الفوائد المدنية
محمد أمين الإسترآبادي
[ 27 ]
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمدا لله باعث النبيين وناصب الأوصياء المعصومين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى أصحاب سره وأبواب مدينة علمه الأئمة الطاهرين المطهرين الحافظين للدين. فأقول: اني بعد ما قرأت الأصولين على معظم أصحابهما واستفدت حقائقهما ودقائقهما من كمل أربابهما، وتحملت الأحاديث المنقولة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) من جل رواتها العارفين بحقائقها الواصلين إلى دقائقها وأخذت علم الفقه من أفواه جماعة من فقهاء أصحابناقدس الله أرواحهمعرضت على تلك الأحاديث قواعد الأصولين المسطورة في كتب أصول الخاصة وكتب العامة والمسائل
[ 28 ]
الاجتهادية الفقهية فوجدتهما في مواضع لا تعد ولا تحصى مخالفتين لمتواتراتها، فصرفت عمري دهرا طويلا في المدينة المنورةعلى مشرفيها ألف صلاة وسلام وتحيةفي تنقيح الأحاديث وتحقيقها، حتى فتح الله تعالى علي أبواب الحق فيما يتعلق بالأصولين وبالمسائل الفقهية وغيرهما ببركات مدينة العلم وأبوابها
[ 29 ]
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . ولما أراد جمع من الأفاضل في مكة المعظمة قراءة بعض الكتب الأصولية لدي جمعت فوائد مشتملة على جل ما استفدته من كلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) مما يتعلق بفن أصول الفقه وطرف مما يتعلق بغيره وسميتها ب ” الفوائد المدنية ” في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد أي اتباع الظن في نفس الأحكام الإلهية، وهي مشتملة على مقدمة واثني عشر فصلا وخاتمة
[ 30 ]
المقدمة في ذكر ما أحدثه العلامة الحلي وموافقوه، خلافا لمعظم الإمامية أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وهو أمران: أحدهما: تقسيم أحاديث كتبنا المأخوذة عن الأصول التي ألفها أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بأمرهملتكون مرجعا للشيعة في عقائدهم وأعمالهم، لا سيما في زمن الغيبة الكبرى؛ لئلا يضيع من كان في أصلاب الرجال من شيعتهمإلى أقسام أربعة. وعلى زعمه معظم تلك الأحاديث الممهدة في تلك الأصول بأمرهم (عليهم السلام) غير صحيح، وزعمه هذا نشأ من حدة ذهنه واستعجاله في التصانيف، وهو بين أصحابنا نظير الفخر الرازي بين العامة
[ 31 ]
والثاني: اختيار أنه ليس لله تعالى في المسائل التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب دليل قطعي، وأنه تعالى لذلك لم يكلف عباده فيها إلا بالعمل بظنون المجتهدين أخطأوا أو أصابوا، وانجر كلامه هذا إلى التزامه كثيرا من القواعد الأصولية المسطورة في كتب العامة المخالفة لما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وهو كان في غفلة عن ذلك. ولما ألهمني ربي بذلك ووجب علي إظهاره، لم تأخذني في الله لومة لائم فأظهرته، والله يعصمني من الناس
[ 32 ]
الفصل الأول: في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله أو بحكم ورد عنهم (عليهم السلام). والثاني: في بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين من المسائل الشرعية، أصلية كانت أو فرعية في السماع عن الصادقين (عليهم السلام). والثالث: في إثبات تعذر المجتهد المطلق. والرابع: في إبطال حصر الرعية في المجتهد والمقلد في زمن الغيبة. والخامس: في بيان أن في كثير من المواضع يحصل الظن على مذهب العامة دون الخاصة. والسادس: في سدالأبواب التي فتحتها العامة للاستنباطات الظنية بوجوه تفصيلية. والسابع: في بيان من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والافتاء. والثامن: في جواب الأسئلة المتجهة على ما استفدناه من كلامهم (عليهم السلام) ومن كلام قدمائناقدس الله أرواحهم . والتاسع: في تصحيح أحاديث كتبنا بوجوه كثيرة، تفطنت بها بتوفيق الله تعالى، وفي جواز التمسك بها لكونها متواترة النسبة إلى مؤلفيها وفي بيان القاعدة التي وضعوها (عليهم السلام) للخلاص من الحيرة في باب الأحاديث المتخالفة
[ 33 ]
والعاشر: في بيان الاصطلاحات التي يعم بها البلوى. والحادي عشر، والثاني عشر: في التنبيه على طرف من الأغلاط والترددات التي وقعت من فحول العلماء الأعلام، ليتضح عند أولي الألباب أن عمدة الخطأ أو التحير التي وقعت من العلماء في أفكارهم إنما نشأت من الخطأ في مقدمة هي مادة المواد في بابها، أو من التردد فيها
[ 34 ]
وليعلم أن المنطق غير عاصم عن هذا النوع من الخطأ، وغير نافع في الخلاص عن هذا التحير والتردد، بل لابد فيهما من التمسك بأصحاب العصمة (عليهم السلام). والخاتمة: في نقل طرف من كلام قدمائناقدس الله أرواحهمليكون فذلكة لما فصلناه. وإن أحطت خبرا بما في كتابنا هذا تجد فيه حقائق ودقائق خلت عنها كتب
[ 35 ]
الأولين والآخرين من الحكماء والفقهاء والمتكلمين والأصوليين، وهي أنموذج مما أعطاني ربي جل وعز، وأسأل الله التوفيق لإتمام ما أنا مشتغل به من شرحي لأصول كتاب الكافي، وشرحي لتهذيب الحديث، وردي لما أحدثه الفاضلان المتخاصمان المشككان المستعجلان في حواشي الشرح الجديد للتجريد وفوائدي المتعلقة بدقائق الفنون الغريبة وحقائقها المخفية، والله الموفق للصواب وإليه
[ 36 ]
المرجع والمآب
[ 37 ]
فائدة قد اشتهر في كتب بعض المتأخرين من فضلائنا الأصوليين المتبحرينكالعلامة الحلي ومن وافقهأن في زمن الغيبة تنقسم الرعية إلى مجتهد ومقلد، وأ نه يجب على المقلد أن يرجع إلى ظن المجتهد في المسائل الشرعية التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب، وأن المجتهد المطلق هو الذي يتمكن من استنباط كل مسألة شرعية فرعية نظرية، وذكروا أن ذلك التمكن إنما يحصل بأن يعرف مدارك جميع الأحكام الشرعية، وأن تلك المعرفة تتحقق بمعرفة جميع المقدمات الست وهي: الكلام، والأصول، والنحو والتصريف ولغة العرب، وشرائط الأدلة، والأصول الأربعة، وهي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل. وذكر العالم الرباني الشهيد الثانيقدس الله سرهفي بعض كتبه الفقهية في مبحث القاضي: أن المعتبر من الكلام: ما يعرف به الله تعالى وما يلزمه من صفات الجلال والإكرام وعدله وحكمته، ونبوة نبينا (صلى الله عليه وآله) وعصمته، وإمامة الأئمة (عليهم السلام) كذلك، ليحصل الوثوق بخبرهم ويتحقق الحجة به، والتصديق بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من أحوال الدنيا والآخرة، كل ذلك بالدليل التفصيلي . ولا يشترط الزيادة على ذلك بالاطلاع على
[ 38 ]
ما حققه المتكلمون من أحكام الجواهر والأعراض، وما اشتملت عليه كتبه من الحكمة والمقدمات والاعتراضات وأجوبة الشبهات، وإن وجب معرفته كفاية من جهة أخرى. ومن ثم صرح جماعة من المحققين بأن الكلام ليس شرطا في التفقه، فإن ما يتوقف عليه منه مشترك بين سائر المكلفين. ومن الأصول: ما يعرف به أدلة الأحكام من الأمر والنهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والبيان وغيرها مما اشتملت عليه مقاصده. ومن النحو والتصريف: ما يختلف المعنى باختلافه ليحصل بسببه معرفة المراد من الخطاب. ولا يعتبر الاستقصاء فيه على الوجه التام بل يكفي الوسط منه فما دون. ومن اللغة: ما يحصل به فهم كلام الله تعالى ورسوله ونوابه (عليهم السلام) بالحفظ أو الرجوع إلى أصل مصحح يشتمل على معاني الألفاظ المتداولة في ذلك
[ 39 ]
ومن شرائط الأدلة: معرفة الأشكال الاقترانية والاستثنائية وما يتوقف عليه من المعاني المفردة وغيرها. ولا يشترط الاستقصاء في ذلك بل يقتصر على المجزئ منه، وما زاد عليه فهو مجرد تضييع للعمر وترجئة للوقت. والمعتبر من الكتاب الكريم: معرفة ما يتعلق بالأحكام وهو نحو من خمسمائة آية، إما بحفظها أو فهم مقتضاها ليرجع إليها متى شاء، ويتوقف على معرفة الناسخ منها من المنسوخ ولو بالرجوع إلى أصل يشتمل عليه. ومن السنة: جميع ما اشتمل منها على الأحكام ولو في أصل مصحح رواه عن عدل بسند متصل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ويعرف الصحيح منها والحسن والموثق والضعيف والموقوف والمرسل والمتواتر والآحاد، وغيرها من الاصطلاحات التي دونت في دراية الحديث، المفتقر إليها في استنباط الأحكام، وهي أمور اصطلاحية
[ 40 ]
توقيفية لا مباحث علمية. ويدخل في أصول الفقه معرفة أحوالها عند التعارض وكثير من أحكامها. ومن الإجماع والخلاف: أن يعرف أن ما يفتي به لا يخالف الإجماع، إما بوجود موافق من المتقدمين، أو بغلبة ظنه على أنه واقعة متجددة لم يبحث عنها السابقون بحيث حصل فيها أحد الأمرين لا معرفة كل مسألة أجمعوا عليها أو اختلفوا. ودلالة العقل من الاستصحاب والبراءة الأصلية وغيرهما داخلة في الأصول. وكذا معرفة ما يحتج به من القياس، بل يشتمل كثير من مختصرات أصول الفقهكالتهذيب ومختصر الأصول لابن الحاجبعلى ما يحتاج إليه من شرائط الدليل المدون في علم الميزان، وكثير من كتب النحو على ما يحتاج إليه من التصريف. نعم، يشترط مع ذلك كله أن يكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطها منها. وهذه هي العمدة في هذا الباب، وإلا فتحصيل تلك المقدمات قد صارت في زماننا سهلة، لكثرة ما حققه العلماء والفقهاء فيها وفي بيان استعمالها، وإنما تلك القوة بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين﴾ وإذا تحقق المفتي بهذا الوصف وجب على الناس الترافع إليه وقبول قوله والتزام حكمه، لأنه منصوب من الإمام (عليه السلام)ـ
[ 41 ]
على العموم بقوله: ” انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا وعرف أحكامنا فاجعلوه قاضيا فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ” وفي بعض الأخبار : ” فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله عزوجل ” انتهى كلامهأعلى الله مقامه . أقول: المراد من الآية الشريفة ونظائرها سلوك طريق مهده الله تعالى وأوجب سلوكها، وهو الإقرار والاعتراف بما جاء به صاحب المعجزة، ثم أخذ كل ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية منه بواسطة أو بدونها. وأقول: زعم جمع من متأخري أصحابنا دلالة هذين الخبرين وأشباههما على وجوب اتباع ظن صاحب الملكة المخصوصة، سواء استند ظنه إلى استصحاب حكم سابق على طرق الحالة الجديدة، أو إلى البراءة الأصلية، أو إلى عموم آية أو إطلاقها أو إلى ملازمة عقلية قطعية بزعمهم، أو إلى جمع بين حديثين متعارضين بتأويل بعيد، أو إلى غير ذلك من أسباب الظن. والمنصف اللبيب يقطع بعدم دلالتها على ما زعموه وبدلالتها على الرجوع إلى رواة أحاديثهم (عليهم السلام) كما صرح به إمام الزمان ناموس العصر والأوانصلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائهوسيجئ توضيحه في كتابنا هذا. وذكر [بحرالعلوم المؤيد من الحي القيوم] علامة المشارق والمغارب العلامة الحلي (رحمه الله) في كتابه المسمى ب ” مبادئ الوصول إلى علم الأصول ” في باب الاجتهاد: الحق أن المصيب واحد وأن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا، وأن عليه دليلا ظاهرا لا قطعيا، والمخطئ بعد الاجتهاد غير مأثوم انتهى كلامه (رحمه الله)ـ
[ 42 ]
وذكر في كتاب تهذيب الأصول: الحادثة إن نزلت بالمجتهد في نفسه عمل على ما أداه اجتهاده إليه، فإن تساوت الأمارات تخير أو عاد إلى الاجتهاد. وإن تعلقت بغيره وكان مما يجري فيه الصلح كالمال اصطلحا أو ترافعا إلى حاكم يفصل بينهما، ولا يجوز الرجوع بعد الحكم. وإن لم يجر فيه الصلح كالطلاق بصيغة يعتقدها أحدهما دون الآخر رجعا إلى حاكم غيرهما، سواء كان صاحب الواقعة مجتهدا أو حاكما أو لا، إذ ليس للحاكم أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من قبله من يقضي بينهما. وإن نزلت بالمقلد رجع إلى المفتي، فإن تعدد رجع إلى ما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا عمل بالأعلم الأزهد، فإن تساويا تخير. وإن حكم بوقوع الخلع ثلاثا فسخا
[ 43 ]
فنكح ثم اعتقد مساواته للطلاق فالأقرب بقاء النكاح، لأن حكم الحاكم لما اتصل بالنكاح تأكد فلا يفسد بتغير الاجتهاد، أما لو اعتقد قبل النكاح فإنه يحرم عليه إمساكها. ولو كان الزوج عاميا فأمسك بقول المفتي، ثم تغير اجتهاد المفتي فالأقرب أ نه يرجع عن النكاح، لأن الحكم أقوى من الإفتاء، فإن الحكم لا ينقض إلا أن يخالف دليلا قطعيا، لا ظاهرا. وذكر فيه: المجتهد إن ذكر دليل فتياه أولا لم يجب تكرير الاجتهاد، وإلا اجتهد، فإن خالف أفتى بالثاني وعرف المستفتي رجوعه، ولو لم يجتهد فهل له البناء على الأول والإفتاء بذلك الاجتهاد؟ الأقرب ذلك. وذكر فيه: العامي يجب عليه التقليد في الفروع إذا لم يتمكن من الاجتهاد، وإن تمكن من فعل الاجتهاد تخير بينه وبين الاستفتاء، وكذا إن كان عالما لم يبلغ رتبة الاجتهاد. أما لو كان عالما بلغ رتبة الاجتهاد واجتهد لم يجزله العدول إلى قول المفتي . وذكر في مبادئ الوصول إلى علم الأصول: الاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية على وجه لا زيادة فيه، ولا يصح في حق النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب فلا يجوز تعبده (صلى الله عليه وآله) به. وكذلك لا يجوز لأحد من الأئمة (عليهم السلام) الاجتهاد عندنا، لأنهم معصومون، وإنما أخذوا الأحكام بتعليم الرسول (صلى الله عليه وآله) أو بإلهام من الله عز وجل. وأما العلماء فيجوز لهم الاجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات في القرآن والسنة وترجيح الأدلة المتعارضة، أما بأخذ الحكم عن القياس والاستحسان فلا
[ 44 ]
ثم ذكر فيه: البحث الثاني في شرائط المجتهد: وينظمها شيء واحد، وهو أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام، وهذه المكنة إنما تحصل بأن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه، وبحكمة الله تعالى وعصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) ليحصل له الوثوق بإرادة ما يقتضيه ظاهر اللفظ إن تجرد، وغير ظاهره مع القرينة وعالما بتجرد اللفظ أو عدم تجرده من التخصيص والنسخ، وبشرائط المتواتر والآحاد، وبجهات الترجيح عند تعارض الأدلة، وهذا إنما يحصل بمعرفة الكتاب لا بجميعه، بل بما يتعلق بالأحكام منه وهو خمسمائة آية، ومعرفة الأحاديث المتعلقة بالأحكام لا بمعنى أن يكون حافظا لتلك، بل يكون عالما بمواقع الآيات حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها، وعنده أصل محقق يشتمل على الأحاديث المتعلقة بالأحكام، وأن يكون عالما بالإجماع لئلا يفتي بما يخالفه، وأن يكون عارفا بالبراءة الأصلية، ولابد أن يكون عالما بشرائط الحد والبرهان واللغة والنحو والتصريف، ويعلم الناسخ والمنسوخ وأحوال الرجال. إذا عرفت هذا، فالحق أنه يجوز أن يحصل الاجتهاد لشخص في علم دون آخر بل في مسألة دون أخرى، وإنما يقع الاجتهاد في الأحكام الشرعية إذا خلت عن دليل قطعي . وذكر في تهذيب الأصول: المجتهد فيه: حكم شرعي ليس عليه دليل قطعي، فخرج بالشرعي الأحكام العقلية، وبنفي الدليل القاطع ما علم كونه من الشرع ضرورة كوجوب الصلاة والزكاة . وذكر الضابط فيه: بحيث تمكن المكلف من إقامة الدليل على المسائل الفرعية، وإنما يتم ذلك له بأمور: أحدها: معرفة اللغة ومعاني الألفاظ الشرعية لا بالجميع، بل بما يحتاج إليه في
[ 45 ]
الاستدلال، ولو راجع أصلا صحيحا عنده في معاني الألفاظ جاز، وتدخل فيه معرفة النحو والتصريف، لأن الشرع عربي لا يتم إلا بمعرفتهما، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وثانيها: أن يكون عارفا بمراد الله تعالى من اللفظ، وإنما يتم ذلك لو عرف أنه لا يخاطب بما لا يفهم معناه ولا بما يريد به خلاف ظاهره من غير بيان، وإنما يتم ذلك لو عرف أنه تعالى حكيم، وهو يتوقف على علمه تعالى بالقبيح وباستغنائه عنه والعلم بصدق الرسول (عليه السلام) وأصول قواعد الكلام. وثالثها: أن يكون عارفا بالأحاديث الدالة على الأحكام إما بالحفظ أو بالرجوع إلى أصل صحيح، وأحوال الرجال ليعرف صحيح الأخبار من معتلها، ويعرف أيضا من الكتاب ما تستفاد منه الأحكام وهو خمسمائة آية، ولا يشترط حفظها بل معرفة دلالتها ومواضعها بحيث يجدها عند طلبها. ورابعها: أن يكون عارفا بالإجماع ومواقعه بحيث لا يفتي بما يخالفه. وخامسها: أن يعرف أدلة العقل كالبراءة الأصلية والاستصحاب وغيرهما. وسادسها: أن يعرف شرائط البرهان. وسابعها: أن يعرف الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد وغيرها من طرق الأحكام. وثامنها: أن تكون له قوة استنباط الأحكام الفرعية من المسائل الأصولية وذكر: الأمارتان إن تعادلتا في حكم واحد وتنافى الفعلان جاز، كتوجه المصلي إلى جهتين غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة، فالحكم وهو الوجوب واحد فيتخير المجتهد. وإن اتحد الفعل وتنافى الحكم كالأمارة الدالة على قبح الفعل والأمارة الدالة على وجوبه أو جوازه، فمنع قوم منه شرعا وإن جاز عقلا. أما الجواز فلإمكان إخبار عدلين بحكمين متنافيين وأما عدم الوقوع فلأن العمل بهما يقتضي وجوب الفعل وتحريمه على مكلف واحد، وتركهما يقتضي
[ 46 ]
العبث بوضعهما، إذ وضع أمارة لا يمكن العمل بها عبث، والعمل بإحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح. وجوزه قوم وهو الأقرب، والحكم هنا التخيير أيضا. ولا يلزم من التخيير بين أمارة الوجوب والإباحة الإباحة، لأن المجتهد إن أخذ بأمارة الإباحة ثبت في حقه [وإن أخذ بأمارة الوجوب ثبت في حقه] كالمسافر إذا حصل في مكان يتخير فيه بين الإتمام والقصر، فإن صلى بنية القصر سقط عنه وجوب الركعتين، وإن صلى تاما كان واجبا. وكمن عليه درهمان إذا قال له المالك: إن دفعت إلي الدرهمين فلي الأخذ، وإن دفعت إلي أحدهما أسقطت الآخر عنك انتهى كلامه. أقول: تحرير محل النزاع أن تعادل الأمارتين إما في حال من أحوال متعلقات حكم الله تعالى، مثلا حكم الله تعالى وجوب التوجه إلى الكعبة وتعادل الأمارتين في أن الكعبة في الجنوب أو في الشمال. وإما في نفس حكم الله تعالى، مثلا: الوتر واجب أو غير واجب. فاتفق الأصوليون على جواز التعادل في الصورة الأولى، واختلفوا في جوازه في الصورة الثانية، فقال بعضهم: لا يجوز تبليغ الشريعة إلى العباد تبليغا ينتهي وصول أمارتين متعادلتين في حكم من أحكامه تعالى، لأنه يلزم أحد المحذورات المذكورة والحق هذا المذهب كما سيجيء بيانه في كتابنا هذا. وأما ما قد يتفق من تعادل الحديثين في بعض أبواب الفقه فهو من باب ضرورة التقية، ومحل النزاع أنه إذا لم يكن ضرورة كيف يكون الأمر؟ ثم ذكر: إذا عرفت هذا، فإن عرض التساوي للمجتهد تخير، وإن كان للمفتي خير المستفتي، وإن كان للحاكم عين ما شاء وله الحكم بإحداهما في وقت والأخرى في آخر لشخصين. وإن تعارض الدليلان فإما أن يكونا ظنيين فالحق الترجيح بينهما فيعمل بالراجح، وإلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو باطل، وإن أمكن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه تعين. وإما أن يكونا يقينيين فالتعارض بينهما محال، إلا أن يكون أحدهما قابلا للتأويل بالآخر بحيث يمكن
[ 47 ]
الجمع بينهما كالعام المقطوع نقله والخاص المظنون نقله . وذكر في كتاب المبادئ: لا يتعارض دليلان قطعيان، وهل يتعارض الظنيان؟ جوزه قوم لإمكان أن يخبرنا اثنان عدلان بحكمين متنافيين ولا يترجح أحدهما على الآخر. ومنع منه آخرون، لأنه لو تعارض دليلان على كون هذا الفعل مباحا ومحظورا فإن لم يعمل بهما أو عمل بهما لزم المحال، وإن عمل بأحدهما على التعيين لزم الترجيح من غير مرجح، أو لا على التعيين وهو باطل، لأ نا إذا خيرنا بين الفعل والترك فقد سوغنا له الترك فيكون ذلك ترجيحا لدليل الإباحة، وقد تقدم بطلانه. والأول عندي أقوى. والجواب عن الثاني: أن التخيير ليس إباحة، لأنه يجوز أن يقال له: إن أخذت بدليل الإباحة فقد أبحت لك، وإن أخذت بدليل الحظر فقد حرمت عليك، كمن عليه درهمان فقال له صاحبهما: قد تصدقت عليك بأحدهما إن قبلت، وإن لم تقبل وأتيت بالدرهمين قبلتهما عن الدين، فإن من عليه الدين مخير إن شاء أتى بدرهم، وإن شاء دفع درهمين عن الواجب. وكذا نقول في المسافر إذا حضر في أحد الأمكنة الأربعة التي يستحب فيها التمام، فإنه مكلف بركعتين إن شاء الترخص، وبأربع وجوبا إن لم يرده. إذا عرفت هذا، فالتعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان حكمه التخيير، وإن وقع للمفتي كان حكمه أن يخير المستفتي، وإن وقع للحاكم كان حكمه العمل بأحدهما ووجب عليه التعيين . وذكر في ترجيح الأخبار: الخبر الذي رواته أكثر أو أعلى سندا، أو كان رواته أعلم أو أزكى أو أزهد أو أذكر أو أشهر راجح، والفقيه أرجح من غيره، والأفقه أرجح، والعالم بالعربية أرجح، والأعلم بها أرجح من العالم، وصاحب الواقعة أرجح، والمجالس للعلماء أرجح، والمعلوم عدالته بالاختبار أرجح من المزكى، والمزكى
[ 48 ]
بالأعلم أولى، والأشد ضبطا أرجح، والجازم أرجح من الظان، والمشهور بالرئاسة أرجح من غيره، والمتحمل وقت البلوغ أرجح، وذاكر السبب أولى، وراوي اللفظ أرجح من راوي المعنى، والمعتضد بحديث غيره أرجح، والمدني أرجح من المكي، لقلة المكي بعد المدني، والوارد بعد ظهور النبي (صلى الله عليه وآله) أرجح، وذو السبب أولى، والفصيح أولى من الركيك، ولا يرجح الأفصح على الفصيح، والخاص متقدم، والدال بالوضع الشرعي أو العرفي أولى من اللغوي، والحقيقة أولى من المجاز، والدال بوجهين أولى من الدال بوجه واحد والمعلل أولى، والمؤكد أولى، وما فيه تهديد أولى، والناقل عن حكم الأصل راجح على المقرروقيل: بالعكسوالمشتمل على الحظر راجح عند الكرخي على المشتمل على الإباحة ومستويان عند أبي هاشم، والمثبت للطلاق والعتاق مقدم على النافي عند الكرخي، لموافقته الأصل، ومستويان عند آخرين، والنافي للحد راجح على المثبت، والذي عمل به بعض العلماء أرجح من الذي تركه إذا كان بحيث لا يخفى عليه . وذكر في تهذيب الأصول: الفقه عرفا العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة، فخرج العلم بالذوات وبالأحكام العقلية، وكون الإجماع وخبر الواحد ونظائرهما حجة، وعلم المقلد، والأصول الضرورية كالصلاة والزكاة. وظنية الطريق لا تنافي علمية الحكم، وليس المراد العلم بالجميع فعلا، بل قوة قريبة منه انتهى كلامه. وأقول: قد جرت عادة الحكماء والمتكلمين بجعل كل فن عبارة عن مسائل نظرية مخصوصة، وعن معرفات أطرافها وحجج إثباتها. ثم الفقهاء أرادوا سلوك تلك الطريقة فأخرجوا ضروريات الدين عن الفقه، ويلزمهم خروج ضروريات المذهب أيضا وإن لم يلتزموه، ويلزمهم خروج كثير من الأحكام الشرعية الفرعية عن الفقه. ومن المعلوم أنه غير مستحسن. والباعث للحكماء على ما فعلوا أن في باب التعليم والتعلم تدوين المسائل
[ 49 ]
البديهية ليس بمستحسن، فالفقهاء ظنوا أن ذلك الباعث جار هنا، وليس كذلك، لأنه ليس شيء من الأحكام الشرعية بديهيا بمعنى أنه لا يحتاج إلى دليل، والسبب في ذلك أن كلها محتاج إلى السماع من صاحب الشريعة. وبالجملة: وضوح الدليل لا يستلزم بداهة المدعى. وذكر السيد السند العلامة الأوحد السيد جمال الدين محمد الإسترابادي (قدس سره) في شرحه : هذا جواب سؤال مشهور وهو: أن العلم هو التصديق اليقيني والتصور، والفقه من باب الظنون فكيف يصح أخذ العلم في تعريفه؟ وملخص الجواب: أن الفقه من أقسام العلم وإن وقع في مقدماته الظن، وتحرير المقام: أن المجتهد بعد ما تعلق ظنه بحكم يرتب دليلا هكذا: هذا ما تعلق به ظن المجتهد، وكل ما تعلق به ظن المجتهد واجب العمل، ويأخذ نتيجته وهو قولنا: هذا واجب العمل، والمقدمتان قطعيتان. أما الأولى: فلأنها وجدانية كإدراكنا الجوع والعطش. وأما الثانية: فهي إجماعية، هكذا قالوا. وفيه بحث، لأن المقدمة الثانية قد أورد عليها أن الإجماع لا يفيد إلا الظن في هذه الصورة. وأجيب عنه بأن هذه المقدمة متواترة بالمعنى فهي يقينية؛ هكذا قال صاحب التلويح انتهى كلامه. أقول: توضيح المقام: أنه كان الشائع بين علماء العامة التمسك بآيات وروايات ظنية من جهة الدلالة أو من جهة المتن في جواز العمل بظن المجتهد المتعلق بنفس أحكامه تعالى، ولما وصلت النوبة إلى ابن الحاجب وتفطن بأن هذا التمسك يشتمل على دور بين واضح أحدث دليلا آخر قطعيا بزعمه، وهو أنا نعلم بالتواتر أن الصحابة الكبار عدلوا عن الظواهر القرآنية المانعة عن العمل بظن المجتهد المتعلق بنفس أحكامه تعالى، ولنا مقدمة عادية قطعية هي أن مثل هذا العدول لم يقع عن
[ 50 ]
مثل هؤلاء الأجلاء إلا بسبب نص صريح قطعي الدلالة سمعوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) . وأقول: فيه بحث، لأن العادة قاضية بأنه لو صدر مثل هذا النص لظهر واشتهر وصار من ضروريات الدين، لتوفر الدواعي على أخذه وضبطه ونشره، وعدم وقوع فتنة توجب إخفاءه، وقد اعترفوا بانتفاء التالي وسيجئ زيادة تحقيق لهذا المقام في كلامنا إن شاء الله تعالى. وأقول: تحقيق المقام أن حاصل المقدمة الثانية عند المصوبة من الأصوليين أن كل ما تعلق به ظن المجتهد فهو حكم الله الواقعي في حقه وحق مقلديه، وحاصلها عند المخطئة منهم: أن كل ما تعلق به ظن المجتهد فهو حكم الله الظاهري في حقه وحق مقلديه، وقد يكون حكم الله الواقعي وقد لا يكون. وذكر العلامة الحلي في كتاب تهذيب الأصول: الاجتهاد اصطلاحا: استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل ظن بحكم شرعي، والأقرب قبوله للتجزئة، لأن المقتضي لوجوب العمل مع الاجتهاد في كل الأحكام موجود مع الاجتهاد في بعضها، وتجويز تعلق المعلوم بالمجهول يدفعه الفرض انتهى كلامه (رحمه الله). وذكر الفاضل المدقق الشيخ حسن ابن العالم الرباني الشهيد الثانيرحمهما الله تعالىفي كتاب المعالم في مبحث اجتهاد التجزي : والتحقيق عندي في هذا المقام: أن فرض الاقتدار على استنباط بعض المسائل دون بعض على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق لها غير ممتنع ولكن التمسك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد المطلق قياس لا نقول به. نعم لو علم أن العلة في العمل بظن المجتهد المطلق هو قدرته على استنباط المسألة أمكن الإلحاق من باب منصوص العلة ولكن الشأن في العلم بالعلة، لفقد النص عليها ، ومن الجائز أن تكون هي قدرته على استنباط المسائل كلها، بل هذا
[ 51 ]
أقرب إلى الاعتبار من حيث إن عموم القدرة إنما هو لكمال القوة، ولا شك أن القوة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة، فكيف يستويان؟ سلمنا، ولكن التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق إنما هو على دليل قطعي وهو إجماع الأمة عليه وقضاء الضرورة به. وأقصى ما يتصور في موضع النزاع أن يحصل دليل ظني يدل على مساواة التجزي للاجتهاد المطلق، واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى الدور لأنه متجز في مسألة التجزي وتعلق بالظن في العمل بالظن. ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا لكنه خلاف المراد، إذ الفرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد المطلق وهذا إلحاق له بالمقلد بحسب الذات، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد، ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد. وإن شئت قلت: تركب التقليد والاجتهاد . انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأقول: يرد عليه أن إجماع الأمة غير مسلم، بل معلوم البطلان لما سيجيء نقله عن الأئمة (عليهم السلام) وعن قدمائنا وعن جمع من العامة، وقضاء الضرورة به باطل قطعا إن كان المقصود منه دعوى البداهة، وغير مسلم إن كان المقصود إلجاء الضرورة إليه، كما سيجيء بيان الكل إن شاء الله
[ 52 ]
ثم أقول: سيجيء في نقل كلامنا نقلا عن شرح جمع الجوامع من كتب الشافعية أن للمجتهد ثلاث مراتب: أعلى مراتبه المجتهد المطلق، ودونه في المرتبة مجتهد المذهب، ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا . والصورة التي فرضها الفاضل المدقق في مسألة التجزي ترجع إلى القسم الثاني من أقسام المجتهد، والأقسام الثلاثة مقبولة عند العامة بالإجماع. وأقول: من المعلوم أن العمل ببعض هذه الإجماعات دون بعض غير معقول، والله أعلم
[ 53 ]
وذكر الإمام المحقق قدوة المقدسين المحقق الحلي (قدس سره) في مختصره في الأصول: أما ما يفتقر إلى اجتهاد ونظر، فإنه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه فإن أخطأ لم يكن مأثوما. وذكر: يجب على من ليست له أهلية الاجتهاد أن يستفتي المجتهد فيما ينزل به من المسائل النظرية . وذكر في أوائل كتاب المعتبرشرح المختصرالفصل الثالث في مستند الأحكام، وهي عندنا خمسة الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل والاستصحاب. أما الكتاب: فأدلته قسمان: النص والظاهر. والنص: ما دل على المراد منه من غير احتمال، وفي مقابلته المجمل. وقد يتفق اللفظ الواحد أن يكون نصا مجملا باعتبارين، كقوله تعالى: ﴿يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ نص باعتبار الاعتداد، مجمل باعتبار ما تعتد به. وأما الظاهر: فهو اللفظ الدال على أحد محتملاته دلالة راجحة لا ينتفي معها الاحتمال، وفي مقابلته المؤول. والظاهر أنواع: أحدها: ما كان راجحا بحسب العرف كدلالة الغائط على الفضلة. وثانيها ما كان راجحا بحسب الشرع كدلالة لفظ الصوم على الإمساك عن
[ 54 ]
المفطرات. وهذان وإن كانا نصين باعتبار الشرع والعرف إلا أن احتمال إرادة الوضع لم ينتف انتفاء يقينيا. وثالثها: المطلق، وهو اللفظ الدال على الماهية، فهو في دلالته على تعلق الحكم بها لا بقيد منضم دلالة ظاهرة. ورابعها: العام، وهو الدال على اثنين فصاعدا من غير حصر، فإنه في دلالته على استيعاب الأشخاص ظاهر لا قاطع. أما المؤول: فهو اللفظ الذي يراد به المعنى المرجوح من محتملاته، كقوله تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك﴾ . وأما السنة: فثلاثة: قول، وفعل، وإقرار. أما القول ففيه الأقسام المتقدمة. وأما الأفعال: فإن وقع بيانا تبع المبين في وجوبه وندبه وإباحته، وإن فعله ابتداء فلا حجة فيه إلا أن يعلم الوجه الذي وقع عليه فتجب المتابعة. وما أقره النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه يدل على الجواز، لأنه (صلى الله عليه وآله) لا يقرر منكرا، سواء فعل بحضرته أو لا بحضرته مما يعلم أنه (صلى الله عليه وآله) علمه ولم ينكره. وأما ما يندر فلا حجة فيه، كما روي أن بعض الصحابة قال: ” كنا نجامع ونكسل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا نغتسل ” لجواز أن يخفى فعل ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) فلا يكون سكوته عنه دليلا على جوازه. لا يقال: قول الصحابي: ” كنا نفعل ” دليل على عمل الصحابة أو أكثرهم فلا يخفى على الرسول، لأ نا نمنع، إذ قد يخبر بذلك عن نفسه أو عن جماعة يمكن أن يخفى حالهم على النبي (صلى الله عليه وآله). ثم السنة: إما متواترة وهي ما حصل معها العلم القطعي باستحالة التواطؤ، أو خبر واحد وهو ما لم يبلغ ذلك، مسندا كان وهو ما اتصل المخبرون به إلى المخبر، أو مرسلا وهو ما لم يتصل سنده. فالمتواتر حجة لإفادته اليقين، وكذا ما أجمع على
[ 55 ]
العمل به. وأما ما أجمع الأصحاب على إطراحه فلا حجة فيه. مسألة: أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر، وما فطنوا ما تحته من التناقض، فإن من جملة الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله): ” ستكثر بعدي القالة علي ” وقول الصادق (عليه السلام): ” إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه ” . واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال: كل سليم السند يعمل به، وما علم أن الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب، إذ لا مصنف إلا وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل . وأفرط آخرون في طرف رد الخبر حتى أحال استعماله عقلا ونقلا. واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن في العمل به. وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه، لوجوه: أحدها: أنه مع خلوه عن المزية يكون جواز صدقه مساويا لجواز كذبه، ولا يثبت الشرع بما يحتمل الكذب
[ 56 ]
الثاني: إما أن يفيد الظن أو لا يفيد، وعلى التقديرين لا يعمل به أما بتقدير عدم الإفادة فمتفق عليه، وأما بتقدير إفادة الظن فمن وجوه ثلاثة: أحدها: قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الثاني: قوله تعالى: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ الثالث: قوله تعالى: ﴿وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ . الثالث: أنه إن خص دليلا عاما كان عدولا عن متيقن إلى مظنون، وإن نقل عن حكم الأصل كان عسرا وضررا وهو منفي بالدليل. ولو قيل: هو مفيد للظن فيعمل به تفصيا من الضرر المظنون، منعنا افادته الظن، لقوله (صلى الله عليه وآله): ” ستكثر بعدي القالة علي فإذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله العزيز فإن وافقه فاعملوا به وإلا فردوه ” وخبره صدق فلا خبر من هذا القبيل إلا يحتمل أن يكون من القبيل المكذوب. ولا يقال: هذا خبر واحد، لأ نا نقول: إن كان الخبر حجة فهذا أحد الأخبار، وإن لم يكن حجة فقد بطل الجميع. ولا يقال: الإمامية عاملة بالأخبار وعملها حجة، لأ نا نمنع ذلك، فإن أكثرهم يرد الخبر بأنه خبر واحد، وبأنه شاذ، فلولا استنادهم مع الأخبار إلى وجه يقتضي العمل بها لكان عملهم اقتراحا، وهذا لا يظن بالفرقة الناجية. وأما أنه مع عدم الظفر بالطاعن والمخالف لمضمونه يعمل به، فلأن مع عدم الوقوف على الطاعن والمخالف له يتيقن أنه حق، لاستحالة تمالي الأصحاب على القول بالباطل وخفاء الحق بينهم. وأما مع القرائن فلأنها حجة بانفرادها فتكون دالة على صدق مضمون الحديث ويراد بالاحتجاج به التأكيد. لا يقال: لو لم يكن خبر الواحد حجة لما نقل، لأ نا ننقض ذلك بنقل خبر من عرف فسقه وكفره ومن قذف بوضع الأخبار ورمي بالغلو، وبالأخبار التي استدلوا بها في البحوث العلمية كالتوحيد والعدل، والجواب في الكل واحد
[ 57 ]
وأما الإجماع: فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله [(عليه السلام)] لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله، فلا تغتر إذا بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالته بالباقين إلا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة ولنفرض صورا ثلاثا: الأولى: أن تفتي جماعة ثم لا نعلم من الباقين مخالفا، فالوجه أنه ليس حجة، لأنه كما لا نعلم مخالفا لا نعلم أن لا مخالف، ومع الجواز لا يتحقق دخول المعصوم في المفتين. الثانية: أن يختلف الأصحاب على قولين ففي جواز إحداث قول ثالث تردد، أصحه أنه لا يجوز بشرط أن يعلم أن لا قائل منهم إلا بأحدهما. الثالثة: أن يفترقوا فرقتين ويعلم أن الإمام ليس في إحداهما وتجهل الأخرى فتعين الحق مع المجهولة، وهذه الفروض تعقل لكن قل أن يتفق. وأما دليل العقل فقسمان: أحدهما: ما يتوقف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: الأول: لحن الخطاب كقوله تعالى: ﴿أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت﴾ أراد فضرب. الثاني: فحوى الخطاب وهو ما دل عليه بالتنبيه كقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) . الثالث: دليل الخطاب وهو تعليق الحكم على أحد وصفي الحقيقة كقوله: ” في سائمة الغنم الزكاة ” والشيخ يقول: هو حجة، وعلم الهدى ينكره. وهو الحق. أما تعليق الحكم على الشرط كقوله: ” إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ” وكقوله: ﴿وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن﴾ فهو حجة تحقيقا لمعنى الشرط، ولا كذا لو علقه على الاسم كقوله: ” اضرب زيدا ” خلافا للدقاق. القسم الثاني: ما ينفرد العقل بالدلالة عليه، وهو إما وجوب كرد الوديعة، أو قبح
[ 58 ]
كالكذب والظلم، أو حسن كالإنصاف والصدق. ثم كل واحد من هذه كما يكون ضروريا قد يكون كسبيا كرد الوديعة مع الضرر وقبح الكذب مع النفع. وأما الاستصحاب فأقسامه ثلاثة: استصحاب حال العقل وهو التمسك بالبراءة الأصلية كما تقول ليس الوتر واجبا، لأن الأصل براءة العهدة. ومنه أن يختلف الفقهاء في حكم بالأقل والأكثر فيقتصر على الأقل، كما يقول بعض الأصحاب: في عين الدابة نصف قيمتها، ويقول الآخر: ربع قيمتها، فيقول المستدل: ثبت الربع إجماعا فينتفي الزائد نظرا إلى البراءة الأصلية. الثاني: أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه، وهذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف ولا يكون ذلك الاستدلال حجة. ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر. الثالث: استصحاب حال الشرع كالمتيمم يجد الماء في أثناء الصلاة، فيقول المستدل على الاستمرار: صلاة مشروعة قبل وجود الماء فيكون كذلك بعده. وليس هذا حجة لأن شرعيتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه. ثم مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله، لأ نك تقول: الذمة مشغولة قبل الإتمام فتكون مشغولة بعده. وأما القياس: فلا يعتمد عليه عندنا، لعدم اليقين بثمرته فيكون العمل به عملا بالظن المنهي عنه. ودعوى الإجماع من الصحابة على العمل به لم يثبت بل أنكره جماعة منهم، فما يمر بك من تمثيل شيء بشيء فليس بقياس، لأن أحدهما مقيس على الآخر، بل لاشتراكهما في الدلالة الشرعية لا القياسية انتهى كلامه (رحمه الله). وذكر سائر المتأخرين قريبا مما نقلناه عن جماعة منهم، واكتفينا بما رويناه روما للاختصار. وذكر أول مشايخي في علمي الحديث والرجالوتشرفت بالاستفادة وأخذ
[ 59 ]
الإجازة منه في عنفوان شبابي في المشهد المقدس الغروي في أوائل سنة سبع بعد الألفوهو السيد السند والعلامة الأوحد صاحب كتاب المدارك (شرح الشرائع) في أوائل ذلك الكتاب: الإجماع إنما يكون حجة مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم (عليه السلام) في جملة أقوال المجمعين، ولو أريد بالإجماع المعنى المشهور لم يكن حجة، لانحصار الأدلة الشرعية في الكتاب والسنة والبراءة الأصلية . انتهى كلامه (رحمه الله) . أقول: كلام شيخنا وسيدنا(رحمه الله)صريح في عدم حجية الإجماع واستصحاب الأحكام الشرعية، وفي أن الدليل عنده منحصر في ثلاثة، ومن المعلومكما سيجيء تحقيقهأن البراءة الأصلية إنما يثبت بها نفي الحكم الشرعي لا نفسه، فيلزم من ذلك انحصار الدليل على الحكم الشرعي في اثنين، ومن المعلوم أن حال الكتاب والحديث النبوي لا يعلم إلا من جهتهم (عليهم السلام)، فتعين الانحصار في أحاديثهم (عليهم السلام) كما سيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى. وأما آخر مشايخي في فن الفقه والحديث والرجال وهو مولانا العلامة المحقق والفيلسوف المدقق أفضل المحدثين وأعلم المتأخرين بأحوال الرجال وأورعهم الميرزا محمد الإسترابادي المجاور بحرم الله المدفون عند خديجة الكبرى، وقد استفدت منه في مكة المعظمة من أوائل سنة خمس عشرة بعد الألف إلى عشر سنين، وأجاز لي أن أروي عنه جميع ما يجوز له روايته (قدس سره) فقد عرضت عليه ما
[ 60 ]
سنذكره من اختيار طريقة القدماء ورد طريقة المتأخرين، فاستحسنه وأثنى علي
[ 61 ]
فائدة أقول: ذلك التقسيمأي تقسيم الرعية إلى مجتهد ومقلدوما يتعلق به من شرائطه وأحكامه وقع على منوال كلام الأصوليين من العامة، حيث قسموا الناس بعده (صلى الله عليه وآله) إلى قسمين مجتهد ومقلد، ثم ساقوا الكلام إلى آخر ما نقلناه عن متأخري أصحابنا بتفاوت قليل سيظهر عليكإن شاء الله تعالىمما سننقله من كتب العامة، والحق أن تلك المقدمات تتجه على مذهب من لا يقول بوجوب التمسك بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) ولا يجعلهم وسيلة إلى فهم كتاب الله وسنة نبيه، وقول غيره بها من باب الغفلة عن هذه الدقيقة، كما سيجيء بيان ذلك كله إن شاء الله تعالى. ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي من كتب الشافعية: من عناية الله تعالى بالعباد أن شرع الأحكام وبين الحلال والحرام سببا يصلحهم في المعاش وينجيهم في المعاد، ولما علم كونها متكثرة وأن قوتهم قاصرة عن ضبطها منتشرة، ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخايل، ورشح طائفة ممن اصطفاهم لاستنباطها ووفقهم لتدوينها بعد أخذها من مأخذها ومناطها، وكان لذلك قواعد كلية بها يتوصل، ومقدمات جامعة منها يتوسل، أفردوا لذلك علما سموه لذلك ” أصول الفقه ” فجاء علما عظيم الخطر، محمود الأثر، يجمع إلى المعقول مشروعا ويتضمن من علوم شتى أصولا وفروعا . وفي موضع آخر من الشرح المذكور: الأحكام قد تؤخذ لا من الشرع كالتماثل والاختلاف، وقد تؤخذ منه، وتلك إما اعتقادية لا تتعلق بكيفية عمل وتسمى ” أصلية ” أو عملية تتعلق بها وتسمى ” فرعية ” وهذه لا تكاد تتناهى، فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة للكل، فنيطت بأدلة كلية من عمومات وعلل تفصيلية أي كل
[ 62 ]
مسألة مسألة بدليل دليلليستنبط منها لكل واحد عند الحاجة، وإذ ليس في وسع الكل أيضا أن ينتهض له لتوقفها على أدوات يستغرق تحصيلها العمر وكان يفضي إلى تعطل غيره من المقاصد الدينية والدنيوية فخص قوم بالانتهاض له، وهم المجتهدون والباقون يقلدونهم فيه، فدونوا ذلك فسموا العلم الحاصل لهم منها ” فقها ” وأ نهم احتاجوا في الاستنباط إلى مقدمات كلية كل مقدمة منها يبنى عليها كثير من الأحكام، وربما التبست ووقع فيها الخلاف فتشعبوا فيها شعبا وتحزبوا أحزابا ورتبوا فيها مسائل تحريرا واحتجاجا وجوابا، فلم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم وإعانة لهم على درك الحق منها بسهولة فدونوها وسموا العلم بها ” أصول الفقه ” . وفي موضع آخر من الشرح المذكور: الفقه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال . وأورد على حد الفقه: أن المراد بالأحكام الشرعية إن كان هو البعض لم يطرد، لدخول المقلد فيه إذا عرف بعض الأحكام كذلك، لأ نا لا نريد به العامي بل من لم يبلغ درجة الاجتهاد وقد يكون عالما يمكنه كذلك مع أنه ليس بفقيه إجماعا. وإن كان هو الكل لم ينعكس، لخروج بعض الفقهاء عنه، لثبوت لا أدري عمن هو فقيه بالإجماع، نقل أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. والجواب: أنا نختار أن المراد البعض، قولكم: ” لا يطرد لدخول المقلد فيه ” ممنوع، إذ المراد بالأدلة الأمارات ولا يعلم شيئا من الأحكام كذلك إلا مجتهد يجزم بوجوب العمل بموجب ظنه. وأما المقلد فإنما يظن ظنا ولا نفضي إلى علم لعدم وجوب العمل بالظن عليه إجماعا. أو نختار أن المراد الكل، قولكم: ” لا ينعكس لثبوت لا أدري ” قلنا: ممنوع، ولا يضر ثبوت لا أدري، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ له وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه بأن يرجع عليه فيحكم، وعدم العلم في الحالة الراهنة لا ينافيه، لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمانا
[ 63 ]
وفي موضع آخر من الشرح المذكور: الاجتهاد في الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي، فقولنا: ” استفراغ الفقيه ” بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه. ” والفقيه ” قد تقدم، لأ نك علمت الفقه فيكون الموصوف به هو الفقيه. وقد علم بذلك ركنا الاجتهاد وهما المجتهد والمجتهد فيه، فالمجتهد من اتصف نفسه بالاجتهاد على التفسير المذكور، والمجتهد فيه حكم ظني شرعي عليه دليل . وذكر في موضع آخر: قالوا: لو لم يتنجز الاجتهاد لزم علم المجتهد بجميع المآخذ ويلزمه العلم بجميع الأحكام، واللازم منتف، لأن مالكا مجتهد بالإجماع وقد سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. الجواب ان العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام، لجواز عدم العلم ببعض، لتعارض الأدلة، أو للعجز في الحال عن المبالغة إما لمانع يشوش الفكر، أو لاستدعائه زمانا . وفي موضع آخر في مباحث بيان أحكام الاجتهاد: لا يجوز للمجتهد نقض الحكم في المسائل الاجتهادية، لا حكم نفسه إذا تغير اجتهاده، ولا حكم غيره إذا خالف اجتهاده اجتهاده بالاتفاق، لأنه يؤدي إلى نقض النقض من مجتهد آخر يخالفه ويتسلسل وتفوت مصلحة نصب الحاكم وهو فصل الخصومات، هذا ما لم يكن مخالفا لقاطع، وإذا خالف قاطعا نقضه اتفاقا انتهى. وفي موضع آخر في تزييف قول المصوبة: واستدل بأن تصويب الكل مستلزم للمحال فيكون محالا، بيانه في صورتين: إحداهما: إذا كان الزوج مجتهدا شافعيا والزوجة مجتهدة حنفية فقال لها: ” أنت بائن ” ثم قال: ” راجعتك ” والرجل يعتقد الحل والمرأة تعتقد الحرمة، فيلزم من صحة المذهبين حلها وحرمتها. وثانيتهما: أن ينكح مجتهد امرأة بغير ولي لأنه يرى صحته، وينكح مجتهد آخر تلك المرأة إذ يرى بطلان الأول، فيلزم من صحة المذهبين حلها لهما وأ نه محال
[ 64 ]
والجواب أنه مشترك الإلزام، إذ لا خلاف في أنه يلزمه اتباع ظنه. والجواب الحق هو الحل، وهو أنه يرجع إلى حاكم ليحكم بينهما فيتبعان حكمه، لوجوب اتباع الحكم للموافق والمخالف . وفي التلويح للعلامة التفتازاني (شرح التوضيح لصدر الشريعة من كتب الحنفية): لما كان بحث الأصول عن الأدلة من حيث أن يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد، ختم مباحث الأدلة بباب الاجتهاد، وهو في اللغة تحمل الجهد والمشقة. وفي الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي، وهذا هو المراد بقولهم: ” بذل المجهود لنيل المقصود ” ومعنى: ” استفراغ الوسع ” بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه، فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي، وبذل الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي قطعي، أو في الظن بحكم غير شرعي. وشرط الاجتهاد أن يجمع العلم بالأمور الثلاثة: الأول: الكتاب (أي القرآن) بأن يعرفه بمعانيه لغة وشريعة، أما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخواصها في الإفادة، فيفتقر إلى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان، اللهم إلا أن يعرف ذلك بحسب السليقة. وأما شريعة فبأن يعرف المعاني المؤثرة في الأحكام، مثلا يعرف في قوله تعالى: ﴿أو جاء أحد منكم من الغائط﴾ أن المراد بالغائط الحدث وان علة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي، وبأقسامه من العام والخاص والمشترك والمجمل والمفصل وغير ذلك مما سبق ذكره، بأن يعلم أن هذا خاص وذاك عام، وهذا ناسخ وذاك منسوخ، إلى غير ذلك. ولا خفاء في أن هذا مغاير لمعرفة المعاني. والمراد بالكتاب قدر ما يتعلق بمعرفة الأحكام، والمعتبر هو العلم بمواقعها بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند طلب الحكم، لا الحفظ عن ظهر القلب. الثاني: السنة قدر ما يتعلق بمعرفة الأحكام بأن يعرف بمتنها وهو نفس
[ 65 ]
الحديث، وسندها وهو طريق وصولها إلينا تواترا وشهرة أو آحادا، وفي ذلك معرفة حال الرواة في الجرح والتعديل، إلا أن البحث عن أحوال الرواة في زماننا هذا كالمتعذر، لطول المدة وكثرة الوسائط، فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الموثوق بهم في علم الحديث كالبخاري ومسلم والبغوي والصنعاني وغيرهم من أئمة الحديث. ولا يخفى أن المراد معرفة متن السنة بمعانيه لغة وشرعا، وبأقسامه من الخاص والعام وغيرهما. الثالث: وجوه القياس بشرائطها وأحكامها وأقسامها والمقبول منها والمردود، وكل ذلك ليتمكن من استنباط الصحيح. وكان الأولى ذكر الإجماع أيضا، إذ لابد من معرفته ومعرفة مواقعه لئلا يخالفه في اجتهاده. ولا يشترط علم الكلام لجواز الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا. ولا علم الفقه، لأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته فلا يتقدمه، إلا أن منصب الاجتهاد في زماننا إنما يحصل بممارسة الفروع فهي طريق إليه في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمن الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة. ثم هذه الشرائط إنما هي في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الأحكام. وأما المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما يتعلق بذلك الحكم كذا ذكره الغزالي. فإن قلت: لابد من معرفة جميع ما يتعلق بالأحكام لئلا يقع اجتهاده في تلك المسألة مخالفا لنص أو إجماع. قلت: بعد معرفة جميع ما يتعلق بذلك الحكم لا يتصور الذهول عما يقتضي خلافه، لأنه من جملة ما يتعلق به ذلك الحكم ولا حاجة إلى الباقي، مثلا الاجتهاد في حكم متعلق بالصلاة لا يتوقف [على معرفة جميع ما يتعلق بالصلاة، ولايتوقف] على معرفة جميع ما يتعلق بأحكام النكاح، وحكمه أي الأثر الثابت بالاجتهاد غلبة الظن بالحكم مع احتمال الخطأ، فلا يجري الاجتهاد في القطعيات، وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين، وهذا مبني
[ 66 ]
على أن المصيب عند اختلاف المجتهدين واحد. وقد اختلفوا في ذلك بناء على اختلافهم في أن لله تعالى في كل صورة من الحوادث حكما معينا أم الحكم ما أدى إليه اجتهاد المجتهد؟ فعلى الأول يكون المصيب واحدا، وعلى الثاني يكون كل مجتهد مصيبا. وتحقيق هذا المقام: أن المسألة الاجتهادية إما أن لا يكون لله تعالى فيها حكم معين قبل اجتهاد المجتهد أو يكون، وحينئذ إما أن لا يدل عليه أو يدل، وذلك الدليل إما قطعي أو ظني، فذهب إلى كل احتمال جماعة، فحصل أربعة مذاهب: الأول: أن لا حكم في المسألة قبل الاجتهاد بل الحكم ما أدى إليه رأي المجتهد وإليه ذهب عامة المعتزلة ثم اختلفوا، فذهب بعضهم إلى استواء الحكمين في الحقية، وبعضهم إلى كون أحدهما أحق، وقد ينسب ذلك إلى الأشعري، بمعنى أ نه لم يتعلق الحكم بالمسألة قبل الاجتهاد وإلا فالحكم قديم عنده. الثاني: أن الحكم معين ولا دليل عليه بل العثور عليه بمنزلة العثور على دفين، فلمن أصاب أجران ولمن أخطأ أجر الكد، وإليه ذهب طائفة من الفقهاء والمتكلمين. الثالث: أن الحكم معين وعليه دليل قطعي والمجتهد مأمور بطلبه، وإليه ذهب طائفة من المتكلمين، ثم اختلفوا في أن المخطئ هل يستحق العقاب؟ وفي أن حكم القاضي بالخطأ هل ينقض؟ الرابع: أن الحكم معين وعليه دليل ظني إن وجده أصاب وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلف بإصابتها، لغموضها وخفائها ولذا كان المخطئ معذورا بل مأجورا . انتهى كلامه. وفي إحكام الآمدي من كتب الشافعية: الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين مخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه، فقولنا: ” استفراغ الوسع ” كالجنس، وما وراه خواص مميزة، وقولنا: ” في طلب الظن ” احتراز عن الأحكام القطعية، وقولنا
[ 67 ]
بشيء من الأحكام الشرعية ” ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسوسات وغيرها، وقولنا: ” بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد إليه ” ليخرج منه اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه، فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهادا معتبرا. وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان: الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات، وأ نه واجب الوجود لذاته، حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف. وأن يكون مصدقا بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات، ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محقا. ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام متبحرا فيه كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفا بما يتوقف عليه الإيمان مما ذكرناه. ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول، بل أن يكون عالما بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. الشرط الثاني: أن يكون عالما بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها، قادرا على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها. وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم لا كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأن يكون عارفا بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكامية عالما باللغة والنحو. ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي، وفي النحو كسيبويه والخليل، بل أن يكون قد حصل من ذلك ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمن والالتزام، والمفرد والمركب، والكلي منها
[ 68 ]
والجزئي، والحقيقة والمجاز، والتواطؤ والاشتراك والترادف والتباين، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء، ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله. وذلك كله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لابد منه فيها، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية. كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر، ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. وأما ما فيه الاجتهاد، فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظنيا، فقولنا: ” من الأحكام الشرعية ” تمييزا له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها، وقولنا: ” دليله ظني ” تمييزا له عما كان دليله منها قطعيا كالعبادات الخمس ونحوها، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها، لأن المخطئ فيها يعد آثما، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده فيها آثما انتهى كلامه. فائدة في كتب الشافعية كشرح جمع الجوامع لبدر الدين الزركشي: إنما تشترط الأمور المتقدمة في المجتهد المطلق وقد فقد الآن، ودونه في الرتبة مجتهد المذهب وهو المقلد لإمام من الأئمة فلا يشترط فيه إلا معرفة قواعد إمامه، فإذا سئل عن حادثة لم يعرف لإمامه فيها نصا اجتهد فيها على مذهبه وخرجها على أصوله
[ 69 ]
وادعى ابن أبي الدم أن هذا النوع قد انقطع أيضا، وهو مردود. وقال ابن الصلاح: والذي رأيته من كلام الأئمة مشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقلد ، والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى. انتهى ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا، وهو المتبحر في مذهبه المتمكن من ترجيح قول على آخر، وهذا أدنى المراتب، وما بقي بعده إلا العامي ومن في معناه . انتهى. فائدة يظهر من كلام جمع من علماء العامة أن في زمن المتأخرين منهم انعقد إجماع على أنه لا يجوز العمل إلا باجتهاد أربعة من مجتهديهم إلى يوم القيامة، فلو قلد أحد في هذا الزمان وبعده مجتهدا خامسا من مجتهديهم المتقدمين أو اجتهد اجتهادا جديدا كان أهل البدعة والضلالة. نعم، يجوز الاجتهاد في مذهب أحد الأربعة كما في تلميذي أبي حنيفة فإنهما اجتهدا في مذهبه أي استخرجا فتاوى بناء على أصوله . ولننقل طرفا من كلام الشيخ العالم العلامة تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر الشهير والده بالمقريزي الشافعي من كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، وقد رأيته في المدينة المنورة، وهو من الكتب الموقوفة على تلك الحضرة الشريفة، فإن فيه تصريحا ببعض ما نسبناه إليهم، فقال في فصل عنوانه: ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد المذاهب الأربعة وما كان من الأحداث
[ 70 ]
اعلم أن الله تعالى لما أن بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) رسولا إلى كافة الناس جميعا عربهم وعجمهم، وهم كلهم أهل شرك وعبدة غير الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب وكان من أمره (صلى الله عليه وآله) مع قريش ما كان حتى هاجر من مكة إلى المدينة وكانت الصحابة حوله (صلى الله عليه وآله) يجتمعون إليه في كل وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلة القوت، فمنهم من كان يحترف في الأسواق، ومنهم من كان يقوم على نخله ويحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل وقت منهم طائفة عندما تجد أدنى فراغ مما هم بسبيله من طلب القوت، فإذا سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مسألة أو حكم أو أمر بشيء أو فعل شيئا وعاه من حضر عنده من الصحابة وفات من غاب عنه علم ذلك. ألا ترى أن عمر بن الخطاب قد خفى عليه ما علمه جبل بن مالك بن النابغةرجل من الأعراب من هذيلفي دية الجنين. وكان يفتي في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وسلمان الفارسيرضي الله عنهم . فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستخلف أبو بكر تفرقت الصحابة، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردة، ومنهم من خرج لجهاد أهل الشام، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر عدة، وكانت القضية إذا نزلت بأبي بكر قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن لم يكن عنده سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك، فإن وجد عندهم علما من ذلك رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم. فلما مات أبو بكر وولي أمر الأمة من بعده عمر بن الخطاب، فتحت الأمصار وزاد، تفرق الصحابة فيما افتتحوه من الأقطار، وكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين بها في ذلك أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن
[ 71 ]
النبي (صلى الله عليه وآله) موجود عند صاحب آخر في بلد آخر، وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي؛ كل هذا موجود في الآثار وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض الأوقات وحضور غيره فمضت الصحابة على ما ذكرنا. ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي تقدم ذكرها إنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاواهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم عن الصحابة، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى عبد الله بن مسعود، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عباس، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوى عبد الله ابن عمرو بن العاص. ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريح بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم. وذكر أبو عمرو الكندي: أن أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق أول من رحل من أرض مصر إلى العراق في طلب الحديث، توفي سنة أربعة وثمانين ومائة، وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدم ذكره، ثم كثر الترحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبوي وتقييده، فكان أول من دون العلم محمد بن شهاب الزهري، وكان ممن صنف وبوب سعيد بن أبي عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريح بمكة، ثم سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة
[ 72 ]
والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالري، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهيثم بن بشير بواسط، وتفرد بالكوفة أبو بكر ابن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف، فوصلت أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها، وجمعت الأحاديث وعرف الصحيح من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه وقيام الحجة عليه. وعلى هذا الطريق كانت الصحابة وكثير من التابعين، كانوا يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث وعرف سير الصحابة والتابعين. فلما قام هارون الرشيد في الخلافة ولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيمأحد أصحاب أبي حنيفةبعد سنة سبعين ومائة، فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلا من أشار به القاضي أبو يوسف واعتنى به. وكذلك لما قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه وتلقب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة اختص بيحيى بن كثير الأندلسي وكان قد حج وسمع الموطأ من مالك إلا أبوابا وحمل عن ابن وهب وعن أبي القاسم وغيره علما كثيرا، وعاد إلى الأندلس فنال من الرئاسة والحرمة ما لم ينله غيره وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامة إلى بابه، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلا بإشارته واعتنائه، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعي. ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتى قدم الشافعي محمد بن إدريس إلى مصر مع عبد الله بن عباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في سنة ثمان وتسعين ومائة، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها وكتبوا من الشافعي ما ألفه
[ 73 ]
وعملوا بما ذهب إليه ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر. وأما العقائد: فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر. فاستمر الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن وببلاد المغرب أيضا لإدخال محمد بن تومرت رأي الأشعري إليها حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد بحيث من خالفه ضربت عنقه، والأمر على ذلك إلى اليوم. ولم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد في آخرها. فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولي بالقاهرة ومصر أربع قضاة: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائة حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه الأربعة وعقيدة الأشعري، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام وعودي من يذهب بغيرها وأنكر عليه، ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن متقلدا أحد هذه المذاهب [وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب] وتحريم ما عداها والعمل على هذا إلى اليوم. وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ولازمه عدة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر وقال بالفاعل المختار وترك القول بالتحسين والتقبيح العقلي واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الخطيب الباقلاني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الاسفرائني، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، والشيخ أبو حامد محمد
[ 74 ]
ابن محمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، والإمام فخر الدين الرازي، وغيرهم، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام. فلما ملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدرالدين عبد الملك بن ديارس الماراني على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق فلذلك حملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادى الحال على ذلك، وأبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري ولد سنة ست وستين ومائتين. وقيل: سنة سبعين وتوفي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة. وقيل: سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وتلمذ لزوج أمه أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي واقتدى برأيه في الاعتزال عدة سنين حتى صار من أئمة الاعتزال، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيا ونادى بأعلى صوته من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وإن الله تعالى لا يرى بالأبصار وإن أفعال الشر أنا فاعلها، وأنا تائب مقلع معتقد الرد على المعتزلة مبين لفضائحهم ومعايبهم. وأخذ من حينئذ في الرد عليهم وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القطان وبنى على قواعده وصنف خمسة وخمسين تصنيفا. والحق الذي لا ريب فيه: أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجهر لا ستر تحته وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله من الشريعة ولا كلمة ولا أطلع أخص الناس بهمن زوجة أو ابنة أو صاحب أو ابن عمعلى شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده (صلى الله عليه وآله) سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر ومن قال هذه فهو كافر بإجماع، وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف
[ 75 ]
عن اعتقاد الصدر الأول انتهى كلام الشيخ المقريزي الشافعي المصري. فائدة أقول: المستفاد من كلام أهل الذكر (عليهم السلام) أن لله تعالى في كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة حكما معينا وأن عليه دليلا قطعيا، والناس مأمورون بطلبه من عند حفظة الدين وهم أهل الذكر (عليهم السلام) وأن المخطئ في الحكم أو الفتوى آثم ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه وأن حكم القاضي بالخطأ ينقض، وأ نه لا اعتداد في غير الضروريات إلا بحكم المعصوم أو فتواه أو برواية حكمه أو فتواه. وأقول: فيه رد على علماء العامة، حيث زعموا أن الأحكام غير متناهية فلا يمكن أن يعلمها الله تعالى أحدا من العباد، فلذلك ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخائل. وحاصل الرد أن الله تعالى كان عالما بالأحكام التي تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة وتلك الأحكام متناهية وأزمنتها متناهية . فائدة أقول: ما ذكره الأصوليون من العامة من القواعد الأصولية إنما يتجه بعضه لإنكارهم أنه (صلى الله عليه وآله) خلف لكل زمان معصوما مسؤولا مرجعا للخلائق عالما بما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة بوحي لا برأي، وإنكارهم حجية الأحاديث المنقولة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام)ـ
[ 76 ]
ويتجه بعضه لزعمهم أن القرآن نزل على قدر عقول الناس وأ نهم مكلفون باستنباط الأحكام النظرية منه، ولإنكارهم أن علم القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمؤول وغيرها عندهم (عليهم السلام) خاصة. ويتجه بعضه، لأنه ليس عندهم حديث يكون وروده من باب التقية. ويتجه بعضه لزعمهم أنه لم يبق شيء مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) مخزونا عند أحد، لأنه (صلى الله عليه وآله) أظهر عند أصحابه كل ما جاء به وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة انتهت إلى إخفاء بعض ما جاء به (صلى الله عليه وآله) وزعمهم أن الله تعالى ناط الأحكام الشرعية بدلائل وربطها بأمارات ومخائل تخطر ببال أصحاب الملكة المخصوصة المعتبرة عندهم، وأ نه أوجب عليهم الاستنباطات الظنية والعمل بها وعلى غيرهم اتباع ظنونهم. ودليلهم على ذلك كله ادعاؤهم إجماع الصحابة على ذلك وادعاؤهم أن مثل ذلك الإجماع لا يقع إلا بسبب ظهور نص قطعي عندهم وإن لم ينقل عنهم. وذكروا أن ظاهر كتاب الله في مواضع حرمة العمل بالظن المتعلق بأحكامه تعالى لكن لأجل هذا الإجماع القطعي تركنا تلك الظواهر وأولناها. ثم جماعة من متأخري أصحابنا غفلوا عما ذكرناه من ابتناء تلك القواعد على تلك الأمور فدونوا أصولا على منوال أصولهم إلا في مواضع يسيرة اطلعوا على أنها مخالفة لما تواتر عن العترة الطاهرة (عليهم السلام)ـ
[ 77 ]
وسمعت من بعض المشائخ أنه لما عيرت جماعة من علماء العامة أصحابنا بأنه ليس لكم فن كلام مدون ولا أصول فقه كذلك ولا فقه مستنبط وليس عندكم إلا الروايات المنقولة عن أئمتكم، تصدى جماعة من متأخري أصحابنا لرفع ذلك، فصنفوا الفنون الثلاثة على الوجه المشاهد، وغفلوا عن نهيهم (عليهم السلام) أصحابهم عن تعلم فن الكلام المبني على الأفكار العقلية وأمرهم بتعلم فن الكلام المسموع منهم (عليهم السلام) وكذلك عن القواعد الأصولية الفقهية الغير المسموعة منهم (عليهم السلام). وكذلك عن المسائل الفقهية الاجتهادية، وصرحوا (عليهم السلام) بأنه علموا أولادكم أحاديثنا قبل ألفة أذهانهم بما في الكتب الغير المأخوذة عنا وصرحوا بأن ما في أيدي الناس من حق فقد خرج منا أهل البيت وما في أيديهم من باطل فمن أنفسهم . وأنا أقول: لاكتفاء هذه الجماعة بمجرد العقل في كثير من المواضع خالفوا الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) في كثير من المباحث الكلامية والأصولية. وتفرعت على المخالفة في الأصول المخالفة في المسائل الفقهية في مواضع كثيرة من حيث لا يدرون. ثم اكتفاؤهم بذلك وعدم رجوعهم إلى كلامهم (عليهم السلام) إما لشبهة دخلت عليهم وإما لغفلة، والله أعلم . ولو التزموا عند تدوين الفنون
[ 78 ]
الثلاثة تصدير الأبواب والفصول والمسائل مثلا بكلام العترة الطاهرة (عليهم السلام) ثم توضيحها وتأييدها باعتبارات عقلية لكان خيرا لهم. والله المستعان. وأول من غفل عن طريقة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) واعتمد على فن الكلام وعلى أصول الفقه المبنيين على الأفكار العقلية المتداولين بين العامةفيما أعلممحمد ابن أحمد بن الجنيد العامل بالقياس، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، ولما أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بتصانيفهما بين يدي أصحابهومنهم السيد الأجل المرتضى، ورئيس الطائفةشاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا قرنا فقرنا. حتى وصلت النوبة إلى العلامة الحلي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الأصولية للعامة، ثم تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي رحمهم الله تعالى . وأول والهداية والإيمان ليست من كسب العبد ولا من فعله وما تقتضي بظاهره موافقة الجبرية في مذهبهم مما يجب تأويله بما يوافق المتفق عليه في دين الشيعة كما أول في القرآن الشريف والحكمة فيهما واحدة كما قدمناه
[ 79 ]
من زعم فيما أعلم أن أكثر أحاديث أصحابنا المأخوذة من الأصول التي ألفوها بأمر أصحاب العصمة (عليهم السلام) وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيما في زمن الغيبة الكبرىأخبار آحاد خالية عن القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) محمد بن إدريس الحليتجاوز الله عن تقصيراتي وتقصيراتهولأجل ذلك تكلم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة المأخوذة من تلك الأصول. وبالجملة، هو وافق رئيس الطائفة وعلم الهدى ومن تقدم عليهما من قدمائنا في أنه لا يجوز العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة الموجبة للقطع، وغفل أو تغافل عن أن أحاديث أصحابنا ليست من ذلك القبيل، مع أن علم الهدى في كثير من رسائله ورئيس الطائفة في كتاب العدة وغيره ومحمد بن يعقوب الكليني ومحمد بن بابويه في كتابيهما صرحوا بذلك، ثم تبعه العلامة الحلي في ذلك ومن جاء بعد العلامة تبع العلامة في المقامين، لأنه (رحمه الله) كان بحر العلوم. ومما يوضح ما ذكرناه ما ذكره صاحب الكرامات والمقامات والمنامات سيدنا الأجل علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن طاوس الحسني (رضي الله عنه) في بعض رسائله، حيث قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين، يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن طاوس: إنني ذاكر في هذه الأوراق بعض ما رويته أو رأيته من الأحاديث في تحقيق المضايقة في فوائت الصلوات وما أتقلد الحكم بأحد القولين بل يعين ذلك من كلف به من أهل النظر والأمانات. فمن ذلك ما أرويه بإسنادي إلى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميريرضوان الله عليهوكان له مكاتبة إلى المهدي صلوات الله وسلامه عليهوأجوبة تبرز بين السطور إليه، فذكر هذا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد، وكان تاريخ النسخة التي نقلت منها شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وأربعمائة
[ 80 ]
وذكر ناسخها أنه نقلها من نسخة عليها خط مؤلفها تاريخه في صفر سنة أربع وثلاثمائة بإسناده عن علي بن جعفر قال: وسألتهيعني الكاظم (عليه السلام)عن رجل نسي المغرب حتى دخل وقت العشاء الآخرة؟ قال: يصلي العشاء ثم المغرب. وسألته عن رجل نسي العشاء فذكر قبل طلوع الفجر كيف يصنع؟ قال: يصلي العشاء ثم الفجر. وسألته عن رجل نسي الفجر حتى حضرت الظهر؟ قال: يبدأ بالظهر ثم يصلي الفجر كذلك صلاة بعد صلاة. ومن ذلك ما رويته من كتاب الفاخر المختصر من كتاب تخيير الأحكام تأليف أبي الفضل محمد بن أحمد بن سليم رواية محمد بن عمر الذي ذكر في خطبته: أنه ما روى فيه إلا ما أجمع عليه وصح من قول الأئمة (عليهم السلام) عنده، فقال فيه ما هذا لفظه: والصلوات الفائتات يقضين ما لم يدخل عليه وقت صلاة، فإذا دخل عليه وقت صلاة بدأ بالتي دخل وقتها وقضى الفائتة متى أحب. ومن ذلك ما رويته عن عبيد الله بن علي الحلبي فيما ذكره في كتاب أصلهرضوان الله عليهوقال جدي أبو جعفر الطوسي في الثناء عليه: عبيد الله بن علي الحلبي، له كتاب مصنف معمول عليه . وقيل: إنه عرض على الصادق (عليه السلام) فاستحسنه وقال ليس لهؤلاءيعني المخالفينمثله . أقول أنا فقال فيه ما هذا لفظه: ومن نام أو نسي أن يصلي المغرب والعشاء الآخرة فإن استيقظ قبل الفجر بمقدار ما يصليهما جميعا فليصلهما وإن استيقظ بعد الفجر فليصل الفجر ثم يصلي المغرب ثم العشاء. وقالأيضاعبيد الله بن علي الحلبي في الكتاب المذكور ما هذا لفظه: وخمس صلوات يصلين على كل حال متى ذكر ومتى ما أحب: صلاة فريضة نسيها يقضيها مع غروب الشمس وطلوعها، وصلاة ركعتي الإحرام، وركعتي الطواف، والفريضة، وكسوف الشمس عند طلوعها وعند غروبها
[ 81 ]
ومن ذلك ما أرويه بإسنادي إلى محمد بن علي بن محبوبوهو حديث غريب من أصل بخط جدي أبي جعفر الطوسي رضوان الله عليهورأيت في بعض تصانيف أصحابنا في الثناء عليه ما هذا لفظه: محمد بن علي بن محبوب الأشعري القمي أبو جعفر شيخ القميين في زمانه ثقة عين فقيه صحيح المذهب، قال في كتابه نوادر المصنف: عن علي بن خالد، عن أحمد بن الحسن بن علي، عن عمرو بن سعيد المدائني، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل ينام عن الفجر حتى تطلع الشمس وهو في سفر كيف يصنع أيجوز له أن يقضي بالنهار؟ قال: لا يقضي صلاة نافلة ولا فريضة بالنهار ولا يجوز له ولا يثبت له، ولكن يؤخرها فيقضيها بالليل . ومن ذلك ما أرويه عن الحسين بن سعيد الأهوازيرضوان الله عليهمما رواه في كتاب الصلاة، وهذا الحسين بن سعيد ممن أثنى جدي أبو جعفر الطوسي عليه فقال في كتاب الصلاة ما هذا لفظه: محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن الحسن بن زياد الصيقل، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي الأولى حتى صلى ركعتين من العصر، قال: فليجعلها الأولى وليستأنف العصر. قلت: فإنه نسي المغرب حتى صلى ركعتين من العشاء ثم ذكر؟ قال: فليتم صلاته ثم ليقض بعد المغرب. قال: قلت له: جعلت فداك؟ متى نسي الظهر ثم ذكر وهو في العصر يجعلها الأولى ثم يستأنف وقلت: لهذا يقضي صلاته بعد المغرب؟ فقال: ليس هذا مثل هذا، إن العصر ليس بعدها صلاة والعشاء بعدها صلاة . ومن ذلك ما أرويه أيضا عن الحسين بن سعيد المشار إليهرضوان الله عليهفي كتاب الصلاة ما هذا لفظه: صفوان، عن عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي أو نام عن الصلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى؟ فقال: إن كانت صلاة الأولى فليبدأ بها وإن كانت صلاة العصر فليصل العشاء ثم يصلي العصر
[ 82 ]
ومن ذلك ما أرويه أيضا، عن الحسين بن سعيد من كتاب الصلاة ما هذا لفظه: حدثنا فضالة والنضر بن سويد، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن نام رجل أو نسي أن يصلي المغرب والعشاء الآخرة، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء وإن استيقظ بعد الفجر فليصل الصبح ثم المغرب ثم العشاء قبل طلوع الشمس . ومن ذلك ما أرويه عن الحسين بن سعيدمن كتاب الصلاةما هذا لفظه: حماد، عن شعيب، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن نام رجل ولم يصل صلاة المغرب والعشاء الآخرة أو نسي، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصل الفجر ثم المغرب ثم العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس، وإن خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصل المغرب ويدع العشاء الآخرة حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ثم ليصلها . ومن ذلك ما رأيته في كتاب النقض على من أظهر الخلاف لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) إملاء أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله بن علي المعروف بالواسطي، فقال ما هذا لفظه: مسألة، من ذكر صلاة وهو في أخرى قال أهل البيت (عليهم السلام): يتم التي هو فيها ويقضي ما فاته، وبه قال الشافعي. ثم ذكر خلاف الفقهاء المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام). ثم ذكر في أواخر مجلده مسألة أخرى، فقال ما هذا لفظه: مسألة أخرى، من ذكر صلاة وهو في أخرى، إن سأل سائل فقال أخبرونا عمن ذكر صلاة وهو في أخرى ما الذي يجب عليه؟ قيل له: يتم التي هو فيها ويقضي ما فاته، وبه قال الشافعي. ثم ذكر خلاف المخالفين، وقال: دليلنا على ذلك ما روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: من كان في صلاة ثم ذكر صلاة أخرى فاتته أتم التي هو فيها ثم يقضي ما فاته. يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس: هذا آخر ما أردنا ذكره
[ 83 ]
من الروايات أو ما رأينا مما لم يكن مشهورا بين أهل الدرايات، وصلى الله على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين وسلم. ووجدت في أمالي السيد أبي طالب علي بن الحسين الحسني في المواسعة ما هذا لفظه: حدثنا منصور بن رامس، حدثنا علي بن عمر الحافظ الدارقطني، حدثنا أحمد بن نصر بن طالب الحافظ، حدثنا أبو ذهل عبيد بن عبد الغفار العسقلاني، حدثنا أبو محمد سليمان الزاهد، حدثنا القاسم بن معن، حدثنا العلاء بن المسيب بن رافع، حدثنا عطاء بن أبي رياح عن جابر بن عبد الله قال: قال رجل: يا رسول الله وكيف أقضي؟ قال: صل مع كل صلاة مثلها، قال: يا رسول الله قبل أم بعد؟ قال: قبل. أقول: وهذا حديث صريح وهذه الأمالي عندنا الآن، في أواخر مجلده قال الطالبي : أولها الجزء الأول من المنتخب من كتاب زاد المسافر وصاية المسافر تأليف أبي العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمداني، وقد كتب في حياته وكان عظيم الشأن. فصل : ورأيت في كفارة قضاء الصلوات حديثا غريبا رواه حسين بن أبي الحسن بن خلف الكاشغري الملقب بالفضل في كتاب زاد العابدين، فقال ما هذا لفظه: في كفارة الصلوات، قال حدثنا منصور بن بهرام بغزنة، أخبرنا أبو سهل محمد بن محمد بن الأشعث الأنصاري، حدثنا أبو طلحة شريح بن عبد الكريم وغيره قالوا: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد صاحب كتاب العروس حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من ترك الصلاة في جهالته ثم ندم لا يدري كم ترك فليصل ليلة الاثنين خمسين ركعة بفاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد مرة فإذا فرغ من الصلاة استغفر مائة مرة جعل الله ذلك كفارة صلواته ولو ترك صلاة مائة سنة، لا يحاسب الله تعالى العبد الذي صلى هذه الصلاة ثم ان له عند الله بكل ركعة مدينة، وله بكل آية قرأها عبادة سنة، وله بكل حرف نور على الصراط. وأيم الله! إنه لا يقدر على
[ 84 ]
هذا إلا مؤمن من أهل الجنة، فمن فعل استغفرت له الملائكة وسمي في السماوات صديق الله في الأرض، وكان موته موت الشهداء، وكان في الجنة رفيق خضر (عليه السلام). ومن المنامات عن الصادقينالذين لا يتشبه بهم شيء من الشياطينفي المواسعة، وإن لم يكن ذلك مما يحتج به، لكنه مستطرف ما وجدته بخط الخازن أبي الحسنرضوان الله عليهوكان رجلا عدلا متفقا عليه، وبلغني أن جدي ورامارضوان الله عليهصلى خلفه مؤتما به، ما هذا لفظه: خط الخازن أبي الحسن المذكور، رأيت في منامي ليلة الأحد سادس عشر جمادي الآخرة أميرالمؤمنين والحجة (عليهما السلام) وكان على أمير المؤمنين (عليه السلام) ثوب خشن وعلى الحجة ثوب ألين منه، فقلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا مولاي ما تقول في المضايقة؟ فقال لي: سل صاحب الأمر (عليه السلام) ومضى أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقيت أنا والحجة، فجلسنا في موضع فقلت له: ما تقول في المضايقة؟ فقال: قولا مجملا: تصلي، فقلت له قولا هذا معناه وإن اختلفت ألفاظه: في الناس من يعمل نهاره ويتعب ولا يتهيأ له المضايقة؟ فقال: يصلي قبل آخر الوقت. فقلت له: ابن إدريس يمنع الناس من الصلاة قبل آخر الوقت، ثم التفت فإذا ابن إدريس ناحية عنا. فناداه الحجة (عليه السلام): يا ابن إدريس يا ابن إدريس! فجاء ولم يسلم عليه ولم يتقدم إليه، فقال له: لم تمنع الناس من الصلاة قبل آخر الوقت؟ أسمعت هذا من الشارع؟! فسكت ولم يعد جوابا، وانتبهت في إثر ذلك. وصلى الله على سيدنا محمد وآله. ورأيت أيضا بخط الخازن أبي الحسن ما هذا لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم رأيت الحجة (عليه السلام) ليلة السبت سادس شوال سنة تسعين وخمسمائة، كأنه في بعض دورنا بالمشهدعلى ساكنه السلامقاعدا على دكة والدكة لها هيئة حسنة لم أعهدها، وإلى جانبه صبي، وفي قدامه عرجون يابس فيه شماريخ يابسة، وتحته قسب ثم أنه التقط منه، فدخلت عليه فلما رآني قام وأخذ العرجون فصار فيه رطب مختلف اللون فاعتقدته معجزا له فقلت له أنت إمامي وأقبلت عليه وأقبل علي، وقعدت بين يديه وأكلت من الرطب وشكوت إليه صعوبة الوقت علينا
[ 85 ]
فأجابني بشيء غاب عني بعد الانتباه حقيقته، ثم قمنا من ذلك الموضع إلى غيره فقلت له: يا مولاي إن وراما وابن إدريس يمنعون الناس من الصلاة قبل آخر الوقت، فقال: يصلون قبل آخر الوقت، ثم قال: هم يفرطون في الصلاة فقلت له: يقولون لهم: لا تصلوا قبل آخر الوقت، فيقولون: ما نقدر على ذلك فأعاد القول: يصلون قبل آخر الوقت. ثم ذكر الفقهاء بكلام دل على أنه معتب عليهم، ثم أذن (عليه السلام) فمضيت ألتمس ما أتوضأ به وأصلي معه، فانتبهت في أثر ذلك. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. ورأيت بخط أبي الحسن الخازن ما هذا لفظه: وكنت أستعمل ماء الكر في الحمام مدة طويلة، فعن لي في بعض الأوقات أن أترك استعماله، فتركته أوقاتا، فرأيت الحجة (عليه السلام) في منامي وهو على موضع عال له شرفات وعلى رأسه شبه الإكليل والتاج، فجرى حديث في معنى الكرغاب عني بعد الانتباه حقيقتهفالتفت الي وقال: جبرائيل قال لك: إن الكر نجس! أو قال لك جبرائيل: لا تستعمله، ارجع إلى الكر فانتبهت في أثر ذلك. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. ومن المنامات عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في المواسعة من بعض الوجوه ما حدثني به صديقي الوزير محمد بن أحمد بن العلقميضاعف الله سعادته وشرف خاتمتهأيام كان أستاذ الدار فالتمست أن يكتبه بخطه، فكتب ما يأتي لفظه: رأيت في المنام كأن مولانا زين العابدين (عليه السلام) نائم وكأ نه ميت، ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليهجالس عند كريمته الشريف فعاش واستوى جالسا، فقلت له: يا مولاي إيش حديث صلاة المضايقة؟ فأومأ بوجهه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير أن يتكلم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير أن أسأله: ” إذا كان على الإنسانأو قال: الشخصصلاة قضاها في مدة ثم صلى تلك المدة في مدة والمدة في مدة تكون المدة الأخيرة مضايقة ” وانفهم من ذلك أنه إذا كان على الشخص سنتان ثم صلاها في سنة وصلى تلك السنة في شهر يكون قضاء ذلك الشهر مضايقة
[ 86 ]
يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن الطاوس هذا آخر لفظ صديقي الوزير محمد بن أحمد بن العلقمي ضاعف الله سعادته وشرف خاتمته. يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس الحسني: وتفضل الله ومولانا المهديصلوات الله عليهعلي وإلي بآيات باهرة له صلوات الله وسلامه عليه. أقول ومنها بسم الله الرحمن الرحيم وصلاته على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين، يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس: كنت قد توجهت أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد القاضي الآويضاعف الله سعادته وشرف خاتمتهمن الحلة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهفي يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وأربعين وستمائة، فاختار الله لنا المبيت في مسجد بالقرية التي تسمى ” دورة ابن سنجار ” وبات أصحابنا ودوابنا في القرية، وتوجهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور، فوصلنا إلى مشهد مولانا علي (عليه السلام) قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة المذكورة، فوجدت من نفسي إقبالا على الله وحضورا وخيرا كثيرا وشاهدت ما يدل على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة فحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآويضاعف الله سعادتهأنه رأى تلك الليلة في منامه كأن في يدي لقمة وأنا أقول له: هذه من فم مولانا المهدي صلوات الله عليهوقد أعطيته بعضها، فلما كان سحر تلك الليلة كنت على ما تفضل الله به من نافلة الليل، فلما أصبحنا نهار الخميس المذكور دخلت الحضرةحضرة مولانا علي (عليه السلام)على عادتي، فورد علي من فضل الله وإقباله والمكاشفة ما كدت أن أسقط إلى الأرض ورجفت أعضائي وأقدامي وارتعدت رعدة هائلة على عوائد فضله عندي وعنايته إلي وما أراني من بره لي ورفدي وأشرفت على الفناد ومفارقة دار العناد والانتقال إلى دار البقاء، حتى حضر الجمال محمد بن كتيلة وأنا في تلك الحال، فسلم علي فعجزت
[ 87 ]
عن مشاهدته وعن النظر إليه وإلى غيره وما تحققته بل سألت عنه بعد ذلك فعرفوني به تحقيقا، وتجددت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة وبشارات جميلة. وحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآويضاعف الله سعادتهبعدة بشارات رآها لي: منها: أنه رأى كأن شخصا يقص عليه في المنام مناما ويقول له: قد رأيت كأن فلاناعني [كذا] وكأنني كنت حاضرا لما كان المنام يقص عليهراكب فرسا، وأنت (يعني أخي الصالح الآوي) وفارسان آخران وقد صعدتم جميعا إلى السماء، قال: قلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم: لا أدري، فقلت: أنت، يعني ذلك مولانا المهديصلوات الله عليهوتوجهنا من هناك لزيارة أول رجب بالحلة، فوصلنا ليلة الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة، فعرفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أن شخصا فيه صلاح يقال له: عبد المحسن من أهل السواد قد حضر بالحلة، وذكر أنه قد لقيه مولانا المهديصلوات الله عليهظاهرا في اليقظة، وقد أرسله إلى عندي برسالة، فنفذت قاصدا وهو ” محفوظ بن قراء ” فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المقدم ذكرها، فخلوت بهذا الشيخ عبد المحسن فعرفته وهو رجل صالح لا تشك النفس في حديثه ومستغن عنا، وسألته فذكر أن أصله من حصن بشر وأ نه انتقل إلى الدولاب الذي بحذاء المحولة المعروفة بالمجاهدية، ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن، وأ نه مقيم هناك وليس له عمل بالدولاب ولا زرع ولكنه تاجر في شراء غلات وغيرها، وأ نه كان قد ابتاع غلة من ديوان أبي السرايا وجاء ليقبضها وبات عند المعيدية في الموضع المعروف بالمحر فلما كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية فخرج بقصد النهر والنهر في جهة المشرق فما أحس بنفسه إلا وهو عند تل السلام في طريق مشهد الحسين (عليه السلام) في جهة المغرب، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة من سنة احدى وأربعين وستمائةالتي تقدم
[ 88 ]
شرح بعض ما تفضل الله علي فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: فجلست أريق ماء وإذا فارس عندي ما سمعت له حسا ولا وجدت لفرسه حركة ولا صوتا وكان القمر طالعا ولكن كان الضباب كثيرا، فسألته عن الفارس وفرسه، فقال: كان لون فرسه صديا وعليه ثياب بيض وهو متحنك بعمامته ومتقلد بسيفه، فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن: كيف وقت الناس؟ قال عبد المحسن فظننت أنه يسأل عن ذلك الوقت، قال، فقلت: الدنيا عليها ضباب وغبرة فقال: ما سألتك عن هذا أنا سألتك عن حال الناس، قال، فقلت: الناس طيبون مرخصون آمنون في أوطانهم وعلى أموالهم، فقال: تمضي إلى ابن طاوس وتقول له كذا وكذا، وذكر لي ما قال لهصلوات الله وسلامه عليهثم قال عنه (عليه السلام): فالوقت قد دنا فالوقت قد دنا، قال عبد المحسن: فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنه مولانا صاحب الزمان، فوقعت على وجهي وبقيت كذلك مغشيا علي إلى أن طلع الصبح. قلت له: فمن أين عرفت أنه قصد ابن طاوس عني؟ فقال: ما أعرف من بني طاوس إلا أنت وما وقع في قلبي إلا أنه قصد بالرسالة إليك، قلت: فأي شيء فهمت بقوله صلوات الله عليه: ” فالوقت قد دنا ” هل قصد وفاتي قد دنت أم قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه؟ فقال: بل قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه، قال: فتوجهت ذلك اليوم إلى مشهد الحسين (عليه السلام) وعزمت أنني ألزم بيتي مدة حياتي أعبد الله تعالى، وندمت كيف ما سألته (عليه السلام) عن أشياء كنت أشتهي أن أسأله عنها. قلت له: هل عرفت بذلك أحدا؟ قال: نعم عرفت بعض من كان عرف بخروجي من عند المعيدية، وتوهموا أ ني قد ضللت وهلكت لتأخري عنهم واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولأنهم كانوا يروني طول ذلك النهاريوم الخميسفي أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه (عليه السلام) فوصيته أن لا يقول ذلك لأحد أبدا، وعرضت عليه شيئا، فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير، فقمت أنا وهو، فلما قام عني نفذت له غطاء وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلة، فقمت وكنت أنا وهو في
[ 89 ]
الروشن في خلوة، فنزلت لأنام، فسألت الله زيادة كشف في المنام تلك الليلة أراه أنا، فرأيت كأن مولانا الصادق (عليه السلام) قد جاءني بهدية عظيمة وهي عندي وكأنني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل في تلك الليلةوهي ليلة السبت ثامن عشر جمادى الآخرةفأصعد فتح الإبريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لأفرغ على كفي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عني ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة، فقلت: لعل الماء نجس فأراد الله أن يصونني عنه، فإن لله جل جلاله علي عوائد كثيرة، أحدها مثل هذا وأعرفها، فناديت: إلي فتح! وقلت له من أين ملأت الإبريق؟ قال: من المسيبة، فقلت: هذا لعله نجس فاقلبه واشطفه واملأه من الشط، فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الإبريق وشطفه وملأه من الشط فجاء به، فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عني ومنعني منه، فعدت صبرت ودعوت بدعوات وعاودت الإبريق فجرى مثل ذلك، فعرفت أن هذا منع لي من صلاة الليل في تلك الليلة وقلت في خاطري: لعل الله يريد أن يجري علي حكما وابتلاء غدا ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك، فنمت وأنا جالس وإذا برجل يقول لي: هذايعني عبد المحسن الذي جاء بالرسالةكان ينبغي أن تمشي بين يديه، فاستيقظت ووقع في خاطري أنني قد قصرت في احترامه وإكرامه، فتبت إلى الله جل جلاله واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أحد الإبريق وتركت على عادتي فتطهرت وصليت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل وفهمت أنني ما قمت بحق هذه الرسالة. فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن وتلقيته وأكرمته وأخذت له من خاصتي ست دنانير ومن غير خاصتي خمسة عشر دينارا مما كنت أحكم فيه كما لي وخلوت به في الروشن وعرضت ذلك عليه واعتذرت إليه، فامتنع قبول شيء أصلا وقال: إن معي نحو مائة دينار وما آخذ شيئا، أعطه لمن هو فقير، وامتنع غاية
[ 90 ]
الامتناع، فقلت له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي لأجل الإكرام لمن أرسله (صلى الله عليه وآله) لا لأجل فقره وغناه، فامتنع فقلت له: مبارك، أما الخمسة عشر دينارا فهي من غير خاصتي فلا أكرهك على قبولها، وأما هذه الستة دنانير فهي من خاصتي ولابد أن تقبلها مني، فكاد أن يؤيسني من قبولها، فألزمته فأخذها وعاد تركها فألزمته فأخذها وتغديت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما أمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان. والحمد لله، وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين. ومن عجيب زيادة بيان هذه الحال انني توجهت في ذلك الأسبوعيوم الاثنين الثلاثين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وستمائةإلى مشهد الحسين (عليه السلام) لزيارة أول رجب أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمدضاعف الله سعادتهفحضر عندي سحر ليلة الثلاثاء أول رجب المبارك سنة إحدى وأربعين وستمائة المقرئ محمد بن سويد في بغداد، وذكر ابتداء من نفسه أنه رأى ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرةالمتقدم ذكرهاكأنني في دار وقد جاء رسول إليك وقالوا هو من عند الصاحب، قال محمد بن سويد: فظن بعض الجماعة أنه من عند أستاد الدار قد جاء إليك برسالة، قال محمد بن سويد: وأنا عرفت أنه من عند صاحب الزمان (عليه السلام) قال: فغسل محمد بن سويد يديه وطهرهما وقام إلى رسول مولانا المهدي (عليه السلام) فوجده قد أحضر معه كتابا من مولانا المهديصلوات الله عليهإلى عندي، وعلى الكتاب المذكور ثلاثة ختوم. قال المقرئ محمد بن سويد: فتسلمت الكتاب من رسول مولانا المهدي (عليه السلام) بيديه المشطوفة، قال: وسلمه إليكيعني عنيقال: وكان أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآويضاعف الله سعادتهحاضرا فقال: ما هذا؟ فقلت: هو يقول لك. يقول علي بن موسى بن طاوس: فتعجبت من أن هذا محمد بن سويد قد رأى المنام في الليلة التي حضر عندي فيها الرسول المذكور وما كان عنده خبر من هذه الأمور. والحمد لله كما هو أهله
[ 91 ]
وسمعت ممن لا أسميه مواصلة بينه وبين مولانا (عليه السلام) لو تهيأ ذكرها كانت عدة كراريس دالة على وجوده وحياته ومعجزاته صلوات الله عليه. وصلى الله على سيدنا سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين. انتهى قراءة هذا الكتاب علي في ليلة الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وستمائة، والقارئ له ولدي محمد حفظه الله تعالى، وسمع القراءة ولدي وأخوه علي وأربع أخواته وبنت خالي . انتهى كلام سيدنا الأجل العلامة الأوحد صاحب الكرامات والمنامات (قدس سره). وإنما أطنبنا الكلام بذكر تلك الرسالة كلها لوجهين: أحدهما: التبرك بكلامه (قدس سره). وثانيهما: لتعلم أن إمام الزمان ناموس العصر والأوان ساخط على جمع من أصحابنا الذين اعتمدوا على غير نصوصهم في بعض فتاويهم عموما، وعلى المستعجل الجسور محمد بن إدريس الحلي خصوصا، ولكن أرجو من فضل ربي أن تكون شفاعة الأئمة (عليهم السلام) ورائي ووراءهم. فائدة عند قدماء أصحابنا الأخباريين قدس الله أرواحهمكالشيخين الأعلمين الصدوقين والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (كما صرح به في أوائل كتاب الكافي، وكما نطق به باب التقليد وباب الرأي والمقاييس وباب التمسك بما في الكتب من كتاب الكافي فإنها صريحة في حرمة الاجتهاد والتقليد وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة (عليهم السلام) المسطورة في تلك الكتب المؤلفة بأمرهم (عليهم السلام)) وشيخه
[ 92 ]
علي بن إبراهيم بن هاشم (كما صرح به في أول تفسيره لكتاب الله تعالى) ومن تقدمهم ممن أدرك صحبة بعض الأئمة (عليهم السلام) أو قرب عهده بهلا مدرك للأحكام الشرعية النظرية فرعية كانت أو أصلية إلا أحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) وتلك الروايات الشريفة متضمنة لقواعد قطعية تسد مسد الخيالات العقلية المذكورة في الكتب الأصولية والاعتبارات المذكورة في كتب فن دراية الحديث. والقواعد الظنية العربية المذكورة في فن المعاني والبيان أو غيرهما أيضا قليلة الجدوى عند الأخباريين من أصحابنا، وذلك لأنهم لم يعتمدوا في فتاويهم وأحكامهم إلا على دلالات واضحة صارت قطعية بمعونة القرائن الحالية أو المقالية، وتلك القرائن وافرة في كلام أهل البيت (عليهم السلام) لا في كتاب الله ولا في كلام رسوله (صلى الله عليه وآله) كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى. وأوجبوا التوقف والاحتياط عند ظهور خطاب يكون سنده أو دلالته غير قطعي، لأنه من باب الشبهات في نفس الأحكام ويجب التوقف والاحتياط عندها كما تواترت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وسنذكر إن شاء الله تعالى طرفا منها. وبحمد الله سبحانه وتعالى وفور أحاديثهم (عليهم السلام) في أمهات الأحكام وفيما تعم به البلوى من غيرها ومخاطبتهم الرعية على قدر ما وجدوا فيهم من الأفهام قد قضى الوطر عن معرفة الاعتبارات العقلية الأصولية، وعن الدلالات الظنية، وعما في
[ 93 ]
التمسك بهما من التعارضات وأنواع الإشكالات، وعن تجويز التخيير في أحكام الله تعالى عند تعادل الأمارات في نظر صاحب الملكة التي اعتبروهاونجانا الله من الوقوع في الهلكات وعن الحكم بغير ما أنزل الله تعالىوعن الحاجة إلى نصب رجل ثالث يقول: ” حكمت بأحد الاجتهادين على الآخر ” ليحصل فصل الخصومات بقوله: ” حكمت ” عند تعارض اجتهاد المجتهدين كما تقدم في الصورتين، وعن الحاجة إلى الفرق بين فتوى المجتهد على وجه كلي وحكم القاضي على وجه جزئي في واقعة مخصوصة بأن الأول تنقض باجتهاد حادث بعده، والثاني لا تنقض، لأنه نصبه الإمام الأعظم ليفصل الخصومات، فلو جاز نقضه بحكم حادث للزم التسلسل. ويؤيد ما ذكرناه ما سننقله عن كتاب المعالم حيث قال ذكر السيد المرتضى ان معظم الفقه يعلم بالضرورة من مذاهب أئمتنا (عليهم السلام) فيه بالأخبار المتواترة. وما سننقله عن رئيس الطائفة من انعقاد الإجماع على صحة الأحاديث التي عمل بها . وما سننقله عن كتاب الكافي وعن كتاب من لا يحضره الفقيه وعن المحقق الحلي وعن غيرهم، وقد وجدنا في مواضع من كلام رئيس الطائفة (قدس سره) ما يوافق ما نقلناه عن قدمائنا من عدم جواز الاعتماد في أحكام الله تعالى على طريق يؤدي إلى الاختلاف. منها: ما ذكره في أول كتاب تهذيب الحديث، حيث قال: ذاكرني بعض
[ 94 ]
الأصدقاءأيده الله تعالى بأحاديث أصحابناأيدهم الله تعالىوما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرقوا بذلك في إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم ولا أن يبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشد اختلافا من مخالفيكم وأكثر تباينا من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حل الشبهة. ومنها: ما ذكره في أواخر كتاب العدةوهو أحسن الكتب الأصولية التي
[ 95 ]
صنفها الخاصةحيث قال في مبحث الاجتهاد: واعلم أن كل أمر لا يجوز تغيره عما هو عليه من وجوب إلى حظر أو من حسن إلى قبح، فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين أن الاجتهاد في ذلك لا يختلف وأن الحق فيه في واحد، وأن من خالفه ضال فاسق وربما كان كافرا، وذلك نحو القول بأن العالم قديم أو محدث وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟ والكلام في صفات الصانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوة والإمامة وغير ذلك، وكذلك الكلام في أن الظلم والعبث والكذب قبيح على كل حال وأن شكر المنعم ورد الوديعة والإنصاف حسن على كل حال، وما يجري مجرى ذلك. وإنما قالوا ذلك، لأن هذه الأشياء لا يصح تغيرها في نفسها ولا خروجها عن صفتها التي هي عليها. وأما ما يصح تغيره في نفسه وخروجه من الحسن إلى القبح ومن الحظر إلى الإباحة، فلا خلاف بين أهل العلم أنه كان يجوز أن يختلف المصلحة في ذلك، فما يكون حسنا من زيد يكون قبيحا من عمرو وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن منه في حالة أخرى، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوالهم وبحسب اجتهادهم. وإنما قالوا ذلك، لأن هذه الأشياء تابعة للمصالح والألطاف، وما هذا حكمه فلا يمتنع أن يتغير الحال فيه؛ ولهذه العلة جاز النسخ ونقل المكلفين عما كانوا عليه إلى خلافه بحسب ما يقتضيه مصالحهم، إلا أن مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك بالشرع أم لا؟ فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم وأبي الحسن وأكثر المتكلمين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن عنهم، وقد حكى غيره من العلماء عن أبي حنيفة خلافه. وذهب الأصم وبشر المريسي إلى أن الحق في واحد من ذلك وهو ما يقولون به وأن ما عداه خطأ، حتى قال الأصم: إن حكم الحاكم ينقض به، ويقولون: إن المخطئ غير معذور في ذلك إلا أن يكون خطؤه صغيرا وأن سبيل ذلك سبيل الخطأ في أصول الديانات. وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره إلى أن الحق من ذلك في واحد
[ 96 ]
وأما الشافعي فإن كلامه يختلف في كتبه، فربما قال: إن الحق في واحد وعليه دليل قائم وأن ما عداه خطأ، وربما مر في كلامه أن كل مجتهد قد أدى ما كلف به، وربما يقول: إنه قد أخطأ خطأ موضوعا عنه. وقد اختلف أصحابه في حكاية مذهبه، فمنهم من يقول: إن الحق في واحد من ذلك وإن عليه دليلا وإن لم يقطع على الوصول إليه وإن ما عداه خطأ، لكن الدليل على الصواب من القولين لما غمض ولم يظهر كان المخطئ معذورا. ومنهم من يحكي: أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم وإن كان أحدهما يقال فيه قد أخطأ الأشبه عند الله. والذي أذهب إليهوهو مذهب جميع شيوخنا المتكلمين المتقدمين والمتأخرين وهو الذي اختاره سيدنا المرتضىقدس الله روحهوإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله (رحمه الله) : أن الحق في واحد وأن عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا. واعلم أن الأصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد، لأن ما طريقه التواتر وظواهر القرآن فلا خلاف بين أهل العلم أن الحق فيما هو معلوم من ذلك، وإنما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه، وقد دللنا على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته، وإذا ثبت ذلك دل على أن الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة. وأما على ما اخترته من القول في الأخبار المختلفة المروية من جهة الخاصة فلا ينقض ذلك، لأن غرضنا في هذا المكان أن نبين أن الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة دون الجهة التي خالفها، وإن كان حكم ما يختص به الطائفة والاختلاف الذي بينها الحكم الذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الأخبار، فلا تنافي بين القولين، وهذه الجملة كافية في هذا الباب انتهى كلامه (رحمه الله). وسيأتي في كلامنا ما ذكره (قدس سره) في باب الكلام في الأخبار إن شئت فارجع إليه، ومحصول كلامه هناك: أن اختلاف فتاوى أصحابنا المبني على اختلاف الفتاوى الواردة عنهم (عليهم السلام) لا يستلزم تناقضا بين تلك الفتاوى حتى يكون الحق في واحد، وذلك لأن كل واحد منهم يقول: هذه الفتوى ثبت ورودها عنهم (عليهم السلام) ولم يظهر
[ 97 ]
عندي إلى الآن أن ورودها من باب التقية، وكلما هو كذلك يجوز لنا العمل به إلى ظهور القائم (عليه السلام) وإن كان وروده في الواقع من باب التقية. وكل واحدة منهما حق، إحداهما عند الاختيار والأخرى عند ضرورة التقية. بخلاف اختلاف الفتاوى المبني على غير ذلك، فإنه يستلزم التناقض بينها، لأن كل واحد منهم يقول أولا: هذا حكم الله في الواقع حال الاختيار بحسب ظني، ثم يقول: كل ما هو كذلك يجوز لي ولمقلدي العمل به قطعا ويقينا . فائدة انقسام علماء الإمامية إلى الأخباريين والأصوليين مشهور في كتب العامة كآخر شرح المواقف، حيث قال: كانت الإمامية أولا على مذهب أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعبت متأخروهم إلى المعتزلة وإلى الأخبارية ، وأوائل كتاب الملل والنحل للشهرستاني حيث قال في باب: الإمامية كانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفوا في الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان اختار كل فرقة طريقة، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها أخبارية إما مشبهة وإما سلفية انتهى كلامه. وفي كتب الخاصة، كنهاية بحر العلوم العلامة الحلي (قدس سره) حيث قال في مبحث العمل بخبر الواحد المظنون العدالة الخالي عن القرائن لترويج ما ذهب إليه من جواز الاعتماد على خبر الواحد في الفروع: أما الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة (عليهم السلام) والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه انتهى كلامه أعلى الله مقامه وفيه بحثان آتيان في
[ 98 ]
كلامنا إن شاء الله تعالى. فائدة أقول: العامة لما أنكروا أن لله سبحانه وتعالى في كل زمان علما هاديا منصوبا من قبله تعالى، حاكما على الأمة مفترض الطاعة معصوما عن الخطأ دافع الشبهات حلال المشكلات، عالما بكل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، فاصلا بين الحق والباطل فيما تشاجرت فيه العقول أو تحيرت، ناطقا عن وحي إلهي لا رأي بشري، وسدوا باب التمسك بالعترة الطاهرة (عليهم السلام). مع أن الحديث الشريف المتواتر معنى بين الفريقين: إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا، كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت أنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين، والثقلان كتاب الله عزوجل وأهل بيتي فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) . وفي رواية أخرى: إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم
[ 99 ]
بهما، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين. (وجمع بين مسبحتيه) ولا أقول كهاتين (وجمع بين المسبحة والوسطى) فتسبق إحداهما الأخرى، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا، ولا تقدموهم فتضلوا . ناطق بوجوب التمسك بكلامهم (عليهم السلام) إذ معنى التمسك بالمجموع هو التمسك بكلامهم (عليهم السلام) إذ لا تفسير لكتاب الله إلا التفسير المسموع منهم ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): ” لن يفترقا ” وكذلك حديث: ” مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ” وحديث: ” ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية والباقي في النار ” وغيرها من الأحاديث المتواترة بين الفريقين. وقد تحير جمع من أفاضل الفريقين في وجه دلالة الحديث الأخير وحده على المطلوب، ووجهه: أن سياقه صريح في أن بين الفرقة الناجية وبين سائر الفرق تضادا كليا في العقائد والأعمال الشرعية. ومن المعلوم: أن هذا المعنى متحقق بين أصحابنا وغيرهم، لتفرد أصحابنا بأن أوجبوا السماع منهم (عليهم السلام) كل مسألة نظرية شرعية أصلية كانت أو فرعية، وسائر الطوائف خالفونا في ذلك، وهذا الاختلاف انتهى إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الشرعية. ولهذا المقام زيادة تحقيق سيجيء في كلامنا إن شاء الله تعالى. احتاجوا لحفظ ظاهر الشريعة إلى فتح بابي الاجتهاد والإجماع ففتحوهما
[ 100 ]
ثم علماؤهم دبروا تدابير عرفية واخترعوا قوانين سياسية: منها: أنهم قسموا الأحكام الشرعية إلى قسمين: قسم نصب الشارع دلالة قطعية عليه، وقسم نصب الشارع دلالة ظنية عليه. ومنها: أنهم جعلوا الأمة قسمين: القسم الأول: ” المجتهد ” واعتبروا فيه ملكة مخصوصة مخفية غير منضبطة، ولذلك يقع الاختلاف في كثير من الأفاضل بين أهل الخبرة هل هم مجتهدون أم لا، واعتبروا في العمل بظنه قدرا من بذل الوسع، هو كذلك أمر مخفي غير منضبط. والقسم الثاني: ” المقلد ” وأوجبوا عليه العمل بظن المجتهد في المسائل التي ليست من ضروريات الدين ولا من ضروريات المذهب، ولذلك سموه ” مقلدا ” فلو كان عنده حديث صحيح صريح في مسألة نظرية شرعية لم يطلع عليه المجتهد وجب عليه طرحه والأخذ بظن المجتهد المخالف له المبني على استصحاب أو براءة أصلية أو شبهها
[ 101 ]
ومنها: أنهم فرقوا بين القضاء والإفتاء، بأن الأول لا ينقض إلا بقطعي، لأنه وضع لفصل الخصومات دون الثاني، فلو حكم قاض في رؤية هلال عيد الفطر مثلا أو منازعة دنيوية بحكم مبني على اجتهاده يجب على كل المجتهدين موافقته في ذلك الحكم الشخصي. ومنها: أنهم ذكروا أن الإجماع بالمعنى الذي اعتبروه معصوم عن الخطأ دون اجتهاده (صلى الله عليه وآله) فهو أقوى منه من وجه كما صرحوا به. ثم احتاجوا في تحصيل تلك الملكة إلى فتح أبواب أخر ففتحوها وسموها أدلة شرعية. ثم احتاجوا إلى وضع باب الترجيحات، لكثرة وقوع التعارض بين الأمارات والخيالات التي اعتبروها، وإلى القول بالتخيير في أحكامه تعالى عند العجز عن الترجيحات التي اعتبروها لئلا يلزم تعطل الأحكام، وإلى نصب رجل ثالث ليحكم على أحد المجتهدين للآخر عند تعارض اجتهاديهما لئلا يلزم تعطل الأحكام. ثم سدوا باب القدح في جل ما اعتبروه بادعاء الإجماع عليه. فأول الأبواب التي منحوها ومعظمها الإجماع، إذ عليه يبتنى سائر قواعدهم، وفسروه بتفاسير مختلفة متقاربة المعنى، ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي: الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) في عصر على أمر وفي جمع الجوامع: الإجماع اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد (صلى الله عليه وآله) في عصر على أي أمر كان وقالوا: أي أمر كان يعم الإثبات والنفي والأحكام الشرعية واللغوية والعقلية والدنيوية فهو حجة فيها، كما جزموا به في الأولين ورجحوه في الآخرين وادعوا تحققه في مواضع لا تعد ولا تحصى من باب الخرص والتخمين. والتزموا أن لا يلتفتوا إلى قول أهل الذكر (عليهم السلام) في تحقق الإجماع ولا إلى قول من تمسك بهم
[ 102 ]
ومن تلك الأبواب القياس: ومنها: استنباط الأحكام النظرية من عمومات كتاب الله تعالى وإطلاقاته من غير تفحص عن حالهما هل هي منسوخة أو مخصصة أو مقيدة أو مؤولة أو لا؟ بسؤال أهل الذكر (عليهم السلام) عن ذلك، ويقولون عند الاستنباط من ظاهر آية شريفة: نحن فحصنا الأحاديث النبوية المروية بطرقنا ولم يظهر عندنا نسخ ولا تخصيص ولا قيد ولا تأويل لتلك الآية، فحصل لنا ظن متاخم لليقين أو غير متاخم بفقد تلك الأمور، وذلك لأنها لو كانت لظهرت بعد التفتيش، لأنه (صلى الله عليه وآله) كل ما جاء به أظهره بين يدي أصحابه، وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره، ولم تقع بعده (صلى الله عليه وآله) فتنة انتهت إلى إخفاء بعضه. ومنها: استنباط الأحكام النظرية من السنة النبوية (صلى الله عليه وآله) من غير تفحص عن حالها، كما مر. ومنها: شرع من قبلنا. ومنها: التمسك بالملازمات المختلفة فيها، مثل أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن أضداده الخاصة الوجودية، ومثل أن تحقق مأخذ الاشتقاق في ذات في زمان كاف في إطلاق المشتق على تلك الذات بعد زواله. ومنها: التمسك باستصحاب حكم شرعي مع طرو حالة لم يعلم شمول الخطاب لها. ومنها: التمسك بالاستحسان. ومنها: التمسك بالمصالح المرسلة. ومنها: التمسك بالبراءة الأصلية في نفي حكم شرعي ظهرت شبهة مخرجة عن الأصل كرواية ضعيفة أو لم تظهر. ومنها: التمسك بخبر الواحد المظنون العدالة في نفس الأحكام الإلهية. ومن تدابيرهم القول بأن أمر الشهادة آكد من أمر الرواية ولذلك احتيط في الشهادة ما لم يحتط في الرواية، فزيد في شروطها فاعتبر في الشهادة الحرية
[ 103 ]
والذكورة والعدد وعدم القرابة للمشهود له وعدم العداوة للمشهود عليه، دون الرواية لأن الرواية أبعد عن التهمة. وأقول: من المعلوم أنه ينبغي أن يكون الأمر بالعكس، لأنه يثبت بالرواية حكم كلي يعم المكلفين إلى يوم القيامة وبالشهادة قضية جزئية، ومن ثم تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأنه يكفي في باب الشهادات وإمام الجماعات العدالة الظاهرية وبأنه لابد في راوي الحكم الإلهي العصمة أو من الثقة المأمون من الكذب والزلة ومنها: قولهم بأن الحكم فيما لا دليل فيه نفي الحكم، فنفي الدليل دليل على نفي الحكم، لما ورد الشرع بأن ما لا دليل فيه لا حكم فيه، فكان عدم الدليل لعدم الحكم مدركا شرعيا. وملخصه: أن عدم الدليل مدرك شرعي لعدم الحكم، للإجماع على أن ما لا دليل فيه فهو منفي، وذلك بعد ورود الشرع، لظهور أنه قبل ورود الشرع ليس من المدارك الشرعية، كذا في الشرح العضدي وفي شرح الشرح للعلامة التفتازاني. أقول: من ضروريات مذهب الإمامية أن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة وكل ما يختلف فيه اثنان ورد فيه خطاب وحكم من الله تعالى حتى أرش
[ 104 ]
الخدش، فخلو واقعة عن حكم إلهي غير متصور عند أصحابنا. فائدة اعلم أن علماء العامة مع كثرة المدارك الشرعية عندهم اختلفوا في تحقق مجتهد الكل، فذهب جماعة من محققيهم كالآمدي وصدر الشريعة إلى عدم تحققه، والعجب كل العجب! من جمع من متأخري أصحابنا حيث زعموا تحققه مع عدم اعتبار أكثر تلك المدارك عند أصحابنا. فائدة اعلم أن الأصوليين من الخاصة اتفقوا على بطلان بعض تلك المدارك التي اعتبرتها العامة وعلى صحة بعضها واختلفوا في الباقي، وسنشير إلى الأقسام الثلاثة ونحقق المقام إن شاء الله تعالى بتوفيق الملك العلام وهداية أهل الذكر (عليهم السلام). فائدة الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريين وطريقتهم، أما مذهبهم فهو أن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى أرش الخدش، وأن كثيرا مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من الأحكام ومما يتعلق بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة (عليهم السلام) وأن القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية، وكذلك كثير من السنن النبوية (صلى الله عليه وآله). وأ نه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية إلا السماع من الصادقين (عليهم السلام). وأ نه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقف والاحتياط فيهما، وأن المجتهد في نفس أحكامه تعالى إن أخطأ كذب على الله تعالى وافترى وإن أصاب لم يؤجر، وأ نه لا يجوز القضاء
[ 105 ]
ولا الافتاء إلا بقطع ويقين ومع فقده يجب التوقف، وأن اليقين المعتبر فيهما قسمان: يقين متعلق بأن هذا حكم الله في الواقع، ويقين متعلق بأن هذا ورد عن معصوم فإنهم (عليهم السلام) جوزوا لنا العمل به قبل ظهور القائم (عليه السلام) وإن كان في الواقع وروده من باب التقية ولم يحصل لنا منه ظن بما هو حكم الله تعالى في الواقع والمقدمة الثانية متواترة عنهم معنى. فائدة المعتبر من اليقين في البابين ما يشمل اليقين العادي فلا يتعين تحصيل ما هو
[ 106 ]
أقوى منه من أفراد اليقين، وباب اليقين العادي باب واسع يشهد بذلك اللبيب اليقظاني النفس، والأصوليون بنوا على هذا الباب كثيرا من قواعدهم كحجية الإجماع، وكذلك المتكلمون، وإن شئت أن تعلمه كما علمنا فانظر إلى الشرح العضدي للمختصر الحاجبي وإلى شرح المواقف والمقاصد وغيرها. فائدة كان المتعارف بين قدمائنا وفي كلام الأئمة (عليهم السلام) الوارد في وكلاء الصاحب (عليه السلام) وفي غيرهم جواز الاعتماد على خبر الثقة، ومن المعلوم: أن النسبة بين الثقة في الأخبار وبين ظن العدالة الذي اعتبره العلامة (رحمه الله) ومن وافقه من أصحابنا على وفق العامة عموم من وجه، صرح بذلك الشهيد الثاني في بعض تصانيفه في جواز الاعتماد على خبر البائع الثقة في استبراء الجارية ووقع هذا الإطلاق في صحيحة عمر بن يزيد في باب الشهادة وصرح رئيس الطائفة في كتاب الفهرست بأن كثيرا من أصحاب الأصول كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة وكانت كتبهم
[ 107 ]
معتمدة وصرح في كتاب العدة بأنه يجوز العمل بخبر الثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه وفي الكافي في باب تسمية من رآه (عليه السلام): محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو قد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من أعامل أو عمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون. وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال: فخر أبو عمرو ساجدا وبكى، ثم قال: سل، فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله! ورقبته مثل ذا، وأومأ بيده والحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجة. والتصريح بأنه لا يعتمد في باب الرواية إلا على رواية الثقة وقع في أحاديث كثيرة، سيجيء في كلامنا نقل طرف منها، فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. وأنا أقول: ما أفاده الشيخ (قدس سره) في غاية الجودة، لأن خبر الثقة في الرواية فرد من أفراد الخبر المحفوف بالقرينة الموجبة للعلم والقطع، وكأن هذه الدقيقة كانت منظورة لقدمائنا في العمل بخبر الواحد الثقة وغفل عنها العلامة الحلي فتحير في تحقيق طريقة قدمائنا ووقع في حيص وبيص حتى نسب إليهم أنهم كانوا يعتمدون في عقائدهم أيضا على مجرد خبر الواحد الظني العدالة هكذا ينبغي أن تحقق هذه المباحث. والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب، وذلك فضل الله يؤتيه من
[ 108 ]
يشاء والله ذو الفضل العظيم. وقد رأيت في سحر ليلة الجمعة في مكة المعظمة في المنام: أنه يخاطبني واحد من أخيار الأنام في مقام التسلية بقوله تعالى: ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾ وكان السبب فيه أني كنت حزينا على ما فات مني في بعض المساعي فأخذتني غفوة في تلك الليلة بعد أن صليت صلاة الليل وصلاة الوتر، فلما أصبحت وفتحت الكافي للنظر في مبحث كان في قصدي، فإذا أنا بقول الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية الشريفة: المراد بها أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فالحمد لله الذي أذهب عنا الحزن
[ 109 ]
وأما طريقتهم فهي أنهم لم يعتمدوا فيما ليس من ضروريات الدين من المسائل الكلامية والأصولية والفقهية وغيرها من الأمور الدينية إلا على الأخبار الصحيحة الصريحة المروية عن العترة الطاهرة (عليهم السلام). ومعنى الصحيح عندهم مغاير لما اصطلح عليه المتأخرون من أصحابنا على وفق اصطلاح العامة، وأولهم العلامة على ما سيجيء نقله عن بعض أصحابنا فإن معناه عندهم ما علم علما قطعيا وروده عن المعصوم ولو كان من باب التقية. وباصطلاح القدماء تكلم السيد الإمام العلامة والقدوة الهمام الفهامة سيد المتكلمين وسند الفقهاء والأصوليين السيد الأجل المرتضى (رضي الله عنه) في جواب المسائل التبانيات المتعلقة بأخبار الآحاد، حيث قال: إن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوعة على صحتها، إما بالتواتر من طريق الإشاعة والإذاعة أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص هذا الكلام نقله صاحب كتاب المنتقى في
[ 110 ]
أوائل كتابه عن السيد المرتضى
[ 111 ]
وكذلك عمدة علمائنا الأخباريين شيخنا الصدوق محمد بن علي بن بابويه (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه: أن كل ما ذكره فيه صحيح وأ نه حجة بينه وبين الله تعالى وكذلك الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب الكافي ما محصله: أنه صنفه لأن يزول به إشكال من تحير في الأحكام بسبب اختلاف الروايات وعدم تمكنه من التمييز بين الصحيح
[ 112 ]
منها وغير الصحيح منها، ولأن يكتفي به المتعلم والمسترشد ويأخذ منه معالم دينه بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) ومن المعلوم أنه (رحمه الله) لم يذكر في كتابه هذا قاعدة بها يميز بين الحديث الصحيح وغيره، فعلم أن كل ما فيه صحيح، فإنه لو كان ملفقا من صحيح وغير صحيح لزاد السائل الإشكال والحيرة ولما جاز اكتفاء المتعلم به وأخذ المسترشد منه. وأيضا من الأمور المعلومة عند من تتبع كتب الأخبار والرجال: أن الأصول الصحيحة والأحاديث المعتمدة عليها كانت في زمن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (قدس سره) ممتازة عن غيرها. ومن المعلوم أنه لم يقع من مثله أن يجمع بينهما في كتاب واحد في مقام الهداية والإرشاد من غير نصب علامة مائزة، ذلك ظن الذين لا يوقنون. وكذلك رئيس الطائفة (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب الاستبصار موافقا لما صرح به في كتاب العدة كما حققه المحقق الحلي واختاره في أصوله وفي أوائل المعتبر ما محصوله: أن أخبار كتب قدمائنا التي كانت متداولة بينهم وكانوا مجمعين على ورودها عن المعصومين (عليهم السلام) لا يخلو من أقسام ثلاثة: من جملتها ما يكون مضمون الخبر متواترا. ومن جملتها ما يكون احدى القرائن الموجبة للقطع بصحة مضمون الخبر موجودة. ومن جملتها ما لا يكون هذا ولا ذاك. وإن القسم الثالث ينقسم إلى أقسام: من جملتها خبر انعقد إجماعهم على نقله عنهم (عليهم السلام) بمعنى أنهم لم ينقلوا عنهم (عليهم السلام) في بابه إلا إياه أو ما يوافقه. ومن جملتها خبر ليس كذلك، ولكن انعقد إجماعهم على صحته بمعنى وروده عن المعصوم مع قيد عدم ظهور مانع شرعي عن العمل به، وأن كل خبر عمل به في كتابي الأخبار وغيرهما من الكتب لا يخلو عن الأقسام المذكورة
[ 113 ]
وكذلك المحقق الحلي (قدس سره) تكلم باصطلاح القدماء في العبارة التي تقدم نقلها عن كتاب المعتبر، حيث اختار في العمل بخبر الواحد ما اختاره رئيس الطائفة بعينه، حيث قال: والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه
[ 114 ]
فائدة للمتأخرين إيرادات كثيرة في باب العمل بخبر الواحد على رئيس الطائفة (قدس سره) فأوردوا بعضها على ما ذكره في أوائل كتاب الاستبصار، وبعضها على ما ذكره في كتاب التهذيب، وبعضها على ما ذكره في كتاب العدة. ومن جملة تلك الإيرادات التناقض والاضطراب. ومن الموردين الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح رسالته في دراية الحديث وبعد ما تحيط خبرا بما ذكره المحقق الحلي في تحقيق كلام رئيس الطائفة (قدس سرهما) وبما ذكرناه من زيادات وتوضيحات من قبلنا لا يبقى مجال لهذه الإيرادات. لا يقال: في مواضع من كتاب من لا يحضره الفقيه ما يدل على القدح في بعض أحاديث كتاب الكافي من جملتها أنه بعد ما ذكر توقيعا من التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في باب الرجل يوصي إلى رجلين قال: هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام). وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) رواية خلاف ذلك التوقيع عن الصادق (عليه السلام) ثم قال: لست أفتي بهذا الحديث مشيرا إلى ما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن الصادق (عليه السلام) بل أفتي بما عندي بخط
[ 115 ]
الحسن بن علي (عليهما السلام) ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير، كما أمر به الصادق (عليه السلام) وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس انتهى كلامه. ومن جملتها أنه بعد أن نقل حديثا في باب الوصي يمنع الوارث قال: ما وجدت هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب الكليني وما رويته إلا من طريقه، حدثني به غير واحد منهم محمد بن محمد بن عصام الكليني (رضي الله عنه) عن محمد ابن يعقوب انتهى كلامه أعلى الله مقامه. لأ نا نجيب عن الأول بأنه ليس قوله: ” ولو صح الخبران ” صريحا في عدم صحة الخبر الذي في الكافي، لاحتمال أن يكون قصده الإشارة إلى القاعدة الكلية المذكورة في كلامهم (عليهم السلام) في باب الخبرين المتعارضين، فإن تلك العبارة مذكورة هناك ولاحتمال أن يكون قصده نفي تساويهما في الصحة، فإن من المعلوم أن خط المعصوم أصح من النقل بوسائط، وبعد التنزل عن المقامين نقول: ربما يكون محمد ابن بابويه عند تكلمه بهذا الكلام غافلا عما ذكره محمد بن يعقوب في أوائل كتابه
[ 116 ]
ولأنا نجيب عن الثاني بأن عدم وجدانه لا يدل على عدم وجوده في الأصول المعتمدة
[ 117 ]
فائدة ذكر الفاضل المدقق الشيخ حسن ابن العالم الرباني الشهيد الثاني قدس الله سرهما في أوائل كتاب المنتقى ولقد كانت حالة الحديث مع السلف الأولين على طرف النقيض مما هو فيه مع الخلف الآخرين، فأكثروا لذلك فيه المصنفات وتوسعوا في طرق الروايات وأوردوا في كتبهم ما اقتضى رأيهم إيراده من غير التفات إلى التفرقة بين صحيح الطريق وضعيفه ولا تعرض للتمييز بين سليم الإسناد وسقيمه، اعتمادا منهم في الغالب على القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقه، وتعويلا على الامارات الملحقة لمنحط الرتبة بما فوقه، كما أشار إليه الشيخ (رحمه الله) في فهرسته، حيث قال: ” إن كثيرا من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة، وكتبهم معتمدة ” وغير خاف أنه لم يبق لنا سبيل إلى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظوا بالعين وأصبح حظنا الأثر وفازوا بالعيان وعوضنا عنه بالخبر، فلا جرم انسد عنا باب الاعتماد على ما كانت لهم أبوابه مشرعة، وضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة إلى أن قال اصطلح المتأخرون من أصحابنا على تقسيم الخبر باعتبار اختلاف أحوال رواته إلى الأقسام الأربعة المشهورة انتهى. وأقول: في بعض كلامه بحث، وهو: أن بعض تلك الأبواب انسد وبقيت لنا بحمد الله تعالى أبواب مفتوحة فيها الكفاية، وسيجئ زيادة تحقيق لهذا المقام في كلامنا إن شاء الله تعالى. ثم قال في موضع آخر من كتاب المنتقى: القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعا، لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف كما أشرنا إليه سالفا، فلم يكن للصحيح كثير مزية توجب له التمييز باصطلاح أو غيره، فلما اندرست تلك الآثار واستقلت الأسانيد بالأخبار اضطر المتأخرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشك، فاصطلحوا
[ 118 ]
على ما قدمنا بيانه، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلامة إلا من السيد جمال الدين ابن طاوس (رحمه الله) وإذا أطلقت الصحة في كلام من تقدم فمرادهم منها الثبوت أو الصدق انتهى كلامه (قدس سره). وأقول: من تأمل فيما ذكره المحقق الحلي في أوائل كتاب المعتبر وفي كتاب الأصول في مبحث العمل بخبر الواحد وفي فهرستي الشيخ والنجاشي وفيما ذكر رئيس الطائفة في مبحث العمل بخبر الواحد من كتاب العدة وما ذكره في آخر كتابي الأخبار وغيرها بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأن أحاديث الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المتداولة في زماننا مكتوبة من أصول قدمائنا التي كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم، ويقطع بأن الطرق المذكورة في تلك الكتب إنما ذكرت لمجرد التبرك باتصال السند وباتصال سلسلة المخاطبة اللسانية إلى مؤلفي تلك الأصول، ولدفع تعيير العامة أصحابنا بأن أحاديثهم مأخوذة من أصول قدمائهم وليست بمعنعنة. ويقطع بأن بعض تلك الطرق من مشائخ الإجازة المحضة، من
[ 119 ]
غير سماع من الشيخ أو قراءة عليه خصوصيات كل ما رواه، فلا يتوقف على تلك الطرق صحة أحاديثنا عند التحقيق والنظر الدقيق، بل اعتماد الأئمة الثلاثة وغيرهم قدس الله أرواحهم على تلك الأصول التي كانت متواترة النسبة إلى مؤلفيها في زمانهم كما أن الكتب الأربعة كذلك في زماننا. وأقول: حقيقة الإجازة إخبار إجمالي وهي تنقسم إلى قسمين عند التحقيق: أحدهما: إخبار إجمالي بأمور مضبوطة في كتب شخصية معلومة عند المخاطب في حال الإجازة. وثانيهما: إخبار إجمالى بأمور مضبوطة في الواقع، لا في علم المخاطب. وللفاضل صاحب المنتقى والمعالم (رحمه الله) هنا تحقيق متعلق بالكتب الأربعة لا بأس بنقله. قال في كتاب المعالم: الإجازة في العرف إخبار إجمالي بأمور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط والتصحيف ونحوهما، وما هذا شأنه لا وجه للتوقف في قبوله، والتعبير عنه بلفظ ” أخبرني ” وما في معناه مقيدا بقوله ” إجازة ” تجوز مع القرينة فلا مانع منه، ومثله آت في القراءة على الراوي، لأن الاعتراف إخبار إجمالي. إذا عرفت هذا، فاعلم أن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه، ككتب أخبارنا الأربعة، فإنها متواترة إجمالا، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا، وإنما فائدتها حينئذ بقاء اتصال سلسلة الإسناد بالنبي والأئمة عليه وعليهم الصلاة والسلام وذلك أمر مطلوب مرغوب للتيمن كما لا يخفى انتهى كلامه (رحمه الله)ـ
[ 120 ]
وأقول: قد علمت أن الإجازة قسمان، فاعلم أن أحد قسميها لا مدخل له في العمل أصلا، بل تنحصر فائدته في مجرد التبرك ونحوه. فائدة ذكر الشيخ العالم المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي في أوائل كتاب مشرق الشمسين: استقر اصطلاح المتأخرين من علمائنا رضي الله عنهم على تنويع الحديث المعتبر ولو في الجملة إلى الأنواع الثلاثة المشهورة، أعني ” الصحيح ” و ” الحسن ” و ” الموثق ” بأنه إن كان جميع سلسلة سنده إماميين ممدوحين بالتوثيق فصحيح، أو إماميين ممدوحين بدونه كلا أو بعضا مع توثيق الباقي فحسن، أو كانوا كلا أو بعضا غير إماميين مع توثيق الكل فموثق. وهذا الاصطلاح لم يكن معروفا بين قدمائنا قدس الله أرواحهم كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم، بل كان المتعارف بينهم إطلاق ” الصحيح ” على كل حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه، وذلك بأمور: منها: وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة التي نقلوها عن مشائخهم بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة سلام الله عليهم وكانت متداولة لديهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس رابعة النهار. ومنها: تكرره في أصل أو أصلين منها فصاعدا بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة. ومنها: وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار، أو على تصحيح ما يصح عنهم كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمد بن أبي نصر، أو على العمل بروايتهم كعمار الساباطي ونظرائه ممن عدهم شيخ الطائفة في كتاب العدة، كما نقله عنه المحقق في بحث التراوح من المعتبر. ومنها: اندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمة عليهم الصلاة
[ 121 ]
والسلام فأثنوا على مؤلفيها، ككتاب عبيد الله الحلبي الذي عرض على الصادق (عليه السلام) وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري (عليه السلام). ومنها: أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها، سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية الإمامية ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد وعلي بن مهزيار، أو من غير الإمامية ككتاب حفص بن غياث القاضي وكتب الحسين بن عبيد الله السعدي وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري. وقد جرى رئيس المحدثين ثقة الإسلام محمد بن بابويه (قدس سره) على متعارف المتقدمين من إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد عليه، فحكم بصحة جميع ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره الفقيه، وذكر أنه استخرجها من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع، وكثير من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخرين ومنخرط في سلك الحسان والموثقات، بل الضعاف. وقد سلك على ذلك المنوال جماعة من أعلام علماء الرجال، فحكموا بصحة حديث بعض الرواة غير الإمامية، كعلي بن محمد بن رباح وغيره، لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الذين انعقد الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم. تبيين والذي بعث المتأخرين نور الله مراقدهم على العدول عن متعارف القدماء ووضع ذلك الاصطلاح الجديد هو: أنه لما طالت الأزمنة بينهم وبين الصدر والسالف وآل الحال إلى اندراس بعض كتب الأصول المعتمدة لغلظ حكام الجور والضلال والخوف من إظهارها وانتساخها، وانضم إلى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من كتب الأصول في الأصول المشهورة في هذا الزمان، والتبست الأحاديث المأخوذة من الأصول المعتمدة بالمأخوذة من غير المعتمدة واشتبهت المتكررة في كتب الأصول بغير المتكررة. وخفي عليهم قدس الله أرواحهم كثير من تلك الأمور التي كانت سبب وثوق القدماء بكثير من الأحاديث ولم يمكنهم الجري على
[ 122 ]
إثرهم في تمييز ما يعتمد عليه مما لا يركن إليه، فاحتاجوا إلى قانون يتميز به الأحاديث المعتبرة عن غيرها والموثوق بها عما سواها، فقرروا لنا شكر الله سعيهم ذلك الاصطلاح الجديد وقربوا إلينا البعيد ووصفوا الأحاديث الموردة في كتبهم الاستدلالية بما اقتضاه ذلك الاصطلاح من الحسن والصحة والتوثيق. وأول من سلك هذا الطريق من علمائنا المتأخرين شيخنا العلامة جمال الحق والدين الحسن بن المطهر الحلي قدس الله روحه ثم إنهم أعلى الله مقامهم ربما يسلكون طريقة القدماء في بعض الأحيان، فيصفون مراسيل بعض المشاهير كابن أبي عمير وصفوان بن يحيى بالصحة، لما شاع من أنهم لا يرسلون إلا عن عدل يثقون بصدقه، بل يصفون بعض الأحاديث التي في سندها من يعتقدون أنه فطحي أو ناووسي بالصحة، نظرا إلى اندراجهم في من أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم. وعلى هذا جرى العلامة قدس الله سره في المختلف، حيث قال في مسألة ظهور فسق إمام الجماعة: إن حديث عبد الله بن بكير صحيح، وفي الخلاصة حيث قال: إن طريق الصدوق إلى أبي مريم الأنصاري صحيح وإن كان في طريقه أبان بن عثمان، مستندا في الكتابين إلى إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنهما. وقد جرى شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه على هذا المنوال أيضا كما وصف في بحث الردة من شرح الشرائع حديث الحسن بن محبوب عن غير واحد بالصحة وأمثال ذلك في كلامهم كثير فلا تغفل انتهى كلامه. وأنا أقول: إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام، وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق. فنقول أولا: إنما ينفع تقسيم الخبر الواحد الخالي عن القرائن، وهذه
[ 123 ]
الاصطلاحات إن ظهرت دلالة على جواز التمسك ببعض أفراد خبر الواحد الخالي عن القرائن ولم تظهر، بل وجدت دلالات على أن الحق في هذه المسألة ما اختاره علم الهدى ورئيس الطائفة والمحقق الحلي وابن إدريس قدس الله أرواحهم كما سيجيء بيانها إن شاء الله تعالى. وثانيا: أن هذا التقسيم وما يتعلق به من الأحكام كان مشهورا في كتب العامة قديمهم وحديثهم، والسبب فيه: أن معظم أحاديثهم من باب خبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع بورود الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) فاضطروا إلى التقسيم المذكور وما يتعلق به من الأحكام. وأما قدماء علمائنا قدس الله أرواحهم فلما تمكنوا من أخذ الأحكام بطريق القطع عن الأئمة (عليهم السلام) بواسطة أو بلا واسطة تفيد القطع، لثقة في الرواية أو لغيره من القرائن ولما ثبت عندهم بطريق المشافهة عن الصادقين (عليهم السلام) أو بواسطة تفيد اليقين والقطع أنه لا يجوز العمل والفتيا بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى لم يكن جائزا لهم سلوك طريق غير القطع واليقين، فلذلك لم يلتفتوا إلى تقسيم خبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع وإلى ما يتعلق به من الأحكام. ثم لما نشأ ابن الجنيد وابن أبي عقيل في أوائل الغيبة الكبرى طالعا كتب الكلام وأصول الفقه للمعتزلة ونسجا في الأكثر على منوالهم، ثم أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بهما عند تلامذته كالسيد الأجل المرتضى ورئيس الطائفة فشاعت القواعد الكلامية والقواعد الأصولية المبنية على الأفكار العقلية بين متأخري أصحابنا. حتى وصلت النوبة إلى العلامة ومن وافقه من متأخري أصحابنا الأصوليين، فطالعوا كتب العامة لإرادتهم التبحر في العلوم أو غيره من الأغراض الصحيحة وأعجبتهم كثير من قواعدهم الكلامية والأصولية الفقهية والتقسيمات والاصطلاحات المتعلقة بالأمور الشرعية، فأوردوها في كتبهم لا لضرورة دعت إليه كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى بل لغفلتهم عن أن تلك القواعد والتقسيمات والاصطلاحات لا تتجه على مذهبنا، ولغفلتهم عن استغناء علمائنا عن سلوك تلك الطرق بالأعلام المنصوبة
[ 124 ]
من الله تعالى والآثار المنتشرة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم وكيف لا وقد قال الله تعالى: ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون﴾ـ
[ 125 ]
وثالثا: أنه من الواضحات البينات في صدور الذين تتبعوا بعين الاعتبار والاختبار باب الأخذ بالكتب من كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، ومبحث الخبر الواحد من نهاية العلامة ومن أصول المحقق ومن كتاب العدة لرئيس الطائفة، وأول كتاب الاستبصار له، وآخر شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني، وآخر كتاب السرائر لمحمد بن إدريس الحلي، وأوائل كتاب المعتبر للمحقق الحلي، وأوائل كتاب من لا يحضره الفقيه، وما سننقله من كلام علم الهدى وغير ذلك من كتب الرجال وكتب الأخبار كفهرست رئيس الطائفة وفهرست النجاشي وكتاب الكشي لا سيما المواضع المشتملة على بيان الإجماعات الواقعة في حق جمع كثير من مصنفي الأصول أنه كان بين قدماء علمائنا الذين أدركوا صحبة الأئمة (عليهم السلام) أو زمنهم كتب متداولة معروفة مشهورة بالصحة، وكانت تلك الكتب
[ 126 ]
مرجعهم فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم، وأ نهم كانوا متمكنين من استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب وإخراج ما يحتمل أن يكون من باب الافتراء أو من باب السهو عنها بالعرض على الأئمة (عليهم السلام) بل وقع الاستعلام والعرض في كتب كثيرة فأجابوا (عليهم السلام) بأنها حق. ومن المعلوم عادة أن مثلهم لا يغفل عن تلك الدقيقة ولا يقصر فيها، فعلم أنهم كانوا قاطعين جازمين بصحة أحاديث تلك الكتب. وكيف يحتمل عند عاقل أن يكون ما في الكتب مرجعا لجم غفير من العلماء الصالحين من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في عقائدهم وأعمالهم في مر الدهور والأعوام من زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخر الغيبة الصغرى من غير قطعهم بصحة ما في تلك الكتب مع تمكن كلهم أو جلهم من استعلام حال تلك الكتب ومن أخذ الأحكام بطريق اليقين بمشافهة أو بغيرها؟ ذلك ظن الذين لا يوقنون! ورابعا: أن مقتضى الحكمة الربانية ومقتضى الأحاديث الواردة في باب الأخذ بالكتب والأحاديث الدالة على حرص الصادقين (عليهما السلام) في إملاء الشريعة المقدسة على جمع كثير من علماء الشيعة وأمرهم بكتابة ما يسمعونه منهما وبتأليف كتب مشتملة على ما يسمعونه منهما وبحفظ تلك الكتب وبثها في إخوانهم لتعمل بما فيها الشيعة في زمن الغيبة الكبرى ومقتضى إخبار الصادق (عليه السلام) بانحصار عمل الشيعة بما في تلك الكتب في زمن الغيبة الكبرى بقاء تلك الأحاديث في زمن الغيبة الكبرى وجواز عملنا بها؛ ومن المعلوم أنه لا مصداق لتلك الأمور إلا العمل بتلك الكتب المعروفة في زماننا. وخامسا: أنه ما سمعت أحدا يقول بأنه ضاعت تلك الأصول في زمن الأئمة الثلاثة قدس الله أرواحهم أو اختلطت بغيرها من غير نصب علامة تميز بينهما إلا الفاضلين المذكورين فإنهما ذكرا ذلك في مقام توجيه ما أحدثه العلامة أو غيره من المتأخرين، بل كلام ابن بابويه وكلام محمد بن يعقوب الكليني وكلام
[ 127 ]
رئيس الطائفة والسيد المرتضى والمحقق الحلي وابن إدريس وغيرهم صريح في خلاف ما ذكراه، بل هما اعترفا بعدم الضياع وعدم الاختلاط في زمن الأئمة الثلاثة المؤلفين للكتب الأربعة وغيرها. ومن المعلوم أن هذا القدر يكفينا. وأيضا العادة قاضية بأنه لو وقع لاشتهر. وأيضا الحكمة الربانية وشفقة العترة الطاهرة (عليهم السلام) بالشيعة وأخبارهم بأن عملهم في زمن الغيبة الكبرى يكون بأحاديثنا المسطورة في كتبهم تكذب كلام الفاضلين وقد صرح الفاضل الشيخ حسن في كتاب المنتقى بأن أكثر أنواع الحديث
[ 128 ]
المذكورة في فن دراية الحديث من مستخرجات العامة بعد وقوع معانيها في حديثهم فذكروها بصورة ما وقع، واقتفى جماعة من أصحابنا في ذلك إثرهم واستخرجوا من أخبارنا في بعض الأنواع ما يناسب مصطلحهم وبقي منها كثير على حكم محض الفرض. ولا يخفى أن البحث عما ليس بواقع واتباعهم في إثبات الاصطلاح له قليل الجدوى وبعيد عن الاعتبار ومظنة للايهام انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأقول: الحق أن تقسيم الخبر الواحد الخالي عن القرائن إلى الأقسام الأربعة من هذا القبيل ومن باب الغفلة عن أن معاني تلك الاصطلاحات مفقودة في أحاديث كتبنا عند النظر الدقيق. وسادسا: من المعلوم أن عاقلا فاضلا صالحا إذا أراد تأليف كتاب لإرشاد الخلق وهدايتهم ولأخذ من يجيء بعده معالم دينه منه لا يرضى بأن يلفق بين أحاديث تلك الأصول المجمع على صحتها المقطوع بورودها عنهم (عليهم السلام) وبين ما ليس كذلك من غير نصب علامة تميز بينهما. بل من المعلوم أنه لا يجوز ذلك. بل أقول: أرباب التواريخ إذا أرادوا تأليف تاريخ مع تمكنهم من أخذ الأخبار من كتاب مقطوع بصحته لا يرضون بأخذ الأخبار من موضع ليس كذلك، ولو اتفق ذلك لصرحوا بحاله وميزوه عن غيره، فكيف يظن برؤساء العلماء والصلحاء مثل الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ومثل رئيس الطائفة! ما ظنوه فإن فيه تخريب الدين لا إرشاد المسترشدين، لا سيما إذا وقع التصريح منهم بما يدل على أ نهم أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول المعروفة المشهورة التي كانت مرجعا لقدماء أصحابنا في عقائدهم وأعمالهم. ومن المعلوم: أن هؤلاء الأجلاء لم يذكروا في كتبهم قاعدة بها تميز بين الحديث المأخوذ من الأصول المجمع على صحتها وبين غيره، فعلم أن كلها مأخوذة من تلك الأصول. وسابعا: أن رئيس الطائفة كثيرا ما في كتابي الأخبار يتمسك بأحاديث ضعيفة
[ 129 ]
بزعم المتأخرين، بل بروايات الكذابين المشهورين مع تمكنه من أحاديث أخرى صحيحة مذكورة في كتابه، بل كثيرا ما يعمل بالأحاديث الضعيفة عندالمتأخرين ويترك ما يضادها من الأحاديث الصحيحة عندهم، فعلم من ذلك أن تلك الأحاديث مأخوذة من الأصول المجمع على صحتها، كما صرح به في كتاب العدة وكتاب الاستبصار والفهرست وغيرها. وثامنا: أنه ذكر الشهيد الثاني (رحمه الله) في شرح رسالته في فن دراية الحديث كان قد استقر أمر المتقدمين على أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها ” الأصول ” وكان عليها اعتمادهم، ثم تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، وأحسن ما جمع منها كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، والتهذيب للشيخ أبي جعفر الطوسي، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، لأن الأول أجمع لفنون الأحاديث والثاني أجمع للأحاديث المختصة بالأحكام الشرعية. وأما الاستبصار: فإنه أخص من التهذيب غالبا فيمكن الغنى عنه به. وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن أيضا، إلا أنه لا يخرج عن الكتابين غالبا إنتهى كلامه أعلى الله مقامه. وذكر الفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي في رسالته الموسومة بالوجيزة المصنفة في فن رواية الحديث: جميع أحاديثنا إلا ما ندر ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر سلام الله عليهم وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فإن علومهم مقتبسة من تلك المشكاة. وما تضمنه كتب الخاصة رضوان الله عليهم من الأحاديث المروية عنهم (عليهم السلام) تزيد على ما في الصحاح الستة للعامة بكثير، كما يظهر لمن تتبع أحاديث الفريقين، وقد روى راو واحد وهو أبان بن تغلب عن إمام واحد أعني: الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث كما ذكره علماء الرجال وقد كان جمع قدماء محدثينا رضي الله عنهم ما وصل إليهم من أحاديث
[ 130 ]
أئمتنا سلام الله عليهم في أربعمائة كتاب تسمى ” الأصول ” ثم تصدى جماعة من المتأخرين شكر الله سعيهم لجمع تلك الكتب وترتيبها، تقليلا للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام) كالكافي، وكتاب من لا يحضره الفقيه، والتهذيب والاستبصار، ومدينة العلم والخصال والأمالي وعيون الأخبار وغيرها. أما الكافي: فهو تأليف ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي عطر الله مرقده ألفه في مدة عشرين سنة وتوفي ببغداد سنة ثمان أو تسع وعشرين وثلاثمائة، ولجلالة شأنه عده جماعة من علماء العامة كابن الأثير في كتاب جامع الأصول من المجددين لمذهب الإمامية على رأس المائة الثالثة، بعد ما ذكر أن سيدنا وإمامنا أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه الطاهرين أفضل الصلاة والسلام هو المجدد لذلك المذهب على رأس المائة الثانية. وأما كتاب من لا يحضره الفقيه: فهو تأليف رئيس المحدثين حجة الإسلام أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي قدس الله روحه وله طاب ثراه مؤلفات أخرى سواه تقارب ثلاثمائة كتاب، توفي بالري سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وأما التهذيب والاستبصار: فهما من تأليفات شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي نور الله ضريحه وله تأليفات أخرى سواهما في التفسير والأصول والفروع وغيرها، توفي طيب الله مضجعه سنة ستين وأربعمائة بالمشهد المقدس الغروي على ساكنه أفضل الصلاة والسلام. فهؤلاء المحدثون الثلاثة قدس الله أرواحهم هم أئمة أصحاب الحديث من متأخري علماء الفرقة الناجية الإمامية رضوان الله عليهم انتهى كلامه. وأنا أقول: ذكر المحقق الحلي في أوائل المعتبر: أنه كتب من أجوبة مسائل الصادق (عليه السلام) أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها أصولا وبالجملة، تلك الأربعمائة اخذت من إمام واحد منهم (عليهم السلام) وكانت لقدمائنا
[ 131 ]
أصول أخرى غير الأربعمائة، يشهد بذلك من تتبع فهرست الشيخ الطوسي وفهرست النجاشي وفهرست محمد بن شهر آشوب المازندراني. ثم أقول: بعد أن علمنا وفور أحاديث قدمائنا الصحيحة وكثرة الأصول المجمع على صحتها، وعلمنا تمكن قدمائنا الأفاضل الأعلام المصنفين من أخذ الأحكام بطريق القطع منهم (عليهم السلام) بمشافهة أو بغيرها في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة وتمكنهم من استعلام حال أحاديث تلك الأصول، وعلمنا عملهم بها في أزمنتهم (عليهم السلام) وعلمنا تقرير الأئمة (عليهم السلام) إياهم على ذلك، وعلمنا أن الأئمة الثلاثة أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول، وعلمنا عدم جواز التلفيق بين المأخوذ من الأصول المجمع عليها وبين ما لا يعتمد عليه من غير نصب علامة مميزة بينهما يلزم أحد الأمرين: إما نسبة تخريب المذهب إلى الأئمة الثلاثة أو القطع بأن أحاديث كتبهم كلها مأخوذة من تلك الأصول المجمع على صحتها. هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع والتكلان على التوفيق
[ 132 ]
فائدة ذكر الشيخ الفاضل الشيخ حسن بن العالم الرباني الشهيد الثاني (رحمه الله) في كتاب المعالم: قال العلامة في النهاية: أما الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة (عليهم السلام) والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم انتهى. ثم ذكر في المعالم وقد حكى المحقق (رحمه الله) عن الشيخ أن قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحة ما أفتى به المفتي منهم عول على المنقول في أصولهم المعتمدة وكتبهم المدونة فيسلم له خصمه منهم الدعوى في ذلك، وهذه سجيتهم من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) إلى زمن الأئمة (عليهم السلام) فلولا ان العمل بهذه الأخبار جائز لأنكروه وتبرأوا من العامل به
[ 133 ]
وذكر في موضع آخر من كتاب المعالم: ذكر السيد المرتضى (رضي الله عنه) في جواب المسائل التبانيات: أن أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد وأن ادعاء خلاف ذلك عليهم دفع للضرورة، قال: لأ نا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شك أن علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها وأ نها ليست بحجة ولا دلالة، وقد ملأوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم فيه، ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنه مستحيل من طريق العقول أن يتعبد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وحظره. وقال في المسألة التي أفردها في البحث عن العمل
[ 134 ]
بخبر الواحد: إ نه بين في جواب المسائل التبانيات أن العلم الضروري حاصل لكل مخالف للإمامية أو موافق بأنهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم، وأن ذلك قد صار شعارا لهم يعرفون به، كما أن نفي القياس في الشريعة من شعارهم الذي يعلمه منهم كل مخالط لهم. وتكلم في الذريعة على التعلق بعمل الصحابة والتابعين بأن الإمامية تدفع ذلك وتقول: إنما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة المتأمرون الذين يحتشم التصريح بخلافهم والخروج عن جملتهم، فإمساك النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه، لأن الشرط في دلالة الإمساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوى الرضا من تقية وخوف وما أشبه ذلك. وقد أورد السيد على نفسه في بعض كلامه سؤالا هذا لفظه: فإن قيل: إذا سددتم طريق العمل بالأخبار فعلى أي شيء تعولون في الفقه كله؟ وأجاب بما حاصله: ان معظم الفقه يعلم بالضرورة مذاهب أئمتنا (عليهم السلام) فيه بالأخبار المتواترة، وما لم يتحقق ذلك فيه ولعله الأقل يعول فيه على إجماع الإمامية، وذكر كلاما طويلا في بيان حكم ما يقع فيه الاختلاف بينهم. ومحصوله: أنه إذا أمكن تحصيل القطع بأحد الأقوال من طرق ذكرها تعين العمل عليه وإلا كنا مخيرين بين الأقوال المختلفة لفقد دليل التعيين
[ 135 ]
وذكر في موضع آخر من كتاب المعالم: السيد قد اعترف في جواب المسائل التبانيات بأن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها، إما بالتواتر أو بعلامة وأمارة دلت على صحتها وصدق رواتها، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد. وبقي الكلام في التدافع الواقع بين ما عزاه إلى الأصحاب وبين ما حكيناه عن العلامة في النهاية، فإنه عجيب! ويمكن أن يقال: إن اعتماد المرتضى فيما ذكره على ما عهده من كلام أوائل المتكلمين منهم والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقهم، وقد مرت حكاية المحقق عن ابن قبة وهو من أجلتهم القول بمنع التعبد به عقلا، وتعويل العلامة على ما ظهر له من حال الشيخ وأمثاله من علمائنا المعتنين بالفقه والحديث، حيث أوردوا الأخبار في كتبهم واستراحوا إليها في المسائل الفقهية، ولم يظهر منهم ما يدل على موافقة المرتضى. والإنصاف أ نه لم يتضح من حالهم المخالفة له أيضا، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين واستفادة الأحكام منهم، وكانت القرائن العاضدة لها متيسرة، كما أشار إليه السيد، ولم يعلم أنهم اعتمدوا على الخبر المجرد لتظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وقد تفطن المحقق من كلام الشيخ بما قلناه بعد أن ذكر عنه في حكاية الخلاف هنا أنه عمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من الطائفة المحقة، وأورد احتجاج القوم من الجانبين، فقال: وذهب شيخنا أبو جعفر (رحمه الله) إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبين أنه لا يعمل بالخبر مطلقا، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة (عليهم السلام) ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه إمامي يجب العمل به. هذا الذي تبين لي في كلامه، ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به. وما فهمه المحقق من كلام الشيخ هو الذي ينبغي
[ 136 ]
أن يعتمد عليه لا ما نسبه العلامة إليه. وأما اهتمام القدماء بالبحث عن أحوال الرجال فمن الجائز أن يكون طلبا لتكثير القرائن وتسهيلا لسبيل العلم بصدق الخبر وكذا اعتناؤهم بالرواية فإنه محتمل لأن يكون رجاء للتواتر وحرصا عليه. وعلى هذا تحمل روايتهم لأخبار أصول الدين، فإن التعويل على الآحاد فيها غير معقول انتهى ما أردنا نقله من كتاب المعالم. وأقول: قدماء أصحابنا الأخباريين بريئون عما نسبه الفاضل العلامة إليهم من أ نهم كانوا يعتمدون في أصول دينهم وفروعه على مجرد خبر الواحد المظنون العدالة وكأ نه وقع في هذا التوهم من عبارة الشيخ التي حكاها المحقق وكيف يظن بهؤلاء الأجلاء الذين أدركوا صحبة الأئمة (عليهم السلام) وتمكنوا من أخذ الأحكام منهم بطريق القطع واليقين ومن استعلام أحوال تلك الأحاديث التي عملوا بها واعتمدوا عليها في عقائدهم وأعمالهم مثل هذه المساهلة الشنيعة في دينهم؟ وكثيرا ما يقع عن هذا الفاضل وأتباعه ما لا ينبغي من الدعاوى من باب الغفلة والعجلة وقلة التأمل في أسرار المسألة، وليس قصدي من هذا الكلام القدح في فضله (رحمه الله) أو في تقواه، لكن قصدي تنبيه من لا تحقيق له من الأفاضل فإنهم يحسبون أن كل من زاد تبحره زاد تحقيقه، فيقلدون العلامة في الأصول والفروع. ولو لم يكن إظهار هذا المعنى واجبا علي لما أظهرته لكن قطعت بوجوبه، والله مطلع على سرائر عباده ومن تتبع أحاديث أصحابنا المتعلقة بأصول الدين وأصول الفقه وتتبع ما في كتب الرجال من سيرة قدماء أصحابنا بنظر الاختبار والاعتبار لقد قطع بأن الأخباريين من أصحابنا لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) البالغة حد التواتر المعنوي أو المحفوفة بقرائن توجب العلم بورودها عن المعصوم، وخبر الواحد الخالي عن القرائن يوجب الاحتياط عندهم ولا يوجب
[ 137 ]
الافتاء والقضاء، لأنه من باب الشبهات وسنذكر وجوه القرائن الموجودة في زماننا لتعلم أن زمانهم أولى بذلك، من جملتها خبر رجل يقطع بقرينة المعاشرة أو بدونها أنه ثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب، ولنتبارك بنقل طرف من الأحاديث الناطقة بجواز التمسك بالكتب
[ 138 ]
والناطقة بما تقدم في كلامنا: من أنه كانت عند قدمائنا كتب وكانت تلك الكتب بإملاء الأئمة (عليهم السلام) وخط أصحابهم وكانوا مأمورين بذلك لتأخذ منها الشيعة عقائدهم وأعمالهم، لا سيما في زمن الغيبة الكبرى. ففي كتاب الكافي في باب رواية الكتب وفضل الكتابة والتمسك بالكتب: محمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيسمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى، قال: فاقرأ عليهم من أوله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا عنه بإسناده عن أحمد بن عمر الحلال، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول أروه عني يجوز لي أن أرويه عنه؟ قال، فقال: إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القلب يتكل على الكتابة الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشا، عن عاصم ابن حميد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه عن أبي سعيد الخيبري، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في اخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر
[ 139 ]
عن جميل بن دراج قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): أعربوا حديثنا فانا قوم فصحاء علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك! إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا فقال: حدثوا بها فإنها حق وبنقل كلام جمع من علمائنا زائدا على ما نقلناه سابقا ليزيدك اطمئنانا بما نحن بصدد بيانه من بقاء أحاديث تلك الأصول التي كانت مرجعا للفضلاء المتقدمين من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في عقائدهم وأعمالهم، وانعقد إجماعهم على صحة ما فيها إلى زمن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني وزمن شيخنا الصدوق وزمن رئيس الطائفة بل زمن محمد بن إدريس الحلي وزمن المحقق الحلي، ومن أنهم
[ 140 ]
أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأصول من غير اختلاط بينها وبين ما ليس بصحيح فنقول: ذكر رئيس الطائفة (قدس سره) في أوائل كتاب الاستبصار مشيرا إلى الأخبار المسطورة في الأصول المعروفة بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) التي كانت مرجعا لهم في عقائدهم وأعمالهم، وانعقد إجماعهم على صحة كلها، بقرينة دلالة آخر كلامه على ذلك وتصريحه في كتاب العدة وتصريح المحقق الحلي في أصوله بذلك: اعلم أن الأخبار على ضربين: متواتر، وغير متواتر فالمتواتر منه ما أوجب العلم، فما هذا سبيله يجب العمل به من غير توقع شيء ينضاف إليه ولا أمر يقوى به ولا يرجح به على غيره. وما يجري هذا المجرى لا يقع فيه التعارض ولا التضاد
[ 141 ]
في أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام). وما ليس بمتواتر على ضربين: فضرب منه يوجب العلم أيضا وهو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم، وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به وهو لاحق بالقسم الأول. والقرائن أشياء كثيرة: منها: أن يكون مطابقة لأدلة العقل ومقتضاه
[ 142 ]
ومنها: أن تكون مطابقة لظاهر القرآن إما لظاهره أو عمومه أو دليل خطابه أو فحواه، فكل هذه القرائن توجب العلم وتخرج الخبر من حيز الآحاد وتدخله في باب المعلوم. ومنها: أن تكون مطابقة للسنة المقطوع بها إما صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما. ومنها: أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه. ومنها: أن تكون مطابقة لما أجمعت عليه الفرقة المحقة، فإن جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيز الآحاد وتدخله في باب المعلوم وتوجب العمل به. وأما القسم الآخر، فهو كل خبر لا يكون متواترا ويتعرى من واحدة من هذه القرائن فإن ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروط، فإذا كان خبرا لا يعارضه
[ 143 ]
خبر آخر فإن ذلك يجب العمل به، لأنه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل، إلا أن تعرف فتاويهم بخلافه فيترك لأجلها العمل به. وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين، وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نظر، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر، لأنه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا، وإذا كان الخبران يمكن العمل بكل واحد منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا أو لفظا أو دليلا وكان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكان متحاذيا كان العامل مخيرا في العمل بأيهما شاء، وإذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما وبعد التأويل بينهما كان العامل أيضا مخيرا في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم. ولا يكون العاملان بهما على هذا الوجه إذا اختلفا وعمل كل واحد منهما على خلاف ما عمل عليه الآخر مخطئا ولا متجاوزا حد الصواب، إذ روي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: إذا ورد عليكم حديثان ولا تجدون ما ترجحون به أحدهما على الآخر مما ذكرناه كنتم مخيرين في العمل بهما، ولأنه إذا ورد الخبران المتعارضان وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين ولا على ابطال الخبر الآخر فكأنه إجماع على صحة الخبرين، وإذا كان إجماعا على صحتهما كان العمل بهما جائزا سائغا. وأنت إذا فكرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الأقسام، ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام انتهى كلامه أعلى الله مقامه
[ 144 ]
وإن شئت تحقيق كلامه (قدس سره) ليندفع عنه جميع اعتراضات المتأخرين وليوافق ما ذكره في كتاب العدة ويوافق ما فهمه المحقق الحلي وصاحب كتابي المعالم والمنتقى من كلامه (قدس سره) فاستمع لما نتلوا عليك من الكلام، وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق. فأقول: ملخص كلامه: أن الأخبار المسطورة في كتبنا التي انعقد إجماع قدماء الطائفة المحقة على ورودها عن المعصومين (عليهم السلام) وكانت مرجعا لهم فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم كل ذلك بأمر بعض الأئمة وبتقرير بعض آخر منهم صلوات الله عليهم على ذلك تنحصر في أقسام ثلاثة: القسم الأول: أن تكون صحة مضمونه متواترة، فلذلك لا يجوز فيه التناقض. والثاني: أن توجد قرينة دالة على صحة مضمونه، ومن القرائن: أن يكون مضمونه مطابقا للدليل العقلي القطعي، كالخبر الدال على أن التكليف لا يتعلق بغافل عنه ما دام غافلا والخبر الدال على أن الفعل الواجب الذي حجب الله العلم بوجوبه عن العباد موضوع عنهم ما داموا كذلك لا للدليل العقلي الظني كالاستصحاب وكجعل عدم ظهور المدرك على حكم شرعي مدركا على عدم ورود ذلك الحكم في الواقع. ومن القرائن: أن يكون مضمونه مطابقا لما هو من ضروريات الدين من ظواهر القرآن. وعليه فقس الباقي، والقسمان يوجبان العلم والقطع بما هو حكم الله في الواقع. والقسم الثالث: ما لا يكون هذا ولا ذاك، ويجوز العمل به على شروط راجعة إلى شيء واحد وهو أن لا يوجد معارض أقوى منه. ووجه جواز العمل بهذا القسم أ نه لا يخلو من أمرين: لأنه إما من الباب الذي عليه الإجماع في النقل بمعنى أن قدماءنا لم ينقلوا إلا إياه أو ما يوافقه، أو من الباب الذي وقع الإجماع على صحته، ومعنى الصحة هاهنا ثبوت وروده عن المعصوم مع عدم ظهور مانع عن العمل به، وهذا التفسير لكلام رئيس الطائفة موافق لما ذكره في كتاب العدة ولما ذكره المحقق الحلي وصاحب المعالم في تحقيق كلامه
[ 145 ]
وهنا احتمال آخر في تفسير كلام الشيخ وهو أن يقال: مراده من ” الأخبار ” مطلق الأخبار، ومراده من العلم العلم بنفس الدليل لا بنفس المدلول ليعم ظني الدلالة، ومراده من ” الشروط ” الشروط المذكورة في كتب الأصول من إسلام الراوي وإيمانه وعدالته وضبطه. لكن حينئذ يرد عليه أبحاث كثيرة في كتب المتأخرين مسطورة ويخالف كلامه في كتاب العدة ويختل مقصوده بالكلية. ولنمهد هنا مقدمة ثم نشتغل بنقل كلام العدة وغيره فأقول: صريح كلام رئيس الطائفة (قدس سره) أنه لا يجوز العمل بخبر لا يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع أو حكم ورد عنهم (عليهم السلام) ويجوز العمل بخبر يوجب القطع بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) وإن لم يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع. وما صرح به رئيس الطائفة هو المستفاد من الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) وهو مراد علم الهدى عند التحقيق، فصارت المناقشة بين النحريرين العلمين المقدسين قدس الله سرهما لفظية لا معنوية كما توهمه العلامة ومن تبعه. والحمد لله والطول والمنة. وقد اختار المحقق الحلي وابن إدريس ما اختاره رئيس الطائفة بعينه. وأنا اخترت مختارهم، لتواتر الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بجواز العمل بخبر الثقة وبخبر يفيد العلم بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) وبالتوقف عند خبر لا يفيد القطع بورود الحكم عنهم (عليهم السلام)ـ
[ 146 ]
ثم أقول: الذي قطعت به قطعا عاديا من تتبع الأحاديث ومن تتبع كلام علمائنا أ نه كانت عند أصحاب الأئمة كتب وأصول كانوا يرجعون إليها فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم مع تمكنهم من أخذ الأحكام بطريق القطع واليقين ومن استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب والأصول عنهم (عليهم السلام) مع نهاية فضلهم واحتياطهم وورعهم وحرص الأئمة (عليهم السلام) لا سيما الصادقين (عليهما السلام) في إرشادهم وهدايتهم. ثم اعلم أن سبب اعتمادهم على تلك الكتب والأصول لا يخلو من أمور: منها: قطعهم بأن الراوي كان ثقة في الرواية. ومنها: استعلام حال كتابه من بعض أصحاب العصمة صلوات الله عليهم . ومنها: عرض كتابه على كتاب آخر مقطوع بصحته، وأن الأئمة الثلاثة رحمهم الله تعالى أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الكتب والأصول
[ 147 ]
وذكر الفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي في كتاب مشرق الشمسين: المعتبر حال الراوي وقت الأداء لا وقت التحمل، فلو تحمل الحديث طفلا أو غير إمامي أو فاسقا ثم أداه في وقت يظن أنه كان مستجمعا فيه لشرائط القبول قبل، ولو ثبت أنه كان في وقت غير إمامي أو فاسقا ثم تاب ولم يعلم أن الرواية عنه هل وقعت قبل التوبة أو بعدها لم تقبل حتى يظهر لنا وقوعها بعد التوبة. فإن قلت: إن كثيرا من الرواة كعلي بن أسباط والحسين بن يسار، وغيرهما كانوا أولا من غير الإمامية ثم تابوا ورجعوا إلى الحق والأصحاب يعتمدون على حديثهم ويثقون بهم من غير فرق بينهم وبين ثقات الإمامية الذين لم يزالوا على الحق، مع أن تاريخ الرواية عنهم غير مضبوط ليعلم أنه هل كان بعد الرجوع إلى الحق أو قبله، بل بعض الرواة ماتوا على مذاهبهم الفاسدة من الوقف وكانوا شديدي التصلب فيه ولم ينقل رجوعهم إلى الحق في وقت من الأوقات أصلا، والأصحاب يعتمدون عليهم ويقبلون أحاديثهم كما قبلوا حديث ” علي بن محمد بن رباح ” وقالوا: إنه صحيح الرواية ثبت معتمد على ما يرويه وكما قبل المحقق في المعتبر رواية ” علي بن أبي حمزة ” عن الصادق (عليه السلام) معللا ذلك بأن تغيره إنما كان في زمن الكاظم (عليه السلام) فلا يقدح فيما قبله وكما حكم العلامة في المنتهى بصحة حديث ” إسحاق بن جرير ” وهؤلاء الثلاثة من رؤساء الواقفية. قلت (4): المستفاد من تصفح كتب علمائنا المؤلفة في السير والجرح والتعديل
[ 148 ]
أن أصحابنا الإمامية رضي الله عنهم كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحق أولا ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهم السلام) في أقصى المراتب، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشد من تظاهرهم بها للعامة، فإنهم كانوا يتاقون العامة ويجالسونهم وينقلون عنهم ويظهرون لهم أنهم منهم خوفا من شوكتهم، لأن حكام الضلال منهم. وأما هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإمامية ضرورة داعية إلى أن يسلكوا معهم على ذلك المنوال وسيما الواقفية، فإن الإمامية كانوا في غاية الاجتناب لهم والتباعد عنهم حتى أنهم كانوا يسمونهم ب ” الممطورة ” أي: الكلاب التي أصابها المطر! وأئمتنا (عليهم السلام) لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم ومجالستهم ويأمرون بالدعاء عليهم في الصلاة ويقولون: إنهم كفار مشركون زنادقة وإنهم شر من النواصب، وأن من خالطهم وجالسهم فهو منهم، وكتب أصحابنا مملوة بذلك كما يظهر لمن تصفح كتاب الكشي وغيره، فإذا قبل علماؤنا سيما المتأخرون منهم رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحتها مع علمهم بحاله، فقبولهم لها وقولهم بصحتها لابد من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق به القدح إليهم ولا إلى ذلك الرجل، لثقة الراوي عمن هذا حاله، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق، وأن النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقف ولكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد، ككتب ” علي بن الحسن الطاطري ” فإنه وإن كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية، إلا أن الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم؛ إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة. والظاهر أن قبول المحقق طاب ثراه رواية ” علي بن أبي حمزة ” مع شدة تعصبه في مذهبه الفاسد مبني على ما هو الظاهر من كونها منقولة عن أصله، وتعليله مشعر بذلك، فإن الرجل من أصحاب الأصول. وكذلك قول العلامة بصحة رواية ” إسحاق بن جرير ” عن الصادق (عليه السلام)ـ
[ 149 ]
فإنه كان من أصحاب الأصول أيضا. وتأليف أمثال هؤلاء أصولهم كان قبل الوقف، لأنه وقع في زمان الصادق (عليه السلام) فقد بلغنا عن مشايخنا قدس الله أرواحهم أنه كان من دأب أصحاب الأصول انهم إذا سمعوا من أحد الأئمة (عليهم السلام) حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم كي لا يعرض لهم النسيان لبعضه أو كله بتمادي الأيام وتوالي الشهور والأعوام، والله أعلم بحقائق الأمور انتهى [كلامه ادام الله ايامه] وأنا أقول: هذا الفاضل يوم تكلم بما تقدم نقله عنه من قوله: ” والذي بعث المتأخرين على العدول عن متعارف القدماء ووضع ذلك الاصطلاح الجديد… الخ ” كان غافلا عن لازم هذا الكلام الأخير، لأن قوله: ” كانوا يحترزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم ” وقوله: ” فقبولهم لها وقولهم بصحتها لابد من ابتنائه على وجه صحيح ” يستلزم أن يكون أحاديث الكافي كلها صحيحة، وكذلك كل حديث عمل به رئيس الطائفة (قدس سره) لأن الكليني صرح بصحة كل أحاديث الكافي ورئيس الطائفة صرح بأنه لم يعمل إلا بحديث مأخوذ من الأصول المجمع عليها ولنشتغل بذكر كلام العدة فنقول: ذكر رئيس الطائفة في كتاب العدة بعد نقل الأقوال المختلفة في العمل بخبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع بصحة مضمونه، أي بأن مضمونه حكم الله في الواقع : فأما ما اخترته من المذهب، فهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو عن واحد من الأئمة (عليهم السلام) وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه إن كان هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجبا للعلم ونحن نذكر القرائن فيما بعد جاز العمل به. والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم
[ 150 ]
ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله، هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمة ومن زمان الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه، لأن اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو. والذي يكشف عن ذلك: أنه لما كان العمل بالقياس محظورا في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا، وإذا شذ منهم واحد عمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه وإن لم يعلم اعتقاده تركوا قوله وأنكروا عليه وتبر أوا من قوله، حتى أنهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس، فلو كان العمل بخبر الواحد يجري ذلك المجرى لوجب أيضا فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه. فإن قيل: كيف تدعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد
[ 151 ]
والمعلوم من حالها أنها لا ترى العمل بخبر الواحد؟ كما أن المعلوم من حالها لا ترى العمل بالقياس، فإن جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الآخر. قيل لهم: المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصمون بطريقه، فأما ما يكون راويه منهم وطريقة أصحابهم فقد بينا أن المعلوم خلاف ذلك، وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضا، وأ نه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس، وقد علم خلاف ذلك. فإن قيل: أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أن خبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك، حتى أن منهم من يقول: لا يجوز ذلك عقلا، ومنهم من يقول: لا يجوز ذلك سمعا لأن السمع لم يرد به، وما رأينا أحدا منهم تكلم في جواز ذلك ولا صنف فيه كتابا ولا أملأ فيه مسألة، فكيف تدعون أنتم خلاف ذلك؟ قيل له: الذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون هم خلافها، وذلك صحيح على ما قدمناه ولم تجدهم اختلفوا فيما بينهم، وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه إلا مسائل دل الدليل الموجب للعلم على صحتها، فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلة الموجبة للعلم أو الأخبار المتواترة بخلافه. فأما من أحال ذلك عقلا فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله وبينا أن ذلك جائز، فمن أنكره كان محجوجا بذلك. على أن الذين أشير إليهم في السؤال أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة المحقة، وعلمنا أنهم لم يكونوا أئمة معصومين، وكل قول علم قائله وعرف نسبه وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة لم يعتد بذلك القول، لأن قول الطائفة إنما كان حجة من حيث كان فيها معصوم، فإذا كان القول صادرا من غير معصوم علم أن قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ووجب المصير إليه على ما نبينه في باب الإجماع. فإن قيل: إذا كان العقل يجوز العمل بخبر الواحد والشرع قد ورد به ما الذي
[ 152 ]
حملكم على الفرق بين ما ترويه الطائفة المحقة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهلا عملتم بالجميع أو منعتم من الكل؟ قيل: العمل بخبر الواحد إذا كان دليلا شرعيا فينبغي أن نستعمله بحيث قررته الشريعة، والشرع يرى العمل بما ترويه طائفة مخصوصة، فليس لنا أن نتعدى إلى غيرها، كما أنه ليس لنا أن نتعدى من رواية العدل إلى رواية الفاسق، وإن كان العقل مجوزا لذلك، أجمع على أن من شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلا بلا خلاف، وكل من أسند إليه ممن خالف الحق لم تثبت عدالته بل ثبت فسقه، فلأجل ذلك لم يجز العمل بخبره. فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى أن يكون الحق في جهتين مختلفتين إذا عملوا بخبرين مختلفين، والمعلوم من حال أئمتكم وشيوخكم خلاف ذلك. قيل له: المعلوم من ذلك أنه لا يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم في الاعتقاد، فأما أن يكون الحق في جهتين إذا كان ذلك صادرا من خبرين مختلفين. فقد بينا أن المعلوم خلافه. والذي يكشف عن ذلك أيضا: أن من منع من العمل بخبر الواحد يقول: إن هاهنا أخبارا كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض والإنسان فيها مخير، فلو أن اثنين اختار كل واحد منهما العمل بواحد من الخبرين أليس كانا يكونان مختلفين وقولهما حق على مذهب هذا القائل، فكيف يدعى أن المعلوم خلاف ذلك؟ ويبين ذلك أيضا أنه قد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغير ذلك، فقال (عليه السلام): ” أنا خالفت بينهم ” فترك الإنكار لاختلافهم ثم أضاف الاختلاف إلى أنه أمرهم، فلولا أن ذلك جائز لما جاز ذلك منه (عليه السلام). فإن قيل: اعتباركم الطريقة التي ذكرتموها في وجوب العمل بخبر الواحد يوجب عليكم قبولها فيما طريقه العلم، لأن الذين أشرتم إليهم إذا قالوا قولا طريقه العلم من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وغير ذلك، فسئلوا عن الدلالة على صحته أحالوا على هذه الأخبار بعينها، فإن كان هذا القدر حجة فينبغي أن يكون حجة في
[ 153 ]
وجوب قبولها فيما طريقه العلم، وقد أقررتم بخلاف ذلك. قيل له: نحن لا نسلم أن جميع الطائفة تحيل على أخبار الآحاد فيما طريقه العلم مما عددتموه، وكيف نسلم ذلك؟ وقد علمنا بالأدلة الواضحة العقلية أن طريق هذه الأمور العقل أو ما يوجب العلم من أدلة الشرع فيما يمكن ذلك فيه، وعلمنا أيضا ان الإمام المعصوم لابد أن يكون قائلا به، فنحن لا نجوز أن يكون قول المعصوم داخلا في قول القائلين في هذه المسائل بالأخبار، وإذا لم يكن قوله داخلا في جملة أقوالهم فلا اعتبار بها وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة. وليس كذلك القول في أخبار الآحاد، لأنه لم يدل دليل على أن قول الإمام داخل في جملة أقوال المنكرين لها، بل بينا أن قوله (عليه السلام) داخل في جملة أقوال العاملين بها، وعلى هذا سقط السؤال. على أن الذي ذكروه مجرد الدعوى من الذي أشير إليه ممن يرجع إلى الأخبار في هذه المسائل، فلا يمكن إسناد ذلك إلى قول علماء متميزين، وإن قال ذلك بعض غفلة أصحاب الحديث فذلك لا يلتفت إليه على ما بيناه. فإن قيل: كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أن رواتها أكثرهم كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتشبيه وغير ذلك من الغلو والتناسخ وغير ذلك من المناكير، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟ قيل لهم: ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه وغير ذلك مما ذكر في السؤال ولو صح أنه نقله لم يدل على أنه كان معتقدا لما تضمنه الخبر، ولا يمتنع أن يكون إنما رواه ليعلم أنه لم يشذ عنه شيء من الروايات، لا لأنه يعتقد ذلك ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم، فأما مجرد الرواية فلا حجة فيه على حال. فإن قيل: كيف تعولون على هذه الأخبار وأكثر رواتها المجبرة والمشبهة والمقلدة والغلاة والواقفية والفطحية وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به
[ 154 ]
وهذا مفقود في هؤلاء، وإن عولتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم وذلك يدل على جواز العمل بأخبار الكفار والفساق. قيل لهم: لسنا نقول بأن جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها، بل لها شرائط نحن نذكرها فيما بعد، ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه: فأما ما يرويه العلماء المعتقدون للحق فلا طعن على ذلك بهذا السؤال. وأما ما يرويه قوم من المقلدة فالصحيح الذي اعتقده أن المقلد للحق وإن كان مخطئا في الأصل معفو عنه ولا أحكم فيه بحكم الفساق، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه، على أن من أشاروا إليه لا نسلم أنهم كلهم مقلدة بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة كما تقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامة، وليس من حيث يتعذر عليهم إيراد الحجج في ذلك ينبغي أن يكونوا غير عالمين، لأن إيراد الحجج والمناظرة صناعة وليس يقف حصول المعرفة على حصولها كما قلنا في أصحاب الجمل، وليس لأحد أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أصحاب الجمل، لأنهم إذا سألوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الله تعالى أو صحة النبوة قالوا: كذا روينا، ويروون في ذلك كله الأخبار، وليس هذا طريقة أصحاب الجمل، وذلك أنه لا يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجمل وقد حصلت لهم المعارف بالله تعالى، غير أنهم لما تعذر عليهم إيراد الحجج في ذلك أحالوا على ما كان سهلا عليهم، وليس يلزمهم أن يعلموا أن ذلك لا يصح أن يكون دليلا إلا بعد أن يتقدم المعرفة بالله، وإنما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين وهم عالمون على الجملة كما قدرناه، فما يتفرع عليه الخطأ فيه لا يوجب التكفير ولا التضليل. وأما الفرق الذين أشاروا إليهم من الواقفية والفطحية وغير ذلك فعن ذلك جوابان: أحدهما: إن ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد إذا علم من اعتقادهم تمسكهم بالدين وتحرجهم من الكذب ووضع الأحاديث، وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمة (عليهم السلام) نحو عبد الله بن بكير وسماعة بن مهران، ونحو بني فضال من المتأخرين عنهم، وبني سماعة، ومن
[ 155 ]
شاكلهم، فإذا علمنا أن هؤلاء الذين أشرنا إليهم وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد من القول بالوقف وغير ذلك كانوا ثقات في النقل فما يكون طريقه هؤلاء جاز العمل به. والجواب الثاني: أن جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصوا بروايته لا يعمل به، وإنما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح فحينئذ يجوز العمل به، فأما إذا تفرد فلا يجوز ذلك فيه على حال، وعلى هذا سقط الاعتراض. فأما ما رواه الغلاة ومن هو مطعون عليه في روايته ومتهم في وضع الأحاديث، فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد، فإذا انضاف إلى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك ويكون ذلك لأجل رواية الثقة دون روايته. وأما المجبرة والمشبهة، فأول ما في ذلك أنا لا نعلم أنهم مجبرة ولا مشبهة، وأكثر ما معنا أنهم كانوا يروون ما يتضمن الجبر والتشبيه، وليس روايتهم لها على أ نهم كانوا معتقدين لصحتها، بل بينا الوجه في روايتهم لها و أنه غير الاعتقاد لمتضمنها. ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه كان الكلام على ما يروونه كالكلام على ما ترويه الفرق المتقدم ذكرها، وقد بينا ما عندنا في ذلك. وهذه جملة كافية في إبطال هذا السؤال. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجردها؟ بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها لأجلها عملوا، ولو تجردت لما عملوا بها، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها. قيل له: القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء كثيرة مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك، لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاويهم، لأنه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه، ولا في السنة المتواترة
[ 156 ]
لعدم ذلك في أكثر الأحكام، بل لوجودها في مسائل معدودة، ولا في الإجماع لوجود الاختلاف في ذلك، فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة، ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه، بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك: إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد أحد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه. ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرق المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها، فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم، واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل تقع واحدة أم لا؟ ومثل اختلافهم في باب الطهارة مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء، ونحو اختلافهم في حد الكر، ونحو اختلافهم في استئناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين، واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة وغير ذلك في سائر أبواب الفقه، حتى أن بابا منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى. وقد ذكرت ما ورد عنهم (عليهم السلام) من الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفى حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفه، فلولا أن العمل
[ 157 ]
بهذه الأخبار كان جائزا لما جاز ذلك، وكان يكون من عمل بخبر عنده أنه صحيح يكون مخالفه مخطئا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك، وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الأخبار. فإن تجاسر متجاسر إلى أن يقول: كل مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع ومن خالفه مخطئ فاسق يلزمه أن يفسق الطائفة بأجمعها ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم، فإنه لا يمكن أن يدعي على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع، ومن بلغ إلى هذا الحد لا يحسن مكالمته ويجب التغافل عنه بالسكوت، وإن امتنع من تفسيقهم وتضليلهم فلا يمكنه إلا لأن العمل بما عملوا به كان حسنا جائزا خاصة، وعلى أصولنا أن كل خطأ وقبيح كبير، فلا يمكن أن يقال: إن خطأهم كان صغيرا فانحبط على ما تذهب إليه المعتزلة فلأجل ذلك لم يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل. فإن قال قائل: أكثر ما في هذا الاعتبار أن يدل على أنهم غير مؤاخذين بالعمل بهذه الأخبار وأ نه قد عفي عنهم، وذلك لا يدل على صوابهم، لأنه لا يمتنع أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم واستحق العقاب إلا أنه عفي له عن خطئه وأسقط عنه ما استحقه [من العقاب] قيل له: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن غرضنا بما اخترناه من المذهب هو هذا وأن من عمل بهذه الأخبار لا يكون فاسقا مستحقا للعقاب، فإذا سلم لنا ذلك ثبت لنا ما هو الغرض المقصود. والثاني: أن ذلك لا يجوز، لأنه لو كان قد عفي لهم عن العمل بذلك مع أنه قبيح يستحق به العقاب وأسقط عقابهم لكانوا مغرين بالقبيح، وذلك لا يجوز، لأنهم إذا علموا أنهم إذا عملوا بهذه الأخبار لا يستحقون العقاب لم يصرفهم عن العمل بها صارف، فلو كان فيها ما هو قبيح العمل به لما جاز ذلك على حال. فإن قيل: لو كانت هذه الطريقة دالة على جواز العمل بما اختلف من الأخبار المتعلقة بالشرع من حيث لم ينكر بعضهم على بعض ولم يفسق بعضهم بعضا ينبغي
[ 158 ]
أن يكون دالة على صوابهم فيما طريقه العلم، فإنهم قد اختلفوا في الجبر والتشبيه والتجسيم والصورة وغير ذلك، واختلفوا في أعيان الأئمة (عليهم السلام) ولم نرهم قطعوا الموالاة ولا أنكروا على من خالفهم، وذلك يبطل ما اعتمدتموه. قيل: جميع ما عددتموه من الاختلاف الواقع بين الطائفة، فإن النكير واقع فيه من الطائفة والتفسيق حاصل فيه، وربما تجاوزوا ذلك أيضا إلى التكفير، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى أن كثيرا منهم جعل ذلك طعنا على رواية من خالفه في المذاهب التي ذكرت في السؤال وصنفوا في ذلك الكتب، وصدر عن الأئمة (عليهم السلام) أيضا النكير عليهم نحو إنكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه والصورة والغلو وغير ذلك. وكذلك من خالف في أعيان الأئمة (عليهم السلام) لأنهم جعلوا ما يختص الفطحية والواقفية والناووسية وغيرهم من الفرق المختلفة بروايته لا يقبلونه ولا يلتفتون إليه، فلو كان اختلافهم في العمل بأخبار الآحاد يجري مجرى اختلافهم في المذاهب التي أشرنا إليها لوجب أن يجروا فيها ذلك المجرى، ومن نظر في الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها وجد الأمر بخلاف ذلك، وهذه أيضا طريقة معتمدة في هذا الباب. ومما يدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه: أنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم، وقالوا: فلان متهم في حديثه وفلان كذاب وفلان مخلط وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد وفلان واقفي وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجل من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه براويه. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم. فلولا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائزا لما كان بينه وبين غيره فرق، وكان يكون خبره مطرحا مثل خبر غيره، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الأخبار بعضها على بعض، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترناه
[ 159 ]
فصل في ذكر القرائن التي تدل على صحة أخبار الآحاد أو على بطلانها وما يرجح به الأخبار بعضها على بعض، وحكم المراسيل. القرائن التي تدل على صحة متضمن الأخبار التي لا توجب العلم أشياء أربعة: منها: أن تكون موافقة لأدلة العقل وما اقتضاه، لأن الأشياء في العقل إذا كانت إما على الحظر أو الإباحة على مذهب قوم أو الوقف على ما نذهب إليه، فمتى ورد الخبر متضمنا للحظر أو الإباحة فلا يكون هناك ما يدل على العمل بخلافه وجب أن يكون ذلك دليلا على صحة متضمنه عند من اختار ذلك. وأما على مذهبنا الذي نختاره في الوقف، فمتى ورد الخبر موافقا لذلك وتضمن وجوب التوقف كان ذلك دليلا أيضا على صحة متضمنه إلا أن يدل دليل على العمل بأحدهما فيترك الخبر والأصل. ومتى كان الخبر متناولا للحظر ولم يكن هناك دليل يدل على الإباحة فينبغي أيضا المصير إليه ولا يجوز العمل بخلافه إلا أن يدل دليل يوجب العمل بخلافه، لأن هذا حكم مستفاد بالعقل، ولا ينبغي أن نقطع على حظر ما تضمنه ذلك الخبر، لأنه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به ولا هو موجب العمل فنعمل به. وإن كان الخبر متضمنا للإباحة ولا يكون هناك خبر آخر أو دليل شرعي على خلافه وجب الانتقال إليه والعمل به وترك ما اقتضاه الأصل، لأن هذا فائدة العمل بأخبار الآحاد، ولا ينبغي أن نقطع على متضمنه لما قدمناه من وروده موردا لا يوجب العلم. ومنها: أن يكون الخبر مطابقا لنص الكتاب إما خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه، فإن جميع ذلك دليل على صحة متضمنه، إلا أن يدل دليل يوجب العلم يقترن بذلك الخبر يدل على جواز تخصيص العموم به أو ترك دليل الخطاب، فيجب حينئذ المصير إليه. وإنما قلنا ذلك لما نبينه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الآحاد، إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يكون الخبر موافقا للسنة المقطوع بها من جهة التواتر، فإن ما يتضمنه الخبر الواحد إذا وافقه مقطوع على صحته أيضا وجاز العمل به وإن لم يكن
[ 160 ]
ذلك دليلا على صحة نفس الخبر، لجواز أن يكون الخبر كذبا وإن وافق السنة المقطوع بها. ومنها: أن يكون موافقا لما أجمعت الفرقة المحقة عليه، فإنه متى كان كذلك دل أيضا على صحة متضمنه. ولا يمكننا أيضا أن نجعل إجماعهم دليلا على صحة نفس الخبر، لأنهم يجوز أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناء بإجماعهم على العمل به، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر. فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن أخبار الآحاد، ولا يدل على صحتها أنفسها، لما بيناه من جواز أن تكون الأخبار مصنوعة وإن وافقت هذه الأدلة. فمتى تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن كان خبرا واحدا محضا، ثم ينظر فيه فإن كان ما تضمنه هذا الخبر هناك ما يدل على خلاف متضمنه من كتاب أو سنة أو إجماع وجب إطراحه والعمل بما دل الدليل عليه. وإن كان ما تضمنه ليس هناك ما يدل على العمل بخلافه ولا يعرف فتوى الطائفة فيه نظر، فإن كان هناك خبر آخر يعارضه مما يجري مجراه وجب ترجيح أحدهما على الآخر وسنبين من بعد ما يرجح به الأخبار بعضها على بعض وإن لم يكن هناك خبر آخر يخالفه وجب العمل به، لأن ذلك دليل إجماع منهم على نقله، وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا عليه. وكذلك إن وجد هناك فتاوى مختلفة من الطائفة وليس للقول المخالف له مستند إلى خبر آخر ولا إلى دليل يوجب العلم وجب اطراح القول الآخر والعمل بالقول الموافق لهذا الخبر، لأن ذلك القول لابد أن يكون عليه دليل، فإذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس حتى يسند ذلك القول إليه ولا هناك خبر آخر يضاف إليه، وجب أن يكون ذلك القول مطروحا ووجب العمل بهذا الخبر والأخذ بالقول الذي يوافقه. وأما القرائن التي تدل على العمل بخلاف ما يتضمنه الخبر الواحد فهو أن يكون هناك دليل مقطوع به من كتاب أو سنة مقطوع بها أو إجماع من الفرقة المحقة على
[ 161 ]
العمل بخلاف متضمنه، فإن جميع ذلك يوجب ترك العمل به. وإنما قلنا ذلك، لأن هذه الأدلة توجب العلم والخبر الواحد لا يوجب العلم وإنما يقتضي غالبا الظن والظن لا يقابل العلم. وأيضا فقد روي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: ” إذا جاءكم عنا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسنة رسوله فإن وافقهما فخذوا به وما لم يوافقهما فردوه إلينا ” فلأجل ذلك رددنا هذا الخبر. ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه، لأنه لا يمتنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحا وله وجه من التأويل لا نقف عليه، أو خرج على سبب خفي علينا الحال فيه، أو تناول شخصا بعينه، أو خرج مخرج التقية وغير ذلك من الوجوه، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه، وإنما يجب الامتناع من العمل به حسب ما قدمناه. فأما الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح، والترجيح يكون بأشياء: منها: أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنة المقطوع بها والآخر مخالفا لهما، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما؛ وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافق إجماعهم ويترك العمل بما يخالفه فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما، فما كان راويه عدلا وجب العمل به وترك العمل بما لم يروه العدل وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواة عمل به وترك العمل بقليل الرواة. فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامة ويترك العمل بما يوافقهم. وإن كان الخبران يوافقان العامة أو يخالفانها جميعا نظر في حالهما، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالخبر الآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر، لأن الخبرين جميعا منقولان
[ 162 ]
مجمع على نقلهما وليس هناك قرينة تدل على صحة أحدهما ولا ما يرجح أحدهما به على الآخر، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالآخر، وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادهما وتنافيهما وأمكن حمل كل واحد منهما على ما يوافق الخبر على وجه كان الإنسان مخيرا في العمل بأيهما شاء. وأما العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر: فهو أن يكون الراوي معتقدا للحق مستبصرا ثقة في دينه متحرجا من الكذب غير متهم فيما يرويه. فأما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة (عليهم السلام) نظر فيما يرويه، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب إطراح خبره، وإن لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به، وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ” إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي (عليه السلام) فاعملوا به ” ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامة عن أئمتنا (عليهم السلام) فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه. وأما إذا كان الراوي من فرق الشيعة مثل الفطحية والواقفية والناووسية، وغيرهم نظر فيما يرويه، فإن كان هناك قرينة تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم وجب العمل به، وإن كان هناك خبر يخالفه من طريق الموثوقين وجب إطراح ما اختصوا بروايته والعمل بما رواه الثقة، وإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه وجب أيضا العمل به إذا كان متحرجا في روايته موثوقا به في أمانته وإن كان مخطئا في أصل الاعتقاد، فلأجل ما قلناه: عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفية مثل
[ 163 ]
سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلافه. وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون والمضعفون وغير هؤلاء فيما تختص الغلاة بروايته، فإن كانوا ممن عرف لهم حال استقامة وحال غلو عمل بما رووه في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال خطائهم ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه، وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي العزاقر وغير هؤلاء. فأما ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال. وكذلك القول فيما ترويه المتهمون والمضعفون، إن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به، وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في أخبارهم، فلأجل ذلك توقف المشائخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها ولم يرووها واستثنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من التصنيفات. فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزا فيها، فإن ذلك لا يوجب رد خبره ويجوز العمل به، لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم. فأما ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إن أحدهما يقتضي الحظر والآخر الإباحة والأخذ بما يقتضيه الحظر أولى أو الإباحة، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه في الوقف، لأن الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع فلا ترجيح بذلك، وينبغي لنا التوقف فيهما جميعا أو يكون الإنسان فيهما مخيرا في العمل بأيهما شاء. وإذا كان أحد الراويين يروي الخبر بلفظه والآخر بمعناه، ينظر في حال الذي يرويه بالمعنى، فإن كان ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، لأنه
[ 164 ]
قد أبيح له الرواية بالمعنى واللفظ معا، فأيهما كان أسهل عليه رواه. وإن كان الذي يروي الخبر بالمعنى لا يكون ضابطا للمعنى أو يجوز أن يكون غالطا فيه ينبغي أن يؤخذ بخبر من رواه على اللفظ. وإذا كان أحد الراويين أعلم وأفقه وأضبط من الآخر فينبغي أن يقدم خبره على خبر الآخر ويرجح عليه، ولأجل ذلك قدمت الطائفة ما يرويه زرارة ومحمد بن مسلم وبريد وأبو بصير والفضيل بن يسار ونظراؤهم من الحفاظ الضابطين على رواية من ليس له تلك الحال. ومتى كان أحد الراويين متيقظا في روايته والآخر ممن يلحقه غفلة ونسيان في بعض الأوقات فينبغي أن يرجح خبر الضابط المتيقظ على خبر صاحبه، لأنه لا يؤمن أن يكون قد سها أو دخل عليه شبهة أو غلط في روايته وإن كان عدلا لم يتعمد ذلك، وذلك لا ينافي العدالة على حال. وإذا كان أحد الراويين يروي سماعا وقراءة والآخر يرويه إجازة فينبغي أن يقدم رواية السامع على رواية المستجيز. اللهم إلا أن يروي المستجيز بإجازته أصلا معروفا أو مصنفا مشهورا فيسقط حينئذ الترجيح. وإذا كان أحد الراويين يذكر جميع ما يرويه ويقول: إ نه سمعه وهو ذاكر لسماعه والآخر يرويه من كتابه نظر في حال الراوي من كتابه، فإن ذكر أن جميع ما في كتابه سماعه فلا ترجيح لرواية غيره على روايته، لأنه ذكر على الجملة أنه سمع جميع ما في دفتره وإن لم يذكر تفاصيله وإن لم يذكر أنه سمع جميع ما في دفتره وإن وجده بخطه أو وجد سماعه عليه في حواشيه بغير خطه فلا يجوز له أولا أن يرويه ويرجح خبر غيره عليه. وإذا كان أحد الراويين معروفا والآخر مجهولا قدم خبر المعروف على خبر المجهول، لأنه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره. وإذا كان أحد الراويين مصرحا والآخر مدلسا فليس ذلك مما يرجح به خبره، لأن التدليس هو أن يذكره باسم أو صفة غريبة أو ينسبه إلى قبيلة أو صناعة وهو
[ 165 ]
بغير ذلك معروف، فكل ذلك لا يوجب ترك خبره. وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا ممن يوثق به، وبين ما سنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم. وأما إذا لم يكن كذلك ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة فإنه يقدم خبر غيره عليه، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به، فأما إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الذي ذكرناه. ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل فبما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر وما أجاز أحدهما أجاز الآخر، فلا فرق بينهما على حال. وإذا كان إحدى الروايتين أزيد من الرواية الأخرى كان العمل بالرواية الزائدة أولى، لأن تلك الزيادة في حكم خبر آخر ينضاف إلى المزيد عليه، فإذا كان مع احدى الروايتين عمل الطائفة بأجمعها فذلك خارج عن الترجيح بل هو دليل قاطع على صحته وابطال الآخر، فإن كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة ينبغي أن يرجح على الخبر الآخر الذي عمل به قليل منهم. وإذا كان خبر أحد المرسلين متناولا للحظر والآخر متناولا للإباحة فعلى مذهبنا الذي اخترناه في الوقف يقتضي التوقف فيهما، لأن الحكمين جميعا مستفادان شرعا وليس أحدهما بالعمل العمل أولى من الآخر. وإن قلنا: إنه إذا لم يكن هناك ما يترجح به أحدهما على الآخر كنا مخيرين كان ذلك أيضا جائزا كما قلناه في الخبرين المسندين سواء. وهذه جملة كافية في هذا الباب انتهى كلام
[ 166 ]
رئيس الطائفة في كتاب العدة. وذكر المحقق الحلي في أصوله وما رأيت في أصول أصحابنا كتابا قريبا إلى الحق بعد كتاب العدة لرئيس الطائفة إلا إياه، وهو في الحقيقة اختصار كتاب العدة مع بعض زيادات وإيرادات من قبله، رجع عنها في أوائل كتاب المعتبر ووافق رئيس الطائفة بعد أن خالفه، ونعم الوفاق : ذهب شيخنا أبو جعفر (رحمه الله) إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبين أنه لا يعمل بالخبر مطلقا بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة (عليهم السلام) ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه إمامي يجب العمل به، هذا الذي تبين لي في كلامه ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به. واحتج لذلك بوجوه ثلاثة: الأول: دعوى الإجماع على ذلك، فإنه (رحمه الله) ذكر أن قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحة ما أفتى به المفتي منهم عول على المنقول في أصولهم المعتمدة وكتبهم المدونة، فيسلم له خصمه منهم الدعوى في ذلك، وهذه سجيتهم من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) إلى زمن الأئمة (عليهم السلام) فلولا أن العمل بهذه الأخبار جائز لأنكروه وتبرأوا من العامل به. الوجه الثاني: وجود الاختلاف من الأصحاب بحسب اختلاف الأحاديث يدل على أن مستندهم إليها، إذ لو كان العمل بغيرها مما طريقه القطع لوجب أن يحكم كل واحد بتضليل مخالفه وتفسيقه، فلما لم يحكموا بذلك دل على أن مستندهم الخبر، وعلى جواز العمل به. لا يقال: هذا دليل على أنهم غير معاقبين على العمل به وعدم العقاب لا يدل على كونه حقا. لأ نا نقول: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن الغرض في جواز العمل بهذه الأخبار إنما هو ارتفاع الفسق وارتفاع العقاب. والثاني: أنه لو كان العمل بها خطأ لما جاز الإعلام بالعفو عن فعله، لأن ذلك يكون اغراءا بالقبيح. الوجه الثالث: اعتناء الطائفة بالرجال وتمييز العدل من المجروح والثقة من
[ 167 ]
الضعيف والفرق بين من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد، وكونهم إذا اختلفوا في خبر نظروا في سنده، وذلك يدل على العمل بهذه الأخبار، لأنهم لو لم يعملوا بها لما كان لشروعهم في ذلك فائدة. وذكر: قد يقترن بخبر الواحد قرائن تدل على صدق مضمونه وإن كانت غير دالة على صدق الخبر نفسه لجواز اختلافه مطابقا لتلك القرينة، والقرائن أربع: إحداها: أن يكون موافقا لدلالة العقل، أو لنص الكتاب خصوصه أو عمومه أو فحواه، أو السنة المقطوع بها، أو لما حصل الإجماع عليه. وإذا تجرد عن القرائن الدالة على صدقه ولم يوجد ما يدل على خلاف متضمنه افتقر العمل به إلى اعتبار شروط نذكرها في مباحث متعلقة بالمخبر، وفيها مسائل: المسألة الأولى: الإيمان معتبر في الراوي، وأجاز الشيخ (رحمه الله) العمل بخبر الفطحية ومن ضارعهم بشرط أن لا يكون متهما بالكذب ومنع من رواية الغلاة، كأبي الخطاب وابن أبي العزاقر. لنا قوله تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ احتج الشيخ (رحمه الله) بأن الطائفة عملت بخبر عبد الله بن بكير وسماعة وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى وبما رواه بنو فضال والطاطريون. والجواب: أنا لا نعلم إلى الآن أن الطائفة عملت بأخبار هؤلاء. المسألة الثانية: عدالة الراوي شرط في العمل بخبره، وقال الشيخ: يكفي كونه ثقة متحرزا عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقا بجوارحه، وادعى عمل الطائفة على أخبار جماعة هذه صفتهم. ونحن نمنع هذه الدعوى ونطالب بدليلها، ولو سلمناها لاقتصرنا على المواضع التي عملت فيها الطائفة بأخبار خاصة ولم يجز التعدي في العمل إلى غيرها
[ 168 ]
ودعوى التحرز من الكذب مع ظهور الفسق مستبعد إذ الذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من تحرجه عن الكذب. وذكر: إذا أرسل الراوي الرواية، قال الشيخ (رحمه الله): إن كان ممن عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة قبلت مطلقا، وإن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة. واحتج لذلك بأن الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وأنا أقول: قد فهمناك أن القرائن قسمان: قرينة تدل على أن مضمون الحديث حكم الله في الواقع وقرينة تدل على أن الراوي لم يفتر فيما رواه، ولا تدل على أن مضمونه حكم الله في الواقع، لاحتمال وروده من باب التقية، ومن المعلوم عند أولي الألباب أنا نقطع في حق كثير من الناس بقرائن حاصلة عند المعاشرة أو حاصلة بدونها بأنهم لم يرضوا بأن يفتروا في باب الرواية. وقد نقلنا عن الشيخ (قدس سره) أن المعتبر في باب الرواية قطعنا بكون الراوي ثقة في الرواية لا كونه مظنون العدالة. وبالجملة، كون الراوي ثقة نوع من القرائن المفيدة للقطع بأنه لم يفتر في الرواية وتلك القرينة نجدها موجودة في كثير من الرواة بقرائن ما بلغنا من أحوالهم. وأما احتمال وقوع السهو من الراوي في خصوصيات بعض ألفاظ الحديث فيندفع بوجوه آتية في كلامنا. وذكر المحقق الحلي (قدس سره) في أوائل المعتبر في حق جعفر بن محمد (عليهما السلام): روى عنه من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جم غفير كزرارة بن أعين وأخويه بكير وحمران وجميل بن دراج ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية والهشامين وأبي بصير وعبيد الله ومحمد وعمران الحلبيين وعبد الله بن سنان وأبي الصباح الكناني، وغيرهم من أعيان الفضلاء حتى كتبت من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف، سموها أصولا
[ 169 ]
وفي حق الجواد (عليه السلام) قد كان من تلامذته فضلاء كالحسين بن سعيد وأخيه الحسن وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وأحمد بن محمد بن خالد البرقي وشاذان بن الفضل القمي وأيوب بن نوح بن دراج وأحمد بن محمد بن عيسى، وغيرهم ممن يطول تعدادهم، وكتبهم الآن منقولة بين الأصحاب دالة على العلم الغزير. وذكر: لما كان فقهاؤنا رضوان الله عليهم في الكثرة إلى حد يعسر ضبط عددهم ويتعذر حصر أقوالهم، لاتساعها وانتشارها وكثرة ما صنفوه، وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من الفضلاء المتأخرين اجترأت بإيراد كلام من اشتهر فضله وعرف تقدمه في نقل الأخبار وصحة الاختيار وجودة الاعتبار، واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم وعليه اعتمادهم، فممن اخترت نقله: الحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي نصر
[ 170 ]
البزنطي والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخرين: أبو جعفر محمد بن بابويه القمي ومحمد بن يعقوب الكليني: ومن أصحاب كتب الفتاوى: علي بن بابويه وأبو علي بن الجنيد والحسن بن أبي عقيل العماني والمفيد محمد بن محمد بن النعمان وعلم الهدى والشيخ أبو جعفر محمد ابن الحسن الطوسي انتهى كلامه أعلى الله مقامه. وقال الفاضل المدقق محمد بن إدريس الحلي في آخر كتاب السرائر باب الزيادات : فيما انتزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنفين والرواة المحصلين، وستقف على أسمائهم إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما رواه موسى بن بكر الواسطي في كتابه، ثم نقل أحاديث كثيرة، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب موسى بن بكر الواسطي. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب معاوية بن عمار. ومن ذلك ما استطرفناه من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي صاحب الرضا، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي. ومن ذلك ما أورده أبان بن تغلب صاحب الباقر والصادق (عليهما السلام) في كتابه، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب أبان بن تغلب، وكان جليل القدر عند الأئمة (عليهم السلام). ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب جميل بن دراج، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب جميل بن دراج. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب السياري واسمه عبد الله، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب السياري صاحب موسى والرضا (عليهما السلام). ومن ذلك ما استطرفناه من جامع البزنطي، صاحب الرضا (عليه السلام) ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من جامع البزنطي ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن
[ 171 ]
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) والأجوبة عن ذلك، ثم قال: تمت الأخبار المنتزعة من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني وهو من أجلة المشيخة، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني، وكتاب حريز أصل معتمد معول عليه. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المشيخة تصنيف الحسن بن محبوب السراد صاحب الرضا (عليه السلام) وهو ثقة عند أصحابنا جليل القدر كثير الرواية أحد الأركان الأربعة في عصره، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب الحسن بن محبوب السراد الذي هو كتاب المشيخة، وهو كتاب معتمد. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب نوادر المصنف تصنيف محمد بن علي بن محبوب الأشعري الجوهري القمي، وهذا الكتاب كان بخط شيخنا أبي جعفر الطوسي نقلت هذه الأحاديث من خطه من الكتاب المشار إليه. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب من لا يحضره الفقيه تصنيف محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه. ومما استطرفناه من كتاب قرب الإسناد تصنيف محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، ثم قال: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب قرب الإسناد. ومما استطرفناه من كتاب جعفر بن محمد بن سنان الدهقان (رضي الله عنه). ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب تهذيب الأحكام. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين. ومن ذلك ما استطرفناه من رواية أبي القاسم بن قولويه. ومما استطرفناه من كتاب المعالم تصنيف الصفواني. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المحاسن تصنيف أحمد بن أبي عبد الله البرقي. ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي
[ 172 ]
انتهى ما أردنا نقله عن آخر السرائر لمحمد بن إدريس الحلي. وأقول: من المعلوم أن فهرست الشيخ وفهرست النجاشي وفهرست محمد ابن شهرآشوب المازندراني المتأخر عنهما ونظائرها، وما ذكره الشيخ في آخر كتابي الأخبار عند ذكر أسانيده إلى الكتب والأصول التي أخذ الحديث منها وما ذكره في أوائل كتاب الاستبصار وما ذكره في كتاب العدة وما ذكره محمد بن علي بن بابويه في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه وما ذكره الإمام ثقة الإسلام في أوائل كتاب الكافي وما ذكره محمد ابن إدريس الحلي في آخر السرائر وما ذكرناه سابقا نقلا عن السيد المرتضى، صريحة في أن تلك الأصول والكتب المعتمدة كانت موجودة عندهم. ومن المعلوم: أن عاقلا صالحا متمكنا من أخذ الحديث من الأصول المعتمدة لا يعدل إلى غيرها. وأيضا من المعلوم: أنه لو نقل غيرها ينصب علامة تميزه عنها لأن قصدهم من تصانيفهم هداية الناس وإرشادهم. وفي خلط الأحاديث المأخوذة من الأصول المعتمدة مع غيرها من غير نصب علامة مميزة بينهما تخريب للدين، فلا يليق بمقام الهداية والإرشاد. ثم أقول: قد صرح المحقق الحلي فيما نقلناه بأن كتابي فضل بن شاذان ويونس ابن عبد الرحمن كانا مشتملين على أحاديث أصحابنا وكانا موجودين عنده مع غيرهما من الأصول المعتمدة وهو أخذ الحديث منهما ومن غيرهما فما ظن المتأخرين بمثل الإمام ثقة الإسلام ومثل ابن بابويه ومثل رئيس الطائفة؟ ووقع التصريح في مواضع من كتاب الكشي بأن كل واحد من كتابي فضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن كان جامعا لأصول أصحابنا وسيجئ زيادة بيان لهذا المقام في الفصل التاسع إن شاء الله تعالى، وإذا ترقيت في هذه المباحث إلى هذه الدرجة من الإيضاح حق لك أن تقول: أطف المصباح قد طلع الصباح؟ وبالجملة، أول من قسم أحاديث أصول أصحابنا التي كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم في زمن الأئمة (عليهم السلام) وكانوا مجمعين على صحة نقلها كلها
[ 173 ]
عنهم (عليهم السلام) إلى الأقسام الأربعة المشهورة بين المتأخرين العلامة الحلي أو رجل آخر قريب منه، ثم من جاء بعده وافقه كالشهيد الأول والفاضل الشيخ علي والشهيد الثاني وولده صاحب كتابي المعالم والمنتقى والفاضل المتبحر المعاصر بهاء الدين محمد العاملي. والسبب في إحداث ذلك غفلة من أحدثه عن كلام قدمائنا، والسبب في غفلته ألفة ذهنه بما في كتب العامة، والسبب في الألفة أنه لما كانت أرباب الدول من أهل الضلالة وكانت المدرسون في المدارس مظهري طرق الضلال انحصرت طرق الإفادة والاستفادة في كتب العامة، فإذا أراد أحد تحصيل الفضيلة لم يكن له بد من قراءة كتب العامة على مدرسيها. والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب
[ 174 ]
فائدة قد علمت أنه من الواضحات البينات في صدور الذين تتبعوا كتب الرجال وكتب الأحاديث وفهرست أصول أصحابنا لا سيما، كتاب الكشي وفهرست الشيخ وفهرست النجاشي وفهرست محمد بن شهر آشوب المازندراني وأول الاستبصار وآخر كتابي الأخبار لرئيس الطائفة وكتاب العدة له وكلام علم الهدى وكلام المحقق الحلي في المعتبر وفي كتاب الأصول وكلام محمد بن إدريس الحلي في آخر السرائر وكلام ابن بابويه في أول كتاب من لا يحضره الفقيه وكلام الإمام ثقة الإسلام في أول كتاب الكافي وكلام الشهيد الثاني في شرح رسالته في دراية الحديث وكلام صاحب كتابي المعالم والمنتقى وكلام صاحب كتاب مشرق الشمسين فيه وفي رسالته الوجيزة في فن دراية الحديث بل كلام العلامة الحلي في كتاب
[ 175 ]
النهاية عند تقسيم علماء الإمامية إلى الأخباريين والأصوليين: أنه كان عند قدمائنا أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كتب وأصول كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم، وأ نهم كانوا متمكنين من استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب والأصول ومن أخذ الأحكام عنهم (عليهم السلام) بطريق القطع واليقين ومن التمييز بين الصحيح وغير الصحيح لو كان فيها غير صحيح. ومن المعلوم أن مثلهم لا يغفل عن هذه الدقيقة ولا يقصر في رعايتها، وأن عاقلا فاضلا صالحا إذا أراد تأليف كتاب ليكون مرجعا للشيعة في عقائدهم وأعمالهم أو في أحدهما لا يرضى بأن يلفق بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة من غير نصب علامة تميز بينهما. بل أقول: أرباب التواريخ لا يرضون بأخذ الأخبار من موضع لا يعتمد عليه مع تمكنهم من موضع يعتمد عليه، فكيف يظن بخيار العلماء والأتقياء والصلحاء خلاف ذلك؟ لا سيما الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ورئيس الطائفة ومحمد بن علي بن بابويه، وقد علمت وفور القرائن الموجبة للقطع بما هو حكم الله في الواقع أو بورود الحكم عنهم (عليهم السلام) في زمن محمد بن يعقوب الكليني وزمن محمد بن علي بن بابويه وزمن علم الهدى وزمن رئيس الطائفة وزمن محمد بن إدريس الحلي وزمن المحقق الحلي
[ 176 ]
فنقول: بقيت في زماننا بمن الله تعالى وبركات أئمتنا (عليهم السلام) قرائن موجبة للقطع العادي بورود الحديث عنهم (عليهم السلام):ـ
[ 177 ]
منها: أنه كثيرا ما نقطع بالقرائن الحالية والمقالية بأن الراوي كان ثقة في الرواية لم يرض بالافتراء ولا برواية ما لم يكن بينا واضحا عنده وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا. ومنها: تعاضد بعضها ببعض ومنها: نقل العالم الثقة الورع في كتابه الذي ألفه لهداية الناس ولأن يكون مرجع الشيعة أصل رجل أو روايته مع تمكنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم (عليهم السلام)ـ
[ 178 ]
ومنها: تمسكه بأحاديث ذلك الأصل أو بتلك الرواية مع تمكنه من أن يتمسك بروايات أخرى صحيحة. ومنها: وجوده في أحد كتابي الشيخ وفي الكافي وفي من لا يحضره الفقيه، لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم أو على أنها مأخوذة من تلك الأصول المجمع على صحتها. ومنها: أن يكون راويه أحدا من الجماعة التي اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم. ومنها: أن يكون راويه من الجماعة التي ورد في شأنهم من بعض الأئمة (عليهم السلام) أ نهم ثقات مأمونون، أو خذوا عنهم معالم دينكم، أو هؤلاء أمناء الله في أرضه، ونحو ذلك. فائدة فإن قلت: بهذه القرائن اندفع احتمال الافتراء وبقي احتمال السهو في خصوصيات بعض الألفاظ. قلت: هذا الاحتمال يندفع تارة بتعاضد الأخبار بعضها ببعض، وتارة بملاحظة تطابق الجواب والسؤال، وتارة بتناسب أجزاء الحديث وتناسقها. فإن قلت: بقي احتمال آخر لم يندفع، وهو احتمال إرادة خلاف الظاهر. قلت: من المعلوم أن الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهره من غير وجود قرينة صارفة بينة، لا سيما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة. ولا يجري ذلك في أكثر كلام الله ولا في أكثر كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلينا، لقولهم (عليهم السلام): ” إنما يعرف القرآن من خوطب به ” وقولهم (عليهم السلام): ” كلام
[ 179 ]
النبي (صلى الله عليه وآله) مثل كلام الله في الأكثر يحتمل الناسخ والمنسوخ، وقد يكون عاما، وقد يكون خاصا، وقد يكون مؤولا ” ولا يعلم ذلك من جهتنا، لأ نا مخاطبون بها عارفون بما هو المراد منهما. وأيضا مقتضى تصريحات الأئمة (عليهم السلام) بالفرق بين كلامهم وبين كلام الله وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله) بأن لهما وجوها مختلفة وبأنهما يحتملان الناسخ والمنسوخ وبأنهما وردا في الأكثر على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية وورد بقدر عقول الأئمة (عليهم السلام) بخلاف كلام الأئمة (عليهم السلام) فإنه لا يحتمل أن يكون منسوخا، وأ نه ورد بقدر ادراك الرعية وهم مخاطبون به، فيكون كلامهم (عليهم السلام) خاليا عن ذلك الاحتمال. هكذا ينبغي أن تحقق هذه المواضع، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
[ 180 ]
الفصل الأول في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى وفيه وجوه: أولها عدم ظهور دلالة قطعية على جواز الاعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى، والتمسك فيه بالظن يشتمل على دور ظاهر، مع أنه معارض بأقوى منه من الآيات الصريحة في النهي عن العمل بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى والروايات الصريحة في ذلك وقياسه على الظن المتعلق بالأمور العادية أو الأمور الوجدانية أو الأفعال الصادرة عنا أو غيرها من الأمور التي ليست من باب أحكامه تعالى كقيم المتلفات وأروش الجنايات وإضرار الصوم بالمريض وعدد الركعات
[ 181 ]
الصادرة عنا وتعيين جهة القبلة غير معقول مع ظهور الفارق، فإنه لولا اعتبار الظن في أمثال ما ذكرنا للزم الحرج البين، ولو اعتبر الظن في أحكامه تعالى لأدى إلى الحرب والفتن كما هو المشاهد. وتوضيح المقام أن يقال: كل من قال بجواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى من محققي العامة وجمع من متأخري الخاصة اعترف بانحصار دليل جوازه في الإجماع، واعترف بأنه لولا ذلك الإجماع لما جاز، للآيات والروايات المانعة عن ذلك. ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي في مبحث الإجماع: المتمسك بالظن إنما يثبت بالإجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن انتهى كلامه. ومثل هذه العبارة مذكورة في التلويح للعلامة التفتازاني وقد نقلنا عن صاحب المعالم من أصحابنا: أن التعويل في الاعتماد على ظن المجتهد المطلق إنما هو على دليل قطعي، وهو إجماع الأمة عليه وأنا أقول: من المعلوم أن ثبوت الإجماع في هذا الموضع مفيد للقطع محل المنع، وسند المنع ما ورد في كلام الصادقين (عليهم السلام): من أن حجية الإجماع من مخترعات العامة وسنده الآخر أنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بانحصار الطريق في أخذ هذا العلم في السماع عنهم (عليهم السلام) بواسطة أو بدونها وسنده الآخر أنه تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنه لا يجوز تحصيل الحكم الشرعي
[ 182 ]
النظري بالكسب والنظر لأنه يؤدي إلى اختلاف الآراء في الأصول وفي الفروع الفقهية كالمناكح والمواريث والديات والقصاص والمعاملات كما هو المشاهد فتنتفي فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب، إذ فائدتهما كما هو المشهور بين علماء الإسلام دفع الاختلاف ليتم نظام المعاش. وأيضا كل ما يؤدي إلى الاختلاف
[ 183 ]
يؤدي إلى الخطأ لامتناع اجتماع النقيضين، والحكيم المطلق عز شأنه أبى من أن يبني شريعته على ما يؤدي إلى الخطأ. وقد تمسك الإمام ثقة الإسلام في أول كتاب الكافي بالسند الثالث في إبطال بناء العقائد والأعمال على المقدمات الجهلية الاستحسانية لا يقال: هم يزعمونها يقينية. لأ نا نقول: لو كانت يقينية لما أدت إلى اختلاف أقوالهم في فن الكلام وفي أصول الفقه وفي المسائل الفقهية
[ 184 ]
ولقد أفاد وأجاد المحقق الحلي (قدس سره) في أوائل كتاب المعتبر حيث قال: إنك مخبر في حال فتواك عن ربك وناطق بلسان شرعه فما أسعدك إن أخذت بالجزم وما أخيبك إن بنيت على الوهم، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى: ﴿وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ وانظر إلى قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾ وتفطن كيف قسم مستند الحكم إلى القسمين فما لم يتحقق الاذن فأنت مفتر ولقد أحسن وأجاد رئيس الطائفة محيي آثار العترة الطاهرة (عليهم السلام) حيث قال في موضع من كتاب العدة موافقا لما نقلناه سابقا من كتاب تهذيب الأحكام له ومن
[ 185 ]
كتاب العدة: وأما الظن فعندنا وإن لم يكن أصلا في الشريعة تستند الأحكام إليه، فإنه تقف أحكام كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين ونحو جهات القبلة وما يجري مجراه . وقال في موضع آخر من كتاب العدة: وأما القياس والاجتهاد فعندنا أ نهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما، ونحن نبين ذلك فيما بعد انتهى كلامه (رحمه الله). وأنا أقول: في بعض ما نقلنا عن رئيس الطائفة بحث، والحق عندي ما نقله صاحب المعالم عن علم الهدى (رضي الله عنه) حيث قال: وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انها توجب حصول الظن، بل من حيث إن الشارع قال جعله سببا لوجوب الحكم على القاضي، كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة . وإنما قلت: الحق فيه ما أفاده علم الهدى، لا ما ذكره رئيس الطائفة (رحمه الله) لأن كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية، مع وجوب الحكم على القاضي حينئذ، ومن المعلوم عند أولي الألباب: أن متعلق هذا الظن ليس من أحكامه تعالى كما أفاده رئيس الطائفة. الوجه الثاني قوله تعالى: ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق﴾ مع قوله عز وجل: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ وقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله تعالى: ﴿إن هم إلا يظنون﴾ و ﴿إن هم إلا يخرصون﴾ وقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ وغيرها من الآيات الشريفة. وتخصيص تلك الآيات بأصول الدين كما وقع من الأصوليين بناء على أن الضرورة ألجأت إلى التمسك في الفروع بالظن إما مطلقا [بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولمن بعد عنه في زمانه كما هو زعم العامة، أو في زمن الغيبة الكبرى كما هو
[ 186 ]
زعم جمع من متأخري أصحابنا ولمن بعد عن الإمام (عليه السلام) في زمن حضوره كما هو زعم الفاضل المدقق الشيخ علي ومن وافقه من تبعته خيال ضعيف سيجيء جوابه في كلامنا إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث إن خلاصة ما استدلت به الإمامية على وجوب عصمة الإمام (عليه السلام) وهو ” أنه لولا ذلك لزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ وذلك قبيح عقلا ” جارية في وجوب اتباع ظن المجتهد، فعلم أن ظنه ليس بواجب الاتباع، وإذا لم يكن واجبا لم يكن جائزا، إذ لا قائل بالفصل. وبعبارة أخرى: إذ الجواز هنا يستلزم الوجوب بإجماعهم، بل في كتاب المحاسن رسالة منقولة عن الصادق (عليه السلام) فيها استدل الصادق (عليه السلام) بهذا الدليل على امتناع العمل بظن المجتهدين وبخبر الواحد الخالي عن القرائن المفيدة للقطع وأشباههما وهذا نقض أورده الفخر الرازي على الإمامية وجوابه: أن هذا النقض لا يرد على الأخباريين، لأنهم لا يجوزون الاعتماد في أحكامه تعالى على الظن، ويرد على المتأخرين، وليس لهم بحمد الله عن ذلك مفر
[ 187 ]
الوجه الرابع إن المسلك الذي مداركه غير منضبطة وكثيرا ما يقع فيها التعارضات واضطراب
[ 188 ]
الأنفس ورجوع كثير من فحول العلماء عما به أفتى لا يصلح لأن يجعله تعالى مناط أحكامه
[ 189 ]
ومن المعلوم: أن اعتبار ظن المجتهد المتعلق بنفس أحكامه تعالى مستلزم لتلك المحذورات، ألا ترى أن في كثير من المسائل تخطر ببال جمع من أهل الاستنباط أنواع من الترجيحات دون جمع وفي وقت دون وقت. والعامة اعترفوا بذلك في كتب الأصول، ففي شرح العضدي للمختصر الحاجبي في مبحث القياس: من شروط العلة أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه حتى تكون ضابطا للحكمة لا حكمة مجردة، وذلك لخفائها كالرضا في التجارة فنيط
[ 190 ]
بصيغ العقود لكونها ظاهرة منضبطة، أو لعدم انضباطها كالمشقة، فإن لها مراتب لا تحصى وتختلف بالأحوال والأشخاص اختلافا عظيما. ثم ليس كل مرتبة مناطا ولا يمكن تعيين مرتبة منها، إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها، فنيطت بالسفر الوجه الخامس إن المسلك الذي يختلف باختلاف الأذهان والأحوال والأشخاص لا يصلح لأن يجعله تعالى مناط أحكام مشتركة بين الأمة إلى يوم القيامة. الوجه السادس إن الشريعة السهلة السمحة كيف تكون مبنية على استنباطات صعبة مضطربة؟ الوجه السابع إن مفاسد ابتناء أحكامه تعالى على الاستنباطات الظنية أكثر من أن تعد وتحصى، من جملتها: أنه يفضي إلى جواز الفتن والحروب بين المسلمين، وسد هذا الباب يؤدي إلى دفعها والتوقف والتثبت في الأمور الشرعية إلى ظهور الحق واليقين. ألا ترى أن علماء العامة وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ذكروا في مقام الاعتذار عن الحروب والفتن الواقعة بين الصحابة العدول الأخيار ان السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام الله تعالى؟ ومن جملتها: أنه إذا وقعت خصمة
[ 191 ]
دنيوية مبنية على اختلاف اجتهاد المتخاصمين في مال أو فرج أو دم لزم أن لا يجوز لأحدهما أن يأخذ قهرا على الآخر ما يستحقه في حكم الله تعالى. وما قاله علماء العامة: من أنه إذا كانت خصومة المتخاصمين في قضية شخصية مبنية على اختلاف اجتهادهما يجب عليهما الرجوع إلى قاض منصوب من جهة السلطان فإذا قال القاضي: ” حكمت بكذا ” يجب اتباعه عليهما، مما لا يرضى به الذهن المستقيم والطبع السليم، فكيف يرضى به الحكيم العليم؟ ومن جملتها أنه يفضي إلى تجهيل المفتي نفسه أو إبطال القاضي حكمه إذا ظهر له ظن أو قطع مخالف لظنه السابق. الوجه الثامن إن الظن المعتبر عندهم ظن صاحب الملكة المخصوصة التي اعتبروها في معنى الفقيه والمجتهد، وأيضا المعتبر عندهم من بذل الوسع في تحصيل الظن المعتبر عندهم قدر مخصوص منه، ولا يخفى على اللبيب أن الملكة المذكورة والقدر المشار إليه من بذل الوسع أمران مخفيان غير منضبطين، وقد مر أنهم اعترفوا
[ 192 ]
بأن مثل ذلك لا يصلح أن يكون مناط أحكامه تعالى الوجه التاسع إن الظن من باب الشبهات، ووجوب التوقف عند الشبهات المتعلقة بنفس أحكامه تعالى ثبت بالروايات: أما الأولى: فلما في نهج البلاغة: ومن خطبه (عليه السلام) ” وإنما سميت الشبهة شبهة، لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم الضلال ودليلهم العمى، فما ينجوا من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه ” ولغيره من الروايات الآتية. وأما الثانية: فلما سيأتي من الروايات الصريحة في وجوب التوقف عند الشبهات المتعلقة بنفس أحكامه تعالى. الوجه العاشر الخطب والوصايا المنقولة عن أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) الصريحة في أن كل طريق يؤدي إلى اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية مردود غير مقبول عند الله من حيث إنه يؤدي إلى الاختلاف. ومن المعلوم: أن هذا المعنى
[ 193 ]
كما يشمل القياس والاستحسان والاستصحاب وأشباهها يشمل الاستنباطات الظنية من كلام الله وكلام رسوله، مع أن الظن غير حاصل على مذهب الخاصة في كثير من تلك المواضع كما سنحققه، وإنما يحصل على مذهب العامة. والصريحة في أنه يجب التوقف عند الشبهات المتعلقة بنفس أحكامه تعالى. والصريحة في أن ما عدا القطع شبهة. والصريحة في أنه لا يجوز الإفتاء والقضاء إلا لرجل يعض في العلم بضرس قاطع. والروايات الصريحة في أن في كل واقعة حكم الله واحد وان من أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية وأثم. وفي أن المفتي المخطئ ضامن ولحقه وزر من عمل بفتياه
[ 194 ]
ففي نهج البلاغة: ومن كلام له (عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها على خلاف قوله، ثم تجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله تعالى دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه وتعالى دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن تبليغه
[ 195 ]
وأدائه؟ والله سبحانه يقول: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ وفيه تبيان لكل شيء وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأ نه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به . وأقول: المقدمتان القائلتان بأن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة نزل في القرآن، وبأنه لا اختلاف فيما نزل فيه، يستلزمان أن يكون كل من أفتى بحكمين مختلفين من غير ابتناء أحدهما على التقية مصداقا لقوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ثم أقول: الكافر جاء بخمسة معان في كتاب الله تعالى، وتلك المعاني وما هو
[ 196 ]
المراد منها يستفادان من أحاديث كثيرة: منها: ما ذكره الإمام ثقة الإسلام في باب وجوه الكفر عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها: كفر الجحود وهو على وجهين: الكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة وكفر النعم، فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنف من الزنادقة يقال لهم: الدهرية، وهم الذين يقولون: وما يهلكنا إلا الدهر، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان [منهم] على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قال الله تعالى: ﴿إن هم إلا يظنون﴾ إن ذلك كما يقولون، وقال تعالى: ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ يعني بتوحيد الله فهذا أحد وجوه الكفر. وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أ نه حق قد استقر عنده، وقد قال الله تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا﴾ وقال الله عز وجل: ﴿وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين﴾ فهذا تفسير وجهي الجحود. والوجه الثالث من الكفر كفر النعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان ﴿هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم﴾ وقال سبحانه: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وقال: ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾ . والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به وهو قول الله عز وجل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم
[ 197 ]
تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم) فكفرهم بترك ما أمر الله به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده، فقال: ﴿فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون﴾ . والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، وذلك قول الله عز وجل يحكي قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده﴾ يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) وقال: ﴿إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا﴾ يعني تبرأ بعضكم من بعض ومن كلامه (عليه السلام) في بعض خطبه: عباد الله! إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد وهون الشديد، نظر فأبصر وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الحبال بأمتنها، وهو من اليقين على مثل ضوء الشمس قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات كشاف عشوات مفتاح مبهمات دفاع معضلات دليل فلوات، يقول فيفهم ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه به، فهو من معادن دينه وأوتاد
[ 198 ]
أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها ولا مظنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمى عالما فليس به، فاقتبس جهائل من جهال وأضاليل من ضلال ونصب للناس أشراكا من حبائل غرور وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظائم ويهون كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول: أعتزل البدع وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه ولا باب العمى فيصد عنه، فذلك ميت الأحياء فأين تذهبون! وأنى تؤفكون! والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم؟ وهم أزمة الحق وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ورودوهم ورود الهيم العطاش. أيها الناس! خذوها عن خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) أنه يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلي منا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون، واعذروا من لا حجة لكم عليه وأنا هو، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي وفرشت لكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي؟ فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل إليه الفكر ومن كلام له (عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل: إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله تعالى إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا موضع في جهال الأمة عاد في أغباش الفتنة عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالما وليس به، بكر فاستكثر، من جمع ما قل منه
[ 199 ]
خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماء آجن واكتثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشوات لم يعض على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لامليء والله بإصدار ما ورد عليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم به من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث. إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر
[ 200 ]
ومن خطبته (عليه السلام): وما كل ذي قلب بلبيب، وما كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي ناظر ببصير، فيا عجبا! ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم وتعويلهم في
[ 201 ]
المهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات ومن كلامه (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): دع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لا تكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال. واعلم يا بني إن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لا يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما كانوا علموا، فليكن طلب ذلك بتفهم وتعلم لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كل شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع وتم رأيك واجتمع وكان همك في ذلك هما واحدا فانظر فيما فسرت لك، وإن أنت لم تجمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك تخبط العشواء وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل، فتفهم يا بني وصيتي انتهى كلامه (عليه السلام). وفي الكافي في باب البدع والرأي والمقائيس محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه وعلي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام). وعلي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، رفعه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن من أبغض الخلائق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا في جهال الناس عان بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالما ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر من
[ 202 ]
جمع] ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا، ماضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضى، فهو مفتاح عشوات ركاب شبهات خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء، يستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الفرج الحلال لامليء بإصدار ما عليه ورد ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق وأنا أقول: من المعلوم أن هذه العبارات الشريفة صريحة في أن ما عدا اليقين شبهة، وجه الصراحة: أنها ناطقة بحصر الأمور في اليقين والشبهة، فلو لم يكن الظن شبهة لزم بطلان الحصر وفي أن كل طريق يؤدي إلى اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية مردود غير مقبول عند الله تعالى. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه قال الصادق (عليه السلام): الحكم حكمان: حكم الله عز وجل، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله عز وجل حكم بحكم الجاهلية، ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فقد كفر بالله تعالى وفي كتاب الكافي في باب طلب الرئاسة عن أبي حمزة الثمالي قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك والرئاسة! وإياك أن تطأ أعقاب الرجال! قال قلت: جعلت فداك! أما الرئاسة فقد عرفتها، وأما أن أطأ أعقاب الرجال، فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال، فقال لي: ليس حيث تذهب، إياك أن تنصب رجلا دون
[ 203 ]
الحجة فتصدقه في كل ما قال . وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أترى لا أعرف خياركم من شراركم، بلى والله! وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه، إ نه لابد من كذاب أو عاجز الرأي . أقول: الكذاب: المفتري في باب الروايات عنهم [(عليهم السلام)] وعاجز الرأي: المفتي بظنونه. وفي كتاب الكافي في باب أصناف القضاة أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية، وقد قال الله عز وجل: ﴿ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾ وأشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم وفي باب ” من حكم بغير ما أنزل الله عز وجل “: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أي قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن داود بن فرقد قال: حدثني رجل عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال: كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتى جئنا إلى المدينة، فبينا نحن في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ دخل جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقلت لابن أبي ليلى تقوم بنا إليه، فقال: وما تصنع عنده؟ فقلت: نسائله ونحدثه، فقال: قم، فقمنا إليه فسألني عن
[ 204 ]
نفسي وأهلي، ثم قال: من هذا معك؟ قلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين، فقال له: أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟ قال: نعم، قال: تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتقتل هذا وتفرق بين المرء وزوجه لا تخاف في ذلك أحدا؟ قال: نعم، قال: فبأي شيء تقضي؟ قال: بما بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه السلام) وعن أبي بكر وعمر، قال: فبلغك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال إن عليا أقضاكم؟ قال: نعم، قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضة وسماء من فضة ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال: رب إن هذا قضى بغير ما قضيت؟ قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ثم قال لي: التمس لنفسك زميلا، والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا وفي باب ” أن المفتي ضامن “: علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه، فلما سكت قال له الأعرابي أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد شيئا، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو في عنقه قال أو لم يقل، وكل مفت ضامن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه وفي الكافي في باب ” النهي عن القول بغير علم “: محمد بن يحيى عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن مفضل بن يزيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك عن أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن
[ 205 ]
عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياك وخصلتين! ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك وتدين بما لا تعلم . الحسين بن محمد عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا ما لا يعلمون . علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس، عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لا يعلمون، وقال عز وجل: ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ وقال ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾ وفي الكافي في باب من عمل بغير علم محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح وفي الكافي في باب النوادر محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه . محمد عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال عن ابن بكير، عن حمزة ابن الطيار: أ نه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال: كف واسكت، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق، قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
[ 206 ]
لا تعلمون) . علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق الله على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه . أقول: من تدليسات العامة أنهم ذكروا في كتبهم الأصولية: أن العلم الشرعي هو التصديق المطلق المشترك بين القطع والظن. وفي الكافي في باب البدع والرأي والمقائيس محمد بن يحيى عن أحمد ابن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنة فننظر فيها؟ فقال: لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت فقد كذبت على الله عز وجل . علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: حدثني جعفر عن أبيه (عليه السلام) أن عليا قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس. قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم . وفي باب ” دعائم الكفر وشعبه ” علي بن إبراهيم عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن عمر بن أذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وبارز خالقه . أقول: الذكر هو القرآن والمراد نسيان قوله تعالى: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ وقوله تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ ونظائر ذلك من الآيات الشريفة. ثم أقول: من المعلوم عند أولي الألباب أن مقتضى تلك الأحاديث أن كل فتوى
[ 207 ]
لم تكن جامعة للصفتين: من المطابقة للواقع والجزم بها فهي غير مرضية، ومن المعلوم أن الفتوى المخالفة لما أنزل الله إذا وردت من باب التقية لا تجري فيها خلاصة ما يستفاد من تلك الأحاديث. وفي كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا لم يجحدوا ولم يكفروا
[ 208 ]
وفي كتاب المحاسن للبرقي في باب النهي عن القول والفتيا بغير علم عنه، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن عبد الله بن شبرمة قال: ما أذكر حديثا سمعته من جعفر بن محمد إلا كاد أن يتصدع قلبي، قال: قال أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (قال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما كذب أبوه
[ 209 ]
على جده ولا كذب جده على رسول الله) فقال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك وعنه، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر، عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إن الرجل لينتزع آية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض وفي باب ” المقائيس والرأي ” عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم ابن سليمان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): سمعت أبي يقول: ما ضرب الرجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر وفي باب ” التثبت ” عنه، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا لم يجحدوا ولم يكفروا وفي الكافي في باب النهي عن القول بغير علم عدة من أصحابنا عن أحمد ابن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم
[ 210 ]
إن الرجل لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى، عن يونس بن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن ابن شبرمة قال: ما ذكرته حديثا سمعته من جعفر بن محمد (عليهما السلام) إلا كاد أن يتصدع قلبي، قال حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك وفي كتاب المحاسن في باب التثبت أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن طيار: أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: كف، قال أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب، فأملى عليه: أنه لا ينفعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت فيه ورده إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد عنه عن أبيه عمن حدثه رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت فيه والرد إلى أئمة المسلمين، حتى يعرفوكم فيه الحق ويحملوكم فيه على القصد قال الله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وفي كتاب المحاسن في باب المقائيس والرأي عنه، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن قوما من أصحابنا قد تفقهوا وأصابوا علما ورووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم؟ فقال: لا، وهل هلك من مضى إلا بهذا وأشباهه؟ وفي كتاب بصائر الدرجات تأليف محمد بن الحسن الصفار في فصل ” فيه أمر الكتب ” أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير، عن محمد ابن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إنما هلك من كان قبلكم بالقياس وإن الله تبارك
[ 211 ]
تعالى لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له جميع دينه في حلاله وحرامه فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغنون به وبأهل بيته بعد موته وأ نه مخفي عند أهل بيته حتى أن فيه لأرش الخدش الكف وفي الكافي في باب الرد إلى الكتاب والسنة وأ نه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما تحتاج إليه الناس إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله تبارك تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وجعل لكل شيء حدا، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا وعن سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما خلق الله عز وجل حلالا ولا حراما إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة وفي باب ” البدع والرأي والمقائيس ” عن حريز، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام، فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره وعن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة . وعن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال . وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال، قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أو يقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) . وفي باب ” البدع والرأي والمقائيس ” عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال، قلت: أصلحك الله؟ أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يكتفون به في عهده؟
[ 212 ]
فقال: نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة. فقلت: فضاع من ذلك شيء؟ فقال: لا هو عند أهله وعن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة! إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده، إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما، فيها علم الحلال والحرام، إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا، إن دين الله لا يصاب بالقياس وفي كتاب من لا يحضره الفقيه في باب العتق وأحكامه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه والحديث مذكور في كتاب الكافي وفي تهذيب الحديث والظاهر أن المراد بيان الكل لوصيه (عليه السلام) وبيان البعض للرعية، ويمكن حمله على كل ما تحتاج إليه الأمة في عصره (عليه السلام). <