخالق العالم وبأن له رضى وسخطا وبأنه لابد من معلم من جهته تعالى ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم كاف في تعلق التكليف بهم، ليس بصحيح. الرابعة: أنه يستفاد منها أن العباد لم يكلفوا بتحصيل معرفة أصلا وأ نه على الله التعريف والبيان أولا بإلهام محض، وثانيا بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وإظهار المعجزة على يده (صلى الله عليه وآله) وعليهم قبول ما عرفهم الله. الخامسة: أن الحديث الشريف الذي نقلناه عن باب القرآن من كتاب التوحيد


[ 446 ]

لابن بابويه يشتمل على فوائد لا تعد ولا تحصى: من جملتها ان فيه تصريحا بأن الإذعان القلبي المتعلق بالقواعد الإيمانية من الله تعالى وليس من أفعالنا الاختيارية، وفيه وجهان: أحدهما: كونه ميلا قلبيا طبيعيا يترتب على المقدمات الفائضة على القلب من الله تعالى. وثانيهما: كونه مخلوقا لله تعالى، وهو الحق، وهو صريح الأحاديث، وذهب إليه المتأخرون من المنطقيين، كما نقله عنهم العلامة الرازي في شرح الشمسية إلا أنه من الأفعال القلبية وذكر السيد الشريف في حاشية شرح الشمسية وغيرها: قد توهموا أن الحكم فعل من أفعال النفس الصادرة عنها، بناء على أن الألفاظ التي يعبر بها عن الحكم تدل على ذلك كالإسناد والإيقاع والانتزاع والإيجاب والسلب وغيرها. والحق أنه إدراك، لأ نا إذا راجعنا إلى وجداننا علمنا أنا بعد إدراك النسبة الحكمية الاتصالية والانفصالية لم يحصل لنا سوى ادراك أن تلك النسبة واقعة أي مطابقة لما في نفس الأمر، أو إدراك أنها ليست بواقعة أي غير مطابقة لما في نفس الأمر انتهى كلامه. وهنا إشكال لا يزال كان يخطر ببالي في أوائل سني، وهو أنه كيف نقول بأن


[ 447 ]

التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ومنها كاذبة ومنها كفرية، وهذا إنما يتجه على رأي جمهور الأشاعرة القائلين بجواز العكس بأن يجعل الله كل ما حرمه واجبا وبالعكس المنكرين للحسن والقبح الذاتيين، لا على رأي محققيهم ولا على رأي المعتزلة ولا على رأي أصحابنا. اللهم إلا أن يقال: تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن الله يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا فبقي الإشكال في الظن الباطل. ويمكن أن يقال: إنه من الميول القلبية. والإنصاف أن الفرق بين الجزم والظن بأن الجزم من الكيفيات النفسانية الفائضة على النفوس من المبدأ والظن من الميول الطبيعية القلبية، بعيد عن الصواب. [فتبين أن كلاهما من الميول القلبية الطبيعية] وأقول: لقائل أن يقول: الأحاديث السابقة صريحة في أن التصديقات القلبية الإيمانية التي يرتفع بها الشك مخلوقة لله تعالى وللعباد اكتساب الأعمال. وفي الأحاديث تصريحات بأن من جملة نعماء الله تعالى على بعض عباده أنه يسلط عليه ملكا ليسدده ويلهمه الحق، ومن جملة غضب الله تعالى على بعض عباده أنه يخلي بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل وأيضا من المعلوم: أن خلق الإذعان الغير المطابق للواقع قبيح لا يليق به تعالى. فالجواب الحق عن الإشكال أن يقال: التصديقات الصادقة فائضة على القلوب من الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة ملك وهي تكون جزما وظنا، والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان، وهي لا تتعدى الظن فلا تصل إلى حد الجزم [ولك أن تقول في جواب القائل: إن وسوسة الشيطان سبب لفيضان المفهومات والظنون على القلوب من الله تعالى ككلام المضل من بني آدم، وليست للشيطان قدرة على خلق المفهومات في نفوسنا ولا خلق الظن ولا للملك. وفي خلق الظنون الصحيحة والفاسدة بحسب أسبابها منافع كثيرة وبه ينتظم المعاش والمعاد، فلا نسلم أن خلقها قبيح، وإنما كان قبيحا إذا اكتفى به ولم يخلق في القلوب يقينا معارضا له


[ 448 ]

في باب ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يكتف، وإذا لم يقع نهي عن اتباعه في العقائد والأحكام الشرعية وقد وقع] السادسة: أنه تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم كما تواترت بأن المعرفة موهبية غير كسبية وإنما عليهم اكتساب الأعمال فكيف يكون الجمع بينهما؟ أقول: الذي استفدته من كلامهم (عليهم السلام) في الجمع بينهما: أن المراد بالمعرفة ما يتوقف عليه حجية الأدلة السمعية من معرفة صانع العالم وتوحيده وأن له رضى وسخطا، وينبغي أن ينصب معلما ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ومن معرفة النبي (صلى الله عليه وآله). والمراد من العلم الأدلة السمعية كما قال النبي (صلى الله عليه وآله): ” العلم إما آية محكمة أو سنة متبعة أو فريضة عادلة وفي قول الصادق (عليه السلام) المتقدم: ” إن من قولنا إن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى ونظائره إشارة إلى ذلك. ألا ترى أنه (عليه السلام) قدم أشياء على الأمر والنهي فتلك الأشياء كلها معارف وما يستفاد من الأمر والنهي، كله هو العلم. السابعة: أن العامة قد روت عنه (صلى الله عليه وآله) قريبا مما تقدم، فالأشاعرة منهم ذهبوا إلى أن الله تعالى يخلق التوحيد والكفر والطاعة والمعصية في عباده. ويمكن أن يتوهم متوهم أن ظاهر بعض الآيات وبعض الروايات معهم. وليس الأمر كذلك، بل معناهما أن الله تعالى كلف الأرواح كلهم صغيرهم وكبيرهم وكافرهم ومؤمنهم قبل


[ 449 ]

تعلقهم بالأبدان مرة بثلاثة أشياء: الإقرار بالربوبية والنبوة والولاية، فأقر بعضهم بكلها دون بعض، ثم كلف جمعا منهم بعد تعلقهم بالأبدان مرة ثانية، فكل يعمل في عالم الأبدان على وفق ما عمل في عالم الأرواح. وأما إنه تعالى هو المضل، فقد تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن الله تعالى يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة، فلابد من الجمع بينهما. ووجه الجمع كما يستفاد من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه أن من جملة غضب الله تعالى على بعض العباد أنه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب وأناب يزيل الله تعالى تلك النكتة، وإلا فتنتشر تلك النكتة حتى تستوعب قلبه كله، فحينئذ لا يلتفت قلبه إلى موعظة ودليل. لا يقال: من المعلوم: أنه مكلف بعد ذلك، وإذا امتنع تأثر قلبه يكون تكليفه بالطاعة من قبيل التكليف بما لا يطاق. لأنا نقول: إن انتشار النكتة لا ينتهي إلى حد تعذر التأثر. ومما يؤيد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة من أهل البيت (عليهم السلام) من الاستعاذة بالله من ذنب لا يوفق صاحبه للتوبة بعده أبدا . ثم أقول: هنا دقيقة أخرى هي أنه [تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بانقسام غير السعيد إلى قسمين: المغضوب عليه والضالين وبانقسام الأمة إلى ثلاثة: المؤمن والناصبي والضال وفي كلامهم (عليهم السلام) تصريح بأن المحسن من الضال يدخله الجنة بفضل رحمته ، فمعنى كونه مضلا: أنه يخلي بعض على ما هو عليه كما في أهل الفترة. ويمكن أن يقال] : يستفاد من قوله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾ أي نجد الخير ونجد الشر، ومن نظائره من الآيات والروايات [ومن قوله تعالى: ﴿إن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ ومن نظائره من الآيات والروايات: أن تصوير النجدين


[ 450 ]

وتمييز نجد الخير من نجد الشر من جانبه تعالى، والله عز وجل قد يحول بين المرء وبين أن يميل إلى الباطل، وقد لا يحول ويخلي بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل، وذلك نوع من غضبه تعالى يتفرع على اختيار العبد العمى بعد أن عرفه الله تعالى نجد الخير والشر، فهذا معنى كونه تعالى هاديا ومضلا وبالجملة، إن الله تعالى يقعد أولا في أحد أذني قلب الإنسان ملكا وفي أحد أذنيه شيطانا، ثم يلقي في قلبه اليقين بالمعارف الضرورية، فإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه، وإن عزم على إخفائها


[ 451 ]

وإظهار خلافها يرفع الله الملك عن قلبه ويخلي بينه وبين الشيطان ليلقي في قلبه الأباطيل الظنية، وهذا معنى كونه تعالى مضلا لبعض عباده] الثامنة: أنه وقعت مشاجرة عظيمة من غير فيصل بين المتأخرين من أصحابنا في تحقيق معنى الناصبي، فزعم بعضهم أن المراد به: من نصب العداوة لأهل البيت (عليهم السلام). وذهب بعضهم إلى أن المراد به من نصب العداوة لمذهب الإمامية وفي الأحاديث تصريحات بالثاني. ومن قال بالأول كان قليل البضاعة في أحاديثنا الواردة في الأصولين. ومن الأحاديث الصريحة فيما اخترناه ما نقله الشيخ الصدوق في كتاب العلل حيث قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن أحمد، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأ نك لا تجد رجلا يقول: أنا أبغض محمدا وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأ نكم من شيعتنا وما نقله محمد بن إدريس الحلي في آخر السرائر عن كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى (عليه السلام) في جملة


[ 452 ]

مسائل محمد بن علي بن عيسى، قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب والأحاديث الصريحة في حصر المسلم في المؤمن والناصبي والضال وفي تفسير الضال بمن لم يعرف مذهب الإمامية ولم ينصب العداوة له ويمكن جعل المناقشة بين الفريقين لفظية بأن يقال: المراد من نصب العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) ما يعم نصب العداوة لهم بأعيانهم ونصب العداوة لهم تحت قاعدة كلية، مثل أن يقال نبغض كل من يبغض الشيخين. التاسعة: أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأنه لابد في كل زمان من معصوم منصوب من قبله تعالى، ليكون حجة على الناس أجمعين من لدن آدم (عليه السلام) إلى انقراض الدنيا فعلى هذا يكون معنى الفترة عندنا: استتار الإمام خوفا من أشرار الناس استتارا ينتهي إلى عدم بلوغ الدعوة إلى جمع من الناس، وإلى عدم تمكن جمع آخر من أخذ كل الأحكام منه (عليه السلام). العاشرة: أنه يستفاد من هذه الروايات أن أهل الفترة أي القسم المتعارف منه وهو الذي من لم تبلغه الدعوة ومن يحذوا حذوهم لم يتعلق به تكليف أصلا، أما بالمعارف فلأنها من الله تعالى مطلقا، وأما بغيرها فلأنه يستفاد مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) كما مر تحقيقه. وقد وقع من جميع الفرق غير الأخباريين من أصحابنا إفراط وتفريط في مسألة أهل الفترة، والسبب فيه أنهم لم يأخذوها من صاحب الوحي واتكلوا على مجرد عقولهم فيها. واعلم أن الأصوليين وضعوا بابا لتحقيق أن الأفعال الاختيارية الغير الضرورية مع قطع النظر عن خطاب الشارع كيف يكون حكمها؟ ليفرعوا عليه حكم واقعة لم يبلغ العبد فيها خطاب من جهة الشارع سواء كان من أهل الفترة أو لم يكن. فقال صاحب جمع الجوامع من الشافعية: حكمت المعتزلة العقل، فإن لم يقض


[ 453 ]

فثالثها لهم الوقف عن الحظر والإباحة وقال الزركشي في شرحه: هذا من المصنف تحرير لنقل مذهب الاعتزال، فإن الإمام الرازي عمم الخلاف بينهم في جميع الأفعال. وليس كذلك، بل الأفعال الاختيارية عندهم تنقسم إلى ما يقتضي العقل فيها بحسن أو قبح، وتنقسم إلى الأحكام الخمسة بحسب ترجيح الحسن أو القبح وتعادلهما، ولا خلاف عندهم في هذا، وإليه أشار بقوله: ” وحكمت المعتزلة العقل أي فيما يقضي فيه العقل ودل عليه قوله بعد: ” فإن لم يقض وإنما الخلاف فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح كفضول الحاجات والنعمات هل هو واجب أو مباح أو على الوقف؟ ثلاثة مذاهب. والقائلون بالحظر كما قاله التلمساني لا يريدون أنه باعتبار صفة في المحل، بل حظر احتياطي كما يجب اجتناب المنكوحة إذا اختلطت بأجنبية. والقائلون بالوقف أرادوا وقف خيرة. وطريق البحث معهم في هذه المسألة والتي قبلها أن كل احتمال عينوه وبنوا عليه حكما قابلناهم بنقيضه، فتعارض شبه القائل بالإباحة شبه القائلين بالحظر وشبه الواقفين من شبههما. تنبيهات الأول: تحرير النقل عنهم هكذا تابع فيه الآمدي، قال القرافي وإطلاق الإمام الخلاف عنهم ينافي قواعدهم، فإن القول بالحظر مطلقا يقتضي تحريم إنقاذ الغريق ونحوه، والقول بالإباحة مطلقا يقتضي إباحة القتل والفساد. وأما ما لا يطلع العقل على مصلحته أو مفسدته، فيمكن أن يجيء فيه الخلاف. الثاني: قوله: ” وحكمت المعتزلة العقل يقتضي أن مذهبهم أن العقل منشأ للحكم مطلقا. وليس كذلك، بل التحقيق والنقل عنهم أنهم قالوا: الشرع مؤكد لحكم العقل فيما أدركه من حسن الأشياء وقبحها كحسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران، وليس مرادهم أن العقل يوجب أو يحرم، وقد لا يستقل


[ 454 ]

بذلك بل يحكم به بواسطة ورود الشرع بالحسن والقبح، كحكمه بحسن الصلاة في وقت الظهر وقبحها في وقت الاستواء. الثالث: يتبادر إلى الذهن استشكال قول المصنف لهم، فإن الخلاف محكي أيضا عن جماعة من أصحابنا كابن أبي هريرة وغيره. والذي فعله المصنف هو الصواب، لأن الخلاف المحكي عن أصحابنا في ذلك إنما هو بمقتضى الدليل الشرعي الدال على ذلك بعد مجيء الشرع لا بمجرد العقل، وليس خلافهم في أصل التحسين والتقبيح بالعقل، وصار الفرق بينهم وبين أصحابنا في هذا الخلاف من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم خصوا هذه الأقوال بما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح. وأما ما يقضي ينقسم إلى الأحكام الخمسة، ولهذا نسبهم أصحابنا إلى التناقض في قول من رجح الإباحة أو الحظر، لأن ذلك عندهم يستند إلى دليل العقل وفرض المسألة فيما لم يظهر للعقل حسنه ولا قبحه، وأما أصحابنا فأقوالهم في جميع الأفعال. هذا على طريقة الآمدي ومن تابعه. والثاني: ان معتمدهم دليل العقل، ومعتمد أصحابنا الدليل الشرعي، أما على التحريم كقوله تعالى: ﴿يسألونك ماذا أحل لهم﴾ ومفهومه أن المتقدم قبل الحل هو التحريم، فدل على أن حكم الأشياء كلها على الحظر. وأما على الإباحة كقوله تعالى: ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعا﴾ وقوله: ﴿أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ وذلك يدل على الإذن في الجميع. وأما الوقف فلتعارض الأدلة بهذه المدارك الشرعية الدالة على الحال قبل ورود الشرائع فلو نرد هذه النصوص لقال الأصحاب: لا علم لنا بتحريم ولا إباحة، ولقالت المعتزلة: المدرك عندنا العقل فلا يضر عدم ورود الشرائع. والثالث: أن الواقفين أرادوا وقف حيرة كما قال التلمساني. وأما أصحابنا فأرادوا به انتفاء الحكم على ما سبق انتهى كلام بدرالدين الزركشي في شرح جمع الجوامع وفي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي: قد قسم المعتزلة الأفعال الاختيارية


[ 455 ]

إلى ما لا يقضي العقل فيها بحسن ولا بقبح، ولهم فيها ثلاثة مذاهب: الحظر والإباحة والوقف عنهما، وإلى غيرها، وهو ينقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة المشهورة من واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح، لأنه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة فإما فعله حرام وإما تركه فواجب، وإن لم يشتمل عليه فإن اشتمل على مصلحة فإما فعله فمندوب أو تركه فمكروه، وإن لم يشتمل عليها أيضا فمباح. أما الحاظر فنقول له: لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لا ثالث لهما كالحركة والسكون لزم التكليف بالمحال. قال الأستاد من ملك بحرا لا ينزف واتصف بغاية الجود وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر فكيف يدرك العقل تحريمها؟ والتقريب واضح، قالوا: تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم. الجواب: أن حرمة التصرف في ملك الغير عقلا ممنوع، فإنها تبتني على السمع، ولولا ورود السمع بها لما علم. ولو سلم كونها عقلية فذلك فيمن يلحقه ضرر بالتصرف في ملكه، ولذلك لا يقبح النظر في مرآة الغير والاستظلال بجداره والاصطلاء بناره والمالك فيما نحن فيه منزه عن الضرر. فمعارض ولو سلم بما في المنع من الضرر الناجز ودفعه عن النفس واجب عقلا، وليس تحمله لدفع ضرر الخوف أولى من العكس. وأما المبيح فنقول له: إن أردت أن لا حكم بحرج في الفعل والترك فمسلم، وإن أردت خطاب الشارع بذلك فلا شرع. وإن أردت حكم العقل بذلك فالمفروض أنه لا حكم للعقل فيه بحسن أو قبح في حكم الشارع بذلك فإن ذلك معنى عدم حكم العقل بحسنه أو قبحه وقد فرضه كذلك، فيلزمك التناقض؛ ومثله آت في المحرم. قالوا: خلق العبد وما ينتفع به، فالحكمة تقتضي إباحته له تحصيلا لمقصود خلقهما وإلا كان عبثا خاليا عن الحكمة وأ نه نقص. الجواب: المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم التصرف، والحل بأنه ربما خلقهما ليشتهيه فيصبر عنه فيثاب عليه، فلا يلزم من عدم الإباحة عبث


[ 456 ]

وأما الواقف فنقول له: إن أردت أنك توقفت عن الحكم لتوقفه عن السمع فمسلم، وإن أردت به أنك توقفت لتعارض الأدلة ففاسد، لأ نا بينا بطلانها فلا تعارض. وقد يقال من قبل الحاظر: لا نسلم أن الضدين بلا واسطة مما لا حكم للعقل فيه لأنه يحكم بإباحة أحدهما قطعا. ومن قبل المبيح: الفرض أن لا حكم فيه بخصوصه، إذ لا يدرك صفة محسنة أو مقبحة، ولا ينافي ذلك الحكم العام بالإباحة. ومن قبل الواقف: أريد أن ثمة حكما بأحدهما في نفسه فالبعض مباح والبعض محظور ولا أدري أيهما هو في الفعل المعين، وهو غير ما رددت فيه من الأمرين انتهى كلامه. وأقول: أحكام الله تعالى الخمسة والوضعية والكلام النفسي عند الأشاعرة قديمان، ولتلك الأحكام تعلقان عندهم: تعلق عقلي قديم، وتعلق تنجيزي حادث يحدث عند اجتماع شرائط التكليف في العبد، وقبل ورود الشرائع لم يعلم عندهم هل لله عز وجل حكم أم لا؟ وعلى تقدير أن يكون لله تعالى حكم هل الكل الإباحة أو الكل الحرمة أو ملفق منهما؟ وهم اتفقوا على أن العبد بريء الذمة عن الأحكام كلها قبل بلوغ الخطاب إليه، ولو علم إجمالا بقول نبي أن هناك أحكاما. وذكر رئيس الطائفة (قدس سره) في كتاب العدة: فصل: في ذكر حقيقة الحظر والإباحة، والمراد بذلك. اعلم أن معنى قولنا في الشيء: ” إنه محظور أنه قبيح لا يجوز له فعله، إلا أنه لا يسمى بذلك إلا بعد أن يكون فاعله أعلم حظره أو دل عليه، ولأجل هذا لا يقال في أفعال الله تعالى: إنها محظورة لما لم يكن أعلم قبحها ولا دل عليه، وإن كان في أفعاله ما لو فعله كان قبيحا، فكذلك لا يقال في أفعال البهائم والمجانين أنها محظورة لما لم يكن هذه الأشياء أعلم قبحها ولا دل عليه. ومعنى قولنا: ” إنه مباح أنه حسن وليس له صفة زائدة على حسنه، ولا يوصف بذلك إلا بالشرطين الذين ذكرناهما: من إعلام فاعله ذلك أو دلالته عليه. وكذلك لا يقال: إن فعل الله تعالى العقاب بأهل النار مباح لما لم


[ 457 ]

يكن أعلمه ولا دل عليه وإن لم يكن لفعله العقاب صفة زائدة على حسنه، وهي كونه مستحقا، وكذلك لا يقال في أفعال البهائم: إنها مباحة لعدم هذين الشرطين، ولأجل ذلك نقول: إن المباح يقتضي مبيحا والمحظور يقتضي حاظرا. وقد قيل في حد المباح: هو إن لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف ضررا في ذلك لا عاجلا ولا آجلا، وفي حد الحظر: إنه ليس له الانتفاع به وإن عليه في ذلك ضررا إما عاجلا أو آجلا، وهذا يرجع إلى المعنى الذي قلناه. فصل في ذكر بيان الأشياء التي يقال إنها على الحظر أو الإباحة والفصل بينهما وبين غيرها والدليل على الصحيح من ذلك. أفعال المكلف لا تخلو من أن يكون حسنة أو قبيحة، والحسنة لا تخلو من أن يكون واجبة أو ندبا أو مباحا، وكل فعل يعلم جهة قبحه بالعقل على التفصيل، فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين في أنه على الحظر، وذلك نحو الظلم والكذب والعبث والجهل وما شاكل ذلك. وما يعلم جهة وجوبه على التفصيل، فلا خلاف أيضا أنه على الوجوب، وذلك نحو وجوب رد الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وما شاكل ذلك. وما يعلم جهة كونه ندبا، فلا خلاف أيضا أنه على الندب وذلك نحو الإحسان والتفضل. وإنما كان الأمر في هذه الأشياء على ما ذكرناه، لأنها لا يصح أن تتغير من حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن. واختلفوا في الأشياء التي يصح الانتفاع بها هل هي على الحظر أو على الإباحة أو على الوقف؟ فذهب كثير من البغداديين وطائفة من أصحابنا الإمامية إلى أنها على الحظر، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء. وذهب أكثر المتكلمين من البصريين وهو المحكي عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء إلى أنها على الإباحة وهو الذي يختاره سيدنا المرتضى. وذهب كثير من الناس إلى أنها على الوقف، ويجوز كل واحد من الأمرين فيه وينتظر ورود السمع بواحد منهما. وهذا هو المذهب، كان ينصره شيخنا أبو عبد الله (رحمه الله) وهو الذي يقوى في نفسي. والذي يدل


[ 458 ]

على ذلك أنه قد ثبت في العقول أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل إقدامه على ما يعلم قبحه. ألا ترى أن من أقدم على الإخبار بما لا يعلم صحة مخبره جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأن مخبره على خلاف ما أخبر به على حد واحد، وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلة على حسن هذه الأشياء قطعا ينبغي أن نجوز كونها قبيحة وإذا جوزنا ذلك فيها قبح الإقدام عليها. فإن قيل: نحن نأمن قبحها، لأنها لو كانت قبيحة لم تكن إلا لكونها مفسدة، لأنه ليس لها جهة قبح يلزمها، مثل الجهل والظلم والكذب والعبث وغير ذلك، ولو كانت قبيحة للمفسدة لوجب على القديم أن يعلمنا ذلك وإلا قبح التكليف، فلما لم يعلمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك وذلك يفيدنا الإباحة. قيل: لا يمتنع أن تتعلق والمفسدة بإعلامنا جهة الفعل على التفصيل، فيقبح الإعلام ويكون المصلحة لنا في التوقف في ذلك والشك وتجويز كل واحد من الأمرين، وإذا لم يمتنع أن تتعلق المصلحة بشكنا والمفسدة بإعلامنا جهة الفعل لم يلزم إعلامنا على كل حاصل وصار ذلك موقوفا على تعلق المصلحة بالإعلام أو المفسدة بالشك، فحينئذ يجب الإعلام وذلك موقوف على السمع. وليس لأحد أن يقول: إن هذا الذي فرضتموه يكاد يعلم ضرورة تعذره، لأن الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك، فإن كان قبيحا فلا يكون كذلك إلا للمفسدة، وإن لم يكن قبيحا فذلك الحسن. وهذه قسمة مترددة بين النفي والإثبات فكيف اخترتم أنتم قسما ثالثا لا يكاد يعقل؟ وذلك أن الفعل كما قالوا لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك. ولكن لا يمتنع أن يكون للمكلف حالة أخرى يتعلق بها المفسدة والمصلحة، وهي الحالة التي يقطع فيها على جهة الفعل على التفصيل، وإذا كان ذلك جائزا لم ينفعنا تردد الفعل في نفسه بين القبح والحسن واحتجنا أن نراعي حال المكلف، فمتى وجدنا المصلحة تعلقت بإعلامه جهة الفعل وجب ذلك فيه، ومتى تعلقت المفسدة بذلك وجب ألا يعلم ذلك وكان فرضه الوقف والشك وهو الذي لخصناه


[ 459 ]

ينبغي أن يتأمل جيدا، فإنه يسقط معتمد القوم في أدلتهم، فربما لم يتصور كثير من الذين يتكلمون في هذا الباب ما بيناه، ومتى تأمله من يضبط الأصول وقف على وجه الصواب في ذلك. فإن قيل: كيف يمكنكم أن تدفعوا حسن هذه الأشياء ونحن نعلم ضرورة حسن التنفس في الهواء وتناول ما يقوم به الحياة طول مدة النظر في حدوث العالم وإثبات الصانع وبيان صفاته، وعلى ما قلتموه ينبغي أن يمتنع في هذه الأوقات من الغذاء وغير ذلك، وذلك يؤدي إلى تلفه وعطبه، ومن ارتكب ذلك علم بطلان قوله ضرورة. قيل له: أما التنفس في الهواء فالإنسان ملجأ إليه مضطر وما يكون ذلك حكمه فهو خارج عن حد التكليف، فإن فرضوا فيما زاد على قدر الحاجة فلا نسلم ذلك بل ربما كان قبيحا على جهة القطع، لأنه عبث لا فائدة فيه ولا نفع في ذلك يعقل. وأما أحوال النظر فمستثناة أيضا، لأنه في تلك الأحوال ليس بمكلف أن يعلم حسن هذه الأشياء ولا قبحها، لأنه لا طريق له إلى ذلك، وإنما يمكنه ذلك إذا عرف الله تعالى بجميع صفاته وأ نه ينبغي أن يعلمنا مصالحنا ومفاسدنا، فإذا علم جميع ذلك حينئذ تعلق فرضه بأن يعلم هذه الأشياء هل هي على الحظر أو على الإباحة؟ وفي هذه الأحوال لا يجوز له أن يقدم إلا على قدر ما يمسك رمقه وتقوم به حياته. ومن أصحابنا من قال: إن في هذه الأحوال لابد من أن يعلمه الله تعالى ذلك بسمع يبعثه إليه فيعلمه أن ذلك مفسدة يتجنبه أو مصلحة يجب عليه فعله أو مباح يجوز له تناوله. وعلى ما قررته من الدليل لا يجب ذلك، لأنه إذا فرضنا تعلق المصلحة والمفسدة بحال المكلف لم يمتنع أن يدوم ذلك زمانا كثيرا، ويكون فرضه فيه كله الوقف والشك والاقتصار على قدر ما يمسك رمقه وحياته. وهذا الدليل الذي ذكرنا هو المعتمد في هذا الباب، والذي يلي ذلك في القوة أن يقال: إذا فقدنا الدلالة على حظر هذه الأشياء وعلى إباحتها وجب التوقف فيها وتجويز كل واحد من الأمرين. وليس يلزمنا أكثر من أن نبين أن ما تعلق به كل واحد من الفريقين ليس بدليل


[ 460 ]

في هذا الباب. فما استدل به من قال: إن الأشياء على الحظر قطعا، أن قالوا: قد علمنا أن هذه الأشياء لها مالك، ولا يجوز لنا أن نتصرف في ملك الغير إلا بإذنه، كما علمنا قبح التصرف فيما لا نملكه في الشاهد. واعترض القائلون بالإباحة هذه الطريقة بأن قالوا: إنما قبح في الشاهد التصرف في ملك الغير لأنه يؤدي إلى ضرر مالكه، بدلالة أن ما لا ضرر عليه في ذلك جاز لنا أن نتصرف فيه، مثل الاستظلال بفيء داره والاستصباح بضوء ناره والاقتباس منها وأخذ ما يتساقط من حبه عند الحصاد، وغير ذلك، من حيث لا ضرر عليه في ذلك. فعلمنا أن الذي قبح من ذلك إنما قبح لضرر مالكه لا لكونه مالكا، والقديم تعالى لا يجوز عليه الضرر على حال، فينبغي أن يسوغ لنا التصرف في ملكه. ولمن نصر هذا الدليل أن يقول: إنما حسن الانتفاع في المواضع التي ذكرتموها لا لارتفاع الضرر، بل لأن هذه الأشياء لا يصح تملكها، لأن في الحائط ليس بشيء يملك إذا كان في طريق غير مملوك، ومتى كان الفيء في ملك صاحبه قبح الدخول إليه، وكذلك القول في المصباح، فأما أخذ ما يتناثر من حبه، فلا نسلم أنه يحسن، فكيف نسلم وله أن يمنعه من ذلك وأن يجمعه لنفسه، ولو كان مباحا لم يجز له منعه منه: على أن العلة التي ذكروها من اعتبار دخول الضرر على مالكه كان ينبغي أن لا يسوغ له أخذ ما يتناثر من حبه، لأ نا نعلم أن ذلك يدخل عليه فيه ضرر وإن كان يسيرا، فعلى المذهبين جميعا كان ينبغي أن يقبح ذلك؛ على أن ذلك لو قبح لضرر لا لفقد الإذن من مالكه لكان ينبغي أن لو أذن فيه أن لا يحسن ذلك، لأن الضرر حاصل. وليس لهم أن يقولوا: إنه يحصل له عوض أكثر منه من الثواب أو السرور عاجلا، وذلك إنا نفرض فيمن لا يعتقد العوض على ذلك من الملاحدة، وليس هو أيضا مما يسر به بل ربما شق عليه واغتم به، ومع ذلك حسن التصرف منه إذا أذن فيه. وليس لأحد أن يقول: إن دليل العقل الدال على إباحة هذه الأشياء يجري مجرى إذن سمعي، فجاز لنا التصرف فيها. وذلك أن لمن نصر هذا الدليل أن يقول: لم يثبت ذلك، ولو ثبت لكان الأمر على ما قالوه. ونحن نتبع ما يستدل به أصحاب


[ 461 ]

الإباحة ونتكلم عليه إن شاء الله تعالى. واستدل كثير من الفقهاء على أن الأشياء على الحظر أو الوقف بقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وبقوله: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ فقالوا: بين الله تعالى أنه لا يستحق أحد العقاب ولا يكون لله عليهم حجة إلا بعد إنفاذ الرسل، وذلك يفيد أن من جهتهم يعلم حسن هذه الأشياء أو قبحها، وهذا لا يصح الاستدلال به من وجوه: أحدها: أن هاهنا أمورا كثيرة معلومة من جهة العقل وجوبها وقبحها، مثل: رد الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وقضاء الدين وقبح الظلم والعبث والكذب والجهل وحسن الاحسان الخالص، وغير ذلك، فعلمنا أنه ليس المراد بالآية ما ذكروه، ومتى ارتكبوا [أن] دفع هذه الأشياء [ليست] معلومة إلا بالسمع علم بطلان قولهم وكانت المسألة خارجة عن هذا الباب. ومنها: أن لله حججا كثيرة غير الرسل من أدلة العقل الدالة على توحيده وعدله وجميع صفاته التي من لا يعرفها لا يصح أن يعرف صحة السمع، فكيف يقال: لا تقوم الحجة إلا بعد انفاذ الرسل؟ والمعني في الآيتين أن تحملا على أنه إذا كان المعلوم أن لهم الطافا ومصالحا لا يعلمونها إلا بالسمع وجب على القديم تعالى إعلامهم إياها، ولم يحسن أن يعاقبهم على تركها إلا بعد تعريفهم إياها، ولم تقم الحجة عليهم إلا بعد إنفاذ الرسل، ومتى كان الأمر على ذلك وجبت بعثة الرسل، لأنه لا يمكن معرفة هذه الأشياء إلا من جهتهم. واستدل من قال هذه الأشياء على الإباحة بأن قالوا: نحن نعلم ضرورة أن كل ما يصح الانتفاع به ولا ضرر على أحد فيه عاجلا ولا آجلا، فإنه حسن كما يعلم أن كل ما لا نفع فيه عاجلا ولا آجلا قبيح، فدافع أحد الأمرين كدافع الآخر، وإذا ثبت ذلك وكانت هذه الأشياء لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا فيجب أن تكون حسنة. قالوا: ولا يجوز أن يكون فيها ضرر أصلا لأنه لو كان كذلك لم يكن إلا لكونها


[ 462 ]

مفسدة في الدين، ولو كان كذلك لوجب على القديم تعالى إعلامنا ذلك، فلما لم يعلمنا ذلك علمنا أنها حسنة، وقد مضى في دليلنا ما يمكن أن يكون كلامنا على هذه الشبهة، وذلك أنا قلنا: إن هذه الأشياء لا نأمن أن يكون فيها ضرر آجل، وإذا لم يأمن ذلك قبح الإقدام عليها كما لو قالوا: قطعنا أن فيها ضررا. وأجبنا عن قولهم: ” إنه لو كان فيها ضرر لكان ذلك لأجل المفسدة وذلك يجب على القديم إعلامنا إياه بأن قلنا: لا يمتنع أن تتعلق المفسدة بإعلامنا جهة الفعل على وجه التفصيل ويكون مصلحتنا في الوقف والشك وتجويز كل واحد من الوجهين في الفعل، وإذا كان ذلك جائزا لم يجب عليه تعالى إعلامنا ذلك وجاز أن يقتصر بالمكلف على هذه المنزلة. واستدلوا أيضا بأن قالوا إذا صح أن يخلق تعالى الأجسام خالية من الألوان والطعوم فخلقته تعالى للطعم واللون لابد أن يكون فيه وجه حسن، ولا يخلو ذلك من أن يكون لنفع نفسه أو لنفع الغير أو خلقها ليضربها، ولا يجوز أن يخلقها لنفع نفسه لأنه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يحسن أن يخلقها ليضر بها، لأن ذلك قبيح الابتداء به، فلم يبق إلا أنه خلقها لنفع الغير، وذلك يقتضي كونها مباحة. والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أنه إنما خلق هذه الأشياء إذا كانت فيها ألطاف ومصالح وإن لم يجز لنا أن ننتفع بها بالأكل بل نفعنا بالامتناع منها فيحصل لنا به الثواب، كما أنه خلق أشياء كثيرة يصح الانتفاع بها ومع ذلك فقد حظرها بالسمع مثل شرب الخمر وأكل الميتة والزنا، وغير ذلك. وليس لهم أن يقولوا: إن هذه الأشياء إنما حظرها لما كانت مفسدة في الدين وأعلمنا ذلك، وليس كذلك ما يصح الانتفاع به ولا يعلم ذلك فيه، وذلك أنا قد بينا أنه لا فرق بين أن يتعلق المصلحة بإعلامنا من جهة الفعل من قبح أو حسن فيجب عليه أن يعلمنا ذلك، وبين أن يتعلق المصلحة بحال لنا يجوز معها كل واحد من الأمرين، فيجب أن يقتصر بنا على تلك الحال، لأن المراعى حصول المصلحة وإذا ثبت ذلك لحق ثبات ما علمنا قبحه على طريق القطع والثبات في أنه


[ 463 ]

لا يحسن منا الإقدام عليه. ومنها: أن على مذهب كثير من أهل العدل إنما خلق الطعوم والأراييح في الأجسام لأنها لا تصح أن يخلو منها، فجرت في هذا الباب مجرى الأكوان التي لا يصح خلو الجسم منها، وخلق الجسم إذا ثبت أنه مصلحة وجب أن يخلق معه جميع ما يحتاج إليه في وجوده. ومنها: أن الانتفاع بهذه الأشياء قد يكون بالاستدلال بها على الله تعالى وعلى صفاته فليس الانتفاع مقصورا على التناول فحسب. وليس لهم أن يقولوا: إنه كان يمكن الاستدلال بالأجسام على وحدانية الله تعالى وعلى صفاته، فلا معنى لخلق الطعوم، وذلك أنه لا يمتنع أن يخلقها لما ذكرناه وإن كان الجسم يصح الاستدلال به ويكون ذلك زيادة في الأدلة. ولسنا ممن يقول: لا يجوز أن ينصب على معرفته أدلة كثيرة، لأ نا إن قلنا ذلك أدى إلى فساد أكثر الأدلة التي يستدل بها على وحدانية الله تعالى، فإذا ينبغي أن يجوز أن يخلقها للاستدلال بها وذلك يخرجها عن حكم العبث ويدخلها في باب ما خلقت للانتفاع بها. وليس لهم أن يقولوا: إذا صح الانتفاع من الوجهين بالاستدلال والتناول فينبغي أن يقصد به الوجهين، وذلك أن هذا محض الدعوى لا برهان عليها، بل الذي يحتاج إليه أن يعلم أنه لم يخلقها إلا لوجه، فأما أن يقصد بها جميع الوجوه التي يصح الانتفاع بها فلا يجب ذلك؛ على أنا قد بينا أنه لا يمتنع أن يفرض في أحد الوجهين مفسدة في الدين، فيحسن أن يخلقها للوجه الآخر ويعلمنا أن فيها فسادا في الدين متى تناولناها فيجب علينا أن نمتنع منها. فإن قيل: إذا أمكن خلقها للوجهين ولم يقصدهما كان عبثا من الوجه الذي لم يقصد الانتفاع به، وجرى ذلك مجرى فعلين يقصد بأحدهما الانتفاع ولا يقصد بالآخر ذلك فيكون ذلك عبثا. قيل له: ليس الأمر على ذلك، لأن الفعل الواحد إذا كان فيه وجه من وجوه


[ 464 ]

الحكمة خرج من باب العبث وإذا كان له وجوه أخر كان يجوز أن يقصد، وليس كذلك الفعلان، لأنه إذا قصد وجه الحكمة في أحدهما بقي الآخر خاليا من ذلك وكان عبثا، وليس كذلك الفعل الواحد على ما بيناه. فإن قيل: الانتفاع بالاعتبار بالطعوم لا يمكن إلا بعد تناولها، لأن الطعم ليس مما يدرك بالعين فينتفع به من هذه الجهة، فإذا لابد من تناوله حتى يصح الاعتبار به. قيل: الاعتبار يمكن بتناول القليل منه وهو قدر ما يمسك الرمق ويبقى معه الحياة، وقد بينا أن ذلك القدر في حكم المباح، وليس الاعتبار موقوفا على تناول شيء كثير من ذلك. ويمكن أن يقال أيضا: إنه يصح أن يعتبر بها إذا تناولها غير المكلف من سائر أجناس الحيوان، فإنه إذا شاهد أجناس الحيوان تتناول تلك الأشياء ويصلح عليها أجسامها أو ينفسد بحسب اختلافها واختلاف طبائعها جاز معه أن يعتبر بذلك وإن لم يتناولها المكلف أصلا. وبمثل هذا أجاب المخالف من قال: نحن لا نفرق بين السموم والأغذية، بأن قال: يرجع إلى حال الحيوانات التي ليست مكلفة إذا شاهدها يتناول أشياء ينتفع بها جعل ذلك طريقة إلى تجربته، فإن ذلك مما ينصلح عليه أيضا جسمه. وذلك مثل ما أجبنا به عن السؤال الذي أوردوه في هذا الباب واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ وبقوله عز وجل: ﴿أحل لكم الطيبات﴾ وما شاكل ذلك من الآيات. وهذه الطريقة مبنية على السمع. ونحن لا نمتنع من أن يدل دليل السمع على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف، بل عندنا الأمر على ذلك وإليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات. واستدل كثير من الناس على أن هذه الأشياء على الحظر أو الوقف، بأن قالوا: قد علمنا أن التحرز عن المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجبا لم يحسن منا أن نقدم على تناول ما لا نأمن أن يكون سما قاتلا فيؤدي ذلك إلى العطب، لأ نا لا نفرق


[ 465 ]

بين ما هو سم وما هو غذاء وإنما ننتظر في ذلك إعلام الله تعالى لنا ما هو غذاؤنا والفرق بينه وبين السموم القاتلة. واعترض من خالف في هذا الاستدلال بأن قال: يمكننا أن نعلم ذلك بالتجربة، فإنا إذا شاهدنا الحيوان الذي ليس بمكلف يتناول بعض الأشياء فيصلح عليه جسمه علمنا أنه غذاء، وإذا تناول شيئا يفسد عليه علمنا أنه مضار، فحينئذ اعتبرنا بأحوالهما. وقال من نصر هذا الدليل: إن الحيوان يختلف طباعه، فليس ما يصلح الحيوان المستبهم يعلم أنه يصلح الحيوان الناطق، لأن هاهنا أشياء كثيرة تغذي كثيرا من الحيوان ويصلح عليها أجسامها وإن كان متى تناولها ابن آدم هلك، منها: أن الظبايا يأكل شحم الحنظل ويتغذى به ولو أكل ذلك ابن آدم لهلك في الحال، وكذلك النعامة تأكل النار وتحصل في معدتها، ولو أكل ذلك ابن آدم لهلك في الحال، وكذلك يقال: إن الفأرة تأكل البيش فتعيش به ورائحة ذلك تقتل ابن آدم، فليس طبائع الحيوان على حد واحد وإذا لم يكن على حد واحد لم يجز أن نعتبر بأحوال غيرنا أحوال نفوسنا. ولمن خالفهم في ذلك أن يقول: أحسب أنه لا يمكن أن نعتبر بأحوال الحيوان المستبهم أحوال الحيوان من البشر، أليس لو أقدم واحد منهم على طريق الخطأ والجهل على ما يذهبون إليه على تناول هذه الأشياء يعرف بذلك الخطأ ما هو غذاء وفرق بينه وبين السم، فينبغي أن يجوز لغيره أن يعتبر به ويجوز له بعد ذلك التناول منها وإن لم يرد سمع، لأنه قد أمن العطب والهلاك. فالمعتمد في هذا الباب. ما ذكرناه أولا في صدر هذا الباب. فهذه جملة كافية في هذا المعنى إن شاء الله تعالى انتهى ما أردنا نقله من كتاب العدة لرئيس الطائفة (قدس سره). وأنا أقول: إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام، بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام). فأقول: يستفاد من ظواهر الآيات الكريمة وتصريحات الأحاديث الشريفة بطلان


[ 466 ]

الوجوب والحرمة الذاتيين، بل أقول: الدليل العقلي قائم على ذلك بأن نقول: لو كان الوجوب والحرمة بمعنى استحقاق العقاب ذاتيين لكانا جاريين في أفعاله تعالى، ومن المعلوم المتفق عليه بطلانه. والقبيح الذاتي هو الفعل الذي يتصف بصفة إذا علمها الحكيم ينفر عنه كما أفاده سلطان المحققين نصير الدين الطوسي (رحمه الله) في الفصول النصيرية وكل من قال بالقبيح الذاتي بهذا المعنى قال بأن فاعله يستحق الذم في نظر الحكيم إذا فعله مع العلم باتصافه بتلك الصفة. ومنهم من زاد على ذلك فقال بأن فاعله يستحق العقاب أيضا. ثم اتفقوا على أن فاعله مع الغفلة على اتصافه بتلك الصفة معذور عند الحكيم، واختلفوا في فاعله مع التردد في اتصافه بتلك الصفة هل هو معذور أم لا؟ فمنهم من قال بأنه معذور. ومنهم من قال بأنه غير معذور فيستحق الذم والعقاب. ثم القائلون بالثاني افترقوا فرقتين في حكم المتردد فرقة قالت بالوقف وفرقة قالت بالحظر. وأنا أقول: القول بالحظر في حق المتردد باطل قطعا، لأنه لا يجوز للمتردد نهي الغير عن فعله، لأن شرط النهي عن المنكر العلم بأنه منكر، ولأنه يحتمل أن يطلع فاعله في بعض الصور على ما لم يطلع عليه المتردد، فلا يجوز نهيه عنه، ولو كان محظورا لجاز، لأن الكلام في المحظور القطعي لا المحظور الاجتهادي. ثم أقول: من المعلوم أن من قال بالملازمة بين استحقاق الذم وبين استحقاق العقاب مع العلم باتصافه بتلك الصفة يلزمه أن يقول بالملازمة بينهما مع التردد في اتصافه بتلك الصفة. والحق الذي لا ريب فيه عدم الملازمة بينهما، كما نقلناه عن الزركشي واخترناه وأن حكم المتردد الوقف، لأنه من البديهيات الفطرية أن المحاظر مذموم ولو سلم، لا الحظر، لما حققناه آنفا من عدم جواز أن ينهى عنه. ثم أقول: وضع هذا الباب مما لا طائل تحته عندي، لوجوه: أحدها: أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن الحجة على الخلق أول الخلق وآخر الخلق أي لا يخلو الأرض عن معصوم حجة على الخلق أبدا، ثم


[ 467 ]

في زمن الغيبة الكبرى يوفق الله تعالى بعض الرعية بفهم الأحاديث المسطورة في الأصول الممهدة في زمن حضور الأئمة (عليهم السلام) ليعمل الشيعة بها إلى قيام القائم (عليه السلام) ويمهد له أسباب تحصيل العلم بجميع ما يحتاج إليه الشيعة في أعمالهم ولو بحديث وارد من باب التقية أو دال على رعاية الاحتياط على كيفية مخصوصة . والذي ظهر


[ 468 ]

لي من الروايات: طلب العلم فريضة على كل مسلم في كل وقت بقدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت، ولا يجب كفاية طلب العلم بكل ما يحتاج إليه الأمة كما قالته العامة، لأنه غير منضبط بالنسبة إلى الرعية، والتكليف بغير المنضبط محال كما تقرر في الأصول في مبحث علة القياس، بل يفهم من الروايات أن علم الرعية بجميع ذلك من المحالات. نعم، مقتضى حكمته تعالى أن يوفق لكل وقت من أوقات الغيبة الكبرى رعيته لتحصيل الأحاديث المسطورة في الأصول الممهدة، لتدل الشيعة على الحق الصريح أو على الاحتياط على كيفية مخصوصة. ويجب كفاية على أهل هذه القدرة من كل قطر إذا احتاجوا إلى مسألة أن ينفروا إليه لأخذها أو يعرضوها عليه ليجيئهم جوابها من عنده، ثم لو لم يقدر أحد على الوصول إليه أو لم يبلغه خبره لكان حكمه مثل حكم من كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام الظاهرصلوات الله عليه. وثانيها: أن الروايات صريحة في أن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وفي أن ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم فالشريعة دلتنا على أ نه كانت الأشياء قبلها على الإباحة الأصلية. وثالثها: أن الأحاديث الصريحة في وجوب التوقف بعد ورود الشريعة في كل واقعة لم يكن حكمها بينا والصريحة في حصر الأمور بعد ورود الشريعة في ثلاثة وفي وجوب التوقف بعد ورود الشريعة في الشق الثالثوهو ما لم يكن حكمه بيناقد ذهبت بفائدة وضع هذا الباب. هكذا ينبغي أن تحقق هذه المباحث، والله الموفق


[ 469 ]

فائدة إنما ورد في الأحاديث: ” طلب العلم فريضة على كل مسلم ولم يرد على كل بالغ عاقل لأن حكمته تعالى اقتضت أن يكون تعلق التكاليف بالناس على التدريج، بأن يكلفوا أولا بالإقرار بالشهادتين، ثم بعد صدور الإقرار عنهم يكلفون بسائر ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله). من الأحاديث الدالة على ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافيفي باب معرفة الإمام والرد إليهعن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: إن الله عز وجل بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ولم يعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما؟ قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما أنزل الله أيجب على أولئك حق معرفتكم؟ قال: نعم، أليس هؤلاء يعرفون فلانا وفلانا؟ قلت: بلى، قال: أترى أن الله تعالى هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء؟ والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان، لا والله! ما ألهم المؤمنين حقنا إلا الله عز وجل


[ 470 ]

……………………


[ 471 ]

الفصل الثاني عشر في ذكر طرف من أغلاط الفلاسفة وحكماء الإسلام في علومهم والسبب فيه ما حققناه سابقا: من أنه لا يعصم عن الخطأ في مادة المواد في العلوم التي مبادئها بعيدة عن الإحساس إلا أصحاب العصمة (عليهم السلام) ومن أن القواعد المنطقية غير نافعة في هذا الباب، وإنما نفعها في صورة الأفكار كإيجاب الصغرى وكلية الكبرى. فمن تلك الجملة: أن جمعا كثيرا من فحول الحكماء الأعلام ذهبوا إلى أنه لابد من تخلل السكون بين كل حركتين مختلفتين، واستدلوا على مذاهبهم بأن آن وصول المتحرك إلى منتهى الحركة الأولى مغاير لأن مفارقته ذلك المنتهى، ومن المعلوم: أن بين كل آنين زمانا، وإلا لزم الجزء الذي لا يتجزأ، ففي الزمان المتخلل بين الآنين يلزم أن يكون المتحرك ساكنا. واستدلالهم شبهة. وجوابه: أن الوصول آني، لأنه يحصل بانقطاع الحركة الأولى وانقطاع الحركة آني. وأما المفارقة فهي زمانية، لأنها إنما تحصل بالحركة والحركة زمانية. ثم من المعلوم: أنه يلزم هؤلاء الفحول الذين صرفوا أعمارهم في الفكر والنظر أن يكون نتيجة أفكارهم شيئا تضحك منه الثكلى! وهي أنه يلزمهم أن تسكن الحبة الصاعدة الجبل النازل بعد آن وصولها إليه في الجو، فإياك أيها الأخ اللبيب والحكيم


[ 472 ]

الأريب وأن تعتمد على أفكارك وأنظارك، وعليك التمسك بأصحاب العصمة وهم أرباب الوحي في كل مسألة يمكن عادة أن يقع فيها زلة . ومن تلك الجملة : أ نهم زعموا أن كل ما يستلزم محالا ذاتيا فهو أيضا محال ذاتية، ومن الأمور


[ 473 ]

المعلومة بطلان هذه الكلية، ألا ترى أن وقوع الكذب من الله تعالى مثلا يستلزم محالا ذاتيا هو نقصه تعالى. وكذلك عدم المعلول الأول عند الفلاسفة يستلزم عدمه تعالى، بل عدم كل موجود ممكن يستلزم عدم أحد الأمور الطبيعية الدخيلة في وجوبه السابق، لأن من جملة علامة اللزوم العلية والمعلولية، كما بين في مبحث الشرطية اللزومية من كتب المنطق. وبعض الأفاضل فرق بين استلزام الشيء لذاته محالا ذاتيا، وبين استلزامه لا لذاته. وأقول: هذا كلام غير منقح، والحق الصريح أن يقال: إن كانت علامة اللزوم غير العلية والمعلولية فالكلية صحيحة كاستلزام اجتماع النقيضين ارتفاعهما، وكاستلزام الدور توقف الشيء على نفسه، وكاستلزام التسلسل من جانب العلة زوال احتياج الممكن من غير استثناء إلى غني في ذاته. ومن تلك الجملة: شبهة احتمال وجود الممكن بأولوية ذاتية، فإنهم تحيروا في دفعها، والذي في خاطري الآن أدلة على دفعها: الأول: أنه إذا خلي وهذه الأولوية هل يوجد وقتا دون وقت أو يوجد دائما؟ فعلى الأول لم يكن هنا أولوية، بل يكون من باب التساوي، وهو خلاف الفرض. وأيضا فيه ترجيح أحد المتساويين بحسب الاقتضاء على الآخر تارة وتارة عكسه. وعلى الثاني فهل يجوز دفع ذلك الوجود بقاسر أم لا؟ فإن لم يجز فيكون من باب الوجوب لا الأولوية، وإن جاز فيكون وجوده فرع عدم ذلك القاسر فلم يكن الأولوية الذاتية كافية. الدليل الثاني: أنه إن جاز مع هذه الأولوية وقوع الطرف المرجوح يلزم جواز أن يترجح بحسب الوقوع الذي هو مرجوح بحسب الاقتضاء. وفساده أظهر من ترجيح أحد المتساويين على الآخر. وإن لم يجز فيلزم الخلف مع المطلوب. الثالث: هل ذاته آب عن وقوع الطرف المرجوح بحسب الاقتضاء أم لا؟ فعلى الثاني لا أولوية وعلى الأول يلزم الوجوب


[ 474 ]

لا يقال: عسى أن يكون الإباء بطريق الأولوية. لأ نا نقول: هذا نظير أن يقال التنافي بين الأمرين بطريق الأولوية. الرابع: بديهة امتناع استناد إيجاد شيء إلى نفسه. واحتمال استناد الوجود إلى الماهية واضح الفساد، لا سيما إذا لاحظنا الدليل الدال على أن الماهيات مجعولة بجعل البسيط، وهو أن أثر الفاعل يجب أن يكون موجودا لا انتزاعيا. فنقول: وجود الممكن بهذه الأولوية هل بطريق التأثير والاقتضاء أم لا كما في وجود الواجب تعالى؟ والأول باطل كما مر. والثاني باطل، لأنه يلزم وجود ممكن من غير تأثير. ولا يصح ذلكأي وجود شيء من غير تأثيرإلا في شيء يكون ذاته آبيا عن عروض العدم، كما أن الوجود آب عن الاجتماع مع العدم. وإلى هذا يؤول كلام جمع من الحكماء حيث قالوا: ” وجوده تعالى عين ذاته أي سائر الأشياء ينافي العدم إذا أخذت بشرط الوجود، وذاته تعالى ينافي العدم من حيث هو هو. وهذا معنى قولهم: ” الصفات الحقيقية في حقه تعالى عين ذاته أي يترتب على ذاته من حيث هو هو آثار تلك الصفات على أكمل وجه. ولذلك قيل: للوجود أسوة حسنة لسائر صفاته، بل لسائر صفاته أسوة حسنة به، يعني معنى عينية الوجود وعينية الصفات واحد، وهو أن ذاته تعالى ينافي العدم من حيث هو هو، وذاته تعالى من حيث هو هو مبدأ آثار الصفات، وإلا فالحق المستفاد من كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) أن الوجود مفهوم انتزاعي في حقه تعالى أيضا وأن الصفات الحقيقية في حقه تعالى معدومة. ولا تغفل من أن الدلالة التي ذكرناها لإبطال الأولوية الذاتية تقتضي صحة مذهب من قال بالوجوب السابق، أي إذا وجدت [العلة] التامة لا يجوز عدم المعلول. ومن جملة تحيراتهم: أن الأشاعرة جوزوا أن يرجح الفاعل الإرادي أحد طرفي المعلول بحسب الوقوع على الطرف الآخر لا لأجل علة غائية. والحكماء والمعتزلة ذهبوا إلى أن ذلك يستلزم ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح، أي فاعل، لأن ترجيح


[ 475 ]

الفاعل الإرادي أحد الطرفين حصل من غير مرجح. وللأشاعرة أن يقولوا: الفاعل الإرادي هو مرجح الترجيح أو يقولوا: الترجيح لا يحتاج إلى ترجيح آخر كالتأثير لا يحتاج إلى تأثير آخر، وإلا يلزم التسلسل. والحق أن الأدلة التي ذكرناها تقتضي بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة وأن ترجيح أحد الطرفين بحسب الوقوع مع تساوي نسبة المقتضي إليهما محال بديهة في الفاعل الإرادي أيضا. ومن جملة أغلاطهم: أن جمعا منهم زعموا أنه على مذهب الأشاعرة يتجه القول بالوجوب السابق، لأن الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل يحققه. وأقول: زعمهم هذا باطل، لأن بالاختيار عندهم يحصل الوجوب السابق لوجود المعلول، وليس شيء به يحصل الوجوب السابق للاختيار، لأن نسبته تعالى إلى هذا الاختيار وإلى اختيار الطرف الآخر على السوية، والاختيار من الممكنات. فهذه القاعدة ليست كلية عندهم، وهي كلية عند الحكماء . ومن تلك الجملة : أن علماء الإسلام قسموا الكافر إلى أقسام: منها: الرجل الذي بلغته الدعوة والمعجزة وقلبه متردد في صدقه (صلى الله عليه وآله). ويفهم من كلام أصحاب العصمةصلوات الله عليهمانتفاء هذا القسم. ففي كتاب الكافي: الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أرأيت لو أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال والله ما أدري أنبي أنت أم لا كان يقبل منه؟ قال: لا، ولكن كان يقتله، إنه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا . وفي كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي (رحمه الله) يعقوب بن يزيد، عن رجل، عن الحكم بن مسكين، عن أيوب بن الحر بياع الهروي قال: قال أبو


[ 476 ]

عبد الله (عليه السلام): يا أيوب ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) . عنه، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن رفعه قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلا غلب الحق الباطل، وذلك قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) . عنه، عن الحسن بن يزيد النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل قوم يعملون على ريبة من أمرهم ومشكلة من رأيهم وإزراء منهم على من سواهم، وقد تبين الحق من ذلك بمقايسة العدل عند ذوي الألباب . ومن تلك الجملة: أن الفلاسفة وعلماء الإسلام قسموا الاعتقاد الجازم إلى مطابق للواقع وغير مطابق له. ويفهم من كلام أصحاب العصمةصلوات الله وسلامه عليهمامتناع القسم الثاني. ففي كتاب المحاسن: عنه، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ فقال: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق . عنه، عن ابن محبوب، عن سيف بن عميرة وعبد العزيز العبدي وعبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أبى الله أن يعرف باطلا حقا، فقال: أبى الله أن يجعل الحق في قلب المؤمن باطلا لا شك فيه، وأبى الله أن يجعل الباطل في قلب الكافر المخالف حقا لا شك فيه ولو لم يجعل هذا هكذا ما عرف حق من باطل . [يعني لو حصل في القلب جزم باطل متعلق بقضية من الشيطان مثلا لما تمكنت أصحاب العصمة من الزامه بخلافها، ولم يكن لله تعالى ميزان في الخلق به يميز بين الحق


[ 477 ]

والباطل لأن ضد كل صاحب جزم يجزم بأن جزمه مطابق للواقع، بخلاف صاحب الظن فإنه يحتمل عنده خلاف مظنونه لا سيما إذا عارضه يقين . وفي كتاب التوحيد لشيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه (قدس سره) في باب السعادة والشقاوة حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله جميعا، قالا: حدثنا أيوب بن نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ قال: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق، وقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى ينقل العبد من الشقاء إلى السعادة ولا ينقله من السعادة إلى الشقاء . [أقول: قوله: ” ولا ينقله من السعادة إلى الشقاء رد على الأشاعرة، حيث زعموا أن معنى قوله: ﴿يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ خلق الاعتقاد الكفري ابتداء فيمن يشاء من عباده، وإشارة إلى أن معنى يضل الله أحد الأمور الثلاثة: إما عدم الهداية كما في أهل الفترة. وإما إخراج الملك من قلبه ليضله الشيطان، وذلك فيمن استحب العمى على الهدى بعد أن خلق الله في قلبه المعرفة وعرف ما هو الحق. وإما إرسال الرسل وإنزال الكتب، فإنه لولا الشرائع لما تميز الضال عن ضده كما قال الله تعالى: ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين﴾ لا يقال: نشاهد في كثير من الناس آثار جزمهم بما هو خلاف الواقع. لأ نا نقول: كثيرا ما يظن كثير من الناس الظن المتاخم للجزم جزما فيزعمون أ نهم جزموا وليس كذلك، كما نقلناه عن منطق شرح العضدي للمختصر الحاجبي وعن مبحث الإجماع المركب من ذلك الشرح. ثم أقول: لي دليل عقلي أيضا على ذلك، وهو أنه قد تقرر في موضعه


[ 478 ]

كحواشي السيد الشريف على الشرح العضدي للمختصر الحاجبيأن اليقين له موجب مخصوص لا يحصل إلا به كالاحساس وغيره. ومن المعلوم: أن القضية الكاذبة ليس لها موجب يوجب الجزم بها كما في اليقين. وأما الأمارات المؤدية إلى حصول الظن بالقضايا الكاذبة فهي كثيرة مشاهدة. واعلم أنه قد تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن الشيطان قد يلهم بعض القلوب الأكاذيب، فإن له تسلطا على بعض الناس مثل تسلط شياطين الإنس على بعضهم. ومن المعلوم: أن مقتضى الروايات المتقدمة أنه لا يوجب جزما وإنما اقتضى ما يحصل به الظن. ومن تلك الجملة : أن الشيخ الفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي ذكر في كتاب مشرق الشمسين ذهب أكثر علمائناقدس الله أرواحهمإلى أن العدل الواحد الإمامي كاف في تزكية الراوي، وأ نه لا يحتاج فيها إلى عدلين كما يحتاج في الشهادة. وذهب القليل منهم إلى خلافه، فاشترطوا في التزكية شهادة عدلين. واستدل على ما ذهب إليه الأكثر بوجهين: الأول: ما ذكره العلامةطاب ثراهفي كتبه الأصولية، وحاصله: أن الرواية تثبت بخبر الواحد وشرطها تزكية الراوي وشرط الشيء لا يزيد على أصله، وبعبارة أخرى: اشتراط العدالة في مزكي الراوي فرع اشتراطها في الراوي، إذ لو لم يشترط فيه لم يشترط في تزكيه فكيف يحتاج في الفرع بأزيد مما يحتاج في الأصل؟ فإن قلت: مرجع هذا الاستدلال إلى القياس فلا ينهض علينا حجة. قلت: هو القياس بطريق الأولوية وهو معتبر عندنا. فإن قلت للخصم أن يقول: كيف يلزمني ما ذكرتم من زيادة الفرع على الأصل والحال أني أشترط في الرواية ما لا يشترطونه من شهادة عدلين بعدالة راويها ولا أكتفي بشهادة العدل الواحد. قلت: عدم قبوله تزكية عدل واحد زكاه عدلان


[ 479 ]

واشتراطه فيها التعدد مع قبول رواية عدل واحد زكاه عدلان واكتفاؤه فيها بالواحد يوجب عليه ما ذكرناه انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول أولا: في قوله: ذهب أكثر علمائنا إلى أن العدل الواحد الإمامي كاف في تزكية الراوي تساهل وغفلة، وذلك لأن الأخباريين من أصحابنا هم أكثر علمائنا وعمدتهم وقد علمت أنهم لا يعتمدون إلا على حديث قطعوا بوروده عن المعصوم (عليهم السلام) بسبب من أسبابه. وأقول ثانيا: إن سيدنا الأجل المرتضى ورئيس الطائفة والفاضل المدقق محمد بن إدريس الحلي والمحقق الحلي لا يعتمدون على خبر الواحد العدل الخالي عن القرينة الموجبة للقطع العادي بصدق مضمونه وعن القرينة الموجبة للقطع العادي بوروده عن المعصوم، وطريقتهم وطريقة الأخباريين من أصحابنا واحدة في هذا الباب. وبالجملة، ما نسبه إلى أكثر علمائنا إنما ذهب إليه العلامة الحلي وجمع من مقلديه وهم جماعة قليلة كالشهيدين والفاضل الشيخ علي ولم تكن لهم بضاعة في العلوم الدقيقة ولم يكونوا عارفين متفطنين بمعاني الأحاديث الواردة في الأصولين من أصحاب العصمة صلوات الله عليهم وغلبت على أنفسهم الألفة بما قرأوه في كتب العامة، فلما رأوا كلام العلامة على وفق كلام العامة ولم يكن لهم نظر دقيق في العلوم استحسنوا المألوف وغفلوا عن احتمال أن يكون خطأ وأن يكون من تدليسات العامة وتلبيساتهم ومشوا عليه. نسأل الله العفو والعافية ومن ورائنا وورائهم شفاعة العترة الطاهرة (عليهم السلام) إن شاء الله تعالى


[ 480 ]

وأقول ثالثا: تحقيق المقام أن الرواية كالشهادة إخبار عن محسوس صرف، والعدالة المعتبرة في الراوي عندكم ملكة تبعث على ملازمة التقوى والمروة، وهي ليست من الأمور المحسوسة، فتكون التزكية إخبارا عن أمر معقول صرف. ومن المعلوم: أن الاعتماد على الإخبار عن معقول صرف يحتاج إلى زيادة معونة لا يحتاج إليها الاعتماد على الإخبار عن محسوس، ولذلك ذكروا في تعريف التواتر: الإخبار عن محسوس. وإن أخذت بمعنى المواظبة على الصلوات بشرط عدم ظهور فسق وهي المعتبرة في باب الشهادات وإمام الجماعات كما استفدناه من الروايات فهي من الأمور التي تدرك بالحس، لكنها تحتاج إلى ضم خرص واستصحاب، فلا يعد في الاحتياج إلى زيادة معونة في إثباتها، كما سيجئ في كلامنا


[ 481 ]

وأقول رابعا: أن في التزكية وسائر الشهادات لابد من ضم الاستصحاب بخلاف الرواية. وبالجملة، النسبة بين الرواية وبين التزكية والشهادة عموم من وجه، فإن الاهتمام بشأن الرواية أكثر، لأن حكمها يعم الوقائع الكثيرة. والخبط في التزكية والشهادة أكثر، لاحتياجها إلى ضم خرص واستصحاب. ولا تغفل من أن قصدي من ذكر هذه المقدمات تقوية المنع بإبداء سند على وجه التجويز والاحتمال، لا على وجه البت والقطع والاستدلال. وأقول خامسا: أن في كثير من المباحث اعتبر في شرط الشيء ما لا يعتبر في نفسه، مثلا: الاعتماد على رواية الراوي مشروط بعصمة المروي عنه، لا بعصمة الراوي. وأقول سادسا: إذا ابتني شيء على أمر ضعيف ثم ابتنى الضعيف على ضعيف


[ 482 ]

آخر لكان ذلك الشيء في حد كمال الضعف، بخلاف ما إذا كان الابتناء على الضعيف في مرتبة واحدة. وبالجملة، لا يلزم من كفاية الضعيف في المقدمات القريبة كفايته في المقدمات البعيدة أيضا. ثم قال أدام الله أيامه : الثاني: أن آية التثبت أعني قوله تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ كما دلت على التعويل على رواية العدل الواحد دلت على التعويل على تزكيته أيضا، فيكتفى به في جميع المواد إلا فيما خرج بدليل خاص وهو غير حاصل هنا [وما يتراءى من الشبه ضعيف لا يعول عليه] انتهى كلامه. وأنا أقول: إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام): فأقول أولا: أقصى ما يستفاد من هذه الآية الشريفة أن خبر الفاسق سبب لوجوب التوقف والتثبت إلى أن يتبين صدقه من كذبه، ولا دلالة فيها على انحصار سبب وجوب التوقف في فسق المخبر فربما يكون له أسباب أخر، كاحتمال فسقه أو سهوه أو ابتناء خبره على نوع خرص وتخمين، أو نقله بالمعنى مع احتمال عدم تفطنه بالمراد، أو كونه منسوخا أو مجملا، أو كونه خبرا عن واقعة لو وقعت لشاع خبرها أو كونه خبرا عن أمر مهتم به كأحكام الله تعالى. وأقول ثانيا: لا يجوز لأحد استنباط الأحكام النظرية من الآيات المحتملة وجوها كثيرة إلا من خوطب بها، كما تواترت به الأخبار المتقدمة عن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم


[ 483 ]

وأقول ثالثا: للعامة سبيل إلى الظن بما هو مراد الله تعالى من أمثال تلك الآيات الشريفة، بناء على قولهم بأن مجتهدي الرعية مخاطبون باستنباط الأحكام النظرية من الظواهر القرآنية، وبأن القرآن لم يرد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية وإلا لزم إغراؤهم بالجهل، وبأن كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من نسخ وتفسير وتقييد وتخصيص وتأويل وغيرها أظهره عند أصحابه وما خص أحدا بتعليم أحكام الله تعالى ورجوع الناس إليه، ولم يقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة اقتضت إخفاء بعضها وتوفرت الدواعي على أخذ كلها ونشرها واستمر هذا المعنى من زمن الصحابة إلى زماننا هذا طبقة بعد طبقة وأنى يكون لأصحابنا سبيل إلى ذلك؟


[ 484 ]

ورابعا: أنا قد أثبتنا أنه لا يجوز الفتوى إلا بعد أحد القطعين. ومن المعلوم: أن خبر الواحد المزكى بعدل أو عدلين بمجرده لا يفيده. ثم قال أدام الله أيامه: واستدل على اشتراط التعدد في التزكية بأمرين: الأول: أن الإخبار بعدالة الراوي شهادة فلابد فيها من العدلين. وجوابه: أما أولا: فبمنع الصغرى، فإنها غير بينة ولا مبينة، وهلا كانت التزكية كأغلب الأخبار في أنها ليست شهادة، كالرواية، وكنقل الإجماع، وتفسير مترجم القاضي، وإخبار المقلد مثله بفتوى المجتهد، وقول الطبيب بإضرار الصوم بالمرض، وإخبار أجير الحج بإيقاعه، وإعلام المأموم الإمام بوقوع ما شك فيه، وإخبار العدل العارف بالقبلة الجاهل بالعلامات، إلى غير ذلك من الأخبار التي اكتفوا فيها بخبر الواحد. وأما ثانيا: فبمنع كلية الكبرى والسند قبول شهادة الواحد في بعض المواد عند بعض علمائنارضوان الله تعالى عليهمبل شهادة المرأة الواحدة في بعض الأوقات عند أكثرهم انتهى كلامه. وأنا أقول: كلام العلامة ومن تبعه في العمل بخبر الواحد العاري عن القرينة الموجبة لأحد القطعين المتقدمين جرى بأن لا يلتفت إلى أحكامه. ولكن لما وجب علي إظهار الحق بقدر ما وفقني ربي ودلني عليه أئمتيصلوات الله عليهمولم يمكن تحصيل ذلك الغرض إلا بذلك اشتغلنا به


[ 485 ]

فنقول أولا: كان قصد المستدل أنه يجب على المتمسك بخبر الواحد أن يستدل على جميع مقدماته. ومن المعلوم: أن كون التزكية من قبيل الشهادة احتمال واضح، فلابد من العدلين ليتم التمسك على هذا الاحتمال، فالبحث عليه بطريق المنع منع على منع. ونقول ثانيا: العجب كل العجب! من العلامة ومن تبعه حيث جعلوا باب رواية أحكام الله تعالى أهون وأسهل من باب الإخبار عما عداها من الوقائع الجزئية، فاعتبروا في الشهادة وفي تزكية الشاهد عدلين، واكتفوا في الرواية وفي تزكية الراوي بعدل واحد، مع أن مقتضى العقل والنقل أيضا عكس ذلك. أما العقل: فلأنه لولا اعتبار الظن في كثير من الوقائع الجزئية للزم الحرج البين الواضح، بل التكليف بما لا طاقة لنا به، بخلاف أحكامه تعالى فإنه لا حرج لو اعتبر فيها أحد القطعين أو التوقف إلى أن يظهر الحق كما حققناه سابقا. وأما النقل: فواضح عندك من الأحاديث التي تقدمت في كتابنا هذا. وتحقيق المقام: أن في كل موضع لم يكن حرج في اعتبار اليقين أو التوقف فيهكأحكامه تعالى وكبلوغ المسافة الحد المعتبر شرعا وكدخول وقت الصلاةاعتبر الشارع فيه أحدهما. وفي كل موضع كان اعتبار أحدهما فيه حرجا اكتفى الشارع فيه بالظن أو بظاهر الحال، كالشهادة وكجهة القبلة وكإخبار الأجير بأنه فعل ما كان واجبا عليه وكإخبار القصار بأنه فعل ما امر به وكالأنساب. ومن المعلوم: أن في بعض الصور التي ذكرها الفاضل المعاصر لا حرج في اعتبار اليقين أو التوقف، وفي بعضها حرج. ففي الصورة التي اعتبر فيها اليقين لابد فيها من انضمام القرينة المفيدة للقطع وفي غيرها يكفي خبر الواحد ولو لم يكن عدلا


[ 486 ]

توضيح ذلك: أن الإجماع ليس حجة عندنا كما حققناه سابقا، ولو فرضنا أنه حجة فلابد من نقله بطريق قطعي كما في نقل الحديث. ومن المعلوم توفر القرائن الحالية المفيدة لقطع القاضي بأن تفسير المترجم موافق للواقع، فلابد فيه من قطع القاضي، وقد حققنا أن الاجتهاد والتقليد حرامان. وضرر الصوم بالمريض من الصور التي يتعذر فيها تحصيل القطع فاكتفى فيه بالظن


[ 487 ]

وإنما يعتمد على إخبار الأجير وإعلام المأموم، لأن المسلمين ومن في حكمهم مأمونون في الأعمال المتعلقة بهم، إذ لو اعتبر فيها القطع لزم الحرج البين، وإنما يعتمد على إخبار المسلم العارف بالقبلة الجاهل بالعلامات لأنه من الصور التي يلزم الحرج البين لو اعتبر فيها القطع، ولا حاجة فيه إلى عدالة المخبر، بل يكفي الظن الحاصل من قول المسلم أو فعله كما في ذبيحته. ومستند ما ذكرناه من أحكام تلك الصور الأخبار المتواترة معنى الناطقة به. ثم قال أدام الله أيامه: الثاني : إن اشتراطهم لعدالة الراوي يقتضي توقف قبول روايته على حصول العلم بها وإخبار العدل الواحد لا يفيد العلم بها. وجوابه: إنك إن أردت العلم القطعي فمعلوم أن البحث ليس فيه، وإن أردت العلم الشرعي فحكمك بحصوله من رواية العدل الواحد وعدم حصوله من تزكيته تحكم، وكيف يدعى أن الظن الحاصل من إخباره بأن هذا قول المعصوم أو فعله أقوى من الظن الحاصل من إخباره بأن الراوي الفلاني إمامي المذهب أو واقفي أو عدل أو فاسق ونحو ذلك؟ ولعلك تقول بتساوي الظنين في القوة والضعف، ولكنك تزعم أن الظن الأول اعتبره الشارع فعولت عليه، وأما الآخر فلم يظهر لك أن الشارع اعتبره، فيقال لك: كيف ظهر عليك اعتبار الشارع الظن الأول إن استندت في ذلك إلى ظن إجماع؟ فالخلاف الشائع في العمل بأخبار الآحاد يكذب ظنك. كيف! وجمهور قدمائنا على المنع منه، بل ذهب بعضهم إلى استحالة التعبد به كما نقله عنهم المرتضى (رحمه الله) وإن استندت فيه إلى ما يستدل به في الأصول على حجية خبر الواحد فأقرب تلك الدلائل إلى السلامة آية التثبت، وقد علمت أنها كما تدل على اعتبار الشارع الظن الأول تدل على اعتباره الظن الثاني من غير فرق. ولقد بالغ بعض الأفاضل المعاصرين في الإصرار على اشتراط العدلين في المزكي، نظرا إلى أن التزكية شهادة، ولم يوافق القوم على تعديل من انفرد الكشي أو


[ 488 ]

الشيخ الطوسي أو النجاشي أو العلامة مثلا بتعديله، وجعل الحديث الصحيح عند التحقيق منحصرا فيما توافق اثنان فصاعدا على تعديل رواته. ويلزمه عدم الحكم بجرح من تفرد واحد هؤلاء بجرحه، وهو يلتزم ذلك. ولم يأت على هذا الاشتراط بدليل عقلي يعول عليه أو نقلي تركن النفس إليه، ولعلك قد أحطت خبرا بما يتضح به حقيقة الحال، ومع ذلك فأنت خبير بأن علماء الرجال الذين وصلت إلينا كتبهم في هذا الزمان كلهم ناقلون تعديل الرواة عن غيرهم، وتوافق الاثنين منهم على التعديل لا ينفعه في الحكم بصحة الحديث إلا إذا ثبت أن مذهب كل من ذينك الاثنين عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بالعدل الواحد، ودون ثبوته خرط القتاد! بل الذي يظهر خلافه، كيف لا والعلامةطاب ثراهمصرح في كتبه الأصولية بالاكتفاء بالواحد. والذي يستفاد من كلام الكشي والنجاشي والشيخ وابن طاوس وغيرهم اعتمادهم في التعديل والجرح على النقل من الواحد، كما يظهر لمن تصفح كتبهم. فكيف يتم لمن يجعل التزكية شهادة أن يحكم بعدالة الراوي بمجرد اطلاعه على تعديل اثنين من هؤلاء له في كتبهم وحالهم ما عرفت، مع أن شهادة الشاهد لا يتحقق بما يوجد في كتابه. نعم، لو كان هؤلاء الذين كتبهم في الجرح والتعديل بأيدينا في هذا الزمان ممن شهد عند كل واحد منهم عدلان بحال الراوي، أو كانوا من الذين خالطوا رواة الحديث واطلعوا على عدالتهم ثم شهدوا بها لتم الدست . والله أعلم بحقائق الأمور . انتهى كلامه. وأنا أقول: إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام، فإن كلام هؤلاء الأفاضل بعيد عن الحق، أبعد ما بين السماء والأرض! ومن المعلوم أنه إذا تصدى لتحقيق غوامض المباحث الدينية من لم تكن له


[ 489 ]

بضاعة عظيمة في العلوم الدقيقة ولم يكن متفطنا بما ورد في الأصولين من أصحاب العصمة يوقع نفسه في الهلكة وكل ميسر لما خلق له، وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق. فأقول أولا: كان قصد المستدل أن التمسك بخبر الواحد لابد له من الاستدلال على جميع مقدماته، ومن المعلوم: أن الذي ثبت جواز التمسك به هو ما يفيد العلم أو ما يقوم مقامه في الشريعة، فقصده من مفيد العلم مفيد القطع حقيقة أو حكما، ومن المعلوم: أن شهادة العدلين في الشريعة جعلت مكان القطع في بعض الصور بخلاف شهادة الواحد، وحينئذ يندفع البحث الأول دون الثاني


[ 490 ]

وأقول ثانيا: قد علمت أنا معاشر الأخباريين المتمسكين بالتثبت أو اليقين في أحكامه تعالى لا نعتمد إلا على موجباته. ومن المعلوم عند أولي الألباب: أن القرائن المفيدة للقطع وافرة وأ نها كما تكون عند المعاشرة تكون بدونها، فإنا إذا راجعنا إلى وجداننا وجدنا القطع بأن كثيرا من رواة أحاديثنا لم يفتروا ولم يكونوا كثيري السهو فيما نقلوه، بل نقطع بأن أواسط الشيعة لا يرضون بالافتراء في باب الحديث، فكيف نجوز أن يقع ممن هو أعلى منهم؟ ثم إذا فتشنا علمنا أنه ما حصل لنا ذلك القطع إلا بالقرائن الحالية أو المقالية، وإذا كان حالنا بالنسبة إلى الرواة كذلك فالمتقدمون من أصحابنا كالكشي والنجاشي ورئيس الطائفة وابن طاوس وغيرهم أولى بذلك منا لقرب عهدهم. وأقول ثالثا: سياق كلام النجاشي وغيره في شأن جمع من الرواة ثقة، ثقة بالتكرار أو بدونه يفيد أنه قطع بذلك بالقرائن كما قطعنا نحن، لا أنه اعتمد فيه على مجرد تزكية واحد. وأقول رابعا: قوله: والذي يستفاد من كلام الكشي والنجاشي والشيخ وابن طاوس وغيرهم اعتمادهم في التعديل والجرح على النقل من الواحد افتراء


[ 491 ]

بلا امتراء، بل اعتمادهم على القطع لما حققناه. وأقول خامسا: قوله: ” مع أن شهادة الشاهد لا يتحقق بما يوجد في كتابه دليل على بطلان ما زعمه الفاضلان: من أن اعتمادنا على الجرح والتعديل المسطورين في كتب قدمائنا من باب الاعتماد على الشهادة، ودليل على أن الاعتماد في هذا الباب على القرائن. ومن المعلوم: أن الكتابة من القرائن، وقد تقدم نقلا عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) أن القلب يتكل على الكتابة أقوى مما يعتمد على حفظه. وبالجملة، انتفاعنا مما في كتب الرجال من جهة أنه من جملة القرائن المفيدة للقطع بحال الراوي، لا من جهة أنه من باب تزكية العدل الواحد أو العدلين كما توهمه العلامة وتبعه فيه جماعة. وأقول سادسا: أن العجب كل العجب! من العلامة الحلي ومن تبعه حيث فسروا العدالة بملكة نفسانية تبعث على ملازمة التقوى والمروة كما فسرته العامة، ثم زعموا أن بتزكية العدلين أو العدل الواحد يثبت هذا المعنى، وهم في غفلة وأي غفلة! عن أن الشهادة وما في معناها إنما تجريان فيما يدرك بالحس. ومن المعلوم: أن الملكة المذكورة من الأمور العقلية الصرفة التي يستدل عليها بالآثار الظاهرة. ومن المعلوم: أن الشاهد إذا حصل شيئا بالكسب والنظر لا تسمع شهادته فيه، وإنما تسمع فيما أدركه بالحس، وكون الآثار ملزوما لتلك الملكة لا تدرك بالحس ولا تجري الشهادة فيه أيضا. نعم، يستفاد من كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) أن العدالة المعتبرة في باب الشهادة وفي باب إمام الجماعة مركبة من أمر وجودي محسوس ومن عدم أمر محسوس ومن المعلوم: أن عدم أمر لو كان موجودا لكان محسوسا يدرك بمعونة الحس، والعدالة بهذا المعنى تثبت بالشهادة وما في معناها. ثم اعلم أنه يستفاد من كلامهم (عليهم السلام): أن المعتبر في باب رواية أحكام الله تعالى أن يكون الراوي ثقة في روايته، وقد تقدم طرف من أحاديثهم (عليهم السلام) فيه الكفاية. ومن


[ 492 ]

المعلوم: أن هذا المعنى لا يدرك بالحس، فلا يجري فيه التزكية من حيث هي هي، وإنما نفع التزكية فيه من جهة أنها من جملة القرائن، وقد حققناه سابقا: أن النسبة بين الثقة في الرواية وبين العدالة المعتبرة في باب الشهادة وباب إمام الجماعة العموم والخصوص من وجه، وقد حققنا سابقا: أنا نقطع بمعونة القرائن الحاصلة بالمعاشرة أو بدونها في حق كثير من الرواة أنهم لم يفتروا في رواياتهم ولم يكونوا كثيري السهو فيها، وهذا معنى الثقة في الرواية. وبالجملة، الباب الثاني أوسع من الباب الأول وأنفع، والله المستعان. هكذا ينبغي أن تحقق هذه المباحث، وللحروب رجال وللثريد رجال! وكل ميسر لما خلق له . وأقول سابعا: لنا لتصحيح الأحاديث مقام آخر، وهو أنا نعلم عادة أن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني وسيدنا الأجل المرتضى وشيخنا الصدوق


[ 493 ]

ورئيس الطائفةقدس الله أرواحهملم يفتروا في أخبارهم بأن أحاديث كتبنا صحيحة أو بأنها مأخوذة من الأصول المجمع عليها. ومن المعلوم: أن هذا القدر من القطع العادي كاف في جواز العمل بتلك الأحاديث. وأقول ثامنا: قوله: ” يلزمه عدم الحكم بجرح من تفرد واحد من هؤلاء بجرحه وهو يلتزم ذلك عجيب جدا! إذ من المعلوم: أن حكم مجهول الحال حكم المجروح، فإذا انضم إلى الجهل جرح جارح واحد ولو كان فاسقا أو مخالفا يقوى كونه في حكم مجروح. ثم قال أدام الله أيامه: تبصرة: المكتفون من علمائنا في التزكية بالعدل الواحد الإمامي يكتفون به في الجرح أيضا، ومن لم يكتف به في التزكية لم يعول عليه في الجرح. وما يظهر من كلامهم في بعض الأوقات من الاكتفاء في الجرح بقول غير الإمامي، محمول إما على الغفلة عما قرره أو عن كون الجارح مجروحا، كما وقع في الخلاصة من جرح أبان بن عثمان بكونه فاسد المذهب، تعويلا على ما رواه الكشي عن علي بن الحسن بن فضال أنه كان من الناووسية، مع أن ابن فضال فطحي لا يقبل جرحه لمثل أبان بن عثمان. ولعل العلامةطاب ثراهاستفاد فساد مذهبه من غير هذه الرواية وإن كان كلامه ظاهرا فيما ذكرناه انتهى كلامه. أقول أولا: قوله: ” من لم يكتف به في التزكية لم يعول عليه في الجرح أيضا من العجائب! وذلك لما حققناه: من أن مجهول الحال ومجهول المذهب في حكم المجروح، فإذا تقوى الجهل بحاله بانضمام جرح جارح ولو كان فاسد المذهب صار أولى بأن يكون في حكم من ثبت ضعفه


[ 494 ]

وثانيا: ربما يكون ابن فضال ثقة عند العلامة مقطوعا على أنه لم يفتر في مثل ذلك وعلى أنه لم يتكلم عادة إلا بأمر بين واضح عنده، ونحن أيضا نعلم أن مثل ابن فضال لم يرض أن يتكلم بمثل هذا الكلام في شأن مثل ابن عثمان بمجرد الظن أو بالافتراء، وذلك لأن اعتماد قدمائنا على تعديل ابن فضال وجرحه قرينة على أنه كان ثقة في هذا الباب، يشهد بما قلناه من تتبع كتاب الكشي. ثم قال أدام الله أيامه: قد اشتهر أنه إذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح. وهذا كلام مجمل غير محمول على إطلاقه كما قد يظن، بل لهم فيه تفصيل مشهور وهو أن التعارض بينهما على نوعين: الأول: ما يمكن الجمع فيه بين كلامي المعدل والجارح كقول المفيد (رحمه الله) في محمد بن سنان: إنه ثقة، وقول الشيخطاب ثراه: إنه ضعيف، فالجرح مقدم، لجواز اطلاعه على ما لم يطلع عليه المفيد. الثاني: ما لا يمكن الجمع بينهما كقول الجارح إنه: ” قتل فلانا في أول الشهر وقول المعدل: ” إني رأيته في آخره حيا وقد وقع مثله في كتب الجرح والتعديل كثيرا، كقول ابن الغضائري في داود الرقي: إنه كان فاسد المذهب لا يلتفت إليه، وقول غيره: إنه كان ثقة، قال فيه الصادق (عليه السلام): ” أنزلوه مني منزلة المقداد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ” فهاهنا لا يصح إطلاق القول بتقديم الجرح على التعديل، بل يجب الترجيح بكثرة العدد وشدة الورع والضبط وزيادة التفتيش عن أحوال الرواة، إلى غير ذلك من المرجحات. هذا ما ذكره علماء الأصول منا ومن المخالفين


[ 495 ]

وظني أن إطلاق القول بتقديم الجرح في النوع الأول غير جيد، ولو قيل فيه أيضا بالترجيح ببعض تلك الأمور لكان أولى، وقد فعله العلامةطاب ثراهفي الخلاصة في مواضع كما في ترجمة إبراهيم بن سليمان، حيث رجح تعديل الشيخ النجاشي له على جرح ابن الغضائري، وكذلك في ترجمة إسماعيل بن مهران وغيره. لكن ما قررهطاب ثراهفي نهاية الأصول يخالف فعله هذا حيث لم يعتبر الترجيح بزيادة العدد في النوع الأول من التعارض، معللا بأن سبب تقديم الجارح فيه جواز اطلاعه على ما لم يطلع عليه المعدل وهو لا ينتفي بكثرة العدد. ولا يخفى أن تعليله هذا يعطي عدم اعتباره في هذا النوع الترجيح بشيء من الأمور المذكورة، وللبحث فيه مجال، كما لا يخفى انتهى كلامه أدام الله أيامه. وأنا أقول أولا: تحقيق المقام أن الجارح قسمان جارح يقوي حكم الجهل بالحال، وجارح يثبت في الشريعة جرحه ضعف المجروح، وابن الغضائري لم يثبت بجرحه ضعف المجروح في الشريعة، بل يصلح أن يكون مقويا لحكم مجهول الحال. وتوضيح المقام: أنه إذا وقع التعارض بين جرح يثبت به في الشريعة ضعف المجروح وبين تعديل كذلك كان الجرح مقدما ولا مجال للترجيح فيه، فما فعله العلامة في كتاب الخلاصة غير مناف لما قرره في كتاب النهاية. ومن المعلوم: أ نه إذا لم يكن تناقض بين الشهادتين لا مجال للترجيح وطرح أحدهما، بل يجب الجمع بينهما، فهذا الكلام من الفاضل المعاصر غفلة وأي غفلة! وتساهل في الأمور وأي تساهل

المؤمنين صلوات

[ 496 ]

وأقول ثانيا: كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) صريح فيما قرره العلامة في النهاية. وبالجملة، العقل والنقل تعاضدا في ذلك الباب، فكيف يظن الفاضل المعاصر خلاف ما أجمع عليه وخلاف مقتضى العقل وخلاف مقتضى النقل والسبب فيه غفلته عن تحقيق ما هو المراد من البحث واستعجاله في الأمور وعدم تعمقه في المباحث. وأما قول أمير المؤمنين صلوات الله عليهفقد ذكره الفاضل المدقق محمد ابن إدريس الحلي في آخر كتاب السرائر فيما انتزعه من تهذيب الأحكام لرئيس الطائفة (قدس سره) حيث قال: مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان مرضيان عدلان وشهد له ألف بالبراءة جازت شهادة الرجلين وأبطل شهادة الألف، لأنه دين مكتوم. عمر بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الساحر، فقال: إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حل دمه


[ 497 ]

فائدة يفهم من هذين الحديثين الشريفين ومن نظائرهما أنه لابد في ثبوت الجرح في الشريعة من عدلين، ومن المعلوم المتفق عليه: أن ثبوت العدالة ليس أهون من ثبوت الجرح فلابد فيه من العدلين كما اختاره المحقق الحلي والفاضل ابن الشهيد الثاني قدس الله أرواحهم فائدة انظر أيها اللبيب كيف تبع العلامة يستعجلون في الأحكام الشرعية ويجزمون بكفاية المزكي الواحد في باب الرواية، ولم يلتفتوا إلى كلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) أصلا، وهل هذا إلا تخريب الدين نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، والشفاعة من ورائنا إن شاء الله


[ 498 ]

فائدة اعتبروا يا أولي الألباب! كيف أفتى هذا الفاضل المعاصر المتبحر المشهور في مشارق الأرض ومغاربها بالفضل بخلاف مقتضى العقل والنقل واتفاق الكل؟! وأيقنوا أن هذا الفاضل بل أدنى منه لو كان ملتزما لأن يتمسك في المسائل النظرية بكلام أصحاب العصمة لما أوقع نفسه في هذه المهلكة. واعلم أن الطريقة التي مهدها أصحاب العصمة لعمل الشيعة بها كانت سهلة سمحة بينة واضحة في زمن الأخباريين من علمائنا، ثم لما لفق العلامة ومن وافقه بين طريقة العامة وطريقة أصحاب العصمة (عليهم السلام) التبست طريقة الحق بالباطل واشتبهت واستصعبت بعد أن كانت منفصلة عنه ممتازة في زمن الأخباريين من أصحابنا، ثم بعد ذلك وفق الله تعالى رجلا فخلص نيته ووفقه لأخذ العلوم اللفظية والعقلية والنقلية كلها من معظم أصحابها، ثم ألهمه ببطلان طريقة المتأخرين وبالسعي في التفحص عما كانت عليه الأولون من أصحابنا، وأوقع في قلبه غوامض المباحث المتروكة المندرسة حتى ظهرت منه هذه الآثار المشاهدة. والحمد لله والطول والمنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين المتمسكين بنصوص الأئمة المعصومين في عقائدهم وأعمالهم


[ 499 ]

ومن تلك الجملة أن المشائين ادعوا بداهة أن تفريق الماء إعدام لشخصه وإيجاد لشخصين آخرين، وعليه بنوا إثبات الهيولى. والإشراقيين ادعوا بداهة نقيضها. ومن المعلوم: أن أحد القولين باطل


[ 500 ]

ومنها: أن المعتزلة وأصحابنا قالوا: الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا. والأشاعرة استدلوا على بطلانها، والتزموا أن العباد ملجؤون في أفعالهم وأن الله عز وجل يخلق الحركات فيهم. ومن تلك الجملة: أن السيد الفاضل الشيرازي نقل عن الفارابي البرهان الأسد الأخضر الدال على امتناع التسلسل في جانب المبدأ مطلقا (وملخصه: أنه لو كانت سلسلة مترتبة غير متناهية من جانب المبدأ من أين يحصل واحد منها حتى يحصل منه الآخر) وادعى البداهة في أن العقل إذا لاحظ تلك السلسلة إجمالا يحكم بتلك المقدمة. والفاضل الدواني المشهور بين المتأخرين بالتحقيق منع هذه المقدمة. ومن الواضحات البينات أن الحق ما نقله السيد الفاضل، وان ما ذكره الفاضل الدواني من المنع خلاف البديهة. ومن تلك الجملة: أن أفاضل المتأخرين زعموا أن النزاع بين المحققين من المتكلمين وبين


[ 501 ]

الفلاسفة ليس في قدرته تعالى وإيجابهكما اشتهر بين القدماءبل في مجرد قدم العالم وحدوثه، وذلك لأن المحققين من المتكلمين وافقوا الحكماء في أن الشيء ما لم يجب بوجوب سابق لم يوجد وفي امتناع تخلف المعلول عما اقتضاه العلة التامة فثبت الإيجاب. وأقول: زعمهم هذا باطل، وتحقيق المقام: أن الفلاسفة زعموا أن استناد أفعاله تعالى إلى الداعي يستلزم نقصانه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا! وذهبوا إلى أن الشيء ما لم يجب بوجوب سابق لم يوجد، ففرعوا على المقدمتين أن تعلق إرادته تعالى بأحد طرفي المعلول واجب بالنسبة إلى ذاته تعالى من غير مدخلية الداعي. ومن المعلوم: أ نه يلزمهم أن لا يكون الله تعالى متمكنا من الطرف الآخر كما في الفاعل الطبيعي. والأشاعرة وافقوا الفلاسفة في المقدمة الأولى دون الثانية حيث قالوا: تعلق إرادته تعالى بأحد طرفي المعلول مستند إلى ذاته تعالى من غير أن يوجبه، وقالوا: إن الله تعالى متمكن من أن يتعلق إرادته بالطرف الآخر، لكنه لم يقع. والمعتزلة وافقوا الفلاسفة في المقدمة الثانية دون الأولى، حيث قالوا: تعلق إرادته تعالى بأحد طرفي المعلول مستند إلى الداعي بطريق الوجوب. ومن المعلوم: أ نه إذا أوجب الفاعل معلوله لأجل الداعي لا يلزم عدم تمكنه من الطرف الآخر. وملخص الكلام: أن كل من قال بأنه ليس في جانب المعلول حالة يكون لها مدخل في إيجاب الفاعل معلوله، يلزمه أن يكون وجوب المعلول بالنسبة إلى ذات الفاعل، ويستلزم هذا المعنى عدم تمكنه من الطرف الآخر كما في الفاعل الطبيعي. وكل من أنكر المقدمة القائلة بأن الشيء ما لم يجب لم يوجد خلص من أن لا يكون الفاعل متمكنا من الطرف الآخر، إذ لا ايجاب حينئذ. وكل من قال بأن في جانب المعلول حالة لها مدخل في ايجاب الفاعل له خلص من ذلك أيضا، لأنه من المعلوم بديهة أن كل من أوجب معلوله لأجل الداعي فهو متمكن من أن يتركه. وأقول: بهذا التحقيق ظهر عليك وانكشف لديك أن معنى قولهم: ” الخلاف في القدرة بمعنى صحة الفعل والترك أن الخلاف في القدرة بمعنى تمكنه من طرفي


[ 502 ]

المعلول، فالصحة بمعنى التمكن، لا بمعنى الجواز والإمكان، وأن صدور المعلول الأول واجب بالنسبة إلى ذات الله تعالى من حيث إنه علم بالمصلحة من حيث هو هو، فلا يلزم عدم تمكنه تعالى من الترك. هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع، والتكلان على التوفيق. وما ذكرناه من ابتناء الإيجاب على المقدمتين مذكور في مبحث حدوث الأجسام من الشرح الجديد للتجريد وصرح به سلطان المحققين نصير الدين محمد الطوسي في رسالته المصنفة في أصول الدين المسماة ب‍ الفصول النصيرية إن شئت فارجع إليهما. ومن تلك الجملة: أن الفاضل الدواني ذكر في حاشيته القديمة على الشرح الجديد للتجريد: اشتهر بين المتكلمين أن ترجيح الفاعل المختار لأحد الطرفين بمحض تعلق الإرادة من دون مرجح آخر جائز، وإنما المحال هو الترجيح من دون مرجح. وفيه نظر، لأن تعلق الإرادة بأحد الطرفين دون الآخر إن كان لا لمرجح لزم ترجيح أحد المتساويين من دون مرجح مطلقا، وإن كان يتعلق الإرادة بذلك التعلق لزم التسلسل في تعلقات الإرادة، ثم مجموع تلك التعلقات أمور ترجحت على ما يساويهما من دون مرجح، فتأمل. واعلم أنه لا حاجة لهم إلى ذلك، إذ غرضهموهو نفي الحوادث المتسلسلةيحصل بأن يقال: الذات موجب لتعلقات الإرادة القديمة بوجود الحوادث في وقت معين، فالإرادة وتعلقها كلاهما قديمان، والمراد حادث انتهى كلامه. وأقول: من المعلوم: أنه يلزم حينئذ عدم تمكنه تعالى من الطرف الآخر، لما حققناه سابقا ومقصود الأشاعرة من التزام جواز الترجيح من غير مرجح الجواب


[ 503 ]

عن شبهة قدم العالم من غير أن يلزم كونه تعالى فاعلا موجبا ومن غير أن يلزم كون أفعاله تعالى معللة بالغايات. ومن تلك الجملة: أن الفاضل الدواني ذكر في رسالة خلق الأعمال مقتديا بأصحابه الأشاعرة: أن اضطرار العبد في أفعاله يلزم المعتزلة، لأن مبادئ أفعاله من التصور والتصديق بفائدته وإرادة إيجاده صادرة عنه تعالى وعند حصولها يجب صدور الفعل عنه وأنا أقول: هو خيال ضعيف. وذلك، لأن الذي تسلمه المعتزلة هو أن المبادئ المشتركة بين قلبي الصالح والطالح فائضة منه تعالى، ثم المبادئ المنتهية إلى صدور الفسق بعينه أو المنتهية إلى صدور الكف عنه صادرة من العبد عندهم بإيجاب اختياري أي مستند إلى الداعي . وبالجملة، إرادة القبيح قبيحة عقلا وشرعا عند المعتزلة وهي من جملة المبادئ، فكيف يسلمون أن مبادئ أفعال العباد كلها فائضة منه تعالى على النفوس الناطقة؟ وتوضيح المقام أن نقول: تخلف فعل العبد عن إرادته وتخلف إرادته عن العلم بالعلة الغائية ممتنعان، لأجل أن العبد عند العلم بالعلة الغائية يريد البتة وعند الإرادة يفعل البتة، لا أنه يفعل البتة لامتناع التخلف، حتى يلزم الاضطرار، نظير ذلك علمه تعالى في الأزل بفعل العبد في وقت معين، فإنه تعالى علم لأجل أنه يفعل العبد، لا أ نه يفعل العبد لأجل أنه تعالى علم. وبوجه آخر: المفروض أنه تعلق إرادة العبد بأحد طرفي فعله لأجل الداعي. ومن المعلوم: أنه لا إلجاء حينئذ، ضرورة أن التمكن من الطرفين وهو معنى القدرة موجود حينئذ


[ 504 ]

بل أقول: قد صرح سلطان المحققين في الفصول النصيرية بأن مرادنا من القادر في حقه تعالى وفي حق العباد من تكون أفعاله منوطة بالداعي أي العلم بالعلة الغائية. وبوجه آخر: العبد يوجب أحد الطرفين لأجل ملاحظة العلة الغائية، لأن أحد الطرفين يجب بالنسبة إلى مجموع مركب من الفاعل ومن ملاحظة العلة الغائية ومن الإرادة ليلزم الإيجاب الطبيعي. وبوجه آخر: الضرورة قاضية بأنا متمكنون من الطرفين، فعلم أن الدليل الذي ذكره الفاضل الدواني يصادم البديهة، وكل ما هو كذلك باطل، فالدليل المذكور باطل. وتحقيق توجه هذا النوع من الجواب مذكور في بحث المجهول المطلق من حاشية السيد الشريف العلامة على شرح المطالع . وأيضا لك أن تقول: يلزم من هذا الدليل أن يكون الله تعالى فاعلا موجبا بالذات وكون العبد مضطرا من جهته تعالى. ومن تلك الجملة: أن سلطان المحققين نصير الدين محمد الطوسي ذكر في الأمور العامة من التجريد: أن من خواص الإمكان الذاتي الحدوث والشراح والمحشون حملوا كلامه على الحدوث الذاتي بمعنى أنه مسبوق بالغير سبقا ذاتيا لا على الحدوث الزماني بمعنى أنه مسبوق بالعدم في زمان ما ثم تحيروا في إتمام ما ذكره في الإلهيات من قوله: والواسطة غير معقولة . وأنا أقول: تحقيق كلامه أن قصده من الحدوث الحدوث الزماني، ودليله على ذلك مذكور في رسالته المصنفة في أصول الدين . وتوضيح المقام: أنه قد تمت ثلاثة براهين قطعية على امتناع وجود ممكن قديم: الدليل الأول منها: مذكور في كتاب الأربعين للفخر الرازي وفي الفصول النصيرية لسلطان المحققين وفي غيرهما من الكتب الكلامية. وملخصه: أنه لو وجد ممكن قديم لكان إيجاد الفاعل إياه في حال بقائه أو في


[ 505 ]

حال حدوثه أو في حال عدمه، فعلى الأول يلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل، وعلى الثاني والثالث يلزم الخلف مع المطلوب. والدليلان الآخران سنحا لي، فالأول منهما أن تأثير الفاعل منحصر في قسمين: الإخراج من العدم إلى الوجود وحفظ وجود الموجود، ومن المعلوم أن القسم الأول لا يتصور في الممكن القديم، وأن القسم الثاني غير كاف في الوجود المستفاد من الغير. والثاني منهما: أن كل ممكن يكون بقاؤه قديما يحتاج إلى حفظ الفاعل إياه أزلا وكل ما احتاج إلى الحفظ استغنى عن إيجاد الفاعل إياه . والدليل الثاني منها: أنه لو وجد ممكن قديم لكان بقاؤه قديما ولكان إيجاده إيجاد الباقي، فيلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل. وتوضيحه أن يقال: كما أن إيجاد شيء في زمان بقاؤه يستلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل، كذلك إيجاد شيء بقاؤه قديم يستلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل. والمتأخرون لما غفلوا عن أن قدم الممكن يستلزم قدم بقائه أو عن أن إيجاد الباقي يستلزم تحصيل الحاصل المحال، أو عنهما زعموا أنه لم يتم دليل عقلي على إثبات حدوث العالم وإنما تم على حدوث الأجسام


[ 506 ]

فإن قلت: ينتقض الدليل الأول والثالث لوجود الواجب تعالى، فإنه غير متقدم على بقائه. قلت: مبنى الدليل الأول والثالث على أن يكون الوجود المستفاد من الغير في حال البقاء يستلزم تعدد حصول شيء واحد. وأتم دليل سنح لي في هذا المقام أن هنا مصدرين متعديين: أحدهما إعطاء الفاعل للمعلول وجودا، وثانيهما حفظ أصل ذلك الوجود، وعندنا مقدمة بديهية، وهي أن مقتضى طبع المصدرين تقدم الأول على الثاني تقدما لا يجامع معه القبل البعد، سواء سمي بالتقدم الزماني أو بشبه الزماني أو بالدهري أو بغيرها من الأسماء. وقدم وجود الممكن يستلزم خلاف مقتضى طبعهما، لأن الحفظ حينئذ أيضا قديم. وإن قلت: يرد على الدليل الثاني منع الانحصار في القسمين وسنده أن هنا قسما ثالثا اسمه استتباع الفاعل المعلول. قلت: عند التأمل الدقيق يعلم قطعا وتنقيح المقام: أن التأثير قسمان: جعل شيء جعلا بسيطا سواء كان المجعول نفس الماهية أو وجودها أو اتصافها بالوجود، وحفظ المجعول. ومن المعلوم: أن المجعول إما حادث أو قديم، وجعل الحادث منحصرا في إخراجه من العدم إلى الوجود. والممكن القديم محتاج في الأزل دائما إلى الحفظ لأن بقاءه أزلي، وكل محتاج إلى الحفظ مستغن عن الجعل ما دام هو كذلك، فليتأمل. ومما سنح لي في هذا المقام: أن نسبة المصادر المتعدية كالإيجاد وحفظ الوجود إلى جميع الأوقات ليست على السوية، فيختص بوقت دون وقت، وكل ما هو كذلك حادث. [ومما سنح لي أن طبع قسمي التأثير يقتضي تقدم أحدهما على الآخر قبلية لا تجامع القبل معها، سواء سمي بالزماني أو بشبيه الزماني، ولما كان بقاء الممكن


[ 507 ]

القديم قديما يلزم انتفاء تلك القبلية، لأنه يلزم قدم الحفظ أيضا. وأقول: الحكماء وعلماء الإسلام لما غفلوا عن انقسام تأثير الفاعل إلى قسمين: جعل المعلول، وحفظ المجعول بعد الجعل، مع وقوع التصريحات بهما في الآيات والروايات تحيروا في أثر الفاعل في حال بقاء المجعول، حتى الفاضل الدواني طول الكلام في هذا المبحث من غير طائل. واشتهر بينهم أن أثر الفاعل حينئذ هو بقاء المعلول مع اعترافهم بأنه أمر انتزاعي، وبأن أثر الفاعل يجب أن يكون موجودا؛ وكذلك اختاروا أن الماهيات مجعولة بجعل البسيط وأثر هذه المواضع. والتكلان على التوفيق.] وقد زلت أقدام فحول من الأعلام في هذا المقام، فافهم وكن على بصيرة. ومن تلك الجملة: أن المحققين من متأخري المنطقيين أثبتوا قضية موجبة سالبة المحمول، وذكروا أن صدقها لا يقتضي وجود الموضوع، وبها دفعوا عن قدمائهم نقضا واردا على قاعدة من قواعد باب التصورات وهي أن نقيضي المتساويين متساويان وعلى قاعدة من قواعد باب التصديقات وهي أن الموجبة الكلية تنعكس كنفسها بعكس النقيض والفاضل الدواني الزاعم أنه من أرباب التحقيقوهو عن ذلك بعيدلم يتفطن بمرادهم فاعترض عليهم بأن النسبة الإيجابية تقتضي وجود الموضوع سواء كان المحمول عدوليا أو سلبيا أو محصلا، والسيد الشيرازي وافقه في هذا الاعتراض، وكذلك مولانا ميرزا جان الشيرازي ومولى عبد الله اليزدي وغيرهما من الأفاضل المتأخرين. والذي ظهر لي في تحقيق كلامهم: أن قصدهم من الموجبة السالبة المحمول جملة اسمية إيجابية خبرها جملة فعلية سلبية، وأن الفرق بين الجملة الكبرى والجملة الصغري: أن الموضوع تكرر في الكبرى دون الصغرى، فالجملة الكبرى سالبة في المعنى موجبة في اللفظ، كما صرح به السيد الشريف العلامة في حاشية


[ 508 ]

منطق شرح المختصر، مثلا قولنا: ” ليس زيد بقائم جملة سلبية وهي خبر لزيد في قولنا زيد ليس هو بقائم. وتوضيح المقام: أنه ليست في الجملة الكبرى نسبة جديدة لا إيجابية ولا سلبية، وإنما الموجود فيها النسبة السلبية المشتملة عليها الجملة الصغرى، وهي كافية في حصول الجملة الكبرى. وللفاضل الدواني خيالات دقيقة عن الحق بعيدة منشورة في حواشيه مع اشتهاره بين من لا تحقيق له من الناس بأنه رجل محقق، قد ذكرنا جملة منها في بعض فوائدنا، وإنما قصدنا بذلك تنبيه الناس على أنه لا يعصم عن الخطأ في مادة من المواد إلا التمسك بأصحاب العصمة (عليهم السلام). ومن تلك الجملة: أن المتكلمين زعموا أن حدوث العالم دليل على أنه تعالى فاعل قادر لا موجب، بمعنى أنه متمكن من طرفي المعلول. وزعمهم هذا مبني على أن ربط الحادث بالقديم إنما يكون بالتسلسل من جانب المبدأ أو بأن يقتضي العلة التامة الأزلية وجود المعلول في وقت معين، ويمتنع في غير الفاعل المختار هذا النحو من الاقتضاء، والتسلسل من جانب المبدأ باطل، فتعين أن يكون الواجب تعالى قادرا. وأنا أقول: أولا: الفرق بين الفاعل القادر وبين غيره في هذا النحو من الاقتضاء مما لا يطمئن به قلب سليم وطبع مستقيم، بل الحق أنه يمتنع هذا النحو من الاقتضاء مطلقا . وثانيا: أنه لمانع أن يقول: يكفي فيما زعموه من الفرق كون تأثير الفاعل عن علم وإرادة ولا يحتاج إلى أن يكون الفاعل قادرا بالمعنى الأخص وهو مطلوبهم. وثالثا: أنه لمانع أن يقول: يجوز أن يكون السبب في حدوث العالم توقف الوجوه المستفاد من الغير على العدم الأزلي كما هو متوقف على الامكان الذاتي


[ 509 ]

وعلى الاحتياج إلى العلة. ولذلك اشتهر بين الحكماء: أمكن فاحتاج فوجب بالغير فوجد [ولو قيل: عدم العالم بعد وجوده ينفي الإيجاب، لكان أقرب إلى الصواب. وبالجملة، هنا احتمال ثالث غير الاحتمالين المشهورين بين القوم لربط الحادث بالقديم، وهذا الاحتمال مما لا اعتبار عليه] وكلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) صريح في أن حقيقة التأثير إنما هو الإخراج من العدم إلى الوجود أو حفظ الوجود بعد أن حصل، وفي أنه يمتنع إيجاد القديم. [وهذا يؤيد ما ذكرناه: من توقف الوجود المستفاد من الغير على القدم الأزلي] وما اشتهر في كتب المتكلمين والحكماء: من أنه يمتنع توقف وجود الشيء على عدمه، فمعناه: أنه يمتنع توقف وجود الشيء في وقت على عدمه في ذلك الوقت بعينه. وإن عممت هذه المقدمة صارت ممنوعة بل باطلة. ومن المعلوم: أن العدم الأزلي لا يجوز أن يكون جزءا أخيرا من العلة التامة للمعلول الأول، لأنه قديم. لكن قد حققنا في بعض فوائدنا: أنه كما ينتزع العقل الزمان من الحركة، كذلك إذا لاحظنا صانع العالمجل جلالهولاحظنا معه أنه لا أول لوجوده تعالى وأ نه لا آخر له ننتزع منه أمرا ممتدا غير قار الذات يشبه الزمان وليس بزمان، و الأزل اسم للشق الماضي من ذلك الأمر الممتد، و الأبد اسم للشق المستقبل منه و السرمد اسم لمجموعه. فنقول في ربط الحادث بالقديم: إن حضور قطعة مخصوصة من ذلك الأمر الممتد هو الجزء الأخير من العلة التامة للمعلول الأول: وذلك إما لتوقف المعلول الأول عليها بالطبع، أو لاقتضاء المصلحة إيجاد المعلول الأول في تلك القطعة، ولا ترتب ولا تعاقب في نفس الأمر بين أجزاء ذلك الأمر الممتد الانتزاعي، بل ننتزع أمرا ممتدا مترتب الأجزاء متعاقبها، فترتب الأجزاء وتعاقبها داخلان في نفس المنتزع وليسا من صفاته التي يتصف بهما في نفس الأمر


[ 510 ]

وبهذا التحقيق الذي لا تحقيق فوقه فررنابتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر (عليهم السلام) من التزام التسلسل في جانب العلة ومن التزام قدم بعض الممكنات، وقد التزمتهما الفلاسفة في ربط الحادث بالقديم في الدورات الفلكية. والسيد الشريف الجرجاني ومولانا عبد الله اليزدي ومولانا ميرزا جان الشيرازي التزموهما في تعلقات إرادته تعالى أو غيرها من الأمور الانتزاعية منه تعالى. فإن قلت: من المعلوم: أن ذلك الأمر الممتد ممكن، فننقل الكلام إلى علة أجزائه ليلزم المحذورات. قلت: تحقيق المقام: أن صلاحية انتزاع ذلك الأمر الممتد من صفات الذات له تعالى، كما أن كونه تعالى بحيث لا أول لوجوده ولا آخر من صفات الذات له تعالى، فلم تكن له من الممكنات، وأما نفس ذلك الأمر الممتد فهو ممكن حادث في أذهان المنتزعين دفعة واحدة. فإن قلت: حصص ذلك الأمر الممتد لا يمتاز بعضها عن بعض في نفسه، فكيف يكون بعضها مناط شيء دون بعض؟ قلت: لا نسلم ذلك، بل في علم الله تعالى بعضها ممتاز عن بعض في نفسه كحصص الزمان. وبعد اللتيا والتي خطرت ببالي طريقة أخرى في ربط الحادث بالقديم أسهل من التي تقدمت وأتم، ومجملها: أن مقتضى المصلحة المعلومة له تعالى ايجاد المعلول الأول بعد استمرار عدمه الأزلي استمرارا مخصوصا معلوما عنده تعالى، فتأثير الفاعل موقوف على مضي ذلك الاستمرار. فإن قلت: الكلام إلى علة مضي ذلك الاستمرار. فنقول: العدم الأزلي واستمراراته ومضي تلك الاستمرارات غير محتاجة إلى تأثير فاعل، فلا تكون محتاجة إلى علة. ألا ترى أنه تقرر عند المحققين من الحكماء والمتكلمين: أن معنى تحقق العدم عدم تحقق الوجود، ومعنى تأثير عدم شيء في عدم شيء آخر عدم تأثير الشيء الأول في الشيء الثاني. ألا ترى أنه لولا


[ 511 ]

تأثير الفاعل لاستمر العدم الأزلي للمعلوم الأول إلى الأبد من غير استناد إلى علة. وبالجملة، لربط الحادث بالقديم طرق: الطريقة الأولى: ما ذكرت الفلاسفة من توسط السلسلة الغير المتناهية المترتبة المتعاقبة بين صانع العالم وبين الحوادث وهي الدورات الفلكية حيث قالوا: لولا الحركة القديمة لما انحل إشكال ربط الحادث بالقديم. والطريقة الثانية: ما ذكره السيد الشريف في حاشية شرح الإصفهاني وتبعه مولانا ميرزا جان ومولانا عبد الله اليزدي وجماعة من توسط السلسلة المترتبة الغير المتناهية بينهما، وهي تعلقات إرادته تعالى لئلا يلزم قدم العالم. والطريقة الثالثة: ما اختاره الغزالي والمحقق الطوسي والفاضل الدواني وجماعة: من جواز تخلف المعلول عن علته التامة إذا كان تأثير الفاعل تأثيرا اختياريا لا طبيعيا. والطريقة الرابعة: ما اخترناها في أوائل أفكارنا من توسط الأمر الممتد الغير القار الذات المنتزع من ذاته تعالى عند ملاحظة أنه لا أول لوجوده ولا آخر. والطريقة الخامسة: ما اخترناها بعد ذلك: من أن مضي قدر مخصوص من استمرار العدم الأزلي جزء أخير من العلة التامة لكل ممكن، وهذا الجزء الأخير حادث غير محتاج إلى علة، لأن كل محتاج إلى علة محتاج إلى تأثير الفاعل. صرحت ببداهة المقدمة الأخيرة جماعة منهم الفاضل الدواني. والأثر لا يكون إلا موجودا صرحت جماعة من المحققين ببداهة هذه المقدمة في مبحث إثبات أن الماهيات الممكنة مجعولة بجعل بسيط، ولأنه تقرر عندهم أن معنى ترتب عدم على عدم أمر عدم ترتب وجود هذا على وجود ذاك، ولأن التحقق والتقرر والحصول والشيئية والثبوت والكون ألفاظ لمعنى واحد مختص بالموجودات. جماعة صرحوا بذلك، منهم السيد الشريف في حواشي شرح حكمة العين. ولا يتصور العلية والمعلولية أي المعنى المصحح لدخول الفاء بأن يقال: ” وجد العلة فوجد المعلول إلا في الأمر


[ 512 ]

المتحقق. صرحوا بذلك في مواضع من جملتها ما مضى، ومن جملتها قولهم: ” معنى جواز التسلسل في الأمور الانتزاعية أنه ليس فيها تسلسل في الحقيقة صرح بذلك مولانا ميرزا جان في حواشيه على رسالة إثبات الواجب للفاضل الدواني. فإن قلت: إذا لم يكن للعدمات تحقق، فكيف يكون مضي قدر مخصوص من استمرار العدم الأزلي حادثا وجزء من العلة التامة لحادث. قلت: هنا دقيقة لم يصدق بها إلا قلب أولي النهى، وهي: أن معنى نفس الأمر نفس الشيء، إذ الأمر هو الشيء، ومعنى كون الشيء في نفس الأمر: أنه ليس منوطا بفرض فارض أو اعتبار معتبر، مثلا: الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار متحققة في حد ذاتها سواء وجد فارض أو لم يوجد أصلا وسواء فرضها أو لم يفرضها قطعا، بخلاف زوجية الخمسة، فمعنى كون الشيء في نفس الأمر يرجع إلى معنى سلبي هو أنه ليس منوطا بفرض فارض واعتبار معتبر، فهذا المعنى السلبي أعم من المتحقق في نفس الأمر، فالعدم نفس الأمر طرف لنفسه لا لتحققه، والذي وجد نفس الأمر طرف لتحققه. ومما مهدناه ظهر عليك وانكشف لديك أن الفلاسفة والمتكلمين خبطوا في بيان كيفية ربط الحادث بالقديم، لأن الفلاسفة بنوا ذلك الربط على التزام التسلسل من جانب المبدأ في الأمور المتعاقبة في الوجود، والمتكلمين بنوا ذلك الربط على أ نه يجوز في الفاعل القادر بالمعنى الأخص أن يكون مقتضاه وجود المعلول في وقت معين مع استجماعه جميع شرائط التأثير في الأول. ويرد على الأول أبحاث: أحدها: أنه عند التحقيق والنظر الدقيق يلزم التسلسل في الأمور المترتبة المجتمعة في الوجود، ولا يكفي التسلسل في الأمور المتعاقبة في الوجود، وذلك لأ نا نقول: الجزء الأخير من العلة التامة للمعلول الأول حادث وهكذا، ثم تلك الأجزاء الأخيرة من العلة التامة إما وجودات أو عدمات أو ملفق منهما، وعلى


[ 513 ]

التقادير يلزم التسلسل في الأمور الموجودة المترتبة المجتمعة في آن حدوث المعلول الأول أو في آن قبله أو في الآنين. ولا يرد هذا البحث على الطريقة التي اخترناها في ربط الحادث بالقديم، لأنه لا علية ولا تعاقب بين أجزاء ذلك الأمر الممتد، بل ينتزع أمرا ممتدا متعاقبا. وثانيها: أن برهان الأسد الأخصر يبطل التسلسل من جانب المبدأ مطلقا سواء كان آحاده مجتمعة في الوجود أم متعاقبة، وبرهان التطبيق وبرهان التضائف يبطلان التسلسل مطلقا، سواء كان من جانب العلة أو من جانب المعلول، وسواء كانت آحاده مجتمعة في الوجود أو متعاقبة. وثالثها: أنه قد تمت براهين قطعية على امتناع ممكن قديم، والتسلسل في الموجودات المتعاقبة من جانب المبدأ يستلزم وجود ممكن قديم. ويرد على الثاني بحث واحد: وهو أن العقل يشمئز عن تجويز هذا النحو من الاقتضاء في الفاعل القادر، كما يشمئز عن تجويزه في الفاعل الطبيعي، وما ذكرتم من الاحتمال يرجع إلى انتظار المعلول بعض أجزاء العلة التامة وهو حضور الوقت المخصوص. وبقي احتمال ثالث لا غبار عليه أصلا، ولم يتفطن به أحد من أهل النظر، وهو المستفاد من كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) وقد تقدم آنفا، وكنت دائما متفكرا في معنى الحادث والقديم وفي معنى أنه تعالى أزلي أبدي سرمدي، وسبب تفكري أن المعلول الأول ليس مسبوقا بزمان وأ نه تعالى ليس بزماني، والقوم فسروا الأزل بالزمان الغير المتناهي من جانب الماضي، والأبد بالزمان الغير المتناهي من جانب المستقبل، والسرمد بمجموع الزمانين، حتى رأيت في كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) أن معنى القديم ما لا أول لوجوده، ومعنى الحادث ما لوجوده أول، وتفطنت بذلك الأمر الممتد المنتزع من ذاته تعالى مع ملاحظة الصفتين المذكورتين


[ 514 ]

فائدة فيما حققناه واخترناه في ربط الحادث بالقديم من أن العدم الأزلي لكل ممكن جزء من أجزاء علته التامة يكفي أقل ما يمكن أن يكون بين القديم والحادث، لأن الوجود المستفاد من الغير يكفي فيه هذا القدر من العدم وبهذا التحقيق انحل ما يقال: من أن إيجاد المعلول في وقت معين يحتاج إلى مرجح ذلك الوقت على غيره من الأوقات. ثم اعلم أن هذا الزمان الغير المتناهي الأزلي الذي هو ظرف لعدم أول الممكنات وهمي صرف، إذ ليس منشأ يصح انتزاعه منه فلا تمايز بين أجزائه. هكذا ينبغي أن يتحقق هذه المباحث وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . فائدة لنا أن نبرهن على الاحتمال الثالث المستفاد من كلام أصحاب العصمة


[ 515 ]

صلوات الله عليهمبأن نقول: من المعلوم أن ربط الحادث بالقديم إما أن يكون بالتسلسل، أو بتجويز تخلف المعلول عن العلة التامة بحسب الزمان لا بحسب الاقتضاء، أو بتوقف الوجود المستفاد من الغير على حضور قطعة مخصوصة من الأمر الممتد المذكور، والأولان باطلان لما ذكرناه، فتعين الثالث. فائدة قد علمت مما تقدم في كلامنا أن سبب أغلاط الحكماء والمتكلمين وتحيراتهما في العلوم التي مبادؤها بعيدة عن الإحساس: إما الغلط في مادة من المواد، وإما التردد فيها، وإما الغفلة عن بعض الاحتمالات، ومن المعلوم أن المنطق غير عاصم عن شيء منها، ومن المعلوم: أن أصحاب العصمة عاصمون عنها وعن غيرها، فتعين بحسب مقتضى العقل قطع النظر عن النقل التمسك بهمصلوات الله عليهم. وإنما أطنبنا الكلام في كتابنا هذا، لأن الناس مخدوعون منخدعون متكلمون على مقتضى أذهانهم الحائرة البائرة مألوفون بالأباطيل والأكاذيب التي في كتب أشباههم مسطورة، وأكثرهم إما بليدون أو معاندون؛ هكذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الناس كلهم لو كانوا شيعتي لكانوا ثلاثا شكاكا وأحمقا ولبيبا


[ 516 ]

خاتمة ولنختم كتابنا هذا بالقواعد الأصولية المذكورة في أوائل كتب جمع من قدمائنا الأخباريين المتمسكين في عقائدهم وأعمالهم وأصولهم وفروعهم بما حفظوه عن الأئمة المعصومينصلوات الله عليهم أجمعينليكون فذلكة لما فصلناه وبيناه. [ما ذكره علي بن إبراهيم في أول تفسيره] فذكر عمدة العلماء الأخباريين وقدوة المقدسين علي بن إبراهيم بن هاشم، وهو شيخ ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكلينيقدس الله أرواحهمفي أول تفسيره لكتاب الله، وهو تفسير صحيح يجوز في الشريعة الاعتماد عليه، لأنه مأخوذ كله من أصحاب العصمة (عليهم السلام): أشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، لا تفنى عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أوجر، ومن قام به هدي إلى صراط مستقيم، ومن ابتغى العلم من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، فيه نبأ ما كان قبلكم وحكم ما بينكم وخبر معادكم، أنزله الله بعلمه وأشهد الملائكة بتصديقه، فقال: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) فجعله نورا يهدي للتي هي أقوم، فالقرآن آمر وزاجر، حد فيه الحدود وسن فيه السنن، وضرب فيه الأمثال، وشرع فيه الدين، حجة على خلقه أخذ عليه ميثاقهم وارتهن لهم أنفسهم ليبين لهم ما يأتون وما


[ 517 ]

يتقون، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي ع بينة. وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: جاءهم نبيه (صلى الله عليه وآله) بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام، وذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه، لأخبرتكم عنه لأ ني أعلمكم. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع في مسجد الخيف: إني فرطكم وأ نكم واردون علي الحوض، حوض عرضه ما بين بصرة وصنعاء فيه قدحان من فضة عدد النجوم، ألا وإني سائلكم عن الثقلين. قالوا: يا رسول الله وما الثقلان؟ قال: كتاب الله الثقل الأكبر طرف بيد الله وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لن تضلوا ولن تزلوا، و [الثقل الأصغر] عترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كإصبعي هاتين (وجمع بين سبابتيه) ولا أقول كهاتين (وجمع بين سبابته والوسطى) فتفضل هذه على هذه، فالقرآن عظيم قدره جليل خطره بين ذكره، من تمسك به هدي ومن تولى عنه ضل وزل، فأفضل ما عمل به القرآن، لقول الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله): (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ففرض الله عز وجل على نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يبين للناس ما في القرآن من الأحكام والقوانين [والفرائض] والسنن، وفرض على الناس التفقه والتعليم والتعلم والعمل بما فيه حتى لا يسع أحدا جهله ولا يعذر في تركه. ونحن ذاكرون ومخبرون بما انتهى إلينا. ورواه مشائخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم ولا يقبل العمل إلا بهم، وهم الذين وصفهم الله تعالى وفرض سؤالهم والأخذ منهم وقال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فعلمهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم الذين


[ 518 ]

قال الله تعالى في كتابه وخاطبهم في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذاالقرآنليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونواأنتم يا معشر الأئمةشهداء على الناس﴾ فرسول الله (صلى الله عليه وآله) شهيد عليهم وهم شهداء على الناس، فالعلم عندهم والقرآن معهم، ودين الله الذي ارتضاه لأنبيائه وملائكته ورسله منهم يقتبس، وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ألا إن العلم الذي هبط به آدم (عليه السلام) من السماء إلى الأرض وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيين عندي وعند عترة خاتم النبيين، فأين يتاه بكم بل أين تذهبون. وقالأيضاأمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة: ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إني وأهل بيتي مطهرون، فلا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتخلفوا عنهم فتزلوا، ولا تخالفوهم فتجهلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، هم أعلم الناس كبارا وأحلم الناس صغارا، فاتبعوا الحق وأهله حيث كان. ففي الذي ذكرنا من عظيم خطر القرآن وعلم الأئمة (عليهم السلام) كفاية لمن شرح الله صدره ونور قلبه وهداه لإيمانه ومن عليه بدينه وبالله نستعين وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فالقرآن منه ناسخ ومنه منسوخ، ومنه محكم ومنه متشابه، ومنه خاص ومنه عام، ومنه تقديم ومنه تأخير، ومنه منقطع ومنه معطوف، ومنه حرف مكان حرف، ومنه على خلاف ما أنزل الله عز وجل، ومنه لفظه عام ومعناه خاص، ومنه لفظه خاص ومعناه عام، ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة أخرى، ومنه ما تأويله في تنزيله، ومنه ما تأويله مع تنزيله، ومنه ما تأويله قبل تنزيله، ومنه ما تأويله بعد تنزيله، ومنه رخصة إطلاق بعد الحظر، ومنه رخصة صاحبها [فيها] بالخيار إن شاء فعل وإن شاء ترك، ومنه رخصة [ظاهرها] خلاف باطنها يعمل


[ 519 ]

بظاهرها فلا يدان بباطنها ومنه [ما] على لفظ الخبر ومعناه حكاية عن قوم. ومنه آيات نصفها منسوخة ونصفها متروكة على حالها، ومنه مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين، ومنه مخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله) والمعنى أمته، ومنه ما لفظه مفرد ومعناه جمع، ومنه ما لا يعرف تحريمه إلا بتحليله، ومنه رد على الملحدين، ومنه رد على الزنادقة، ومنه رد على الثنوية، ومنه رد على الجهمية، ومنه رد على الدهرية، ومنه رد على عبدة النيران، ومنه رد على عبدة الأوثان، ومنه رد على المعتزلة، ومنه رد على القدرية، ومنه رد على المجبرة، ومنه رد على من أنكر [من المسلمين] الثواب والعقاب بعد الموت يوم القيامة، ومنه رد على من أنكر المعراج والإسراء، ومنه رد على من أنكر الميثاق في الذر، ومنه رد على من أنكر خلق الجنة والنار، ومنه رد على من أنكر المتعة والرجعة، ومنه رد على من وصف الله [بالجسمية] . ومنه مخاطبة الله عز وجل لأمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) وما ذكره من فضائلهم وفيه خروج القائم (عليه السلام) وأخبار الرجعة وما وعده الله تبارك وتعالى الأئمة (عليهم السلام) من النصرة والانتقام من أعدائهم. وفيه شرائع الإسلام وأخبار الأنبياء ومولدهم ومبعثهم وشريعتهم وهلاك أمتهم. وفيه ما ترك في مغازي النبي (صلى الله عليه وآله). وفيه ترغيب وترهيب. وفيه أمثال [وفيه أخبار] وقصص. ونحن ذاكرون في جميع ما ذكرنا آية في أول الكتاب مع خبرها لتستدل بها على غيرها وتعرف بها علم ما في الكتاب، وبالله التوفيق والاستعانة، وعليه نتكل وبه نستعين، نسأل الله الصلاة على محمد وآله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . هذا ما أردنا نقله من أول تفسير علي بن إبراهيم، وإن شئت أمثلة جميع تلك الأمور والاستدلال عليها من الأحاديث الصحيحة فارجع إليه، فإنها كلها مذكورة مفصلة هناك


[ 520 ]

ـ[ما ذكره ثقة الإسلام الكليني في أول الكافي] وذكر الإمام ثقة الإسلام عمدة العلماء الأعلام زبدة الأخباريين المدققين المسددين المؤيدين من عند الله بأخذ أحكام الله عن خزان علمه وتراجمة وحيه، وبجمعها من أصول شتى مجمع عليها، صنفها أصحاب الأئمة بإشارتهم وأمرهم (عليهم السلام) محمد بن يعقوب الكلينينور الله مرقده الشريففي أول كتاب الكافي، وقد سمعنا عن مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: أما بعد، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله حتى كاد العلم معهم أن يأزر كله وتنقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ويضيعوا العلم وأهله. وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم إذا كانوا داخلين في الدين مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان والنشوء عليه، والتقليد للآباء والأسلاف والكبراء، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها. فاعلم يا أخي رحمك الله! إن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم محتملة للأمر والنهي وجعلهم على ذكره صنفين: صنفا منهم أهل الصحة والسلامة، وصنفا منهم من أهل الضرر والزمانة، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي بعد ما أكمل لهم آلة التكليف، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم، وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم. فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر. فوجب في عدل الله وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي بالأمر والنهي، لئلا يكونوا سدى


[ 521 ]

مهملين، وليعظموه ويوحدوه ويقروا له بالربوبية، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم، إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة وحججه نيرة واضحة وأعلامه لائحة، تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية، لما فيها من آثار صنعه وعجائب تدبيره. فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه، لأن الحكيم لا يبيح الجهل به والإنكار لدينه، فقال جل ثناؤه: ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ وقال: ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه﴾ وكانوا محصورين بالأمر والنهي مأمورين بقول الحق غير مرخص لهم في المقام على الجهل، أمرهم بالسؤال والتفقه في الدين فقال: ﴿فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ وقال: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ . فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة المقام على الجهل لما أمرهم بالسؤال، ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ومنزلة أهل الضرر والزمانة، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين. فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم وجب أنه لابد لكل صحيح الخلقة كامل الآلة من مؤدب ودليل ومشير وآمر وناه وأدب وتعليم وسؤال ومسألة، فأحق ما اقتبسه العاقل والتمسه المتدبر الفطن وسعى له الموفق المصيب العلم بالدين، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده وشرائعه وأحكامه وأمره ونهيه وزواجره وآدابه. إذ كانت الحجة ثابتة والتكليف لازما والعمر يسيرا والتسويف غير مقبول فالشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه مستوجبا لثوابه وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدي ولا يدري إلى من يؤدي. وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى ولا مصدقا، لأن المصدق لا يكون مصدقا حتى يكون عارفا بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون


[ 522 ]

له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن. وقد قال الله عز وجل: ﴿إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة. والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة إلى الله جل ذكره إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين كيلا يكونوا ممن وصفه الله تعالى: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين﴾ لأنه كان داخلا فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين، وقد قال العالم (عليه السلام): ” من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه وقال (عليه السلام): ” من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال وقال (عليه السلام): من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن. ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها. وذلك بتوفيق الله عز وجل وخذلانه، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) بعلم ويقين وبصيرة فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعانعوذ بالله منهسبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه وإن شاء سلبه إياه، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، لأنه كلما رأى كبيرا من الكبراء مال معه، وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله، وقد قال العالم (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء


[ 523 ]

وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه، قال: وفيهم جرى قوله: فمستقر ومستودع. وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، وأ نك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها، وأ نك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها. وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدى فرض الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم. فاعلم يا أخي أرشدك الله! أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله (عليه السلام): ” اعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه وقوله (عليه السلام): ” دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد في خلافهم وقوله (عليه السلام): ” خذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (عليه السلام) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (عليه السلام): ” بأيهما أخذت من باب التسليم وسعكم “. وقد يسر اللهوله الحمدتأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت، فمهما كان فيه من تقصير فلم تقتصر نيتنا في إهداء النصيحة، إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا، إذ الرب عزوجل واحد، والرسول محمد (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين واحد، والشريعة واحدة، وحلال محمد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة انتهى كلام الإمام ثقة الإسلام نور الله مرقده الشريف


[ 524 ]

وأنا أقول: هنا فوائد لابد من التنبيه عليها: الأولى: أن كلامه (قدس سره) صريح في أنه قصد بذلك التأليف إزالة حيرة السائل. ومن المعلوم: أنه لو لفق كتابه هذا مما ثبت وروده عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) ومما لم يثبت لزاد السائل حيرة وإشكالا، فعلم أن أحاديث كتابه هذا كلها صحيحة، ونحن بعد ما فتشنا وتتبعنا الأحاديث الواردة في بيان أنهم (عليهم السلام) أمروا أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم وينشرون في إخوانهم نسلا بعد نسل لتعمل بها الشيعة لا سيما في زمن الغيبة الكبرى، وكتاب العدة لرئيس الطائفة وكتاب الكشي وكتاب الفهرست وغيرها من الكتب، قطعنا بأن منشأ حكم المؤلف (قدس سره) بصحة جميع ما في كتبه أنه أخذه من الأصول التي صنفها أصحاب العصمة (عليهم السلام) بأمرهم ليكون مرجع الشيعة في عقائدهم وأعمالهم، ولئلا يحتاجون إلى العامة فيهما، لا سيما في زمان الهرج وهو زمان الغيبة الكبرى. وأيضا من المعلوم: أنه لم يصرح في هذا الكتاب بضابطة يميز بها بين الصحيح وغير الصحيح، فلو لم يكن كلها صحيحا لما قال: ” يكتفي به المسترشد وأيضا


[ 525 ]

ذكر (قدس سره): فلم تقصر نيتنا لإهداء النصيحة، إذ كانت واجبة لإخواننا. ومن المعلوم: أن من لم يرض بتقصير في إهداء النصيحة لم يرض بأن يلفق في كتابه الذي صنفه لإرشاد المسترشدين بين الأحاديث الصحيحة المأخوذة من الأصول المجمع عليها، وبين الأحاديث التي لم يثبت صحتها من غير ذكر ضابطة بها يميز بين الصحيح وبين غير الصحيح منها، وهذه المقدمات قطعية عادية عند أولي الألباب. الثانية: أن الترجيح باعتبار أفقهية الراوي وباعتبار أعدليته وباعتبار كثرة عدده


[ 526 ]

مذكور في بعض الأحاديث الواردة في باب اختلاف الأحاديث، وهو هنا لم يتعرض لذلك، لأنه أخذ أحاديث كتابه كلها من الأصول المقطوع بها المجمع عليها، وحينئذ يضعف الترجيح باعتبار حال الراوي . الثالثة: أنه سيجيء في باب اختلاف الحديث أنهم (عليهم السلام) أمرونا بالإرجاء والتوقف بعد عجزنا عن وجوه الترجيحات التي قرروها (عليهم السلام) وهو هنا لم يتعرض له. وأقول: قصده (رحمه الله) أن في باب العبادات المحضة بعد عجزنا عن وجوه الترجيحات المذكورة حكمهم (عليهم السلام) التخيير، وما سيجيء من وجوب الإرجاء والتوقف إنما ورد فيما ليس من باب العبادات المحضة كالدين والميراث، فاندفع الإشكال بحمد الله ومنه. الرابعة: أن مرادهم (عليهم السلام) من المجمع عليه: الذي أجمعت على اختياره قدماؤنا الأخباريون، فإنهم كانوا يختارون لأنفسهم ما كان واردا من باب بيان الحق. [ما ذكره الشيخ الثقة البرقي في أول كتاب المحاسن] وذكر عمدة علمائنا الأخباريين الشيخ الثقة الصدوق أحمد بن محمد بن خالد البرقي في أول كتاب المحاسن: أما بعد، فإن خير الأمور أصلحها، وأحمدها أنجحها، وأسلمها أقومها، وأرشدها أعمها خيرا وأفضلها أدومها نفعا، وأن قطب المحاسن [الدين] وعماد الدين اليقين والقول المرضي والعمل الزكي. ولم نجد في وثيقة المعقول وحقيقة المحصول عند


[ 527 ]

المناقشة والمباحثة لدى المقايسة والموازنة خصلة أجمع لفضائل الدين والدنيا ولا أشد تصفية لأقذاء العقل ولا أقمع لخواطر الجهل ولا أدعى إلى اقتناء كل محمود ونفي كل مذموم من العلم بالدين، وكيف لا يكون كذلك ما من الله عزوجل سببه ورسوله (صلى الله عليه وآله) مستودعه معدنه وأولى النهى تراجمته وحملته؟ وما ظنك بشيء الصدق خلقه والذكاء والفهم آلته والتوفيق والحلم قريحته واللين والتواضع سجيته، وهو الشيء الذي لا يستوحش معه صاحبه إلى شيء ولا يأنس العاقل مع نبذه شيء، ولا يستخلف منه عوضا يوازيه، ولا يعتاض منه بدلا يدانيه، ولا تحول فضيلة ولا تزول منفعة. وأنى لك بكنز باق على الإنفاق ولا تقدح فيه يد الزمان ولا تكلمه غوائل الحدثان، وأقل خصاله الثناء له في العاجل مع الفوز برضوان الله في الآجل، وصاحبه على كل حال مقبول وقوله وفعله محتمل محمول، وسببه أقرب من الرحم الماسة، وقوله أصدق وأوثق من التجربة وادراك الحاسة، هو ينجوه من تسليط التهم وتحاذير الندم. وكفاك من كريم مناقبه ورفيع مراتبه. إن العالم بما أدى من صدق قوله شريك لكل عامل به في فعله. انتهى ما أردنا نقله عن أول كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي (قدس سره) . وفي آخر كتاب السرائر لمحمد بن إدريس الحلي (رحمه الله): ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المحاسن تصنيف أحمد بن أبي عبد الله البرقي: بسم الله الرحمن الرحيم، قال أحمد بن أبي عبد الله البرقي في خطبة كتابه الذي سماه بكتاب المحاسن: أما بعد، فإن خير الأمور أصلحهاإلى آخر ما نقلناه. [ما ذكره الشيخ الصدوق في أول كتاب من لا يحضره الفقيه] وذكر شيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه في أول كتاب من لا يحضره الفقيه


[ 528 ]

أما بعد، لما ساقني القضاء إلى بلاد الغربة وحصلني القدر منها بأرض بلخ من قصبة أيلاق وردها الشريف الدين أبو عبد الله المعروف بنعمة، وهو محمد بن الحسن ابن إسحاق بن الحسين بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فدام بمجالسته سروري وانشرح بمذاكرته صدري وعظم بمودته تشرفي، لأخلاق قد جمعها إلى شرفه من صلاح وسكينة ووقار وديانة وعفاف وتقوى وإخبات. فذاكرني بكتاب صنفه محمد بن زكريا المتطبب الرازي وترجمه بكتاب من لا يحضره الطبيب وذكر أنه شاف في معناه. وسألني أن أصنف له كتابا في الفقه والحلال والحرام والشرائع والأحكام موفيا على جميع ما صنفت في معناه، وأترجمه بكتاب من لا يحضره الفقيه ليكون إليه مرجعه وعليه معتمده وبه أخذه، ويشترك في أجره من ينظر فيه وينسخه ويعمل بمودعه. هذا مع نسخه لأكثر ما صحبني من مصنفاتي وسماعه لها وروايتها عني ووقوفه على جملتها، وهي مائتا كتاب وخمس وأربعون كتابا. فأجبتهأدام الله توفيقهإلى ذلك، لأني وجدته أهلا له، وصنفت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد لئلا تكثر طرقه وإن كثر فوائده. ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته واعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي، تقدس ذكره وتعالت قدرته. وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع، مثل: كتاب حريز بن عبد الله السجستاني، وكتاب عبيد الله بن علي الحلبي، وكتب علي بن مهزيار الأهوازي، وكتب الحسين بن سعيد، ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى، وكتاب نوادر الحكمة تصنيف محمد بن أحمد بن يحيى ابن عمران الأشعري، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله، وجامع شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد (رضي الله عنه) ونوادر محمد بن أبي عمير، وكتب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي ورسالة أبي (رضي الله عنه) إلي، وغيرها من الأصول والمصنفات التي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافيرضي الله عنهموبالغت في ذلك جهدي، مستعينا بالله ومتوكلا عليه ومستغفرا من التقصير، وما


[ 529 ]

توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل انتهى كلامه أعلى الله مقامه. فائدة أقول أولا: كلما راجعت وجداني وجدت قطعا عاديا بأن الأئمة الثلاثة وسيدنا الأجل المرتضى وسائر من ذكرنا اسمه ومن لم نذكر اسمه في كتابنا هذا من قدمائنا لم يفتروا ولم يكذبوا فيما أخبروا به من أن أحاديث كتبنا المتداولةلا سيما الكتب الأربعةكلها واردة عن أصحاب العصمة، وكانت مسطورة في كتب أصحابهم المصنفة بأمرهم وإشارتهم وأ نهم لم يدخلوا في كتبهم ما لم يعتمدوا عليه مما لم يثبت وروده عنهم (عليهم السلام). ومن المعلوم: أنه ما حصل في قلبي هذا القطع العادي إلا بسبب ما اجتمع فيه مما بلغني من أحوالهم وأوضاعهم، والكل بتأييد ربي وبركات نبيي وأئمتي صلوات الله عليهم


[ 530 ]

وأقول ثانيا: بعد التنزل عن المقام الأول أنه من المعلوم عادة أن مثل هؤلاء الأجلاء إذا صنفوا كتبا لإرشاد الطائفة المحقة والعمل بما فيها والاعتماد عليها إلى قيام الساعة من غير نصب علامة مميزة بين ما ثبت وروده عنهم وبين ما لم يثبت لم يجمعوا فيها إلا الأحاديث الصحيحة الثابتة عندهم صحتها المأخوذة من العيون الصافية غير النافذة في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة. وأقول ثالثا: من المعلوم أن نبينا وأئمتناصلوات الله وسلامه عليه وعليهملم يضيعوا من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم. ومن المعلوم: أنهم لم يجوزوا لهم التمسك بما تمسكت به العامة، فتعين أن تكون لنا كتب مضبوطة مصححة ممهدة من عندهم (عليهم السلام). وأقول رابعا: أن الروايات الدالة على أنهم (عليهم السلام) أمروا جمعا من أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم لعمل الشيعة بها في زمان الهرج وعلى إخبارهم بوقوع ذلك من الشيعة متواترة معنى، وإذا ترقيت في هذه المباحث إلى هذه الدرجة من الإيضاح فحق لك أن تقول: ” أطف المصباح قد طلع الصباح وأن تقول لمن يكون بعد ذلك في ريب وشك


[ 531 ]

إذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غروا أن يرتاب والصبح مسفر فائدة أخرى كنت دائما متفكرا متحيرا في أنه لأي سبب لم يوفق أحد لجمع الأحاديث كلها من كتب شتى لترتيبها وتهذيبها مثل ما وفق الأئمة الثلاثة المحمدون العجميون المشاركون في الاسم والكنية لأول من أظهر دين جده المكنون باقر علوم الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين المطهرين حتى وقفت على أحاديث كثيرة متوافقة المضمون، فلنتبارك بذكر طرف منها: ففي كتاب الكافي في باب أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه عن


[ 532 ]

علي بن أسباط قال، قلت للرضا (عليه السلام): ان رجلا غر أخاك إبراهيم، فذكر له أن أباك في الحياة وأ نك تعلم من ذلك ما لا يعلم فقال: سبحان الله! يموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يموت موسى (عليه السلام)؟ قد والله مضى كما مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن الله تبارك وتعالى لم يزل منذ قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) وهلم جرا يمن بهذا الدين على أولاد الأعاجم ويصرفه عن قرابة نبيه (صلى الله عليه وآله) وهلم جرا، فيعطى هؤلاء ويمنع هؤلاء . وفيه في باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام): لما بعث الله عزوجل محمدا (صلى الله عليه وآله) دعا إلى الله عز وجل وجاهد في سبيله، ثم أنزل اللهجل ذكرهعليه أن أعلن فضل وصيك، فقال: رب إن العرب قوم جفاة لم يكن فيهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي ولا يعرفون فضل نبوات الأنبياء ولا شرفهم ولا يؤمنون بي إن أنا أخبرتهم بفضل أهل بيتي، فقال الله جل ذكره: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ ﴿وقل سلام فسوف يعلمون﴾ فذكر من فضل وصيه ذكرا فوقع النفاق في قلوبهم، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك وما يقولون فقال اللهجل ذكره: يا محمد! ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ ﴿فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾ لكنهم يجحدون بغير حجة لهم. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألفهم ويستعين ببعضهم على بعض، ولا يزال يخرج لهم شيئا في فضل وصيه حتى نزلت هذه الآية، فاحتج عليهم حين أعلم بموته ونعيت إليه نفسه، فقال الله جل ذكره: ﴿فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب﴾ يقول: إذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيك، فأعلمهم فضله علانية فقال (صلى الله عليه وآله): ” من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ثلاث مرات . والحديث الشريف طويل نقلنا منه موضع الحاجة. وقد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهارصلوات الله عليهمبأن إمام الزمان ناموس العصر والأوانصلوات الله وسلامه عليهيأتي بكتاب جديد على العرب


[ 533 ]

شديد وبأن أكثر عساكره أولاد العجم . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين. وفي تفسير علي بن إبراهيم في تفسير قوله: ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين﴾ قال الصادق (عليه السلام): لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب، وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم . وفي كتاب الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستانيوهو موضع في خراسان بين نيسابور وخوارزم: ومن الفلاسفة حكماء الهند من البراهمة لا يقولون بالنبوات أصلا. ومنهم حكماء العرب وهم شرذمة قليلة، لأن أكثر حكمهم فلتات الطبع وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات. ومنهم حكماء الروم وهم منقسمون إلى القدماء الذين هم أساطين الحكمة وإلى المتأخرين منهموهم المشاؤون [وأصحاب الرواق] وأصحاب أرسطا طاليسوإلى فلاسفة الإسلام الذين هم حكماء العجم، وإلا فلم ينقل عن العجم قبل الإسلام مقالة في الفلسفة، إذ حكمهم كلها كانت متعلقات من النبوات، إما من الملة المتقدمة وإما من سائر الملل، غير أن الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة. فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء من الروم واليونانيين على الترتيب الذي نقل في كتبهم، ونعقب ذلك بذكر سائر الحكماء، فإن الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم وغيرهم كالعيال لهم . انتهى ما أردنا نقله عن الملل والنحل. انظر أيها اللبيب إلى أنه كانت عادة العجم دائما التمسك بكلام أصحاب العصمة وأرباب الوحي، وما كان دأبهم الاعتماد على فلتات الطبع ولا على الأنظار العقلية التي قد تصيب وكثيرا ما تخطئ، كما يشهد بذلك من تتبع كتب الأصوليين وغيرها. وهذا من جملة الأدلة على أنهم أصحاب أذهان مستقيمة وفطنة قويمة


[ 534 ]

قصة حسنة: قد بلغني أن بعض علماء العامة طعن على الطائفة المحقة بأن أفضل أهل الاجتهاد والاستنباط بينكم العلامة الحلي وقد رآه بعد موته ولده في المنام، فقال لولده: ” لولا كتاب الألفين وزيارة الحسين (عليه السلام) لأهلكتني الفتاوى فعلم أن مذهبكم باطل. وقد أجاب عنه بعض فضلائنا بأن هذا المنام لنا لا علينا، فإن كتاب الألفين


[ 535 ]

مشتمل على ألف دليل لإثبات مذهبنا وعلى ألف دليل لإبطال مذهب غيرنا. ولقائل أن يقول: قد اشتهر بين العلماء أن تهذيب العلامة الحلي مختصر من المختصر الحاجبي، وهو مختصر من المنتهى الحاجبي، وهو مختصر من أحكام الآمدي، وهو مختصر من محصول الفخر الرازي، وهو مختصر من معتمد أبي الحسن البصري. وذكره السيد السند العلامة الأوحد السيد جمال الدين محمد الإسترابادي في شرح تهذيب الأصول للعلامة الحلي. فربما يكون سبب ما رآه ولده في المنام: أنه أعجبه كثير من القواعد الأصولية والاستنباطات الفقهية المذكورة في كتب العامة، فأدخلها في كتبه، وهو في غفلة عن ابتنائهما على قواعد مخالفة لما هو من ضروريات مذهب الطائفة المحقة . فائدة قد ذكر رجل فاضل صالح ثقة في دار العلم شيراز صانها الله عن الاعواز


[ 536 ]

قبل اشتغالي بهذا التأليف الشريف بعشرين سنة أنه رأى في المنام: أن الإمام الثامن الضامن المربي لأولاد الأعاجمصلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرينأعطاه ورقة مكتوبة بخطه الشريف وأمره بإيصالها إلي، وبأن يقول لي: احفظها فإن لك في حفظها منافع، وأمره بأن يقول لي: بقي شيء آخر نقوله لك في مكة المعظمة إن شاء الله تعالى بعد أن قدمت مكة المشرفةزادها الله شرفا وتعظيماوجاورت بها. ذكر رجل ثقة عالم صدوق في أثناء مجاورتي بها أنه رأى في المنام: أن الإمام (عليه السلام) أمرني بأن أكتب في مكة المعظمة بخطي أحاديث كتاب الكافي. ثم رأيت أنا في المنام في حرم الله والمدينة المنورة ما كان متضمنا لأمرين: أحدهما أن ربي أعطاني بيتا رفيعا في الجنة فسكنته، والآخر أني رأيت بستانا فيه أشجار الورد وبينها شجرة أرفع من الباقي لها أصل متين، فإذا أنا بهاتف يقول: ” هذه الشجرة أنت والباقي الفضلاء المجتهدون وكانوا كلهم حاضرين في ذلك البستان وكانوا كلهم أضيافي. وقد رأيت في صغر سني في المنام: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمرني بقراءة سورة الفاتحة عليه، فقرأت كلها عليه. وقد رأيت أن الإمام الثامن الضامنصلوات الله عليهكتب ثلاثة أسطر لي فوق درسي . والمقصود من رواية تلك المنامات أن هذا التأليف الشريف إنما هو بتأييد الملك العلام وإعانة أهل الذكر (عليهم السلام)ـ


[ 537 ]

فائدتان شريفتان جعلناهما خاتمة الخاتمة: الأولى: أنه نقل القاضي الميبدي في الفواتح عن الباب الثلاثمائة والستة والستين من الفتوحات المكية للشيخ محي الدين العربي: أن لله خليفة يخرج من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ولد فاطمة يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جده الحسين بن علي بن أبي طالب، يبايع بين الركن والمقام، يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخلقبفتح الخاءوينزل عليه في الخلقبضم الخاءأسعد الناس به أهل الكوفة، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا، يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف، ويرفع المذاهب عن الأرض، فلا يبقى إلا الدين الخالص، أعداؤه مقلدة العلماء أهل الاجتهاد، لما يرونه اعتقد في نفسه غاية النقص والتقصير والعبادة وغيرها وأصبح زاريا على نفسه ومعترفا بالقصور في عبادته وطاعته وراجيا من الله عفوه وكرمه، أحبط الله عمل الأول وأعطى الثاني جليل الكرامة والتفضل


[ 538 ]

من الحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمتهم، فيدخلون كرها تحت حكمه خوفا من سيفه، يفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم، يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهي، له رجال إلهيون يجيبون دعوته وينصرونه. ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يظهره بالسيف والكرم فيطمعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير إيمان، بل يضمرون خلافه ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهبهم أنه على ضلالة في ذلك الحكم، لأنهم يعتقدون أن أهل الاجتهاد وزمانه قد انقطع وما بقي مجتهد في العالم، وأن الله لا يوجد بعد أئمتهم أحدا له درجة الاجتهاد. وأما من يدعي التعريف الإلهي بالأحكام الشرعية، فهو عندهم مجنون فاسد الخيال لا يلتفتون إليه . هذا تمام الكلام المنقول فيها. والثانية: أن أفضل الحكماء الإسلاميين [العلامة الشيرازي أنه كان من التناسخية، وزعم جماعة من الفضلاء منهم الفاضل البرجندي: أن كتاب إخوان الصفا ألفه جماعة، ذكر ذلك في شرح التذكرة ووجده نسق الكلام في كل رسائله


[ 539 ]

وغير ذلك من القرائن التي تظهر عند اللبيب إذا طالعه بكذب ذلك الزعم] وهو من الواقفين على موسى بن جعفر (عليهما السلام) يستفاد ذلك من صريح كلامه. [وكان في دولة العباسية. وقد أشار إلى حسبه في بعض رسائل ذلك الكتاب، حيث قال في مباحث المخاصمة الواقعة بين زعماء الحيوانات وحكماء الجن وبين الإنس في مجلس الملك: فسكت الجماعة حينئذ، فقام عند ذلك عالم حبر فاضل زكي مستبصر، الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الأدب، العبراني المخبر، المسيحي المنهاج، الشامي النسك، اليوناني العلم، الملكي السيرة، الرباني الأخلاق، الإلهي الرأي، وقال: الحمد لله رب العرش العظيمإلى آخره. والمقالة طويلة نقلنا منها موضع الحاجة. وأظن أن درجة التاج للعلامة الشيرازي ترجمة كتاب إخوان الصفا في كثير من مواضعه، وكانت له يد طولى في توضيح الفنون المتعلقة بالخيال، يشهد بذلك من تتبع كتابه هذا. وقد بالغ في كتابه في عود الإمام السابع وفي أن الإمام الثامن الضامن يعني الرضا (عليه السلام) ما بلغ رتبة والده، وقد بالغ في إنكار غيبة الإمام [الثامن يعني الرضا (عليه السلام)] من خوف المخالفين وفي عود الإمام السابع مكان التاسع. وهذا الكلام منه صريح في رأي التناسخية، خذلهم الله تعالى. وبالجملة، هو أراد في رسائله الواحدة والخمسينالموافقة في العدد للصلوات الراتبةأن يجمع بين قواعد الفلاسفة والشريعة المحمدية (صلى الله عليه وآله) ومذهب الواقفية من الشيعة. ونحن ننقل طرفا من كتابه من باب خذ ما صفي ودع ما كدر والحق أن له تنقيحات كثيرة في كل الفنون الرياضية وأشباه ذلك.] ذكر في رسالة بيان اللغات من كتاب إخوان الصفا مذاهب قدمائنا بوجه إجمالي لطيف واختارها كما اخترناها، حيث قال


[ 540 ]

اختلفت المذاهب والآراء والاعتقادات فيما بين أهل دين واحد ورسول واحد لافتراقهم في موضوعاتهم واختلاف لغاتهم وأهوية بلادهم وتباين مواليدهم وآراء رؤسائهم وعلمائهم الذين يحزبونهم ويخالفون بينهم طلبا لرئاسة الدنيا، وقد قيل في المثل: ” خالف تذكر لأنه لو لم يطرح رؤساء علمائهم الاختلاف بينهم لم تكن لهم رئاسة، وكانوا يكونون شرعا واحدا، لأن أكثرهم متفقون في الأصول مختلفون في الفروع. مثال ذلك: أنهم مقرون بالتوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى مما يليق به، مقرون بالنبي المبعوث إليهم، متمسكون بالكتاب المنزل من جهة الرسول المرسل إليهم، مقرون بإيجاب الشريعة، مختلفون في الروايات التي وسائطها رجال مختلفون في المعاني، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان من معجزته وفضيلته أنه كان يخاطب كل قوم بما يفهمون عنه بحسب ما هم عليه وبحسب ما تتصوره عقولهم؛ فلذلك اختلفت الروايات وكثرت الديانات واختلفوا في خليفة الرسول، فكان ذلك من أكثر أسباب الخلاف في الأمة إلى حيث انتهينا. وأيضا فإن أصحاب الجدل والمناظرة ومن يطلب المناقشة والرئاسة اخترعوا من نفوسهم في الديانات والشرائع أشياء كثيرة لم يأت بها الرسول ولا أقربها، وابتدعوها. وقالوا لعوام الناس: هذه سنة الرسول، وحسنوا ذلك لأنفسهم حتى ظنوا هم أن الذي قد ابتدعوه حقيقة قد أمر بها الرسول (صلى الله عليه وآله). وأحدثوا في الأحكام والقضايا أشياء كثيرة بآرائهم وعقولهم، وضلوا بذلك عن كتاب ربهم وسنة نبيهم واستكبروا عن أهل الذكر الذين بينهم وقد أمروا أن يسألوهم عما أشكل عليهم، فظنوا لسخافة عقولهم أن الله سبحانه ترك أمر الشريعة وفرائض الديانة ناقصة حتى يحتاجوا إلى أن يتموها بآرائهم الفاسدة وقياساتهم الكاذبة واجتهادهم الباطل وما يخرصوه وما يخترعوه من أنفسهم. وكيف يكون ذلك! وهو يقول سبحانه وتعالى: (ما فرطنا في


[ 541 ]

الكتاب من شيء) وقال سبحانه: ﴿تبيانا لكل شيء﴾ وإنما فعلوا ذلك طلبا للرئاسةكما قلنا آنفاوأوقعوا الخلاف والمنازعة بين الأمة، فهم يهدمون الشريعة ويوهمون من لا يعلم أنهم ينصرونها. وبهذه الأسباب تحزبت الأمة ووقعت العداوة بينهم وصاروا إلى الفتن والحروب ويستحل بعضهم دماء بعض. فإن اتعظ بعض من يعرف الحق من العلماء وخاطب بعض رؤسائهم في ذلك وخوفه بالله وأرهبه من عذابه عدل إلى العوام وقال لهم: هذا فلان! وأغرى العوام به ونسب إليه من القول ما لم تأت به شريعة ولا يقوله عاقل، ولا يتمكن ذلك العالم من أن يبين للعوام كيف جري الأمر في الشريعة ويوقظهم مما هم فيه، لمكان ما قد علمه من عصيانهم وألفهم بما قد نشأوا عليه خلفا عن سلف. ولما رأى رؤساؤهم ذلك وأن العلماء مشمئزة من العوام جعلوا ذلك شرفا لهم عندهم وأوهموهم أن ذلك انقطاع منهم عن القيام بالحجة وإنما سكوتهم وتخفيهم لباطل يمنعهم وأن الحق هو ما أجمعنا عليه نحن، فلا يزال ذلك دأبهم. والرؤساء فيهم يتزايدون في كل يوم واختلافاتهم تزيد واحتجاجاتهم ومناظراتهم وجدلهم تكثر، حتى هجروا أحكام الشريعة وغيروا كتاب الله بتفسيرهم له بخلاف ما هو به كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه﴾ . وفي أصل أمرهم قد خربوا الأمة من حيث لا يشعرون، وتأولوا أخبار الرسول بتأويلات اخترعوها من أنفسهم ما أنزل الله بها من سلطان، وقلبوا المعاني وحملوها على ما يريدون مما يقوي رئاستهم. وتفسيق أهل العلم دأبهم عند العوام، يتوارث ذلك ابن عن أب وخلف عن سلف إلى أن يشاء الله إهلاكهم وانقراضهم، ولم يزل هؤلاء الذين هم علماء العوام أعداء الحق في كل أمة وقرن، فكم من نبي قتلوه ووصي جحدوه وعالم شردوه، فهم بأفعالهم هذه يكونون أسبابا في نسخ الشرائع


[ 542 ]

وتجديدها في سالف الدهور إلى أن يتم وعد الله ﴿إن يشأ الله يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز﴾ ﴿والعاقبة للمتقين﴾ ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين﴾ فهذه العلة هي السبب في اختلاف الآراء والمذاهب. وإذا كان ذلك كذلك فيجب على طالب الحق والراغب في الجنة أن يطلب ما يقربه إلى ربه ويخلصه من بحر الاختلاف والخروج عن سجون أهله، وإن غفلت النفس عن مصالحها ومقاصدها وترك طريق الجنة والحق وأهله والدين الذي لا اختلاف فيه وانضم إلى أهل الخلاف وإلى رؤسائهم الأصنام المنصوبة كان ذلك سبب بوارها وهلاكها وبعدها عن جوار الله سبحانه وتعالى وقرنت بعفريت، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وأ نهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين﴾ فهكذا يكون حاله مع عالمه الذي اقتدى به وغره بربه. وجماعة العوام حوله وينمق كلامه فيعبده من حيث لا يشعر، لأنه إذا حلل بقوله وحرم بقوله ورأيه فقد عبده، قال الله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون﴾ فعليك أيها الأخ البار الرحيم أيدك الله بأهل العلم الذين هم أهل الذكر من أهل بيت النبوة المنصوبين لنجاة الخلق وقد قيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها


[ 543 ]

انتهى ما أردنا نقله عن كتاب إخوان الصفا وأنا أقول: أيها الأخ اللبيب والحكيم الأديب انظر وتدبر كيف اطلع أهل التحقيق من الصوفية المتشرعين ومن الفلاسفة الإسلاميين على المذهب الصحيح والحق الصريح؟ وكيف تغافلت أو غفلت عنه أقوام من العرب، الوالهون في تشييد أركان الرئاسة، الحريصون في رجوع الخلق إليهم في أحكام الشريعة؟ فضلوا وأضلوا، فاستحبوا العمى على الهدى وهم عارفون، ثم تبعهم الغافلون. والمعصوم أرباب العصمة. ومن تمسك بهم في كل مسألة لا يمكن عادة أن يقع


[ 544 ]

فيها غفلة أو زلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقد وقع الفراغ من تحرير الفوائد المدنية وحقائق قواعد الأصول الدينية في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين بعد الألف من الهجرة النبوية (صلى الله عليه وآله) في مكة المعظمة زادها الله شرفا وتعظيما


[ 545 ]

المسائل الظهيرية الواردة من الشيخ حسين بن الحسن بن يونس بن يوسف بن ظهير الدين محمد بن زين الدين علي بن الحسام الظهيري العاملي العيناثي، أستاذ الشيخ الحر [صاحب الوسائل] والمجيز له في 1051 والمترجم في أمل الآمل. والجوابات هذه للمولى محمد أمين بن محمد شريف الإسترابادي المتوفى بمكة المعظمة في 1036


[ 546 ]

كلمة من المحدث الجليل الشيخ الحر العاملي في ترجمة صاحب المسائل: الشيخ حسين بن الحسن بن يونس بن يوسف بن محمد ابن ظهير الدين [بن علي] بن زين الدين بن الحسام الظهيري العاملي العيناثي شيخنا، كان فاضلا عالما ثقة صالحا زاهدا عابدا ورعا فقيها ماهرا شاعرا، قرأ عنده أكثر فضلاء المعاصرين، بل جماعة من المشايخ السابقين عليهم، وأكثر تلامذته صاروا فضلاء علماء ببركة أنفاسه. قرأت عنده جملة من كتب العربية والفقه وغيرهما من الفنون، ومما قرأت عنده أكثر كتاب المختلف. وأ لف رسائل متعددة، وكتابا في الحديث، وكتابا في العبادات والدعاء [له شعر قليل] وهو أول من أجازني. وكان ساكنا في جبع ومات بها (رحمه الله)ـ


[ 547 ]

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا من هدانا سبيل الرشاد ودلنا على المنهج الواضح والصواب، ونشكرك يا من جعلنا من المتمسكين بالعروة الوثقى من أولي الألباب، ونصلي ونسلم على النبي المصطفى الأواب، المنزه دينه عن الشك والارتياب، المفضل كتابه الذي جاء به على كل كتاب، المبعوث كافة للناس من عجم وأعراب، وعلى عترته الأقربين، المؤيدين بالفيض الإلهي من رب الأرباب، الأئمة الهداة العالمين بتأويل الكتاب. وبعد، فإني وان كنت قاصرا عن رتبة المحصلين وغير داخل في زمرة العلماء العارفين، لكني بتوفيق إله العالمين، راج أن أكون من المنصفين والآن قد وفقني الله سبحانه وتعالى للوقوف على كتاب الفوائد المدنية والفوائد المحمدية الذي ألفه مولانا وشيخ الأعلام وفقيه أهل البيت (عليهم السلام) الفاضل الكامل المحقق وعلامة الدهر، ذوالنفس الزكية والنفحة القدسية، المؤيد بالعناية الربانية لتحقيق مذهب الإمامية، رئيس المتبحرين وعمدة المحصلين، المشتهر بملا محمد أمينأدام الله تعالى علاه، وأعطاه في الدارين مناه. رأيته قد احتوى على نكت أبزرهاأيده اللهمن غصون الأخبار غريبة


[ 548 ]

ودقائق استخرجها من مظانها عجيبة، متن فيه غرض شيوخنا الأعلام من المتقدمين من الأخباريين وغيرهم، ونقد في هذا الكتاب على الأفاضل من المتأخرين نقد ماهر متقن منصف نصير لقن فطن لبيب خبير، لا تأخذه في الله لومة لائم. فلله دره! من مجاهد بذل في تحقيق مقاصد المتقدمين جهده بلغ بذلك الغاية القصوى واستدرك على المتأخرين الدقائق المطوية في أخبار العترة النبوية، فأزاح عن كل منهم علل البلول، وخاض في كل فن من العلوم لا سيما فقه الأحاديث عن أهل بيت العصمةسلام الله عليهمخوض متمسك بالحبل الأقوى بتدقيق وتتبع وإمعان نظر، ابتغاء لإظهار الحق، والنصيحة لأهل التقوى. فلما أخلص نيته وبذل في المجاهدة همته لحظه بعين العناية عالم السر والنجوى، فعند ذلك كشف له الحجاب فاستخرج المكنون في أخبار الرسول، فصار بينا للناظرين فكان كالبدر المنير وأضوى. فانظر أيها اللبيب! بعين البصيرة إلى ما حققهأيده اللهوتناوله بيد غير قصيرة، والذي أعتقده وأدين الله به إنما منحه اللهجل ذكرهبهذا التحقيق الذي قل من تنبه إليه التنبه التام أحد من متأخري المتأخرين، لإخلاص عظيم وذوق سليم وفهم مستقيم، ولمجاهدته أيضا في الله حق جهاده وفقه سبحانه لمراده كما قال في الكتاب المبين (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وغيرها من الآيات المحكمة في الكتاب. فمن ثم أصاب الثواب وأبان الحق الواضح لأولي الألباب وأخذ العلم من معدنه وأخلص لله عمله، فأوصله الله إلى ما أوصله، فقرر عند ذلك ما عليه الطائفة المحقة من الدين الخالص من عقائدهم وشرائع دينهم وما يحتاجونوجل ذلك ومعظمه مستفاد من أخبار أئمتهم سلام الله عليهمتقرير جازم حريص على حفظ الملة الحنيفية والمذهب الذي عليه الإمامية. وكل ذلك على النهج السوي المأخوذ من عترة آل النبي سلام الله عليهم. فشكر الله سعيه وأطال بقاءه وجعل مدته متصلة بخروج حجة الله على عباده وبقية الله في أرضه، القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وأسأل الله أن يجعله ممن له الحظ الوافر عنده (عليه السلام) وما ذلك على الله بعزيز، وجزاه الله عن كل مؤمن منصف خيرا


[ 549 ]

فلمثل هذا فليعمل العاملون، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ولا غرو أن يكون مثل هذا الفاضل الواصل في التحقيق إلى درجة الكمال والناقد على من قبله من فحول الرجال، لأ نا قد وجدنا ان غالب الرواة وأهل الولاية والمحدثين من المشائخ الأعلام من أهل العجم، فهم المتمسكون بالحبل المتين: عترة المصطفى والكتاب المبين، بل هم بمقاصد أئمتهمسلام الله عليهمعارفون أكثر من غيرهم. ولو قيل: إن التحقيق في غالب العلوم محصور فيهم لكان جديرا. وأيضا قد شاع وذاع عند كل ممارس على أن العلم لو كان في السهى [بثريا] لناله رجال من فارس. وأقول: إنه قد يخطر في البال بطريق الاحتمال: ربما يعرض لبعض من لا تدبر له إذا وقف على هذا التحرير في هذا الكتاب في أول وهلة قبل أن يتأمل في معانيه ويجيل فكره في معانيه ولم يمعن تمام الإمعان فيه، فحينئذ لم يتنبه للصواب، لوجوه: منها: إما لتقصير في فهم، وإما لعدم إحاطته واطلاعه على كتب السلف. ومنها: عدم المراعاة والإنصاف. ومنها: أن يكون مقلدا لغيره، فيعتبر بمذهب من سلف من قدمائنا، لألفة طريقتهم وحسن ظنه بهم كأمثالنا بأهل هذا الزمان. وربما يقول قائل منهم: غالب فقهائنا يعملون بالظن في بعض الأحكام الشرعية، فكيف ينفرد صاحب هذه الفوائد في هذا الكتاب ويعمل بالقطع فيها؟ وكيف يخرج عن سمت من قبله؟ هذا عجيب! كأنه لم يعلم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده. ومنها: من يتعلل ب‍ لم و كيف وأمثال ذلك من التعليلات الكاسدة والأفهام الباردة، ولو تدبر قوله تعالى في الذكر الحكيم: ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾ لأراح نفسه من هذه الاحتمالات


[ 550 ]

وعلى كل حال، فإن الحق قد اتضح بغير مين وأضاء الصبح لذي عينين. ومن لطائف ما يناسب ما نحن فيه: ما نظمه مولانا وشيخنا العلامة والحبر المحقق الفهامة الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن ابن العالم الرباني الشهيد الثانيقدس الله سرهمامن جملة قصيدة له مسماة ب‍ النفحة القدسية لإيقاظ البرية فإنه قال، ونعم ما قال: وأين الذي للفقه في الدين يبتغي يقينا إذا استفيضت عليه مسائله أو المستشير العزم للسير قاصدا إلى وجهه شمار منها تناوله فيوقل في الآفاق شرقا ومغربا الا في سبيل الله ما هو فاعله وما ذاك وجد القوم فرض كفاية وقد درست آياته ومنازله بل فرض عين يلحق الكل حكمه بلا مزية قامت عليه دلائله وإن أمره شيء ويصبح مخلدا إلى الأرض لا يلقى فقيها يسائله ويحسب جهلا أنه فاز بالتقى وأدرك في الخيرات ما هو أهله لفي غمة من أمره وكأ نه لفرط هواه فاقد العقل تأكله وأين الذي إن جاره من مذكر حديث رشاد بالقبول يقابله ومن ذا الذي عرفته عيب طبعه لا يستقيم حتى تقوم مائله لقد نال في الناس العدو مرامه وليس لهم علم بما هو عامله ومما يناسب ذلك أيضا ما أنشده الشيخ الفاضل الأديب ناصر البويهي الذي آباؤه بنوا الحضرة الغرويةعلى مشرفها ألف سلام وتحيةولآبائه مقبرة في النجف تعرف بمقبرة السلاطين، فإنه قال من جملة قصيدة أنشدها لبعض أجدادي حين أخره عن درسه، فأرسل إليه أبياتا يعاتبه فيها، من جملتها هذا البيت: وما كل من أدلى من البئر دلوه يساق ولا من صفح الكتب فاضل وبالجملة، فإن كل من لم يكن من المجاهدين كجهاده يتعين عليه أن يكون من المقلدين، كما قال الله سبحانه: ﴿أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع﴾ وقال جل


[ 551 ]

ذكره: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ وغير ذلك من الآيات. وإذا لم يمكن أيها المولىأيدكم اللهأحد من القاصرين السماع منكم ولا الوصول إلى جهتكم فالمأمول منكمأيدكم الله بالعمر الطويلتأليف كتاب وجيز في الفقه فيه مختاركم وما تذهبون إليه وتعتمدون عليه، وإن لم يمكن فحاشية مختصرة على مختصر المحقق الحلي (قدس سره) فيها مختاركم، قاصدين بذلك نفع المؤمنين المريدين وانتعاش القاصرين، فإنكم قد أحطتم بمذهب أهل البيت خبرا واستغنمتم في كل فن من العلوم بتوفيق إلهي من الحي القيوم، لأن من شاهدناه في هذا الزمان من الناس في غمرة ساهون، فلا بأس أيها الولي بإيقاظهم من سنة الغفلة بتأليف كتاب لعلهم إليه يرجعون وبه يعملون، لأن القاصر إذا لم يمكنه الوصول إلى ما وصل به أهل التحقيق يتعين عليه التقليد للأعلم من أهل التدقيق والرجوع والعمل بما قاله واختاره، حتى يخرج من يملأ الأرض قسطا وعدلا، وحينئذ يبقى الدين الخالص، نرجو من الله تعجيل الفرج، فينبغي إسعاف الإخوان المؤمنين بإظهار الحق المبين لقوله تعالى: ﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾ . وكنت قديما أيها المولىأيدكم الله تعالىأتعجب كثيرا في اختلاف أصحابنارضي الله عنهمفي المسائل الكثيرة، وليس لي قوة ولا ملكة أقتدر بها على مناقشتهم لقلة بضاعتي في العلم المستند إلى تقصير في المجاهدة، وقد مضى عمري بغير فائدة توصلني إلى حالة أعذر فيها وأنا خائف وجل، والآن قد كبر سني عن الاستعداد، فهل يكفيني العمل بمجموع ما قاله الفقهاء؟ وهل يصلح هذا عذرا أم لا؟ وها هنا بعض مسائل خطرت بالبال أريد أن أسألكم عنها، ولا تؤاخذني بإساءة الأدب من عبارة ركيكة وخلل، فإني مقر بالتقصير في العلم والعمل. مسألة: ما تقولونأيدكم الله تعالى ولطف بكمهل يكفي الإنسان في عقيدته واعتقاده العلم الإجمالي في التوحيد؟ لأنه قل أن ينفك عمن له أدنى عقل. والذي أعتقده: أن جميع ما سوى الله سبحانه وتعالى حادث عن العدم جوهرا كان


[ 552 ]

أم عرضا بسيطا كان أم مركبا، وأ نه تعالى جل ذكره لا قديم إلا هو، وأ نه واجب الوجود لذاته، وأ نه عالم حي سميع بصير غني أزلي أبدي مريد كاره متكلم صادق، منزه عن الجوهرية والعرضية وجميع لوازمها، وأ نه واحد أحد بريء عن الشريك والانقسام الذهني والخارجي، وأن قدرته وعلمه يعمان كل مقدور ومعلوم، وأ نه لا يتحد لغيره، وأن صفاته عين ذاته، كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه من تمام توحيده نفي الصفات عنه وأن كلامه حروف وأصوات مخلوقة مقروءة مسموعة موسومة بالحدوث، وأ نه تعالى منزه عن الإدراك بالبصر في الآخرة، وأن كنه ذاته مما لا تصل إليه أيدي العقول والأفكار. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة بأنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله . والأخبار الواردة في التوحيد أكثر من أن تحصى: منها: ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند حسنعلى اصطلاح المتأخرينعن ابن أبي عمير قال دخلت على سيدي موسى (عليه السلام) فقلت: يا بن رسول الله علمني التوحيد، فقال: يا محمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله في كتابه فتهلك، واعلم أن الله تبارك وتعالى واحد أحد صمد لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا شريكا، وأ نه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحكيم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغني الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذل، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وأ نه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا يحيط به الأفكار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار


[ 553 ]

وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، وهو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه محدث مخلوق، تعالى عن صفات المخلوقين علوا كبيرا . وغير ذلك من الأخبار التي أوردها في الكافي ثقة الإسلام، وأوردها رئيس المحدثين في كتابه كتاب التوحيد. وأما العلم التفصيلي المقرر في علم الكلام والبحث عن كل مسألة مسألة ليس لي على الإحاطة، بل لو ألزمت عن الجواب عن كل مسألة منه لعجزت عن ذلك، فهل يكفي في التوحيد ما وقع في ذهني من المعرفة الإجمالية مع مساعدة ظاهر الآيات القرآنية والأخبار الواردة عن العترة النبوية أم لا؟ وكذلك أعتقد أنهجل ذكرهأرسل رسلا ببينات وحجج لهداية عباده إليه ودلالتهم عليه، أولهم آدم (عليه السلام) وآخرهم خاتم الأنبياء والمرسلين وأشرف الأولين والآخرين محمد (صلى الله عليه وآله) وأن خليفته بلا فصل أفضل البشر من بعده أمير المؤمنينسلام الله عليهبالنص عليه وبعده الأئمة الأحد عشر من ولده واحدا بعد واحد إلى صاحب الأمر والزمان محمد بن الحسن المهديسلام الله عليهم أجمعينوأن المهدي (عليه السلام) حي مستور عن الناس إلى أن يأذن الله له بالخروج، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. وقال بعض الأفاضل : إن ما في الأصول من النبوة والإمامة والمعاد الجسماني يستفاد من الكتاب والسنة النبوية والإمامية بحيث لا مزيد عليها. فظهر أن تحصيل الإيمان لا يتوقف على تعلم علم الكلام ولا المنطق ولا غيرها من العلوم المدونة بل يكفي مجرد الفطرة الإنسانية على اختلاف مراتبها والتنبيهات الشرعية من الكتاب والسنة المتواترة أو الشائعة المشهورة بحيث يحصل من العلم [بها] العلم بالمسائل المذكورة، فكل ممكن برهان، وكل آية حجة، وكل حديث دليل، وفهم المقصود استدلال، وكل عاقل مستدل وإن لم يعلم الصغرى ولا الكبرى ولا التالي ولا المقدم


[ 554 ]

بهذه العبارات والعنوانات والاصطلاحات. انتهى كلامه (رحمه الله) فهل هو كما قال أم لا؟ وقال هذا الفاضل أيضا: إن علم الكلام إسلامي وصفه المتكلمون بمعرفة الصانع وصفاته، ذهبوا إلى أن الطريق منحصر فيه أو هو أقرب الطرق. والحق أنه أبعدها وأصعبها وأكثرها خوفا وخطرا؛ ولذلك نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن الغور فيه، حيث روي أنه مر على شخصين مباحثين عن مسألة القضاء والقدر فغضب عليهما حتى احمرت وجنتاه . وأورد هذا الفاضل رواية عبد الله بن سنان حين استئذان مؤمن الطاق في الدخول على أبي عبد الله (عليه السلام). وأورد أيضا رواية أبي عبيدة الحذاء المتضمنة للنهي عن الكلام والخصومات. وأيضا رواية جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ” متكلمو هذه العصابة من شرار من هم منهم ” . وعنه (عليه السلام) ” يهلك الناس أهل الكلام وينجو المسلمون وروي في موضع آخر أن شر هذه الأمة المتكلمون ” . وأورد في المقام روايات أخر قرر هذا المعنى، ونقل كلاما آخر لابن طاوس يساعد كلامه ومدعاه. فهل ما قاله هذا الفاضل حق أم لا؟ وكان كلامه بحسب الظاهر شديد. مسألة: ما وجه اختلاف أصحابنا الإمامية في المسائل الشرعية سيما المتأخرون، حتى أن الواحد منهم ربما خالف نفسه في المسألة الواحدة مرتين أو مرارا، وأطنبوا الكلام في الأحكام الشرعية وأسهبوا في الفروع الفقهية غاية الإسهاب، وأكثروا التأليفات من كتب صغار وكبار يعجز الإنسان عن الإحاطة ببعضها أو يحصل الملل بمطالعتها لكثرة فروعها، وفروض ذكروها قليلة الوقوع فما سبب هذا الانتشار العظيم؟ وكان الذي يخطر بالبال إنما هو لمضاهات أهل الخلاف والعامة الطريق الذي سلكوه، لأنهم اتكلوا على رأيهم الفاسد وظنهم الذي لا يغني من الحق شيئا


[ 555 ]

فأطنبوا عند ذلك وأسهبوا واقتدوا بأناس ناكثين عن الصراط المستقيم، ادعوا أنهم أئمتهم، فنظيرهم كما حكى الله عز وجل عن الأمم الماضية قبلهم بقوله سبحانه وتعالى: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾ فالويل لهم! لكونهم لم يتمسكوا بالعترة النبويةسلام الله عليهمبغضا ونصبا وعنادا ابتغاء لإطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأما أصحابنا الإمامية كان الأولى بهمبحسب الوجدانأن لا يجاوزوا الاختصار وعدم الإكثار والاكتفاء بما روي عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لأنهم عيبة علم الله والرسول وأهل بيت النبوة وصاحب البيت أدرى بما فيه، وعلمهم لدني من عند الله تعالى وأهل الفيض الإلهي، وليس لغيرهم هذه المزية العظمى، فاتباع أقوالهم والاغتراف من بحار علومهم والاعتراف بفضلهم أولى وأجدر مع أنهم (عليهم السلام) قد بذلوا النصح لمن والاهم من الشيعة كما أفدتم في الفوائد، فكان الأنسب لأصحابنا الإمامية الاقتصار على ما تضمنه أحاديث أئمتهم وانتزاع المذهب الحق منه كما نبهتم عليه من طريق القدماءرضوان الله تعالى عليهموليس ذلك بإيرادي عليهمرضي الله عنهمبل احتمال خطر بالبال لأ ني قاصر عن رتبة الكمال. مسألة: ما تقولونرضي الله عنكمفيما نقل عن علم الهدى السيد المرتضى (رحمه الله) من ادعائه الإجماع في مسائل عديدة: منها: أنه ادعى الإجماع على وجوب التكبيرات في كل ركعة للركوع والسجود والقيام بينهما ووجوب رفع اليدين بها . ومنها: دعواه الإجماع أن أكثر النفاس ثمانية عشر يوما . ومنها: دعواه الإجماع أن خيار الحيوان ثابت للمتبايعين . ومنها: دعواه الإجماع أن الشفعة تثبت في كل مبيع من حيوان وعروض ومنقول وقابل للقسمة وغيره . ومنها: دعواه الإجماع أن أكثر الحمل سنة


[ 556 ]

ومنها: دعواه الإجماع أن الهبة جائزة ما لم تعوض وإن كانت لذي رحم . ومنها: دعواه الإجماع على أن المهر لا تصح زيادته عن خمسمائة درهم قيمتها خمسون دينارا فما زاد عنها يرد إليها . ومنها: دعواه الإجماع على أن العقيقة واجبة وغير ذلك وهو كثير. وكذلك شيخ الطائفة المحقة على هذا المنهاج، فإنه (رضي الله عنه) ادعى الإجماع في مسائل كثيرة مع أنهمارضي الله عنهمامن رؤساء المتقدمين وملاذ الإمامية، المحققون وتراجمة الفقه والحديث والأصول، فما المرادأيدكم الله تعالىبإجماعهما؟ إن كان المراد به دخول المعصوم (عليه السلام) في قول المجمعين فهو الحجة، وإلا فحينئذ لا ينبغي العدول عن قولهما، بل يتعين اتباعهما في كل ما أجمعا عليه، مع أنه قل من عمل بذلك. وإن كان المراد به الكثرة والشهرة كما هو المشهور عند بعض المتأخرين فكان الأنسب لهمارضي الله عنهماأن ينبها على ذلك حتى ينتفي الريب من القاصرين. وكذلك دعوى جماعة من الفقهاء الإجماع كمحمد بن إدريس والعلامة الحلي وغيرهما، فإنهم سلكوا على هذه السنن. ونحن لقصورنا عن الاستعداد لم نفهم المراد بالتفصيل الذي لا ريب فيه، فالمأمول منكمرضي الله عنكمتبيين ذلك هنا شافيا كافيا فإنكم المحيطون خبرا. مسألة: في صلاة الجمعة أما مع حضور الإمام فلا كلام في الوجوب العيني. وإنما الكلام في غيبته (عليه السلام) كزماننا هذا، فإن لأصحابنا فيه أربعة أقوال: القول الأول: إنها واجبة عينا على كل مكلف عدا ما استثني. وبه صرح الشهيد الثاني في رسالة الجمعة وقد أطنب البحث فيها وشكا من أهل زمانه وأظهر التألم منهم جدا، وتبعه على ذلك تلميذه السيد على الصائغ وابنه صاحب المنتقى يميل


[ 557 ]

أيضا إلى ذلك وسبطه صاحب المدارك كذلك . والأخبار كما لا يخفى عليكم مطلقة متظافرة ومع ذلك معظمها قوي الإسناد: منها: صحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) . ومنها: صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) . ومنها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) . ومنها: صحيحة عمر بن يزيد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) . ومنها: صحيحة الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)… . ولو لم يكن إلا قول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم: ” من ترك الجمعة ثلاث جمع متوالية طبع على قلبه وفي خبر آخر: ” ختم على قلبه بخاتم النفاق وغير ذلك من الأخبار المشتملة على التهويل العظيم. وعموم القرآن أيضا مطلق ما تقولون في هذا القول لطف الله بكم. والقول الثانيوهو المنسوب إلى الأكثر: أن الوجوب في حال الغيبة تخييري بينها وبين الظهر. وهو المعبر عنه بالاستحباب عندهم، أرادوا بذلك استحبابها عينا وهو لا ينافي وجوبها تخييرا لاختلاف المحلين. وقال السيد علي الصائغ: وهذا القول لا يعرف له دليل متضح سوى الإجماع، وهو في غاية البعد ونهاية الضعف. ثم قال بعد ذلك: كيف يستدل بالإجماع على مثله فيها أربعة أقوال؟ ما هذا إلا عجيب! انتهى كلامه (قدس سره) وأنتم ما تقولون في هذا القول أطال الله بقاءكم؟ والقول الثالث: إن الوجوب التخييري مشروط بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى حال الغيبة. قال الشهيد الثاني في رسالة الجمعة: اعلم أن هذا القول لم يصرح أحد من فقهائنا، وإنما ظاهر عبارة العلامة في التذكرة والنهاية والشهيد في الدروس واللمعة لا غير. وقال (قدس سره) بعد ذلك: ولكن المحقق الشيخ علي اعتنى بهذا القول وترجيحه وادعى إجماع القائلين بشرعيتها عليه


[ 558 ]

وقال السيد علي الصائغ في شرحه على الإرشاد: إن دعوى الشيخ علي الإجماع دون ذلك خرط القتاد! والقول الرابع: تحرم صلاة الجمعة في زمن الغيبة مطلقا. ونسب ذلك إلى ظاهر كلام السيد المرتضى (رضي الله عنه) في بعض وصريح سلار وابن إدريس والشيخ إبراهيم البحراني من المتأخرين ونقل أن عمدة الدليل اشتراط هذه الصلاة بالإمام أو من نصبه، والفرض عدمه والمشروط عدم عند عدم شرطه. والثاني أن الظهر ثابتة في الذمة بتعين ولا تبرأ إلا بتعين مثله. قال السيد علي (قدس سره): وهما في غاية الضعف، أما الأول فأين الدليل عليه في زمن الحضور فضلا عن زمن الغيبة؟ وأما الثاني فهو عين العبارة، بل في الحقيقة الأمر بالعكس، لأن الثابت في الذمة يوم الجمعة عند الزوال صلاة الجمعة. ثم إنه (قدس سره) أطنب الكلام وتكلم على أهل زمانه وأكثر النكير عليهم. وكذلك قبله شيخنا الشهيد الثاني في رسالته، فما تقولونرضي الله عنكمفي هذا القول أيضا؟ وأقول بعد ذلك: قد جاء في خاطري شيء أريد أن أبديه لكم، وهو أنه لو قيل بالوجوب العيني في زمن الغيبة، فهل تجب المهاجرة من المحل الذي لا يتمكن المكلف من الإتيان بها في ذلك المحل إلى محل آخر يمكن إقامتها أم لا؟ حتى لو قيل: إنها أفضل الفردين الواجبين هل تترجح المهاجرة أيضا لأجل الإتيان بفرض من فروض الله عز وجل على الوجه الأرجح أم لا؟ ولا يعلم تأويل هذه الأقوال بالأدلة القطعية إلا العالمون، وأنتم قد أحطتم بكل خبرا، فالمأمول منكمأيدكم الله تعالى ولطف بكمبيان ذلك وافيا بالمقصود. مسألة: ما قولكم يا مولاناأيدكم الله بأحسن تأييدهفي تقصير المسافر في البريد، وهو الأربع فراسخ؟ فإن فقهاءنارضوان الله تعالى عليهمقد اختلفوا في


[ 559 ]

ذلك، فمنهم من قال بالتخيير بين القصر والإتمام، ومنهم من شرط الرجوع ليومه وهو ظاهر كلام شيخ الطائفة في التهذيب ، ومنهم من لم يشترط الرجوع ليومه، ومنهم من رجح التقصير فيها، ومنهم من رجح الإتمام إذا لم يرد الرجوع ليومه. وأقوالهم في ذلك منتشرة مضطربة، فكيف حال من ليس له قوة الاستدلال كما مثلنا من القاصرين المقلدين، والأخبار الكثيرة كأنها مطرحة بتعين التقصير على قاصد البريد وهو الأربعة فراسخ، لأن بعضها بريد لاغير وفي بعضها اثنا عشر ميلا، والأخبار: منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: التقصير في بريد والبريد أربعة فراسخ وهي مطلقة كما ترى خالية عن قيد الرجوع. وصحيحة إسماعيل بن الفضل قريب منها. وصحيحة زيد الشحام فيها: إثنا عشر [ميلا]. وحسنة أبي أيوب لا تزيد على البريد. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه قال: لما نزل جبرئيل بالتقصير قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في كم ذلك؟ قال: في بريد . فهذه الأخبار اقتصر فيها على تقدير أقصر مسافة يجب القصر على قطعها ذهابا وإيابا. وأما الأخبار التي رسالتي اشتملت على التقدير والبيان: فمنها: صحيحة زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التقصير؟ فقال: بريد ذاهب وبريد جائي، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أتى ذبابا قصر، وذباب على بريد، وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين . وقريب منها صحيحة معاوية. وكذلك رواية سليمان بن حفص المروزي وهي مصرحة بضم الإياب إلى الذهاب وبأن سفرهما واحد. وليس في هذه الأخبار تعرض لتقييد الرجوع بيوم الذهاب ولا بليله، وكيف


[ 560 ]

يجوز الإتمام في مواضع القصر؟ والحال أنه قد روى رئيس المحدثين في الفقيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من صلى في السفر أربعا فأنا بريء منه إلى الله . وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: التقصير في السفر واجب كوجوب الاتمام في الحضر . وقال الحلبي: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): صليت الظهر أربع ركعات وأنا في السفر، فقال: أعد . وصحيحة معاوية بن عمار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات، فقال: ويلهم أو ويحهم! وأي سفر أشد منه لا يتم . وهذا الخبر مصرح بتحتم القصر وتحريم الإتمام. وقريب من ذلك صحيحة أخرى لمعاوية بن عمار وحسنة أخرى أيضا له وقريب منها حسنة الحلبي أيضا . وروى إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم التقصير؟ فقال: في بريد، ويحهم! كأنهم لم يحجوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقصروا . وصحيحة زرارة بأمر عثمان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بصلاة الظهر أربعا بالناس فأبى (عليه السلام) وقال: إذا لا أصلي إلا ركعتين وهي طويلة لا يخفى على شريف علمهم. وغير ذلك من الأخبار، وهي كما ترى خالية عن ذكر الرجوع ليومه. وخبر عرفات وغيره قرينة على عدم تحتم الرجوع ليومه، بل في بعضها تعين القصر في الأربعة لمقاصدها وإن لم يرد الرجوع ليومه مطلقا . وقال بعضهم بتعين التقصير في الأربعة، سواء رجع ليومه أم لم يرجع، بشرط أن لا ينوي الإقامة على رأس الأربعة عشرة أيام عند خروجه إلى الأربعة، فإن قصد ذلك أتم في الأربعة. فالمأمول من مولاناأيده الله تعالىإمعان النظر في تحقيق هذه المسألة، فإنه


[ 561 ]

قل من حررها من الأصحاب التحرير التام وأنتم أهل التحقيق والإحاطة، لا زلتم للمؤمنين عياذا وملاذا. مسألة: ما قولكمرضي الله عنكمفي الحبوة التي انفردت [بها] الإمامية، والأخبار بها متظافرة عن أئمة الهدى (عليهم السلام)؟ وقد نقل عن علم الهدى أنه قال في الانتصار: هذا مما انفردت به الإمامية أن الولد الذكر الأكبر يفضل دون سائر الورثة بسيف أبيه وخاتمه ومصحفهإلى آخر ما ذكر . وإنما اختلف فقهاؤنا في الوجوب والاستحباب، فهل هي على جهة الاستحقاق أم على الاستحباب؟ وعلى التقديرين؟ اختلفوا في الكمية بسبب اختلاف الأخبار. فمنهم: من خص ذلك بأربعة: ثياب البدن، والخاتم، والسيف، والمصحف . ومنهم: من اقتصر على الثلاثة الأخيرة كالمفيد (رضي الله عنه) . ومنهم: من خص الثياب بثياب الصلاة كأبي الصلاح . ومنهم: من زاد السلاح . ومنهم: من أضاف إلى ذلك الكتب والرحل والراحلة، كرئيس المحدثين في الفقيه اعتمادا على رواية أوردها فيه . ثم على تقدير الكمية هل أربعة أم أكثر أم أقل؟ وعلى كلا الوجهين من الوجوب والاستحباب، هل يفرق بين تعدد كل من هذه المذكورات وكثرتها وبين أن تكون مستعملة للبس أو متخذة وإن لم تلبس أم لا؟ ثم هل يفرق بين الخاتم الذي يحرم التختم به كالذهب وغيره أم لا؟ وهل اللباس المحرم كالحرير وبين غيره أم لا؟ وأيضا بين المتخذ للقينة من السيف والخاتم والمصحف وبين غيره أم لا؟ وبين الراحلة إن قيل بها بين المتخذة للركوب


[ 562 ]

وغيرها أم لا؟ ومن الفقهاء من قال: الأحسن أن تحسب عليه المذكورات من سهمه على جهة الاستحقاق . فما المختار أيها المولى الفاضل عندكم في جميع ذلك لا زلتم ملاذا للسائلين وملجأ للمؤمنين؟ مسألة: ماذا تقولونحفظكم الله تعالىفي حرمان الزوجة من بعض متروكات زوجها الميت، هل يفرق بين ذات الولد من الزوج الميت وبين غير ذات الولد منه؟ فقد ذهب لكل ذاهب، منهم الشيخ محمد بن إدريس العجليعلى ما نقل عنهأنه ادعى الإجماع على أنه لا فرق بين ذات الولد من الميت وغيرها، لأنه قال: إن المنع في كل زوجة . وذهب جماعة من فقهائنا إلى اختصاص المنع بغير ذات الولد من الميت . ونقل عن ابن الجنيد (رضي الله عنه) أنه ورث الزوجة من جميع متروكات الميت سواء كانت ذات ولد منه أم لا، تمسكا بعموم الكتاب . ثم اختلفوا في كيفية الحرمان على أقوال: فمنهم من منعها من الأرض فقط، سواء كانت فارغة أم مشغولة بشجر أو زرع أو بناء وبغيرها، عينا وقيمة، ومن عين أبنيتها والأنهار وأشجارها، وتعطى قيمة ذلك. واحتج لهذا القول ببعض الروايات من صحاح وحسان وغيرها. ومنهم من منعها من الرباع، وهي الدور والمساكن دون البساتين والضياع، وتعطى قيمة الآلات والأبنية من الدور والمساكن، وذهب إلى هذا القول المفيد وابن إدريس و المحقق الحلي في النافع . ومنهم من منعها من الرباع خاصة لا من قيمته، وإلى ذلك ذهب علم الهدى واستحسنه العلامة في المختلف واحتج إلى ما ذهب إليه المفيد وابن إدريس


[ 563 ]

والمحقق بعموم الكتاب العزيز بإرثها من كل شيء، خرج عنه ما اتفقت عليه الأخبار وهو أرض الرباع والمساكن عينا وقيمة وآلاتها عينا لا قيمة، فيبقى الباقي. والمأمول بيان ما تعتمدون عليه وترجعون إليه في هذه المسألة، لطف الله بكم. مسألة: ماذا تقولونأطال الله تعالى بقاءكمفيما إذا أحدث المجنب في أثناء غسل الجنابة حدثا أصغرا؟ فقد نقل أنه لا نص عن الأئمة الهدىسلام الله عليهمفيه وقد اختلف أقوال أصحابنا في ذلك. فمنهم من قال بوجوب إعادة الغسل من رأس، ونقل عن الرئيسين الصدوقين ابن بابويه (رحمه الله) والشيخ في النهاية والعلامة في المختلف وولده فخر المحققين والشهيد الأول وأكثر المتأخرين. ومنهم من قال بعدم تأثيره فيتم الغسل ولا شيء عليه، ونسب إلى القاضي ابن البراج وابن إدريس وتبعهما على ذلك من المتأخرين المحقق الشيخ علي . ومنهم من اكتفى بإتمامه لكن يجب عليه الوضوء لهذا الحدث الطارئ، ونسب إلى علم الهدى (رضي الله عنه) من المتقدمين والمحقق الشيخ علي من المتأخرين فما المختار في هذه الأقوال رضي الله عنكم؟ مسألة: ماذا تقولونأيدكم الله تعالىفي غسل الإحرام أواجب هو أم ندب؟ فإن العظيم من فقهائنا يقولون باستحبابه. ونقل عن ابن أبي عقيل القول بوجوبه وهو من القدماء، وتبعه على ذلك الفاضل المطلق الشيخ بهاء الدين الصمدي الحارثي (قدس سره) من المتأخرين. والأخبار الكثيرة المتظافرة تساعد هذين الفاضلين، لأن في بعضها حث عظيم على إعادة الغسل لو نام، فما المختار عندكم في هذه المسألة؟ مسألة: ماذا تقولون في مستحق المالية وغيرها من الأصناف عن المؤلفة هل العدالة شرط في المستحق أم لا؟


[ 564 ]

ومن فقهائنا من اكتفى بظاهر الإيمان بمعنى الولاية لأهل بيت العصمة، ومنهم من شرط العدالة. ما المختار عندكملا زلتم محروسين بعين العناية؟ وكذلك العدالة في إمام الجماعة فإن المعظم من أصحابنا قائلون بشرطيتها فيه كشاهد الطلاق، وأمثال ذلك. وقد ادعى العلامة الحلي الإجماع على أن العدالة شرط في إمام الجماعة وبذلك قال السيد علي الصائغ تلميذ الشهيد الثاني قال: وهو إجماعي عند فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) ونقل عن بعض الاكتفاء بحسب الظاهر من غير احتياج إلى عشرة. وعن بعض آخر: أن الأصل في كل مسلم العدالة. ثم اختلفوا في كيفية العدالة، فمنهم من عرفها بالملكة المشهورة. لكن منهم من شدد ومنهم من سهل. فمن المشددين في شأنها شيخنا مولانا الشيخ جمال الدين أبو منصور بن الشهيد الثاني (رضي الله عنه) فإنه قال (قدس سره)في جواب مسائل سأل بعض إخوانه عن الاقتداء بإمام: هل العدالة فيه شرط أم يجزئ المكلف الاكتفاء بحسب الظاهر؟ فأجابه: أ نه يشترط في إمام الجماعةمع الإيمان بالمعنى الأخصالعلم بالعدالة المستفادة من العشرة المطلقة على باطن أمره أو شهادة عدلين بها. وأما التعويل في الاقتداء على ظن عدم الجهل بأفعال الصلاة فغير معقول، لأن العلة في اشتراط العدالة غير منصوصة، ومن أنها هي إلا من فساد صلاته، والعلم بعدم وجوب إعادة المأموم صلاته إذا انكشف له فساد صلاته خلف الإمام من جملة المسائل الواضحة المأخذ. قال (قدس سره)بعد أن حقيقة العدالة المعتبرة في ذلك كله على ما يقوى في نفسي هي الصفة النفسانية المستقرة زمانا يباين باعتباره الأعراض السريعة الزوال ويعبر عنها بالملكة في الاصطلاح الجاري بين العلماء التي من زجر النفس ومنها: من فعل الكبائر التي يوعد الله تعالى عليها بالنار، ومن الإصرار على الصغائر وهي ما سواها


[ 565 ]

من فعل ما ينافي المروة. ولما كانت الصفات مما لا تدرك بالحس وإنما تعلم بالآثار الصادرة عنها اعتبر في المعرفة بالعدالة حصول العشرة والملازمة التي تكرر منها صدور الآثار الظاهرة عن تلك الحالة الباطنة، بحيث يعلم بالعادة أن مثلها لا يحصل إلا عن الملكة المذكورة. ثم قال (قدس سره) بعد ذلك: واستبعاد بعض الأصحاب عدم إمكان تحصيل العلم هنا ومن أن الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلا الله، في غاية الضعف، كيف! والاستدلال بالأثر المحسوس على المؤثر المعقول أجل ظهورا وأكثر وقوعا مما يحتاج بيانه إلى إيراد مثال مخصوص انتهى كلامه عطر الله مرقده. والمأمول منكمأيها المولى أيدكم الله تعالىالنظر في ذلك وبيان ما تختارونه وتعتمدون عليه بيانا شافيا وافيا بالمراد، فإن النفس متشوقة إلى تحقيق مثل هذه المقاصد لأنها من المهمات. مسألة: ماذا تقولأدام الله أيامكم وأعزكم وأعلى مقامكمفي التربة المشوية من التربة الحسينيةعلى ساكنها أفضل التحية والسلامهل تخرج بالطبخ المتعارف عن أصناف الأرض أم لا تخرج؟ وقال المحقق الشيخ علي: لا تخرج بالطبخ عن اسم الأرض وجواز السجود عليها ومشايخنارضي الله عنهمقائلون بمنع السجود عليها. وهل يفرق بين التيمم بها والسجود عليها أم لا؟ ما عندكم في ذلكرضي الله عنكم؟ مسألة: ما قولكملطف الله بكمفي بقية الأغسال غير غسل الجنابة، هل لابد معها من الوضوء أم لا، سواء كانت واجبة أم مندوبة؟ ونقل عن علم الهدى (رضي الله عنه) إجزاء جميع الأغسال الواجب والندب منها مطلقا من الوضوء كغسل الجنابة ومال إليه صاحب المدارك . والمشهور بين فقهائنا خلاف ما قاله علم الهدى، ما عندكم فيه أيدكم الله تعالى؟


[ 566 ]

مسألة: ما قولكم في الوضوء هل الغرفة الواحدة الاقتصار عليها أفضل لكل عضو أم الأفضل الغرفتان؟ والأخبار المعتمدة تدل أكثرها على الغرفة الواحدة. والمشهور الغرفتان. وبعض الأخبار تدل عليه فالمأمول منكمأيدكم الله تعالىبيان ما تميلون إليه. مسألة: ما قولكمرضي الله عنكم وأمدكم بطول البقاءفي التيمم هل الضربة الواحدة كافية مطلقا سواء كان التيمم بدلا عن الغسل والوضوء، أم الضربتان مطلقا، أم التفصيل أفضل كما هو المشهور عند الأكثر؟ ما عندكم في ذلكأيدكم الله تعالى؟ مسألة: ما قولكمرضي الله عنكمفي غسل الميت إذا فقد الخليطان من السدر والكافور، هل يكفي الغسل الواحد بالقراح مع القراح أم لابد من التعدد عن كل واحد منهما عنهما بالقراح مع القراح؟ وهل الوجوب واجب في غسل الميت أم ندب أم الأولى؟ مسألة: ماذا تقولونأيدكم الله تعالىفي الوتر التي بعد العشاء، هل القيام في الركعتين أفضل أم الجلوس؟ المشهور عندهم أن الجلوس أفضل. والشهيد الثاني قائل بأن القيام أفضل وابنه صاحب المنتقى يميل إلى ذلك وعليه كان عمله على ما شاهدناه منه (قدس سره) وقد ورد بمختارهما رواية صحيحة . مسألة: ماذا تقولون في التسبيح في الأخيرتين من الرباعية والأخيرة من المغرب، فمن أصحابنا من قال: إن القراءة أفضل من التسبيح مطلقا . والذي يخطر بالبال بأن التسبيح كأنه صار من شعار أصحابنا الإمامية، فينبغي أن يكون أفضل مطلقا ما لم يكن المصلي إماما لأجل المسبوق لا غير، فيعدل الإمام من التسبيح إلى القراءة لأجل المسبوق إن أشعر به خوفا أن تخلو صلاته عن فاتحة الكتاب لورود النص بأنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ” . ولو اختار المصلي القراءة هل المختار


[ 567 ]

الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم أم المختار الإخفات بها؟ وكان شيخنا صاحب المنتقى يختار الإخفات بها إذا قرأ الحمد، وكان السيد (قدس سره) يجهرها، فما المختار عندكم في ذلك؟ مسألة: ما قولكموفقكم الله تعالىفي رفع المصلي بالتكبير ثلاث مرات يديه، جاعلا كفيه حيال وجهه مستقبلا بظاهرهما وجهه وبباطنهما القبلة وهو أول التعقيب؟ وقد اختار ذلك في مفتاح الفلاح وشيخنا صاحب المنتقى لم يمل إلى ذلك لضعف المأخذ، كذا سمعناه منه (قدس سره). فمن أين دليله أيها المولىأيدكم الله تعالى؟ مسألة: قال العلامة في المنتهى: رفع اليدين فوق الرأس مستحب عند فراغك من المكتوبة، لما رواه شيخ الطائفة بسند صحيح عن صفوان بن مهران الجمال، قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) إذا فرغ من صلاته رفع يديه جميعا فوق رأسه . فما السبب في ذلك الرفع لم تظهر العلة فيه، وإن كان الأمر غير لازم، لأن أمرهم (عليهم السلام) متبع، فهل عندكم في ذلك شيء أم لا؟ مسألة: القنوت الثاني من الوتر بعد الركوع وكذلك القنوت الثاني في صلاة الجمعة هل الأرجح فعله أم تركه؟ ورئيس المحدثين في الفقيه يميل إلى تركه وله في كتابه عليه كلام لا يخفى عليكم. فما أنتم قائلون فيه؟ وإن كان المقام مقام استحباب، لكن لا بأس ببيان الوجه الراجح. انتهت المسائل بعون الله تعالى بقلم العبد الفقير المعترف بعدم المعرفة وبالتقصير: حسين بن حسن أقل الخدام المنسوب إلى ظهير الدين بن الحسام، وذلك في سبعة من شوال بسرعة واستعجال، فلا تؤاخذوها أيها المولى الأعظم الأفخم بضعف في العبارة وعدم تدبر في المقال، فإني معترف بالخلل في العلم والعمل. والحمد لله كما هو أهله على كل حال، وأنتم في أمان الله ورعايته


[ 568 ]

ـ[جوابات المسائل الظهيرية] بسم الله الرحمن الرحيم حامدا، مصليا، مسلما يقول الفقير إلى الخبير اللطيف؛ محمد أمين الإسترابادي في جواب شيخنا الفاضل الكامل، العالم العامل، الشيخ حسين بن حسن بن ظهير الدين العامليعامله الله بلطفه الخفي والجلي. قوله: أدام الله أيامه: فالمأمول منكم تأليف كتاب وجيز في الفقهالاقتداء بالقدماءقدس الله أرواحهمفي هذا الباب أولى، وكانت عادتهم الاكتفاء بتأليف الأحاديث، أو تذييل كل باب بما يتعلق بشرح الأحاديث، وبما يتعين العمل به من الحديثين المتناقضين، وقد اخترت الطريقة الثانية في حاشية كتاب الكافي وذكرت فيها ما لم يذكره مصنفه من الأحاديث، وفيها الكفاية إن شاء الله تعالى وتقدس. قوله أيده الله تعالى: هل يكفيني العمل بمجموع ما قاله الفقهاء؟ أقول: المسائل المتعلقة بنفس الأحكام الإلهية ثلاثة أقسام


[ 569 ]

قسم من ضروريات الدين، وقسم من ضروريات المذهب، وقسم ليس هذا ولا ذاك. وحكم القسمين الأولين واضح. وأما القسم الثالث: فلا بد فيه من العمل بالأحاديث المنقولة في الكتب الأربعة، أو في كتاب العلل أو قرب الإسناد أو شبه ذلك، ما لم يكن هناك حديثان متناقضان، وإذا كان حديثان متناقضان فلقدمائنا فيه ثلاثة مسالك، كلها مسموعة من أصحاب العصمة (عليهم السلام): أحدها: ما اختاره الإمام ثقة الإسلام (قدس سره) في كتاب الكافي وهو التخيير في العمل بأيهما شاء. وثانيها: طرح ما هو أقرب من فتاوي العامة والعمل بما هو أبعد. وثالثها: العمل بما هو أقوى صحة، ومع التساوي وجوب الاحتياط إلى ان يظهر الحق. وقد اخترت للجمع بين أحاديث هذا الباب مسلكا رابعا، مركبا من المسالك الثلاثة، وهو: أنه مع علمنا بما هو الأقرب وما هو الأبعد من فتاوي العامة يعمل بالأبعد، ومع عدم علمنا نعمل بما هو أقوى صحة. ومع التساوي، فإن كانت المسألة متعلقة بما فيه خصومة الناسكدين أو ميراث أو نكاح أو طلاق أو وقفنعمل بالاحتياط إلى أن يظهر الحق. وإن لم يكن كذلككما في العبادات المحضةفنحن مخيرون في العمل بأيهما شئنا إلى ان يظهر الحق. وإذا خلت الواقعة عن حكم منقول في تلك الكتب عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) فلا يجوز العمل بالأصل ولا باستصحاب ولا بغير ذلك، بل يجب التوقف. هذا هو المستفاد من كلام أصحاب العصمةصلوات الله وسلامه عليهم. قوله أيده الله تعالى: هل يكفي الإنسان في عقيدته واعتقاده العلم الإجمالي؟ أقول: يستفاد من كلامهمصلوات الله عليهمأن المعرفة التي يتوقف عليها حجية الأدلة السمعية، وهي: معرفة أن لنا صانعا عالما، ومعرفة أن محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) رسول الله إلينا لتعليم أحكامه تعالى وغير ذلك أمر يحدث في قلب من أراد الله تعالى تعلق التكاليف به بطريق الاضطرار بسبب المعجزة بحيث لا يمكنه أن


[ 570 ]

يدفعها عن نفسه. ثم بعد ذلك يتعلق به التكاليف، كالإقرار بالشهادتين وغير ذلك. وأ نه لا يجوز الاعتماد في صفاته تعالى الذاتية والفعلية إلا على كلام أصحاب العصمة، لأن مجرد العقل غير كاف، ولذلك وقعت مشاجرات كثيرة بين فحول الفلاسفة، وبين علماء الإسلام في هذه الأبواب. وأن المعرفة الإجمالية في هذه الأبواب كافية بشرط أن تكون مستفادة من كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) وهي: أن لنا صانعا مباينا في ذاته جميع الأشياء وقادرا على كل ممكن، ومنزها عن كل نقص. وباقي الأمور من المستحسنات، لا من المفروضات. قوله أيده الله تعالى: والذي أعتقده أن جميع ما سوى الله تعالى حادثأقول: ما ذكرتم من العقائدبحمدالله تعالىفي غاية الجودة إلا شيئا واحدا كأنه من سهو القلم، وهو أن قدرته وعلمه يعمان كل مقدور ومعلوم، فإن من معلوماته ما هو ممتنع ذاتي كاجتماع النقيضين وكوجود شريك الباري وكإعدام نفسه. والظاهر أن قصدكم يعمان كل مقدور وممكن، وهو الحق. قوله أيده الله تعالى: فهل يكفيني في التوحيد ما وقع في ذهني من المعرفة الإجمالية؟ أقول: يكفيكم أقل مما ذكرتم وهو الذي ذكرته سابقا. قوله أيده الله تعالى: قال بعض الأفاضل أن باقي الأصول من النبوة والإمامة والمعاد الجسماني مستفاد من الكتاب والسنة النبوية والإماميةأقول: في هذا الكلام نوع غفلة عن أن النبوة حصلت في القلوب بسبب المعجزة بطريق الاضطرار كما هو الحق، أو بطريق الكسب والنظركما ذهبت إليه جماعة من علماء الكلام. ويمكن تأويله وتطبيقه على ما ذكرناه بعناية ما هي: بأن يقال: المراد استفادته من الكتاب من حيث إن الكتاب معجزة، أو بأن يقال: لكون الكتاب في نهاية البلاغة فيه دلالة على كونه كلام الخالق، وفيه تصريح بالنبوة. قوله: وظهر أن تحصيل الإيمان لا يتوقف على تعلم علم الكلام، ولا المنطق، ولا غيره من العلوم المدونة


[ 571 ]

أقول: هذا هو الحق، بل وقع التصريح في الأحاديث بأنه ينبغي أن تعلموا أولادكم حديثنا قبل أن يأتلف قلوبهم بفن الكلام وبالأباطيل المذكورة فيه. قوله أيده الله تعالى: وكأن كلامه بحسب الظاهر سديدأقول: كلامه في غاية الجودة، وهو الحق الصريح، وقد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهارصلوات الله وسلامه عليهمبحرمة الاعتماد على مقتضى أفكار العقول، وبحرمة تعلم فن الكلام وتعليمه، إلا الكلام المؤلف من كلامهمصلوات الله عليهموحرمة الاعتماد على القواعد الأصولية الفقهية الغير المأخوذة من كلام أصحاب العصمةصلوات الله عليهموبأن المعرفة التي يتوقف عليها حجية الأدلة السمعية تحدث في قلوب من أراد الله تعليق التكاليف به بطريق الاضطرار، بحيث لا نقدر على دفعها عن قلبنا إما من غير توقف على ظهور معجزة وهي معرفة أن لنا صانعا عالما، أو بمعونتها وهي معرفة أن محمدا رسول الله إليناصلى الله عليه وآلهوبأن باقي الأمور يستفاد من كلام أصحابه العصمةصلوات الله عليهموبأنه لو استفدناه بأفكارنا ووافق الحق في الواقع لا أجر لنا فيه، ولا يعتمد عليه شرعا. قوله أيده الله تعالى: ما وجه اختلاف أصحابنا الإمامية في المسائل الشرعية سيما المتأخرين منهم، حتى أن الواحد منهم ربما خالف نفسه مرتين أو مرارا؟ أقول: أما اختلاف قدمائناقدس الله أرواحهمفهو ناش عن اختلاف أصحاب العصمة (عليهم السلام) في فتاويهم، صرح بذلك رئيس الطائفة في كتاب العدة واختلاف أصحاب العصمة، لضرورة التقية والشفقة على الرعية. وأما اختلاف المتأخرين فقد يكون من هذا القبيل، وكثيرا ما يكون ناشئا عن عدم الاطلاع على نص أصحاب العصمة، وذلك في الوقائع النادرة الوقوع، بل المعدومة الوقوع أو عن ظنهم ضعف بعض النصوص المنقولة في الكتب الأربعة من أصول قدمائنا المجمع على ورودها عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) وعن تمسكهم


[ 572 ]

بأمارات عقلية وخيالات ظنية كالأصل والاستصحاب، وكالتمسك بإطلاق أو بعموم أو بإجماع خرصي. والحق أن القسم الأول من الاختلاف مرضي، دون الثاني. قوله أيده الله تعالى: ما تقولون فيما نقل عن علم الهدى (رضي الله عنه) من ادعاء الإجماع في مسائل عديدة؛ منها: أنه ادعى الإجماع على وجوب التكبيرات للركوع والسجود والقيام بينهما، ووجوب رفع اليدين بهاأقول: معناه أنه وقع إجماع قدمائنا وفيهم بعض أصحاب العصمة (عليهم السلام) على ورود وجوب ذلك من صاحب الشريعة، لكن الوجوب في كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) وفي كلام قدمائنا يطلق على الاستحباب المؤكد كما في غسل يوم الجمعة. والشائع في كلامهم إطلاق المكتوب و الفرض و المفروض على ما يستحق تاركه العقاب، يشهد بذلك اللبيب المتتبع. قوله أيده الله تعالى: ومنها دعواه الإجماع أن أقل النفاس ثمانية عشر يوما. أقول: معناه انعقد الإجماع على ورود ذلك عن بعض أصحاب العصمة (عليهم السلام). ومن المعلوم: أن الورود عن معصوم لا يستلزم كونه حكم الله في الواقع، لاحتمال وروده من باب التقية. وتوضيح ذلك: أن جمعا من أصحاب باقر العلوم والصادقصلوات الله عليهماأجمعوا كتبا ما سمعوه منهما، ثم عرضت تلك الكتب على الجواد وغيره من متأخري الأئمة (عليهم السلام) فقالوا: كلها صحيح، يعني وارد من الأئمة المتقدمينصلوات الله عليهموليس فيهم افتراء عليهم (عليهم السلام) فمن أجل ذلك انعقد في ثاني الحال إجماع الطائفة على صحة الأحاديث المروية في تلك الكتب، وفي جملتهم الجواد (عليهم السلام). ومن المعلوم: أن صحة النقل لا يستلزم كون المنقول حكم الله في الواقع، لجواز ورود المنقول من باب التقية والشفقة على الرعية، وعليه فقس أشباه ذلك. قوله أيده الله تعالى: فما المراد بإجماعهما؟ أقول: مرادهما أنه انعقد الإجماع على ورود هذا المعنى عن بعض أصحاب


[ 573 ]

العصمة (عليهم السلام) وقد ذكرنا أنه قد يكون ورودها من باب التقية، ولأجل ذلك قد يترك العمل به. قوله أيده الله تعالى: وكذلك دعوى جماعة من الفقهاء الإجماع كمحمد بن إدريس، والعلامة الحليأقول: مرادهما في بعض الصور ما ذكرنا من انعقاد الإجماع على ورود ذلك عن بعض أصحاب العصمة (عليهم السلام) وفي بعض الصور اتفاق ظنون مجتهدي عصر واحد على ذلك. والأول مرضي ان لم يعلم أن وروده من باب التقية، والثاني غير مرضي. قوله: مسألة في صلاة الجمعة أما مع حضور الإمام (عليه السلام) فلا كلامأقول: المستفاد من كلام أصحاب العصمة (عليهم السلام) ما اختاره الشهيد الثاني (رحمه الله) في رسالة الجمعة. قوله أيده الله تعالى: القول الثالث أن الوجوب التخييري مشروط بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى حال الغيبةأقول: هذا القول وأشباهه من الخيالات الظنية التي لا يعتمد عليها. قوله: أيده الله تعالى: لو قيل بالوجوب العيني زمن الغيبة فهل تجب المهاجرة من المحل الذي لا يتمكن المكلف من الإتيان بها؟ أقول: تجب عليه المهاجرة إلى بلد يظن أنه يتمكن من ذلك فيه، لكن إذا لم يكن حرج بين في المهاجرة. وأظن أن مثل هذا البلد مفقود، فإن فقهاء العجم لقلة معرفتهم بالأحاديث يتخاصمون في هذه المسائل أشد خصومة. ومن المعلوم: عدم التمكن في غير بلاد العجم. قوله: لو قيل: إنها أفضل الفردين الواجبين، هل تترجح المهاجرة؟ أقول: نعم! راجح بلا شك، لكن بلاد التمكن مفقود الآن، فإن في بلاد العجم كذلك يجب التقية، لشدة شوكة الفقهاء الغير الواصلين إلى عمق الأحاديث. قوله: مسألة ما قولكم في تقصير المسافر في البريد وهو أربع فراسخ؟ أقول: حصل لي اليقين بأنه يجب التقصير في أربعة فراسخ، وبأنه لا يشترط الرجوع ليومه في ذلك من تتبع كلامهمصلوات الله عليهموبأن المراد من


[ 574 ]

الأحاديث المشتملة على ثمانية فراسخ أن يكون الذهاب أربعة والإياب أربعة. والأحاديث الواردة في تقصير أهل مكة في عرفات إذا انضمت إلى غيرها من الأحاديث توجب اليقين للبيب اليقضان النفس لا لغيره. قوله أيده الله تعالى: ما قولكمرضي الله عنكمفي الحبوة التي انفردت بها الإمامية؟ أقول: سياق كلامهمصلوات الله عليهمالاقتصار على ما استعمله الميت في زمن حياته من الأشياء المذكورة، فكتب الحديث وفعل بعض الأئمة (عليهم السلام) يقتضى أن تحسب تلك الأشياء على الولد من نصيبه، وكذلك سياق بعض أقوالهم صريح في ذلك، ولما كانت كتبي في الطائف ما اشتغلت بذكر الأكثر، فلكم أن ترجعوا إلى الكتب الأربعة وأشباهها من الأصول، وتعينوا الأكثر. وأما رد بعض المتأخرين كثيرا من أحاديث تلك الكتب بضعف سنده فهو زعم ناش من الغفلة عما نقلناه في الفوائد المدنية عن كتاب العدة لرئيس الطائفة، وعن سيدنا الأجل المرتضى، وعن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، وعن شيخنا الصدوق، وعن غيرهم من أهل التحقيق. قوله أيده الله تعالى: مسألة، ماذا تقولون في حرمان الزوجة من بعض متروكات زوجها الميت؟ أقول: الحق أن الزوجة مطلقا تمنع من الأرض مطلقا، ومن البناء عينا لا قيمة. قوله: مسألة، ماذا تقولون فيما إذا أحدث المجنب في أثناء غسل الجنابة حدثا أصغر؟ أقول: المختار إعادة الغسل، لورود التصريح بذلك فيما ورد عنهم (عليهم السلام) ولو تنزلنا عن ذلك لوجبت الإعادة للاحتياط المأمورية في كثير من الروايات البالغة حد التواتر المعنوي. وأما غير ذلك من الأقوال فهو من الخيالات التي لا يعتد بها. قوله أيده الله تعالى: ماذا تقولون في غسل الإحرام؟


[ 575 ]

أقول: ظاهر تأكد استحبابه. قوله أيده الله تعالى: ماذا تقولون في مستحق الزكاة؟ أقول: يستفاد من كلامهمصلوات الله عليهمأنه لابد في إمام الجماعة، وفي مستحق الزكاة أن يكون مواظبا على الصلوات، ولم يكن مجاهرا بالفسق إلا إذا كان مستحق الزكاة صغيرا. ويستفاد أيضا: أن العدالة المعتبرة في باب الشهادة وباب إمامة الجماعة معناه: أن يرى مواظبا على الصلوات غير مجاهر بالفسق، ولابد من اختبار ذلك أو تزكية شاهدين اختبراه أو الشياع. واجتماع رواية عبد الله بن أبي يعفور المنقولة في الفقيه واقتداء جمع من أصحاب الصادق (عليه السلام) بيهودي في الواقع. وإفتاؤه (عليه السلام) بعدم وجوب الإعادة والروايات الواردة في رجوع الشاهد عن شهادته في الذهن يعطي ما ذكرناه. قوله: ماذا تقولون في التربة المشوية من التربة الحسينية؟ أقول: الحق أنها لا تخرج عن استحقاق إطلاق الأرض عليها، وأ نه يجوز السجود عليها والتيمم بها لأجل ذلك. قوله أيده الله تعالى: ما قولكمفي بقية الأغسال غير غسل الجنابة، هل لابد معه الوضوء أم لا؟ سواء كانت واجبة أو مندوبة؟ أقول: الحق ما أفاده سيدنا الأجل المرتضىرضي الله عنهواستحباب الوضوء قبل غسل الحيض وقبل غسل الإحرام وغير ذلك من الأغسال، لا ينافي ما أفاده سيدنا الأجل (رضي الله عنه)، والروايات الدالة على نقيض ما أفاده سيدنا الأجل، وردت من باب التقية والشفقة على الرعية. قوله أيده الله تعالى: ما قولكم في الوضوء هل الغرفة الواحدة

اترك تعليقاً