فقه القرآن

القطب الراوندي ج 2


[ 1 ]

من مخطوطات مكتبة اية الله المرعشي العامة (2) فقه القرآن تأليف الفقيه المحدث المفسر الاديب قطب الدين أبى الحسن سعيد بن هبة الله الرواندى المتوفى سنة 573 ه‍ (الجزء الثاني) تحقيق السيد احمد الحسينى باهتمام السيد محمود المرعشي


[ 2 ]

كتاب: فقه القرآن، الجزء الثاني تأليف: قطب الدين الراوندي نشر: مكتبه آيه الله العظمى النجفي المرعشي طبع: مطبعه الولاية – قم التاريخ: 1405، الطبعة الثانيه العدد: (1500) نسخه


[ 3 ]

بسم الله الرحمن الرحيم ” الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام ” ” على محمد وآله الطيبين الطاهرين “.


[ 5 ]

كتاب القضايا قال الله تعالى ” يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ” (1. أخبر الله بأنه نادى داود أن افصل بين المختلفين من الناس والمتنازعين بالحق بوضع الاشياء مواضعها على ما أمرك الله به. والخليفة هو المدبر للامور من قبل غيره بدلا من تدبيره. وقيل: معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا، ثم أمره (2. فالاية تدل على أن القضاء جائز بين المسلمين وربما كان واجبا، فان لم يكن واجبا فربما كان مستحبا، وتدل عليه آيات كثيرة. (باب) (الحث على الحكم بالعدل والمدح عليه) (وذكر عقوبة من يكون بخلافه) قال الله سبحانه ” وأن احكم بينهم بما أنزل الله ” (3 وقال تعالى ” فان جاؤك


(1) سورة ص: 26. 2) أي بعد ان أثبت له مقام الخلافة للانبياء عليهم السلام، أمره بالحكم بين الناس. 3) سورة المائدة: 49. *

[ 6 ]

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ” (1 وقال تعالى ” وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ” (2 وقال تعالى ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ” (3. وقد ذم الله من دعي إلى الحكم فأعرض عنه، فقال ” وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ” (4. ومدح قوما دعوا إليه فأجابوا فقال ” انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ” (5 وقال تعالى ” ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ” (6 وقال تعالى ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ” (7 وفي موضع آخر ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ” (8 وفي موضع آخر ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ” (9. وقال الحسن: هي عامة في بنى اسرائيل وغيرهم من المسلمين. وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله: ان هذه الايات الثلاث في الكفار خاصة. وقال الشعبى: نزل الكافرون في هذه الامة، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى.


1) سورة المائدة: 42. 2) سورة الانبياء: 78. 3) سورة النساء: 65. 4) سورة النور: 48. 5) سورة النور: 51. 6) سورة النساء: 58. 7) سورة المائدة: 47. سورة المائدة: 45. 9) سورة المائدة: 44. *

[ 7 ]

والاولى أن يقال هي عامة في من حكم بغير ما أنزل الله، فان كان مستحلا لذلك معتقدا أنه هو الحق فانه يكون كافرا بلا خلاف، فأما من لم يكن كذلك وهو يحكم بغير ما أنزل الله فانه يدخل تحت الايتين الاخريين (1. (فصل) وقال أبو جعفر عليه السلام: الحكم [ حكمان ] حكم الله وحكم الجاهلية، وقال الله عزوجل ” ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ” (2، وأشهد على زيد ابن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية (3. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: من حكم في الدرهمين بحكم جوز ثم أجبر عليه كان من أهل هذه الاية ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون “. قيل: كيف يجبر عليه ؟ قال: يكون له سوط وسجن فيحكم عليه، فان دخل بحكومته والاضربه (4 بسوطه وحبسه في سجنه (5. وقال أبو عبد الله عليه السلام: اياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعمل شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فاني جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (6.


1) أنظر الاقوال حول الايات الثلاث الدر المنثور 2 / 286. 2) سورة المائدة: 50. 3) البرهان في تفسير القرآن 1 / 478، والزيادة منه. 4) في م ” فان رضى بحكومته فان ضربه “. وفى المصدر قريب منه. 5) وسائل الشيعة 18 / 18 وهو فيه ليس ذيلا للحديث السابق. 6) وسائل الشيعة 18 / 4. *

[ 8 ]

(فصل) وعن ابى بصير قلت لابي عبد الله عليه السلام، قول الله في كتابه ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ” (1. قال: يا ابا بصير ان الله عزوجل قد علم أن في هذه الامة حكاما يجورون، أما انه لم يعن حكام العدل ولكنه عنى حكام الجور، يا أبا محمد انه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حاكم أهل العدل فأبى عليك الا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله عزوجل ” ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به ” (2 الاية (3. وقال: اياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور – الخبر (4. وقال: لما ولى أمير المؤمنين عليه السلام شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه (5. وقال له: قد جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي أو وصي نبي أو شقي (6. ثم قال: ان عليا عليه السلام اشتكى عينه، فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا علي يصيح، فقال له النبي: أجزعا أم وجعا يا علي ؟ فقال: يا رسول الله ما وجعت وجعا قط أشد منه. قال: يا علي ان ملك الموت إذا نزل ليقبض


1) سورة البقرة: 188. 2) سورة النساء: 59. 3) تهذيب الاحكام 6 / 219. 4) من لا يحضره الفقيه 3 / 2. 5) تهذيب الاحكام: 6 / 217. 6) تهذيب الاحكام 6 / 217. *

[ 9 ]

روح الفاجر أنزل معه سفودا (1 من نار فينزع روحه به فتضج جهنم. فاستوى علي جالسا فقال: يا رسول الله أعد علي حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت، فهل يصيب ذلك أحد من أمتك ؟ قال: نعم حكاما جائرون وآكل مال اليتيم وشاهد الزور (2. (باب) (ما يجب أن يكون القاضي عليه) قال الله تعالى ” ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ” (3. أمر تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل لا بالجور، ونعم الشئ شيئا الله به من أداء الامانة. وروي عن المعلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الاية، فقال: على الامام أن يدفع ما عنده إلى الامام الذي بعده وأمرت الائمة بالعدل وأمرت الناس أن يتبعوهم. (4. وقال تعالى ” واذكر عبدنا داود ” إلى قوله ” وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ” (5 أي أعطيناه اصابة الحكم بالحق. وفصل الخطاب هو قوله: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.


1) السفود.. بتشديد الفاء – الحديدة التى يشوى بها اللحم – صحاح اللغة (سفد). 2) تهذيب الاحكام 6 / 224. 3) سورة النساء: 58. 4) من لا يحضره الفقيه 3 / 3 مع اختلاف يسير. 5) سورة ص: 17 – 20.

[ 10 ]

ثم قال ” وهل أتاك نبأ الخصم ” هذا خطاب من الله لنبيه عليه السلام، وصورته صورة الاستفهام ومعناه الاخبار بما كان من قصة داود من الحكومة بين الخصمين، وتنبيهه على موضع تركه بعض ما يستحب له أن يفعله. والنبأ الخبر بما يعظم حاله، والخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق المتنازع له فيه. ويعبر به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد، لان أصله المصدر. ولذلك قال ” إذ تسوروا المحراب ” لانه أراد المدعي والمدعى عليه ومن معهما، فلا يمكن أن يتعلق به في أن أقل الجمع اثنان لما قال ” خصمان بغى بعضنا على بعض “، لانه أراد بذلك الفريقين، أي نحن فريقان خصمان، أي يقول ما يقول خصمان، لانهما كان ملكين ولم يكونا خصمين ولا بغى أحدهما على الاخر، وانما هو على المثل. ” فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ” معناه ولا تجاوز الحق ولا تجر ولا تسرف في حكمك بالميل مع أحدنا على صاحبه، وأرشدنا إلى قصد الطريق الذي هو طريق الحق ووسطه. (فصل) ثم حكى سبحانه ما قال أحد الخصمين لصاحبه، فقال ” ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها ” (1 قال وهب: يعنى أخي في دينى، وقال المفسرون: انه كنى بالنعاج عن تسع وتسعين امرأة كانت له وان الاخر له امرأة واحدة. وقال الحسن: لم يكن له تسع وتسعون نعجة وانما هو على وجه المثل. وقال أبو مسلم: أراد النعاج بأعيانها. وهو الظاهر، غير أنه خلاف أقوال المفسرين.


1) سورة ص: 23. *

[ 11 ]

وقال: هما خصمان من ولد آدم ولم يكونا ملكين، وانما فزع منما لانهما دخلا عليه في غير الوقت المعتاد. وهو الظاهر. ومعنى ” أكفلنيها ” قال ابن عباس أنزل لي عنها، وقال أبو عبيدة ضمها الي، وقال آخرون أي اجعلني كفيلا بها، أي ضامنا لامرها، ومنه قوله ” وكفلها زكريا ” (1. ثم قال ” وعزني في الخطاب ” أي غلبني في المخاطبة وقهرني، وقال ابو عبيدة صار أعزمني. فقال له داود ” لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض “، ومعناه ان كان الامر على تدعيه لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فأضاف السؤال إلى المفعول به. وقال أصحابنا: موضع الخطيئة أنه قال للخصم ” لقد ظلمك ” من غير أن يسأل خصمه عن دعواه. وفي أدب القضاء أن لا يحكم بشئ ولا يقول حتى يسأل خصمه من دعوى خصمه فما أجاب به حكم بذلك، وهذا ترك الندب. والشرط الذي ذكرناه لابد منه، لانه لا يجوز أن يخبر النبي عليه السلام أن الخصم ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع، وانما يجوز مع تقدير وبالشرط الذي ذكرناه، فروي أن الملكين غابا من بين يديه فظن داود أن الله تعالى اختبره بهذه الحكومة. ومعنى ” الظن ” هنا العلم، كأنه قال وعلم داود. وقيل انما ظن ظنا قويا، وهو الظاهر. و ” فتناه ” أي بحق أضافه الله إلى نفسه، أي اختبرناه. وقرئ ” فتناه ” بالتخفيف، أي الملكين فتناه بهما. وقيل: انه كان خطب امرأة كان أوريا بن حنان خطبها ولم يعلم ذلك، فكان دخل في سومه فاختاروه عليه، فعاتبه الله على ذلك.


1) سورة آل عمران: 37. *

[ 12 ]

وأولى الوجوه أنه ترك الندب فيما يتعلق بأدب القضاء. وقرأ ابن مسعود ” ولي نعجة أنثى واحدة “، ووصفها بأثنى اشعارا بأنها ضعيفة مهينة. يسأل فيقال في قوله ” لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ” كيف يكون السائل ظالما ؟ [ الجواب، انه لم يسأله سؤال خضوع انما غالبه، فمعنى السؤال ههنا حمل على سؤال مطالبة، ولو سأله التفضل ما عازه عليها. وقد بينا أن الحكمة في قوله ” وآتيناه الحكمة ” اسم تقع على العلم والعقل وصواب الرأي وصحة العزم والحزم ] (1. ” وفصل الخطاب ” قطع الامور بين المتخاصمين. والخطاب نزاع في الخطوب، وهو يفصل ذلك لحكمته. وقيل: انما كان كناية عن قوله ” البينة على المدعي واليمين على من أنكر ” لان بذلك يقع الفصل بين الخصوم. (فصل) وقوله تعالى ” وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان ” (2 فقد قال الجبائي: ان الله أوحى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ذلك، ولم يكن ذلك عن اجتهاد. وهذا هو الصحيح عندنا، ويقوي ذلك قوله ” ففهمناها سليمان ” يعني علمنا الحكومة في ذلك – التي هي مصلحة الوقت – سليمان.


1) بين المعقوفين مشوش في نسخة م ونقل كما في ج. 2) سورة الانبياء: 78 – 79. *

[ 13 ]

وقوله ” إذ يحكمان ” أي طلبا الحكم في ذلك ولم يبتدئا بعد. وقصته: أن زرعا أو كرما وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم، لان الشرع كان ورد لذلك إليه من قبل ولم يثبت الحكم، فقال سليمان لابيه: ان الله أوحى الي الان بغير هذا يا نبي الله. قال: وما ذاك ؟ قال: يدلع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد إلى صاحبه حقه. ذكره ابن مسعود، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1. فعلى هذا ينبغي أن يكون الحاكم حكيما عالما بالناسخ والمنسوخ، عارفا بالكتاب والسنة، عاقلا بصيرا بوجوه الاعراب، يثق من نفسه، يتولى القضاء والفصل بين الناس. (باب) (كيفية الحكم بين أهل الكتاب) قد ذكرنا من قبل كثيرا مما يتعلق بهذا الباب، وههنا نذكر ما يكون تفصيلا لتلك الجملة أو جملة لذلك التفصيل: اعلم أن الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال ” وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ” (2. التقدير وأنزلنا اليك يا محمد أن احكم بينهم، وانما كرر الامر بالحكم بينهم لامرين:


1) وسائل الشيعة 19 / 208. 2) سورة المائدة: 48. *

[ 14 ]

أحدهما: انهما حكمان أمر بهما جميعا، لان اليهود احتكموا إليه في زنا المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان منهم – ذكره أبو علي، وهو المروي عن ابى جعفر عليه السلام (1. الثاني: أن الامر الاول مطلق والثانى دل على أنه منزل. قال ابن عباس والحسن: تدل الاية على أن اهل الكتاب إذا ترافعوا إلى الحكام المسلمين يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن وشريعة الاسلام، لانه أمر من الله بالحكم بينهم، والامر يقتضي الايجاب. وقال أبو علي: نسخ ذلك التخيير بالحكم بين أهل الكتاب أو الاعراض عنهم والترك، قال تعالى ” فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ” (2. والكتاب في قوله ” وأنزلنا الكتاب ” المراد به القرآن، ” مصدقا ” نصب على الحال، مصدق ما بين يديه من الكتاب، يعني التوراة والانجيل وما فيهما من التوحيد لله وعدله والدلالة على نبوتك والحكم بالرجم والقود وغيرهما. وفيه دلالة على أن ما حكى الله انه كتبه عليهم في التوراة حكم يلزمنا العمل به، لانه جعل القرآن مصدقا لذلك وشاهدا. وقال مجاهد: ” مهيمنا ” صفة للنبي عليه السلام، والاول أقوى لاجل حرف العطف، ولو قال بلا واو لجاز. و ” لا تتبع أهواءهم ” عادلا عما جاءك من الحق، ولا يدل ذلك على أنه عليه السلام اتبع أهواءهم، لانه مثل قوله تعالى ” لئن أشركت ليحبطن عملك ” (3 ولا يدل ذلك على أن الشرك كان وقع منه.


1) أنظر القصة في تفسير البرهان 1 / 472 عن الباقر عليه السلام. 2) سورة المائدة: 42. 3) سورة الزمر: 65. *

[ 15 ]

” لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ” قال مجاهد شريعة القرآن لجميع الناس لو آمنوا به، وقال آخرون انه شريعة التوراة وشريعة الانجيل وشريعة القرآن، والمعني بقوله ” منكم ” أمة نبينا وأمم الانبياء قبله على تغليب المخاطب على الغائب، فبين تعالى ان لكل أمة شريعة غير شريعة الاخرين لانها تابعة للمصالح، فلا يمكن حمل الناس على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح، قال تعالى ” ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ” (1. (فصل) ثم قال تعالى ” أفحكم الجاهلية يبغون ” (2. قال مجاهد: انها كناية عن اليهود، لانهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم اياه وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به. ” ومن أحسن من الله حكما ” أي فصلا بين الحق والباطل من غير محاباة، لانه لا يجوز للحاكم أن يحابى في الحكم، بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل، وقد يكون حكم أحسن من حكم – بأن يكون أولى منه وأفضل – وكذا لو حكم بحق يوافق هواه أحسن مما يوافقه. وقال تعالى في وصف اليهود ” سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ” (3 أي هؤلاء يقبلون الكذب ويكثر أكلهم السحت – وهو الحرام. فخير الله نبيه عليه السلام في الحكم بين اليهود في زنا المحصن وفي قتيل قتل من اليهود.


1) سورة النحل: 93. 2) سورة المائدة: 50. 3) سورة المائدة: 42. *

[ 16 ]

وفي اختيار الحكام والائمة الحكم بين اهل الذمة إذا احتكموا إليهم قولان: احدهما انه حكم ثابت والتخيير حاصل، ذهب إليه جماعة، وهو المروي عندهم عن علي عليه السلام، والظاهر في رواياتنا (1. وقال الحسن انه منسوخ بقوله ” وأن احكم بينهم بما أنزل الله ” (2، فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط. ” وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (3 أي الحكم بالرجم والقود. ثم قال تعالى: ” انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ” (4. نهى الله نبيه عليه السلام أن يكون خصيما لمن كان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله، أي لا تخاصم عنه. والخطاب وان توجه إلى النبي فالمراد به أمته. (باب نوادر من الاحكام) قال محمد بن حكيم: سألت ابا الحسن عليه السلام عن شئ. فقال لي: كل مجهول ففيه القرعة [ فقلت له: ان القرعة ] (5) تخطئ وتصيب. فقال: كل ما حكم الله به فليس بخمطئ (6. قال تعالى ” فساهم فكان من المدحضين ” (7.


1) انظر وسائل الشيعة 18 / 338 فما بعد. 2) سورة المائدة: 49. 3) سورة المائدة: 43. 4) سورة النساء: 105. 5) الزيادة من المصدر وج. 6) تهذيب الاحكام 6 / 240. 7) سورة الصافات: 141. *

[ 17 ]

وعن عبد الله بن الحجاج قال: دخل الحكم بن عيينة (1 وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد ويمين. قال: قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وقضى به علي عليه السلام عندكم بالكوفة. فقالا: هذا خلاف القرآن. قال وأين وجدتموه خلاف القرآن ؟. فقالا: ان الله تعالى قول ” وأشهدوا ذوي عدل منكم ” (2. فقال لهما أبو جعفر عليه السلام: فقوله ” وأشهدوا ذوي عدل منكم ” وهو أن لا تقلبوا شهادة واحد ويمينا. [ قالا: لا ] (3. وقال الرضا عليه السلام: ان أبا حنيفة قال لجعفر بن محمد عليه السلام: كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد – وهو يضحك ؟ فقال جعفر: أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة. قال: لا نفعل. قال: بلى يشهد مائة لا يعرف فترسلون واحدا يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله (4). ثم قال أبو حنيفة: القتل أشد من الزنا فكيف يجوز في القتل شاهدان والزنا لا يجوز فيه الا أربعة شهود ؟ فقال الصادق: لان القتل فعل واحد والزنا فعلان، فمن ثم لا نجوز الا أربعة شهود على الرجل شاهدان وعلى المرأة شاهدان. وسئل عليه السلام عن البينة إذا أقيمت على الحق [ أيحل للقاضي ] أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم. قال: خمسة أشياء يجب على الناس الاخذ بها بظاهر الحكم الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه (5، فقد اختصم


1) كذا في الاصل. وفى المصدر ” عبد الرحمن بن الحجاج ” و ” بن عتيبة “. 2) سورة الطلاق: 2. 3) تهذيب الاحكام 6 / 273 والزيادة ليست فيه. وللحديث ذيل يراجع المصدر بشأنه. 4) تهذيب الاحكام 6 / 296 مع اختلاف في بعض الالفاظ وليس فيه بقية الحديث. 5) تهذيب الاحكام 6 / 288 والزيادة منه. *

[ 18 ]

رجلان إلى داود عليه السلام في بقرة، فجاء هذا بينة على أنها له وجاء هذا ببينة على أنها له. قال: فدخل داود المحراب فقال: يا رب انه قد أعياني أن أحكم بين هذين فكن أنت الذي تحكم. فأوحى الله إليه: أخرج فخذ البقرة من الذي في يده فادفعها إلى الاخر واضرب عنقه. قال: فضجت بنو اسرائيل [ من ذلك وقالوا جاء هذا بينة وجاء هذا ببينة وكان أحقهما باعطائه الذي في يديه. فأخذها منه وضرب عنقه فأعطاه هذا ] (1، فقال داود: يا رب ان بني اسرائيل ضجوا مما حكمت. فأوحى الله إليه: ان الذي كانت البقرة في يده لقي أبا الاخر فقتله وأخذ البقرة منه، فإذا جاءك مثل هذا فاحكم بينهم بما ترى ولا تسألني أن أحكم حتى يوم الحساب (2. (فصل) وعن داود بن الحصين قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما يقول في النكاج فقهاؤكم ؟ قلت: يقولون لا يجوز الا بشهادة رجلين عدلين. فقال: كذبوا لعنهم الله هونوا واستخفوا بعزائم الله وفرائضه وشددوا وعظموا ما هون الله، ان الله أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد، والشهادة في النكاح لم يجئ عن الله في عزيمة، فقد ندب في عقدة النكاح ويستحل الفرج وان لم يشهدوا، وانما سن رسول الله في ذلك الشاهدين تأديبا ونظرا لئلا ينكر الولد والميراث. ” ولا يأب الشهداء ” قبل الشهادة ” ومن يكتمها فانه آثم قلبه ” بعد الشهادة (3


1) الزيادة من المصدر. 2) تهذيب الاحكام 6 / 288 والذيل واصل الحديث هنا جاء في التهذيب في حديثين. 3) من لا يحضره الفقيه 3 / 57. *

[ 19 ]

(باب الزيادات) ذكر ابن عباس ان أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فيما اختلفوا بينهم من دين ابراهيم [ فكل فرقة زعمت أنهم أولى بدينه، فقال عليه السلام: كلا الفريقين برئ من دين ابراهيم ] (1، فغضبوا وقالوا ما نرضى لقضائك، فأنزل الله ” أفغير دين الله يبغون ” أي أفبعد هذه الايات والحجج تطلبون دينا غير دين الله ” وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها ” (2. فالطوع لاهل السماوات خاصة، وأما أهل الارض فمنهم من أسلم طوعا ومنهم من استسلم كرها، أي فرقا (3 من السيف. (مسألة) وقال ابن عباس: ان الله خير نبيه عليه السلام بقوله تعالى ” فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ” (4، وهذا التخيير ثابت في الشرع للائمة والحكام. وقول من قال انه منسوخ بقوله تعالى ” وان احكم بينهم ” (5. لا يصح، لان المعنى ” وان تعرض ” عن الحكم بينهم ” فلن يضروك شيئا “، فدع النظر بينهم ان شئت. ” وان حكمت ” أي وان اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بينهم ” بالقسط ” بما في القرآن وشريعة الاسلام. ثم قرع اليهود بقوله ” وكيف يحكمونك ” ويرضون بك حكما وهم


1) الزيادة من ج. 2) سورة آل عمران: 83. 3) أي خوفا وخشية. 4) سورة المائدة: 42. 5) سورة المائدة: 49. *

[ 20 ]

تركوا الحكم بالتوراة جرأة على الله، وانما طلبوا بذلك الرخصة، وماهم بمؤمنين بحكمك انه من عند الله. (مسألة) وقوله تعالى ” انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ” (1 لا يدل على أن نبينا صلى الله عليه وآله كان متعبدا بشرع موسى عليه السلام، لان الله هو الذي أوجب ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة، فصار ذلك شرعا له وان وافق ما في التوراة. ونبه بذلك اليهود على صحة نبوته، من حيث أخبر عليه السلام عما في التوراة من غوامض العلم ما التبس على كثير منهم، وقد عرفوا أنه لم يقرأ كتابهم. وقوله تعالى ” للذين هادوا ” أي تابوا من الكفر، وقيل لليهود، واللام فيه يتعلق بيحكم، أي يقضي باقامة التوراة النبيون الذين كانوا من وقت موسى إلى وقت عيسى عليهما السلام لهم وفيما بينهم.


1) سورة المائدة: 44. *

[ 21 ]

كتاب المكاسب قال الله تعالى ” والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ” (1. فقد جعل الله لخلقه من المعيشة ما يتمكنون به من التقدير (2، وأمرهم بالتصرف في ذلك من وجوه الحلال دون الحرام، فليس لاحد أن يتكسب بما حظره الله، ولا يطلب رزقه من حيث حرمه. و ” المعايش ” جمع معيشة، وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة. فقد يطلبها الانسان بالتصرف والتكسب وقد يطلب له، فان أتاه أسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهنئ. (باب) (في تفصيل ما أجملناه) قوله تعالى ” ومن لستم له برازقين ” من في موضع النصب عطفا على قوله


1) سورة الحجر: 19 – 20. 2) في ج ” من العبادة “. *

[ 22 ]

” معايش “، والمراد به العبيد والاماء والدواب والانعام، والعرب لا تجعل ” من ” الافي الناس خاصة وغيرهم من العلماء، فلما كان مع الدواب المماليك حسن حينئذ. ويجوز أن يكون ” من ” في موضع خفض نسقا على الكاف والميم في ” لكم “، وان كان الظاهر المخفوض قلما يعطف على المضمر المخفوض. ويجوز أن يكون في موضع رفع، لان الكلام قد تم قبله، ويكون التقدير ولكم فيها من لستم له برازقين. ” وان من شئ الا عندنا خزائنه ” (1 أي ليس شئ الا وهو قادر من جنسه على ما لا نهاية له، ولست أنزل من ذلك الشئ الا ما هو مصلحة لهم في الدين وينفعهم دون ما يكون مفسدة لهم ويضرهم. وصدر الاية اشارة إلى قوله عليه السلام: اطلبوا الرزق في خبايا الارض، فانه تعالى بسطها وجعل لها طولا وعرضا، وطرح فيها جبالا ثابتة وأعلاما يهتدى بها، وأخرج منها النبات فيها من كل شئ بقدر معلوم. ومن الاشياء التي توزن من الذهب والفضة النحاس والحديد وغيرها (2. (فصل) وقال الصادق عليه السلام في قوله تعالى ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة ” أي سعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ” وفي الاخرة حسنة ” (3 رضوان الله والجنة في الاخرة.


1) سورة الحجر: 21. 2) تفسير البرهان 1 / 202 بمضمونه. 3) سورة البقرة: 201. *

[ 23 ]

وقال تعالى ” ولقد مكناكم في الارض وجعلنا لكم معايش ” (1 أخبر تعالى على وجه الامتنان على خلقه بأصناف نعمه أنه مكن عباده في الارض من التصرف فيها من سكناها وزراعتها، وجعل لهم فيها ما يعيشون به مما أنبت لهم من الحبوب والثمرات وغيرها. والمعيشة وصلة من جهة مكسب المطعم والمشرب والملبس إلى ما فيه الحياة. والتمكين اعطاء ما يصح معه الفعل مع ارتفاع المنع، لان الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى [ آلة والى دلالة والى سبب كما يحتاج إلى ] (2 رفع المنع، والتمكين عبارة عن جميع ذلك. وقال تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم ” (3 المراد به الاباحة، لانه تعالى لا يريد المباحات من الاكل والشرب وغيرهما. ” ولا تطغوا فيه ” (3) أي لا تتعدوا فيه فتأكلوه على وجه حرمه الله، فمتى طغيتم فيه وأكلتموه على وجه الحرام نزل عليكم غضبي. (فصل) وقال بعض المفسرين: ان قوله تعالى ” يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ” (4 اشارة إلى ما ذكره النبي عليه السلام تفصيلا لتلك الجملة، وهو قوله: إذا مر الانسان بالثمرة جاز له أن يأكل منها بقدر كفايته ولا يحمل منها شيئا على حال. ولذلك قال تعالى بعده ” ولا تتبعوا خطوات الشيطان “.


1) سورة الاعراف: 10. 2) الزيادة من ج. 3) سورة طه: 81. 4) سورة البقرة 168. *

[ 24 ]

وكان لموسى بن جعفر عليه السلام ضيعة فيها كروم وفواكه فأتاه [ آت ] وقت الادراك ليشتريها، فقال عليه السلام: اني أبيعها مشروطة أن تجعل من أربع جوانب الحائط مدخلا ليأكل كل من يمر عليها مقدار ما يشتهيه، فاني لا يمكننى أن أبيع القدر الذي يأكله من يمر عليها، فاشتراها على ما يريد، بهذا الشرط وأحفظه لئلا يحمل شيئا ويخرج. وقد بين الله الحلال فقال ” وأنزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد ” (1 يعني بحب الحصيد حب البر والشعير وكل ما يحصد لان من شأنه أن يحصد، أي خلقنا ما ذكرناه من حب النبت الحصيد. والطلع النضيد رزقا لهم وغذاءا، وكل رزق فهو من الله اما بفعلنا أو فعل سببه (2. ولما كانت المكاسب وما يجري مجراها تنقسم إلى المباحات والمكروهات والمحظورات لم يكن بد من تميزها: (باب) (المكاسب المحظورة والمكروهة) اعلم أن تقلد الامر من قبل السلطان الجائر إذا تمكن معه من ايصال الحق إلى مستحقه جائز. يدل عليه – بعد الاجماع المتردد والسنة الصحيحة – قول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ” قال اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم ” (3


1) سورة ق: 9 – 11. 2) في ج ” اما أن يفعله أو يفعل سببه “. 3) سورة يوسف: 55. *

[ 25 ]

طلب ذلك إليه ليحفظه عمن لا يستحقه ويوصله إلى الوجوه التي يجب صرف الاموال إليها، ولذلك رغب إلى الملك فيه، لان الانبياء لا يجوز أن يرغبوا في جمع أموال الدنيا الا لما قلناه، فقوله ” حفيظ ” أي حافظ للمال عمن لا يستحقه عليهم بالوجوه التي يجب صرفه إليها. ومتى علم الانسان أو غلب على ظنه أنه لا يتمكن من جميع ذلك فلا يجوز له التعرض له على حال. وعن أبي بصير: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب المغنيات ؟ قال: التي تدعى إلى العرائس ليس به بأس، والتي يدخل عليها الرجال حرام، وهو قول الله تعالى ” ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ” (1. وعن ابن سنان قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الاجارة. قال. صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته، فقد آجر موسى عليه السلام نفسه واشترط، فقال: ان شئت ثمانيا وان شئت عشرا، فأنزل الله فيه ” على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت عشرا فمن عندك ” (2. وعن عمار الساباطي قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام: الرجل يتجر، فان هو آجر نفسه [ أعطي ما يصيب في تجارة. فقال: لا يؤاجر نفسه ولكن سيرزق الله تعالى ويتجر فانه إذا آجر نفسه ] فقد حظر على نفسه الرزق (3). ولا تنافي بينهما، لان الخبر الاول محمول على ضرب من الكراهية. والوجه في كراهة ذلك أنه لا يأمن أن لا ينصحه في عمله فيكون مأثوما، وقد نبه على ذلك في الخبر الاول بقوله ” لا بأس إذا نصح قدر طاقته “.


1) سورة لقمان: 6. والحديث في الاستبصار 3 / 62 عن ابى جعفر الباقر عليه السلام. 2) سورة القصص: 27. والحديث في من لا يحضره الفقيه 3 / 173. 3) الاستبصار 3 / 55، والزيادة منه. *

[ 26 ]

(فصل) وعن عمار بن مروان: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلول (1، فقال: كل شئ غل من الامام فهو سحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسحت (2 أنواع كثيرة: منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ المسكر، والربا بعد البينة. وأما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله (3. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى ” أكالون للسحت ” (4. قال: السحت الرشوة في الحكم (5. وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: السحت الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وعسيب الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان (6 الكاهن (7. وروي عن ابي هريرة مثله. وقال مسروق: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجور في الحكم. قال:


1) الغلول – بضم الغين – الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة.. وكل من خان في شئ خفية فقد غل، وسميت غلولا لان الايدى فيها مغلولة، أي ممنوعة مجعول فيها غل، وهو الحديدة التى تجمع يد الاسير إلى عنقه – النهاية لابن الاثير 3 / 380. 2) السحت في اللغة بمعنى القطع والاستئصال، يقال سحت الله الكافر بعذاب إذا استأصله، والمال السحت كل حرام يلزم آكله العار، وسمى سحتا لانه لا بقاء له – معجم مقاييس اللغة 3 / 143. 3) الكافي 5 / 126. 4) سورة المائدة: 42. 5) مجمع البيان 3 / 196. 6) حلوان الكاهن بضم الحاء وسكون اللام: الاجرة التى تعطى اياه، واشنقاقه من الحلاوة – الفائق للزمخشري 1 / 304. 7) مجمع البيان 3 / 196. *

[ 27 ]

ذلك الكفر. وعن السحت، فقال: الرجل يقضي لغيره الحاجة فيهدى له الهدية، قال الله تعالى ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ” (1. هذا إذا كان مستحلا لذلك (2. وقال الخليل: السحت القبيح الذي فيه العار، نحو ثمن الكلب والخمر. وأصل السحت الاستيصال. وعن الصادق عليه السلام في قوله ” أكالون للسحت ” أنه قال: ثمن العذرة من السحت (3). وقال: أربعة لا تجوز في أربعة: الخيانة والغلول والسرقة والربا، لا تجوز في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة (4. وقال: لا تصلح السرقة والخيانة إذا عرفت (5. والاية تدل على جميع ذلك بعمومها. (فصل) أما قوله تعالى ” ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصنا ” (6 فهو نهي عن اكراه الامة على الزنا، انها نزلت على سبب فوقع النهي عن المعين على تلك الصفة.


1) سورة المائدة: 44. 2) وسائل الشيعة 17 / 314. 3) تفسير البرهان 1 / 474. 4) من لا يحضره الفقيه 3 / 161. 5) الكافي 5 / 228. 6) سورة النور: 33. *

[ 28 ]

قال جابر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن ابي بن سلول حين اكره أمته مسيكة على هذا (1. وهذا نهي عام لكل مكلف أن يكره أمته على الزنا طلبا لكسبها بالزنا. وقوله ” ان أردن تحصنا ” صورته صورة الشرط وليس بشرط، وانما ذكر لعظم الافحاش في الاكراه على ذلك. ومهور البغايا محرمة كرهن أو لم يكرهن. وقوله تعالى ” ومن يكرههن ” يعني على الفاحشة ” فان الله من بعد اكراههن ” أي لهن ” غفور رحيم ” (2 ان وقع منها مكرهة في ذلك الوزر على المكره. وقال أبو جعفر عليه السلام: لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله ” انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ” (3 قيل: يا رسول الله ما الميسر ؟ فقال: كلما يقامر به حتى الكعاب والجوز. قيل: فما الانصاب ؟ قال: ما ذبحوه لالهتهم. قيل: فما الالزام ؟ قال: قداحهم التي كانوا يستقسمون بها (4. ونهى عليه السلام أن يؤكل ما تحمل النملة بقيها وقوائمها (5. وقال تعالى ” وكأين من دابة لاتحمل رزقها الله يرزقها واياكم ” (6. أي لا تحمل رزقها للادخار. وقيل أي لا تدخره لغد.


1) اسباب النزول للواحدي ص 220. 2) سورة النور: 33. 3) سورة المائدة: 90. 4) الكافي 5 / 122. 5) الكافي 5 / 307. 6) سورة العنكبوت: 60. *

[ 29 ]

وروي أن الحيوان أجمع من البهائم، والطير ونحوها لا تدخر القوت لغدها، الا ابن آدم والنملة والفارة، بل تأكل منها كفايتها فقط. ونزلت الاية من أولها ” يا عبادي الذين آمنوا ان أرضي واسعة فاياي فاعبدون ” (1 إلى ههنا في أهل مكة المؤمنين منهم، فانهم قالوا: يا رسول الله ليس لنا بالمدينة أموال ولا منازل فمن أين المعاش ؟ فأنزل الله الاية (2. (فصل) وقوله تعالى ” لتبلون في أموالكم وأنفسكم ” (3 معناه لتختبرن ما يفعل بكم من الفقر وشدة العسر وبما تؤمرون من الزكوات والانفاق في سبيل الله في أموالكم كما تختبرون بالعبادات في أنفسكم، وانما فعله لتصبروا، فسماه بلوى مجازا، لان حقيقته لا تجوز على الله. وكفى للمكلفين واعظا بقوله تعالى ” لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له ” (4). فان أرض سبأ كانت من أطيب البقاع، لم يجعل الله فيها شيئا من هوام الارض نحو البق والبراغيث ولا العقرب ولا غيرها من المؤذيات، وكان الغريب إذا دخل أرضهم وفى ثيابه قمل مات. فهذه آية والاية الثانية أن المرأة كانت تأخذ على رأسها مكيلا فتملا بالفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا.


1) سورة العنكبوت: 56. 2) مجمع البيان 4 / 290. 3) سورة آل عمران: 186. 4) سورة سبأ: 15. *

[ 30 ]

ثم فسر الاية فقال ” جنتان ” أي هي جنتان من عن يمين الوادي وشماله. ثم قال ” كلوا من رزق ربكم ” المراد به الاباحة وان كان لفظه لفظ الامر ” بلدة طيبة ” ليس فيها سبخة، فأعرضوا عن ذلك فلم يشكروا الله، فجازاهم تعالى على ذلك بأن سلبهم نعمة كانت بها، وأرسل عليهم سيل العرم، وقد كانت تجتمع مياه وسيول في هذا الوادي وسدوه بالحجارة والقاربين الجبلين فجعلوا له أبوابا يأخذون الماء منه بمقدار الحاجة ما شاؤا، فلما تركوا أمر الله بعث عليهم جرذا فنقبته فأغرق عليهم جنتهم وأفسد أرضهم. ثم قال ” وبدلناهم بجنتيهم جنتين ” وانما سماهما بعد ذلك أيضا جنتين ازدواجا للكلام ” ذواتي أكل خمط ” فالاكل جناء الثمر الذي يؤكل، والخمط شجر له ثمر مر. ثم ” ذلك جزاؤهم بما كفروا “. ثم من الله تعالى عليهم بما يذكر بعد فظهر فيما بينهم المحاسدة فكان كما قال ” فجعلناهم أحاديث ” أي أهلكناهم وألهمنا الناس أحاديثهم ليعتبروا بها. (باب المكاسب المباحة) قال أبو عبد الله عليه السلام: ان قوما من الصحابة لما نزل ” ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ” (1 أغلقوا الابواب وأقبلوا على العبادة وقالوا قد كفينا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فأرسل إليهم فقال: ما حملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا: يا رسول الله تكفل الله لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة. فقال عليه السلام: انه من فعل ذلك لم يستجب الله له، عليكم بالطلب (2


1) سورة الطلاق: 3. 2) من لا يحضره الفقيه 3 / 192. *

[ 31 ]

طلب الحلال فريضة بعد الفريضة. وقال: ملعون من ألقى كله على الناس (1. وقال الله تعالى ” وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه ” أي ثقل على وليه ” هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ” (2. وعن سعيد بن يسار: قلب لابي عبد الله عليه السلام: امرأة دفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به وقالت له حين دفعته إليه: أنقق منه، فان حدث بك حادث فما أنفقت منه لك حلال طيب، وان حدث بى حادث فهو لك حلال، [ فقال: أعد علي يا سعيد المسألة. فلما ذهبت أعيد المسألة عليه اعترض فيها صاحبها ] وكان صاحبها معي، فقال له: يا هذا ان كنت تعلم أنها قد أوصت بذلك اليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب. ثم قال: يقول الله تعالى ” فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ” (3 يعنى بذلك أموالهن التي في أيديهن مما يملكن (4. وعن ابي جعفر عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله لرجل: أنت ومالك لابيك. ثم قال أبو جعفر عليه السلام: وقال رسول الله: لا يجب أن يأخذ من مال ابنه الا ما احتاج إليه مما لابد منه، ان الله لا يحب الفساد (5). وقال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين اناه ” (6.


1) الكافي 5 / 72. 2) سورة النحل: 76. 3) سورة النساء: 4. 4) الكافي 5 / 136، والزيادة منه، وليس فيه ” يعنى ” الخ. 5) الاستبصار 3 / 48. 6) سورة الاحزاب: 53. *

[ 32 ]

نهاهم عن دخول دار النبي عليه السلام بغير اذن إلى طعام غير منتظرين بلوغ لطعام، وغير نصب على الحال، وان الطعام إذا بلغ حال النضج. ثم قال ” ولكن إذا دعيتم فادخلوا ” أي إذا دعيتم إلى الطعام فادخلوا ” فإذا طعمتم فانتشروا ” أي تفرقوا ولا تستأنسوا بطول الحديث. وانما منعوا من الاستيناس لاجل طول الجلوس. ثم بين أن الاستيناس بطول الجلوس يؤذي النبي، وأنه يستحيي من الحاضرين فيسكت على مضض ومشقة. (فصل) أما قوله تعالى ” ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ” (1 إلى آخر الاية. فقد قال ابن عباس: ليس في مؤاكلتهم حرج لانهم كانوا يتحرجون من ذلك. قال الفراء: كانت الانصار تتحرج من ذلك لانهم كانوا يقولون الاعمى لا يبصر فيأكل جيد الطعام دونه، والاعرج لا يتمكن من الجلوس، والمريض يضعف عن المآكل. وقال مجاهد: أي ليس عليكم في الاكل من بيوت من سمي على جهة حمل قراباتكم إليهم تستتبعونهم في ذلك حرج. وقال الزهري: ليس عليهم حرج في أكلهم من بيوت الغزاة إذا خلفوهم فيها باذنهم. وقيل: كان المخلف في المنزل المأذون له في الاكل، فيجوز لئلا يزيد


1) سورة النور: 61. *

[ 33 ]

على مقدار المأذون له فيها. وقال الجبائي: الاية منسوخة بقوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين اناه ” (1. ويقول النبي عليه السلام: لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفسه (2. والذي روي عن أهل البيت عليهم السلام انه لا بأس بالاكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله بغير اذنهم قدر حاجتهم من غير اسراف، وهم عشرة (3. وقوله ” ولا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم ” قال الفراء: لما نزل قوله تعالى ” ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة ” (4 ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير ممن أذن الله في الاكل معه، فقال تعالى وليس عليكم في أنفسكم وفى عيالكم أن تأكلوا معهم، إلى قوله ” أو صديقكم ” أي بيوت صديقكم ” أو ما ملكتم مفاتحه ” أي بيوت عبيدكم وأموالهم. وقال ابن عباس: معنى ” ما ملكتم مفاتحه ” هو الوكيل ومن جرى مجراه. وقال مجاهد والضحاك: هو ما ملكه الرجل نفسه في بيته. وقال قتادة: معنى قوله ” أو صديقكم ” لانه لا بأس في الاكل من بيت صديقه بغير اذن. وقوله تعالى ” ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا ” قيل يدخل فيه اصحاب الافات على التغليب للمخاطب، كقولهم ” أنت وزيد قمتما “. وقال ابن عباس: معناه لا بأس أن يأكل الغني مع الفقير في بيته. وقال الضحاك.


1) سورة الاحزاب: 53. 2) مستدرك الوسائل 3 / 146. 3) انظر تفسير البرهان 3 / 152 فما بعد. 4) سورة البقرة: 188. *

[ 34 ]

هم قوم من العرب كان الرجل منهم يتحرج أن يأكل وحده، وكانوا من كنانة. وقال أبو صالح: كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا الا معه، فأباح الله الاكل مفردا ومجتمعا. والاولى حمل ذلك على عمومه وأنه يجوز الاكل وحدانا وجماعا. (باب) (التصرف في أموال اليتامى) قال الله عزوجل ” ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم ” (1. معنى الاية الاذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الايتام في الاموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك، فأذن الله لهم في ذلك إذا تحروا الاصلاح بالتوفير على الايتام – في قول الحسن وغيره، وهو المروي في أخبارنا. وقوله ” واخوانكم ” أي فهم اخوانكم خالطتموهم أو لم تخالطوهم ” ولو شاء الله لاعنتكم ” الاعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا، ومعناه التذكر بالنعمة في التوسعة على ما توجبه الحكمة مع القدرة على التضييق الذي فيه أعظم المشقة. وقال احمد بن محمد بن أبي نصر: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل يكون في يده مال لا يتام فيحتاج إليه فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده. قال: لا ينبغي له أن يأكل منه الا القصد ولا يسرف، فان كان من نيته أن لا يرده عليهم


1) سورة البقرة: 220. *

[ 35 ]

فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل ” ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ” (1. وعن سماعة عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى ” ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ” (2 قال: من كان يلي شيئا من أموال اليتامى وهو محتاج إلى ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر ولا يسرف، فان كان ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرز أن من أموالهم شيئا (3. وسئل عليه السلام عن قوله تعالى ” وان تخالطوهم فاخوانكم ” قال: يعنى اليتامى. إذا كان الرجل يلى الايتام في حجره فليخرج من ماله على قدر [ ما يحتاج إليه على قدر ] ما تخرج لكل انسان منهم فيخالطهم ويأكلون جميعا ولا يرزأن من أموالهم شيئا، انما هي النار (4 – أي ما يضيعه منه. وقال عليه السلام في قوله تعالى ” فليأكل بالمعروف ” المعروف هو القوت وانما عنى الوصي والقيم في أموالهم بما يصلحهم (5. وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى ” ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ” [ فقال: ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف ] إذا كان يصلح لهم أموالهم، فان كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا. قال: قلت أرأيت قول الله عزوجل ” وان تخالطوهم فاخوانكم ” ؟ قال: تخرج من أموالهم بقدر ما يكفيهم وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثم تنفقه. قلت: ارأيت ان كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم أعلا كسوة من بعض وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعا. فقال: أما الكسوة فعلى كل انسان منهم


1) سورة البقرة: 219. والحديث في الكافي 5 / 128. 2) سورة النساء: 5. 3) تهذيب الاحكام 6 / 340. 4) تهذيب الاحكام 6 / 340، والزيادة منه. 5) الكافي 5 / 130. *

[ 36 ]

ثمن كسوته، وأما الطعام فاجعلوه جميعا، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (1. (باب) (من يجبر الانسان على نفقته) الذين يجب لهم النفقة بنص القرآن منهم: الولد لقوله تعالى ” ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق ” (2) يعنى خشية الفقر، فلولا أن على الوالد نفقة الولد ما قتله خشية الفقر. وهذا الخطاب متوجه إلى الاغنياء الذين يخافون الفقران انفقوا على أولادهم أموالهم، فقال تعالى لهم لا تقتلوا أولادكم فاني أرزقهم كما رزقتكم. وخاطب الفقراء بالاية الاخرى فقال تعالى ” ولا تقتلوا أولادكم من املاق ” فاني أرزقهم واياكم (3. فصح أن نفقة الولد على الوالد واجبة، سواء كان له مال أو حرفة وصناعة أو أي حيلة يحصل بها ما يقوته ويتبلغ هوبه. وقول الله ” لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ” (4 يمنع من الاضرار به. أما قوله تعالى ” فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ” (5 فانه تعالى أراد به المطلقات دون الزوجات، بدلالة أنه تعالى أو جب الاجرة بشرط الرضاع الا إذا كانت ناشزا لا تستحق منه النفقة، ولانه تعالى سماه أجرة والنفقة لا تسمى بذلك. وأما وجوب نفقة الوالد على الولد فعلى كل ولد أن ينفق على والده في


1) الكافي 5 / 130 والزيادة منه. 2) سورة الاسراء: 31. 3) سورة الانعام: 151. 4) سورة البقرة: 233. 5) سورة الطلاق: 6. *

[ 37 ]

الجملة، وعلى الوالدة أيضا. هذا إذا كان له يسار وما يجري مجراه، والدليل على هذا قوله تعالى ” وصاحبهما في الدنيا معروفا ” (1، فعلى هذا ان احتاج الوالد ولا ينفق الولد عليه يجوز للوالد حينئذ أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحتاج إليه من غير اسراف بل على طريق القصد. فأما من كان له أولاد صغار فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم الا قرضا على نفسه. وأما الوالدة فلا يجوز لها أن تأخذ من ولدها شيئا على حال الا على سبيل القرض على نفسها. والمرأة لا يجوز لها أن تأخذ من بيت زوجها من غير اذنه الا المأدوم، فان ذلك مباح لها أن تتصرف فيه ما لم يؤد إلى ضرر. ويجبر الرجل على نفقة ستة: ولده، ووالديه، وجده، وجدته من الطرفين، وزوجته، والمملوك أيضا. ويستحب له النفقة على الاخرين من ذوي أرحامه. وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده شئ جاز له أن يأخذ منه ما يحج به حجة الاسلام، فأما حجة التطوع فلا يجوز له الا باذنه. (باب السبق والرماية) قال الله تعالى ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ” (2. فقال النبي صلى الله عليه وآله: ألا ان القوة الرمي – ثلاثا. ووجه الدلالة أن الله أمر باعداد الرمي ورباط الخيل للحرب ولقاء العدو.


1) سورة لقمان: 15. 2) سورة الانفعال: 60. *

[ 38 ]

والاعداد لا يكون الا بالتعلم، والنهاية في التعلم المسابقة في ذلك ليكد كل واحد نفسه في بلوغ النهاية والحذف فيه، فكان في ضمن الاية دليل على ما قلناه. وقال تعالى حكاية عن ولد يعقوب ” يا أبانا انا ذهبنا نستبق ” (1 فأخبر بالمسابقة. وقال النبي صلى الله عليه وآله: لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر (2 بسكون الباء وفتحها. فالسكون مصدر، وبالفتح الفرض المخرج في المسابقة. فأحل عليه السلام السبق وأباحه في هذه الثلاثة. وسئل أنس: هل كنتم تراهنون ؟ فقال: نعم. ولا خلاف في جوازه، وانما الخلاف في أعيان المسائل. فإذا تقرر جواز ذلك في الجملة فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه وما لا يجوز. فما تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف ضربان: أحدهما نشابة وهي للعجم، والاخر السهم وهو للعرب. والمزاريق – وهي الردينيات – والرماح والسيوف كل ذلك من النصل. ويجوز المسابقة عليه بعوض لقوله تعالى ” وأعدوا لهم ما استطعتم ” الاية. وأما الخف فالابل، يجوز المسابقة عليها لقوله ” فما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب ” (3، فالركاب الابل. وكذا المسابقة على الخيل فجائز، لقوله ” ومن رباط الخيل ” (4 وقوله ” من خيل ولا ركاب “، وعليه الاجماع.


1) سورة يوسف: 17. 2) وسائل الشيعة 13 / 349. 3) سورة الحشر: 6. 4) سورة الانفال: 60. *

[ 39 ]

(باب الزيادات) قوله تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه ” (1. ركب علي عليه السلام يوما دلدل ليخرج إلى موضع، فأتى مسجد الكوفة ليصلي فيه ركعتين ثم يخرج وكان منفردا، فلما وصل إلى باب المسجد رأى رجلا هناك فقال: احفظها لادخل المسجد فإذا خرجت أعطيتك شيئا. فأخذ الرجل اللجام من رأس البغلة ومضى، فلما خرج عليه السلام من الصلاة فإذا بقنبر وجماعة من الناس حول البغلة ولم يكن عليها اللجام، فقال عليه السلام: سبحان الله اني أخذت درهمين لادفعهما إليه، فدفعهما إلى قنبر ليشتري بهما لجاما. فلما دخل قنبر أول السوق فإذا الرجل باعه بدرهمين قراضة، فلما عاد أقبل أمير المؤمنين على الناس وقال: لا تتعرضوا للحرام، ولا تأكلوا مال غيركم غصبا فتحرموا في يومكم مقدار ذلك من رزقكم. وكل من أمكنه أن يأخذ مال غيره على وجه الحرام ولا يأخذ فالله يرزقه في ذلك اليوم مقدار ذلك من حيث لا يحتسب حلالا طيبا، قال تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه “.


1) سورة طه: 81. *

[ 40 ]

كتاب المتاجر قال الله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ” (1. نهى الله عن أكل الاموال بالباطل، واستثنى المتاجر من ذلك وجعلها حقا يخرج به مستعملها من الباطل. وقيل في معناه قولان: أحدهما – قال السدي: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالربا والقمار والبخس والظلم. وهو المروي عن ابي جعفر عليه السلام. الثاني – قال الحسن: بغير استحقاق من طريق الاعواض. وكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما أنزلت هذه الاية إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور ” ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم “


1) سورة النساء: 29. *

[ 41 ]

إلى قوله تعالى ” ليس عليكم جناج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ” (1. والاول أقوى، لان ما أكل على وجه مكارم الاخلاق فليس هو أكلا بالباطل. وقيل: معناه التجاوز والاخذ من غير وجهه ولذلك قال تعالى ” بينكم “. وقوله تعالى ” الا أن تكون تجارة ” فيه دلالة على بطلان من حرم الكسب، لان الله حرم أكل الاموال بالباطل وأحله بالتجارة على طريق المكاسب، ومثله قوله ” وأحل الله البيع وحرم الربا ” (2. وقوله تعالى ” عن تراض منكم ” قيل في معنى التراضي بالتجارة قولان: أحدهما – امضاء البيع بالتفرق أو التخاير بعد العقد في قول شريح والشعبي وابن سيرين، لقوله عليه السلام ” البيعان بالخيار ما لم يفترقا ” (3 أو يكون بيع خيار. وربما قالوا أو يقول أحدهما للاخر اختر، وهو مذهبنا. الثاني – امضاء البيع بالعقد على قول مالك بن أنس وابي حنيفة بعلة رده إلى عقد النكاح، ولا خلاف أنه لا خيار فيه بعد الافتراق. وقيل معناه إذا تغابنوا فيه مع التراضي فانه جائز. ثم قال تعالى ” ولا تقتلوا أنفسكم ” أي لا تهلكوها بترك التجارة وبارتكاب الاثام والعدوان في أكل الاموال بالباطل وغيره ” ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ” الاشارة إلى أكل الاموال بالباطل. وقوله تعالى ” الا أن تكون تجارة ” من رفع فالمعنى الا أن يقع، ومن نصب فمعناه الا أن تكون الاموال تجارة، أي أموال تجارة، وحذف المضاف، ويكون الاستثناء منقطعا، ويجوز أن يكون التقدير الا أن تكون التجارة تجارة. والرفع أقوى، لانه أدل على الاستثناء، فان التحريم لاكل المال بالباطل على الاطلاق.


1) سورة النور: 61. 2) سورة البقرة: 275. 3) الكافي 5 / 170. *

[ 42 ]

(باب آداب التجارة) قال الله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ” (1. فندب تعالى إلى الانفاق من طيب الاكتساب، ونهى عن طلب الخبيث للمعيشة به والانفاق، فمن لم يتفقه لم يميز بين العقود الصحيحة والفاسدة ولم يعرف فرق ما بين الحلال والحرام من الكسب، فلم يكن مجتنبا للخبيث من الاعمال. وينبغي للتاجر إذا عامله مؤمن ألا يربح عليه الا في حال الضرورة، ويقنع بما لابد له من اليسير مع الاضطرار أيضا. قال تعالى ” خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ” (2 أمر الله نبيه عليه السلام أن يأخذ مع الناس بالعفو، وهو التساهل فيما بينه وبينهم، وأن يترك الاستقصاء عليهم في ذلك. وهذا يكون في مطالبة الحقوق الواجبة لله وللناس وفي غيرها، وهو في معنى الخبر عن النبي عليه السلام: رحم الله سهل القضاء سهل الاقتضاء بائعا ومشتريا. ولا ينافي ذلك أن لصاحب الحق والديون وغيرها استيفاء الحق وملازمة صاحبه حتى يستوفيه، لان ذلك مندوب إليه دون أن يكون واجبا. ” وأمر بالعرف ” أي المعروف، وهو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع ” وأعرض عن الجاهلين ” [ أمر بالاعراض عن السفيه الذي ان بايعه


1) سورة البقرة: 267. 2) سورة الاعراف: 199. *

[ 43 ]

أو شاراه سفه عليه ] (1 وآذاه، والى هذا أشار امير المؤمنين عليه السلام بقوله لاهل السوق كل بكرة يغتدي إليهم: تبركوا بالسهولة، واقتربوا من المتبايعين، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب والظلم، ولا تقربوا الربا، وأوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين، واياكم ومخالطة السفلة وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له، ولا تعاملوا الا من يشاء في خير، قال تعالى ” وأعرض عن الجاهلين ” (2. (فصل) قال الله تعالى ” وأوفوا الكيل إذا كلتم ” (3 ولا يكون الوفاء حتى يميل الميزان. وكان عليه السلام يقول: زن يا وزان وأرجح. فلهذا أمرنا أن لا نأخذ الا ناقصا وان لا نعطي الا راجحا. وقال النبي صلى الله عليه وآله: من باع واشترى فليحفظ خمس خصال والا فلا يشتري ولا يبيع: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والمدح إذا باع، والذم إذا اشترى (4. قال الله تعالى ” أحل الله البيع وحرم الربا ” (5). وقال ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” (6).


1) ليست الزيادة في ج. 2) وسائل الشيعة 12 / 284. 3) سورة الاسراء: 35. 4) وسائل الشيعة 12 / 284. 5) سورة البقرة: 275. 6) سورة البقرة: 224. *

[ 44 ]

وقال ” يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ” (1. فلا ينبغي تزيين متاعه، بأن يري جيده ويكتم رديه، ولقوله تعالى ” وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة ” (2 فالغلول الخيانة، لانه يجري في الملك على خفى من غير الوجه الذي يحل، كالغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر. وانما خصت الخيانة بالصفة دون السرقة لانه يجري إليها بسهولة، لانها مع عقد الامانة. وقال النبي عليه السلام حين مر على رجل يبيع التمر وكان يخلط الردئ بالجيد: من غشنا فليس منا (3. ولا يجوز أن يشوب اللبن بالماء، لان العيب لا يتبين فيه. وعن اسحاق: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يبعث إلى الرجل يقول له: ابتع لي ثوبا، فيطلب له في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده ؟ قال: لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه، ان الله عزوجل يقول ” انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا ” (4، وان كان ما عنده خيرا مما يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده الا باعلامه ذلك (5. وكذلك من باع لغيره شيئا فلا يشتريه لنفسه وان زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال الا بعلم من صاحبه واذن من جهته.


1) سورة الانفال: 27. 2) سورة آل عمران: 161. 3) انظر وسائل الشيعة 12 / 208 – 211 ففيه أحاديث بهذا المضمون لا بهذا اللفظ. 4) سورة الاحزاب: 72. 5) تهذيب الاحكام 6 / 352 مع اختلاف يسير. *

[ 45 ]

ولا يجوز للرجل أن يدخل في سوم أخيه، فقد عاتب الله نبيه داود فقال ” ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها ” (1 الاية وإذا تعسر عليه نوع من التجارة فليتحول منه إلى غيره. (باب أحكام الربا) قال الله تعالى ” الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ” (2. أصل الربا الزيادة، من قولهم ربا الشئ يربو: إذا زاد، والربا هو الزيادة على رأس المال في جنسه أو مماثله، وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الاجل، أو كاعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين. والمنصوص عليه تحريم التفاضل في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح. وقيل الزبيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فيها: مثلا بمثل يدا بيد، من زاد واستزاد فقد أربى. فهذه الستة أشياء لا خلاف بينهم في حصول الربا فيها، وباقي الاشياء عند الفقهاء مقيس عليها، وفيها خلاف بينهم. وعندنا ان الربا في كل ما يؤكل ويوزن إذا كان الجنس واحدا منصوصا عليه، والعموم يتناول كل ذلك ولا يحتاج إلى قياس. والربا محرم متوعد عليه كبيرة موبقة بلا خلاف بهذه الاية وبقوله ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ” (3 وبقوله: فان لم تفعلو فأذنوا


1) سورة ص: 23. 2) سورة البقرة: 275. 3) سورة البقرة: 278. *

[ 46 ]

بحرب من الله ورسوله ” (1. أما قوله ” لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس ” قال ابن عباس: ان قيامهم على هذه الصفة يكون يوم القيامة إذا قاموا من قبورهم، ويكون ذلك أمارة على أنهم آكلة الربا. وقوله ” يتخبطه الشيطان من المس ” مثل لا حقيقة عند الجبائي على وجه النسبة بحال من تغلب عليه المرة السوداء، فتضعف نفسه، ونسب إلى الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته. ثم قال ” ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا ” معناه ذلك العقاب لهم بسبب قولهم انما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا. قال ابن عباس: كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه يطالبه به، قال المطلوب منه له زدني في الاجل وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه ويعملان به، فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء، يعنون به أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الاجل عند محل الدين سواء، فذمهم الله وأوعدهم وخطأهم. وقال بعضهم: انهم قالوا الزيادة على رأس المال بعد تصييره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع، وذلك خطأ لان احدهما محرم والاخر مباح، وهو أيضا منفصل منه في العقد، لان الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الاخر لاجل البيع. والفرق بين البيع والربا أن البيع ببدل، لان الثمن فيه بدل المثمن، والربا ليس كذلك، وانما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الاجل أو زيادة في الجنس. ” وقد أحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف “


1) سورة البقرة: 279. *

[ 47 ]

أي له ما أكل، وليس عليه رد ما سلف إذا لم يكن علم أنه حرام. قال أبو جعفر عليه السلام: من أدرك الاسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف. فمن ارتكب ربا بجهالة ولم يعلم أن ذلك محظور فليستغفر الله في المستقبل وليس عليه فيما مضى شئ، ومتى علم أن ذلك محرم وتمكن من عمله فكل ما يحصل له من ذلك محرم عليه ويجب عليه رده إلى صاحبه. وقال السدي في معنى قوله ” فله ما سلف ” له ما أكله وليس عليه رد ما سلف، فأما من لم يقبض بعد فلا يجوز له أخذه وله رأس المال. ويحتمل أن يكون أراد ” فله ما سلف ” يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه. وقوله ” وأمره إلى الله ” معناه في جواز العفو عنه ان لم يتب ” ومن عاد ” لاكل الربا بعد التحريم ” فأولئك أصحاب النار ” لان ذلك لا يصدر الا عن كافر، لان مستحل الربا كافر بالاجماع. (فصل) والوعيد في الاية متوجهة إلى من أربى وان لم يأكله، وانما ذكر الله الذين يأكلون الربا لانها في قوم كانوا يأكلونه فوصفهم بصفتهم، فحكمها ثابت في جميع من أربي. والاية الاخرى التي ذكرناها تبين ما قلناه، وعليه أيضا الاجماع. وقيل: الوجه في تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب، فالتاجر إذا وجد المربى ومن يعطيه دراهم فضلا بدراهم لا يقرض. وقد قال أبو عبد الله عليه السلام: انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف


[ 48 ]

قرضا أو رفدا (1. ثم قال تعالى ” يمحق الله الربا ويربي الصدقات ” (2. المحق نقصان الشئ حالا بعد حال. قال البلخي: محقه في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه وتسميته به. وقال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة ” (3 قيل في تحريم الربا خاصة، مع ما في قوله ” أحل الله البيع وحرم الربا ” (4 وغير ذلك قولان: أحدهما – التصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه، فلما في ذلك من تصريف الحظر له وشدة التحذير منه. الثاني – لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الاضعاف المضاعفة. وقيل في معناه ههنا قولان: أحدهما للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كما أخر أجلا إلى غيره زيد عليه زيادة على المال. الثاني أي تضاعفون به اموالكم. والربا المنهي عنه قال عطا ومجاهد هو ربا الجاهلية، وهو الزيادة على أصل المال للتأخير عن الاجل الحال، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة. ووجه تحريم الربا هو المصلحة التي علم الله تعالى، فان ذلك يدعو إلى العدل ويحض عليه، ويدعو أيضا إلى مكارم الاخلاق بالاقراض وانظار المعسر من غير زيادة.


1) في الوسائل 12 / 422 فما بعد احاديث بهذا المعنى. 2) سورة البقرة: 276. 3) سورة آل عمران: 130. 4) سورة البقرة: 275. *

[ 49 ]

ومعنى ” لا تأكلوا الربا ” لا تزيدوا على رأس المال، وليس المراد النهي عن الاكل فقط، وانما جاز ذلك لانه معلوم المراد. وقوله تعالى ” أضعافا مضاعفة ” حال للرباء، والاضعاف جمع ضعف، والربا مصدر، كأنه قال: لا تزيدوا زيادة متكررة. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله أن قليل الربا حرام ككثيرة. وسئل الصادق عليه السلام عن قوله ” يمحق الله الربا ويربي الصدقات ” وقيل قد أربى من يأكل الربا يربو ماله ؟ قال أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدين، وان تاب منه ذهب ماله وافتقر (1. (باب) (البيع بالنقد والنسيئة والشرط في العقود) البيع نقدا ونسيئة جائز، لان قول الله عزوجل ” وأحل الله البيع ” يتناوله على كل الوجوه، فمن باع شيئا ولم يذكر فيه ثمنه نقدا ولا نيسئة كان الثمن حالا. فان ذكر أن يكون الثمن آجلا فلا يخلو اما أن يكون مجهولا مثل قدوم الحاج وادراك الغلات فالبيع باطل على هذا، وان كان الاجل معينا كان البيع صحيحا، والاجل على ما ذكر. والذي يدل على هذا الفصل والتفصيل قوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا تد اينتم بدين إلى أجل مسمى ” (2. وكذلك إذا باع بنسيئة ولم يذكر الاجل أصلا كان البيع أيضا باطلا، لان الله اعتبر في هذه الاية الاجل وأن يكون ذلك الاجل مسمى معينا.


1) وسائل الشيعة 12 / 424. 2) سورة البقرة: 282. *

[ 50 ]

والاية تدل على صحة اشتراء السلف، وصحته بيع النسيئة بشرط تعيين أجلهما. ولابد من حضور الثمن والمثمن، ولا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه لزيادة فيه، لانه ربا على ما ذكرناه. [ ولا بأس بتعجيله بنقصان شئ منه، لقوله تعالى ” فلا جناح عليهما أن يصلحا ” ] (1. (فصل) وقوله تعالى ” وأحل الله البيع ” عام في كل بيع شرعي. ثم اعلم أن البيع هو انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر على وجه التراضي على ما يقتضيه الشرع. وهو على ثلاثة أضرب: بيع عين مرئية، وبيع موصوف في الذمة، وبيع خيار الرؤية. فأما بيع الاعيان المرئية: فهو أن يبيع انسان عبدا حاضرا أو ثوبا حاضرا أو عينا من الاعيان حاضرة فيشاهد البائع والمشتري ذلك، فهذا بيع صحيح بلا خلاف. وأما بيع الموصوف في الذمة: فهو أن يسلمه في شئ موصوف إلى أجل معلوم ويذكر الصفات المقصودة، فهذا أيضا صحيح بلا خلاف. واما بيع خيار الرؤية: فهو بيع الاعيان الغائبة، وهو أن يبتاع شيئا لم يره مثل أن يقول ” بعتك هذا الثواب الذي في كمي ” أو ” الثوب الذي في الصندوق ” وما أشبه ذلك، فيذكر جنس المبيع فيتميز من غير جنسه ويذكر الصفة. ولا فرق بين أن يكون البائع رآه والمشتري لم يره أو يكون المشتري رآه والبائع لم


1) الزيادة من م. *

[ 51 ]

يره أو لم يرياه معا. فإذا عقد البيع ثم رأى المبيع فوجده على ما وصفه كان البيع ماضيا، وان وجده بخلافه كان له رده وفسخ العقد. ولابد من ذكر الجنس والصفة: فمتى لم يذكر هما أو واحدا منهما لم يصح البيع. ومتى شرط المشتري خيار الرؤية لنفسه كان جائزا، فإذا رآه بالصفة التي ذكرها لم يكن له الخيار، وان وجده مخالفا كان له الخيار. هذا إذا لم يكن رآه، وان كان قد رآه، فلا وجه لشرط الرؤية لانه عالم به قبل الرؤية. وقوله تعالى ” الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ” يدل أيضا على أكثر ما ذكرناه. (فصل) وقوله تعالى ” إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ” يدل على صحة السلف في جميع المبيعات، وانما يجوز ذلك إذا جمع شرطين: تمييز الجنس من غيره مع تحديده بالوصف، والثاني ذكر الاجل فيه. فإذا اختل شئ منهما لم يصح السلف، وهو بيع مخصوص. وكل شئ لا يتحدد بالوصف – مثل روايا الماء والخبز واللحم – لم يصح السلف فيه، لان ذلك لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه. وقال بعض أصحابنا انه جائز، والاول أظهر. وكل شرط يوافق شريعة الاسلام اعتبره المشتري فانه يلزم، لقوله تعالى ” أوفوا بالعقود ” ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله ” المؤمنون عند شروطهم “. وعن فضيل: قلت لابي عبد الله عليه السلام: ما الشرط في الحيوان ؟ قال: ثلاثة أيام شرط ذلك في ضمن العقد أو لم يشرط، ويكون الخيار للمبتاع خاصة في هذه المدة ما لم يحدث فيه حدثا. قلت: فما الشرط في غير الحيوان ؟ قال:


[ 52 ]

البيعان في الخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما الا أن يشترطا إلى مدة معينة (1. وقال عليه السلام: لا بأس بالسلم في المتاع [ إذا وصفت الطول والعرض (2 إلى أجل معلوم، وفي الحيوان ] (3 إذا وصفت أسنانها (4. وقوله تعالى ” وأشهدوا إذا تبايعتم ” (5 يختص بهذا النوع من المبايعة. (باب) (في أشياء تتعلق بالمبايعة ونحوها) الاحتكار يكون في ستة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والسمن، والملح. وهو حبسها من البيع، ولا يجوز ذلك وبالناس حاجة ولا يوجد غيره في البلد. فإذا ضاق الطعام ولا يوجد الا عند من احتكره كان للسلطان أن يجبره على بيعه، ولم يكرهه على سعر بعينه إذا باع هو على التقريب من سعر الوقت. فان كان سعر الغلة مثلا عشرين منا بدينار فلا يمكن أن يبيع خمسة أمنان بدينار، ويجبره على ما هو مقاربة للعشرين. وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وآله لقوله تعالى ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم “. وقال عليه السلام: علامة رضا الله في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم،


1) الكافي 5 / 170 بمضمونه. 2) إلى هنا في روايه في الكافي 5 / 199. 3) الزيادة من م. 4) الكافي 5 / 220. 5) سورة البقرة: 282. *

[ 53 ]

[ وعلامة غضب الله على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم ] (1. وعلى هذا قوله تعالى حكاية عن اخوة يوسف عليه السلام له ” يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل ” (2 وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله قوما فشكوا إليه سرعة نفاد طعامهم. فقال تكيلون أم تهيلون (3 ؟ فقالوا: نهيل يا رسول الله – يعنون الجزاف. فقال عليه السلام لهم: كيلوا ولا تهيلوا فانه أعظم للبركة (4. وروي: أن من أهان بالمأكول أصابه المجاعة. وقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أصابتكم مجاعة فأعينوا بالزبيب (5. وقوله تعالى ” ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ” (6 معناه لو كنت عالما بما يكون من أحوال الدنيا لاشتريت في الرخص وبعت في الغلاء ” وما مسني السوء ” أي الفقر. فان قيل: فهل اطلع نبيه على الغيب ؟ قلنا: على الاطلاق لا، لان الله تعالى يقول ” وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ” (7 والمعنى ولكن الله اجتبى رسوله بأعلامه كثيرا من الغائبات.


1) الكافي 5 / 162 والزيادة منه ومن م. 2) سورة يوسف: 88. 3) كل شئ ارسلته ارسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه قلت هلته أهيله هيلا فانهال أي جرى وانصب.. وأهلت الدقيق لغة في هلت – صحاح اللغة 5 / 1855. 4) الكافي 5 / 167. 5) المصدر السابق 5 / 308. 6) سورة الاعراف: 188. 7) سورة آل عمران: 179. *

[ 54 ]

وقال أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتم بشئ فسلوني من كتاب الله. ثم قال في حديثه: ان الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال. فقالوا: يابن رسول الله أين هذا من كتاب الله ! فقال: ان الله يقول في كتابه ” لا خير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس ” (1 وقال ” ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ” (2 وقال ” لا تسئلوا عن أشياء ان تبدلكم تسؤكم ” (3. ثم قال: لا تمانعوا قرض الخمير والجبن، فان منعه يورث الفقر. وقال علي عليه السلام: من باع الطعام نزعت منه الرحمة (4. وقال أبو الحسن عليه السلام: من اشترى الحنطة زاد ماله، ومن اشترى الدقيق ذهب نصف ماله، ومن اشترى الخبز ذهب ماله. وذلك لمن يقدرو لا يفعل (5. (فصل) وقوله تعالى ” وأوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم ” (6 المعين أعطوا الواجب وافيا غير ناقص، ويدخل الوفاء في الكيل والذرع والعدد. والمخسر: المعرض للخسران في رأس المال، يقال أخسر يخسر: إذا جعله يخسر في ماله، وهو نقيض أربحه. والقسطاس الميزان. نهاهم


1) سورة النساء: 113. 2) سورة النساء: 4. 3) سورة المائدة: 104. والحديث في تهذيب الاحكام 7 / 231، وليس فيه الذيل المذكور هنا. 4) وسائل الشيعة 12 / 99. 5) الكافي 5 / 166 بهذا المعنى عن الصادق عليه السلام وليس بلفظه. 6) سورة الشعراء: 181 – 182. *

[ 55 ]

الله أن يكونوا من المخسرين. وقال تعالى ” ولا تنقصوا المكيال والميزان اني أراكم بخير ” (1 نهاهم أن يبخسوا الناس فيما يكيلونه أو يزنونه، وقال لهم ” اني أراكم بخير ” أي برخص السعر، وحذرهم الغلاء في قول ابن عباس. وقال تعالى ” ويل للمطففين ” (2 هدد الله بهذا الخطاب كل من بخس غيره حقه ونقصه ماله من مكيل وموزون، فالبائع والمشتري مخاطبان بهذا، لان الكيل ووزن المتاع على البائع فتوفية ذلك عليه، ووزن الثمن على المشتري. فان لم يحسنا ذلك لم يتعرضا له وليول كل واحد منهما ما عليه غيره وأجرته عليه، والكيال ووزان الا متعة يعينان البائع فأجرتهما عليه، والناقد ووزان الذهب والفضة يعينان المشتري فأجرتهما عليه. والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن. ولفظة ” المطففين ” صفة ذم لا يطلق على من طفف شيئا يسيرا إلى أن يصير إلى حال يتفاحش. وفي الناس من قال لا يطلق حتى يطفف أقل ما يجب فيه القطع في السرقة، لان ما يقطع فيه فهو كثير. قال ابن عباس: كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلا إلى أن أنزل الله هذه الاية فأحسنوا الكيل. ثم قال تعالى ” الذين إذا اكتالوا على الناس ” أي أخذوا ما عليهم ” وإذا كالوهم أو وزنوهم ” فان بعض المفسرين يجعلهم فعلا في موضع رفع بمعنى الفاعل والباقون يجعلونه في موضع نصب، وهو الصحيح.


1) سوة هود: 84. 2) سورة المطففين: 1. *

[ 56 ]

(فصل) وقوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ” (1 يدل على أنه إذا كان لرجل مال فيه عيب وأراد بيعه وجب عليه أن يبين للمشتري عيبه ولا يكتمه، أو يتبرأ إليه من العيوب، والاحوط الاول. قال تعالى ” وتخونوا أماناتكم ” أي ولا تخونوا أماناتكم، وعمومه يدل على اكثر مسائل البيع، فان لم يبين البائع العيب الذي في المبيع واشتراه انسان فوجد به العيب كان المشتري بالخيار ان شاء رضي به وان شاء رده بالعيب واسترجع الثمن وان شاء أخذ الارش. وان اختار فسخ البيع ورد المبيع فان لم يكن حصل من جهة المبيع نماء رده واسترجع الثمن، وان حصل نماء وفائدة فلا يخلو أن يكون كسبا من جهته أو نتاجا وثمرة، فان كان كسبا مثل أن كسب بعمله أو بتجارته أو يوهب له شئ أو يصطاد أو يحتطب فانه يرد المعيب ولا يرد الكسب، لقول النبي عليه السلام: الخراج بالضمان. والخراج اسم للفائدة والغلة التي تحصل من جهة المبيع، ومعنى الخبر أن الخراج لمن يكون المال يتلف من ملكه، ولما كان المبيع ان تلف يتلف من ملك المشتري – لان الضمان انتقل إليه – كان الخراج له والنتاج والثمرة أيضا للمشتري، وان حصل من المبيع نماء قبل القبض كان ذلك للبائع إذا أراد الرد بالعيب، لان ضمانه على الظاهر من الخبر على البائع ههنا. ولا يجوز لكافر أن يشتري عبدا مسلما ولا يثبت ملكه عليه، لقوله تعالى ” ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ” (2.


1) سورة الانفال: 27. 2) سورة النساء: 141. *

[ 57 ]

ولا يجوز بيع رباع مكة ولا اجارته، لقوله تعالى ” سواء العاكف فيه والبادي ” (1. وقال أبو عبد الله عليه السلام: اشتروا وان كان غاليا، فان الرزق ينزل مع الشراء (2. وقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارة حتى ضمن له اقالة النادم وانظار المعسر وأخذ الحق واعطاء الحق (3. وقيل في قوله تعالى ” أحل الله البيع وحرام الربا ” يحتمل احلال الله البيع معنيين: أحدهما – أن يكون احلال بيع يعقده البيعان عن تراض منهما وكانا جايزي الامر. وهذا لا يصح، لان الله لما أحل البيع وحرم الربا وقد يتراضيان بما يؤدي إلى الربا، ولا يصح ذلك. والثاني – أن يكون أحل الله البيع المشروع، فيكون من العام الذي أراد به الخاص، فبين النبي صلى الله عليه وآله ما أحله الله وما حرمه، أو يكون داخلا فيهما. فأصل البيع كله مباح الا ما نهى النبي عليه السلام، وما فارق ذلك من البيوع التي لاربا فيها ابحناه بما وصفنا من اباحة الله البيع. ونظيره قولنا ان السلم مخصوص من خبر النهي عن بيع ما ليس عند الانسان ولا يكون داخلا في عمومه. ومن هذا الجنس ما أمر الله به من قتال المشركين كافة، وقوله تعالى ” حتى


1) سورة الحج: 25. 2) تهذيب الاحكام 7 / 4. 3) الكافي 5 / 151 مع اختلاف يسير. *

[ 58 ]

يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون ” (1. فلم يدخل أهل الكتاب في عموم النهي أمرنا فيها بقتال المشركين، فلما قال رسول الله ” يا حكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك ” واذن في السلف علمنا أن هذا لا يدخل في عموم الاول. (باب الرهن وأحكامه) قال الله تعالى ” وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ” (2 الرهن في اللغة الثبات والدوام، وفي الشريعة اسم لما يجعل وثيقة في دين، وهو جائز بالاجماع والسنة والكتاب. قال الله تعالى ” فرهان مقبوضة ” تقديره والوثيقة رهن ويجوز فعليه رهن مقبوضة. وقال أبو عبد الله عليه السلام: ان النبي صلى الله عليه وآله رهن درعه عند ابى الشحم اليهودي على شعير أخذه لاهله (3. قيل: وانما عدل عن أصحابه إلى يهودي لئلا يلزمه منه بالابراء، فانه لم يأمن ان استقرض من بعضهم أن يبرئه منه، وذلك يدل على أن الابراء يصح من غير قبول المبرأ. وعقد الرهن يحتاج إلى ايجاب وقبول وقبض برضا الراهن. وليس الرهن بواجب، وانما هو وثيقة جعلت إلى رضا المتعاقدين، ويجوز في السفر والحضر. والدين الذي يجوز أخذ الرهن به هو كل دين ثابت في الذمة، مثل الثمن


1) سورة التوبة: 29. 2) سورة البقرة: 283. 3) مستدرك الوسائل 2 / 494 بمضمونه. *

[ 59 ]

والاجرة والمهر والعوض في الخلع وأرش الجناية وقيمة المتلف، كل ذلك يجوز أخذ الرهن به. وفي الدية على العاقلة يجوز بعد الحول وقبل الحول لا يجوز، فان لم يقبض المرهون لم ينعقد الرهن، لان الله جعل منشرط صحة الرهن أن تكون مقبوضة، قال تعالى ” فرهان مقبوضة “. والرهن والرهان (1 كلاهما جمع، واحدهما رهن، كجبل وجبال وسقف وسقف، ولا يعرف في الاسماء فعل وفعل غير هذين. ولو قلنا الرهن جمع الجمع – لان فعالا وفعالا كثير – لكان أقيس. ويجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب، لما قدمنا أن النبي صلى الله عليه وآله اشترى طعاما نسيئة ورهن فيه درعا. ولما أمر تعالى بالاشهاد في السلم بقوله ” وأشهدوا إذا تبايعتم ” سنة واحتياطا، أمر بالرهن احتياطا أيضا إذا لم يوجد كاتب ولا شهيد. وانما أورد ذكر كون السفر فيه وشرط الكلام به: اما لان تلك الحال التي نزلت الاية فيها كانت على تلك الصفة، واما لان فقدان البينة على الاغلب في حال السفر لا لانه شرط في صحته. (فصل) ثم قال تعالى ” فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اوتمن أمانته ” (2. فبين سبحانه بهذا أن الاشهاد والكتابة في المداينة والرهن ليس بواجب على ما ذكرناه، وانما هو على جهة الاحتياط. معناه ان ائتمنه فلم يقبض منه رهنا فليؤد الذي


1) بضم الراء في الاول وكسره في الثاني. 2) سورة البقرة: 283. *

[ 60 ]

اؤتمن الامانة، يعني على الذي عليه الدين بأن يؤدي إليه حقه في محله ويؤدي الامانة كما وثق به واعتقد فيه، أي ليقض دينه الذي أمنه عليه. والائتمان افتعال من الامن، يقال أمنه وائتمنه. ” وليتق الله ربه ” أن يظلمه أو يخونه وهو وثق به وائتمنه ولم يرتهن منه شيئا. وقرأ ابن عباس ومجاهد ” ولم تجدوا كتابا ” يعني ما تكتبون فيه من طرس وغيره. وإذا ارتهن صاحب الدين وأشهد فقد أكد الاحتياط. ولا بأس أن يكون الرهن أكثر قيمة من المال الذي عليه أو أقل ثمنا منه أو مساويا له، لان عموم اللفظ يتناوله على الاحوال. وانما قلنا ان الاحوط هو الاشهاد مع التمكن وان استوثق من ماله رهنا، لانه ان اختلفا في مقدار المبلغ الذى الرهن لاجله كان على المرتهن البينة، فان لم يكن له بينة فعلى صاحب الرهن اليمين. وكذا إذا اختلفا في متاع فقال الذي عنده أنه رهن وقال صاحب المتاع أنه وديعة كان على المدعي لكونه رهنا البينة بأنه رهن، وقد روي أن القول قول المرتهن مع يمينه لانه أمينه، والبينة على الراهن ما لم يستغرق الرهن ثمنه. ومن أدل الدليل على أن الاشهاد والارتهان يصح اجتماعهما قوله تعالى بعد هذا ” ولا تكتموا الشهادة ” يعني بعد تحملها ” ومن يكتمها فأنه آثم قلبه ” انما أضاف إلى القلب مجازا لانه على الكتمان، والا فالاثم هو الحي، وقالت عائشة: الصامت عن الحق كالناطق بالباطل، وكاتم الشهادة كشاهد الزور. ” والله بما تعملون عليم ” يعني بما تسترونه وبما تكتمونه. وانما ذكر تعالى بعد ذلك ” وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ” لان المعنى فيه كتمان الشهادة. ويحتمل أن يريد جميع الاحكام التي تقدمت، خوفهم الله من العمل بخلافه.


[ 61 ]

(باب الوديعة) اعلم أن الوديعة حكم في الشريعة، لقوله تعالى ” ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها ” (1 وقال تعالى ” فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ” (2. والوديعة مشتقة من ودع يدع: إذا استقر وسكن، يقال: أودعته أودعه إذا أقررته وأسكنته. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله كانت عنده ودائع بمكة، فلما اراد أن يهاجر أودعها أم أيمن وأمر عليا عليه السلام بردها على أصحابها (3. فإذا ثبت ذلك فالوديعة أمانة لا ضمان على المودع ما لم يفرط، وقال النبي صلى الله عليه وآله: ليس على المودع ضمان (4. فأما قوله تعالى ” ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك ” يعني به النصارى لانهم لا يستحلون أموال من خالفهم ” ومنهم من ان تأمنه بدينار لا يؤده اليك ” يعني اليهود لانهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت ” لا مادمت عليه قائما ” (5 على رأسه بالتقاضي والمطالبة، قائما بالاجماع والملازمة. والفرق بين تأمنه بقنطار وعلى قنطار أن معنى الباء الصاق الامانة ومعنى على استعلاء الامانة، وهما متعاقبان في هذا الموضع لتقارب المعنى كما يقال ” مررت به وعليه “.


1) سورة النساء: 58. 2) سورة البقرة: 283. 3) مستدرك الوسائل 2 / 504. 4) المصدر السابق 2 / 506. 5) سورة آل عمران: 75. *

[ 62 ]

ويمكن أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الامانة لاستحلالهم ذلك، لقوله ” ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ” (1. وسائر الفرق – وان كان منهم من لا يؤدي الامانة – لا يستحلها. وقال جماعة: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لانهم مشركون، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، وهم يعلمون أن هذا هو الكذب على الله. فإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين، من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل. فإذا ردها على المودع أو على وكيله فلا شئ عليه، وان ردها على الحاكم أو على ثقته مع القدرة على الدفع إلى المودع أو إلى وكيله فعليه الضمان. فان لم يقدر على المودع ولا على وكيله، فلا يخلو اما أن يكون له عذر أو لم يكن له عذر، فان لم يكن له عذر برده فعليه الضمان، وان كان له عذر برده على الحاكم أو على ثقته فلا ضمان عليه. وقال أبو عبد الله عليه السلام: صاحب الوديعة وصاحب البضاعة مؤتمنان (2. وكل ما كان من وديعة ولم تكن مضمومنة فلا تلزم. ورد الوديعة واجب متى طلبها صاحبها وهو متمكن من ردها، وليس عليه في ردها ضرر يؤدي إلى تلف النفس أو المال، سواء كان المودع كافرا أو مسلما. (باب العارية) هي أيضا جائزة بدليل الكتاب والسنة، فالكتاب قوله تعالى ” تعاونوا على


1) سورة آل عمران: 75. 2) من لا يحضره الفقيه 3 / 304. *

[ 63 ]

البر والتقوى ” (1، والعارية من البر. ويدل عليه أيضا قوله تعالى ” ويمنعون الماعون ” (2 فقد قال ابن عباس – وهو ترجمان القرآن – ان الماعون العواري. وروي عن صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وآله استعار منه أدرعا فقال: أغضبا يا محمد ؟ فقال عليه السلام: لابل عارية مضمونة مؤادة (3. ولا خلاف بين الامة في جواز ذلك، وانما اختلفوا في مسائل منها. وإذا ثبت جواز العارية فاعلم أنها أمانة غير مضمونة الا أن يشرط صاحبها، فان شرط ضمانها كانت مضمونة. والذهب والفضة إذا استعيرا فهما مضمونان، شرط فيهما ذلك أم لم يشرط. ومتى تعدى المستعير في العواري كانت مضمونة، سواء شرط أو لم يشرط. (باب الاجارات) قوله تعالى ” قالت احداهما يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الامين ” (4. يدل على صحة الاجارة زائدا على السنة والاجماع من أن كل ما يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الاجارة، من اجارة الرجل نفسه وعبيده وداره وعقاره بلا خلاف. والاستيجار طلب الاجارة، وهي العقد على ما أمر بالمعاوضة. حكى الله ما قال أبو المرأتين شعيب لموسى: اني أريد أن أنكحك احدى


1) سورة المائدة: 2. 2) سورة الماعون: 7. 3) تهذيب الاحكام 7 / 183. 4) سورة القصص: 26. *

[ 64 ]

ابنتي هاتين على أن تجعل أجر رعي ماشيتي ثماني سنين صداق ابنتي، ثم جعل لموسى كل سخلة تلد على خلاف شية أمها. فأوحى الله إليه أن الق عصاك في الماء إذا شربن فولدن كلهن خلاف شيتهن. وجعل الزيادة على المدة إليه الخيار، ” فان أتممت عشرا فمن عندك ” أي هبة منك غير واحبة عليك فقضى موسى أتم الاجلين وأوفاهما. فإذا ثبت ذلك فاعلم ان الاجارة عقد معاوضة، وهي من عقود المعاوضات اللازمة كالبيع والشراء. والاجارة على ضربين: احدهما ما تكون المدة معلومة والعمل مجهولا، مثل أن يقول ” آجرتك شهرا لتبني “. والثاني أن تكون المدة مجهولة والعمل معلوما [ مثل أن يقول ” آجرتك لتبنى هذه الدار وتخيط هذا الثوب “، فأما إذا كانت المدة معلومة والعمل معلوما ] (1 هنا فلا يصح، فانه إذا قال ” استأجرتك اليوم لتخيط قميصي هذا ” كانت الاجارة باطلة، لانه ربما يخيط قبل مضي النهار فيبقى بعض المدة بلا عمل، وربما لا يفرغ منه بيوم ويحتاج إلى مدة أخرى ويحصل العمل بلا مدة. والبهائم والحيوان تكترى للركوب وللحمولة وللعمل عليها، بدلالة قوله تعالى ” والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ” (2. وعن ابن عباس في قوله تعالى ” ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ” (3 فقال: المعنى لا جناح عليكم أن تحجوا أو تكرهوا الجمال للركوب والعمل.


1) الزيادة من ج. 2) سورة النحل: 8. 3) سورة البقرة: 198. *

[ 65 ]

فان آجرها ليركب عليها فلابد من أن يكون المحمول معلوما والمحمول له وان يكون المركوب معلوما والراكب معلوما. أما المركوب فيصير معلوما اما بالمشاهدة أو بالصفة، فالمشاهدة أن يقول: اكتريت منك هذا الجمل شهرا، أو اكتريت منك هذا الجمل لا ركبه إلى مكة. فأما إذا كان معلوما بالصفة فلابد من ذكر ثلاثة أشياء: الجنس، والنوع والذكورية والانوثية. أما الجنس فأن يقول جمل حمار بغل دابة، والنوع أن يذكر حمار مصري جمل بختي أو عرابى، ويقول ناقة أو جمل لان السير على النوق أطيب منه على الجمل. وأما الراكب فيجب أن يكون معلوما، ولا يمكن ذلك الا بالمشاهدة لانه لا يوزن. ثم هو بالخيار ان شاء ركبه هو أو يركب من يوازنه، ويكون في معناه هذا إذا اكراها مطلقا. (باب الشركة والمضاربة) أما الشركة فجائزة لقوله تعالى ” واعلموا أن ما غنتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ” (1 الاية، فجعل سبحانه الغنيمة مشتركة بين الغانمين وبين أهل الخمس وجعل الخمس مشتركا بين أهله. وقال تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ” (2 فجعل سبحانه التركة مشتركة بين الورثة. وقال تعالى ” انما الصدقات للفقراء والمساكين ” (3 الاية، فجعل تعالى


1) سورة الانفال: 41. 2) سورة النساء: 11. 3) سورة التوبة: 60. *

[ 66 ]

الصدقات مشتركة بين أهلها، لان الواو للتشريك، فجعلها مشتركة بين الثمانية الاصناف. وقال سبحانه ” وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ” (1. وقال النبي صلى الله عليه وآله: يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا (2. وروي عن السائب بن أبي السائب أنه قال: كنت شريكا للنبي عليه السلام في الجاهلية، فلما قدم يوم فتح مكة قال: أتعرفني ؟ قلت: نعم كنت شريكي وكنت خير شريك لا تواري ولا تماري (3. ولا خلاف في جواز الشركة بين المسلمين وان اختلفوا في مسائل من تفصيلها وفروعها. وإذا ثبت هذا فالشركة على ثلاثة أضرب: شركة في الاعيان، وشركة في المنافع، وشركة في الحقوق. فأما الشركة فب الاعيان فمن ثلاثة أوجه: أحدها بالميراث كاشتراك الورثة في التركة، والثاني بالعقد وهو أن يملك جماعة عينا ببيع أو هبة أو صدقة أو وصية مشتركة، والثالث بالحيازة وهو أن يشتركوا في الاحتطاب والاصطياد فإذا صار محوزا كان بينهم. وأما الاشتراك في المنافع كالاشتراك في منفعة الوقف ومنفعة العين المستأجرة وغيرها. وأما الاشتراك في الحقوق فمثل الاشتراك في حق القصاص وحد القذف وما أشبه ذلك. والايات التى تلوناها تدل بعمومها على جميع ذلك.


1) سورة ص: 24. 2) مستدرك الوسائل 2 / 500. 3) مستدرك الوسائل 2 / 500. *

[ 67 ]

(فصل) وأما ما يجري مجرى الشركة فهو المضاربة، يدل على صحتها قوله تعالى ” وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله ” (1 ولم يفصل. والمضاربة والقراض بمعنى، وهو أن يدفع الانسان إلى غيره مالا ليتجر فيه على أن ما يرزق الله من ربح كان بينهما على ما يشرطانه. والقراض لغة أهل الحجاز، والمضاربة لغة أهل العراق، واشتقاقها من الضرب في المال والتقليب واشتقاق القراض من القرض، وهو القطع، ومعناه ههنا أن رب المال قطع قطعة من ماله فسلمها إلى العالم وقطع له قطعة من الربح. والمضارب – بكسر الراء – العامل، لانه هو الذي يضرب فيه ويقلبه وليس لرب المال منه اشتقاق، يدل على ذلك ما رواه الحسن عن علي عليه السلام أنه قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطاه. والظاهر أنه أراد العامل لانه إذا كان الخلاف منه فالضمان بالتعدي عليه. وعلى جوازه دليل الكتاب والسنة والاجماع: فالكتاب ما تلوناه وقوله تعالى ” فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله ” (2. وأما الاجماع فلا خلاف فيه، والصحابة كانوا يستعملونه. فإذا ثبت جواز القراض فاعلم أنه لا يجوز الا بالاثمان من الدراهم والدنانير، وكان أمير المؤمنين عليه السلام كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي الا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها [ المسلم ] (3.


1) سورة المزمل: 20. 2) سورة الجمعة: 10. 3) الكافي 5 / 286 والزيادة منه. *

[ 68 ]

وقال أبو عبد الله عليه السلام: لا ينبغي للرجل المسلم أن يشارك الذمي ولا يبضعه ببضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه مودة (1 لقوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ” (2. فانه عام في جميع ذلك. وقد أشار سبحانه إلى جواز الشركة على جميع ضروبها بقوله ” ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم ” (3. (باب الشفعة) قال الله تعالى ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ” (4 وقد بين مسائل الشفعة وغيرها رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد قال: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، والكافر لا شفعة له على المسلم. والدليل عليه قوله ” لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ” (5، ومعلوم أنه تعالى انما أراد أنهم لا يستوون في الاحكام. والظاهر يقتضي العموم الا ما أخرجه دليل قاهر. فان قيل: أراد في النعيم والعذاب، بدلالة قوله تعالى ” أصحاب الجنة هم الفائزون “. قلنا: معلوم في أصول الفقه أن تخصيص احدى الجملتين لا يقتضي تخصيص الاخرى وان كانت متعقبة لها. والشفعة جائزة في كل شئ من حيوان أو ارض أو متاع، إذا كان الشئ


1) المصدر السابق. 2) سورة الممتحنة: 13. 3) سورة الروم: 28. 4) سورة النحل: 44. 5) سورة الحشر: 20. *

[ 69 ]

بين شريكين فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره، وان زاد على الاثنين فلا شفعة لاحد منهم – هذا قول المرتضى رضي الله عنه. وقال الشيخ أبو جعفر رضي الله عنه: الاشياء في الشركة على ثلاثة أضرب: ما يجب فيه الشفعة متبوعا، ومالا يجب فيه تابعا ولا يجب فيه متبوعا، وما يجب فيه تابعا ولا يجب متبوعا. [ فأما ما يجب فيه مقصورا متبوعا فالعراض والاراضي والراح ؟ لقوله عليه السلام ” الشفعة فيما لم يقسم “. وأما ما لا يجب فيه تابعا ومتبوعا ] (1 بحال فكل ما ينقل ويحول غير متصل كالحيوان والنبات والحبوب ونحو ذلك لا شفعة، وفي أصحابنا من أوجب الشفعة في ذلك. وأما ما يجب فيه تابعا ولا يجب فيه متبوعا فكل ما كان في الارض من بناء وأصل وهو البناء والشجر، فان أفرد بالبيع دون الارض فلا شفعة فيه. وان بيعت الارض تبعها هذا الاصل من حيث الشفعة في الارض أصلا وفي هذه على وجه التبع على خلاف، فأما ما لم يكن أصلا ثابتا كالزرع والثمار فإذا دخلت في البيع بالشرط كانت الشفعة واجبة في الاصل دونها. ولا تثبت الشفعة الا لشريك مخالط فأما الشفعة بالجوار فلا ثبت الا إذا اشتركا في الطريق أو النهر ولا يشركهما فيه ثالث. (باب المزارعة والمساقاة) المزارعة والمخايرة اسمان لعقد واحد، وهو استكراء الارض ببعض ما يخرج منها. والدليل عليه الاجماع والسنة، ويمكن الاستدلال عليه أيضا من القرآن بالايات التي استدللنا بها على صحة الشركة. فإذا ثبت ذلك فالمعاملة على الاصل ببعض ما خرج من نمائها على ثلاثة


1) الزيادة من م. *

[ 70 ]

أضرب: معارضة، ومزارعة، ومساقاة. فالمعارضة تصح بلا خلاف بين الامة، والمساقاة أيضا جائزة الا عند أبي حنيفة وحده، والمزارعة على ضربين: ضرب باطل بلا خلاف، وضرب مختلف فيه. فالباطل هو أن يشترط لاحدهما شيئا بعينه ولم يجعله مشاعا، مثل أن يعقد المزارعة على أن يكون لاحدهما ما يدرك أولا وللاخر ما يتأخر ادراكه، أو على أن الشتوي لاحدهما والصيفي للاخر. فهذا باطل بلا خلاف، فانه قد ينمى أحدهما ويهلك الاخر. والضرب المختلف فيه هو أن يزارعه على سهم مشاع، مثل ان يجعل له النصف أو الثلث أو أقل أو اكثر، كان ذلك جائزا عندنا، وفيه خلاف للفقهاء. وان قال لي منها النصف علم أنه ترك الباقي للعامل، كقوله تعالى ” وورثه أبواه فلامه الثلث ” (1 علم ما بقي للاب. والمساقاة هي: أن يدفع الانسان نخله أو كرمه إلى غيره على أن يصلحه ويسقيه وما يرزق الله من ثمره كانت بينهما على ما يشترطانه. وهي جائزة بشرطين: مدة معلومة كالاجارة، ويكون قدر نصيب العامل معلوما كالقراض. وهي من العقود اللازمة لانها كالاجارة، وتفارق القراض لانها لا تحتاج إلى مدة وهي تحتاج إليها. والمدة فيها كالمدة في الاجارة، فما يحوز هناك يجوز ههنا سواء كان سنة أو سنتين ومن خالف هناك خالف ههنا. وقد ذكرنا أن الاية المتقدمة تدل على جميع ذلك. (باب الافلاس والحجر) المفلس في الشريعة هو الذي ركبته الديون وماله لا يفي بقضائها، فإذا


1) سورة النساء: 11. *

[ 71 ]

جاء غرماؤه إلى الحاكم وسألوه الحجر عليه لئلا ينفق بقية ماله فانه يجب على الحاكم أن يحجر عليه إذا ثبت عنده ديونهم وأنها حالة غير مؤجلة وان صاحبهم مفلس لا يفي ماله بقضاء دينهم. فإذا فعل ذلك تعلق بحجره ثلاثة أحكام: أحدها أن يتعلق ديونهم بعين المال الذي في يده، والثاني أنه يمنع من التصرف في ماله عنده، والثالث أن كل من وجد من غرمائه عين ماله عنده كان أحق به من غيره. ويمكن أن يستدل من القرآن على أصل الباب على الجملة. والمحجور عليه انما سمي بذلك لانه يمنع ماله من التصرف فيه (1. والحجر على ضربين أحدهما حجر على الانسان لحق غيره، والثاني حجر عليه لحق نفسه. فأما المحجور عليه لحق غيره فهو المفلس لحق الغرماء، والمريض محجور عليه في ماله لحق ورثته وفيه خلاف، والمكاتب محجور عليه فيما في يده لحق سيده. وأما المحجور عليه لحق نفسه فهو الصبي والمجنون والسفيه. والاصل في الحجر على الصبي قوله تعالى ” وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ” (2. واليتيم من مات أبوه قبل بلوغه، ولا يتم بعد حلم. وقوله ” فان آنستم ” أي علمتم، فوضع الايناس موضع العلم، وهو اجماع لا خلاف فيه. وقيل في قوله تعالى ” فليملل الذي عليه الحق ” إلى قوله ” فان كان الذي


1) اصل الحجر في اللغة المنع عن الوصول إلى الشئ، وكل ما منعت منه فقد حجرت عليه، وحجر عليه القاضي إذا منعه من التصرف في ماله – لسان العرب (حجر). 2) سورة النساء: 6. *

[ 72 ]

عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ” (1 أنه دلالة على تثبيت الحجر لنفسه. وقيل: انما دل ذلك على الحجر لو قال ولي المطلوب، وكلاهما على الاطلاق يصح. وقال الفراء: يحتمل غير ذلك، معناه فليملل ولي الدين الكتاب بالعدل لا بخسران. (فصل) فان قيل: كيف يقبل قول المدعي على مبلغ حقه ؟ قلنا: أما إذا أكذبه المطلوب فلا، ولكن إذا صدقه جاز له أن يمل الكتاب الذي يقع فيه الشهادة بالحق. والاية انما نزلت في الدين عند وقوع الديون لا عند تجاحدها. (فصل) أعلم أن الصبى محجور عليه ما لم يبلغ، والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء: خروج المني، والحيض، والحمل، والانبات، والسن. فاثنان منهما ينفرد بهما الاناث وهما الحيض والحمل، والثلاثة الاخر يشترك فيها الرجال والنساء. والحمل ليس ببلوغ حقيقة وانما هو علم على البلوغ، لان الله أجرى العادة أن المرأة لا تحبل حتى يتقدم حيض، والحمل لا يمكن الا بعد أن ترى المرأة المني، لان الله أخبر أن الولد مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة، لقوله تعالى ” يخرج من بين الصلب والترائب ” (2 وأراد من صلب الرجل وترائب المرأة، ولقوله تعالى ” من نطفة أمشاج ” (3 أي أخلاط.


1) سورة البقرة: 282. 2) سورة الطارق: 7. 3) سورة الانسان: 2. *

[ 73 ]

والانبات دليل على البلوغ، والاعتبار بانبات العانة على وجه الخشونة التي تحتاج إلى الحلق دون ما كان مثل الزغب (1. فأما السن فحده خمسة عشر سنة في الذكور وتسع سنين إلى عشر في الاناث. وقد ذكرنا أن الصبي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ، فإذا بلغ وأونس منه الرشد يسلم إليه ماله. ايناس الرشد منه مجموع أمرين: أن يكون مصلحا لماله، عدلا في دينه. ومتى كان غير رشيد لا يفك حجره وان بلغ وصار شيخا. ووقت الاختبار يجب أن يكون قبل البلوغ، لقوله تعالى ” وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا “. فإذا بلغ الصبي فاما أن يسلم إليه ماله أو يحجر. وكيفية اختباره مذكورة في كتب الفقه من أرادها فليطلبها منها. (باب الغصب) تحريم الغصب معلوم بالكتاب والسنة والاجماع، قال الله تعالى ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ” (2 والغصب ليس عن تراض. وقال تعالى ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا ” (3 ومن غصب مال اليتيم فقد ظلمه. وقال تعالى ” ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ” (4. والاجماع ثابت على أن الغصب حرام.


1) الزغب الشعرات الصفر على ريش الفرخ – صحاح اللغة 1 / 143. 2) سورة النساء: 29. 3) سورة النساء: 10. 4) سورة المطففين: 1 – 3. *

[ 74 ]

وقال النبي صلى الله عليه وآله: لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه (1. وقال: حرمة مال المسلم كحرمة دمه (2. فإذا ثبت تحريم الغصب فالاموال على ضربين: حيوان: وغير حيوان. وكلاهما إذا كان قائما يجب رده. وقال النبي صلى الله عليه وآله: على اليد ما أخذت حتى تؤدي (3. وقال: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، من أخذ عصى اخيه فليردها (4. وان كان بالغا فعليه مثله، لقوله تعالى ” ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ” (5 ان كان له مثل، وان لم يكن له مثل فعليه قيمته اكثر ما كانت قيمته من حيث الغصب إلى حين التلف، لانه مأمور برده في كل وقت، فوجب عليه قيمته إذا تعذر. والله أعلم.


1) مستدرك الوسائل 3 / 146. 2) من لا يحضره الفقيه 4 / 418 بمضمونه. 3) متسدرك الوسائل 3 / 145. 4) نفس المصدر 3 / 145. 5) سورة البقرة: 194. *

[ 75 ]

كتاب النكاح قال الله تعالى ” وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وامائكم ان يكونوا فقراء يغنهم من فضله ” (1. هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الرجال والنساء، يأمرهم أن يزوجوا الايامى اللواتى لهم عليهن ولاية، وأن يزوجوا الصالحين المستورين الذين يفعلون الطاعات من المماليك والاماء إذا كانوا ملكا لهم. والايامى جمع أيم، وهي المرأة التي لا زوج لها، سواء كانت بكرا أو ثيبا. وقال قوم: الايم التى مات زوجها، وعلى هذا قوله عليه السلام: الايم أحق بنفسها أعني الثيب. وقيل: ان الامر بتزويج الايامى إذا أردن ذلك أمر فرض والامر بتزويج الامة إذا أرادت ندب، وكذلك العبد. ومعنى قوله ” ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ” اي لا يمنعوا من النكاح المرأة أو الرجل إذا كانا صالحين لاجل فقرهما وقلة ذات أيديهما، فانهم وان


1) سورة النور: 32. *

[ 76 ]

كانوا كذلك فان الله يغنيهم من فضله. وقال قوم: معناه ان يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام. فعلى الاول تكون الاية خاصة في الاحرار، وعلى الثاني عامة في الاحرار والمماليك. فالنكاح فيه فضل كبير، لانه طريق التناسل وباب التواصل وسبب الالفة والمعونة على العفة، ومن سنن الاسلام النكاح وترك التعزب، فمن دعته الحاجة إلى النكاح ووجد له طولا فلم يتزوج فقد خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد ذكرنا ماحث الله به عباده ودعاه إليه فقال ” وأنكحوا الايامى منكم ” الاية، ثم قال ” وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله “. أمر تعالى من لا يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد طولا من المهر ولا يقدر على القيام بما يلزمه لها من النفقة والكسوة أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة ويصبر حتى يغنيه الله من فضله. (باب) (ما أحل الله من النكاح وما حرم منه) قال الله تعالى ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ” (1. هذه الاية على عمومها عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار، وليست منسوخة ولا مخصوصة. قال ابن عباس: فرق عمر ابن طلحة وحذيفة امر أتيهما اللتين كانتا تحتهما كتابيتين. وقال الحسن: انها عامة الا أنها نسخت بقوله


1) سورة البقرة: 121. *

[ 77 ]

تعالى ” والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ” (1. وقال ابن جبير هي على الخصوص. ونحن انما اخترنا ما قلناه أولا لانه لا دليل على نسخها ولا على خصوصها، وسنبين وجه ذلك بعد هذا انشاء الله تعالى. وأما المجوسية فلا يجوز نكاحها اجماعا، والذمي لا يجوز أن يتزوج مسلمة اجماعا أيضا وقرآنا وأخبارا. والامة المملوكة، والجارية تكون مملوكة وغير مملوكة. والاعجاب يكون بالجمال، ويكون بخصال يرغب لها فيها، ومعنى ” أعجبني الشئ ” فرحت به ورضيته. والفرق بين ” لو أعجبكم ” و ” ان أعجبكم ” أن لو للماضي وان للمستقبل، وكلاهما يصح في معنى الماضي. ولا يجوز نكاح الوثنية اجماعا، لانها تدعو إلى النار كما حكاه الله تعالى. وهذه العلة قائمة في الذمية من اليهود والنصارى، فيجب أن لا يجوز نكاحها. وقال السدي في قوله تعالى ” قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ” (2 فالخبيث الكافر والطيب المؤمن، وهو اختيار ابن جرير. وقال جماعة: الاية عامة، أي لا يستوي أهل الطاعة والمعصية لا في المكان ولا في المقدار ولا في الانفاق ولا في غير ذلك من الوجوه. وفي الاية دلالة على جواز نكاح الامة المؤمنة مع وجود الطول، لقوله ” ولامة مؤمنة خير من مشركة “. فكل من عقد على أمة الغير وأعطى سيدها المهر كان العقد ماضيا، غير أنه يكون تاركا للافضل. ولا يجوز له أن يعقد على أمة وعنده حرة الا برضاها، فان عقد عليها من


1) سورة المائدة: 5. 2) سورة المائدة: 100. *

[ 78 ]

غير رضاها كان العقد باطلا، وان أمضت الحرة العقد مضى العقد ولم يكن له بعد ذلك اختيار. فأما الاية التي في النساء وهي قوله ” ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ” (1 فانما هي على التنزيه دون التحريم. (فصل) وقال بعض المفسرين: لا يقع اسم المشركات على نساء أهل الكتاب، فقد فصل الله تعالى بينهما في قوله ” لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ” (2 وفي قوله ” ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ” (3 إذ عطف أحدهما على الاخر. وهذا التعليل من هذا الوجه غير صحيح، فالمشرك يطلق على الكل، لان من جحد نبوة محمد صلى الله عليه وآله فقد أنكر معجزه فأضافه إلى غير الله، وهذا هو الشرك بعينه، وهذا ورد للتفخيم، كما عطف على الفاكهة النخيل والرمان مع كونهما منها تخصيصا في قوله تعالى ” فيهما فاكهة ونخل ورمان ” (4. ومتى أسلم الزوجان بنيا على النكاح الذي كان جرى بينهما ولا يحتاج إلى تجديده بلا خلاف. وان أسلمت قبله طرفة عين، فعند كثير من الفقهاء وقعت الفرقة، وعندنا تنتظر عدتها: فان أسلم الزوج تبين [ أن الفرقة لم تحصل


1) سورة النساء: 25. 2) سورة البينة: 1. 3) سورة البقرة: 105. 4) سورة الرحمن: 68. *

[ 79 ]

ورجعت إليه، وان لم يسلم تبين ان الفرقة وقعت حين الاسلام: غير ] (1 أنه لا يمكن من الخلوبها. فان أسلم الزوج وكانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف، وان كانت وثنية انتظر اسلامها ما دامت في العدة، فان أسلمت ثبت عقده عليها وان لم تسلم بانت منه. فان قيل: كيف يقال للكافر الذي يوحد الله مشرك ؟ الجواب: فيه قولان: أحدهما – أن كفره نعمة الله هي الاسلام وجحده لدين محمد عليه السلام كالشرك في عظم الجرم. والاخر – أنه إذا كفر بالنبي عليه السلام فقد أشرك فيما لا يكون الا من عند الله وهو القرآن، فزعم أنه من عند غير الله – ذكره الزجاج، وهذا أقوى (2. فالمحرمات من النساء على ضربين: ضرب منهن يحرمن بالنسب وضرب منهن يحرمن بالسبب. وما عداهما فمباح. وبيان ذلك في الايات من سورة النساء في قوله تعالى ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ” (3 ثم قال ” حرمت عليكم أمهاتكم ” إلى آخرها. والحكمة في هذا الترتيب ظاهرة، ونحن نذكر تفصيلها في فصول:


1) الزيادة من ج. 2) واقوى من هذين الجوابين: انهم أشركوا بنص القرآن، أما اليهود فبقوله تعالى ” وقالت اليهود عزير ابن الله ” [ سورة التوبة: 30 ] وأما النصارى فبقوله سبحانه ” وقالت النصارى المسيح ابن الله ” إلى قوله ” لا اله الا هو سبحانه عما يشركون ” [ التوبة: 30 ] وقوله تعالى ” لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح بن مريم ” [ المائدة: 17 ] ” ج “. 3) سورة النساء: 22. *

[ 80 ]

(فصل) اعلم أن الله تعالى ابتدأ بتحريم ما نكح الاباء في سورة النساء بقوله تعالى ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ” ثم فصل المحرمات. ومعنى الاية الاولى قيل فيه قولان: أحدهما – قال ابن عباس: انه حرم عليهم ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من نكاح امرأة الاب إذا لم تكن الام. الثاني – أن يكون ” ما نكح ” بمنزلة المصدر، والتقرير ولا تنكحوا نكاح آبائكم، فعلى هذا يدخل فيه النهي عن حلائل الاباء وكل نكاح لهم فاسد في الجاهلية. وهو اختيار الطبري، وقال: ان هذا الوجه أجود، لانه لو أراد حلائل الاباء لقال لا تنكحوا ما نكح آباؤكم. وهذا ليس بطعن، لانه ذهب به مذهب الجنس، كما يقول القائل ” لا تأخذ ما أخذ أبوك من الاماء ” فيذهب مذهب الجنس، ثم يفسره بمن. وقوله ” الا ما قد سلف ” يعني بالالكن، وكذا استثناء منقطع كقولهم ” لاتبع متاعي الا ما بعت ” أي لكن ما بعت فلا جناح عليك فيه. وقيل في معناه قولان: أحدهما – الا ما قد سلف فانكم لا تؤاخذون به، وان كان منه ولد فليس الولد بولد زنا. وقال قطرب: معناه لكن ما سلف فاجتنبوه ودعوه انه فاحشة. الثاني – حكاه بعض المفسرين الا ما قد سلف فدعوه فهو جائز لكم. وهذا لا يجوز بالاجماع. والهاء في قوله تعالى ” انه كان فاحشة ” يحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح بعد النهي، ويحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح الذي عليه أهل الجاهلية. قيل


[ 81 ]

ولا يكون ذلك الا وقد قامت عليهم الحجة بتحريمه من جهة الرسل، فالاول اختاره الجبائى، وهو الاقوى، قال: وتكون السلامة مما قد سلف في الاقلاع عنه. وقيل انما استثنى ما قد مضى، ليعلم أنه لم يكن مباحا لهم. ” انه كان فاحشة ” أي زناءا ” ومقتا ” أي بغضا، أي يورث بغض الله، ويسمى ولد الرجل من امرأة أبيه المقتي، ومنهم الاشعث بن قيس وأبو معيط جد الوليد بن عتبة. قال البلخي: ليس كل نكاح حرمه الله تعالى زنا، لان الزنا هو فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية، لذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية ” أولاد زنا ” ولا لاهل الذمة والمعاهدين ” أولاد زنا ” إذا كان عقدا بينهم يتعارفونه. [ ” انه كان فاحشة ” دخلت كان لتدل على أنه كان قبل تلك الحال كذا كان كذا فاحشة ] (1. وقول المبرد ان كان زائدة غير صحيح، لانها لو كانت زائدة لم تعمل، معناه انه كان فيما مضى أيضا فاحشة ومقتا وكان قد قامت الحجة عليهم بذلك في كل من عقد عليها الاب من النساء أنه [ يحرم على الابن دخل بها أو لم يدخل بلا خلاف. فان دخل بها الاب على وجه السفل فهل ] (2 يحرم على الابن ؟ ففيه خلاف. وعموم الاية يقتضي أنها تحرم عليه، لان النكاح يعبر به عن الوطي كما يعبر به عن العقد، فيجب أن يحمل عليهما. وامرأة الاب وان علا تحرم على الابن وان نزل بلا خلاف.


1) الزيادة من م. 2) الزيادة من م. *

[ 82 ]

(فصل) ثم قال تعالى ” حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ” (1 الاية. اعلم أن في الناس من اعتقد أن هذه الاية وما يجري مجراها كقوله تعالى ” حرمت عليكم الميتة والدم ” (2 مجملة لا يمكن التعلق بظاهرها في تحريم شئ، وانما يحتاج إلى بيان. قالوا: لان الاعيان لا تحرم ولا تحل، وانما يحرم التصرف فيها، والتصرف مختلف، فيحتاج إلى بيان التصرف المحرم دون التصرف المباح. والاقوى أنها ليست مجملة، لان المجمل هو مالا يفهم المراد بعينه بظاهره، وليست هذه الاية كذلك، لان المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن والوطي دون غيرهما من أنواع الفعل، فلا يحتاج إلى البيان مع ذلك. وكذلك قوله ” حرمت عليكم الميتة ” المفهوم منه الاكل والبيع دون النظر إليها أو ما جرى مجراه. كيف وقد تقدم هذه الاية ما يكشف عن أن المراد ههنا من قوله تعالى ” ولا تنحكوا ما نكح آباؤكم “، فلما قال بعده ” حرمت عليكم أمهاتكم ” كان المفهوم أيضا تحريم نكاحهن. ويطلب الكلام فيه من أصول الفقه. (فصل) قال ابن عباس: حرم الله في هذه الاية سبعا بالنسب وسبعا بالسبب: فالمحرمات من النسب: الامهات ويدخل في ذلك أمهات الامهات وان علون وأمهات الاباء كذلك، والبنات ويدخل في ذلك بنات الاولاد، أولاد البنين وأولاد


1) سورة النساء: 23. 2) سورة المائدة: 3. *

[ 83 ]

البنات وان نزلن، والاخوات سواء كن لاب أو لاب وام، وكذا العمات والخالات وان علون من جهة الاب كن أو من جهة الام، وبنات الاخ وبنات الاخت وان نزلن. وكل من يقع عليه اسم بنت حقيقة أو مجازا تحرم لقوله تعالى ” وبناتكم “، وكذا من يقع عليه اسم العمة لقوله تعالى ” وعماتكم “، وكذلك كل من كان خالته حقيقة وهي أخت أمه أو مجازا وهي أخت جدته أي جدة كانت من قبل أمها فأختها خالته وتحرم عليه لقوله تعالى ” وخالاتكم “. والمحرمات بالسبب: الامهات من الرضاعة والاخوات أيضا من الرضاعة، وكل من يحرم بالنسب يحرم مثله بالرضاع، فنص الله من جملتهن على الامهات والاخوات بظاهر اللفظ ودل بفحواه على أن من عداهما ممن تحرم بالنسب كهما، لان تلك إذا صارت بالرضاع أما وهذه أختا فالعمة والخالة يصيران عمة وخالة، وكذلك من سواهما. ولذلك قال عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1. (فصل) ثم قال تعالى ” وأمهات نسائكم ” فأمهات النساء يحرمن بنفس العقد وان لم يدخل بالبنت على رأي اكثر الفقهاء، وبه قال ابن عباس والحسن وعطاء، وقالوا هي مبهمة، وخصوا التقييد بقوله ” وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن “. ورووا عن علي عليه السلام وزيد بن ثابت أنه يجوز العقد على الام ما لم يدخل بالبنت، ولم يجعلوا قوله ” من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ” راجعا إلى أمهات النساء، وقالوا تقدير الكلام [ حرمت عليكم نساؤكم مطلقا و ] (2 حرمت عليكم ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم


1) من لا يحضره الفقيه 3 / 475. 2) الزيادة من م. *

[ 84 ]

اللاتي دخلتم بهن، وقالوا أم المرأة تحرم بالعقد مجردا والربيبة تحرم بشرط الدخول بالام، وهذا هو الصحيح. وقال قوم: هي من صلبهما جميعا، فان المرأة لا تحرم أمها ما لم يدخل بها أيضا. والصحيح أن الجملة المقيدة إذا عطفت على الجملة المطلقة لا يجب أن يسري ذلك التقييد إلى الجملة الاولى أيضا. ويتحقق هذا من النحو أيضا، فقال الزجاج: وهو قول سيبويه، والمحققين أن الصحيح هو الاول، وذلك أن الموصوفين وان اتفقا في الاعراب فانهما إذا اختلف العامل فيهما لم يجز أن يوصفا بصفة جامعة. والمثال يجئ من بعد. و ” الربائب ” جمع ربيبة، وهي بنت الزوجة من غيره، ويدخل فيه أولادها وان نزلن، وسميت بذلك لتربيته اياها، ومعناها مربوبة. ويجور أن تسمى ربيبة سواء تولى تربيتها وكانت في حجره أو لم تكن، لانه إذا تزوج بأمها سمي هو ربيبها وهي ربيبته. والعرب تسمي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه، يقولون هذا مقتول وهذا ذبيح وان لم يقتل بعد ولم يذبح إذا كان يراد قتله أو ذبحه، وكذلك يقولون هذا أضحية لما أعد للتضيحة، فمن قال لا تحرم بنت الزوجة الا إذا تربت في حجره فقد أخطأ على ما قلناه. وقوله تعالى ” من نسائكم الاتي دخلتم بهن ” قال المبرد: ” اللاتي دخلتم بهن ” نعت للنساء اللواتي من أمهات الربائب لا غير، قال: لاجماع الناس أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها، وان من اجاز أن يكون قوله تعالى ” من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ” هو لامهات نسائكم، فيكون معناه أمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لامهات الربائب. قال الزجاج: لان الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، لا يجيز


[ 85 ]

النحويون ” مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات ” على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء، وهؤلاء النساء، لان الاولى جر بالباء والثانية بالاضافة، فكذلك النساء الاولى في الاية جر باضافة الامهات إليها والثانية جر بمن، فلا يجوز أن يكون ” اللاتي دخلتم بهن ” صفة للنساء الاولى والثانية. وقيل أيضا: لو جاز أن يكون ” اللاتي دخلتم بهن ” صفة للاولى والثانية لجاز أن يكون قوله ” الا ما ملكت أيمانكم ” استثناء من جميع المحرمات. وفي اجماع الجميع على أنه استثناء مما يليه وهو ” المحصنات من النساء ” دلالة على أن ” اللاتي دخلتم بهن ” صفة للنساء اللاتي تليها. والدليل الاول أقوى. وقال من اعتبر الدخول بالنساء لتحريم أمهاتهن يحتاج أن يقدر ” أعني “، فيكون التقدير: وأمهات نسائكم أعني اللاتي دخلتم بهن، وليس بنا إلى ذلك حاجة. والدخول المذكورة في الاية قيل فيه قولان: أحدهما قال ابن عباس هو الجماع واختاره الطبري، الثاني قال عطا هو الجماع وما يجري مجراه من المسيس وهو مذهبنا. وله تفصيل. فان كان المسيس من شهوة فهو كالجماع فيكون محظورا، وان كان من غير شهوة فنكاح بنتها مكروه. وفيه خلاف بين الفقهاء. (فصل) ثم قال تعالى ” وحلائل أبنائكم الذيم من أصلابكم ” يعني نساء البنين للصلب دخل بهن البنون أو لم يدخلوا. وزوجات أولاد الاولاد من البنين والبنات داخلون في ذلك. وانما قال ” من أصلابكم ” لئلا يظن أن امرأة من يتبنى به تحرم عليه. وقال عطا: نزلت الاية حين نكح النبي عليه السلام امرأة زيد بن حارثة،


[ 86 ]

فقال المشركون في ذلك، فنزل ” وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم “. فأما حلائل الابناء من الرضاع فمحرمات، لقوله عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وانما سميت المرأة حليلة لامرين: لانها تحل معه في الفراش، ولانه يحل له وطؤها. (فصل) ثم عطف عليه فقال تعالى ” وأن تجمعوا بين الاختين ” أي وحرم عليكم الجمع بينهما، لان أن مع صلتها في حكم المصدر، وهذا يقتضي تحريم الجمع بينهما في عقد واحد وتحريم الجمع بينهما في الوطي سيما بملك اليمين، فإذا وطئ احداهما لم يحل له الاخرى حتى تخرج تلك من ملكه، وهو قول الحسن واكثر المفسرين وا لفقهاء. ومن أجاز الجمع بينهما في الوطئ على ما ذهب إليه داود وقوم من أهل الظاهر فقد أخطأ في الاختين وكذا في الربيبة وأم الزوجة، لان قوله ” وأمهات نسائكم ” يدخل فيه المملوكة والمعقود عليها، وكذا قوله ” من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ” يتناول الجميع، وكذا قوله ” وأن تجمعوا بين الاختين ” عام في الجميع على كل حال في العقد والوطي، وانما أخرجنا جواز ملكها بدلالة الاجماع. ولا يعارض ذلك قوله تعالى ” أو ما ملكت أيمانكم “، لان الغرض بهذه الاية مدح من يحفظ فرجه الا عن الزوج أو ما ملكت الايمان، فأما كيفية ذلك فليس فيه. ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: أو ما ملكت أيمانهم الاعلى وجه الجمع بين الام والبنت أو الاختين.


[ 87 ]

وقوله تعالى ” الا ما قد سلف ” استثناء منقطع، لكن ما قد سلف لا يؤاخذكم الله به الان وقد دخلتم في الاسلام وتركتم ما فعلتم في الجاهلية، وليس المراد أن ما سلف حال النهى يجوز استدامته بلا خلاف. وقيل ان ” الا ” بمعنى سوى، وموضع ” أن تجمعوا ” رفع، تقديره حرمت عليكم الاشياء والجمع بين الاختين، فانهما يحرمان على وجه الجمع دون الانفراد، سواء اجتمع العقدان أو افترقا. وكان ذلك لبني اسرائيل حلالا، فان خلفت احداهما الاخرى جاز. ويمكن الاستدلال بهذه الاية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوات الانساب المحرمات ومن الرضاع أيضا، لان التحريم عام بقوله عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فهو دليل على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع وان كان فيه خلاف. وأما المرأة التى وطئها بلا تزويج ولا ملك فليس في الاية ما يدل على أنه يحرم وطؤ أمها وبنتها، لان قوله تعالى ” وأمهات نسائكم ” وقوله ” من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ” يتضمن اضافة الملك اما بالعقد أو بملك اليمين، فلا يدخل فيه من وطئ من لا يملك وطؤها. غير أن قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد والملك بالسنة والاخبار المروية في ذلك. وفيه خلاف بين الفقهاء. ثم قال ” ان الله كان غفورا رحيما ” أخبر سبحانه أنه كان غفورا حيث لم يؤاخذهم بما فعلوه من نكاح المحرمات وانما عفا لهم عما سلف. (فصل) ثم قال تعالى ” والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ” (1


1) سورة النساء: 24. *

[ 88 ]

قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها – وهو الاقوى أن المراد به ذوات الازواج الا ما ملكت أيمانكم من سبي من كان لها زوج، لان بيعها طلاقها. قال ابن عباس: طلاق الامة ست: سبيها، وبيعها، وعتقها، وهبتها، وميراثها، وطلاق زوجها (1. الثالث – ان المحصنات العفائف الا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو اليمين ملك استمتاع بالمهر أو ملك استخدام بثمن الامة. وأصل الاحصان المنع. والاحصان على أربعه أقسام: أحدها بالزوجية كقوله ” والمحصنات من النساء “، الثاني بالاسلام كقوله ” فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ” (2، الثالث بالعقد (3 كقوله ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ” (4 الرابع يكون بالجزية كقوله ” والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ” (5. قال البلخى: والاية دالة على أن نكاح المشركين ليس بزنى، لان قوله تعالى ” والمحصنات من النساء ” إذا كان المراد به ذوات الازواج من أهل الحرب بدلالة قوله ” الا ما ملكت أيمانكم ” بسبي، فلا خلاف انه لا يجوز وطي المسبية بعد استبرائها بحيضة. وقوله ” كتاب الله عليكم ” نصب على المصدر من غير فعله، وفيه معناه، كأنه قال حرم الله ذلك كتابا من الله أو كتب كتابا. وعن الزجاج أنه نصب على جهة الامر، ويكون ” عليكم ” مفسرا. والمعنى الزموا كتاب الله وعلى الاغراء،


1) كذا في النسختين وقد حذف منهما القول الثاني. 2) سورة النساء: 25. 3) في ج ” بالعفة “. 4) سورة النور: 4. 5) سورة المائدة: 5. *

[ 89 ]

والعامل محذوف، لان عليكم لا يعمل فيما قبله. وقد صح عن ابن عباس أنه قال: حرم الله من النساء سبعا بالنسب وسبعا بالسبب، وتلا الاية، ثم قال: والسابعة من محرمات السبب قوله ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ” وهي امرأة الاب سواء دخل بها أو لم يدخل، وتدخل في ذلك زوجات الاجداد وان علوا من الطرفين. (باب) (مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه) (ما وراء ذوات المحارم القرابية) أما الرضاع فان الله سمى بقوله تعالى ” وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ” (1 أمهات للحرمة. ولا يحرم عندنا الرضا الا ما نبت اللحم وشد العظم، وانما يعتبر أقل ذلك بخمس عشرة رضعة متوالية لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى، أو برضاع يوم وليلة لا يفصل بينهما برضاع امرأة أخرى. وفي أصحابنا من روى تحريم ذلك بعشر رضعات، وذلك محمول على شدة الكراهة في ذلك. ومتى دخل من الرضاع رضاع امرأة أخرى بطل حكم ما تقدم، وحرم الشافعي بخمس رضعات ولم يعتبر التوالي، وانما اختار خمس الرضعات لما روت عائشة أن عشر رضعات كانت محرمة فنسخن بخمس. وهذا يدل على ما نذهب إليه من خمس عشرة رضعة، لان النسخ كما توهم الشافعي أنه بالنقصان فانه يكون بالزيادة. وانما ذهبنا إلى الزيادة للتفصيل الوارد عن الصادق


1) سورة النساء: 23. *

[ 90 ]

عليه السلام. وحرم أبو حنيفة بقليله وكثيره، وفي أصحابنا من ذهب إليه، والمراد به الكراهية. واللبن عندنا للفحل، لانه بفعله ثار ونزل. ومعناه إذا أرضعت امرأة بلبن فحل لها صبيانا كثيرين من أمهات شتى فانهم جميعهم يصيرون أولاد الفحل ويحرمون على جميع أولاده الذين ينتسبون إليه ولادة ورضاعا ويحرمون على أولاد المرضعة الذين ولدتهم. فأما من أرضعته بلبن غير هذا الفحل فانهم لا يحرمون عليهم. ثم اعلم أن كل انثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك، لقوله تعالى ” وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ” فالتي أرضعتك أو أرضعت امرأة أرضعتك أو رجلا أرضعت بلبانه من زوجته أو أم ولده كلها على ما ذكرناه فهي أمك من الرضاعة، وكذا كل امرأة ولدت امرأة ارضعتك، أو ولدت رجلا أرضعت بلبنه فهي أمك من الرضاعة. (فصل) وقوله تعالى ” وأخواتكم من الرضاعة ” يعني بنات المرضعة، وهن ثلاثا: الصغيرة الاجنبية التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك. الثانية أختك [ لامك دون أبيك، وهي التي أرضعتها امك بلبان رجل غير أبيك. والثالثة اخيك ] (1 لابيك دون أمك، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك. وأم الرضاعة وأخت الرضاعة لولا الرضاعة لم تحرما، فالرضاعة سبب تحريمهما. وكل من تحرم بالنسب من اللاتي مضى ذكرهن تحرم أمثالهن بالرضاع،


1) الزيادة من ج. *

[ 91 ]

لقول النبي صلى الله عليه وآله: ان الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب. فثبت بهذا الخبر أن السبع المحرمات بالنسب على التفصيل الذي ذكره الله محرمات بالرضاع. والكلام في الرضاع في ثلاثة فصول: أحدها – مدة الرضاع. وقد اختلف فيها، فقال أكثر أهل العلم لا يحرم الا ماكان في مدة الحولين، فأما ما كان بعده فلا يحرم بحال، وهو مذهبنا، وبه قال الشافعي ومحمد وابو يوسف. وثانيها – قدر الرضاع الذي يحرم. وقد ذكرناه الان. وثالثها – كيفية الرضاع. فعند أصحابنا لا يحرم الا ما وصل إلى الجوف من الثدي في المجرى المعتاد الذي هو الفم، وأما ما يوجر أو يسعط أو يحقن به فلا يحرم بحال. (فصل) ثم اعلم أن هذه الجملة على ضربين: تحريم أعيان، وتحريم جمع. فأما تحريم الاعيان فنسب وسبب، فالنسب قد مضى ذكره، والسبب على ضربين رضاع ومصاهرة، فالرضاع بيناه أيضا. وتحريم المصاهرة وان قدمنا الكلام عليه فنذكرها هنا أيضا مجموعا مفصلا. فاعلم أنهن أربع: أمهات الزوجات وكل من يقع عليها اسم ” ام ” حقيقة أو مجازا وان علون، فالكل يحرمن لقوله تعالى ” أمهات نسائكم “. والثانية – الربيبة، وهي كل من كان نسلها، وكذا ولد الربيب ونسله، فانه يحرم بالعقد تحريم جمع، فان دخل بها حرمن عليه كلهن تحريم تأبيد، لقوله


[ 92 ]

” وربائبكم اللاتى في حجوركم ” إلى قوله ” فلا جناح عليكم “. والثالثة – حلائل الابناء، فإذا تزوج امرأة حرمت على والده بنفس العقد وحدها دون أمهاتها وبناتها، لقوله ” وحلائل أبنائكم “، وأمهاتها وأولادها ليس حلائله. والرابعة – زوجات الاباء يحرمن دون أمهاتهن ودون نسلهن من غيره، ولقوله تعالى ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم “. (فصل) ثم قال سبحانه ” كتاب الله عليكم ” يعني كتب الله تحريم ما حرم وتحليل ما حلل عليكم كتابا فلا تخالفوه وتمسكوا به. فإذا ثبت من الكتاب على سبيل التفصيل تحريم اللواتي ذكرناهن، فاعلم أن ست عشرة امرأة أخرى يعلم تحريمهن من القرآن جملة ومن السنة تفصيلا، بين رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك بقوله تعالى ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ” كما علمه الله تعالى. وهن: الملاعنة، والمطلقة تسع تطليقات للعدة، والمعقود عليها في العدة مع العلم بذلك، والمدخول بها في العدة على كل حال، والمنكوحة في الاحرام، والمفجور بابنها، والمفجور بأبيها، والمفجور بأخيها، والمفجور بها وهي ذات بعل، والمفضاة بالدخول بها قبل بلوغها تسع سنين، والتي تقذفها زوجها وهي صماء، والتي تقذها زوجها وهي خرساء، وبنت العمة على ابن الخال إذا كان فجر بأمها، وبنت الخالة أيضا إذا فجر بأمها، والمفجور بأمها على الفاجر، وكذا المفجور بابنتها. وقد خالفنا فقهاء العامة في قولنا: ان من زنى بامرأة ولها بعل حرم عليها نكاحها أبدا وان فارقها زوجها. والدليل على صحته وصحة مجموع ما ذكرناه


[ 93 ]

من أخوات هذه المسألة اجماع الطائفة، فان مفض إلى العلم. وانما قلنا ان اجماعهم حجة لان في اجماع الامامية قول الامام الذي دلت العقول على أن كل زمان لا يخلو من رئيس معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قول ولا فعل، فمن هذا الوجه كان اجماعهم حجة ودلالة قاطعة. وهذه الطريقة واضحة مشروحة في غير موضع من كتبنا. فان استدل المخالف بظواهر آيات القرآن مثل قوله تعالى ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء ” وقوله تعالى ” وأحل لكم ما وراء ذلك ” بعد ذكر المحرمات. قلنا: هذه الظواهر يجوز أن يرجع عنها بالادلة، كما رجعتم أنتم عنها في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها مع جواز ذلك عندنا على بعض الوجوه على ما نذكره. على أن النساء اللاتي يعلم تحريمهن بالسنة انما حرمت كل واحدة منهن على رجل بعينه بسبب من قبله وأمر من أموره، والا كانت هي قبل ذلك على أصل الاباحة، ولولا حصول ما حصل لما حرمت البتة، فسقط سؤالهم. فأما إذا زنى رجل بامرأة حرمت على ابنه. والدليل عليه قوله تعالى ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ” ولفظ النكاح يقع على الوطي والعقد معا على ما ذكرناه، فكأنه قال لا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم ولا تطئوا من وطئوهن. والدليل على جواز نكاح العمة والخالة وعنده بنت الاخ وبنت الاخت اجماع الطائفة. وكذا نكاح المرأة وعنده عمتها وخالتها إذا رضيتا، فانه يدل عليه عموم قوله تعالى ” وأحل لكم ما وراء ذلكم ” لانه عام في جميعهن، ومن ادعى نسخه فعليه الدلالة، وخبر الواحد لا ينسخ به القرآن.


[ 94 ]

(باب) (ضروب النكاح) قال الله تعالى ” وأحل لكم ما وراء ذلكم ” (1 وقال تعالى ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ملكت أيمانكم ” (2. أما الاية الاولى فقد قيل في معناه أربعة أقوال: أحدها – أحل لكم ما دون الخمس ان تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. الثاني – كحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم ونحوها من المحرمات بالسبب. الثالث – ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم. الرابع – ما وراء ذوات المحارم إلى الاربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين. وهذا الوجه أولى، لانه حمل الاية على عمومها في جميع ما ذكره الله في كتابه أو على لسان نبيه. ثم اعلم أن أحكام النكاح تشتمل على ذكر أقسامه وشروطه وما يلزم بالعقد وما يلزم بالفرقة: فأقسامه على ثلاثة أقسام: نكاح دوام وهو غير مؤجل، ونكاح متعة وهو مؤجل، ونكاح بملك اليمين. وأما شرائط الانكحة الواجبة: فالايجاب، والقبول، والمهر أو الاجر أو الثمن أو ما يقوم مقامها، وكون المتعاقدين متكافئين في الدين في نكاح الدوام،


1) سورة النساء: 24. 2) سورة النساء: 3. *

[ 95 ]

وأن تكون الزوجة والامة من غير ذوات المحارم ونحو ذلك مما لا يصح مع عدمه من الشروط. وما يلزم بالعقد فهي: المهر، والقسمة، والنفقات، ولحوق الاولاد. وما يلزم بالفرقة نذكره. وما روي من تحليل الرجل جاريته لمؤمن، لا يخرج عن تلك الاقسام الثلاثة التي هي من ضروب النكاح. وجارية الغير إذا تزوجت باذن سيدها فنكاحها صحيح، قال الله تعالى ” والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ” (1، فمدح من حفظه فرجه الا عن زوجته أو ملك اليمين. والنكاح يستحب لقوله تعالى ” فانكحوا ما طاب لكم ” فعلق النكاج باستطابتها وما هذه صورته فهو غير واجب، خلافا لداود. والناس ضربان: ضرب مشته للجماع وقادر على النكاح، وضرب لا يشتهيه فالمشتهي يستحب له أن يتزوج، والذي لا يشتهي فالمستحب أن لا يتزوج لقوله تعالى ” وسيدا وحصورا ” (2، فمدحه على كونه حصورا، وهو الذي لا يشتهي النساء، لانه لا يجعل سبب ذلك (3 ولا يجئ شهوته، بل يميتها بكثرة الصوم، وقال قوم هو الذي يمكنه أن يأتي النساء ولكن لا يفعل. (باب) (ذكر النكاح الدائم) قال الله تعالى ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء ” فندب تعالى عباده إلى (هامش) * 1) سورة المؤمنون: 5 – 6. 2) سورة آل عمران: 39. 3) أي تهيج شهوته بالاكل والشرب ” ج “. *


[ 96 ]

التزويج، وأجمع المسلمون على أن التزويج مندوب إليه لجميع الامة، وان اختلفوا في وجوبه لمحمد صلى الله عليه وآله. وأما قوله ” وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ” (1 فاختلف المفسرون في سبب نزوله على ستة أقوال: أحدها – ما روي عن عائشة أنها نزلت في حق اليتيمة التي تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن الا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها، وأمروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن من النساء إلى أربع ” فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” من سواهن ” أو ما ملكت أيمانكم “. ومثل هذا ذكر في تفسير أصحابنا، وقالوا انها متصلة بقوله ” ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن ترغبون أن تنكحوهن فان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم النساء ” الاية. وبه قال الحسن والمبرد. الثاني – قال ابن عباس: ان الرجل منهم كان يتزوج الاربع والخمس والست والعشر ويقول ما يمنعنى ان أتزوج كما تزوج فلان، فإذا فنى ماله مال على مال اليتيمة فأنفقه، فنهاهم الله تعالى أن يتجاوزوا الاربع [ لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيمة، وان خافوا ذلك مع الاربع ] (2 أيضا أن يقتصروا على واحدة. الثالث – قال جماعة كانوا يشددون في أموال اليتامى ولا يشددون في أموال النساء ينكح أحدهم النسوة ولا يعدل بينهن، فقال تعالى كما تخافون أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا واحدة إلى الاربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.


1) سورة النساء: 3. 2) الزيادة من ج. *

[ 97 ]

الرابع – قال مجاهد: ” ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ” معناه ان تحرجتم من ولاية اليتامى وأكل أموالهم ايمانا وتصديقا، فكذلك تحرجوا من الزنا وانكحوا النكاح المباج من واحدة إلى أربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة. الخامس – قال الحسن: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مثنى وثلاث – الاية. وبه قال الجبائى، وقال: الخطاب متوجه إلى ولي اليتيمة إذا أراد أن يتزوجها، فانه إذا كان هو وليها كان له أن يزوجها قبل البلوغ وله أن يزوجها. السادس – قال الفراء: المعنى ان كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من جمعكم بين اليتائم ثم لا تعدلون بينهن. (فصل) أما قوله تعالى ” فانكحوا ما طاب لكم ” فهو جواب لقوله ” وان ختفتم ألا تقسطوا ” على ما روي عن عائشة وأبي جعفر عليه السلام. ومن قال ان تقديره ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك تخافوا في النساء، الجواب قوله ” فانكحوا “، والتقدير فان خفتم ألا تقسطوا فخافوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء، فلا تتزوجوا منهن الا من تأمنون معه الجور مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم أيضا من ذلك فواحدة، فان خفتم من الواحدة فمما ملكت ايمانكم، فنزل ذكر فلذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء لدلالة الكلام عليه، وهو قوله ” فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة “. ومعنى ” ألا تقسطوا ” أي ألا تعدلوا ولا تقسطوا، والاقساط العدل، واليتامى


[ 98 ]

جمع لذكران الايتام، واناثهم في هذا المعنى. وقال الحسين بن علي المغربي: معنى ” ما طاب ” أي ما بلغ من النساء كما يقال ” طابت الثمرة ” أي بلغت، والمراد المنع من تزويج اليتيمة قبل البلوغ لئلا يجري عليها الظلم، فان البالغة تختار لنفسها. وقيل معنى ” ما طاب لكم ” ما حل لكم من النساء ومن أحل لكم منهن دون من حرم عليكم، وانما قال ” ما طاب ” لان ما مصدرية. وقيل ان ماههنا للجنس. كقولك ” ما عندك ؟ ” فالجواب رجل وامرأة. وقيل لما كان المكان مكان ابهام جاءت ما لما فيها من الابهام، ولم يقل من طاب وان كان من العقلاء ونحوهم من العلماء ومالغير العقلاء، لان المعنى انكحوا الطيب أي الحلال، لانه ليس كل النساء حلالا، لان الله حرم كثيرا منهن بقوله ” حرمت عليكم أمهاتكم ” الاية. هذا قول الفراء، وقال مجاهد: فانكحوا النساء نكاحا طيبا. وقال المبرد: ما ههنا للجنس. وكذا قوله ” أو ما ملكت أيمانكم ” معناه أي ملك أيمانكم. ومعنى ” فانكحوا ما طاب لكم ” أي فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، لما قال ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ” (1 معناه فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وقوله تعالى ” مثنى وثلاث ورباع ” بدل من ” ما طاب ” وموضعه النصب، وتقديره اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأربعا أربعا، والواو على هذا بمعنى أو. وقد تقع هذه الالفاظ على الذكر والانثى، فوقوعها على الاثنى مثل الاية التي نحن في تفسيرها، ووقوعها على الذكر قوله ” أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ” (2 لان المراد به الجناح وهو مذكر.


1) سورة النور: 4. 2) سورة الفاطر: 1. *

[ 99 ]

وقوله ” مثنى وثلاث ورباع ” معناه اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، فلا يقال ان هذا يؤدي إلى جواز نكاح تسع كما توهمه بعض الزيدية، فان اثنين وثلاثا وأربعا تسع لما ذكرناه، فان من قال ” دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع ” لا يقتضي الاعداد في الدخول، ولكن لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي. جل كلامه تعالى عن ذلك. وقال الصادق عليه السلام: لا يحل لماء الرجل أن يجري في اكثر من أربعة ارحام من الحرائر (1. ولعمومه بقوله: ان الاقتصار في نكاح المتعة على أربعة أولى (2. وان ورد انهن بمنزلة الاماء، وفي الاماء يجوز الجمع بين اكثر من أربع في ملك اليمين. (فصل) وقوله ” فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ” أي فان خفتم ألا تعدلوا في ما زاد على الواحدة فانكحوا واحدة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع، وتقديره فواحدة كافية، كما قال تعالى ” فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ” (3. ومن استدل من الزيدية بهذه الاية على أن نكاح التسع جائز، فقد اخطأ، لان المعنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ان أمنتم الجور، وأما ثلاث ان لم تخافوا ذلك، وأما رباع ان أمنتم ذلك فيهن، بدلالة قوله تعالى ” فان


1) وسائل الشيعة 14 / 399. 2) في المصدر السابق 14 / 448 أحاديث بهذا المعنى. 3) سورة البقرة: 282. *

[ 100 ]

خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” لان معناه فان خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة، ثم قال فان خفتم في الواحدة أيضا فما ملكت أيمانكم. على أن مثنى لا تصلح الا لاثنين اثنين على التفريق في قول الزجاج، فتقدير الاية فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث بدلا من مثنى ورباع من ثلاث، فلا حاجة إلى أن يقال الواو بمعنى أو، ولو قال أو لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث ولا لصاحب الثلاث رباع. وقال الفارسي: ان مثنى وثلاث ورباع حال من قوله ” ما طاب لكم من النساء “، فهو كقولك ” جئتك راكبا وماشيا وراكبا ومنحدرا ” تريد أنك جئته في كل حال من هذه الاحوال، ولست تريد أنك جئته وهذه الاحوال لك في وقت واحد. ومن استدل بقوله تعالى ” فانكحوا ” على وجوب التزويج من حيث أن الامر شرعا يقتضي الوجوب. فقد أخطأ، لان ظاهر الامر وان اقتضى الايجاب في الشرع فقد ينصرف عنه بدليل، وقد قام الدليل على ان التزويج ليس بواجب، على أن الغرض بهذه الاية انهي عن القد على من يخاف أن لا يعدل بينهن. (فصل) ثم قال تعالى ” ذلك أدنى ألا تعولوا ” فأشار بهذا إلى العقد على الواحدة مع الخوف من الجور فيما زاد عليها والاقتصار على ما ملكت أيمانكم، أي هو أقرب إلى أن لا تجوروا ولا تميلوا، يقال منه عال يعول إذا مال وجار. وما قاله قوم من أن معناه أن لا يفترقوا فهو خطأ، وكذا قول من زعم أن معناه أن لا يكثر عيالكم، لانه يقال عال يعيل إذا احتاج، وأعال يعيل إذا كثر عياله. على أنه لو كان المراد القول الثالث لما أباح الواحدة وما شاء من ملك


[ 101 ]

اليمين لانه أريد في العيال من أربع حرائر. والصحيح أن عال الرجل عياله يعولهم أي مانهم، ومنه قوله عليه السلام: ابدأ بمن تعول (1. (باب الصداق وأحكامه) قال الله تعالى ” وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ” (2 أي أعطوهن مهورهن ديانة وهبة من الله لهن. ونحلة نصب على المصدر. عن ابن عباس: المخاطب به الازواج، أمرهم بالعطاء المهر كملا إذا دخل بها لمن سمي لها، فأما غير المدخول بها فانها إذا طلقت فان لها نصف المسمى إذا طلقها، وان لم يكن سمى لها المهر فلها المتعة، فان لم يطلقها ولم يسم لها مهرا فلها مهر المثل ما لم يتجاوز خمسمائة درهم. وقال أبو صالح: هذا خطاب للاولياء، لان الرجل منهم كان إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك وأنزل هذه الاية. وذكر المعتمر بن سليمان أن أناسا كان أحدهم يعطي هذا الرجل منهم أخته ويأخذ أخت الرجل ولا يكون بينهما المهر، فيشير بهذا إلى نكاح الشغار، فنهى الله عن ذلك. والظاهر يدل على الاول. ثم خاطب الله الزواج بقوله تعالى ” فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ” لان أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شئ مما ساق إلى امرأته، فأنزل الله هذه الاية – عن ابن عباس. وقال أبو صالح: المعني به الاولياء، والمعنى ان طابت لكم أنفسهن بشئ


1) وسائل الشيعة 6 / 302. 2) سورة النساء: 4. *

[ 102 ]

من المهر، ومن لتبيين الجنس، فلو وهبت له المهر نحلة لجاز وكان حلالا بلا خلاف. (فصل) والاصل في الصداق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله: فالكتاب قوله تعالى ” وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ” (1 وقوله ” فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ” (2 وقال ” وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ” (3. وقال النبي صلى الله عليه وآله: أدوا العلائق. قيل: يا رسول الله ما العلائق ؟ قال: ما تراضى به الاهلون. وعليه الاجماع. يسمى المهر صداقا وأجرة وفريضة. فان قيل: كيف سماه الله نحلة وهو عوض عن النكاح ؟ فالجواب: انه مشتق من الانتحال الذي هو التدين، يقال فلان ينتحل مذهب كذا، فكأن قوله تعالى ” نحلة ” معناه تدينا. وقيل: انه في الحقيقة نحلة من الله لها، لان حظ الاستمتاع لكل واحد منهما بصاحبه كحظ الاخر. وقيل وجه ثالث، وهو أن الصداق كان للاولياء في شرع من قبلنا، بدلالة قول شعيب حين زوج موسى ابنته ” على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت


1) سورة النساء: 4. 2) سورة النساء: 24. 3) سورة البقرة: 237. *

[ 103 ]

عشرا فمن عندك ” (1. فكأن معنى قوله تعالى ” نحلة ” أي ان الله أعطاهن هذا في شريعة محمد عليه السلام. فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر، لانه إذا عقد مطلقا ضارع الموهوبة، وذلك يختص بالنبي صلى الله عليه وآله، فلذلك يستحب ذكره. ولئلا يرى الجاهل فيظن أنه يعرى عن المهر، ولان فيه قطعا لمواد الخصومة. ومتى ترك ذكر المهر وعقد النكاح بغير ذلك فالنكاح صحيح اجماعا، لقوله تعالى ” لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ” تقديره ولم تفرضوا لهن فريضة، لانه معطوف على قوله ” ما لم تمسوهن ” بدلالة قوله ” ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره “. وهذه المتعة واجبة للمرأة التي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا. ثم قال ” متاع بالمعروف حق على المحسنين “، فان كان المهر مسمى وأعطاها المهر ثم طلقها فالمتعة مستحبة، قال الله تعالى ” وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ” (2. (فصل) والصداق عندنا غير مقدر، فكل ما يصح أن يكون ثمنا لمبيع أو أجرة لمكتر صح أن يكون صداقا قليلا كان أو كثيرا، وفيه خلاف. والكثير أيضا لاحد له عندنا، لقوله تعالى ” وان آتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ” (3 والقنطار ملء مسك تور ذهبا أو سبعون ألفا، وهو اجماع لقصة عمر مع المرأة التي حجته فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى النساء أفقه من عمر.


1) سورة القصص: 27. 2) سورة البقرة: 241. 3) سورة النساء: 20. *

[ 104 ]

وكل ماله قيمة في الاسلام وتراضي عليه الزوجان ينعقد به النكاح ويصير به مهرا، الا أن السنة المحمدية خمسمائة درهم قيمتها خمسون دينارا. وروى أصحابنا أن الاجارة مدة لا يجوز أن يكون صداقا، لانه كان يختص بموسى عليه السلام. ويجوز أن يكون المهر تعليم شئ من القرآن. (باب) (المتعة وأحكامها) قال الله تعالى ” فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ” (1) قال الحسن هو النكاح، وقال ابن عباس والسدي هو المتعة إلى أجل مسمى. وهو مذهبنا، لان لفظ ” الاستمتاع ” إذا أطلق لا يستفاد به في الشرع الا العقد المؤجل، وان كان في أصل الوضع معناه الانتفاع. ولا خلاف أن الشئ إذا كان له وضع وعرف شرعي يجب حمله على العرف دون الوضع، لانه صار حقيقة والوضع مجازا والحكم للطارئ. ألا ترى أنهم يقولون ” فلان يقول بالمتعة وفلان لا يقول بالمتعة ” ولا يريدون الا العقد المخصوص. ولا ينافي ذلك قوله تعالى ” والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ” (2. لانا نقول: ان هذه زوجة، ولا يلزم أن يلحقها جميع أحكام الزوجات من الميراث والطلاق والايلاء والظهار واللعان، لان أحكام الزوجات تختلف. ألا ترى أن المرتدة تبين بغير طلاق، وكذا المرتد عندنا، والكتابية لا ترث. وأما العدة فانها يلحقها عندنا ويلحق به الولد أيضا في هذا النكاح فلا شنعة بذلك.


1) سورة النساء: 24. 2) سورة المؤمنون: 5 – 6. *

[ 105 ]

ولو لم تكن زوجة لما جاز أن يضم ما ذكر في هذه السورة إلى ما في تلك الاية، وان ذلك جائز لانه لا تنافي بينهما، فيكون التقدير: الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، أو ما استمتعتم به منهن. وقد استقام الكلام. (فصل) وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير أنهم قرأوا ” فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ” (1 وذلك صريح بما قلناه. على أنه لو كان المراد به عقد النكاح الدائم لوجب لها جميع المهر بنفس العقد لانه قال تعالى ” فآتوهن أجورهن ” يعني مهورهن عند اكثر المفسرين. وذلك غير واجب بلا خلاف، وانما يجب الاجر بكماله في عقد المتعة بنفس العقد. ولا يعترض هذا بقوله تعالى ” وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ” (2 لان آية الصدقة مطلقة وهذه مقيدة بما قبلها، مع أنه فصل سبحانه فقال ” وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم “. وفي أصحابنا من قال: قوله ” أجورهن ” يدل على أنه تعالى أراد المتعة، لان المهر لا يسمى أجرا بل سماه الله تعالى صدقة ونحة. وهذا ضعيف، لان الله سمى المهر أجرا في قوله ” فانكحوهن بأذن اهلهن وآتوهن أجورهن ” (3 وفي قوله ” والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ” (4، ومن حمل ذلك كله على المتعة كان مرتكبا لما يعلم خلافه.


1) انظر الدر المنثور 2 / 129 فما بعدها. 2) سورة النساء: 4. 3) سورة النساء: 25. 4) سورة المائدة: 5. *

[ 106 ]

ومن حمل لفظ ” الاستمتاع ” على الانتفاع فقد أبعد، لانه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم من لا ينتفع بها شئ من المهر. فقد علمنا أنه لو طلقها قبل الدخول للزمه نصف المهر، فان خلا بها خلوة تامة لزمه جميع المهر عند كثير من الفقهاء وان لم بلتذ ولم ينتفع. (فصل) وأما الخبر الذي يروونه أن النبي عليه السلام نهى عن المتعة (1، فهو خبر واحد لا يترك له ظاهر القرآن، ومع ذلك يختلف لفظه وروايته: فتارة يروون أنه نهى عنها في عام خيبر، وتارة يروون أنه نهى عنها في عام الفتح، وقد طعن أيضا في طريقه بما هو معروف. وأدل دليل على ضعفه قول عمر ” متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما ومعاقب عليهما ” (2، فأخبر أن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وانه هو الذي نهى عنها لضرب من الرأي. فان قالوا: انما نهى لان النبي عليه السلام كان نهى عنها. قلنا: لو كان كذلك لكان يقول متعتان كانتا على عهد رسول الله فنهى عنهما وأنا أنهى عنهما أيضا، فكان يكون آكد في باب المنع، فلما لم يقل ذلك دل على أن التحريم لم يكن صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وصح ما قلناه. وقال الحكم بن عيينة: قال علي عليه السلام: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى الا شقي (3.


1) انظر سنن الترمذي 3 / 429. 2) الغدير 6 / 210 عن سنن البيهقى 7 / 206 ولفظه ” واعاتب عليهما “. 3) الدر المنثور 2 / 140. وبمضمونه حديث عن ابى جعفر الباقر عليه السلام، انظر الاستبصار 3 / 141. *

[ 107 ]

وذكر البلخي عن وكيع عن اسماعيل بن خالد عن قيس بن ابي حازم عن ابن مسعود قال: كنا مع النبي عليه السلام ونحن شباب فقلنا: يا رسول الله ألا نستخصي ؟ قال: لا. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل (1. وقوله تعالى ” ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ” (2 قال السدي وقوم من أصحابنا (3: معناه لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استيناف عقد آخر بعد انقضاء المدة التي تراضيتم عليها، فنزيدها في الاجر وتزيدك في المدة (4. (فصل) فإذا ثبت أن النكاح المتعة جائز وهو النكاح المؤجل، وقد سبق إلى القول باباحة ذلك جماعة معروفة الاحوال عند المخالفين وقد أثبتوا في كتبهم منهم أمير المؤمنين عليه السلام وابن مسعود ومجاهد وعطا، وقد رووا عن جابر وسلمة ابن الاكوع وابى سعيد الخدري والمغيرة بن شعبة وابن جبير وابن جريح انهم كانوا يفتون بها، وادعاؤهم الاتفاق على حظر المتعة باطل. وقد ذكرنا أن الحجة لنا بعد الاجماع من القرآن قوله تعالى ” فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة “، ولفظ الاستمتاع والتمتع وان كان واقعا


1) مسند احمد بن حنبل 1 / 432. 2) سورة النساء: 24. 3) انظر الدر المنثور 2 / 140. 4) قال الصغانى في العباب: قيل لسعد بن ابى وقاص ” رض “: ان فلانا ينهى عن المتعة. فقال: متعنا مع رسول الله عليه السلام وفلان كافر بالعرش – أي وهو مقيم بعرش مكة وهى بيوتها القديمة لم يسلم ولم يهاجر. كأنه قال كافر بالعروش، وهو جمع عريش، وهو خيمة من خشب وثمام. قال الصغانى: فلان هو معاوية بن ابى سفيان ” ج “. *

[ 108 ]

على الالتذاذ والانتفاع في أصل اللغة، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعين، لا سيما إذا أضيف إلى النساء، ولا يفهم من قول القائل ” متعة النساء ” لا هذا العقد المخصوص، كما أن لفظ الظهار اختص في عرف الشرع بهذا الحكم المخصوص وان كانت في اللغة مشتركة، فكأنه قال: إذا عقدتم عليهن هذا العقد المخصوص فآتوهن أجورهن. ولفظة ” استمتعتم ” لا تعدو وجهين: اما أن يراد بها الانتفاع والالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللغة، أو العقد المؤجل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع. فلا يجوز أن يكون هو الوجه الاول لامرين: أحدهما – أنه لا خلاف بين محصلي من تكلم في اصول الفقه، في أن لفظ القرآن إذا ورد وهو محتمل لامرين أحدهما أصل اللغة والاخر عرف الشرع أنه يجب حمله على عرف الشرع، ولهذا حملوا كلهم لفظ صلاة وزكاة وصيام وحج على العرف الشرعي دون اللغوي. والامر الاخر – أنه لا خلاف في أن المهر لا يجب بالالتذاذ، لان رجلا لو وطئ امرأته، ولم يلتذ لوطئها لان نفسه عافتها وكرهتها أو لغير ذلك من الاسباب لكان دفع جميع المهر واجبا وان كان الالتذاذ مرتفعا، فعلمنا أن الاستمتاع في الاية انما أريد به العقد المخصوص دون غيره. (فصل) ومما يبين ذلك ويقويه قوله تعالى ” ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ” ومعناه على ما روي عن آل محمد عليه وعليهم السلام أن تزيدها أنت في الاجر وتزيدك هي في الاجل (1.


1) انظر تفسير البرهان 1 / 360. *

[ 109 ]

وما يقوله مخالفونا من أن المراد به رفع الجناح في الابراء والنقصان أو الزيادة في المهر أو ما يستقر بتراضيهما من النفقة ليس بصحيح. لانا نعلم أن العفو والابراء مسقط للحقوق بالعقول ومن الشرع ضرورة لا بهذه الاية، والزيادة في المهر كالهبة، والهبة أيضا معلومة لامن هذه الاية، وأن التراضي مؤثر في النفقات وما أشبهها، فحمل الاية والاستفادة بها ما ليس بمستفاد قبلها ولا معلوم هو الاولى، فالحكم الذي ذكرناه مستفاد بالاية غير معلوم قبلها، فيحب أن يكون أولى. (فصل) فان قيل: كيف يضح حمل لفظة ” استمتعتم ” على النكاح المخصوص، وقد أباح الله بقوله ” وأحل لكم ما وراء ذلكم ” النكاح المؤبد بلا خلاف، فمن خصص ذلك بعقد المتعة فهو خارج عن الاجماع. قلنا: قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء ” وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ” يبيح العقد على النساء والتوصل بالمال إلى استباحتهن ويعم ذلك العقد المؤبد والمؤجل، ثم خص المؤجل بالذكر فقال ” فما استمتعتم به منهن “، فالمعنى فمن نكحتموها منهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، لان الزيادة في الاجر والاجل لا يليق الا بالعقد المؤجل. فان قيل: الاية مجملة لقوله تعالى ” محصنين غير مسافحين ” ولفظة الاحصان تقع على أشياء مختلفة من العقد والتزويج وغير ذلك. قلنا: الاولى أن تكون لفظة ” محصنين ” محمولة على العقد والتنزيه من الزنا، لانه في مقابلة قوله ” غير مسافحين ” والسفاح الزنا بغير شبهة، ولو حملت


[ 110 ]

اللفظة على الامرين من العفة والاحصان الذي يتعلق به الرجم لم يكن بعيدا. فان قيل: كيف يحممل لفظة ” الاحصان ” في الاية على ما يقتضي الرجم وعندكم أن المتعة لا تحصن. قلنا: قد ذهب اكثر أصحابنا إلى أنها تحصن، وانما لا تحصن إذا كانت المتمتع بها يغيب عنها في اكثر الاوقات، والغائب عن زوجته في النكاح الدائم لا يكون بحكم المحصن في الرجم. وبعد فإذا كانت لفظة ” محصنين ” تليق بالنكاح الدائم المؤبد رددنا ذلك إليه، كما أنا رددنا لفظة ” الاستمتاع ” إلى النكاح المؤجل لما كانت تليق به، فكأنه تعالى أحل النكاح على الاطلاق وابتغاءه بالاموال ثم فصل منه المؤبد بذكر الاحصان والمؤجل بذكر الاستمتاع. وموضع ” أن تبتغوا ” نصب على البدل من ما أو على حذف الام، بأن يكون تقديره لان تبتغوا. ومن قرأ ” وأحل ” بالضم جاز في محل ان الرفع والنصب. ومعنى ” أن تبتغوا ” ان تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم اما شراءا بثمن أو نكاحا مؤجلا أو مؤبدا – عن ابن عباس. ” محصنين غير مسافحين ” أي متوزجين غير زانين وأعفة غير زناة. وقال الزجاج: المسافح والمسافحة الزانيان غير ممتنعين من أحد، فإذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن، فحرم الله الزنا على وجه السفاح الذي ذكرناه واتخاذ الصديق الذي بيناه. (باب) (العقد على الاماء وأحكامه) قال الله تعالى ” ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات


[ 111 ]

فمن ما ملكت أيمانكم من فتايتكم المؤمنات ” (1 معناه ومن لم يجد منكم طولا، والطول هو الغنى، مأخوذ من الطول، فشبه الغني به لان به ينال معالي الامور. وقيل الطول هو الهوى (2، قال جابر: إذا هوى الامة التي للغير فله أن يتزوجها بأن كان ذا يسار. والاول هو الصحيح، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام (3. المعنى: من لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح امة، أي من لم يقدر على شئ مما يصلح لنكاح الحرائر من المهر والنفقة فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم، وهم المخالفون في الدين كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فان مهور الاماء أقل ومؤنتهن أخف في العادة. والمراد به اماء الغير، لانه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأمة نفسه اجماعا. وطولا مفعول به، وعلى قول جابر من أنه من الهوى مفعول له. والعنت في قوله تعالى ” لمن خشي العنت منكم ” على هذا المراد به الحد، لانه إذا هواها خشي أن يواقعها فيحد فيتزوجها. والفتاة: الشابة. والفتاة: الامة وان كانت عجوزا، لانها كالصغيرة في أنها لا توقر توقير الحرة. والفتوة حالة الحداثة، يقال أفتى الفقيه لانه في مسألة حادثه. (فصل) وفي الاية دلالة على أنه لا يجوز نكاح الامة الكتابية، لانه قيد جواز العقد على الاماء بكونهن مؤمنات. وقال أبو حنيفة يجوز ذلك، لان التقييد هو على


1) سورة النساء: 25. 2) وفسر الطول بالمهر في حديث عن الصادق عليه السلام – انظر تفسير البرهان 1 / 361. 3) مجمع البيان 2 / 33. *

[ 112 ]

جهة الندب دون التحريم. والاول أقوى، لانه الظاهر وما قاله عدول عن الظاهر. ومنهم من قال: ان تأويل من فتياتكم المؤمنات الكتابيات دون المشركات من عبدة الاوثان، بدلالة الاية في المائدة، وهي قوله تعالى ” والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ” (1. وهذا ليس بشئ، لان الكتابية لا تسمى مؤمنة. ومن أجاز العقد على الكتابية، له أن يقول: آية المائدة مخصوص بالحرائر منهن دون الاماء. وظاهر الاية يقتضي أن من وجد المهر للحرة ونفقتها ولا يخاف العنت لا يجوز له تزويج الامة وانما يجوز العقد عليها مع عدم الطول والخوف من العنت. وهو مذهب الشافعي، غير أن اكثر أصحابنا قالوا ذلك على وجه الافضل، لا لانه لو عقد عليها وهو غني كان العقد باطلا وهو قول ابي حنيفة، وقووا ذلك بقوله تعالى ” ولامة مؤمنة خير من مشركة ” (2. الا أن من شرط صحة العقد على الامة عند اكثر الفقهاء ألا يكون عنده حرة، وهو مذهبنا، الا أن ترضى الحرة بأن يتزوج عليها أمة، فان أذنت كان العقد صحيحا عندنا. ومتى عقد عليها بغير اذن الحرة كان العقد باطلا. وروى أصحابنا أن الحرة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الامة، كما يكون لها الخيار أن تفسخ عقد نفسها، والاول أظهر لانه إذا كان العقد باطلا لا يحتاج إلى فسخه. فأما تزويج الحرة على الامة فلا يجوز الا باذن الحرة، فان لم تعلم الحرة بذلك كان لها أن تفسخ نكاح نفسها أو نكاح الامة. وفي الناس من قال في عقده على الحرة طلاق الامة، وعن النبي عليه السلام: الحرائر صلاح البيت،


1) سورة المائدة: 5. 2) سورة البقرة: 221. *

[ 113 ]

والاماء هلاك البيت. (فصل) ثم قال تعالى ” والله يعمل بايمانكم بعضكم من بعض “. قيل فيه قولان: أحدهما كلكم ولد آدم، والثاني كلكم على الايمان. ويجوز أن تكون الامة أفضل من الحرة واكثر ثوابا عند الله، وفي ذلك تسلية لمن يعقد على الامة إذا جوز أن يكون اكثر ثوابا عند الله مع اشتراكهم بأنهم ولد آدم. وفي ذلك صرف عن التعاير في الانساب. ومن كره نكاح الامة قال ان الولد منها يكون مملوكا، ولذلك أنكر. وعندنا أن هذا ليس بصحيح، لان الولد عندنا يلحق بالحرية في كلا الطرفين الا أن يشترط. وقوله تعالى ” فانكحوهن باذن أهلهن ” أي اعقدوا عليهن بأذن أهلهن. وفي ذلك دلالة واضحة على أنه لا يجوز نكاح الامة بغير اذن وليها الذي هو مالكها. وقوله تعالى ” وآتوهن أجورهن ” معناه أعطوا مالكهن مهورهن، لان مهر الامة لسيدها. وقيل تقديره فأتوا مواليهن، فحذف المضاف. وقيل انما قال وآتوهن لانهن وما في أيديهن لمواليهن، فيكون الاداء اليهن بحضور مواليهن اداءا إلى الموالي. وقوله تعالى ” بالمعروف ” وهو ما وقع عليه العقد والتراضي. وقوله تعالى ” محصنات غير مسافحات ” يعني بالعقد عليهن دون السفاح معهن ” ولا متخذات أخذان ” فالخدن الصديق يكون للمرأة يزني بها سرا، والسفاح ما ظهر من الزنا، أي غير زانيات جهرا ولا سرا. ولا يحرم في الجاهلية ما خفي من الزنا وانما يحرم ما ظهر منه، قال الله تعالى ” ولا تقربوا الفواحش


[ 114 ]

ما ظهر منها وما بطن ” (1 أي حرم الزنا سرا وعلانية. (فصل) قوله تعالى ” فإذا أحصن ” من قرأ بالضم معناه تزوجن، ومن فتح الهمزه فمعناه أسلمن. وقال الحسن يحصنها الاسلام والزوج. ولا خلاف أنه يجب عليها نصف الحد إذا زينت، سواء كانت ذات زوج أو لم تكن. وقوله ” من العذاب ” أي من الحد، لقوله ” وليشهد عذابهما ” (2 و ” يدرأوا عنها العذاب ” (3. ولا رجم على الاماء، لان الرجم لا ينتصف. وقوله ” ذلك لمن خشي العنت منكم ” اشارة إلى نكاح الامة عند عدم الطول لمن خشي العنت، أي الزنا والمشقة والضرر لغلبة الشهوة. ” وان تصبروا خير لكم ” معناه وصبركم عن نكاح الاماء وعن الزنا خير لكم. ويدل على أن الاحصان يعبر به عن الخيرية قوله تعالى في أول الاية ” ومن لمس يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات “، ولا شك انه أراد بها الحرائر والعفائف، لان اللاتي لهن أزواج لا يمكن العقد عليهن. على أن في الناس من قال ان المحصنات هنا المراد بها الحرائر دون العفائف، لان العقد على المرأة الفاجرة ينعقد وان كان مكروها، لان قوله ” الزاني لا ينكح الا زانية


1) سورة الانعام: 151. 2) سورة النور: 2. 3) سورة النور: 8. *

[ 115 ]

أو مشركة ” (1 منسوخ بالاجماع. ويمكن أن يخص بالعفائف على الافضل دون الوجوب. وذكر الطبري أن في الاية تقديما وتأخيرا، لان التقدير ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤ منات مما ملكت أيمانكم، أي فلينكح مما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض والله أعلم بايمانكم (2. وهو مليح. (فصل) ثم قال تعالى ” يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ” قال الجبائي: في الاية دلالة على أن ما ذكر في الايتين من تحريم النكاح وتحليله قد كان على من قبلنا من الامم لقوله ” ويهديكم سنن الذين من قبلكم ” أي في الحلال والحرام. وقال الرماني: لا يدل ذلك على اتفاق الشريعة وان كنا على طريقتهم في الحلال والحرام كما لا يدل عليه وان كنا على طريقتهم في الاسلام. وهذا أقوى، ومثله قوله تعالى ” كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ” (3، واللام في ” ليبين ” لارادة التبيين، والاصل أن يبين، كما زيدت في ” لا ابا لك ” لتأكيد الاضافة. ” والله يريد أن يتوب عليكم ” أي يقبل توبتكم من استحلالهم ما هو حرام عليهم من حلائل الاباء والابناء، ” ويريد الذين يتبعون الشهوات ” قيل هم اليهود،


1) سورة النور: 3. 2) مجمع البيان: 2 / 35. 3) سورة البقرة: 183. *

[ 116 ]

لانهم يحلون نكاح الاخت من الاب، وقيل المحوس. أي يريدون أن يعدلوا عن الاستقامة ” ويريد الله أن يخفف عنكم ” في نكاح الاماء، لان الانسان خلق ضعيفا في أمر النساء. (باب) (نفقات الزوجات والمرضعات وأحكامها) قال الله تعالى ” ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ” (1 أي لا تعطوا النساء والصبيان أموالكم التي تملكونها فتسلطونهم عليها فيفسدوها ويضيعوها، ولكن ارزقوهم أنتم منها ان كانوا ممن يلزمكم نفقتهم واكسوهم. وقال تعالى ” الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ” (2 وفيه دليلان على وجوب ذلك: أحدهما قوله ” قوامون “، والقوام على الغير هو المتكفل بأمره من نفقة وكسوة وغير ذلك. والثاني قوله ” وبما أنفقوا من أموالهم ” يعني أنفقوا عليهن من أموالهم. وقال تعالى ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا ” أي في النفقة ” فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ” (3 يعني لا تكثروا من تمونونه، فلولا أن النفقة واجبة والمؤنة عليهم ما حذره بكثرتها عليه. وقال تعالى ” قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ” (4 يعني من الحقوق التي لهن على الازواج من الكسوة النفقة والمهر وغير ذلك.


1) سورة النساء: 5. 2) سورة النساء: 34. 3) سورة النساء: 3. 4) سورة الاحزاب: 50. *

[ 117 ]

وقال تعالى ” وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن المعروف ” (1 والمولودة له الزوج، فقد أخبر تعالى أن عليه رزقها وكسوتها. (فصل) وقوله تعالى ” قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ” قال قوم: معناه قد علمنا مصلحة ما أخذنا على المؤمنين في أزواجهم وما فرضناه عليهم مصلحة لهم في أديانهم من المهر والحصر بعدد محصور من النفقة والكسوة والقسمة بين الازواج وغير ذلك من الحقوق ومما ملكت أيمانهم ان لا يقع لهم الملك الا بوجوه معلومة، ووضعنا اكثر ذلك منك وأبحنا لك امرأة وهبت نفسها لك، وانما خصصناك على علم منا بالمصلحة فيه من غير محاباة. وعندنا أن النكاح بلفظ الهبة لا يصح، وانما كان ذلك للنبي عليه السلام خاصة. وقال قوم يصح غير أنه يلزم المهر إذا دخل بها، وانما جاز بلا مهر للنبي عليه السلام خاصة. والذي يبين صحة ما قلناه قوله تعالى ” ان أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ” (2 فبين أن هذا الضرب من النكاح خاص له عليه السلام دون غيره من المؤمنين. ومتى اجتمع عند الرجل حرة وأمة بالزوجية كان للحرة يومان وللامة يوم، وفي رواية للحرة ليلتان وللامة المزوجة ليلة. فان كانت لمك بيمين فلا قسمة لها. والتسوية بينهن في النفقة والكسوة أفص، ولا بأس أن يفضل بعضهم على بعض فيهما. وإذا كان له زوجة يبيت عندها ليلة في كل أربع ليالي، وان كانت عنده حرتان جاز أن يبيت عند واحدة ثلاث ليالي وعند الاخرى ليلة.


1) سورة البقرة: 223. 2) سورة الاحزاب: 50. *

[ 118 ]

(فصل) وقوله تعالى ” يا أيها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا ” (1 الاية. فقد فرض الله على نبيه صلى الله عليه وآله أن يخير نساءه بين المقام معه على ما يكون من أحوال الدنيا وبين مفارقته بالطلاق وتعجيل المنافع، فقد روي في سببه أن كل واحدة من نسائه طلبت شيئا منه فلم يقدر على ذلك، لانه لما خيره الله تعالى في ملك الدنيا فاختار الاخرة فأمره الله بتخيير النساء فاخترن الله ورسوله (2. وروي في سبب ذلك أن بعض نسائه طلبت منه حلقة من ذهب فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالزعفران، فقالت: لا أريد الا من ذهب، فاغتم لذلك النبي عليه السلام، فنزلت الاية فصبرن على الفاقة والضر، فأراد الله تعالى أن يكافئهن في الحال فأنزل ” لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ” (2 الاية، ثم نسخت بعد مدة بقوله ” انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ” يعني أعطيت مهورهن، لان النكاح ينفك من المهر. والايتاء قد يكون بالاداء وقد يكون بالالتزام، وأحللنا لك ما ملكت يمينك من الاماء أن تجمع منهن ما شئت، وأحللنا لك بنات عمك أن تعقد عليهن وتعطيهن مهرهن. ثم قال ” وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ” يعني وأحللنا لك المرأة إذا وهبت نفسها لك إذا أردتها ورغبت فيها. [ عن ابن عباس: لا تحل لك امرأة بغير مهر وان وهبت نفسها الا للنبي عليه السلام خاصة ] (4.


1) سورة الاحزاب: 28. 2) اسباب النزول ص 242. 3) سورة الاحزاب: 52. 4) الزيادة من م. *

[ 119 ]

(فصل) وقوله تعالى ” والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ” (1 هو أمر ورد في صورة الخبر، كفوله ” ومن دخله كان آمنا ” (2. وانما قلنا ذلك لامرين: أحدهما – أن تقديره والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين في حكم الله الذي أوجبه على عباده، فحذف للدلالة عليه. والثاني – أنه وقع موقع ليرضعن تصرفا في الكلام مع دفع الاشكال، ولو كان خبرا لكان كذبا لوجودنا، والوالدات يرضعن اكثر من حولين وأقل منهما. وقال بعضهم هو على ظاهره خبر. فان قيل: ان الخبر يوجب [… ] (3 والاجماع أن الوالدة بالخيار. الجواب: انه في تفدير حق للوالدات أن يرضعن حولين. وقال الاصم: ذلك في المطلقات، لوروده عقيبه ولقوله ” وعلى المولود له رزقهن “، والزوجة يلزم لها النفقة إذا كانت تطيع على كل حال، ولا التباس على انها عامة ولا يمتنع أن يبين للرضاع زيادة حتق على حق الزوجية. وقال أبو مسلم: هو أمر وحكم من الله على النساء بارضاع أولادهن على أزواجهن أقامة رزقهن وكسوتهن. وقال الزجاج في قوله تعالى ” بالمعروف ” أي بما تعرفون أنه عدل على


1) سورة البقرة: 233. 2) سورة آل عمران: 97. 3) كلمة لم نتبينها. *

[ 120 ]

قدر الامكان، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى ” لا نكلف نفسا الا وسعها ” (1 لانه خبر في تقدير النهي وبدل، أي لا يكلف الزوج من النفقة اكثر من الامكان على قدر حاله وما يتسع له، لان الوسع ما يتسع له الرجل ولا يتحرج به ويصير إلى الضيق من أجله. ونظر الصادق عليه السلام إلى أم اسحاق ترضع احد ابنيها، فقال: لا ترضعيه من ثدي واحد وأرضعيه من كليهما، يكون أحدهما طعاما والاخر شرابا (2. (فصل) وفي الاية بيان لامرين: أحدهما مندوب، والاخر فرض. فالمندوب هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين، لان ما نقص عنه يدخل به الضرر عل المرتضع. والفرض. أن مدة الحولين التي تستحق المرضعة الاجر فيها ولا تستحق فيما زاد عليه، وهو الذي بينه الله تعالى بقوله ” فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ” فثبتت المدة التي يستحق فيها الجرة على ما أوجبه الله تعالى في هذه الية. وانما قال تعالى ” حولين كاملين ” وان كانت التثينة تأتي على استيفاء السنتين لوقع التوهم من أنه على طريقة التغليب، كقولهم ” سرنا يوم الجمعة ” وان كان السير في بعضه. وقد يقال أقمنا حولين ” وان كانت الاقامة في حول وبعض من الحول الثاني، فهو لرفع الابهام الذي يعرض في الكلام. فان قيل: هل يلزم الحولين في كل مولود. قيل: فيه خلاف:


1) سورة الانعام: 152. 2) وسائل الشيعة 15 / 176. *

[ 121 ]

قال ابن عباس: لا، لانه يعتبر ذلك بقوله ” وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ” (1، فان ولدت المرأة لستة أشهر فحولين كاملين، وان ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون شهرا [ وان ولدت لتسعة أشهر وأحد وعشرون شهرا يطلب لذلك التكملة لثلاثين شهرا ] (2 في الحمل والفصال الذي يسقط به الفرض. وعلى هذا يدل أخبارنا، لانهم رووا أن ما نقص عن أحد وعشرين شهرا فهو جور على الصبي. وقال الثوري: هو لازم في كل ولد، إذا اختلف والداه رجعا إلى الحولين من غير نقصان ولا زيادة، لا يجوز لهما غير ذلك. والرضاع بعد الحولين لا حكم له في التحريم عندنا، وبه قال ابن عباس واكثر العلماء. وقوله ” وعلى المولود له رزقهن ” أنه يجب على الاب اطعام أم الولد وكسوتها مادامت في الرضاعة اللازمة إذا كانت مطلقة عند اكثر المفسرين. (فصل) أما قوله تعالى ” لاتضار والدة بولدها ” فله تقديران: أحدهما – لا تضارر ما لم يسم فاعله، اي لا ينزع الولد منها ويسترضع امرأة أخرى مع اجابتها إلى الرضاع بأجرة المثل، ولا مولود له وهو الوالد، أي لا تضارر والدة، بأن لا تمتنع هي من الارضاع بأجرة المثل. والثاني – ان وزنه تفاعل، أي لا تضارر والدة بولدها، اي لا تترك المطلقة ارضاع ولدها غيضا على أبيه فتضر بولدها، لان الوالدة أشفق على ولدها من الاجنبية، وهو اختيار الزجاج. قال: لا تضر بولدها في رضاع ولا غذاء ولا حفظ،


1) سورة الاحقاف: 25. 2) الزيادة من ج. *

[ 122 ]

فيكون ” ضار ” بمعنى أضر، ومعنى ولا مولود له بولده أي لا يضر الوالد على أم الولد من جهة النفقة وتفقده وحفظه. ويجوز أن تكون المضارة من الوالدين بسبب الولد ونهيا عنه، لان في تضارهما اضرارا بالولد. وقال أبو مسلم: المضارة والمعاسرة واحدة، لقوله تعالى ” فان تعاسرتم فسترضع له أخرى “، وتعاسرهما أن تعلوا المرأة في التماس النفقة ومنعها الوالد أوسط ما يكفيها، كأنه قيل لا تضر والدة الزوج بولدها، وكذا فرض الوالد. وعن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام: أي لا يترك جماعها خوف الحمل لاجل ولدها المرتضع، ولا تمنع نفسها من الاب خوف الحمل فيضر ذلك بالاب (1. وإذا قرئ ” لا تضار ” بالرفع فهو في لفظ الخبر ومعناه الامر، والمعنى لا تضارر، ووالدة على هذا فاعلة لا غير. وإذا قرئ بفتح الراء فهو نهي مجزوم اللفظ، والتقدير لا يضارره أو لا تضارره. (فصل) وقوله تعالى ” وعلى الوالد مثل ذلك ” معناه عليه كما ذكر من قبل من النفقة ومن ترك المضارة. وقيل الوارث الولد، وقيل الوالدة، والاول أقوى. وروي في أخبارنا أن على الوارث كائنا من كان النفقة (2، وهو ظاهر القرآن، وبه قال جماعة. وقال بعض المفسرين: ان على كل وارث نفقة الرضاع الاقرب فالاقرب يؤخذ به، وأما نفقة ما بعد الرضاع فعندنا تلزم الوالدين وان عليا النفقة على الولد وان نزل ولا تلزم غيرهم. وقال قوم تلزم العصبة دون الام والاخوة


1) تفسير البرهان 2 / 224. 2) انظر تفسير البرهان 2 / 225. *

[ 123 ]

من الام، وقيل على الوارث من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث. وعموم الاية يقتضيه غير أنا خصصناه بدليل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون من كان ذا رحم ليس من المحرم كابن العم وابن الاخت، فأوجبوا على ابن الاخت ولم يوجبوها على ابن العم وان كان وارثه في تلك الحال وكذا العم وابن العم. وقال سفيان: وعلى الوارث، أي الباقي من ابويه، وهذا مثل ما قلناه. (فصل) وقوله تعالى ” فان أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ” الفصال الفطام لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الاقوات. وهذا الفصال في الاية المراد به فصال قبل الحولين، لان المدة التي هي تمام الحولين معلومة إذا تنازعا رجعا إليه، فأما بعد الحولين فلا يجب على واحد منهما اتباع الاخر في دعائه. وقال ابن مهرايزد في تفسيره: إذا اتفق الوالد والمرضعة على أن يريا الصواب فطام المولود قبل انقضاء الحولين واستشارا غيرهما كيلا يقع عليهما غلط فيضرابه ان فطماه فجائز أن يفعلاه. والظاهر أنه مع شرط الفصال قبل الحولين تراضى الوالدين واستشارة الغير فيه، وجوز أبو مسلم أن يكون المراد بالفصال مفاصلة بين الوالد والوالدة أن تراضيا بالافتراق وتسليم الولد حتى تسترضعه من يختار، وهو بعيد. وقد قال تعالى ” وحرمنا عليه المراضع من قبل ” (1 ومعناه منعنا موسى عليه السلام من قبل رده إلى أمه وبغضناهن إليه، وكان ذلك كالمنع بالنهي لا أن هناك


1) سورة القصص: 12. *

[ 124 ]

نهيا بالفعل، فلما أحضر فرعون أمه سألها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت: لاني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتى صبيا الا ارتضع مني. يدل هذا على أن لبن الام أنفع بالولد من لبن غيرها. وعن ابن عباس: انه إذا تراضيا على انفصال فلا حرج إذا سلمتم أجرة الام أو الظئر. وقال مجاهد: أجرة الام بمقدار ما ارتضعت أجرة المثل، وقال سفيان أجرة المسترضعة. وعندنا أن الاب متى وجد من ترضع الولد بأربعة دراهم وقالت الام لا أرضعه الا بخمسة دراهم، فان له أن ينزعه منها، قال تعالى ” وان تعاسرتم فسترضع له أخرى ” (1، الا أن الاصلح له أن يترك مع أمه. و ” آتيتم ” بالمد من الاعطاء، و ” أتيتم ” بالقصر من الاتيان، والتقدير إذا سلمتم ما أتيتم نقده، فحذف المضاف ثم المضاف إليه. و ” بالمعروف ” يتعلق بأتيتم أو بسلمتم. والاية تدل على أنه تعالى اتاه إذا ضمن أن يعطيه، فإذا سلم قيل سلم ما أتاه. والعامل في إذا معنى لا جناح عليكم، أي إذا استرضعتم وآتيتم الاجرة أمنتم، فان أردتم أن تسترضعوا أولادكم أي لاولادكم. وفي الاية دلالة على أن الولادة بستة أشهر تصح، لانه إذا ضم إلى الحولين كان ثلاثين شهرا، وروي ذلك عن علي عليه السلام (2 وعن ابن عباس. (فصل) وقوله تعالى ” وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ” (3 فيه دلالة


1) سورة الطلاق: 6. 2) وسائل الشيعة 15 / 117. 3) سورة آل عمران: 44. *

[ 125 ]

على أنهم حين ولادتها تشاحوا في الذي تحضنها وتكفل تربيتها، فقال زكريا أنا أولى لان خالتها عندي، وقال القوم نحن أولى لانها بنت امامنا، وكان عمران امام الجماعة، فألقوا الاقلام أيهم أولى بكفالتها، فألقوها بالماء تلقاء الجرية، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة وانحدرت أقلام الباقين فقرعهم زكريا. فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الام أولى بالولد من الاب مدة الرضاع، فإذا خرج عن حد الرضاع كان الوالد أحق به منها إذا كان حرا وكان الولد ذكرا، فان كان أنثى فهي أحق بها إلى سبع سنين ما لم تتزوج، فإذا تزوجت كان الوالد أحق بها الا أن تكون مملوكا. ولا تسترضع كافرة ولا زانية لقوله تعالى ” والذي خبث لا يخرج الا نكدا ” (1 فان كان الوالد مات كانت الام أحق به من الوصي، سواء كان الولد ذكرا أو أنثى إلى أن يبلغ. وقال تعالى ” ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ” (2 أي انها تضعف ضعفا بحملها الولد إلى أن تضعه فلا تزال تزداد ضعفا على حسب تزايده في بطنها، ” وفصاله في عامين ” أي في انقضاء عامين بعد الوضع، وظاهر الاية يدل على جواز أحد وعشرين شهرا فانها في عامين (3. وقوله تعالى ” ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ” (4 أي أمرناه بأن يحسن إلى والديه احسانا. ” حملته امه كرها ” أي كانت تحمله لمشقة في بطنها مدة الحمل ووضعته بمشقة في حال الولادة وأرضعته مدة الرضاع.


1) سورة الاعراف: 58. 2) سورة لقمان: 14. 3) في ج ” فانها عامين “. 4) سورة الاحقاف: 15. *

[ 126 ]

ثم تبين أن أقل مدة الحمل وكمال مدة الرضاع ثلاثون شهرا، فنبه بتلك الاية على ما يستحقه الوالدان من حيث أنهما يكفلانه ويربيانه. (باب) (في ذكر ملك الايمان) قال الله تعالى ” والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ” (1. اعلم أن الاماء يستباح وطؤهن باحدى ثلاثة أشياء: العقد عليهن بأذن أهلهن، وبتحليل مالكهن الرجل من وطئهن واباحته له وان لم يكن هناك عقد، وبأن يملكهن فيستبيح وطأهن بملك الايمان. وانما يملكهن بوجوه معلومة من الشرى والهبة والارث والسبي. ولا بأس أن يجمع الرجل بين أختين في الملك لكنه لا يجمع بينهما في الوطئ، لان حكم الجمع بينهما في الوطئ حكم الجمع بينهما في العقد، فمتى ملك اختين ووطئ منهما واحدة لم يجز له وطئ الاخرى حتى تخرج تلك من ملكه بالبيع أو الهبة أو غيرهما. ويجوز أن يملك أمة وأمها، فمتى وطئ احداهما حرمت الاخرى عليه أبدا. وقوله تعالى ” قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ” (2 قد تكلمنا عليه من قبل، وكذلك في قوله تعالى ” انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ” (3. وملك اليمين في الايات المراد به الاماء، لان الذكور من المماليك لا خلاف


1) سورة المؤمنون: 5 – 6. 2 – 3) سورة الاحزاب: 50. *

[ 127 ]

في وجوب حفظ الفرج منهم، لان الله عنى بالفروج في قوله ” والذين هم لفروجهم حافظون ” فروج الرجال خاصة، بدلالة قوله ” الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ” استثنى من الحافظين لفروجهم من لا يحفظ فرجه عن زوجته أو ما ملكت يمينه من الاماء على ما أباحه الله له. وكل ما لم يجز الجمع بينهما في العقد فلا يجوز الجمع بينهما في الوطئ بملك اليمين. وانما قيل للجارية ” ملك يمين ” ولم يقل في الدار ” ملك يمين ” لان ملك الجارية أخص من ملك الدار، اذله نقض بنية الدار وليس له نقض بنية الجارية وله عارية الدار وليس له عارية الجارية، فلذلك خص الملك في الامة. (باب) (ما يحرم النظر إليه منهن وما يحل) خاطب الله نبيه عليه السلام فقال: يا محمد ” قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ” (1 عن عورات النساء وما يحرم النظر إليه، أي قل لهم يغضوا من نظرهم فلا ينظروا إلى ما يحرم، فوجب الغض على العموم حيث حذف المفعول، ثم خص من وجه آخر بايراد من، فمن للتبعيض لان غض البصر انما يجب في بعض المواضع. وكل موضع ذكر في القرآن حفظ الفروج فهو الزنا الا في هذا الموضع، لان المراد به الستر حتى لا ينظر إليها أحد. قال الصادق عليه السلام: لا يحل للرجل أن ينظر إلى فرج أخته، ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى فرج أخيها (2. وقال قوم من المفسرين: العورة من النساء ما عدا الوجه والكفين، فأمروا


1) سورة النور: 30. 2) تفسير على بن ابراهيم 2 / 101. *

[ 128 ]

بغض البصر عن عوراتهن، وقيل: العورة من الرجل العانة إلى مستغلظ الفخذ من أعلى الركبة، وهو العورة من الاماء، والحرة عورة من قرنها إلى قدمها. قالوا: ويدل على أن الوجه والكفين والقدمين كلها ليست بعورة من الحرة أن لها كشف ذلك في الصلاة. وقوله تعالى ” ويحفظوا فروجهم ” أمر منه تعالى أن يحفظ الرجال فروجهم عن الحرام وأن يحفظوها عن ابدائها. ثم أمر المؤمنات أيضا بغض أبصارهن عن عورات الرجال ومالا يحل لهن النظر إليه، وأمرهن أن يحفظن فروجهن الامن أزواجهن على ما أباحه الله، ويحفظن أيضا اظهارها بحيث ينظر إليها، ونهاهن عن ابداء زينتهن الا ما ظهر منها. قال ابن عباس: يعني القرطين والقلادة والسوار والخلخال والمعضدة والنحر فانه يجوز اظهار ذلك، فأما الشعر فلا يجوز أن تبديه الا لزوجها. والزينة المنهي عن ابدائها زينتان، فالظاهرة الثياب والخفية الخلخالان والسواران في قول ابن مسعود. وقال ابراهيم الظاهر الذي أبيح الثياب فقط، وقال الحسن الوجه والثياب، وقال قوم كل ما ليس بعورة يجوز اظهاره، والاحوط قول ابن مسعود. (فصل) ثم قال تعالى ” وليضربن بخمرهن ” وهي المقانع ” على جيوبهن “. ثم كرر النهي عن اظهار الزينة تأكيدا وتغليظا، واستثنى من ذلك الازواج وآباء النساء وان علوا وآباء الازواج وأبناءهم ” أو اخوانهن أو بني أخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن ” يعني النساء المؤمنات لا المشركات، وقيل يعني


[ 129 ]

نساء المؤمنين دون نساء المشركين سواء كن ذميات أو غيرهن، فانهن يصفن ذلك لازواجهن الا إذا كانت أمة. وقوله ” أو ما ملكت أيمانهن ” يعنى الاماء، فانه لا بأس باظهار الزينة لهؤلاء المذكورين لانهم محارم. وقوله تعالى ” والتابعين غير أولي الاربة من الرجال ” قال ابن عباس: هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء هو الابله، وقيل هو العنين، وقيل هو المجنون، وقال مجاهد هو الطفل الذي لا أرب له في النساء، وقيل هو الشيخ الهم. والاربة الحاجة. وقوله تعالى ” أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ” يعني الصغار الذين لم يراهقوا، فانه يجوز ابداء الزينة لهم إذا لم يطلعوا بعد على الاستلذاذ والتمتع بهن، ولم يروا العورات عورات لصغرهم. ولم يقل أو أعمامهن أو اخوانهن لان أولادهم ليسوا ذوي محرم لهن، فلعلهم إذا رأوا زينتهن بأن يظهر نهالهم يصفونها لبنيهم فيفتتنوا. (فصل) اعلم ان قوله تعالى ” وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ” يدل على أنه لا يحل للاجنبي أن ينظر إلى أجنبية لغير حاجة وسبب، فنظره إلى ما هو عورة منها محظور والى ما ليس بعورة كالثياب فقط مكروه. والمرأة إذا ملكت فحلا أو خصيا هل يجوز لها أن تخلو به أو تسافر معه ؟ قال قوم انه يكون محرما لها لقوله تعالى ” ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن ” إلى قوله ” أو ما ملكت ايمانهن “، فنهاهن عن اظهار زينتهن لاحد الا من استثنى واستثنى ملك اليمين، قالوا وهذا ظاهر القرآن. وعندنا أنه لا يكون محرما،


[ 130 ]

فان أصحابنا رووا في تفسير الاية أن المراد به الاماء دون الذكران من المماليك على ما تقدم. ويجوز للرجل إذا أراد أن يتزوج بامرأة أن ينظر إلى محاسنها، وإذا اشترى جارية جاز له أن ينظر إليها. ويمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى ” وكشفت عن ساقيها قال انه صرح ممرد من قوارير ” (1، وروي أنه نظر إلى ساقها وكان عليه الشعر فساءه ذلك فعمل له النورة والزرنيخ (2. (فصل) وقوله تعالى ” لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا ” (3 نهى الله المؤمنين أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها وهي ملك غيرهم الا بعد أن يستأذنوا، والاستيناس الايذان، فالمعنى حتى تستأنسوا بالاذن. وقال مجاهد: حتى يستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستيذان. وقد بين تعالى ذلك بقوله ” وإذا بلغ الاطفال منكم فليستأذنوا ” (4 قال عطاء وهو واجب في أمه وأخته وسائر أهله لئلا يهجم على عورتهن. وقوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ” (5، يقول الله مروا عبيدكم واماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم. قال ابن عباس: الاية في النساء والرجال من العبيد. وقال غيره: الاستيذان واجب على كل بالغ


1) سورة النمل: 44. 2) سورة الثقلين 4 / 92. 3) سورة النور: 27. 4) سورة النور: 59. 5) سورة النور: 58. *

[ 131 ]

في كل حال، وعلى الاطفال في هذه الاوقات الثلاثة بظاهر الاية، ففي ذلك دلالة على أنه يجوز أن يؤمر الصبي الذي يعقل لانه أمره بالاستيذان. وقال آخرون: ذلك أمر للاباء أن يأخذوا الاولاد بذلك. وفسر تعالى الاوقات فقال ” من بعد صلاة الفجر وحسن تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ” لان الغالب على الناس أن يتعروا في خلواتهم في هذه الاوقات. ثم بين أنه ليس عليكم ولا عليهم أن يدخلوا عليكم من غير اذن، يعني الذين لم يبلغوا الحلم، وهو المراد بقوله ” طوافون عليكم ” أي هم طوافون. ثم قال ” وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا ” فقد صار حكمهم حكم الرجال. وقوله تعالى ” والقواعد من النساء ” (1 يعني المسنات اللاتي يقعدن عن الحيض وعن التزويج، وانما ذكر القواعد لان الشابة يلزمها من الستر اكثر مما يلزم العجوز، والعجوز لا يجوز لها أن تبدي عورة لغير محرم كالساق والشعر والذراع. (باب) (اختيار الازواج ومن يتولى العقد عليهن) قال الله تعالى ” يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ” (2. فهذا يدل على أن المؤمنين اكفاء في عقد النكاح كما أنهم متكافئون في الدماء فمتى خطب المؤمن إلى غيره بنته وبذل لها من الصداق السنة المحمدية وكان


1) سورة النور: 60. 2) سورة الحجرات: 13. *

[ 132 ]

عنده يسار بقدر ما يقوم بأمرها والانفاق عليها وكان مرضيا غير مرتكب لجور فلم يزوجه كان عاصيا لله. ويكره أن يتزوج متظاهرا بالفسق. واستدل المرتضى على أن الرجل إذا أراد أن يتزوج ينبغي أن يطلب ذوات الدين والابوات والاصول الكريمة ويجتنب من لا أصل له بقوله تعالى ” وثيابك فطهر ” (1، فقال: يجوز أن يكون للثياب ههنا معنى آخر غير ما قالوه وهو ان الله سمى الازواج لباسا فقال تعالى ” هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ” (2 واللباس والثياب هنا بمعنى واحد، فكأنه سبحانه أمر أن يستطهر النساء، أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر ودرن العيب، لانهن مظان الاستيلاد ومضام الاولاد. وعن الصادق عليه السلام: زوجوا الاحمق ولا تزوجوا الحمقاء، فان الاحمق قد ينجب والحمقاء لا تنجب (3، ” والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه والذي خبث لا يخرج الانكدا ” (4. (فصل) وقال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ” إلى قوله ” ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر ” (5.


1) سورة المدثر: 4. 2) سورة البقرة: 187. 3) من لا يحضره الفقيه 3 / 516. 4) سورة الاعراف: 58. والنكد العسر الممتنع من اعطاء الخير على وجه البخل، والمعنى الارض السبخة التى خبث ترابها لا يخرج ريعها الا شيئا قليلا لا ينتفع به – انظر مجمع البيان 2 / 431. 5) سورة الممتحنة: 10. *

[ 133 ]

سبب نزول هذه الاية أن المهادنة لما وقعت بين النبي عليه السلام وبين قريش بالحديبية فرت بعدها امرأة من المشركين وخرجت إلى رسول الله مسلمة، فجاء زوجها وقال: ردها علي، فنزلت ” لا ترجعوهن إلى الكفار ” (1. وما جرى للنساء ذكر وانما ضمن أن يرد الرجال، فأمر الله أن تمتحن المهاجرة بالشهادتين فان كانت مؤمنة رد صداقها ولا ترد هي عليه، إذ هي لا تحل له ولا هو يحل لها، وهذا في القرآن للتوكيد. ” ولا تمسكوا بعصم الكوافر ” حكم آخر، أي كما ليس للمؤمنة أن تكون مع الكافر فكذلك أنتم أيها المؤمنون لا تبغوا نكاح الكافرات ان لم يؤمن. ثم قال تعالى ” واسئلوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ” أي ان ارتدت مسلمة فلحقت بأهل المعاهدة فلكم أن تطالبوا أهلها أو وليها من الكفار أو يردوا عليكم ما أنفقتم في صداقها ولهم أن يطالبوكم بمثل ذلك، فأما رد المؤمنة على الكافر فلم يجز البتة في حكم الله تعالى. وفي هذه الاية أحكام كثيرة منها ما هو باق ومنها ما قد سقط، وكثير من الناس يدعون [ النسخ فيما قد سقط كامتحان المهاجرة ورد الصداق على الكافر ] (2 وليس في شئ من ذلك نسخ، وانما هي أحكام تبعت الهجرة والهدنة التي كانت فلما انقضى زالت تلك الاحكام، وما كان كذلك لم يكن نسخا. وقال الحسن: معنى قوله تعالى ” ولا تمسكوا بعصم الكوافر ” اقطعوا عصمة الكفار ولا تتمسكوا بها. قال: كان في صدر الاسلام تكون المسلمة تحت الكافر والكافرة تحت المسلم، فنسخت هذه الاية ذلك. وهذا ليس بنسخ على الحقيقة، لان الله لم يأمر بالاول فيكون نهيه عنه نسخا، وانما كان للاول بقاء على الحالة


1) اسباب النزول للواحدي ص 282. 2) الزيادة من ج. *

[ 134 ]

الاولة غيرته الشريعة بحكم هذه الاية كما غيرت كثيرا من سنن الجاهلية. (فصل) أما قوله تعالى ” اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ” (1 فمعناه أحل لكم العقد على المحصنات يعني العفائف من المؤمنات والحرائر منهن، ولا يدل على تحريم من ليس بعفيفة ولا أمة، لان ذلك دليل الخطاب وقد تقدم أنه لو عقد على أمة أو من ليست بعفيفة صح العقد والاولى تجنبه. وآخر الاية ينطق بأن المراد الحرائر، وهو قوله ” إذا آتيتموهن أجورهن “، لان ذلك يتأتى في الحرائر ومهور الاماء يعطى أربابهن كما قدمنا. فان قيل: كيف قال اليوم أحل لكم تلك النساء، أتراهن قبل ذلك اليوم كن محرمات ؟. قلنا: المراد استقرار الشرع وانتهاء التحريم واعلام الامن (2 من أن تحرم محصنة بعد اليوم. وعندنا لا يجوز العقد على الكتابية نكاح الدوام لقوله تعالى ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ” على ما قدمناه، ولقوله ” ولا تمسكوا بعصم الكوافر “. فإذا ثبت ذلك قلنا في قوله ” والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ” تأويلان: أحدهما – أن يكون المراد بذلك اللاتي أسلمن منهن، والمراد بقوله ” والمحصنات من المؤمنات ” من كن في الاصل مؤمنات وولدن على الاسلام.


1) سورة المائدة: 5. 2) أي هذا اعلام من الله تعالى للمسلمين أن يأمنوا تحريم المحصنات بعد اليوم ” ج “. *

[ 135 ]

وقيل: ان قوما كانوا يتحرجون من العقد على الكافر إذا أسلمت، فبين تعالى أنه لا حرج في ذلك ولذا أفردهن بالذكر. والثاني – أن يختص ذلك لنكاح المتعة أو ملك اليمين، لان وطئهما بعقد المتعة جائز عندنا. على أنه روى أبو الجارود عن الباقر عليه السلام انه منسوخ بالايتين المتقدمتين من قوله ” ولا تنكحوا المشركات ” و ” لا تمسكوا بعصم الكوافر “. باب (في النهي عن خطبة النساء المعتدات بالتصريح) (وجوازها بالتعريض) اعلم أن المرأة إذا كانت في عدة زوجها يجب عليها الامتناع من التزويج بغيره، فإذا انقضت عدتها حلت للخطاب، قال تعالى ” فإذا بلغن أجلهن ” اي إذا بلغن آخر العدة بانقضائها ” فلا جناح عليكم “. قيل انه خطاب للاولياء، وقيل لجميع المسلمين لانه يلزمهم منعها عن التزويج في العدة، وقيل معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من النكاح واستعمال الزينة التي لا ينكر مثلها. وهذا معنى قوله ” بالمعروف “، وقيل معنى قوله ” بالمعروف ” ما يكون جائزا، وقيل معناه النكاح الحلال عن مجاهد، ويحقق معنى قوله تعالى ” فإذا بلغن أجلهن ” فإذا انقضت عدتهن فلا جناح عليكم أيها الائمة في ما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالمعروف، أي بالوجوه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى انهن لو فعلن ما هو منكر كان على جماعة المسلمين أن يكفوهن وان فرطوا كان عليهم الجناح – عن بعض المفسرين.


[ 136 ]

ولما تقدم ذكر عدة النساء وجواز الرجعة فيها للازواج عقبه ببيان حال غير الازواج فقال ” ولا جناح عليكم ” أي لا حرج ولا ضيق عليكم يا معشر الرجال فيما عرضتم به من خطبة النساء المعتدات ولا تصرحوا به، وذلك بأن تذكروا ما يدل على رغبتكم فيها. وقوله تعالى ” فيما عرضتم به ” فهو كلام يوهم أنه يريد نكاحها، فكأنه احالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، فالتعريض أن يذكر شيئا يدل به على شئ لم يذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لاسلم عليك وأنظر إلى وجهك الكريم، والكناية أن يذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له، ويسمى التلويح، لانه يلوح فيه ما يريده. والمستدرك بقوله ” ولكن لا تواعدوهن سرا ” مضمر، تقديره علم الله انكم ستذكروهن فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا، والسر وقع كناية عن النكاح، وحرف الاستثناء يتعلق ب‍ ” لا تواعدوهن “، أي لا تواعدوهن مواعدة قط الا مواعدة معروفة غير منكرة، أي لا تواعدوهن الا بالتعريض، أو لا تواعدوهن الا بأن تعفوا. ولا يجوز أن يكون استثناءا منقطعا من سرا لادائه إلى قولك لا تواعدوهن الا التعريض. وقيل لا تواعدوهن في السر، فالمواعدة في السر عبارة عن الموعدة بما يستهجن. وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة، لان العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح، من عزم الامر وعزم عليه. والله يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. فان عزم انسان على خطبة امرأة معتدة قبل انقضاء العدة وواعدها بالتصريح فقد فعل مكروها، ولا يحرم العقد عليها بعد العدة، فرخص له التعريض بذلك ولا كراهة فيه.


[ 137 ]

(فصل) واختلف في معناه: فقيل التعريض وهو أن يقول الرجل للمعتدة اني أريد النكاح فاني أريد امرأة من صفتها كذا وكذا – فيذكر بعض الصفات التي هي عليها، عن ابن عباس. وقيل هو أن يقول انك لنافقة (1 وانك لموافقة لي وانك لمعجبة جميلة وان قضى الله شيئا كان – عن القاسم بن محمد وعن الشعبى. وقيل وهو كل ما كان من الكلام دون عقد النكاح عن ابن زيد. ” أو اكننتم في أنفسكم ” أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم من نكاحهن بعد مضي عدتهن، وقيل هو اسرار العزم دون اظهاره والتعريض اظهاره عن مجاهد وابن زيد. ” علم الله انكم ستذكرونهن ” برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم اليهن غيركم فأباح لكم ذلك ” ولكن لا تواعدون سرا ” فيه أقوال: أحدها – أن معناه لا تواعدوهن في السر لانها أجنبية والمواعدة في السر تدعو إلى ما لا يحل. وثانيها – أن معناه الزنا عن الحسن وابراهيم وقتادة، فقالوا: كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنية وهو معرض بالنكاح فنهوا عن ذلك. وثالثها – أنه العهد على الامتناع من تزويج غيرك عن ابن عباس وابن جبير. ورابعها – هو أن يقول لها اني ناكحك فلا تفوتينى بنفسك عن مجاهد. وخامسها – ان السر هو الجماع، ومعناه لا تصفوا أنفسكم بكثرة الجماع ولا تذكروه عن جماعة. وسادسها – انه اسرار عقدة النكاح في السر عن عبد الرحمن بن زيد.


1) من النفاق في المتاع. *

[ 138 ]

ويجمع هذه الاقوال ما روي عن الصادق عليه السلام: لا تصرحوا لهن النكاح والتزويج. قال: ومن السر أن يقول لها موعدك بيت فلان. ” لا أن تقولوا قولا معروفا ” يعني التعريض الذي أباحه الله تعالى، والا بمعنى لكن، لان ما قبله هو المنهي عنه وما بعده هو المأذون فيه، وتقديره ولكن قولوا قولا معروفا. ” ولا تعزموا عقدة النكاح ” اي لا تبيتوا النكاح ولا تعقدوا عقد النكاح في العدة ولم يرد به النهي عن العزم على النكاح بعد العدة، لانه أباحه بقوله ” أو اكننتم “. ” حتى يبلغ الكتاب أجله ” أي حتى تنقضي العدة. (فصل) وقوله تعالى ” الذي بيده عقدة النكاح ” الاب والجد مع وجود الاب إذا كانت البنت صغيرة لم تبلغ مبلغ النساء أو بلغت وكانت بكرا، فلكل واحدا منهما أن يعقد على كل واحدة منهما ولا تكون للصغيرة إذا بلغت خيار. وكذلك ان أبت التزويج البكر وأظهرت كراهية بما عقد عليها ابوها اوجدها مع وجود الاب فلا يلتفت إلى كراهيتها. فأما الثيب إذا كانت غير مولى عليها لفساد عقلها مع وجود الاب أو الجد أو البكر البالغة إذا لم يكن بها أب فلا أحد بيده عقدة النكاح لواحدة منهما على الاطلاق، فإذا جعلت الثيب أمرها إلى أبيها أو جدها أو أخيها كما هو الاصل لها أو وكلت انسانا في أمرها فهو من بيده عقدة النكاح. وكذا حال البالغة البكر التى لا والد لها والثيب إذا كانت مولى عليها كان الامر إلى وليها في تولي العقد عليها.


[ 139 ]

ولا يجوز لها العقد على نفسها [ وكذا البكر لا يجوز لها أن تعقد على نفسها ] (1 الا باذن أبيها، فان عقدت كان العقد موقوفا على رضاء الاب، فان عضلها ابوها – وهو أن لا يزوج بنته البكر بالاكفاء إذا خاطبوها – كان لها العقد على نفسها وان لم يرض بذلك الاب. وقال المرتضى: يجوز عقد المرأة التي تملك أمرها على نفسها بغير ولي. قال: والدليل عليه قوله تعالى ” فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره “، فأضاف عقد النكاح إليها، والظاهر أنها تتولاه. وأيضا قوله ” فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ” فأضاف تعالى التراجع – وهو عقد مستقل – اليهما، والظاهر انهما يتوليانه. وأيضا قوله ” فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ” فأباح فعلها في نفسها من غير اشتراط الولي. قال: ولا يجوز أن يحمل اشتراط المعروف على تزويج الولي لها، وذلك أنه تعالى انما رفع الجناح عنها في فعلها بنفسها بالمعروف، وعقد الولي عليها لا يكون فعلا منها في نفسها. وأيضا فقوله ” ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ” (2 فأضاف العقد اليهن ونهى الاولياء عن معارضتهن. قال: والظاهر انهن يتولينه، فأما من ذهب إلى الاول فيمكنه أن يخصص هذه الايات كلها ويحملها على بعض ما قدمناه ويكون معه اجماع الطائفة والاخبار التي رووها عنهم عليهم السلام. (باب) (ما يستحب فعله عند العقد وآداب الخلوه) يستحب أن يستخير الله تعالى من أراد عقدة النكاح، فان الله تعالى يقول


1) الزيادة من ج. 2) سورة النساء: 32. *

[ 140 ]

” واسألوا الله من فضله “. وأن يتابع المراسم الشرعية في ذلك وقد قال تعالى ” نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم (1 قال ابن عباس: معنى قوله ” حرث لكم ” مزدرع أولادكم، كأنه قيل محترث لكم، وانما الحرث الزرع في الاصل. وقال الزجاج: أي نساؤكم ذات حرث لكم فأتوا لموضع حرثكم أنى شئتم. وقيل الحرث كناية عن النكاح على وجه التشبيه. ومعنى ” أنى شئتم ” من أين شئتم، في قول قتادة والربيع، وقال مجاهد معناه كيف شئتم، وقال الضحاك معناه متى شئتم، فخطأه جميع أهل التفسير وأهل اللغة، بأن قالوا ” أنى ” لا يكون الا بمعنى من أين كما قال تعالى ” أنى لك هذا قالت هو من عند الله ” (2. وقال بعضهم معناه من أي وجه، واستشهد ببيت الكميت: أنى ومن أين آبك طرب * من حيث لا صبوة ولا ريب (3 وهذا لا شاهد فيه، لانه يجوز أن يكون أتي به لاختلاف اللفظين كما يقولون متى كان هذا وأي وقت كان، ويجوز أن يكون بمعنى كيف. وتأول مالك وقال ” أنى شئتم ” يفيد جواز اتيان النساء في الدبر، ورواه عن نافع عن ابن عمر، وبه قال بعض أصحابنا. وخالف في ذلك جميع الفقهاء والمفسرين وقالوا هذا لا يجوز من وجوه: أحدها – أن الدبر ليس بحرث، لانه لا يكون منه الولد. وهذا ليس بشئ لانه لا يمتنع أن تسمى النساء حرثا لانه يكون منهن الولد، ثم يبيح الوطئ


1) سورة البقرة: 223. 2) سورة آل عمران: 37. 3) الهاشميات للكميت ص 41. *

[ 141 ]

فيما لا يكون منه الولد. وهذا ليس بدليل، لانه لا خلاف أنه يجوز الوطئ بين الفخذين وان لم يكن هناك ولد. وثانيها – قالوا: قال الله ” فأتوهن من حيث أمركم الله ” وهو الفرج. وهذا أيضا لا دلالة فيه، لان قوله ” من حيث أمركم الله ” معناه من حيث أباح الله لكم، أو من الجهة التي شرعها الله لكم على ما حكيناه عن الزجاج، ويدخل في ذلك الموضعان. على أنهم قد أجمعوا على أن الاية الثانية ليست بناسخة للاولى. وثالثها – قالوا: ان معناه من أين شئتم، أي ائتوا الفرج من أين شئتم، وليس في ذلك اباحة لغير الفرج. وهذا أيضا ضعيف، لان من ذهب إلى كراهيته دون حظره لا يسلم أن معناه ائتوا الفرج، بل معناه عنده ائتوا النساء وائتوا الحرث من أين شئتم، ويدخل فيه جميع ذلك. ورابعها – قالوا: قوله تعالى في المحيض ” قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ” فإذا حرم للاذى بالدم فالاذى بالنجو أعظم منه. وهذا ليس بشئ، لان هذا حمل الشئ على غيره من غير علة. على أنه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله ” قل هو أذى ” غير النجاسة، بل المراد أن في ذلك مفسدة. ولا يجب أن يحمل على ذلك الا بدليل موجب للعلم. على أن الاذى بمعنى النجاسة حاصل في البول ودم الاستحاضة، ومع هذا فليس بمنهي عن الوطئ في الفرج. (فصل) ويقال ان هذه الاية نزلت ردا على اليهود، فانهم يقولون إذا أتى الرجل المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول، فأكذبهم الله تعالى في ذلك – ذكره ابن عباس وجابر ورواه أصحابنا أيضا. وقال الحسن: أنكرت اليهود


[ 142 ]

اتيان المرأة قائمة وباركة، فأنزل الله أباحته بعد أن يكون في الفرج. ومع هذا السبب الذي روي لا يمتنع أن يكون ذلك أيضا مباحا، لان غاية ما في السبب أن يطابقه الاية، فأما أن لا يفيد غيره فلا يجب عند اكثر المحصلين. وقوله تعالى ” وقدموا لانفسكم ” أي سموا الله في أنفسكم عند الجماع وسلوه أن يرزقكم ولدا ذكرا سويا ليس في خلقه زيادة ولا نقصان. وقيل ائتوا النساء في موضع الولادة لا في أحشاشهن. وقيل هذا على العموم، أي قدموا الاعمال الصالحة التي أمر الله بها عباده ورغبهم فيها لتكون ذخرا عند الله. فإذا وجه اتصال قوله ” وقدموا لانفسكم ” بما قبله أنه لما قدم الامر بعدة أشياء قال قدموا لانفسكم بالطاعة فيما أمرتم به واتقوا مجاوزة الحد فيما بين لكم، وفي ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه والتحذير من مخالفة ما ألزموه (1. (فصل) وقد خاطب الله نبيه عليه السلام بقوله تعالى ” ترجي من تساء منهن وتؤوي اليك من تشاء ” (2 قال ابن عباس: خيره الله بين طلاقهن وامساكهن، وقال مجاهد معناه: تعزل من شئت من نسائك فلا تأتيها تأتي من شئت من نسائك. وليس هذا مسقطا للقسم بينهن، لانه إذا كان عند الرجل أربع نسوة يجب عليه أن يبيت عند كل واحدة ليلة ويسوي بينهن في القسمة ولا يلزمه إذا بات عند كل واحدة أن يجامعها، بل هو مخير في ذلك، وعلى هذا قوله تعالى ” ولن


1) هذا الفصل وما قبله مأخوذ من تفسير التبيان 2 / 222 – 225 مع تغيير يسير في بعض التعابير. 2) سورة الاحزاب: 51. *

[ 143 ]

تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ” (1) فان هذا في المودة والمحبة، وقوله تعالى ” فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” (2 في القسمة. وقوله تعالى ” ومن ابتغيت ممن عزلت ” قال قتادة: كان نبي الله صلى الله عليه وآله يقسم بين أزواجه فأحل الله له ترك ذلك. وقيل ومن طلبت اصابته ممن كنت عزلت عن ذلك من نسائك. وقوله تعاله ” والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم ” (3 لا يخرج من الاية وطؤ المتمتع بها لانه زوجة عندنا وان خالف حكمها حكم المزوجة على الدوام في أحكام كثيرة، كما أن حكم الزوجات على الدوام أيضا مختلف. وذكره تعالى هذه الاوصاف من قوله تعالى ” قد أفلح المؤمنون ” ومدحه عليها يكفى ويغني عن الامر بها فيها من الترغيب، كما قال الله تعالى ” الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين ” (4 مع تحريم وطأها على وجوه لتحريم وطئ الزوجة والامة في حال الحيض، ووطؤ زيد جاريته إذا كان قد زوجها من عمرو أو كانت في عدة من زوج، وتحريم وطئ المظاهرة غير المشروطة بالوطئ قبل الكفارة. لان المراد بذلك على ما يصح مما بينه الله ورسوله في غير هذا الموضع، وحذف لانه معلوم، وهي من الامور العارضة في هذه الوجوه. وأيضا فان من وطئ الزوجة أو الامة في حال الحيض والنفاس، فلا


1) سورة النساء: 129. 2) سورة النساء: 3. 3) سورة المعارج: 29 – 30. 4) سورة المؤمنون: 6. *

[ 144 ]

يلزمه اللوم من حيث كانت زوجة أو ملك يمين، وانما يستحق اللوم على وجه آخر. و ” وراء ” بمعنى غير، أي من طلب سوى الزوجة والامة فهو عاد. والعادون الذين يتعدون الحلال إلى الحرام. والاستمناء باليد محرم اجماعا، لقوله تعالى ” الا على أزواجهم أو مالكت أيمانهم فانهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ” وهذا وراء ذلك. وعنه عليه السلام: ملعون سبعة – وذكر فيها الناكح كفه. (باب الزيادات) سئل الصادق عليه السلام عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك ؟ قال: قال ” الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ” (1 فلا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل (2. وقال: من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره لم يرتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين (3. وقيل له عليه السلام: هل يمتع رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال: نعم وقرأ هذه الاية ” واذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حدثنا ” إلى قوله ” ثيبات وأبكارا ” (4. وكان علي عليه السلام يكره أن يسلم على الشابة من النساء وقال: أتخوف


1) سورة الزمر: 42. 2) وسائل الشيعة 1 / 501 مع اختلاف يسير. 3) من لا يحضره الفقيه 3 / 437. 4) سورة التحريم: 3. وانظر من لا يحضره الفقيه 3 / 366. *

[ 145 ]

أن يعجبني صوتها فيدخل علي من الاثم أكثر مما أطلب من الاجر (1. وقال النبي صلى الله عليه وآله: من سعادة الرجل ان لا تحيض ابنته في بيته (2. وفي رواية: أن تحيض ابنته في بيت زوجها. وروى صفوان بن يحيى عن ابي الحسن عليه السلام في قوله تعالى حكاية عن ابنة شعيب ” يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الامين ” (3. قال: قال لها شعيب: هذا قوي قد عرفتيه برفع الصخرة الامين من أين عرفتيه ؟ قالت: يا أبت اني مشيت قدامه فقال: امشي من خلفي فان ضللت فأرشديني إلى الطريق فانا قوم لا ننظر في أدبار النساء (4. واعلم أن بنت الربيب وهو ابن الزوجة لا يصح لزوج أمه أن ينكح ابنته، وليس هذا حملا على الربيبة، بل الدلالة عليه من الكتاب، هو أن الله تعالى ذكر في جملة المحرمات ” وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ” (5)، وأجمعت الامة على أن قوله ” وربائبكم ” انما أراد به بنات نسائكم، وهذا يقتضي تحريم كل من يتناوله هذا الاسم من بناتهن وان سفلن وبعدن، وقد علمنا أن بنت ابن الزوجة ولدها، فان بنات الصلب وبنات البنين والبنات أولاد فتقتضي هذه الجملة تحريم من يقع عليه اسم بنت لزوجة الرجل.


1) الكافي 5 / 535. 2) وسائل الشيعة 14 / 41. 3) سورة القصص: 26. 4) وسائل الشيعة 14 / 145. 5) سورة النساء: 23. *

[ 146 ]

كتاب الطلاق كل آية من القرآن فيها ذكر الطلاق – وهي كثيرة – يعلم منها جواز الطلاق. ومعنى ” الطلاق ” حل عقدة النكاح، لان المرأة تكون في حظر من النكاح فإذا طلقت تطلقت (1. وللطلاق أقسام وشرائط لابد من معرفتها ليتم الغرض، ونحن نذكر جميع ذلك على سبيل الجملة أولا ثم نتبع الادلة من الكتاب والسنة على التفصيل انشاء الله تعالى، ثم نذكر ما يلحق بالطلاق وما يؤثر في بعض أنواع الطلاق وما يكون كالسبب للطلاق، ونبين جميع ذلك في أبواب بعون الله تعالى.


1) قال ابن فارس: الطاء واللام والقاف أصل صحيح مطرد واحد، وهو يدل على التخلية والارسال، يقال انطلق الرجل ينطلق انطلاقا – معجم مقاييس اللغة 3 / 420. *

[ 147 ]

(باب) (أقسام الطلاق وشرائطه) وجوه الطلاق عشرة، وهي على ضربين: ثلاثة منها لا تحتاج إلى العدة وهي: طلاق التي لم يدخل بها، والتي دخل بها ولم تبلغ المحيض ولا في سنها من تحيض، والايسة من المحيض ولا يكون في سنها من تحيض. والسبعة الباقية لابد من اعتبار العدة بعدها وهي: الطلاق التي لم تبلغ المحيض وفي سنها من تحيض، وطلاق الايسة من المحيض وفي سنها من تحيض، والمستقيمة الحيض، والحاملة المستبين حملها، والمستحاضة، وطلاق الغائب عن زوجته، وطلاق الغلام والعبد. وأما شرائطه فعلى ضربين: عام في سائر أنواعه، وخاص في بعضه. فالعام خمسة: أن يكون الرجل غير زائل العقل، ويكون مريدا للطلاق غير مكره عليه ولا مجبر، ويكون طلاقه بمحضر من شاهدين مسلمين، ويتلفظ بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه عند العجز. والخاص يراعى في المدخول بها غير غائب عنها مدة مخصوصة، وهو اثنان: أن لا تكون المرأة حائضا، أو في طهر لم يقربها فيه إذا لم يكن بها حبل. ونحن نتكلم على هذه الاصول فصلا فصلا انشاء الله تعالى. (فصل) (في طلاق التي لم يدخل بها) قال الله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من


[ 148 ]

قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن ” (1. خاطب الله تعالى بهذه الاية المؤمنين بأنه إذا نكح واحد منهم مؤمنة نكاحا صحيحا ثم طلقها قبل أن يمسها – يعني قبل أن يدخل بها – فانه لا عدة عليها منه، ويجوز لها أن تتزوج بغيره في الحال. وأمرهم أن يمتعوها ويسرحوها سراحا جميلا إلى بيت أهلها وأن يخليها تخلية حسنة ان كانت في بيت أهلها. وهذه المتعة واجبة ان كان لم يسم لها مهرا، وان كان سمى مهرا لزمه نصف المهر، وان لم يبين لها صداقا متعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل، وهذا مثل قولنا سواء. وروى أصحابنا أنه يمتعها ان كان موسرا فبدابة أو مملوك، وان كان متوسطا فبثوب وما أشبهه، وان كان فقيرا فبخاتم وما أشبهه (2. وقال سعيد بن المسيب: ان هذه الاية نسخت بايجاب نصف المهر المذكور في البقرة. والصحيح الاول أنه لا ناسخ ولا منسوخ في ذلك، ولكل آية من هذه الايات حكم ثابت، لانا اتفقنا على أن بضع حرة لا تحل بغير مهر أو عوض والنكاح من دون ذكر المهر يتعقد ويصح، فان طلقها قبل أن يجامعها فانه لا يخلو من أن يكون سمى لها مهرا أو لم يسم، فان لم يسم لها مهرا وجب عليه أن يمتعها على ما ذكرناه بالاية التي قدمناها وبقوله تعالى ” وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ” (3. ويمكن أن يقال: ان الاشارة بهذه الاية إلى المتعة الواجبة التي قدمناها أو بما قبل هذه الاية من قوله ” حقا على المحسنين ” إلى المتعة المستحبة على ما ذكرنا.


1) سورة الاحزاب: 49. 2) في ذلك احاديث عن الائمة عليهم السلام، انظر وسائل الشيعة 15 / 55 – 59. 3) سورة البقرة: 241. *

[ 149 ]

والمراد بالقراءتين ” تماسوهن ” أو ” تمسوهن ” الجماع بلا خلاف، وانما قال ” تعتدونها ” فخاطب الرجال لان العدة حق للزوج ربما استبرأ من أن يلحق به من ليس من صلبه أو يلحق بغيره من هو من صلبه. قال الجرجاني: أصله أنهم كانوا يقولون فيما توفر عدد أعددته فاعتد، أي وفرته عليه فاسترفأه، كما يقال كلته فاكتال وزنته فأتزن. ومما يوضع ما ذكرناه قوله تعالى ” لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ” (1، المفروض من صداقها داخل في دلالة الاية وان لم يذكر، لان التقدير ما لم تمسوهن ممن قد فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن فريضة لان أو تنبئ عنه، إذ لو كان على الجمع لكان بالواو. والفريضة المذكورة في الاية الصداق بلا خاف، لانه يجب بالعقد للمرأة فهو فرض بوجوبه بالعقد ومتعة التي لم يدخل بها، وقد روي أيضا انها لكل مطلقة، ذلك على وجه الاستحباب. و ” متاعا ” حال من قوله ” قدره ” والعامل فيه الظرف، ويجوز أن يكون مصدرا والعامل ” ومتعوهن “. ويحتمل نصب ” حقا ” أيضا على وجهين: أحدهما أن يكون حالا من قوله ” بالمعروف ” والعامل فيه معنى عرف حقا. والثاني على التأكيد لجملة الخبر، كأنه قيل أخبركم به حقا. وانما خص التي لم يدخل بها بالذكر في رفع الجناح دون المدخول بها في الذكر وان كان حكمها واحدا لامرين: أحدهما لازالة الشك في الحرج على هذا المطلق. والثاني لان له أن يطلق أي وقت شاء، وليس كذلك حكم المدخول


1) سورة البقرة: 236. *

[ 150 ]

بها، لانه يجب أن يطلقها للعدة على ما نذكره. وفي الاية دلالة على أن هذا العقد بغير مهر صحيح (1، لانه لو لم يصح لما جاز فيه الطلاق ولا وجبت فيه المتعة. ثم قال ” وان طلقتموهم من قبل أن تماسوهن ” الاية. وقد قدمنا أن الاية الاولى متضمنة حكم من لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا إذا طلقها، وهذه تضمنت حكم التي فرض لها صداق إذا طلقت قبل الدخول، وأحد الحكمين غير الاخر. وقال جميع أهل التأويل انه إذا طلق الرجل من سمى لها مهرا معلوما قبل أن يدخل بها فانه يستقر لها نصف المهر، فان كانت ما قبضت شيئا وجب على الزوج تسليم نصف المهر، فان كانت تسلمت جميع المهر وجب عليها رد نصفه ويستقر لها النصف الاخر. ” الا أن يعفون ” معناه من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى عليها لفساد عقلها، فيترك ما يجب لها من نصف الصداق. وقوله تعالى ” أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ” قال مجاهد وحسن وعلقمة انه الولي، وهو المروي عن أبى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام (2، غير أنه لا ولاية لاحد عندنا الا للاب أو الجد مع وجود الاب على البكر وغير البالغة، وأما من عداهما فلا ولاية الا بتولية من المرأة. وروي عن علي عليه السلام أنه الزوج (3، والاول هو المذهب وهو أظهر، فمن جعل العقد للزوج قال تقديره الذي بيده عقدة نكاحه، ومن جعله للولي قال تقديره الذي بيده عقدة نكاحها، ومن جعل العفو للزوج قال له أن يعفو عن جميع نصفه، ومن جعله للولي قال


1) احترز بهذا عن النكاح المنقطع فانه لا يصح بدون ذكر المهر ” ه‍ “. 2) تفسير البرهان 1 / 229. 3) الدر المنثور 1 / 293. *

[ 151 ]

أصحابنا له أن يعفو عن بعضه وليس له أن يعفو عن جميعه، فان امتنعت المرأة لم يكن لها ذلك إذا اقتضت المصلحة ذلك عن ابي عبد الله عليه السلام. واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج، قال لانه ليس للولي أن يهب مال المرأة. وقوله تعالى ” وان تعفو أقرب للتقوى ” خطاب للزوج والمرأة جميعا في قول ابن عباس، وقيل للزوج وحده وانما جمع لانه لكل زوج. وقول ابن عباس أقوى لانه العموم. وانما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين: أحدهما لاتقاء ظلم كل واحد صاحبه ما يجب من حقه. الثاني انه أدعى إلى اتقاء معاصي الله للرغبة فيما رغب فيه بالعفو عما له. وتقدير ” فنصف ما فرضتم ” أي فعليكم نصف ما فرضتم. (فصل) (في طلاق التي دخل بها ولم تبلغ المحيض) (ولا تكون في سنها من تحيض) قال الله تعالى ” واللائي لم يحضن ” بعد قوله ” واللائي يئسن من الميحض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ” (1 للصغار، وتقديره واللائي لم يحضن لا عدة عليهن، وحذف لدلالة الكلام عليه. وهذا التقدير أولى من أن يقال: تقديره واللائي لم يحضن فعدتهم ثلاثة أشهر، لان قوله ” ان ارتبتم ” في الاولى يخرج من الفائدة (2. فعلى هذا إذا أراد الرجل أن يطلق امرأة قد دخل بها ولم تكن قد بلغت


1) سورة الطلاق: 4. 2) لانه يصير التقدير اللائى لم يئسن من المحيض فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة اشهر، فلا يبقى فرق بين المسترابة وغيرها ” ه‍ “. *

[ 152 ]

مبلغ النساء ولا مثلها في السن قد بلغ ذلك – وحد ذلك دون تسع سنين – فليطلقها أي وقت شاء، فإذا طلقها فقد بانت منه في الحال ولا عدة عليها. وحكم الايسة من المحيض ومثلها لا تحيض حكم التي لم تبلغ مبلغ النساء في أنه متى طلقها لا عدة عليها وقد بانت منه في الحال ويطلقها أي وقت شاء. وحد ذلك للهاشمية ستون سنة وللاجنبية خمسون سنة فصاعدا. وقال المرتضى: على الايسة من المحيض والذي لم يبلغه العدة على كل حال من غير مراعاة الشرط الذي حكيناه عن أصحابنا. قال: والذي يدل على صحة هذا القول قوله ” واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن “، وهذا صريح في الايسات من المحيض واللائي لم يبلغن عدتهن الاشهر على كل حال، لان قوله ” واللائي لم يحضن ” معناه واللائي لم يحضن كذلك. قال: وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك. ثم قال: فان قيل: كيف يدعون أن الظاهر يقتضي ايجاب العدة على من ذكرتم على كل حال، وفي الاية شرط وهو قوله ” ان ارتبتم “. الجواب: أول ما نقوله ان الشرط المذكور في الاية لا ينفع من خالف من أصابنا لانه غير مطابق لما يشرطونه، وانما يكون نافعا لهم الشرط لو قال تعالى ان مثلهن لا تحيض في الايسات وفي اللائي لم يبلغن المحيض إذا كان مثلهن تحيض، وإذا لم يقل تعالى ذلك وقال ” ان ارتبتم ” وهو غير الشرط الذي يشرطه أصحابنا – فلا منفعة لهم فيه. وليس يخلو قوله تعالى ” ان ارتبتم ” من أن يريد به ما قاله جمهور المفسرين وأهل العلم بالتأويل من أنه تعالى أراد به ان كنتم مرتابين في عدة هؤلاء النساء وغير عالمين بمبلغها، فقد رووا ما يقوي ذلك من أن سبب نزول هذه الاية هو


[ 153 ]

ما ذكرناه من فقد العلم، فروى مطرف عن عمرو بن سالم قال: قال أبي بن كعب: يا رسول الله ان عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الاحمال، فأنزل الله تعالى ” واللائي يئسن من المحيض ” إلى قوله تعالى ” وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ” (1. وكان سبب نزول هذه الاية الارتياب الذي ذكرناه، ولا يجوز أن يكون الارتياب بأنها آيسة أو غير آيسة. لانه تعالى قد قطع في الاية على الناس من المحيض بقوله تعالى ” واللائي يئسن ” والمشكوك في حالها والمرتاب في أنها تحيض أو لا تحيض لا تكون آيسة، والمرجع في وقوع الحيض منها أو ارتفاعه إليها وهي المصدقة على ما تخبر به، فإذا أخبرت بأن حيضها قد ارتفع قطع عليه ولا معنى للارتياب مع ذلك. وإذا كان المرجع في الحيض إلى النساء ومعرفة الرجال به مبنية على اخبار النساء وكانت الريبة المذكورة في الاية منصرفة إلى اليأس من المحيض، فكان يجب أن يقول تعالى ان ارتبتم أو ارتبن، لانه حكم يرجع إلى النساء ويتعلق بهن فهن المخاطبات به، فلما قال تعالى ” ان ارتبتم ” فخاطب الرجال دون النساء علم أن المراد هو الارتياب في العدة ومبلغها (2. ثم قال: فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الارتياب ههنا، انما هو بمن تحيض أولا تحيض ممن هو في سنها على ما يشرطه بعض أصحابكم. قلنا: هذا يبطل بأنه لاريب في سن ومن تحيض مثلها من النساء أولا تحيض، لان المرجع فيه إلى العادة. ثم إذا كان الكلام مشروطا فالاولى أن يعلق الشرط بما لا خلاف فيه دون ما فيه


1) اسباب النزول ص 290 بهذا المعنى. 2) أي ارتبتم في كيفية عدتهن وانها بالشهور أو الحيض أو الاطهار ” ه‍ “. *

[ 154 ]

الخلاف، وقد علمنا أن من شرط وجوب الاعلام بالشئ والاطلاع عليه فقد العلم ووقوع الريب: فمن يعلم بذلك ويطلع عليه فلابد إذا من أن يكون ما علقنا نحن الشرط به وجعلنا الريبة واقعة فيه مرادا. وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يعلق الشرط بشئ آخر مما ذكروه أو بغيره، لان الكلام مستقل بتعلق الشرط بما ذكرناه أنه لا خلاف فيه ولا حاجة به بعد الاستقلال إلى أمر آخر. ألا ترى أنه لو استقل بنسفه لما جاز اشتراطه، وكذلك إذا استقل مشروطا بشئ لا خلاف فيه، ولا يجب تجاوزه ولا تخطيه إلى غيره. وقد سلم الشيخ أبو جعفر الطوسي ” رض ” أن الاية لا تدل على صحة هذا الباب بظاهرها (1، وانما تبين الاخبار الواردة عن آل محمد عليه وعليهم السلام ذلك، منها ما روي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال أبو عبد الله عليه السلام: ثلاث يتزوجن على كل حال: التي لم تحض ومثلها لا تحيض – قال: قلت وما حدها ؟ قال: إذا أتى لها أقل من تسع سنين – والتي لم يدخل بها، والتي قد يئست من الميحض ومثلها لا تحيض. قال: قلت وما حدها ؟ قال إذا كان لها خمسون سنة (2. وقد تقدم أن قوله ” واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ” محمول على الايسة من المحيض وفي سنها من تحيض وفي التي لم تحض وفي سنها من تحيض، لان الله تعالى شرط فيه ذلك وقيده بالريبة. ولما كان الخطاب بقوله ” من نسائكم ” مع الرجال قال أيضا ” ان ارتبتم “، لان النساء يرجعن في تعرف أحوالهن إلى العلماء. وقد ذكرنا تقدير قوله ” واللائي لم يحضن ” من قبل.


1) انظر التبيان 10 / 34. 2) تهذيب الاحكام 8 / 67. *

[ 155 ]

وإذا كانت الاية مجملة فتفصيل ذلك يعلم من أهل التنزيل والتأويل، وهم الائمة المعصومون بعد رسول الله عليه وعليهم السلام، وقال تعالى ” خلق الانسان * علمه البيان ” (1. (فصل) (في طلاق الايسة من المحيض وفي سنها من تحيض) بين الله كيفية العدد باختلاف أحوال النساء فقال ” واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر “. يعني ان الايسة من المحيض إذا كانت ترتاب بنفسها ولا تدرئ انقطع حيضها لكبر أو عارض ولا تدرون أنتم أيضا مقدار سنها فعدتها ثلاثة أشهر، وهي التي قلنا ان مثلها تحيض، لانها لو كانت في سن من لا تحيض لم يكن معنى للارتياب في سنها. فإذا أراد زوجها طلاقها فليصبر عليها ثلاثة أشهر ثم يطلقها بعد ذلك ان شاء. وحكم التي لم تبلغ المحيض وفي سنها من تحيض – وهي التي كان لها تسع وسنين فصاعدا ولم تكن حاضت – حكم الايسة وفي سنها من تحيض في جميع ما ذكرناه. وقال قتادة: ” اللائي يئسن ” الكبار ” واللائي لم يحضن ” الصغار. وقد ذكرنا أن قوله ” واللائي لم يحضن ” تقديره واللائي لم يحضن ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، وحذف لدلالة الكلام الاول عليه. وقال بعض المفسرين: ان الله سبحانه لما بين هذه المسائل الاربع على لسان نبيه صلى الله عليه وآله ورواها أهل بيته المعصومون عليهم السلام وكان قد أشار بهذه الاية إلى مسألة من هذا الفصل وهي الاولى والى مسألة من الفصل


1) سورة الرحمن: 3 – 4. *

[ 156 ]

ن الاول وهي الثانية، كان من أعجب الحكم الالهية ومن لطيف الفصاحة وغريب البراعة. فعلى هذا لا يكون قوله ” واللائي لم يحضن ” مشروطا مقيدا بجميع ما قيدت الجملة الاولى به، بل يقدر خبر المبتدأ فيه على ما وردت به الاحاديث الصحيحة. (فصل) (في طلاق المستقيمة الحيض) قال الله تعالى ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” (1. أمر سبحانه بذلك انه إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته التي دخل بها وهو غير غائب عنها وهي ممن تحيض حيضا مستقيما فليطلقها وهي طاهر طهرا لم يقربها فيه بجماع وشهد على ذلك شاهدين تطليقة واحدة، ولتعتد هي ثلاثة أقراء وهي الاطهار، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد ملكت نفسها ولم يكن له عليها سبيل. فالقرء الطهر عندنا، وبه قال اكثر الصحابة والتابعين والفقهاء والمفسرين. وأصل القرء في اللغة يحتمل وجهين (2: أحدهما: الاجتماع، ومنه ” قرأت القرآن ” لاجتماع حروفه. فعلى هذا يقال اقرأت المرأة إذا حاضت في قول الاصمعي والكسائي. فتأويل ذلك اجتماع


1) سورة البقرة: 228. 2) قال الراغب الاصبهاني: القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسما جامعا للامرين الطهر والحيض المتعقب له اطلق على كل واحد منهما، لان كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفردت كالمائدة للخوان وللطعام، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا، بدلالة أن الطاهر التى لم تر أثر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التى استمر بها الدم والنفساء لا يقال لها ذلك – المفردات ص 413. *

[ 157 ]

الدم في الرحم. ويجئ على هذا الاصل أن يكون القرء الطهر لاجتماع الدم في جملة البدن – هذا قول الزجاج. والوجه الثاني: أن يكون أصل القرء وقت الفعل الذي يجري على عادة في قول ابى عمرو بن العلاء، وقال هو يصلح للحيض والطهر، يقال هذا قارئ الرياح أي وقت هبوبها. فعلى هذا يكون القرء الحيض لانه وقت اجتماع الدم في الرحم على العادة المعروفة فيه، ويكون الطهر لانه وقت ارتفاعه على عادة جارية فيه. واستشهد أهل العراق بأشياء على أن المراد الحيض، منها قوله عليه السلام في مستحاضة سألته: دعي الصلاة أيام اقرائك. واستشهد أهل المدينة بقوله تعالى ” فطلقوهن لعدتهن ” أي طهر لم تجامع فيه، كما يقال جئت لغرة الشهر. وتأوله غيرهم لاستقبال عدتهن وهو الحيض، وتدل الاية على ذلك، لان معناه في طهر لم يجامعهن فيه، وهو اختيار ابن جرير. وقال أبو مسلم: لما أوجب الله على من أراد تطليق امرأته أن يطلقها طاهرة غير مجامعة وأوجب عليها التربص إلى أن ترى ثلاثة قروء: نظرنا فكان المراد ثلاثة أطهار، لانه لا خلاف أن السنة في الطلاق أن يكون عند الطهر. فان قيل: الظرف اما مكان أو زمان، والقرء ليس واحدا منهما. قلنا: الظرف هنا زمان، والتقدير مدة انقضاء ثلاثة قروء، والقروء جمع القرء. فان قيل: كيف أضاف الثلاثة إلى قروء وهي جمع الكثرة، ولم يضفها إلى اقراء وهي جمع القلة. فالجواب عنه: ان المعني في قوله تعالى ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” أي ليتربصن كل واحدة من المطلقات ثلاثة اقراء، فلما أسند ثلاثة إلى جماعتهن والواجب على كل واحدة منهن ثلاثة اتى بلفظة ” قروء ” ليدل على الكثرة المرادة.


[ 158 ]

فان قيل: لو كان المراد بالاقراء في الاية الاطهار لوجب استيفاء ثلاثة الاطهار بكمالها، كما أن من كانت عدتها بالاشهر وجب عليها ثلاثة أشهر على الكمال، وقد أجمعنا على أنه لو طلقها في آخر الطهر الذي ما قربها فيه أنه لا يلزمها اكثر من طهرين آخرين، وذلك دليل على فساد ما قلتموه. قلنا: يسمى القرآن الكاملان وبعض الثالث ثلاثة أقراء، كما يسمى الشهران وبعض الثالث ثلاثة أشهر في قوله تعالى ” الحج أشهر معلومات ” (1، وانما هو شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة. وقال بعض الفقهاء: ان لفظ الخبر في قوله ” يتربصن بأنفسهن ” في تقدير الامر، لان المعنى فرض عليهن أن يتربصن. والاولى أن يحمل على معنى الخبر لانه مما لابد منه، وما حل هذا المحل فالخبر به أولى من الامر، لان المأمور قد يفعل وقد لا يفعل، والمخبر عنه لابد من كونه، وهذا التربص لابد منه. وهذا لا يحتاج فيه إلى نية وعزم، فالمطلقة ربما انقضت عدتها ولم تعتد، وذلك أن تطلق ولا يبلغها الطلاق الا وقد مضت أيام الاقراء، لان ابتداء عدتها وقت طلاقها من غير صنع منها. ولهذا قال قوم ابتداء عدتها وقت سماعها، وهذا ليس بصحيح في الطلاق وانما هو العدة بعد الوفاة إذا سمعت بها، لانها وان لم تسمع فهي مطلقة وأوجب الله عليها العدة بسبب الطلاق. وكل مطلقة يلزمها هذا التربص الا من لم يدخل بهاء، ما عدا الايسة من المحيض ولا يكون في سنها من تحيض، وما عدا التي لم تبلغ المحيض ولا يكون في سنها من تحيض.


1) سورة البقرة: 197. *

[ 159 ]

(فصل) (في طلاق الحامل المستبين حملها) قال الله تعالى ” وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ” (1. اعلم أن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته وهي حبلى مستبين حملها فليطلقها أي وقت شاء، وعدتها أن تضع حملها وان كان بعد الطلاق بلا فصل وحلت للازواج، سواء كان ما وضعته سقطا أو غير سقط تاما أو غير تام، فقد بين الله تعالى بقوله ” أن يضعن حملهن ” ان عدة الحامل من الطلاق وضع الحمل الذي معها، فان وضعت عقيب الطلاق فقد ملكت نفسها ويجوز لها أن تعقد لغيره على نفسها، غير أنه لا يجوز له وطؤها، لان نفاسها كالحيض سواء، فإذا طهرت من نفاسها حل له ذلك. وان كانت حاملا باثنين ووضعت واحدا لم تحل للازواج حتى تضع جميع الحمل، لقوله تعالى ” أن يضعن حملهن “. فأما انقطاع الرجعة فقد روى أصحابنا انها إذا وضعت واحدا انقطع عصمتها من الاول ولا يجوز لها العقد لغيره حتى تضع الاخر. فأما المطلق فانه ان كان طلقها أول مرة ووضعت واحدا وهي حامل بآخر فليس له أن يراجعها، وانما كانت الرجعة له من غير رضاها قبل الوضع، فأما ان أراد أن يعقدا بمهر جديد قبل وضع الثاني فانه يجوز ذلك. وكذلك بعد التطليقتين إذا كانت المرأة حرة. وقال ابن عباس هذه الاية في المطلقة خاصة لما قلناه.


1) سورة الطلاق: 4. *

[ 160 ]

(فصل) (في طلاق المستحاضة وطلاق الغائب عن زوجته) (وطلاق الغلام والعبد) قال الله تعالى ” يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ” (1 هذه الاية بعمومها يتناولها كما يتناول غيرها مما نذكره. وأما المستحاضة إذا كانت مطلقة وتعرف أيام حيضها فلتعتد بالاقراء، فان لم تعرف أيام حيضها اعتبرت صفة الدم واعتدت أيضا بالاقراء، فان اشتبه عليها دم الحيض بدم الاستحاضة ولم يكن لها سبيل إلى الفرق بينهما اعتبرت عادة نسائها في الحيض، فتعتد على عادتهن في الاقراء، فان لم يكن لها نساء أو كن مختلفات العادة اعتدت بثلاثة أهش وقد بانت منه. وأما طلاق الغائب عن زوجته فان خرج إلى السفر وهي في طهر لم يقربها فيه بجماع طلقها أي وقت شاء، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه فلا يطلقها حتى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثم يطلقها ويكون عدتها ثلاثة أشهر. والغلام إذا طلق وكان ممن يحسن الطلاق وقد أتى عليه عشر سنين فصاعدا جاز طلاقه، فان لم يحسن الطلاق فانه لا يجوز طلاقه. ولا يجوز لوليه أن يطلق عنه، الا أن يكون قد بلغ وكان فاسد العقل، فانه والحال على ما ذكرناه جاز طلاق الولي عنه. والعبد إذا تزوج فلا يخلوا ما أن يكون مولاه زوجه جاريته فالفراق بينهما بيده وليس للزوج طلاق على حال. ومتى عقد الرجل لعبده على أمة غيره بأذنه


1) سورة الطلاق: 1. *

[ 161 ]

كان الطلاق بيد العبد. وكذلك ان عقد على حرة. وهذا كله مما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله لقوله تعالى ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس “. (باب) (بيان شرائط الطلاق) فأول ما نقول في ذلك أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة – أي جزء كان – لا يقع به طلاق. ودليلنا بعد الاجماع قوله تعالى ” يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ” (1، فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله اسم النساء، واليد والرجل لا يتناولهما هذا الاسم بغير شبهة. ولا يطعن على ما ذكرنا بقوله ” تبت يدا أبي لهب ” (2 وبقوله ” فبما كسبت أيديكم ” (3، وان عبر بها عن جميع البدن، لان ذلك مجاز وكلامنا على الحقائق لقول الله مخاطبا لنبيه عليه السلام والمراد به أمته، ومعناه إذا أردتم طلاق النساء كما قال ” إذا قمتم إلى الصلاة ” (4، والنبي عليه السلام داخل تحت هذا الخطاب، وهذه مسألة فيها خلاف. وقال قوم: تقديره يا أيها النبي قل لامتك إذا طلقتم النساء. فعلى هذا يجوز أن يكون النبي عليه السلام خارجا من الحكم، ويجوز أن يكون حكمه حكمهم، كخطاب الرئيس الذي يدخل فيه الاتباع. وأجمعت الامة أن حكم النبي حكم


1) سورة الطلاق: 1. 2) سورة المسد: 1. 3) سورة الشورى: 3. 4) سورة المائدة: 6. *

[ 162 ]

أمته في الطلاق. والطلاق في الشرع قد ذكرنا أنه عبادة عن تخلية المرأة على عقدة من عقد النكاح، بأن يقول أنت طالق يخاطبها، أو يقول هذه طالق ويشير إليها، أو يقول فلانة بنت فلان طالق. وعندنا لا يقع الطلاق الا بهذا اللفظ المخصوص، ولا يقع الطلاق بشئ من كنايات الطلاق أراد به الطلاق أو لم يرد. وفيه خلاف. ومن شرط وقوع الطلاق عندنا أن يكون الرجل ثابت العقل مريدا للطلاق غير مكره عليه ويتلفظ بما قدمناه، وفحوى قوله تعالى ” إذا طلقتم النساء ” يدل على جميع ذلك. ويكون بمحضر من شاهدي عدل لقوله ” وأشهدوا ذوي عدل منكم ” على ما نذكره. وان كانت مدخولا بها غير حامل ويكون الزوج حاضرا غير غائب، فلابد من أن تكون طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع، لقوله ” وطلقوهن لعدتهن “، ومعناه أن يطلقها وهي طاهر في طهر لاجماع فيه معها ويستوفي باقى الشروط، أي طلقوهن مستقبلات لعدتهن كقولك أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها. (فصل) وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله في قبل عدتهن وإذا طلقت المرأة في الطهر الذى ذكرناه طلقت مستقبلة لعدتها، والمراد أن يطلقن في طهر لم يجامعهن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن – قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي. فمتى طلقها وقصد به ايقاع الطلاق على ما ذكرناه وقع تطليقة واحدة، وهو أملك برجعتها ما لم تخرج من العدة، فان خرجت قبل أن يراجعها كان كواحد من الخطاب.


[ 163 ]

ومتى تلفظ بثلاث تطليقات مع الشرائط كلها وقعت واحدة، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا يقع الثلاث، وفي أصحابنا من يقول متى تلفظ بالثلاث لا يقع شئ، وذلك محمول على أنه إذا لم يحصل جميع شرائط الطلاق. والعمل على ما قدمناه. ومتى طلقها في الحيض والحال ما ذكرناه فلا يقع طلاقها لانه خلاف المأمور به، وهو منهي عنه والنهي يدل على فساد المنهي عنه. وعند الفقهاء أنه يقع الطلاق وان كان بدعة. ولم يبين المفسرون معنى اللام في قوله ” لعدتهن ” وكيف صار هذا اللفظ عبادة عما فسروه به من أن المراد طاهر من غير جماع. والقول في ذلك أن اللام لام العلة والسبب. فان قيل: علة الفعل ما يولد عنه، يعني الفعل يتولد من العلة ولم يتولد الطلاق من العدة وانما تولد من ايثار الزوج مفارقة المرأة. والجواب: ان ذلك يحتاج إلى بيان، لان في الكلام حذفا وايجازا، كأنه قال تعهدوا بطلاقهن هذه الحالة لاجل عدتهن، أي ليعتددن في الوقت، لان ابتداء عدتها الطهر الذي طلق فيه، ” ثم أحصوا عدتها ” أي احفظوا أقراءها. وان مضت الثلاثة منها ولم تراجعوهن فلا سبيل إلى المراجعة من بعد. ومثل هذا اللام قوله ” أقم الصلاة لدلوك الشمس ” (1 ولقول النبي عليه السلام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (2. وقال أبو على المرزوقي: اللام في قوله ” لعدتهن ” ظرف للطلاق بمنزلة


1) سورة الاسراء: 78. 2) وسائل الشيعة 7 / 185. *

[ 164 ]

وقت له، والدليل عليه قوله تعلى ” لاول الحشر ” (1، فجعل له أولا. وقيل العدة هنا الحيض، والمعنى فطلقوهن قبل الحيض. واحصاء العدة حفظ وقت الطلاق ثم أيام الطهر والحيض إلى ان يقع البينونة. (فصل) ثم قال تعالى ” واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ” (2 غلظ الله أمر المطلقين بالوعيد، أي لا تخروجهن زمان العدة، لانه لا يجوز اخراجها من بيتها، وأمر المطلقات ألا يخرجن باختيار أنفسهن قبل انقضاء عدتهن. وعندنا وعند جميع الفقهاء يجب عليه السكنى والنفقة والكسوة إذا كانت المطلقة رجعية، وان كانت بائنة فلا نفقة لها ولا سكنى. وقال عطا والضحاك وقتادة لا يجوز أن تخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها الا عند الفاحشة. وقال الحسن وعامر والشعبي ومجاهد وابن زيد الفاحشة ههنا الزنا تخرج لاقامة الحد، وقال ابن عباس الفاحشة البذاء على أهله، وهو المروي عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام (3. وقال قتادة الفاحشة هو النشوز، وقال ابن عمر هو خروجها قبل انقضاء العدة، وفي رواية عن ابن عباس أن كل معصية لله ظاهرة فهي فاحشة. وقوله ” تلك حدود الله ” يعني ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق والعدة وترك اخراجها من بيتها الا عند الفاحشة حدود الله، فالحدود نهايات تمنع أن يدخل في الشئ ما ليس منه أو يخرج عنه ما هو منه، فقد بين الله بالامر والنهي الحدود. ” ومن يتعد حدود الله ” أي من يتجاوز حدود الله فقد فعل ما يستحق به العقاب ويحرم معه الثواب.


1) سورة الحشر: 2. 2) سورة الطلاق: 1. 3) تفسير البرهان 4 / 345. *

[ 165 ]

ثم قال ” لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ” أي يغير رأي الزوج في محبة الطلاق فيكون تطليقه على ما أمر الله به يملك الرجعة فيما بين الواحدة والثانية وما بين الثانية والثالثة إذا لم يكن خلعا على الحرة المطلقة التى دخل بها، وقد ذكرناها. وقال الضحاك: أي لعل يحدث بعد ذلك أمر الرجعة في العدة. وقيل معناه لعل الله يحدث بعد ذلك شهوة المراجعة. ” فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ” (1 قيل أي إذا بلغن إلى القرء الثالث وذلك قرب انقضاء عدتهن، ومعناه إذا قاربن أجلهن، الذي هو الخروج من عدتهن، لانه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن، لانه عند انقضاء اجلهن لا يملك رجعتها وقد ملكت نفسها وقد بانت منه بواحدة ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره، وانما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن فأمسكوهن، بأن تراجعوهن بمعروف بما يجب لها من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة، أو فارقوهن بمعروف بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة، والمعروف عند الفراق الصداق أو المتعة وحسن الثناء. (فصل) ثم قال تعالى ” وأشهدوا ذوي عدل منكم ” فالاشهاد عندنا شرط في وقوع الطلاق، لان ظاهر الامر بذلك يقتضيه، والامر شرعا على الايجاب الا إذا دل دليل على كونه ندبا. فمتى طلق الرجل ولم يشهد شاهدين ممن ظاهره الاسلام كان طلاقه غير واقع، وان أشهد رجلا بعد آخر ولم يشهدهما في مكان واحد لم يقع أيضا طلاق، فان طلق بمحضر رجلين مسلمين ولم يقل لهما اشهدا وقع طلاقه


1) سورة الطلاق: 2. *

[ 166 ]

وجاز لهما أن يشهدا بذلك. وشهادة النساء لا تقبل في الطلاق. ومتى فقدا لم يقع الطلاق. فان قيل: ما الدليل على صحة جميع ما ذكرتم ؟ قلنا: الحجة لنا بعد الاجماع قوله ” يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ” إلى قوله ” وأشهدوا ذوي عدل منكم ” فأمر تعالى فيه بالاشهاد، وظاهر الامر في عرف الشرع كما قدمنا يقتضي الوجوب، فليس لهم أن يحملوا ذلك ههنا على الاستحباب لفقد الدليل عليه. ولا يخلو قوله ” وأشهدوا ” من أن يكون راجعا إلى الطلاق، كأنه قال إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأشهدوا، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة، أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالامساك. ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التي ليست ههنا شيئا يوقع ويفعل، وانما هو العدول عن الرجعة، وانما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها، فتبين بالطلاق السابق. على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة، وظاهر الامر في الشرع يقتضي الوجوب. ولا يجوز أن يرجع الامر بالشهادة إلى الرجعة، لان أحدا لا يوجب فيها الاشهاد وانما هو يستحب فيها. فثبت أن الامر بالاشهاد راجع إلى الطلاق. فان قيل: كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما ؟ قلنا: إذا لم يلق الا بالطلاق وجب عوده إليه مع قرب وبعد. فان قيل: أي فرق بينكم في حملكهم هذ الشرط على الطلاق وهو بعيد منه في اللفظ وهو مجاز وعدول عن الحقيقة، وبيننا إذا حملنا الامر بالاشهاد ههنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام. قلنا: حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع


[ 167 ]

بلا دليل، ورد الشرط إلى ما بعد عنه إذا لم يلق بما قرب ليس بعدول عن الحقيقة ولا استعمال التوسع والتجوز في القرآن، والخطاب كله مملوء من ذلك، قال الله تعالى ” انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه ” (1. والتسبيح – وهو متأخر في اللفظ – لا يليق الا بالله دون رسوله. ثم قال ” وأقيموا الشهادة لله ” (2 أي لوجه الله خالصا لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الاغراض سوى اقامة الحق ودفع الظلم. ” ذلكم يوعظ به ” أي ذلكم الحث على اقامة الشهادة لوجه الله ولاجل القيام بالقسط يوعظ به ” ومن يتق الله ” جملة اعتراضية. (فصل) وقد فسرنا الايات المتصلة بها إلى قوله تعالى ” أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ” (3 يقول الله مخاطبا لمن طلق زوجته بأمره أن يسكنها حيث يسكن هو. وقد بينا أن السكنى والنفقة يجبان للرجعية بلا خلاف، أما البينونة فلا سكنى لها ولا نفقة عندنا الا إذا كانت حبلى. وهو مذهب الحسن. وقد روت فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا نفقة للمبتوتة (4. وقال الشافعي ومالك لها السكنى بلا نفقة، وقال أهل العراق لها السكنى


1) سورة الفتح: 8. 2) سورة الطلاق: 2. 3) سورة الطلاق: 6. 4) البت: القطع، والمبتوتة هنا بمعنى المقطوعة عن حبل النكاح، لانها بائنة لا يمكن الرجوع الا بنكاح جديد، فكأن عصمة الزوجية انقطعت تماما بينها وبين زوجها – انظر النهاية لابن الاثير 1 / 92. *

[ 168 ]

والنفقة معا، وبه قال ابن مسعود وعمر. وقوله ” من وجدكم ” أي ملككم – قاله السدي. وقال ابن زيد هو إذا قال صاحب المسكن لا أنزل هذه في بيتي وليس من وجده، ويجوز له حينئذ أن ينقلها إلى غيره. والوجد ملك ما يجده المالك له، وذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه وقد يملك ما هو حاضر له، فذلك وجده. ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون أسكنوهن أمرا بالانفاق عليهن، أي نزلوهن منزلة أنفسكم من وجدكم ولينفق كل واحد عليهن على قدرغناه وفقره. ولفظ ” الاسكان ” و ” الاحلال ” و ” الانزال ” على ما قلنا يستعمل كثيرا في هذا المعنى، يقال أحلني فلان من نعمته محل نفسه أي أشركني فيها حتى شاطرنيها. وذلك أولى، لان الامر بالسكنى قد تقدم من قوله ” لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن “. ثم قال ” ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ” معناه لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة وتضيقوا عليهن في السكنى والنفقة ليخرجن، أي لا تؤذوهن فتحوجوهن إلى الخروج، أمر الله بالسعة. وقد تكون المضارة من واحد، كما يقال طارقت النعل، ويمكن أن يكون ههنا من كل واحد منهما لصاحبه. والتضييق قد يكون في الرزق وفي المكان وفي الامر. ” وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ” أمر من الله بالانفاق على الحامل المطلقة إذا كانت مبتوتة، ولا خلاف في ذلك. وانما يجب أن ينفق عليها بسبب ما في بطنها، وانما يسقط نفقتها بالوضع.


[ 169 ]

(باب) (عدة المتوفى عنها زوجها وعدة المطلقة على اختلاف أحوالها) قال الله تعالى ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ” (1. أمر تعالى أن يكون عدة كل متوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها حرة كانت أو أمة، لان الله لم يخص. فان كانت حبلى فعدتها أبعد الاجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة الاشهر والعشرة أيام، وهو المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام (2، ووافقنا في الامة الاصم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وقالوا عدة الامة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام. واليه ذهب قوم من أصحابنا. وقالوا في عدة الحامل أنها بوضع الحمل، وعندنا ان وضع الحمل يختص عدة المطلقة. والذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابها الزينة والكحل والاثمد وترك النقلة عن المنزل في قول ابن عباس، وقال الحسن ان الواجب عليها الامتناع من الزوج لا غير. وعندنا أنه يجوز لها ان تبيت في الدار التي مات فيها زوجها حيث شاءت وعليها الحداد إذا كانت حرة، وان كانت أمة فليس عليها حداد. والحداد هو ترك الزينة وأكل ما فيه الراحة الطيبة وشمه. فان احتج مخالفنا في هذا بظاهر قوله تعالى ” وأولات الاحمال أجلهن أن * (هامش) 1) سورة البقرة: 234. 2) وسائل الشيعة 15 / 419. *


[ 170 ]

يضعن حملهن ” (1 وانه عام في المتوفى عنها زوجها وفي غيرها. عارضناهم بقوله ” والذين يتوفون منكم ” الاية وانه عام في الحامل وغيرها. ثم لو كانت آياتهم التى ذكروها عامة الظاهر، جاز أن نخصها بدليل، وهو اجماعنا الامامية، وفيه الحجة. (فصل) وقوله تعالى ” الذين ” رفع بالابتداء، و ” يتوفون منكم ” صلة الذين، ” يذرون أزواجا ” عطف عليه. وخبر الذين قيل فيه أربعة أقوال: أحدها: أن كون الجملة على تقدير والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربصن. الثاني: يتربصن بعدهم، أي يتربصن أزواجهم بعدهم. الثالث: أن يكون الضمير في يتربصن لما عاد إلى مضاف في المعنى كان بمنزلته على تقدير يتربصن أزواجهم. هذا قول الزجاج، والاول قول أبي العباس والثاني قول الاخفش. ونظيره قول الزجاج أن يقول إذا مات وخلف ابنتين ترثان الثلثين بالفرض، المعنى ترث ابنتاه الثلثين. الرابع: أن يعدل عن الاخبار عن الزوج، لان المعنى على والفائدة فيه. ذهب إليه الكسائي والفراء، وأنكره أبو العباس والزجاج لانه لا يكون مبتدأ لا خبر له ولا خبر الا عن مخبر عنه. و ” يذرون أزواجا ” أي يتركونها. فان قيل: كيف قال ” وعشرا ” وانما العدة بالايام والليالي، ولذلك لم يجز أن يقول عشرا من الرجال والنساء. قيل: لتغليب الليالي على الايام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره، لان ابتداء


1) سورة الطلاق: 4. *

[ 171 ]

شهور الاهلة الليالي عند طلوع الهلال، فلما كانت أوائل غلبت لان الاوائل أقوى من الثواني. ولا يقدح هذا في قولهم. إذا اختلط الذكر والانثى كان الغلبة للذكر. قال ابن المسيب وأبو العالية: انما زاد الله تعالى هذه العشرة على أربعة أشهر لان فيها ينفخ الروح على الولد. ومعنى التربص أن تحبس نفسها عن الازواج وتترك الزينة والطيب. (فصل) وهذه الاية التي قدمناها ناسخة لقوله تعالى ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج ” (1 وان كانت هذه مقدمة عليها في التلاوة. ولا خلاف في نسخ العدة سنة كاملة، الا أن أبا حذيفة قال: العدة أربعة أشهر وعشرا وما زاد على الحول يثبت بالوصية والنفقة، فان امتنع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها. وأما حكم الوصية عندنا فباق لم ينسخ وان كان على وجه الاستحباب. وحكي عن الحسن أنها منسوخة بآية الميراث فلا وصية لوارث. وهذا فاسد، لان آية الميراث لا تنافي الوصية، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها. فمن نصب ” وصية ” فالتقدير فليوصوا وصية، والرفع أي فعليهم وصية أو لازواجهم وصية. وقيل لا يجوز غير الرفع، لانه لا يمكن الوصية بعد الوفاة، ولان الفرض كان لهن وصوا أو لم يوصوا. قال الرماني: وهذا غلط، لان المعنى والذين يحضرهم الوفاة منكم، ولذلك قال تعالى ” يتوفون ” على لفظ الحال الذي يتطاول.


1) سورة البقرة: 240. *

[ 172 ]

وأما قوله الفرض كان لهن وان لم يوصوا. فقد قال قتادة والسدي انما كان لهن بالوصية. على أنه لو كان على ما زعم لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة ان فرط الزوج في الوصية. ” ومتاعا إلى الحول غير اخراج ” كأنه قال متعوهن متاعا في مساكنهن لا اخراجا، ويجوز أن تكون الاقامة في مساكنهن. قال الحسن: ” فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف ” دليل على سقوط النفقة والسكنى بالخروج، لانه انما جعل لهن ذلك بالاقامة إلى الحول، فان خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالاقامة. وانما احتاج إلى هذا التخريج من يوجب النفقة للمعتدة عن الوفاة، فأما من قال لا نفقة لها ولا سكنى فلا يحتاج إلى ذلك. وهو مذهبنا، لان المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها، فان كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ولدها الذي في بطنها. وقد قدمنا أن الرجل إذا طلق زوجته قبل الدخول بها ما لم يكن عليها منه عدة وكذلك التي لم تبلغ المحيض ومثلها لا تحيض إذا طلقها – وحد ذلك ما دون تسع السنين – لم يكن عليها منه عدة وان دخل بها. وكذلك ان كانت آيسة ومثلها لا تحيض فليس عليها من عدة إذا طلقها وان كانت مدخولا بها. والدليل على هاتين المسألتين من القرآن ما ذكرناه من قبل. ويمكن أن يستدل بقوله تعالى ” وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ” (1 الاية، على أن لا عدة على من لم يدخل بها، وقد صرح تعالى بذلك في قوله ” يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تماسوهن


1) سورة البقرة 237. *

[ 173 ]

فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ” (1. فأما من طلق من تحيض حيضا مستقيما فعدتها ثلاثة أطهار، لقوله تعالى ” والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء ” (2، وانما أطلق سبحانه الكلام ههنا اطلاقا ولم يقيد لان الاغلب في العادة أن تكون المرأة مستقيمة الحيض، وما سوى هذه الحالة يكون نادرا. وإذا طلقها وهي حامل فعدتها أن تضع حملها، لقوله تعالى ” وأولات الاحمال أجلهن أن يضعهن حملهن ” (3. والايسة من المحيض وفى سنها من تحيض والتي لا تحيض وفي سنها من تحيض فعدة كل واحدة منهما إذا كانت حرة ثلاثة أشهر إذا طلقها زوجها، وقد بينا حكمها من قبل، يدل عليه قوله ” واللائى يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم ” الاية. والحرة إذا كانت تحت مملوك فعدتها مثل عدتها إذا كانت تحت حر لا يختلف الحكم فيه. لان الله تعالى لم يفصل في كتابه بين الحالتين. والامة إذا كانت تحت حر وطلقها فعدتها قرآن ان كانت ممن تحيض، وان كانت لا تحيض ومثلها تحيض فعدتها خمسة وأربعون يوما. واستدل عليه بعض المفسرين بقول ” فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ” (4 وقال: هذا على العموم. هذا كله إذا كانت الحرة والامة مدخولا بها. والامة إذا كانت أم ولد وتوفي عنها زوجها فعدتها مثل عدة الحرة، وان


1) سورة الاحزاب: 49. 2) سورة البقرة: 228. 3) سورة الطلاق: 4. 4) سورة النساء: 25. *

[ 174 ]

كانت مملوكة ليست أم ولد فعدتها فعدتها شهران وخمسة أيام. والتي لم يدخل بها إذا مات عنها الزوجل فعدتها أربعة أشهر وعشرا، لعموم قوله تعالى ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ” (1. ويجب على ورثته أن يعطوها المهر كملا. ويستحب لها أن تترك نصف المهر، وان لم تفعل كان لها المهر كله. (باب) (كيفية الطلاق الثلاث) (وحكم المراجعة والتراجع والعضل) قوله تعالى ” الطلاق مرتان ” (2 يدل على صحة قولنا الطلاق الثلاث لا يقع بلفظ واحد، فانه تعالى لم يرد بذلك الخبر، لانه لو أراده لكان كذبا، وانما أراد الامر، فكأنه تعالى قال طلقوهن مرتين، ويجري مجرى قوله ” ومن دخله كان آمنا ” (3، والمراد يجب أن تؤمنوه. والمرتان لا تكون الا واحدة بعد واحدة. ومن جمع الطلاقين في كلمة واحدة [ لا يكون مطلقا مرتين، كما أن من أعطى درهمين مرة واحدة ] (4 لم يعطها مرتين. فان قيل: العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق، مثاله إذا قال ” له علي مائة درهم مرتان “، وإذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق، مثاله ” إذا دخل الدار مرتين فاضربه ضربتين “، والعدد في الاية عقيب اسم لا فعل.


1) سورة البقرة: 234. 2) سورة البقرة: 229. 3) سورة آل عمران: 97. 4) الزيادة من ج. *

[ 175 ]

قلنا: قد بينا أن قوله ” الطلاق مرتان ” معناه طلقوا مرتين، والعدد عقيب فعل لا اسم صريح. فان قيل: إذا كان الثلاث لا تقع فأي معنى لقوله تعالى ” لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ” وانما المراد انك إذا خالفت السنة في الطلاق وجمعت بين الثلاث وتعديت ماحده الله تعالى لم تأمن أن تتوق نفسك إلى المراجعة فلا تتمكن منها. قلنا: قوله ” لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ” مجمل غير مبين، فمن أين أنه أراد ما ذكرتم، والظاهر غير دال على هذا الامر الذي يحدثه الله. والاشبه بالظاهر أن يكون ذلك الامر الذي يحدثه الله متعلقا بقوله ” ومن يتعد حدود الله ” لانه قال ” تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ” فيشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدثه الله من عقاب يعجله الله في الدنيا على من تعدى حدوده، وهذا أشبه مما ذكروه. وأقل الاحوال أن يكون الكلام يحتمله، فسقط تعلقهم. وقيل: يتعلق قوله ” لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ” بالنهي عن اخراجهن من بيوتهن لعله يبدو له في المراجعة. وهذا أيضا يحتمل، فمن أين أن المراد ما ذكره. (فصل) وأبان سبحانه بقوله ” الطلاق مرتان ” عدد الطلاق، لانه كان في صدر الاسلام بغير عدد. قال قتادة: كان الرجل يطلق امرأته في صدر الاسلام ما شاء من واحدة إلى عشر ويراجعها في العدة، فنزل قوله تعالى ” الطلاق مرتان ” يعني طلقتين. ” فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ” فبين أن عدد الطلاق ثلاثة، فقوله ” مرتان ” اخبار عن طلقتين بلا خلاف، واختلفوا في الثالث: فقال ابن عباس


[ 176 ]

” أو تسريح باحسان ” الطلقة الثالثة، وقال غيره ” فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ” التطليقة الثالثة، وهو الاقوى. وقيل في قوله ” الطلاق مرتان ” قولان: أحدهما: ما قاله ابن عباس ومجاهد ان معناه البيان عن تفصيل الطلاق في السنة، وهو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع تطليقة واحدة ثم يتركها حتى تخرج من العدة. والثاني: ما قاله عروة وقتادة أن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة مما لا يوجبها. وفي الاية بيان أنه ليس بعد التطليقتين الا الفرقة الباينه. وقال الزجاج في الاية حذف، لان التقدير عدد الطلاق الذي يملك فيها الرجعة مرتان، بدلالة قوله ” فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ” والمرتان هما دفعتان. ومعنى قوله ” فامساك ” أي فالواجب عليه امساك، والامساك خلاف الاطلاق. قال الزجاج ظاهره خبر ومعناه أمر، كأنه قال فليمسكها بعد ذلك بمعروف، أي بما يعرف به اقامة الحق في امساك المرأة أو تخلية سبيلها بوجه حسن. وقوله ” بمعروف ” أي على وجه جميل سائغ في الشريعة لا على وجه الاضرار بهن. وقوله ” أو تسريح باحسان ” قيل فيه قولان: أحدهما: انها الطلقة الثالثة، وروي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة ؟ فأجابه عليه السلام: أو تسريح باحسان (1. وقال السدي والضحاك هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو المروي


1) الدر المنثور 1 / 277. *

[ 177 ]

عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام (1. والتسريح مأخوذ من السرح، وهو الانطلاق. وقد ذكرنا أن اصحابنا استدلوا بهذه الاية على أن الطلاق الثلاث لا تقع بمرة، لانه تعالى قال ” الطلاق مرتان ” ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنه قوله ” أو تسريح باحسان ” أو قوله ” فان طلقها فلا تحل له من بعد “. ومن طلق بلفظ واحد فلا يكون أتى بالمرتين ولا بالثالثة، كما أنه لما أوجب في اللعان أربع شهادات فلو أتى بلفظ واحد لما وقع موقعه، وكما لو رمى بسبع حصيات في الجمار دفعة واحدة لم يكن مجزيا له، فكذا الطلاق. ومتى ادعوا في ذلك خبرا فعليهم أن يذكروه لنتكلم عليه. (فصل) أما قوله ” فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ” فالمعنى فيه التطليقة الثالثة على ما روي عن ابى جعفر عليه السلام (2، وبه قال الضحاك والسدي والجبائي والنظام وغيرهم. وقال مجاهد: هو تفسير لقوله ” أو تسريح باحسان “، فانه التطليقة الثالثة، وهو اختيار الطبري. وقوله ” فان طلقها ” يعني الزوج ان بانت منه – بأن يختر أن يراجعها في الثالث ” فلا تحل له ” أي فلا يجوز نكاحها ولا جماعها ” حتى تنكح زوجا غيره ” أي حتى تتزوج زوجا آخر فيطأها ذلك الزوج، لان المراد بالنكاح التزويج ههنا الجماع لا التزويج وان كان الاصل في النكاح التزوج، لانهم أجمعوا على أنه


1) تهذيب الاحكام 8 / 25 – 27. 2) تفسير البرهان 1 / 223. *

[ 178 ]

ان تزوجت ولم تجامع لم تحل لنكاح الزوج الاول. وأهل المدينة اختلفوا في النكاح ءأصله الجماع أم التزويج، وعند اكثر الكوفيين ان اصله الجماع، وتسمية التزويج به كما يسمى الشئ باسم ما هو من سببه (1. وصفة الزوج الذي تحل المرأة للزوج الاول أن يكون بالغا، ويعقد عليها عقدا صحيحا دائما، ويذوق عسيلتها (2 بأن يطأها وتذوق عسيلته بلا خلاف بين أهل العلم. ولا يجوز لاحد أن يتزوجها في العدة، فأما العقود الفاسدة أو عقود الشبهة فانها لا تحل للزوج الاول. ومتى وطئها بعقد صحيح في زمان يحرم فيه وطئها – مثل أن تكون حائضا أو محرمة أو معتكفة – فانها تحل للاول، لان الوطئ يدخل في نكاح صحيح وانما حرم الوطئ لامر طارئ عليه. هذا عند اكثر أهل العلم، وقال مالك الوطئ في الحيض لا يحل للاول وان وجب به المهر كله والعدة. ثم قال تعالى ” فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ان ظنا أن يقيما حدود الله “. بين سبحانه أن الزوج الثاني ان طلقها فلا حرج على الزوج الاول إذا خرجت هي من عدة الزوج الثاني ورأيا أمارة الخير بينهما وظنا الصلاح لانفسهما بعد ذلك في التزويج أن يتراجعا بعقد مستأنف.


1) قال ابن فارص: النون والكاف والحاء اصل واحد، وهو البضاع، ونكح ينكح، وامرأة ناكح في بنى فلان أي ذات زوج منهم، والنكاح يكون العقد دون الوطئ، يقال نكحت تزوجت وانكحت غيرى – معجم مقابيس اللغة 5 / 475. 2) في الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل، وصغرت بالهاء لان الغالب على العسل التأنيث. ويقال انما أنث لانه أراد به العسلة وهى القطعة منه، كما يقال للقطعة من الذهب ذهبة. قال الصغانى: وقيل ان العسيلة مصغرة ماء الرجل نفسه، والنطفة تسمى عسيلة ” ه‍ “. *

[ 179 ]

وموضع ” أن يتراجعا ” خفض عند الخليل، وتقديره في أن يتراجعا، وقال الزجاج موضعه النصب. وموضع أن الثانية نصب بلا خلاف يظن. وانما جاز حذف في من ” أن يتراجعا ” لطولها بالصلة، ولو كان مصدرا لم يجز. وقوله تعالى ” فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ” يدل على أن الوطئ في عقد الشبهة لا يحل للزوج الاول، لان الطلاق لا يلحق نكاح الشبهة، وانما جعل الظن شرطا لانه في المستقبل فلا يحصل العلم به. ومعناه ان عرفا من أخلاقهما وطرائقهما ما يقوي في ظنونهما أنهما يقومان بحدود الله تعالى. (فصل) وقوله تعالى ” الطلاق مرتان فامساك بمعروف ” (1 يدل على صحة المراجعة بعد التطليقة الاولى وقيل انقضاء العدة، وكذلك يدل على صحة المراجعة بعد التطليقة الثانية قبل انقضاء العدة، من غير اعتبار رضا المرأة إذا لم يكن خلعا، لانه تعالى قال ” فامساك بمعروف ” وهو المراجعة ولم يعتبر رضاها. والتراجع الذي ذكره الله تعالى في قوله ” فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ” (2 هو أن يتعاقدا بعد العدة من موت الزوج الثاني أو طلاقه بمهر جديد وعقد مستأنف، ورضاها لابد منه ههنا، لانه الان خاطب من الخطاب وهى أجنبية، وقد أشار إليه بقوله ” ان يتراجعا “. واعتبر ههنا في التراجع فعليهما وما اعتبر في التراجع هناك بقوله ” فامساك ” الا فعله. ثم قال تعالى ” وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ” (3 والمعنى إذا بلغن قرب انقضاء


1) سورة البقرة: 229. 2) سورة البقرة: 230. 3) سورة البقرة: 231. *

[ 180 ]

عدتهن، لان بعد انقضاء العدة ليس له امساك. والامساك أيضا ههنا هو المراجعة قبل انقضاء العدة، وبه قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، على هذا يقال لمن دنا من البلد فلان بلغ البلد. والمراد بالمعروف ههنا الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع للمعرفة بصحته خلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع لاستحالة المعرفة بصحته، فما يجوز المعرفة بصحته معروف ومالا يجوز المعرفة بصحته منكر. والمراد به ههنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه له من القيام بما يجب لها من النفقة وحسن العشرة وغير ذلك، ولا يقصد الاضرار بها. (فصل) وقوله تعالى ” ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ” معناه لا ترجعونهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الاصرار بهن، اما في تطويل العدة أو طلب المعاداة أو غير ذلك، فانه غير جائز. ويجوز أن يكون المراد بالمضارة التضييق عليها في العدة في النفقة والمسكن، كما قال ” أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ومن يفعل ذلك ” أي المراجعة للضرر ” فقد ظلم نفسه ” (1 فالاشارة إلى الامساك ضرارا. ” ولا تتخذوا آيات الله هزوا ” يعنى ما ذكره من الاحكام في النكاح والطلاق مما يجوز فيه المراجعة، ومالهم على النساء من التربص حتى يفيؤا أو يوقعوه مما ليس لهم وغير ذلك، أي لا يتركوا العمل بحدود الله فيكونوا مقصرين، كما يقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه ويتوانى فيه انما انت لاعب.


1) سورة الطلاق: 6. *

[ 181 ]

وروي عن ابى الدرداء وابى موسى: كان الرجل يطلق أو يعتق ثم يقول انما كنت لاعبا، [ فأعلم الله أن فرائضه لا يجوز اللعب فيها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: من طلق لاعبا أو اعتق لاعبا ] (1 فقد جاز عليه. لان لحاكم يجب عليه الحكم على ظاهر الشرع إذا شهد البينة. والاولى أن يكون المراد لا تستخفوا بآيات الله وفروضه ولا تتخذوا آيات الله هزوا، أي ذات استهزاء بها. وهذا توكيد، كأنه قال اعملوا، عليها ولا تستهينوا بها. (فصل) ثم قال ” وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ” (2. قال قتادة والحسن: ان هذه الاية تزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته ان ترجع إلى الزوج الاول، فانه كان طلقها وخرجت من العدة ثم أرادا أن يجتمعا بعقد آخر على نكاح آخر، فمنعه من ذلك فنزلت الاية فيه. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عم له (3. والوجهان لا يصحان على مذهبنا، لان عندنا أنه لا ولاية للاخ ولا لابن العم عليها، وانما هي ولية نفسها فلا تأثير لعضلهما. والوجه في ذلك أن تحمل الاية على المطلقين، لانه خطاب لهم بقوله تعالى ” وإذا طلقتم النساء “، فكأنه قال لا تعضلوهن بأن تراجعوهن عند قرب انقضاء عدتهن ولا رغبة لكم فيهن وانما تريدون الاضرار بهن، فان ذلك مما لا يسوغ في الدين والشرع كما قال في الاولى


1) الزيادة من م. 2) سورة البقرة: 232. 3) اسباب النزول للواحدي ص 50 – 51. *

[ 182 ]

” ولا تمسكوهن ضرارا لتعدوا ” (1. ولا يطعن على ذلك بقوله ” أن ينكحن أزواجهن ” لان المعنى فيه من يصير أزواجهن، كما أنهم لابد لهم من ذلك إذا حملوا على الزوج الاول، لان بعد انقضاء العدة لا يكون زوجا، ويكون المراد من كان أزواجهن فما لهم الا مثل ما عليهم. ويجوز أن يحمل العضل في الاية على الجبر والحيلولة بينهن وبين التزويج دون ما يتعلق بالولاية، لان العضل هو الحبس والمنع والضيق (2. وهذا الوجه حسن، وتقدير أن ينكحن من أن ينكحن، فمحل ” أن ” جر عند الخليل ونصب عند سيبويه. وانما قال ” ذلك ” ولم يقل ذلكم كما تقدم من قوله ” طلقتم ” لان تقديره ذلك يا محمد أو يا أيها القبيل. ” يوعظ به من كان يؤمن “، وانما خص المؤمن بالوعظ لانه ينتفع به فنسب إليه كما قال ” هدى للمتقين ” ولانه أولى بالاتعاظ. (فصل) قال الله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ” (3. اختلفوا في معنى ذلك:


1) هذا الكلام مأخوذ من مجمع البيان 1 / 332. 2) العضل هو الشدة والالتواء في الامر، وعليه تتفرع المعاني المذكورة في الكتاب – أنظر معجم مقاييس اللغة 4 / 345. 3) سورة النساء: 19. *

[ 183 ]

فقال الزهري والجبائي وغيرهما: هو أن يحبس الرجل المرأة عنده لا حاجة له إليها وينتظر موتها حتى يرثها فنهى الله عن ذلك، وهو المروي عن ابى جعفر عليه السلام (1. وقال الحسن ومجاهد: معناه ما كان يعمله أهل الجاهلية من أن الرجل إذا مات وترك امرأته قال ابنه من غيرها أو وليه ورثت امرأته كما ورثت ماله فألقى عليها رداءه أنها امرأته على العقد الذي كان مع أبيها ولا يعطيها شيئا، وان شاء زوجها وأخذ صداقها. روى ذلك أبو الجارود عن الباقر عليه السلام، قال ابو مجلث: ثم كان هو بالميراث أولى بها من ولي نفسها (2. أما قوله تعالى ” فلا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ” قيل فيمن عني بهذا النهي أربعة أقوال: أحدها: قال ابن عباس هو الزوج، أمره الله بتخلية سبيلها إذا لم يكن لها فيه حاجة ولا يمسكها اضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها. الثاني: قال الحسن هو الوارث، نهى عن منع المرأة من التزويج كما يفعله الجاهلية على ما بيناه. الثالث: قال مجاهد المراد الولي. الرابع: قال ابن يزيد المطلق يمنعها من التزويج كما كانت قريش تفعل في الجاهلية، ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فإذا لم توافقه فارقها ان لا تتزوج الا باذنه ويشهد عليها بذلك ويكتب كتابا، فإذا خطبها خاطب فان أعطته وأرضته أذن لها وان لم تعطه عضلها فنهى الله عن ذلك. والاول أظهر الاقاويل. والعضل هو التضييق بالمنع من التزويج.


1) انظر تفسير البرهان 1 / 355. 2) تفسير البرهان 1 / 355. *

[ 184 ]

وقوله تعالى ” الا أن يأتين بفاحشة مبينة ” قيل فيه قولان: أحدهما ما قال الحسن أنه يعني به الزنا، وقال انه إذا أطلع منها على ريبة فله أخذ الفدية. الثاني قال ابن عباس هو النشوز. والاولى حمل الاية على كل معصية، لان العموم يقتضي ذلك، وهو المروي عن ابى جعفر عليه السلام (1. قوله ” لا تعضلوهن ” يحتمل أن يكون جزما بالنهي ويحتمل أن يكون نصبا بالعطف على ” أن يرثوا النساء كرها “، ويقرأ بهذا التقدير عبد الله: ولا أن تعضلوهن باثبات أن. وقيل في سبب نزول هذه الاية ان أبا قيس بن الاسلت لما مات عن زوجته كبشة بنت معن بن عاصم (2 أراد ابنه أن يتزوجها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت هذه الاية – ذكره أبو جعفر عليه السلام وغيره (3. (فصل) ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بأداء حقوقهن التي أوجبها عليهم من امساك بمعروف أو تسريح باحسان، فقال ” وعاشروهن بالمعروف ” أي خالطوهن وخالقوهن، من العشرة التي هي المصاحبة ” فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ” يعني في امساكهن على كره منكم، خيرا كثيرا من ولد يرزقكم أو عطفكم عليهن بعد الكراهية. والهاء في ” فيه ” يحتمل أن


1) تفسير البرهان 1 / 355. 2) كذا في النسختين، وفى المصدر ” كبيثة بن معمر بن معبد “، وهو غير صحيح – انظر الاصابة 4 / 383. 3) تفسير البرهان 1 / 355. *

[ 185 ]

أن يرجع إلى قوله ” شيئا ” ويحتمل أن يعود إلى الذي تكرهونه. ” وان اردتم استبدال زوج مكان زوج ” المعنى ان أردتم تخلية المرأة، سواء استبدلت مكانها أو لم تستبدل. وانما خص الله الاستبدال بالنهي لان مع الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع لما اعطي من حيث أن الثانية تقوم مقام الاولى، فيكون لها ما أعطته الاولى، فيبين الله أن ذلك لا يجوز. ومعنى قوله تعالى ” وآتيتم احداهن قنطارها ” ليس ما أعطيتموهن موقوفا على التمسك بهن دون تخليتهن، فيكون إذا أردتم الاستبدال جاز لكم أخذه، بل هو تمليك صحيح الرجوع فيه. والمراد بذلك ما أعطي المرأة مهرا لها ويكون دخل بها، فأما إذا لم يدخل بها وطلقها جاز له أن يسترجع نصف ما أعطاها. فأما ما أعطاها على وجه الهبة فظاهر الاية يقتضي أنه لا يجوز الرجوع في شئ منه، لكن علمنا بالسنة أن ذلك سائغ له ولو كان مكروها. والقنطار المال الكثير، قيل هو دية الانسان، وقيل هو ملء جلد ثور ذهبا. ” وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض “. وقال السدي وابن زيد: هذه الاية منسوخة بقوله ” الا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ” (1 الاية. والصحيح أنها محكمة ليست منسوخة، إذا لا يتنافى حكما الايتين، لان الزوج يجوز له أن يأخذ الفدية من المختلعة، لان النشوز فيها هو في حكم المكره، في الاية الاخرى الزوج مختار للاستبدال، فلا حاجة إلى نسخ احداهما بالاخرى. والافضاء في الاية كناية عن الجماع قال ابن عباس ومجاهد والسدي، وقيل انه الخلوة وان لم يجامع، فليس له أن يسترجع نصف المهر مع الجماع ومع الدخول في الثيب، وأما البكر فان خلا بها ووجدت بخاتم ربها من بعد فلها نصف المهر. وكلتا الروايتين رواهما أصحابنا واختلفوا فيه، والاول أقوى


1) سورة البقرة: 229. *

[ 186 ]

لان الافضاء كناية عن الجماع. وقوله تعالى ” وأخذن منكم ميثاقا غليظا ” قيل هذا الميثاق قوله ” امساك بمعروف أن تسريح باحسان ” وهو المروي عن ابى جعفر عليه السلام (1. وقال مجاهد: هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج (2، وهذا الكلام وان كان ظاهره الاستفهام فالمراد به التهديد والتوبيخ. (باب) (ما يجب على المرأة في عدتها) نستدل أولا على أن عدة الحامل وضعها، ثم نشرع في ذكره. ان قيل: ما حجتكم على أن عدة المطلقة إذا كانت حاملا هي وضعها الحمل دون الاقراء، فان احتججتم بقوله ” وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ” (3 عورضتم بعموم قوله ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” (4 ؟ الجواب عنه: انه لا خلاف بين العلماء في أن آية وضع الحمل عامة في المطلقة وغيرها وأنها ناسخة لما تقدمها، ومما يكشف عن ذلك أن قوله ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ” انما هو في عدة غير الحامل، فان من استبان حملها لا يقال فيها [ لا يحل لها أن تكتم ما خلق الله في رحمها، وإذا كانت هذه خاصة ] (5 في غير الحوامل لم يعارض أنه الوضع، وهي عامة في كل حامل من مطلقة وغيرها.


1) تفسير البرهان 1 / 355. 2) هذا التفسير ايضا مروى عن ابى جعفر الباقر عليه السلام – انظر المصدر السابق. 3) سورة الطلاق: 4. 4) سورة البقرة: 228. 5) الزيادة من ج. *

[ 187 ]

وقيل في معنى قوله تعالى ” ولا يحل فهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ” ثلاثة أقوال: أحدها قال ابراهيم الحيض، وثانيها قال قتادة الحبل، وثالثها قال ابن عمر هو الحبل والحيض. وبه قال الحسن، وهو الاقوى لانه أعم (1. وانما لم يحل لهن الكتمان لظلم الزوج بمنعه المراجعة في قول ابن عباس، وقال قتادة لنسبة الولد إلى غير والده كفعل الجاهلية. ثم شرط بقوله ” ان كن يؤمن بالله واليوم الاخر ” أي من كانت مؤمنة فهذه صفتها لا أنه يلزم المؤمنة دون غيرها. وخرج ذلك مخرج التهديد. ثم قال ” وبعولتهن أحق بردهن ” يعني أزواجهن أحق برجعتهن، وذلك يختص الرجعيات وان كان أول الاية عاما في جميع المطلقات الرجعية والبائنة، ويسمى الزوج بعلا لانه عال على المرأة بملكه لزوجيتها. وقوله تعالى ” ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف “. قال الضحاك: لهن من حسن العشرة المعروف على أزواجهن مثل ما عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لهم. وقال ابن عباس: لهن على أزواجهن من التصنيع والبر بهن مثلما لازواجهن عليهن. وقال الطبري: على أزواجهن ترك مضارتهن كما أن ذلك عليهن لازواجهن. ثم قال ” وللرجال عليهن درجة ” أي فضيلة: منها الطاعة، ومنها أنه يملك التخلية، ومنها زيادة الميراث على قسم المرأة والجهاد. هذا قول مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس: منزلة في الاخذ عليها بالعضل في المعاملة حتى قال ” ما أحب أن استوفي منها جميع حقي ليكون لي عليها الفضيلة والدرجة والمنزلة “. وقيل ان في الاية نسخا، لان التي لم يدخل بها لا عدة عليها بلا خلاف إذا طلقت، قال الله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ” إلى قوله ” فمالكم * (هامش) 1) وهو المروى عن الصادق عليه السلام – انظر مجمع البيان 1 / 326. *


[ 188 ]

عليهن من عدة تعتدونها ” (1 ولان الحامل عدتها وضع ما في بطنها لقوله تعالى ” وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ” (2. (فصل) وجاء في التفسير أن الذي حرم على المرأة كتمانه مما خلق الله في رحمها هو الولد، وهو أن تكون حبلى فتكتم الحبل لتطلق فتتزوج زوجا تؤثره. ونهيت عن ذلك لامرين: أحدهما: أنها تلحق الولد بغير والده كما ذكرناه. والثاني: أنها تمنع الزوج فسخه في المراجعة، لان عدة الحوامل وضع الحمل، فهي أبعد مدى من مدة القرء. ويقويه قوله ” هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء ” (3 وانكر أبو علي على ابراهيم قوله انه المحيض وقال لا يكون الا الحبل، لان الدم لا يكون حيضا حتى يخرج من الرحم وإذا خرج فليس في الرحم وامر الله تعالى ان لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن. وقال محمد بن جرير: المراد الحبل الحيض ههنا، ولا معنى لصرف المعنى إلى أحدهما، كأن الغرض نهيهن عما يكون سببا لمنع حق الزوج من مراجعتها في العدة ان أراد، وكل واحد منهما كالاخر لان يوضع الحمل بتقضي العدة كما ينقضي بانقضاء القرء. الثالث: قال علي بن عيسى ان كتمت الحبل محبة لفراقه ثم علم به ردها صاغرة عقوبة لما كتمته. وقال عبد الجبار: الاية تدل على بقاء الزوجية بعد الطلاق الرجعي ما دامت


1) سورة الاحزاب: 49. 2) سورة الطلاق: 4. 3) سورة آل عمران: 6. *

[ 189 ]

في العدة، فلهذا سماهن بعولا، ولان للطلاق تأثيرا يزال بالرد ما بقيت العدة. وان الرجعة تصح من دون الاشهاد، وانما أمر الله فيها بالاشهاد احتياطا وسنة، لان الرجل كان قد أشهد على طلاقها فإذا راجع قبل انقضاء العدة ولم يشهد فان انكرت المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولم يكن للرجل بينة على المراجعة وكان لها بينة على الطلاق فرق الحاكم بينهما على ظاهر الشرع، فالاحتياط هو الاشهاد في المراجعة. ويصح من دونه لانه تعالى جعلها حقا للبعل. وله أن يراجع بغير رضاء منها، لان الله جعله أحق بذلك. ويدل الظاهر على أن له الرجعة في كل مطلقة يلزمها العدة ولا يكون تطليقا ثانيا. وقال تعالى في موضع آخر ” يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ” فلما أمر بالتطليق وان يكون بعدة تحصى بين تعالى في هذه الاية العدة ما هي فقال ” ثلاثة قروء “، قال في آيات أخر بيان العدد كلها على ما ذكرناه. وقد ذكرنا من قبل انه تعالى انما قال ” ثلاثة قروء ” ولم يقل ثلاثة أقراء على جمع القليل لانه لما كانت كل مطلقة مستقيمة الحيض على ما ذكرناه يلزمها هذا، دخله معنى الكثرة فأتى ببناء الكثرة للاشعار بذلك، فالقروء كثيرة الا أنها ثلاثة ثلاثة في القسمة. (باب) (ما يكون كالسبب للطلاق) وهو على ضربين النشوز والشقاق، ولكل واحد منهما حكم دون حكم الاخر. أما النشوز فقد قال الله تعالى ” وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا


[ 190 ]

فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ” (1 وهو أن يكره الرجل المرأة (2 وتريد المرأة المقام معه وتكره مفارقته ويريد الرجل طلاقها فتقول له: لا تفعل اني اكره أن يشمت بى، فكلما يلزمك من نفقة وغيرها لي فهو لك وأعطيك أيضا من مالي شيئا معلوما ودعني على حالتي، لا حناج عليهما أن يصالحا بينهما على هذا الصلح. ومعنى الاية ان امرأة علمت من زوجها كراهة بنفسه عنها إلى غيرها وارتفاعا بها عنها اما لبغضه واما لكراهية منه شيئا منها اما دمامتها واما سنها وكبرها أو غير ذلك. ” أو اعراضا ” يعني انصرافا بوجهه أن يبغض منافعه التي كانت لها منه ” فلا جناج ” ولا حرج عليهما أن يصطلحا بينهما صلحا، بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله والتمسك بالعقد الذي بينه وبينها من النكاح. ثم قال تعالى ” والصلح خير ” ومعناه الصلح بترك بعض الحق استدامة للخدمة وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة. وقال بعض المفسرين: الصلح خير من النشوز والاعراض، والاول أشبه. هذا إذا كان بطيبة من نفسها، فان لم يكن كذلك فلا يجوز له الا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة والنفقة والقسمة، والا يطلق. ونحوه هذه الجملة روى مخالفونا عن علي عليه السلام وعن عمر وابن عباس وعائشة وابن جبير وجماعة.


1) سورة النساء: 128. 2) النشوز بمعنى الارتفاع وطلب العلو، ويكون بين الزوجين للكراهة التى تحدث بينهما، فنشوز المرأة استعصاؤها على زوجها، ونشوز الزوج استعطاؤه عليها وضربها وجفاها والاضرار بها – لسان العرب (نشز). *

[ 191 ]

وقال ابن عباس: خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله، قالت: لا تطلقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي، فنزلت ” وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا ” (1. قال أبو جعفر عليه السلام: هي بنت محمد بن مسلمة فتزوج عليها شابة فآثر الشابة عليها، فأبت الاولى أن تقر على ذلك، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسيرا، قال: ان شئت راجعتك وصبرت على الاثرة وان شئت تركتك حتى يخلو أجلك، ثم طلقها الثانية وفعل بها مثل ما فعله أولا، فقالت: راجعني وأصبر على الاثرة، فراجعها فذلك الصلح الذي بلغنا أنزل الله فيه ” وان امرأة خافت من بعلها نشوزا ” (2. ” وأحضرت الانفس الشح ” أي أحضرت أنفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه، فشح المرأة بترك حقها من النفقة والكسوة والقسمة وغير ذلك، وشح الرجل انفاقه على التي لا يريدها. وان قيل: وان امرأة ليس فيه ان الرجل نشز على امرأة، والخوف ليس معه يقين. قلنا عنه جوابان: احدهما: ان الخوف في الاية بمعنى العلم، تقديره وان امرأة علمت. والثاني: أنها لا تخاف النشوز من الرجل الا وقد بدا منه ما يدل على النشوز والاعراض من أمارات ذلك. ثم نفى الله أن يقدر أحد على التسوية بين النساء في حبهن، لان ذلك تابع لما فيه من الشهوة وميل الطبع، وذلك من فعل الله، وليس بذلك نفي القدرة على التسوية والنفقة والكسوة.


1) انظر مجمع البيان 2 / 120. 2) تفسير علي بن ابراهيم 1 / 154 وانظر ايضا اسباب النزول للواحدي ص ؟ ؟ ؟ 12. *

[ 192 ]

ثم قال ” وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته ” المعنى ان الزوجين اللذين تقدم ذكرهما متى أبى كل واحد منهما مصالحة الاخر، بأن تطالب المرأة نصيبها من النفقة والقسمة وحسن العشرة ويمتنع الزوج من اجابتها إلى ذلك لميله إلى الاخرى ويتفرقا حينئذ بالطلاق، فان الله يغني كل واحد بفضله. (فصل) ثم قال تعالى ” الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ” (1 أي انهم يقومون بأمرهن وبتأديبهن. فدلت الاية على أنه يجب على الرجل أن يدبر أمر المرأة وان ينفق عليها، لان فضله وانفاقه معا علة لكونه قائما عليها مستحقا لطاعتها، فالصالحات مطيعات لله ولازواجهن، حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله وما يجب من رعايته وحاله وما يلزم من صيانتها نفسها لله. ” واللاتي تخافون نشوزهن ” النشوز ههنا معصية الزوج، وأصله الرفع على الزوج، من قولهم ” هو على نشز من الارض ” أي ارتفاع. والنشوز يكون من قبل المرأة على زوجها خاصة، والشقاق بينهما. ” فعظوهن ” فان رجعن والا فاهجروهن في المضاجع: وعن الباقر عليه السلام: هجر المضاجعة هو أن يحول ظهره إليها (2. وقال ابن جبير هو هجر الجماع. وقال بعضهم اهجروهن اربطوهن بالهجار أي الحبل. وهذا تعسف في التأويل، ويضعفه قوله ” في المضاجع ” ولا يكون الرباط في المضاجع. فأما الضرب فانه غير مبرح بلا خلاف. قال أبو جعفر عليه السلام: هو


1) سورة النساء: 34. 2) تفسير البرهان 1 / 367. *

[ 193 ]

بالسواك (1 ” فان أطعنكم ” فلا تطلبوا العلل في ضربهن وسوء معاشرتهن. ثم قال ” وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ” (2 ويجعلا الامر اليهما على ما يريان من الصلاح [ فان رأيا من الصلاح الجمع بينهما جمعا ولم يستأذنا ولم يكن لهما مخالفتهما، وان رأيا من الصلاح ] (3 التفريق بينهما لم يفرقا حتى يستأذنا، فان استأذنا هما ورضيا بالطلاق فرقا بينهما. وان رأى أحد الحكمين التفريق والاخر الجمع لم يكن لذاك حكم حتى يصطلحا على أمر واحد، اما جمع واما تفريق. ومعنى الاية أي ان علمتم، والاولى والاصح أن يحمل على خلاف الامن، لانه لو علم الشقاق يقينا لم يحتج إلى الحكمين، فان أريد به الظن كان قريبا مما قلناه. والشقاق الخلاف والعداوة، والحكم السلطان الذي يترافعان إليه – قاله جماعة، وقال قوم هنا وكيلان، وعندنا أنهما حكمان. والضمير في ” بينهما ” عائد إلى الحكمين، أي إذا أرادا اصلاحا في أمر الزوجين يوفق الله بيهما – قاله ابن عباس وابن جبير. (باب) (ما يؤثر في أنواع الطلاق) وهو أيضا على ضربين الخلع والمباراة. وهما يؤثران في كيفية الطلاق، فان كل واحد منهما متى حصل مع الطلاق كانت التطليقة بائنة. أما الخلع فانه يكون من جهة المرأة خاصة، ويجب إذا قالت المرأة لزوجها


1) تفسير البرهان 1 / 367. 2) سورة النساء: 35. 3) الزيادة من ج. *

[ 194 ]

ان لم تطلقني لاوطئن فراشك من تكرهه، فمتى سمع منها هذا القول أو علم هذا من حالها وان لم تنطق به وجب عليه خلعها، وقد سمى الله تعالى في كتابه الخلع افتداء فقال ” فلا جناح عليهم فيما افتدت به ” (1. والفدية العوض الذي تبذله المرأة لزوجها تفتدي نفسها منه به. وهذا هو الخلع في الشرع، وانما استعمل هذا (2 في الزوجين لان كل واحد منهما لباس لصاحبه. والاصل في الخلع الكتاب والسنة، قال تعالى ” ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ” (3 الاية. فإذا أراد خلعها اقترح عليها شيئا معلوما تعطيه، سواء كان ذلك مثل المهر الذى أعطاها أو اكثر منه أو أنقص حسبما يختاره أي ذلك فعل جاز وحل له ما يأخذ منها، فإذا تقرر بينهما على شئ معلوم طلقها بعد ذلك، وتكون تطليقة بائنة لا يملك رجعتها الا أن ترجع المرأة فيما بذلته من مالها قبل العدة (4، فان رجعت في شئ من ذلك في العدة كان له الرجوع أيضا في بعضها ما لم تخرج من العدة، فإذا خرجت من العدة لم يلتفت إليها ذا رجعت فيما بذلته ولم يكن عليها أيضا رجعة فان أراد كان بعقد جديد. أما قوله تعالى ” ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا ان يخافا ” أي الا أن يظنا، ومن ضم الياء من ” يخافا ” فتقديره أن لا يخافا على أن لا يقيما حدود الله. وقال أبو علي الفارسي: خاف يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك المفعول يكون تارة أن وصلتها وتارة غيرها، ولا يلزم حمزة سؤال من قال ينبغي


1) سورة البقرة: 229. 2) أي اسم ” الخلع ” أطلق على هذا الطلاق لان الزوج كأنه يخلع لباسه عن بدنه إذ يطلق زوجته. 3) سورة البقرة: 229. 4) أي قبل انقضاء العدة. *

[ 195 ]

أن يكون فان خيفا، وكذا لا يلزم من خالفه لم لم يقل ” فان خافا ” لامرين: أحدهما أن يكون الصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال ” الحد لله ” ثم قال ” اياك نعبد ” وقال ” ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون “. (1 والاخر يكون الخطاب في قوله ” فان خفتم ” مصروفا إلى الولاة والفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة. فان قيل: كيف قال ” فلا جناح عليهما ” وانما الاباحة لاخذ الفدية. قيل: لانه لو خص بالذكر ولا وهم انها عاصية، فان كانت الفدية له جائزة فبين الاذن لهما لئلا يوهم انه كالربا المحرم على الاخذ والمعطي. وذكر الفراء أنه كقوله تعالى ” يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ” (2 وانما هو من الملح دون العذب مجاز للاتساع. وهذا هو الذي يليق بمذهبنا، لان الذي يبيح الخلع عندنا هو ما لولاه لكانت المرأة به عاصية، فهما اشتركا في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما قد يفي عن الزوج فيه الاثم، فاشتركت فيه لانها إذا أعطت ما يطرح الاثم احتاجت هي إلى مثل ذلك، أي انها نفت [ عن ] (3 نفسها الاثم بأن افتدت، لانها لو أقامت على النشوز والاضرار لاثمت وكان عليها في النشوز جناح فخجت عنه بالافتداء. وأما المباراة فهي أن تكون الكراهية من جهة الرجل والمرأة معا من كل واحد منهما لصاحبه ولم يختص ذلك واحد منهما، فمتى عرفا ذلك من حالهما أو قالت المرأة لزوجها أنا اكره المقام معك وأنت تكره المقام معي أيضا فبارينى، أو يقول الرجل مثل ذلك على أن تعطيني كيت وكيت ويكون ذلك دون المهر،


1) سورة الروم: 39. 2) سورة الرحمن: 22. 3) زيادة يقتضيها السياق. *

[ 196 ]

فإذا بذلته ذلك من نفسها طلقها حينئذ تطليقة. وتكون بائنة على ما ذكرناه، لان المباراة ضرب من الخلع، والفرق بينهما ما ذكرناه، والاية تدل عليهما. والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه: أحدها، أن تكون المرأة عجوزا ودميمة فيضاريها لتفتدي به نفسها، فهذا لا يحل له الفداء، لقوله ” وان اردتم استبدال زوج مكان زوج ” (1 الاية. الثاني: أن يرى الرجل امرأته على فاحشة فيضاريها لتفتدي في خلعها، فهذا يجوز وهو معنى قوله ” ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الا أن يأتين بفاحشة مبينة ” (2. الوجه الثالث: أن يخافا ألا يقيما حدود الله لسوء خلق أو لقة نفقة من غير ظلم أو نحو ذلك، فتجوز الفدية خلعا كان أو مباراة على ما فصلناه. (باب ما يلحق بالطلاق) وهو أيضا على ضربين: يوجب التحريم وان لم تقع الفرقة، وضرب يوجب البينونة مثل الطلاق. فالقسم الاول الظهار والايلاء، والقسم الثاني اللعان والارتداد. ونحن نفرد لكل واحد منهما فصلا مفردا انشاء الله تعالى. (فصل) (في الظهار) قال الله تعالى ” الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن أمهاتهم ان امهاتهم


1) سورة النساء: 20. 2) سورة النساء: 19. *

[ 197 ]

الا اللائى ولدنهم ” (1. وهذه الاية نزلت في خولة بنت ثعلبة (2 وزوجها أوس أخو عبادة بن الصامت في قول قتادة، وكان مجادلتها اياه مراجعتها في أمر زوجها وكان ظاهر منها وهي تقول كبرت سني ودق عظمي، وان أوسا تزوجني وأنا شابة غنية فلما علت سني ظاهر مني، ورسول الله صلى الله عليه وآله ساكت لا يجيبها لانه لم يكن نزل عليه وحي في ذلك ولا حكم. ثم قالت: إلى الله أشكو حالي فلي صبية ان ضممتهم الي جاعوا وان ضمهم إليه ضاعوا. فعاودت النبي عليه السلام فسألته رخصة (3. ان قيل: لم قال ” ولاله يسمع تحاوركما ” بعد قوله ” قد سمع الله قول التي تجادلك “. قلنا: ليس ذلك تكريرا، لان أحد المسموعين غير الاخر، والاول ما حكته عن زوجها من الظهار والثاني ما كان يجري بينهما وبين النبي عليه السلام من الكلام في ذلك. قال ابن عباس: هو أول من ظاهر في الاسلام فكان الرجل في الجاهلية إذا قال لامرأته ” أنت علي كظهر أمي ” حرمت عليه كما هو في الاسلام، فأنزل الله في قصة الظهار الايات. ولا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر وان نزلت الاية في سبب. وقال صاحب النظم: ان بعض المفسرين قال: ليس قولهم ” أنت علي كظهر أمي ” مأخوذا من الظهر الذي هو العضو، لانه لو كان من ذلك لكان البطن أولى به من الظهر، بل انما هو من قولهم ” ظهر علي كذا ” إذا ملكه، وكما


1) سورة المجادلة: 2. 2) في بعض نصوص الحديث ” خويلة “، انظر الاصابة 4 / 282. 3) اسباب النزول للواحدي ص 273. *

[ 198 ]

يقولون ” نزل عنها ” إذا طلقها يقولون ظهر عليها إذا ملكها وعلاها بالزوجية وملك النكاح، فكأنه قال ملكي اياك حرام علي كما أن ملكها علي حرام (1. وكان أهل الجاهلية إذا قال الرجل منهم لامرأته ” أنت علي كظهر أمي ” بانت منه وطلقت، وفي شريعة الاسلام لا تبين المرأة الا أنه لا يجوز له وطؤها بل يحرم. وهو ينقسم إلى قسمين: قسم: يجب فيه الكفارة قبل المواقعة، وهو أنه إذا تلفظ بالظهار ولا يعلقه بشرط أو علقه بشرط غير الوطي ثم حصل ذلك الشرط. والقسم الثاني: أن يقول ” أنت علي كظهر أمي ان واقعتك “، فانه لا تجب الكفارة هنا عليه الا بعد المواقعة. والظهار لا يقع الا على المدخول بها، وشروطه كشروط الطلاق سواء، من كون المرأة في طهر لم يقربها فيه بجماع، ويكون بمحضر شاهدين، ويقصد التحريم، ولا يكون على الغضب ولا على الاجبار، فان اختل شئ من ذلك لم يقع به ظهار. ومعنى قوله ” الذين يظاهرون منكم من نسائهم ” أي الذين يقولون لنسائهم ” أنتن علي كظهر أمي “، ومعناه ان ظهر كن علي حرام كظهر أمي. فقال الله ” ماهن أمهاتهم ” أي ليست أزواجهم أمهاتهم على الحقيقة، وليس أمهاتهم على الحقيقة الا اللائي ولدنهم من الام وجداته والا اللائى أرضعنهم


1) قال ابن منظور: وأصله (أي الظهار) مأخوذ من الظهر، وانما خصوا الظهر دون البطن والفخذ والفرج – وهذه أولى بالتحريم – لان الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه إذا قال ” أنت على كظهر أمي ” أراد: ركوبك للنكاح على حرام كركوب امى للنكاح، قأقام الظهر مقام الركب لانه مركوب، وأقام الركوب مقام النكاح لان الناكح راكب، هذا من لطيف الاستعارات للكناية – لسان العرب (ظهر). *

[ 199 ]

ثم أخبر أن القائل لهذا يقول منكرا قبيحا وكدبا. ثم قال ” والذين يظاهرون من نسائهم ” يعني الذين يقولون هذا القول الذي حكيناه ” ثم يعودون لما قالوا ” اختلفوا في معنى العود، فقال طاوس الذين كانوا يظاهرون في الجاهلية ثم عادوا في الاسلام إلى مثل ذلك فظاهروا، وقال قتادة العود هو العزم على عودها، وقال قوم فيه تقديم وتأخير، وتقديره والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فان لم يجد فصيام شهرين فان لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ثم يعودون لما قالوا، وقال آخرون معناه ثم يعودون لنقض ما قالوا. والذي هو مذهبنا أن العود المراد به الوطئ أو بعض القول، فالذي قاله فانه لا يجوز له الوطئ الا بعد الكفارة إذا كان الظهار مطلقا. وجعل الاخفش لما قالوا من صلة ” فتحرير رقبة ” فالمعنى الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون فتحرير رقبة، أي عليهم تحرير رقبة لما قالوا، يعني لاجل ما قالوا. وهذا أيضا حسن. وقال احمد بن يحيى: معناه الذين يعودون لتحليل ما حرموه فقد عادوا فيه، وهو في موضعه لا حاجة إلى تقديم وتأخير. والاقاويل كلها متقاربة، لان من عزم على غشيانها فقد عاد. ثم بين تعالى كيفية الكفارة فقال ” فتحرير رقبة “، فان أول ما يلزمه من الكفارة عتق رقبة. والتحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق، بأن يقول المالك انه حر. والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة أو في حكم المؤمن، سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرة أو كبيرة إذا كانت صحيحة الاعضاء، فان الاجماع واقع على أنه يقع الاجزاء بها.


[ 200 ]

وتحرير الرقبة واجب في الظهار المطلق قبل المجامعة أو في المشروط بغير الوطي، كأن يقول ” ان فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي “، فإذا فعله وجب عليه الكفارة أيضا قبل الوطي لقوله ” فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ” أي من قبل أن يجامعها فيماسا، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن يكره للمظاهر أن يقبل. والذي يقتضيه الظاهر أن لا يقربها بجماع ولا بمماسة شهوة. ” فمن لم يجد ” الرقبة وعجز عنها ” فصيام شهرين متتابعين “، والتتابع عند العلماء أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما ان بدأ من نصف شهر ونحوه لا يفطر بينهما، فان أفطر بعد أن صام شهرا ومن الثاني بعضه ولو يوما فقد اخطأ الا أنه يبني، فان أفطر قبله لعذر بنى أيضا، وان أفطر من غير عذر استأنف. فمن لم يقدر على الصوم ” فاطعام ستين مسكينا ” يعطي عندنا لكل مسكين نصف صاع، فان لم يقدر أعطاه مدا. وقال بعض المفسرين: التحرير واجب قبل المجامعة لنص القرآن في الظهار المطلق، ولم يذكر الله في الطعام ولكن أجمعت الامة على أنه قبل التماس. ويمكن أن يقال: ان الاية تدل على جميع ذلك، لان الثاني ههنا بدل من الاول والثالث من الثاني. ومتى نوى بلفظ الظهار الطلاق لم يقع به طلاق. والاطعام لا يجوز الا للمسكين. (فصل) (في الايلاء) قال الله تعالى ” للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فان فاؤا فان الله


[ 201 ]

غفور رحيم * وان عزموا الطلاق فان الله سميع عليم ” (1. اعلم أن الايلاء لا يقع الا بعد الدخول بها، ومتى آلى بغير اسم الله أو حلف بالطلاق أو ما أشبهه أن لا يطأها فليطأها وليس عليه كفارة. ولا خلاف بين أهل التأويل أن معنى ” يؤلون ” يحلفون، والايلاء في الاية الحلف على اعتزال النساء وترك جماعهن على وجه الاضرار بهن، وكأنه قيل الذين يؤلون أن يعتزلوا النساء تربص أربعة أشهر. فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته كانت المرأة بالخيار ان شاءت صبرت عليه أبدا وان شاءت خاصمته إلى الحاكم، فان استعدت عليه (2 أنظره الحاكم بعد رفعها إليه أربعة أشهر ليرتأى في أمرها، فان كفر وراجع والا خيره الحاكم بعد ذلك بين أن يكفر ويعود أو يطلق، فان أقام على الاضرار بها حبسه الحاكم وضيق عليه في المطعم والمشرب حتى يفئ ا لى أمر الله فيكفر ويرجع أو يطلق. واليمين التى يكون بها الرجل موليا هي اليمين بالله أو بشئ من صفاته التى لا يشركه فيها غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه، وهو المروي عن علي عليه السلام. وقال جماعة: هو في الجماع وغيره من الاضرار، نحو الحلف أن لا يكلهما. وقوله ” حتى يفئ إلى أمر الله ” أي حتى يرجع من الخطأ إلى الصواب. فان قيل: ما الذي يكون به المولي فائيا ؟. قيل: عندنا يكون فائيا بأن يجامع، وبه قال ابن عباس. وقال الحسن: يكون فائيا بالعزم في حال القدرة الا أنه ينبغى أن يشهد عليه فيه. وهذا عندنا يكون للمضطر الذي لا يقدر على الجمع. ويجب عندنا على الفائي كفارة، وبه قال ابن عباس وجماعة. ولا عقوبة


1) سورة البقرة: 226 – 227. 2) أي شكته إلى الحاكم. *

[ 202 ]

عليه، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1. وقال الحسن: لا كفارة عليه لقوله تعالى ” فان فاؤا فان الله غفور رحيم ” فانه ليس فيه أن يتبعه بكفارة. ومتى حلف أنه لا يجامع أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا، لان الايلاء على أربعة أشهر أو أكثر. ولا يجوز له وطؤها في تلك المدة وان لم يجب عليه أحكام الايلاء الاخر. ومتى حلف أنه لا يقربها وهي مرضعة خوفا من أن تحبل فيضر ذلك بولدها لا يلزمه حكم الايلاء على ما ذكرناه آنفا. ويجوز أن يكون في الاية تقديم وتأخير، ويكون تقديره: للذين يؤلون تربص أربعة أشهر من نسائهم. ويجوز أن يكون معناه للذين يؤلون من أجل نسائهم. والفقهاء جعلوا ” من ” متعلقة بالايلاء حتى إذا استعملوها معه قالوا ” آلى من امرأته ” إذا حلف الحلف الموصوف. وقال أبو مسلم: هي متعلقة باللام في ” للذين يؤلون ” كما يقولون لك مني النصرة والمعونة. والصحيح أن الايلاء يستغنى عن من، والمعروف آلى عن امرأته. والاحسن من هذا كله أن يكون ” من ” ههنا للتبعيض، أي من آلى من جملة نسائه على واحدة أو على بعضهن أو على جميعهن. وقال النحويون: اللام يفيد الاستحقاق، كما يقول اللعن للكفار. وقوله ” من نسائهم ” يتعلق بالظرف كما يقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر، وليس من يتعلق يؤلون، لان اللغة يحكم أن يقال آلى على امرأته. وقول القائل آلى فلان من امرأته، وهم انما توهمه من هذه الاية لما سمع الله تعالى يقول ” للذين يؤلون من نسائهم ” ظن أن من


1) انظر وسائل الشيعة 15 / 535. *

[ 203 ]

يتعلق بيؤلون، فكرروا في كتاب الايلاء ” ألى من امرأته ” والصواب ما ذكرته. (فصل) (في اللعان) قال الله تعالى ” والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين ” (1. إذا قذف الرجل امرأته بالفجور وادعى أنه رأى معها رجلا يفجر لها مشاهدة ولم يقم به أربعة من الشهود كان عليه ملاعنتها، وكذلك إذا انتفى من ولد زوجة له في حباله أو بعد فراقها مدة الحمل. ومعنى الاية ان من رمى زوجته بالزنا تلاعنا إذا لم تكن صماء أو خرساء إذا لم يكن له شهود أربعة. والملاعنة أن يبدأ الرجل فيحلف بالله انه صادق فيما رماها به. ويحتاج أن يقول ” أشهد بالله اني لصادق “، لان شهادته أربع مرات تقوم مقام أربعة شهود في دفع الحد عنه، ثم يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين فيما رماها به. وإذا جحدت المرأة ذلك شهدت أربع شهادات انه لمن الكاذبين فيما رماهابه، وتشهد الخامسة أن غضب الله عليها ان كان من الصادقين. ثم يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا، كما فرق رسول الله صلى الله عليه وآله بين هلال بن أمية وزجته وقضى أن الولد لها ولا يدعى لاب، ولا ترمى هي ولا يرمى ولدها. وعند أصحابنا انه لا لعان بينهما ما لم يدخل بها. واللعان عندنا يحصل بتمام اللعان من غير حكم الحاكم. وتمام اللعان انما يكون إذا تلاعن الرجل والمرأة جميعا على ما ذكرنا.


1) سورة النور: 6. *

[ 204 ]

(فصل) (في الارتدار) قال الله تعالى ” من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ” (1 وقال سبحانه ” ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ” (2. استدل بعض المفسرين بمجموع الايتين على أن المرتد عن الاسلام تبين عنه امرأته لعموم الايتين. وعندنا أن المرتد على ضربين: فان كان مسلما ولد على فطرة الاسلام فقد بانت منه امرأته في الحال وقسم ماله بين ورثته ووجب عليه القتل من غير أن يستتاب وتعتد زوجته عدة المتوفى عنها زوجها. وان كان المرتد ممن كان أسلم عن كفر ثم ارتد استيتبب، فان عاد كان عقد زوجته ثابتا، وان لم يرجع كان عليه القتل، وان هرب إلى دار الحرب تعتد زوجته ثلاثة أشهر. والاولى أن نقول: ان هذا الحكم يعلم بالسنة، قال الله تعالى ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ” وقال تعالى ” آتاكم الرسول فخذوه ” فتدل الايتان عليه جملة أو من فحوى كل واحدة من الايتين. (باب الزيادات) انما خص الله المؤمنات في قوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم


1) سورة البقرة: 217. 2) سورة البقرة: 221. *

[ 205 ]

المؤمنات ” (1 لئلا ينكح المؤمنون الاكل مؤمنة عفيفة، كما قال عليه السلام: تخيروا لنطفكم. فيجب أن يتنزه عن مزواجة الفواسق والفواجر والكوافر. وفائدة ثم في قوله ” ثم طلقتموهن ” نفي التوهم عمن عسى تفاوت الحكم بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح وبين أن يبعد عهدها من النكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزوج ثم يطلقها. وقرئ ” تعتدونها ” مخففا، أي تعتدون فيها، والمراد بالاعتداء ما في قوله ” ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ” (2. والعامل في الظرف من قوله ” إذا نكحتم ” ما يتعلق به لكم، والتقدير إذا نكحتم المؤمنات ” ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ” لم يثبت لكم عليهن عدة. والسراح الجميل هو دفع المتعة بحسب الميسرة والعشرة بغير جفوة ولا أذية. وعن حبيب بن ابي ثابت قال: كنت قاعدا عند علي بن الحسين عليهما السلام فجاء رجل فقال: اني قلت: يوم أتزوج فلانة فهي طالق. فقال: اذهب وتزوجها فان الله تعالى بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقرأ هذه الاية (3. مسألة: ان قيل: قد أمر الله بطلاق العدة في قوله تعالى ” فطلقوهن لعدتهن ” (4، فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلق العدة ؟ قلنا: ان طلاق السنة أيضا طلاق العدة الذي ذكره الله، الا أن أصحابنا قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه [ بعد المراجعة طلاق


1) سورة الاحزاب: 49. 2) سورة البقرة: 231. 3) وسائل الشيعة 15 / 289 مع اختلاف يسير. 4) سورة الطلاق: 1. *

[ 206 ]

السنة والطلاق الذي يزاد عليه ] (1 شرط المراجعة طلاق العدة. ومما يعضده ما روى بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: الطلاق أن يطلق الرجل المرأة على طهر من غير جماع ويشهد رجلين عدلين على تطليقه ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن وأمر به رسول الله في سنته، وكل الطلاق لغير العدة فليس بطلاق (2. وعن حريز: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن طلاق السنة فقال: على طهر من غير جماع بشاهدي عدل، ولا يجوز الطلاق الا بشاهدين والعدة، وهو قوله ” فطلقوهن لعدتهن ” الاية (3. مسألة: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل قال لامرأته: أنت علي حرام. قال: لو كان لي عليه سلطان لاوجعت رأسه وقلت: الله أحلها لك فمن حرمها عليك، انه لم يزد على ان كذب فزعم أن ما أحل الله له حرام ولا يدخل عليه طلاق ولا كفارة. فقلت: يقول الله ” يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ” (4 فجعل عليه فيه الكفارة. فقال: انما حرم عليه جاريته مارية فحلف أن لا يقربها، وانما جعل عليه الكفارة في الحلف ولم يجعل عليه في التحريم (5. وهذا اشارة إلى الايلاء.


1) الزيادة من ج. 2) وسائل الشيعة 15 / 280. 3) المصدر السابق 15 / 181. 4) سورة التحريم: 1. 5) وسائل الشيعة 15 / 292. *

[ 207 ]

مسألة: فان قيل: ان أخلعت الزوجة في مرضها بأكثر من مهر مثلها هل يصح ذلك أم لا ؟ وان صح فهل يكون ذلك من صلب مالها أم لا ؟ قلنا: الخلع على هذا صحيح، لان المرض لا يبطل المخالعة بمهر المثل أو اكثر منه، ويكون ذلك من صلب مالها لقوله تعالى ” ولا جناح عليهما فيما افتدت به “، ولم يفرق بين حال المرض وغيره، فوجب حمله على عمومه الا أن يدل دليل. مسألة: فان قيل: كيف عدى قوله ” للذين يؤلون ” بمن وهو معدى بعلى ؟ قلنا: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين، ويجوز أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر، كقولك ” لي منك كذا “. والايلاء من المرأة أن يقول ” والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا ” أو ” لا أقربك على الاطلاق “. ولا يكون فيما دون أربعة أشهر. فان قيل: كيف موضع الفاء في قوله تعالى ” فان فاؤا “. قيل: موقع صحيح، لان قوله ” فان فاؤا ” ” وان عزموا ” تفصيل لقوله ” للذين يؤلون “، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: انا نزيلكم هذا الشهر فان أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره والا لم أقم الا ريثما أتحول. مسألة: وقوله تعالى ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” أراد المدخول


[ 208 ]

بهن التى تحيض. واللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. وفي ذكر الانفس ههنا تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنا على الطموح ويجبرنها على التربص. وفى قوله تعالى ” تربص أربعة اشهر ” لانهن يستنكفن هناك فلم يحتج إلى ذكر أنفسهن. مسألة: فان قيل: هل يصح الايلاء من الذمي ؟ قلنا: يصح منه ذلك، لقوله تعالى ” للذين يؤلون من نسائهم ” وهذا عام في الذمي والمسلم.


[ 209 ]

كتاب العتق وأنواعه قال الله تعالى ” واذ تقول للذي أنعم الله عليه وانعمت عليه ” (1. هذه الاية نزلت في زيد بن حارثة وكان النبي صلى الله عليه وآله اعتقه (2. وانعام الله عليه الذى ذكره الله في الاية هو الاسلام وقد وفقه له، وانعام النبي عليه السلام عتقه. خاطب الله محمدا فقال: اذكر حين تقول للذي أنعم الله عليه بالهداية إلى الايمان وانعمت عليه بالعتق ” أمسك عليك زوجك ” أي احبسها ولا تطلقها، لان زيدا جاء إلى النبي عليه السلام مخاصما زوجته زينب بنت جحش على أن يطلقها، فوعظه النبي وقال له: لا تطلقها واتق الله في مفارقتها. ” وتخفي في نفسك ما الله مبديه ” فالذي أخفى في نفسه أنه ان طلقها زيد. تزوجها وخشي من اظهار هذا للناس، وكان الله أمره بتزوجها إذا طلقها زيد. ” فلما قضى زيد منها وطرا ” أي لما طلق زيد امرأته أذن الله لنبيه في


1) سورة الاحزاب: 37. 2) أنظر أسباب النزول للواحدي ص 237. *

[ 210 ]

تزويجها وأراد بذلك نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم زوجة الدعي، وهو قوله تعالى ” لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم “. فهذه الاية تدل على أن في العتق فضلا كثيرا وثوابا جزيلا، ألا ترى أنه تعالى كنى عنه بقوله ” أنعمت عليه “. ويستحب عتق المؤمن المستبصر، فان الانعام عليه أحسن. ولا عتق الا ما أريد به وجه الله. والعتق لا يصح ولا يقع بغير نية. وكل آية تنطق بتحرير الرقبة في الكفارات فانها تدل على جواز العتق بل على فضله وانه من أكرم الاحسان وأفضل الانعام. ولا خلاف في جوازه والفضل فيه بين الامة. والعنق على ضربين واجب وندب، ويدخل كلا وجهيه تحت قوله تعالى ” ان الله يأمر بالعدل والاحسان ” (1، فالامر بالعدل على وجه الايجاب وبالاحسان على وجه الندب. فان قال ” كل عبد أملكه فهو حر ” لا يقع به عتق وان ملك في المستقبل الا أن يجعل ذلك نذرا على نفسه. وإذا قال ” كل عبد لي قديم فهو حر ” فمن كان أتى له ستة أشهر من مماليكه صار حرا، قضى به أمير المؤمنين عليه السلام وتلا قوله تعالى ” والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ” (2، وقد ثبت أن العرجون انما ينتهي إلى الشبه بالهلال في تقويه وضؤلته بعد ستة أشهر من أخذ الثمرة منه.


1) سورة النحل: 90. 2) سورة يس: 39. *

[ 211 ]

(باب) (من إذا ملك العتق في الحال) قال الله تعالى ” حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم ” (1 الاية. يستدل بذلك – بعد الاجماع والسنة – على أنه متى ملك الانسان أحد والديه أو ولده ذكرا كان أو أنثى أو أخته أو عمته أو خالته أو واحدة من المحرمات عليه في النكاح من ذوي أرحامه انعتقوا في الحال ولم يثبت لهم معه استرقاق على حال. وكل من ذكرناه من المحرمات من جهة النسب فان استرقاقهم لا يثبت، فانهم إذا كانوا من جهة الرضاع لا يثبت استرقاقهم أيضا، لان التحريم عام لقوله عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2، على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع. وقوله ” وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ” يدل فحوى هذه الاية على تحريم البنات والعمات والخالات وبنات الاخ وبنات الاخت من الرضاع على ما تقدم في كتاب النكاح. وقوله تعالى ” وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ” إلى قوله ” وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ان كل من في السماوات والارض الا آتي الرحمن عبدا ” (3. فيه دلالة على أن النبوة والعبودية لا تجتمعان، وانه إذا ملك الانسان ابنه عتق عليه.


1) سورة النساء: 23. 2) أنظر وسائل الشيعة 14 / 293. 3) سورة مريم 88 – 93. *

[ 212 ]

ويستحب للانسان إذا ملك من سواهم من ذوي أرحامه أن يعتقه، فان ملك أخاه أو ابن أخيه وابن اخته أو عمه أو خاله وغيرهم من الرجال فلا بأس، والاولى عتقه. (باب) (من يصح ملكه ومن لا يصح) قال الله تعالى ” ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ” (1 يدل بعمومه على أن الكافر إذا اشترى عبدا مسلما فالبيع باطل، وكذلك ان أسلم مملوك لذمي لا يقر عنده بل يباع من مسلم ويعطى ثمنه الذمي. ولا بأس أن يشتري الانسان ما يسبيه الظالمون إذا كانوا مستحقين للسبي. ولا بأس أن يشتري من أهل الحرب أولادهم. ويجوز وطئ من هذه صفتها، وان كان فيه الخمس لمستحقيه لم يصل إليهم لانهم جعلوا شيعتهم من ذلك في حل وسعة. وكل من قامت البينة على عبوديته – سواء كان بالغا أو لم يكن – جاز تملكه، وكذا من أقر على نفسه بالعبودية وكان بالغا. والدليل على جميع ذلك كل آية تدل على صحة الاقرار والبينة. والله تعالى بين وجه حكمته في اباحة الاسترقاق بقوله ” أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ” (2، بأن جعلنا بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، وبعضهم موالي وبعضهم عبيدا واماءا، وبعضهم مرضى وبعضهم أصحاء بحسب ما علمنا من مصالحهم.


1) سورة النساء: 141. 2) سورة الاسراء: 21. *

[ 213 ]

” وللاخرة اكبر درجات ” فذلك أولى أن يرغب فيه، فقد يكون كثير من المماليك خيرا من ساداتهم وان كانوا جميعا مسلمين، وكذا الفقير والغني جميعه نوع من التكليف. (باب) (بيع أمهات الاولاد) أم الولد هي التي تلد من مولدها، سواء كان ما وضعته تاما أو غير تام وان اسقطت نطفة. ويجوز بيعها بعد وفاة أولادها، والدليل عليه قول الله تعالى ” وأحل الله البيع وحرم الربا ” (1، وهذا عام في أمهات الاولاد وغيرهن. فان قيل: قد أجمعنا على أن قوله ” وأحل الله البيع ” مشروط بالملك، فان بيع مالا يملكه لا يجوز. قلنا: الملك باق في أم الولد بلا خلاف، لان وطؤها مباح له، ولا وجه لاباحته الا بملك اليمين. ويدل عليه أيضا أنه لا خلاف في جواز عتقها بعد الولد ولو لم يكن الملك لما جاز العتق، وكذلك أجمعوا على أن قاتلها لا يجب عليه الدية وانما يجب عليه قيمتها إذا كانت دون دية الحرة أو مثلها، وكذلك يجوز مكاتبتها وأن يأخذ سيدها ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها. وهذا كله يدل على بقاء الملك. وحمل ذلك على الرهن وان ملك الشئ المرهون هو باق للراهن وان لم يجز بيعه، فذلك قياس ونحن لا نقول به. على أنهم إذا سلموا بقاء الملك في أمهات الاولاد فبقاؤه يقتضي استمرار أحكامه، وإذا ادعوا فيه النقصان طولبوا بالدلالة ولم يجدوها. على أنه لو سلمنا


1) سورة البقرة: 275. *

[ 214 ]

نقصان الملك تبرعا لجاز أن نحمله على أنه لا يجوز بيعها مع ولدها. وهذا ضرب من النقصان. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى ” والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ” (1، وقد علمنا أن للمولى أن يطأ أم ولده، وانما يطأها بملك اليمين لانه لا عقد ههنا، وإذا جاز أن يطأها بالملك جاز أن يبيعها بعد وفاة ولدها كما جاز ذلك في سائر جواريه. (باب الولاء) قال الله تعالى ” فاخوانكم في الدين ومواليكم ” (2 والمراد بمواليكم مماليككم الذين أنتم بهم أولى. وهذا المعنى فيهم على العموم، فيكون الولاء لمعتق الذي أنعم عليه بأن أعتقه تبرعا لا في واجب كما قال تعالى في حق زيد. ولهذا نقول: الولاء انما يثبت في العتق الذي ليس بواجب بل يكون على سبيل التبرع، وأما ان كان العتق في أمر واجب ككفارة ظهار أو كفارة قتل أو افطار في شهر رمضان أو نذر أو يمين أو ما أشبه ذلك من جهات الواجب، فان الولاء يرتفع منه والمعتق سائبة لا ولاء للمعتق عليه، فلا يدخل تحت الاية، لان العتق على سبيل التبرع هو الانعام والاحسان عليه واليه، والى ذلك أشار سبحانه بقوله ” وأنعمت عليه ” (3. ولولا النصوص من ائمة الهدى عليهم السلام في هذا المعنى لما كان لاحد أن يتكلم في مثله من القرآن (4.


1) سورة المؤمنون: 5 – 6. 2) سورة الاحزاب: 5. 3) سورة الاحزاب: 37. 4) أنظر وسائل الشيعة 16 / 38 – 39. *

[ 215 ]

وولاء المعتق في واجب لمن تضمن جريرته خاصة، وميراثه له إذا لم يكن له ذو رحم مسلم حر، سواء كان المتضمن لحدثه معتقه أو سواه، فقوله ” والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ” (1 منسوخ فيمن لا قرابة له دون من ليس له أحد منهم. وان لم يتضمن جريرته أحد فولاؤه للامام وحدثه الخطأ المحض بالشهادة عليه. وليس للولاء قسم آخر سوى هذه الثلاثة، فان توفي هذا المعتق وله زوجة فلها الربع والباقي لسيده الذي أعتقه تطوعا أو يرد إلى ضامن جريرته أو إلى الامام إذا أعتق في واجب ولم يضمن جريرته أحد. (باب) (ان المملوك لا يملك شيئا) قال الله تعالى ” ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ” (2 في هذه الاية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا من الاموال مادام رقا، لان قوله ” مملوكا لا يقدر على شئ ” ليس المراد به نفي القدرة لانه قادر، وانما المراد أنه لا يملك التصرف في الاموال، وذلك عام في جميع ما يملك ويتصرف فيه. فان ملكه مولاه شيئا ملك التصرف فيه بجميع ما أباح له سيده وأراده، فان اصيب العبد في نفسه بما يستحق به الارش كان له ذلك وحل له التصرف فيه وليس له رقبة المال على وجه. (باب المكاتبة) قال الله تعالى ” والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان


1) سورة النساء: 33. 2) سورة النحل: 75. *

[ 216 ]

علمتم فيهم خيرا (1 ومعناه ان للانسان إذا كان له أمة أو عبد يطلب المكاتبة، وهي أن يقوم على نفسه وينجم عليه [ ليؤدي قيمة نفسه إليه، فانه يستحب لسيده أن يجيبه إلى ذلك ويساعده عليه ] (2، لدلالة قوله ” فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا ” وهذا أمر ترغيب عند الفقهاء، وأما عند الطبري وعمر بن دينار وعطاء هو واجب عليه إذا طلب. والمكاتبة على ضربين: مشروط ومطلق. فصورة الكتابة المطلقة أن يقول الانسان لعبده أو أمته: قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة (3 على انك إذا أديت ذلك فأنت حر، فيرضى العبد ويكاتبه عليه، ويشهد بذلك على نفسه. فمتى أدى مال الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا، فان عجز عن أداء ذلك ينعتق بحساب ما أدى ويبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه. وان كانت الكتابة مشروطة، وهى أن يقول لبعده في حال المكاتبة: متى عجزت عن أداء قيمتك فأنت رد في الرق ولى جميع ما أخذت منك. فمتى عجز عن ذلك – وحد العجز هو أن يؤخر نجما إلى نجم أو يعلم من حاله أنه لا يقدر على أداء ثمنه – فانه يرجع رقا وجاز لمولاه رده إلى الرق. وقوله تعالى ” ان علمتم فيهم خيرا ” الخير الذي يعلم منه هو القوة على التكسب بحيث يحصل به مال الكتابة. وقال الحسن: معناه ان علمتم منهم صدقا. وقال ابن عباس وعطا: ان علمتم لهم مالا. وقال ابن عمر: ان علمتم فيهم قدرة على التكسب، قال لانه إذا لم يقدر على ذلك أطعمني أوساخ أيدي الناس.


1) سورة النور: 33. 2) الزيادة من ج. 3) النجوم المعلومة هي الدفعات التى يتوافقان على اعطاء المال فيها، فان النجم الوقت المضروب، ويقال نجمت المال إذا أديته نجوما. *

[ 217 ]

(فصل) ولا يجوز للسيد أن يكاتب عبده حتى يكون عاقلا، فان كان مجنونا لم يجز مكاتبته، لقوله تعالى ” فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا “، والخير الكسب والامانة، لانه تعالى قال ” والذين يبتغون الكتاب ” والمجنون لا ابتغاء له. والمكاتبة مشتقة من الكتب، وهو الضم والجمع، لانه ضم أجل إلى أجل في عقد المعاوضة على ذلك. ودليل جوازها قوله تعالى ” والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ” فأمر بالكتابة. فإذا ثبت هذا فمتى دعا العبد سيده إلى مكاتبته – والحال ما ذكرناه في الاية – فالمستحب له أن يجيبه إلى ذلك وليس بواجب، سواء دعاه إلى ذلك بقيمة مثله أو أقل أو اكثر. واختلفوا في الامر بالكتابة مع طلب المملوك لذلك وعلم مولاه أنه فيه خيرا: فقال عطا هو فرض، وقال مالك والثوري وابن زيد هو على الندب، وهو مذهبنا. وقوله تعالى ” وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ” (1 أمر من الله أن يعطي السيد مكاتبه من ماله الذى أنعم الله عليه، بأن يحط عنه شيئا منه. وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: يحط عنه ربع مال الكتابة (2.


1) سورة النور: 33. 2) الدر المنثور 5 / 46، وفي حديث آخر فيه عن ابن عباس عنه عليه السلام قوله: امر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه. *

[ 218 ]

وقال سفيان: أحب أن يعطيه الربع أو أقل وليس بواجب. وقال ابن عباس: أمره بأن يضع عنه من مال الكتابة شيئا. وقال الحسن: حثه الله على معونته. وقال قوم: المعنى آتوهم سهمهم يا أرباب الاموال من الصدقة التي ذكرها في قوله ” وفي الرقاب ” ويكون السيد داخلا تحت عموم الخطاب أيضا، وهو مذهبنا. (فصل) والمسلم إذا كان له عبد كافر فكاتبه لا تصح الكتابة، لقوله تعالى ” ان علمتم فيهم خيرا ” وهذا لا خير فيه، ولقوله ” وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ” وهذا ليس من أهلها لان ذلك من الصدقة وليس الكافر من أهلها. وروي أنه لكان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت الاية (1. ولا تنعقد عندنا الا بأجل، ومتى كانت بغير أجل معلوم كانت باطلة [ وكذلك لابد أن يكون العوض معلوما، فان لم يعين كانت باطلة ] (2. وأقل ما يجزي فيه أجل واحد عندنا، وعند بعضهم أجلان. فان قيل: يجب أن تكون الكتابة جائزة بمال معجل ومؤجل كما يجوز البيع بمال معجل ومؤجل، إذ لم يذكر الله في واحد منهما أجلا. قلنا: لفظ الكتابة يدل على التأجيل في ذلك، إذ لو كانت معجلة لم تكتب، ففارقت البيع. على أن الكتابة في الابة مجملة لا لها من بيان وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وآله على ما ذكرنا، لقوله ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم “.


1) اسباب النزول للواحدي ص 219. 2) الزيادة من م. *

[ 219 ]

(باب التدبير) والقرآن يدل عليه على سبيل العموم من آية العتق، لانه جنس من أجناس العتق. مع أنه نوع من الوصية. والتدبير (1 هو أن يقول الرجل لمملوكه – عبده أو أمته -: أنت رق في حياتي وحر بعد وفاتي. فإذا نوى وقال ذلك ثبت له التدبير. وهو بمنزلة الوصية يجوز للمدبر نقضه ما دام فيه الروح، فمتى لم ينقضه ومات كان المدبر من الثلث. والتدبير ليس بعتق مشروط، لان العتق بالشرط لا يصح على ما قدمنا، وانما هو وصية بالعتق منصوص عليه: مطلق ان يعلقه بموت مطلق فيقول ” إذا مت فأنت حر “، والمقيد أن يقيد الموت بشئ يخرج به عن اطلاق فيقول: ” ان مت من مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت حر “. وأي تدبير كان فإذا مات السيد نظرت فإذا احتمله الثلث عتق كله، فان لم يكن له سواه عتق ثلثه إذا لم يكن عليه دين ودبره فرارا من الدين، فان دبره وعليه دين فرارا منه لم يصح تدبيره. فان دبره ثم استدان بعد ذلك صح التدبير على ما ذكرنا. وصريح التدبير أن يقول: إذا مت فأنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق. غير أنه لابد فيه من النية لوجه الله تعالى. وسمي مدبرا عن العتق عن دبر حياة سيده يقال دبر عبده تدبيرا، إذا علق عتقه لوتاته.


1) التدبير تحير العبد دبر وفاة المولى، أي بعد وفاته، فالمولى مدبر (بتشديد الدال وكسره) والعبد مدبر (بتشديد الدال وفتحه). *

[ 220 ]

(باب الزيادات) أما قول الله تعالى ” واذ تقول للذي أنعم الله عليه ” فمعناه أنعم تعالى عليه بالاسلام الذي هو أعظم النعم وبتوفيقك لعتقه ومحبته ” وأنعمت عليه ” (1 بما وفقك الله فيه، فهو منقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة. وفي هذا اشارة إلى أن المستحب أن لا يعتق الانسان الا من أغنى نفسه ويقدر على اكتساب ما يحتاج إليه. ومن أعتق صبيا فالافضل أن يجعل له شيئا يعينه به على معيشته وينعم به عليه، لان النعمة إذا اتمت فهي نعمة. ومن نذر أن يعتق رقبة مؤمنة غير معينة جاز له أن يعتق صبيا لم يبلغ الحلم مولودا بين مؤمنين أو بحكمه. مسألة: وقوله تعالى ” والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم ” الذين مبتدأ فيكون محله رفعا أو يكون منصوبا بفعل مضمر يفسره ” فكاتبوهم ” (2، كقولك زيدا فاضربه. ودخلت الفاء في ذلك لتضمنه معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، وهو أن يقول الانسان لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم. فإذا أداها عتق على ما ذكرناه. ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ووفيته في أجله وكتبت على نفسك أن تفي لي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق.


1) سورة لااحزاب: 37. 2) سورة النور: 33. *

[ 221 ]

ويجوز عقد الكتابة على خدمته في مدة معلومة وعلى عمل معلوم موقت، مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض، كما يجوز على مال، لعموم قوله تعالى ” فكاتبوهم ان علمتم ” فانه يتناول جميع ذلك إذ لم يخصص سبحانه مقدار الذي يكاتب عليه ولا جنسه.


[ 222 ]

كتاب الايمان والنذور والكفارات اليمين المنعقدة هي أن يحلف الانسان بالله تعالى أو بشئ من أسمائه أي اسم كان (1. ولا ينعقد الا بالنية، فمتى تجرد عن النية كان لغوا، قال الله تعالى ” لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان ” (2. والنية انما يراعى فيها نية المستحلف إذا كان محقا بالظاهر، فإذا كان مبطلا على الحقيقة فيما يقول كانت النية نية الحالف. أخبر تعالى أنه لا يؤاخذ بلغو اليمين، ولغو اليمين أن يسبق لسانه بغير عقيدة بقلبه، كأنه أراد أن يقول ” لا والله ” فقال ” بلى والله “. واختلفوا في لغو اليمين في هذه الاية: فقال ابن عباس هو ما يجري على اللسان عادة ” لا والله ” و ” بلى والله ” من غير عقد على يمين يقطع بها قال أو


1) قال ابن فارس: سمى الحلف يمينا لان المتحالفين كأن أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه – معجم مقاييس اللغة 6 / 159. 2) سورة المائدة: 89. *

[ 223 ]

يظلم بها أحد، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1). وقال الحسن هي يمين الظان وهو يرى أنه كما حلف فلا اثم عليه ولا كفارة. وعن طاوس انها يمين الغضبان لا يؤاخذ منها بالحنث. وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل ” أعمى الله بصري ” أو ” أهلك الله مالي “، فيدعو على نفسه، قال تعالى ” ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ” (2. وأصل اللغو الكلام الذي لا فائدة فيه، وكل يمين جرت مجرى مالا فائدة فيه حتى صارت بمنزلة ما لم يقع فهى لغو ولا شئ فيها، يقال لغا يلغو إذا تكلم بما لا فائدة فيه. واللغو في اللغة ما لم يعتد به. والصحيح أن لغو اليمين هو الحلف عل وجه الغلط من غير قصد، مثل قول الفائل ” لا والله ” و ” بلى والله ” على سبق اللسان. ولا كفارة في لغو اليمين عند اكثر المفسرين والفقهاء. وقوله تعالى ” عقدتم ” و ” عقدتم ” بالتخفيف والتشديد المراد بها تأكيد الايمان حتى يكون بمنزلة العقد المؤكد، أو يكون المراد انكم عقدتموها على شئ، خلافا لليمين اللغو التي ليست معقودة على شئ، لان الفقهاء يسمون اليمين على المستقبل يمينا معقودة، وهي التي يتأتى فيها البر والحنث ويجب فيها الكفارة. واليمين على الماضي عندهم ضربان لغو وغموس، فاللغو كقول القائل ” والله ما فعلت كذا ” في شئ يظن أنه لم يفعله، أو ” والله لقد فعلت كذا ” في شئ يظن أنه فعله، فهذه اليمين لا مؤاخذة فيها. وأما الغموس (3 فهي اليمين على


1) تفسير البرهان 1 / 495. 2) سورة يونس: 11. 3) قال ابن منظور: اليمين الغموس التى تغمس صاحبها في الاثم ثم في النار، وقيل هي التى لا استثناء فيها. وقيل هي اليمين الكاذبة التى تقتطع بها الحقوق. وسميت غموسا لغمسها صاحبها في الاثم ثم في النار – لسان العرب (غمس). *

[ 224 ]

الماضي إذا وقعت كذبا، كقول القائل ” والله ما فعلت ” وهو يعلم أنه قد فعله. فهذه اليمين كفارتها الاستغفار بشرطه لا غير. (باب) (في أقسام الايمان وأحكامها) لما بين سبحانه أنه لا يؤاخذ على لغو اليمين بين بعده بقوله ” ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان ” انه يؤاخذ بما عقد عليه قلبه ونوى. وقرئ ” عاقدتم و ” عقدتم ” بلا ألف مع تخفيف القاف وتشديدها. ومنع الطبري من القراءة بالتشديد، قال: لانه لا يكون الا مع تكرير اليمين والمؤاخذة تلزم من غير تكرير بلا خلاف. وهذا غير صحيح، لان تعقيد اليمين أن يعقدها بقلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الاخر لم يكن تعقيدا، وهو كالتعظيم الذي يكون تارة بالمضاعفة وتارة بعظم المنزلة. قال أبو علي الفارسي: من شدد احتمل أمرين: أحدهما أن يكون لتكثير الفعل، فقوله ” ولكن يؤاخذكم ” مخاطب للكثرة، فهو مثل ” وغلقت الابواب ” والاخر أن يكون عقد مثل ضعف، لانه أراد به التكثير، كما أن ضاعف قد لا يراد به فعل من اثنين وان كان أصله بين الاثنين. وقال الحسن بن علي المغربي: في التشديد فائدة، وهي أنه إذا كرر اليمين على محلوف واحد فإذا حنث لم يلزمه الا كفارة واحدة. وفي ذلك بين الفقهاء خلاف، والذي ذكره قوي. ومن قرأ بالتخفيف جاز أن يريد به الكثير من الفعل والقليل. و ” عاقدتم ” يراد به عقدتم، كما يقال عافاه الله. ويحتمل أن يكون يقتضى فاعلين، كأنه قال يؤاخذكم بما عاقدتم عليه اليمين. ولما كان عاقد في المعنى


[ 225 ]

قريبا من عاهد عداه بعلى كما يعدى بها عاهد، قال تعالى ” ومن أوفى بما عاهد عليه الله ” (1، والتقدير يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه، ثم حذف الراجع فقال ” عاقدتم الايمان “. ويجوز أن تكون ما مصدرية فيمن قرأ ” عقدتم ” بالتخفيف والتشديد، فلا يقتضى راجعا كما لا يقتضيه في قوله تعالى ” بما كانوا يكذبون “. والقراءات الثلاث يجب العمل بها على الوجوه الثلاثة، لان القراءتين فصاعدا إذا صحت فالعمل بها واجب لانها بمنزلة الايتين والايات، على ما ذكرنا في قوله تعالى ” يطهرن ” و ” يطهرن “. (فصل) واليمين على ثلاثة أقسام: أحدها: عقدها طاعة وحلها معصية، فهذا يتعلق بحنثها كفارة بلا خلاف، كقوله: والله لا أشرب خمرا ولا أقتل نفسا ظلما. والثاني: عقدها معصية وحلها طاعة، كقوله: والله لا أصلي ولا أصوم. فإذا حنث بالصلاة والصوم فلا كفارة عندنا عليه. والثالث: أن يكون عقدها مباحا، كقوله: والله لا ألبس هذا الثوب. فمتى حنث تعلق به الكفارة إذا لم يكن لبسه أولى. وكذا إذا حلف أنه لا يشرب من لبن عنزله ولا يأكل من لحمها وليس به حاجة إلى ذلك لم يجز له شرب لبنها ولا لبن أولادها ولا أكل لحومهن، فان اكل أو شرب مع ارتفاع الحاجة كانت عليه الكفارة، وان اكل أو شرب لحاجة فليس عليه شئ. فعلى هذا تكون الايمان على ضربين: أحدهما ما لا كفارة عليه، والثاني


1) سورة الفتح: 10. *

[ 226 ]

يجب فيها الكفارة. فما لا كفارة فيه هو اليمين على الماضي إذا كان كاذبا فيه وان كان آثما، مثل أن يحلف أنه ما فعل وكان فعل أو حلف أنه فعل وما كان فعل، فهاتان لا كفارة فيهما عندنا وعند اكثر الفقهاء. وكذلك إذا حلف على مال لتقطيعه فليس له أن يقتطع ولا كفارة عليه ويلزمه الخروج مما حلف عليه والتوبة، وهي اليمين الغموس. ومنها أن يحلف على أمر فعل أو ترك وكان خلاف ما حلف عليه أولى من المقام عليه، فليخالف ولا كفارة عليه عندنا. وما فيه كفارة فهو أن يحلف على أن يفعل أو يترك وكان الوفاء به واجبا أو ندبا أو كان فعله وتركه سواء، فمتى حالف كان عليه الكفارة. (فصل) وقوله ” فكفارته ” الهاء يحتمل رجوعها إلى أحد ثلاثة أشياء: أحدها إلى ما مر من قوله ” بما عقدتم الايمان “، الثاني إلى اللغو، الثالث إلى حنث اليمين لانه مدلول عليه. والصحيح الاول. ثم قال ” اطعام عشرة مساكين ” وانما ذكر بلفظ التذكير تغليبا للتذكير في كلامهم، لانه لا خلاف أنه لو أطعم الاناث لاجزأه. وقد حده أصحابنا بأن يعطي كل واحد مدين أو مدا منفردا أو يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوا، ولا يجوز أن يعطي خمسة ما يكفي عشرة. وهل يجوز اعطاء القيمة ؟ فيه خلاف، والظاهر أنه لا يجزي والروايات تدل على جوازه. وانما ذكر الكفارة في الاية لان التوبة من كل ذنب يعلم وجوبها على الجملة وليس تجب الكفارة على كل ذنب، لان المعنى فكفارته الشرعية كذا، وحكم التوبة معلوم من الشرع فلذلك لم يذكر.


[ 227 ]

وقوله ” من أوسط ما تطعمون أهليكم ” فيه قولان: أحدهما: الخبز واللحم دون الادم، لان أفضله الخبز واللحم والتمر وأوسطه الخبز والزيت أو السمن وأدونه الخبز والملح. الثاني: أوسطه في المقدورات، فكنت تشبع أهلك أولا تشبعهم بحسب اليسر والعسر فتقدير ذلك. هذا قول ابن عباس، وعندنا يلزمه أن يعطي كل مسكين مدين، وقال قوم يكفيه مد، وروي ذلك في أخبارنا (1 فالاول للمغني الواجد والثاني لمن دونه في الغنى. وقوله ” أو كسوتهم ” فالذي رواه أصحابنا أنه ثوبان لكل واحد مئزر وقميص وعند الضرورة قميص (2، وقال الحسن ثوب. وقوله ” أو تحرير رقبة ” فالرقبة التي تجزي في هذه الكفارة كل رقبة كانت سليمة من العاهة صغيرة كانت أو كبيرة مؤمنة كانت أو كافرة، والمؤمنة أفضل لان الاية مبهمة مطلقة وفيه خلاف، وما قلناه قول اكثر المفسرين من الحسن وغيره ومعنى تحرير رقبة جعلها حرة، وهذه الثلاثة الاشياء بلا خلاف، وعندنا أيضا واجبة على التخيير، وقال قوم الواجب منها واحد لا بعينه. والكفارة قبل الحنث لا تجزي، وفيه خلاف. ” فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ” أي فكفارته صيام ثلاثة أيام. وحد من ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، كما ذكرناه في باب الصوم. وصوم هذه الايام الثلاثة متتابع، ويقويه قراءة ابن مسعود وأبي ” صيام ثلاثة أيام متتابعات “.


1) انظر الكافي 7 / 452 – 453. 2) انظر المصدر السابق. *

[ 228 ]

وعن علي بن ابي حمزة: سألت ابا عبد الله عليه السلام عمن قال ” والله ” ثم لم يف [ به ] قال: كفارته اطعام عشرة مساكين مدا مدا دقيق أو حنطة، أو تحرير رقبة، أو صيام ثلاثة ايام متوالية إذا لم يجد شيئا (1. قلت: ماحد من لم يجد، فان الرجل يسأل في كفه وهو يجد. قال: إذا لم يكن عنده فضل من قوت عياله فهو لا يجد (2. وعن ابن عباس: كل صيام في القرآن متتابع الا قضاء رمضان. ثم قال ” ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ” أي حنثتم ” فاحفظوا أيمانكم ” أي احفظوها من أن تحلفوا بها، ومعناه لا تحلفوا، وقيل معناه احفظوها من الحنث، وهو الاقوى لان الحلف مباح الا في معصية بلا خلاف، وقيل مكروه في حال الصدق وانما الواجب ترك الحنث. وذلك يدل على أن اليمين في المعصية غير منعقدة، لانها لو انعقدت للزم حفظها، وإذا لم تنعقد لم تلزمه كفارة على ما بيناه. (باب) (حفظ اليمين) اعلم أن من حلف بالله أنه يفعل قبيحا أو يترك واجبا لم تنعقد يمينه ولم تلزمه كفارة إذا فعل ما حلف أنه لا يفعله أو لم يفعل ما حلف أنه يفعله. والدليل عليه أن انعقاد اليمين حكم شرعي بغير شبهة، وقد علمنا بالاجماع انعقاد اليمين إذا كانت على طاعة أو مباح، فإذا تعلقت بمعصية فلا اجماع ولا دليل يوجب العلم على انعقادها، فوجب نفي انعقادها لانتفاء دليل شرعي عليه.


1) إلى هنا في الكافي 7 / 453. 2) هذا الذيل في حديث في الكافي 7 / 452 عن ابى ابراهيم (موسى بن جعفر) عليه السلام، وظاهر السياق هنا انه حديث واحد. *

[ 229 ]

والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه ان الله تعالى امرنا بقوله ” واحفظوا أيمانكم ” (1 بأن نحفط ايماننا ونقيم عليها كقوله ” اوفوا بالعقود ” (2، فاليمين المنعدقة هي التي يجب حفظها والوفاء بها، ولا خلاف ان اليمين على المعصية بخلافه فيجب ان تكون غير منعقدة، وإذا لم تنعقد فلا كفارة فيها. وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فان الله عزوجل قد نهى عن ذلك فقال ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” (3، ثم قال: من حلف بالله فليصدق ومن لم يصدق فليس من الله، ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله (4. ولو حلف الرجل أن لا يحك أنفه لابتلي به (5. فقوله تعالى ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ” يدل على أن الحلف صادقا مكروه وفي حال الكذب محظور، لان اللفظ الواحد يجوز أن يراد به معنيان مختلفان. (فصل) وقوله تعالى ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا ” (6 أي لا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة في كل حق وباطل لان تبروا في الحلف فيها وتبقوا الاثم


1) سورة المائدة: 89. 2) سورة المائدة: 1. 3) سورة البقرة: 224. 4) هذا الحديث مقطع في الكافي 7 / 434 و 438، وفى من لا يحضره الفقيه 3 / 362 في حديثين. 5) هذه الجملة في حديث عن الصادق عليه السلام – من لا يحضره الفقيه 3 / 362. 6) سورة البقرة: 224. *

[ 230 ]

فيها، وهو المروي عن عائشة لانها قالت: لا تحلفوا به وان بررتم (1. وبه قال الجبائي، وهو المروي عن ائمتنا عليهم السلام (2. وأصله على هذا معترض بالبذل، لا تبذل يمينك في كل حق وباطل. وقيل في معناه قولان آخران: أحدهما: ان العرضة علة، كأنه قيل لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر والتقوى من حيث تعمدوا لتعتلوا بها وتقولوا قد حلفنا بالله ولم تحلفوا به. هذا قول الحسن، وأصله في هذا الوجه الاعتراض به بينكم وبين البر والتقوى للامتناع منهما، لانه قد يكون المعترض بين شيئين مانعا من وصول أحدهما إلى الاخر، فالعلة مانعة لهذا المعترض. وقيل: العرضة المعترض، قال الشاعر: * فلا تجعلينى عرضة للوائم (3 * الثاني: عرضة حجة، كأنه قيل لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع أن تبروا وتتقوا بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ثم يظهر أن غيرها خير منها، فافعلوا الذي هو خير ولا تحتجوا بما سلف من اليمين. والاصل في هذين القولين واحد، لانه منع من جهة الاعتراض بعلة أو حجة. وقيل ان أصل عرضة قوة، فكأنه قيل ولا تجعلوا الحلف بالله قوة لايمانكم في ألا تبروا، وعلى هذا يكون الاصل العرض، لان بالقوة يتصرف في العرض والطول، فالقوة عرضة لذلك. فتقدير أول هذين القولين لا تجعل الله مانعا من


1) الدر المنثور 1 / 268 بلفظ ” لا تحلفوا بالله وان نذرتم “. 2) أنظر تفسير البرهان 1 / 216. 3) استشهد به في الكشاف بلفظ ” ولا تجعلونى عرضة للوائم “، وقال في شرح شواهده: قيل البيت لابي تمام، وفى ديوان أبى تمام: متى كان سمعي عرضة للوائم * وكيف صغت للعاذلين غرائمى أنظر الكشاف 4 / 517. *

[ 231 ]

البر والتقوى باعتراضك به حالفا، وتقدير ثانيهما لا تجعل الله بما تحلف به دائما باعتراضك بالحلف من كل حق وباطل لتكون من البررة والاتقياء. وقيل في معنى قوله ” أن تبروا ” ثلاثة أقوال: أحدها لان تبروا على معنى الاثبات، الثاني أن يكون على معنى لدفع أن تبروا أو لترك أن تبروا، الثالث على تقدير ألا تبروا، وحذفت ” لا ” لانه في معنى القسم كقول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لذيك وأوصالي أي لا أبرح، هذا قول ابى عبيد. وأنكر هذا أبو العباس، لانه لما كان معه ” أن ” بطل أن يكون جواب القسم. وفي موضع ” أن تبروا ” ثلاثة أقوال: أحدها: أن موضعه الخفض، فحذف اللام – عن الخليل والكسائي. الثاني: موضعه النصب، قال سيبويه لما حذف الخافض وصل الفعل – وهو القياس. الثالث: قال قوم موضعه الرفع على أن يكون التقدير أن تبروا وتتقوا فتصلحوا بين الناس أولى، وحذف أولى لانه معلوم المعنى أجازه الزجاج. وقال بعض المفسرين: فعلى هذا إذا حلف أن لا يعطي زيدا من معروفه ثم رأى ان بره خير أعطاه ونقض يمينه (1. وعندنا لا كفارة عليه وجوبا وان كفر كان ندبا، وانما جاز ذلك لانه لا يخلو من أن يكون حلف يمينا جائزة أو غير جائزة، فان كانت جائزة فهى مقيدة بأن لا يرى ما هو خير، فليس في هذا مناقضة للجائز، وان كانت غير جائزة فنقضها غير مكروه. ثم قال ” لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت


1) هذا الفصل إلى هنا مأخوذ من التبيان 2 / 225 – 228. *

[ 232 ]

قلوبكم ” (1 أي لا يلزمكم كفارة في الدنيا ولا عقوبة في الاخرة على اليمين التي تقع منكم لغوا على ما ذكرناه. (فصل) ومن حلف أن يؤدب غلامه بالضرب جاز له تركه ولا يلزمه الكفارة، قال الله تعالى ” وان تعفوا أقرب للتقوى ” (2 على أنه يمكنه التورية، وان كان حلف مثلا ان يضربه مائة على ما أمره الله تعالى ” وخذ يبدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ” (3. ومن حلف أن لا يكلم زيدا حينا وقع على ستة أشهر، والدليل على بعد اجماع الطائفة قوله تعالى ” تؤتي أكلها كل حين باذن ربها ” (4. روى عن ابن عباس أن المراد به ستة أشهر، وهذا مروي عن ائمتنا عليهم السلام (5. وقيل: ان الاستدلال عليه من القرآن أن يقال: ان اسم ” الحين ” يقع في القرآن على أشياء مختلفة: يقع على الزمان كله في قوله سبحانه ” فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ” (6 وانما أراد زمان الصباح والمساء كله، ومما يقع عليه اسم الحين أيضا من قوله تعالى ” ومتعناهم إلى حين ” (7 فالمراد به وقت مبهم،


1) سورة البقرة: 225. 2) سورة البقرة: 237. 3) سورة ص: 44. والضغث – بكسر الضاد – قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس – انظر صحاح اللغة 1 / 285. 4) سورة ابراهيم: 25. 5) روى ذلك في أحاديث عن الصادق عليه السلام – انظر تفسير البرهان 2 / 311. 6) سورة الروم: 17. 7) سورة يونس: 98. *

[ 233 ]

وقال عبد الله بن عباس في قوله تعالى ” تؤتي اكلها كل حين ” هو ستة اشهر، ومما يقع عليه اسم الحين أيضا اربعون سنة، قال الله تعالى ” هل أتى على الانسان حين من الدهر ” (1 فذكر المفسرون انه تعالى اراد اربعين سنة (2. ومع اشتراك اللفظ لابد من دلالة في حمله على البعض، لما روت الامامية عن ائمتها عليهم السلام انه ستة اشهر وأجمعوا عليه كان ذلك حجة في حمهل على ما ذكرنا، والله اعلم بالصواب. (باب) (أقسام النذور والعهود وأحكامها) قال الله تعالى ” وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر ” (3 فالاية تدل على أن بالنذر يلزم الشئ كما يلزم بالزام الله، لانه قرنه بالانفاق الذى أمر الله تعالى به فقال ” أنفقوا من طيبات ما كسبتم ” (4. وقال الزجاج: يريد ما تصدقتم من فرض، لانه في ذكر الزكاة المفروضة، ألا ترى إلى قوله بعده ” وما للظالمين من أنصار “. قال ابن جرير: الظالم هنا من أنفق ماله رياءا وسمعة، وقيل المراد بالظالم ههنا من أنفق ماله لا كما أمر الله بوضع الصدقة في غير موضعه، لان الظلم وضع الشئ في غير موضعه، والمعتدي في الصدقة كمانعها، والوفاء بالنذر واجب إذا كان في طاعة الله.


1) سورة الانسان: 1. 2) انظر المفردات للراغب ص 138. 3) سورة البقرة: 270. 4) سورة البقرة: 267. *

[ 234 ]

والنذر عقد فعل شئ من البر على النفس بشرط، كأن يقول: ان عافى الله مريضي تصدقت بكذا لله. وهو من الخوف، لانه يعقد على نفسه مخافة التقصير فيه، وقال تعالى ” أوفوا بالعقود ” (1. قال الزجاج: العقود أبلغ من العهود، لان العهد يكون على استيثاق وغيره والعقد لا يكون الا العهد الذي أخذ على استيثاق، فكأنه قال: العقود التي أحكم عقدها أوفوا بها. وقال ابن عباس: إذا كان العقد على طاعة وجب الوفاء، وان كان على معصية لم يجز الوفاء بها، وإذا كان على مباح جاز الوفاء. ولم يجب عندنا [ أن ] يكون كما ذكرنا في باب اليمين على الطاعة والمباح والمعصية، قال الله تعالى ” يوفون بالنذر ويخافون ” (2 وقال ” والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ” (3 و ” أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ” (4 وقال ” ومنهم من عاهد الله ” (5 وقال ” ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤلا ” (6. وقال الشيخ أبو جعفر في المبسوط: النذر ضربان: أحدهما: نذر لجاج وغضب، وصورته صورة اليمين اما أن يمنع نفسه به فعلا أو يوجب عليها فعل شئ، فالمنع أن يقول: ان دخلت الدار فمالي صدقة. والايجاب أن يقول: ان لم أدخل الدار فمالي صدقة. فإذا وجد شرط نذره فهو بالخيار بين الوفاء به وبين كفارة اليمين.


1) سورة المائدة: 1. 2) سورة الانسان: 7. 3) سورة البقرة: 177. 4) سورة النحل: 91. 5) سورة التوبة: 75. 6) سورة الاحزاب: 15. *

[ 235 ]

والضرب الثاني: نذر التبرر والطاعة، وهو على ضربين اما ان يعلقه بجزاء أو يطلق، فالجزاء اما اسداء نعمة كقولك: ان رزقني الله ولدا فلله علي أن أتصدق بمالي. واما دفع نقمة مثل أن تقول: ان نجاني الله من البحر فلله علي أن أصوم كذا. فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء (1. والمطلق أن يقول: لله علي أن أتصدق بمالي أو أحج أو أصوم ونحو هذا نذر طاعة ابتداء بغير جزاء. فعندنا انه يلزمه، وقيل لا يتعلق به حكم لان ثعلبا قال النذر عند العرب وعد بشرط. والاول أصح عندنا. (فصل) واعلم أن النذر هو أن تقول ” ان كان كذا فلله علي كذا ” من صوم وغيره، أو تعتقد أنه متى كان شيئا فلله علي كذا وجب عليك الوفاء به عند حصول ذلك الشئ. ومتى لم تقل لله ولم تعتقده لله كنت مخيرا في الوفاء به وتركه. والمعاهدة أن تقول ” عاهدت الله – أو تعتقد ذلك – أنه متى كان كذا فعلي كذا “، فمتى حصل شرطه وجب عليك الوفاء به. وكذا ان لم تقل لله ولم تعتقده كان مستحبا الوفاء به. وانما يكون للنذر والعهد تأثيرا إذا صدرا عن نية. وعن محمد بن مسلم انه سأل الباقر أو الصادق عليهما السلام عن امرأة جعلت مالها هديا وكل مملوك لها حرا ان كلمت أختها ابدا. قال: تكلمها وليس هذا بشئ، ان هذا وشبهه من خطوات الشيطان (2، قال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر ” (3.


1) انظر المبسوط 6 / 246، وقد نقله المؤلف هنا بتغيير وتلخيص. 2) من لا يحضره الفقيه 3 / 360. 3) سورة النور: 21. *

[ 236 ]

وقال المرتضى: لا ينعقد النذر حتى يكون معقودا بشرط متعلق به، كأن يقول ” لله علي ان اصوم أو اتصدق ان قدم فلان “، ولو قال ” لله علي ان اصوم ” من غير شرط يتعلق به لم ينعقد نذره. قال: والدليل عليه أن معنى النذر في القرآن (1 يكون متعلقا بشرط، ومتى لم يتعلق بشرط لم يستحق هذا الاسم، وإذا لم يكن ناذرا إذا لم يشترط لهم يلزمه الوفاء، لان الوفاء انما يلزم متى ثبت الاسم والمعنى. قال: فأما استدلالهم بقوله ” أوفوا بالعقود ” وبقوله ” أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ” فليس بصحيح، لانا لا نسلم انه مع التعري من الشرط يكون عقدا وعهدا، وانما تناولت الايتان ما يستحق اسم العقد والعهد، فعليهم أن يدلوا عليه (2. والاحتياط فيما قدمناه من أنه يجب الوفاء ان كان مطلقا. والقائل إذا نذر فقال ” لله علي ان أصوم كل خميس ” فانه يجب عليه صومه أبدا لانه أيضا في معنى المشروط كأنه قال ” ان عشت “. (فصل) وأما قوله تعالى ” وما انفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه ” (3 فما بمعنى الذى وما بعدها صلتها والعائد إليها الهاء في قوله ” يعلمه “. والنذر عقد الشئ على النفس في فعل شئ من البر بشرط أو غيره، بأن يقول: لله علي كذا ان كان كذا، ولله علي كذا. ” فان الله يعلمه ” اي يجازي عليه، فدل بذكر العلم على تحقيق الخبر ايجازا للكلام.


1) كذا في النسختين، وفى المصدر ” في اللغة “. 2) الانتصار ص 163 مع تغيير في بعض العبارات. 3) سورة البقرة: 270. *

[ 237 ]

وقوله ” اوفوا بالعقود ” امرهم بالاتمام بالوفاء لما لزمهم، والعقود هي التي يتعاقدها الناس بينهم أو يعقدها المرء على نفسه، كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد الشركة وعقد البيع وعقد العهد وعقد الحلف. وقال بعض المفسرين: اراد الوفاء بالنذور فيما يجوز الوفاء به، اي اوفوا بالعقود الصحيحة، لانه لا يلزم احدا ان يفي بعقد فاسد، كالنذر في قتل مؤمن ظلما وعصب ماله. وقيل في قوله تعالى ” ولا تتبعوا خطوات الشيطان ” (1 هي النذور في المعاصي. وقوله ” يوفون بالنذر ” (2 الوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه. وقد ذكرنا ان النذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع امر يخاف ان لا يقع. وكفارة النذر مثل كفارة الظهار، فان لم يقدر كان عليه كفارة اليمين والمعني به انه إذا فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث. والله اعلم بالصواب (باب) (اقسام العهد) قال الله تعالى ” وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ” (3 اعلم أن من عاهد الله أن يفعل واجبا أو ندبا أو ما يكون به مطيعا وجب عليه الوفاء به، فان لم يفعل كان عليه الكفارة. وكذلك ان عاهد على أن لا يفعل قبيحا أو لا يترك واجبا أو ندبا ثم فعل القبيح أو ترك الطاعة وجب عليه أيضا الكفارة. أمر الله تعالى عباده بأن يفوا بعهده إذا عاهدوا عليه، وكذلك قوله ” وأوفوا


1) سورة البقرة: 168. 2) سورة الانسان: 7. 3) سورة النحل: 91. *

[ 238 ]

بالعهد ان العهد كان مسؤولا ” (1 أي مسؤلا عنه للجزاء عليه، فحذف عنه لانه مفهوم. والاية أمر منه تعالى بالوفاء بالعهود التي تحسن، ومتى عقد عاقد على ما لا يجوز نقض ذلك العقد الفاسد. وقد يجب الشئ للنذر والعهد والوعد به، وانما يجب عند العقد والعهد الذي يجب الوفاء به هو كل فعل حسن إذا عقد عليه وعاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه فانه يصير واجبا عليه، ولا يجوز له خلافه كما ذكرناه. فأما إذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير فلا كفارة عليه، وهذا يجوز فيما كان ينبغي أن يشرط، فأما إذا أطلقه وهو لا يأمن أن يكون غيره خيرا فقد أساء باطلاق العقد عليه. ثم قال ” ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها ” (2 وهذا نهي منه تعالى عن حنث الايمان بعد عقدها وتوكيدها. وفي الاية دلالة على أن اليمين على المعصية غير منعقدة، لانها لو كانت منعقدة لما جاز نقضها، واجمعا على أنه يجب نقضها ولا يجوز الوفاء به. وقد مدح الله المؤمنين فقال ” والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون ” (3 أي محافظون ما يعاهدون عليه، والمراعاة قيام الداعي باصلاح ما يتولاه. وقال تعالى ” ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ” (4 وقال ” ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لتصدقن ” (5.


1) سورة الاسراء: 34. 2) سورة النحل: 91. 3) سورة المؤمنون: 8. 4) سورة الاحزاب: 15. 5) سورة التوبة: 75. *

[ 239 ]

وانما صح أن يعاهد الله من لا يعرفه، لانه إذا وصفه بأخص صفاته جاز أن يعرف عهده إليه، فلذلك جاز أن يكون غير عارف، وقال تعالى ” وبعهد الله أوفوا ” (1. (باب الكفارات) أما كفارة اليمين فقد قال الله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ” (2 أي الثلاثة التي هي عتق رقة أو اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فعل فقد اجزأ مخير فيها، ومتى عجز عن جميعها كان عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. وعن محمد بن مسلم سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله تعالى ” من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ” قال ثوب، وعن اطعام عشرة مساكين أو اطعام ستين مسكينا الجمع لانسان واحد يعطاه ؟ قال: لا ولكن يعطي انسانا انسانا كما قال الله تعالى. قلت: يعطيها الرجل مرأته إذا كانوا محتاجين ؟ قال: نعم (3. وفي قوله تعالى ” أوسط ما تطعمون أهليكم ” قال أبو عبد الله عليه السلام: هو كما يكون [ انه يكون ] في البيت من يأكل اكثر من المد ومنهم من يأكل أقل من المد فبين ذلك، وان شئت جعلت لهم أداما، والادام أدناه الملح وأوسطه الخل والزيت وأرفعه اللحم (4. والكفارة فعالة من الكفر وهو الستر والتغطية، أي الذي يستر هذا الذنب،


1) سورة الانعام: 152. 2) سورة المائدة: 89. 3) هذا المضمون ورد في حديثين عن ابى الحسن عليه السلام – انظر تفسير البرهان 1 / 496. 4) الاستبصار 4 / 53 مع اختلاف في بعض الالفاظ. *

[ 240 ]

وهو الحنث في اليمين المعقود عليها حتى يزول عنه العقاب. والضمير في قوله ” فكفارته ” يعود إلى الذنب بالحنث بأنه مدلول عنه. وقال أبو على الفارسي: أي كفارة ما عقدتم عليه، لان الكفارة أو جبت بالتنزيل فيما عقد عليه دون اليمين التى لم يعقد عليها والمعقود عليه دون ما كان موقوفا على الحنث والبر دون ما لم يكن كذلك. وقال الزجاج: أي فكفارة المؤاخذة فيه إذا حنث أن يطعم عشرة مساكين ذكورا كانوا أو اناثا أو مختلطين. والمراد بالرقبة واحد من المماليك، والاصل في ذلك العنق وما حولها، وأريد ههنا جملة البدن لانه شبه المملوك بالاسير الذي يشد رقبته فإذا اطلق فك عن رقبته فكذا المملوك إذا اعتق. وقال الحسن: كل مملوك كالاخر في الجواز فيجوز الكافر ايضا لان الاية مبهمة. وخير الله الحالف بين هذه الثلاثة وفيه تفاوت، لان اشباع عشرة لا يفي بثمن الرقبة، والله العالم الحكمة في تسوية هذا بذاك، وكذلك الكسوة ثمنها دون الرقبة بكثير. وقال الزجاج: اكثرها نفعا افضلها عند الله، فان كان الناس في جدب لا يقدرون على المأكول فالاطعام افضل لان به قوام الحياة، والا فالاعتاق أو الكسوة افضل. (فصل) وكفارة قتل الخطأ واجبة سواء أخذ أولياء المقتول الدية من العاقلة أو من القاتل أو تصدقوا، قال الله تعالى ” ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ” (1، وسواء كان المقتول مؤمنا بين المؤمنين أو مؤمنا وقومه كافرون والقاتل لا يعرف ايمانه والظاهر أنه مباح الدم أو مؤمنا وقومه معاهدون.


1) سورة النساء: 94. *

[ 241 ]

وقيل: ان الكفارة أيضا واجبة إذا كان المقتول كافرا بين قوم معاهدين، لعموم قوله ” وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ” (1. واختلفوا في وجوب الكفارة على القاتل عمدا إذا قبل منه الدية أو عفي عنه: فقال قوم عليه الدية ولا كفارة، ومنهم من قال عليه كفارة واجبة كوجوبها في قتل الخطأ لانها وجبت في الخطأ بالقتل وهو حاصل في العمد. وعندنا كفارة قتل العمد عتق رقبة واطعام ستين مسكينا وصيام شهرين متتابعين بعد رضاء أولياء المقتول بالدية أو العفو عنه. (فصل) فان قيل: ما تقولون في الكفارة أهي عقوبة ؟ قلنا: الصحيح أن يقال الكفارة للظهار والوطئ في نهار شهر رمضان في الحضر وغير ذلك انها تقع موضع العقوبة لما ثبت وجوبها الا فيما يعظم فيه المأثم فأما ان كان عقوبة فيما سواه فكلا. وهذا بين، لان تحريم الاكل في نهار شهر رمضان في حال الحضر تكليف، فإذا أكل وكفر بعده فانه على التكفير يستحق المثوبة، وما هذا حاله معدود في النعم فكيف يكون عقوبة. والله أعلم بالصواب. (باب الزيادات) قوله تعالى ” بما عقدتم الايمان ” أي بتعقيدكم الايمان، وهو توثيقها بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة لانه كان معلوما عندهم. أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف.


1) سورة المائدة: 89. *

[ 242 ]

” فكفارته ” أي فكفارة حنثه ونكثه، والكفارة فعلة من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها. مسألة: وقوله تعالى ” أو كسوتهم ” عطف على محل من أوسط، ووجهه أن من أوسط بدل من الاطعام، والبدل هو المقصود، ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي. والكسوة ثوب يغطي العورة، ومعنى أو التخيير. وايجاب أحد الكفارات الثلاث على الاطلاق، فانها كلها واجبة على سبيل التخيير بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب. وقوله ” ذلك ” أي المذكور ” كفارة أيمانكم “، ولو قيل تلك كفارة أيمانكم لكان صحيحا على معنى تلك الاشياء أو لتأنيث الكفارة. ” واحفظوا أيمانكم ” أي لا تحنثوا، أراد الايمان لله الحنث فيها معصية. وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها ” كذلك ” أي مثل ذلك البيان ” يبين لكم آياته ” أي أعلام شريعته. مسألة: قوله تعالى ” ولا تعجلوا الله عرضة ” العرضة فعلة بمعنى مفعول كالغرقة. والعرضة أيضا المعرض للامر. ومعنى الاية على الاول أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو اصلاح ذات بين أو احسان إلى أحد ثم يقول أخاف الله ان أحنث في يمينى فيترك البر في يمينه، فقيل لهم فلا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه.


[ 243 ]

وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعبد الرحمن بن سمرة: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير (1. أي على شئ مما يحلف عليه. وقوله ” أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ” عطف بيان لايمانكم، أي للامور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والاصلاح بين الناس. مسألة: فان قيل: بم تعلقت اللام في قوله ” بأيمانكم ” ؟ قلت: بالفعل، أي ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم حجازا. ويجوز أن يكون اللام للتعليل ويتعلق ” أن تبروا ” بالفعل أو بالعرضة، أي لا تجعلوا الله لاجل أيمانكم عرضة لايمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم من أنزل فيه ” ولا تطع كل حلاف مهين ” (2 بأشنع المذام، وجعل كونه حلافا مقدمتها وان تبروا علة للنهي، أي ارادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لان الحلاف مجترئ على الله غير معظم له، فلا يكون متقيا ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وسائطهم واصلاح ذات بينهم. ” لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ” (3 أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لاقصد معه ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من اثم القصد إلى الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله.


1) الدر المنثور 1 / 268. 2) سورة القلم: 10. 3) سورة البقرة: 225. *

[ 244 ]

كتاب الصيد والذباحة قال الله تعالى ” أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم البر ما دمتم حرما ” (1 أباح سبحانه صيد البحر مطلقا لكل أحد، وأباح صيد البر الا في حال الاحرام وفي الحرم. وقال تعالى ” يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ” (2. وقال ” إذ احللتم فاصطادوا ” (3 أي إذ أحللتم من احرامكم فاصطادوا الصيد الذى نهيتكم عنه أن تحلوه وأنتم حرم، بمعنى لا حرج عليكم في اصطياده ان شئتم حينئذ، لان السبب المحرم قد زال، لان معناه الاباحة وان كانت هذه الصورة مشتركة بينها وبين الامر. والله أعلم. (باب أحكام الصيد) أما الذي أحله بقوله تعالى ” أحل لكم صيد البحر ” فهو على ما قاله المفسرون


1) سورة المائدة: 96. 2) سورة البقرة: 168. 3) سورة المائدة: 2. *

[ 245 ]

الطري منه وأما العتيق فلا خلاف في كونه حلالا. وإذا حل صيد البحر حل صيد الانهار، لان العرب تسمى النهر بحرا، ومنه قوله تعالى ” ظهر الفساد في البر والبحر ” (1 والاغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا، لكن إذا أطلق دخل فيه الانهار بلا خلاف. وقوله ” وطعامه متاعا لكم ” يعني طعام البحر، وفي معناه قولان: أحدهما ما قذف به ميتا، والثاني أنه المملوح. واختار الرماني الاول وقال: انه بمنزلة ما صيد منه وما لم يصد منه، فعلى هذا تصح الفائدة في الكلام. والذي يقتضيه مذهبنا ويليق به القول الثاني، ويكون قوله ” صيد البحر ” المراد به ما أخذ طريا. وقوله ” وطعامه ” ما كان منه مملوحا، لان ما يقذف البحر ميتا لا يجوز عندنا أكله لغير المحرم ولا للمحرم الا إذا قذف به البحر حيا وتحضره أنت فيجوز لك أكله وان لم تكن صدته. وقال الزجاج: معنى قوله ” وطعامه ” ما ينبت بمائه من الزرع والنبات. وقوله ” متاعا لكم ” مصدر، بدل قوله ” أحل لكم ” على أنه قد متعكم متاعا، أي منفعة للمقيم والمسافر. ” وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ” يقتضي ظاهره تحريم الصيد في حال الاحرام وأكل ما صاده غيره، وهو مذهبنا (2. وصيد السمك اخراجه من الماء حيا على أي وجه كان. وما يصيده غير المسلم لا يؤكل الا ما شوهد ولا يوثق بقوله أنه صاده حيا. (فصل) وقوله تعالى ” يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم


1) سورة الروم: 41. 2) هذا الباب إلى هنا مأخوذ من التبيان 4 / 28. *

[ 246 ]

من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ” (1. هذه أبين آية في كتاب الله في الاصطياد واكل الصيد، لانها أفادت جواز تعليم الجوارح للاصطياد وأكل ما يصيد الكلب ويقتل إذا كان معلما، لانه لو لم يقتله لما جاز أكله حتى يذكى معلما كان أو غير معلم. فمعنى الاية: يسألك يا محمد أصحابك أي شئ أحل لهم أكله من المطاعم فقل لهم أحل لكم الطيبات، أي ما يستلذ منها وهو حلال، وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكواسب من سباع الطير والبهائم. ولا يجوز أن يستباح عندنا أكل شئ مما اصطاده الجوارح والسباع سوى الكلب الا ما أدرك ذكاته. وقوله ” وما علمتم ” تقديره وصيد ما علمتم، فحذف لدلالة الكلام عليه، لان القوم كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله حين أمرهم بقتل الكلاب مما يحل لهم اتخاذه منها وصيده فأنزل الله فيما سألوه عنه هذه الاية (2، فاستثتى عليه السلام كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث مما أمر بقتله واذن في اتخاذ ذلك (فصل) واختلفوا في الجوارح التي ذكرت في الاية: فقال ابن عباس: الجوارح التي في قوله ” وما علمتم من الجوارح مكلبين ” هو كلما علم الصيد فيتعلمه بهيمة كان أو طائرا، والفهد والبازي من الجوارح. وروي ذلك عن علي بن الحسين وأبى جعفر عليهما السلام أيضا (3.


1) سورة المائدة: 4. 2) انظر أسباب النزول للواحدي ص 127. 3) وسائل الشيعة 6 / 223. *

[ 247 ]

وقال قوم: عنى بذلك الكلاب خاصة دون غيرها من السباع وهو ما رواه اصحابنا عنهما عليهما السلام (1. فأما ما عدا الكلب مما أدرك ذكاته فهو مباح والا فلا يحل له أكله، بهذا يجمع بين الروايتين. ويقوي قولنا سبحانه ” مكلبين “، وذلك مشتق من الكلب أي في هذه الحال، يقال رجل ملكب وكلاب إذا كان صاحب صيد بالكلاب. وفي ذلك دليل على أن صيد الكلب الذي لم يعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته. وقوله ” تعلمونهن مما علمكم الله ” معناه تؤدبون الجوارج فتعلمونهن طلب الصيد لكم ” مما علمكم الله ” من التأديب الذي أدبكم به. وقيل: صفة المعلم أن يجيبه إذا دعاه، ويطلب الصيد إذا أرسله عليه ولا يفر منه، ولا يأكل ما يصيده على العادة بل يمسكه إلى أن يلحقه صاحبه فيطعمه منه ما يريده، فان أكل منه على العادة فغير معلم وصيده حرام الا أن يذكى فانه انما أمسكه على نفسه. وهو الذي يدل عليه أخبارنا، يغرانا نعتبر أن يكون اكل الكلب للصيد دائما فأما إذا كان نادرا فلا بأس بأكل ما أكل منه. وقال قوم: لاحد لتعلم الكلاب، فإذا فعل ما قلنا فهو معلم، وقد دل على ذلك رواية أصحابنا، لانهم رووا انه إذا أخذ كلب مجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز اكل ما يقتله (2. وقد بينا أن صيد غير الكلب لا يحل اكله الا ما أدرك ذكاته، فلا يحتاج أن يراعى كيف يعلمه ولا اكله منه. ومن أجاز ذلك أجاز أكل ما اكل منه البازي والصقر، ذهب إليه ابن عباس، وقال يعلم البازي وهو أن يرجع إلى صاحبه. وقال قوم: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد، وهو أن يشلى على


1) الاستبصار 4 / 72. 2) انظر الاحاديث في ذلك وسائل الشيعة 16 / 227. *

[ 248 ]

الصيد فيستشلى (1 ويأخذ الصيد ويدعوه صاحبه فيجيبه، فإذا كان كذلك كان معلما وان اكل ثلثه. وقوله ” فكلوا مما أمسكن عليكم ” يقوي قول من قال ما أكل منه الكلب لا يجوز اكله لانه أمسك على نفس. ومن شرط استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه سمى عند ارساله، فان لم يسم عمدا لم يحل اكله الا إذا أدرك ذكاته، وحده أن يجده تتحرك عينه أو أذنه أو ذنبه فيذكيه حينئذ بفري الحلقوم والاوداج. (فصل) واختلفوا في من التي في قوله تعالى ” مما أمسكن عليكم ” [ فقال قوم هي زائدة لان جميع ما يمسكه فهو مباح وتقديره فكلوا ما أمسكن عليكم ] (2 ويجرون ذلك مجرى قوله ” يكفر عنكم من سيئاتكم ” (3، وأنكر قوم ذلك وقالوا من للتبعيض كما يقال ” أكلت من الطعام ” تريد اكلت شيئا من الطعام. والاقوى أن تكون من للتبعيض في الاية، لان ما يمسكه الكلب من الصيد لا يجوز أكل جميعه، لان في جملته ما هو حرام من الدم والفرث والغدد والطحال والمرارة والمشيمة والفرج والقضيب والانثيين والنخاع والعلباء وذات الاشاجع والحدق والخرزة تكون في الدماغ، فإذا قال فكلوا مما أمسكن عليكم أفاد ذلك بعض ما أمسكن. وهو الذي أباح الله أكله من اللحم وغيره.


1) استشلاه واشلاه أي استنقذه، وكل من دعوته حتى تخرجه وتنجيه من موضع هلكة فقد استشليته واشتليته – صحاح اللغة (شلا). 2) الزيادة من ج. 3) سورة البقرة: 271. *

[ 249 ]

وقوله ” واذكروا اسم الله عليه ” صرحي في وجوب التسمية عند الارسال، وهو قول ابن عباس. وقوله ” أمسكن عليكم ” يدل على أن الكلب متى غاب عن العين مع الصيد ثم رآه ميتا لا يجوز اكله، لانه يجوز أن يكون مات من غير قتل الكلب له. ومتى أخذ الكلب الصيد ومات في يده من غير أن يجرحه لم يجز اكله، وفحوى الاية يدل على هذا أيضا. وعموم الاية يدل على أن من لا يؤكل ذبيحته من أجناس الكفار لا يؤكل صيده، فأما الاصطياد بكلابه المعلمة إذا صاد المسلم بها فجائز. (باب) (ما يحرم من الصيد) يحرم أكل الارنب والضب ومن صيد البحر الجري والمار ماهي وكلما لا فلس له من السمك، والدليل عليه الاجماع المتردد. فان استدل المخالف بقوله تعالى ” أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ” (1 وقال: ظاهر الاية يقتضي أن جميع صيد البحر حلال وكذا صيد البر الا على المحرم خاصة. الجواب: أن قوله ” أحل لكم صيد البحر ” لا يتناول ظاهره الخلاف في هذه المسألة، لان الصيد مصدر صدت، وهو يجري مجرى الاصطياد الذي هو فعل الصائد، وانما يسمي الوحش وما جرى مجراه صيدا مجازا أو على وجه الخلاف لانه محل للاصطياد سمي باسمه، وإذا كان كلامنا في تحريم لحم الصيد فلا دلالة في اباحة الصيد لان الصيد غير المصيد.


1) سورة المائدة: 96. *

[ 250 ]

فان قيل: قوله ” وطعامه متاعا لكم وللسيارة ” يقتضي أنه اراد المصيد دون الصيد، لان لفظة ” الطعام ” لا تليق الا بما ذكرناه دون المصدر. قلنا: أولا روي عن الحسن البصري في قوله ” وطعامه ” أنه اراد به البر والشعير والحبوب التي تسقى بذلك، فعلى هذا سقط السؤال. ثم لو سلمنا أن لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر لكان لنا أن نقول قوله ” وطعامه ” يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقا في الشريعة لاسم الطعام، لان ما هو محرم في الشريعة لا يسمى بالاطلاق فيه طعاما كالخنزير والميتة، فمن ادعى في شئ مما عددنا تحريمه أنه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك وانه يتعذر عليه. (فصل) وصيد أهل الكتاب محرم لا يحل اكله وكذلك ذبائحهم، قال الله تعالى ” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق ” (1، وهذا نص في موضع الخلاف، لان من ذكرناه من الكفار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا ولا سنة فهم لا يسمون الله عند ارسال الكلب إلى الصيد وقد أوجبه الله بقوله ” واذكروا اسم الله عليه “، وكذلك لا يسمون على ذبائحهم، ولو سموا لكانوا مسمين لغير الله لانهم لا يعرفون الله بكفرهم. وهذا الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم وصيدهم. فان قيل: هذا يقتضي أن لا يحل ذباحة الصبى لانه غير عارف بالله. قلنا: ظاهر الاية يقتضي ذلك، وانما أدخلناه فيمن يجوز ذباحته بدليل، ولان الصبى وان لم يكن عارفا فليس بكافر ولا معتقد أن الله غير مستحق للعبادة على


1) سورة الانعام: 121. *

[ 251 ]

الحقيقة، وانما هو خال من المعرفة، فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح وتلفظ بالتسمية. وهذا كله موجود في الكفار. فان اعترض علينا بقوله: ” اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ” (1 وادعى أن الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب وصيدهم. فالجواب عن ذلك: ان أصحابنا يحملون قوله ” وطعام الذين أوتوا الكتاب ” على ما يؤكل من حبوب وغيرها، وهذا تخصيص لا محالة، لان ما صنعوه طعاما من ذبائحهم يدخل تحت اللفظة ولا يجوز اخراجه الا بدليل. فإذا قلنا: نخصصه بقوله ” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه “. قيل لنا: ليس أنتم بأن تخصوا آياتنا بعموم آيتكم بأولى منا إذا خصصنا الاية التي تعلقتم بها، لعموم ظاهر الاية التي استدللنا بها. والذي يجب أن نبينه في الفرق بين الامرين أنه قد ثبت وجوب التسمية عند ارسال الكلب وعند الذبيحة وان من تركها عامدا لا يكون مذكيا ولا يجوز اكل صيده وذبيحته على وجه من الوجوه، وكل من ذهب إلى هذا المذهب من الامة يذهب إلى تخصيص قوله ” وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ” وان ذبائحهم لا تدخل تحته، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع. ولا يلزم على ما ذكرنا أن اصحاب ابى حنيفة يوافقونا على وجوب التسمية لانا نرى وجوب التسمية مع الذكر على كل حال، وعند اصحاب ابى حنيفة انه جائز أن يترك التسمية من اداه اجتهاده إلى ذلك إذا استفتى هذه حاله. والامامية يذهبون إلى ان التسمية مع الذكر لا تسقط بحال من الاحوال. فان قيل: على هذه الطريقة التي تعتمدونها من الجمع بين المسألتين ما


1) سورة المائدة: 5. *

[ 252 ]

انكرتم من مخالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم ويقول: قد ثبت أن التسمية غير واجبة، أو يشير إلى مسألة قد دل الدليل على صحتها عنده، ثم يقول: وكل من ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى ” وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم “، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع. قلنا: الفرق بيننا ظاهر، لانا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحتها ونفى الشبهة عنها، ومخالفنا إذا بنى على مسألة – مثل أن التسمية غير واجبة أو غير ذلك من المسائل – لا يمكنه أن يصحح ما بنى عليه ولا أن يورد حجة قاطعة واضحة بيننا وبين من يتعاطى ذلك، ونحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحتها بما لا يمكن دفعه بهذا على التفصيل يخرجه الاعتبار. (باب الذبح) الذكاة حكم شرعي، والمذكي إذا استقبل القبلة بتوجيه الذبيحة إليها أيضا وسمى الله تعالى يكون مذكيا بيقين. فقد صرحوا بأن من ذبح يجب أن يكون مستقبلا، ولا يناقضه قولهم: ينبغى أن يوجه الذبيحة إلى القبلة فمن لم يستقبل بها القبلة متعمدا لم يجز أكل ذبيحته وان فعله ناسيا لم يكن به بأس، لان هذا أيضا مما يجب أن يفعل على ما يمكن. وقوله تعالى ” فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ان كنتم بآياته مؤمنين ” (1 لم يذكر الله في هذه الاية ذبحا ولكن الامة أجمعت على أن المراد أنه مباح لكم اكل لحوم ما ذكر اسم الله على تذكيته. ويجب استقبال القبلة عند الذبح مع امكان ذلك على ما ذكرناه، لان من ذبح غير مستقبل القبلة عامدا قد أتلف الروح وحل الموت في الذبيحة، وحلول


1) سورة الانعام: 118. *

[ 253 ]

الموت يوجب أن يكون ميتة ويدخل تحت قوله تعالى ” حرمت عليكم الميتة ” (1، إذ لم تقم دلالة على حصول ا لذكاة المشروعة فيستحق هذا الاسم. ولايجوز أن يتولى الذباحة غير المسلمين لما ذكرناه من الادلة. وقال ابن عباس: لا ينفع الاسم في الشرك ولا يضر النسيان في الملة. وهذا اشارة إلى أن ذبائح المشركين ومن ضارعهم وان ذكروا اسم الله عليها لا يجوز اكلها، وان تذكية أهل الحق العارفين بالله المعترفين بتوحيده وعدله لا بأس بها وان ترك ذكر اسم الله عليها نسيانا. ومعنى قوله تعالى ” ان كنتم بآياته مؤمنين ” لا تأكلوا الا ما ذكر اسم الله عليه ان كنتم مؤمنين على ما ذكرنا، وليس المراد ان كنتم مؤمنين فكلوا مما ذكر اسم الله البتة، لان المؤمن لا يخرج من أن يكون مؤمنا وان لم يأكل اللحم قط. فبان أن المراد النهي عن اكل ما لم يذكر اسم الله عليه والامر باعتبار تحليل اكل ما ذكر اسم الله عليه حقيقة، يدل على ذلك قوله ” ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ” (2، وهذا كأنه انكار على من يرى أنه لا يجوز اكل ما ذكر اسم الله عليه، فقيل ما الذي يمنعكم من أكله، وكان المشركون ينكرون على المسلمين أن يأكلوا ما قتلوه ويمتنعوا من اكل ما قتله الله، فأعلم تعالى أنه أحل ما ذكر اسم الله عليه وحرم غيره من الميتة وذبيحة المشرك ومن بحكمه وقد فصل المحرمات من المأكولات في قوله ” حرمت عليكم الميتة “. وإذا ذبحت الذبيحة فلم يخرج الدم ولم يتحرك شئ منها لم يجز أكلها، لانها ميتة ماتت خوفا على ماروي.


1) سورة المائدة: 3. 2) سورة الانعام: 119. *

[ 254 ]

(باب) (ما يحل أو يكره لحمه) قال الله تعالى ” أحلت لكم بهيمة الانعام ” (1 قال قوم: أحلت لكم بهيمة الانعام الوحشية من الضباء والبقر والحمر غير المستحلين اصطيادها ” وأنتم حرم الا ما يتلى عليكم ” (2 من قوله ” حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ” (3. والاقوى أن يحمل على عمومه في جميع ما حرمه الله في كتابه. وقال قوم: أراد ببهيمة الانعام أجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الامهات وهي ميتة. وعندنا أنه إذا ذبح شاة أو غيرها ووجد في بطنها جنين فان كان قد أشعر أو أوبر ولم يلجه الروح فذكاته ذكاة أمه وان لم يكن تاما لم يجز اكله على حال، وان كان فيه روح وجبت تذكيته ليحل اكله، يدل عليه الخبر إذا روي بالنصب ” ذكاة أمه ” (4. والانعام على الاطلاق مقصورة على الابل والبقر والغنم، لان الله فصل في سورة الانعام ثمانية أزواج ولم يذكر الا هذه الثلاثة. وقال عبد الجبار: ما يصاد ليس من الانعام، لانه تعالى قال ” فجزاء مثل ما قتل من النعم ” (5) فدل هذا على أن المقتول الذي جعل جزاؤه مثله من النعم ليس


1) سورة الانعام: 1. 2) نص الاية ” الا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وانتم حرم “. 3) سورة المائدة: 3. 4) يريد الجملة المروية ” فذكاته – أي الجنين في البطن – ذكاة أمه ” راجع وسائل الشيعة 16 / 270. 5) سورة المائدة: 95. *

[ 255 ]

من النعم. ثم عارض نفسه بقوله ” غير محلي الصيد “. وأجاب بأن ذلك ليس باستثناء، والمراد به سوى الصيد المحرم على المحرم، فكأنه تعالى بين أن المحلل والمحرم فيه غير الامر بالاحرام وهو الصيد، وهو بيان أمر ثالث سوى ما يحل من الانعام ويحرم. وقال تعالى ” يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ” (1 وانما جمع الوصفين لاختلاف الفائدتين، إذ وصفه بأنه حلال يفيد أنه طلق ووصفه بأنه طيب يفيد أنه مستلذ اما في العاجل أو الاجل. ” ولا تتبعوا خطوات الشيطان ” أي آثاره وأعماله، نزل لما حرم اهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة، فنهى الله عما كانوا يفعلونه وأمر المؤمنين بخلافه (2. والاذن في الحلال يدل على حظر الحرام على اختلاف ضروبه وأنواعه، فحملها على العموم اولى. والمآكل والمنافع في الاصل للناس فيها ثلاثة اقوال: فقال قوم هي على الحظر، وقال آخرون هي على الاباحة، ومنهم من قال بعضها على الحظر وبعضها على الاباحة. وهذه الاية دالة على اباحة المأكل الا ما دل الدليل على حظره. وقال تعالى ” والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ” (3 وهي الابل والبقر والغنم، أي خلقها لمنافعكم. (فصل) واعلم ان لحوم الخيل والبغال والحمير مكروهة غير محرمة، وبعضها اشد


1) سورة البقرة: 168. 2) انظر أسباب النزول للواحدي ص 29. 3) سورة النحل: 5. *

[ 256 ]

كراهية من بعض. ويستدل على ذلك بقوله ” قل لا اجد في ما اوحي الي محرما على طاعم يطعمه ” الاية (1. وحرم سائر الفقهاء لحوم الحمر الاهلية. واحتجوا عليه بقوله تعالى ” والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ” (2 وانه تعالى اخبر انها للركوب والزينة لا للاكل. والجواب لهم: انها وان كانت للركوب الزينة فلا يمتنع ان يكون لغير ذلك ايضا. ألا ترى قول القائل ” اعطيتك هذا الثوب لتلبسه ” فلا يمنعه من جواز بيعه أو هبته والانتفاع به من وجوه شتى. ولان المقصود بالخيل والحمير الركوب والزينة ولى اكل لحومها مقصودا منها. ثم انه لا يمنع من الحمل على الحمير والخيل وان لم يذكر الحمل انما خص الركوب والزينة بالذكر. واكثر الفقهاء يجيزون أكل لحوم الخيل ولا يعملون بمضمون الاية. ذكر الركوب والزينة خاصة، وقد رووا عن ابن عباس انما نهى عن لحوم الحمير كيلا يقل الظهر، وذلك النهي محمول على الكراهة للقرينة. (باب) (ما حلل من الميتة وما حرم من المذكى) اعلم أن العمل بتحليل ذلك أو تحريمه هو السمع وليس للعقل فيه مجال، فان وردت العبارة الشرعية بتحريم ماله صفة المباح في العقل امتنع منه، وان أباحت الشريعة ما كان محظورا قيل به. وقد نطق الكتاب بتحريم الميتة، قال الله تعالى ” حرمت عليكم الميتة ” وأطلقت الامة القول بتحريم الميتة ثم أجمعت على أن اطلاق قولها بالتحريم وما ورد به نص الكتاب مخصوص غير محمول على عمومه وشموله وان اختلفوا فيما هو مباح منها.


1) سورة الانعام: 145. 2) سورة النحل: 8. *

[ 257 ]

والميتة هي كل حيوان صامت مات أو على (1 وجه الذكاة، والذكاة مع الامكان على ثلاثة أضرب: الابل إذا نحرت من غير تعمد ترك التسمية، والسمك والجراد إذا اصطيدا، لقوله عليه السلام وقد سئل عن ذكاتهما فقال: صيده ذكاته (2، وما سوى ذلك مما يعمل فيه الذكاة إذا ذبح ولم يتعمد ترك التسمية على ما ذكرناه في نحر الابل. فان قيل: ما معنى قولكم ” مع التمكن ” من أي شئ تحرزتم به ؟ قلنا: نتحرز بذلك من الجمل والبقر وما جرى مجراهما إذا صال شئ منها أو تردى في بئر ولم يتمكن من تذكيته، فان الامر ورد بأن ينفح (3 بالرماح أو يرمى بالسهام أو يضرب بالسيوف حتى يموت فتلك ذكاته وان وقع في غير منحره أو مذبحه. وتحرزنا ايضا عما نذكره، فأما إذا رميتا صيدا وقد سمينا فأصاب السهم فقتله فانه لا خلاف بين الامة في ذكاته وان لم يقع في مذبحه، وكذا ما يقتله الكلب المعلم. وقد قال أبو عبد الله عليه السلام: أحل من الميتة عشرة أشياء: الصوف، والشعر، والوبر، والبيض، والناب، والقرن، والظلف، والانفحة، واللبن، والعظم (4. فالمباح من الميتة عندنا هذه العشرة، والدليل على ذلك اجماع الامامية على القول بصحته والفتوى به، ويدل عليه قوله تعالى ” قل لا اجد فيما اوحي


1) كذا في النسختين، والظاهر أن الصحيح ” لا على وجه الذكاة “. 2) ورد ذلك في حديث عن ابى عبد الله الصادق عليه السلام – انظر وسائل الشيعة 16 / 297. 3) نفحه بالرمح أو السيف: تناوله من بعيد – صحاح اللغة 1 / 412. 4) الوسائل 16 / 363 مع اختلاف يسير. *

[ 258 ]

الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ” (1 الاية. ولا يجوز الحكم بتحريم شئ سوى ما ذكر في الاية الا بدليل، ولا دليل مقطوع به على تحريم شئ مما عددناه. واما المحظور من المذكى فالمجمع عليه عشرة اشياء ايضا: الدم، والخصيتين والقضيب، والرحم، والمثانة، والغدد، والطحال، والمرارة، والنخاع، وذات الاشاجع وهي موضع الذبح ومجمع العروق. والدليل على ذلك اجماع الطائفة والاخبار المتواترة عن ائمة الهدى عليهم السلام في ذلك. فأما ما روي عن ابى الحسن عليه السلام انه قال: حرم من الشاة سبعة اشياء: الدم، والخصيتان، والقضيب، والمثانة، [ والغدد ] والطحال، والمرارة (2 فانه لا يبطل التجاوز إلى العشرة، ولو كان لازما للزم من يقل بدليل الخطاب، لان عندهم ان الحكم إذا علق بصفة دل انتفاء الصفة عن غيره على انتفاء الحكم. فهذا مذهب فاسد، لانه غير ممتنع ان يتناول دليل التحريم سبعة اشياء ويأتي دليل آخر على زيادة عليها، كما قلناه في مواضع من العبادات الموجب منها والمحظور، قال الله تعالى ” اقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” (3) فأوجب بهذا اللفظ علينا فعلهما ولم يمنع من ايجاب عبادات أخر بأدلة غير هذا. وكذا قال تعالى ” قل لا اجد فيما اوحي الي محرما على طاعم يطعم الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ” ثم حرم اشياء أخر بالكتاب وغيره، فلم يمتنع قوله ” قل لا اجد ” من القول بتحريم اشياء أخر، وقد ورد خبر بتحريم اربعين شيئا من المذكى ونحن نحملها على الكراهية لقرينة تدل عليه، ونعدل عن تحريمها للاجماع على تحريم تلك العشرة التي ذكرناها فقط.


1) سورة الانعام: 145. 2) الكافي 6 / 253 والزيادة منه. 3) سورة البقرة: 43. *

[ 259 ]

(باب الزيادات) قد ذكرنا انه لا يحل اكل ما قتله غير الكلب المعمل عندنا من ذوات الاربع والطيور، قال الله تعالى ” وما علمتم من الجوارح مكلبين ” (1، لانه لو لم نقل مكلبين لدخل في الكلام كل جارح من ذي ناب وظفر. ولما اتى بلفظة ” مكلبين ” وهي تخص الكلاب بلا خلاف بين اهل اللغة، علمنا انه لم يرد بالجوارح [ جميع ما يستحق هذا الاسم وانما اراد الجوارح ] (2 من الكلاب خاصة. ويجري ذلك مجرى قولهم ” ركب القوم نهارهم مبقرين محمرين “، لانه لا يحمل وان كان اللفظ الاول عام الظاهر الا على ركوب البقر والحمير. وليس لاحد ان يقول المكلب في الاية المراد به المفري للجارح الممرن له والمغرى، فيدخل فيه الكلب وغيره. لانه لا يعرف عن احد من اهل اللغة العربية ان المكلب هو المغري والمفري، بل نصوا في كتبهم على ان المكلب صاحب الكلاب. على انا لو سلمنا انها قد استعملت في التعليم والتمرين فذلك مجاز، وحمل القرآن على الحقيقة اولى من حمله على المجاز ما امكن. على ان قوله تعالى ” وما علمتم من الجوارح ” يعني ان يكرر ويقول مكلبين لان من حمل لفظة مكلبين على التعليم لابد من ان يلزمه التكرار، وإذا جعلنا ذلك مختصا بالكلاب افاد فائدة اخرى، لانه بيان ان هذا الحكم يتعلق بالكلاب دون غيرها. مسألة: روي أن أمير المؤمنين على السلام مر بسوق القصابين فنهاهم عن بيع أشياء


1) سورة المائدة: 4. 2) الزيادة من ج. *

[ 260 ]

منها الطحال، فيقل: ما الكبد والطحال الاسواء. فقال عليه له: كذبت ايتنى بتورين من ماء (1 أنبئك بخلاف ما تقول. فأتى بطحال وكبد وتورين من ماء فقال: شق الكبد من وسطه والطحال من وسطه واجعلهما في الماء جميعا. ففعل فلم ينقص من الكبد شيئا وصار الطحال كله دما وهي جلد وعروق، فقال: هذا لحم وهذا دم (2. وقال تعالى ” فيه تبيان لكل شئ ” (3) وقال ” وما يعقلها الا العالمون ” (4، فالقرآن يدل على جميع ذلك جملة والسنة تفصيلا. مسألة: قوله ” وما علمتم من الجوارج ” عطف على الطيبات إذا كانت ما موصولة ويجوز أن يكون ” وما علمتم ” كلاما مستأنفا وجعل ما شرطية وجعل جوابها ” فكلوا “. والمكلب مؤدب الكلاب واشتق من لفظه، فان استعمل في غيره من السباع فهو كالمجاز، فالاولى حمله على الحقيقة.


1) التور – بفتح التاء وسكون الواو – اناء من صفر أو حجارة كالاجانة قد يتوضأ منه – لسان العرب (تور). 2) الكافي 6 / 253 مع اختلاف في الفاظ. 3) في سورة النحل 89 قوله تعالى ” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ “. 4) سورة العنكبوت: 43. *

[ 261 ]

كتاب الاطعمة والاشربة الحلال هو الجائز من الافعال، مأخوز من أنه طلق لم يعقد بحظر، والمباح مثله. وليس كل حسن حلالا، لان أفعاله تعالى حسنة ولا يقال انها حلال، إذ الحلال اطلاق في الافعال لمن يجوز عليه المنع. وقد دللنا على اباحة المآكل الا ما دل الدليل على حظره، وقد استدل بقوله تعالى ” هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ” (1. على أن الاشياء التى يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات من العقل خلقت في الاصل مباحة قد أطلق لكل احد أن يتناولها ويستنفع بها، كالماء من البحر والحطب ونحوه من البر، فليست على هذا الوجه على العموم بل هو مخصوص. وقيل: معناه خلقها لاجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم بالنظر إليها.


1) سورة البقرة: 29. *

[ 262 ]

(باب) (ما أباحه الله من الاطعمة) قال الله تعالى ” يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ” (1. الطيب في الاصل خلاف الخبيث، وهو على ثلاثة أقسام: الطيب المستلذ، والطيب الجائز، والطيب الطاهر. والاصل واحد وهو المستلذ، الا أنه وصف به الطاهر والجائز تشبيها، إذا ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي يتكد هذه النفس في الصرف عنه وما يدعو إليه بخلاف ذلك، فالطيب الحلال والطيب النظيف. واختلفوا في معنى الطيبات في الاية، فقال البلخى هو ما يستطاب ويستلذ وقال الطبري وغيره هو الحلال الذي أذن لكم ربكم في اكله من الذبائح. والاول أولى، لان الثاني يؤول تقديرا إلى ما لا فائدة فيه، وهو يسألونك ما الذي هو حلال لهم فقيل الذي هو حلال لكم هو الحلال، وهذا لا معنى له. وإذا كان المراد بالذي أحل المستلذ حسن أن يقال: ان الاشياء التى حرمت غير مستلذة، لانه لا يميل كل أحد إلى الميتة، والدم أيضا ليس من طيبات الرزق. فقل لهم: الطيبات من المأكولات محللة لكم. والضمير في ” يسألونك ” للمؤمنين الذين حرم عليهم ما فصل في الاية الاولى من قوله ” حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ” الاية. أي يسألونك تفصيل المحللات فقل أحل لكم الطيبات. قال أبو علي: كل ما لم يجر ذكره في آيات التحريم كله حلال. وقال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ” ونحوه قوله ” يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا “، الا أن تلك الاية خطاب للمؤمنين


1) سورة المائدة: 4. *

[ 263 ]

وهذه خطاب لجميع الناس، يعني ان من آمن بالله لا يحل ولا يحرم الا بأمره، ومن امتنع من اكل ما أحل الله فقد خالف أمره والله أحل المستلذ. فقوله ” كلوا ” يحتمل أن يكون اباحة وتخييرا وأمرا على الايجاب أو الندب فالامر في وقت الحاجة إليه، إذا لا يجوز لاحد أن يترك ذلك حتى يموت مختارا مع امكان تناوله. والاذن على ان اكل المستلذ مما ملكتم، وهو الحلال مباح لكم. وفي الاية دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول بعض المفسرين، كأنه قيل كلوا من الطيب دون الخبيث كما لو قال كلوا من الحلال لكان ذلك دالا على حظر الحرام. وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم، فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده، لان قول القائل ” كل من مال زيد ” لا يدل على أن المراد تحريم ما عداه، لانه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة، وذكر الشرط ههنا انما هو على وجه المظاهرة في الحجاج. قال سبحانه ” يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم “. والتحريم هو العقد على مالا يجوز فعله للعبد، والتحليل حل ذلك العقد، وذلك كتحريم السبب بالعقد على اهله فلا يجوز لهم العمل فيه، وتحليله تحليل ذلك العقد وذلك يجوز لهم الان العمل فيه. ” ولا تعتدوا ” إلى ما حرم عليكم، واعتداء الحد مجاوزة الحكمة إلى ما نهى عنه الحكيم وزجر عنه اما بالعقل أو بالسمع. ثم قال تعالى ” وكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا ” والرزق هو ما للحي الانتفاع به وليس لغيره معه منه. فان قيل: إذا كان الرزق لا يكون الا حلالا فلم قال الله تعالى ” حلالا طيبا “. قلنا: ذكر ذلك على وجه التأكيد كقول ” وكلم الله موسى تكليما ” (1،


1) سورة النساء: 164. *

[ 264 ]

والطيب قد يكون مستلذا، وقد اطلق في موضع آخر فقال ” ومما رزقناهم ينفقون ” (1. ثم اعلم ان الطيب يقع على الحلال كقوله ” يا ايها الرسل كلوا من الطيبات ” (2، ويقع على الطاهر كقوله تعالى ” فتيمموا صعيدا طيبا ” (3، ويقع على مالا أذى فيه كما يقال زمان طيب ومكان طيب للذي لاحر فيه ولا برد، ويقع على ما يستطاب من المأكول يقال هذا طعام طيب لما تستطيبه النفس ولا تنفر منه. (فصل) ثم قال تعالى ” اليوم احل لكم الطيبات ” (4 أي ما تستطيبونه ولا تستخبثونه فردهم إلى عادتهم. ولا يمنع ان يقال المراد به مالا اذى فيه من المباح الذي ليس بمحرم، فكأنهم لما سألوه عن الحلال فقال هو مالا يستحق المدح والذم بتناوله، وذلك عام في جميع المباحات سواء علمت كذلك عقلا أو شرعا. ومن اعتبر العرف والعادة اعتبر عرف اهل الترف والغنى المكنة الذين كانوا في القرى والامصار على عهد النبي صلى الله عليه وآله حال الاخبار دون من كان من اهل البوادي من جفاة العرب. فإذا قيل: عادتهم مختلفة. قلنا: اعتبرنا العام الشائع دون الشاذ النادر. وقوله تعالى ” وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ” مبتدأ وخبر، وذلك يخص عند اكثر اصحابنا بالحبوب لانها المباحة من اطعمة اهل الكتاب، فأما ذبائحهم وكل مائع يباشرونه بأيديهم فانه ينجس ولا يحل استعماله. وتذكيتهم لا تصح، لان من شرط صحتها التسمية لقوله تعالى ” ولا تأكلوا


1) سورة البقرة: 3. 2) سورة المؤمنون: 51. 3) سورة النساء: 43. 4) سورة المائدة: 5. *

[ 265 ]

مما لم يذكر اسم الله عليه ” (1، وهؤلاء لا يذكرون اسم الله عليه، وإذا ذكروا قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى عليهما السلام، أو اتخذ عيسى أو عزيزا ابنا وكذب محمدا عليه السلام وذلك غير الله عزوجل، وقد حرمه الله بقوله ” وما اهل به لغير الله ” (2. ” وطعامكم حل لهم ” أي انه حلال لهم سواء قبلوه أو لم يقبلوه. وقيل: حلال للمسلم بذله لهم، ولو كان محرما لما جاز للمسلم بذله اياهم. وقوله ” فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ” (3 الذكر المأمور به هو قول ” بسم الله ” وقيل كل اسم يختص الله به أو صفة تختصه كقول ” بسم الله الرحمن ” أو ” باسم القديم ” أو ” باسم القادر لنفسه ” أو ” باسم العالم لنفسه ” وما جرى مجرى ذلك فالاول مجمع على جوازه والظاهر يقتضي جواز غيره، ولقوله تعالى ” قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الاسماء الحسنى ” (4. وهذا يقتضي مخالفة المشركين في أكلهم ما لم يذكر اسم الله عليه، فأما ما لم يذكر عليه اسم الله سهوا أو نسيانا من المؤمنين فانه يجوز أكله على كل حال. والاسم انما يكون لمسمى مخصوص بالقصد، وذلك مفتقر إلى معرفته واعتقاده، والكفار على مذهبنا لا يعرفون الله فكيف يصح منهم تسميته تعالى، فلا يجوز أكل ذبائح الكفار لهذا. ثم قال ” ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ” (5) أي لم لا تأكلوا. وبينهما فرق، لان ” لم لا تفعل ” أعم من حيث أنه يكون لحال يرجع إلى غيره


1) سورة الانعام: 121. 2) سورة البقرة: 173. 3) سورة الانعام: 118. 4) سورة الاسراء: 110. 5) سورة الانعام: 119. *

[ 266 ]

وأما ” ما لك لا تفعل ” فحال يرجع إليه، والمعنى أي شئ لكم في ان لا تأكلوا. وقيل ” ما منعكم ان تأكلوا ” لان ” مالك ان تفعل ” و ” مالك لا تفعل ” بمعنى. واختار الزجاج الاول. ” وقد فصل لكم ما حرم عليكم ” يعني ما ذكره في مواضع من قوله ” حرمت عليكم الميتة ” الاية وغيرها. ” الا ما اضطررتم إليه ” معناه الا إذا خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع وترك التناول، فحينئذ يجوز لكم تناول ما حرمه الله في قوله ” حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير “. واختلفوا في مقدار ما يسوغ تناوله حينئذ له: فعندنا لا يجوز أن يتناول الا ما يمسك الرمق، ومن الناس من قال يجوز له أن يشبع منه إذا اضطر إليه وان يحمل معه منها حتى يجد ما يأكل. قال: وفي الاية دلالة على أن ما يكره عليه من هذه الاجناس يجوز أكله لان المكره يخاف على نفسه مثل المضطر. (فصل) وقال تعالى ” قل لا اجد في ما أوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه فان ربك غفور رحيم ” (1. أمر الله نبيه عليه السلام ان يقول لهؤلاء الكفار انه لا يجد فيما اوحى الله إليه شيئا محرما الا هذه الثلاثة. وقيل: انه خص هذه الاشياء الثلاثة بذكر التحريم مع ان غيرها محرم مما ذكره تعالى في المائدة كالمنخنقة والموقوذة


1) سورة الانعام: 145. وفى النسختين ” ان الله غفور رحيم “. *

[ 267 ]

لان جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة وفي حكمها، فبين هناك بالتفصيل وهنا على الجملة. وأجود من ذلك ان يقال: خص الله هذه الثلاثة تعظيما لتحريمها وبين ما عداها في موضع آخر. وقيل: انه تعالى خص هذه الاشياء بنص القرآن، وما عداه بوحي غير القرآن. وقيل: ان ما عداه حرم فيما بعد بالمدينة والسورة مكية. والدم المسفوح هو المصبوب، وانما خص المسفوح بالذكر لان ما يختلط منه باللحم مما لا يمكن تخليصه منه لقلته معفو مباح. وقال قوم: انما قال ” مسفوحا ” لان الكبد يشبه الدم الجامد وان لم يكن دما فليس بحرام، فذكر المسفوح ليبين الحلال من الحرام. فأما الطحال فانه إذا ثقب وطرح في الماء فيسيل كله لانه دم وهو حرام. وقوله ” أو لحم خنزير ” فانه وان خص لحمه بالذكر هنا فان جميع ما يكون منه من الشحم والجلد والشعر محرم. ” فانه رجس ” يعني ما تقدم ذكره، ولذلك كنى عنه بكناية الذكر. والرجس كل مستقذر منفور عنه. وقوله ” أو فسقا ” عطف على قوله ” أو لحم خنزير “، والمراد بالفسق ما أهل لغير الله به. وكان ابن عباس وعائشة يتعلقان بظاهر هذه الاية في اباحة لحوم الحمير. ثم قال ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد ” قيل فيه قولان: احدهما غير طالب بأكله التلذذ، والثاني غير قاصد لتحليل ما حرمه الله. وروى اصحابنا ان المراد به الخارج على الامام العادل وقطاع الطريق فانهم لا يرخصون ذلك على كل حال.


[ 268 ]

” ولا عاد ” أي لا يعتدي بتجاوز ذلك إلى ما حرمه الله. والضرورة التي تبيح أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع. وقد استدل قوم بهذه الاية على اباحة ما عدا هذه الشياء المذكورة. وهذا ليس بشئ لان هنا محرمات كثيرة غيرها، كالسباع وكل ذي ناب وكل ذي مخلب وغير ذلك من البهائم والمسوخ مثل الفيلة والقردة. ويمكن ان يستدل بهذه الاية على تحريم الانتفاع بجلد الميتة، فانه داخل تحت التعدي. (فصل) وقوله تعالى ” وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ” (1 أخبر تعالى انه حرم على اليهود في ايام موسى عليه السلام كل ذي ظفر. قال ابن عباس: انه كل ما ليس بمنفرج الاصابع كالابل والنعام والبط والاوز. واخبر تعالى ايضا انه كان حرم عليهم شحوم البقر والغنم مما في اجوافهما، واستثنى من ذلك بقوله ” الا ما حملت ظهورهما “، فانه لم يحرمه. واستثنى ايضا ما على الحوايا من الشحم فانه لم يحرمه. واستثنى ايضا من جملة ما حرم ما اختلط بعظم، وهو الشحم الجنب والالية لانه على العصعص. وهذه الاشياء وان كانت محرمة في شرع موسى عليه السلام فقد نسخ الله تحريمها واباحها على لسان محمد صلى الله عليه وآله. ثم قال تعالى ” ذلك جزيناهم ببغيهم ” معناه انا حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم على بغيهم.


1) سورة الانعام: 146. *

[ 269 ]

فان قيل: كيف يكون التكيف عقابا وهو تابع للمصلحة، ومع ذلك فهو تعريض للثواب. قلنا: انما سماه عقوبة لان عظيم ما أتوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك فيه عقوبة وتعيين المصلحة وحصول اللطف، ولولا جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك. ” وانا لصادقون ” يعني فيما اخبر به من أن ذلك عقوبة لاوائلهم ومصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ. والصحيح أن تحريم ذلك لما كان مصلحة عند هذا الاقدام منهم جاز ان نقول حرم عليهم بظلمهم، لما روي ان العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. (باب الاطعمة المحظورة) قال الله تعالى ” حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ” (1 الاية. بين تعالى في هذه الاية ما استثناه في قوله ” احلت لكم بهيمة الانعام الا ما يتلى عليكم ” (2 فهذا مما تلاه علينا فقال سبحانه مخاطبا للمكلفين ” حرمت عليكم الميتة ” وهي كلما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية. واستثنى النبي صلى الله عليه وآله منها السمك والجراد فقال: ميتتان مباحتان (3. ثم قال تعالى ” والدم ” أي حرم عليكم الدم، فقيل: انهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها، فأعلم الله ان الدم المسفوح – أي


1) سورة المائدة: 3. 2) سورة المائدة: 1. 3) هذا المضمون مروى عن طريق العامة – انظر معجم مفهرس الفاظ الحديث 16 / 301. *

[ 270 ]

المصبوب – حرام، فأما اللحم المتلطخ بالدم وما يرى انه منه مثل الكبد فهو مباح. واما الطحال فهو الدم المسفوح على ما ذكرناه. وانما شرطنا في الدم الحرام ما كان مسفوحا لانه تعالى بين ذلك في الاية الاخرى فقال تعالى ” أو دما مسفوحا ” (1. ثم قال ” ولحم الخنزير ” أي حرم عليكم لحم الخنزير اهليه وبريه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم والمراد بهما الخصوص، ولحم الخنزير مخصوص ظاهره، مع ان كلما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم والجلد وغير ذلك فالمراد به العموم. وقوله تعالى ” وما اهل لغير الله به ” أي وحرم عليكم ما اهل لغير الله به أي ما ذبح للاصنام والاوثان مما يقرب به من الذبح لغير الله، أو رفع الصوت عليه بغير اسم الله حرام. وكل ما حرم اكله مما عددناه يحرم بيعه وملكه والتصرف فيه. والخنزير يقع على المذكر والمؤنث. وفى الاية دلالة على ان ذبائح كل من لم يذكر اسم الله عليه حرام، سواء كان كافرا أو من دان بالتجسم والصورة، أو قال بالجبر والتشبيه، أو خالف الحق، فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته. وقد قدمنا ان التسمية على الذبيحة واجبة، فان تركها ناسيا لم يكن به بأس. (فصل) ثم قال تعالى ” والمنخنقة ” قال السدي: هي التي تدخل رأسها بين شعبتين


1) سورة الانعام: 145. *

[ 271 ]

من شجرة فتختنق وتموت. وقال الضحاك: هي التي تختنق وتموت. وقال قتادة: هي التي تموت في خناقها، وقال كاأهل الجاهلية يخنقونها ثم يأكلونها. والا ولى حمل الاية على عمومها في جميع ذلك، سواء كان بشئ من قبلها أو من قبل غيرها، لانه تعالى وصفها بالمنخنفة، ولو كان الامر على ما ذكره قتادة فقط لقال والمخنوقة. وقوله تعالى ” والموقوذة ” يعني التي تضرب حتى تموت. ” والمتردية ” التي تقع من جبل أو تقع في بئر فتموت، فان وقعت في شئ من ذلك ويعلم أنها لم تمت بعد ولم يقدر على موضع ذكاته جاز أن تطعن وتضرب بالسكين في غير المذبح حتى تبرد ثم تؤكل. ” والنطيحة ” وهي التي تنطح أو ينطح. فان قيل: كيف تكون بمعنى المنطوحة وقد ثبت فيها الهاء وفعيل إذا كان بمعنى مفعول لا يثبت فيه الهاء، مثل ” عين كحيل ” و ” كف خضيب “. قلنا: اختلف في ذلك، فقال البصريون أثبت في ” النطيحة ” الهاء لانها جعلت كالاسم مثل الطويلة، فوجه التأويل النطيحة أي معنى الناطحة، ويكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها. وقال بعض الكوفيين: انما يحذف هاء الفعيل بمعنى المفعول إذا كان مع الموصوف، فأما إذا كان منفردا فلابد من اثبات الهاء، فيقال ” رأيت قتيلة “. والقول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول اكثر المفسرين، لانهم أجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتتا. وقوله ” وما أكل السبع ” أي وحرم عليكم ما أكل السبع، بمعنى ما قتله السبع – قاله ابن عباس، وهو فريسة السبع. ” الا ما ذكيتم ” الا ما أدركتم ذكاته فذكيتموها من هذه الاشياء التي وصفها، وموضع ما نصب بالاستثناء.


[ 272 ]

واختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع: فقال قوم يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من قوله ” حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ما أكل السبع ” الا مالا يقبل الذكاة من لحم الخنزير والدم، وهو الاقوى، وهو المروي عن علي عليه السلام وابن عباس، قال وهو أن تدركه يتحرك رجله أو ذنبه أو تطرف عينه، وهو المروي عنهما عليهما السلام. وقال آخرون: هو استثناء من التحريم لانه من المحرمات، لان الميتة لا ذكاة لها ولا الخنزير. قالوا: والمعنى حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر الا ما ذكيتم مما أحله الله تعالى له بالتذكية فانه حلال لكم. وسئل مالك عن الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاؤها. فقال: لا أرى أن تذكى ولا تؤكل، أي شئ يذكى منها. وقال كثير من الفقهاء: انه يراعى أن يلحق وفيه حياة مستقرة فيذكى فيجوز أن يؤكل، فأما ما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة فلا يجوز بحال. (فصل) فان قيل: فما وجه تكرير قوله تعالى: ” وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة ” وجميع ما عدد تحريمه في هذه الاية يعمه قوله تعالى ” حرمت عليكم الميتة ” وان اختلف أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو اهلال لغير الله أو اكيل سبع، وانما يكون كذلك – يعني قول من يقول انها وان كانت فيحياة إذا كانت غير مستقرة – فلا يجوز أكلها. قلنا: الفائدة في ذلك أن الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت الا ما مات حتف أنفه من دون شئ من هذه الاسباب، فأعلمهم الله تعالى ان حكم الجميع واحد وان وجه الاستباحة هي التذكية الشرعية.


[ 273 ]

وقال السدي: ان ناسا من العرب كان يأكلون جميع ذلك ولا يعدونه ميتا، انما يعدون الميتة التي تموت من الوجع. فان قيل: قد جاء في البقرة ” وما أهل به لغير الله ” وفي المائدة وفي الانعام وفي النحل ” وما أهل لغير الله به ” فما وجه ذلك ؟ قلنا: الاصل ما جاء في سورة البقرة، لان الباء التي يتعدى بها الفعل بمنزلة جزء منه، تقول ذهبت بزيد وأذهبته، وما يتعدى إليه الفعل باللام لا يتنزل منه اللام منزلة الجزء منه، فالباء أحق بالتقديم، لان معنى ” أهل به لغير الله ” ذبح لغير الله، أي سمي عليه بعض الالهة، ان لم يكن الذابح ممن يعرف الله فيسميه. فالاصل ما هو في البقرة، ثم لما كان الاهلال بالمذبوح لا يستنكر الا إذا كان ما عدا الاصل فتقديم المستنكر أولى. ألا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا ببيانه أعنى (1 فيقولون ” ضرب عمرا زيد “. فلهذا بدئ في البقرة ثم قدم في المواضع الثلاثة الاسم، وهو ذكر المستنكر في غير الله. والتذكية هي فري الاوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة ولا يكون بحكم الميت، والذكاة في اللغة تمام الشئ. فالمعنى على هذا في قوله تعالى ” الاما ذكيتم ” أي ما أدركتم ذبحه على التمام. (فصل) ثم قال تعالى ” وما ذبح على النصب ” فانصب الحجارة التى كانوا يعبدونها وهي الاوثان، واحدها نصاب، وزجوز أن يكون واحدا والجمع أنصاب (2.


1) أعنى: أشد عناية ” ج “. 2) قال ابن منظور: النصب والنصب – بفتح النون وسكون الصاد في الاول وضم النوب والصاد في الثاني – كل ما عبد من دون الله تعالى والجمع أنصاب، وقال الزجاج *

[ 274 ]

والفرق بين هذا وبين ما أهل به لغير الله أن المراد ما يصدق به تقربا إلى الانصاب، والمراد بالاول ما ذبحه الكافر أو من سمى غير الله عند ذبحه على ما ذكرناه لاي شئ ذبحه من بيع أو اضافة أو تصدق. وقال ابن جريح: النصب ليست أصناما، وانما كانت حجارة تنصب إذا ذبحوا لالهتهم جعلوا اللحم على الحجارة ونضجوا الدم على ما أقبل ما البيت، فقال المسلمون عظمت الجاهلية البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه، فأنزل الله تعالى ” لن ينال الله لحومها ولا دماؤها (1 ” الاية (2. وقوله ” وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق ” أي وحرم عليكم الاستقسام بالازلام، وهي سهام كانت الجاهلية يطلبون قسم الارزاق بها ويتفألون بها في أسفارهم وابتداءات أمورهم. وبه قال ابن عباس. وقال مجاهد: هي سهام العرب وكعاب فارس والروم (3. والانصاب الاصنام، وانما قيل لها ذلك لانها كانت تنصب للعبادة لها، قال تعالى ” انما الخمر والميسر والانصاب والازلام ” (4. والميسر القمار، وعن أبى جعفر عليه السلام يدخل فيه الشطرنج والنرد


النصب – بضمتين – جمع واحدها نصاب، قال وجائز أن يكون واحدا وجمعه أنصاب – لسان العرب (نصب). 1) سورة الحج: 37. 2) الدر المنثور 4 / 363 مع تفصيل أكثر. 3) قال الازهرى: الازلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهى وافعل ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال اخرج لى زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الامر مضى على ما عزم عليه وان خرج قدح النهى قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه فإذا أراد الاستقسام أخرج احدهما – لسان العرب (زلم). 4) سورة المائدة: 90. *

[ 275 ]

حتى اللعب بالجوز (1. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: الشطرنج ميسر العجم. والازلام القداح، وهي سهام كانوا يجلبونها للقمار. قال الاصمعي: كان الجزور يقسمونه على ثمانية وعشرين جزءا. وذكرت أسماءها مفصلة، وهي عشرة منها ذوات الحظوظ سبعة. ثم قال ” رجس من عمل الشيطان ” فوصفها بذلك يدل على تحريمها. (فصل) أما قوله تعالى ” كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل أن ينزل التوراة ” (2، فقد كان سبب نزول هذه الاية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وآله لحوم الابل، فبين الله أنها كانت محللة لابراهيم وولده إلى أن حرمها اسرائيل على نفسه وهو يعقوب، نذر ان برأ من النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهى لحوم الابل وألبانها، فلما برأ وفى بنذره. فحاجهم النبي عليه السلام بالتوراة فلم يجسروا أن يحضروها لعلمهم بصدق محمد ” ص ” (3). فان قيل: كيف يجوز للانسان أن يحرم شيئا وهو لا يعلم ماله فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة. قلنا: يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعمله، وكان الله أذن لاسرائيل في هذا النذر ولذلك نذر، فأما غير الانبياء والاوصياء فلا يجوز لهم مثل ذلك


1) مجمع البيان 2 / 239. 2) سورة آل عمران: 93. 3) أنظر أسباب النزول للواحدي ص 75. *

[ 276 ]

(باب) (الاشربة المباحة والمحظورة) قال الله تعالى ” يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ” (1 قال أكثر المفسرين: الخمر عصير العنب التى إذا اشتد. وقال جمهور أهل المدينة: كلما أسكر كثيره فهو خمر، وهو الظاهر في رواياتنا. واشتقاقه في اللغة من قولهم ” خمرت الشئ ” أي سترته، لانها تغطي على العقل. وكلما أسكر على اختلاف أنواعه حرام قليله وكثره لاشتراكهما في المعنى إذ يجري عليهما أجمع جميع أحكام الخمر. وقوله تعالى ” قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس ” فالمنافع التي في الخمر ما كانوا يأخذونه في اثمانها وربح تجارتها وما فيها من اللذة بتناولها، أي فلا يغتروا بالمنافع التي فيها فضررها أكثر من نفعها. قال الحسن: وهذه الاية تدل على تحريم الخمر، لانه مع ذكر أن فيها اثما وقد حرم الله الاثم في قوله ” قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم ” (2)، على أنه تعالى قد وصفها بأن فيها اثما كبيرا، والاثم الكبير محرم بلا خلاف. وقال قوم: المعنى ان الاثم بشرب هذه والقمار بهذا أكبر وأعظم، لانهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا. قال قتادة: وانما يدل على تحريمها الاية التي في المائدة من قوله ” انما


1) سورة البقرة: 219. 2) سورة الاعراف: 33. *

[ 277 ]

الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ” (1، أخبر الله تعالى أن هذه الاشياء رجس من عمل الشيطان ثم أمرنا باجتنابها بأن قال ” فاجتنبوه ” أي كونوا على جانب منها، أي في ناحية. ففي الاية دلالة على تحريم الخمر وعلى تحريم هذه الاشياء من اربعة أوجه: أحدها: أنه وصفها بأنها رجس، والرجس والنجس بلا خلاف محرم. الثاني: نسبها إلى عمل الشيطان، وذلك لا يكون الا محرما. الثالث: انه تعالى أمرنا باجتنابه، والامر يقتضي الايجاب شرعا. الرابع: انه جعل الفوز والفلاح في اجتنابه. والهاء في قوله ” فاجتنبوه ” راجعة إلى عمل الشيطان. (فصل) ثم قال تعالى ” انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ” (2. قيل هل ان ههنا مع ما بعدها بمنزلة الامر أي انتهوا وسبب نزول هذه الاية أن سعد بن أبى وقاص لاقى رجلا من الانصار وقد كانا شربا الخمر فضربه بلحي جمل (3. وقيل: انه لما نزلت قوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ” (4 قال رجل: اللهم بين لنا في هذه الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الاية.


1) سورة المائدة: 90. 2) سورة المائدة: 91. 3) تفسير البرهان 1 / 500 بتفصيل. 4) سورة النساء: 43. *

[ 278 ]

معناه: الشيطان انما يريد ايقاع العداوة والبغضاء بينهم بالاغراء المزين لهم ذلك حتى إذا سكروا زال عقولهم وأقدموا من المكاره والقبائح ما كانت تمنعهم منه عقولهم. وقال قتادة: كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى سليبا حزينا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء. وقوله ” ويصدكم عن ذكر الله ” أي يمنعكم من الذكر لله بالتعظيم والشكر على آلائه، لما في ذلك من الدعاء إلى الصلاح واستقامة الحال في الدين والدنيا. وقوله تعالى ” فهل أنتم منتهون ” صيغته الاستفهام ومعناه النهي، وانما جاز ذلك لانه إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب صار في منزلة من نهي عنه، فإذا قيل له أتفعله بعد ما قد ظهر من أمره، صار في محل من عقد عليه باقراره. فان قيل: ما الفرق بين انتهوا عن شرب الخمر وبين لا تشربوا الخمر ؟ قلنا: الفرق بينهما أنه إذا قال ” انتهوا ” دل ذلك على أنه مريد لامرينا في شرب الخمر، وصيغة النهي تدل على كراهة الشرب، لانه قد ينصرف عن الشرب إلى أحد أشياء مباحة، وليس كذلك المأمور به، لانه لا ينصرف عنه الا إلى محظور، والمنهي عنه قد ينصرف عنه إلى غير مفروض. ثم قال ” وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ” (1 لما أمر سبحانه باجتناب الخمر والميسر والانصاب والازلام أمر بطاعته في ذلك وفي غيره من أوامره، ثم أمر بالحذر وهو امتناع القادر من الشئ لما فيه من الضرر والخوف، وهو توقع الضرر الذي لا يؤمن كونه. ” فان توليتم ” الوعيد ” فاعلموا ” انكم قد استحققتم العذاب لتوليكم عما أدى رسولنا من البلاغ المبين.


1) سورة المائدة: 92. *

[ 279 ]

والخمر محرمة على لسان كل نبي وفي كل كتاب نزل، وان تحريمها لم يكن متجددا، فإذا انقلبت الخمر خلا بنفسها أو بفعل آدمي إذا طرح فيها ما ينقلب إلى الخل حلت. ثم قال ” ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ” (1. قال ابن عباس: انه لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة: كيف بمن مات من اخواننا وهو يشربها من قبل، فأنزل الله الاية وبين أنه ليس عليهم في ذلك شئ إذا لم يكونوا عالمين بتحريمها وقد كانوا مؤمنين عاملين للصالحات ثم يتقون المعاصي وجميع ما حرم الله عليهم. والصحيح أن معناه ليس على المؤمنين اثم ولا حرج في أكل طيبات الدنيا إذا أكلوها من الحلال، ودل على هذا المعنى بقوله ” إذا ما اتقوا وآمنوا “. وتكرار الاتقاء انما حسن لان الاول المراد به اتقاء المعاصي، الثاني الاستمرار على الاتقاء، الثالث اتقاء مظالم العباد. (فصل) أما قوله تعالى ” وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم ” إلى قوله ” ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ” (2 قال قوم ممن لا يؤبه بهم استدلوا بهذه الاية على تحليل النبيذ، بأن قالوا أمتن الله علينا وعدد من جملة نعمه علينا أن خلق الله لنا الثمار التي نتخذ منها السكر والرزق الحسن، وهو سبحانه وتعالى لا يمتن بما هو محرم. وهذا لا دلالة لهم فيه لامور:


1) سورة المائدة: 93. 2) سورة النحل: 66 – 67. *

[ 280 ]

أحدها: ان المفسرين على خلاف هذا، ولم يقل أحد منهم هو ما حرم من العثرات وانما ذكروا في معناه تتخذون منه ما حل طعمه من شراب أو غيره. الثاني: أنه لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله ” ورزقا حسنا ” معنى لان ما أحله وأباحه فهو أيضا رزق حسن. فان قيل: فلم فرق بين الرزق الحسن وبينه والكل شئ واحد ؟ قلنا: الوجه فيه أنه تعالى خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم أنتم منها ما هو حرام عليكم وتركتم ما هو رزق حسن. وأما وجه المنة فبالامرين معا ثابتة، لان ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة ليعجل الانتفاع به وما حرمه، فوجه النعمة فيه أنه إذا حرم علينا وأوجب الامتناع ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعمة، فهو نعمة على كل حال. ويؤكد ذلك قوله ” وهديناه النجدين ” (1 وقوله ” فألهمها فجورها وتقواها ” (2 ونحوه قولنا ان خلق نار جهنم نعمة من الله على العباد. الثالث: ان السكر إذا كان مشتركا بين السكر والطعم وجب أن يتوقف فيه ولا يحمل على أحدهما الا بدليل، وما ذكرناه مجمع على وه أنه مراد وما ذكر ليس عليه دليل. والسكر في اللغة على أربعة أقسام (3: أحدها ما أسكر. والثاني ما طعم من


1) سورة البلد: 10. 2) سورة الشمس: 8. 3) قال الصغانى في العباب السكر: نبيذ التمر، وفى التنزيل ” تتخذون منه سكرا، ” هذا قيل لهم قبل أن يحرم عليهم الخمر، والسكر خمر الاعاجم، ويقال لما يسكر السكر، ومنه حديث النبي عليه السلام ” حرمت الخمرة بعينها والسكر من كل شراب ” هكذا رواه احمد ابن محمد بن حنبل [ المسند ] والاثبات. وقال ابن عباس: السكر حرم من ثمره قبل أن يحرم وهو الخمر، والرزق الحسن ما أحل من ثمره من الاعناب والتمور. وقال أبو عبيدة *

[ 281 ]

الطعام، كما قال الشاعر: * جعلت عين الاكرمين سكرا (1 * أي طعما. الثالث المصدر من قولك سكر سكرا، وأصله انسداد المجاري بما يلقى فيها ومنه السكر، وهو القسم الرابع (2. على أنه كان يقتضي أن يكون كل ما أسكر منه يكون حلالا، وذلك خلاف الاجماع، لانهم يقولون القدر الذي لا يسكر هو المباح، وكان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا، وذلك لا يقوله أحد من المسلمين. ويلزم أن يكون النقيع حلالا، وذلك خلاف الاجماع. (باب) (بيان تحريم الخمر) حدث علي بن يقطين قال: سأل المهدي الخليفة أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن الخمر أهي محرمة في كتاب الله تعالي، فان الناس انما يعرفون النهي [ عنها ] ولا يعرفون التحريم [ لها ]. فقال له أبو الحسن: هي محرمة في كتاب الله تعالى. فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله تعالى يا ابا الحسن ؟ فقال: قول الله تعالى ” قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم ” (3،


وأشد السكر الطعام جعلت اعراض الكرام سكرا، أي جعلت دمهم طعما لك. وقال الزجاج: هذا بالخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى يتخمر بأعراض الكرام، وهو أبين مما يقال للذى يتبرك في أعراض الناس. وقال بعض المفسرين: السكر الخل في التنزيل هذا شئ لا يعرفه اهل اللغة ” منه “. 1) رواية التبيان ” عيب الاكرمين “. وفى اللسان ” جعلت اعراص الكرام سكرا “. 2) من قوله ” والسكر في اللغة ” إلى هنا منقول من البيان 6 / 401 مشوها، وفيه: الثالث السكون، قال الشاعر ” وجعلت عين الحرور تسكر “، والرابع المصدر. 3) سورة الاعراف: 31. *

[ 282 ]

فأما قوله ” ما ظهر منها ” فانه يعني بذلك الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر في الجاهلية، وأما قوله ” وما بطن ” فانه يعني به ما نكح من الاباء، فان الناس كانوا من قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وآله إذا كان للرجل زوجة ومات عنها زوجها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله ذلك، وأما قوله ” والاثم ” فانه يعني به الخمرة بعينها، وقد قال الله تعالى في مواضع أخر ” يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما ” (1 فانما عنى بالاثم حراما عظيما، وقد سماها الله تعالى أخبث الاسماء رجسا. ثم قال عليه السلام: ان أول ما نزل في تحريم الخمر ” يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما “، فلما نزلت هذه الاية أحس القوم بتحريم الخمر وعلموا أن الاثم مما يجب اجتنابه، ثم نزلت آية أخرى وهي قوله ” انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ” (2، وكانت هذه الاية أشد من الاولى وأغلظ في التحريم، ثم ثلث بآية أخرى وكانت أغلظ في الاية الاولى والثانية وأشد، وهي قوله ” انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ” (3، فأمر باجتنابها وفسر عللها التي لها ومن أجلها حرمها. ثم بين تعالى تحريمها وكشفه في الاية الرابعة مع ما دل عليه في هذه الاي


1) سورة البقرة: 216. والى هنا ينتهى الحديث عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام كما في الكافي 6 / 406 مع اختلاف في ألفاظ يسيرة. 2) سورة المائدة: 91. 3) سورة المائدة: 92. *

[ 283 ]

المتقدمة بقوله ” قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم “، وقال في الاية ” يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ” فخبر أن الاثم في الخمر وغيرها وأنه حرام، وذلك أن الله تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها شيئا بعد شئ حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر الله ونهييه فيها وذلك من فعل الله تعالى ووجه التدبير والصواب لهم ليكونوا أقرب إلى الاخذ بها وأقل لنفارهم منها. فقال المهدي: هذه والله فتوى هاشمية (1. (فصل) وروي أنه شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر، فأراد أن يحده فقال له قدامة انه لا يجب علي الحد لان الله تعالى يقول ” ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ” (2 فدرأ عنه الحد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له: لم تركت اقامة الحد على قدامة في شربه الخمر ؟ فقال: تلا علي آية وتلاها عمر. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس قدامة من أهل هذه الاية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله، ان الذين آمنوا لا يستحلون حراما، فاردد قدامة واستتبه مما قال فان تاب فأقتم عليه الحد وان لم يتب فاقتله فقد خرج من الملة، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (3. والاية انما أنزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب، كعثمان بن مظعون وغيره، فبين الله لهم انه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات، أي ليس عليهم أثم وخروج فيما طعموا من الحلال.


1) الكافي 4 / 406 في رواية مرسلة غير الرواية السابقة مع اختلاف في ألفاظ. 2) سورة المائدة: 93. 3) انظر تفسير البرهان 1 / 500. *

[ 284 ]

وهذه اللفظة صالحة للاكل والشرب. وقوله ” ثم اتقوا وآمنوا ” أي اتقوا شربها بعد التحريم ” ثم اتقوا ” أي دانوا على الاتقاء. فالاتقاء الاول من الشرب، والاتقاء الثاني هو الدوام عليه، والاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي وضم الاحسان إليه. وقال الله تعالى ” واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ” (1. قال أبو جعفر عليه السلام: الميثاق هو ما بين لهم في حجة الوداع من تحريم كل مساء وكيفية الوضوء على ما ذكره الله في كتابه ونصب أمير المؤمنين عليه السلام اماما للخلق كافة (2. وتحريم الفقاع لا يعلل بالسكر وانما تحريمه مثل لحم الخنزير والدم. (فصل) وقد أباح الله تعالى الماء الذى هو أذل موجود وأعز مفقود، وقد قال تعالى ” وجعلنا من الماء كل شئ حي ” (3 وقال ” هو الذي أنزل من السماء ماءا لكم منه شراب ” (4 أخبر تعالى أنه الذي ينزل من السماء ماءا، يعني غيثا ومطرا لمنافع خلقه فينبت بذلك الماء هذه الاشياء التي عددها. وقال تعالى ” وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ” إلى أن قال ” يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ” (5 من أصفر وأبيض وأحمر مع


1) سورة المائدة: 7. 2) تفسير البرهان 1 / 454 بمضمونه. 3) سورة الانبياء: 30. 4) سورة النحل: 10 5) سورة النحل: 68. *

[ 285 ]

انها تأكل الحامض والمر فيجعله الله تعالى عسلا حلوا لذيذا فيه شفاء للناس. واكثر المفسرين على أن الهاء راجعة إلى العسل، وهو الشراب الذي ذكر أن فيه شفاءا من كثير من الامراض. وانما قال ” من بطونها ” وهو خارج من فيها لان العسل يخلقه الله في بطن النحل ثم يخرجه إلى فيه ثم يخرجه من فيه، ولو قال من فيها لظن أنها تلقيه من فيها وليس بخارج من البطن. وقال الرضي في كتاب مجاز القرآن: ان العسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل، وانما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من اوراق الاشجار وأصناف النبات (1، لانه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة وعلى أوصاف معلومة، والنحل ملهمة بتتبع تلك المساقط [ وتعهد تلك المواقع ] (2 فتنقل العسل بأفواهها إلى المواضع المعدة لها، قال تعالى ” يخرج من بطونها ” والمراد من جهة بطونها وجهة بطونها أفواهها، وهذا من غوامض البيان وشرائف الكلام (4. وقال امير المؤمنين عليه السلام: اشربوا ماء السماء فانه يطهر البدن ويدفع الاسقام، قال تعالى ” وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ” (4. وجاء رجل فشكى إليه وجع البطن فقال عليه السلام: ألك زوجة ؟ قال: نعم. قال: استوهب منها درهما من صداقها بطيبة نفسها من مالها واشتر به عسلا واسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه. ففعل الرجل فبرء، فسئل عليه السلام عن ذلك فقال سمعت الله تعالى يقول في كتابه ” فان طبن لكم عن شئ منه نفسا


1) في المصدر ” وأضغاث النبات “. 2) الزيادة من المصدر. 3) تلخيص البيان ص 193. 4) سوة الانفال: 11. والحديث في الكافي 6 / 387. *

[ 286 ]

فكلوه هنيئا مريئا ” (1 وقال ” يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ” (2 وقال ” ونزلنا من السماء ماءا مباركا ” (3، فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنئ والمرئ رجوت فيه لك الشفاء (4. (باب الزيادات) قال الشافعي: انفحة (5 الميتة نجسة لا يحل الانتفاع بها، وعندنا وعند أبي حنيفة هي طاهرة، وبذلك نصوص عن ائمة الهدى عليهم السلام (6، يؤيد ذلك قوله تعالى ” كلوا مما في الارض حلالا طييا ” (7 وهذا عام الا ما اخرجه الدليل، ولا دليل على تحريم الا نفحة من الميتة ولا نجاستها من كتاب وسنة ولا اجماع. ويؤكد ذلك ما ذكره أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه المشهور عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت في مسجد النبي عليه السلام إذ دخل رجل وقال لي: من أنت ؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة. قال: تعرف محمد الباقر ؟ قلت: نعم فما حاجتك إليه ؟ قال: هيأت أربعين مسألة أسأله عنها فما كان من حق أخذته وما كان من باطل تركته [ قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بين الحق والباطل ؟ قال: نعم ] قلت: ما حاجتك إليه ان كنت تعرف الفرق ما بين الحق والباطل.


1) سورة النساء: 4. 2) سورة النحل: 69. 3) سورة ق: 9. 4) وسائل الشيعة 17 / 75 مع اختلاف في بعض الالفاظ. 5) الانفحة – بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة – كرش الحمل أو الجدى ما لم يأكل، فإذا أكل فهو كرش، وكذلك المنفحة بكسر الميم.. والانفحة لا تكون الا لذى كرش، وهو شئ يستخرج من بطن ذيه، اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن – لسان العرب (نفح). 6) انظر وسائل الشيعة 2 / 1088 – 1090. 7) سورة البقرة: 168. *

[ 287 ]

قال: أنتم قوم لا تطاقون. فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر عليه السلام وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج، فقال للرجل: من أنت ؟ فقال: أنا قتادة بن دعامة البصري. قال: أنت فقيه البصرة. قال: نعم أخبرني عن الجبن. فتبسم أبو جعفر عليه السلام وقال: رجعت مسائلك إلى هذا. فقال: ضلت عني. فقال عليه السلام: لا بأس به. فقال: ربما جعلت فيه أنفحة الميتة. قال: ليس بها بأس، ان الانفحة ليس لها عروق وليس فيها دم وليس لها عظم انما تخرج من بين فرث ودم، وانما الانفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة [ فهل تؤكل تلك البيضة ]. قال: [ لا و ] لا آمر بأكلها. فقال عليه السلام: [ ولم ؟ فقال: لانها من الميتة، قال له ] فان حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها ؟ قال: نعم. قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة كذلك الانفحة مثل البيضة، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه (1. مسألة: قوله تعالى ” كل الطعام كان حلا ” (2 أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام والحل مصدر حل الشئ، كما يقال عز الرجل عزا وذلت الدابة ذلا، ولذا استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، قال تعالى ” لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن ” (3. والمعنى كل الطعام لم يزل حلالا لهم من قبل انزال التوراة وتحريم ما حرم


1) الكافي 6 / 256، وقد اختصر الحديث هنا واضفنا إليه ما لابد منه من المصدر وهي الجمل الموضوعة ما بين المعقوفتين. 2) سورة آل عمران: 93. 3) سورة الممتحنة: 10. *

[ 288 ]

عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شئ قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم اسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه. وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نزل فيهم من قوله ” فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ” (1 الاية، وفي قوله ” وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ” (2، فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه وما هو الا تحريم قديم وكانت محرمة على نوح وعلى ابراهيم ومن بعده وهلم جرا إلى أن انتهى – التحريم الينا. وغرضهم تكذيب شهادة الله تعالى عليهم بالبغي والظلم وأكل الربا، فقال تعالى ” قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين “.


1) سورة النساء: 160. 2) سورة الانعام: 146. *

[ 289 ]

كتاب الوقوف والصدقات قال الله تعالى ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ” (1. لما نزلت هذه الاية عمد كثير من الصحابة إلى نفائس أموالهم فتصدقوا بها زيادة على الزكوات الواجبة كما روي عن أبي طلحة أنه قال: يا رسول الله ان لي حائطا وقد جعلته صدقة. فقال: اجعله صدقة على فقراء أهلك، فجعله بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب (2. وقد ورد في القرآن آي كثيرة تحت على الوقوف والصدقات بظواهرها، قال الله تعالى ” وافعلوا الخير ” (3، وهو أمر بالطاعات والقربات. فان قيل: ما انكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له، ومحال أن يوجب الله تعالى علينا مالا يصح أن نفعله، وإذا لم يصح ايجاب الجميع فليس البعض بذلك أولى من البعض وبطل الاستدلال بالاية.


1) سورة آل عمران: 92. 2) الدر المنثور 2 / 194. 3) سورة الحج: 77. *

[ 290 ]

قلنا: لا شبهة في أن ايجاب مالا يتناهى لا يصح، غير أنا نفرض المسألة فنقول: قد ثبت أن من وقف وتصدق على بعض فقراء المؤمنين يكون فاعلا للخير، وفعل المرة صحيح غير محال، فيجب تناول الاية له، وهكذا يفرض في كل مسألة. وموضع استدلالنا بعموم هذه الاية وامثالها على استحباب شئ من العبادات أو وجوب شئ من القربات هو أن نعين على ما يصح تناول الايجاب والاستحباب له ثم ندخله في عموم الاية. (باب) (كيفية الوقف واحكامه) قال الله تعالى ” وأقرضوا الله قرضا حسنا ” (1 نزلت حين وقف بعض الانصار نخيلا، وسمى تعالى ذلك قرضا تلطفا في القول، لان الله تعالى من حيث أنه يجازيهم على ذلك بالثواب فكأنه استقرض منهم لرد عوضه. وانما قال ” حسنا ” أي على وجه لا يكون فيه وجه من وجوه القبح. و ” ما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله ” (2 أي ما تعطوا الفقراء والمساكين تجدوا ثوابه وجزاءه. ثم اعلم أن وجوه العطايا ثلاثة، اثنان منها في الحياة وواحد بعد الوفاة، فالذي بعد الوفاة هو الوصية، ولها كتاب مفرد نذكره فيما بعد انشاء الله، وأما اللذان في حال الحياة فهما الهبة والوقف، وللهبة باب مفرد يجئ بعد هذا. وأما الوقف فهو تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة، وجمعه وقوف وأوقاف، وقفت يقال ولا يقال أوقفت الاشاذا نادرا، ويقال حبست وأحبست.


1) سورة الحديد: 18. 2) سورة البقرة: 110. *

[ 291 ]

فإذا وقف شيئا من أملاكه زال ملكه عنه إذا قبض الموقوف عليه أو من يتولى عنه، وان لم يقبض لم يخص الوقف ولم يلزم. فهذان شرطان في صحة الوقف. فمتى لم يقبض الوقف ولم يخرجه من يده أو وقف مالا يملكه كان الوقف باطلا فإذا قبض الوقف فلا يجوز الرجوع له فيه بعد ذلك ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غيرها، ولا يجوز لاحد من ورثته التصرف فيه. (فصل) وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا أحبس بعد سورة النساء (1. فلا يدل على حظر الوقف أو كراهيته، وانما المعنى في ذلك أحد أمرين: أحدهما: أراد حبس الزانية التي ذكرها الله في قوله ” فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ” (2، فان الله نسخ هذا الحكم على لسان رسوله عليه السلام بقوله: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. والثاني: أراد الحبس الذي كان يفعله الجاهلية في نفي السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، قال الله تعالى ” ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولاحام ” (3. فالسائبة هي الناقة تلد عشرة بطون كلها أناث فتسيب تلك الناقة فلا تركب ولا تحلب الا لضيف. والبحيرة هي ولدها الذي تجئ به في البطن الحادى عشر، فان كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها فهي البحيرة. وأما الوصيلة فهي الشاة تلد خمس بطون في كل بطن اثنان، فإذا ولدت البطن السادس ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فما يلد بعد ذلك يكون حلالا


1) الدر المنثور 2 / 129. 2) سورة النساء: 15. 3) سورة المائدة: 103. *

[ 292 ]

للذكور وحراما على الاناث. وأما الحام فهو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فكان لا يركب. وكذلك يحمل على الوجهين ماروي عن شريح أنه قال: جاء محمد باطلاق الحبس. (فصل) يجوز وقف الاراضي والعقار والرقيق والماشية والسلاح وكل عين يبقى بقاءا متصلا ويمكن الانتفاع بها، فأما إذا كانت في الذمة أو كانت مطلقة – وهو أن يقول وقفت فرسا أو عبدا فان ذلك لا يجوز لانه لا يمكن الانتفاع به ما لم يتعين ولا يمكن تسليمه ولا القبض. ويجوز وقف المشاع، كما يصح بتعدد ألفاظ الوقف مثل تصدقت ووقفت وحبست وسلبت وحرمت وأبدت، فإذا قال تصدقت بداري أو بكذا لم ينصرف إلى الوقف، لان التصدق يحتمل الوقف ويحتمل صدقة التمليك المتطوع بها ويحتمل الصدقة المفروضة، فإذا قرنه بقرينة تدل على الوقف انصرف إلى الوقف وزال الاحتمال. والقرينة أن تقول: تصدقت صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو قال صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث، لان هذه كلها لا تصرف الا إلى الوقف. وإذا قال حبست أو سبلت رجع إلى الوقف وصار صريحا فيه، لان الشرع ورد بهما، قال النبي صلى الله عليه وآله لعمر: حبس الاصل وسبل الثمرة. وعرف الشرع آكد من عرف العادة. والاقوى عندنا أن صريح الوقف عندنا قول واحد، وهو ” وقفت ” لا غير وبه


[ 293 ]

يحكم بالوقف، فأمر غيره من الالفاظ فلا يحكم به الا بدليل. ولا يجوز أن يقف شيئا على حمل هذه الجارية ولم ينفصل الحمل بعد. ولا ينتقض بالوقف على أولاد الاولاد ما تناسلوا، لان الاعتبار بما ولد، فإذا صح في حقه صح في حق الباقين على وجه التبع لهم. وإذا وقف دارا وقبض فانه يزول ملك الواقف كما يزول بالبيع وينتقل إلى الموقوف عليه وهو الصحيح. وقال قوم ينتقل إلى الله تعالى. وإنما قلنا ذلك لانه يثبت عليه اليد وليس فيه اكثر من أنه لا يملك بيعه على كل حال وانما يملك بيعه على وجه عندنا، وهو إذا خيف على الوقف الخراب أو كان بأربابه حاجة شديدة أو لا يقدرون على القيام به أو يخاف وقوع خلاف بينهم يؤدي إلى فساد يجوز لهم بيعه، ومع عدم ذلك كله لا يجوز. والوقف على المساجد وما فيه صلاح المؤمنين انما يصح ان كانت هذه الاشياء لا تملك، لان الوقف عليها لمصالح المسلمين فالوقف عليها وقف على المسلمين والمسلمون يملكون. فان وقف انسان شيئا على قومه ولم يسمهم كان ذلك وقفا على جماعة أهل لغته من الذكور دون الاناث، لقوله تعالى ” لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء “، فدل على أن لفظ القوم لا يقع على النساء. (فصل) العمرى نوع من الهبات يفتقر في صحتها إلى ايجاب وقبول، ويقتضي لزومها إلى قبض كسائر الهبات. وهى مشتقة من العمر، وصورتها أن يقول الرجل لاخر ” أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك عمرك أو هي لك ما حييت “.


[ 294 ]

وهذا عقد جائز، فان قال هذه الدار لك عمرك ولعقبك من بعدك فانه جائز، وانما هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها. وأما إذا أطلق ذلك ولم يذكر العقب فان العمرى يصح ويكون للمعمر حياته، فإذا مات رجع إلى المعمر أو إلى ورثته ان كان مات وهو الصحيح، ولا فرق عندنا سواء علقه بموت المعمر أو المعمر. والرقبى جائزة عندنا، وصورتها صورة العمرى الا أن اللفظ يختلف. ومن اصحابنا من قال: الرقبى أن تقول ” جعلت خدمة هذا العبد لك مدة حياتك أو مدة حياتي “. وهي مأخوذة من رقبة العبد. (باب) (الهبة وأحكامها) الهبة جائزة لكتاب الله وللسنة، فالكتاب قوله تعالى ” تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ” (1 والهبة من البر. وقوله تعالى ” ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله ” إلى قوله ” وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ” (2. والسنة أكثر من أن تحصى. والهبة والصدقة والهدية، بمعنى واحد، غير أنه إذا قصد الثواب والتقرب بالهبة إلى الله سميت صدقة، وإذا قصد بها التودد والمواصلة سميت هدية. وكان النبي صلى الله عليه وآله يقبل الهدية ويأكلها ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها.


1) سورة المائدة: 2. 2) سورة البقرة: 177. *

[ 295 ]

فإذا ثبت هذا فانه لا يلزم شئ منها الا بالقبض. (فصل) الهبات على ثلاثة اصناف: هبة لمن هو فوق الواهب، وهبة لمن هو دونه، وهبة لمن هو مثله. ويقتضي كل واحد منها الثواب (1 عندنا على بعض الوجوه. وصدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الاحكام، ومن شرطها الايجاب والقبول، ولا يلزم الا بالقبض أو ما يجرى مجراه. [ وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة ] (2. وإذا كان لانسان في ذمة رجل مال فوهبه له كان ذلك ابراء بلفظ الهبة. وقال قوم من شرط صحته قوله، وهذا حسن لان في ابرائه من الحق الذي عليه منة عليه ولا يجبر على قبول المنة. وقال آخرون انه يصح شاء من عليه الحق أو أنى، لقوله ” فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم ” (3 فاعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القبول، وقال الله تعلى ” ودية مسلمة إلى اهله الا ان يصدقوا ” (4 فأسقط الدية لمجرد التصدق ولم يعتبر القبول. هذا أيضا قوي ظاهر.


1) المراد بالثواب ههنا العوض، اما انه يقتضى الثواب فلما روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام انه قال ” الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها “، واما اقتصار الثواب على بعض الوجوه فهو أن الواجب اما أن يطلق أو يشرط الثواب، فان أطلق اقتضى أن يشبه قدر ما يكون ثوابا لمثله في العبادة، وان شرط الثواب فان كان الثواب مجهولا صح اجماعا، وان كان معلوما ففيه خلاف – وهذا خلاصة كلام الشيخ في المبسوط. 2) الزيادة من ج. 3) سورة البقرة: 280. 4) سورة النساء: 92. *

[ 296 ]

(باب الزيادات) قوله تعالى ” ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب واقام الصلاة وآتى الزكاة ” (1. فالبر العطف والاحسان، وهو مصدر، وقد يكون بمعنى البار، أي الواسع الاحسان، وأصله من الاتساع. بين سبحانه ان البر كله ليس في الصلاة وانما هي مصلحة من المصالح الدينية، والتقدير ولكن البر بر من آمن بالله، أي لكن ذا البر من آمن بالله، أي صدق بالله. ويدخل فيه جميع مالا يتم معرفة الله الا به. ” واليوم الاخر ” بمعنى القيامة، وان الملائكة عباد الله والكتب المنزلة وأنبياءه كلهم. ” وأعطى المال على حبه ” أي حب المال، والايتاء حب الله، وهذا أبلغ. ” وذوي القربى ” قرابة المعطي، وقيل قرابة الرسول عليه السلام. قال ابن عباس: في المال حقوق سوى الزكاة، ويدخل فيها ما يتطوع به الانسان قربة إلى الله من الوقوف والصدقات والهبات لان ذلك كله من البر. قال: ولا يجوز حمله على الزكاة المفروضة لانه عطف عليه الزكاة. وانما خص هؤلاء لان الغالب انه لا يوجد الاضطرارا الا في هؤلاء، ولئلا يظن انه متسحق الزكاة الواجبة لا يجوز أن يعطى ما يتصدق به تطوعا، والاية تعمها.


1) سورة البقرة: 177. *

[ 297 ]

وشرائط الوقوف شيئان: ان يخرج الوقف من يده ويقبضه الموقوف عليه أو من يتولى عنه، ويكون ملكا للواقف. والوقف والصدقة شئ واحد، ولا يصحان الا بالقربة إلى الله تعالى. والوقف لابد ان يكون مؤبدا.


[ 298 ]

كتاب الوصايا الوصية مشتقة من وصاء النبت إذا اتصل بعضه ببعض، وكل وصية امر وليس كل أمر وصية، فعلى هذا معنى الوصية وصل الامر بمثله أو بغيره مما يؤكد. قال أبو علي النحوي: كأن الموصي وصل جل امره بالموصى إليه. فقال: وصى فلان وأوصى إذا وصل تصرف ما قبل الموت بما يكون بعد الموت. والتوصية ابلغ من الايصاء لانها لمرار كثيرة. والاصل في ذلك الكتاب والسنة، اما الكتاب فقد قال الله تعالى ” يوصيكم الله في اولادكم ” (1. فذكر ههنا الوصية في اربعة مواضع: احدها قوله ” فلامه السدس من بعد وصية “. الثاني في فرض الزوج، قال الله تعالى ” فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين “. والثالث في فرض الزوجة، قال ” فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين “. الرابع قوله ” فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين ” (1. فثبت بذلك ان الوصية لها حكم في الشرع.


1) سورة النساء 11 – 12. *

[ 299 ]

فإذا ثبت هذا فالناس في الوصية على ثلاثة اضرب: منهم من لا تصح له الوصية بحال، وهو الكافر الذي لا رحم له مع الميت وعند المخالف الوارث. والثاني: من تصح له الوصية بلا خلاف، مثل الاجانب، فانه يستحب لهم الوصية، وعندنا الوارث تصح له الوصية ايضا. والثالث: من هو مختلف فيه، وهو على ضربين: منهم الاقرباء الذين لا يرثونه بوجه، مثل ذوي الارحام عند من لم يورث ذوي الارحام مثل بنت الاخ وبنت العم والخالة والعمة. والضرب الاخر يورثون لكن ربما يكون معهم من يحجبهم، مثل الاخت مع الاب والولد، فانه يستحب أن يوصي لهم وليس بواجب. وعندنا ان الوصية لهؤلاء كلهم مستحبة. (باب) (الحث على الوصية) قال الله تعالى ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ” (1 معنى كتب فرض الا أنه ههنا معناه الحث والترغيب دون الفرض والايجاب. وفى الاية دلالة على ان الوصية للوارث جائزة، لانه تعالى قال ” للوالدين والاقربين “، والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين عمدا وظلما. ومن خص الاية بالكافرين فقد قال قولا بلا دليل. ومن ادعى نسخ الاية فلا نسلم له ذلك بلا دليل. وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء، فان ادعوا الاجماع على


1) سورة البقرة: 180. *

[ 300 ]

نسخها كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في ذلك، وقد خالف في نسخها طاوس، فانه خصها بالكافرين لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ، وقد قال ابو مسلم محمد بن بحر ان هذه الاية مجملة وآية المواريث مفصلة وليست نسخا، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها. ومن ادعى نسخها بقوله عليه السلام ” لا وصية لوارث ” (1 فقد أبعد، لان هذا أولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به اجماعا، ولو سلمنا الخبر لجاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث، لانا لو خلينا وظاهر الاية لاجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والاقربين (2. وأما من قال ان الاية منسوخة بأنه للوارث، فقوله أيضا بعيد من الصواب لان الشئ انما ينسخ غيره إذا لم يكن الجمع بينهما، فأما إذا لم يكن بينهما تناف ولا تضاد بل يمكن الجمع بيهما فلا يجب حمل الاية على النسخ، ولا تنافى بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهما من الميراث وبين الامر للوصية لهم على جهة الخصوص، فلم يجب حمل الاية على النسخ. وقول من قال حصول الاجماع على أن الوصية ليست فرضا يدل على أنها منسوخة. باطل أيضا، لان اجماعهم على أنها لا تفيد الفرض لا يمنع من كونها مندوبا إليها ومرغبا فيها، ولاجل ذلك كانت الوصية للاقربين الذين ليسوا بوارثين ثابتة بالاية ولم يقل أحد انها منسوخة في حيزهم. ومن قال ان النسخ في الاية ما يتعلق بالوالدين – وهو قول الحسن – فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعو نسخ الاية على كل حال، ومع ذلك فليس الامر على ما قال، لانه لا دليل على دعواه.


1) مسند احمد بن حنبل 4 / 186. 2) ذكر المرتضى الحديث المروى عن النبي ” ص ” بشأن الوصية للوارث وتكلم في طرقه والرد عليه – راجع الانتصار ص 309 – 310. *

[ 301 ]

وقال طاوس: إذا أوصى لغير ذي قرابته لم تجز وصيته. وقال الحسن: ليست الوصية الا للاقربين. وهذا الذي قالاه عندنا وان كان غير صحيح، فهو مبطل قول من يدعي نسخ الاية. وانما قلنا انه ليس بصحيح لان الوصية لغير الوالدين والاقربين عندنا جائزة، ولا خلاف بين الفقهاء في جوازها. والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث اجماعا، والافضل أن تكون بأقل من الثلث لقوله عليه السلام ” والثلث كثير ” (1. وأحق من وصي له من كان أقرب للميت إذا كانوا فقراء، وان كانوا أغنياء فقال الحسن هم أحق بها، وقال ابن مسعود الاحق بها الاحوج فالاحوج من القرابة. (فصل) وقوله تعالى ” ان ترك خيرا ” يعنى مالا، واختلفوا في مقدار ما الذي يستحق الوصية عنده: فقال الزهري كلما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير، وقال ابراهيم النخعي ألف درهم إلى خمسمائة. وروي أن عليا عليه السلام دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستمائة، فقال: ألا أوصي ؟ فقال عليه السلام: لا، انما قال سبحانه ” ان ترك خيرا ” وليس لك كثير مال. وبهذا يؤخذ، لان قوله عليه السلام عندنا حجة. والوصية مرفوعة بكتب، ويجوز أن تكون مبتد أو خبره للوالدين. والجملة في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم الوصية للوالدين. وفي اعراب ” إذا ” والعامل فيه قولان: أحدهما كتب، على معنى إذا حضر أحدكم الموت، أي عند المرض. والوجه الاخر قال الزجاج: لانه رغب


1) وسائل الشيعة 13 / 363 من حديث عن ابى الحسن موسى عليه السلام. *

[ 302 ]

في حال صحته أن يوصي، فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف في حال الصحة قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا. والمعروف هو الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور. والحضور وجود الشئ بحيث يمكن أن يدرك، وليس معناه في الاية إذا حضره الموت أي إذا عاين الموت، لانه في تلك الحال في شغل عن الوصية، لكن المعنى كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الانسان إذا حضرني الموت – يعنى إذا أنا مت – فلفلان كذا. والحق هو الذي لا يجوز انكاره، وقيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا، وهو مصدر حق يحق حقا، وانتصب في الاية على المصدر، وتقديره أحق حقا، وقد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق كما وصف بالعدل. وقوله ” بالمعروف ” معناه بالشئ الذي يعرف ذوو التمييز أنه لا حيف فيه ولا جور على قدر التركة وحال الموصى له. وقيل معنى المعروف بالحق الذي لا يجوز أن ينكر، وقيل أي لا يوصي بماله للغني ويدع الفقير. وقال ابن مسعود: الوصية للاخل فالاخل، أي للاحوج فالاحوج على ما قدمناه. ومعنى حضره الموت حضرته أماراته ومقدماته. (فصل) ثم قال ” فمن بدله بعد ما سمعه ” الهاء عائدة على الوصية وانما ذكر حملا على المعنى، لان الايصاء والوصية واحدة. والهاء في قوله ” فانما اثمه ” عائدة على التبديل الذي دل عليه قوله ” فمن بدله بعد ما سمعه “. وقال الطبري: الهاء تعود على محذوف، لان عودها على الوصية المذكورة لا يجوز، لان التبديل


[ 303 ]

انما يكون لوصية الموصي، فأما أمر الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدله. قال الرماني: وهذا باطل، لان ذكر الله للوصية انما هو لوصية الموصي فكأنه قيل كتب عليكم وصية مفروضة عليكم، فالهاء تعود إلى الوصية المفروضة التي يفعلها الموصي. وقوله ” فمن بدله ” فالتبديل هو تغيير الشئ عن الحق فيه، والبدل هو وضع شئ مكان آخر. ومن أوصى وصية في ضرار فبدلها الوصي لم يأثم بذلك. قال ابن عباس من أوصى في ضرار لم تجز وصيته، لقوله ” غير مضار “. والوصي إذا بدل الوصية لم ينقص من أجر الموصي شئ كما لو لم يبدلها لانه لا يجازى أحد على عمل غيره، لكن يجوز ان يلحقه منافع الدعاء والاحسان الواصل إلى الموصى له على غير وجه الاجر له. وفي الاية دلالة على بطلان قول من يقول ان الوصي أو الوارث إذا لم يقض دين الميت فانه يؤخذ به في قبره أو في الاخرة، إذ لا اثم عليه في تبديل غيره فأما ان قضى عنه من غير أن أوصى به فان الله تعالى يتفضل باسقاط العقاب عنه ان شاء الله. ثم قال تعالى ” فمن خاف من موص جنفا أو اثما فأصلح بينهم فلا اثم عليه ” (1 لما حذر في الاية الاولى الوصي من تبديل أمر الوصية وأوعده أن يجاوز ما أمر به أعقب ذلك بما للوصي أن يفعله فيما جعل إليه من الوصية، لان الاولى كالعموم وهذا تخصيص له، فكأنه قال ليس للوصي أن يبدل أمر الوصية بعد سماعه الا أن يخاف من الموصي أنه أمر بغير المعروف مخالفا لامر الله، فحينئذ للوصي أن يبدل ويصلح لانه رد إلى أمر الله.


1) سورة البقرة: 182.

[ 304 ]

وقال المرتضى: لا تصح الوصية في حال الصحة والمرض جميعا بأكثر من الثلث، وكذلك تمليك يستحق لموت المملك، وإذا أوصى الانسان بأكثر من الثلث يرد إلى الثلث على ما نذكره. (فصل) فان قيل: كيف قال تعالى ” فمن خاف من موص ” لما قد وقع، والخوف انما يكون لما لم يقع. قلنا: فيه قولان: أحدهما: أنه خاف أن يكون قد زل في وصيته فالخوف للمستقبل، وذلك الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زل، لانه من جهة غالب الظن. والثاني: لما اشتمل على الواقع ولم يقع جاز فيه خلاف ذلك، فيأمره بما فيه الصلاح وما وقع رده إلى العدل بعد موته. والجنف الجور، وهو الميل عن الحق. قال الحسن: هو أن يوصي في غير القرابة. قال: فمن أوصى لغير قرابته رد إلى أن يجعل للقرابة الثلثان ولمن أوصى له الثلث. وهذا باطل عندنا، لان الوصية لا يجوز صرفها عمن أوصى له، وانما قال الحسن ذلك لقوله ان الوصية للقرابة واجبة، وعندنا أن الامر بخلافه على ما بيناه. وإذا خان الموصي في وصيته فللوصي أن يردها إلى العدل، وهو المروي عن ابى عبد الله عليه السلام (1. وقال قوم أي فمن خاف من موص في حال مرضه الذي يريد أن يوصي فيه ويعطى بعضا ويضر ببعض فلا اثم أن يشير عليه بالحق ويرده إلى الصواب ويشرع


1) تفسير البرهان 1 / 179. *

[ 305 ]

بالاصلاح بين الموصي والورثة والموصى له، حتى يكون الكل راضين ولا يحصل حيف ولا ظلم ويكون ذا صلح بيهم يريد فيما يخاف من حدوث الخلاف فيه فيما بعده. ويكون قوله ” فمن خاف ” على ظاهره، فيكون الخوف مترقبا غير واقع. وهذا قريب أيضا غير أن الاول أصوب. وانما قيل للمتوسط بالاصلاح ليس عليه اثم ولم يقل فله الاجر على الاصلاح لان المتوسط انما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله اياه فاحتاج أن يبين الله تعالى لنا أنه لا اثم عليه في ذلك إذا قصد الاصلاح. والضمير في قوله ” بينهم ” عائد إلى الموصى له ومن ينازعه لان الكلام عليه، وقيل يعود إلى الوالدين والاقربين. وقوله ” فلا اثم عليه ” قد ذكرنا أن الضمير عائد إلى المصلح المذكور في ” من ” وقيل الضمير عائد إلى الوصي. والحيف في الوصية على جهة الخطاء لانه لا يدري أنه لا يجوز، والاثم أن يتعمد ذلك، روي ذلك عن الباقر عليه السلام. وقيل: الحيف بأن يوصي اكثر من الثلث أو يوصي بمال في المعصية أو انفاق في غير مرضاة الله، فان ذلك كله يرد ولا ينفذ. فأما أن يوصي الرجل لابن بنته وله أولاد أو يوصي لزوج بنته وله أولاد، فلا يجوز رده على وجه عندنا، وكذا ان وصى للبعيد دون القريب لا ترد وصيته. (باب) (الوصية للوارث وغيره من القرابات) (وأحكام الاوصياء) الوصية للوارث جائزة بدلالة قوله تعالى ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم


[ 306 ]

الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين ” (1، وهذا نص في موضع الخلاف على ما قدمناه. وقولهم ان هذه الاية منسوخة من غير دليل على نسخها لا يغني شيئا. وأيضا قوله تعالى ” من بعد وصية يوصى بها أو دين ” (2 وهذا عام في الاقارب والاجانب، فمن خص به الاجانب دون الاقارب، فقد عدل عن الظاهر بغير دليل. فان قالوا: ان الاية منسوخة بآية المواريث. الجواب: ان النسخ انما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما، ولا تنافى بين آية الوصية وآية المواريث والعمل بمقتضاهما سائغ، فكيف يجوز أن يدعى النسخ في ذلك مع فقد التنافي ولا يجوز أن ينسخ بما يقتضى الظن كتاب الله الذي يوجب العمل، وإذا كنا لا نخصص كتاب الله بأخبار الاحاد فالاولى أن لا ننسخه بها. وقال تعالى ” وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولا لهم قولا معروفا (3 عن ابن عباس: ان الخطاب بقوله ” فارزقوهم ” متوجه إلى من حضرته الوفاة وأراد الوصية، فانه ينبغي لهم أن يوصوا لمن لا يرث من الاقرباء بشئ من أموالهم ان كانوا أغنياء ويعتذرون إليه ان كانوا فقراء. ورزق الانسان غيره يكون على معنى التمليك. ثم قال تعالى ” وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ” (4. قيل في معنى الاية أربعة أقوال: أحدها: النهي عن الوصية بما يجحف بالورثة ويضر بهم.


1) سورة البقرة: 180. 2) سورة النساء: 11. 3) سورة النساء: 8. 4) سورة النساء: 9. *

[ 307 ]

الثاني: قال الحسن كان الرجل يكون عند الميث يقول له أوص بأكثر من الثلث من مالك فنهاه الله عن ذلك. الثالث: قال ابن عباس انه خطاب لولي اليتيم، يأمره بأداء الامانة فيه والقيام بحفظه، كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا وأحب أن يفعل بهم مثل ذلك. الرابع: قال ميثم هي في حرمان ذوي القربى أن يوصي لهم، بأن يقول الحاضر للوصية لا توص لاقاربك ووفر على ورثتك. ومعنى الاية أنه ينبغي للمؤمن الذي لو ترك ذرية ضعافا بعد موته خاف عليهم الفقر والضياع أن يخش على ورثة غيره من الفقر والضياع ولا يقول لمن يحضر وصيته أن يوصي بما يضر بورثته وليتق الاضرار بورثة المؤمن. (فصل) ثم خوف الله تعالى الاوصياء وأوعدهم بقوله ” ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا ” (1، وانما علق سبحانه الوعيد في الاية بمن يأكل أموال اليتامى ظلما لانه قد يأكله على وجه الاستحقاق، بأن يأخذ الوصي منه وغيره أجرة المثل على ما قلناه، أو يأكل منه بالمعروف على ما فسرناه، أو يأخذه قرضا على نفسه. فان قيل: إذا أخذه قرضا على نفسه أو أجرة المثل على ما قلناه فلا يكون أكل مال اليتيم وانما أكل مال نفسه. قلنا: ليس الامر على ذلك، لانه يكون أكل مال اليتيم لكنه على وجه التزم عوضه في ذمته أو استحقه بالعمل في ماله، فلم يخرج بذلك من استحقاق الاسم بأنه مال اليتيم. ولو سلم ذلك لجاز أن يكون المراد بذلك ضربا من


1) سورة النساء: 10. *

[ 308 ]

التأكيد وبيانا، لانه لا يكون أكل مال اليتيم [ لا ظلما، و ” ظلما ” نصب على المصدر وأكل مال اليتيم ] (1 وغصبه يتساويان في توجه الوعيد إليه. وقال تعالى ” ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ” (2 نهى سبحانه جميع المكلفين أن يتصرفوا في أموال اليتامى، بل يحفظوا على اليتيم ماله ويثمروه على مالا يشك أنه أصلح له، فأما بغير ذلك فلا يجوز لاحد التصرف فيه. وانما خص اليتيم بذلك – وان كان التصرف في مال الغير بغير اذنه لا يجوز أيضا – لان اليتيم إلى ذلك أحوج والطمع في ذلك أكثر. ” حتى يبلغ أشده ” أي حتى يبلغ الحلم، وقيل حتى يبلغ كمال العقل ويؤنس منه الرشد. وقال تعالى ” وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ” (3 هذا خطاب لاوصياء اليتامى، أمرهم الله بأن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد. وسماهم يتامى بعد البلوغ مجازا، لانه عليه السلام قال ” لايتم بعد حلم “. وقيل: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الردئ، قال لهم لا تتبدلوا الخبيث بالطيب، أي لا تستبدلوا ما حرمه الله عليكم من أموالهم بما أحله لكم من أموالكم ” ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ” أي لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوهما جميعا. فأما خلط مال اليتيم بمال نفسه إذا لم يظلمه فلا بأس به. قال الحسن: لما نزلت هذه الاية كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فأنزل الله ” ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فاخوانكم


1) الزيادة من ج. 2) سورة الانعام: 152. 3) سورة النساء: 2. *

[ 309 ]

والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم ” (1 وهو المروي عنهما عليهما السلام. وقال في سورة الانعام ” ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ” (2 المراد بالقرب التصرف فيه على ما قدمناه، وانما خص اليتيم لانه لما كان لا يدفع عن نفسه ولا له والد يدفع عنه وكان الطمع في ماله أقوى تأكد النهي في التصرف في ماله ” الا بالتي هي أحسن ” أي يحفظه عليه إلى أن يكبر أو بتثميره بالتجارة. (باب) (ما على وصي اليتيم) قال الله تعالى ” ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ” (3 قال ابن جبير: يعني بأموالكم أموالهم، كما قال ” ولا تقتلوا أنفسكم ” (4 قال: وهم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم وارزقوهم فيها واكسوهم. والاولى حمل الاية على الامرين لان العموم يقتضي ذلك، فلا يجوز أن يعطى السفيه الذي يفسد المال ولا اليتيم الذي لم يبلغ ولا الذى بلغ ولم يؤنس منه الرشد ولا أن يوصى إلى سفيه ولا يخص بعض دون بعض، فالموصي إذا كان عاقلا حرا ثابت العقل لا يوصى إلى سفيه ولا إلى فاسق ولا إلى عبد لانه لا يملك مع سيده شيئا، بل يختار لوصيته عاقلا مسلما عدلا حكيما. وانما تكون اضافة مال اليتيم


1) سورة البقرة: 220. 2) سورة الانعام: 152. 3) سورة النساء: 5. 4) سورة النساء: 29. *

[ 310 ]

إلى من له القيام بأمرهم على ضرب من المجاز، أو لانه لا يعطى الاولياء ما يخصهم لمن هو سفيه. ويجرى ذلك مجرى قول القائل لواحد: يا فلان أكلتم أموالكم بينكم بالباطل. فيخاطب الواحد بخطاب الجميع ويريد به أنك وأصحابك أكلتم. والتقدير في الاية: لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم فتضيعوها. ومعنى قوله ” وقولوا لهم قولا معروفا ” أي يا معشر ولاة السفهاء قولوا للسفهاء ان صلحتم ورشدتم سلمنا اليكم أموالكم. وقال الزجاج: علموهم مع اطعامكم اياهم وكسوتهم أمر دينهم. وفي الاية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد، لانه منع تعالى من دفع المال إلى السفهاء. وفيها ايضا دلالة على وجوب الوصية إذا كان الورثة سفهاء، لان ترك الوصية بمنزلة اعطاء المال في حال الحياة إلى من هو سفيه. وانما سمي الناقص العقل سفيها وان لم يكن عاصيا لان السفه هو خفة الحلم. (فصل) ثم قال تعالى ” وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ” (1 هذا خطاب لاولياء اليتامى. أمر الله أن يختبروا عقول اليتامى في أفهامهم وصلاحهم في أديانهم واصلاح أموالهم. وقوله ” حتى إذا بلغوا النكاح ” معناه حتى يبلغوا الحد الذي يقدر على مجامعة النساء وينزل، وليس المراد الاحتلام، لان في الناس من لا يحتلم أو يتأخر احتلامه.


1) سورة النساء: 6. *

[ 311 ]

وفي المفسرين من قال: إذا كمل عقله وأونس منه الرشد سلم إليه ماله، وهو الاقوى. ومنهم من قال: لا يسلم إليه حتى يكمل له خسمة عشر سنة إذا كان عاقلا، لان هذا حكم شرعى وبكمال العقل يلزمه المعارف لا غير. ” فان آنستم منهم رشدا ” أي وجدتم منهم صلاحا وعقلا ودينا واصلاح المال فادفعوا إليهم أموالهم. والاقوى أن يحمل على أن المراد به العقل، واصلاح المال هو المروي عن ابى جعفر عليه السلام (1، للاجماع على أن من يكون كذلك لا يجوز على الحجر في ماله وان كان فاجرا في دينه، فإذا كان ذلك اجماعا فكذلك إذا بلغ وله مال في يدى وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله وجب عليه أن يسلم إليه ماله إذا كان عاقلا مصلحا لما له وان كان فاسقا في دينه. وفي الاية دلالة على جواز الحجر على العاقل إذا كان مفسدا في ماله من حيث أنه إذا كان عند البلوغ يجوز منعه المال إذا كان مفسدا له فكذلك في حال كمال العقل إذا صار بحيث يفسد المال جاز الججر عليه، وهو المشهور في أخبارنا. ثم قال ” ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا ” خطاب لاولياء اليتيم أيضا، أي لا تأكلوها بغير ما أباحه لكم ولا مبادرة منهم ببلوغهم وايناس الرشد منهم حذرا أن يبلغوا فيلزمهم ردها إليهم. وموضع أن ” يكبروا ” نصب بالمبادرة، والمعنى لا تأكلوها مبادرة كبرهم. ومن كان من ولاة أموال اليتامى غنيا فليستعفف بماله عن أكلها، ومن كان فقيرا فليأكل بالقرض، وهو المروي عن أبى جعفر عليه السلام، ألا ترى أنه قال ” فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم “. وقال الحسن: يأخذ ماسد الجوعة ووارى العورة ولا قضاء عليه ولم يوجب أجرة المثل. قال: لان أجرة المثل ربما كان اكثر من قدر الحاجة. والظاهر في


1) تفسير البرهان 1 / 345. *

[ 312 ]

أخبارنا ان له أجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن. واختلفوا في هل للفقير من أولياء اليتيم أن يأكل من ماله هو وعياله: فقال بعضهم ليس له ذلك لقوله ” فليأكل ” فخصه بالاكل، وقال غيره له ذلك لان قوله ” بالمعروف ” يقتضي أن يأكل هو وعياله على ما جرت به العادة في أمثاله. وقال: ان كان المال واسعا كان له أن يأخذ قدر كفايته له ولمن يلزمه نفقته من غير اسراف، وان كان قليلا كان له أجرة المثل لا غير. وانما لم يجعل له أجرة المثل إذا كان المال كثيرا لانه ربما كان أجرة المثل اكثر من نفقته من غير اسراف، وان كان قليلا كان له أجرة المثل من نفقته بالمعروف على ما قلناه من أن له اجرة المثل سقط بهذا الاعتبار. ثم أمر الاولياء أن يحتاطوا لانفسهم ايضا بالاشهاد عليهم إذا دفعوا إليهم أموالهم لئلا يقع منهم جحودهم ويكون أبعد من التهمة، وسواء كان ذلك في أيديهم أو استقرضوه دينا على أنفسهم، فان الاشهاد يقتضيه الاحتياط وليس بواجب، ” وكفى بالله شهيدا ” بايصال الحق إلى صاحبه. وولي اليتيم المأمور بابتلائه هو الذي جعل إليه القيام به من وصي أو حاكم أو أمين ينصبه الحاكم، وأصحابنا انما أجازوا الاستقراض من مال اليتيم إذا كان مليا. (باب) (الوصية المبهمة) عن معاوية بن عمار: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله. قال: جزء من عشرة، قال الله تعالى ” ثم اجعل على كل جبل منهن


[ 313 ]

جزءا ” (1 وكانت الجبال عشرة أجبل (2. وعن اسماعيل بن همام الكندي عن الرضا عليه السلام في الرجل أوصى بجزء من ماله. قال: الجزء من سبعة، قال تعالى ” لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ” (3. والوجه في الجمع بينهما أن يحمل الجزء على أنه يجب ان ينفذ في واحد من العشرة، ويستحب للورثة أن ينفذوا في واحد من السبعة. وعن صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر سألنا الرضا عليه السلام عن رجل أوصى لك بسهم من ماله ولا ندري السهم أي شئ هو ؟ فقال: ليس عندكم فيما بلغكم عن جعفر ولا عن أبي جعفر فيها شئ ؟ قلنا له: ما سمعنا أصحابنا يذكرون شيئا من هذا عن آبائك. فقال: السهم [ واحد ] (4 من ثمانية. فقلنا: فكيف واحد من ثمانية. فقال: أما تقرأون كتاب الله. قلت: اني لاقرأه ولكن لا أدري أي موضع هو. فقال: قول الله ” انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ” (5، ثم عقد بيده ثمانية (6. وإذا أوصى انسان لغيره بكثير من ماله أو نذر أن يتصدق بمال كثير فالكثير ثمانون فما زاد، لقول الله تعالى ” لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ” (7 وكانت ثمانين موطنا.


1) سورة البقرة: 260. 2) وسائل الشيعة 13 / 443 وفيه ” عشرة اجبال “. 3) وسائل الشيعة 13 / 447. والاية في سورة الحجر: 44. 4) الزيادة من المصدر. 5) سورة التوبة: 60. 6) وسائل الشيعة 13 / 448. 7) سورة التوبة: 25. *

[ 314 ]

والاحسن أن يقيد الكلام، فيقول المال الكثير ثمانون درهما، الا إذا كان مضافا إلى جنس فإذا يكون منه خاصة. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أن من أوصى بشئ من ماله كان ذلك السدس (1. وعن الحسين بن عمر: قلت لابي عبد الله عليه السلام: ان رجلا أوصى الي بشئ في سبيل الله قال: اصرف إلى الحج، فاني لا أعلم شيئا من سبله أعظم من الحج (2. وعن الحسين بن راشد: سألت العسكري عليه السلام: بالمدينة عن رجل أوصى بمال في سبيل الله. فقال: سبيل الله شيعتنا (3. ذكر أبو جعفر ابن بابويه رحمة الله عليه الوجه في الجمع بين الخبرين ان المعنى في ذلك أن يعطي المال لرجل من الشيعة ليحج به، فقد انصرف في الوجهين معا وسلم الخبران من التناقض (4. وهذا وجه حسن. على أنه ان أوصى انسان بثلث ماله في سبيل الله ولم يسم أخرج في معونة المجاهدين لاهل الضلال، فان لم يحضر مجاهد في سبيل الله يصرف أكثره في فقراء آل محمد عليه وعليهم السلام ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ثم يصرف ما بقي بعد ذلك في معونة الفقراء والمساكين وأبناء السبيل عامة، وفي جميع وجوه البر. وان أوصى انسان لاولاده شيئا وقال هو بينهم على كتاب الله، كان للذكر


1) وسائل الشيعة 13 / 450 بمضمونه. 2) من لا يحضره الفقيه 4 / 206 مع اختصار هنا. 3) من لا يحضره الفقيه 4 / 206. 4) من لا يحضره الفقيه 4 / 207 ونقل الكلام هنا بالمعنى. *

[ 315 ]

مثل حظ الانثيين، وان أبهم ولم يبين كيفية القسمة بينهم أصلا كان بينهم بالسوية. وإذا أوصى المسلم للفقراء كان ذلك لفقراء المسلمين، وان أوصى الكافر كان ذلك لفقراء أهل ذمته، فقد حدث ابو طالب [ عن ] (1 عبد الله بن الصلت قال: كتب الخليل ابن هاشم إلى ذي الرياستين وهو والي نيسابور: ان رجلا من المجوس مات وأوصى للفقراء بشئ من ماله فأخذه قاضي نيسابور فجعله في فقراء المسلمين. [ فكتب الخليل إلى ذى الرياستين بذلك ] (2) فسأل المأمون عن ذلك فقال: ليس عندي في ذلك شئ، فسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام فقال: ان المجوسي لم يوص لفقراء المسلمين، ولكن ينبغي أن يؤخذ مقدار ذلك المال من مال الصدقة فيرد على فقراء المجوس (3 ان ألله تعالى يقول ” فمن بدله بعد ما سمعه فانما اثمه على الذين يبدلونه “. (باب) (الوصية التي يقال لها راحة الموت) قال الله تعالى ” ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب ” (4 أي وصى ابراهيم ويعقوب عليهما السلام بنيهما بلزوم شريعة ابراهيم التي هي الاسلام، وقالا: ان الله رضيه لكم دينا فلا تفارقوه ما عشتم. وجاء في التفسير: ان ابراهيم جمع ولده أسباطه وقال ان الاسلام دين الله


1) كذا في ج وليس في م ولا في المصدر. 2) الزيادة من المصدر. 3) وسائل الشيعة 13 / 414، وليس فيه الاستشهاد بالايه ذيلا. 4) سورة البقرة: 132. *

[ 316 ]

الذى تعبدكم به فالزموه ولا تعدلوا عنه ولو نشرتم بالمناشير وقرضتم بالمقاريض وأحرقتم بالنار. ” وجعلها كلمة باقية في عقبه ” أي جعل هذه الوصية بقيت في عقبه يذكرونها، وكان في وصيته: يا بني عليكم أن تظهروا كل حسنة وجدئتم من غيركم، وأن تستروا كل سيئة وفاحشة واياكم أن تشيعوها. وقوله ” ولا تموتن ” وان كان على لفظ النهي، فما نهوا عن الموت وانما نهوا في الحقيقة عن ترك الاسلام لثلا يصادفهم الموت عليه. وتقديره لا تتعرضوا للموت عن ترك الاسلام بفعل الكفر، ومثله في كلام العرب ” لا أرينك ههنا “، فالنهي للمتكلم في اللفظ وانما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال لا تتعرض لان أراك بكونك ههنا. ” وأنتم مسلمون ” جملة في موضع الحال، أي لا تموتن الا مسلمين. واقتصروا على تفعلة في مصدر وصى فقالوا وصى توصية، ورفضوا تفعيلا لئلا تجتمع ثلاث ياءات. ومعنى وصى أمر وعهد. والفرق بينهما أن الامر يحصل بلفظ الامر [ ولو مرة، والوصية وصل لفظة الامر بمثله ] (1) أو بغيره مما يؤكده على ما قدمنا. وقال امير المؤمنين عليه السلام: من أوصى ولم يحف ولم يضار كمن تصدق به في حياته (2)، ومن لم يوص عند موته لذي قرابته ممن لا يرث ققد ختم عمله بمعصية (3، قال الله تعالى ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك


1) الزيادة من ج. 2) من لا يحضره الفقيه 4 / 182. 3) في المصدر السابق ورد هذا اللفظ في حديث عن الصادق عليه السلام وليس فيه ” ممن لا يرث “. *

[ 317 ]

خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ” (1. وقال النبي صلى الله عليه وآله: الوصية تمام ما نقص عن الزكاة، ومن لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروته وعقله. قالوا: يا رسول الله فكيف الوصية ؟ قال: إذا حضرته الوفاة قال: اللهم اني أعهد اليك أنى اشهد ألا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن القول كما حدث، اللهم أنت ثقتي وعدتي صل على محمد وآل محمد وآنس في قبري وحشتي واجعل لي عندك عهدا يوم ألقاك (2. وقال الصادق عليه السلام: وتصديق هذا في سوره مريم، قول الله تعالى ” لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا ” (3 وهذا هو العهد (4. (باب) (من تجوز شهادته في الوصية) (وشرائط الوصية) من شرط الوصية أن يشهد الموصى عليه تعيين عدلين لئلا يعترض فيه الورثة، فان لم يشهد وأمكن الوصي انفاذ الوصية جاز له انفاذها على ما أوصى به إليه، قال الله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ” (5 قال حمزة بن حمران: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن هذه الاية. فقال


1) سورة البقرة: 180. 2) وسائل الشيعة 13 / 353 مع اختلاف في الفاظ. 3) سورة مريم: 87. 4) وسائل الشيعة 3 / 354 في ذيل الحديث السابق. 5) سورة المائدة: 106. *

[ 318 ]

اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب. ثم قال: إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميين من اهل الكتاب مرضيين عند اصحابهما (1. وعن يحيى بن محمد عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن قوله ” يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ” الاية. قال: اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب، فان لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس، لان رسول الله صلى الله عليه وآله شبه المجوس بأهل الكتاب في الجزية. قال: وإذا مات في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب. ” تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله انا إذا لمن الاثمين ” قال: وذلك ان ارتاب ولي الميت في شهادتهما. ” فان عثر على انهما استحقا اثما ” أي شهدا بالباطل ” فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسام بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا انا إذا لمن الظالمين ” فإذا فعل ذلك نقض شهادة الاولين وجازت شهادة الاخرين، لقول الله عزوجل ” ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ” (2. (فصل) وقد تقدم بيان هذه الاية في باب الشهادة ونزيدها ايضاحا ههنا فنقول: ان قوله ” اثنان ” ارتفع عل أنه خبر للمبتدأ الذي هو ” شهادة بينكم “، أو


1) وسائل الشيعة 13 / 392. 2) المصدر السابق. *

[ 319 ]

على أنه فاعل ” شهادة بينكم ” على معنى فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، و ” إذا حضر ” ظرف للشهادة و ” حين الوصية ” بدل منه. وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الاجل. وقيل ” منكم ” أي من أقاربكم و ” من غيركم ” أي من أجانبكم. فعلى هذا معناه ان وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية. وجعل الاقارب أولى لانهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح والاصح ما قدمناه ان قوله ” منكم ” أي من المسلمين و ” من غيركم ” أي من أهل الذمة. وقوله ” ان أرتبتم ” اعتراض بين القسم والمقسم عليه، أي ان أتهمتموهما فحلفوهما، والضمير في ” به ” للقسم وفى ” كان ” للمقسم له، يعني لا يستدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا، أي لا يحلف بالله كاذبين لاجل المال ولو كان من يقسم له قريبا منا. وقوله ” شهادة الله ” أي الشهادة التي أمر الله بتعظيمها وحفظها. وقوله ” تحبسونهما ” تقفونهما وتصيرونهما للحلف من بعد الصلاة. وقيل اللام في الصلاة للجنس، والقصد بالتحليف على أثرها أن تكون الصلاة لطفا في النطق بالصدق وناهية عن الكذب، فان اطلع على أنهما فعلا ما أوجب اثما فاستوجبا أن يقال لهما انهما من الاثمين. ” فشاهدان آخران ” من الذين جني عليهم وهم أهل الميت، و ” الاوليان ” اللاحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما الاوليان، كأنه قيل ومن هما فقيل الاوليان وقيل ” هما ” بدل من الضمير في ” يقومان ” أو ” من آخران “، وقرئ ” الاولين ” على أنه وصف للذين استحق عليهم. ومعنى الاولية التقدم على الاجانب في الشهادة لكونهم أحق بها، ذلك


[ 320 ]

الذي يقدم من بيان الحكم ” أدنى أن تأتوا بالشهادة ” على نحو تلك الحادثة ان تكرر أيمان شهود آخرين بعد ايمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم، كما جرى في قصة بديل على ما تقدم. ويجوز شهادة النساء عند عدم الرجال، فان لم تحضر الا امرأة جازت شهادتها في ربع الوصية، فان حضرت اثنتان جازت شهادتهما في النصف، والثلاث في النصف والربع، والاربع في كل الوصية إذا كانت بالثلث فما دونه. والعدالة معتبرة في المواضع كلها. (باب نادر) عن سلمى مولاة ولد أبي عبد الله عليه السلام (1: كنت عنده حين حضرته الوفاة، فأغمي عليه فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن الحسين بن علي – وهو الافطس – سبعين دينارا. قلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة ؟ قال: ويحك أما تقرئين القرآن. قلت: بلى. قال: أما سمعت قول الله تعالى (2 ” الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ” (3). وعن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سأله ابى وأنا حاضر عن قوله تعالى ” حتى إذا بلغ أشده واستوى ” (4. قال: الاحتلام. قال: فقال يحتلم في ست عشرة سنة وسبع عشرة ونحوها. فقال: لا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات وجاز أمره الا أن يكون سفيها أو ضعيفا. فقال: وما السفيه ؟ فقال: الذي يشتري الدرهم بأضعافه. قال: وما


1) في المصدر ” عن سالمة مولاة أم ولد كانت لابي عبد الله “. 2) سورة الرعد: 21. 3) تفسير البرهان 2 / 289. 4) سورة القصص: 14. *

[ 321 ]

الضعيف ؟ فقال: الابله (1. وعن العيص بن القاسم قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها ؟ قال: إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع. فسألته: ان كانت تزوجت. فقال: إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها (2. وقال: إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب فإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك انها تحيض لتسع سنين (3 ولا يدخل بالجارية حتى يأتي بها تسع سنين أو عشرة سنين. وقوله تعالى ” للرجل نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ” (4 يمكن أن يقال: ان المعنى للاية ان للرجل وللنساء نصيبا مما اكتسبوا، وهو الثلث من أموالهم الذي يصح لهم أن يوصوا به في صدقة أو صلة ان أشرفوا على الموت، فإذا وصوا بثلث من أموالهم يجب ان يمضى وينفذ ذلك فانه نصيبهم. (باب الاقرار) اقرار الحر البالغ الثابت العقل غير المولى عليه جائز على نفسه للكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى ” أولا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل ” (5 أي فليقر وليه بالحق غير زائد ولا ناقص، وهو العدل.


1) وسائل الشيعة 13 / 430. 2) المصدر السابق 13 / 432. 3) الكافي 7 / 69. وليس فيه الذيل المذكور هنا. 4) سورة النساء: 32. 5) سورة البقرة: 282 *

[ 322 ]

وايضا قوله تعالى ” كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم ” (1 والشهادة على النفس هو الاقرار بما عليها. وقوله ” فاعترفوا بذنبهم ” (2 وقوله ” فاعترفنا بذنوبنا ” (3 و ” آخرون اعترفوا بذنوبهم ” (4. والاقرار والاعتراف واحد. وأيضا قوله ” ألست بربكم قالوا بلى ” (5) وقوله ” ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ” (6. ولا يجوز أن يكون الجواب في مثل هذا الاببلى، ولو قال نعم كان انكارا ولم يكن اقرارا ويكون تقديره نعم لست ربنا ولم يأتنا نذير، ولهذا يقول الفقهاء إذا قال رجل لاخر ” أليس لي عليك ألف درهم ” فقال ” بلى ” كان اقرارا وان قال نعم لم يكن اقرارا، ومعناه ليس لك علي. (باب الزيادات) روى السكوني عن ابى عبد الله عليه السلام أنه سئل عن رجل يوصي بسهم من ماله. فقال: السهم واحد من ثمانية، لقول الله تعالى ” انما الصدقات للفقراء والمساكين ” الاية (7. وقد روي أن السهم واحد من ستة (8.


1) سورة النساء: 135. 2) سورة الملك: 11. 3) سورة غافر: 11. 4) سورة التوبة: 12. 5) سورة الاعراف: 172. 6) لفظ ” بلى ” جواب كلام مقرون بالنفى، و ” نعم ” جواب كلام مقرون بالاثبات ” م “. 7) الكافي 7 / 41. 8) وسائل الشيعة 13 / 449. *

[ 323 ]

والحديثان متفقان لا تناقض بينهما، فتمضى الوصية على ما يظهر من مراد الموصى، فمتى أوصى بسهم من سهام الزكاة كان السهم واحدا من ثمانية ومتى أوصى بسهم من سهام المواريث فالسهم واحد من ستة. وعن علي بن مزيد صاحب السابري قال: أوصى الي رجل بتركته وأمرني أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فإذا شئ يسير لا يكون للحج، فسألت ابا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة فقالوا تصدق بها عنه، فلما لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف سألته، فقال: هذا جعفر بن محمد في الحجر فسله، فدخلت الحجر فإذا هو تحت الميزاب، فقلت: أوصى الي رجل أن أحج عنه بتركته فلم تكف فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا تصدق بها عنه. فقال عليه السلام: ما صنعت ؟ قلت: تصدقت بها عنه. فقال: ضمنت الا أن لا يكون مبلغ ما يحج به من مكة، فان كان لا يبلغ ما يحج به من مكة فليس عليك ضمان، وان كان بلغ ما يحج به من مكة فأنت ضامن (1. وسئل عليه السلام أيضا عن رجل أوصى بحجة فجعلها وصيه في نسمة. فقال: يغرمها وصيه ويجعلها في حجة كما أوصى به، فان الله تعالى يقول ” فمن بدله بعد ما سمعه فانما اثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم ” (2.


1) من لا يحضره الفقيه 4 / 207 مع تغيير واختصار هنا. 2) الكافي 7 / 22. *

[ 324 ]

كتاب المواريث قال الله تعالى ” للرجل نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ” (1 فجعل تعالى تركة الميت لاقاربه من الرجال والنساء على سهام بينها في موضع آخر من كتابه وسنة نبيه عليه السلام، فينبغي أن يعرف السهام على حقائقها في مواضعها. ونسلك في عملها طريق المعرفة بها دون غيره ليحصل للانسان فهمها ويستقر لها الحكم فيها على يقين انشاء الله تعالى. (باب) (كيفية ترتيب نزول المواريث) اعلم أن الجاهلية كانوا يتوارثون بالحلف والنصرة، وأقروا على ذلك في


1) سورة النساء: 7. *

[ 325 ]

صدر الاسلام في قوله تعالى ” والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ” (1 ثم نسخ مع وجود ذوى الانساب بسورة الانفال في قوله تعالى ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ” (2. وكانوا يتوارثون بعد ذلك بالاسلام والهجرة، فروي أن النبي صلى الله عليه وآله آخى بين المهاجرين والانصار لما قدم المدينة، فكان يرث المهاجري من الانصاري والانصاري من المهاجري ولا يرث وارثه الذي كان له بمكة وان كان مسلما لقوله ” ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا ” (3. ثم نسخت هذه الاية بالقرابة والرحم والنسب والاسباب بقوله ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ” (4. فبين تعالى أن اولى الارحام أولى من المهاجرين الا أن يكون وصية، ولقوله تعالى ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون ” الاية. ثم قدر ذلك في سورة الناس في ثلاث آيات، وهي أمهات أحكام المواريث ذكر الله فيها أصول الفرائض، وهي سبعة عشر فريضة، فذكر في قوله ” يوصيكم الله في أولادكم ” ثلاثا في الاولاد وثلاثا في الابوين واثنتين في الزوج واثنتين في المرأة واثنتين في الاخوات من الام، وذكر في آخر هذه السورة في قوله تعالى ” يستفتونك قل الله يفتيكم ” الاية أربعا في الاخوة وأخوات من الاب والام أو الاب


1) سورة النساء: 33. 2) سورة الانفال: 75. 3) سورة الانفال: 72. 4) وسائل الشيعة 17 / 415. *

[ 326 ]

مع عدمهم من الاب والام، وذكر واحدة – وهي تمام السبع عشرة فريضة – في قوله ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله “. (فصل) (في بيان ذلك) ذكر تعالى أولا فرض ثلاثة من الاولاد، جعل للبنت النصف ولبنتين فصاعدا الثلثين وان كانوا ذكورا واناثا فللذكر مثل حظ الانثيين، ثم بين ذكر الوالدين في قوله ” ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد فان لم يكن له ولد وورثة أبوابه فلامه الثلث فان كان له أخوة فلامه السدس “، ذكر أن لكل واحد من الابوين السدس مع الولد بالفرض، فان لم يكن ولد فللام الثلث والباقي للاب، وان كان أخوة من الاب والام أو من الاب فلامه السدس والباقي للاب هذه الاية الاولى. ثم قال ” ولكم نصف ما ترك أزواجكم ” فذكر في صدر الاية حكمهم وذكر في آخرها حكم الكلالة من الام، ذكر في أولها حكم الزوج والزوجة وأن للزوج النصف إذا لم يكن ثم ولد، فان كان ولد فله الربع، وان للزوجة الربع إذا لم يكن ولد، فان كان ولد فلها الثمن. ثم عقب بكلالة الام فقال ان كان له أخ من أم أو أخت منها فله أولها السدس، وان كانوا اثنتين فصاعدا فلهم الثلث. وفي قراءة ابن مسعود ” وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت [ من أم ] فلكل واحد منهما السدس ” (1. وأيضا فان الله لما ذكر أنثى وذكرا وجعل لهما الثلث ولم يفصل أحدهما


1) سورة النساء: 12. *

[ 327 ]

عن الاخر ثبت انهما يأخذان بالرحم، وذكر في قوله ” يستفتونك في النساء ” قل الله يفتيكم في الكلالة ” (1 في آخر سورة المائدة (2) يذكر فيها أربعة أحكام: ذكر أن للاخت من الاب والام إذا كانت واحدة فلها النصف، ان ماتت وهي لم يكن لها ولد ولها أخ فالاخ يأخذ الكل، وان كانتا اثنتين فصاعدا فلهما أو لهن الثلثان، وان كانوا أخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الانثيين، فان لم يكن أخ ولا أخت من الاب والام فحكم الاخت الواحدة من الاب والاخ من الاب وحكم الاختين فصاعدا من الاب وحكم الاخوة والاخوات معا من الاب حكم الاخوة والاخوات من الاب والام على ما ذكرناه. وقال ابن عباس: من تعلم سورة النساء وعلم من يحجب ومن لا يحجب فقد علم الفرائض. (باب) (ما يستحق به المواريث وذكر سهامها) قد بين الله في كتابه أن الميراث يستحق بشيئين سبب ونسب، وبين أيضا ان النسب على ضربين نسب الولد للصلب ومن يتقرب بهم ونسب الوالدين ومن يتقرب بهما، فقال ” يوصيكم الله في أولادكم ” (3 وهذا عام في الولد وولد الولد وان نزلوا، وقال ” ولابويه لكل واحد منهما السدس ” (3 وقال ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت ” (4 الاية، وقال ” وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت ” الاية (5.


1) سورة النساء: 176. 2) كذا والصحيح: في آخر سورة النساء. 3) سورة النساء: 11. 4) سورة النساء: 176. 5) سورة النساء: 12. *

[ 328 ]

وكذا بين تعالى أن السبب على ضربين الزوجية والولاء، فقال ” ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم ” وقال ” فاخوانكم في الدين ومواليكم ” فانه يدل على أن معتق زيد إذا مات ولم يخلف نسيبا كان مولاه أولى به من كل أحد فيكون ميراثه له. وكذا يدل على ولاء الامامة، فان ميراث من لا وارث له كان للنبي عليه السلام، وهو لمن قام مقامه خلفا عن سلف. وقال تعالى ” والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ” (1 فانه يدل على ولاء تضمن الجريرة على ما تقدم. ويمنع كفر الوارث ورقه على بعض الوجوه وقتله عمدا ظلما من الميراث من جهة السبب والنسب معا. ومن تأمل هذه الايات علم أن سهام المواريث ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وانما صارت سهام المواريث من ستة أسهم لا يزيد عليها لان أهل المواريث الذين يرثون ولا يسقطون ستة الابوان والابن والبنت والزوج والزوجة، وقيل ان الانسان خلق من ستة أشياء، وهو قول الله تعالى ” ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ” (2 الاية، لمصلحة رآها الله تعالى في ذلك. (باب) (ذكر ذوي السهام) نبدأ بذوي الاسباب الذين هم الزوجان، ثم نعقبه بذكر ذوي الانساب: قال الله تعالى ” ولكم نصف ما ترك أزواجكم ” بين سبحانه أن للزوج


1) سورة النساء: 33 ولفظة ” عاقدت ” على قراءة في الاية. 2) سورة المؤمنون: 12. *

[ 329 ]

النصف مع عدم الولد وولد الولد وان نزلوا وهو السهم الاعلى له، وله الربع مع وجود الولد. وقال ” ولهن الربع مما تركتم ” بين أيضا أن لها الربع مع عدم الولد، وكذلك الزوجات فان لها الثمن مع وجود الولد وولد الولد وان نزلوا، وكذلك الزوجين والثلاث والاربع وهو السهم الادنى لهن. فإذا اجتمع واحد مع الزوجين مع ذوي الانساب أخذ هو نصيبه والباقي لهم، وإذا انفرد أحد الزوجين فان كان هو الزوج يأخذ فرضه المسمى والباقى يرد عليه أيضا على بعض الروايات على كل حال، وان كان زوجة تأخذ هي نصيبها والباقي لبيت المال، وفي زمان الغيبة يرد إليها أيضا الباقي، ولا يرثان الا بعد وفاء الدين كله واعطاء ثلث الوصية. (فصل) وأما ذوو الانساب فأقواهم قرابة الولد، ولذلك بدأ الله بذكر سهامه فقال تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم “. وسبب نزول هذه الاية قيل فيه قولان: أحدهما: قال ابن عباس والسدي: ان سبب نزولها أن القوم لم يكونوا يورثون النساء والبنات والبنين الصغار ولا يورثون الا من قاتل وطاعن، فأنزل الله الاية وأعلمهم كيفية الميراث. وقال عطا عن ابن عباس وابن جريح عن مجاهد انهم كانوا يورثون الولد والوالدين للوصية فنسخ الله ذلك. وقال محمد بن المنكدر عن جابر قال: كنت عليلا مدنفا فعادني النبي صلى الله عليه وآله ونضح الماء على وجهى، فأفقت وقلت: يا رسول الله كيف أعمل في مالي ؟ فأنزل الله الاية (1.


1) انظر الدر المنثور 2 / 125. *

[ 330 ]

وروي عن ابن عباس أنه قال: كان المال للولد والوصية للوالدين والاقربين فنسخ بهذه الاية. وقرئ ” يوصي بها أو دين ” بفتح الصاد وكسرها والكسر أقوى لقوله ” مما ترك ان كان له ولد ” فتقدم ذكر الميت وذكر المفروض مما ترك، ومن فتحها فلانه ليس لميت معين وانما هو شائع في الجميع. ومعنى ” يوصيكم الله ” فرض عليكم، لان الوصية من الله فرض، كما قال ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به ” (1 يعنى فرض عليكم – ذكره الزجاج. وانما لم يعد قوله ” يوصيكم ” إلى قوله ” مثل حظ الانثيين ” بنصب اللفظ لانه كالقول في حكاية الجملة بعده، والتقدير قال الله تعالى في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين، ولان الفرض بالاية الفرق بين الموصي والموصى له في نحو ” أوصيت زيدا بعمرو “. (فصل) (في ميراث الولد) اعلم ان قوله تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم ” عام في كل ولد يتركه الميت وان المال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين، وكذا حكم البنت والبنتين لها ولهما النصف والثلثان على كل حال الا من خصه الدليل من الرق والكفر والقتل الظلم على ما ذكرناه، فانه لا خلاف ان الكافر والقاتل عمدا على سبيل الظلم والمملوك على بعض الوجوه لا يرثون، وان كان القاتل خطأ ففيه خلاف وعندنا يرث من المال دون الدية، والمسلم عندنا يرث الكافر وفيه خلاف، والعبد لا


1) سورة الانعام: 151. *

[ 331 ]

يرث لانه لا يملك شيئا ويورث إذا لم يكن غيره وارث في درجته بشرط أن تكون التركة أكثر من قيمته أو مثلها. والمرتد لا يرث، وميراثه لورثته المسلمين، وهو قول علي عليه السلام (1. وقال ابن المسيب نرثهم ولا يرثونا. وما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ” لا يتوارث أهل ملتين ” (2 فإذا صح فمعناه لا يرث كل واحد منهما من صاحبه. وانا نقول: المسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم، ولم يثبت حقيقة التوارث بينهما فلا يكون كلامنا مخالفا لذلك. وقوله تعالى ” فان كن نساءا فوق اثنتين ” فالظاهر في هذا يقتضي أن البنتين لا يستحقان الثلثين، وانما يستحق الثلثان إذا كن فوق اثنتين، لكن أجمعت الامة أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات فتركنا له الظاهر. وقال أبو العباس المبرد وأختاره اسماعيل بن اسحاق القاضي: ان في الاية دليلا على أن للبنتين الثلثين أيضا، لانه قال ” للذكر مثل حظ الانثيين ” وأول العدد ذكر وأنثى وللذكر الثلثان من ستة وللانثى والثلث علم من فحوى ذلك أن للبنتين الثلثين وان كان بالتلويح، ثم أعلم الله بعده انما فوق البنتين لهن الثلثان أيضا بالتصريح، ليكون في باب البلاغة على الاقصى. وهذا حسن. وقوله ” فان كانت واحدة فلها النصف ” يدل على أن فاطمة عليها السلام كانت مستحقة للميراث، لانه عام في كل بنت، والخبر المدعى ان الانبياء لا يورثون خبر ما عمل به الراوي ايضا، لانه ورث ابنته. مع انه خبر واحد لا يترك له عموم الاية، لانه معلوم لا تيرك بمظنون.


1) وسائل الشيعة 17 / 384. 2) المصدر السابق 17 / 377. *

[ 332 ]

(فصل) (في ميراث الوالدين) ثم قال ” ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد ” (1 لا خلاف في ذلك، وكذا ان كان واحد من الابوين مع الولد كان له السدس بالفرض بلا خلاف. ثم ننظر فان كان الولد ذكرا كان الباقي للولد واحدا كان أو اكثر بلا خلاف وكذلك ان كانوا ذكروا واناثا فالمال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين، وان كانت بنتا كان لها النصف ولاحد الابوين السدس اولهما السدسان، والباقي عندنا يرد على البنت والابوين أو احدهما على قد سهامهما أيهما كان لان قرابتهما سواء. ومن خالفنا يقول: ان كان احد الابوين أبا كان الباقي له لانه عصبة، وان كانت أما ففيهم من يقول بالرد على البنت والام وفيهم من يقول الباقي في بيت المال. وانما رددنا عليهم لعموم قوله تعالى ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض ” (2 وههنا هما متساويان، لان البنت تتقرب بنفسها إلى الميت وكذا الابوان. والخبر المدعى في أن ما أبقت الفرائض فلاولى عصبة ذكر (3 خبر ضعيف، وله مع ذلك وجه لا يخص به عموم القرآن. وقوله ” فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث ” فمفهومه أن الباقي للاب، فليس فيه خلاف. فان كان في الفريضة زوج كان له النصف وللام الثلث بالظاهر وما بقي فللاب،


1) سورة النساء: 11. 2) سورة الانفال: 75. 3) الجامع الصحيح للترمذي 4 / 419 بمضمونه، وسائل الشيعة 17 / 432 قريب منه. *

[ 333 ]

ومن قال للام ثلث ما بقي فقد ترك الظاهر. وبمثل ما قلناه قال ابن عباس. وان كان بدل الزوج زوجة كان الامر مثل ذلك، للزوجة الربع وللام الثلث والباقي للاب، وبه قال ابن عباس وابن سيرين. ثم قال ” فان كان له اخوة فلامه السدس ” ففي أصحابنا من يقول انما يكون لها السدس إذا كان هناك أب، لان التقدير فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فان كان له أخوة وورثه ابواه فلامه السدس. ومنهم من قال ان لها السدس بالفرض مع وجود الاخوة سواء كان هناك أب أو لم يكن، وبه قال جميع الفقهاء. غير انا نقول: ان كان هناك أب كان الباقي للاب فان لم يكن أب كان الباقي ردا على الام. ولا يرث احد من الاخوة والاخوات مع الام شيئا، سواء كانوا من قيل أب وأم أو من قبل أب أو من قبل أم على حال، لان الام اقرب منهم بدرجة. ولا يحجب عندنا من الاخوة الا من كان من قبل الاب والام أو من قبل الاب فأما من كان منهم من قبل الام فحسب فانه لا يحجب على حال. ولا يحجب اقل من اخوين أو أخ واختين أو اربع اخوات، بشريطة ان لم يكونوا كفارا ولارقا ولا قاتلين ظلما، فأما أخ وأخت أو أختان فلا يحجبان وكذلك ثلاث أخوات لا يحجبن على حال. وخالفنا جميع الفقهاء في ذلك. فأما الاخوان فانه لا خلاف انه يحجب بهما الام عن الثلث إلى السدس، الا ما قال ابن عباس انه لا يحجب بأقل من ثلاثة لقوله تعالى ” فان كان له أخوة ” قال: والثلاثة أقل الجمع. وحكي عن ابن عباس ايضا ان ما يحجب الاخوة من سهم الام من الثلث إلى السدس يأخذه الاخوة دون الاب، وذلك خلاف ما اجمعت عليه الامة، لانه لا خلاف ان احدا من الاخوة لا يستحق مع الابوين شيئا.


[ 334 ]

وانما قلنا ان الاخوين يحجبان للاجماع، وايضا فانه يجوز وضع لفظ الجمع في موضع التثنية إذا اقترنت به دلالة كما قال ” ان تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ” على ان اقل الجمع اثنان. فان قيل: لم حجبت الام الاخوة من غير ان يرثوا مع الاب. قلنا: قال قتادة معونة للاب لانه يقوم بنفقتهم ونكاحهم دون الام. وهذا بعينه رواه اصحابنا، وهو دال على ان الاخوة من الام لا يحجبون، لان الاب لا يلزمه نفقتهم على حال. وان كان الاخوة كفارا أو مماليك أو قاتلين ظلما لا يحجبون الام أيضا مع وجوب الاب وفقده. وكذلك ان كانا اثنين وكان أحد الاخوين كافرا أو رقا أو قاتلا ظلما كذلك فان الام لا تحجب. وقوله ” لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ” معناه لا تعلمون أيهم أقرب نفعا في الدين والدنيا والله يعلمه فافهموه على ما بينه من تعلم المصلحة فيه. وقال بعضهم: الاب يجب عليه نفقة الابن إذا احتاج إليها، وكذلك الابن يجب عليه نفقة الاب مع الحاجة. فهما في النفع في هذا الاب سواء لا تدرون أيهم أقرب نفعا. وقيل: لا تدرون أيكم يموت قبل صاحبه فينتفع الاخر بماله. وقوله ” فريضة من الله ” نصب على الحال من قوله ” لابويه “، وتقديره فيثبت لهؤلاء الورثة ما ذكرناه مفروضا فريضة مؤكدة، كقوله ” يوصيكم الله ” هذا قول الزجاج. وقال غيره: هو نصب على المصدر من يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فرضا مفروضا. ويجوز أن يكون نصبا على التمييز، أي فلامه السدس فريضة، كما يقال هو لك صدقة أو هبة. وانما يقال في تثنية الاب والام ” أبوان ” تغليبا للفظ الاب، ولا يلزم على ذلك في ابن وابنة لانه ههنا يوهم.


[ 335 ]

(فصل) (في ميراث الزوجين) وان كنا قدمنا القول فيه، فانا نتكلم على ذلك أيضا ههنا لنسق القرآن. لا خلاف أن للزوج نصف ما تتركه الزوجة إذا لم يكن لها ولد، فان كان لها ولد فله الربع بلا خلاف، سواء كان ودلها منه أو من غيره وان كان ولد لا يرث لكونه مملوكا أو كافرا أو قاتلا عمدا ظالما، فلا يحجب الزوج من النصف إلى الربع، ووجوده كعدمه. وكذلك حكم الزوجة لها الربع إذا لم يكن للزوج ولد على ما قلناه في الزوجة في انه سواء كان منها أو من غيرها، فان كان لها ولد كان لها الثمن. ولا خلاف أن ما تستحقه الزوجة ان كانت واحدة فهو لها، وان كانت ثنتين أو ثلاثا أو اربعا لم يكن لهن أكثر من ذلك. ولا يستحق الزوج أقل من الربع في حال من الاحوال ولا الزوجة أقل من الثمن على وجه من الوجوه. ولا يدخل عليهما النقصان وكذا الابوان لا ينقصان في حال من الاحوال، لان العول عندنا باطل على ما نذكره. وولد الولد وان نزل يقوم مقام الولد للصلب في حجب الزوجين من الفرض الاعلى إلى الادون. وكل من ذكر الله له فرضا فانما يستحقه إذا أخرج من التركة الكفن والدين والوصية، فان استغرق الدين المال لم تنفذ الوصية ولا ميراث، وان بقي نفذت الوصية ما لم يزد على ثلث ما يبقى بعد الدين، فان زادت ردت إلى الثلث. فان قيل: كيف قدم الوصية على الدين في هذه الاية وفى التى قبلها مع ان الدين يتقدم عليها بلا خلاف ؟


[ 336 ]

قلنا: لان ” أو ” لا يوجب الترتيب وانما هي لاحد الشيئين، فكأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الاخر، [ كقولهم ” جالس الحسن أو ابن سيرين ” أي جالس أحدهما مفردا أو مضموما إلى الاخر ] (1) ويجب البدأة بالدين بعد الكفن لانه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها، فكذا حال الدين وجب رده أولا ثم تكون الوصية بعده ثم الميراث. ومثل ما قلناه اختاره الطبري والجبائي، وهو المعتمد عليه في تأويل الاية. (فصل) (في ميراث كلالة الام) ثم قال تعالى ” وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت ” يعني من الام بلا خلاف. وكلالة نصبها يحتمل أمرين: أحدهما على أنه مصدر وقع موضع الحال تكون كان تامة، وتقديره يورث متكلل النسب كلالة. والثاني أن يكون خبر كان ناقصة، وتقديره وان كان رجل وارث كلالة، فرجل اسم كان ويورث صفته وكلالة خبره. والاول هو الوجه، لان يورث هو الذي اقتضى ذكر الكلالة، كما تقول: يورث هذا الرجل كلالة، بخلاف من يورث ميراث الصلب ويورث كلالة عصبة وغير عصبة. واختلفوا في معنى الكلالة: فقال قوم هو من عدا الولد والوالد، وقال ابن عباس ان الكلالة ما عدا الولد، وورث الاخوة من الام الدسدس مع الابوين وهو خلاف اجماع أهل الاعصار. قال ابن زيد الميت يسمى كلالة، وقال قوم الكلالة هو الميت الذي لا ولد له ولا والد. وعندنا ان الكلالة هم الاخوة والاخوات فمن ذكره الله في هذه الاية هو


1) الزيادة من ج. *

[ 337 ]

من كان من قبل الام، ومن ذكر في آخر السورة هو من قبل الاب والام أو من قبل الاب. وأصل الكلالة الاحاطة، ومنه ” الاكليل ” لاحاطته بالرأس، والكلالة لاحاطتها بالنسب الذي هو الولد والوالد. وقال أبو مسلم: أصلها من كل إذا أعيا، فكأنه يتناول الميراث من بعد على كلال واعياء. وقال الحسين بن علي المغربي: أصله عندي ما تركه الانسان وراء ظهره، مأخوذا من كلالة وهو مصدر الاكل وهو الظهر، تقول ولائي فلان اكله على وزن أظله أي ظهره. وهذا الاسم تعرفه العرب وتخبره عن جملة النسب والوراثة، ولا خلاف أن الاخوة والاخوات من الام يتساوون في الميراث. وانما قال ” وله أخ أو أخت ” ولم يقل لهما وقد قال قبله ” وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة ” لرفع الابهام، ولو ثنى لكان حسنا كما يقول من كان له اخ أو اخت فليصله ويجوز فليصلها ويجوز ايضا فليصلهما، فالاول يرد الكناية على الاخ والثاني على الاخت والثالث عليهما. كل ذلك حسن. وقوله تعالى ” غير مضار ” نصب على الحال، ويجوز أن يكون مفعولا به. ” تلك حدود الله ” أي هذه اتفصيلات الله لفرائضه، لان اصل الحد هو الفصل. وقال ابن الياس: المعنى تلك حدود طاعة الله. فان قيل: إذا كان ما تقدم ذكره دل على انها حدود الله فما الفائدة في هذا القول ؟ قلنا عنه جوابان: احدهما انه للتأكيد، والثاني ان الوجه في اعادته ما علق به من الوعد والوعيد.


[ 338 ]

(فصل) (في ميراث كلالة الاب) قال الله تعالى ” يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك ” (1 إلى آخرها. روى البراء بن عازب ان هذه الاية آخر ما نزلت بالمدينة، وقال غيره نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله (2. واختلفوا في سبب نزولها: فقال سعيد بن المسيب: سئل النبي عليه السلام عن الكلالة فقال: أليس قد بين الله ذكل – فنزلت الاية، وقال جابر: اشتكيت وعندي تسع اخوات لي أو سبع، فدخل علي النبي عليه السلام فنفخ في وجهي فأفقت فقلت: يا رسول الله ألا اوصي لاخواتي بالثلثين. قال: احسن. قلت بالشطر. قال: احسن. ثم خرج وتركني ورجع الي وقال: يا جابر اني لا اراك ميتا من وجعك هذا، وان الله قد انزل لاخواتك فجعل لهن الثلثين. قال: وكان جابر يقول: انزلت هذه الاية في. وعن قتادة: ان اصحاب رسول الله همهم شأن الكلالة فأنزل الله هذه الاية (3. ومعنى ” يستفتونك ” يسألونك يا محمد ان تفتيهم في الكلالة ” قل الله يفتيكم ” في الكلالة، فحذف ان اختصار لما دل الجواب عليه. والاستفتاء والاستقصاء واحد. وقوله تعالى ” ان امرؤ هلك ليس له ولد ” معناه مات انسان ليس له ولد


1) سورة النساء: 176. 2) الدر المنثور 2 / 250 – 251. 3) التبيان 3 / 408. *

[ 339 ]

ذكر ولا أنثى ” وله أخت ” يعني وللميت أخت لابيه وأمه أو لابيه ” فلها نصف ما ترك ” والباقي عندنا رد عليه ايضا سواء كان هناك عصبة أو لم يكن. وقال جميع الفقهاء ان الباقي للعصبة. وان لم يكن عصبة هناك – وهم العم وبنو العم وأولاد الاخ – فمن قال بالرد على ذوي الارحام رد الباقي على الاخت، وهو اختيار الجبائي واكثر أهل العلم، وهو يرثها ان لم يكن لها ولد. يعنى ان كانت الاخت هي الميتة ولها أخ من أب وأم أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن لها ولد سواء كان ذكرا أو انثى، لانه تعالى قال ” وهو يرثها ان لم يكن لها ولد ” والبنت بلا خلاف ولد. والدليل على صحة تسمية البنت بالولد قوله ” يوصيكم الله في اولادكم ” ثم فسر الاولاد فقال ” للذكر مثل حظ الانثيين “. فان كان للاخت ولد ذكر فالمال كله له بلا خلاف ويسقط الاخ، وان كان بنتا كان لها النصف بالتسمية بلا خلاف، والباقي عندنا رد عليها لانها اقرب دون الاخ. ثم قال ” فان كانتا اثنتين ” يعنى ان كانت الاختان اثنتين فلهما الثلثان، وهذا لا خلاف فيه. والباقي على ما بيناه من الاخت الواحدة عندنا رد عليهما دون عصبته ودون ذوي الارحام، وإذا كان هناك عصبة رد الفقهاء الباقي عليهم. فان كانت احدى الاختين لاب وأم واخرى لاب فالواجب للاب والام النصف بلا خلاف، والباقي رد عليها عندنا لانها مجمع السبببين، ولا شئ للاخت للاب لانها انرفدت بسبب واحد، وعند الفقهاء لها السدس يكمله الثلثين والباقى على ما بيناه من الخلاف. وان كانوا أخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الانثيين، يعنى ان كان الورثة اخوة رجالا ونساء للاب والام فللذكر مثل حظ الانثيين بلا خلاف.


[ 340 ]

وان كان الذكور منهم للاب والام والاناث للاب انفرد الذكور بجميع المال بلا خلاف. وان كان الاناث للاب والام والذكور للاب كان للاناث الثلثان بالتسمية بلا خلاف، والباقي عندنا رد عليهن لما بيناه من اجتماع السببين لهن. وعند جماعة الفقهاء ان الباقي للاخوة من الاب لانهم عصبة، ويروون خبرا ضعيفا عنه عليه السلام أنه قال: ما اتفقت الفرائض فلاولي العصبة ذكر (1. وقد قلنا ما عندنا في خبر العصبة. ويمكن أن يحمل خبر العصبة مع تسليمه على من مات وخلف زوجا أو زوجة وأخا لاب وأم وأخا لاب أو ابن أخ لاب وأم وابن أخ لام أو ابن عم لاب وأم وابن عم لاب. قال للزوج سهمه المسمى والباقى لمن يجتمع كلالة الاب والام دون من يتفرد بكلالة الاب. وقال عمر (2: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكلالة فقال: يكفيك آية الصيف (3. (باب) (في مسائل شتى) إذا تركت امرأة زوجها وأبويها فللزوج النصف وللام الثلث كاملا وما بقي فللاب، قال الله تعالى ” فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث ” (4،


1) وسائل الشيعة 17 / 432 قريب منه. 2) الدر المنثور 2 / 249. 3) المراد بآية الصيف قوله تعالى في آخر سوة النساء [ الاية 175 ] ” يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ” إلى تمام الاية، وسميت آية الصيف لان الله سبحانه أنزل في الكلالة احداهما في الشتاء وهى التى في أول سورة النساء والاخرى في الصيف وهى التى في آخرها ” ن “. 4) سورة النساء: 11. *

[ 341 ]

فجعل الله للام الثلث كاملا إذا لم يكن ولد ولا أخوة. ومن الدليل على أن لها الثلث في جميع المال أن جميع من خالفنا لم يقولوا لها السدس في هذه الفريضة، انما قالو اللام ثلث ما بقي وثلث ما بقي هو السدس، فأحبوا أن لا يخالفوا الكتاب فأثبتوا لفظ الكتاب وخالفوا حكمه، وذلك تمويه. وجاء رجل إلى ابى جعفر عليه السلام فسأله عن امرأة تركت زوجها واخويها واختها لامها (1. فقال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللاخوة من الام سهمان، وللاخت من الاب [ السدس ] (2 سهم. فقال له الرجل: فان فرائض زيد وفرائض العامة على غير هذا، يقولون للاخت من الاب ثلاثة أسهم (3 تصير من ستة تعول من ثمانية. فقال أبو جعفر عليه السلام: ولم قالوا ذلك ؟ قال: لان الله تعالى قال ” وله أخت فلها نصف ما ترك “. فقال عليه السلام: فان كان مكان الاخت أخا. قال: ليس له الا السدس. فقال أبو جعفر عليه السلام: فما لكم نقضتم الاخ ان كنتم تحتجون للاخت النصف بأن الله سمى لها النصف، فان الله سمى للاخ الكل والكل اكثر من النصف لانه تعالى قال في الاخت ” ولها نصف ما ترك ” وقال في الاخ ” وهو يرثها ” يعني جميع مالها ” ان لم يكن لها ولد ” فلا تعطون الذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضهم شيئا وتعطون الذي جعل الله له النصف والام تاما، ويقولون (4 في زوج وأم وأخوة لام واخت لاب فيعطون الزوج النصف والام السدس والاخوة من الام الثلث والاخت من الاب النصف فيجعلونها من تسعة وهي ستة تعول إلى


1) كذا في النسختين، وفى المصدر ” تركت زوجها واخوتها لامها واختا لابيها “. 2) الزيادة من المصدر. 3) لان فيها النصف والثلث، وقوله ” تعول إلى ثمانية ” لان للاخوة من الام سهمين وللاخت من الاب ثلاثة أسهم وكذا للزوج فتصير ثمانية ” ج “. 4) كذا في النسختين، وفى المصدر ” فقال له الرجل: وكيف تعطى الاخت النصف ولا يعطى الذكر لو كانت هي ذكرا شيئا ؟ قال: يقولون “. *

[ 342 ]

تسعة (1. فقال: كذلك يقولون. فقال له أبو جعفر عليه السلام: فان كانت الاخت أخا لاب ؟ قال الرجل: ليس له شئ [ فقال الرجل لابي جعفر عليه السلام ] (2 فما تقول. فقال: ليس (3 للاخوة من الاب والام ولا للاخوة من الام ولا الاخوة من الاب مع الام شئ ؟ ؟ ؟ (4. (باب) (من يرث بالقرابة دون الفرض) قال الله تعالى ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ” (5). بين سبحانه ان أولى الناس بالميت أقربهم إليه، والاية بعمومها تتناول الميراث وغيره. ومن يرث بالقرابة ستة: فأقواهم قرابة الولد للصلب لا يرث معه أحد سواء يتقرب به أو بغيره الا ذوي السهام المذكورين من قبل من الابوين والزوجين، ثم ولد الولد وان نزلوا، ثم الاب، ثم من يتقرب به من ولده أو أبويه، ثم من يتقرب بالام دونها (6 ودون ولدها. ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الاحزاب ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا ان تفعلوا إلى أوليائكم


1) ثلاثة للزوج وواحد للام واثنان لكلالتها وثلاثة للاخت من الاب فالمجموع تسعة ” ج “. 2) الزيادة من المصدر. 3) لانه ليس بذى نصف وقرابة ممنوعة بالام فلا وجه لثوريته، ولا يلزم على هذا كلالة الام لانها ذات نصف بخلاف الاخ للاب ” ه‍ “. 4) وسائل الشيعة 17 / 482. 5) سورة الانفال: 75. 6) أي يرث الاخوال بشرط عدم الام وأولادها ” ه‍ “. *

[ 343 ]

معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا ” (1). بين سبحانه أن من كان قرباه أقرب فهو أحق بالميراث من الابعد، وظاهر ذلك يمنع ان يرث مع البنت والام أحد من الاخوة والاخوات، لان البنت والام أقرب من الاخوة والاخوات. وكذلك يمنع ان يرث مع الاخت أحد من العمومة والعمات وأولادهم لانها اقرب. والخبر المروي في هذا الباب ” ان ما أثبت الفرائض فلاولي عصبة ذكر ” (2 خبر واحد مطعون على سنده لا يترك لاجله ظاهر القرآن الذي بين فيه ان أولى الارحام الاقرب منهم أولى من الابعد في كتاب الله من المؤمنين المؤاخين والمهاجرين، فقد روي انهم كانوا يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة الاولة حتى نزلت هذه الاية. والاستثناء منقطع في قوله ” الا أن تفعلوا “، معناه لكن ان فعلتم معروفا من الوصية يعرف صوابه فهو حسن ولا يجوز أن تكون القرابة مشركين، لقوله ” لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ” (3. وقد أجاز كثير من الفقهاء الوصية للقرابات الكفار، وعندنا ان ذلك جائز للوالدين والولد. ” ومن ” يحتمل أمرين: احدهما ان تكون دخلت لاولي، أي بعضهم أولى ببعض من المؤمنين. والثاني ان يكون التقدير وأولى الارحام من المؤمنين والمهاجرين أولى بالميراث.


1) سورة الاحزاب: 6. 2) وسائل الشيعة 17 / 423. 3) سورة الممتحنة: 1. *

[ 344 ]

(فصل) ويدل على ذلك أيضا عموم قوله تعالى ” ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ” (1، فظاهر الخطاب يقتضي تحريم تمني ما فضل الله به بعضا على بعض، فلا يجوز لرجل أن يتمنى أن كان امرأة ولا للمرأة ان تتمنى لو كانت رجلا بخلاف ما فعله الله تعالى، لانه تعالى لا يفعل من الاشياء الا ما هو الاصلح، فيكون تمني ما يكون مفسدة (2. ثم اعلم ان الله أخبر عن أحوال المؤمنين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وعن احوال الانصار بقوله تعالى ” ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا ” (3. فقال ” أولئك ” يعني المهاجرين والانصار ” بعضهم أولياء بعض “، ثم أخبر عن الذين آمنوا ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة فقال ” مالكم من ولايتهم من شئ “. قيل نفى ولاية القرابة عنهم لانهم كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الرحم – في قول ابن عباس. وقيل انه نفى الولاية التي يكونون بها يدا واحدة في الحل والعقد، فنفى عن هؤلاء ما أثبته للاولين حتى يهاجروا. وقيل نسخ ذلك بقوله ” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض ” (4.


1) سورة النساء: 32. 2) أي يكون تمنى خلاف ما فعل الله تعالى ” ه‍ “. 3) سورة الانفال: 72. 4) سورة التوبة: 71. *

[ 345 ]

ثم قال ” والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم واولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ” ففي الاية دلالة على ان من كان قرباه أقرب إلى الميت كان أولى بالميراث، سواء كان عصبة أولم يكن أو تسمية أو لم يكن، لان مع كونه اقرب تبطل التسمية. وهذه الاية نسخت حكم التوارث بالنصرة والهجرة على ما قدمناه، فانهم كانوا لا يورثون الاعراب من المهاجرين على ما ذكر في الايات الاول. ومن قال: الولاية في الايات الاولة ولاية النصرة دون الميراث. نقول: ليست ناسخة لهما بل هما محكمتان. قال مجاهد: في هذه الاثة الثلاث ذكر ما والى به رسول الله صلى الله عليه وآله بين المهاجرين والانصار في الميراث، ثم نسخ ذلك بآخرها من قوله تعالى ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله “. وقال ابن الزبير: نزلت في العصبات، كان الرجل يعاقد الرجل، يقول ترثني وأرثك فنزلت ” واولو الارحام ” إلى آخرها. (باب) (في مسائل شتى) روي عن ابى جعفر عليه السلام أنه قال في رجل ترك خالتيه ومواليه أولو الارحام بعضهم أولى ببعض: المال بين الخالتين (1. ولا يرث الموالي مع أحد من القرابات شيئا وان كان بعيدا، لان الله تعالى قد ذكرهم وفرض لهم وأخبر انهم أولى في هذه الاية ولم يذكر الموالي. والحديث الذي رواه المخالفون ان مولى لحمزة توفي وان النبي صلى الله


1) من لا يحضره الفقيه 4 / 304. *

[ 346 ]

عليه وآله أعطى بنت حمزة النصف وأعطى ورثة المولى الباقي (1 فهو خبر واحد، ومع التسليم نقول: لعل ذلك كان شيئا قبل نزول الفرائض فنسخ (2. فقد فرض الله للحلفاء في كتابه فقال: ” والذين عاقدت ايمانكم فآتوهم نصيبهم ” (3 ولكنه نسخ ذلك بقول ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله (4. فمتى خلف أحد من ذوي الارحام وترك مولاه المنعم أو المنعم عليه فالمال لنسيبه وليس للموالي شئ، فانه تعالى يقول ” وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا أن تفعلوا إلى اوليائكم معروفا ” (5 يعنى الوصية لهم بشئ أو هبة الورثة لهم من الميراث شيئا. (باب) (ذكر من يرث بالفرض والقرابة) قال الله تعالى ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ” (6. اختلفوا في سبب نزول هذه الاية: فقال قوم: ان اهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الاناث، فنزلت هذه الاية ردا لقولهم.


1) المصدر السابق. 2) بآية أولى الارحام ” ج “. 3) سورة النساء: 33. 4) سورة الانفال: 75. 5) سورة الاحزاب: 6. 6) سورة النساء: 7. *

[ 347 ]

وقال الزجاج: كانت العرب لا يورثون الا من طاعن بالرماح وذاد عن الحريم، فزلت هذه الاية ردا عليهم، وبين أن للرجال والنساء نصيبا في مال الميت قليلا كان المال أو كثيرا، لكيلا يتوهم أنه إذا قل كان الرجال أولى به أو خالف حكمه حكم الكثير (1. ” ونصيبا مفروضا ” نصب على الحال، أي لهم نصيب حالة أن الله فرضه. وفى الاية دليل على بطلان القول بالعصبة، لان الله تعالى فرض الميراث للرجال والنساء، فلو جاز أن يقال النساء لا يرثن في موضع لجاز لاخرين أن يقولوا والرجال لا يرثون. ثم قال ” وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ” (2 هذه الاية عندنا محكمة غير منسوخة، وبه قال ابن عباس وجماعة. والمخاطب بقوله ” فارزقوهم ” الورثة، أمروا بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث. وقال آخرون: انما يتوجه إلى من حضرته الوفاة وأراد الوصية، فانه ينبغى له أن يوصي لمن لا يرثه من هؤلاء المذكورين بشئ من ماله. والوجه الاول. وقال سعيد بن جبير: ان كان الميت أوصى لهم بشئ أنفذت وصيته وان كان الورثة ارضخوا لهم فان كانوا صغار قال وليهم اني لست أملك هذا المال وليس لي انما هو للصغار فذلك قوله ” وقولوا لهم قولا معروفا ” أمر الله أن يقول الولي الذي لا يرث المذكورين قولا معروفا ويقول: ان هذا لقوم غيب أو يتامى صغار ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطيكم منه. وقال ابن عباس: ان قوله ” للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما


1) انظر مجمع البيان 2 / 10. 2) سورة النساء: 8. *

[ 348 ]

اكتسبن ” نزل في الميراث. فان كان كذلك والا فالعموم أيضا يتناوله. (فصل) وقال تعالى ” ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ” (1 معنى الاية جعلنا الميراث لكل من هو مولى الميت. والموالي المذكورون في الاية: قال مجاهد هم العصبة، وقال قوم هم الورثة، وهو أقواهما. والتقدير ولكم جعلنا ورثة مما ترك الوالدان والاقربون وقيل تقديره ولكل مال تركه ميت جعلنا موالى – أي قوما – يرثونه فيملكون مما ترك الوالدان والاقربون. وقال الجبائي: أي لكل شئ وارث هو أولى به من غيره، يسمى الوارث مولى من هذه الجهة. ثم استأنف فقال ” والذين عقدت ” أي عقدتم ” أيمانكم ” أراد بذلك عقد المصاهرة والمناكحة. وقال الله تعالى ” ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن ” (2. اختار الطبري أن يكون المراد به آيات الفرائض، قال: لان الصداق ليس مما كتب الله للنساء الا بالنكاح فما لم تنكح فلا صداق لها عند أحد. ” والمستضعفين من الولدان ” أي [ وفى المستضعفين ” واليتامى ” الصغار من الذكور والاناث لانهم كانوا لا يورثون الصغار من الكذور حتى يبلغوا، فأمرهم أن يؤتوا المستضعفين من الولدان ] (3 حقوقهم من الميراث.


1) سورة النساء: 33. 2) سورة النساء: 127. 3) الزيادة من م. *

[ 349 ]

قال ابن جبير: قوله تعالى ” فيما يتلى عليكم ” يعني قوله ” يستفتونك قل الله يفيتكم في الكلالة ” (1. وقد ذكرنا أن الجاهلية لا يورثون المرأة ولا المولود حتى يكبر، فأنزل الله آية الميراث في أول النساء وهو معنى قوله ” اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ” (2 أي ترغبون فيهن – عن ابن سيرين. وقيل أي ترغبون أن تنكحوهن. (فصل) أما قوله ” واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ” (3 فان المخالفين استدلوا بهذه الاية على ان البنت لا تحوز المال دون بني العم والعصبة، قالوا لان زكريا طلب وليا ولم يطلب ولية. وهذا ليس بشئ، لان زكريا انما طلب وليا لوجوه غير ذلك: منها أن الله تعالى كان وعده أنه يرزقه ولدا رضيا فسأل الله انجاح ذلك. وقيل: انما طلب وليا لان من طباع البشر الرغبة في الذكور دون الاناث من الاولاد، فلذلك طلب الذكر. على أنه قيل: ان لفظ ” الولي ” يقع على الذكر والانثى، فلا نسلم انه طلب الذكر، بل الذي يقتضي الظاهر أنه طلب ولدا سواء كان ذكرا أو انثى. واعلم ان أكثر الخلاف بيننا وبين مخالفينا ومعظمه في الفرائض والمواريث على ثلاثة اشياء: العصبة، والعول، والرد. ونحن نبين بعد هذا أن الحق في


1) سورة النساء: 176. 2) سورة النساء: 127. 3) سورة مريم: 5. *

[ 350 ]

هذه الاصول معنا كما في جميع المواضع، فإذا ثبت ذلك استغنينا عن التطويل بتعيين المسائل. وقد استدللنا على أمهات مسائل المواريث من الكتاب، وفروعها لا يحتمل هذا الموضع ذكرها، غير أنا نعقد ههنا جملة تدل على صحة المذهب، فنقول: الميراث بالفرض لا يجتمع فيه الا من كان قرباه واحدة إلى الميت، مثل البنت أو البنات مع الوالدين أو احدهما، فانه متى انفرد واحد منهم أخذ المال كله بعضه بالفرض والباقي بالرد، وإذا اجتمعا أخذ كل واحد منهم ما سمي له والباقي يرد عليهم ان فضل على قدر سهامهم، وان نقص لمزاحمة الزوج أو الزوجة لهم كان النقص داخلا على البنت أو البنات دون الابوين أو أحدهما ودون الزوج والزوجة. ولا يجتمع مع الاولاد ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما أحد ممن يتقرب بهما كالكلالتين، فانهما لا يجتمعان مع الاولاد ذكورا كانوا أو أناثا ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما أبا كان أو أما بل يجتمع كلالة الاب وكلالة الام، فكلالة الام ان كان واحدا كان له السدس وان كان اثنين فصاعدا كان لهم الثلث لا ينقصون منه والباقي لكلالة الاب، فان زاحمهم الزوج أو الزوجة دخل النقص على كلالة الاب دون كلالة الام. ولا يجتمع كلالة الاب مع كلالة الاب والام، فان اجتمعا كان المال كله لكلالة الاب والام دون كلالة الاب ذكرا كان أو أنثى. ومن يرث بالقرابة دون الفرض لا يجتمع الا من كانت قرباه واحدة وأسبابه ودرجته متساوية. فعلى هذا لا يجتمع مع الولد الصلب ولد الولد ذكرا كان ولد الصلب أو أنثى لانه أقرب بدرجة.


[ 351 ]

وكذلك لا يجتمع مع الابوين ولا مع أحدهما ممن يتقرب بهما من الاخوة والاخوات والجد والجدة على حال، ولا يجتمع الجد والجدة مع الولد الصلب ولا مع ولد الولد وان نزلوا. ويجتمع الابوان مع ولد الولد وان نزلوا لانهم بمنزلة الولد للصلب إذا لم يكن ولد الصلب. والجد والجدة يجتمعان مع الاخوة والاخوات لانهم في درج، والجد من قبل الاب بمنزلة الاخ من قبله والجدة من قبله بمنزلة الاخت من قبله، والجد من قبل الام بمنزلة الاخ من قبلها والجدة من قبلها بمنزلة الاخت من قبلها. وأولاد الاخوة والاخوات يقاسمون الجد والجدة لانهم بمنزلة آبائهم وآباء والجد والجدة وأمهاتهم يقاسمون الاخوة واخوات أيضا. ولا يجتمع مع الجد والجدة من يتقرب بهما من العم والعمة والخال والخالة ولا الجد الا على ولا الجدة العليا. وعلى هذا تجري جملة المواريث، فان فروعها لا تنحصر، والايات التي قدمناها تدل على جميع ذلك من ظاهرها ومن فحواها. (باب) (بطلان القول بالعصبة والعول وكيفية الرد) الذي يدل على صحة مذهبنا وبطلان مذهبهم في العصبة – زائدا على اجماع الطائفة الذي هو حجة – قوله تعالى ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون ” (1. وهذا نص في موضع الخلاف لان الله صرح بأن للرجال من الميراث نصيبا وان للنساء أيضا نصيبا، ولم يخص


1) سورة النساء: 7. *

[ 352 ]

موضعا دون موضع، فمن خص في بعض المواريث الرجال دون النساء فقد خالف ظاهر هذه الاية. وأيضا فان توريث الرجال دون النساء مع المواساة في القربى والدرجة من احكام الجاهلية، وقد نسخ الله بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وآله أحكام الجاهلية وذم من أقام عليها واستمر على العمل بها بقوله ” أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما ” (1. وليس لهم أن يقولوا: انا نخص الاية التي ذكرتموها بالسنة. وذلك أن السنة التي لا تقتضي العلم القاطع [ بها القرآن كما لا ينسخه بها وانما يجوز بالسنة أن تخص ] (2 أو تنسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين. ولا خلاف في ان الاخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علما، وأكثر ما تقتضيه غلبة الظن. على أن أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة يروونها في ابطال أن يكون الميراث بالعصبة وان يكون بالقربى والرحم، وإذا تعارضت الاخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب. فان قيل: إذا كنتم تستدلون على ان العمات يرثن مع العمومة وبنات العم يرثن مع بنى العم وما أشبه ذلك من المسائل، بقوله تعالى ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون ” – الاية، ففي هذه الاية حجة عليكم في موضع آخر. لانا نقول لكم: ألا ورثتم العم أو ابن العم مع البنت بظاهر هذه الاية، وكيف خصصتم النساء دون الرجال بالميراث في بعض المواضع وخالفتم ظاهر الاية، فالأساغ لمخالفكم مثل ما قلتموه. قلنا: لا خلاف أن قوله ” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون ” أن


1) سورة المائدة: 50. 2) الزيادة من ج. *

[ 353 ]

المراد به مع الاستواء في القرابة والدرج، ألا ترى أنه لا يورث ولد الولد ذكورا أو أناثا مع ولد للصلب لعدم التساوي في الدرجة والقرابة وان كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء، وإذا كانت الدرجة والقرابة مراعاتين فالعم أو ابنه لا يساوي البنت في القربى والدرجة وهو أبعد منها كثيرا، وليس كذلك العمومة والعمات وبنات العم وبنو العم لان درجة هؤلاء واحدة وقرباهم متساوية. والمخالف يورث الرجال منهم دون النساء، فظاهر الاية حجة عليه وفعله مخالف لها، وليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الاشارة إليها، فالفرق واضح. فليتأمل. (فصل) أما العول فانه اسم يدخل في الفرائض في المواضع التى ينقص فيها المال عن السهام المفروضة منها، فالذي يذهب إليه الامامية يذهب إليه أن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدم ذو السهام المولدة من الابوين والزوجين على البنات والاخوات من الاب والام أو من الاب وجعل الفاضل من السهام لهن. وقال المخالف: ان المال إذا ضاق عن سهام الورثة قسم بينهم على قدر سهامهم كما يفعل في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها. والذي يدل على صحة ما نذهب إليه – بعد الاجماع – ان المال إذا ضاق عن السهام – كمرأة ماتت وخلفت ابنتين وأبوين والزوج والمال يضيق عن الثلثين والسدس والربع – فنحن بين أمرين: اما ان ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخلها على بعضها، وقد أجمعت الامة على أن البنتين ههنا منقوصتان بلا خلاف، فيجب أن يعطي الابوين السدسين والزوج الربع ويجعل ما بقي للبنتين ونخصهما بالنقص لانهما منقوصتان بالاجماع، وما عداهما ما


[ 354 ]

وقع اجماع على نقصه من سهامه ولا قام دليل على ذلك. فظاهر الكتاب يقتضي أن له سهما معلوما، فيجب أن نوفيه اياه ونجعل النقص لاحقا بمن أجمعوا على نقصه. وقد استدل على ذلك بعض أصحابنا من القرآن، وعليه اعتراضات كثيرة فأضربنا عنه. (فصل) وأما الرد فعندنا أن الفاضل عن فرض ذوي السهام من الورثة يرد على أصحاب السهام بقدر سهامهم ولا رد على الزوجين، كمن خلف بنتا وأبا فللبنت بالتسمية النصف وللاب بالتسمية السدس وما بقي بعد ذك – وهو ثلث المال – رد عليهم بقدر أنصبائهما فللبنت ثلاثة أرباعه وللاب ربعه. ويمكن أن يستدل عليه بقوله تعالى ” وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ” زائدا على الاجماع، فدل على أن من هو أولى بالرحم وأقرب به أولى بالميراث. وقد علمنا أن قرابة الميت وذوي أرحامه أولى بميراثه من المسلمين وبيت المال، وأصحاب السهم غير الزوج والزوجة أقرب إلى الميت من عصبته، فوجب أن يكون فاضل السهام إليهم مصروفا. فان قيل: لم يقع التصريح في الاية بأن أولي الارحام بعضهم أولى ببعض في الميراث ؟ قلنا: اللفظ يحتمل الميراث وغيره، فنحمله بحكم العموم على جميع ما يحتمله، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل. واحتج المخالف لنا في الرد بقوله ” ان امرء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد “، فجعل للاخت النصف إذا مات أخوها ولا ولد له ولم يزد عليه، فدل على أنها لا تستحق أكثر من النصف بحال من الاحوال.


[ 355 ]

والجواب عن ذلك: أن النصف انما وجب لها بالتسمية لانها أخت، والزيادة انما تأخذها لمعنى آخر وهو الرد بالرحم. وليس يمتنع أن ينضاف سبب إلى آخر، مثال ذلك: الزوج إذا كان ابن عم ولا وارث معه، فانه يرث بالزوجية النصف والنصف الاخر عندنا لاجل القرابة وعند مخالفينا لاجل العصبة. ولم يجب إذا كان الله تعالى قد سمى النصف له مع فقد الولد أن لا يزاد على ذلك لانا قد بينا أن النصف قد يستحق بسبب آخر وهو الرد، فاختلف السببان. (باب) (بيان ان فرض البنتين الثلثان ان سأل سائل عن قوله تعالى ” فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ” (1 فقال: من أين تقولون ان فرض البنتين هو الثلثان، وقوله فوق اثنتين ” يتضمن بأن الثلثين سهم من زاد على البنتين دون البنتين. الجواب: ان الله تعالى لما علمنا الفرائض وقال ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ” (2 نبه بذلك أولا على أن لكل ذكر حظ كل انثيين لان اللام التى في كلتا الكلمتين للجنس تفيد ما ذكرنا، فلما بين لنا ذلك علمنا ان للابن سهم البنتين بهذا التصريح، وعلمنا أيضا ان للبنتين الثلثين بهذا البلوغ. وانما قلنا ذلك لانه إذا اجتمع ابن وبنت وكان للابن الثلثان وللبنت الثلث ههنا علم من ذلك أن للبنتين الثلثين فكفى هذا النص في بيان فريضة البنتين ولم يحتج لاجل ذلك إلى غيره.


1) سورة النساء: 12. 2) سورة النساء: 11. *

[ 356 ]

وليس لاحد أن يقول: انما يتمشى لكم ذلك لو كان الثلثان في كل موضع نصيب الابن مع وجود البنتين والثلاث فصاعدا أيضا كما كان مع بنت واحدة وذلك لان أول العدد على ظاهر القرآن ذكر وأنثى وللذكر الثلثان، فلا اعتبار بما سواه من الاحوال، لان الدرجة الاولى هي التي يبنى عليها وللفظ يقتضي ذلك. ويمكن أن يستدل على ذلك بوجه آخر، وهو أن يقال: ان الله تعالى بين نصيب الولد الذكر سهمين، وذكر الانثيين وبين فرضهما من فحواه، وبين فرض من فوق اثنتين من البنات بعده، فدلت الاية على سهم البنتين كما ذكرناه من فحواها ودلت على حظ من زاد عليهما من الثلاث والاربع فصاعدا من حيث ظاهر اللفظ والتصريح ليكون في باب الفصاحة أبلغ ومن التكرار أبعد. وأما قوله ” وان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ” فقد علمنا به أن الثلثين فرض يسمى لمن زاد على البنتين أيضا، كما أن هذه التسمية تتصور مع فقد جنس البنتين من الثلثين فرض لهما بالنص الاول الا أن هذه التسمية انما تتصور مع فقد جنس البنتين من الصلب. وكذا قوله ” وان كانت واحدة لها النصف ” لانه ليس للبنت الواحدة ولا للاثنتين فصاعدا مع وجود ابن فما زاد فرض مسمى، بل يكون الميراث بينهما للذكر مثل حظ الانثيين. ومثاله قوله تعالى ” ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد فان كانت اثنتين فلهما الثلثان مما ترك “، فسمى سبحانه للاخت الواحدة من الاب والام أو من الاب النصف وللاختين منه الثلثين. وانما يصح ذلك شريطة فقد أحد من الاخوة فصاعدا، ألا ترى إلى قوله تعالى بعده ” وان كانوا أخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الانثيين ” قد أسقط


[ 357 ]

فيه الاعتبار الاول وأثبت للذكر مثل حظ الانثيين فيه إذا كانوا رجالا ونساءا. واستدل بعض الفقهاء على أن للبنتين الثلثين من هذه الاية، وحمل ذاك على هذا. وليس ذلك بشئ. وما أوردت أنا آية الكلالة في هذا الموضع للدلالة وانما هي على طريق المثال، والتمثيل جائز وليس بقياس. يدل عليه ما روى عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يرمي الصيد وهو يؤم الحرم فتصيبه الرمية فيتحامل بها حتى يدخل الحرم فيموت. قال عليه السلام: ليس عليه شئ، انما هو بمنزلة رجل نصب شبكة في الحل فوقع فيها صيد فاضطرب حتى دخل الحرم فمات فيه. قلت: هذا عندهم من القياس. قال: لا، انما شبهت لك شيئا بشئ (1. وليس لاحد أن يقول: ألزمت نفسك في ايراد هذا الجواب بهذا التطويل شيئا ليس يلزمك، وقد أمكنك رد السائل بأن لو دفعته بابطال دليل الخطاب، وذلك لان هذه الاية مظنة للنصوص على المواريث مفصلة في أصولها غير مجملة ليست آية من القرآن بهذا التفصيل في المعنى. ولو أجبت السائل بذلك لكان دفعا بالراح ولم يكن مغنيا، بل يلزمنى مع ذلك ايراد النص على ذلك من الاية أو من موضع آخر من الكتاب أو السنة والاشتغال بالاحسن أولى. مع أن دليل الخطاب – وان كان المرتضى يمنع منه – وهو قوي وكلامه لا غبار عليه، فان الشيخ المفيد كان يقول به وينصره والشيخ أبو جعفر الطوسى كان متوقفا فيه. فان قيل: ان ما استدللتم به ضرب من القياس وأنتم لا تقولون به. قلنا: هذا كلام من لا يعرف دلالة النص ولا حكم القياس، وذلك لانه لا


1) وسائل الشيعة 9 / 225. *

[ 358 ]

خلاف بين الفقهاء المحصلين أن الخطاب الذي يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد به على أربعة أقسام: أولها: ما وضع في أصل اللغة لما أريد به وكان صريحا فيه، سواء كان خاصا أو عاما، فمتى خاطب الحكيم به يعلم المراد بظاهره. وثانيها: ما يفهم به المراد بفحواه لا بصريحه، وليست دلالة هذا الضرب في القوة يقصر عن الضرب الاول. وفي الوجهين ربما يحتاج إلى قرينة. وثالثها: تعليق الحكم بصفة الشئ، فانه يدل على أن ما عداه بخلافه على ما يدل وان كان فيه خلاف على ما اشرنا إليه. ورابعها: ما يدل فائدته عليه لا صريحه ولا فحواه ولا دليله. على أن الروايات عن أئمة الهدى عليهم السلام الذين كان فيهم التنزيل ومن عندهم التفسير والتأويل متظافرة في أن الثلثين فرض البنتين، وكلامهم كله من رسول الله صلى الله عليه وآله، وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى. فعلمنا ذلك منهم عليهم السلام، وأجمعت الطائفة المحقة على صحتها. فإذا أصفنا كتاب الله إليه فتلك دلالة تنضاف إلى دلالة، والا ففى اجماع الامامية كفاية. (فصل) ومن شجون الحديث أن أبا هاشم الجعفري ذكر أن الفهفكي سأل أبا محمد العسكري عليه السلام فقال: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرجل القوي سهمين. فقال أبو محمد عليه السلام: لان المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة، انما ذلك على الرجال. فقلت في نفسي قد كان قيل لي


[ 359 ]

ان ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله عليه السلام عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب. فأقبل عليه السلام علي وقال: نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منا واحد إذا كان معنى المسألة واحدا (1. وعن أبي عبد الله عليه السلام وقد سأله عبد الله بن سنان: لم صار للذكر مثل حظ الانثيين ؟ فقال: لما جعل لها من الصداق (2. وقال الرضا عليه السلام: اعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث لان المرأة إذا تزوجت اخذت والرجل يعطى فلذلك وفر على الرجال، ولان الانثى في عيال الذكر ان احتاجت وعليه ان يعولها وعلى نفقتها، وليس على المرأة ان تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته ان احتاج، فوفر على الرجل لذلك وذلك قوله ” الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم ” (3. (باب) (ان القاتل خطأ يرث المقتول من التركة لا من الدية) يدل عليه ظواهر آيات المواريث كلها، مثل قوله تعالى ” يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ” (4. فإذا عورضنا بقاتل العمد فهو يخرج بدليل قاطع لم يثبت مثله في قاتل الخطأ. ويمكن ان يقوى ذلك ايضا بأن الخاطئ معذور، فلا يجب ان يحرم


1) كشف الغمة 3 / 299. 2) وسائل الشيعة 17 / 438. 3) عيون اخبار الرضا 2 / 96، والاية في سورة النساء: 34. 4) سورة النساء: 11. *

[ 360 ]

الميراث الذي يحرمه القاتل ظلما على سبيل العقوبة. فان احتج المخالف بقوله ” ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ” (1 فان كان القاتل خطأ وارثا لما وجب عليه تسليم الدية. فالجواب عن ذلك: ان وجوب تسليم الدية على القاتل إلى أهله لا يدل على أنه لا يرث ما دون هذه الدية من تركته، لانه لا تنافي بين الميراث وبين تسليم الدية. واكثر ما في ذلك أن لا يرث من الدية التى يجب عليه تسليمها شيئا، والى هذا نذهب. (باب) (ان المسلم يرث الكافر) جميع ظواهر آيات المواريث دالة على أن المسلم يرث الكافر، لان قوله ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ” يعم المسلم والكافر. وكذلك آية ميراث الازواج والزوجات والكلالتين. وظواهر هذه الايات كلها تقتضي أن الكافر كالمسلم في الميراث، فلما أجمعت الامة على أن الكافر لا يرث المسلم، أخرجناه بهذا الدليل الموجب للعلم. ونفي ميراث المسلم من الكافر تحت الظاهر كميراث المسلم من المسلم، ولا يجوز أن يرجع عن هذا الظاهر بأخبار الاحاد التي يروونها، لانها توجب الظن ولا يخص بها ولا يرجع عما يوجب العلم من ظواهر الكتاب. وربما عول بعض المخالفين لنا في هذه المسائل على أن المواريث بنيت على النصرة والولاء، بدلالة قوله تعالى ” والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا ” (2 فقطع بذلك الميراث بين المسلم المهاجر وبين المسلم الذي


1) سورة النساء: 92. 2) سورة الانفال: 73. *

[ 361 ]

لم يهاجر، إلى أن نسخ ذلك بانقطاع الهجرة بعد الفتح، فلذلك يرث الذكور من العصبة دون الاناث لنفي العقد والنصرة عن النساء، ولذلك لا يرث القاتل عمدا ظلما والا العبد النفي النصرة. وهذا ضعيف جدا، لانا أولا لا نسلم أن المواريث بنيت على النصرة والمعونة، لان النساء يرثن وكذا الاطفال ولا نصرة ههنا، وعلة ثبوت المواريث غير معلومة على التفصيل وان كنا نعلم على سبيل الجملة أنها للمصلحة. وبعد، فان النصرة مبذولة من المسلم للكافر في الواجب على الحق، كما أنها مبذولة للمسلم بهذه الشروط. (باب) (ان ولد الولد ولد وان نزل) الدليل على ذلك – بعد الاجماع – قوله تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ” وهذا يدخل فيه الولد للصلب وولد الولد. ولا خلاف أن مع أولاد الابن للوالدين السدسين. ولا اعتبار بخلاف بعض أصحاب الحديث من أصحابنا، لان الاجماع عندنا انما كان حجة لكون المعصوم فيه، ومن خالف فيه معلوم أنه ليس بمعصوم فلا يعتد بخلافه. ولا ينعكس ذلك علينا، لانا لا نعلم أن كل من قال بما قلناه ليس بمعصوم، لتجويز أن يكون بعض علماء الامة الذي لا يعرف نسبه ولا ولادته اماما. فان قيل لا نسلم ان ولد الولد ولد حقيقة. قلنا: هذا خلاف القرآن، لان الله تعالى قال ” وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ” (1 ولا خلاف ان امرأة ولد الولد يحرم نكاحها ووطؤها، سواء كان


1) سورة النساء: 23. *

[ 362 ]

ولد ابن أو ولد بنت وان نزلوا ببطون كثيرة. لا خلاف بين الامة في ذلك، وانما شرط في الاية بقوله ” الذين من أصلابكم ” لئلا يتوم أن ولد الدعي الذي تبناه به يحرم عليه نكاح زوجته إذا فارقها، فان هذا الحكم يختص الولد للصلب وان نزلوا. وقال تعالى ” ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ” (1 ولا خلاف أن من عقد عليه انسان فان الجد لا يجوز العقد عليها وان علا وإذا كان الجد أبا في هذا الموضع فولد الولد يكون ولدا، قال تعالى ” ملة أبيكم ابراهيم ” (2. وقال تعالى ” ندع أبنائنا وأبنائكم ” (3 ولا خلاف أنه عنى بذلك الحسن والحسين عليهما السلام، لانه لم يحضر المباهلة غيرهما من الابناء. وأيضا فلو أن انسانا وصى بثلث ماله لولد رسول الله صلى الله عليه وآله ولولد علي عليه السلام كان يجب أن لا تصح الوصية، لان أولادهما للصلب ليسوا بموجودين، وولد الولد على هذا المذهب ليس بولد. وكذا لو وقف وقفا عليهم كان يجب أن لا يصح الوقف لمثل ما قلناه. وكل ذلك باطل بالاتفاق. فان قيل: لو كان ولد الولد ولدا على الحقيقة لوجب أن يكون المال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين إذا كان ابن بنت وبنت ابن، والمذهب بخلافه. قلنا: في أصحابنا من ذهب إلى ذلك، وكان المرتضى ينصره. ونحن إذا قلنا بخلافه نقول: لو خلينا والظاهر لقلنا بذلك، ولكن أجمعت الامة على خلافه، فان مخالفينا لا يورثون ولد البنت مع ولد الابن شيئا أصلا. وأصحابنا يقولون: ان كل واحد يأخذ نصيب من يتقرب به، لقوله عليه السلام: ولد


1) سورة النساء: 22. 2) سورة الحج: 78. 3) سورة آل عمران: 61. *

[ 363 ]

الولد يقوم مقام الولد إذا لم يكن ولد. فولد الابن يقوم مقام الابن ذكرا كان أو أنثى، وولد البنت يقوم مقام البنت يأخذ نصيبها ذكرا كان أو أنثى. وإذا أقمناهم مقام آبائهم وأمهاتهم فكان هم أولاد للصلب للذكر مثل حظ الانثيين. على أنه لو كان ميراث ولد الولد بالرحم والقرابة لادى إلى أنه إذا ترك بدرجتين عن ولد الصلب أن يكون المال للاخ دونه، وإذا نزل ثلاث درج أن يكون المال للعم، دونه إذا نزل بأربع درج أن يكون الميراث لابن العم دونه وان يكون ولد الولد يقاسم الاخ. وكل ذلك فاسد، فكان يؤدي إلى أن يكون ولد الاخ لا يقاسم الجد وولد ولد الاخ مع العم يكون المال للعم. وذلك باطل. (باب الزيادات) أما قوله تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم ” فمعناه يعهد اليكم ويأمركم في شأن ميراث أولادكم بما هو العدل والمصلحة، وهذا اجمال تفصيله ” للذكر مثل حظ الانثيين ” (1. فان قيل: هلا قيل للانثيين مثل حظ الذكر. قلنا: بدأ ببيان حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ولانهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث، وهو السبب لورود الاية. فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الاناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع ادلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. وتقديره للذكر منهم، فحذف الراجع إليه لانه مفهوم كقولهم: السمن منوان بدرهم.


1) سورة النساء: 11. *

[ 364 ]

مسألة: أول من يتقرب إلى الميت بنفسه الولد والوالدان، قال تعالى ” يوصيكم الله في أولادكم ” ثم قال ” ولابويه ” إلى قوله ” عليما حكيما “، فقدم الولد والوالدين على جميع ذوي الارحام لقربهم من الميت، وأخر من سواهم من الاهل عن رتبتهم في القربى، وجعل لكل واحد منهم نصيبا سماه له وبينه لنزول الشبهة عمن عرفه في استحقاقه. مسألة: وقوله ” ولابويه ” الضمير للميت، وما بعده بدله بتكرير العامل والابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيد وتشديد. فان قيل: كيف يصح أن يتناول الاخوة الاخوين، والجمع خلاف التثنية. قلنا: الاخوة يفيد الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في افادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالاخوة عليه. مسألة: وقوله ” وان كان رجل يورث كلالة ” الكلالة في الاصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الاعياء، واستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لانها بالاضافة إلى قرابتهما كالة ضعيفة. والكلالة يطلق على من لم يخلف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. فإذا جعلت صفة للوارث أو الموروث منه فبمعنى ذي كلالة، كما تقول فلان من قرابتي تريد


[ 365 ]

من ذي قرابتي. ويجوز أن يكون صفة كالفقهاقة للاحمق. فان جعلتها اسما للقرابة في الاية فانتصابها على أنه مفعول له، أي يورث لاجل الكلالة أو يورث غيره لاجلها، فان جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فالرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. وكلالة حلا أو مفعول به إذا قرئ يورث على البناء للفاعل بالتخفيف والتشديد.


[ 366 ]

كتاب الحدود الحد في أصل اللغة المنع. وحد العاصي سمي به لانه شئ يمنعه عن المعاودة. والحدود في الشريعة معروفة موضوعة للعصاة لا يجوز أن يتجاوز عنها، وقد أمر الله بها في أشياء مخصوصة، ونحن نذكر جميع وجوهها وجميع أحكامها بابا بابا انشاء الله تعالى. وقال أبو عبد الله عليه السلام: ان في كتاب علي عليه السلام: انه كان يضرب بالسوط وبنصف السوط وببعض السوط – يعنى الحدود – إذا أتي بغلام أو جارية لم يدركا لم يكن يبطل حدا من حدود الله. قيل له: كيف كان يضرب ببعضه ؟ قال: كان يأخذ السوط بيده من وسطه فيضرب به أو من ثلثه فيضرب به على قدر أسنانهم، كذلك يضربهم بالسوط ولا يبطل حدا من حدود الله (1. وقال: قال على عليه السلام: ان الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة


1) الكافي 7 / 176 مع اختلاف في بعض الالفاظ. *

[ 367 ]

من الله لكم فاقبلوها (1. [ والمريض إذا وجب على حد دون هلاكه يؤخذ دقاق فيضرب عليه لمرة أو مرتين، قال الله تعالى ” وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ” ] (2. (فصل) قال الله تعالى ” واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ” (3. شرع الله تعالى في بدو الاسلام إذا زنت الثيب أن تحبس حتى تموت، والبكر أن تؤذى وتوبخ حتى تتوب، ثم نسخ هذا الحكم فأوجب على الثيب الرحم وعلى البكر جلد مائة. وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله قال: خذوا عني ” قد جعل الله لهن سبيلا ” (4 البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (5. وقيل: المراد بالاية الاولى الثيب وبالثانية البكر، بدلالة أنه أضاف النساء الينا في الاولى فقال ” واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم “، فكانت اضافة زوجية، لانه لو أراد غير الزوجات لقال من النساء، ولا فائدة للزوجية ههنا الا أنها تيب. وقال أكثر المفسرين: أن هذه الاية منسوخة، لانه كان الفرض الاول ان


1) من لا يحضره الفقيه 4 / 75. 2) الزيادة من م، والاية في سورة ص: 44. 3) سورة النساء: 15. 4) الاية في سورة النساء: 15 ” أو يجعل الله لهن سبيلا “. 5) مسند احمد بن حنبل 5 / 313. *

[ 368 ]

المرأة إذا زنت وقامت عليها البينة بذلك أربعة شهود أن تحبس في البيت أبدا حتى تموت ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في البكرين. (فصل) وقوله ” أو يجعل الله لهن سبيلا ” قال ابن عباس: معنى السبيل أنه الجلد للبكر مائة وللثيب المحصن الرجم. وقوله ” يأتين الفاحشة ” أي بالفاحشة، فحذف الباء كما يقولون أتيت أمرا عظيما أي بأمر عظيم. وقال أبو مسلم ” واللاتي يأتين الفاحشة ” هي المرأة تخلو بالمرأة في الفاحشة المذكورة عنهن ” أو يجعل الله لهن سبيلا ” بالتزويج والاستغناء بالنكاح. وهذا خلاف ما عليه المفسرون، لانهم متفقون على أن الفاحشة المذكورة في الاية هي الزنا، وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام (1. ولما نزل قوله ” الزانية والزاني ” قال النبي صلى الله عليه وآله: قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد ثم الرجم (2. قال الحسن وقتادة: إذا جلد البكر فانه ينفى سنة، وهو مذهبنا. وقال الجبائى: النفي يجوز من طريق اجتهاد الامام، وأما من وجب عليه الجلد والرجم فانه يجلد أولا ثم يرجم. وأكثر الفقهاء على أنهما لا يجتمعان في الشيخ الزاني المحصن أيضا. وثبوت الرجم معلوم من جهة التواتر لا يختلج فيه شك (3، ولا اعتداد بخلاف الخوراج فيه.


1) انظر تفسير البرهان 1 / 353. 2) مستدرك الوسائل 3 / 226. 3) لانه عليه السلام رجم ماعز بن مالك الاسلمي حين أقر بالزنا اربع مرات عند النبي عليه السلام وقال: يا رسول الله قد زنيت فطهرني ” ه‍ “. *

[ 369 ]

وأما قوله ” وللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ” (1 المعني بقوله ” اللذان ” فيه ثلاثة أقوال أقواها ما قال الحسن وعطا أنهما الرجل والمرأة وقال السدي وابن زيد هما البكران من الرجال والنساء، وقال مجاهد هما الرجلان الزانيان. قال الرماني: قول مجاهد لا يصح، لانه لو كان كذلك لكان للتثنية معنى، لانه انما يجئ الوعد والوعيد بلفظ الجمع، لانه لكل واحد منهم أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الذي يعمهم جميعهم، وأما التثنية فلا فائدة فيها. والاول أظهر. وقال أبو مسلم: هما الرجلان يخلوان في الفاحشة بينهما. والذي عليه جمهور المفسرين أن الفاحشة هي الزنا ههنا، وان الحكم المذكور في هذه الاية منسوخ بالحد المفروض في سورة النور. وبعضهم قال: نسخها الحدود بالرجم أو الجلد. وقوله تعالى ” فآذوهما ” قيل في معناه قولان: أحدهما قول ابن عباس وهو التعيير باللسان والضرب بالنعال، وقال مجاهد هو التوبيخ. فان قيل: كيف ذكر الاذى بعد الحبس ؟ قلنا فيه ثلاثة أوجه: أحدها قول الحسن: ان هذه الاية نزلت أولا، ثم أمر بأن يوضع في التلاوة بعد مكان الاذى أولا ثم الحبس، ثم بعد ذلك نسخ الحبس بالجلد أو الرجم. الثاني: قال السدي انه في البكرين خاصة دون الثيبين والاولى في الثيبين دون البكرين. الثالث قول الفراء: ان هذه الاية نسخت الاولى.


1) سورة النساء: 16. *

[ 370 ]

وقال الجبائي: في الاية دلالة على نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها، لانها نسخت بالرجم أو الجلد والرجم ثبت بالسنة. ومن خالف في ذلك يقول: هذه الاية نسخت بالجلد في الزنا وأضيف إليه الرجم زيادة لا نسخا، ولم يثبت نسخ القرآن بالسنة. وأما الاذى المذكور في الاية فليس بمنسوخ، فان الزاني يؤذى ويوبخ على فعله ويذم، وانما لا يقتصر عليه فزيد في الاذى اقامة الحد عليه، وانما نسخ الاقتصار عليه. وروي ان امرأة أتت عمر فقالت: انى فجرت فأقم علي حدالله فأمر برجمها وكان على عليه السلام حاضرا فقال له: سلها كيف فجرت. قالت: كنت في فلاة من الارض أصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا. فسألته الماء فأبى على أن يسقينى الا أن امكنه من نفسي، فوليت منه هاربة فاشتد في العطش حتى غارت عيناى [ وذهب لساني ]، فلما بلغ منى [ العطش ] أتيته فسقاني ووقع علي. فقال علي عليه السلام: هذه التى قال الله تعالى ” فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ” (1 هذه غير باغية ولا عادية، فخلا سبيلها (2. (فصل) أما قوله ” الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ” (3 الاية، فان حكم الزنا لا يثبت الا بشيئين: أحدهما: باقرار الفاعل بذلك على نفسه مع كمال عقله من غير اجبار


1) سورة البقرة: 173. 2) من لا يحضره الفقيه 4 / 35 والزيادتان منه. 3) سورة النور: 2. *

[ 371 ]

أربع مرات في أربع مجالس. فلو أقر بالوطي في الفرج أربعا حكم له بالزنا، وان أقر أقل من ذلك كان عليه التعزير. والثاني: قيام البينة بالزنا وهو أن يشهد أربعة عدول على مكلف بأنه وطئ امرأة ليس بينها وبينه عقد ولا شبهة عقد وشاهدوا وطئها في الفرج، فإذا شهدوا كذلك قبلت شهادتهم وحكم عليه بالزنا ووجب عليه ما يجب على فاعليه من أي قسم كان على ما ذكرناه. أمر الله في هذه الاية أن يجلد الزاني والزانية إذا لم يكونا محصنين كل واحد منهما مائة جلدة، وإذا كانات محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرجم بلا خلاف. وعندنا أنه يجلد أو لا مائة جلدة ثم يرجم، وفي أصحابنا من خص ذلك بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين كما ذكرناه، فأما إذا كانا شابين محصنين لم يكن عليهما غير الرجم، وهو قول مسروق. والاحصان الذي يوجب الرجم هو أن يكون له زوج يغدو إليها ويروح على وجه الدوام وكان حرا، فأما العبد فلا يكون محصنا وكذا الامة لا تكون محصنة، وانما عليهما نصف الحد خمسون جلدة. والحرمتى كان عنده زوجة سواء كانت حرة أو أمة – يتمكن من طئها مخلى بينه وبينها أو كانت هذه أمة يطأها بملك اليمين، فانه متى زنى وجب عليه الرجم. ومن كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو كان محبوسا أو هي محبوسة هذه المدة فلا احصان، ومن كان محصنا على ما قدمناه وقد ماتت زوجته أو طلقها بطل احصانه. (فصل) وقد استدل بعض المفسرين على الرجم حيث يجب الرجم وعلى القتل


[ 372 ]

حيث يجب القتل في الزنا من الكتاب، فان الله تعالى وضع قوله ” ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة ” (1 في الانعام وبني اسرائيل بين قوله ” ولا تقتلوا أولادكم ” (2 وقوله ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ” (3 اشارة إلى ذلك، لان الحق الذي يستباح به قتل النفس في الشريعة الكفر بعد الايمان وقود النفس الحرام والزنا بعد الاحصان. وما ذكر من أنه يجمع على الزاني المحصن الجلد والرجم يبدأ بالجلد ويثنى بالرجم، ودليلنا عليه اجماع الطائفة المحقة، فانه لا خلاف في استحقاق المحصن الرجم وانما الخلاف في استحقاقه الجلد. والذي يدل على استحقاقه اياه قوله تعالى ” الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة ” والمحصن يدخل تحت هذا الاسم فيجب أن يكون مستحقا للجلد، فكأنه تعالى قال اجلدوهما لاجل زناهما، وإذا كان الزنا علة لاستحقاق الحد وجب في المحصن كما وجب في غيره. واستحقاقه الرجم غير مناف لاستحقاقه الجلد، لان استحقاق الحدين لا يتنافى واجتماع الاستحقاقين لا يتناقض. ولا تحمل هذه الاية على الانكار، لانه تخصيص بغير دليل. والخطاب بهذه الاية وان كان متوجها إلى الجماعة فالمراد به الامة بلا خلاف، لان اقامة الحد ليس لاحد الا للامام أو لمن نصبه الامام. فإذا كان الذي من وجب عليه الرجم قد قامت عليه بينة كان أول من يرجمه الشهود ثم الامام ثم الناس، [ وان كان قد وجب عليه باقراره على نفسه كان أول من يرجمه الامام ثم الناس ]. (4.


1) سورة الاسراء: 32. 2 – 3) سورة الانعام: 151. 4) الزيادة من م. *

[ 373 ]

وليس كل وطي حرام زنا، لانا قد يطأ في الحيض والنفاس وهو حرام ولا يكون زنا، وكذا لو وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها لم يكن ذلك زنا، لانه شبهة. على أنه روي: إذا وطئها من غير تحرز يقام عليه الحد سرا وعليها جهرا. ويمكن الجمع بين الروايتين. (فصل) قوله ” ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ” (1 معناه لا تمنعكم الرحمة من اقامة الحد. وقال الحسن: لا يمنعكم ذلك من الجلد الشديد، أي ان كنتم تصدقون بما وعد الله وتوعد عليه وتقرون بالبعث والنشور ولا يأخذكم فيما ذكرناه الرأفة ولا يمنعكم من اقامة الحد على ما ذكرناه، فمن وجب عليه الجلد فاجلدوه مائة جلدة كأشد ما يكون من الجلد. ويفرق الضرب على بدنه ويبقى الوجه والرأس والفرج. والرجم يكون بأحجار صغار ويكون الرجم من وراء المرجوم لئلا يصيب وجهه من ذلك شئ. وينبغى أن يشعر الناس بالحضور ثم يجلد بمحضر منهم لينزجروا عن مواقعة مثله، قال تعالى ” وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين “. قال عكرمة الطائفة رجلان فصاعدا، وقال قتادة والازهري هم ثلاثة فصاعدا، وقال ابن زيد أقله أربعة، وقال الجبائي: من زعم أن الطائفة أقل من ثلاثة فقد غلط من جهة اللغة. وقال: ليس لاحد أن يقيم الحد الا الائمة وولاتهم، ومن خالف فيه فقد غلط، كما أنه ليس للشاهد أن يقيم الحد. وقد دخل المحصن في حكم الاية بلا خلاف. وكان سيبويه يذهب إلى أن


1) سورة النور: 2. *

[ 374 ]

التأويل فيما فرض عليكم الزانية والزانى، ولولا ذلك لنصب بالامر. وقال المبرد: إذا رفعته ففيه معنى الجزاء ولذلك دخل الفاء في الخبر، والتقدير التي تزني والذى يزني، ومعناه من زنى فاجلدوا، فيكون على ذلك عاما في الجنس. ثم قال ” الزانى لا ينكح الا زانية أو مشركة ” إلى قوله ” وحرم ذلك على المؤمنين ” (1 قيل المراد بقوله ” ينكح ” يجامع، والمعنى أن الزاني لا يزنى الا بزانية والزانية لا يزنى بها الا زان، وجملة ما في هذه الاية تحريم الزنا. وقال الحسن: رجم النبي صلى الله عليه وآله الثيب، وأراد عمر أن يكتبه في آخر المصحف ثم تركه لئلا يتوهم أنه من القرآن (2. وقال قوم: انه من القرآن، وان ذلك منسوخ التلاوة دون الحكم. وعن علي عليه السلام: ان المحصن يجلد مائة جلدة بالقرآن ثم يرجم بالسنة وانه أمر بذلك (3. (فصل) ومما يكشف عن ذلك قوله تعالى ” يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ” إلى قوله ” يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا ” (4. قال ابن عباس: أي أرسلوا بهم، في قصة زان محصن فقالوا لهم ان أفتاكم محمد بالجلد فخذوه وان أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه، لانهم كانوا قد صرفوا حكم


1) سورة النور: 3. 2) الدر المنثور 5 / 19. 3) مستدرك الوسائل 3 / 222. 4) سورة المائدة: 41. *

[ 375 ]

الحد الذي في التوراة إلى جلد أربعين وتسويد الوجه والاشهار على حمار. وقال أبو جعفر عليه السلام: ان امرأة من خيبر في شرف منهم زينت وهي محصنة فكرهوا رجمها، فأرسلوا إلى يهود المدينة يسألون محمدا طمعا أن يكون أتى برخصة، فسألوا فقال: هل ترضون بقضائي ؟ فقالوا: نعم. فأنزل الله عليهم الرجم، فأبوه فقال جبريل: سلهم عن ابن صوريا ثم اجعله بينك وبينهم. فقال عليه السلام: تعرفون ابن صوريا ؟ قالوا: نعم هو أعلم يهودي، فأرسل إليه فأتى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنشدك الله هل تجدون في كتابكم الذي جاء به موسى الرجم على من أحصن ؟ قال عبد الله بن صوريا: نعم، والذي ذكرتني لولا مخافتي من رب التوراة أن يهلكني ان كتمت ما اعترفت لك به، فأنزل الله فيه ” يا أهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ” (1. فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير الذي أمر أن يعفو عنه، فأعرض عليه السلام عن ذلك (2. قال أهل التفسير ” سماعون للكذب ” قابلون له، كما يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه. وقيل قال المنافقون لليهود: ان أمركم محمد بالجلد فخذوه واجلدوا وان أمركم بالرجم فلا تقبلوا وسلوه عن ذلك لقوله ” لا يحزنك الذين يسارعون ” (3 الاية، نهى الله نبيه عليه السلام أن يحزنه الذين يتبادرون في الكفر من المنافقين ومن اليهود. ورفع قوله ” سماعون ” فيه قولان: قال سيبويه هو ابتداء والخبر ” من الذين


1) سورة المائدة: 15. 2) نور الثقلين 1 / 629. 3) سورة آل عمران: 176. *

[ 376 ]

هادوا “. الثاني قال الزجاج هو رفع على أنه خبر مبتدأ، وتقديره المنافقون هم اليهود سماعون للكذب. وفي معناه قولان: أحدهما سماعون كلامك للكذب عليك سماعون كلامك لقوم الاخرين لم يأتوك ليكذبوا عليك إذا رجعوا إليهم أي هم عيون عليك. وقيل انهم كانوا رسل أهل خيبر وأهل خيبر لم يحضروا فلهذا جالسوك. (باب) (غير المسلم يفجر بالمسلم) روى جعفر بن رزق الله: ان المتوكل بعث إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليهما السلام من سأله عن نصراني فجر بامرأة مسلمة فلما أخذ ليقام عليه الحد أسلم. فأجاب عليه السلام: ان الحكم عليه أن يضرب حتى يموت لان الله عزوجل يقول ” فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده ” (1. (باب) (الحد في اللواط والسحق) قال الله تعالى ” واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم “. قال محمد بن بحر: هذه الاية في الساحقات، وقوله ” واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ” في أهل اللواط. وأجمع السلف والخلف ما عداه على أن الايتين في الزناة والزواني، وان هذين الحكمين كانا في أول الاسلام ثم نسخا بحكم الجلد والرجم. ثم اعلم أن اللوطي إذا أوقب في الدبر يجب فيه القتل من غير مراعاة


1) من لا يحضره الفقيه 4 / 37 والاية في سورة غافر: 84. *

[ 377 ]

للاحصان فيه، والذي يقوي ذلك أن الحدود انما وضعت في الشريعة للزجر عن فعل الفواحش والجنايات، وكلما كان الفعل أفحش كان الزجر أقوى. ولا خلاف في أن اللواط أفحش من الزنا، والكتاب ينطق بذلك، فيجب أن يكون الزجر أقوى، وليس هذا بقياس ولكنه ضرب من الاستدلال. وربما قيل: ان اللواط أفحش من الزنا لانه اصابة لفرج لا يستباح اصابته وليس كذلك الزنا. على أنه ليس يلزمنا تعليل الاحكام الشرعية، فمتى نص الله على حكم في كتابه أو على لسان نبيه عليه السلام فنحن نتلقاه بالقبول. وعن محمد بن أبي حمزة وهشام وحفص عن أبى عبد الله عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق، فقال: حدها حد الزانى. فقالت المرأة: ما ذكر الله ذلك في القرآن. فقال: بلى. فقالت: وأين ؟ فقال: هن أصحاب الرس (1. فإذا ساحقت المرأة أخرى وجب على كل واحدة منهما مائة جلدة حدا، وان كانتا محصنتين كان على كل واحدة منهما الرجم. ويثبت الحكم فيه بقيام البينة، وهي شهادة أربعة عدول أو اقرار المرأة على نفسها أربع مرات دفعة بعد أخرى من غير اكراه مع كمال عقلها. وأما اللواط – وهو الفجور بالذكران – فيثبت فيه الحد باقرار المرء على نفسه فاعلا كان أو مفعولا أربع مرات على ما ذكرناه، أو قيام البينة يشهدون على الفاعل والمفعول به في الفعل ويدعون المشاهدة كالميل في المكحلة كما هو في الزنا. ومن ثبت عليه حكم اللواط بفعله الايقاب كان حده أحد خمسة أشياء: اما برمى من مكان عال، أو يرمى عليه جدار، أو يضرب رقبته، أو يرجم، أو


1) وسائل الشيعة 18 / 425. *

[ 378 ]

يحرق بالنار. وان أقيم عليه الحد بأحد الاربعة ثم يحرق جاز ذلك تغليظا وتشديدا للعقوبة وتعظيما لها. والجامع بين الفاجرين يجب عليه ثلاثة أرباع حد الزاني. (باب) (الحد في شرب الخمر) من شرب شيئا من المسكر قليلا أو كثيرا وجب عليه الحد ثمانون جلدة حد المفتري. وقد ذكرنا في باب تحريم الخمر أن قدامة بن مظعون شرب الخمر، فلما أراد عمر أن يحده قال له قدامة: لا يجب علي الحد فان الله يقول ” ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ” فدرأ عنه الحد. فقال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: أقم على قدامة الحد. فلم يدر عمر كيف يحده، فقال لامير المؤمنين: اشر علي في حده. فقال: حده ثمانين، ان شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، قال الله تعالى ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ” (1. فجلد عمر ثمانين (2. وقد كان عثمان بن عفان يرى في حد شرب الخمر أربعين جلدة، فشرب بعض أقاربه في عهده وشهد عليه شاهدا عدل، فأشار إلى أمير المؤمنين عليه السلام بضربه، فضربه بدرة لها رأسان اربعين جلدة، فكانت ثمانين (3.


1) سورة النور: 4. 2) تهذيب الاحكام 10 / 93. 3) الكافي 7 / 215، صحيح مسلم 13 / 131. *

[ 379 ]

وليس هذا الحد حملا على حد القذف، ولم يكن ما ذكره لعمر اجتهادا من علي عليه السلام، وانما أومى إلى بعض ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله في وجه ذلك. ومن شرب الخمر مستحلا لها حل دمه إذا استتيب كما هو الواجب ولم يتب، فان تاب أقيم عليه حد الشرب. وشارب المسكر يجلد عريانا على ظهره وكتفيه. وأتي برجل بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله قد شرب الخمر وأقر بذلك، فقيل: لم شربتها وهي محرمة. قال: أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونها ولم أعلم أنها حرام. فلم يدر أحد منهم ما الحكم في ذلك، فقال امير المؤمنين عليه السلام: ابعثوا من يدور به على مجالس المهاجرين والانصار فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فان لم يكن أحد تلا عليه آية التحريم فلا شئ عليه. ففعل بالرجل ما قاله فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله. فقال سلمان: يا أمير المؤمنين لقد أرشدتهم. فقال عليه السلام: انما أردت أن أجدد تأكيد هذه الاية في وفيهم ” أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ” (1. (باب) (الحد في السرقة) قال الله تعالى ” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ” (2 ظاهر الاية يقتضي وجوب القطع على كل من يكون سارقا أو سارقة، لان الالف واللام ان دخلا


1) الكافي 7 / 249 بمضمونه، والاية في سورة يونس: 35. 2) سورة المائدة: 38. *

[ 380 ]

على الاسماء المشتقة أفادا الاستغراق إذا لم يكون للعهد دون تعريف الجنس على ما ذهب إليه قوم، وقد دل على ذلك في كتب اصول الفقه. فأما من قال القطع لا يجب الا على من كان سارقا مخصوصا من مكان مخصوص مقدارا مخصوصا – وظاهر الاية لا ينبئ عن تلك الشروط – فيجب أن تكون الاية مجملة مفتقرة إلى بيان. فقوله فاسد، لان ظاهر الاية يقتضي وجوب القطع على كل من يسمى سارقا وانما يحتاج إلى معرفة الشروط ليخرج من جملتهم من لا يجب قطعه، فأما من يقطع فانما نقطعه بالظاهر، والاية مجملة فيمن لا يجب قطعه دون من يجب قطعه، فسقط ما قالوه. وقال ابن جرير: الظاهر يوجب أن يقطع من سرق كائنا من كان، الا أنه صح عن النبي عليه السلام أنه قال: القطع في ربع دينار فصاعدا (1. وقوله ” فاقطعوا أيديهما ” أمر من الله بقطع أيدي السارق والسارقة، والمعنى أيمانهما، وانما جمعت الايدي لان كل شئ من شيئين، فتثنيته بلفظ الجمع كما قال تعالى ” فقد صغت قلوبكما “. ويمكن أن يقال: ان في جمع أيديهما هنا اشارة إلى من سرق وليس له اليمنى بل كانت قطعت في القصاص أو غير ذلك وكان له اليسرى قطعت له اليسرى. ونحن انما اعتبرنا قطع الايمان لاجماع المفسرين عليه ولقراءة ابن مسعود ” والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما “. (فصل) وكيفية القطع عندنا يجب من أوصل الاصابع الاربعة، ويترك الابهام والكف وهو المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام. وقال اكثر الفقهاء انه يقطع من


1) سنن النسائي 8 / 72. *

[ 381 ]

المفصل من الكف والساعد، وقالت الخوارج يقطع من الكف. وأما الرجل فعندنا تقطع الاصابع الاربع من مشط ؟ مسقط القدم ويترك الابهام والعقب، دليلنا انما قلناه مجمع على وجوب قطعه وما قالوه ليس عليه دليل. واليد يقع على جميع اليد إلى الكتف، ولا يجب قطعه إليه بلا خلاف الا ما حكيناه عمن لا يعتد به. وقد استدل عليه قوم من أصحابنا بقوله ” فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ” (1 قالوا انما يكتبونه بالاصابع، والمعتمد ما قلناه. على أنه يمكن أن يستدل على ذلك بقوله ” وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ” (2، ومعلوم باجماع المفسرين على أن النور ما كان في اكثر من اربع أصابع موسى عليه السلام. ويستدل على وجه آخر على أنه يجب قطع يد السارق من أصول الاصابع ويبقى له الراحة والابهام، وفي السرقة الثانية يجب قطع رجله من صدر القدم ويبقى له العقب. وهو انا نقول: ان الله أمر بقطع يد السارق بظاهر الكتاب، واسم اليد يقع على هذا العضو من أوله إلى آخره ويتناول كل بعض منه، ألا ترى انهم يسمون من عالج شيئا بأصابعه انه قد فعل شيئا بيده، قال تعالى ” فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم “، وآية الطهارة تتضمن التسمية باليد إلى المرفق، فإذا وقع اسم اليد على هذه المواضع كلها وأمر الله بقطع يد السارق ولم ينضم إلى ذلك بيان مقطوع عليه في موضع القطع وجب الاقتصار على أقل ما يتناوله الاسم، لان القطع والاتلاف محظور عقلا، فإذا امر الله تعالى به ولا بيان وجب الاقتصار


1) سورة البقرة: 79. 2) سورة النمل: 12. *

[ 382 ]

على أقل ما يتناوله الاسم، وأقل ما يتناوله الاسم مما وقع الخلاف فيه هو ما ذهب إليه الامامية. فان قيل: هذا يقتضي أن يتقصر على قطع أطراف الاصابع ولا يوجب أن يقطع من أصولها. قلنا: الظاهر يقتضى ذلك، والاجماع منع منه، وقد روى الناس كلهم أن عليا عليه السلام قطع من الموضع الذي ذكرناه، ولم يعرف له مخالف في الحال ولا منازع، وكان عليه السلام يقول: اني لاكره أن تدركه التوبة فيحتج علي عند الله أني لم أدع له من كرائم بدنه ما يركع به ويسجد (1. وإذا اشترك نفسان أو جماعة في سرقة ما يبلغ النصاب من حرز قطع جميعهم، لان قوله ” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ” ظاهره يقتضى أن القطع انما وجب بالسرقة المخصوصة، وكل واحد من الجماعة يستحق هذا الاسم فيجب أن يستحق القطع. (فصل) والنصاب الذي يتعلق القطع به قيل فيه ستة أقوال: أولها: مذهبنا، وهو ربع دينار، وبه قال الشافعي والاوزاعي، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: القطع في ربع دينار (2. الثاني: ثلاثة دراهم وهو قيمة المجن، وذهب إليه مالك بن أنس. الثالث: خمسة دراهم، رووا ذلك عن على عليه السلام وعن عمرانهما قالا: لا يقطع الا في خمسة دراهم. وهو اختيار ابى علي، قال: لانه بمنزلة


1) تفسير البرهان 1 / 471. 2) سنن النسائي 8 / 72. *

[ 383 ]

من منع خمسة دراهم من الزكاة فانه فاسق. الرابع: قال الحسن يقطع في درهم، لانه ما دونه تافه. الخامس: قال أبو حنيفة خمسة دراهم، وقد روى أصحابه لانه كان قيمة المجن. السادس: قال أصحاب الظاهر يقطع في القليل والكثير. ولا يقطع الا من سرق من حرز، والحرز مختلف فلكل شئ حرز يعتبر فيه حرز مثله في العادة. وحده أصحابنا: بأنه كل موضع لم يكن لغيره الدخول إليه والتصرف فيه الا باذنه فهو حرز. قال الجبائي: الحرز أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه وله من يراعيه ويحفظه. ومن سرق من غير حرز لا يجب عليه القطع، قال الرماني لانه لا يسمى سارقا حقيقة وانما يقال ذلك مجازا، كما يقال سارق كلمة أو معنى في شعر، لانه لا يطلق على هذا الاسم سارق على كل حال. وقال داود: يقطع إذا سرق من غير حرز. فعلى هذا السارق الذى يجب عليه القطع هو الذى يسرق من حرز ربع دينار فصاعدا أو ما قيمته كذلك ويكون كامل العقل والشبهة عنه مرتفعة حرا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا. وإذا سرق نفسان فصاعدا ما قيمته ربع دينار من حرز وجب عليهما القطع، فان انفرد كل واحد منهما ببعضه لم يجب عليهما القطع لانه قد نقص عن المقدار الذي يجب فيه القطع وكان عليهما التعزير. ويمكن أن يستدل عليه من الاية. ومن ترك القياس العقلي الذى هو جائز وهو الاصول واشتغل بالقياس الشرعي الذى هو محظور وهو الفروع إذ لا دليل على ثبوته في الشرع، وان


[ 384 ]

جاز خبط خبط عشواء، فلينظروا إلى الملحد الملهد (1 أعمى البصر والبصيرة ضل عن حكمة الله بجهله فرآها مناقضة ثم نظم خبث عقيدته لصفاقة وجهه وقلة مبالاته بالدين، فقال (2: يد بخمس مائين من عسجد فديت * ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض مالنا الا السكوت له * نعوذ بالله مولانا من النار (3 وقد كان الائمة المعصومون عليهم السلام كشفوا وجه الحكمة في ذلك ورووا عن جدهم النبي الامي صلى الله عليه وآله ما هو دواء العليل وشفاء الغليل، ونظم السيد الامام الكبير ابو الرضا الراوندي قدس الله سره مجيبا لذلك المعري: الله قومها تقويم خمس مئى * زجرا لقاطعها دفعا لا ضرار وقد رأى قطعها في الربع مصلحة * في حفظ مال الورى يا أيها الزارى (4 وقد هذى المعرى أيضا فقال: هذا النبي الذي جبريل جادله * بالوحي والله أولى خلقه المنحا ولى سيوف الاعادي هاج شيعته * وكان يكره في أسنانها فلحا فأجبته وقلت: يا من تحمل خسرانا وما ربحا * هذا النبي لقد أسدى وقد نصحا لنصرة الدين سام العز وأمته * وللطهارة فيهم أنكر الفلحا (فصل) أما قوله تعالى ” فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه ” (5 فانه


1) أي المزرى بالشريعة، قال ابو زيد: ألهدت به أزريت به ” ج “. 2) يريد به ابا العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان المعرى المتوفى سنة 449. 3) انباه الرواة 1 / 75 وروايته ” بخمس مئ ” و ” وان نعوذ بمولانا “. 4) لم يذكر في ديوان الراوندي. 5) سورة المائدة: 39. *

[ 385 ]

سبحانه أخبر أن من تاب وندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة وغيرها فان الله يقبل توبته باسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب عنها. فعلى هذا لو تاب السارق قبل أن يرفع إلى الامام وظهر ذلك منه ثم قامت عليه البينة فانه لا يقطع غير أنه يطالب بالسرقة، وان تاب بعد قيام البينة عليه وجب قطعه على كل حال. وروي أن رجلا جاء إلى امير المؤمنين عليه السلام فأقر بالسرقة، فقال له علي عليه السلام: أتقرأ شيئا من كتاب الله ؟ قال: نعم سورة البقرة. فقال: قد وهبت يدك لسورة البقرة. فقال الاشعث: أتبطل حدا من حدود الله ؟ فقال: وما يدريك ما هذا، وإذا قامت البينة قليس للامام أن يعفو، قال الله تعالى ” والحافظون لحدود الله ” (1، فإذا أقر الرجل على نفسه بسرقة فذلك إلى الامام ان شاء عفا وان شاء عاقب (2. ولا يقطع حتى يقر بالسرقة مرتين وأنه سرق من حرز وكان نصابا، فان رجع ضمن السرقة ولم يقطع. وقال الفقهاء: إذا قامت البينة على السارق يجب قطعه على كل حال، فان كان تاب كان قطعه امتحانا وان لم يكن تاب كان عقوبة وجزاءا. ومتى قطع فانه لا يسقط عنه رد السرقة، سواء كانت باقية أو هالكة، فان كانت باقية ردها بلا خلاف وان كانت هالكة رد عندنا قيمتها. قال ابو حنيفة وأصحابه: لا يجب عليه القطع والغرامة معا، فان قطع سقطت عنه الغرامة وان غرم سقط القطع. ومن سرق بعد قطع اليد دفعة ثانية على ما ذكرناه قطعت رجله اليسرى


1) سورة التوبة: 112. 2) الاستبصار 4 / 252. *

[ 386 ]

حتى يكون من خلاف، فان سرن ثالثة حبس عندنا أبدا، فان سرق في الحبس قتل. ولا يعتبر ذلك أحد من الفقهاء. فظاهر الاية يقتضي وجوب قطع العبد والامة لتناول اسم السارق والسارقة لهما إذا سرقا، وصح ذلك عليهما بالبينة دون الاقرار. وقوله تعالى جزاءا بما كسبا ” معناه استحقاقا على فعلهما ” نكالا من الله ” أي عقوبة منه على ما فعلاه. وقال مجاهد الحد كفارة، وهذا غير صحيح، لان الله دل على معنى الامر بالتوبة (1، وانما يتوب المذنب عن ذنبه والحد من فعل غيره. وأيضا فمتى كان مصرا كان اقامة الحد عليه عقوبة والعقوبة لا تكفر الخطيئة كما لا يستحق بها الثواب. والتوبة التى يسقط الله العقاب عندها هي الندم على ما مضى من القبيح أو الاخلال بالواجب والعزم على ترك الرجوع إلى مثله في القبح. فان قيل: قوله ” فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ” (2 هل فعل الصلاح شرط في قبول التوبة أم لا، فان لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما ؟ قيل له: لا خلاف في أن التوبة متى حصلت على شرائطها فان الله يقبلها ويسقط العقاب وان لم يعمل بعدها عملا صالحا، غير أنه إذا تاب وبقي بعد التوبة فان لم يعمل العمل الصالح عاد إلى الاصرار، لانه لا يخلو في كل حال من واجب عليه. وأما ان مات عقيب التوبة من غير فعل صلاح فان الرحمة باسقاط العقاب تلحقه بلا خلاف. على أن قوله تعالى ” وأصلح ” يمكن أن يكون اشارة إلى العزم على ترك


1) أي دل بقوله تعالى ” فمن تاب ” على معنى الامر بالتوبة، لانه خبر بمعنى الامر، أي توبوا فأصلحوا، فلو كان الحد كفارة لم يبق ذنب حتى يتوب منه ” ج “. 2) سورة المائدة: 39. *

[ 387 ]

المعاودة مع الندم. وقال بعض المفسرين: معناه وأصلح أمره بالتفصي عن التبعات ورد السرقة. وهذا من شرائط صحة التوبة فيه. وأما رفع قوله ” والسارق والسارقة ” فانه عند سيبويه رفع على تفسير فرض فيهما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة. وقيل: معناه الجزاء، وتقديره من سرق فاقطعوه، وله صدر الكلام. قال الفراء: ولو أراد سارقا بعينه لكان النصب الوجه، ويفارق ذلك قولهم ” زيدا فاضربه ” لانه ليس فيه معنى الجزاء والمقصود واحد بعينه، وليس القصد بالسارق واحدا بعينه، وانما هو كقولك ” من سرق فاقطعوا يده ” فهو في حكم الجزاء، والجزاء له صدر الكلام. وقال الزجاج: هو القول المختار. وأجمع العلماء على أن القطع لا يجب على السارق الا بعد أن يأخذ المال الذي لغيره من دون اذنه من حرز وهو لا يستحقه. (باب) (حد المحارب) قال الله تعالى ” انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ” (1 الاية. من جرد السلاح في مصر أو غيره وهو من اهل الريبة على كل حال كان محاربا وله خمسة أحوال: فان قتل ولم يأخذ المال وجب على الامام أن يقتله وليس لاولياء المقتول العفو عنه ولا للامام، وان قتل وأخذ المال فانه يقطع بالسرقة ويرد المال ثم يقتل بعد ذلك ويصلب، وان اخذ المال ولم يقتل ولم يجرح قطع ثم نفي عن البلد، فان جرح ولم يأخذ المال ولم يقتل وجب أن يقتص منه ثم ينفى بعد ذلك، وان لم يجرح ولم يأخذ المال وجب أن ينفى من البلد الذي


1) سورة المائدة: 33. *

[ 388 ]

فعل فيه ذلك إلى غيره على ما قدمناه. وهذا التفصيل يدل عليه قوله تعالى ” ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض “، واللص ايضا محارب. وقد أخبر الله في هذه الاية بحكم من يجهر بذلك مغالبا بالسلاح، ثم اتبعه بحكم من يأتيه في خفاء في قوله ” والسارق والسارقة ” الاية. ومن سرق حرا فباعه وجب عليه القطع لانه من المفسدين في الارض. ودم اللص الذي يدخل على الانسان فيدفعه عن نفسه فيؤدي إلى قتل اللص هدر ولم يكن له قود ولادية. (باب) (الحد في الفرية) قال الله تعالى ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ” (1. قال سعيد بن جبير هذه الاية نزلت في عائشة، وقال الضحاك في جميع نساء المؤمنين. وهذا أولى لانه أعم فائدة، لان الاولى أيضا يدخل تحته وان كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة لكن لا تقصر الاية على سببها. قال الحسن يجلد هذا القاذف وعليه ثيابه، وهو قول أبى جعفر عليه السلام (2. ويجلد الرجل قائما والمرأة قاعدة، وقال ابراهيم يرمى عنه ثيابه، وعندنا انما يرمى عنه ثيابه إذا كان الحد في الزنا وكان وجد عريانا، فان وجد وعليه ثيابه في الزنا يجلد وعليه ثيابه قائما على كل حال. فان مات من يجلد من الضرب لم يكن عليه قود ولا دية.


1) سورة النور: 4. 2) انظر الكافي 7 / 205. *

[ 389 ]

فإذا قال الرجل أو المرأة كافرين كانا أو مسلمين حرين أو عبدين بعد أن يكونا بالغين لغيره من المسلمين البالغين الاحرار ” يا زاني ” أو ” يا لائط ” أو معناه معنى هذا الكلام بأي لغة كانت بعد أن يكون عارفا لموضوعها وبفائدة اللفظ وجب عليه الحد ثمانون، وهو حد القاذف. فان قال ” قد لطت بفلان ” كان عليه حدان حد للمواجهة وحد لمن نسبه إليه. والاية تدل على جميع ذلك. وقوله ” ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ” ذكرنا في كتاب الشهادات بيانه. والحد حق المقذوف، لانه لا يزول بالتوبة. وقال بعض المفسرين والفقهاء: إذا كان القاذف عبدا أو أمة كان الحد أربعين جدلة. وروى أصحابنا ان هذا الحد ثمانون في الحر والعبد والمسلم والكافر وظاهر العموم يقتضى ذلك، وبه قال عمر بن عبد العزيز والقاسم بن عبد الرحمن. ويثبت الحد في القذف بشهادة شاهدين مسلمين عدلين، أو باقرار القاذف على نفسه مرتين بأنه قذف. ولا يكون الحد فيه كما هو في شرب الخمر وفى الزنا في الشدة، بل يكون دون ذلك. وقد ذكرنا أن القاذف لا يجرد على حال. والعفو عن القاذف في جميع الاحوال إلى المقذوف، ألا ترى أنه لو قال لغيره ” يابن الزانية ” كانت المطالبة إلى الام ان كانت حية، وان كانت ميتة ولها وليان أو أكثر وعفا بعضهم أو أكثرهم كان لمن بقي منهم المطالبة باقامة الحد عليه على الكمال. (فصل) والقذف على الاطلاق يكون الزنا وما في معناه ويكون بغير ذلك، والمراد


[ 390 ]

في الاية قذفهن بالزنا بسببين: أحدهما ذكر المحصنات عقيب آية الزواني، والثاني اشتراط أربعة شهداء. والقذف بالزنا أن يقول العاقل البالغ لمحصنة أو لمحصن ” يا ولد الزنا ” أو ما قدمناه ففيه الحد، والقذف لغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر يا فاسق، يا عاض بظر أمه، يا يهودي، يا نصراني. فعليه إذا كان المقذوف على ظاهر العدالة التعزير، وهو ما دون الحد. وقال الفقهاء لا يبلغ به أدنى حد العبيد، وقال أبو يوسف يبلغ به تسعة وتسعون، وللامام أن يعزر إلى تسعة وتسعين. وشروط احصان القذف الحرية والبلوغ والاسلام، وزاد بعضهم العقل والعفة. فمتى قال انسان لمسلم ” أمك زانية ” وكانت أمه كافرة أو أمة كان عليه الحد تاما لحرمة ولدها المسلم الحر، وان قال لغيره من المماليك أو الكفار ” يابن الزاني ” أو ” يابن الزانية ” وكان أبو المقذوف مسلمين أو حرين كان عليه الحد أيضا كاملا، لان الحد لمن لو واجهه بالقذف لكان له الحد تاما. ثم قال تعالى ” ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ” (1 أي أبعد وامن رحمة الله في الدنيا باقامة الحدود عليهم ورد الشهادة وفى الاخرة بأليم العقاب. وهذا وعيد عام لجميع المكلفين في قول ابن عباس. ومن قال الوعيد خاص فيمن قذف عائشة فقوله لا يصح، لان الاية إذا نزلت في سبب لم يجب قصرها عليه، كآية اللعان وآية الظهار. ومتى حملت على العموم دخل من قذفها في جملتهم. وإذا لم يكن المقذوف محصنا يعزر القاذف ولا يحد.


1) سورة النور: 23. *

[ 391 ]

وقال الفقهاء: أشد الضرب ضرب التعزير، ثم ضرب الزنا، ثم ضرب من شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. (باب الزيادات) ان قيل: كيف قال ” يتوفاهن الموت ” (1 والمتوفى والموت واحد ؟. قلنا: يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله ” الذين تتوفاهم الملائكة ” (2 أو ” حتى يأخذهن الموت “. و ” اللاتي يأتين الفاحشة ” أي يرهقنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها. والفاحشة الزنا، لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. وقيل: نزلت هذه الاية في الساحقات وما بعدها في اللواطين. مسألة: وقوله ” الزانية والزاني فاجلدوا ” (3 الجلد ضرب الجلد، كما يقال جلد ظهره ورأسه. وهذا حكم من ليس بمحصن من الزناة والزواني، فان المحصن حكمه الرجم. وشرائط الاحصان عند أبى حنيفة ست: الاسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول. وعند الشافعي الاسلام ليس بشرط. فان قيل: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لان قوله


1) سورة النساء: 15. 2) سورة النحل: 28. 3) سورة النور: 2. *

[ 392 ]

” الزانية والزاني ” عام في المحصن وغير المحصن. قلنا: هما يدلان على جنسين دلالة مطلقة، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا يطلق الا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وانما ابتدئ هنا بذكر النساء وفي آية السرقة بالرجال للتغليب، ولان الحد بالجلد انما يجب على الرجل الشاب غير المحصن إذا زنا وطاوعته المرأة، فان أكرهها وغصب فرجها فانه يجب ضرب عنقه البتة. مسألة: وقوله تعالى ” والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ” (2 الاية الذي يقتضيه ظاهرها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل ومن قتل المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، الا الذين تابوا. مسألة: عن سليمان بن خالد قلت لابي عبد الله عليه السلام: في القرآن رجم ؟ قال: نعم. قلت: كيف ؟ قال: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة فانهما قضيا الشهوة (2. وقد ذكرنا في كتاب الصوم كيفية ذلك في باب النسخ. مسألة: وعن حنان بن سدير قال: ان عباد المكي سأل الصادق عليه السلام عن


1) سورة النور: 4. 2) من لا يحضره الفقيه 4 / 26. *

[ 393 ]

رجل زنا وهو مريض فان أقيم عليه الحد خافوا عليه أن يموت، ما تقول في هذه المسألة ؟ فقال: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك انسان ان تسأل عنها. فقال: ان سفيان الثوري أمرني أن اسألك عنها. فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله أتى برجل أحبن (1 قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه وقد زنا بامرأة مريضة، فأمر رسول الله فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة واحدة وضربها به ضربة واحدة وخلى سبيلهما، وذلك قوله تعالى (2 ” وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ” (3.


1) الحبن – بفتح الحاء والباء – عظم البطن من الاستسقاء، ورجل أحبن المبتلى بهذا المرض – النهاية لابن الاثير 1 / 335. 2) سورة ص: 44. 3) من لا يحضره الفقيه 4 / 28. *

[ 394 ]

كتاب الديات اعلم ان القتل على ثلاثة أضرب: عمد محض ويجب فيه القود أو الدية على ما بينته، وخطأ محض، وخطأ شبيه العمد. وفيهما الدية لا غير، وفي كل واحد منهما يجب على القاتل الكفارة بعد أخذ الدية أو العفو على ما ذكرناه في باب الكفارة. (باب) (القتل العمد وأحكامه) قال الله تعالى ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ” (1 الاية. فالعمد المحض هو كل من قتل غيره وكان بصيرا بالغا كامل العقل بحديد أو بغيره، إذا كان قاصدا بذلك القتل أو يكون فعله مما قد جرت العادة بحصول الموت عنده، يجب عليه القود، ولا يستقاد منه الا بحديد. وان كان قتل هو


1) سورة النساء: 93. *

[ 395 ]

صاحبه بغير الحديد ولا يمكن من تقطيع أعضائه وان كان هو فعل ذلك بصاحبه بل يؤمر بضرب رقبته. ويستوي في القاتل جميع ذلك، ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو مملوكا مسلما كان أو كافرا. وليس لاولياء المقتول الا نفسه، وليس لهم مطالبته بالدية. فان فادى القاتل نفسه بمال جزيل ورضوا به جاز. أخبر الله تعالى في هذه الاية أن من يقتل مؤمنا متعمدا – يعني قاصدا إلى قتله – أن جزاءه جهنم خالدا ” مؤبدا فيها وغضب الله عليه. وقد بينا أن غضب الله هو ارادة عقابه والاستخفاف به، ولعنه معناه أبعده من رحمته. وسأل سماعة أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم “. قال: من قتل مؤمنا على دينه ولايمانه فذاك المتعمد الذي قال الله تعالى في كتابه ” وأعد له عذابا عظيما “. قلت: فالرجل يقع بينه وبين الرجل [ شئ ] فيضربه بسيفه فيقتله. قال: ليس ذلك المتعمد الذي قال الله عزوجل (1. وان كان قتله متعمدا لغضب أو لسبب شئ من الدنيا فان توبته أن يقاد منه، وهذا حد من الله والتوبة منه مع الاستسلام. وان لم يكن علم به أحد وانطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم فان عفوا عنه ولم يقتلوه وأعطاهم الدية أو عفوه عن الدية أيضا أعتق نسمة وصام شهرين متتابعين وأطعم ستين مسكينا كفارة وتوبة إلى الله تعالى. (فصل) واختلفوا في صفة قتل العمر، قال قوم لا يكون قتل العمد الا ما كان بحديد،


1) تهذيب الاحكام 10 / 164. *

[ 396 ]

واليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في رواية. وقال آخرون: ان من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة – سواء كان بحديدة حادة كالسلاح أو مثقلة من حديد أو خنق اوسم أو احراق أو تغريق أو ضرب بالعصا أو الحصى حتى يموت – فان جميع ذلك عمد يوجب القود. وبه قال الشافعي وأصحابه واختاره الطبري، وهو مذهبنا على ما ذكرناه، وقد أمر الله تعالى بذلك في قوله ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالاثنى ” (1. فان قيل: كيف قال ” كتب عليكم ” بمعنى فرض والاولياء مخيرون بين القصاص والعفو ؟. قلنا عنه جوابان: أحدهما انه فرض عليكم ذلك ان اختار أولياء المقتول القصاص، والفرض قد يكون مضيقا وقد يكون مخيرا فيه. والثاني فرض عليكم ترك مجاوزة ماحد لكم إلى التعدي فيما لم يجعل لكم. والقصاص الاخذ من الجاني مثل ما جنى، وذلك لانه مال لجنايته. (فصل) وقال بعض المفسرين: ان هذه الاية منسوخة بقوله ” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ” (2. قال جعفر بن مبشر: ليس هذا عندي كذلك، لانه تعالى انما أخبرنا أنه كتبها على اليهود. قلنا: وليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا، لان شريعتهم منسوخة بشريعتنا. والذى نقوله نحن: ان هذه الاية ليست منسوخة، لان ما تضمنته معمول


1) سورة البقرة: 178. 2) سورة المائدة: 45. *

[ 397 ]

عليه ولا ينافي قوله ” النفس بالنفس “، لان تلك عامة وهذه خاصة ويمكن بناء تلك على هذه ولا تناقض ولا يحتاج إلى أن ينسخ احداهما بالاخرى. وقال قتادة: نزلت هذه الاية لان قوما من أهل الجاهلية كانت لهم جولة على غيرهم، فكانوا يتعدون في ذلك فلا يرضون بالعبد الا الحر ولا بالمرأة الا الرجل، فنهاهم الله بهذه الاية عن مثل ذلك. ويجوز قتل العبد بالحر والانثى بالذكر اجماعا، ولقوله ” ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ” ولقوله ” النفس بالنفس “. وقوله في هذه الاية ” الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى ” لا يمنع من ذلك، لانه تعالى لم يقل ولا يقتل الانثى بالذكر ولا العبد بالحر، وإذا لم يكن ذلك في الظاهر فما تضمنته الاية معمول به. وما قلناه مثبت بما تقدم من الادلة. واما قتل الحر بالعبد فعندنا لا يجوز، وبه قال الشافعي وأهل المدينة، وقال أهل العراق يجوز. ولا يقتل الوالد بالولد عندنا وعند اكثر الفقهاء، وقال مالك يقتل به على بعض الوجوه. وأما قتل الوالدة بالولد فعندنا تقتل به وعند جميع الفقهاء انها جارية مجرى الاب وأما قتل الولد بالوالد فيجوز اجماعا. لا يقتل مولى بعبده. ويجوز قتل الجماعة بواحد اجماعا، ولقوله ” ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا “، الا ان عندنا يرد اولياء المقتول فاضل الدية وعندهم لا يرد شئ على حال. وإذا اشترك بالغ مع طفل أو مجنون في قتل فعندنا لا يسقط القود عن البالغ وبه قال الشافعي، وقال اهل العراق يسقط. (فصل) ثم قال سبحانه ” فمن عفي له من اخيه شئ ” معنى عفي ههنا ترك، من


[ 398 ]

عفت المنازل لو تركت حتى درست. والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها. والعفو عن القتل يكون على وجهين: احدهما: ان يعفو اولياء المقتول عن القاتل ويصفحوا عنه ولا يطلبون منه شيئا اما للتقرب إلى الله تعالى واما لغرض من الاغراض. والثاني: ان يكون العفو ترك القود بقبول الدية إذا بذل القاتل ورضي به اولياء المقتول. واولياء المقتول كل من يرث الدية الا الزوج والزوجة ليس لهما غير سهمهما من الدية ان قبلها الاولياء أو العفو عنه بمقدار ما يصيبهما من الميراث، وليس لهما المطالبة بالقود، وأما من سواهما من الاولياء فلهم المطالبة بالقود ولهم الرضا بالدية. ولهم العفو على الاجتماع والانفراد ذكرا كان أو انثى، فان اختلفوا فبعض عفا عن القاتل وبعض طلب القود وبعض رضي بالدية كان للذي يطلب القود أن يقتل القاتل إذا رد على الذى طلب الدية ماله منها ورد على اولياء القاتل سهم من عفا عنه. وقال أبو حنيفة: إذا كان للمقتول ولد صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا، واحتج بقاتل على عليه السلام. وقال غيره لا يجوز حتى يبلغ الصغار. وعندنا ان لهم ذلك إذا ضمنوا حصة الصغار من الدية إذا بلغوا ولم يرضوا بالقصاص. وقال الزجاج: معنى قوله ” فمن عفى له من اخيه شئ ” اي من ترك قتله ورضي منه بالدية وهو قاتل متعمد للقتل، فقد عفي له بأن ديته ؟ ورضي منه بالدية، وهو من العفو الذى هو الصفح وترك المؤاخذة بالذنب، فمعنى عفي له صفح عنه، بأن لا يؤاخذ بما يستحقه عليه من القصاص والقتل. وقيل العفو الترك كما قدمناه، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله


[ 399 ]

” عفوت عنكم عن صدقة الخيل ” أي تركتها. واصل العفو محو الاثر. وهذا العفو كما ذكرناه على ضربين: أحدهما عفو عن دم القاتل وعن الدية جميعا، والاخر عفو عن الدم والرضا بالدية. وهو المراد بالاية. والمراد بقوله ” من أخيه ” أي من القاتل عفا ولي المقتول عن دمه الذي له من جهة أخيه المقتول. والمراد بقوله ” شئ ” الدم. فالهاء في قوله ” من أخيه ” يعود إلى أخي المقتول في قول الحسن، وقال الاخرون تعود إلى اخ القاتل. فان قيل: كيف يجوز أن يعود على أخي القاتل وهو في تلك الحال فاسق. قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها انه أراد اخوة النسب لا في الدين كما قال ” والى عاد أخاهم هودا ” (1. الثاني أن القاتل قد يتوب ويدخل في الجملة غير التائب على وجه التغليب. الثالث تعريفه بذلك على أنه كان اخاه قبل أن قتله كما قال ” إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن ازواجهن ” (2 يعني الذين كانوا أزواجهن. (فصل) قوله تعالى ” فاتباع بالمعروف ” يعني العافي، وعلى المعفو عنه ” أداء إليه باحسان “، وبه قال ابن عباس والحسن، وهو المروي عن ابى عبد الله عليه السلام (3. وقال قوم هما عن المعفو عنه. ودية القصاص في قود النفس ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، أو مائة من مسان الابل، أو مائتان من البقر، أو ألف شاة، أو ماشا كله. فهذه الستة اصل


1) سوة الاعراف: 65. 2) سورة البقرة: 232. 3) تهذيب الاحكام 10 / 178. *

[ 400 ]

في نفس الدية وليس بعضها بدلا من بعض، وهذا كما نقول في زكاة الفطرة انها تجب صاع من احد الاجناس الستة الحنطة والشعير والتمر والزبيب والارز والاقط، فان كل واحد منها اصل فيها وليس بعضها بدلا من بعض. ولا يجبر القاتل عمدا على الدية، فان رضي فهي عليه في ماله، فان لم يقبل اولياء المقتول الدية فأدى القاتل نفسه بأضعاف الدية فلا بأس بقبوله. ” فاتباع بالمعروف ” أي فعليه اتباع الاخ العافي بمعروف. ” واداء إليه باحسان ” أي يتبعه بالحمد والشكر والثناء ويؤدي إليه الدية باحسان، اي على وجه جميل. وقال الزجاج: قيل على الولي العافي اتباع القاتل بالمطالبة للدية وعلى القاتل اداء الدية باحسان. وقال: وجائز أن يكون الاتباع بالمعروف والاداء بالاحسان جميعا على القاتل. وجاء في التفسير: ان الاداء باحسان ان يكون منجما ولا يذهب شئ من الدية، والاتباع بالمعروف أن يقبضها برفق. وقال أبو مسلم: أي على قاتل العمد الذي يرضى منه ولي المقتول بالدية ويعفو له عن القود أن يتبع ما أمره الله في اعطاء الولي ما يصالحه عليه ويرضى به منه. ويحتمل بالمعروف أن يكون صفة لامر الله أن يكون ما يتعارفه العرب بينها من دية القتلى بينهم إذا أرادوا الاصلاح وحقن الدماء. ويؤخذ دية العمد نسيئة، وقد حث الله كل واحد منهما على الاحسان، فليؤد المطلوب إلى الطالب ان استطاع بتعجيل وليرفق الطالب في طلب الدية. وأنكر بعض أهل اللغة أن يكون العفو في الاية بمعنى الاعطاء كما قاله البصري ان الضمير في ” أخيه ” يرجع إلى أخي المقتول الذي يرث دمه، والاخ المراد به في النسب بذل له من دم أخيه شئ يعطي عفوا، أي الدية في سهولة. وذلك لانه لو كان من الاعطاء لقيل فمن أعطي له، وليس في الكلام


[ 401 ]

عفي له منه بمعنى أعطاه عفوا، انما يقال أعفي له بكذا إذا أعطاه، وانما هو عفو ولي المقتول عن دية القاتل. وقوله ” القاتل لا يكون اخا المقتول الا في النسب ” ليس بصحيح، لانه يمكن أن يكون القاتل عمدا والمقتول مسلمين. قال ابن مهرايزد: الصحيح أن الضمير في ” أخيه ” للقاتل الذي عفى له القصاص وأخوه ولي المقتول، والضمير في ” إليه ” أيضا له، أي يؤدي القاتل الدية إلى الولي العافي ” باحسان ” أي من غير مطل ولا أذى. (فصل) ثم قال ” ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ” المشار إليه بذا ترخيص الله ترك القصاص والاقتصار على الدية ” فمن اعتدى ” بعد ذلك ” فله عذاب أليم ” أي من اعتدى بعد البيان في الاية فقتل غير قاتل وليه أو بعد قبول الدية فله عذاب أليم، أي من قتل منكم نفسا في الدنيا قتلته في النار مائة ألف قتلة مثل قتله صاحبه. وجاء في التفسير: ان الاعتداء ههنا أن يقتل بواحد عدة، كما كان يفعل كبراء الكفار في الجاهلية. وكل هذا يحتمل في الاية، والمروي عن ابن عباس أن الاعتداء هو القتل بعد قبول الدية، وكذلك عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام. ومعنى ” تخفيف من ربكم ” أنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو، وكان لاهل التوراة قصاص وعفو ولاهل الانجيل عفو ودية. وقال ” ولكم في القصاص حياة ” المراد به القصاص في القتل، وانما كان فيه حياة من وجهين: أنه إذا هم الانسان بالقتل فذكر القصاص ارتدع، فكان ذلك سببا للحياة، حياة للذي هم هو بقتله وحياة له لانه من أجل القصاص أمسك عن القتل، فلسم من أن يقتل. وقال السدي. من جهة أنه لا يقتل الا القاتل دون غيره، خلاف فعل الجاهلية الذين كانوا يتفالون بالطوائل. و


[ 402 ]

المعنيان جميعا حسنان، ونظير هذه الاية قولهم ” القتل أنفى للقتل “. وانما خص الله بالخطاب أولي الالباب لانهم المكلفون المأمورون، ومن ليس بعاقل لا يصح تكليفه. فعلى هذا متى كان القاتل غير بالغ – وحده عشر سنين فصاعدا – أو يكون مع بلوغه زائل العقل اما أن يكون مجنونا أو مؤوفا فان قتلهما وان كان عمدا فحكمه حكم الخطأ. (فصل) قوله تعالى ” ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ” (1 يعني الا بالقود أو الكفر أو ما يجري مجراهما، فان قتله كذلك حق وليس بظلم. ” ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف ” (2 أي فلا يسرف القاتل في القتل، وجاز أن يضمر وان لم يجر له ذكر، لان الحال يدل عليه، ويكون تقييده بالاسراف جاريا مجرى قوله في أكل مال اليتيم ” ولا تأكلوها اسرافا ” وان لم يجز أن يأكل منه على الاقتصاد، فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الاول لا تسرف في القتل، لانه يكون بقتله مسرفا فلا يسرف لان من قتل مظلوما كان منصورا بأن يقتص له وليه والسلطان ان لم يكن له ولي، فيكون هذا رد القاتل عن القتل. والاخر أن يكون في ” يسرف ” ضمير ” الولي “، أي لا يسرف الولي في القتل، فاسرافه فيه أن يقتل غير من قتل أو يقتل اكثر من قاتل وليه، أي فلا يسرف الولي فانه منصور بقتل قاتل وليه والاقتصاص منه. والسلطان الذي جعله الله للولي، قال ابن عباس: هو القود أو العفو أو الدية.


1) سورة الانعام: 151 والاسراء: 33. 2) سورة الاسراء: 33. *

[ 403 ]

(فصل) ومما يقتضيه الايات أن المرأة إذا قتلت رجلا واختار أولياؤه القود فليس لهم الا نفسها، فان قتل الرجل امرأة عمدا وأراد أولياؤها قتله كان لهم ذلك إذا ردوا نصف دية الرجل. وإذا قتل المسلم ذميا عمدا وجب عليه ديته ولا يجب فيه القود، وكذلك إذا قتل حر عبدا أو أمة لم يكن عليه قود وعليه الدية يعطى قيمتهما يوم قتلهما فان زادات القيمة على دية الحر والحرة رد إليها. فان قتل عبد حرا عمدا كان عليه القتل ان أراد أولياء المقتول ذلك، فان طلبوا الدية كان على مولاه الدية كاملة أو تسليم العبد إليهم ان شاؤا استرقوه وان شاؤا قتلوه. فإذا قتل جماعة واحدا فان أولياء الدم مخيرون بين أمور ثلاثة: أحدها أن يقتلوا القاتلين كلهم ويؤدوا فضل ما بين دياتهم ودية المقتول إلى أولياء المقتولين. والثاني أن يتخيروا واحدا منهم فيقتلوه ويؤدوا المستبقون ديته إلى أولياء صاحبهم بحساب أقساطهم من الدية. الثالث ان اختار أولياء المقتول أخذ الدية كانت على القاتلين بحسب عددهم، والدليل على صحته اجماع الطائفة، ولان ما ذكرناه أشبه بالعدل. والذي يدل على الفصل الاول – زائدا على الاجماع – قوله تعالى ” ولكم في القصاص حياة “، ومعنى هذا أن القاتل إذا علم أنه ان قتل قتل كف عن القتل وكان ذلك أزجر له وكان داعيا إلى حياته وحياة من هم بقتله، فلو أسقطنا القود في حال الاشتراك سقط هذا المعنى المقصود بالاية، فكان من أراد قتل غيره من غير أن يقتل به شارك غيره في قتله، فسقط القود عنهما.


[ 404 ]

ويمكن أن يستدل أيضا على من خالف في قتل الجماعة بواحد بقوله تعالى ” فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ” (1، والقاتلون إذا كانوا جماعة فكلهم معتدون، فيجب أن يعاملوا ما عاملوا به القتيل. فان قالوا: ان الله تعالى يقول ” النفس بالنفس والحر بالحر ” (2، وهذا ينفي أن يؤخذ نفسان بنفس وحران بحر. قلنا: المراد بالنفس والحر ههنا الجنس لا العدد، فكأنه تعالى قال: ان جنس النفوس يؤخذ بجنس النفوس وكذا جنس الاحرار، فالواحد والجماعة يدخلون في ذلك. فان قيل: قد ثبت أن الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب لم يلزم كل واحد منهم قطع وان كان كل واحد منهم إذا انفرد بسرقته لزمه القطع، فأي فرق بين ذلك وبين القتل مع الاشتراك ؟ قلنا: الذي نذهب إليه – وان خالفنا فيه الجماعة – أنه إذا اشترك نفسان في سرقة شئ من حرز وكان قيمة المسروق ربع دينار ويكون أيديهما عليه، فانه يجب عليهما القطع معا وقد سوينا بين القتل والقطع. ولهذه المسألة تفصيل ذكر في بابه. (فصل) واختلف أهل التأويل في قوله ” من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ” (3.


1) سورة البقرة: 194. 2) سورة المائدة: 45. 3) سورة المائدة: 32. *

[ 405 ]

قال الزجاج: معناه انه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنهم خصومه في قتل ذلك الانسان. قال الحسن: معناه تعظيم الوزر والاثم. قال ابن مسعود: من قتل نفسا فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس عند المستقيد. وقال ابن زيد: معناه ان يجب من القتل والقود مثلما يجب عليه لو قتل الناس جميعا، ومعنى من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا من نجاها من الهلاك – مثل الغرق والحرق. وقيل من عفا عن دمها وقد وجب القود عليها، وقيل معناه من زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يفتدى به فيها، بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه الله على نفسه فلم يقدم عليه فقد حيى الناس بسلامتهم منه وذلك احياؤه اياها، وهو اختيار الطبري. والله هو المحيى للخلق لا يقدر عليه غيره، وانما قال أحياها على وجه المجاز، يعني نجاها من الهلاك، كما حكي عن نمرود ” أنا أحي وأميت ” فاستبقي واحدا وقتل الاخر. والقول في ذلك أن يقال: أن الله تعالى شبه قاتل النفس بقاتل جميع الناس ومنجيها بمنجى جميع الناس، وتشبيه الشئ بالشئ يكون من وجوه حقيقة ومجازا، فيجب أن ينظر في التشبيه ههنا بماذا يتعلق، فلا يجوز أن يكون شبه الفعل بالفعل، لان قتل واحد لا يشبه قتل اثنين، فلابد من أن يكون التشبيه في المعنى. ولا يجوز أن يقال: شبه الاثم بالاثم والعقاب بالعقاب، لان الذي يحاسب على الفتليل والقطمير ويتمدح بأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل يمنع غناه


[ 406 ]

وحكمته وعدله أن يساوي في العقاب بين قاتل نفس واحدة وبين قاتل نفسين فكيف من قتل نوع الناس، فإذا التشبيه مجاز والمراد به تهويل أمر القتل ومبالغة في الزجر عنه وأنه يستحق في الدنيا من كل مؤمن البراءة واللعنة والعداوة، كما لو تعرض له نفسه بالقتل لا يستحق كل ذل منه لكون المؤمنون يدا واحدة على من سواهم. وقد قضى الحسن بن علي عليهما السلام في رجل اتهم بأنه قتل نفسا فأقر بأنه قتل، وجاء آخر فأقر أن الذي قتل هو دون صاحبه، ورجع الاول عن اقراره: أنه درأ عنهما القود والدية ودفع إلى أولياء المقتول الدية من بيت المال وقرأ هذه الاية ثم قال: هذا ان قتل ذلك فقد أحيا هذا (1. والاولياء هم الوراث من الرجال، فمن الاولاد الذكور ومن الاقارب من كان ذكرا من قبل الاب. (باب) (القتل الخطأ المحض) قال الله تعالى ” وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله الا أن تصدقوا ” (2. اعلم أن النفي ههنا متعلق بالجواز في دين الله وحكمه، أي لا يجوز ذلك في حكم الله. والظاهر اخبار بانتفاء الجواز ويتضمن النفي، أي فلا تفعلوه. ولدخول كان افادة أن هذا ليس حكما حادثا بل لم يزل حكم الله على هذا. وقد ذكر الله تعالى في هذه الاية ديتين وثلاث كفارات: ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الاسلام فقال ” ومن قتل مؤمنا


1) وسائل الشيعة 19 / 107 وما هنا نقل بالمعنى. 2) سورة النساء: 92. *

[ 407 ]

خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله “. وذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم ففيه الكفارة دون الدية، فقال ” فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة “، لان قوله ” وان كان ” كناية عن المؤمن الذى تقدم ذكره. ثم ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين، فقال ” وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة “. وعند المخالف ان ذلك كناية عن الذي في دار الاسلام. وما قلناه أليق بسياق الاية، لان الكنايات كلها في كان عن المؤمن فلا ينبغي أن يصرفها إلى غيره بلا دليل. ومعناه: لم يأذن الله ولا أباح لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيما عهده إليه، لانه لو أباحه أو اذن فيه لما كان خطأ، والتقدير الا ان يقتله خطأ فان حكمه كذا – ذهب إليه قتادة. وقوله ” الاخطأ ” استثناء منقطع في قول اكثر المفسرين، وتقدير الاية الا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك فيما جعله الله له، واجماع ان قتل المؤمن لا يجوز لا عمدا ولا خطأ. فالتقدير: غير جائز في حكم الله أن يقتل مؤمن مؤمنا لكن ان وقع عليه غلط فأخطأ في مقصده وفعل هذا المحظور فعليه كذا وكذا. (فصل) ثم أخبر سبحانه بحكم من قتل من المؤمنين مؤمنا خطأ فقال ” ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ” معناه فعليه تحرير رقبة مؤمنة، يعني مظهرة


[ 408 ]

للايمان. وظاهر ذلك يقتضي أن تكون بالغة ليحكم لها بالايمان، وذلك في ماله خاصة. ” ودية مسلمة إلى أهله ” يؤديها عنه عاقلته إلى أولياء المقتول. ” الا أن يصدقوا ” أولياء المقتول على من لزمته دية قتلهم فيعفو عنه، فحينئذ يسقط عنهم وموضع أن من قوله ” الا أن يصدقوا ” نصب، لان المعنى فعلية ذلك الا في حال التصدق، ثم حذفت في. وقيل الا حال التصدق، وأصله الا على أن تصدقوا ثم سقط على ويعمل فيه ما قبله على معنى الحال، أو هو مصدر وقع موقع الحال. ويجوز في سبب النزول كلما قيل. والذي يعول عليه: ان ما تضمنته الاية حكم من قتل خطأ. وقال ابن عباس والحسن: الرقبة المؤمنة لا تكون الا بالغة قد آمنت وصامت وصلت، فأما الطفل فانه لا يجزي، ولا الكافر. وقال عطا: كل رقبة ولدت في الاسلام فهي تجزي. والاول أقوى، لان المؤمن على الحقيقة لا يطلق الا على بالغ عاقل مظهر للايمان ملتزم لوجوب الصلاة والصوم، الا أنه لا خلاف أن المولود بين مؤمنين يحكم له بالايمان، فهذا الاجماع ينبغي أن يجري في كفارة قتل الخطأ، فأما الكافر والمولود بين كافرين فانه لا يجزي بحال. ودية قتل الخطأ يلزم العاقلة، والعاقلة يرجع بها على القاتل ان كان له مال، فان لم يكن له مال فلا شئ للعاقلة عليه، ومتى كان للقاتل مال ولم يكن للعاقلة مال الزم في ماله الدية خاصة. ولا يلزم العاقلة من دية الخطأ الا ما قامت به البينة، فأما ما يقر به القاتل فليس عليهم منه شئ ويلزم القاتل ذلك في ماله خاصة. وتستؤدى دية الخطأ في ثلاث سنين. والعاقلة هم الذين يرثون دية القاتل ان لو قتل، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئا.


[ 409 ]

والدية المسلمة إلى اهل القتيل هي المدفوعة إليهم موفرة غير منقصة حقوق أهلها منها. ” الا أن يصدقوا ” معناه يتصدقوا، وهو في قراءة أبي فأدغمت التاء في الصادر لقرب مخرجهما. (فصل) وقوله تعالى ” فان كان من قدم عدو لكم وهو مؤ من فتحرير رقبة مؤمنة ” (1. يعنى ان كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم هم أعداء لكم مشركون وهو مؤمن فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة. واختلفوا في معناه: فقال قوم: إذا كان القتيل في عداد الاعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر فمن قتله فلا دية له وعليه تحرير رقبة مؤمنة، لان الدية ميراث وأهله كفار لا يرثونه – هذا قول ابن عباس. وقال آخرون: بل عنى به من أهل الحرب من تقدم دار الاسلام ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مر بهم جيش من أهل الاسلام فهرب قومه وأقام ذلك المسلم بينهم فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا. ثم قال ” وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ” معناه ان كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم أيها المؤمنون ميثاق أو عهد – أي عهد وذمة – وليسوا أهل حرب لكم فدية مسلمة إلى أهله يلزم عاقله قاتله وتحرير رقبة مؤمنة على القاتل كفارة لقتله. واختلفوا في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن


1) سورة النساء: 93. *

[ 410 ]

أو كافر ؟ فقال قوم هو كافر، الا انه يلزم قاتله ديته لان له ولقومه عهدا، ذهب إليه ابن عباس. وقال آخرون بل هو مؤمن، فعلى قاتله ديته يؤديها إلى قومه من المشركين لانهم أهل ذمة. وهو المروي في أخبارنا، الا أنهم قالوا تعطى ديته ورثته المسلمين دون الكفار. والميثاق العهد، والمراد به ههنا الذمة وغيرها من العهود. والخطأ هو أن يريد شيئا فيصيب غيره. والدية الواجبة في قتل الخطأ مائة من الابل ان كانت العاقلة من أهل الابل. وقال ابن مهرايزد: هو أن يكون المقتول مؤمنا [ من قوم معاهدين، وذكر ابن اسحاق انه يجوز أن لا يكون مؤمنا ] (1، ولاجل المهادنة والميثاق وجبت الدية والكفارة. (فصل) أما دية أهل الذمة فقال قوم هي دية المسلم سواء، ذهب إليه ابن مسعود واختاره أبو حنيفة. وقال قوم هي على النصف من دية المسلم، وقال قوم هي على الثلث من دية المسلم، ذهب إليه الشافعي وقال انها اربعة آلاف. وأما دية المجوسي فلا خلاف انها ثمانمائة درهم، وكذلك عندنا دية اليهودي والنصراني، والانثى منهم أربعمائة درهم، والدليل عليه اجماع الطائفة. فان احتج المخالف بقوله ” ومن قتل مؤمنا خطأ فتحيرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى اهله ” ثم قال ” وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة “، وظاهر الكلام يقتضي ان الدية واحدة. قلنا: هذا السؤال ساقط على قول من يقول هذا القتيل الذي هو من قوم


1) الزياد من ج. *

[ 411 ]

بينكم بينهم ميثاق هو مؤمن، ومعناه ان كان القتيل الذى قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم ميثاق – أي ذمة وعهد وليسوا من اهل حرب لكم – فدية مسلمة إلى أهله لانهم أهل الذمة. واما على قول من يقول ان هذا القتيل كافر فلا شبهة في أن ظاهر الكلام لا يقتضي التساوي في مبلغ الدية، وانما يقتضي التساوي في وجوب الدية على سبيل الجملة. وفي تقديم تحرير الرقبة على الدية في صدر الاية وتقديم الدية على تحرير الرقبة في آخر الاية خبيئة لطيفة، وكذلك في قوله ” الا أن تصدقوا ” اشارة حسنة والاحسن أن تكون الكناية في كان من قوله ” فان كان من قوم عدو لكم ” للقتيل دون أن يكون للمؤمن، لان قوله ” وهو مؤمن ” يمنع من ذلك. وكذا الكناية في كان من قوله ” وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ” للمقتول لان المقتول يقع على المؤمن والكافر، فان كان القتيل من هؤلاء الكافرين كافرا فديته دية الكافر وان كان مؤمنا فديته دية المؤمن. هذا هو المذهب، ويجوز أن يكون كان تامة في أول الاية من قوله ” وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الاخطأ ” أي ما وقع قتل مؤمن لمؤمن الا قتلا خطأ. (فصل) ثم قال تعالى ” فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ” (1 اختلفوا في معناه: فقال قوم يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن خطأ لاعساره فعليه صيام شهرين متتابعين، وقال آخرون فمن لم يجد الدية فعليه صوم شهرين عن الدية والرقبة، وقال مسروق تأويل الاية فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهله فعليه صوم شهرين متتابعين.


1) سورة النساء: 92. *

[ 412 ]

والاول هو الصحيح، لان دية قتل الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل باجماع الامة على ذلك. وصفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بافطار يوم على ما قدمناه في باب الكفارة. ثم قال ” توبة من الله ” وهو نصب على القطع (1، ومعناه رخصة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه ما خفف عنكم من فرض تحرير رقبة مؤمنة بايجاب صوم شهرين متتابعين. قال الجبائي: انما قال ” توبة من الله ” لانه تعالى بهذه الكفارة التى يلزمها يدرأ العقاب والذم عن القاتل، لانه يجوز أن يكون عاصيا في السبب وان لم يكن عاصيا في القتل من حيث انه رمى في موضع هو منهي عنه وان لم يقصد القتل. وهذا ليس بشئ، لان الاية عامة في كل قاتل خطأ، وما ذكره ربما اتفق في الاحاد. والزام دية الخطأ للعاقلة ليس هو مؤاخذة البرئ بالسقيم، فان ذلك ليس بعقوبة بل هو حكم شرعى تابع للمصالح، ولو خلينا والعقل ما أوجبناه. وقد قيل ان ذلك على وجه المواساة والمعاونة. ثم قال ” ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ” واستدلت المعتزلة بهذه الاية على ان مرتكب الكبيرة يخلد في نار جهنم وانه إذا قتل مؤمنا يستحق الخلود فيها ولا يعفى عنه. ولنا ان نقول لهم: ما انكرتم ان يكون المراد بالاية الكفار ومن لا ثواب له اصلا، فأما من يستحق الثواب فلا يجوز ان يكون مرادا بالخلود في النار اصلا. وقد استوفى الكلام فيه اصحابنا في الاصول.


1) الكوفيون يسمون الحال قطعا ” ج “. *

[ 413 ]

وقد ذكر جماعة من المفسرين ان الاية متوجهة إلى من يقتل مؤمنا تعصبا لايمانه، وذلك لا يكون الا كافرا. وقال على بن موسى القمى: ان التقدير في الاية من يقتل مؤمنا لدينه، والوعيد ورد على هذا الوجه، لانه إذا قتله لاجل انه مؤمن فقد كفر. (فصل) اما قوله ” يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا ” (1 فقد قال ابو جعفر عليه السلام: نزلت في امر بنى النضير وبنى قريضة (2. قال قتادة: انما كان ذلك في قتيل بينهم، قالوا ان افتاكم محمد بالدية فاقتلوا وان افتاكم بالقود فاحذروه، فلما ارادوا الانصراف تعلقت قريضة بالنضير قالوا: يا ابا القاسم – وكرهوا أن يقولوا يا محمد لئلا يوافق ذلك ما في كتبهم من ذكره – هؤلاء اخواننا بنو النضير إذا قتلوا منا قتيلا لا يعطون القود منهم واعطونا سبعين وسقا من تمر، وان اخذوا الدية اخذوا منا مائة واربعين وسقا، وكذا جراحاتنا على انصاف جراحاتهم. فأنزل الله ” وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ” (3 أي فاحكم بينهم بالسواء. فقالوا: لا نرضى بقضائك، فأنزل الله ” أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ” (4. ثم قال تعالى ” وكيف يحكمونك وعندهم التوراة ” (5 شاهدا لك فيما


1) سوة المائدة: 41. 2) روى ذلك في حديث طويل – انظر يجمع البيان 2 / 193. 3) سورة المائدة: 42. 4) سورة المائدة: 50. 5) سورة المائدة: 43. *

[ 414 ]

يخالفونك. ثم فسر ما فيها من حكم الله فقال ” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ” الاية. ” فان تولوا ” يعنى بني النضير لما قالوا لا نرضى بحكمك. (باب) (القتل الخطأ وشبيه العمد) اعلم أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد محض، وهو أن يكون عامدا بآلة يقتل غالبا كالسيف والسكين والحجر الثقيل، عامدا في قصده، وهو أن يقصد قتله بذلك. فمتى كان عامدا في قصده عامدا في فعله فهو العمد المحض، قال تعالى ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ” (1. والثاني: خطأ محض، وهو ما لم يشبه شيئا من العمد، بأن يكون مخطئا في فعله مخطئا في قصده، مثل أن رمى طائرا فأضاب انسانا، فقد أخطأ في الامرين، قال الله تعالى ” ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ” (2. الثالث: عمد الخخطأ أو شبه العمد، والمعنى واحد، وهو أن يكون عامدا في فعله مخطئا في قصده. فأما كونه عامدا في فعله فهو أن يعمد إلى ضربه لكنه بآلة لا تقتل غالبا كالسوط والعصا الخفيفة، والخطأ في القصد أن يكون قصده تأديبا وزجره وتعليمه لكنه ان مات منه فهو عامد في فعله مخطئ في قصده. ويمكن أن يستدل على هذا النوع من القتل أيضا بقوله ” وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ ” الاية. فالخطأ شبيه العمد هو أن يعالج الطبيب غيره بما


1) سورة النساء: 93. 2) سورة النساء: 92 *

[ 415 ]

قد جرت العادة بحصول النفع عنده أو بفصده فيؤدى ذلك إلى الموت. فان هذا وما قدمناه يحكم فيه بالخطأ شبيه العمد يلزم فيه الدية مغلظة، ولا قود فيه على حال. والدية فيه تلزم القاتل بنفسه في ماله خاصة، وان لم يكن له مال استسعى فيها أو يكون في ذمته إلى أن يوسع الله عليه. والدية في ذلك مائة من الابل اثلاثا، وهذه الدية تستؤدى في سنتين. وعلى هذا القاتل بعد اعطاء الدية كفارة عتق رقبة مؤمنة، فان لم يجد كان عليه صيام شهرين متتابعين، فان لم يستطع أطعم ستين مسكينا، كما على قاتل الخطأ المحض، لان الاية أيضا دالة عليه. وكفارة قتل العمد بعد العفو له ببدل أو بلا بدل هذه الثلاثة. والدليل عليه بعد الاجماع السنة، فان لم يقدروا على ذلك تصدقوا بما استطاعوا وصاموا ما قدروا عليه. (باب) (ديات الجوارح والاعضاء والقصاص فيها) قال الله تعالى ” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص ” (1. هذا وان كان اخبارا من الله تعالى انه مما كتب على اليهود في التوراة، فانه لا خلاف أن ذلك ثابت في شرعنا. وذلك لانه إذا صح بالقرآن أو بالسنة أن حكما من الاحكام كان ثابتا في شريعة من كان قبل نبينا من الانبياء عليهم السلام


1) سورة المائدة: 45. *

[ 416 ]

ولا يثبت نسخة لا قرآنا ولا سنه ة فانه يجب العمل به. يقول الله عزوجل: فرضنا على اليهود الذين تقدم ذكرهم في التوراة أن النفس بالنفس، ومعناه إذا قتلت نفس نفسا أخرى متعمدا فانه يستحق عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا وكان المقتول مكافئا للقاتل، اما أن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين، فأما أن يكون القاتل حرا مسلما والمقتول كافرا أو مملوكا فان عندنا لا يقتل به، وفيه خلاف بين الفقهاء. وان كان القاتل مملوكا أو كافرا والمقتول مثله أو فوقه فانه يقتل بلا خلاف. ويراعى في قصاص الاعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافؤ، ومتى لم يكونا متكافئين فلا قصاص على الترتيب الذى رتبناه في النفس سواء، وفيه أيضا خلاف. ويراعى في الاعضاء التساوى أيضا، فلا يقلع العين اليمنى باليسرى، ولا يقطع اليمين باليسار، ولا يقطع الناقصة بالكاملة. فمن قطع يمين غيره وكانت يمين القاطع شلاء قال أبو على: يقال له ان شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية يدك. وقد ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إذا لم يكن للقاطع يمين. وروى عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام أنه قال: دية اليد إذا قطعت خمسون من الابل، فما كان جروحا دون الاصطلام (1 فيحكم به ذوا عدل منكم ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (2. وفى هذا اشارة إلى أن الحكم بذلك أو بغيره ليس الا إلى حجة الله أو من يأمره الحجة. فأما عين الاعور فانها تقلع بالعين الذى يقلعها، سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن، فان قلعت العوراء كان فيها كمال الدية إذا كانت خلقة أو ذهبت


1) أي لم يقطع عضو تام، والاصطلام الاستيصال. 2) من لا يحضره الفقيه 4 / 130. *

[ 417 ]

بآفة من الله تعالى أو تقلع احد عينى القالع ويلزمه مع ذلك نصف الدية، وفيه خلاف. (فصل) وقوله تعالى ” والجروح قصاص ” التقدير أوجبنا أن النفس تقتل إذا قتلت نفسا بغير حق وفرضنا عليهم أن الجروح قصاص. وظاهر هذه الاية لا يقتضى انا متعبدون بهذه الاحكام، لانها حكاية عن أمة أنه فرض عليهم ذلك، الا ان العلماء مجمعون على انا أيضا بهذه الاحكام متعبدون لا بهذه الاية بل بالاية التى في سورة البقرة وهى مجارية لهذه. ولا يجب من الاتفاق في كثير من المتعبدات أن تكون الشريعتان واحدة بعينها. ومعنى ” النفس بالنفس ” تقتل النفس بسبب قتل النفس. قيل وذلك مجمل وله بيان طويل، وفيه تخصيص. ومعنى ” العين بالعين ” تقلع العين لمن قلع عينا بغير حق. وكذا ان قطع أنفه أو أذنه أو قلع أو كسر سنا له أو جرحه بجراحة يفعل به مثله. وهذا معنى قوله ” والجروح قصاص ” لان القصاص ان يتبع به فعله فيفعل مثل فعله، ومعناها ذات قصاص، أي يقاص الجارح قصاصا. وتفاصيل هذه الاحكام بكتب الفقه أولى، لكنا نذكر ألفاظا يسيرة. (فصل) وأما الجروح فانه يقتص منها إذا كان الجارح مكافئا للمجروح على ما بيناه في النفس، فيقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة. ولا قصاص في المأمومة وهى التى تبلغ أم الرأس، ولا الجائفة


[ 418 ]

وهي التى تبلغ الجوف، لان في القصاص منهما تضريرا بالنفس. ولا ينبغي أن يقتص الجراح بعد أن يندمل من المجروح، فإذا اندمل اقتص حينئذ من الجارح، وان سرت إلى النفس كان فيها القود. وكسر العظم لا قصاص فيه وانما فيه الدية. وكل جارحة كانت ناقصة فإذا قطعت كان فيها حكومة ولا يقتص بها الجارحة الكاملة، كيد شلاء وعين لا تبصر وسن سوداء متأكلة، فان في جميع ذلك حكومة لا تبلغ دية تلك الجارحة، وقد روينا في هذه الاشياء مقدرا، وهو ثلث دية العضو الصحيح. والعين تقلع بالعين وان تفاوتتا في الصغر والكبر والحسن والقبح وزيادة البصر، الا أن تكون عمياء. (فصل) وقوله تعالى ” فمن تصدق به فهو كفارة له ” الهاء في كفارة له يحتمل عودها إلى أحد امرين: أحدهما: – وهو الاقوى – أنها عائدة على المتصدق من المجروح أو ولي المقتول، لانه إذا تصدق بذلك على الجارح لوجه الله تعالى كفر الله بذلك عنه عقوبة ما مضى من معاصيه. الثاني: أنها تعود على المتصدق عليه، لانه يقوم مقام أخذ الحق عنه. وانما رجحنا الاول لان العائد يجب أن يرجع إلى مذكور وهو ” من ” والمتصدق عنه لم يجر له ذكر. على أنه لو كان ههنا كفارة وقصاص – كما قتل خطأ المؤمن في دار الاسلام كفارة ودية – لما سقطت الكفارة وان أسقط المجروح القصاص، كما لا تسقط الكفارة في قتل الخطأ وان تصدقوا بالدية فتسقط. ومعنى من تصدق به عفا عن الحق وأسقط.


[ 419 ]

فان قيل: هل يكفر الذنب الا التوبة أو اجتناب الكبيرة. قلنا: على مذهبنا لا يجوز أن يكفر الذنب شئ من أفعال الخير، ويجوز أن يتفضل الله باسقاط (1 عقابها كما قال عليه السلام: من يعف يعف الله عنه (2 وقوله ” فمن تصدق به ” من لصاحب الحق والذي له أن يطلب القصاص، والضمير في ” به ” لحقه يقول ولي المقتول: ومن جرح أو أصيب عضو منه ان عفى واحد منهم عن حقه ولم يطالب بالقصاص أو الدية – فهو أي فعله ذلك وتركه لحقه – كفارة له، أي يكفر الله له ذنوبه فلا يؤاخذه بها. وقال ابن عباس: انه كفارة للحامي، أي يسقط عنه الولي والمخرج القود والقصاص عن القاتل والجارح. فالاول أوجه. (فصل) وأما قوله ” والذين إذا أصابعهم البغي هم ينتصرون ” إلى قوله ” وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ” (3. العفو في الاية المراد به ما يتلق بالاساءة إلى نفوسهم الذي له الاختصاص بها، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين. وأما ما يتعلق بحقوق الله وحدوده فليس للامام تركها ولا العفو عنها ولا يجوز له عن المرتد وعمن يجري مجراه. ” وجزاء سيئة سيئة مثلها ” يحتمل أن يكون المراد ما جعل الله لنا الاقتصاص منه من النفس بالنفس والعين بالعين – الاية، فان المجني عليه [ له ] أن يفعل بالجاني مثل ذلك من غير زيادة. وسماه سيئة للازدواج، كما قال ” وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ” (4.


1) إلى هنا تنتهى نسخة ” ج ” من جامعة طهران. 2) مستدرك الوسائل 2 / 87. 3) سورة الشورى: 39 – 40. 4) سورة النحل: 126. *

[ 420 ]

ثم مدح العافي بماله أن يفعله فقال ” فأجره على الله ” أي فجزاؤه عليه وهو سبحانه يثيبه على ذلك ” انه لا يحب الظالمين ” أي لم أرغبكم في العفو عن الظالم لاني أحبه بل لانى أحب الاسحان والعفو. ثم أخبر أن من انتصر بعد أن تعدي عليه فليس عليه سبيل قال قتادة ” بعد ظلمه ” فيما يكون فيه القصاص بين الناس في النفس أو الاعضاء أو الجرح، فأما غير ذلك فلا يجوز أن يفعل بمن ظلمه. وقال قوم: ان له أن ينتصر على يد سلطان عادل، بأن يحمله إليه ويطالبه بأخذ حقه منه، لان السلطان هو الذي يقيم الحدود ويأخذ من الظالم للمظلوم. (فصل) وقوله تعالى ” ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ” (1. فأول ما يكون الجنين نطفة وفيها عشرون دينارا، ويصير علقة وفيها أربعون دينارا وفيما بينهما بحساب ذلك، ثم يصير مضغة وفيها سبعون دينارا، ثم يصير عظما وفيه ثمانون دينارا، ثم يصير صورة بلا روح مكسوا عليها اللحم خلقا سويا شق له العينان والاذنان والانف قبل أن تلجه الروح وفيه مائة دينار، ثم تلجه الروح وفيه دية كاملة. وبذلك قضى أمير المؤمنين عليه السلام وقرأ الاية (2. قوله ” يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ” (3. قال قوم:


1) سورة المؤمنون: 12 – 14. 2) انظر تفسير البرهان 3 / 111. 3) سورة الحج: 5. *

[ 421 ]

أراد به جميع الخلق، لان النطفة التي خلقهم الله تعالى منها تكون من الغذاء والغذاء يكون من التراب والماء فكان أصلهم كلهم التراب، ثم أحاله بالتدريج إلى النطفة، ثم أحال النطفة علقة – وهي القطع من الدم جامدة – ثم أحال العلقة مضغة وهى شبيه قطعة من اللحم ممضوغة والمضغة مقدار ما يمضغ من اللحم، فخلقه تامة الخلق وغير تامة، وقيل متصورة وغير متصورة وهو السقط. ” ثم انشأناه خلقا آخر ” بنبات الاسنان والشعر وأعضاء العقل والفهم، وقيل خلقا آخر أي ذكرا وأنثى. وجاء في الاثر أن الصحابة احتلفوا في الموؤدة ماهى، وهل الاعتزال وأد، وهل اسقاط المرأة جنينها وأد. قال علي عليه السلام: انها لا تكون موؤدة حتى يأتي عليها البارات السبع. فقال عمر: صدقت (1. وأراد أمير المؤمنين عليه السلام بالبارات السبع طبقات الخلق السبع المثبتة في قوله ” ولقد خلقنا الانسان من سلالة ” الاية. فعنى سبحانه ولادته ميتا، فأشار علي عليه السلام أنه إذا استهل بعد الولادة ثم دفن فقد وئد، وقصد بذلك أن يدفع قول من توهم أن الحامل إذا أسقطت جنينها قبل أن تلجه الروح بالتداوي فقد وأدته. (باب الزيادات) اعلم أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بقوله تعالى ” كتب عليكم القصاص في القتلى “، وهى مفسرة لما أبهم في قوله ” النفس بالنفس “، لان تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم فيها. وروي أنه كان بين حنين دماء في الجاهلية فأقسموا لنقتلن الاثنين بالواحد والحر بالعبد، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله حين جاء الاسلام، فنزلت وأمرهم أن يتساووا.


1) الدر المنثور 6 / 320. *

[ 422 ]

وقوله ” فمن عفي له من أخيه شئ “، كقولك ” سير ” يريد بعض السير، ولا يصح أن يكن ” شئ ” في معنى المفعول به، لان عفى لا يتعدى إلى المفعول به الا بواسطة. و ” أخوه ” هو ولي المقتول، وذكره بلفظ الاخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والاسلام. فان قيل: ان ” عفا ” يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله ” فمن عفى له ” ؟ قلنا: يتعدى بعن إلى الجاني والى الذنب فيقال ” عفوت عن فلان وعن ذنبه ” قال تعالى ” عفا الله عنك ” (1 وقال ” عفا الله عنها ” (2، فان تعدى إلى الذنب قيل ” عفوت لفلان عما جنى ” كما يقال ” تجاوزت له عنه “. وعلى هذا فما في الاية كأنه قيل: فمن عفا له من جنايته. فاستغنى عن ذكر الجناية. فان قيل: هنا فسرت عفا بترك جنى يكون شئ في معنى المفعول به. قلنا: لان عفا الشئ إذا تركه ليس يثبت ولكن أعفاه ذمته، قوله عليه السلام ” أعفوا اللحى “. فان قيل: فقد ثبت قولهم ” عفا الشئ ” إذا نحاه فان له فهلا فعلت معناه فمن عفا له من أخيه شئ. قلنا: عبارة قلقه في مكانها، والعفو في الجنايات عبارة مشهورة في الشرع فلا نعدل عنها. مسألة: قول ” ولكم في القصاص حياة ” (3 عرف القصاص ونكر الحياة، لان المعنى


1) سورة التوبة: 43. 2) سورة المائدة: 101. 3) سورة البقرة: 179. *

[ 423 ]

ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، كما قاد مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل، فلما جاء الاسلام فشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل. وقرئ ” ذلكم في القصص حياة ” أي مما قص عليكم من حكم القتل والقصاص. مسألة: وقوله ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ” (1 أي باحدى ثلاث الا بأن يكفر أو يقتل مؤمنا عمدا أو يزني بعد احصان. ” ومن قتل مظلوما ” أي غير راكب واحدة منهن ” فقد جعلنا لوليه سلطانا ” على العاقل في الاقتصاص منه ” فلا يسرف ” الولي، أي فلا يقتل غير القاتل، وقيل الاسراف المثلة. وقرئ ” فلا يسرف ” بالرفع على أنه خبر في معنى الامر، وفيه مبالغة ليست في الامر. وقرئ بالتاء على خطاب الولي أو قتل المظلوم. ” انه كان منصورا ” الضمير اما للولي، يعني حسبه ان الله ناصره بأن أوجب له القصاص فلا يسترد على ذلك، وبأن الله نصره بمعونة السلطان وباظهار المؤمنين على استيفاء الحق فلا يقع ما وراء حقه: اما المظلوم لان الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وبنصره وفى الاخرة بالثواب، وأما الذي يقتله الولي بغير الحق ويسرف في قتله فانه منصور بايجاب القصاص على المسرف.


1) سورة الاسراء: 33. *

[ 424 ]

مسألة: وأما قوله ” ومن قتل نفسا بغير نفس ” فتقديره بغير قتل نفس ” أو فساد ” عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد، وهو الشرك أو قطع الطريق. فان قيل: كيف شبه الواحد بالجمع وجعل حكمه حكمهم ؟ قلنا: لان كل انسان مدلى بما يدلى به الاخر وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين وتركت حرمته وعلى العكس، فلا فرق بين الواحد والجمع في ذلك. ” ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك ” أي بعد ما كتبنا عليهم ” لسمرفون ” في القتل لا يبالون بعظمته. مسألة: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن القسامة في القتل فكان بدؤها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فقد وجد أنصاري قتل، قالوا: يا رسول الله قتلت اليهود صاحبنا. قال: ليقسم منكم خمسون رجلا [ على أنهم قتلوه ] (1. فقالوا: نقسم على ما لم نر. فقال: ليقسم اليهود. قالوا: من يصدق اليهود. فقال: أنا أؤدي دية صاحبكم، ان الله (2 حكم في الدماء ما لم يحكم في شئ من حقوق الناس لتعظيمه الدماء… فاليمين على المدعى عليه في سائر الحقوق وفى الدم على المدعي (3 – كما ترى.


1) الزيادة من المصدر. 2) في المصدر ” فقلت له: كيف الحكم فيها ؟ فقال: ان الله.. “. 3) تهذيب الاحكام 10 / 167 مع اختلاف في الفاظ وجمل. *

[ 425 ]

مسألة: ” وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ ” (1 أي ما صح ولا استقام ولالاق بحاله أن يقتل مؤمنا ابتداءا غير قصاص الا خطأ، أي الا على وجه الخطأ. وانتصب خطأ على أنه مفعول له، أي ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل الا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالا، بمعنى لا يقتله في حال من الاحوال الا في حال الخطأ، وأن يكون صفة مصدرا الا قتلا خطأ. ” ومن قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير رقبة ” (1. والتحرير الاعتاق، والرقبة عبارة عن النسمة كما عبر عنها بالرأس، يقال ” فلان يملك كذا رأسا من الرؤس “. فان قيل: على من يجب الدية أو الرقبة ؟ قلنا: على القاتل، الا أن الرقبة في ماله على كل حال، والدية ان كان أقر هو على نفسه بذلك فعلى ماله أيضا على الاحوال، وان كان باقامة البينة عليه بذلك فالدية يتحملها عنه العاقلة، فان لم يكن له عاقلة أو كانوا ولم يكن لهم مال ففى ماله، وان لم يكن يستسعى، وان لم يكن ففي بيت المال. ” الا أن تصدقوا ” عليه بالدية، ومعناه العفو. فان قيل: بم يتعلق ” أن تصدقوا ” وما محله ؟ قلنا: يتعلق بعليه أو بتسليمه، كأنه قيل ويجب عليه الدية أو تسليمها الا حين تتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير خلاف الزمان، كقولهم ” اجلس ما دام زيد جالسا “. ويجوز أن يكون حالا من أهله، بمعنى الا يتصدقن. مسألة: قوله ” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ” (2 المعطوفات


1) سورة النساء: 92. 2) سورة المائدة: 45. *

[ 426 ]

كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أن النفس، لان المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس، اما لاجراء كتبنا مجرى لنا واما لان معنى الجملة التي هي قوله ” النفس بالنفس ” ما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة. وكذلك قال الزجاج لو قرئ ” ان النفس بالنفس ” بالكسر لكان صحيحا أو الاستئناف، والمعنى فرضنا عليهم فيها أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق. وكذلك العين مفقوءة بالعين والانف مجدوع بالانف والاذن مقطوعة بالاذن والسن مقلوعة بالسن والجروح ذات قصاص، وهو المقاصة. ومعناه ما يمكن فيه القصاص ويعرف المساواة. مسألة: ان قيل في قوله تعالى ” والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ” (1 أهم محمودون على الانتصار ؟ قلنا: نعم، لان من أخذ الحق غير متعد حد الله ولم يسرف في القتل ان كان ولي الدم أو رد على سفيه محاماة على عرضه فهو مطيع وكل مطيع محمود. على أن كلتا التعليلين الاولى وجزاؤها سيئة لانها تسوء من ينزل به. والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الاساءة أن يقابل بمثلها من غير زيادة، فمن عفى وأصلح بينه وبين خصمه بالعفو فأجره على الله، عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم، لانه لا يحب الظالمين دلالة على أن [.. ] (2 لا يكاد مؤمن فيه تجاوز بالسيئة، خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية. والله أعلم بالصواب.


1) سورة الشورى: 39. 2) كلمة لا تقرأ في م. *

[ 427 ]

(باب) (فيما يحتاج إليه الناظر في هذا الكتاب) اعلم أن القرآن على ثلاثة أقسام مما استدللنا به: أحدها: ما هو مجمل لا ينبئ الظاهر عن المراد به تفصيلا، مثل قوله تعالى ” أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” (1 وقوله ” ولله على الناس حج البيت ” (2 وقوله ” في أموالهم حق معلوم ” (3 وما أشبه ذلك، فان تفصيل أعداد الصلاة وعدد ركعاتها وتفصيل مناسك الحج وشروطه ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه الا ببيان النبي عليه السلام ووحي من جهة الله تعالى، فتكلف القول في ذلك خطأ وممنوع منه. ويمكن أن تكون الاخبار متناولة له، قال الله تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليك ” (4. وثانيها: ما كان لفظه مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مرادا، فانه لا ينبغى أن يقدم أحد فيقول ” هذا مراد الله منه ” الا بقول معصوم عليه السلام، بل ينبغى أن يقول: ان الظاهر يحتمل الامور وكل واحد يجوز أن يكون مرادا على التفصيل. ومتى كان اللفظ المشترك بين شيئين أو ما زاد عليهما ودل الدليل على أنه لا يجوز أن يريد الا وجها واحدا جاز أن يقال انه المراد. وثالثها: يكون ظاهره مطابقا لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها


1) سورة البقرة: 43. 2) سورة آل عمران: 97. 3) سورة المعارج: 24. 4) سورة النحل: 44. *

[ 428 ]

عرف معناها، مثل قوله تعالى ” ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ” (1 ومثل قوله ” قل هو الله أحد ” (2 وغير ذلك. ولا ينبغي لاحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد مفصلا أن يقلد أحدا من المفسرين، الا أن يكون التأويل مجمعا عيه فيجب اتباعه لمكا الاجماع الذى هو حجة، لان من المفسرين من حمدت طرائقه ومدحت مذاهبه في التأويل كابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم، ومنهم من ذمت مذاهبه كأبى صالح والسدى والكلبي. هذا في الطبقة الاولة، فأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه وتأول على ما يطابق أصله، فلا يجوز لاحد أن يقلد أحدا منهم، بل ينبغي أن يرجع إلى الادلة الصحيحة اما العقلية أو الشرعية من اجماع عليه أو نقل متواتر به عمن يجب اتباع قوله. ولا يقبل في ذلك خبر واحد وخاصة إذا كان مما طريقه العلم. ومتى كان التأويل مما يحتاج إلى شاهد من اللغة، فلا يقبل من الشاهد الا ما كان معلوما بين أهل اللغة سائغا بينهم، ولا يجعل الشاذ النادر شاهدا على كتاب الله، وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله ولا يقطع على المراد منه بعينه ويحتاط في ذلك كله، فان كل آخذ بالاحتياط غير زال عن الشرائط. (فصل) ثم أعلم أن الله سبحانه أغنانا بفضله في الشرعيات عن أن تستخرج أحكامها بالمقاييس والاجتهادات التي تصيب مرة وتخطئ أخرى، بل بين جميع ما يحتاج إليه المكلفون في تكليفهم عقلا وشرعا ووقفهم عليه في كتابه وعلى لسان


1) سورة الاسراء: 33. 2) سورة التوحيد: 1. *

[ 429 ]

نبيه وحججه عليه وعليهم السلام، فلا حاجة مع ذلك إلى تعسف وتكلف. والفقيه ينبغي أن يكون كيسا فلا يختلجه بعد العلم شك على حالة، فان من ألطافنا الخاصة ما يروونه آل محمد عنه صلى الله عليه وآله في أشياء كثيرة يعلم وجوبها اجماع أنها من السنن: كغسل من مس ميتا من الناس بعد البرد وقبل التطهير، فانه يعلم بالاجماع الذي هو حجة وجوب ذلك، فإذا قال عليه السلام ان ذلك سنة [ لا ؟ ؟ ؟ فلو الوصن ] (1، فان معناه أو وجوبه يعلم بالسنة لا بالكتاب. وكذلك إذا قال عليه السلام غسل يوم الجمة واجب وعلم بالاجماع كونه مستحبا، يعلم أن المراد به شدة التأكيد في استحبابه. وكذلك إذا علم من الاثر النبوي علما مقطوعا على صحته أن الاغسال الواجبة هي غسل الجنابة وغسل الحيض والاستحاضة والنفاس وغسل مس الميت على ما ذكرناه وتغسيل الاموات فقط وغسل من رأى أثر المني على ثيابه التى لا يستعملها الا هو بأن لم يذكر احتلاما. ثم ورد عنه صلى الله عليه وآله بطريقة أهل بيته عليهم السلام أن من ترك صلاتي الكسوف والخسوف متعمدا وقد احترق القرصان يجب عليه القضاء مع الغسل، فلا يوهمنه نظم هذا الكلام أن غسل قاضي هذه الصلاة على هذا الوجه واجب مع تقدم علمه بكونه مستحبا غير واجب بتفصيل من النصوص، وانما تثبت بايراد هذه المسألة على أخواتها. واعلم أن جميع كلامهم عليهم السلام الوارد في الاصول رموز واشارات، كيلا يرى أحد أنه تعليم بل تقويم، واكثر ما فيه أنه تنبيه. فان كلامهم عليهم الوصن ] (1، فان معناه أو وجوبه يعلم بالسنة لا بالكتاب. وكذلك إذا قال عليه السلام غسل يوم الجمة واجب وعلم بالاجماع كونه مستحبا، يعلم أن المراد به شدة التأكيد في استحبابه. وكذلك إذا علم من الاثر النبوي علما مقطوعا على صحته أن الاغسال الواجبة هي غسل الجنابة وغسل الحيض والاستحاضة والنفاس وغسل مس الميت على ما ذكرناه وتغسيل الاموات فقط وغسل من رأى أثر المني على ثيابه التى لا يستعملها الا هو بأن لم يذكر احتلاما. ثم ورد عنه صلى الله عليه وآله بطريقة أهل بيته عليهم السلام أن من ترك صلاتي الكسوف والخسوف متعمدا وقد احترق القرصان يجب عليه القضاء مع الغسل، فلا يوهمنه نظم هذا الكلام أن غسل قاضي هذه الصلاة على هذا الوجه واجب مع تقدم علمه بكونه مستحبا غير واجب بتفصيل من النصوص، وانما تثبت بايراد هذه المسألة على أخواتها. واعلم أن جميع كلامهم عليهم السلام الوارد في الاصول رموز واشارات، كيلا يرى أحد أنه تعليم بل تقويم، واكثر ما فيه أنه تنبيه. فان كلامهم عليهم السلام في فروع الفقه بيان وايضاح كى لا يتورط أحد في القياس. وقد أبى اكثر


1) عبارة لا تقرأ واضحا في م. *

[ 430 ]

الناس الا خلاف ما أشاروا إليه، فسكتوا عن العقليات وتكلموا في الشرعيات. * * * وقد وفيت بعون الله بما شرطت في صدر الكتاب، والله سبحانه ينفعني. وأسأل الناظر فيه أن لا يخليني من صالح دعائه، فقد كفته مؤمنة الدأب وصعوبة الطلب، فسرت له ما خلته ملتبس على من يقتبس. والحمد لله وحده والصلاة على خير خلقه محمد وآله من بعده



Schreibe einen Kommentar